كشف اللثام شرح عمدة الأحكام

السفاريني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كَشْفُ اللِّثَامِ شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1428 هـ - 2007 م رَقم الْإِيدَاع بمَكتَب الشؤون الفَنيَّة 22/ 2007 م قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة الكويت - الرقعي - شَارِع مُحَمَّد بني الْقَاسِم بدالة: 4892785 - داخلي: (404) فاكس: 5378447 موقعنا على الإنترنت www.islam.gov.kw قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة قَامَت بعمليات التنضيد الضوئي والتصحيح العلمي والإخراج الفني والطباعة دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) - فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com

تصدير

تصدير الحمد لله الذي غمر العِبَاد بإنعامه، وعَمَر قلوب العُبّاد بأنوار الدّين وأحكامه، وتعهّدهم بما شرع لهم بلطيف حكمته وأحكامه، أحمده حمداً كثيرًا طيباً مباركاً فيه يدوم بدوامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إيجاده وإعدامه، وأشهد أن سيِّدنا محمّداً عبدُه ورسولُه أفضل مبلّغٍ عنه لحلاله وحرامه، اللهم صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه العاملين بشرائع دينه وأحكامه. أمّا بعد: فمن أجلّ العلومِ وأرفعِها عند الله قدراً، وأعزّها عند أهل العلم مكانةً وشرفاً: علمُ الفقه؛ إذ به يكون المسلم على بصيرةٍ من دينه، وثقةٍ من أفعاله وأقواله، وقد دَأَبَ علماءُ الأمّة منذ صدْرها الأول إلى يومنا هذا على التّأليف في هذا العلم المبارك، وتبيانه للنّاس، وتوضيح مسائله وتعليل أحكامه، فألّفُوا فيه الكتبَ والرّسائلَ طويلةً ومختصرة؛ مراعاةً لأحوالِ القارئين ومستوياتهم. وقد ارتأى قطاع المساجد بوزارة الأوقاف والشّؤون الإِسلاميّة أن يُسهم في خدمة كتاب: "كشف اللِّثام بشرح عمدة الأحكام" للإمام السفّارينيّ، وهو من الكتب الفقهيّة المهمة النّافعة التي اعتنت بشرح أحاديث الأحكام، فجمعت بذلك بين الحديث وفِقْهِهِ.

* إنّ قطاع المساجد -مُمثَّلاً بمكتب الشّؤون الفنّية- يحرص دائماً على اقتناء كلّ مفيدٍ وجديدٍ من الكتب الشّرعيّة النّافعة، وتوزيعها على الدّعاة وطلبة العلم، وعلى الأئمّة والخطباء، تواصلاً معهم، وإثراءً لمعلوماتهم، وإعانةً لهم على ما تحمّلوا من أمانة الكلمة وإبلاع الرّسالة، وزاداً علميّاً لهم، لِما اشتملت عليه هذه المصنّفات من الفوائد العلميّة والآداب المرعيّة. * وقطاع المساجد بوزارة الأوقاف والشّؤون الإِسلاميّة بإسهامه بهذا الكتاب يبقى متحفّزاً لنشْر غيره مِن الكتُب النّافعة المختارة مِن جميع الفنون، حرصاً على نشْر العلم وبثّ الخير وإصلاح النّاس. نسأل الله تعالى التّوفيق والسّداد، والهداية والرَّشاد، هو حسبُنا ونعم الوكيل. والله تعالى أعلم الوكيل المساعد لشؤون المساجد عبد الله محمد شهاب 1428 هـ - 2007 م

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة التحقيق الحمدُ لله منزلِ الشرائع والأحكام، وجاعلِ سنةِ نبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - مبينةً للحلال والحرام، والهادي من اتبعَ رضوانَه سبلَ السلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ تحقيق على الدوام، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، أرسلَه رحمةً للأنام، وعلى آله وصحبه الكرام. أما بعد: فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد أنزل كتابه الكريم، وتكفَّل لهذه الأمة بحفظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وندب رسولَه الأمين محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى الأخذ به، والتبليغ عنه، وبيانِ ما أشكلَ منه بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] , "والذكر: اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قرآنٍ، أو من سُنَّةٍ وحياً يبيِّنُ بها القرآن، فصحَّ أنه - عليه الصلاة والسلام - مأمور ببيان القرآن للناس" (¬1). وما قَبَضَ اللهُ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - حتى أكملَ له ولأمته الدين، قال تعالى: ¬

_ (¬1) "الإحكام" لابن حزم (1/ 115).

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. قال عمه العباس -رضي الله عنه -: "والله ما مات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ترك السبيلَ نهجاً واضحاً، وأحلَّ الحلال، وحرَّمَ الحرام، ونكح وطَلَّق، وحارب وسالَم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال، يخبط عليها العِضاه بمخبطته، ويَمْدُر حوضَها بيده، بأنصبَ ولا أدأبَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فيكم" (¬1). ولما كان طريقُ معرفة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - النقلَ والرواية, وجب أن يكون السبيلُ إلى معرفة صحَّتهما محفوظاً أيضًا، ولهذا اختار الله -عَزَّ وَجَلَّ- رجالاً جعلهم حَفَظَةَ الدينِ وخَزَنتَهُ، وأوعيةَ العلمِ وحَمَلَتَهُ، "أمعنوا في الحفظ، وأكثروا في الكتابة، وأفرطوا في الرحلة، وواظبوا على السنن والمذاكرة، والتصنيف والدراسة، حتى إن أحدهم لو سُئلَ عن عدد الأحرف في السنن لكل سُنَّةٍ منها، عدَّها عدّاً، ولو زيد فيها ألف أو واو، لأخرجها طوعاً، ولأظهرها ديانة" (¬2)، "سلكوا محجَّةَ الصالحين، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودفعوا أهلَ البدع والمخالِفين بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله أجمعين، آثروا قطعَ المفاوزِ والقِفار، على التنعُّم في الدِّمَنِ والأوطار، فعقولهم بلذاذة السنة غامرة، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة، تعلُّمُ السنن سرورُهم، ومجالسُ العلم حُبورُهم" (¬3). فلله ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 267)، والدارمي في "سننه" (83)، من حديث عكرمة، مرسلاً. (¬2) "مقدمة المجروحين" لابن حبان (ص: 57 - 58). (¬3) "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص: 2 - 3).

درُّهم، كم ذَبُّوا عن هذا الدين تحريفَ الجاهلين، وحفظوه من تأويل الغالين، ولولاهم لَدَرَسَتِ الآثار" واضمحلَّت الأخبار. وقد اعتنوا -رحمهم الله- بحفظ أصولها، وجمع مفرداتها، وبيان حال رجالاتها، وشرحِ غريب مفرداتها، وقرَّبوا حفظها لكل مسلم، واختلفت مقاصدُهم في جمعها وتأليفها وترتيبها، فمنهم من اعتمد على ذكر أحاديث الترغيب والترهيب، ومنهم من قصد جمع أحاديث الأحكام، وغير ذلك. وكان كتاب: "العمدة في الأحكام، في معالم الحلال والحرام، عن خير الأنام محمَّد - عليه الصلاة والسلام - "، مما اتفق عليه الشيخان، للإمام الحافظِ الكبير تقيِّ الدين أبي محمدٍ عبدِ الغنيِّ بنِ عبدِ الواحدِ بنِ عليِّ بنِ سرورٍ المقدسيِّ - رحمه الله - من بين تلك الكتب المعتمدة في الإِسلام، التي اشتملت على جملة من الأحاديث النبوية التي ترجع أصول الأحكام إليها، ويعتمد علماء أهل الإِسلام عليها، "وقد طار -كتابه- في الخافِقَين ذكرُه، وذاع بين الأئمة نشرُه، واعتنى الناس بحفظه وتفهمه، وأكبوا على تعليمه وتعلمه، لا جرم اعتنى الأئمة بشرحه، وانتدبوا لإبراز معانيه عن سهام قَدْحِه" (¬1). وكان من أولئك العلماء الذي عكفوا على شرحه، وبيان أحكامه ومسائله: الإمامُ، العلامةُ، بقيةُ السلف، وقدوةُ الخلف، الشيخُ محمدُ بنُ أحمدَ السَّفارينيُّ الحنبليُّ، الذي يعتبر كتابه هو الأولَ من بين شروح العمدة الذي تناول فقه الحنابلة، والذي جاء كتاب "العمدة" لتقويته واعتماده، وهو الأول من بين شروح العمدة الذي اعتمد كلام محققي علماء الإِسلام ¬

_ (¬1) "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 2).

الأماثل؛ كشيخ الإِسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والإمام ابن دقيق العيد، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وغيرهم. وقد بذل جهده - رحمه الله - في تنقيح مسائله، وتوضيح دلائله، ولم يَأْلُ جهداً في زيادة تبينيه وتمكينه، وجمعه وتأليفه، وتحريره وتصنيفه، وقد عزا -غالبًا- كلَّ قول لقائله، جامعاً مادةَ كتابه هذا من أكثر من مئة كتاب نقل منها، وبحسب مواد أصلها تزيد على الألوف. ومن تأمل هذا الشرح بالإنصافِ، ظهر له أنه نسيجُ وحدِه في معناه، وفريدُ عِقْدِه في مبناه. فإن شاء المُطالع، تناولَ منه أحاديثَ نبويةً، وآثاراً سلفيةً. وإن شاء، اقتبس منه أحكاما فقهيةً وآداباً شرعيةً. وإن شاء معرفةَ أخبارِ الصحابةِ وغيرهم، ظفر فيه بشذرة عليَّة. وإن شاء تقويم لغته، وجد فيه جمهرة من المواد اللغوية والنكاتِ الأدبية. وإن شاء الوقوف على كلام العلماء المحققين وجده مجموعًا في حُلَّةٍ ذَهبية. ولله درُّ الإِمام السفارينيِّ حيث يقول: [من الطويل] جزى الله خيراً مَنْ تأملَ تأليفي ... وقابلَ بالإغضاء وضَعْي وتصنيفي فما ليَ شيء غيرَ أني جمعتُه ... وحَرَّرته من غير شَيْنٍ وتحريفِ وضمَّنتُه علماً نفيسًا وكنتُ في ... مناقشتي كشَّافًا عن كلِّ ذي زيفِ وقمتُ على ساقِ التقشُّفِ ضارعاً ... إلى الله في الأسحار بالذل والخوفِ

عسى خالقي يمحو ذنوبي بمنِّهِ ... ويمنحُني الرضوانَ من غيرِ تَعْنيف (¬1) وقد تمَّ -بفضل الله وتوفيقه- التقديمُ لهذا السفر الجليل بفصلين هامين، تضمن الأول منهما ترجمةً حافلة للإمام السفاريني، وكان الآخر لدراسة الكتاب، وبيان ما فيه، وفي كل منهما مباحثُ متعددة، وبالله التأييد. وفي الختام: لا بد لي من أن أتوجه بالشكر الجزيل والتقدير الأثيل لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب إلى حيز الوجود -بعد شكري وتذللي لله تعالى الذي أعان عليه، ويَسَّرَ أسباب العمل فيه-، وهم: أولًا -وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية في دولة الكويت- قطاع المساجد: والتي قامت بتبني طبع هذا الكتاب وتوزيعِه على طلبة العلم مجاناً لوجه الله تعالى، فلكل من ساهم بذلك أجرُه وثوابُه عند الله تعالى. ثانيًا: فضيلة الشيخ المحبوب: أبو الحارث فيصلُ بنُ يوسفَ العلي -حفظه الله تعالى-: والذي تفضل أولًا -كعادته- بإرسال النسخ الخطية للكتاب، حاثًّا ومشجعاً على تحقيقه، وذلك في أثناء زيارته لنا بالشام سنة 1425 هـ، ثم لسعيه المبارك الحثيث لنشر هذا الكتاب لدى وزراة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بدولة الكويت، ضمن إدارته المباركة في مكتب الشؤون الفنية بقطاع المساجد، فالله وحده يجزيه أجره. ثالثًا: فضيلة الشيخ المبارك محمدُ بنُ ناصرٍ العجمي -حفظه الله تعالى-: الذي تابع وشجع تحقيق الكتاب، ووفر بعضَ مصادرِه ومراجِعِه، وحثَّ وأثنى على العمل، وزكّى نشرَه وتوزيعَه، فالله يجزيه خير الجزاء. ¬

_ (¬1) "البحور الزاخرة في علوم الآخرة" للسفاريني (2/ 614).

رابعاً: اللجنة العلمية التي شاركت معي في تحقيق هذا الكتاب، وهم من خيرة طلبة العلم وحملته في بلاد الشام، وأخص بالذكر منهم: 1 - أ. زكريا عبد العزيز الجاسم - من قسم الإدارة والتنفيذ. 2 - أ. محمد خلوف العبد الله - من قسم التحقيق والدراسات. 3 - أ. عبد الرحمن بن محمد الكشك - من قسم الضبط اللغوي. كما أشكر جميع الإخوة الأفاضل، والأخوات الفاضلات من المتعاونين مع مكتب التحقيق والدراسات بدار النوادر الذين كان لهم دور موفَّق في مجال النسخ والمراقبة والمقابلة والتنضيد والتصحيح والفهرسة لهذا الكتاب. خامساً: كما أشكر آخراً، وحقَّهم عليَّ أن يُذكروا أولًا: * والديَّ الكريمين على رضاهما ودعائهما الدائم الذي لا ينقطع. * وزوجتي الفاضلة، على تحمُّلها معي أعباءَ القيام بهذا العمل، وصبرِها، ورعايتها للمنزل والأسرة. * وإخوتي وأخواتي الأفاضل على دعائهم وتشجيعهم الدائم. هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. وكتبه نور الدين طالب

الفصل الأول ترجمة الإمام السفاريني

الفصل الأول ترجمة الإمام السفاريني

المبحث الأول اسمه ونسبه وولادته, ونشأته وطلبه للعلم

المبحث الأول اسمه ونسبه وولادته, ونشأته وطلبه للعلم * اسمه ونسبه وولادته: هو الإمامُ، المحدِّثُ، المتعبِّدُ، الزاهدُ، الصالحُ، أبو العون (¬1) وأبو عبد الله (¬2)، محمدُ بنُ أحمدَ بنِ سالمِ بنِ سليمانَ السفارينيُّ، النابلسيُّ، الدمشقيُّ (¬3)، الحنبليُّ. ولد -كما وُجد بخطه- سنة (1114 هـ) بقرية سفَّارين من قرى نابُلُسَ في فلسطين (¬4). * نشأته وطلبه للعلم: نشأ - رحمه الله - بقريته سفارين، وقرأ القرآن سنة (1131 هـ) في نابلس، واشتغل بالعلم قليلاً، ثم رحل منها بقصد الطلب إلى دمشق ¬

_ (¬1) انظر: "سلك الدرر" للمرادي (4/ 31)، و"النعت الأكمل" للغزي (ص: 301). (¬2) انظر: "المعجم المختص" (ص: 642)، وعنه الجبرتي في "عجائب الآثار" (1/ 468). (¬3) قال السفاريني - رحمه الله - في "إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 226): "فأقول، وأنا دمشقيٌّ استوطنت دمشق الشام في رحلتي زهاء عن خمس سنين، ومتى سكن الإنسان ببلد ثلاث سنين فصاعدًا، صحَّ أن يُنسب إليها". (¬4) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 642).

سنة (1133 هـ)، ومكث بها قدر خمس سنين، وأخذ بها في طلب العلم مشمِّراً عن ساق الاجتهاد، فقرأ على المتصدِّرين إذ ذاك بها من الأئمة، فقرأ بها على الشيخ عبدِ القادرِ التغلبى، وأخذ عنه الفقهَ الحنبليَّ، وكان الشيخُ يكرمه، ويقدمه على غيره، وقد ذاكره في عدة مباحث من شرحه على "الدليل"، وأجازه (¬1). كما قرأ على الشيخ عبدِ الغنيِّ النابلسيِّ الحنفيِّ، وأخذ عنه فقهَ الحنفية. وعلى الشيخ أبي المعالي بنِ زينِ الدين عبدِ الرحمنِ العمريِّ المعروفِ بابن الغَزِّيِّ، وأخذ عنه فقهَ الشافعية (¬2). كما لازم الشيخ إسماعيلَ العَجْلونيَّ خمس سنين في الثلاثة أشهر من كل سنة: رجب، وشعبان، ورمضان، بعد عصر كل يوم، مع مراجعة شروح البخاري (¬3). كما كان يحضر دروس الشيخ أحمد الغزي في "صحيح البخاري"، وكان يقدمه ويجلُّه (¬4). وقرأ أيضاً على الشيخ العلامة الشهاب المنينيِّ الحنفيِّ. ثم حج سنة (1148 هـ)، فسمع بالمدينة على الشيخ محمد حياة السِّنْدِيِّ، وتفقه على عدة من المشايخ بها، وأدرك بالمدينة صهرَ الشيخِ محمد حياة الشيخَ محمداً الدقاق (¬5)، وقرأ عليه أشياء. ¬

_ (¬1) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 642). (¬2) انظر: "ثبت السفاريني" (ص: 59، 65، 67). (¬3) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 178). (¬4) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 187). (¬5) انظر: "فهرس الفهارس" للكتاني (2/ 1003).

واجتمع بالسيد مصطفى البكريِّ، فلازمه، وقرأ عليه مصنفاته، وقد أجازوه جميعا (¬1). وقد حصل له - رحمه الله - في طلبه للعلم ملاحظةٌ ربانية، حتى حصَّل في الزمن اليسير ما لم يحصِّلْه غيرُه في الزمن الكثير (¬2). وقد قضى - رحمه الله - أربعين سنة في الإملاء والإفادة والتدريس (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 642). (¬2) انظر: "سلك الدرر" للمرادي (4/ 31)، و"إجازة العقاد" (ص: 296). (¬3) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 647).

المبحث الثاني أخلاقه وصفاته

المبحث الثاني أخلاقه وصفاته قال تلميذه الزَّبيديُّ: وكان المترجمُ شيخاً ذا شيبة منورة، مهاباً، جميلَ الشكل، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، قوالاً بالحق، مقبلاً على شأنه، مداوماً على قيام الليل في المسجد، ملازماً على نشر علوم الحديث، محباً في أهله (¬1). وكان يُدعى للملمَّات، ويُقصد لتفريج المهمَّات، ذا رأي صائب، وفهم ثاقب، جسوراً على ردع الظالمين، وزجر المغترين، إذا رأى منكراً، أخذته رعدة، وعلا صوته من شدة الحدة، وإذا سكن غيظه، وبرد قيظه، يقطر رقَّةً ولطافة، وحلاوة وظَرافة (¬2). وقال الغزي: وكان - رحمه الله - جليلاً جميلاً، صاحبَ سَمْتٍ ووقار، ومهابة واعتبار، وكان كثيرَ العبادة والأوراد، ملازماً على قيام الليل، ودائماً يحث الناس عليه، وكانت مجالسه لا تخلو من فائدة، ولا تعرو عن عائدة، وكان مُشْغِلاً جميعَ أوقاته بالإفادة والاستفادة، يطرح المسائل على الطلاب والأقران، ويدور بينه وبينهم المحاورةُ في التحرير والإتقان، وكان صادعاً بالحق، لا يماري فيه، ولا يهاب أحدًا، والجميع من أعيان بلده وأمرائها ¬

_ (¬1) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 646). (¬2) انظر: "سلك الدرر" للمرادي (ص: 4/ 32).

يهابونه، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وكان خيراً جواداً، لا يقتني شيئاً من الأمتعة والأسباب الدنيوية سوى كتب العلم، فإنه كان حريصاً على جمعها، ويقول دائماً: أنا فقير من الكتب العلمية، وكان كل ما يدخل إلى يده من الدنيا ينفقه، وعاش مدة عمره في بلده عزيزاً موقراً محتشماً (¬1). ومن تواضعه - رحمه الله - ما قاله عن نفسه لما استجازه الشيخُ عبدُ القادر بنُ خليل، فقال: "ولو رأى من استجازه وحقق حلاه، لقال: تسمعَ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه، ولو استنصحني عن نفسي، واستفسرني عن رأيي وحدسي، لقلت له عن حالي: لقد استسمَنْتَ ذا ورم، ونَفَخْتْ من غير ذي ضَرَم .. ، بضاعتي مُزجاة، وصناعتي مقلاة، ما حل من التضلع من معادن العلوم الدقيقة" (¬2). ومن عجيب ما جرى للإمام السفاريني - رحمه الله - مما يدل على حسن أدبه وتواضعه، ما ساقه في "إجازته للزبيدي"، فقال: ومن مشايخي الذين أخذتُ عنهم: الشيخُ موسى المحاسني ... ، ولكني لم أستجزه، لأمر حدث منه، وهو أن بعض الوُشاة أنهى إليه أني سُئلت: من أفضل: الشيخ المنيني، أو الشيخ المحاسني؟ فزعم الواشون أني فضَّلتُ المنيني عليه، فكتب لي بهذه الأبيات: [من الكامل] لا تَزْدَرِ العلماءَ بالأشعارِ ... وتَحُطَّ قَدراً من أُولي المِقْدارِ أتظنُّ سَفَّارينَ تُخرجُ عالِماً ... يُنْشِي القريضَ بدقَّةِ الأنظارِ هلَّا أخذتَ على الشيوخ تَأَدُّباً ... كي ترتَقي دَرَج العُلا بفَخارِ واللِّينُ منك لاحَ في مرآتِه ... لا زِلْتَ تكشِفُ مُشْكِلَ الأخبارِ ¬

_ (¬1) انظر: "النعت الأكمل" للغزي (ص: 302). (¬2) انظر: "إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 214).

فأجبته: قُلْ للإمامِ مهذِّبِ الأشعارِ ... مُنْشِي القَريضِ ومُسْنِدِ الأخبارِ تفديكَ نفسي يا أديبَ زمانِنا ... يا ذا الحِجَى يا عالِيَ المقدارِ مَنْ قال عَنِّي يا همامُ بأنني ... أُزْري بأهلِ الفضل والآثارِ عَجَباً لمن أضحى فريداً في الورى ... يُصْغي لقولِ مُفَنِّدٍ مكَّار مقصودُه وَشْيُ الحديثِ ووضعُهُ ... فقبِلْتَهُ من غيرِ ما إنكارِ وغدوتَ مفتخراً على صَبٍّ إذا ... جَنَّ الظلامُ بَكى منَ الأكدارِ ورشقتَهُ بسهامِ نظمِك مُزْدَرٍ ... للناس بالتحقيرِ والإصغارِ هَبْ أن سَفَّارينَ لم تُخْرِجْ فَتًى ... ذا فطنةٍ بنتائج الأفكارِ أيُباحُ عُجْبُ المرءِ يا مولايَ في ... شرعِ النبيِّ المصطفى المُختارِ لا زلتَ في أَوْجِ المكارِم راقياً ... تُنشي القريضَ بهيبةٍ ووَقارِ ما حَرَّكَ الشوقَ التليد صبابةً ... صَدْحُ الحَمام ونغمةُ الهَزَّارِ فجاء واعتذر، ولكني لم أقبل عذره، فجاء يوماً بابنه، وقال له: قم قَبِّل يدَ عمك ليسمحَ لأبيك عما بدر منه، فقلت له: أنا أرجو منك السماح (¬1). وبالجملة: فقد جمع هذا الإمامُ بين الأمانة والفقه، والديانة والصيانة، وفنون العلم والصدق، وحسن السَّمْتِ والخلق والتعبُّد، وطولِ الصمت عَمّا لا يعني، وكان محمودَ السيرة، نافذَ الكلمة، رفيعَ المنزلة عندَ الخاصِّ والعام, سخيَّ النفس، كريماً بما يملك، مُهابًا مُعظماً، عليه أنوارُ العلم بادية (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 189 - 190). (¬2) انظر: "السحب الوابلة" لابن حميد (2/ 841).

المبحث الثالث عقيدته ومذهبه

المبحث الثالث عقيدته ومذهبه كان الإِمام السفاريني - رحمه الله - ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، قوالاً بالحق (¬1)، فكان حنبليَّ الأصول، يقرر عقيدته على طريقة أهل الحديث، باتباع المأثور، واقتفاء السلف الصالح في سائر الأمور (¬2)، وهو القائل - رحمه الله -: [من الطويل] عليكَ بآثارِ الرسول وصحبهِ ... ودع عنكَ آراءَ الرجالِ فتغلِبُ وإنْ شئتَ أَنْ تخترْ لنفسِكَ مذهَباً ... فقولُ ابنِ حنبلْ يا أخا العلمِ أصوَبُ (¬3) ويقول - رحمه الله -: اعلم أن مذهب الحنابلة هو مذهب السلف، فيصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسولُه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل، فالله تعالى ذاث لا تشبه الذوات، متصفةٌ بصفات الكمال التي لا تشبه الصفات من المحدثات، فإذا ورد القرآن العظيم، وصحَّت سنةُ النبيِّ الكريم، عليه أفضلُ الصلاة والتسليم بوصف للباري جلَّ شأنه، تلقيناه بالقبول والتسليم، ووجب إثباتُه له على الوجه الذي ورد، ونَكِلُ معناه للعزيز الحكيم، ولا نعدل به عن حقيقة وصفه، ولا نُلْحِدُ في ¬

_ (¬1) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 646). (¬2) انظر: "ثبت السفاريني" (ص: 29). (¬3) انظر: "الذخائر لشرح منظومة الكبائر" للسفاريني (ص: 382).

كلامه، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا نزيد على ما ورد، ولا نلتفتُ لمن طعن في ذلك وَرَدّ. فهذا اعتقاد سائر الحنابلة كجميع السلف، فمن عدل عن هذا المنهج القويم، زاغ عن الصراط المستقيم وانحرف، فدع عنك فلاناً عن فلان، وعليك بسنة ولدِ عدنان، فهي العروةُ الوثقى التي لا انفصامَ لها، والجُنَّةُ الواقية التي لا انحلال لها (¬1). ويقول - رحمه الله -: [من الرجز] فكلُّ ما قدْ جاء في الدليلِ ... فثابتٌ من غيرِ ما تمثيلِ (¬2) وقد جمع - رحمه الله - في كتابه "لوامع الأنوار" أقوال السلف والخلف، ومذاهبَ الفرق في المسائل الاعتقادية، وبَيَّنَ رجحانَ مذهب السلف على غيره، مؤيداً ذلك بالدلائل النقلية، وكذا العقلية فيما يستدل على مثله بالعقل، واقتبس جُلَّ تحقيقاته فيه من كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله - (¬3)، فقد كان الإِمام السفارينيُّ مُحِباً لهما، لا يكاد كتاب أو رسالة له تخلو من ذكرٍ لهما بالنقول عنهما، وتقديمِ ترجيحاتهما (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: " لوامع الأنوار" للسفاريني (1/ 107). (¬2) انظر: "لوامع الأنوار" للسفاريني (1/ 219). (¬3) من تقريظ السيد محمد رشيد رضا لكتاب السفاريني هذا، انظر: "مقدمة لوامع الأنوار". (¬4) وقد ترجم - رحمه الله - في مقدمة كتابه "الذخائر لشرح منظومة الكبائر" لشيخ الإِسلام ابن تيمية ترجمة حافلة تنم عن مقدار حبه وتعظيمه له، ومما قاله فيه (ص: 128): "وكم عظمه أناس وحفاظ! وكم مدح بقصائد وتسجيع ألفاظ! وقد بلغ النهاية في كل فن وجاوزه، وكان أكرم من حاتم، وأشجع من عنترة في المبارزة، فقد اتفق الحفاظ أنه الصيرفي في "الجرح والتعديل وإليه النهاية في الاستنباطات والتعليل".

ومن أحسن ما قرر به الإِمام السفاريني عقيدته ولخصها بقوله في نظم رائق: [من الطويل] ألا نحنُ قومٌ قدْ رَضِينا بكلِّ ما ... أتى في كتاب الله يُتلى ويُكتبُ ونوصِفُ مولانا الكريم بكلِّ ما ... وَصَفْهُ رَسُولُ الله ذاكَ المُقَرَّبُ ولكنْ بلا كيفٍ ومِثْلٍ لأن من ... يُشَبِّهْ إلهَ العرشِ بالخَلْقِ يكذبُ وما ذاكَ إلا كافرٌ أو منافقٌ ... وقلْ مثلَه مَنْ قالَ جسمٌ وأكذَبُ ونرفُضُ قولَ المُلحِدين وزَعْمَهم ... وعن قولِ أصحابِ الضلالةِ نرغَبُ ولا نَرتضي ما يزعُمون جميعَه ... سوى ما به جاء الكتابُ المُهَذَّبُ وتأويلُهم من أقبحِ العلمِ عندنَا ... وقولُ رسولِ الله أحلى وأعذَبُ فجَهْمُ بنُ صفوانَ اللعينُ وحزبُه ... يُصيبون والمختارُ يُخْطِي ويكذب؟! فهذا لَعَمْري باطلٌ باتِّفاقِ مَنْ ... يرى الحقَّ والأَعْمى عن الحقِّ يُحْجَبُ فمَنْ قالَ في اللهِ العظيمِ برأيِه ... فلا ريبَ [في] طغيانِهِ يا مُؤَدَّبُ (¬1) ومع هذا التقرير القوي منه - رحمه الله - لأصول عقائد السلف، إلا أنه - رحمه الله - قد تأثر ببعض الأفكار التي كانت سائدة في عصره، كالتوسل (¬2)، والتبرك بالدعاء عند القبور (¬3)، وأخذِه بعضَ الطرق الصوفية (¬4)، وقراءةِ ¬

_ (¬1) انظر: "الذخائر لشرح منظومة الكبائر" للسفاريني (ص: 381). (¬2) من ذلك قوله في "إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 233): بجاهِ رسولِ الله طه الذي ارتقى ... إلى قابِ قوسِ القربِ من ربِّه العالي (¬3) من ذلك قوله في كتابه: "الذخائر" (ص: 131): "وقبره -أي: شيخ الإِسلام- مشهور يزار، ويتبرك بالدعاء عنده، وقد زرناه مراراً". (¬4) فقد أخذ علم التصوف عن الشيخ عبد الغني النابلسي، كما ذكر الزبيدي في "المعجم المختص" (ص: 643)، وأخذ الطريقة الخلوتية من الشيخ مصطفى البكري الخلوتي، كما ذكر هو في "إجازة الزبيدي" (ص: 193).

بعض الكتب المتضمنة لمخالفات شرعية على بعض مشايخ عصره (¬1). وعلى أي حال، فالإمام السفاريني - رحمه الله - إمام محبٌّ للسلف الصالح، سائر على طريقهم، مقتفٍ لآثارهم، وعليه مؤاخذاتٌ فيما نُبِّه عليه، مما لا تَحُطُّ من قدره أو علمه، وإنما على المرء التنبهُ إليها؛ لتحصل بركةُ الانتفاع المرجوة من علوم هذا الإِمام القدير، والعصمة لله وحده. * أما مذهبه في الفروع: فقد كان - رحمه الله - حنبليَّ المذهب، كما كان حنبليَّ الاعتقاد، فقد كان مُحباً للإمام أحمد - رحمه الله -، وقد ترجم له تراجمَ مطوَّلَةً في أكثرَ من كتاب من كتبه (¬2)، وكان مُكثراً من نُقول مذهب الحنابلة في سائر كتبه، ولا يخرج عن المذهب أبدًا، وهو القائل: [من الكامل] مالي إليكَ وسيلةٌ إلا الرَّجا ... وجميلُ عفوِكَ ثمَّ إني حنبلي (¬3) ولم يكن - رحمه الله - يشنع على المخالفين لمذهبه، أو يقوده تعصبٌ ¬

_ (¬1) فقد قرأ على الشيخ عبد السلام بن محمد الكاملي شيئًا من "رسائل إخوان الصفا"، كما ذكر هو في "إجازة الزبيدي" (ص: 176)، وكذا تلميذه الزبيدي في "المعجم المختص" (ص: 643). وقد نبه العلماء المحققون، منهم: شيخ الإِسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه على ما حوته هذه الرسائل من مخالفات شرعية كبيرة، وأمور عظام لم يعهدها سلف هذه الأمة، والله الموعد. (¬2) فقد ترجم له - رحمه الله - في كتابه هذا: "كشف اللثام"، و"شرح ثلاثيات المسند"، و"غذاء الألباب شرح منظومة الآداب"، و"الذخائر لشرح منظومة الكبائر". قال - رحمه الله - في كتابه "غذاء الألباب" (1/ 236) بعد ذكره مطلباً في ذكر طرف من مناقب سيدنا الإِمام أحمد: "وإنما حلينا كتابنا هذا بطرف من ذكره ومناقبه ومآثره، لتحصل له بركة ذكره، فرضوان الله عليه، وأماتنا على طريقته وحبه، ببركة نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وآله وحزبه، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم". (¬3) انظر: "النعت الأكمل" للغزي (ص: 304).

أعمى لترجيحه، بل كان - رحمه الله - يكِنُّ حباً للأئمة الأربعة، ويذكر أقوالهم وأدلتهم حيث ذكر مذهب الحنابلة في الغالب، فيقول - رحمه الله - عنهم:-[من الرجز] ورحمةُ الله مع الرضوانِ ... والبرِّ والتكريمِ والإحسانِ تُهْدَى معَ التبجيلِ والإِنعام ... مِنِّي لِمَثْوى عِصْمَةِ الإِسلامِ أَئمةٍ لدينِ هذي الأُمةِ ... أهلِ التقى من سائر الأئمةِ لا سيما أحمدَ والنعمانِ ... ومالِكٍ محمدِ الصِّنْوانِ مَنْ لازمٌ لكلِّ أربابِ العَمَلْ ... تقليدُ حِبْرٍ منهمُ فاسمعْ تَخَلْ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) انظر: "لوامع الأنوار" للسفاريني (2/ 457).

المبحث الرابع شعره

المبحث الرابع شعره كان الإمام السفاريني - رحمه الله - يحفظ من أشعار العرب العرباء والمولَّدين شيئًا كثيرًا (¬1)، مما أعطاه قوة في نظم الشعر الحسن في المراسلات والغزليات والوعظيات والمرثيات (¬2)، فجاء شعره لطيفًا، منبئاً عن قدر في الفضائل منيفاً (¬3). فله في المناجاة: [من الطويل] ثَمِلْتُ بحُبِّي لا بِرَنْدٍ ولا خمرِ ... وهمتُ بِحُبِّي لا بزيدٍ ولا عَمْرِ وفُهْتُ بما أخفى الفؤادُ وطالما ... كتمتُ الهوى عن أعينِ الناسِ في صدري وناجَيْتُ مَنْ أهوى مناجاةَ وامِقٍ ... على غفلةِ الواشينَ في عالَمِ السرِّ وقمتُ على ساقِ التذلُّلِ ضارِعاً ... لذي عِزَّةٍ والقلبُ مِنِّي على جَمْرِ (¬4) وله أيضًا: [من مجزوء الكامل] الصبرُ عِيلَ من القِلا ... والنفسُ أَمْسَتْ في بَلا ¬

_ (¬1) انظر: "سلك الدرر" للمرادي (4/ 31). (¬2) انظر: "ثبت السفاريني" (ص: 70). (¬3) انظر: "النعت الأكمل" للغزي (ص: 303). (¬4) انظر: "إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 233).

والجفنُ جَفَّ من البُكا ... والقلبُ في الشَّجوِ غَلا وشكا اللسانُ فقال في ... شكواهُ لا حَوْلَ وَلا (¬1) وقوله في التضرع والتذلل: [من الكامل] يا مَنْ إليه تضرُّعي وتوسُّلي ... ولَدَيْهِ طالَ تَقَشُّفي وتَذَلُّلِي إِنِّي قَرَعْتُ البابَ أرجو توبةً ... ومحبةً يا ذا العَطاءِ المُنْهَلِ فاغفرْ ذنوبي يا رحيمُ وكنْ إذا ... أمسيتُ فرداً مؤنسي في منزلي (¬2) وله أيضًا: [من الطويل] ألا ليتَ شعري هل أَبيتَنَّ ليلةً ... بمكَّةَ حولي صالِحٌ وزَميلُ وهل أرِدَنْ يومًا مياهاً لزَمْزَمٍ ... وهل يبدُوَنْ [لي] في الطَّوافِ قَبولُ (¬3) وله في الحض على الإكثار من صالح الأعمال: [من الوافر] تَزَوَّدْ في حياتِكَ للمآلِ ... وقُمْ بالذُّلِّ في غَسَقِ الليالي ولا تَرْكَنْ لدُنيانا وسافِرْ ... لدارِ الخلدِ واقْصِدْ ذا الجَلالِ ولا تَدَعِ الدُّعا سِرًّا وجَهْراً ... وتقوى اللهِ تظفرْ بالنَّوالِ وإنْ لمْ تَجْتَنِ الخيراتِ فيها ... فترحلَ مِنْ وَبالِ إلى وبالِ (¬4) وله في الرضا بقضاء الله: [من مجزوء الكامل] ما لي على مُرِّ الرِّضا ... من حيلةٍ غيرُ الرِّضا أنا في الهوى عبدٌ وما ... للعبدِ أن يتعرَّضا (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "سلك الدرر" للمرادي (4/ 32)، و"النعت الأكمل" للغزي (ص: 306). (¬2) انظر: "النعت الأكمل" للغزي (ص: 303 - 304). (¬3) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 645). (¬4) انظر: "البحور الزاخرة في علوم الآخرة" للسفاريني (1/ 176). (¬5) انظر: "غذاء الألباب" للسفاريني (2/ 222).

وله في نظم الموبقات السبع: [من الطويل] خُذْ المُوبقاتِ: الشركُ والقتلُ والزنا ... وأكلُ الرِّبا والسحرُ مع قَذْفِ نُهَّدِ وأكلُكَ أموالَ اليتامى بباطلٍ ... تَوَلِّيكَ يومَ الزحفِ في حربِ جُحَّدِ (¬1) كما نظم أمهات مسائل عقائد السلف في "الدرة المضية في عِقْد أهل الفرقة المرضية" وعدتها مئتا بيت وبضعة عشر، وهي تكفي وتشفي من معظم الخلاف الذي ذاع وانتشر (¬2). وله غير ذلك من الأشعار، والنظام والنثار (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الذخائر لشرح منظومة الكبائر" للسفاريني (ص: 136). (¬2) انظر: "لوامع الأنوار البهية" للسفاريني (1/ 2). (¬3) انظر: "سلك الدرر" للمرادي (4/ 32).

المبحث الخامس شيوخه

المبحث الخامس شيوخه 1 - الشيخُ، الإمامُ، القدوةُ، العالمُ، الزاهدُ، الخاشعُ، أبو التقى، عبدُ القادرِ بنُ عمرَ التَّغْلبِيُّ الحنبليُّ الفَرَضي، مفتي الحنابلة بدمشق الشام. وقد ارتحل إليه الإِمام السفاريني سنة (1133 هـ)، وقرأ عليه: "دليل الطالب" للشيخ مرعي الكرمي، وختمه، وابتدأ بقراءة "الإقناع" للحجاوي، وحضره في عدة كتب، وفي "الجامع الصغير" للجلال السيوطي بين العشاءين، وذاكره في عدة مباحث من "شرحه على الدليل"، فمنها ما رجع عنها، ومنها ما لم يرجع، لوجود الأصول التي نقل منها، وكان يكرمه ويقدمه على غيره، وقد أجازه سنة (1135 هـ)، وهي السنة التي توفي فيها الشيخ التغلبي - رحمه الله - (¬1). 2 - الشيخ المشهور، المكثِرُ من التصانيف الذائعة الصيت: عبدُ الغنيِّ النابلسيُّ، المتوفَّى سنة (1143 هـ)، صاحبُ التآليف العديدة، والتصانيف المفيدة. وقد حضر الإمام السفاريني دروسه في "تفسير البيضاوي"، و"تفسيره" ¬

_ (¬1) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 171)، و"إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 282)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 642).

3 - الشيخ المعمر، الفقيه، المحدث، الورع، عبد الرحمن بن محيي الدين بن سليمان الحنفي

الذي صنفه، وفي علم التصوف -وكان الغالب على علمه-، وأجازه في سنة (1138 هـ) عموماً بسائر ما يجوز له، وبمصنفاته الكثيرة الشهيرة، وهي زهاء ثلاث مئة مؤلف في أنواع العلوم والفنون ما بين المجلد والمجلدين والثلاثة، والأقل والأكثر، حسبما ذكر له في إجازة مطولة (¬1). 3 - الشيخ المعمَّر، الفقيه، المحدِّثُ، الورعُ، عبدُ الرحمنِ بن محيي الدينِ بنِ سليمانَ الحنفيُّ، المجلِّدُ. وقد قرأ عليه "ثلاثيات البخاري"، وحضر دروسه العامة، وأجازه (¬2). 4 - الإِمام العلامة، الصالح، الزاهدُ، المحققُ، الملا إلياس الكرديُّ الكُورانيُّ، المتوفَّى سنة (1138 هـ). وقد قرأ عليه كتب المعقول، وله عدة تآليف في الرقائق، و"حاشية على رسالة العضد في الوضع"، وغير ذلك (¬3). 5 - الإمامُ العلامةُ، الشيخُ عبدُ السلام بنُ محمدٍ الكامليُّ، المتوفَّى سنة (1138 هـ). وقد قرأ عليه بعض كتب الحديث، وبعض "رسائل إخوان الصفا" في داره، وأجازه أن يروي عنه الكتب الستة، وسائرَ كتب الحديث والفقه والتفسير وغيرها (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 172)، و"إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 282)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 643). (¬2) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 175)، و"إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 282)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 643). (¬3) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 175)، و"إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 282)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 643). (¬4) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 176)، و"إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: =

6 - الشيخ، الإمام، العلامة، إسماعيل بن محمد جراح بن عبد الهادي، العجلوني

6 - الشيخُ، الإمامُ، العلامةُ، إسماعيلُ بنُ محمد جراح بنِ عبدِ الهادي، العجلونيُّ، المتوفَّى سنة (1162 هـ)، المدرِّسُ (43 سنة) لـ"صحيح البخاري" تحت قبةِ النَّسْرِ في الجامع الأموي. وقد لازمه السفارينيُّ خمسَ سنين، فقرأ عليه "الصحيح" بطرفيه، مع مراجعة شروحه الموجودة، و"ثلاثيات البخاري"، وغيرها، وعرض عليه كتابه: "تحبير الوفا"، فاستجاده، وأثنى عليه، وقد أجازه إجازة مطولة (¬1). 7 - الإمامُ العلامةُ، المحققُ، شهابُ الدين أحمدُ بنُ عليٍّ المنينيُّ، المتوفَّى سنة (1172 هـ). وقد قرأ عليه "شرح جمع الجوامع" للجلال المحلِّيِّ، و"شرح كافية ابن الحاجب" للملا جامي، وأولَ "البخاري"، وحاضرَه في عدة من كتب الحديث، وغير ذلك، وقد أجازه إجازة مطولة كتبها إليه بخطه بكل ما يجوز له وعنه روايته (¬2). 8 - الشيخُ، الإمامُ، الفقيهُ، الفَرَضِيُّ، المحققُ، المدققُ، مصطفى بنُ عبدِ الحقِّ اللَّبَدِيُّ، الحنبليُّ، المتوفَّى سنة (1153 هـ). وقد صحبه الإِمام السفاريني، وقرأ عليه غالبَ مشاهير كتب المذهب، وباحثه وراجعه، وأجازه بكل ما يجوز له وعنه روايته (¬3). ¬

_ = 282)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 643). (¬1) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 155، 178)، و"إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 284)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 643). (¬2) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 182)، و"إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 285)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 643). (¬3) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 186)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644).

9 - الشيخ عواد بن عبيد بن عابد الكوري الحنبلي

9 - الشيخُ عوادُ بنُ عبيدِ بنِ عابدٍ الكوريُّ الحنبليُّ -نسبةً إلى قرية كور من قرى جبل نابُلُس- المتوفَّى سنة (1168 هـ). وقد قرأ عليه عدة من كتب المذهب، وكتب عنه شيئًا في علم الحساب، وكتب له إجازة مطولة فيها فوائد مبجَّلة (¬1). 10 - الشيخُ أحمدُ الغزيُّ، المتوفَّى سنة (1143 هـ). وقد قرأ عليه غالبَ "صحيح البخاري"، وكان يقدمه ويجلُّه، وكان يحضر درسه في خلوته بالجامع الأموي مع جملة من كبار شيوخ المذاهب الأربعة -مع أنه كان في عداد الطلبة-، فكان يحتشم من جلوسه مع أشياخه، أو مَنْ فوقَهم، وكان إذا بدا ما يسأل عنه في المذهب الحنبلي، سأله بحضور الأشياخ الكبار (¬2). 11 - الشيخُ محمدُ بنُ عبدِ الرحمن الغزيُّ، المتوفَّى سنة (1167 هـ)، وهو قريبُ الشيخ أحمدَ الغزيِّ المذكور، وهو الذي ولي الفتوى بعده، وكان عالمًا فاضلاً. وقد قرأ عليه بعض "شرح ألفية العراقي" للشيخ زكريا الأنصاري، وأول "سنن أبي داود"، وغيرهما، وكتب له إجازة مطولة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 153، 187). (¬2) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 187)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644). (¬3) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 188)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644).

12 - الشيخ عبد الله البصروي

12 - الشيخُ عبدُ الله البصرويُّ، المتوفَّى سنة (1170 هـ). وقد سمع عليه "ثلاثيات أحمد" مع المقابلة بالأصل المصحح (¬1). 13 - الشيخُ موسى المحاسني، المتوفَّى سنة (1173 هـ)، صاحبُ تآليف، ودرَّسَ في جامع دمشق في عدة كتب، وكان حنفيَّ المذهب، من بيت علم وفضل. وله مع الإمام السفاريني قصة (¬2). 14 - الشيخُ المحققُ مصطفى السواريُّ، المتوفَّى سنة (1144 هـ). وقد قرأ عليه من أول "صحيح مسلم" طرفاً، وأجازه بالباقي، وبما يجوز له وعنه روايته من سائر العلوم النقلية والعقلية (¬3). 15 - الشيخُ محمدُ بنُ خليلٍ العجلونيُّ، المتوفَّى سنة (1148 هـ)، المدرِّسُ عند القنوات، وكتب له إجازة (¬4). 16 - الشيخُ طه بنُ أحمدَ اللَّبديُّ، المتوفَّى نحو سنة (1175 هـ) (¬5). 17 - الشيخُ مصطفى بنُ يوسفَ الكرميُّ (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 188)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644). (¬2) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 189). (¬3) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 190)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644). (¬4) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 191)، و"سلك الدرر" للمرادي (4/ 38). (¬5) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 192)، و"النعت الأكمل" للغزي (ص: 292). (¬6) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 192)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644).

18 - الشيخ عبد الرحيم الكرمي

18 - الشيخُ عبدُ الرحيم الكرميُّ (¬1). 19 - الشيخُ المعمَّرُ السيدُ هاشمٌ الحنبليُّ (¬2). 20 - الشيخُ محمد السلفيتيُّ (¬3). 21 - الشيخُ محمدٌ الخليليُّ، المتوفَّى سنة (1147 هـ). وقد أخذ عنه وسمع منه أشياء (¬4). 22 - الشيخُ المحققُ مصطفى بنُ كمالِ الدين البكريُّ الخلوتيُّ، المتوفَّى سنة (1162 هـ). وقد لازمه وقرأ عليه مصنفاته، وأجازه بما لَه، وكتب له بذلك (¬5). 23 - الشيخُ الإمامُ حامدُ أفندي مفتي الشام، المتوفَّى سنة (1171 هـ). وقد قرأ عليه الحديث المسلسل بالأولية، وبعضَ "ثلاثيات الإمام أحمد"، و"ثلاثيات البخاري"، وذلك سنة (1148 هـ) (¬6). ¬

_ (¬1) نظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 192)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644). (¬2) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 192)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644). (¬3) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 192)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644). (¬4) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 192)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644)، و"سلك الدرر" للمرادي (4/ 95). (¬5) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 192)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644)، و"سلك الدرر" للمرادي (4/ 190). (¬6) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: 192)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644)، و"سلك الدرر" للمرادي (2/ 11).

24 - الشيخ الإمام محمد حياة السندي

24 - الشيخُ الإمامُ محمدُ حياةَ السنديُّ، المتوفَّى سنة (1163 هـ). وقد سمع منه بالمدينة الحديثَ المسلسلَ بالأولية، وقرأ عليه أولَ الكتب الستة، وغيرها (¬1). 25 - الشيخُ محمدٌ الدقاقُ المغربيُّ، المتوفَّى سنة (1158 هـ)، وهو صهرُ الشيخ محمد حياة. وقد أدركه بالمدينة، وسمع منه أشياء سنة (1148 هـ) (¬2). 26 - الشيخُ أحمدُ الدسوقيُّ (¬3). 27 - الشيخُ حسنٌ المصريُّ (¬4). 28 - الشيخُ محمد حفيدُ أبي المواهبِ الحنبليُّ (¬5). * وقد جمعهم العلامة اللغوي الزبيدي في نظم رائق رائع، فقال في كتابه "ألفية السند": وقدْ روى عن الإمامِ التغلِبي ... شيخِ الحديثِ الكاملِ المهذَّبِ والعارفِ المشهورِ ذي التفنُّنِ ... عبدِ الغنيِّ القطبِ نورِ الأعينِ كذاكَ إلياسَ فَتَى كُورانِ ... وحامدِ المفتي الرفيع الشَّانِ وشيخِهِ عبدِ السلام الكامِلي ... وهاشِمِ السيِّدِ ذي الفضائلِ ¬

_ (¬1) انظر "إجازة الزبيدي" (ص: 193)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644)، و"سلك الدرر" للمرادي (4/ 34). (¬2) انظر "إجازة الزبيدي" (ص: 194)، و"المعجم المختص" للزبيدي (ص: 644)، و"سلك الدرر" للمرادي (4/ 122). (¬3) انظر "ألفية السند" للزبيدي (ص: 274). (¬4) انظر "إجازة الزبيدي" (ص: 169). (¬5) انظر "إجازة الزبيدي" (ص: 153).

وابنِ سِوَارِ المحيويِّ مصطفى ... وشيخِهِ موسى الفقيهِ ذي الوفا نجلِ أبي السُّعودِ ذي المحاسنِ ... وبيتُهم يُعرفُ بالمَحاسني ومُسنِدِ الوقتِ بلا ظُنونِ ... سليلِ جَرّاحٍ فتى عَجْلونِ كذا ابنِ عبدِ الحقِّ ذاكَ اللَّبَدِي ... وابنِ عُبَيْدٍ خذْ مَعَ المُجَلِّدِ وأحمدَ الغزيِّ مفتي الشامِ ... والسيِّدِ البكريِّ ذي الإنعامِ ومصطفى بنِ يوسُفَ المُمَجَّدِ ... منسوبِ "كَرْمِ" الألمعيِّ الأوحدِ وذي التُّقى الغزِّيِّ قُلْ: محمَّدَا ... وشيخِهِ طه أي: ابنِ أحَمدَا كذا المنينيِّ الشَّهيرِ الصِّيتِ ... وعن محمدٍ فتى "سَلفيتِ" وشمسِ دينِ الله ذي المراتبِ ... حفيدِ مولانا أبي المواهبِ وعن محمَّدٍ هو الدقَّاقُ ... نزيلُ طيبةَ الرِّضا الغيداقُ وعابدِ الرحيم ذاك اللبَدِي ... كذا الخليليِّ الفتى محمَّدِ والعالمِ السِّنْدِيِّ ذي الهِبات ... أعني به: محمدَ الحَياةِ والحَسَنِ المِصْريِّ ذي الفنونِ ... كذلكم مُحَمَّدِ العجلوني والبَصْرَوِيِّ الفَرْدِ عبدِ الله ... ومِن "دُسوقَ" أحمدَ الأوَّاهِ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) انظر: "ألفية السند" للزبيدي (ص: 271 - 274).

المبحث السادس تلامذته

المبحث السادس تلامذته 1 - العلامةُ، اللغويُّ، الشيخُ، المسندُ، محمدُ مرتضى بنُ محمدٍ الحسينيُّ العلويُّ الزبيديُّ، المتوفى سنة (1205 هـ). قال الزبيدي: كتبت إليه أستجيزه، فكتب إليَّ إجازة حافلة في عدة كراريس، حشاها بالفوائد والغرائب، وذلك سنة (1179 هـ)، ثم كاتبته ثانيًا في سنة (1183 هـ)، وأرسلت إليه الاستدعاء باسم جماعة من الأصحاب، فاجتهد وحرر إجازة حسنة حشَّاها بفوائد غريبة في كراريس (¬1). 2 - الشيخُ مصطفى بنُ سعدٍ الرحيبانيُّ الدمشقيُّ الحنبليُّ الشهيرُ بالسيوطيِّ، المتوفَّى سنة (1245 هـ)، أو (1242)، وهو من أكبر تلاميذ الإمام السفارينيِّ (¬2). 3 - عثمانُ بنُ محمدٍ الرحيبانيُّ الحنبليُّ. وقد ارتحل إلى سَفَّارين زهاءَ سبعةِ أشهر، وقرأ على الإمام السفاريني في الفقه بعضَ مختصر الشيخ منصور المسمَّى بـ "العمدة" مع شرحها لخاتمة ¬

_ (¬1) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 646 - 647)، وقد طبعت هذه الإجازة ضمن كتاب "ثبت الإمام السّفاريني". (¬2) انظر: "فهرس الفهارس" للكتاني (2/ 1023).

4 - الشيخ، المجود، المحدث عبد القادر بن خليل بن عبد الله الرومي المدني المعروف بـ"كدك زاده"

المحققين عثمان النجدي، وقرأ "عقيدة النجدي" تماماً، وحضر أول "شرح مختصر التحرير" لابن النجار الفتوحي، وغير ذلك (¬1). 4 - الشيخُ، المجوِّدُ، المحدِّثُ عبدُ القادر بنُ خليلِ بنِ عبدِ الله الروميُّ المدنيُّ المعروفُ بـ"كدك زاده"، المتوفى سنة (1189 هـ). وقد استجاز له الزبيدي من الإمام السفاريني، فكتب له إجازة طويلة في خمسة كراريس، فيها فوائد جمة (¬2). 5 - الشيخُ، المحدِّثُ محمدُ بنُ أحمدَ بنِ محمدِ بنِ خيرِ الله البخاريُّ الحنفيُّ الأثريُّ المحدثُ، نزيلُ نابُلُسَ، المتوفَّى بها سنة (1200 هـ) (¬3). 6 - محمدُ شاكر بنُ عليِّ بنِ سعدٍ العمريُّ الشهيرُ بالعقادِ الدمشقيُّ الحنفيُّ، المتوفَّى سنة (1222 هـ) (¬4). 7 - الشيخُ كمالُ الدين محمدٌ الغزيُّ العامريُّ الدمشقيُّ، ابنُ سِبْطِ الشيخِ عبدِ الغنيِّ النابلسيِّ، صاحبِ "النعت الأكمل"، والمتوفَّى سنة (1214 هـ) (¬5). 8 - الشيخُ محمدُ زيتون بنِ حسنِ بنِ هاشمٍ الحنبليُّ، المتوفَّى سنة (1228 هـ) (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "إجازة السفاريني لعثمان الرحيباني" (ص: 327). (¬2) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 426 - 427، 647). (¬3) انظر: "فهرس الفهارس" للكتاني (1/ 214). (¬4) انظر: "فهرس الفهارس" للكتاني (2/ 870، 1004). وقد أجازه الإمام السفاريني بإجازة طبعت ضمن "ثبت السفاريني". (¬5) انظر: "عجائب الآثار" للجبرتي (2/ 196)، و"فهرس الفهارس" للكتاني (1/ 480). (¬6) انظر: "إجازة السفاريني" له، والتي طبعت ضمن "ثبت السفاريني".

المبحث السابع تصانيفه

المبحث السابع تصانيفه صنف الإمام السفاريني جملة من التصانيف الجليلة النافعة، والتي امتازت بحسن التقرير والتحرير، وبحسن الجمع والتأليف، والترتيب والترصيف، وإكثار النقول من كتب الأئمة المحققين، كشيخ الإِسلام ابنِ تيمية، وابن القيم، وابن حجر، والحجاوي، وغيرهم، فقد ظل الإمام السفاريني يرتشف من كنوز علمهم الجواهرَ والدرر، فجاءت كتبه مليئة بالفوائد والعوائد (¬1). ¬

_ (¬1) قال تلميذه الإمام الزبيدي في "المعجم المختص" (ص 646): كتبت إليه أستجيزه، فكتب إلي إجازة حافلة في عدة كراريس حشاها بالفوائد والغرائب. وقال المرادي في "سلك الدرر" (4/ 31): وله الباع الطويل في علم التاريخ" وحفظ وقائع الملوك والأمراء، والعلماء والأدباء، وما وقع في الأزمان السالفة. قال الكتاني في "فهرس الفهارس" (2/ 1005): ويظهر لي أنه لا يبعد عد المترجم في حفاظ القرن الثاني عشر؛ لأنه ممن جمع وصنف، وحرر وخرج، وأُخذ عنه، واستُجيز من الأقطار البعيدة، حتى من مصر والحجاز واليمن. وبالجملة: فتآليفه نافعة مفيدة مقبولة، سارت بها الركبان، وانتشرت في البلدان، كما قال محمد بن سلوم فيما نقله ابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842).

وقد تمَّ -بتوفيق الله- الوقوفُ على تسمية مصنفاته مجموعة من كتبه وكتب مَنْ ترجم له، وفيما يلي عرضٌ لكل واحد منها (¬1): 1 - "كشف اللثام شرح عمدة الأحكام"، وهو الكتاب الذي بين أيدينا. 2 - "غذاء الألباب بشرح منظومة الآداب" في مجلد ضخم (¬2). قال عنه مؤلفه في آخره (2/ 472): " .. وقد سهرت الليالي في جمع مسائله، وبذلت مجهودي في تهذيب دلائله، ولم آلُ جهداً في زيادة تبيينه، وتوضيحه وتمكينه، وجمعه وتأليفه، وتحريره وتصنيفه ... " ثم قال: "فهاك كتابا جمعٍ فأوعى، وسِفْراً حوى من العلوم فصلًا ونوعاً، ولو سافرتَ إلى صنعاء اليمن في تحصيله، لما خابت سفرتُك، ولو تاجرتَ فيه بأغلى بضاعتك، لما خسرتْ تجارتُك، وقد جلبتُ إليك فيه نفائسَ في مثلها يتنافس المتنافسون، وجليت عليك فيه عرائسَ إلى مثلها يبادر الخاطبون". وقال عنه ابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842): وأودَع فيه من غرائِب الفوائد ما لا يوجد في كتاب. ¬

_ (¬1) تم ترتيب هذه المصنفات على حسب أهميتها وما حوته من علوم نافعة، وفوائد ماتعة. (¬2) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 68)، وفي "إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 287)، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، والزبيدي في "المعجم المختص" (ص: 645)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 302)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، وغيرهم. وقد طبع الكتاب عدة طبعات لا يخلو بعضها من التصحيف والتحريف.

3 - "نفثاتُ صدرِ المُكْمَد وقرةُ عينِ المُسْعَد لشرح ثلاثيات مسندِ الإمام أحمد" (¬1). قال عنه مؤلفه (ص: 37) من كتابه هذا: "وإذا تأملت شرحي للثلاثيات تأملاً تاماً، وأنعمتَ النظرَ فيه بمانصاف، رأيتَ من الفوائد الغريبة، والحقائق العجيبة، والدقائق النفيسة، والتنبيهات الأنيسة، والتحقيقات الفقهية، والتدقيقات الأثرية، ما لعلك لا تكاد تظفر به في غيره من الكتب، وستقف على أشياء في مصنفنا أكثر مما وصفنا". 4 - "لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية" (¬2). وقد جمع فيه أقوال السلف والخلف، ومذاهب الفرق في مسائل ¬

_ (¬1) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 68)، وفي "إجازة الزبيدي" (ص: 112)، وسماه: "نفثات صدر المكمد لشرح ثلاثيات المسند"، وفي "إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 287)، والزبيدي في "المعجم المختص" (ص: 644)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 302)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 841)، ووقع عنده: "نفاث" بدل "نفثات"، والكتاني في "فهرس الفهارس" (2/ 1003)، وغيرهم. وقد طبع الكتاب في المكتب الإِسلامي ببيروت سنة (1410 هـ - 1990 م)، الطبعة الرابعة، ووقع تسميته في المطبوع من الكتاب: "نفثات صدر المكمد، وقوة عين الأرمد لشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد". (¬2) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 69)، وفي "إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 287)، والزبيدي في "المعجم المختص" (ص: 645)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 841). وقد طبع الكتاب عدة طبعات منها طبعة المكتب الإسلامي ببيروت سنة (1411 هـ - 1991 م)، الطبعة الثالثة.

الاعتقاد، وبَيَّنَ رجحانَ مذهب السلف على غيره، مؤيداً ذلك بالدلائل النقلية، وكذا العقلية، فيما يستدل على مثله بالعقل، واقتبس جلَّ تحقيقاته فيه من كلام الإمامين شيخ الإِسلام ابن تيمية، وتلميذه المحقق ابن القيم، فجاء كتاباً حافل الرأي، جامعاً لما لم يجمعه غيره من المأثور والمروي، كثير الفوائد، جَمَّ الأوابد والشوارد، لا يكاد يستغني عنه طالبُ السعة والتحقيق في العقائد الإِسلامية، أو يحيط بما في كتب ابن تيمية وابن قيم الجوزية (¬1). وقال عنها ابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 841): العقيدة الفريدة، وشرحها الحافل، العظيم الفوائد، الجم العوائد. ولأهل العلم بعضُ التنبيهات والتعليقات على مواضع من الشرح. 5 - "البحور الزاخرة في علوم الآخرة" (¬2). قال عنه مؤلفه (ص: 26 - 127: "تتبعت الكتب المؤلفات في هذا الباب، واطلعت على ما فيها من العجب العجاب، فاجتهدت في جمعه وترتيبه، وتفصيله وتبويبه، فصار للمحزون سلوة، وللمشتاق جلوة .... ". ¬

_ (¬1) من تقريظ السيد محمد رشيد رضا لكتابه هذا. انظر: "مجلة المنار" (10/ 2 / 145) سنة 1907 م. (¬2) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 68)، وفي "إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 287)، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، والزبيدي في "المعجم المختص" (ص: 645)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 302)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، وغيرهم. وقد طبع الكتاب في مجلدين في دار غراس بالكويت، سنة (1428 هـ - 2007 م)، الطبعة الأولى، بتحقيق محمد إبراهيم شومان.

إلى أن قال: "مشتمل من بدائع الفوائد، وفرائد القلائد، على ما يعسر تحصيله على الطلاب، في سوى هذا الكتاب، إذا نظر فيه المؤمن زاده إيماناً، وجلَّى عليه الآخرةَ حتى كأنه يشاهدها عياناً، فهو مشير النفوس إلى مجاورة الملك القدوس، وزاجرُ الهمم الدنيات، عن اقتراف المعاصي والشبهات، وسميته بـ"البحور الزاخرة في علوم الآخرة"؛ فإنه اسم يوافق مسماه، ولفظٌ يوافق معناه. 6 - "تحبير الوفا في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). قال عنه مؤلفه في "إجازته للزبيدي" (ص: 178 - 179): وعرضت عليه -أي: شيخه العجلوني- كتابي الذي اختصرته من "الوفا" للحافظ ابن الجوزي، من أوله إلى انتهاء باب معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأثنى عليه، وقال: "هذا في غاية التنقيح والتحرير، ويفوق أصلَه من الفوائد بكثير"، هذا لفظه. 7 - "الذخائر في شرح منظومة الكبائر" (¬2). ¬

_ (¬1) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 68)، وفي "إجازة الزبيدي" (ص: 178)، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، والزبيدي في "المعجم المختص" (ص: 645)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 302)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، والكتاني في "فهرس الفهارس" (2/ 1003) ووقع عنده "حجر الوفا". (¬2) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 69)، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 302)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، نقلا عن محمد بن سلوم، وسماه: "دراري الذخائر شرح منظومة الكبائر"، وقد طبع الكتاب بتحقيق أخينا الدكتور وليد العلي، ونشرته دار البشائر الإِسلامية ببيروت سنة =

وقد شرح فيه منظومة الإمام الحجاوي في الكبائر التي كانت منثورة في كتابه "الإقناع"، قال عنه مؤلفه في مقدمة كتابه (ص: 100): " ... فاستخرتُ الله أن أشرحها شرحاً يكون لطالبها دليلاً، ولمن قصدَ حلَّ معاني ألفاظها سبيلاً، وأتيتُ فيه بدليل كلِّ كبيرة منها وبرهان، ووشَّحْتهُ ببعض حكايات لها وقع في القلوب والأذهان". 8 - "لوائح الأنوار السَّنية ولواقح الأفكار السُّنية في شرح منظومة الإمام الحافظ أبي بكر بن أبي داود الحائية" (¬1). 9 - "معارج الأنوار في سيرة النبي المختار". وهو شرح "نونية الصرصري" في مجلدين (¬2). وقد عوَّل عليه الإمام السفاريني كثيرًا في كتبه، وأحال في مواطنَ عِدَّة من كتبه إليه، ويظهر من كلامه أنه توسَّع فيه من إيراد الأحداث والوقائع والأقوال، والاختلافات الواقعة فيها، معتمداً على "سيرة الشمس ¬

_ = (1422 هـ - 2001 م) الطبعة الأولى. (¬1) كذا ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 69)، وفي "إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: 287): وسماه بـ"طوالع الأنوار السنية ولوامع الأفكار السنية"، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 314)، والزبيدي في "المعجم المختص" (ص: 645)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31) وسماه: "لواقح الأفكار السنية"، وتبعه الغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303)، والكتاني في "فهرس الفهارس" (2/ 1004) وسماه كما ذكره السفاريني في "ثبته" بـ"لوائح الأنوار". (¬2) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 68)، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، والزبيدي في "المعجم المختص" (ص: 645)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 302)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 841)، وغيرهم.

الشامي"، و"السيرة الحلبية"، وكتب ابن القيم، وابن سيد الناس، وغيرهم. 10 - "نتائج الأفكار لشرح حديث سيد الاستغفار" (¬1). وقد أودع فيه غرائب نحو سبع كراريس، كما نقل ابن حميد (¬2). 11 - "القول العلي في شرح حديث سيدنا الإمام علي" (¬3). شرح فيه أثر علي -رضي الله عنه - الذي أملاه على كُميل بن زياد النخعي (¬4). ¬

_ (¬1) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 69)، وفي "إجازة عبد القادر خليل" (ص: 287)، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 302)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، وغيرهم. (¬2) في "السحب الوابلة" (2/ 842) عن محمد بن سلُّوم. (¬3) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 69)، وفي "إجازة عبد القادر خليل" (ص: 287)، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 302)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، والشطي في "مختصر طبقات الحنابلة" (ص: 141)، والكتاني في "فهرس الفهارس" (2/ 1004)، ووقع عنده: "القول الجلي". (¬4) وهو ما رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 79)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 379)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (50/ 251) من طرق، عن كميل بن زياد: أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال له: يا كميل بن زياد! القلوبُ أوعية، فخيرُها أوعاها، احفظْ ما أقول لك: الناس ثلاثة ... "، فذكره في حديث طويل. وقد ذكره ابن القيم في "مفتاح دار السعادهّ" (1/ 123)، وأفاض الكلام عليه.

12 - "قرع السياط في قمع أهل اللواط" (¬1). 13 - "الملح الغرامية بشرح منظومة ابن فرح اللامية" (¬2). 14 - "التحقيق في بطلان التلفيق" (¬3). وقد ردَّ بها جواز التلفيق في العبادات وغيرها للشيخ مرعي. 15 - "الدُّرُّ المنظم في فضل عشر المحرم" (¬4). 16 - "بغية النساك في فضل السواك" (¬5). ¬

_ (¬1) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 69)، وفي "إجازة عبد القادر خليل" (ص: 287)، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 302)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، وغيرهم. (¬2) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 69)، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، والكتاني في "فهرس الفهارس" (2/ 1004) وغيرهم. (¬3) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 70)، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، وقد طبعت هذه الرسالة طبعة قديمة دون تاريخ. (¬4) كذا ذكره الإمام السفاريني في "إجازة محمد زيتون" (ص: 302)، وذكره في "ثبته" (ص: 69)، "الدر المنظم في فضل شهر الله المحرم". وذكره المرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303)، وغيرهم. (¬5) كذا ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 70)، وفي كتابه الذي بين أيدينا "كشف اللثام". وقد سماه في "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، وكذا المرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، بـ"تحفهَ النساك".

17 - "اللمعة في فضل وخصائص يوم الجمعة" (¬1). 18 - "عَرْف الزَّرْنَب في شأن سيدتنا بنتِ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - زينب" (¬2) 19 - "تناضل العمال بشرح حديث فضائل الأعمال" (¬3). وقد بلغ حجمه سبعين كراساً. 20 - "الجواب المحرر في الكشف عن حال الخضر والإسكندر" (¬4). 21 - "إقامة الحجة في حكم صيام يوم عرفة إذا غمَّ هلال ذي الحجة" (¬5) ¬

_ (¬1) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 70)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، وغيرهم. (¬2) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 69)، وسماه في "إجازة عبد القادر" (ص: 287): "عرف الزرنب في شأن السيدة زينب بنت سيد العجم والعرب - صلى الله عليه وسلم - ". وذكره في "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 302)، وغيرهم. (¬3) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 70)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303)، ووقع فيهما "تفاضل" بدل "تناضل"، والكتاني في "فهرس الفهارس" (2/ 1004)، وغيرهم. ووقع في "السحب الوابلة" لابن حميد (2/ 841): "شرح فضائل الأعمال" للضياء المقدسي. وقد وقفت - بفضل الله تعالى - على نسخة فريدة محفوظة في إحدى المكتبات الخاصة، والسعي قائم لاقتنائها, لعلها تخرج من عالم النسيان، ويقدر حجمها إذا طُبعت بحجم كتاب "كشف اللثام"، وفيها فوائد عزيزة، والله وحده الموفق. (¬4) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 69)، وفي "إجازة عبد القادر" (ص: 287)، وفي "إجازة محمد زيتون" (ص: 312)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 302)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842). (¬5) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 69).

22 - "منتخب الزهد للإمام أحمد". وقد حذف منه المكرر والأسانيد (¬1). 23 - "الدرر المصنوعات في الأحاديث الموضوعات". في مجلد ضخم، وقد اختصر فيه السفاريني "الموضوعات" لابن الجوزي (¬2). 24 - "رسالة في بيان الثلاثة والسبعين فرقة والكلام عليها" (¬3). 25 - "الأجوبة النجدية عن الأسئلة النجدية" (¬4). 26 - "الأجوبة الوهبية عن الأسئلة الزعبية" (¬5). 27 - "نظم الخصائص الواقعة في الإقناع" (¬6). 28 - "الدر المنثور في فضل يوم عاشور المأثور" (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره ابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842)، والكتاني في "فهرس الفهارس" (2/ 1004). (¬2) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 68)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303)، والكتاني في "فهرس الفهارس" (2/ 1004)، وغيرهم. (¬3) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 70)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 31)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303). (¬4) ذكره المرادي في "سلك الدرر" (4/ 31 - 32)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303). (¬5) ذكره المرادي في "سلك الدرر" (4/ 32)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303). (¬6) ذكره المرادي في "سلك الدرر" (4/ 32)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303 - 302). (¬7) ذكره ابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842).

29 - "رسالة في بيان كفر تارك الصلاة" (¬1). 30 - "رسالة في ذم الوسواس" (¬2). 31 - "رسالة في شرح حديث الإيمان بضع وسبعون شعبة" (¬3). 32 - "رسالة في فضل الفقير الصابر" (¬4). 33 - "شرح دليل الطالب" ولم يكمل، ووصل فيه إلى كتاب الحدود (¬5). 34 - "تعزية اللبيب بأحب الحبيب"، وهي قصيدة في الخصائص النبوية، ولم يكمل أيضًا (¬6). وأما الفتاوى التي كتب عليها الكراس وأقل وأكثر، فكثير، ولو جمعت بلغت مجلدات. وله من الأشعار في المراسلات والغزليات، والوعظيات والمرثيات، شيء كثير (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره ابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842). (¬2) ذكره ابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842). (¬3) ذكره ابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842). (¬4) ذكره ابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842). (¬5) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 70)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 32)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842). (¬6) ذكره الإمام السفاريني في "ثبته" (ص: 70)، والمرادي في "سلك الدرر" (4/ 32)، والغزي في "النعت الأكمل" (ص: 303)، وابن حميد في "السحب الوابلة" (2/ 842). (¬7) "ثبت السفاريني" (ص: 70)، والذي كتبه سنة (1181 هـ).

كما أن له "ثبتاً"، وإجازات لعدد من الأعيان، كالعلامة الزبيدي، وعبد القادر بن خليل، ومحمد شاكر العقاد، ومحمد زيتون الحنبلي، وعثمان الرحيباني (¬1)، ضمنها فوائد عدة، وتفنن فيها بإيراد الأسانيد (¬2). * * * ¬

_ (¬1) وقد طبع هذا "المثبت" مع الإجازات بتحقيق أخينا الفاضل الشيخ المتفنن محمد بن ناصر العجمي، ونشرته دار البشائر الإِسلامية ببيروت، ودار الصديق بدمشق. (¬2) ومما ينبغي التنبيه إليه هنا ما أشار إليه الإمام السفاريني في "إجازته لعثمان الرحيباني" (ص: 332 - 333) بقوله: "والإجازات لا تفيد علماً، فمن حصل العلوم، وأدرك منطوقها والمفهوم، فقد فاز، وأجيز على الحقيقة لا المجاز، ومن لا فلا, ولو ملأ سَبَتَ أمه إجازات"، فلا ينبغي التشاغل بها وتقديمها على غيرها مما يجب على طلبة العلم، فهي لا تعدو اليوم أن تكون من مُلح العلم لا من متينه، وأحسنُ ما فيها إحياءُ سنة من سلف، والوصول إلى العلماء ومجالستهم وأخذ الفوائد عنهم، وبالله التوفيق.

المبحث الثامن ثناء العلماء عليه

المبحث الثامن ثناء العلماء عليه 1 - قال الشيخ محمد بن محمد المغربي التافلاني المتوفَّى سنة (1191 هـ) في تقريظه لكتاب الإمام السفاريني "شرح ثلاثيات المسند": "الإمام البارع الذكي، اللوذعي الألمعي، العذب المشارك، المدركُ لخفي المدارك، الذي هو في فنون العلم مشارك، مولانا أبو عبد الله الشيخ محمد السفاريني الحنبلي" (¬1). 2 - وقال تلميذه الإمام الزبيدي: "شيخنا الإمامُ المحدِّثُ البارعُ الزاهدُ الصوفيُّ" (¬2). 3 - وقال عنه أيضًا: [من الرجز] ومنهمُ الرَّاقي ذُرا المعالِمِ ... محمدُ بنُ أحمدَ بنِ سالمِ منسوبُ سَفَّارينَ ذاكَ الحنبلِي ... مسندُ عصرِهِ الإمامُ المُعْتَلِي الأَثَرِيُّ الزَّاهدُ السَّجَّادُ ... بعلمِه قد رُفِعَ العِمادُ (¬3) ¬

_ (¬1) انظر: "مقدمة شرح ثلاثيات المسند" (1/ 2). (¬2) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 642)، وعنه: الجبرتي في "عجائب الآثار" (1/ 468). (¬3) انظر: "ألفية السند" "للزبيدي" (ص: 271).

4 - وقال عنه في إجازته لحفيد الإمام السفاريني عبدِ الرحمن بنِ يوسفَ بنِ محمدٍ السفارينيِّ: [من الرجز] وجَدُّهُ محمدُ بنُ أَحمدا ... شيخُ الحديثِ قد هَدَى وسَدَّدا قد كانَ عَمْرُ اللهِ في نابُلْسِ ... بقيةَ الأخيارِ عالِي النَّفْس أوحدَ مَنْ كانت له العِنايَهْ ... في حفظِ هذا الفنِّ فوقَ الغايَهْ (¬1) 5 - وقال العلامة المرادي: "الشيخُ الإمام، والحبرُ البحرُ النِّحرير، الكاملُ الأوحدُ العَلَّامة، والعالمُ العاملُ الفَهَّامة" (¬2). 6 - وقال تلميذه العلامة الغزي: "الشيخُ الإمامُ، والحبرُ البحرُ النحرير، الكاملُ الهمامُ الأوحدُ، العلامةُ العالمُ الكاملُ المتفوقُ ... ، خاتمةُ الحنابلة في الديار النابلسية ... ، أكملُ المتأخرين، حُجَّةُ المناظرين، مُحَرِّرُ المذهب، منقِّحُ الفروع، الجامعُ بين المعقول والمنقول، مخرجُ الفروع على الأصول، مُطَرِّزُ أردية الفتاوى بحرير التحرير، مُلبس هامات المباحث بتيجان التقرير، سيدُ التحقيق، وسندُ التدقيق" (¬3). 7 - وقال العلامة ابن عابدين في "ثبته" بعد أن سرد جملة من شيوخ الشيخ محمد شاكر العقاد: "ومنهم: الإمام العلامة، والأوحدُ الفهامة، خاتمةُ المحققين، وكهف الطالبين، الإمامُ الفقيه، والعلامةُ النبيه، صاحبُ التآليفِ العديدة، والتحاريرِ المفيدة" (¬4). ¬

_ (¬1) نقله الكتاني في "فهرس الفهارس" (2/ 1003). (¬2) انظر: "سلك الدرر" للمرادي (4/ 31). (¬3) انظر: "النعت الأكمل" للغزي (ص: 301). (¬4) انظر: (ص: 295) من "إجازة السفاريني للعقاد".

8 - وقال عنه ابن حميد: "العلامةُ الفهامةُ، المسندُ، الحافظُ المتقنُ" (¬1). 9 - وقال عنه محمد جميل الشطي: "بَهْجَةُ الفقهاء والمحدِّثين، شمسُ الدنيا والدين، خاتمةُ الخابلة في الديار النابلسية" (¬2). 10 - وقال عنه الكتاني: "الإمامُ، محدثُ الشام، وأَثَرِيُّهُ، مسندُ عصرِه وشامَتُه" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "السحب الوابلة" لابن حميد (2/ 839). (¬2) انظر: "مختصر طبقات الحنابلة" للشطي (ص: 140). (¬3) انظر: "فهرس الفهارس" للكتاني (2/ 1002).

المبحث التاسع وفاته

المبحث التاسع وفاته ولا زال -رحمه الله- يملي ويفيد من سنة (1148 هـ) إلى أن توفي يوم الإثنين، ثامن شوال، سنة (1188 هـ) بـ "نابلس"، وجُهِّز، وصُلِّي عليه بـ "الجامع الكبير"، ودُفن بـ"المقبرة الزاركية"، من تربتها الشمالية، وكثر الأسف عليه، ولم يخلف بعده مثله - رحمه الله رحمة واسعة - (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 647)، و"سلك الدرر" للمرادي (4/ 32)، و"النعت الأكمل" للغزي (ص: 306)، و"السحب الوابلة" لابن حميد (2/ 843)، ووقع عنده شك في سنة وفاته، فقال: سنة (1188 هـ)، أو (1189 هـ).

المبحث العاشر مصادر ترجمته

المبحث العاشر مصادر ترجمته 1 - " ثبت الإمام السفاريني"، وإجازاته لتلاميذه: "الزبيدي"، و"عبد القادر بن خليل"، و"محمد زيتون"، و"محمد شاكر العقاد"، و"عثمان الرحيباني"، وقد طبعت جميعها بتحقيق أخينا الفاضل الشيخ المحقق محمد بن ناصر العجمي -كما سبق-. 2 - "تاج العروس" للزبيدي (12/ 47). 3 - "المعجم المختص" للزبيدي (ص: 642). 4 - "ألفية السند" للزبيدي (ص: 271). 5 - "عجائب الآثار" للجبرتي (1/ 468). 6 - "سلك الدرر" للمرادي (4/ 31). 7 - "النعت الأكمل" للغزي (ص: 301). 8 - "السحب الوابلة" لابن حميد (2/ 839). 9 - "هدية العارفين" للبغدادي (2/ 125). 10 - "مختصر طبقات الحنابلة" للشطي (ص: 140).

11 - "فهرس الفهارس" للكتاني (2/ 1003). 12 - "الأعلام" للزركلي (6/ 14). 13 - "معجم المؤلفين" لكحالة (8/ 262). * * *

الفصل الثاني دراسة الكتاب

الفصل الثاني دراسة الكتاب

المبحث الأول تحقيق اسم الكتاب

المبحث الأول تحقيق اسم الكتاب جاء على طرة النسخة الخطية لمكتبة الظاهرية للجزء الأول من الكتاب: "كتاب كَشْف اللثام ورَشْف المُدام شرح عمدة الأحكام" تصنيف الإمام العلامة الهمام الشيخ محمد السفاريني الحنبلي - فسح الله تعالى في مدته -. وقد سماه مؤلفه في مقدمة هذا الكتاب، فقال: وسميته بـ"كشف اللثام شرح عمدة الأحكام"، وكذا سماه في "ثبته" (¬1). وممن سار على هذه التسمية ووافقه من المترجمين له: تلميذه كمال الدين الغزي في "النعت الأكمل" (¬2)، والمرادي في "سلك الدرر" (¬3)، والكتاني في "فهرس الفهارس" (¬4)، والبغدادي في "هدية العارفين" (¬5)، وغيرهم. وما ذكره المؤلف في مقدمة كتابه هو الذي تم اعتماده في إثبات اسم الكتاب في طبعتنا هذه. * * * ¬

_ (¬1) انظر: (ص: 68) منه. (¬2) (ص: 302). (¬3) (4/ 31). (¬4) (2/ 1003). (¬5) (2/ 125).

المبحث الثاني باب نسبة الكتاب إلى مؤلفه

المبحث الثاني باب نسبة الكتاب إلى مؤلفه قد تقدم ذكر الإمام السفاريني والتصريح باسم كتابه في طرة النسخة الخطية، والتي نسخت عن أصله في حياته، وتصريحُه بذكر اسم كتابه هذا في "ثبته"، وكذلك في إجازته للشيخ عبد القادر بن خليل (¬1)، وكذلك صرح بنسبة الكتاب إلى الإمام السفاريني كلُّ من ترجم له. ومما يزيد المرءَ يقيناً قاطعاً بنسبة هذا الكتاب إلى الإمام السفاريني جملةٌ من الأمور في هذا الكتاب، ومنها: 1 - منهجُ الإمامِ السفاريني في هذا الكتاب، والذي يتطابق تماماً مع منهجه وأسلوبه في سائر كتبه. 2 - ذكرُه لعدد من كتبه في الشرح، والتي أحال في الرجوع إليها؛ مثل كتابه: "تحبير الوفا"، و"غذاء الألباب شرح منظومة الآداب"، و"بغية النساك في فضل السواك"، وغيرها. 3 - ذكرُه بعضَ النقول عن مشايخه؛ مثل: الشيخ عبد القادر التغلبي، وشيخه الشهاب المنيني الحنفي. 4 - ذكرُه لنقول كثيرة عن شيخ الإِسلام ابن تيمية، وابن القيم، وعن كتب المذهب الحنبلي، وهذا المعهود منه في سائر كتبه. ¬

_ (¬1) انظر: (ص: 287) من الإجازة.

المبحث الثالث سبب تأليف الكتاب

المبحث الثالث سبب تأليف الكتاب ذكر الشارح -رحمه الله تعالى- في مقدمة شرحه سبب تأليف هذا الكتاب، فقال: "سألنيه بعضُ أصحابي بعد قراءته لها عليَّ مع جماعة من ذوي الأفهام، فتعللت بأنها قد شرحها جماعة من الأئمة الأعلام؛ كالإمام تقي الدين بن دقيق العيد، والعلامة ابن الملقن، وغيرهما من كل حافظ قمقام .... " إلى أن قال: "فقال السائل: أما كونُ الكتاب قد شرحه الجمُّ الغفير من ذوي الألباب، فهذا بمنزلة الجواهر عند الملوك، فما نفع الفقير بذلك والمعدم الصعلوك". ثم طلبوا منه: 1 - بيان وجه الدلالة من الحديث على الحكم الذي ذكره الحافظ. 2 - بيان اختلاف الأئمة في الأحكام. 3 - ذكر تراجم ما وقع في الكتاب من الأعلام (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: (ص: 5 - 6) من هذا الكتاب.

المبحث الرابع منهج المؤلف في الكتاب

المبحث الرابع منهج المؤلف في الكتاب بيَّن الشارح -رحمه الله تعالى- في مقدمة كتابه هذا ما قصد له بتأليفه، فذكر أنه يريد: 1 - بيان وجه الدلالة من الحديث على الحكم الذي ذكره الحافظ من غير ترييث. 2 - بيان اختلاف الأئمة في الأحكام. 3 - ذكر تراجم ما وقع في الكتاب من الأعلام (¬1). ويمكن تفصيل منهج الشارح -رحمه الله- الذي سار عليه في شرحه في نقاط عدة: 1 - مفردات الحديث: اتبع الشارح -رحمه الله - طريقةَ الشرح لكل مفردة من مفردات الحديث، فلم يذكر الحديث رأساً في البداية، بل فَرَّقَ الكلمات، وتكلم على كل مفردة على حِدَة، مما يعرف بطريقة المزج. ¬

_ (¬1) انظر: (ص: 6) من مقدمة الشارح -رحمه الله - لهذا الكتاب.

2 - التراجم

2 - التراجم: يبدأ الشارح كلامه على الحديث بالصحابي الذي روى الحديث، فيترجم له بذكر اسمه كاملاً، ولقبِه وكنيته، والقبيلةِ التي ينسب إليها، ووقتِ إسلامه، وهجرتِه إن وجدت، ثم بذكر مناقبه، وعدد أحاديثه، وما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، وما انفرد كلُّ واحد منهما، ثم سنة وفاته، والأقوال فيها -إن وجدت-، والترجيح بينها. وكذلك يترجم للتابعيِّ ترجمةً موجزة -إن وجد له ذكر- قبل الصحابي في متن المصنف - رحمه الله -. 3 - المبهمات: إن كان في متن الحديث رجل مبهمَ، أو امرأة مبهمَة، أوضح هذا الإبهامَ من كلام الأئمة، ويوضح الأقوالَ المختلفة الواردة في المبهم من الكتب التي اعتنت بهذا الفن، وكذا يصنع في تعيين غزوة لم تسمَّ في متن الحديث، أو زمان ومكان الحادثة المروية في الحديث. 4 - سبب إيراد المصنف للحديث: يذكر الشارح -رحمه الله- أحياناً سبب إيراد المصنف للحديث في ذلك الباب، ويبين الحكمة في سياقها، إما لترجيح حكم شرعي بتوارد الأدلة عليه، أو بيان ما استغلق فهمه في آحاد الصور الشرعية. 5 - سبب ورود الحديث: إن كان للحديث سببُ ورود، قام الشارح بذكره من مَظانِّهِ التي اعتنت بذلك، وأهمُّها شروحُ الحديث المتأخرة، كـ"فتح الباري" لابن حجر، وغيره.

6 - اللغة وغريب الحديث

6 - اللغة وغريب الحديث: يذكر الشارح شرحَ الألفاظِ والمفرداتِ الواردة في متن الحديث، فيذكر باب الكلمة أحياناً، وجمعَها، وتصريفاتِها, ولغاتِها، ويبين غريبَ الألفاظ مستعيناً بالشواهد الشعرية والنثرية والأمثال التي يذكرها مصنفو المعاجم وكتبِ الغريب واللغة. 7 - الإعراب: يبين إعرابَ الألفاظ الواردة في متن الحديث، والوجوهَ المحتملة فيها، كما يقوم بتوضيح المصطلحات والقواعدِ اللغوية التي تؤخذ منها؛ بالاعتماد على كتب شروح الحديث المتأخرة. 8 - ضبط الألفاظ: يضبط الشارح -رحمه الله - ما يُشكل ضبطُه من مفردات الحديث، والأسماء، والأماكن، ضبطَ كلام لا ضبطَ حركات. 9 - التعريف بالأماكن: يقوم بتعريف الأماكن التي تُذكر في متن الحديث، أو في أثناء الشرح أحياناً بتحديدها، واشتقاقها، ونحو ذلك. 10 - روايات الحديث: يعتني الشارح بذكر ألفاظ وروايات الحديث الأخرى التي رُويت في أصل الحديث في "الصحيحين" خصوصاً، وفي كتب السنة المشهورة عموماً، وترجيح بعضها على بعض.

11 - الاستدلالات والاستنباطات

11 - الاستدلالات والاستنباطات: يذكر الشارح في أثناء شرحِه ألفاظَ الحديث بعضَ الاستدلالات والاستنباطات الفقهية والأصولية -على قلتها-، وبعضَ الفوائد التي تؤخذ من الحديث. 12 - الأحكام الفقهية: يأتي الشارح -رحمه الله- على ذكر الأحكام الفقهية المتعلقة بالحديث مقدِّماً في ذلك مذهبَ الحنابلة بذكر مذهبهم في المسألة، وأدلتهم، وروايات الإمام أحمد ومسائله، وترجيحاتِ علمائهم، وينصره بأقوال علمائهم المتأخرين؛ كشيخ الإِسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، وغيرهم. ويرجحه على غيره أحياناً دون تعصب أو تعسف. ثم يُتبع مذهبَهم بمذاهب الأئمة الثلاثة، مع ذكر أدلتهم، وما اعتذروا، أو تأولوا، أو أجابوا به. 13 - التنبيهات: في آخر شرح كل حديث يذكر الشارح -رحمه الله- غالباً جملةً من المسائل والأحكام الفقهية التي لم يُفْصَح عنها في متن الحديث، وإنما هي متعلقة بحديث الباب من حيث الحكمُ الشرعيُّ الذي وُضع له، يذكر فيه مذهبَ الحنابلة -في الغالب-، ومذهب العلماء الآخرين -أحياناً-. كما يذكر الشارح في هذه التنبيهات ما تُعُقِّب به المصنف -رحمه الله - من إيراد الحديث على أنه لفظ "الصحيحين"، فيبين ما اتُّفق عليه منه، وما اختُلف فيه، ومن ذكره في المتَّفق عليه، ومن تعقب المصنف على إخراجه على الصفة التي ساقها في كتابه.

14 - التتمات

14 - التتمات: يسرد فيها الشارح -رحمه الله- غالبًا الأحاديثَ الواردةَ في فضل ما حُضَّ عليه في متن الحديث، وبعض الأحكام الفقهية أحياناً. 15 - الفوائد: يذكر فيها قصة، أو حديثاً، أو تعقيباً لأحد من الأئمة، أو استيضاحاً لحكم من الأحكام التي ذكرت في الشرح، ونحو ذلك. 16 - التعقبات: يتعقب الشارح -رحمه الله- ما يورده أحياناً من كلام الأئمة بكلام آخر لأئمة آخرين، وأحياناً هو الذي يتعقبهم بالاستدراك، أو بالزيادة والتوضيح. 17 - الترجيحات: يرجِّح الشارح -أحياناً- الأحكامَ الفقهية المطروحة بترجيحات اعتمد فيها على كلام أئمة وعلماءَ محققين؛ كشيخ الإِسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن مفلح، وابن حجر، وغيرهم. 18 - تقديم كلام الحنابلة: إن وجد الشارح -رحمه الله- للحنابلة كلاماً في مسألة ما مما يتعلق بالحديث، نقلها عنهم، وعدل بها كلام غيرهم من العلماء والأئمة الذين تكلموا على الحديث. * * *

المبحث الخامس موارد المؤلف في الكتاب

المبحث الخامس موارد المؤلف في الكتاب * كتب التخريج والأحكام: - "الجمع بين الصحيحين" لعبد الحق الإشبيلي، وقد نقل عنه الشارح ما استدرك به على المصنف في ألفاظ "الصحيحين" التي ساقها. - "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي. - "الموضوعات" لابن الجوزي. - "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي، وقد نقل عنهما أحاديثَ الأحكام، والحكمَ عليها. - "الترغيب والترهيب" للمنذري، أخذ عنه أحاديث الفضائل، مع أحكامه عليها. وأحياناً يذكر عنه شرح الألفاظ مع ضبطها. - "المنتقى في الأحكام" للمجد بن تيمية، وينقل عنه أحاديث الأحكام، مع تخريجاته وعزوه، وأحياناً ينقل ما يؤخذ من الحديث من دلالات. - "تحفة العباد في أدلة الأوراد" لابن أبي بكر بن داود الحنبلي. وقد نقل عنه في مواضع أحاديثَ الأذكار والأوراد. - "تمييز الطيب عن الخبيث" لابن الدَّيْبَع.

كتب شروح الحديث

* كتب شروح الحديث: - "شرح مسلم" للنووي، وهو قليل الأخذ منه. - "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق، وقد أكثرَ الشارحُ عنه، وذلك فيما يتعلق بالاستنباطات الفقهية، والأصولية، وضبط الألفاظ والأسماء، والتعليق على متون الأحاديث. - "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب، ولم ينقل عنه الشارح إلا في موضع واحد، وهذا غريب منه -رحمه الله-. - "جامع العلوم والحكم" لابن رجب، وقد أكثر من النقل عنه في مواضع عدة. - "فتح الباري" لابن حجر، وقد عوّل الشارح -رحمه الله-عليه كثيرًا في شرحه هذا؛ من إيراد المسائل الفقهية والحديثية والأصولية، وحتى اللغوية عنه، وما أورده الحافظ من تعقبات على متن المصنف -رحمه الله -، حتى إن الشارح ينقل عنه أحياناً مذهبَ الإمام أحمد، وكلامَ ابن القيم، وغيره. - "إرشاد الساري" للقسطلاني، وقد أكثر عنه الشارح حينما لا ينقل عن الحافظ ابن حجر. ومعلوم أن القسطلاني قد جعل عمدته في كتابه "الإرشاد" كتابَ الحافظ ابن حجر، ولعلَّ هذا من الشارح تنويعٌ له في مصادر شرحه؛ خشيةَ الوقوع في الملل، والنقل عن مصدر واحد بعينه. - "عمدة القاري" للعيني، أخذ عنه في عدة مواضع، وأكثرها فيما تعقب به الحافظ ابن حجر، وأحياناً يعقب الشارح على تعقيب العيني -رحمهم الله جميعاً-.

• الفقه: * المذهب الحنبلي: - "المقنع" لابن قدامة. - "المغني" لابن قدامة. - "الكافي" لابن قدامة. - "شرح المقنع" أو "الشرح الكبير" للشيخ عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر المقدسي، وقد أكثر عنه الشارح في نقل مذاهب الأئمة واختلافاتهم مع الأدلة، كما نقل عنه روايات، الإمام أحمد ومسائله في الفقه .. - "الفروع" لابن مفلح، وقد نقل عنه الشارح مسائل الإمام أحمد ورواياته، وكلامَ شيخ الإِسلام ابن تيمية في كثير من الأحيان، وينقل عنه أحياناً مَنْ وافقَ مذهبَ الإمام أحمد من الأئمة الثلاثة، أو خالفه. - "شرح الزركشي على مختصر الخِرَقي"، وقد أخذ عنه الشارح في مواضع قليلة. - "منتهى الإرادات" لابن النجار الفتوحي. - "الإنصاف" للمرداوي. - "التنقيح المشبع" للمرداوي أيضاً، ولم ينقل الشارح عن المرجعين هذين كثيراً. وإذا نقل عنهما، نقل بواسطة. - "تصحيح الفروع" للمرداوي، وقد نقل عنه أحياناً ما ذكره فقهاء الحنابلة في كتبهم، وما رجحوه، أو جزموا به. - "غاية المنتهى" للشيخ مرعي.

كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-

- "الإقناع" للحجاوي، وقد أكثر عنه الشارح من نقل معتمد المذهب، وعوّل عليه كثيراً (¬1). - "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي، نقل عنه في مواضع عدة في الجزء الثاني من الكتاب. - "شرح الوجيز" لبهاء الدين البغدادي، نقل عنه في مواضع عدة من آخر الكتاب. - "حاشية النجدي على منتهى الإرادات" لعثمان النجدي، ونقل عنه قليلاً. - "هداية الراغب شرح عمدة الطالب" لعثمان النجدي أيضاً، ونقل عنه قليلاً. * كتب شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: - "الفتاوى المصرية الكبرى"، وقد نقل عنها في مواضع عدة ترجيحات شيخ الإِسلام، والمسائلَ الفقهيةَ المختلَفَ فيها بين الأئمة. كانقل الشارح عن "مختصر الفتاوى المصرية" لبدر الدين البعلي المتوفى سنة (778 هـ) أكثرَ من الأصل. - "شرح العمدة في الفقه". - "السياسة الشرعية". ¬

_ (¬1) قال الشارح -رحمه الله- في "إجازته لعبد القادر بن خليل" (ص 269): ومما ينبغي أن يعلم أن مدار مذهب الإمام أحمد -رضي الله عنه- في زماننا هذا، ومنذ أزمان كان جهة الكتب المصنفة على: "الإقناع" للشيخ موسى الحجاوي، و"منتهى الإرادات" للإمام ابن النجار، و"الغاية" للعلامة الشيخ مرعي، وشروح هذه الكتب وحواشيها ومختصراتها.

كتب ابن القيم -رحمه الله-

- "إبطال التحليل". - "الرسالة المالكية". - "مصنفان في صحة طواف الحائض للعذر". ولم أقف لهما على أثر في الكتب المطبوعة. * كتب ابن القيم -رحمه الله-: - "زاد المعاد في هدي خير العباد"، وقد نقل عنه في عدة مواضع. - "بدائع الفوائد". - "جلاء الأفهام". - "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -"، وقد أكثر عنه في أبواب الصلاة. - "مفتاح دار السعادة" - "الفروسية". - "الطرق الحكمية". - "الوابل الصَّيِّب". - "المنار المُنيف". - "حادي الأرواح". - "إغاثة اللهفان". - "إعلام الموقعين". - "تحفة المودود". - "الروح". - "روضة المحبين".

كتب ورسائل ابن رجب

* كتب ورسائل ابن رجب: - "لطائف المعارف". - "الحجة الواضحة في وجوب الفاتحة". - "الذل والانكسار للعزيز الجبار". - "شرح اختصام الملأ الأعلى". - "أحكام الخواتم". - "رسالة في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ". * مذاهب الأئمة: - "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة، وقد اعتمد عليه الشارح في نقل مذاهب الأئمة الأربعة مجردة عن الأدلة. - "شرح المقنع" لابن أبي عمر، وينقل عنه مذاهب الأئمة الأربعة مع الأدلة، وقد تقدم. - "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي، ونقل عنه الشارح في عدة مواضع في أول الكتاب المسائلَ الفقهيةَ مع أدلتها. - "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري، ونقل عنه في مواضع عدة معتمدَ مذهبِ الشافعية. - "حياة الحيوان الكبرى" للدَّميري، ونقل عنه في مواضع بعضَ المسائل الفقهية. - كما نقل الشارح عن "فتح الباري" لابن حجر، و"عمدة القاري" للعيني، و"إرشاد الساري" للقسطلاني مذاهبَ الفقهاء واختلافاتِهم.

أصول الفقه

* أصول الفقه: - "الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل. - "القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام. - "شرح مختصر التحرير" لأحمد البعلي المتوفَّى سنة (1189). * السيرة النبوية: - "سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - " للشمس الشامي المتوفى سنة (600 هـ). - "السيرة الحلبية" للبرهان الحلبي. - "الوفا بأحوال المصطفى" لابن الجوزي. * التراجم والتاريخ: - "المعارف" لابن قتيبة. - "الاستيعاب" لابن عبد البر، وقد نقل الشارح -رحمه الله- في موضع واحد عن مختصره المسمى: - "روضة الأحباب في مختصر الاستيعاب" للأذرعي. - "منتخب المنتخب" لابن الجوزي. - "أُسد الغابة" لابن الأثير. - "جامع الأصول - قسم التراجم" لابن الأثير. - "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي. - "تهذيب الكمال" للمِزِّي. - "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي. - "وَفَيات الأعيان" لابن خَلِّكان.

المبهمات

- "الإنس الجليل في تاريخ القدس والخليل" للعُلَيمي. - "نَظْم رجالِ العمدة" للبرماوي. * وقد نقل الشارح -رحمه الله- في مقدمة كتابه في ترجمة الإمام أحمد عن: - "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي. - "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى. - "مناقب الأئمة الأربعة" للشيخ مرعي. * المبهمات: - "مبهمات العمدة" للبرماوي، وقد كان الشارح -رحمه الله- ينقل أحياناً عن "فتح الباري" لابن حجر في تعيين المبهم. * اللغة وغريب الحديث: "المطالع" لابن قُرْقُول، وقد أكثر عنه. - "تهذيب المطالع" لابن خطيب الدهشة، وقد نقل عنه في موضعين. - "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير، وأكثرَ عنه. - "المُطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح، ونقل عنه كثيراً المصطلحاتِ الفقهيةَ، والشرعية أحياناً. - "القاموس المحيط" للفيروزأبادي، وقد أكثر عنه في شرح مفردات اللغة. * التعريف بالأماكن: - "معجم البلدان" لياقوت الحموي.

الكتب والأجزاء والرسائل المنثورة

* الكتب والأجزاء والرسائل المنثورة: - "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي. وقد أكثر من نقل الآثار والأحكام عنه في أبواب الحج. - "الآداب الشرعية" لابن مفلح، وقد أخذ عنه جملةً من الأحكام والآداب. - "ترك الغضب وكظم الغيظ" للإمام الناصر لدين الله أبي العباس أحدِ خلفاء بني العباس. - "السواك" لأبي شامة. - "تذكرة أولي الألباب في الجامع للعجب العجاب" لداود الأنطاكي. - "تحقيق الرجحان في صيام يوم الشك من رمضان" لمرعي الحنبلي. - "تشويق الأنام في الحج إلى بيت الله الحرام" لمرعي الحنبلي. - "زيارة المشاهد والقبور" لمرعي الحنبلي. - "حسن التسليك في حكم التشبيك" للسيوطي. - "فتح الرحمن في تفسير القرآن" لمُجير الدين العُلَيمي (¬1). * مؤلفات الشارح -رحمه الله- التي ذكرها في شرحه، ونقل عنها أحياناً، وأحال في الرجوع عليها: - "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب". ¬

_ (¬1) نقوم الآن على تحقيقه، وطبعه لأول مرة، مقابلاً على أربع نسخ خطية، وهو في مراحله الأخيرة، ونسأل الله الإعانة والسداد على إخراجه في طبعة علمية مميزة، وهو من تفاسير الحنابلة المجهولة لديهم، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

- "تحبير الوفا في سيرة المصطفى". - "معارج الأنوار في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - المختار"، وهو شرح نونية الصرصري. - "بغية النُّسَّاك في فضل السواك". - "قرع السياط في قَمْع أهلِ اللواط". * كما نقل الشارح -رحمه الله- في مواضع من كتابه عن شيخه عبد القادر التغلبي، والشهاب المنيني الحنفي، وغيرهما.

المبحث السادس منزلة الكتاب العلمية

المبحث السادس منزلة الكتاب العلمية وفيه مطلبان: * المطلب الأول: أهمية الكتاب ومزاياه: 1 - يعد هذا الكتاب هو الأولَ من بين شروح العمدة المطبوعة الذي تناولَ بيانَ فقه إمام السنة أحمد بن حنبل -رحمه الله- بالطرح والتدليل على مسائله، وتوضيح وترجيح مسائل المذهب، والتي جاء كتاب المصنف لتقويتها واعتمادها. 2 - نقلُ المعتمَد في مذهب الإمام أحمد من الكتب المعتمدة في المذهب، بطريقة ميسرة للحفظ والدراسة. 3 - الإكثارُ من نُقول كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية، وابن القيم، وترجيحاتهما، ويعد بهذا الأولَ من بين شروح العمدة المخطوطة والمطبوعة. 4 - الاعتمادُ على محققي العلماء؛ كالحافظ ابن حجر، وغيره في تحرير مذاهب الأئمة، وما تنازع فيه الناس من مشكلات الحديث ومبهماته. 5 - امتيازُ الشارح -رحمه الله- بحسن الجمع، والتلفيقِ بين كلام العلماء، حتى إنه يأتي أحياناً بكلامِ أكثرَ من خمسة علماءَ في سياق واحد،

المطلب الثاني: المآخذ على الكتاب

فيظهر وكأنه جملة واحدة، وهذا من محاسن الشرح القليلةِ الوجودِ في غيره. 6 - التعقبُ والاستدراك على العلماء بعبارة حسنة، وعلم متين. 7 - وقوف الشارح -رحمه الله- على نسخ كثيرة لكتاب المصنف "العمدة"، مما يزيد في قوة الشرح وتقديمه. * المطلب الثاني: المآخذ على الكتاب: 1 - اختصارُ الشارح -رحمه لله- الكلامَ على بعض الأحاديث، وإغفالُ بعض المهمات المتعلقة به (¬1). 2 - اختصارُ الشارح لكلام العلماء أحياناً يوقعه في أوهام عدة (¬2). 3 - إكثارُ الشارح من نُقول الأئمة ومذاهب الفقهاء من غير مَظانِّها (¬3). 4 - إغفالُ الشارح الكلامَ على المباحث الأصولية المتعلقة بالأحاديث إلا في القليل النادر (¬4). 5 - إطالةُ الشارح -رحمه الله- للتراجم، وتكرارُ بعضها في مواطن أخرى (¬5). 6 - الإكثارُ من النُّقول من كتبٍ بعينها؛ كـ"فتح الباري" لابن حجر (¬6)، ¬

_ (¬1) انظر مثلاً: (2/ 205)، (3/ 345)، (4/ 401، 538، 619)، (5/ 283). (¬2) انظر: (2/ 108، 301، 403، 584)، (3/ 106، 521، 617). (¬3) انظر: (1/ 154)، (2/ 238، 317، 320، 392)، (3/ 21، 72، 521). (¬4) وقد كان من مصادره الأساسية في كتابه هذا "شرح عمدة الأحكام" للإمام ابن دقيق، والذي يتطرق فيه إلى مسائل أصولية كثيرة مهمة. (¬5) انظر: (2/ 259، 372)، (3/ 502، 571)، (5/ 5). (¬6) حيث نقل عن "فتح الباري" للحافظ ابن حجر مسائل الفقه والأصول، وحتى =

و"إرشاد الساري" للقسطلاني (¬1) و"الشرح الكبير" لابن أبي عمر (¬2) , و"الإقناع" للحجاوي (¬3). * * * ¬

_ = روايات الحديث وألفاظه، وكذا مسائل اللغة والغريب، وأكثر من ذلك في ثلثي الجزء الأول، وكذا النصف الأخير من الجزء الثاني. (¬1) وقد أكثر من النقل عنه في الثلث الأخير من الجزء الأول، وكذا في الجزء الثاني، وقد كان الأولى النقل عن الحافظ ابن حجر؛ باعتبار أن الإمام القسطلاني نقل غالب شرحه عن "الفتح". (¬2) وقد أكثر عنه نقل مذاهب الأئمة في معظم أقسام الشرح. (¬3) وقد اعتمد عليه الإمام السفاريني في نقل معتمد مذهب الحنابلة، وقلَّ أن تمر مسألة فقهية دون أن ينقل عنه، حتى إن المرء ليحسب أنه كان يحفظه عن ظهر قلب؛ لطريقته في النقل عنه، وأخذه لمسائله المتناثرة فيه.

المبحث السابع وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق

المبحث السابع وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق تم الاعتماد في تحقيق هذا السِّفْر الجليل على نسخة المكتبة الظاهرية بدمشق، والمؤلفة من جزأين، وعلى نسخة (برنستون)، والتي تحتوي على الجزء الثاني من الكتاب، والمنقولةِ عن النسخة الظاهرية .. وفيما يلي وصف كلِّ منهما: * النسخة الأولى: وهي من محفوظات المكتبة الظاهرية بدمشق، والمنقولة إلى مكتبة الأسد الوطنية تحت رقم (8180)، وتتألف من جزأين. * أما الجزء الأول منهما: فيقع في (305) ورقة، وفي كل ورقة خمسة وعشرون سطراً، وفي كل سطر اثنتا عشرة كلمة تقريباً. وقد كتبت العناوينُ الرئيسة من الكتب والأبواب والتنبيهات وألفاظ الحديث المشروح باللون الأحمر. وقد جاء على طرة الكتاب: اسمُ الكتاب ومصنفه، وفهرستُ الكتب والأبواب الموجودة في هذا الجزء، وعليه خَتْم الظاهرية، وعليه كتب: وقف نقيب السادة الأشراف محمد سعيد آل حمزة للمكتبة الظاهرية. وهذه النسخة قد كتبت في حياة مؤلفها، نسخها حسن بن السيد

الجزء الثاني

هاشم بن السيد عثمان بن سليمان بن حسن الحنبلي الجعفري الحسني، في الثامن والعشرين من شهر رمضان، سنة سبع وستين ومئة وألف للهجرة النبوية، كما أثبت في آخر الجزء الأول. وقد سقط من الجزء الأول شرحُ الحديث الأول والثاني، كما أن فيه خمسة خروم اُخر بمقدار لوحة واحدة في كل منهما، وقد تمَّ استدراك بعض تلك الخروم من المصادر التي كان ينقل عنها الشارح. وقد أثرت الرطوبةُ في بعض ورقات المخطوط. * وأما الجزء الثاني من الكتاب: فيبدأ من الورقة (306)، وينتهي بالورقة (564)، وقد ابتدأ فيه بكتاب: البيوع، وجاء في آخره: "قال شارحه العابدُ الشيخُ محمدٌ السفاريني: هذا ما قصدتُ جمعَه على "عمدة الأحكام"، وكان الفراغ من جمعه في نابُلُسَ المحميةِ لليلتين بقيتا من شعبان سنة سبع وستين ومئة وألف. وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة سنة تسع وستين ومئة وألف، وهي بخط السيد حسن بن هاشم بن عثمان بن سليمان بن حسن الحنبلي الجعفري النابلسي أيضاً. وفي آخر هذه النسخة إجازة بخط الإمام السفاريني -رحمه الله- لمحمد زيتون، وهو ابن ناسخ هذا المخطوط حسن بن هاشم الحنبلي الجعفري النابلسي. وفي هذا الجزء خرمان بمقدار ورقة واحدة في كل منهما، وقد استدركا من نسخة (برنستون)، وبالله التوفيق. وهذه النسخة تم الرمز لها بحرف "ظ".

النسخة الثانية

* النسخة الثانية: وهي النسخة المحفوظة في (برنستون)، وعدد أوراقها (358) ورقة، وفي كل ورقة (25) سطراً، وفي كل سطر (12) كلمة تقريباً. وتحتوي على الجزء الثاني من الكتاب، وتبدأ من كتاب: البيوع، وتنتهي بكتاب: العتق، الحديث الأخير منه. وتمتاز هذه النسخة بحسن الخط والوضوح، وهي منقولة عن نسخة الظاهرية المتقدم ذكرها، وفيها سقط في مواضع عدة، وتصحيفٌ وتحريف كبيران. وقد قام بنسخها محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن محمد النجدي الحنبلي سنة أربعين ومئتين وألف، كما أثبت ذلك في آخر الكتاب. وقد كان لوجود هذه النسخة الأثرُ الكبير في حلِّ جملة من الإشكالات القائمة في نسخة الظاهرية في جزئها الثاني، وكذا في استدراك الخُروم، كما لا يخفى ما فيها من التصحيف والتحريف الذي أشير إليه. وهذه النسخة تم الرمز لها بحرف "ب". وبالجملة: قد كملت النسختان بعضهما، فخرج النص -بتوفيق الله- صحيحاً مستقيماً، وبالله التوفيق.

المبحث الثامن بيان منهج التحقيق

المبحث الثامن بيان منهج التحقيق 1 - نسخ الأصل المخطوط بالاعتماد على نسخة الظاهرية، وذلك بحسب رسم وقواعد الإملاء الحديثة. 2 - معارضة المنسوخ بالمخطوط مراتٍ عدةً؛ للتأكد من صحة النص واستقامته. 3 - معارضة المنسوخ والمخطوط معاً بالمصادر التي نقل عنها الشارح حسب الجهد والطاقة، والإشارة إلى الأخطاء التي وقعت في المخطوط من خلال هذه المعارضة؛ وذلك بإثبات الصواب في النص، وجعلِه بين معكوفين، والإشارة إلى الخطأ في حواشي هذا الشرح. 4 - الزيادة في مواضع عدة ما كان النص لا يقوم إلا به، وجعل هذه الزيادة بين معكوفين. 5 - إثبات الفروق الهامة في الجزء الثاني من الكتاب بين نسختي الظاهرية و (برنستون). 6 - ضبط أحاديث المتن بالشكل الكامل، وضبط نص الكتاب ما أشكل من ضبطه؛ تيسيراً لمطالعته من كل قارئ وطالب.

7 - إدخال علامات الترقيم المعتادة على النص، ووضع الكتب والمصنفات بين قوسي تنصيص لتمييزها. 8 - إثبات أحاديث المتن في رأس صفحة جديدة، بالاستعانة بطبعات متن "العمدة"؛ لكون الشارح لم يثبتْها بنصِّها في شرحه، وإنما قسمها إلى فقرات ومفردات، والموازنةُ بين ما طبع من متن "العمدة"، وما أثبته الشارحُ في شرحه، وتقديمُ ما ذكره من ألفاظ العمدة، فخرج بذلك نص العمدة مقابَلاً على الأصول الكثيرة التي نقل عنها الشارح. 9 - عزوُ الآيات القرآنية الكريمة إلى مواضعها من الكتاب العزيز، وإدراجها برسم المصحف الشريف، وجعلُ العزوِ بين معكوفين في صلب الكتاب بذكر اسم السورة ورقم الآية. 10 - تخريج الأحاديث النبوية، وهو قسمان: أ - أحاديث المتن: 1 - تخريج الحديث من الكتب الستة، واستقصاءُ طرقِ الحديث وألفاظه عندهم؛ بذكر رقم الحديث، والكتابِ، والباب اللذين ورد فيهما. 2 - ذكر صاحب اللفظ الذي ساقه المصنف. 3 - الاستدراك على كلام المصنف في عزوه الحديث إلى "الصحيحين" إن كان ثَمَّتَ استدراك، بكلام الأئمة والحفاظ الذين تكلموا على أحاديث "العمدة". ب - أحاديث الشرح: 1 - الالتزام بتخريج ما يعزوه الشارح في النص، والإضافة عليه إن كان هناك مقتضٍ لذلك.

2 - إن كان الحديث في "الصحيحين"، أو في أحدهما، تم العزو إليهما دون غيرهما، وذلك بذكر رقم الحديث، والكتاب والباب، والتنبيه إلى صاحب اللفظ، وذكرِ اسم الصحابي الذي روى الحديث إن لم يذكره الشارح. 3 - إن كان الحديث في "السنن الأربعة"، أو أحدها، فيتم العزو إليها بذكر رقم الحديث، والكتاب والباب، وصاحبِ اللفظ، وذكر اسم الصحابي إن لم يذكر في الأصل، وقد يضاف إليها -أحياناً- تخريجاتُ كتبِ السنة المشهورة؛ كـ"مسند الإمام أحمد"، و"صحيح ابنِ حبّان"، و"معاجم الطبراني"، وغيرها مما يقتضيه الحال. 4 - إن لم يكن الحديث في الكتب الستة، تم تخريجه بذكر المصدر، ورقم الحديث، أو الجزء والصفحة، مع ذكر اسم الراوي إن لم يذكر في الأصل. 11 - ذكر مصادر شرح الحديث، والتي أخذ الشارح من بعضها في أثناء شرحه، وذلك لتقريب وتذليل عمل الباحثين والمطالعين للعمدة، بالرجوع إلى شروح هذه الأحاديث للتوسع والاطلاع والإفادة، ولعلَّ هذا كان سابقةً في تحقيق الأعمال العلمية الحديثية، وبالله التوفيق. 12 - تخريج الآثار الواردة عن السلف الصالح؛ بذكر اسمِ المصدر، ورقم الأثر، أو الجزء والصفحة. 13 - توثيق تراجم الصحابة بذكر المصادر والمراجع التي اعتنت ببيان أحوالهم وأخبارهم، ونحوِ ذلك، بالاعتماد على الأمهات والمصادر الرئيسة في هذا الباب. 14 - توثيق ما يذكره الشارح من مفردات اللغة وغريب الحديث من

الكتب التي صرح باسمها، أو التي لم يصرِّحْ بها، ونقلَها عنها. 15 - عزو كل قول إلى قائله، سواء صرَّح الشارح بذكر القائل، أو الكتاب الذي أخذ منه، أو لم يصرح. 16 - تخريج الأبيات الشعرية بالإحالة على الديوان إن كان للشاعر ديوان مطبوع، وإلا فبالإحالة إلى كتب العربية وأمهات المصادر التي اعتنت بذلك، دون الاستقصاء. 17 - وضع الأوزان الشعرية للأبيات المذكورة في الشرح بين معكوفين في صلب النص. 18 - التعريف ببعض الكلمات الغريبة وأسماء الأماكن التي ذكرها الشارح من مصادرها. 19 - التعريف بالكتب غير المطبوعة بذكر اسم المؤلف، ووفاته، ومادة كتابه إن وجدت. 20 - ترجمة بعض الأعلام من الفقهاء والمحدثين والمصنفين غير المشهورين. 21 - تزيين هذا التحقيق ببعض الفوائد والإيضاحات والاستدراكات التي منَّ الله بها أثناء تحقيق هذا السفر الجليل. 22 - كتابة مقدمة للكتاب، مشتملة على ترجمة وافية للمؤلف، ودراسة للكتاب. 23 - تذييل الكتاب بفهارس علمية متعددة. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ومنه تُرجى السَّانحات.

صور المخطوطات

صورة لوحة الغلاف من الجزء الأول من نسخة "ظ"

صورة اللوحة الأولى من الجزء الأول من نسخة "ظ"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة "ظ"

صورة لوحة الغلاف من الجزء الثاني من نسخة "ظ"

صورة اللوحة الأولى من الجزء الثاني من نسخة "ظ"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الثاني من نسخة "ظ"

صورة لوحة الغلاف من الجزء الثاني من نسخة "ب"

صورة اللوحة الأولى من الجزء الثاني من نسخة "ب"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الثاني من نسخة "ب"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المصنف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي شرح صدورَ أهل الحديث لمعرفة أدلة الأحكام، ونَضَّرَ وجوهَهم في القديم والحديث، فصاروا في الملة كمصابيح الظلام، وأراد بهم خيراً إذ فقههم في الدين، وألهمهم رشدَهم وشحذَ منهم الأفهام، وسلك بهم المحجة البيضاء، وبَتَّكَ بهم أهل البدع، فماتوا غماً وغيظاً، وأرغم منهم المعاطسَ وعالت بهم الآلام. فكم من بدعة لهم زَيَّفوها، وضلاله لهم هَيَّفوها، وزلة كشفوها, ولم يبلغوا في الدين المرام، وكم من سُنةٍ أظهروها، وحكمة حَرَّروها، ومُحْدَثَة بَوَّروها، وشِرْعة طهَّروها، وجلَوا عنها بالبراهين الواضحةِ القَتام، وكم رموا بسهام شُهبهم الثاقبةِ مَرَدَةَ شياطينهم الراقبة فانخنسوا بشبههم اللاغبة في مهاوي هواهم ومخازي الظلام، فهم أئمة الهدى، ومصابيح الدجا، وحصنٌ لمن التَجا، وقدوة الأنام، قد بذلوا نفوسهم النفيسة، لغسل وجه السُّنة من كل بِدعة ودَسيسة، وفتشوا عن كل علة وتدليسة، وزلة محدَثة وخَصلة خسيسة، حتى ضحكت بهم السنة، وأسفرت بالابتسام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ضِدَّ ولا ندَّ ولا وزيرَ ولا مشير، تعالى الله وتقدس عما يقول الطعام، شهادةً أَدخرها لديه ليوم تُعض فيه البَنان، وتعبس فيه الوجوه، وتزل فيه الأقدام، وأشهد أن محمداً

عبده ورسوله وحبيبه وخليله، صفوة العالم وخلاصةُ بني آدم، وأفضلُ من حج وجاهد وزكى وصلى وصام، بعثه الله على حينِ فترةٍ من الرسل ووحشةٍ من الدين، وقد طبق الكفرُ الأنام. فاليهود قد لهجوا بالمكر والتخليق، ونسبة الباري لما لا يليق، حتى يناجون الله الحي القيوم في صلواتهم بقولهم: تنبه يا نوم (¬1)، ومن مثل هذه الخرافات التي تنبو عن سماع مثلها الأفهام، وأعلنوا بنسبة الأنبياء والمرسلين والعظماء والصديقين إلى ما نزه الله مناصبهم العَلِيَّة، وعصمهم من كل زلة وأَذِيَّة، ومعضلة وبَلِيَّة، وطهرهم على الدوام. والنصارى مع كفرهم الخبيث، دانوا بالشرك والتثليث، وكلا الطائفتين بدلوا وحرفوا، وضلوا وأضلوا، وانحرفوا عن الصراط المستقيم إلى طرق الضلال والظلام. وبقية الناس كانوا حينئذ من بين عابد كوكب، ومن بين عابدِ جنيٍّ ونارٍ تَلَهَّب، فكل حزب قد اتخذ إلهَه هواه من الأوثان والأصنام. فجاء هذا النبي الكريم، بالكتاب والحكمة والدين القويم، وهدى الخلق إلى الصراط المستقيم، وبين لكل فريق أن ما هم عليه أضغاثُ أحلام، لا بل ظلماتٌ بعضُها فوق بعض، إذا أخرجَ المرءُ يدَه لم يكدْ يراها لشدة الظلْمة وظلمة الأوهام، فجاهد في الله حق جهاده، ومهد قواعدَ الدين على وَفْق مُراده، ودخل الناس في دين الله أفواجاً بعد السبْي والسلْب والقتل والضرب والإقدام والإحجام، فانقشع ظلام الكفر وذلت أكباشُه، وانصدعَ ركنُ التثليث وولت أوباشُه، وتلألأ نورُ هدي في قلوب ذوي الاهتداء، واستعلن الحق من "فاران" وطبق الأغوارَ والأنجاد، والسهولَ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل صوابه: نؤوم.

والآكام، فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، وأنصاره وأضرابه وأصهاره وأحبابه، ما شفى ترياقُ الهدى مريض الهوى، وانمحقَ بمصابيح الاهتداء غياهب الظلام. أما بعد: فهذا شرح لطيف على "عمدة الأحكام"، تصنيف الإمام الحافظ المتقن العلامة الهمام محيي السنة أبي عبد الله عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المقدام، سألنيه بعض أصحابي بعد قراءته لها عليَّ مع جماعة من ذوي الأفهام، فتعللْتُ بأنها قد شرحها جماعةٌ من الأئمة الأعلام؛ كالإمام تقي الدين بن دقيق العيد، والعلامة ابن الملقن، وغيرِهما من كل حافظ قَمْقام، فما عُبوري بين تلك البحور بهذه البلالة التي لا تطفىء صَدى الأُوام، وما ظهوري بين تلك الشموس بهذه الدُّبالة التي لا ظهورَ لها إلا في حَنادِس الفحام، وهل أنا إلا مثلُ جالب جزيرة من البقل في سوق الجواهر والعطر، وكالأبكم العجمي يبدي فصاحة لدى العرب العرباء من ضِئْضِئ النَّضْر. ثم إني أعلم أن معالم العلم قد انطمست، ومآثر الفهم قد اندرست، وشموس الفضل قد غَرَبَتْ، وكواكب النقل قد أَفَلَتْ، ولم يبق من العلوم إلا اسمُها، ولا من الفهوم إلا رسمُها، وربع العلم المأهولُ أصبح خالياً، وغصنُه اليانع أمسى ذاوياً، وواديه صَوَّحَ قَشيبهُ، وذوى رطيبُه، ويبس يانعُه، ودرس جامعُه، وقد مشت يدُ الضياع على العلم وحَمَلَتِه، وعلى الفضلِ وَنَقَلَتِه، فلا زمان مسعد، ولا سلطان مساعد، ولا ماجدٌ مُنجد، ولا كريمٌ من الإخوان مُعاضِد. وليت شعري هل شرحي لهذا الكتاب في هذا العصر، إلا مثلُ من فتح حانوته ليبيع سِلَعه بعد العصر؟!

فقال السائل: أما كونُ الكتاب قد شرحه الجَمُّ الغفير من ذوي الألباب، فهذا بمنزلة الجواهر عند الملوك، فما نفع الفقير بذلك والمعدم الصعلوك، كيف ونحن بَبْلَدَحَةٍ قفراء، ومهمَهَةٍ غبراء، قد تقلصت ضروعها، وغار يَنْبوعها، وجفت علماؤها مذ جفت أناملُ كرمائها، ثم إنا ننتحل عليك بيانَ وجه الدلالة من الحديث، على الحكم الذي ذكره الحافظ من غير ترييث، وبيان اختلاف الأئمة في الأحكام، وذكر تراجم ما وقع في الكتاب من الأعلام، وما قصدنا بهذا الانتحال والاختراع، إلا العلمَ بأحوال الرجال والانتفاع. فقلت لهم في الجواب: أجل من لم يجد ماءً يتيمم بالتراب، هذا مع اعترافي بقلة البضاعة، وعدم حذقي في هذه الصناعة، وقلة المواد، وعزة الخِل المُواد، ولكني أستمد العونَ، وتسهيلَ السبيل من الله ممد الكون، فهو حسبي ونعم الوكيل، وسميته بـ: "كَشْفُ اللثَام شرح عمْدة الأحكام " ولأقدمْ أمام المقصود مقدمةً تشتمل على فصلين:

الفصل الأول في ترجمة الإمام أحمد

الفَصْلُ الأَوَّلُ في ترجمة الإمام أحمد لكون "العمدة" مسوقةً لأدلة مذهبه، ولذكره له فيها، فأقول: هو الإمام المبجَّل أبو عبد الله أحمدُ بنُ محمدِ بنِ حنبلِ بنِ هلالِ بنِ أسدِ بنِ إدريسَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ حَيَّانَ -بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية وبعد الألف نون- بنِ عبدِ الله بنِ أنسِ بنِ عوفِ بنِ قاسط بنِ مازنِ بنِ شيبانَ بنِ ثعلبةَ بنِ عُكابةَ بنِ صعبِ بنِ عليِّ بنِ بكرِ بنِ وائلِ بنِ قاسطِ بنِ هِنْب -بكسر الهاء وإسكان النون وبعدها موحدة- بنِ أَفْصى -بالفاء والصاد المهملة- بنِ دعمي بنِ جديلةَ بنِ أسدِ بنِ ربيعةَ بنِ نزارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عدنانَ، الشيبانيُّ المروزيُّ البغداديُّ. هكذا ذكره ابن خَلِّكان في تاريخه "وَفَيَات الأعيان"، وقال: هذا هو الصحيح في نسبه، وقيل: إنه من بني مازنِ بنِ ذُهْلِ بنِ شيبانَ بنِ ثعلبةَ بنِ عُكابةَ. قال ابن خَلكان: وهو غلط (¬1). وهذا الذي قال عنه ابنُ خلكان: إنه غلطٌ؛ هو الذي اعتمده الخطيب ¬

_ (¬1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 63 - 64).

الحافظ البغدادي (¬1)، والحافظ البيهقي، وابنُ عساكر (¬2)، وابنُ طاهر (¬3)، وقدمه في "المُطْلِعِ" (¬4) وغيره، والذي اعتمده ابنُ خلكان قاله عباسٌ الدوري (¬5)، وابنُ ماكولا (¬6)، ومشى عليه الإمامُ الموفق في "المغني" (¬7). وهما شيبانان، أحدُهما: شيبانُ بنُ ثعلبةَ بنِ عُكابةَ بنِ صعبِ بنِ عليِّ بنِ بكرِ بنِ وائلٍ، والآخرُ: شيبانُ بنُ ذُهْلِ بنِ ثعلبةَ بنِ عُكابةَ، وذهلُ بنُ ثعلبةَ المذكورُ هو عم ذهلِ بنِ شيبان. وفي هذا النسب منقَبَةٌ عظيمة، ورتبةٌ جليلة جسيمة من جهتين: إحداهما: اجتماعُ نسبه بنسب سيدِ العالَم صلى الله عليه وسلم في نزار؛ فإن نزاراً كان له أربعة بنين، منهم مُضَرُ، ونبينا صلى الله عليه وسلم من ولده، ومنهم ربيعة، وإمامُنا - رضي الله عنه - من ولده. قال ابنُ قتيبةَ في "المعارف": أما أنمارُ بنُ نزار، فولد خثعمَ، وبجيلةَ، وصاروا باليمن، وأما مضرُ، وربيعةُ، فإليهما ينسَبُ ولدُ نزار، وهما الصريح من ولد إسماعيل، انتهى (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب البُغدادي (4/ 414). (¬2) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (5/ 252). (¬3) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 178)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 422). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 421، 422). (¬5) كما رواه عنه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (4/ 413). (¬6) انظر: "الإكمال" للأمير أبي نصر بن ماكولا (2/ 563). (¬7) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 19). (¬8) انظر: "المعارف" لابن قتيبة (ص: 64).

والثانية: أن الإمام أحمدَ من صميم العرب، ومن صريح ولد إسماعيل - عليه السلام -، وبالله التوفيق (¬1). * وكان أبو إمامنا محمدُ بنُ حنبلٍ واليَ "سَرَخْسَ"، وكان من أبناء الدعوة العباسية، تُوفي وله ثمانون سنة، وكانت وفاته سنة تسع وسبعين ومئة، فكان للإمام أحمد يومئذٍ خمس عشرة سنة؛ فإن أمه حملت به بـ "مرو"، وقدمت "بغداد" وهي حامل به، ولما قدم أبواه "نهروان" في مجيئهما من "مرو"، صادفهما أعرابي على جسر نهروان على ناقةٍ له، فلما رأى أمه وهي حاملٌ به، قال لها: أيتها المرأة! احفظي ما في بطنك، فسيكون له شأن، فلما قدمت بغداد، وضعته، فنشأ بها، وَوِلَيْته أمه، وهي -كما قال ابن بَطَّةَ- شيبانية (¬2)، واسمها صفيةُ بنتُ ميمونِ بنِ عبدِ الله الشيبانيِّ من بني عامر، نزل أبوه بهم، فتزوجها، وجدُّها عبدُ الملك بن سوادةَ بنِ هندٍ الشيبانيُّ من وجوه بني شيبان، تنزل به قبائل العرب للضيافة، فحاز سيدُنا الإمامُ أحمدُ - رضي الله عنه - شرفَ النسَبين، وكمل له بأصليه الشرِيفَينِ تمام الشرَفَين. * ولد الإمام أحمد - رضي الله عنه - سنة أربع وستين ومئة في يوم الجمعة في شهر ربيع الأول، وتوفي - رضي الله عنه - يوم الجمعة سنة إحدى وأربعين ومئتين، وله سبع وسبعون سنة، ودُفن ببغداد، وقبره الآن قد وارته الدجلة - رضي الله عنه. * وكان رجلاً ربعةً من الرجال، حسنَ الوجه، حسنَ الهيئة، يَخْضِب بالحِناء خضاباً ليس بالقاني، في لحيته شعراتٌ سود، وثيابه بِيضٌ، يلبَسُ ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى الحنبلي (1/ 5). (¬2) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 19).

العِمامة والإزار، والغليظَ الأبيض من الثياب، ولبس في الشتاء قميصين وجبةً ملونةً، وربما لبس قميصاً وفرواً، وربما لبس الفرو فوق الجبة في البرد الشديد، ويلبس العمامة فوق القَلَنْسوة، وربما لبس القلنسوةَ بغير عِمامة، ولبس السراويل والرداء، ولم يُرَ لابساً طيلساناً قط، ولم يُرْخ كُمًّا في مشيه، وكانت سراويله فوق كعبه، وخضب لحيته ورأسه بالحناء وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكان لا يخوض في شيء من أمور الناس، ذا وقار وسكينة، مِنْ أحيا الناس وأكرمِهم نفساً، وأحسنهم عشرة وأدباً، كثيرَ الإطراقِ وغضِّ البصر، معرِضاً عن اللغو، لا يُسْمَع منه إلا المذاكرةُ بالحديث، وذكر الصالحين. قال الإمام أبو داود: كانت مجالس الإمام أحمدَ مجالسَ آخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، قال: وما سمعته ذكر الدنيا قَط (¬1). وقال ثعلبٌ في صفته: رأيت رجلاً كأن النار توقد بين عينيه (¬2). وقال عبد الملك الميموني: ما أعلم أني رأيت أحداً أنضرَ ثوباً ولا أشدَّ تعاهداً لنفسه في ثيابه وشعر رأسه وبدنه من الإمام أحمد بن حنبل (¬3). وكان يحب الفقراء، ويعرض عن أهل الدنيا، وكان حسنَ الخلق، دائم البِشْر، لينَ الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظ، يحب في الله، ويُبغض في الله، ويحب لمن أحبهُ ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها، لا تأخذه في الله لومة لائم، حسن الجوار، يؤذَى فيتحمل، وكان أصبرَ الناس على الوَحْدة، ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 291). (¬2) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 205). (¬3) انظر: "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 340)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 208).

فكان لا يُرى إلا في مسجدٍ، أو جنازة، أو عيادة مريضٍ، وكان يكره المشي في الأسواق، وكان يقول: أشتهي ما لا يكون؛ أشتهي مكاناً ليس فيه أحد (¬1). وقال: ما أبالي ألا يراني أحد ولا أراه، وإن كنت لأشتهي رؤيةَ عبد الوهاب (¬2). وقال: الخلوةُ أَرْوَحُ لقلبي (¬3). وقال: أريد [أن] أنزل بمكة، فألقي نفسي في شِعْب من الشعاب حتى لا أُعرف (¬4). وكان يقال: لم يكن أشبهَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه هدياً وسمتاً من عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وكان أشبهَ النَّاس بهدي عبدِ الله وسمته علقمةُ بن قيس، وكان أشبهَ الناس بعلقمةَ إبراهيمُ النخعي، وكان أشبهَ الناس بإبراهيمَ منصورُ بنُ المعتمر، وكان أشبه الناس بمنصورٍ سفيانُ الثوري، وكان أشبهَ الناس بسفيانَ وكيعُ بنُ الجراح. قال محمدُ بنُ يونسَ: وكان أشبهَ الناس بوكيعٍ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ - رضوان الله عليهم أجمعين - (¬5). * واعلم أنه لا شُبهةَ عند أئمة الدين بأن الإمام أحمد إمامُ السنة، وأنه أجمعُ الأئمة بل الأمة حديثاً، وقد روت عنه أئمة الأمصار، قديماً وحديثاً. ¬

_ (¬1) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 226). (¬2) رواه ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد" (ص: 280). (¬3) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 226). (¬4) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 281). (¬5) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 317).

ابتدأ في طلب الحديث سنة تسع وسبعين، فكان يتأسف على عدم اجتماعه بأئمةٍ من المسلمين، منهم الإمامُ مالكُ بنُ أنسٍ إمامُ فى دار الهجرة، وحَمَّادٌ، وابنُ المبارك، وغيرُهم، وكان يقول: فاتني مالكٌ، فأخلف الله عليَّ سفيانَ بنَ عُيينة، وفاتني حَمَّادٌ، فأخلفَ الله عليَّ إسماعيلَ بن عُلَيَّة (¬1). * وقد روى عن سفيانَ بنِ عيينةَ، والإمامِ الشافعي، ويزيدَ بنِ هارونَ، ويحيى بنِ سعيدٍ القطان، وإبراهيمَ بنِ سعدٍ، وهُشَيْمٍ، ووَكيعٍ، وإسماعيلَ بنِ عُلَيَّةَ، وعبدِ الرحمن بنِ مَهْدِي، وعبدِ الرزاقِ، وجريرِ بنِ عبدِ الحميدِ، ومُعْتَمِرِ بنِ سليمان، والقاضي أبي يوسفَ، وأبي الوليد الطيالسي، وأبي نُعَيْمٍ الفضلِ، وأبي عاصمٍ النبيل، وأبي بكرِ بنِ عَيَّاش، وخلائقَ لا يُحصون، ذكرهم الحافظ ابنُ الجوزيِّ وغيرُه على حروف المعجم (¬2)، وقد سمع منهم الحديث في أقطار الأرض التي سار إليها ودخلها، منها مكةُ والمدينةُ واليمنُ والكوفةُ وبصرةُ والحجازُ والشامُ والثغورُ والسواحلُ والمغربُ والجزائرُ والعراقين (¬3) جميعاً، وأرضُ فارسَ، وخراسانُ، والجبالُ والأطرافُ ومصرُ وغيرُها. * وقد روى عنه من الأئمة ما لا يمكن حصرُه في مثل هذا الكتاب، حتى رؤى عنه من كبار أشياخه، فروى عنه: الإمامُ الشافعي، وعبدُ الرزاق الصنعانيُّ، وعبدُ الرحمن بن مَهْدي، ويزيدُ بن هارون، ويحيى بن آدم، ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/ 99)، و"المنتظم" لابن الجوزي (9/ 226)، و"التقييد" لابن نقطة (ص: 163). (¬2) انظر "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 83). (¬3) كذا في الأصل، والصواب: والعراقان.

وأبو الوليد، ومعروفٌ الكَرْخِي، وعلي بنُ المديني، وأبو زُرعةَ، والبخاري، ومسلم، وأبو داودَ، وإبراهيمُ الحربي، وأبو زُرْعَةَ الرازي، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو بكر الأثرم، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وأبو القاسم البَغَوي، وأبو حاتم الرازي، وأحمد بن أبي الحواري، وموسى بنُ هارون، وحنبلُ بنُ إسحاق، وعثمانُ بنُ سعيدٍ الدارمي، وخلائقُ كثيرون، ذكرهم الحافظ أبو الفَرَج بنُ الجوزي على حروف المعجم (¬1) .. وكان الإمام أحمد - رضي الله عنه - محباً للعلم، مكثراً من الحديث، وكان يقول: ما تزوجت إلا بعدَ الأربعين (¬2). وكان - رضي الله عنه - مكثراً من الشيوخ، حتى وقع له أنه أخذ عن ثلاثة من الشيوخ ثلاثَ مئةِ ألف حديث، وهذا القدرُ كافٍ في عُلُو مرتبته، وهم: بهزُ بنُ أسدٍ، وعفانُ، وأظنه قال: وَرَوْحُ بنُ عُبادة. ومن عظيم ما اتصل بنا من حفظه: قولُ أبي زرعة الرازي: إن كتبه كانت اثني عشر حِمْلاً، وكان يحفظها كلَّها عن ظهر قلبه (¬3). وقال عبد اللهِ بنُ الإمام أحمدَ: سمعت أبا زُرعةَ يقول: كان أبوكَ يحفظ ألفَ ألفِ حديث (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 90). (¬2) رواه ابن أبي يعلى الحنبلي في "طبقات الحنابلة" (1/ 63). (¬3) رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 176 - 177). (¬4) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 419)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 296)، وابن الجوزي في "المنتظم" (11/ 287).

وقيل لأبي زرعةَ: من أحفظُ مشايخ المحدثين؟ قال: أحمد (¬1). وقال عبدُ الوهاب الوراق: ما رأيت مثلَ أحمدَ بنِ حنبلٍ، قالوا له: وأي شيء بانَ لك من فضلهِ وعلمه على سائر مَنْ رأيتَ؟ قال: رجل سُئل عن ستين ألفَ مسألةٍ، فأجابَ فيها بأن قال فيها: حدثنا، وأخبرنا (¬2). قلت: قد انفرد الإمام أحمد - رضي الله عنه - بثلاثِ مناقبَ لا أعلم من الأمة أحداً اشترك في واحدة منها: الأولى: أنه أحاط بالسُّنة، ولا نعلم أحداً من الأئمة وصف غيره بها، وقد وصفه بها أئمةٌ من حفاظ المسلمين؛ كالحافظ ابن حجر العسقلاني، وغيره، وهذه رتبةٌ رفيعة، ودرجة منيعة، ودائرة وسيعة، وبالله التوفيق. الثانية: ذكر الحافظ جلالُ الدين السيوطي في "ثمار منتهى العقول في منتهى النقول" (¬3) ما نصه: انتهى الحفظُ لابن جريرٍ الطبري فريد [عصره] في علم التفسير، فكان يحفظ كتباً حمل ثمانين بعيراً، وحفظ ابن الأنباري في كل جمعة ألف كراس، وحفظ ثلاث مئة ألف بيت من الشعر استشهاداً للنحو، وكان الإمام الشافعي يحفظ من مرة أو نظرة، وابن سينا الحكيمُ حفظَ القرآنَ في ليلة واحدة، وأبو زُرعةَ كان يحفظ ألفَ ألفِ حديث، والبخاري حفظَ عشرها، وقال: والكل من بعض محفوظ الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -، انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب (2/ 177)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 337). (¬2) رواه ابن أبي يعلى الحنبلي في "طبقات الحنابلة" (1/ 210). (¬3) طبعت هذه الرسالة في "مجلة التراث العربي" بدمشق، سنة (1993 م)، العدد (51)، بتحقيق بديع السيد اللحام، تحت اسم: "مشتهى العقول في منتهى النقول".

الثالثة: أنه سئل عن ستين ألف قضية، فأجاب عن جميعها بـ: حدثنا، وأخبرنا، وهذا ما لا يدخل تحت وُسْع أحدٍ من المجتهدين، فضلاً عن غيرهم، ولقد سُئل كثير من الأئمة عن أقلَّ من معشار عشرها، فأحجم عن الجواب عن أكثرها (¬1)، وإلى هذا أشار الإمام الصرصري في لامِيته بقوله: [من الطويل] حَوَى أَلْفَ أَلْفٍ مِنَ أَحاديثِ أُسْنِدَتْ ... وأَثْبَتَها حِفْظاً بِقَلْبٍ مُحَصِّلِ أجابَ على سِتِّينَ ألفَ قَضِيَّةٍ ... بِأَخْبَرَنا لا مِنْ صَحائِفِ نُقَّلِ وكَانَ إِماماً فِي الحَدِيثِ وحُجَّةً ... لِنَقْلِ صَحِيحٍ ثَابِتٍ ومُعَلَّلِ وكَانَ إِمَاماً في كِتَابٍ وسُنَّةٍ ... وعِلْمٍ وزُهْدٍ كامِلٍ وتَوَكُّلِ (¬2) وأقول: ينبغي أن يلحق بما ذكر رابعةٌ: وهي ما ذكره الحافظ ابن الجوزي وغيرُه من الأئمة: أنه لما تُوفي الإمام أحمدُ بنُ حنبل - رضي الله عنه -، أسلمَ يومَ موتِه عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس (¬3)، ¬

_ (¬1) إلا ما رواه الحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 238)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (35/ 162)، عن الهقل بن زياد: أنه قال: أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة، أو نحوها. وروى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (35/ 163)، عن أبي زرعة أنه قال: بلغني أنه دوَّن عنه -أي: الأوزاعي- ستين ألف مسألة. (¬2) للشيخ الفقيه الأصولي سليمان بن عبد القوي أبو الربيع نجم الدين الطوفي الصرصري، المتوفى سنة (716 هـ)، قصيدة في مدح الإمام أحمد وأصحابه، ذكرها له ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 368)، وفي مواضع أخرى. وانظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1343). (¬3) انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (4/ 422)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (5/ 333)، و"الأنساب" للسمعاني (2/ 277)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (10/ 342). قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (11/ 343) بعد أن ساق هذه الحكاية بإسناده: "هذه حكاية منكرة، تفرد بنقلها هذا المكي عن هذا الوركاني، =

وأشار إلى هذه الإمام الصرصري في لاميته بقوله: وَعِشْرُونَ أَلْفاً أَسْلَمُوا حِينَ عَايَنُوا ... جِنَازَتَهُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مُضَلَّلِ وصَلَّى عَلَيْهِ أَلْفُ أَلْفِ مُوَحِّدٍ ... وسِتُّ أَمْيِ أَلْفٍ فَأَعْظِمْ وَأَكْمِلِ فَقَدْ بانَ بَعْدَ المَوْتِ لِلنَّاسِ فَضْلُهُ ... كَمَا كَانَ حَيًّا فَضْلُهُ ظاهرٌ جَلِي أَقَرَّ لَهُ بالفَضْلِ أَعْيانُ وَقْتِهِ ... وأَثْنَوا عَلَيْهِ بِالثَّنَاءِ المُبَجَّلِ وقد أكثر الأئمةُ من الثناء على الإمام أحمد، فقال الإمام الشافعي: خرجت من بغداد وما خَلَّفت فيها أحداً أورعَ ولا أتقى ولا أفقه -وأظنه قالَ: ولا أعلمَ- من أحمدَ بنِ حنبل (¬1). وقال: ما خلفت بالعراق أحداً يشبه أحمدَ (¬2). وقال الربيع: قال لنا الشافعي: أحمدُ إمامٌ في ثمانِ خِصالٍ: إمامٌ في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة (¬3). ¬

_ = ولا يُعرف، وماذا بالوركاني المشهور محمد بن جعفر الذي مات قبل أحمد بن حنبل بثلاث عشرة سنة، وهو الذي قال فيه أبو زرعة: كان جاراً لأحمد بن حنبل. ثم العادة والعقل تحيل وقوع مثل هذا، وهو إسلام ألوف من الناس لموت وليٍّ لله، ولا ينقل ذلك إلا مجهول لا يعرف، فلو وقع ذلك، لاشتهر ولتواتر؛ لتوفر الهمم والدواعي على نقل مثله، بل لو أسلم لموته مئة نفس، لقضي من ذلك العجب، فما ظنك؟! ". (¬1) رواه ابن أبي يعلى الحنبلي في "طبقات الحنابلة" (1/ 18)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 272)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 160). (¬2) انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (9/ 31)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (5/ 271). (¬3) انظر: "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/ 5).

وقال الشافعي لأحمد: يا أبا عبد الله! إذا رأيتَ الحديثَ الصحيح فأخبرني حتى أذهبَ إليه. وفي رواية أخرى: أنه قال لأحمد: أنت أعلمُ بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبرٌ صحيحٌ، فأعلمْني به حتى أذهبَ إليه، كوفياً كان أو مصرياً أو شامياً، ذكر ذلك البيهقي وغيره (¬1). ومما امتدحه به الإمامُ الشافعي بالبيتين المشهورين، وهما: [من الكامل] قَالُوا يَزُورُكَ أَحْمَدٌ وتَزُورُهُ ... قُلْتُ الفَضَائِلُ لا تُفَارِقُ مَنْزِلَهْ إِنْ زَارَنِي فَبِفَضلِهِ أَوْ زُرْتُهُ ... فَلِفَضْلِهِ فَالفَضْلُ في الحالَيْنِ لَهْ (¬2) قال الشيخ العلامة الشيخ مرعي في "مناقب الأئمة المجتهدين": ويقال: إن الإمام أحمدَ أجابه بقوله: [من البسيط] إنْ زُرْتَنا فَبِفَضْلٍ مِنْكَ تَمْنَحُنَا ... أَوْ نَحْنُ زُرْنَا فَلِلْفَضْلِ الَّذِي فِيكَا فَلاَ عَدِمْنَا كِلاَ الحَالَيْنِ مِنْكَ ولاَ ... نَال الَّذِي يَتَمَنَّى فِيكَ شَانِيكَا وقال عبد الرزاق: رحل إلينا أربعةٌ من رؤساء الحديث: الشاذكوني -وكان أحفظَهم للحديث-، وابنُ المديني -وكان أعرفَهم باختلافه-، ويحيى بنُ معين -وكان أعلمَهم بالرجال-، وأحمدُ بنُ حنبلٍ -وكان أجمَعهم لذلك كله- (¬3). وفي هذا منقَبةٌ عظيمة للإمام أحمدَ؛ حيث إن هؤلاء الأربعةَ أعظمُ من ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 170)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (51/ 385). (¬2) انظر: "شذرات الذهب" لابن العماد (2/ 98). (¬3) انظر: "شرح علل الترمذي" لابن رجب (1/ 481).

رحل إلى عبد الرزاق، وأعظمُهم الإمامُ أحمد، وقد قال: ما قدم علينا أحدٌ يشبه أحمد (¬1). وكذلك يزيد بن هارون لم يكن لأحد أشدَّ تعظيماً منه لأحمدَ بنِ حنبل، كان يُقعده إلى جنبه، وكان يوقره ولا يُمازحه، حتى ضحك إنسانٌ بحضرة يزيد بن هارون، وأحمدُ حاضر، فغضبَ يزيدُ وقال: أتضحكون وأحمدُ هاهنا؟! (¬2) وقال وكيع: ما قدم الكوفةَ مثلُ أحمد (¬3). وقال عبد الرحمن بنُ مهدي: أحمدُ أعلمُ الناس بحديث سفيان (¬4)، وقال: من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري، فلينظر إلى هذا -يعني: الإمامَ أحمدَ- (¬5). وقال يحيى بنُ سعيدٍ القَطانُ: ما قدم عليَّ مثلُ أحمدَ، ويحيى بنِ معين (¬6). وقال أيضاً: ما قدم علي أحدٌ من بغداد أحبُّ إليَّ من أحمد (¬7). ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 270). (¬2) انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (9/ 169)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (5/ 269). (¬3) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 268). (¬4) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/ 292)، ومن طريقه: أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 164)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 269). (¬5) رواه ابن أبي يعلى الحنبلي في "طبقات الحنابلة" (1/ 207). (¬6) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 167)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 268). (¬7) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 268).

وقال لمن ذكر أحمد: أتذكر حبراً من أحبار هذه الأمة؟ (¬1) وقال عليُّ بنُ المَديني: اتخذت أحمدَ إماماً فيما بيني وبين الله - تعالى -، ومَنْ يقوى على ما يقوى عليه أحمد (¬2)؟ وقال أيضاً: إذا ابتليتُ بشيء، فأفتاني أحمد بن حنبل، لم أبال إذا لقيت ربي كيف كان (¬3). وقال أيضاً: أحمد سيدنا (¬4). وسئل التحديثَ فقال: إن سيدي أحمدَ أمرني ألا أحدث إلا من كتاب (¬5). وقال أيضاً: أحمد عندي أفضل من سعيد بن جبير في زمانه؛ إذ كان لسعيد نَظيرٌ، وليس لهذا نظير (¬6). وقال: حفظ الله أحمد، هو اليومَ حجةُ الله على خلقه (¬7). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 172)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 268). (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 279). (¬3) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 279). (¬4) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 165)، ومن طريقه: الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 417)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 278). (¬5) رواه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 12)، وابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" (1/ 227)، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص: 47)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 280). (¬6) رواه ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" (1/ 228)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 314 - 315). (¬7) رواه ابن نقطة في "التقييد" (ص: 159).

وقال: قد أيد الله هذا الدين برجلين لا ثالثَ لهما: أبو بكر يومَ الردة، وأحمدُ يوم المحنة (¬1). وقال أيضاً: ما قام أحدٌ من الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد، فقيل له: ولا أبو بكر؛ فقال: ولا أبو بكر؛ فإنه كان له أعوانٌ، ولم يكن لأحمدَ أعوان (¬2). والثناء على الإمام أحمد أزيدُ من [أن] يذكر، وأكثر من أن يحصر، وورعه وزهده وإعراضه عن الدنيا معروف، وكان - رضي الله عنه - إذا رأى نصرانياً، غمض عينيه، فقيل له في ذلك، فقال: لا أقدر أن أنظر إلى من افترى على الله كذباً (¬3)، وكان يُؤْثِر الخمولَ، فلا يحب أن يجريَ له ذكر. ودخل عليه عمه يوماً ويدُه تحت خَده، فقال له: ما هذا؟ فرفع رأسه وقال: طوبى لمن أخمل ذكره (¬4). وكان يقول: الأعمالُ بخواتيمها، وكان كثيراً ما يقول: رب سلِّم سلِّمْ (¬5). وقال ابنه عبد الله: سمعت أبي يقول: وددت أَني نجوتُ من هذا الأمر كَفافاً، لا علي ولا لي (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 418)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 278). (¬2) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 418)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 278). (¬3) انظر: "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/ 12، 56). (¬4) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 308 - 309): أن رجلاً دخل على أحمد ... إلخ. (¬5) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 181 - 182). (¬6) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 183 - 184).

وقال: كان أبي يصلي كل يوم وليلة ثلاث مئةِ ركعة، فلما ضعف، صلى مئة وخمسين، قال: ولما كبر أبي، زادَ في الاجتهاد (¬1). وكان للإمام أحمد كراماتٌ ظاهرة، وحالات باهرة؛ كان بعضُهم يكتب عندَه، فانكسر قلمُه، فأعطاه قلماً آخر، فروي أنه وضعه على نخلة لم تكن تحملُ فحملت. وسئل الدعاءَ لمُقْعَدَةٍ فقال: نحنُ أحوج إلى الدعاء، ثم دخلَ فدعا لها، فلما ذهب السائل إلى المرأة، دق عليها الباب، فخرجت برجليها وفتحت، فقالت: قد وهب الله - تعالى - العافيةَ (¬2). واحترق بيتٌ بما فيه، فلم يسلَمْ من الحريق إلا ثوبُ الإمام أحمدَ، فنظروا فإذا هو على السرير، والنار قد أكلت ما حولَه ولم تتعرضْ له. وكم له من كرامة! كيف لا وقد قال للكرى: مَهْ، وأطاع مولاه، وشكره على ما أولاه، وناداه فما رد نداه، وأعطاه ما توخاه، ودفع عنه ما آذاه، - فرضوانُ الله عليه وعلى من والاه -. وقد قال قتيبةُ وأبو حاتم: إذا رأيتَ الرجلَ يحب الإمام أحمدَ بنَ حنبلٍ، فاعلمْ أنه صاحبُ سُنة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 181)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 300). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 187)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 299 - 300). (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/ 308) عن قتيبة بن سعيد. ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 14) عن أبي حاتم سهل بن محمد.

وقال ابنُ ماكولا: الإمامُ أحمدُ هو إمام النقل، وعَلَم الزهد والوَرَع (¬1). وفي قصيدة إسماعيلَ بنِ فلان الترمذيِّ التي أنشدها الإمامَ أحمدَ بنَ حنبل وهو في السجن: [من الطويل] لَعَمْرُكَ ما يَهْوَى لأَحْمَدَ نَكْبَةً ... مِنَ الناسِ إِلا نَاقِصُ العَقْلِ مُعْوِرُ هُوَ المِحْنَةُ اليَوْمَ الَّذِي يُبْتَلَى بهِ ... فَيُعْتَبَرُ السُّنِّيُّ فينا وَيُسْبَرُ شَجًى في حُلوقِ المُلْحِدِينَ وَقُرَّةٌ ... لِأَعْيُنِ أَهْلِ النُّسْكِ عَفٌّ مُشَمِّرُ فَقَا أَعْيُنَ المُرَّاقِ فِعْلُ ابْنِ حَنْبَلٍ ... وَأَخْرَسَ مَنْ يَبْغي العُيوبَ وَيَحْفِرُ جَرَى سابِقاً في حَلْبَةِ الصِّدْقِ والتُّقَى ... كما سَبَقَ الطِّرْفَ الجَوادُ المُضَمَّرُ إلى أن يقول: فَيَا أَيُّهَا السَّاعِي لِيُدْرِكَ شَأْوَهُ ... رُوَيْدَكَ عَنْ إِدْرَاكِهِ سَتُقَصِّرُ (¬2) وقال عبدُ السلامِ بنُ عليٍّ: أنشدنا أبو مُزاحمٍ الخاقانيُّ له: [من الطويل] لَقَدْ صَارَ فِي الآفَاقِ أَحْمَدُ مِحْنَةً ... وَأَمْرُ الوَرَى فِيَها فَلَيْسَ بِمِشْعَلِ تَرَى ذا الهَوَى جَهْلاً لأَحَمْدَ مُبْغِضاً ... وَتَعْرِفُ ذا التَّقْوَى يُحِبُّ ابنَ حَنْبَلِ (¬3) ومما يُنسب للإمام الشافعي - رضي الله عنه -، والمشهورُ أنها لابن أَعين وكع بهما لأهلِ البدع: [من الكامل] أَضْحَى ابْنُ حَنْبَلَ حُجَّةً مَبْرُورَةً ... وبِحُبِّ أَحْمَدَ يُعْرَفُ المُتَنَسِّكُ وَإِذا رَأَيْتَ لِأحْمَدٍ مُتَنَقِّصاً ... فَاعْلَمْ بِأَنَّ سُتُورَهُ سَتُهَتَّكُ (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "الإكمال" لابن ماكولا (2/ 563). (¬2) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 427). (¬3) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 430 - 431). (¬4) رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (4/ 420)، ومن طريقه: ابن عساكر =

قال أبو محمدٍ جعفرُ بنُ أحمدَ بنِ حسينٍ السراجُ البغداديُّ في الإمام أحمدَ - رضي الله عنه -: [من الطويل] سَقَى اللهُ قَبْراً حَلَّ فيهِ ابْنُ حَنْبَلٍ ... مِنَ الغَيْثِ وَسْمِيًّا على إِثْرِهِ وَلِي عَلَى أَنَّ دَمْعِي فِيهِ رَوَّى عِظَامَهُ ... إِذَا فاضَ مَا لَمْ يَبْلَ مِنْهَا ومَا بَلِي فَلِلَّهِ رَبِّ النَّاسِ مَذْهَبُ أَحْمَدٍ ... فَإِنَّ عَلَيْهِ ما حَيِيتُ مُعَوَّلِي دَعَوْهُ إِلَى خَلْقِ القُرَانِ كَمَا دَعَوا ... سِوَاهُ فلَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَتَأَوَّلِ ولا رَدَّهُ ضَرْبُ السِّيَاطِ وسَجْنُهُ ... عن السُّنَّةِ الغَرَّاءِ والمَذْهَبِ الجَلِي ولَمَّا يَزِدْهُمْ والسِّيَاطُ تَنُوشُهُ ... فَشَلَّتْ يَمِينُ الضَّارِبِ المُتَبَتِّلِ على قَوْلهِ القُرْآنُ وَلْيَشْهَدِ الوَرَى ... كَلامُكَ يارَبَّ الوَرَى كَيْفَمَا تُلِي فَمَنْ مُبْلِغٌ أَصْحَابَهُ أَنَّنِي بهِ ... أُفَاخِرُ أَهْلَ العِلْمِ في كل مَحْفَلِ وأَلْقَى بهِ الزُّهَّادَ كُلَّ مُطَلِّقٍ ... مِنَ الخوفِ دُنياهُ طَلاَقَ التَّبَتُّلِ لَقَدْ عاشَ في الدُّنْيا حَمِيداً مُوَفَّقاً ... وَصارَ إِلى الأُخْرَى إلى خَيْرِ مَنْزِل وإنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَفِيعَ مَنْ ... تَوَلَّاهُ مِنْ شَيْخٍ ومِنْ مُتَكَهِّلِ ومِنْ حَدَثٍ قَدْ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ ... إذا سَأَلوا عَنْ أَصْلِهِ قالَ حَنْبَلِي (¬1) وحج الإمام أحمدُ - رضي الله عنه - خمسَ حجات، ثلاث حجج ماشياً، واثنتين راكباً، وأنفق في بعض حجاته عشرين درهماً. وكان - رضي الله عنه - شيخاً أسمرَ طُوالاً، يخضبُ رأسه ولحيته بالحناء وهو ابنُ ثلاث وستين سنة خضاباً ليس بالقاني، وكان حسنَ الوجه، في لحيته شعراتٌ سود، وكانت ثيابه غِلاظاً، إلا أنها بِيضٌ. ¬

_ = في "تاريخ دمشق" (5/ 323)، عن ابن أعين، وعندهما: "محنة مأمونة" بدل "حجة مبرورة". (¬1) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 432 - 433).

وقال ابنه عبد الله: ما مشى أبي في سوق قط. وكان - رضي الله عنه - أصبرَ الناس على الوَحْدة، ولم يره أحدٌ إلا في المسجد، أو حضور جنازة، أو عيادة مريض (¬1). وعن حسين بن إسماعيل قال: سمعت أبي يقول: كان يجتمع في مجلس أحمد زُهاءُ على خمسةِ آلاف أو يزيدون، أقل من خمسِ مئة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت (¬2). وقال أبو بكر المطوعي: قد اختلفتُ إلى الإمام أحمدَ اثنتي عشرةَ سنةً وهو يقرأ "المسند" على أولاده، فما كتبتُ منه حديثاً واحداً، وإنما كنت أنظرُ إلى هَدْيه وأخلاقه وآدابه (¬3). وكان - رضي الله عنه - مُهاباً جداً، حتى قالَ الحسنُ بنُ أبي أحمدَ والي الجسرِ: دخلت على فلان وفلان -وذكر السلاطين- ما رأيتُ أهيبَ من أحمدَ بنِ حنبلٍ، صرت إليه أكلمه في شيء، فوقعت عليَّ الرعدةُ حين رأيتُه من هَيبته. قال المَرُّوذِيُّ: ولقد طرقه الكلبي صاحبُ السر ليلاً، فمن هيبته لم يقرعوا عليه بابه، ودقوا باب عمه، قال الإمام أحمد: فسمعت الدق، فخرجت إليهم (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 184)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 298). (¬2) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 316). (¬3) انظر: "خصائص المسند" لأبي موسى المديني (ص: 18)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 316). (¬4) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 317).

وقال عبدوس: رآني أبو عبد الله يوماً ضاحكاً، فأنا أستحييه إلى اليوم (¬1). وعن خلف بن سالم قال: كنا في مجلس يزيدَ بنِ هارون، فمزحَ يزيدُ مع مُستمليه، فتنحنح أحمدُ بنُ حنبل، فضرب يزيدُ بيده على جبينه، وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد هاهنا حتى لا أمزح؟! (¬2) وكان إسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ إذا أُقيمت الصلاة، قال: هاهنا أحمد بن حنبل، فقولوا له يتقدم فيصلي بهم (¬3). وضحك أصحابُه يوماً، فقال: أتضحكونَ وعندي أحمدُ بنُ حنبل؟! (¬4). وقال أبو داود: مجالسةُ أحمدَ بنِ حنبلٍ مجالسة الآخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيت أحمدَ بنَ حنبلٍ ذكرَ الدنيا قَط (¬5). وقال: لم يكن أحمدُ يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذُكر العلم، تكلم (¬6). وقال أبو الحسين بنُ المنادي: سمعت جَدِّي يقول: كان أحمدُ من أحيا ¬

_ (¬1) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 212). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 169)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 269). (¬3) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 194). (¬4) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 267). (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 164)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 291)، وابن الجوزي في "المنتظم" (11/ 287).

الناس، وأكرمِهم نفساً، وأحسنهم عشرة وأدباً، كثيرَ الإطراق والغَضِّ، معرضاً عن القبيح واللغو، لا يُسمع منه إلا المذاكرةُ بالحديث، وذكرُ الصالحين والزهاد، في وقار وسكون ولفظٍ حسن، وإذا لَقِيَه إنسانٌ، بَشَّ به، وأقبل عليه، وكان يتواضعُ للشيوخ تواضعاً شديداً، وكانوا يكرمونه ويعظمونه (¬1). وقال - رضي الله عنه -: أُمرنا أن نتواضعَ لمن نتعلم منه (¬2). وكان من دعائه - رضي الله عنه -: اللهم كما صُنْتَ وجهي عن السجود لغيرك، فصنْ وجهي عن المسألة لغيرك (¬3). وكان من دعائه: اللهم لا تُكثر علينا فنطغى، ولا تُقلل علينا فننسى، وهبْ لنا من رحمتك وسَعَة رزقك ما يكون بلاغاً لنا وغنًى من فضلك (¬4). وكان يدعو في دُبر كل صلاة: اللهم إني أسألك مُوجباتِ رحمتك، وعزائمَ مغفرتك، والغنيمةَ من كل بِرّ، والسلامةَ من كل إثم، والفوزَ بالجنة، والنجاةَ من النار، ولا تدعْ لنا ذنباً إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا حاجة إلا قضيتها (¬5). وكان من دعائه: اللهم لا تشغلْ قلوبنا بما تكفلْتَ لنا به، ولا تجعلْنا في رزقك خَوَلاً لغيرك، ولا تمنعْنا خيرَ ما عندك بِشَرِّ ما عندَنا، ولا تَرَنا حيثُ ¬

_ (¬1) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 317 - 318). (¬2) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 134)، وفي "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (1/ 198)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (52/ 324). (¬3) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 233). (¬4) انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (10/ 329). (¬5) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 294).

نهيتَنَا، ولا تَفْقِدْنا من حيثُ أمرتنا، أعزَّنا ولا تذلَّنا، أعزنا بالطاعة، ولا تذلنا بالمعاصي (¬1). وقال لمن طلب منه أن يزوِّده بالدعاء عند خروجه إلى سفر: قلْ: يا دليلَ الحيارى! دُلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين (¬2). وتُوفي الإمام أحمدُ - رضي اللهُ عنه - صدرَ النهار من يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومئتين، وله سبع وسبعون سنة، وكان مرضُه تسعةَ أيام وبعضَ العاشر، ولما مات، صاح الناسُ، وعلَت الأصواتُ بالبكاء حتى كأن الدنيا قد ارتجَّتْ. قال عبدُ الله بنُ الإمامِ أحمدَ: وقعدَ الناسُ، فخفنا أن ندعَ صلاةَ الجمعة، فأشرتُ عليهم، فأخبرتهم أنا نخرجه بعدَ صلاة الجمعة (¬3). قال المَرُّوذي. لما أردتُ غسلَه، جاء بنو هاشم، فاجتمعوا في الدار خلقاً كثيراً، فأدخلناه البيت، وأرخينا الستر، وجللناه بثوب حتى فرغنا من أمره، ولم يحضره أحدٌ غريب، فلما فرغنا من غسله، وأردنا أن نكفنه، غلبنا عليه بنو هاشم، وجعلوا يبكون عليه، ويأتون بأولادهم فيبكون عليه ويقبلونه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 287)، وابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" (1/ 205)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 320). وقوله: "خولاً" أي: ملكاً لغيرك. (¬2) انظر: "كرامات الأولياء" للالكائي (ص: 233). (¬3) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 413). (¬4) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 414).

وأرسل ابنُ طاهر أكفاناً، قال المروذي: فرددتُها، وقال له رجل: قد أوصى أن يُكفن في ثيابه، فكفناه في ثوب كان له مروزي أراد أن يقطعه، فزدنا فيه وجبرناه ثلاثَ لفائفَ (¬1). وكان عند الإمام أحمد - رضي الله عنه - ثلاثُ شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فأوصى أن يجعل في كل عين شعرة، وعلى لسانه شعرة (¬2). قال المروذي: ووضعناه على السرير، وشددناه بالعمائم، وحُملت جنازته، وصلى عليه محمدُ بنُ عبد الله بن طاهر (¬3). وحزر مَنْ حضر جنازته من الرجال بمئةِ ألف، ومن النساء بستين ألفاً، غير من كان في الطرق وفي السفن وعلى السطوح، وقيلَ أكثرُ من ذلك، وقد بالغَ بعضُهم حتى ذكر ما لا يقبله العقل. وقد قال عبد الوهاب الوراق: ما بلغنا أنه كان للمسلمين جمعٌ أكثر منهم على جنازة الإمام أحمدَ بنِ حنبل إلا جنازةً في بني إسرائيل (¬4). وعن أبي الحسن التميمي عن أبيه، عن جده: أنه قال: حضرتُ جنازةَ الإمام أحمدَ، قالَ: فمكثتُ طولَ الأسبوع رجاءَ أن أصل إلى قبره، فلم أصل من ازدحام الناس عليه، فلما كان بعد أسبوع، وصلتُ إلى القبر (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 418). (¬2) انظر: "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 357)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 337). (¬3) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 206). (¬4) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 422)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 332). (¬5) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 418).

وكان الإمام أحمدُ - رضي الله عنه - يقول: بيننا وبين أهل البدع الجنائز (¬1)، فأظهرَ اللهُ صدقَ مقالته، وأوضحَ ما منحَه من كرامته، فرضي الله تعالى عنه وعن أشياخه وأتباعه ومحبيه، وعن سائر العلماء والأئمة وأتباعهم بإحسان. ومما يروى للإمام أحمدَ من الشعر، ما رواه ابنُ الجوزي بسنده عن أحمدَ بن يحيى ثعلبٍ - وهو من أصحابه ونَقَلة مذهبِه -: أنه أولَ ما دخل عليه قالَ له الإمام أحمدُ: فيم تنظر؟ قال: في النحو والعربية، فأنشده: [من الطويل] إِذَا ما خَلَوْتَ الدَّهرَ يَوْماً فَلا تَقُلْ ... خَلَوْتُ، ولكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ ولا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعَةً ... وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ لَهَوْنا عَنِ الأَيَّامِ حَتَّى تَتَابَعَتْ ... ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُ ما مَضَى ... وَيَأْذَنُ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ إِذَا مَا مَضَى القَرْنُ الَّذِي أَنْتَ فِيِهمُ ... وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فَأَنْتَ غَرِيبُ (¬2) وسُمع يوماً يقول: [من البسيط] تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنَ نَالَ صَفْوَتَها ... مِنَ الحَرَامِ وَيَبْقَى الإِثمُ والعارُ تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ مِنْ مَغَبَّتِهَا ... لا خَيْرَ في لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِها النَّارُ (¬3) ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 332). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 220)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 205)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (13/ 455)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 163)، وابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد" (ص: 205). (¬3) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 458)، ومن طريقه: ابن الجوزي في "المنتظم" (11/ 218)، وفي "مناقب الإمام أحمد" (ص: 205).

ورُوي من قوله في عليِّ بنِ المدينيِّ - رحمه الله - لما أجاب في المحنة: [من الكامل] يا بْنَ المَدِيِنيِّ الَّذِي عُرِضَتْ لَهُ ... دُنْيَا فَجَادَ بِدِينِهِ لِيَنَالَهَا مَاذَا دَعَاكَ إِلَى انْتِحَالِ مَقَالَةٍ ... قَدْ كُنْتَ تَزْعُمُ كَافِراً مَنْ قَالَها أَمْرٌ بَدَا لَكَ رُشْدُهُ فَتَبِعْتَهُ ... أَمْ زَهْرَةُ الدُّنْيَا أَرَدْتَ نَوَالَهَا وَلَقَدْ عَهِدْتُكَ مَرَّةً مُتَشَدِّداً ... صَعْبَ المَقَادَةِ لِلَّتي تُدْعَى لَهَا إِنَّ المُرَزَّأَ مَنْ يُصَابُ بِدِينِهِ ... لا مَنْ يُرَزَّأُ ناقَةً وفِصَالَهَا (¬1) ويُروى أن الإمامَ أحمدَ - رضي الله عنه - كتب للإمام الشافعي - رضي الله عنه -: [من الكامل] إِنْ نَخْتَلِفْ نَسَباً يُؤَلِّفْ بَيْنَنَا ... أَدَبٌ أَقَمْنَاهُ مُقَامَ الوَالِدِ أَوْ يَفْتَرِقْ مَاءُ الْوِصَالِ فَوِرْدُنَا ... عَذْبٌ تَحَدَّرَ مِنْ إِناءٍ وَاحِدِ (¬2) ومن كلام الإمامِ أحمدَ - رضي الله عنه -: إن لكل شيءٍ كرماً، وكرمَ القلوب الرضا عن الله - تعالى - (¬3). وقال: عزيزٌ عليَّ أن تُذيبَ الدنيا أكبادَ رجالٍ وَعَتْ صُدورُهم القرآنَ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 206). (¬2) انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (8/ 251)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (12/ 25)، والبيتان لعلي بن الجهم قالها في أبي تمام. (¬3) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 308). (¬4) رواه ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد" (ص: 200).

وقال له الإمام عليُّ بنُ المديني: أوصني، قالَ: الزمِ التقوى، وانصبِ الآخرةَ أمامَك (¬1). وسُئل عن الفتوة، قال: هي تركُ ما تهوى لما تخشى (¬2). وسُئل يوماً: كيف أصبحتَ؟ قال: كيف أصبحَ مَنْ ربُّه يطالبه بأداء الفرض، ونبيُّه يطالبه بأداء السنة، والملَكان يطالبانه بتصحيح الأعمال، ونفسُه تطالبُه بهواها، وإبليسُ يطالبه بالفحشاء، وملَكُ الموت يطالبه بقبض روحه، وعيالُه يطالبونه بالنفقة؟! (¬3) وقد مُدِحُ الإمامُ أحمدُ ورُثي بقصائدَ جمةٍ، وأثنى عليه جَهابِذَةُ اللغة بما يطولُ ذكره، ويعسُر سَبْرُه، فهذا التنويه يناسبُ ما نحن فيه. وأما ذكرُ محنتِه ومتعلقاتِها، وأيامه وواقعاتها، وأحوالِه ومُفرداتها، وذكْرُ تصانيفه ومصنفاته، وحفظه وورعه وزهده، وتزويجه وزوجاته وأولاده، وغير ذلك من متعلقات ترجمته؛ فيُطلب من غير هذا المحل، فقد أُفردت ترجمتُه بالتأليف؛ فألف الحافظ البيهقي فيها مجلداً، وألف الحافظُ ابنُ الجوزي فيها مجلدين، وألف عبدُ الله بنُ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الخزرجي المالكي جزءاً، وغيرُهم من علماء الإسلام، والله ولي الإنعام. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (9/ 173)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (2/ 334 - 335)، وابن أبي يعلى الحنبلي في "طبقات الحنابلة" (1/ 226). (¬2) رواه ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد" (ص: 199). (¬3) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 284).

الفصل الثاني في ترجمة مؤلف "العمدة"

الفَصْلُ الثَّاني في ترجمة مؤلّف "العمدة" (¬1) هو أبو محمد الإمامُ عبدُ الغنيِّ بنُ عبدِ الواحدِ بنِ عليِّ بنِ سرورِ بنِ رافعِ بنِ حسنِ بنِ جعفرٍ الجمَّاعيليُّ، المقدسيُّ، الحافظُ، الزاهدُ، تقيُّ الدين، حافظُ وقتِه ومحدِّثُه وإمامُه، الحنبليُّ، الأثريُّ. وُلد بجمّاعيلَ من جبلِ "نابُلُسَ" من الأرض المقدسة، سنة إحدى وأربعين وخمس مئة. قال الإمام الحافظ الضياءُ: أظنه في ربيع الآخرِ من السنة، كما حدثتني والدتي قالت: الحافظُ أكبرُ من أخي الموفق بأربعة أشهر، ومولدُ الموفق في شعبانَ من السنة المذكورة. وقال الحافظ المنذري: ذكر أصحابُه عنه ما يدل على أن مولدَه سنة ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التقييد" لابن نقطة (ص: 370)، و"المستفاد من ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار (18/ 168)، و"سير أعلام النبلاء" (21/ 444)، و"تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (4/ 1372)، و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 5)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (19/ 21)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 487)، و"النجوم الزاهرة" لابن تغري بردي (6/ 185)، و"المقصد الأرشد" لابن مفلح (2/ 152)، و"شذرات الذهب " لابن العماد (4/ 345). وقد جمع الحافظ ضياء الدين أبو عبد الله المقدسي سيرته في جزأين، ساق منها الذهبي في "السير" جملة وافرة، ونقل عنها المؤلف هنا معظم ترجمته.

أربع وأربعين وخمس مئة، وكذا ذكر ابن القطيعي في "تاريخه"؛ أنه سألَ الحافظَ عبدَ الغني عن مولده؛ فقال: إما في سنة ثلاث، أو في سنة أربع وأربعين وخمس مئة. قال الحافظُ ابنُ رجبٍ: والأظهرُ أنه سنة أربع. وقدم "دمشقَ" صغيراً بعد الخمسين، فسمعَ بها من أبي الحازم بن هلال، وأبي المعالي بن صابر، وأبي عبدِ الله محمدِ بنِ حمزةَ بنِ أبي جميلٍ القرشي، وغيرهم، ثم رحل إلى "بغدادَ" سنة إحدى وستين هو والإمام الموفقُ، فأقاما ببغداد أربع سنين، وكان الإمام الموفقُ ميلُه إلى الفقه، والحافظُ ميلُه إلى الحديث، فنزلا على الشيخ قطبِ دائرةِ الوجود سيدِنا الشيخِ عبدِ القادر - قدسَ اللهُ سره -، فكان يراعيهما، ويحسنُ إليهما، وقرأ عليه شيئاً من الحديث والفقه. وحكى الإمامُ الموفَّق أنهما أقاما عنده نحوَ أربعين يوماً، ثم مات، وأنهما كانا يقرأن عليه كل يوم درسين من الفقه، فيقرأ هو من "الخرقي"، والحافظ من كتاب "الهداية". قال الحافظ الضياء: وبعد ذلك اشتغلا بالفقه والخلاف على ابن المَنِّي، وصارا يتكلمان في المسألة، ويناظران، وسمعا من أبي الفتح بن البَطي، وأحمدَ بنِ المعتز الكوفي، وأبي بكر بن الناقور، وهبة الله بنِ الحسنِ بنِ هلالٍ الدقاق، وأبي زرعة، وغيرِهم، ثم عادا إلى "دمشق". ثم رحل الحافظ سنة ست وستين إلى "مصر" و"الإسكندرية"، وأقام هناك مدة، ثم عاد، ثم رجع إلى "الإسكندرية" سنة سبعين، وسمعَ بها من الحافظ السلفي، وأكثر عنه حتى قيل: لعله كتبَ عنه ألفَ جزء، وسمع من غيرِه أيضاً، وسمع بمصرَ من أبي محمد بن بري النحْوي وجماعة، ثم عاد

إلى "دمشق"، ثم سافر بعد السبعين إلى "أصبهان"، وكان قد خرج إليها وليس معه إلا قليلُ فُلوس، فسهل اللهُ له من حَمَلَه وأنفقَ عليه، حتى دخل "أصبهان"، وأقام بها مدة، وسمع بها الكثير، وحصل الكتبَ الجيدةَ، ثم رجعَ وسمع بهمدان من عبد الرزاق بن إسماعيل الفرماني، والحافظ أبي العلاء، وغيرهما، وبأصبهان من الحافظين أبي موسى المديني، وأبي سعد الصائغ، وطبقتهما، وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل الطوسي، وكتب بخطه المتقن ما لا يوصف كثرةً، وعاد إلى "دمشق"، ولم يزل ينسخ ويصنفُ ويحدثُ ويفيدُ المسلمين ويعبدُ الله - تعالى -، حتى توفاه الله على ذلك. وقد صنف في فضائل الحافظ وسيرته: الحافظُ ضياءُ الدين في جزأين، وذكر أن الفقيهَ مكي بنَ عمرَ بنِ نعمةَ المصريَّ جمع فضائله أيضاً. قال الحافظ الضياءُ: كان شيخُنا الحافظُ لا يكادُ أَحد يسأله عن حديث إلا ذكره، وبينه، وذكر صحته أو سقمَه، ولا يُسأل عن رجل إلا قالَ: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكر نسبه. قال الحافظُ ابنُ رجبٍ: قال الحافظُ الضياء: كان الحافظُ عبدُ الغني أميرَ المؤمنين في الحديث. قال: وسمعتُ شيخَنا الحافظَ عبدَ الغني يقول: كنت يوماً بأصبهان عندَ الحافظ أبي موسى، فجرى بيني وبين بعض الحاضرين منازعةٌ في حديث، فقال: هو في "صحيح البخاري"، فقلت: ليس هو فيه، قال: فكتب الحديثَ في رقعة، ورفعها إلى الحافظ أبي موسى يسأله عنه، قال: فناولني الحافظ أبو موسى الرقعةَ، وقال: ما تقول هل هذا الحديث في البخاري أم لا؟ فقلت: لا، فخجل الرجل وسكت.

قال: وقد رأيتُ فيما يرى النائمُ وأنا بمدينة "مرو" كأَن الحافظَ عبدَ الغني جالسٌ، والإمامُ محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ بين يديه يقرأ عليه من جزء أو كتاب، وكان الحافظُ يرد عليه شيئاً، أو ما هذا معناه. قال: وسمعت أبا الطاهر إسماعيلَ بنَ ظفر النابلسي يقول: جاء الحافظ - يعني: عبدَ الغني -، فقال رجلٌ حلفَ بالطلاق: إنك تحفظُ مئَة ألفِ حديث، فقال: لو قال أكثرَ، لصدقَ. قال الحافظ الضياء: وشاهدت الحافظَ - غير مرة - بجامع "دمشق"، يسألُه بعضُ الحاضرين، وهو على المنبر: اقرأْ لنا أحاديثَ من غير الجزء، فيقرأ الأحاديت بأسانيدها عن ظهرِ قلبه. قال: وسمعتُ أبا سليمانَ بنَ الحافظِ يقول: سمعتُ بعضَ أهلنا يقول: إن الحافظَ سُئِلَ: لم لا يقرأُ الأحاديث من غير كتاب؟ فقال: إني أخافُ العُجْبَ. وقال التاج الكندي - يعني: أبا اليُمْن -: لم يكن بعدَ الدارقطني مثلُ الحافظِ عبد الغني، وقال: لم ير الحافظُ عبدُ الغني مثلَ نفسِه، وقال: رأيتُ ابنَ ناصرٍ، والحافظَ أبا العلاءِ الهمداني، وغيرَهما من الحفاظ؛ ما رأيتُ أحفظَ من عبدِ الغني المقدسي. وقال أبو نزارٍ الإمامُ ربيعةُ بنُ الحسنِ اليمني الشافعي: رأيتُ الحافظ السلَفي، والحافظَ أبا موسى، وكان الحافظُ عبدُ الغني بنُ عبد الواحد أحفظَ منهما. قال الحافظ ضياءُ الدين المقدسي: وأنشدنا إسماعيلُ بن مظفرٍ، قالَ: أنشدنا أبو نزارٍ ربيعةُ بنُ الحسن، في الحافظِ عبدِ الغني المقدسي: [من البسيط] يا أَصْدَقَ النَّاسِ في بَدْوٍ وفي حَضَرٍ ... وَأَحْفَظَ الناسِ فيما قالَتِ الرُّسُلُ

إِنْ يَحْسُدُوكَ فلا تَعْبَأْ بِقَائِلِهِمْ ... هُمُ الغُثَاءُ وأَنْتَ السَّيِّدُ البَطَلُ قالَ: وأنشدَنا: [من الكامل] إِنْ قِيسَ عِلْمُكَ في الوَرَى بِعُلومِهِمْ ... وَجَدُوكَ سَحْبَاناً وَغَيْرُكَ باقِلُ قال الحافظ الضياء: وشاهدتُ بخط الحافظ أبي موسى المديني على كتاب "تبيين الإصابة لأوهامٍ حصلت في معرفة الصحابة" الذي أملاه الحافظُ عبدُ الغني، وقد سمعه عليه أبو موسى، وأبو سعيدٍ الصائغُ، وأبو العباس بنُ ينال، وخلقٌ كثير. يقول أبو موسى - عفا الله عنه -: قَلَّ مَنْ قدمَ علينا من الأصحاب يفهمُ هذا الشأن كفهم الشيخِ الإمامِ أبي محمدٍ عبدِ الغني بنِ عبدِ الواحدِ المقدسيِّ - زاده الله توفيقاً -، وقد وُفِّقَ لتبيين هذه الغلطات، ولو كان الدارقطني وأمثالُه في الأحياء، لصوبوا فِعْلَه، وقَل من يفهم في زماننا كما فهم - زاده اللهُ علماً وتوفيقاً -. قال الحافظ الضياء: وكل مَنْ رأينا من المحدثين، ممن رأى إفادةَ عبد الغني، وجرى له ذكرُ حفظهِ ومذاكرتهِ؛ قالَ: ما رأينا مثلَه، أو نحوَ هذا. قال الضياء: وسمعتُ الحافظَ يقول: كنتُ عند ابن الجوزي يوماً، فقال: وزيره ابن محمد الغَساني؟ فقلتُ: إنما هو وزيره، فقالَ: أنتم أعرفُ بأهلِ بلدكم. وذكره ابن النجار في "تاريخه"، فقال: حدث بالكثير، وصنف تصانيفَ حسنةً في الحديث، وكان غزيرَ الحفظ، من أهل الإتقان والتجويد، قائماً بجميع فنون الحديث، عارفاً بقوانينه وأصوله، وعلله، وصحيحه وسقيمه،

وناسخه ومنسوخه، وغريبه ومُشْكله، وفقهه ومعانيه، وضبطِ أسماء رواته، ومعرفة أحوالهم. وكان - رضي الله عنه - كثيرَ العبادة، وَرِعاً، متمسكاً بالسنة على قانون السلَف. ولم يزل بدمشق يحدثُ، وينتفعُ به الناسُ، إلى أن تكلم في الصفات والقرآن بشيء أنكره عليه أهل التأويل من الفقهاء والمتكلمين، وعُقد له مجلسٌ بدار السلطان، حضره القضاةُ والفقهاء، فأصر على قوله، فأُخرج إلى مصرَ، وأقام بها إلى حين وفاته. وكان - رضي الله عنه - يصلي كل يوم وليلة ثلاث مئة ركعة، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، دُعِي إلى أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فامتنع، فمُنع من التحديث بدمشق، فسافر إلى مصر، فأقام بها إلى أن مات - رضي الله عنه -. وقال أبو عبد الله محمدُ بن مبارك الجويني المحدثُ: ما سمعت السلَفي يقول لأحد: الحافظ، إلا لعبد الغني المقدسي. وقال بعض المصريين: ما كنا إلا مثلَ الأموات، حتى جاء الإمامُ الحافظُ عبدُ الغني، فأَخْرَجنا من القبور. وقال أبو الحسن علي بنُ نجا الواعظ بالقَرافة - على منبره -: قد جاء الإمامُ الحافظُ عبدُ الغني، وهو يريد أن يقرأ الحديث، فأشتهي أن تحضروا مجلسه ثلاثَ مراتٍ، وبعدها أنتم تعرفونه، وتحصُلُ لكم الرغبة، فجلس أولَ يوم بجامع القَرافة، فقرأ أحاديث بأسانيدها، عن ظهرِ قلبه، وقرأ جزءاً، ففرحَ الناسُ بمجلسه فرحاً كثيراً، فقال ابنُ نجا: قد حصل الذي كنتُ أريدُه في أولِ مجلس، وبكى الناس حتى غُشِيَ على بعضهم.

وقال الإمامُ نجمُ بنُ الإمامِ عبدِ الوهاب بنِ الإمامِ أبي الفَرَجِ الحنبلي - وقد حضرَ مجلسَ الحافظِ عبد الغني -: يا تقي الدينِ! واللهِ لقد حملتَ الإسلام، وأقسمُ لو أمكنني ما فارقتُك، ولا مجلساً من مجالسك. وقال الحافظ الضياء: سألتُ خالي الإمامَ موفق الدين عن الحافظ عبد الغني، فكتبَ بخطه، وقرأتُه عليه: كان جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا، وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه، إلا القليل، وكمل اللهُ فضيلتَه بابتلائِه بأذى أهل البدعةِ، وعداوتهم إياه، وقيامِهم عليه، ورُزق العلمَ وتحصيلَ الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يُعَمَّرْ حتى يبلغَ غرضَه في روايتها ونشرِها - رحمه الله تعالى -. قال الحافظ الضياء: كان شيخُنا الحافظُ - رحمه الله - لا يكادُ يُضيعُ شيئاً من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجرَ، ويلقنُ الناسَ القرآنَ، وربما قرأ شيئاً من الحديث، فقد حفظْنا منه أحاديثَ جمة تَلَقيناها، ثم يقوم ويتوضأُ، ويصلي ثلاثَ مئةِ ركعةٍ، بالفاتحة والمعوذتينِ، إلى قبيلَ وقتِ الظهر، ثم ينام نومةً يسيرة إلى وقت الظهر، ثم يصلي الظهر، ويشتغل إما بالتسميع للحديث، أو بالنسخ إلى المغرب، فإن كان صائماً، أفطر بعدَ المغرب، وإنْ كان مفطراً، صلى من المغرب إلى عشاء الآخرة، فإذا صلى العشاءَ الآخرةَ، نامَ إلى نصفِ الليل أو بعدَه، ثم قام كأن إنساناً يُوقظه، فيتوضأُ ويصلي لحظة، ثم يتوضأُ ويصلي كذلك، ثم يتوضأُ ويصلي إلى قرب الفجر، فربما توضأَ في الليلة سبعَ مراتٍ أو ثمانيةً أو أكثرَ، فإذا قيل له في ذلك، قال: ما تطيب لي الصلاةُ إلا ما دامت أعضائي مرطبة، ثم ينام نومةً يسيرةً إلى الفجر، وهذا دأبُه، وكان لا يكاد يصلي صلاتين مفروضتين [بوضوءٍ واحدٍ]، وكان يستعمل

السواك كثيراً، حتى كأن أسنانه البَرَدُ، وكان قد وضعَ الله له الهيبةَ في قلوب الخلق. ذكروا أن الحافظ لما دخل على الملك العادل في مصر، قام له، فلما كان اليومُ الثاني من دخوله عليه، إذ الأمراءُ قد جاؤوا إلى الحافظ، فقالوا: آمنا بكراماتِك يا حافظُ، وذكروا أن العادل قال: ما خِفْتُ من أحد ما خفتُ من هذا، فقلنا: أيها الملك! هذا رجل فقيهٌ أَيش خفتَ من هذا؟ قال: لما دخل، ما خُيل إلي إلا أنه سَبُعٌ يريدُ أن يأكلَني، فقلتُ: هذه كرامةٌ للحافظ. قال الحافظ الضياء: وما أعرف أحداً من أهل السنة رأى الحافظَ إلا أحبه حباً شديداً، ومدحَه مدحاً كثيراً. قال أبو الثناء محمودُ بنُ سلامةَ الحراني: كان الحافظ بأصبهانَ، فيصطف الناسُ في السوق فينظرون إليه، وقال: لو أقام الحافظُ بأصبهانَ مدةً، وأراد أن يملكَها، لَمَلَكها، يعني: من حبهم له، ورغبتِهم فيه. قال الحافظ الضياءُ: ولما وصلَ إلى مصرَ أخيراً، كنا بها، وكان إذا خرج يومَ الجمعة إلى الجامع لا نقدرُ نمشي معه من كثرة الخلق، يتبركون به، ويجتمعون حوله. قال الحافظ الضياء: كان الحافظُ عبدُ الغني ليس بالأبيضِ الأمهق، بل يميل إلى السمرة، حسنَ الشعر، كَثَّ اللحية، واسعَ الجبين، عظيمَ الخَلْق، تامَّ القامة، كأن النورَ يخرج من وجهه، وكان قد ضعُف بصرُه من كثرة البكاء والنسخ والمطالعة، وكان حسنَ الخُلُق، رأيتُه وقد ضاقَ صدرُ بعض أصحابِه في مجلسه وغضبَ، فجاء إلى بيته، وترضاه وطيب قلبَه، وكان سخياً جواداً كريماً، لا يدخر ديناراً ولا درهماً، ومهما حصل له أخرجَه. قال الإمام الموفق عنه: كان جواداً يُؤثر بما تصلُ إليه يده سراً وعلانيةً.

وللحافظ كراماتٌ كثيرةٌ منقولةٌ بالأسانيد، وكان يقول: أبلغُ ما سأل العبدُ ربه ثلاثةُ أشياء: رضوانُ الله - عز وجل -، والنظرُ إلى وجهه الكريم، والفردوسُ الأعلى. وقال الحافظ عبدُ الغني - رضي الله عنه -: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم يمشي وأنا أمشي معه، إلا أن بيني وبينه رجلاً. قال الضياء: وسمعت أبا العباس أحمدَ بنَ عبد الله المحول حكى عن رجل فقيه، وكان ضريراً، وكان يبغض الحافظ، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، ومعه الحافظُ، ويده في يده، جاء مع عمرو بن العاص وهما يمشيان، والحافظُ يقول له: يا رسول الله! حدثْتُ عنك بالحديثِ الفلاني، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: صحيح، ويقول: حدثت عنك بالحديث الفلاني، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: صحيح، حتى عددتُ مئةَ حديثِ، قال: فأصبحَ فتابَ من بُغْضه. قال: وسمعت الحافظَ أبا موسى بنَ الحافظ عبدِ الغني قال: حدثني رجل من أصحابنا قال: رأيت الحافظَ في النوم يمشي مستعجلاً، فقلت: إلى أين؟ قال: أزورُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: وأين هو؟ قال: في المسجد الأقصى، فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أصحابه، فلما رأى الحافظَ، قام له النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجلسه إلى جنبه، قال: فبقي الحافظُ يشكو إليه ما لقيَ ويبكي ويقول: يا رسول الله! كذبت في الحديثِ الفلاني والحديث الفلاني، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: صَدَقْتَ يا عبدَ الغني - رضي الله عنه -. ومن تصانيف الحافظ عبد الغني: كتاب "المصباح في عيون الأحاديث الصحاح" ثمانية وأربعون جزءاً، يشتمل على أحاديث الصحيحين، وكتاب "نهاية المراد من كلام خير العباد" في السنن، نحو مئتي جزء، كتاب

"اليواقيت" مجلدة، كتاب "الآثار المرضية في فضائل خير البرية" أربعة أجزاء، كتاب "الروضة" أربعة أجزاء، كتاب "الذكر" جزآن، كتاب "الإسراء" جزآن، كتاب "التهجد" جزآن، كتاب "الصفات" جزآن، "محنةُ الإمام أحمد" ثلاثة أجزاء، كتاب "ذم الربا" جزء كبير، "ذم الغِيبة" جزء ضخم، "فضائل مكة" أربعة أجزاء، كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" جزء، "فضائل رمضان" جزء، كتاب "الأربعين"، كتاب "الأربعين" آخر، وكتاب "الأربعين من كلام رب العالمين"، و"أربعين" أخرى بسند واحد، كتاب "اعتقاد الإمام الشافعي" جزء كبير، كتاب "الحكايات" سبعة أجزاء، وكتاب "غيبة الحفاظ في تحقيق مشكل الألفاظ" في مجلدين، وأجزاء أخرجها من الأحاديث والحكايات، كان يقرؤها في المجالس، تزيد على مئة جزء، وجزء في "مناقب عمر بن عبد العزيز"، هذه كلها بالأسانيد. ومن الكتب بلا أسانيد: كتاب "الأحكام" على أبواب الفقه، في ستة أجزاء، كتاب "العمدة"- هذا - في الأحكام مما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم، كتاب "دُرر الأثر" على حروف المعجم، تسعة أجزاء، كتاب "سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -" جزء كبير، كتاب "النصيحة في الأدعية الصحيحة" جزء، كتاب "الاقتصاد في الاعتقاد" جزء، كتاب "تبيين الإصابة لأوهام حصلت في معرفة الصحابة" الذي ألفه أبو نعيم الأصبهاني، جزء كبير، كتاب "الكمال في معرفة الرجال" يشتمل على رجال الصحيحين والسنن الأربع، في عشر مجلدات، وفيه أسانيد، وغير ذلك. وقد امتُحن وأُوذي وأُخرج من الشام إلى مصر، وكان قد سأل ربه - تعالى - أن يرزقه مثل حال الإمام أحمد، فرزقه الصلاة، ثم ابتُلي بعد ذلك بالمحنة، وأُوذي.

قال الحافظ الضياء: ثم إن الحافظ ضاق صدرُه، فخرج من "دمشق"، ومضى إلى "بعلبك"، فأقام بها مدة يقرأ الحديث، ثم توجه إلى مصر، ولم يعلم أصحابُنا بسفره، فبقي مدة في "نابلس" يقرأ الحديث، قال الضياء: وهذا ما سمعته من أصحابنا، وكنت أنا بمصر، ثم ارتحل إلى مصر. وقال الحافظ أبو موسى - ولد الحافظ عبد الغني -: مرض والدي - رحمه الله تعالى - في ربيع الأول سنة ست مئة مرضاً شديداً منعه من الكلام والقيام، واشتد به مدة ستةَ عشرَ يوماً، قال: وكنت كثيراً ما أسأله: ما تشتهي؟ فيقول: أشتهي الجنة - رحمه الله - لا يزيد على ذلك، فلما كان يوم الإثنين، جئت إليه، وكان عادتي أبعث من يأتي كل يوم بكرةَ النهار بماء حار من الحمام، يغسل به أطرافه، فلما جئنا بالماء على العادة، مد يدَه، فعرفنا أنه يريد الوضوء، فوضأْته وقت صلاة الفجر، ثم قال: يا عبد الله! قم فصل بنا وخفف، فقمتُ فصليتُ بالجماعة، وصلى معنا جالساً، فلما انصرفَ الناس، جئتُ فجلست عند رأسه، وقد استقبلَ القبلةَ، فقال لي: اقرأ عندَ رأسي سورة يس, فقرأتُها، فجعل يدعو الله وأنا أُؤَمن، فقلتُ: هاهنا دواءٌ قد عملناه تشربُه، فقال: يا بني! ما بقي إلا الموتُ، فقلت: ما تشتهي شيئاً؟ قال: أشتهي النظرَ إلى وجه الله - تعالى -، قلت: ما أنتَ عني راضٍ؟ قال: بلى واللهِ أنا عنكَ راضٍ وعن إخوتِك، وقد أجزتُ لك ولإخوتك ولابن أخيك إبراهيمَ. قال الحافظ الضياء: وسمعتُ أبا موسى يقول: أوصاني أبي عند موته: لا تضيعوا هذا العلمَ الذي تعبْنا عليه -يعني: الحديث- فقلتُ: ما توصي بشيء؟ قال: ما لي على أحدٍ شيءٌ، قلت: توصيني بوصية؟ قال: يا بني! أوصيك بتقوى الله، والمحافظةِ على طاعته، فجاء جماعةٌ يعودونه،

فسلموا عليه، فرد عليهم، وجعلوا يتحدثون، ففتح عينيه وقال: ما هذا الحديث؟! اذكُروا الله، قولوا: لا إله إلا الله، فقالوها ثم قاموا، فجعل يذكرُ الله ويحركُ شفتيه بذكره، ويشير بعينيه، فدخل رجلٌ فسلم عليه وقال: أما تعرفني يا سيدي؟ قال: بلى، فقمتُ لأناوله كتاباً من جانب المسجد، فرجعت وقد خرجتْ روحُه، وذلك يوم الإثنين الثالث والعشرين من شهر ربيعٍ الأولِ سنةَ ست مئة، وبقي ليلة الثلاثاء في المسجد، واجتمع الغدَ خلقٌ كثير من الأئمة والأمراء، ما لا يحصيهم إلا اللهُ - عز وجل -. قال ولدُه: ودفناه يومَ الثلاثاء بالقَرافة مقابلَ قبرِ الشيخِ أبي عمرِو بنِ مرزوقٍ في مكانٍ ذكرَ لي خادمُه عبدُ المنعم أنه كان يزور ذلك المكانَ، ويبكي فيه إلى أن يبل الحَصى، ويقول: قلبي يرتاح إلى هذا المكان - رحمه الله تعالى، ورضيَ عنه، وألحقه بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. ورثاه غيرُ واحد من العلماء، منهم الإمامُ أبو عبدِ الله محمدُ بنُ سعدٍ المقدسي الأديبُ بقصيدةٍ طويلةٍ أَولُها قولُه: [من البسيط] هذَا الذِي كُنْتُ يَوْمَ البَيْنِ أَحْتَسِبُ ... فَلْيَقْضِ دَمْعُكَ عَنِّي بَعْضَ ما يَجِبُ يا سائِرِينَ إلى مِصْرٍ بِرَبِّكُمُ ... رِفْقاً عَلَيَّ فَإِن الأَجْرَ مُكْتَسَبُ قُولُوا لِساكِنِها حُيِّيتَ مِنْ سَكَنٍ ... يا مُنْيَةَ النَّفْسِ ماذا الصَّدُّ والغَضَبُ بالشَّامِ قَوْمٌ وفي بَغْدَادَ قد أَسِفُوا ... لا البُعْدُ أَخْلَقَ بَلْواهُمْ وَلا الحِقَبُ قَدْ كُنْتَ بِالْكُتْبِ أَحْياناً تُعَلِّلُهُمْ ... فَاليومَ لا رُسُلٌ تَأْتي وَلا كُتُبُ أُنْسِيتَ عَهْدَهُمُ أَمْ أَنْتَ في جَدَثٍ ... تَسْفِي وَتَبْكي عَلَيْكَ الريحُ والسُّحُبُ بَلْ أَنْتَ في جَنَّةٍ تَجْني فَواكِهَها ... لا لَغْوَ فيها وَلا غَوْلٌ وَلا نَصَبُ يا خَيْرَ مَنْ قالَ بَعْدَ الصَّحْبِ: حَدَّثَنا ... ومَنْ إليهِ التُّقَى والدينُ يَنْتَسِبُ لَوْلاكَ ماتَ عَمُودُ الدينِ وانْهَدَمَتْ ... قَواعِدُ الحَقِّ وَاغْتالَ الهُدَى عَطَبُ

فَاليومَ بَعْدَكَ جَمْرُ الغَيِّ مُضْطَرِمٌ ... بَادي الشرارِ وَرُكْنُ الرُّشْدِ مُضْطَرِبُ فَلْيَبْكِيَنْكَ رَسُولُ اللهِ ما هَتَفَتْ ... وُرْقُ الحَمامِ وتَبْكي العُجْمُ والعَرَبُ لَمْ تَفْتَرِقْ بِكُما حالٌ فَمَوْتُكُما ... في الشهْرِ واليومِ هذا الفَخْرُ والحَسَبُ أَحْيَيْتَ سُنَّتَهُ مِنْ بَعْدِ ما دُفِنَتْ ... وَشِدْتَها وَقَدِ انْهَدَّتْ لَها رُتَبُ وَصُنْتَها عَنْ أَباطيلِ الرُّواةِ لَها ... حَتى اسْتَنَارَتْ فَلا شَكٌّ ولا رِيَبُ ما زِلْتَ تَمْنَحُها أَهْلاً وَتَمْنَعُها ... مَنْ كانَ يُلْهيه عَنْها الثَّغْرُ وَالشَّنَبُ قَوْمٌ بِأَسْمَاعِهِمْ عَنْ سَمْعِها صَمَمٌ ... وفي قُلوبِهِمُ مِنْ حِفْظِها قُضُبُ تَنُوبُ عَنْ جَمْعِها مِنْهُمْ عَمائِمُهُمْ ... أَيْضاً وَتُغْنِيهِمُ عَنْ دَرْسِها اللقَبُ يا شامِتينَ وَفينا مَنْ يَسُوءُهُمُ ... مُسْتَبْشِرينَ وهَذَا الدَّهْرُ مُحْتَسِبُ ليسَ الفَناءُ بِمَقْصورٍ على سَبَبٍ ... ولا البَقاءُ بِمَمْدودٍ له سَبَبُ ما ماتَ مَنْ عِزُّ دِينِ اللهِ يعْقبُهُ ... وإِنَّمَا المَيْتُ منكُمْ مَنْ لَهُ عَقِبُ وَلا يُقَوَّضُ بَيْتٌ كانَ يَعْمَدُهُ ... مِثْلُ العِمادِ وَلا أَوْدَى لَهُ طُنُبُ عَلَى العَلِيِّ جَمَالِ الدينِ بَعْدَكُما ... تَحْيَا العُلومُ بِمُحْيِي الدِّينِ والعَرَبُ ويَسْبِقُ الخَيْلَ تَالِيهَا وَإِنْ بَعُدَتْ ... وَغَايَةُ السَّبْقِ لا تَعْبَا لَهُ النُّجُبُ مِثْلَ الدَّرَاري السَّوارِي شَمْلُها أَبَداً ... نَجْمٌ يَغُورُ ويَبْقَى بَعْدَهُ شُهُبُ مِنْ مَعْشَرٍ هَجَرُوا الأَوْطانَ وَانْتَهَكوا ... حِمَى الخُطُوبِ وأَبْكارَ العُلا خَطَبُوا شُمُّ العَرَانِينِ بُلْجٌ لَوْ سَأَلْتَهُمُ ... بَذْلَ النُّفُوسِ لَمَا هابُوا بأَنْ يَهَبُوا بِيضٌ مَفَارِقُهُمْ سُودٌ عَواتِقُهُمْ ... يَمْشي مُسابِقُهُمْ مِنْ حَظِّهِ التعَبُ نورٌ إذا سُئِلوا نارٌ إذا حَمَلُوا ... سُحْبٌ إذا نَزَلوا أُسْدٌ إذا رَكِبوا الموقِدُونَ ونارُ الخَيْرِ خامِدَةٌ ... والمُقْدِمون ونارُ الحربِ تَلْتَهِبُ هذَا الفَخارُ فإنْ تَجْزَعْ فَلا حَرَجٌ ... على مُحِبٍّ وإِنْ تَصْبِرْ فَلا عَجَبُ

قال الحافظ الضياء: سمعتُ أبا إسحاقَ إبراهيمَ بنَ محمودٍ البعليَّ قال: جاء قومٌ من التجار إلى الشيخ العماد وأنا عندَه، فحدثوه أن النورَ يُرى على قبر الحافظِ عبدِ الغني كل ليلةٍ، أو كل ليلةِ جمعةٍ. قال: وسمعتُ الحافظَ أبا موسى بنَ الحافظ قال: حدثني صنيعةُ الملكِ هبةُ اللهِ بنُ علي بنِ حيدرةَ، قال: لما خرجتُ للصلاة على الحافظ؛ لَقِيَني هذا المغربي، وأشارَ إلى رجل معه، فقال لي: أين تروحُ؟ قلتُ: إلى الصلاة على الحافظ، فجاء معي وقال: أنا رجلٌ غريبٌ، ورأيتُ البارحةَ في النوم كأني في أرض، وفيها قومٌ عليهم ثيابٌ بيضٌ، وهم كثيرون، فقلت: مَنْ هؤلاء؟ فقيل لي: هؤلاء ملائكةُ السماء نزلوا لموتِ الحافظ عبد الغني، فقلتُ: وأين هو؟ فقيل لي: اقعد عندَ الجامعِ حتى يخرج صنيعةُ الملك، فامضِ معه، قال: فلقيتُه واقفاً عندَ الجامع. قال: وسمعتُ الإمامَ أبا العباسِ أحمدَ بنَ محمدِ بنِ عبدِ الغني سنة اثنتي عشرةَ وست مئة قال: رأيتُ البارحةَ الكمالَ -يعني: أخي عبد الرحيم، وكان توفي تلك السنة- في النوم، وعليه ثوب أبيضُ، فقلت له: يا فلانُ! أين أنت؟ قال: في جنة عَدْنٍ، قلت: أيما أفضلُ الحافظُ عبدُ الغني أو الشيخُ أبو عمر؟ فقال: ما ندري، وأما الحافظُ، فكل ليلةِ جمعةٍ يُنصب له كرسي تحت العرش، ويُقرأ عليه الحديثُ، ويُنثر عليه الدر والجوهر، وهذا نصيبي منه، وكان في كُمه شيء، وقد أمسك بيده على رأسها. وقد ذكروا له مناماتٍ عظيمةً وكراماتٍ جسيمةً - رحمه الله، ورضي عنه -. وقد سمع الحديث من الحافظ خلقٌ كثير، وحدَّث بأكثرِ البلاد التي دخلها؛ كبغداد، ودمشق، ومصر، ودمياط، وأصبهان، ونابلس، وبعلبك، والإسكندرية، وغيرها.

وروى عنه خلقٌ كثير، منهم ولداه: أبو الفتح، وأبو موسى، وعبد القادر الزهاوي، والإمام موفق الدين، والحافظُ الضياء، وابنُ خليل، والفقيهُ اليونيني، وأحمد بنُ عبدِ الدائم، وعثمانُ بن مكي الشارعي، وغيرهم. قال الحافظ ابن رجب في "الطبقات": وآخرُ مَنْ سمع منه: محمدُ بنُ مهلهل الحسني، وآخرُ من روى عنه: أحمدُ بنُ أبي الخير سلام الحدادُ. ومن فتاوى الحافظ عبد الغني أنه سُئل عن حديث: "مَنْ قالَ لا إلهَ إلا اللهُ دخلَ الجنةَ" (¬1) هل هو منسوخ؟ فأجاب: بل هو محكم ثابت، زِيدَ فيه وضُم إليه شروطٌ أُخَرُ، وفرائضُ فرضها الله - تعالى - على عباده، وذكر قولَ الزهري في ذلك. وسُئل عمنْ كان في زيادة من أحواله، فحصل له نقصٌ، فأجاب: أما هذا، فيريد المجيب عنه أن يكون من أرباب الأحوال وأصحاب المعاملة، وأنا أشكو إلى الله تقصيري وفُتوري عن هذا وأمثاله من أبواب الخير، وأقولُ وبالله التوفيقُ: إن من رزقه الله خيراً من عمل، أو نورَ قلب، أو حالةً مرضيةً في جوارحه وبدنه، فلْيحمدِ الله عليها، ولْيجتهدْ في تقييدِها بكمالها، وشُكرِ الله عليها، والحذرِ من زوالها بزلة أو عثرة، ومن فقدَها، فليكثرْ من الاسترجاعِ، ويفزعْ إلى الاستغفار والاستقامة، والحزنِ على ما فاته، والتضرع إلى ربه، والرغبة إليه في عودها إليه، فإن عادتْ، وإلا عاد إليه ثوابُها وفضلها - إن شاء الله -. ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (151)، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - بهذا اللفظ. وروى مسلم (26)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، عن عثمان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة".

وسُئل مرةً أخرى في معنى ذلك فأجاب: أما فقدانُ ما يجدُه من الحلاوة واللذة، فلا يكون دليلاً على عدم القبول - إن شاء الله تعالى -، فإن المبتدىء يجد ما لا يجد المنتهي، فإنه ربما ملت النفس وسئمت لتطاول الزمان وكثرة العبادة، وقد رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان ينهى عن كثرة العبادة، والإفراط فيها، ويأمر بالاقتصاد؛ خوفاً من الملل، وقد رُوي أن أهل اليمن لما قدموا المدينة، جعلوا يبكون، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: وهكذا كُنا حتى قستِ القلوبُ (¬1). وسُئل عن يزيدَ بنِ معاويةَ، فأجاب بما حاصله: من لم يحبه، لا يلزمْه ذلك؛ لأنه ليس من الصحابة الذين صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فيلتزم محبتهم إكراماً لصحبتهم، وليس ثم من أمر يمتاز به عن غيره من خلفاء التابعين؛ كعبد الملك وبنيه، قال: وإنما يمنع من التعرض للوقوع فيه؛ خوفاً [من] السبق إلى أبيه، وسداً لباب الفتنة. وقال الحافظ: رُوي عن إمامنا أحمد أنه قال: من قال: الإيمان مخلوقٌ، فهو كافر، ومن قال: قديم، فهو مبتدع. قال: وإنما كفر من قال بخلقه؛ لأن الصلاة من الإيمان، وهي تشتملُ على قراءة، وذكرِ اللهِ - عز وجل -، ومن قال بخلق ذلك، كفر، وتشتملُ على قيام وقعود، وركوع وسجود وسكوت، ومن قال بقدم ذلك، ابتدع. وسُئل عن دخول النساء الحمامَ، فأجاب: إذا كان للمرأة عذرٌ، فلها أن تدخل لأجل الضرورة، والأحاديثُ في هذا أسانيدُها متقاربة، قد جاء النهي ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (35524)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 33 - 34).

والتشديد في دخولهن، وجاءت الرخصة للنفَساء والسقيمة، والذي يصح عندي أنها إذا دخلت من عذر، فلا بأس- إن شاء الله تعالى -، وإن استغنت عن الدخول، وكان لها عنه غَنَاء، فلا تدخل، وهذا رأينا في أهلنا، ومن يأخذ بقولنا، نسأل الله التوفيق والعافية. * * * فائدة: قد روينا "العمدة" وسائرَ مصنفات الحافظ عبد الغني - رحمه الله تعالى - عن عدة من أشياخنا، منهم - بل من أجلهم -: الثلاثةُ أشياخ المعمرين: الشيخُ عبدُ القادر التغلبي الحنبلي، والشيخُ عبدُ الغني النابلسي العارفُ، والشيخُ عبدُ الرحمنِ المجلدُ الحنفي، عن شيخ الإسلام تقي الدين عبدِ الباقي البعلي مفتي السادة الحنابلة بدمشق المحروسة، وهو والدُ أبي المواهب، عن الشيخ شمسِ الدين محمدٍ الميدانيِّ، قال: أخبرنا الشيخُ شهابُ الدين أحمدُ الطيبي الكبير، أخبرنا أبو البقاء كمال الدين السيدُ ابنُ حمزة، عن أبي العباس أحمدَ بنِ عبد الهادي، أخبرنا التاجُ بنُ بردس، قال: أخبرنا عبدُ الدائم، عن الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي، بها. ولي بكتبه عدة أسانيدَ، منها العالي والنازل. وقد رويت "عمدة الأحكام" على عدة من الأعلام، فقرأتها روايةً ودرايةً بطرفيها على شيخنا القدوةِ عبدِ الرحمن المجلد الحنفي المعمَّر، وقد روى عن مشايخَ من المتقدمين، ومن أعلى أسانيدِه عن النجم الغزي، عن والدِه البدر، عن القاضي زكريا، عن الحافظ ابنِ حجرٍ العسقلاني - رحمه الله تعالى -، وأسانيدُه معلومة، وهذا أوان الشروع في المقصود.

كتاب الطهارة

[كتاب الطهارة] الحديث الثالث (¬1) وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ، وأَبي هُرَيْرَةَ، وعَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، قَالُوا: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ" (¬2). ¬

_ (¬1) سقط شرح الحديثين الأول والثاني من الأصل المخطوط في المكتبة الظاهرية. (¬2) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (161)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين، ولا يمسح على القدمين، ومسلم (241)، (1/ 214)، كتاب: الطهارة، باب: غسل الرجلين بكمالهما، وأبو داود (97)، كتاب: الطهارة، باب: في إسباغ الوضوء، والنسائي (111)، كتاب: الطهارة، باب: إيجاب غسل الرجلين، وابن ماجه (450)، كتاب: الطهارة، باب: غسل العراقيب، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. - رضي الله عنهما -. ورواه البخاري (163)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الأعقاب، ومسلم (242)، (1/ 214)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما، والنسائي (110)، كتاب: الطهارة، باب: إيجاب غسل الرجلين، والترمذي (41)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء: ويل للأعقاب من النار، وابن ماجه (453)، كتاب: الطهارة، باب: غسل العراقيب، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. ورواه مسلم (240)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما، وابن ماجه (451)، كتاب: الطهارة، باب: غسل العراقيب، من حديث عائشة - رضي الله عنها -. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 46)، و"الاستذكار" =

* عن أبي هريرةَ، وعائشةَ، وعبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ، قال: رجعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بالطريق، تعجل قومٌ عند العصر، فتوضؤوا وهم عِجالٌ، فانتهينا إليهم وأعقابُهم تلوح لم يمسَّها الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النارِ، أَسْبِغُوا الْوُضوءَ" (¬1). وفي "الصحيحين" من حديثه: تخلف عنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في سفر سافرناه، فأدركَنا وقد حضرتْ صلاةُ العصر، فجعلْنا نمسحُ على أرجلنِا، فنادى: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النارِ" (¬2). وقال البخاري: فأدركَنا وقد أرهقنا العصر، فجعلْنا نتوضأُ ونمسحُ على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: "وَيْلٌ للأَعْقابِ مِنَ النَّارِ" مرتين، أو ثلاثاً، وترجم له: (باب: غسل الرجلين، ولا يمسح على القدمين) (¬3). وخرجه في كتاب: العلم، وترجمَ عليه (باب: من رفع صوته ¬

_ = لابن عبد البر (1/ 138)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربى (1/ 57)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 33)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 495)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 127)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 15)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 56)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 9)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (1/ 236)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 265)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 7)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 207). (¬1) هذا سياق لفظ مسلم، وتقدم تخريجه قريباً. (¬2) رواه مسلم (241)، (1/ 214)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما، وانظر لفظه الآتي عند البخاري. (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري في حديث الباب.

بالعلم) (¬1)، وترجم عليه أيضاً: (باب: من أعاد الحديث ليفهم) (¬2). وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً لم يغسلْ عَقِبَه (¬3)، فقال: "ويلٌ للأعقابِ من النارِ" (¬4)، وفي لفظ: "وَيْلٌ للعَراقيبِ من النارِ" (¬5). وأخرجه البخاري عن أبي هريرة - أيضاً - بلفظ: أسبغوا الوضوءَ؛ فإن أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويلٌ للأعقابِ من النار" (¬6)، ولم يقل: رأى رجلاً لم يغسلْ عقبه، ولا ذكر العراقيب. وفي هذه الأحاديت من الوعيد الشديد ما يفيدُ وجوبَ غسل الرجلين، ويمنعُ صحة المسح حيثُ لا حائل شرعي على القدمين، ولا يمسح على النعلين. وما رُوي أن بعض الصحابة مسح عليهما، ويروى في ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود وغيره (¬7)، فمدفوع بما ذكرنا، وبما نقل الإمام ¬

_ (¬1) حديث رقم (60)، (1/ 33). (¬2) حديث رقم (96)، (1/ 48). (¬3) في المطبوع من "صحيح مسلم": "عقبيه" بصيغة المثنى، وكذا هو في "المستخرج على صحيح مسلم" لأبي نعيم (567). إلا أن البيهقي رواه في "السنن الكبرى" (1/ 69) بالإفراد. (¬4) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬5) رواه مسلم (242)، (1/ 214)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما. (¬6) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬7) رواه أبو داود (160)، كتاب: الطهارة، باب: (62)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 9)، وابن حبان في "صحيحه" (1339)، وغيرهم، عن أوس بن أبي أوس الثقفي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على نعليه وقدميه.

الطحاوي من الإجماع على عدم إجزاء المسح على الخفين إذا تخرَّقا حتى يبدو القدمان، فكذلك النعلان لا يُغيِّبان القدمين (¬1). قال الحافظ ابن حجر: وهو استدلال صحيح، لكنه منازع في نقل الإجماع المذكور، انتهى (¬2). وقد خالف في ذلك الشيعة، فجوزوا مسح القدمين. قال ابن خزيمة: لو كان المسح مؤدياً للفرض، لما تَوَعد عليه بالنار. (¬3) وقد تواترت الأخبار عن النبي المختار - صلى الله عليه وسلم - في صفة وضوئه؛ أنه غسل رجليه، كما ستقف عليه - إن شاء الله تعالى -، وهو المبيِّن لأمر الله، ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلافُ ذلك، إلا عن علي، وابنِ عباسٍ، وأنسٍ -رضي الله عنهم -، وقد ثبت عنهمُ الرجوعُ عن ذلك. فقد قال عبدُ الرحمن بنُ أبي ليلى: اجتمع أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين، رواه سعيدُ بنُ منصور (¬4). وأما احتجاجُهم بقراءة الجر في {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] عطفاً على {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، فالجوابُ عن ذلك مع ما ذكر من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفعلِه المُعين الغَسْلَ من وجوه: الأول: أنه قُرىء: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]-بالنصب- عطفاً على ¬

_ (¬1) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 97). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 268). (¬3) انظر: "صحيح ابن خزيمة" (1/ 83). (¬4) كما نسبه إليه ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 266)، والسيوطي في "الدر المنثور" (3/ 29).

{وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6]، وقيل: إنه معطوف على محل برؤوسكم؛ كقوله تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]-بالنصب-. الثاني: أن المسح في الآية محمول على مشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة الجر على مسح الخفين، وقراءة النصب على غسل الرجلين. وقد قرر ذلك أبو بكر بنُ العربي تقريراً حسناً، فقالَ ما ملخصُه: ما ظاهرهُ التعارض إن أمكنَ العملُ بكلٍّ، وجبَ، وإلا، عُملَ بالقدر الممكن، ولا يتأتى الجمعُ بين الغَسْل والمسح في عضو واحد في حالة واحدة؛ لأنه يؤدي إلى تكرار المسح؛ لأن الغَسْلَ يتضمن المسح، والأمرُ المطلَقُ لا يقتضي التكرار، فبقي أن يُعمل بهما في حالين؛ توفيقاً بين القراءتين، وعملاً بالقدر الممكن، وقيل: إنما عطفت على الرؤوس الممسوحة؛ لأنها مَظِنَّةٌ لكثرة صبِّ الماء عليها، فلمنعِ الإسراف عُطفت، وليس المرادُ أنها تُمسح حقيقة، ويدل على هذا قولُه - تعالى -: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]؛ لأن المسح رخصة، فلا يُقَيد بالغاية (¬1). الثالث: أن المسح يطلَقُ على الغَسْل الخفيف، يُقال: مسح على أطرافه؛ لمن توضأ، ذكره أبو زيدٍ اللغوي، وابن قُتيبةَ، وغيرُهما، والله أعلم (¬2). تنبيهان: الأول: روى هذا الحديثَ من الصحابة جماعةٌ منهم - غير الذين ذكرهم المصنف -رحمه الله تعالى -: جابرٌ، رواه الإمام أحمدُ، وابنُ ماجه (¬3)، ¬

_ (¬1) انظر: "أحكام القرآن " لابن العربي (2/ 74). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 154). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 316)، وابن ماجه (454)، كتاب: =

ومُعيقيبٌ، رواه الإمامُ أحمدُ أيضاً (¬1)، وخالدُ بنُ الوليدِ، ويزيدُ بنُ أبي سفيانَ، وشُرَحْبِيلُ بنُ حَسَنَةَ، وعَمْرو بنُ العاص، كلُّ هؤلاء - رضي الله عنهم - سمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رواه ابن ماجه (¬2)، وعبدُ الله بن الحارث، رواه الإمام أحمدُ، والدارقطني - كما تقدم -، والحاكم (¬3)، وعن ليث عن عبد الرحمن بن سابط، أو عن أخي أبي أمامة، قال: رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قوماً على أعقاب أحدِهم مثلُ موضعِ الدرهم، أو مثلُ موضع ظُفْرٍ لم يُصبه الماء، قال: فجعل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ويلٌ للأعقابِ منَ النار"، قال: وكان أحدُهم ينظر، فإذا رأى بعقبه موضعاً لم يُصبه الماء، أعادَ وضوءه، رواه البيهقي في "سننه" (¬4)، فالحديث متواترٌ كما أشار إليه الحافظ جلال الدين السيوطي - رحمه الله تعالى - (¬5). ¬

_ = الطهارة، باب: غسل العراقيب. (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 426)، والطبراني في "المعجم الكبير" (20/ 350). (¬2) رواه ابن ماجه (455)، كتاب: الطهارة، باب: غسل العراقيب، وابن خزيمة في "صحيحه" (665). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 191)، والدارقطني في "سننه" (1/ 95)، والحاكم في "المستدرك" (580). ورواه أيضاً: ابن خزيمة في "صحيحه" (163)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 70). (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 84)، وقال: وهذا إن صحَّ، فشيء اختاروه لأنفسهم، وقد يحتمل أن يريد به إعادة وضوء ذلك الموضع فقط. ورواه أيضاً: الطبراني في "المعجم الكبير" (8112)، والدارقطني في "سننه" (1/ 108)، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة، أو عن أخي أبي أمامة. (¬5) انظر: "الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة" للسيوطي (ص: 11)، حديث رقم (16).

الثاني: ظاهرُ صنيع المصنف - قدس الله روحه - أن الحديث مما اتفق عليه الشيخان من حديث كُل واحدٍ من عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، وعائشة الصديقة - رضي الله عنهم -، هو في جانب عبد الله بن عمرو وأبي هريرة حقٌّ، وأما حديثُ أم المؤمنين عائشةَ الصديقة، فلم يخرجه البخاري، وإنما أخرجه مسلمٌ، ولفظه: عن سالم مولى شدادٍ، قال: دخلتُ على عائشةَ زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم تُوفي سعدُ بنُ أبي وقاص، فدخلَ عبدُ الرحمن بنُ أبي بكر - رضي الله عنهما -، فتوضأ عندها، فقالت: يا عبدَ الرحمن! أسبغِ الوضوءَ؛ فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ويلٌ للأعقابِ من النارِ" (¬1). قال الحافظُ عبدُ الحق في "الجمع بينَ الصحيحين": ولم يخرجِ البخاري هذا الحديث عن عائشةَ، وأخرجه من حديثِ عبدِ الله بن عمرٍو - رضي الله عنهم - (¬2). * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬2) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق الإشبيلي (1/ 200 - 201).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عن أبي هريرةَ - رضيَ الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ في أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا في الإِنَاءِ ثَلاَثاً؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" (¬1)، وفي لفظٍ لمسلمٍ: "فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (160)، كتاب: الوضوء، باب: الاستجمار وتراً، بلفظ: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده". ورواه مسلم (278)، كتاب: الطهارة، باب: كراهة غمس المتوضىء وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، وأبو داود (103)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، والنسائي (1)، كتاب: الطهارة، باب: تأويل قوله - عز وجل -: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ....} [المائدة: 6]، والترمذي (24)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها"، وابن ماجه (393)، كتاب: الطهارة، باب: الرجل يستيقظ من منامه، هل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ بلفظ: "إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده". ورواه مسلم (237)، كتاب: الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار، وأبو داود (140)، كتاب. الطهارة، باب: في الاستنثار، والنسائي (86)، =

الماءِ" (¬1)، وفي لفظ: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ" (¬2) * * * (عن أبي هريرة) عبدِ الرحمن بنِ صَخْرٍ (- رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا) ظرفٌ لما يُستقبل من الزمان متضمنَةٌ معنى الشرط، وتختص بدخولها على الجملة الفعلية، وتدخل على الماضي كثيراً، وعلى المضارع دون ذلك، ولا تعمل الجزمَ إلا في الضرورة؛ كقول الشاعر (¬3): [من الكامل] ¬

_ = كتاب: الطهارة، باب: اتخاذ الاستنشاق، بلفظ: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر"، وهذا لفظ مسلم. وهذا يدل على أن البخاري أورد الحديثين في سياق واحد، كما سيأتي التنبيه عليه عند الشارح نقلاً عن الحافظ ابن حجر. (¬1) رواه مسلم (237)، (1/ 212)، كتاب: الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار. ورواه البخاري (2/ 683) معلقاً بصيغة الجزم، إلا أنه قال: "بمنخره". (¬2) رواه البخاري (159)، كتاب: الوضوء، باب: الاستنثار في الوضوء، ومسلم (237)، (1/ 212)، كتاب: الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار، والنسائي (88)، كتاب: الطهارة، باب: الأمر بالاستنثار، وابن ماجه (409)، كتاب: الطهارة، باب: المبالغة في الاستنشاق والاستنثار. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 152 , 148)، "عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي" لابن العربي المالكي (1/ 41)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 98)، و"المُفهم" للقرطبي (1/ 536)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 125، 178)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 16)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 262) و (4/ 160)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 14)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 47)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 169). (¬3) هو عبد قيس بن خفاف، كما في "المفضليات" للمفضل الضبي (ص: 383)، (القصيدة: 116).

اِسْتَغْنِ مَا أَغنَاك رَبُّكَ بِالْغِنَى ... وَإِذَا تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ فَتَجَمَّلِ (تَوَضأَ أَحَدُكُمْ) معشرَ المسلمين الوضوءَ الشرعي (فَلْيَجْعَلْ في أَنْفِهِ) المعلومِ، وهو المَعْطِسُ، والجمع: آنافٌ وأُنوف وأُنُفٌ (ماءً) مفعولُ يجعلْ، وهو جوهرٌ سيالٌ يتلون بلونِ إنائه، ويُجمع على: مِياه، وهمزتُه منقلبةٌ عن هاء، فأصلُه: مَوْهٌ، وجمعه في القِلة: أَمْواهٌ، وهو اسمُ جنسٍ، وإنما يُجمع لكثرة أنواعه، وسقطت لفظة "ماء" من البخاري في غير رواية أبي ذر، وكذا اختلف رواة "الموطأ" في إسقاطِها، وذكرِها، وثبتت لمسلم من رواية سفيانَ عن أبي الزناد (¬1)، (ثُم) بعدَ استنشاقه به، وهو إدخالُه في الأنف (لْيَنْتَثِرْ)، كذا لأبي ذرٍّ والأصيلي بوزن: ليفتعلْ، ولغيرهما "ثُم لِيَنْثُرْ" بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة، والروايتان لأصحاب "الموطأ" - أيضاً -. قال الفراء: يُقال: نَثَرَ الرجلُ وانْتَثَرَ واسْتَنْثَرَ: إذا حرك النَّثْرَةَ، وهي طرفُ الأنف في الطهارة (¬2)، وفيه دليلٌ لوجوب الاستنشاق، وهو مذهبُنا، خلافاً لمالكٍ والشافعي في الطهارتين، ولأبي حنيفةَ في الصغرى. قال عبدُ اللهِ بنُ الإمامِ أحمدَ - رضي الله عنهما -: قال أبي: رُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "اسْتَنْثِرُوا مَرَّتَيْنِ ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 220)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 263). وقد تقدم تخريج الرواية عند مسلم. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 263). وانظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 160)، و"غريب الحديث" للخطابي (1/ 136)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 14)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 191)، (مادة: نثر).

بالِغَتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً" (¬1)، قال أبي: أنا أذهبُ إلى هذا؛ لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). والأمرُ في قواعد المذهب إذا كان مجرداً عن قرينةٍ حقيقةٌ في الوجوبِ شرعاً، أو باقتضاءِ وضع اللغة أو الفعل. ويأتي الكلام على المضمضة والاستنشاق - إن شاء الله تعالى -. (وَمَنِ اسْتَجْمَرَ)؛ أي: استنجى بالأحجار، قاله الجوهري (¬3)، قال ابنُ الأنباري: الجِمارُ عند العرب: الحجارةُ الصغارُ، وبه سميت جِمارُ مكةَ (¬4)، ومن تراجم البخاري: بابُ: الاستنجاء بالحجارة (¬5)، أرادَ بها الرد على مَنْ زعم أن الاستنجاء مختص بالماء، والاستجمارُ الشرعي مسحُ محل البولِ والغائط بحجرٍ طاهرٍ مُباحٍ مُنْقٍ، ونص الإمامُ أحمدُ - رضي الله عنه -: لا يستجمر في غير المخرَج (¬6)، والمذهبُ: في الصفحتين والحشفة، ما لم يتعد الخارجُ موضعَ العادة، فيجبُ الماء للمتعدي فقط. (فَلْيُوتِرْ)؛ أي: يتحرى أن يكون استجمارُه وِتراً، والوَتْرُ: الفَرْدُ -بفتح الواو وكسرها- لغتانِ مشهورتان نقلهما الزجَّاجُ وغيره (¬7)، يعني: يكون ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 228)، وأبو داود (141)، كتاب: الطهارة، باب: في الاستنثار، وابن ماجه (408)، كتاب: الطهارة، باب: المبالغة في الاستنشاق والاستنثار، وغيرهم. (¬2) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية ابنه عبد الله" (ص: 24 - 25). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 617)، (مادة: جمر). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح الحنبلي (ص: 13). (¬5) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 70). (¬6) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 105). (¬7) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 278)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 146)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح =

عددُ المسحات ثلاثاً، أو خمساً، أو فوق ذلك، وحاصلُ المذهبِ أن الإنقاء وهو بالحجر: ألا يبقى أثرٌ يزيلُه غير الماء، وبالماء: عَوْدُ المحل كما كانَ، واجبٌ، واستيفاء ثلاث مسحات واجبٌ، فإن حصل بها الإنقاء، وإلا زيد حتى ينقي، فإن حصل بوتر، فلا زيادة، والأسنُّ زيادته ليقطعَه على وترٍ، والواجبُ تثليثُ المسحات, لا الحجرِ، ولا بد أن تعم كل المسحة المحل -على المعتمد-، ولم يشترط أبو حنيفة ومالكٌ التثليثَ، والحديثُ حجة لنا - كالشافعية - عليهما؛ لظاهر أمرِه - صلى الله عليه وسلم -، لكن هذا الحديث لا يدل على الإيتار بالثلاث، إلا أنه يؤخذ تعيينها من بقية الأحاديث، ففي "صحيح مسلم": عن سلمان - رضي الله عنه - قال بعض المشركين- وهم يستهزئون - لسلمانَ: إني أرى صاحبَكم يعلمكم حتى الخِراءَةَ، قال سلمانُ: أَجَلْ، أمرنا ألا نستقبل القبلة، ولا نستنجيَ بأيماننا، ولا نكتفيَ بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رَجيعٌ ولا عظمٌ، ورواه الإمام أحمد (¬1). وروى الإمام أحمدُ، والدارقطني، وغيرُهما، عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ لِحَاجَتِهِ، فَلْيَسْتَطِبْ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ، فإنها تُجْزِيهِ" (¬2). وفي "البخاري": عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: أتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الغائطَ، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدتُ حجرين، ¬

_ = (ص: 13)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 273)، (مادة: وتر). (¬1) رواه مسلم (262)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 437). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 108)، والدارقطني في "سننه" (1/ 54)، والنسائي (44)، كتاب: الطهارة، باب: الاجتزاء في الاستطابة بالحجارة دون غيرها، وغيرهم.

والتمستُ الثالثَ فلم أجدْه، فأخذتُ رَوْثَةً، فأتيتُه بها، فأخذ الحجرينِ، وألقى الروثةَ، وقال: "هذا رِكْسٌ" (¬1). وذكره الدارقطني في "سننه"، وقال فيه: وألقى الروثة، وقال: "إِنها رِجْسٌ، ائْتِني بِحَجَرٍ" (¬2). وأخرجه الإمام أحمدُ في "مسنده" عن ابنِ مسعودٍ، وفيه: وألقى الروثةَ، وقال: "إِنها رِكْسٌ ائتِني بحجرٍ" (¬3)، ورجالُه ثقاتٌ أثباتٌ. فسقط احتجاجُ الإمام الطحاوي من أئمة محدثي الحنفية باستدلاله بإلقاء الروثة على عدم اشتراط الثلاثة، قال: لأنه لو كان مشترطاً، لطلب ثالثاً (¬4). على أن في استدلاله من حيثُ هو نَظَرٌ؛ لاحتمال أن يكون اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة، ولم يجد الأمر بطلب الثالث، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث؛ لأن المقصودَ بالثلاثة أن يمسحَ بها ثلاثَ مسحات، وذلك حاصلٌ ولو بواحد، والدليل على صحته: أنه لو مسح بطرفٍ واحدٍ ورماه؛ فجاء شخصٌ آخرُ فمسح بطرفه الآخرِ، لأجزأَهما بلا خلاف (¬5). والحاصلُ: اعتبار التثليث في الاستجمار، وبه قال إمامنا الإمام أحمدُ، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (155)، كتاب: الوضوء، باب: الاستنجاء بالحجارة. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 55)، إلا أنه قال: "إنها ركس" كلفظ الإمام أحمد الآتي. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 450). (¬4) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 122)، ونصُّه: " .. لأنه لو كان لا يجزىء الاستجمار بما دون الثلاث، لما اكتفى بالحجرين". (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 257).

والإمام الشافعي، وأصحاب الحديث؛ لِما ذكرنا من الأحاديث. قال الخطابي: لو كان القصدُ الإنقاءَ فقط؛ لخلا اشتراطُ العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظاً، وعلم الإنقاء فيه معنى، دل على إيجاب الأمرين، ونظيرُه العِدةُ بالأقراءِ؛ فإن العدد يشترط ولو تحققت براءة الرحمِ بقَرْءٍ واحد (¬1). غريبة: حمل بعضُ العلماء الاستجمارَ على استعمال البَخور للتطيب؛ فإنه يقالُ فيه: تَجَمَّرَ واستجْمَرَ؛ فقد روي عن الإمام مالك، قال القاضي عياض: اختلف قولُ مالكٍ وغيرِه في معنى الاستجمار في هذا الحديث، فقيل: هذا يعني الذي فسرناه أولاً، وقيل: المرادُ به في البخور: أن يأخذَ منهُ ثلاثَ قطع، أو يأخذَ منه ثلاثَ مرات، يستعمل واحدة بعد أخرى، والأول أظهر، انتهى (¬2). (وَإِذَا اسْتَيْقَظَ): استفعل؛ من اليقظة، والاستيقاظُ هو الانتباهُ (أَحَدُكُمْ) معشرَ المكلفين (مِنْ نَوْمِهِ)، قال بعضُهم: حقيقةُ النوم: استرخاءُ البدن، وزوالُ الاستشعار، وخفاء كلام مَنْ عندَه، والنعاسُ مقدمتُه (¬3)، وهو ريح لطيفٌ يأتي من قِبَلِ الدماغ يغطي على العين، ولا تصل إلى القلب، فإذا وصلت إلى القلب، كانت نوماً، فيختص الحكمُ بالنوم دون النعاس، ولو كثيراً. ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 12 - 13)، ونص الإمام الخطابي مختلف عما أورده الشارح هنا؛ لأنه نقله من اختصار الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 257) لكلام الخطابي. (¬2) انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 30). (¬3) انظر: "روضة الطالبين" للإمام النووي (1/ 74).

(فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ) تثنية يد، وحقيقتها إلى الكوع، ويقال فيه: كاعٌ، وهو طرف الزَّنْدِ الذي يلي الإبهام، وطرفُه الذي يلي الخنصرَ كُرْسوعٌ، والذي يلي الوسطى رُسْغٌ، وإنما دخل الزندُ في الوضوء بقيدِ: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، ويكون غسل يديه (قَبْلَ أَنْ يَدْخِلَهُما) أو إحداهما (في الإِناءِ)؛ أي: الوعاءِ الذي فيه الماء إذا كان يسيراً دون القُلتين، ولا بد من تكرار غسلِهما (ثلاثاً) من المرات بنيةٍ شُرطت، وتسميةٍ وجبتْ، ثم علل - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: (فَإِن أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي)؛ أي: لا يعلم، فإن الدراية تُرادفُ العلمَ (أَيْنَ) ظرفُ مكان (باتَتْ) من البيتوتة، والمبيت إنما يكون بالليل دون النهار، فلهذا خُص الحكمُ بالنوم ليلاً (يَدُهُ) (¬1). ولأبي داود: "فَإِنَّهُ لا يَدْري أَيْنَ باتَتْ، أَوْ أَيْنَ كانَتْ تَطُوفُ يَدُهُ" (¬2)؛ أي: من جسده. قال الشافعي: كانوا يستجمرون وبلادُهم حارةٌ، فربما عرقَ أحدُهم إذا نام، فيحتمل [أن] تطوف يدُه على المحل، أو على بَثْرةٍ، أو دمِ حيوان، أو قَذَرٍ غير ذلك (¬3). وتعقبه أبو الوليد الباجي بأن ذلك يستلزمُ الأمرَ بغسل ثوبِ النائم (¬4)؛ لجواز ذلك عليه، وأجيبَ بأنه محمولٌ على ما إذا كان العرق في اليد دون المحل، وأن المستيقظَ لا يريد غمسَ ثوبه في الماء حتى يؤمرَ بغسله، ¬

_ (¬1) انظر: "النكت على عمدة الأحكام" للزركشي (ص: 11 - 12). (¬2) رواه أبو داود (105)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها. (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 411)، وكذا "شرح مسلم " له (3/ 179). (¬4) انظر: "المنتقى شرح الموطأ" لأبي الوليد الباجي (1/ 297).

بخلافِ اليد؛ فإنه يحتاج إلى غمسِها، قال الحافظُ ابن حجر: وهذا أقوى الجوابين (¬1). تنبيهات: أحدها: أخذ الإمام أحمد - رضي الله عنه - بظاهر هذا الحديث، فأوجب غسل اليدين من نوم ليل ناقض لوضوء في أصح الروايتين عنه، وأنه تعبدي؛ كغسل الميت، فتشترط النيةُ، وتجب التسميةُ في الأصح، والأصح لا يجزىء عن نيةِ غسلهما نيةُ الوضوء؛ لأنها طهارة مفردة لا من الوضوء، وقيل: معلل بوهم النجاسة؛ كجعل العلة في النوم استطلاق الوِكاءِ بالحدث، وهو مشكوكٌ فيه، وقيل: بمبيت يده ملابسة للشيطان، وكونُه تعبدياً هو المذهب. ودليل الوجوب ظاهرُ الحديث؛ لأن الأمر يقتضيه، وهو مذهب ابن عمر، وأبي هريرة - رضي الله عنهم -، وقول الحسن. وعنه: إنه مستحب لا واجب، وهو اختيار الخرقي، وقدمه في "الرعايتين" (¬2)، و"الحاوي" (¬3)، قال المجد: وهو الصحيح، واختاره الموفق والشارحُ. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 264 - 265). (¬2) كتابا "الرعاية الصغرى" و "الرعاية الكبرى" في الفقه، للفقيه الأصولي أحمد بن حمدان أبو عبد الله الحراني، المتوفى سنة (695 هـ). قال ابن رجب: "فيها نقول كثيرة جداً، لكنها غير محررة". انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 331)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 908)، و"معجم مصنفات الحنابلة" لعبد الله الطريقي (3/ 267 - 268). (¬3) كتاب "الحاوي" في الفقه لابن حمدان أيضاً، انظر: "معجم مصنفات الحنابلة" (3/ 273).

قال شيخ الإسلام ابنُ تيميةَ: اختاره الخرقي وجماعة (¬1)، وصححه في "التصحيح"، و"النظم" , و"مجمع البحرين"، واختاره ابن عبدوس (¬2)، وبه قال الجمهور, منهم: عطاء , والأوزاعي , وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وإسحاق , وابن المنذر؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]. قال زيدُ بنُ أسلمَ: تفسير هذا: إذا قمتم من النوم (¬3)، ولأن القائم من النوم داخل في عموم الآية، وقد أمره الله تعالى بالوضوء من غير غسل الكفين في أوله, والأمر يقتضي الإجزاء بفعل المأمور به، ولأنه قائم من نوم، فأشبه القائم من نوم النهار, وعليه: فالأمر في الحديث محمولٌ على تأكيد الاستحباب، كما في حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ، فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ على خَياشِيمِهِ" متفق عليه (¬4). ويدل على إرادة الاستحباب بقليله باحتمال النجاسة ووهمها، وذلك يقتضي الاحتياطَ والاحترازَ على سبيل الندب لا الوجوب؛ لما تقرر في الشرع أن طَرَيان الشك على يقين الطهارة لا يؤثر فيها، وإنما خُص بنوم الليل؛ لأنه يطول غالباً، ويتجرد له، فيكون وهمُ النجاسة فيه أظهرَ، فتأكد ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة في الفقه" لابن تيمية (1/ 175). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 130 - 131). (¬3) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (6/ 112)، والدارقطني في "سننه" (1/ 39). (¬4) رواه البخاري (3121)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، ومسلم (238)، كتاب: الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار، وهذا لفظ مسلم.

الاستحبابُ له، وأيضاً جاء في لفظٍ صحيح: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَأَرَادَ الطَّهُورَ، فَلا يَضَعَنْ يَدَهُ في الإناءِ حَتَّى يَغْسِلَها" (¬1)، وهذا يدل على أنه أرادَ به غسلَ اليد المسنونَ عندَ الوضوء؛ لأنه قيده بحالة إرادة الوضوء، وعلى القول بالوجوب هو واجبٌ بنفسه، يجوز تقدمُه على الوضوء بالزمن الطويل، ويُفرد بنية وتسمية، وهذا خلاف ظاهر النص؛ ولأن الوجوبَ لا يجوزُ أن يكون عن نجاسة؛ لطهارتهما بالإجماع، ولا عن حدث؛ لأنه لا يكفي غسلُهما في جملة الأعضاء بنية الحدث، ولا يجزيهما غسلةٌ واحدة، وكونه تعبدياً ينافيه تعليلُه في الحديث، وتعليلُ الأمر التعبدي على خلاف الظاهر، فعُلم أنه سنةٌ لا واجب، والمذهب الأَولُ. الثاني: لو غمس يَدَه المستيقظُ من نومِ ليلٍ ناقضٍ لطهارته قبل غسلِها ثلاثاً، هل يؤثر غمسُها في الماء، أو لا؟ فيه عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - روايتان: إحداهما: أنه يسلب الماءَ اليسيرَ الطهوريةَ، قدمه في "الفروع" (¬2) و"ناظم المفردات"، وهو منها. قال ابن منجا في "النهاية" (¬3): عليه أكثر الأصحاب. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 395)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضاً. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 52). (¬3) هو كتاب: "النهاية شرح الهداية لأبي الخطاب " للشيخ أبو المعالي بن المنجا بن بركات التنوخي، المتوفى سنة (606 هـ)، في بضعة عشر مجلداً، قال ابن رجب: فيها فروع ومسائل غير معروفة في المذهب، والظاهر أنه كان ينقلها من كتب غير الأصحاب، ويخرجها على ما يقتضيه عنده المذهب. انظر: "ذيل =

وقال في "مجمع البحرين": هذا المنصوص للحديث، فإنه لو لم يؤثر غمسُها في الماء، لم يكن للحديث فائدة، فأما غمسُ يدِ المستيقظ من نوم النهار، فلا يؤثر، روايةً واحدةً، وسَوَّى الحسنُ بينهما (¬1)، ولنا: أن الحديث دل على تخصيص نوم الليل بقوله: "لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"، والمبيت إنما يكون في الليل خاصة، ولا يصح قياسُ نوم النهار عليه؛ لأن الغسلَ وجبَ تعبداً، فلا تصح تعديتُه، وأيضاً الليلُ مَظِنةُ الاستغراقِ في النوم فيه، وطول مدته، فاحتمالُ ما يحدثُ لليد فيه أكثرُ من نوم النهار. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - في رواية الأثرم: الحديثُ في المبيت بالليل، فأما النهار، فلا بأسَ (¬2). الثالث: يتفرع على رواية وجوب غسل اليدين، وأن غمسها في الماء اليسير يؤثر فيه، مسائل: منها: لا بد -على المذهب المعتمد- من غمس كل اليد، ولو بلا نية، أو بعضِها بنية. ومنها: غمسُها بعد غسلها دون الثلاث؛ كغمسها قبل غسلها؛ لبقاء النهي على الأصح. ومنها: لا فرق بين أن يكون النائم مطلقَ اليد، أو مشدودَها، أو في جراب، أو بات مكتوفاً؛ لعموم الأخبار، ولأن الحكم إذا تعلق بالمظنة تسقط حكم الحكمة؛ كالعدة الواجبة لاستبراء الرحم في حق الصغيرة، والآيسة. ¬

_ = طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 49)، و"معجم مصنفات الحنابلة" لعبد الله الطريقي (3/ 12). (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 22). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 71).

ومنها: الحكم يخص اليدَ دون بقية الأعضاء من رِجْل وفم. ومنها: لا أثر لغمسِها في مائعٍ طاهر في الأصح، كما في "الفروع" (¬1) وغيره. الرابع: اتفق الأربعةُ على أنه لو غمس يده، لم ينجس الماءُ. وقال إسحاقُ بنُ راهويه، وداودُ الظاهري، والطبري: ينجُس الماء، واستدل لهم بما ورد من الأمر بإراقته، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن عدي (¬2)، وهو رواية عندنا. الخامس: ظاهرُ صنيع المصنف - رحمه الله تعالى - أن لفظة "ثلاثاً" من متفق الشيخين، وليس كذلك، بل هي مما انفرد به مسلم عن البخاري. قال الحافظ عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين": "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلا يَغْمِسْ يَدَهُ في الإناءِ حَتى يَغْسِلَهَا ثَلاثاً؛ فإنهُ لا يَدْري أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"، وفي لفظٍ. "فَلْيُفْرِغْ عَلَى يَدِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ في إِنائِهِ؛ فَإِنهُ لا يَدْرِي فِيمَ باتَتْ يَدُهُ" (¬3)، لم يقل البخاري: ثَلاثاً، وقالَ: "قبلَ أن يُدْخِلَها في وَضوئِهِ"، وفي بعض طرقه: "في الإناء" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 53). (¬2) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 374)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: "إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، ثم ليتوضأ، فإن غمس يده في الإناء من قبل أن يغسلها، فليهرق ذلك الماء". قال ابن عدي: وقوله في هذا المتن: "فليهرق ذلك الماء" منكر لا يحفظ. (¬3) وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها في حديث الباب. (¬4) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 221)، حديث رقم (379).

وفي "شرح الوجيز" (¬1) لم يذكر البخاري ثلاثاً (¬2)، والله أعلم. وقال الحافظ - قدس الله رُوحَه -: (و) روي (في لفظٍ) (لـ) ــلإمام (مسلم) في "صحيحه": (إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَنْشِقْ)؛ أي: يجذب الماء، (بِمَنْخِرَيْهِ) تثنيةُ مَنْخِر: ثَقْب الأنفِ، كما في "الصحاح"، وقد تكسر ميمه إِتباعَاً لكسرة الخاء، والمنخورُ لغةٌ فيه (¬3). قال في "المصباح": المَنْخِر- وزان: مسجدٍ -: خَرْقُ الأَنْفِ، وأصلُه: موضعُ التنخيرِ، وهو الصوتُ من الأنف، يُقال: نَخَرَ يَنْخُر؛ من باب قتل يقتُل: إذا مدَّ النفَس من الخياشيم، وكسرُ الميم للإتباع لغةٌ، ومثله: مِنْتِن، قالوا: ولا ثالثَ لهما (¬4). وفي "القاموس": المنخر -بفتح الميم والخاء، وبكسرهما وضمهما، وكمجلس، ومُلْمول -: الأنفُ. ونخرة الأنف: مقدمته، أو خرقه، أو ما بين المنخرين، أو أرنبته (¬5). (مِنَ الماءِ) متعلق بيستنشق؛ أي: يجذب الماء بالنفَسِ إلى أقصى الأنف، ولا يجعلهُ سُعوطاً. (وفي لفظ) له: (مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ) بدل ¬

_ (¬1) هو كتاب: "فتح الملك العزيز بشرح الوجيز" لأبي الحسن علي بن محمد الهيتي البغدادي، المعروف بالعلاء ابن البهاء، المتوفى سنة (900 هـ)، انظر: "الجوهر المنضد" لابن عبد الهادي (ص: 104)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 751)، و"معجم مصنفات الحنابلة" لعبد الله الطريقى (5/ 24). (¬2) وقال الزركشي في "المعتبر" (ص: 135): لفظة: "ثلاثاً" لم يروها البخاري، ومن ذكرها في المتفق عليه؛ كصاحب "العمدة"، فقد وهم. (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 824 - 825)، (مادة: نخر). (¬4) انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 596). (¬5) انظر: " القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 618)، (مادة: نخر).

فليستنشقْ، من الاستنثارِ: وهو إخراجُ الماء من الأنف بالنفَس بعد استنشاقه، وهو جذبُه الماء بنَفَسه، فللداخلِ استنشاقٌ، وللخارج استنثارٌ. تنبيه: ظاهر صَنيعِ الحافظ - رحمه الله - أن هذا السياق حديثٌ واحد، وهو ظاهرُ صنيع البخاري، وليس كذلك في "الموطأ"، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرَج من الموطأ" رواية عبدِ الله بنِ يوسفَ شيخِ البخاري مفرقاً، وكذا أخرجَ مسلمٌ الحديث الأولَ من طريق ابن عُيينةَ عن أبي الزناد، والثاني من طريق المغيرة بنِ عبدِ الرحمن عن أبي الزناد. وكأنَّ الإمام البخاري يرى جواز جمعِ الحديثين إذا اتحد سندُهما في سياق واحد، كما يرى جواز تفريق الحديث الواحد إذا اشتمل على حكمين مستقلين، والله أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) من كلام الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 263).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ" (¬1)، ولمسلمٍ: "لا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ في المَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (236)، كتاب: الوضوء، باب: البول في الماء الدائم، واللفظ له، ومسلم (282)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، وأبو داود (69)، كتاب: الطهارة، باب: البول في الماء الراكد، والنسائي (400)، كتاب: الطهارة، باب: ذكر نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم، والترمذي (68)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في كراهية البول في الماء الراكد، إلا أنه قال: "ثم يتوضأ منه". (¬2) رواه مسلم (283)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاغتسال في الماء الراكد، وأبو داود (70)، كتاب: البول في الماء الراكد، والنسائي (220)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم، وابن ماجه (605)، كتاب: الطهارة، باب: الجنب ينغمس في الماء الدائم، أيجزئه؟ * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 38)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 105)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 541)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 187)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 347)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 19)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 27).

(عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يَبُولَنَّ) نهيٌ مؤكَّد بالنون الثقيلة، والبولُ معروفٌ، يقال: بال الإنسان والدابة يبول بَوْلاً ومَبالاً، فهو بائل، والجمعُ أبوال. (أَحَدُكُمْ) معشرَ الأمة من كل مكلف، ويتناولُ وليَّ الصغير؛ لتأثيرِ بولهِ في الماء اليسير بإتلافه، (في الماءِ الدائِمِ)؛ أي: الساكن، (الذِي لا يَجْرِي) قيلَ: إنه تفسيرٌ للدائم، وإيضاحٌ لمعناه، وقيل: احترزَ به عن راكدٍ يجري بعضُه؛ كالبِرَكِ، وقيلَ: احترزَ به من الدائم؛ لأنه جارٍ من حيثُ الصورةُ، ساكنٌ من حيثُ المعنى، ولهذا لم يذكر القيدَ في رواية: "الراكد" (¬1) بدلَ الدائمِ. قال ابن الأنباري: الدائمُ منَ الأضداد، يقال للساكن والدائر (¬2)، فعلى هذا قوله: "لا يجري" صفة مخصِّصَةٌ لأحد معنيي المشترك، وقيل: الدائم والراكد مقابلان للجاري، لكن الدائمَ هو الذي له نبعٌ، والراكد الذي لا نبعَ له. (ثُم يَغْتَسِلُ) بضم اللام على المشهور، وقال ابن مالك: يجوزُ الجزمُ عطفاً على "يبولَن"؛ لأنه مجزومُ الموضع بلا الناهية، ولكنه بُني على الفتح لتوكيده بالنون (¬3)، ومنع ذلك القرطبي؛ لأنه لو أراد ذلك، لقال: ثم لا يغتسلَنَّ، فحينئذٍ يتساوى الأمران في النهي عنهما؛ لأن المحل الذي ¬

_ (¬1) رواه مسلم (281)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، عن جابر - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "الأضداد" لابن الأنباري (ص: 83). (¬3) انظر: "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" لابن مالك (ص: 220).

تواردا عليه شيءٌ واحد، وهو الماء. قال: فعدولُه عن ذلك يدل على أنه لم يردِ العطفَ، بل نبه على مآلِ الحال، والمعنى: أنه إذا بال فيه، قد يحتاجُ إليه، فيمتنعُ انتفاعُه منه (¬1). ومثله قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَضْرِبَنَّ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الأَمَةِ، ثُم يُضاجِعُها" (¬2)، فتمتنع؛ لإساءته عليها، فلا يحصل له مقصودُه، وتقديرُ اللفظ: ثم هو يضاجعُها. وفي الحديث يكون المعنى: ثم هو يغتسلُ منه؛ أي من ذلك الماء الدائم الذي بال فيه. قال الحافظُ ابنُ رجبٍ - في بعض تعاليقه - في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَجْلِدْ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، ثُم يُضَاجِعُها مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ" (¬3) يضاجعُها هو بالرفع، ومعناه التعليل؛ للنهي عن الضرب المبرح، وتقديره: وهو يضاجعُها، كأنه يقول: كيف يجلدُها وهو بصددِ أن يجامعَها في آخر الليل، فربما تعذر عليه ذلك لما أساء من عشرتها، قال: ولا تجوز فيه الرواية بالسكون عطفاً على النهي. ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم " للقرطبي (1/ 541 - 542). (¬2) رواه البخاري (4658)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، ومسلم (2855)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء، عن عبد الله بن زمعة - رضي الله عنه - بلفظ: "إلام يجلد أحدكم امرأته جلد الأمة؟ ولعله يضاجعها من آخر يومه"، وهذا سياق مسلم. ورواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 17) عن عبد الله بن زمعة - رضي الله عنه - أيضاً بلفظ: "علام يضرب أحدكم امرأته ضرب العبد؟ ثم يضاجعها من آخر الليل". (¬3) انظر: تخريج الحديث المتقدم.

قال القرطبي في "شرح مسلم": [لم] يروه أحدٌ بالسكون، ولا يتخيله أحد (¬1)، يشير إلى أنه لا يصح في المعنى، قال الحافظ ابن رجب: بخلاف قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدائِمِ، ثُم يَغْتَسِلْ منهُ"؛ فإنه قد روي بالجزم عطفاً على يبولَنَّ، قال: والفرقُ بينهما أن النهي عن الاغتسال بعد البول مناسبٌ لما فيه من فساد الماء ونجاسته به، أو خشيةَ حصول الوسواس إذا اغتسل عقب البول، فربما أصابه من أجزاء البول قبلَ استهلاكه، وهذا المعنى منعكس في المجامعة بعد الضرب؛ لأنه قد يحصل به حينئذ تَلافي الضرب، وهو من باب إحسان العشرة بعدَ الإساءة، والحسنة تمحو السيئةَ. (ولمسلم) - رضي الله عنه - من حديث جابرِ بنِ عبدِ الله -رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن يُبالَ في الماء الراكد (¬2)، وفي رواية لمسلم أيضاً من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (لا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدائِمِ وهُوَ جُنُبٌ)، فقيلَ: كيف نفعلُ يا أبا هريرة؟ قال: يتناولُه تناولاً (¬3)، فدل على أن المنع من الانغماس فيه لئلا يُصَيِّرَهُ مستعمَلاً، فيمتنعُ على الغير الانتفاعُ به، والصحابي أعلمُ بمورد الخطاب من غيره، وهذا من أقوى الأدلة على أن الماء المستعملَ غيرُ طَهورٍ. وروى أبو داود النهيَ عنهما في حديث واحد؛ ولفظُه: "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدائِمِ، وَلا يَغْتَسِلْ فيهِ مِنَ الجَنابَةِ" (¬4). واستدل بعض الحنفية على تنجيس الماء المستعمَل؛ لأن البولَ ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 542). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه، وهذا لفظ أبي داود.

ينجسه، فكذلك الاغتسالُ، وقد نهى عنهما معاً، وهو للتحريم، فيدل على النجاسة فيهما، ورد بأنها دلالة اقترانٍ، وهي ضعيفةٌ، وعلى تقدير تسليمها، فلا يلزمُ التسويةُ، فيكون النهيُ عن البول لئلا ينجسه، وعن الاغتسالِ فيه لئلا يسلبه الطهوريةَ. تنبيهات: الأول: ظاهرُ الحديث أن غيرَ بولِ الآدمي لا يساويه في الحكم، وهو قولٌ في المذهب، بل هي أشهرُ الروايتين عن الإمام أحمد - رضي الله عنه -، نقلاً من أن بولَ الآدمي وعَذِرَتَهُ ينجسُ الماءَ الكثير كالقليل، ولا فرقَ بين كونِه يتغير به أو لا. قال القاضي: اختارَها الخرقي وشيوخُ أصحابنا (¬1). قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: اختارها أكثرُ المتقدمين (¬2). قال الزركشي: وأكثرُ المتوسطين؛ كالقاضي، والشريف، وابن البنا، وابن عبدوس، وغيرهم (¬3)؛ لظاهر هذا الحديث، ونحوه من الأحاديث الصحيحة، اللهم إلا أن يكون الماءُ الذي وقع فيه بولُ الآدمي أو عَذِرَتُه مما يشق نزحُه مثلَ مصانعِ طرقِ مكة، والأوديةِ المتعذرِ نزحُها، فلا تنجسُ، قولاً واحداً، والمعتمَدُ في المذهب أن حكم البول والعذرة حكم غيرهما، اختار هذه الرواية الإمامُ ابنُ عقيلٍ، وأبو الخطابِ، والموفقُ، والمجدُ. قال شيخُ الإسلام: اختارها أكثرُ المتأخرين (¬4)، وهي مذهب إسحاق، ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 58)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 60). (¬2) انظر: "شرح العمدة" لابن تيمية (1/ 65). (¬3) انظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي" (1/ 133). (¬4) انظر: "شرح العمدة" لابن تيمية (1/ 65).

وأبي عبيد، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأكثرِ أهل العلم، قال صاحبُ "المحرر" (¬1): وهي الصحيحةُ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَيْنِ، لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ" (¬2)، وخبر بئر بضاعة (¬3) يلقى فيه عذر الناس (¬4)، ولأن نجاسة بول الآدميين لا تزيدُ على نجاسة بول الكلب والخنزير، وهو لا ينجس القلتين، فبولُ الآدمي أولى، وحديث أبي هريرة محمولٌ على ما دون القلتين؛ بدليلِ أنه عطف عليه الغُسْلَ من الجنابة في رواية الإمام أحمد، ومسلم، وأبي داود (¬5)، وقد أجمعنا على جواز الاغتسال بالكثير، ¬

_ (¬1) انظر: "النكت والفوائد السنيَّة على مشكل المحرر" لابن مفلح (1/ 3). (¬2) رواه ابن ماجه (517)، كتاب: الطهارة، باب: مقدار الماء الذي لا ينجس، والإمام أحمد في "المسند" (26/ 2)، وابن حبان في "صحيحه" (1249)، والدارقطني في "سننه" (1/ 13)، والحاكم في "المستدرك" (458)، وغيرهم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بهذا اللفظ. (¬3) جاء في هامش الأصل: قوله: بئر بضاعة، قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيّم بئر بضاعة عن عمقها، فقلت: أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة، قلت، فإذا نقص؟ قال: دون العورة. قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة برداء مددته ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه، هل غُيِّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال: لا، ورأيت فيها ماء متغير اللون. (¬4) رواه أبو داود (66)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في بئر بضاعة، والنسائي (326)، كتاب: المياه، باب: ذكر بئر بضاعة، والترمذي (66)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، وقال: حسن، وابن ماجه (519)، كتاب: الطهارة، باب: الحياض، وغيرهم، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 433). وتقدم تخريجه عند مسلم وأبي داود في حديث الباب.

وارتفاع الحدث به، فكذلك في المعطوف عليه، مع أنه لا بد من تخصيص حديث أبي هريرة بدليل ما لا يمكن نزحُه، وما لا تبلغ إليه حركة النجاسة فهو متروك العموم بالإجماع، وإذا لم يكن بد من تخصيصه وتقييد عمومه، فبالقلتين المنصوص عليهما أولى مما لم يرد به نص ولا إجماع، ولأنه لو تساوى الحديثان، لوجب العدولُ إلى القياس على سائر المائعات، والله الموفق. الثاني: النهي ضد الأمرِ، وصيغة (لا) حقيقة في دلالتها على التحريم؛ نحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130]، {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، ولا تصرف عن حقيقتها إلا بقرينة، وحمله الإمام مالك على الكراهة؛ ليصح حكمُ الحديث في القليل والكثير غير المستثنى بالاتفاق وهو المستبحر، مع حصول الإجماع على تحريم الاغتسال بعد تغير الماء بالبول، فهذا لا يلتفت على حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين، وهي مسألة أصولية، وقد يقال على هذا: إن حالة التغير مأخوذة من غير هذا اللفظ، فلا يلزم استعمالُ اللفظ الواحد في معنيين، وهذا متجه، إلا أنه يلزم منه التحريم في هذا الحديث، فإن جعلنا النهي التحريم، كان استعماله في الكراهة والتحريم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والأكثرون على منعه، قاله ابن دقيق العيد (¬1). الثالث: لا خصوصيةَ للنهي عن الغسل من الماء الدائم الذي بال فيه، بل الوضوء في معناه، وقد ورد مصرَّحاً به في رواية من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: "لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ" ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 23).

رواه الترمذي (¬1)، ولو لم يرد، لكان معلوماً قطعاً؛ لاستواء الطهارتين في الحكم لفهم المعنى، إذ القصدُ التنزُّهُ عن التقرب إلى الله - تعالى - بالمستقذَرات. الرابع: ورد في رواية البخاري: "ثُم يَغْتَسِلُ فيهِ"، وفي رواية مسلم: "ثُم يَغْتَسِلُ مِنْهُ"، قال ابن دقيق العيد: معناه مختلفٌ، يفيد كل واحد حكماً بطريق النص، وآخرَ بطريق الاستنباط، ولو لم يرد، لاستويا (¬2). قال الحافظُ ابنُ حجرٍ: وجهُه أن الروايةَ بلفظ "فيه" تدل على منع الانغماس بالنص، وعلى منع التناوُلِ بالاستنباطِ، والروايةُ بلفظِ "منه" بعكس ذلك، وكله مبني على أن الماء ينجُس بملاقاة النجاسة، والله أعلم (¬3). الخامس: قالَ ابنُ دقيقِ العيد: مما يُعْلَمُ بطلانُه قطعاً ما ذهبَ إليه الظاهريةُ الجامدةُ من أن الحكمَ مخصوصٌ بالبولِ في الماء، حتى لو بالَ في كوزٍ وصبه في الماءِ لم يضر عندَهم، وكذا لو بال خارجَ الماءِ فجرى البولُ إلى الماء، والعلمُ القطعي حاصلٌ ببطلان قولِهم؛ لاستواء الأمرين في الحصول في الماء، وأن المقصودَ اجتنابُ ما وقعت فيه النجاسةُ من الماء، وليس هذا من محال الظنون، بل هو مقطوع به، انتهى (¬4). * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 24). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 348). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 24).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً" (¬1)، ولِمُسْلِمٍ: "أُولاهُنَّ بالتُّرَابِ" (¬2). وله في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في الإِنَاءِ، فَاغْسِلُوهُ سَبْعاً، وعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بالتُّرَابِ" (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (170)، كتاب: الوضوء، باب: الماء يغسل به شعر الإنسان، ومسلم (279)، (1/ 234)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، والنسائي (63)، كتاب: الطهارة، باب: سؤر الكلب، وابن ماجه (364)، كتاب: الطهارة، باب: غسل الإناء من ولوغ الكلب، وهذا لفظ البخاري. (¬2) رواه مسلم (279)، (1/ 234)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، وأبو داود (71)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بسؤر الكلب، والنسائي (338)، كتاب: المياه، باب: تعفير الإناء بالتراب من ولوغ الكلب فيه، والترمذي (91)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في سؤر الكلب، إلا أنه قال: "أولاهن أو أخراهن". (¬3) رواه مسلم (280)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، وأبو داود (74)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بسؤر الكلب، والنسائي (67)، كتاب: الطهارة، باب تعفير الإناء الذي ولغ فيه الكلب بالتراب، وابن ماجه (365)، كتاب: الطهارة، باب: غسل الإناء من ولوغ الكلب. =

(عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إِذَا شَرِبَ) كذا هو في "الموطأ" (¬1)، وتبعه البخاري، وقد ذكره مسلمٌ - أيضاً -، في لفظ: "إِذَا شَرِبَ" (¬2)، والمشهورُ عن أبي هريرة من رواية جمهورِ أصحابه عنه: "إِذَا وَلَغَ"، وهو المعروفُ في اللغة، يقال: ولَغ يلَغ - بالفتح فيهما -: إذا شربَ بطرفِ لسانه، أو أدخلَ لسانَه فيه فحرَّكه، وقال ثعلب: هو أن يُدخلَ لسانَه في الماء وغيرِه من كل مائعٍ فيحرِّكَهُ، زادَ ابنُ درستويه: شربَ أو لم يشربْ، وقال مكي: إذا كانَ غير مائع، يقالُ: لعقه، قال المُطَرَّزِي: فإن كان فارغاً، يقال: لَحَسَهُ (¬3). وادعى ابنُ عبد البر أن لفظ "شرب" لم يروه إلا مالكٌ، وأن غيره رووه بلفظ: "وَلَغَ" (¬4). قال الحافظ ابن حجر: وليس كذلك، فقد رواه ابنُ خُزيمةَ وابنُ المنذر ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 39)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 206)، و"عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي" لابن العربي المالكي (1/ 133)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 101)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 538)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 182)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 26)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 274)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 38)، و"فيض القدير" للمناوي (4/ 272)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 22)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 41). (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 34). (¬2) وقد روياه من طريق الإمام مالك في "صحيحيهما" كما تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1329)، و"لسان العرب"، لابن منظور (8/ 460)، (مادة: ولغ)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 225)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 274). (¬4) انظر: "التمهيد" (18/ 264)، و"الاستذكار" كلاهما لابن عبد البر (1/ 205).

من طريقين عن هشامِ بنِ حسان بلفظِ: "إذا ولغ" (¬1)، كذا أخرجه مسلم وغيره من طرقٍ عنه، ورواه عن أبي الزناد شيخ مالكٍ بلفظِ: "إذا شرب"، ورواه ابن عمر، أخرجه الجوزقي (¬2)، وكأن أبا الزناد حدث باللفظين؛ لتقاربهما في المعنى، لكن الشرب أخص من الولوغ، فلا يقوم مقامه. ومفهوم الشرط في قوله: "إذا ولغ" يقتضي قصرَ الحكم على ذلك، نعم إذا قلنا: إن الأمر بالغسل للتنجيس يتعدى الحكم إلى ما إذا لحس أو لعق مثلاً، ويكون ذكر الولوغ للغالب، ويلحق في الحكم بقية أعضائه؛ لأن فمه أشرفُها، فالباقي من باب أولى على الصحيح، وللخصم أن ينفصل عن هذا بأن فمه محل استعمال النجاسة (¬3). (الكَلْبُ): فاعل "شرب"، وهو الحيوان المعروف، شديدُ الرياضة، كثير الوفاء، وهو لا سَبُعٌ ولا بهيمةٌ، حتى كأنه من الخلق المركب؛ لأنه لو تم له طباع السبعية، ما ألف الناس، ولو تم له طباع البهيمية، ما أكل لحم الحيوان، لكن في الحديث إطلاق البهيمية عليه في قول الصحابة - رضي الله عنهم -: يا رسول الله! إن لنا في البهائم أجراً؟ قال: "نَعَمْ، فِي كُلِّ كَبدٍ حَرَّى رَطْبَةٍ أَجْرٌ"، من حديث المرأة التي سقت الكلب، رواه البخاري ومسلم (¬4). ¬

_ (¬1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (95)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 304). (¬2) انظر: "نصب الراية" للزيلعي (1/ 132)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 23). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 274 - 275). (¬4) رواه البخاري (2234)، كتاب: المساقاة، باب: فضل سقي الماء، ومسلم (2244)، كتاب: السلام، باب: فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: "في كل كبد رطبة أجر"، لكن من حديث =

وفي بعض طرق البخاري: "في كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ" (¬1). ولا فرق في الحكم بين كون الكلب أهلياً أو سلوقياً- نسبة إلى سلوق مدينة باليمن، تنسب إليها الكلاب السلوقية -، وكلاهما في الطبع سواء، وفي طبعه احتلام، وتحيض إناثه. (في إناءِ)؛ أي: وعاء (أَحَدِكمْ) معشرَ الأمة، ظاهره العموم في كل آنية، ومفهومه يخرج الماء المستنقع مثلاً، وبه قال الأوزاعي مطلقاً، لكن إذا قلنا بأن الغسل للتنجيس كما هو المشهور، يجري الحكم في القليل من الماء دون الكثير، ويلغي اعتبار الإضافة التي في "إناء أحدكم"؛ لعدم توقف الطهارة على ملكه. يؤيد المشهور ما في الرواية الصحيحة عند مسلم وغيره: "طَهُورُ إِناءِ أَحَدِكُمْ" (¬2) (فَلْيَغْسِلْهُ)؛ أي: الإناءَ، وهو متروك اعتبار الظاهر؛ لعدم توقف طهارته على أن يكون هو الغاسل، زاد مسلم والنسائي من طريق علي بن مُسْهر، عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة في هذا الحديث: "فَلْيُرِقْهُ" (¬3)، وهو يقوي القول: بأن الغسل للتنجيس؛ إذ المُراقُ أعمُّ من أن يكون ماء أو طعاماً، فلو كان طاهراً، لم يؤمر بإراقته؛ للنهي عن إضاعة المال، لكن قال. النسائي: لا أعلم أحداً تابع عليَّ بنَ مُسْهر على زيادة: "فليرقه" (¬4)، وقال ¬

_ = الرجل الذي سقى كلباً؛ وليس عندهما قوله: "حرّى"، وقد رواه القضاعي في "مسند الشهاب" (112)، عن سراقة بن جعشم - رضي الله عنه - بلفظ: "في كل كبد رطبة أجر"، ولم أره بهذا اللفظ عند غيره، والله أعلم. (¬1) رواه البخاري (2334)، كتاب: المظالم، باب: الآبار على الطرق إذا لم يتأذ بها. (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬3) تقدم تخريجه عندهما. (¬4) انظر: "سنن النسائي" (1/ 53).

حمزة الكناني: إنها غير محفوظة، وقال ابن عبد البر: لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش؛ كأبي معاوية وشعبة (¬1)، وقال ابن منده: لا تُعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه إلا عن علي بن مسهر بهذا الإسناد. قال الحافظ ابن حجر: ورد الأمر بالإراقة أيضاً من طريق عطاء، عن أبي هريرة مرفوعاً، أخرجه ابن عدي (¬2)، لكن في رفعه نظر، والصحيح أنه موقوف. وكذا ذكر الإراقةَ حمادُ بنُ زيد، عن أيوبَ، عن ابن سيرينَ، عن أبي هريرة موقوفاً، وإسناده صحيح، أخرجه الدارقطني (¬3)، وغيره، انتهى (¬4). قال الحافظ ابنُ عبدِ الهادي في كتابه "تنقيح التحقيق على أحاديث التعليق": روى الدارقطنيُّ من طريق عليِّ بنِ مُسْهِرٍ، عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة مرفوعاً، "إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ في إناءِ أحدِكُمْ، فَلْيُهْرِقْهُ ولْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ" (¬5). وظاهر قوله: "فليغسله" يقتضي الفورَ، لكن حمل الجمهور الفورية على الاستحباب، إلا لمن أراد أن يستعمل ذلك الإناء (¬6) (سبعاً)؛ أي: سبع مرات، ولم يقع في رواية مالك التتريب، ولا ثبت في شيء من الروايات ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 273). (¬2) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 366)، ووقع في المطبوع: عن عطاء، عن الزهري، قال، فذكره. (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 64)، وقال: صحيح موقوف. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 275). (¬5) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي الحنبلي (1/ 52 - 53). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 275).

عن أبي هريرة، إلا عن ابن سيرين، على أن بعض أصحابه لم يذكره، وروي أيضاً عن الحسن، وأبي رافع عند الدارقطني (¬1)، وعبد الرحمن والد السُّدّي عند البزار (¬2)، واختلف الرواة عن ابن سيرين في محل غسلة التتريب، فـ (لمسلم) وغيره من طريق هشامِ بنِ حسانَ، عنه: (أولاهن)؛ أي: الغسلات، تكون (بالتراب)، وهي رواية الأكثر عن ابن سيرين، وقال سعيد بن بشير عنه: "أولاهن" أيضاً، أخرجه الدارقطني (¬3)، وقال أبان عن قتادة: "السابعة" أخرجه أبو داود (¬4)، والشافعي عن سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين: "أُولاهُنَّ أو أُخراهُنَّ" (¬5)، وفي رواية السدي "إحداهُنَّ" (¬6)، وكذا في رواية هشامِ بنِ عروةَ، عن أبي الزناد، (وله)؛ أي: لمسلمٍ (في حديث عبد الله بن مُغَفّل) - رضي الله عنه - بضم الميم، وفتح الغين المعجمة، وتشديد الفاء فلام - ابن عبد غنم بن عفيف المزني، من ولد طابخة بن إلياس بن مضر، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في إلياس بن مضر، يكنى: أبا سعيد، وقيل: أبا عبد الرحمن، أحد البكائين الذين نزل فيهم: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] الآية، وذكر ابن ماكولا أن لأبيه مغفّل صحبة أيضاً، وكذلك ابن عبد البر في "الاستيعاب"، ولكنه مات عام الفتح بطريق مكة قبل أن يدخلها، ولهم أخ آخر من الصحابة ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الدارقطني" (1/ 64 - 65). (¬2) انظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (1/ 287). (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 64)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 241). (¬4) رواه أبو داود (73)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بسؤر الكلب. (¬5) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 8)، وفي "الأم" (1/ 6). (¬6) عند البزار، والمتقدم ذكرها قريباً.

يسمّى: عبد الله بن مغفل بن عبد نُهْم -بضم النون وسكون الهاء فميم- خزاعي، وعبد الله صاحب الترجمة - رضي الله عنه - نزل البصرة، يروي عنه الحسن البصري كثيراً. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بهذا الحديث. توفي - رضي الله عنه - بالبصرة بآخر خلافة معاوية سنة ستين، وقيل: سنة تسع وخمسين، وصلّى عليه أبو برزة الأسلمي بوصية منه، وهو أحد العشرة الذين أرسلهم عمر - رضي الله عنه وعنهم - على البصرة يفقهون الناس (¬1). قال - رضي الله عنه -: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا وَلَغَ الكلبُ) الألف واللام فيه للجنس؛ أي: أيّ كلب ولغ (في الإناءِ)؛ أي: في أي إناء، أو للعهد، (فاغسِلُوهُ)؛ أي: الإناءَ الذي ولغ فيه الكلب (سَبْعاً) من المرات، نعم كل غسلة ما باشره الكلب، والمائع حيث كان دون القلتين، (وَعَفِّروهُ)؛ أي: الإناءَ (الثامنةَ)؛ أي: في الغسلة الثامنة؛ (بالترابِ) الطَّهورِ على المعتمد من المذهب. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 23)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 996)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 680)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 395)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 271)، و"الإكمال" لابن ماكولا (7/ 203)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 483)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 173)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 242)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (6/ 38)، و"التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة" للسخاوي (2/ 95).

وروى حديث عبد الله بن مغفل أيضاً: الإمام أحمد (¬1)، وغيره، وطريق الجمع بين هذه الروايات أن يقال: "إحداهن" مبهمة، و"أولاهن" معينة، ولفظة "أو" وإن كانت في نفس الخبر، فهي للتخيير، فمقتضى حمل المطلق على المقيد: أن يُحمل على إحداهما؛ لأنَّ فيه زيادة على الرواية المعينة، وهو الذي صرح به علماؤنا (¬2). قال في "شرح الوجيز": وله استعمالُ الترابِ في أي غسلة شاء، إذا أتى عليه من الماء ما يزيلُه ليحصل المقصودُ منه. وفي "الفروع": وتُغسلُ نجاسةُ كلب، نص عليه؛ وفاقاً للشافعي، وقيل: ولوغه؛ وفاقاً لمالك، تعبداً سبعاً؛ وفاقاً لمالك والشافعي، بتراب في أي غسلةٍ شاء، وهل الأولة أولى أو الأخيرة أو سواء؟ فيه روايات (¬3). قلت: الذي استقر عليه المذهب كونُ التراب في الأولى أولى؛ ليأتي الماء من بقية الغسلات عليه، فينظف المحل منه بإزالة أثره عنه، ونص الشافعي في "الأم" على التخيير، وكذا "البويطي"، وصرح به المرعشي وغيرُه من الشافعية، وذكره ابنُ دقيقِ العيدِ والسبْكِي بحثاً، وهو منصوصٌ، نبه عليه الحافظُ ابنُ حجرٍ في "شرح البخاري" (¬4)، وإن كانت لفظة "أو" شكاً من الراوي؛ فروايةُ مَنْ عَيَّنَ ولم يشكَّ أولى من رواية من أَبْهَمَ أو شَك، فيبقى النظرُ في الترجيح بين روايةِ "أولاهن"، ورواية "السابعة"، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 56). وتقدم تخريجه عند الأربعة إلا الترمذي، وذلك في حديث الباب. (¬2) انظر: "القواعد والفوائد الأصولية " لابن اللحام (ص: 285). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 203). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 276).

ورواية "أولاهن" أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية، ومن حيثُ المعنى أيضاً؛ لأن تتريب الأخيرة يستدعي غسلةً أخرى لتنظيفه، وقد نص الشافعي على أولوية الأُولى. وفي هذا الحديث دليلٌ: على أن حكمَ النجاسة يتعدى عن محلها إلى ما يجاورها بشرط كونه مائعاً. وعلى تنجيس المائعات إذا وقع في جرمها نجاسة. وعلى تنجيس الإناء الذي يتصل بالمائع. وعلى أن الماء القليلَ ينجُس بوقوع النجاسة فيه، وإن لم يتغير؛ لأن ولوغَ الكلب لا يغير الماءَ الذي في الإناء غالباً، وتؤخذ قلتُه في الحديث من كونه في الإناء؛ لأنه لا يكون إلا قليلاً غالباً، ويناط الحكم بالغالب الأكثر دون النادر. وعلى أن ورود الماء على النجاسة يخالف ورودها عليه؛ لأنه أمر بإراقة الماء لما وردتْ عليه النجاسة، وهو حقيقة في إراقة جميعه، وأمر بغسله، وحقيقته تتأدى بما يسمى غسلاً، ولو كان ما يُغسلُ به أقل مما أريق. تنبيهات: أحدها: ظاهر حديث عبد الله بنِ مُغَفَّلٍ - رضي الله عنه - يقتضي كونَ الغسلات ثمانيةً، وبه قال الحسنُ البصري، وقيل: إنه لم يقل به غيرُه، ولعل المراد بذلك: من المتقدمين، قاله ابن دقيق العيد (¬1). قلتُ: هو رواية عن الإمام أحمد كما في "الفروع" (¬2) وغيره. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 29). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 203).

الثاني: ظاهره الاكتفاء بالتعفير، والذي جزم به متأخرو علمائنا لا يكفي ذَرُّ التراب على المحل، بل يعتبر مائع يوصله إليه، ذكره أبو المعالي، و"التلخيص"، وفاقاً للشافعي، وقيد المتأخرون كون المائع ماءً طهوراً، ولعل ذلك حيث اعتبروها من السبع، وإلا فلا. واستظهر في "الفروع" (¬1): يكفي ذَرُّه، ويُتبعه الماءَ، وهو ظاهر كلام جماعة، وصوبه في "الإنصاف" (¬2)؛ لاقتضاء حديث عبدِ الله بنِ مُغَفلٍ - رضي الله عنه - الاكتفاء بذلك؛ فإنه يشعر بالاكتفاء بالتتريب بذر التراب على المحل، وإن كان خلطه بالماء لا ينافي كونه تعفيراً لغة؛ لأن لفظ التعفير يطلق على ذَرِّهِ على المحل، وعلى إيصاله بالماء إليه، لكن الحديث الذي دل على اعتبار مسمى الغسلة يدل على خلطه بالماء، وإيصاله إلى المحل به، وذلك أمر زائد على مطلق التعفير، على تقدير شمول اسم التعفير للصورتين معاً؛ أعني: ذر التراب وإيصاله بالماء، فكان العمل به أولى، فلهذا اعتبرنا إيصاله بالماء إلى المحل، على المعتمد، ولا بد من استيعاب محل الولوغ بالتراب، والمذهب: يكفي مسحاً فيما يضر كالشاش دون غيره. الثالث: جزم علماؤنا بإقامة نحو الأُشنان مما له قوة الإزالة مقامَ التراب، لا غسلة ثامنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "شرح عمدة الفقه": هذا أقوى الوجوه (¬3)، وصححه في "التصحيح"، والمجد في "شرحه"، و"تصحيح ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 311). (¬3) انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 87).

المحرر" (¬1)؛ لأن كلاً من الصابون والأشنان والنخالة أبلغ من التراب في الإزالة، فنصه على التراب تنبيهٌ عليها، ولأن التراب جامد أمر به في إزالة النجاسة، فأُلحقَ به ما يماثِلُهُ؛ كالحجر في الاستجمار. وقيل: لا يُجزئه؛ لأنه طهارة أمر فيها بالتراب، فلم يقم غيره مقامه؛ كالتيمم، ولأن الأمر به تعبد، فلا يقاس عليه غيره. وقال ابن حامد: إنما يجوز العدول إلى غير التراب عند عدمه، أو إفساد المحل المَغسول به، فأما مع وجوده وعدم الضرر، فلا (¬2). الرابع: مثل الكلب الخنزيرُ والمتولَّدُ منهما، أو من أحدهما في ذلك على المذهب فعينُ هَؤلاءِ نَجِسة؛ خلافاً لمالك، فأما نجاسة عين الكلب، فلنجاسة ما ولغ فيه، فإذا ثبت نجاسة فمه من نجاسة لعابه، فإنه جزء من فمه، وفمه أشرف ما فيه، فبقية بدنه أولى كما أشرنا إليه آنفاً، و- أيضاً - إذا كان لعابه -وهو عَرَق فمه- نجساً، ففمه نجس؛ لأن العرق جزء متحلِّبٌ من الفم، فجميع عرقه نجس، فجميع بدنه نجس. وأما الخنزير، فقال الإمام أحمد: هو شرٌّ من الكلب (¬3)؛ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] الرجس: النجس، قال الماوردي: الضمير في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عائد على الخنزير؛ لكونه أقرب مذكور، ونازعه أبو حيانَ فقال: عائد على اللحم؛ لأنه إذا كان في الكلام مضاف ومضاف إليه، عاد الضمير إلى المضاف؛ لأن المضاف هو ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 204)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 312). (¬2) المرجعان السابقان. (¬3) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 310).

المحدث عنه, والمضاف إليه وقع ذكره بطريق العرض، وهو تعريف المضاف أو تخصيصه (¬1). وما ذكره الماوردي أولى من حيث المعنى؛ لأن تحريم اللحم قد استفيد من قوله {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ}، فلو عاد الضمير عليه، لزم خلو الكلام من فائدة التأسيس، فوجه عوده إلى الخنزير؛ ليفيد تحريمَ الشحم والكبد والطحال وسائر أجزائه. وقال القرطبي في تفسير سورة البقرة: ولا خلاف أن جملة الخنزير محرمة، إلا الشعر؛ فإنه يجوز الخرز به (¬2). ونقل ابن المنذر الإجماعَ على نجاسته (¬3)، ونقلُه الإجماعَ مخدوشٌ، فإن الإمام مالكاً يخالف فيه، نعم هو أسوأ حالاً من الكلب؛ فإنه يستحب قتله، ولا يجوز الانتفاع به في حالة، بخلاف الكلب. قال في "الفروع": المذهبُ: نجاسةُ كلبٍ وخنزيرٍ ومتولَّد من أحدهما؛ خلافاً لمالك، وعنه - أي: الإمام أحمد -: غير شعر، اختاره أبو بكر، وشيخنا -يعني: شيخ الإسلام-، وفاقاً لأبي حنيفة (¬4). الخامس: خالف ظاهرَ هذا الحديث الحنفيةُ والمالكيةُ، فأما الحنفيةُ، فلم يقولوا بوجوب السبع، ولا التتريب، واعتذر الطحاوي منهم بأمور: منها: كون أبي هريرة راويه أفتى بثلاث غسلات، فثبت بذلك نسخُ السبع، وتُعقب بأنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبْع، أو أنه ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (4/ 674). (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (2/ 233). (¬3) انظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 149). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 203).

نسي ما كان رواه، ومع الاحتمال لا يثبت نسخ، مع أنه قد ثبت عنه - رضي الله عنه - أنه أفتى بالغسل سبعاً، ورواية من روى عنه موافقة فتباه أرجح من رواية من روى مخالفتها إسناداً ونظراً، أما النظر، فظاهر، وأما الإسناد، فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عنه، وهذا من أصح الأسانيد، وأما المخالفة، فمن رواية عبدِ الملك بنِ أبي سليمان، عن عطاء، عنه، وهو دون الأول في القوة بكثير. ومنها: أن العَذِرة في النجاسة أشدُّ من سُؤْرِ الكلب، ولم تقيَّد بالسبع، فيكون الولوغُ كذلك بالأولى. وتُعُقِّبَ بأنه لا يلزم من كونها أشدَّ استقذاراً أن تكون أشدَّ في تغليظ الحكم، وبأنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسدُ الاعتبار. ومنها: دعوى أن الأمر بذلك كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نُهي عن قتلها، نُسِخَ الأمرُ بالغَسْلِ. وتعقب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة، والأمرَ بالغسلِ متأخرٌ جداً؛ لأنه من رواية أبي هريرة، وعبد الله بن مُغفلٍ، وقد ذكر ابن مُغَفلٍ أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالغسل، وكان إسلامُه سنة سبعٍ، كأبي هريرة. ومنها: إلزامُ من يقول باعتبار السبعِ بإيجاب ثمان غسلات، عملاً بظاهر حديث ابن مغفلٍ، وهو في مسلم كما مر، ولفظه: "وعَفِّرُوهُ الثامِنَةَ في الترابِ"، وفي رواية الإمام أحمد: "بالتراب" (¬1). وأجيب بأنه لا يلزم من كونهم لا يقولون بظاهر حديث ابن مغفل أن تترك أنت وأصحابُك العمل بالحديث أصلاً ورأساً؛ لأن اعتقاد من يقول ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد في "المسند".

بالسبع إن كان متجهاً، فذاك، وإلا، فكلٌّ ملومٌ في ترك العمل به، قاله ابن دقيق العيد (¬1). وقد اعتذر بعضهم عن العمل بمقتضاه بالإجماع على خلافه، ونظر فيه غير واحد؛ لأنه ثبت القول بذلك عن الحسن البصري، وهو مروي عن الإمام أحمد أيضاً من رواية حرب الكرماني عنه. قال في "الفروع": وتُغسلُ نجاسةُ كلبٍ، نص عليه؛ وفاقاً للشافعي، وقيل: ولوغه؛ وفاقاً لمالك تعبداً، سبعاً؛ وفاقاً لمالك والشافعي، وعنه: ثمانياً، انتهى (¬2). قال الحافظ ابن حجر: ونُقل عن الشافعي أنه قال: هو حديث لم أقف على صحته، قال: ولكن هذا لا يثبت العذرَ لمن وقف على صحته. وجنح بعضُهم إلى ترجيح حديث أبي هريرة على حديث ابن مُغَفل، والترجيح لا يصار إليه مع إمكان الجمع، والأخذ بحديث ابن مغفل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة، بلا عكس، وزيادة الثقة مقبولة، ولو سلكنا الترجيح في هذا الباب، لم نقل بالتتريب أصلاً؛ لأن رواية مالك بدونه أرجحُ من رواية مَنْ أثبتَه، ومع ذلك قلنا به؛ أخذاً بزيادة الثقة. وجمع بعضهم بين الحديثين بضرب من المجاز، فإنه لما كان التراب جنساً غير الماء، جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدوداً باثنتين، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن قوله: "وعفروه الثامنة" ظاهر في كونها غسلة مستقلة، ¬

_ (¬1) انظر ما أورده الشارح من كلام الطحاوي في: "شرح معاني الآثار" له (1/ 23)، وما أورده من تعقبات عليه: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 26 - 27)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 277). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 203).

لكن إن وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات، كانت الغسلات ثمانية، ويكون إطلاقُ الغسلة على التتريب مجازاً (¬1)، وهذا الجمع من مرجحات كون التراب في الأولى (¬2). فإن قلت: فقد روى الدارقطني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً في الكلب يلغ في الإناء: "يغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً" (¬3). قلت: أجاب الحافظ ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" بأن الحديث تفرد به عبدُ الوهابِ بنُ الضحاك، قال الدارقطني: إنه متروكُ الحديث، وفيه إسماعيلُ بن عياش ضعيف، وقال أبو حاتم بنُ حِبان: لا يحتج بحديثه، وقد رواه الدارقطني عن أبي هريرة موقوفاً أنه قال: يغسل ثلاثاً، ثم قال: لم يروه غيرُ عبد الملك عن عطاء، والصحيحُ: سبع مرات، قال ابن الجوزي: وقد رفعه حسين الكرابيسي، قال: ولم يرفعه غيرُه، ولا يحتج بحديثه، انتهى (¬4). قال الحافظ ابنُ عبدِ الهادي: حسينٌ الكرابيسيُّ فقيهٌ صاحبُ تصانيف، قال فيه الأزدي: ساقط لا يرجع إلى قوله، وقال الخطيب: حديثه يعز جداً؛ لأن الإمام أحمد كان يتكلم فيه بسبب مسألة اللفظ، قال ابن عدي في الكرابيسي: له كتب مصنفة، وذكر فيها اختلاف الناس من المسائل، وكان حافظاً لها، وذكر في كتبه أخباراً كثيرة، ولم أجد منكراً غير ما ذكرت من ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 28 - 29). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 277 - 278). (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 65)، وانظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 240) (¬4) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 74).

الحديث -يعني: هذا-، قال ابن عدي: والذي حمل الإمامَ أحمدَ بنَ حنبلٍ عليه من أجل اللفظ في القرآن، فأما في الحديث، فلم أر به بأساً (¬1). وأما المالكية، فلم يقولوا بالتتريب أصلاً، مع إيجابهم السبْعَ على المشهور عندهم؛ لأن التتريب لم يقع في رواية مالك، وقد صحت فيه الأحاديث، فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها، وعن مالك رواية أن الأمر بالتسبيع للندب، والمعروف عنده أنه للوجوب، لكنه للتعبد؛ لكون الكلب طاهراً عندهم، وعن مالك رواية: أنه نجس، لكن قاعدته أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فلم يجب التسبيع للنجاسة، بل للتعبد، ويرد عليهم قوله - صلى الله عليه وسلم - في صدر هذا الحديث فيما رواه مسلم وغيره: "طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ"؛ لأن الطهارة تستعمل إما عن حدث أو خبث، ولا حدث على الإناء، فتعين الخبث. وأجابوا بمنع الحصر؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، وقد قيل: طهور المسلم، ولأن الطهارة تطلق على غير ذلك؛ كقوله - تعالى -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ" (¬2). والجواب عن الأول: بأن التيمم ناشىءٌ عن حدثٍ، فلما قام مقامَ ما يُطهر الحدث، سُمي طَهوراً، ومن يقول بأنه يرفع الحدث يمنع هذا الإيراد من أصله. ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 55). (¬2) رواه النسائي (5)، كتاب: الطهارة، باب: الترغيب في السواك، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 47)، وابن خزيمة في "صحيحه" (135)، وابن حبان في "صحيحه" (1067)، وغيرهم. وعلَّقه البخاري في "صحيحه" (2/ 286)، كلهم من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

وعن الثاني: أن ألفاظ الشرع إذا دارت بين الحقيقة اللغوية والشرعية، حُملت على الشرعية، إلا إذا قام دليل على إرادة غيرها. قال الإمام المحقق ابنُ القيم في كتابه "بدائع الفوائد": من ادعى صرفَ لفظ عن ظاهره، وعين له مجازاً، لم يتم له ذلك إلا بعد أربع مقاماتٍ: أحدها: بيان امتناع إرادة الحقيقة. الثاني: بيان صلاحية اللفظ للمعنى الذي عينه، وإلا، لكان مفترياً على اللغة. الثالث: بيان تعيين ذلك المحمل، إن كان له عدة مجازاتٍ. الرابع: الجواب عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة، فما لم يقم بهذه الأمور، فدعواه صرف الكلام عن ظاهره باطلة. وإن ادعى مجرد صرف اللفظ عن ظاهره، ولم يعين محملاً، لزمه أمران: أحدهما: بيان الدليل الدال على امتناع إرادة الظاهر. الثاني: جوابه عن المعارض، انتهى (¬1). وادعى بعض المالكية: أن المأمورَ بالغسل من ولوغه: الكلبُ المنهيُّ عن اتخاذه، دون المأذون فيه. وهذا ساقطٌ؛ لأن اللام في "الكلب" للجنس، أو تعريف الماهية، وكلاهما يدل على عموم الكلاب. وفرق بعضهم بين الكلب البدوي والحضري. ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (4/ 1009).

وبعضهم قال: المراد بالكلب: الكَلِب، وكلها لا تفيد عند التحقيق فائدةً. وقد ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب؛ لأنه رجسٌ، رواه محمد بن نصر المروزي، بإسنادٍ صحيحٍ (¬1)، ولم يصح عن أحدٍ من الصحابة خلافه. والمشهور عن المالكية أيضاً: التفرقة بين إناء الماء، فيراق ويغسل، وبين إناء الطعام، فيؤكل، ثم يُغسل الإناء تعبُّداً؛ لأن الأمر بالإراقة عام، فيخص الطعامُ منه بالنهي عن إضاعة المال. وعورض بأن النهي عن إضاعة المال مخصوصٌ بالأمر بالإراقة، ويترجح بالإجماع على إراقة ما يقع فيه النجاسة من قليل المائعات، ولو عظم ثمنه، فثبت تخصيص عموم النهي عن الإضاعة بخلاف الإراقة. وإذا ثبتت نجاسة سؤره، كان أعم من أن يكون لنجاسة عينه، أو لنجاسةٍ طارئةٍ. لكن الأول أرجحُ، إذ هو الأصل، ولأنه يلزم على الثاني مشاركة غيره له في الحكم، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) ورواه ابن المنذر في "الأوسط" (1/ 306). وانظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 268)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 276).

الحديث السابع

الحديث السابع عن حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُما ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ في الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً، ويَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلاثاً، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِه، ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلاثاً، ثُمَّ قالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يتَوَضَّأُ نَحوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (158)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، و (162)، باب: المضمضة في الوضوء، و (1832)، كتاب: الصوم، باب: السواك الرطب واليابس للصائم، و (6069)، كتاب: الرقاق، باب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ...} [لقمان: 33]. ورواه مسلم (226)، (1/ 204 - 205)، كتاب: الطهارة، باب: صفة الوضوء وكماله، وأبو داود (106)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنسائي (84)، كتاب: الطهارة، باب: المضمضة والاستنشاق، و (85)، باب: بأي اليدين يتمضمض، و (116)، باب: حد الغسل، وابن ماجه (285)، كتاب: الطهارة، باب: ثواب الطهور. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المُعلم" للقاضي عياض (2/ 13)، و"المُفهم" للقرطبي (1/ 480)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 105)، و"شرح عمدة =

(عن حُمران) -بضم المهملة- بنِ أَبَانَ -بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة - بنِ خالدِ بنِ عمرِو بنِ عقيلِ بنِ كعبٍ، وهو ابن عم صُهيب -بضم الصاد المهملة وفتح الهاء- بنِ سنان -بكسر السين المهملة، وبالنون- (مولى)؛ أي: عتيقِ سيدِنا (عُثْمانَ بْنِ عَفَّانَ) - رضي الله عنه -. وكان حمران من سبي "عين التمر"، سباه خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أولَ خلافة عمر، أو خلافة أبي بكرٍ - رضي الله عنهما -، على الخلاف في ذلك، فوجده غلاماً كيساً أحمر، فوجهه إلى عثمان - رضي الله عنه -، فأعتقه. وقيل: كان للمسيب بن بحينة، فابتاعه عثمان منه، وكان يهودياً، وهو أول من دخل المدينة من سبي المشرق. قال في شرح "الزهر البسام" (¬1): ويقال: إنه جد مالك بن أنس الإمام - رضي الله عنه -. ¬

_ = الأحكام" لابن دقيق (1/ 32)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 259)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 5)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 42)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 171). (¬1) للشيخ الإمام محمد بن عبد الدائم بن موسى أبو عبد الله البرماوي العسقلاني ثم القاهري الشافعي المتوفى سنة (831 هـ)، كتاب: "الزهر البسام فيما حوته عمدة الأحكام من الأنام" وهو أرجوزة نظم فيها رجال "العمدة" للحافظ عبد الغني المقدسي، ابتدأ فيها بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم الخلفاء الأربعة، والباقي على حروف المعجم. ثم شرح هذه الأرجوزة، وسماه: "سرح النهر بشرح الزهر"، وقد فرغ منها سنة (796 هـ). انظر: "كشف الظنون لحاجي خليفة (2/ 958 - 959). وله أيضاً: شرح العمدة، سماه: "العدة لفهم العمدة" لخصه من شرحها لشيخه ابن الملقن من غير إفصاح بذلك مع زيادات يسيرة، قال السخاوي: وعابه شيخنا =

روى عن عثمان عند الشيخين. وروى عنه عروةُ بنُ الزبير، ومحمدُ بنُ المنكدر، وزيدُ بن أسلم، ثم تحول من المدينة لما غضب عليه مولاه عثمان - رضي الله عنه -، ونزل البصرة، فكان بها عيناً له، فلما قُتل مصعب، وثب، فأخذ البصرة، فادعى ولده أنهم من النَّمرِ بنِ قاسطٍ - بالقاف والسين المهملة -. قال ابن سعدٍ: ولم أرهم يحتجون بحديثه مع كثرته. قال قتادة: كان يصلي مع عثمان، فإذا أخطأ، فتح عليه، وكان كاتِبَه، ويأذنُ عليه. توفي سنة خمسٍ وسبعين (¬1). أخبر حمران - رحمه الله تعالى -: (أَنَّهُ رَأَى) مَوْلاهُ (عُثْمَانَ - رضي الله عنه -) ابنَ عفانَ بنِ أبي العاص. واسمه: الحارثُ بن أميةَ بنِ عبد شمسِ بنِ عبدِ منافٍ. كنيته: أبو عبد الله - على الراجح -. وقيل: أبو عمرٍو. قاله ابن عبد البر. قيل: وَلدتْ له رقيةُ بنتُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ابناً، فسماه: عبدَ الله، واكتنى ¬

_ = - أي: ابن حجر - بذلك. انظر: "الضوء اللامع" للسخاوي (7/ 280 - 282)، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (4/ 101). قلت: والشارح - رحمه الله - ينقل في مواضع كثيرة من شرحه هذا من كتاب "الزهر البسام" و"شرحه" وكذا "شرح العمدة". (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 283)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 80)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 265)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 179)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (15/ 172)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 182)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 21)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 180)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (3/ 21).

به، ومات، ثم وُلد له عمرٌو، فاكتنى به إلى أن مات. قال ابن الأثير: يقال: كان يُكْنى في الجاهلية: أبا عمرٍو، فلما وَلَدتْ له رقيةُ عبدَ الله، اكتنى به. وأم عثمان: أروى، وأمها: أم حكيمٍ البيضاءُ بنتُ عبد المطلب، عمةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ويلقب عثمان بذي النورين. قيل للمهلب بن أبي صفرة: لِم قيل لعثمان: ذو النورين؟ قال: لأنه لم يُعلم أحد أُرسل ستراً على ابنتي نبي غيره، نقله ابن عبد البر، وابن الأثير. وقيل: لأنه ورُقيةَ كانا أحسنَ زوجين في الإسلام، فالنوران: نورُ نفسه، ونورُ رُقية. وأما ذو النور -بالإفراد-، فلقب للطفيل بنِ عمرٍو الدوسي، كما بيَّنتُهُ في السيرة. أسلم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قديماً، على يد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وكان يقول: إني رابع أربعةٍ في الإسلام، وهاجر للحبشة فاراً بدينه مع زوجته رقية، وكان أول خارجٍ إليها، وتابعه سائر المهاجرين إلى الحبشة. وفي "مسند أبي يعلى الموصلى" مرفوعاً: "إن عُثمانَ لأولُ مَنْ هاجَرَ إلى أرضٍ بأهله بعدَ لوطٍ" (¬1). ¬

_ (¬1) ورواه يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ " (3/ 283 - 284)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (123)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 24)، والطبراني في "المعجم الكبير" (143)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (39/ 29)، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

ثم هاجر الهجرة الثانية إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. ولما توفيت رقية [بعد] قفولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وقعة بدرٍ الكبرى، زوَّجَهُ بنتَه الثانيةَ أمَّ كلثوم، فلما ماتت، قال له: "لو كانَ عندَنا ثالثةٌ لزوَّجْتُها عُثْمانَ" (¬1). وفي "ربيع الأبرار" للزمخشري: "لو كانَ عندي أَربعون بِنْتاً لزوَّجْتُكَهُنَّ واحدَةً واحدَةً حتَّى تأتيَ عليهنَّ يا عُثمان" (¬2). وبايع عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية بيساره؛ لأنه كان قد بعثه إلى مكة في حاجةٍ لا يقوم بها غيره. قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: يدُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لعثمانَ خيرٌ من يدِ عثمانَ لنفسه (¬3). وله مناقب لا تُحصى، منها: تجهيز جيش العسرة، وجمعه القرآنَ، ووقفُه بئرَ رومةَ، وتوسعتُه مسجدَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحدُ السابقين الأولين، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة الذين بالجنة مبشرين، ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 184)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (39/ 44)، عن عصمة بن مالك الخطمي - رضي الله عنه -. ورواه يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 223)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (39/ 45)، عن عبد الله بن الحر - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "ربيع الأبرار ونصوص الأخبار" للزمخشري (5/ 305)، ووقع عنده: "ولو أن عندي عشراً لزوجتهن إياه واحدة واحدة". والحديث رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (7/ 23)، والديلمي في "مسند الفردوس" (5032)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (39/ 42)، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أبو يعلى في "مسنده" (5599)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (39/ 262).

وأحد أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله مناقب ومزايا كثيرةٌ، ذكرنا طرفاً منها في أثناء "معارج الأنوار" (¬1). بويع له بالخلافة بعد وفاة سيدنا عمر بثلاثة أيامٍ، يوم الجمعة غرة المحرم، فمكث خليفةً إحدى عشرة سنةً وأحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، ثم قُتل يوم الدار شهيداً، بعد أن حوصر في داره تسعةً وأربعين يوماً، أو شهرين وعشرين يوماً، وهو يومئذٍ صائمٌ. ويروى أنه كان المصحف بين يديه يقرأ فيه، فوقعت قطرةٌ أو قطراتٌ من دمه على قوله - تعالى -: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]. واختلف فيمن باشر قتله: فقيل: لا يعرف، وقيل: الأسود النخشي من أهل مصر، وقيل غير ذلك، وكان يوم الجمعة لثمان عشرة من ذي الحجة. وقيل: يوم التروية سنة خمسٍ وثلاثين، وكان عمره يومئذٍ تسعين سنةً - كما اقتضاه ترجيح النووي في "تهذيب الأسماء واللغات". وحكى الواقدي الاتفاق على أن عمره يومئذٍ: اثنتان وثمانون، ورجحه ابن الصلاح، وقال الذهبي: نَيفٌ وثمانون. ودفن ليلة السبت في البقيع، في حُش كوكبٍ -بضم الحاء المهملة، أجودُ من كسرها، والشين المعجمة -، وهو بنيان لرجل من الأنصار يقال له: كوكب، وأُخفي قبره، وصَلى عليه: قيل الزبير، وقيل: حكيم بن حزامٍ، وقيل جبير بن مطعم. ¬

_ (¬1) هو كتاب: "معارج الأنوار في سيرة النبي المختار" للشارح - رحمه الله -، تقدم التعريف به في مقدمة هذا الشرح الحافل، فلينظر في موضعه.

روي له - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديثٍ وستةٌ وأربعون حديثاً، اتفقا على ثلاثةٍ، وانفرد البخاري بثمانيةٍ، ومسلم بخمسةٍ (¬1). فمما اتفقا عليه هذا الحديث - وهو قول حمران: (أنه رأى) مولاه (عثمانَ) بن عفان - رضي الله عنه - وقد (دعا) -أي: طلب- أن يؤتى (بوضوء) -بفتح الواو-: اسم للماء، و-بضمها -: اسم للفعل، على الأكثر الأشهر. قال ابن دقيق العيد: وإذا كان بفتح الواو اسماً للماء -كما ذكرنا-، فهل هو اسمٌ لمطلق الماء، أو للماء بقيد كونه يُتوضأ به، أو مُعداً للوضوء به؟ انتهى (¬2). قال في "المطلع": الوُضوء -بضم الواو-: الفعل، و-بفتحها-: الماء المتوضَّأ به، هذا هو المشهور، وحُكي الفتح في الفعل، والضم في الماء، انتهى (¬3). وتقدم في آخر الكلام على الحديث الثاني. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 53)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 208)، و"تاريخ الطبري" (2/ 679)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1037)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (39/ 3)، و"المنتظم" لابن الجوزي (4/ 334)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 578)، و"الكامل في التاريخ" له أيضاً (3/ 74)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 445)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 8)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 199)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 456)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (7/ 127). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 32). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 19).

وقال في "شرح الوجيز": الوضوء -بالفتح-: الماء المتوضأ به، هذا المشهور عند أهل اللغة، انتهى. وفي "النهاية": الوضوء -بالفتح-: الماء الذي يتوضأ به؛ كالفَطور والسَّحور لِما يفطر عليه، ويُتسحر به، انتهى (¬1). فعلم أنه لا بقيد كونِه يُتوضأ به، فعلى الصحيح يُستدل على طهارة الماء المستعمل نحو قول جابر - رضي الله عنه -: فصبَّ عليَّ من وَضوئه (¬2)؛ لأنه اسم للماء المتوضَّأ به دون مطلق الماء، ودون المُعَدِّ؛ لأنه يُتوضأ به، ولأنَّه وإن أطلق على المعد لأن يتوضأ به، فعلى سبيل المجاز، وأما المُتوضأ به، فعلى الحقيقة، والحملُ على الحقيقة أولى. (فأفرغ)؛ أي: صبَّ عثمانُ - رضي الله عنه - (على يَدَيْهِ) -تثنية يدٍ- وأصلها: يَدَيٌ، فحذفت لامها. فيه استحبابُ غسل اليدين في ابتداء الوضوء ما لم يكن قائماً من نوم ليلٍ، فيجب - على ما تقدم -، وأن يتولى طهارته بنفسه من غير معينٍ؛ لما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَكِلُ طَهورَه إلى أحدٍ، ولا صدقته التي يَتصدَّق بها، يكون هو الذي يتولاها بنفسه. رواه ابن ماجه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 194)، وانظر: "المُغرب" للمطرزي (2/ 358)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 194)، (مادة: وضأ). (¬2) رواه البخاري (6344)، في أول كتاب: الفرائض، ومسلم (1616)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الكلالة. (¬3) رواه ابن ماجه (362)، كتاب: الطهارة، باب: تغطية الإناء، وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 97).

ولأن السعي في العبادة عبادةٌ، فكان انتهازها بالفريضة أولى؛ لأن الثواب على قدر النَّصَب. روي عن الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أنه قال: "ما أحبُّ أن يُعينني على وضوئي أحدٌ"؛ لأن عمر - رضي الله عنه - قال ذلك (¬1). وتُباح المعونة، قاله في "الفروع"؛ اتفاقاً (¬2)؛ لما في حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: أنه صبَّ الماءَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ. متفقٌ عليه (¬3). وفي رواية عندهما: دعا -أي: عثمان - رضي الله عنه - بإناء، فأفرغ على يديه (¬4). (من إِنائِهِ)؛ أي: الوعاء الذي كان به الماء المُعَدُّ لوضوئه، (فغسلهما)؛ أي: يديه. قد يؤخذ منه: أن الإفراغ عليهما معاً، وقد تبين في رواية أخرى: أنه أفرغ بيده اليمنى على اليسرى، ثم غسلهما (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 95). وحديث عمر- رضىِ الله عنه - رواه أبو يعلى في "مسنده" (231)، وابن حبان في "المجروحين" (3/ 53). قال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: النضر بن منصور، عن أبي الجنوب، وعنه ابن أبي معشر، تعرفه؟ قال: هؤلاء حمالة الحطب. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 124). (¬3) رواه البخاري (180)، كتاب: الوضوء، باب: الرجل يوضِّئ صاحبه، ومسلم، (274)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين. (¬4) تقدم تخريجها عندهما في حديث الباب. (¬5) رواه أبو داود (109)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، من طريق أبي علقمة، عن عثمان - رضي الله عنه -، به.

وظاهره: أنه غسلهما مجموعتين، ويحتمل: أو متفرقتين، وبالأول أخذ علماؤنا (ثلاثَ مرات)، وفي رواية أبي ذرٍّ وأبي الوقت: ثلاثَ مِرار (¬1). وفيه: غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، وبيانٌ لما أهمل من ذكر العدد في حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة المتقدم في قوله: "إذا استيقظَ أحدُكُمْ من نَوْمِهِ". وقد قدمنا أنه ورد في حديث أبي هريرة - أيضاً - ذكرُ العدد في "الصحيح" كما ذكره المصنف - رحمه الله -، (ثم) بعد غسل عثمان - رضي الله عنه - كفيه ثلاث مراتٍ، (أدخلَ يَمينَهُ)؛ أي: يده اليمنى، (في الوَضُوءِ) و-بالفتح-يعني: في الماء الذي له. فيه: الاغتراف باليمين، وأنه لا يشترط لذلك نية الاغتراف. (ثم) أخرج بيمينه ماءً من الإناء (تَمَضْمَضَ) به، ولفظ المضمضة مشعرٌ بالتحريك، ومنه مضمض النعاسُ في عينيه، واستعمل في الوضوء؛ لتحريك الماء في الفم. قال ابن دُريد في "الجمهرة": مضمض الماءَ في فيه: إذا حركه، ومضمض النعاسُ في عينيه: إذا دَبَّ فيهما. ومنه قول الراجز: وَصَاحِبٍ نَبَّهْتُهُ لِيَنْهَضَا ... إِذَا الْكَرَى فِي عَيْنِهِ تَمَضْمَضَا (¬2) ولفظة: "ثم" تقتضي الترتيب بين غسل اليدين والمضمضة. (واستنشَقَ) بالماء في منخريه. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 259). (¬2) انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 212).

وأصل الاستنشاق: إدخال الماء أو غيره في الأنف. وفي "النهاية": أن يبلغ الماء خياشيمَه، وهو من استنشاق الريح: إذا شممتها مع قوةٍ (¬1). قال علماؤنا: تسن المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا لصائمٍ، فتكره؛ وهي إدارة الماء إلى أقاصيهما، وتجزئ أدنى إدارةٍ، لا وضع الماء في فيه -بدون إدارته على المعتمد-، ولا يجعلها وجوراً وسعوطاً. نعم له بلعُه بعد الإدارة (¬2). (و) بعد حصول الاستنشاق بالماء باجتذابه بنفَسه إلى أقصى الأنف (اسْتَنْثَرَ)، يقال: نثر يَنْثِر- بالكسر -: إذا امتخط، واستنثر: إذا استفعل منه؛ أي: استنشق الماء، ثم استخرج ما في الأنف، فَينْثِره، وقيل: هو من تحريك النَّثْرَة؛ وهي طرف الأنف (¬3). وفيه: استحبابُ تقديم المضمضة على الاستنشاق، وعليه علماؤنا. تنبيهات: الأول: المعتمد من مذهبنا: وجوبُ المضمضة والاستنشاق، ويسميان: فرضين، فلا يسقطان سهواً، وسواء الطهارة الكبرى والصغرى؛ فإن الله سبحانه أمر بغسلٍ، وأطلق، وفسره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بفعله وتعليمه، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أخل بذلك، مع اقتصاره على المجزئ؛ وهو الوضوء مرةً ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 58). (¬2) انظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (1/ 26)، و"الفروع" لابن مفلح (1/ 117)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 133)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 94). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 14).

مرةً، وقول: "هَذَا الوُضُوءُ الَّذِي لا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاةَ إِلاَّ بِهِ" (¬1)، وفعلُه - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج بياناً، كان حكمُه حكم ذلك المبين. وفي حديث عائشة عند الدارقطني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المَضْمَضُةُ والاسْتِنْشاقُ مِنَ الوُضُوءِ الَّذِي لا بُدَّ مِنْهُ" (¬2). وفيه إرسالٌ ومقال. وفي حديث ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - مرفوعاً: "المَضْمَضَةُ والاستنشاقُ من الوُضُوءِ الذي لا يَتِمُّ الوُضوءُ إِلَّا بِهِما" (¬3). وفيه جابر الجعفي، وثقه سفيان الثوري وشعبة، والجمهور على تضعيفه. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمضمضة والاستنشاق (¬4)، حديثٌ ثابت. وفي حديث أبي هريرة المتَقدم في هذا الكتاب عند مسلم: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا تَوَضَّأَ أحدُكم، فَلْيَسْتَنْشِق بِمَنْخِرَيْهِ منَ الماءِ، ثمَّ لْيَنْتَثِرْ". وقد رُوي عن عثمان بن عفان، وابن عباس، وسَلَمةَ بنِ قيسٍ، والمقدامِ بنِ معدي كربٍ، ووائلِ بنِ حجر. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (419)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 82). (¬2) رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 84)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 266)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 52)، والديلمي في "مسند الفردوس" (6689). وقد صحَّح الدارقطني إرساله. (¬3) رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 100) وقال: جابر ضعيف، وقد اختلف عنه، والصواب إرساله. (¬4) رواه الدارقطني فىِ "السنن" (1/ 116)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 52). قال الحافظ ابن حجر في "الدراية" (1/ 19): روي مرسلاً، وهو أقوى.

وفي حديث لقيطِ بن صَبُرَةَ، قال: قلتُ: يا رسولَ الله! أخبرني عن الوضوء، قال: "أَسْبِغِ الوُضُوءَ، وخَلِّلْ بَيْنَ الأصابِعِ، وبالِغْ في الاستنشاقِ، إلا أَنْ تكونَ صائِماً" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال: حسنٌ صحيحٌ، ورواه ابنُ خزيمة في "صحيحه"، والحاكم، وصححه (¬1)، وزاد أبو داود في بعض رواياته: "إذا توضأتَ فتمضمضْ" (¬2). وعن علي - رضي الله عنه -: أنه دعا بوَضوء، فتمضمض واستنشق، ونثر بيده اليسرى، فعل هذا ثلاثاً، ثم قال: هذا طَهورُ نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه الإمام أحمد، والنسائي، والدارقطني (¬3). وبوجوب المضمضة والاستنشاق في الطهارتين قال إسحاقُ بنُ راهويه، وأبو عبيدٍ، وأبو ثورٍ، وابن المنذر. ولأن الفم والأنف في حكم الظاهر، ألا ترى أن وضع الطعام واللبن والخمر فيهما لا يوجب فطراً، ولا ينشر حرمةً، ولا يوجب حداً، ويجب غَسلُ نجاسةٍ فيهما. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (142)، كتاب: الطهارة، باب: في الاستنثار، والنسائي (114)، كتاب: الطهارة، باب: الأمر بتخليل الأصابع، والترمذي (788)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، وابن ماجه (448)، كتاب: الطهارة، باب: تخليل الأصابع، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 211)، وابن خزيمة في "صحيحه" (150)، والحاكم في "المستدرك" (522). (¬2) رواه أبو داود (144)، كتاب: الطهارة: باب: في الاستنثار، إلا أنه قال: "فمضمض". (¬3) رواه النسائي (91)، كتاب: الطهارة، باب: بأي اليدين يستنثر؟ والإمام أحمد في "المسند" (1/ 135)، والدارقطني في "سننه" (1/ 90).

وإذا ورد الأمر بهما في الوضوء، وثبت فعلُهما وبيانُ حكمهما من فعلِه - صلى الله عليه وسلم -، وفعلِ مَنْ وصف وضوءه، ففي الغسل أولى؛ لأنه أعم وأسبغُ، وأقل مشقة؛ لعدمِ كثرةِ تكرارها. احتج من لم يوجبها بحديث أم سَلَمة: "إنما يكفيكِ ثلاثُ حَثَياتٍ" رواه مسلم (¬1)، ولم يذكرِ المضمضةَ والاستنشاقَ. وليس فيه حُجةٌ؛ لأن أم سَلَمة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله! إني امرأةٌ أشدُّ ضَفْرَ رأسي، أفأنقُضُه عند الغسلِ من الجنابةِ؟ فقال: "إنما يكفيكِ ثلاثُ حفناتٍ تَصُبينها على رأسِكِ" (¬2)؛ لأنها إنما سألته عن كيفية غسل رأسها، فبين لها ذلك، ولم يذكر لها نية ولا غيرها، ثم إن الذي ذكرهما معه زيادة علمٍ، وزيادةُ الثقة مقبولةٌ. واحتجوا -أيضاً - بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند الدارقطني مرفوعاً: "المضمضةُ والاستنشاقُ سُنَّةٌ" (¬3). وهذا حديثٌ لا يصح عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي سنده إسماعيل بن مسلم: ليس بشيءٍ، قاله يحيى، وقال ابنُ المديني: لا يكتب حديثه. وفيه القاسم بن غصن: قال ابن حبان: يروي المناكير عن المشاهير، ويقلب الإسناد. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (330)، كتاب: الحيض، باب: حكم ضفائر المغتسلة. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 314)، بهذا اللفظ. (¬3) رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 85، 101)، وقال: إسماعيل بن مسلم ضعيف، والقاسم بن غصن مثله، والخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 234)، والديلمي في "مسند الفردوس" (6688).

وفيه -أيضاً - سويد: قال النسائي: ليس بثقةٍ (¬1). واحتجوا -أيضاً- بما رواه الترمذي: - وقال: حسنٌ صحيحٌ -من قوله- عليه السلام - للأعرابي: "تَوَضَّأْ كما أمركَ اللهُ" (¬2)، فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر المضمضة والاستنشاق. والجواب عن ذلك احتمال أن يراد بالأمر ما هو أعمُّ من آية الوضوء؛ فقد أمر الله باتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهو المبيِّنُ عن الله أمرَه، ولم يحكِ أحدٌ ممن وصف وضوءه - صلى الله عليه وسلم - على الاستقصاء أنه ترك المضمضة والاستنشاق. وفي "فتح الباري": ذكر ابنُ المنذر عن الشافعي: أنه لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يعلم خلافاً في أن تاركه لا يعيد (¬3). وهذا دليلٌ فقهي؛ فإنه لا يحفظ ذلك من أحد من الصحابة ولا التابعين، إلا عن عطاءٍ، وذكر عنه أنه رجع عن إيجاب الإعادة، انتهى (¬4). وقد علمت الأدلة الناصبة أو الظاهرة في الوجوب، فلا يعدل عنها لرأي فقيه، والله أعلم. الثاني: صفة المضمضة: إدارة الماء في الفم، والاستنشاق: اجتذاب ¬

_ (¬1) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 146 - 147). (¬2) رواه الترمذي (302)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في وصف الوضوء، وأبو داود (861)، كتاب: الصلاة، باب: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، عن رفاعة بن رافع - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 380). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 262)، ووقع في المطبوع: "وهذا دليل قوي" بدل "دليل فقهي".

الماء بالنفس إلى باطن الأنف، ولا يجب إدارتُه في جميع الفم، ولا إيصالُه إلى جميع باطن الأنف، وإنما ذلك مبالغةٌ مستحبةٌ في حق غير الصائم. وإذا أداره في فيهِ، فهو مخيَّرٌ بعد ذلك بين مجِّهِ وبلعِهِ؛ لأن المقصود قد حصل به؛ فإن جعله في فيهِ ينوي الحدث الأصغر، ثم ذكر أنه جنب، فنوى رفع الحدثين، ارتفعا؛ لأنه لا يصير مستعملاً إلا بانفصاله عن العضو. ولو لبث الماء في فيهِ، فتحلل من ريقه ما غيره، لم يمنع؛ لأنه في محل التطهير أشبه ما لو تغير على عضوه. وإن شاء، تمضمض واستنشق ثلاثاً من غرفةٍ، وإن شاء من ست؛ لأن الذين وصفوا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكروا فيه ذلك. ويستحب أن يتمضمض ويستنشق بيمينه، ويستنثر بشماله؛ لأن في حديث عثمان هذا - رضي الله عنه - عند سعيد بن منصور: ثم غرف بيمينه، ثم رفعها إلى فيه، فمضمض واستنشق بكف واحدٍ، واستنثر بيساره، فعل ذلك ثلاثاً، ثم قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ لنا كما توضأتُ لكم، فمن كان سائلاً عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا وضوءُه (¬1). الثالث: لم يذكر عثمان - رضي الله عنه -، ولا عبد الله بن زيد - رضي الله عنهما - في الحديث الآتي الإتيان بالتسمية في أول الوضوء، مع إيجابنا لذلك - على المعتمد -، ولم نوجب الاستنثار -على المعتمد-، مع وجوده في الحديث الصحيح. والجواب: أما عدم إيجابنا للاستنثار مع أنه صريحٌ في الأخبار؛ فلحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - كما في بعض الروايات: "مَنْ توضَّأَ ¬

_ (¬1) نقله ابن قدامة في "المغني" (1/ 84).

فليستنثرْ، من فعلَ، فقدْ أحسنَ، ومن لا، فلا حرج" (¬1). وأما وجوب التسمية: فهو أظهر الروايتين عن الإمام - رضي الله عنه (¬2)، واختيار كثير من علماء المذهب، منهم: القاضي، وقدمها المجد وغيره، وهي من المفردات، ودليلها ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ لمن لا وضوءَ له، ولا وضوءَ لمنْ لم يذكرِ اسمَ اللهِ عليه" (¬3). ورواه الإمام أحمد وابن ماجه -أيضاً- من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (¬4). قال البخاري: أحسنُ حديثٍ في هذا الباب: حديثُ سعيدِ بنِ ¬

_ (¬1) ذكره الشارح هنا نقلاً عن ابن الجوزي في"التحقيق في أحاديث الخلاف" (1/ 145). وقد رواه أبو داود (35)، كتاب: الطهارة، باب: الاستتار في الخلاء، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: "من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ... " الحديث. وكذا رواه غيره، وليس فيه ذكر الوضوء، والله أعلم. (¬2) قال عبد الله بن الإمام أحمد في "مسائل أبيه" (ص: 25): سألت أبي عن حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". قال أبي: لم يثبت عندي هذا، ولكن يعجبني أن يقوله. ونقل ابن قدامة في"الكافي" (1/ 24 - 25) عن الخلال قوله: الذي استقرت الروايات عنه؛ أي: عن الإمام أحمد: أنه لا بأس به إذا ترك التسمية؛ لأنها عبادة، فلا تجب فيها التسمية كغيرها، وضعّف أحمد الحديث فيها وقال: ليس يثبت في هذا حديث، انتهى. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 418)، وأبو داود (101)، كتاب: الطهارة، باب: التسمية في الوضوء. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 41)، وابن ماجه (397)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في التسمية في الوضوء.

زيدٍ (¬1)، ولفظه: "لا وُضوءَ لمنْ لم يذكُرِ اسمَ اللهِ عليهِ". وفي لفظٍ له كلفظ حديث أبي هريرة، رواه الدارقطني من طرقٍ، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد، ورواه الترمذي (¬2). وفي حديثِ عائشة - رضي الله عنها -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم إلى الوضوء، فيسمي الله - عز وجل -. رواه الدارقطني، وغيره (¬3). وقال الإمام أحمد: أحسن شيءٍ فيه: حديث أبي سعيدٍ الخدري (¬4). وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا وضوءَ لمن لم يُسَمِّ اللهَ" (¬5). وقال الحاكم في حديث أبي هريرة: صحيح الإسناد (¬6). قال الحافظ المنذري: وليس كما قال، وفي الباب أحاديث كثيرةٌ، لا يسلم منها شيءٌ بلا مقالٍ، وقد ذهب الحسن وإسحاق بن راهويه وأصحاب الظاهر إلى وجوب التسمية في الوضوء، حتى إنه إذا تعمد تركها، أعاد الوضوء، وهذا مذهبنا بلا ريب، وعنه: أنها سنة. قال الحافظ المنذري: ولا شك أن الأحاديث التي وردت فيها، وإن ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الترمذي" (1/ 38). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 70)، والترمذي (25)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في التسمية عند الوضوء، والدارقطني في "سننه" (1/ 72). (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 72)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 198)، وابن الجوزي في "التحقيق في أحاديث الخلاف" (1/ 143). (¬4) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 143). (¬5) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 98). (¬6) انظر: "المستدرك" للحاكم (1/ 246)، (حديث رقم: 519).

كان لا يسلم شيءٌ منها عن مقالٍ، فإنها تتعاضد بكثرة طرقها، وتكتسب قوةً، والله أعلم (¬1). (ثُمَّ) بعد أن تمضمض، واستنشق واستنثر الماء من أنفه، (غَسَلَ) عثمانُ - رضي الله عنه - (وَجْهَهُ). وقد ذكروا أن حِكْمَةَ تأخير غسل الوجه عن المضمضة والاستنشاق اعتبار أوصاف الماء؛ لأن اللون يُدرك بالبصر، والطعم يُدرك بالفم، والريحُ يدرك بالأنف؛ فقدمت المضمضة والاستنشاق قبل الوجه احتياطاً للعبادة. والوجه مشتقٌ من المواجهة. وقد اعتبر الفقهاء هذا الاستنشاق، وبنوا عليه أحكاماً كثيرةً. وحدُّه من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللَّحْيَين طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، وغسله واجبٌ بالنص والإجماع، أما النص: فقوله - تعالى -: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، وكل من وصف وضوءه - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه غسل وجهه. وأجمع المسلمون على وجوب غسله؛ واتفق إمامنا وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي، وأكثر العلماء على ما ذكرنا من التحديد. وقال الإمام مالكٌ: البياض الذي بين العِذار والأذن ليس من الوجه في حق الملتحي، ولا يجب غسله؛ لأن المواجهة لا تقع به (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 99). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 118)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 7).

ولنا: أنه بشرةٌ، لا شعرَ عليها، يجب غسلُها على الأمرد والمرأة، فكذلك على الملتحي كالخدين، وذلك لأ [ن] الوجوب في حقهما يدل على أنه من الوجه، فيدخل في مطلق النص. ويدل عليه قول الأصمعي والمفضل بن سلمة: ما جاوز وتد الأذن من العذار والعارضين من الوجه (¬1)، وهما من أهل اللغة، فيرجع إلى قولهما. وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من علماء الإسلام قال بقول مالكٍ (¬2). ويستحب تعاهدُ هذا الموضع بالغسل؛ لأنه يغفل عنه الناس. قال المَرُّوذي: أراني أبو عبد الله ما بين أذنه وصدغه، فقال: هذا موضعٌ ينبغي أن يُتَعاهد. وهذا الموضع مفصل اللَّحْي في الوجه (¬3). وكررَ عثمان - رضي الله عنه -: غسل وجهه (ثلاثاً)، وهو مسنون اتفاقاً، والواجب مرةً تعم محل الفرض؛ فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرةً مرةً (¬4)، فدل على أنها هي الواجبة في الوضوء، وما زاد عليها فسنةٌ. قال صاحب "المحرر": الاقتصار على الغسلة الواحدة جائزٌ، والثانية أفضل، والثالثة أفضل منهما، وما زاد على الثلاثة منهيٌّ عنه (¬5)؛ لِما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث عمرِو بنِ ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدا مة (1/ 81)، و"المُغرب" للمطرزي (2/ 47). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 118). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 81). (¬4) رواه البخاري (156)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء مرة مرة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬5) وانظر: "المحرر في الفقه" (1/ 11 - 12)، باب: صفة الوضوء.

شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، وقال: "هذا الوضوء، فمن زادَ على هذا، فقد أساءَ وتعدَّى وظلمَ" (¬1). أي: أساء الأدب الشرعي، وتعدّى ما حده الشارع، وظلم بإتلاف الماء في غير محله. ولا في كل غسلةٍ من الثلاث أن تعم العضو حتى تحسب غسلةً، فإن لم يعم إلا بغسلات لم تحسب إلا واحدةً. (و) غسل بعد وجهه (يَدَيْهِ) من رؤوس أنامله (إلى المِرْفَقَيْنِ) - تثنية مِرْفَق -بكسر الميم وفتح الفاء، ويجوز فتح الميم وكسر الفاء- (¬2). واختلف العلماء في وجوب إدخالهما في الوضوء: فأكثرُ العلماء على وجوب ذلك؛ منهم عطاء، وأبو حنيفة، وصاحباه، ومالك، والشافعي، وإمامنا، وإسحاق، وغيرهم. وقال زفر، وداود، وبعض المالكية: لا يجب؛ لأن الله - تعالى - أمر بالغسل إليهما، وجعلهما غايةً بحرف "إلى"، وهو لانتهاء الغاية، فلا يدخل المذكور بعده فيه؛ كقوله - تعالى -: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. ولنا: أنها ترد بمعنى "مع"؛ كقوله - تعالى -: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 180)، وأبو داود (135)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، والنسائي (140)، كتاب: الطهارة، باب: الاعتداء في الوضوء، وابن ماجه (422)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في القصد في الوضوء، وكراهية التعدي فيه. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 246)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص: 105)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 118)، (مادة: رفق).

قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]؛ أي: مع قوتكم، وقوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14]، {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2]. فرجحنا هنا معنى: (مع)؛ لأنه أحوط، والوضوء عبادةٌ، فيحتاط لها، ولتيقُّنِ زوال الحدث بغسل المرفقين، إذ بدونه يشك في زواله، والأصل بقاؤه، ولأن اسم اليد قد يشمل جميعها إلى المنكب، فلما قال: "إلى المرفقين"، أخرج بعض ما تناوله لفظُ اليد، فهي في غاية للإخراج، والمتيقن خروجه ما فوق المرفقين، أما هما، فمشكوك في خروجهما، فيبقى تناول لفظ اليد لهما على الأصل. وهذا تحقيق قول المبرد: إذا كان الحد من جنس المحدود، دخل فيه، نحو: بعتُ هذا الثوبَ من هذا الطرف إلى هذا الطرف (¬1). ولِما روى جابر - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ، أدار الماء على مرفقيه. رواه الدارقطني (¬2). وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه توضأ، فغسل يده حتى أشرع في العضد، ورِجْلَه حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ. رواه مسلم (¬3). وفعله - عليه الصلاة والسلام - في محل الإجمال يكون بياناً، لا يقال: فقد غسل ما فوق المرفق مع أنه ليس بواجب؛ لأنا نقول: إنا لم نثبت ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 85). (¬2) رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 83)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 56). وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 57). (¬3) رواه مسلم (246)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.

الوجوب بفعله فقط، بل جعلناه مفسراً لمجمل الآية، وإجمالُها في المرفقين دونَ ما فوقَها، وضعف ابن دقيق العيد كونَها بمعنى "مع"؛ لأن "إلى" حقيقة في انتهاء الغاية، مجازٌ بمعنى "مع"، ولا إجمال في اللفظ بعد تبين حقيقته. قال: ويدل على أنها حقيقةٌ في انتهاء الغاية، كثرةُ نصوص أهل العربية على ذلك، ومن قال: إنها بمعنى "مع"، فلم ينص على أنها حقيقةٌ في ذلك، فيجوز أن يريد المجاز، انتهى (¬1). قال ابن عقيلٍ في "الواضح": "إلى" موضوعةٌ لانتهاء الغاية، نحو قولك: ركبتُ إلى زيد؛ وجئتُ إلى عمرٍو، وإن أريد به دخول الغاية في الكلام، فبدليلٍ يوجب ذلك غير "إلى"، نحو قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، أريد به مع المرافق، بدليل غير الحرف، ولذلك لم يوجب قولُه: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] دخولَ الليل مع النهار (¬2). ومثلُه قولُ ابن هشام في "مغني اللبيب" حيث قال: إنها تكون للمعية، إذا ضممت شيئاً إلى آخر. وبه قال الكوفيون، وجماعةٌ من البصريين في: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52]، وقولهم: الذَّوْدُ إلى الذَّوْدِ، ولا يجوز: إلى زيدٍ مالٌ، تريد: مع زيد (¬3). قال: والحاصل: أن غسل اليدين مع المرفقين فرضٌ لازمٌ مرةً واحدةً ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 36). (¬2) انظر: "الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل (1/ 113 - 114). (¬3) انظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 104)، و"الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري (1/ 266).

تعم سائرَ العضو حتى الأظفار، نعم يُعفى عندنا عن وسخٍ يسيرٍ تحت ظفرٍ ونحوه. وكررَ سيدنا عثمان - رضي الله عنه - غسل يديه (ثلاثاً)؛ لأنه سنة، كما مر. وفي روايةٍ: فقدم اليمنى على اليسرى، ولفظه كما في "الصحيحين": ثم غسلَ يَده اليمنى إلى المِرْفَقِ، ثم غسلَ يدَه اليسرى مثلَ ذلك (¬1). (ثم) بعد ذلك، (مَسَحَ) - رضي الله عنه - (برأسِهِ)، وحذفت الباء في بعض الروايات من "رأسه"، في كل من "الصحيحين"، والكثير المشهور إثباتها؛ موافقة للفظ الآية، وليس في شيءٍ من طرق هذا الحديث في "الصحيحين" ذكر عدد المسح، وبه قال أكثر العلماء. قال في "الفروع": ثم يمسح رأسه -وهو فرضٌ إجماعاً-، ويجب مسح ظاهره كله وفاقاً لمالك، ولا يستحب تكرار المسح، وعنه: بلى؛ وفاقاً للشافعي، ونصره أبو الخطاب وابن الجوزي (¬2). والصحيح من المذهب: لا يستحب ذلك. قال الحافظ ابن حجر: في "الفتح": قال الشافعي: يستحب التثليث في المسح، كما في الغسل، واستدل له بظاهر روايةِ مسلمٍ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً (¬3). وأُجيب: بأنه مجمل تبين في الروايات الصحيحة؛ أن المسح لم يتكرر، ويحمل على الغالب، أو يخص بالمغسول. ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجه في حديث الباب. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 118، 120). (¬3) رواه مسلم (230)، كتاب: الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه.

قال أبو داود في "السنن": أحاديثُ عثمان الصحاح كلها تدل على مسح الرأس مرة واحدة (¬1)، وكذا قال ابن المنذر: أن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرةٌ واحدةٌ تُمسح (¬2)؛ وبأن المسح مبني على التخفيف، فلا يقاس على الغسل؛ إذ المراد منه: المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح، لصار في صورة الغسل؛ إذ حقيقة الغسل جريان الماء، والدلك ليس بمشترطٍ - على الصحيح - عند أكثر العلماء، وبالغ أبو عبيدٍ؛ فقال: لا نعلمُ أحداً من السلف استحب تثليث مسح الرأس، إلا إبراهيم التيمي. قال الحافظ ابن حجر: وفيما قال نظرٌ؛ فقد نقله ابن أبي شيبة وابنُ المنذر عن أنسٍ، وعطاء، وغيرهما، وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابنُ خزيمة وغيره، في حديث عثمان تثليثَ مسح الرأس، والزيادةُ من الثقة مقبولةٌ، انتهى (¬3). قلت: صرّح في حديث علي - رضي الله عنه - بالمرة، وهو ما رواه الترمذي، وصححه عن أبي حيَّة، قال: رأيت علياً توضأ، فغسل كفيه، ثم تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه مرةً، ثم غسل قدميه، ثم قال: أحببتُ أن أريكم كيف كان طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "سنن أبي داود" (1/ 26). (¬2) انظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 397). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 260). (¬4) رواه الترمذي (48)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف كان، وأبو داود (116)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنسائي (96)، كتاب: الطهارة، باب: عدد غسل اليدين.

وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح رأسه مرة واحدةً (¬1). وقد روى عنه: أنه كان يمسح مرةً: معاذُ بن جبل، والبراءُ، وعبدُ الله بنُ عمرٍو، وابن عمر، وابنُ عباسٍ (¬2). وفي حديث الرُّبَيِّعِ بنتِ مُعَوِّذِ بنِ عفراءَ - رضي الله عنها -، قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمسح رأسه، ومسح ما أقبل منه وما أدبر، وصدغيه، وأذنيه مرةً واحدةً. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (¬3). فالمذهب: عدم تكرار مسح الرأس، والله أعلم. تنبيهات: الأول: استيعابُ جميع الرأس بالمسح فرضٌ، هذا المذهبُ بلا ريبٍ، وعليه جماهير علمائنا متقدمهم ومتأخرهم؛ وفاقاً لمالك؛ لقوله - تعالى -: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، أضاف المسح إلى الجملة، كما أضافه في التيمم إلى الوجه بقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. فيجب استيعابهما حسبَ الإمكان؛ عملاً بظاهر الأمر، والباء لا توجب تبعيضاً، وإنما هي للإلصاق. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 268)، وابن ماجه (444)، كتاب: الطهارة، باب: الأذنان من الرأس. (¬2) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 149). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 359)، وأبو داود (129)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والترمذي (34)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن مسح الرأس مرة.

قال أبو بكرٍ غلامُ الخَلَّال: سألت ابنَ دريدٍ وأبا عبدِ الله بنَ عرفةَ عن الباء تُبَعِّضُ؟ فقالا: لا يعرف في اللغة أنها تبعض. وقال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض، فقد جاء أهلَ اللغة بما لا يعرفونه (¬1)، ولهذا يحسن أن تقول: امسح برأسك كلِّه، والشيء لا يؤكَّدُ بضده. وتقول: امسح ببعض رأسك، فتصرح بالبعض معها، ثم لو قدرنا أنها تردُ التبعيض، فقد ترد زائدة؛ كقوله:- تعالى -: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6]، وكقولك: تزوجت بالمرأة، ونحو ذلك، فتصير الآية مجملةً. وقد فسرها فعلُ وضوئه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه ثبتَ عنه مسحُ الكلِّ من رواية عبدِ الله بنِ زيدٍ (¬2)، ومعاويةَ (¬3)، وغيرهما، وترجم له البخاري باب: مسح الرأس كله، لقوله - تعالى -: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، قال: وسئل مالكٌ: أيجزئ أن يمسح على بعض رأسه؟ فاحتج بحديث عبد الله بن زيدٍ (¬4)، ويأتي في كلام الحافظ - قدس الله روحه -. ¬

_ (¬1) انظر: "المبدع" لابن مفلح (1/ 127)، و"القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام (ص: 140)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 98). (¬2) رواه البخاري (183)، كتاب: الوضوء، باب: مسح الرأس كله، ومسلم (235)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن عبد الله بن زيد المازني - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أبو داود (129)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي الباب: عن عائشة، والمقدام بن معدي كرب، قال الترمذي في "سننه" (1/ 47): حديث عبد الله بن زيد أصح شيء في الباب وأحسن. (¬4) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 79).

وقال ابنُ المسيب: المرأة بمنزلة الرجل، تمسح على رأسها (¬1). قال الحافظ ابن حجرٍ: موضع الدلالة من الحديث والآية: أن لفظ الآية مجملٌ؛ لأنه يحتمل أن يراد منها مسحُ الكل على أن الباء زائدةٌ، أو مسحُ البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد: الأول، ولم ينقل عنه أن مسحَ بعضَ رأسه إلا في حديث المغيرة: أنه مسح على ناصيته وعِمامته (¬2)؛ فإن ذلك دلَّ على أن التعميم ليس بفرض، انتهى. قلت: وحديث المغيرة لا دلالة لهم فيه؛ لأنا نقول بمقتضاه. قال في "تنقيح التحقيق": يجب مسحُ جميع الرأس، وقال أبو حنيفة: مقدارُ الربع، وقال الشافعي: أقلُّ ما يتناوله اسمُ المسح. ثم احتج لنا بحديث عبد الله بن زيدٍ، ويأتي. واحتج الخصم بحديث المغيرةِ بنِ شعبةَ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمسح ناصيتَهُ، ومسح على الخفين والعِمامة، متفق عليه (¬3). قال الحافظ ابنُ الجوزي: وليس فيه حجةٌ لهم؛ لأنه لو جاز الاقتصار على الناصية، لما مسح على العمامة. وذكر الحافظ الضياء: أن حديث المغيرة انفرد به مسلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "صحيحه" (1/ 79) معلقاً. ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (241) موصولاً. (¬2) رواه البخاري (180)، كتاب: الوضوء، باب: الرجل يوضئ صاحبه، ومسلم (274)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين. (¬3) تقدم تخريجه قريباً.

قال الحافظ ابن عبد الهادي: وهو كما قال (¬1). وقال الحافظ عبدُ الحق في "الجمع بين الصحيحين" بعد أن ذكر حديثَ المغيرة بطوله: لم يذكر البخاري المسحَ على الناصية في كتابه (¬2). والحاصل: وجوب مسح جميع الرأس - على الصحيح المعتمد -. وفي حديث عمرِو بنِ عَبَسَةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ثم يمسحُ رأسَهُ كما أمرَهُ اللهُ إلا خرجَتْ خطايا رأسِهِ من أطرافِ شعرِهِ مَعَ الماءِ" (¬3)، فهذا يرشد إلى أن المسح المأمور به، يتضمن وصولَ الماء إلى أطراف الشعر؛ ولأنه عضوٌ غيرُ محدودٍ في الطهارة، فوجب استيعابه كالوجه. قال في "الفروع": وعُفي في "المترجم" (¬4) و"المُبْهِج" (¬5) عن يسيرٍ؛ للمشقة (¬6)، وصوّبه في "الإنصاف" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 112). (¬2) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 217)، حديث رقم (368). (¬3) رواه مسلم (832)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: إسلام عمرِو بنِ عَبَسَة - رضي الله عنه -. (¬4) للإمام الفقيه الحافظ إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب السعدي أبو إسحاق الجوزجاني، المتوفى سنة (259 هـ)، كتاب: "المترجم" في الفقه، قال ابن كثير: فيه علوم غزيرة، وفوائد كثيرة. انظر: "معجم مصنفات الحنابلة" لعبد الله الطريقي (1/ 91). (¬5) كتاب "المُبهج في فروع الحنابلة" لأبي الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد الشيرازي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، المتوفى سنة (486 هـ). انظر: "إيضاح المكنون" للبغدادي (2/ 425)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 971). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 118). (¬7) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 161).

وعن الإمام روايةٌ: يجزئ مسحُ بعضه للمرأة دونَ غيرها، قال الخَلَّال والموفَّق: هذه الرواية هي الظاهرُ عن أحمدَ. قال الخلال: العمل في مذهب أبي عبد الله: أنها إن مسحت مقدم رأسها، أجزأها. ذكره في "الإنصاف" (¬1)، والله أعلم. الثاني: الأذنان من الرأس، فيجب مسحهما، وبه قال سفيان الثوري، وابن المبارك. قال في "الفروع": والأذنان منه؛ وفاقاً لأبي حنيفةَ ومالكٍ، ففي وجوب مسحهما روايةٌ، خلافاً للأئمة الثلاثة (¬2). قال في "تنقيح التحقيق": الأذنان من الرأس تمسحان بماء الرأس، وقال الشافعي: ليسا من الرأس، ويسن لهما ماءٌ جديد. ثم ذكر عدة أحاديث تدل لظاهر مذهبنا: منها: حديث أبي أمامة مرفوعاً: "الأُذُنانِ من الرَّأْسِ" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني (¬3)، وصوب ابنُ عبد الهادي وقفه على أبي أمامة - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) المرجع السابق (1/ 162). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 119). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 264)، وأبو داود (134)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن ماجه (444)، كتاب: الطهارة، باب: الأذنان من الرأس، والدارقطني في "سننه" (1/ 103). ورواه أيضاً: الترمذي (37)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن الأذنين من الرأس، وقال: هذا حديث حسن، ليس إسناده بذاك القائم.

ومنها: ما رواه الدارقطني من حديث ابن عمرَ مرفوعاً، مثله (¬1). فيه: أسامةُ بن زيدٍ، عن نافع، قال الإمام أحمد: أسامة قد روى عن نافعٍ أحاديثَ مناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي. ولنا: أن الإمام يحيى بنَ معينٍ قال فيه: ثقةٌ صالحٌ. ومنها: عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - مثلُه مرفوعاً، رواه الدارقطني وغيره (¬2). قال الحافظ ابن عبد الهادي: قد زعم ابنُ القطان: أن إسناد هذا الحديث صحيحٌ؛ قال: لثقةِ رواته، واتصاله، وإنما أعله الدارقطني بالاضطراب في إسناده، فتبعه عبدُ الحق على ذلك، وهو ليس بعيبٍ فيه. قال ابن عبد الهادي: وفيه نظرٌ كثيرٌ، انتهى. وفي الباب: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، رواه الدارقطني، وصوب إرساله (¬3)، وعن عائشة، وصحح إرساله (¬4). وعن الرُّبيع بنتِ مُعَوِّذٍ: أنها رأت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، قالت: فمسح رأسَه وصدغيه وأذنيه مرةً واحدةً (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 97)، وصوب وقفه على ابن عمر- رضي الله عنهما -. (¬2) رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 98)، وابن عدي في "الكامل الضعفاء" (4/ 196). (¬3) رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 100)، وابن ماجه (445)، كتاب: الطهارة، باب: الأذنان من الرأس. (¬4) رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 100). (¬5) تقدم تخريجه.

احتج من لم يقل: إنهما من الرأس بأخذِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ماءً جديداً لهما. قلنا: لا حجة في هذا؛ لأنا نقول: هذا الأولى، والله تعالى الموفق (¬1). (ثم) بعد مسح رأسه، (غسل) سيدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (كلتا رِجْلَيْهِ)، كذا في رواية ابن عساكر. قال الحافظ ابن حجر: وهي التي اعتمدها صاحب "العمدة"، وللأصيلي والكشميهني: ثم غسلَ كلَّ رجلٍ، قال: وللمستملي والحموي: "كل رجله". قال: وهي تفيد تعميم كل رجلٍ بالغسل. قال: وفي نسخةٍ: "رجليه" بالتثنية، وهي بمعنى الأول، انتهى (¬2). قال في "شرح الوجيز": غسلُ الرجلين فرضٌ عند العلماء كافةً؛ للآية؛ فقد روى جماعةٌ منهم: علي، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عباسٍ - رضي الله عنهم-: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالنصب، عطفاً على المغسول. ولا بد من دخول الكعبين - وهما العظمان الناتئان في جانبي الرجل - في الغسل اتفاقاً. وتقدم في الحديث الثالث الرد على المخالف من الشيعة. (ثلاثاً): هذا يدل على استحباب التكرار في غسل الرجلين ثلاثاً. وبعض الفقهاء لا يرى ذلك، وقد ورد في بعض الروايات، من حديث عبد الله بن زيدٍ - رضي الله عنه -: وغسل رجليه حتى أنقاهما، رواه مسلم (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 117 - 121). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 266). (¬3) رواه مسلم (236)، (1/ 211)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -.

والذي قدمه في "صحيح مسلمٍ" من حديث عثمان هذا، ما هذا لفظه: ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مراتٍ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك. متفقٌ عليه (¬1). وفي حديث معاويةَ - حين حكى وضوءَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه غسل رجليه بغير عددٍ، رواه أبو داود (¬2). والحاصل: أنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الوضوءُ مرةً مرةً (¬3)، ومرتين مرتين (¬4)، والتثليث (¬5)، وهو أكثرُ فعله وقوله. وثبت وجودُ التثليث في بعض الأعضاءِ دون بعضٍ؛ فربما غسل عضواً ثلاثاً، وآخر مرتين، وآخر مرةً، وبالعكس. وكل ذلك جائزٌ من غير كراهةٍ، على أشهر الروايتين عن الإمام أحمد؛ وفاقاً للشافعي، وإسحاق، وغيرهما، والله أعلم. تنبيهات: الأول: كلمة "كلتا" مفردةٌ لفظاً، مثناة معنى، مضافة أبداً لفظاً ومعنى إلى كلمة واحدةٍ معرفةٍ دالة على اثنين، ككلمة كلا، إما بالحقيقةِ والتنصيصِ؛ نحو: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ} [الكهف: 33]، و"كلتا رجليه"، أو الحقيقة ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه أبو داود (125)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) تقدم تخريجه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬4) تقدم تخريجه من حديث عبد الله بن زيد المازني - رضي الله عنه -، وسيأتي الكلام عليه قريباً. (¬5) تقدم تخريجه من حديث عثمان - رضي الله عنه -.

والاشتراك، نحو: "كلانا"؛ فإن لفظة: "نا" مشتركةٌ بين الاثنين والجماعة، أو بالمجاز؛ كقوله (¬1): [من الرمل] إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى ... وَكِلا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ فإن لفظة: "ذلك" حقيقةً في الواحدة، وأشير بها إلى المثنى على معنى وكلا [ما ذكر]، واحترز بقوله: إلى كلمةٍ واحدة، عن نحو: [من البسيط] كِلاَ أَخِي وَخَلِيلي واجِدِي عَضُدِي. . . . . . . . . . . . . فإنه ضرورة نادرة. وأجاز ابنُ الأنباري إضافتَها إلى المفرد بشرط تكريرها، نحو: كلاي، وكلاكَ حسنان. وأجاز الكوفيون إضافتها إلى النكرة المختصة، نحو: كلا الرجلين عندك محسنان، فإن رَجُلين تخصيصهما بوصفهما بالظرف. وحكوا: كلتا جاريتين عندك مقطوعةٌ يدهما؛ أي: تاركةٌ للغزل، كما في "مغني اللبيب". قال: ويجوز مراعاة لفظ "كلا" و"كلتا" في الإفراد، نحو: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33]، ومراعاة معناها، وهو قليلٌ، وقد اجتمعا في قوله (¬2): [من البسيط] كِلاَهُمَا حِينَ جَدَّ الجَرْيُ بَيْنَهُمَا ... قَدْ أَقْلَعَا وَكِلاَ أَنْفَيْهِمَا رَابِي والله - تعالى - أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) هو من قول عبد الله بن الزبعرى السهمي القرشي، قاله يوم أحد قبل إسلامه. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (4/ 92). (¬2) هو الفرزدق، كما في "خزانة الأدب" للبغدادي (1/ 131). (¬3) انظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 268 - 269).

الثاني: أفاد وضوء سيدنا عثمان - رضي الله عنه - اعتبارَ الترتيب؛ لأن حُمرانَ حكى ذلك عنه بالعطف بحرف "ثم" المفيدة لذلك، ولأنه أدخل مسح الرأس بين غسل بقية الأعضاء، فلو لم يكن الترتيب معتبراً، لأتى بغسل الأعضاء المغسولة على حِدَتها، ثم بالممسوح، أو بالعكس، وكذا أمر الله - سبحانه وتعالى - في محكم كتابه، فأدخل ممسوحاً بين مغسولاتٍ. قال في "الفروع": ومن فروض الوضوء: الترتيبُ؛ خلافاً لأبي حنيفةَ؛ ومالكٍ (¬1). قال في "شرح الوجيز": الترتيبُ جعلُ كل واحدٍ من شيئين فصاعداً في مرتبته التي يستحقها بوجهٍ ما، وجملة ذلك: أن الترتيب في الوضوء كما ذكر الله - تعالى - واجبٌ في قول إمامنا. قال الإمام الموفق: ولم أر عنه فيه اختلافاً. وهو قول الشافعي؛ لأن في الآية قرينةً تدل على أنه أريد بها الترتيب؛ فإنه أدخل ممسوحاً بين مغسولين، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدةٍ، ولا فائدة هنا سوى الترتيب. فإن قيل: بل فائدته استحبابُ الترتيب. فالجواب: أن الآية إنما سيقت لبيان الواجب، ولذلك لم يذكر فيها شيئاً من السنن، ولأنه متى اقتضى اللفظ الترتيب، كان مأموراً به، والأمر يقتضي الوجوب (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 123). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 92 - 93).

ولأن قوله - عليه السلام - في حديث عمرِو بنِ عَبَسَةَ: "ثم يمسحُ رأسَه كما أمرَهُ اللهُ، ثم يغسلُ رجليه إلى الكعبينِ كما أمَرُه اللهُ" رواه الإمام أحمد، وابن خزيمة (¬1)، وأصله في "صحيح مسلم" (¬2) دليلٌ على أن الله - تعالى- أمر بمسح الرأس بعد اليدين، وبغسل الرجلين بعد المسح، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ مرتباً، فكان فعله مفسراً للآية، والأخبار والآثار تدل على اعتبار الترتيب في الأعضاء الأربعة، والله أعلم. الثالث: يستفاد من وضوئه - رضي الله عنه - اعتبارُ الموالاة؛ وهي ألَّا يؤخَّرَ غسلُ عضوٍ حتى يجفَّ ما قبله في الزمن المعتدل. وهي من فروض الوضوء عندنا؛ خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي؛ نص إمامنا على اعتبارها في رواية صالحٍ، وعبدِ الله، والميموني، وحربٍ، وأبي داود، وبها قال مالك؛ لما روى خالدُ بنُ معدان عن بعض أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي، وفي ظهرِ قدمِه لمعةٌ قدر الدرهم لم يُصبها الماء، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الوضوء والصلاة. رواه الإمام أحمد، وأبو داود. وليس فيه لأحمد: الصلاة (¬3). قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا إسنادٌ جيدٌ؟ قال: جيد (¬4). وأخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن رجلاً ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 112)، وابن خزيمة في "صحيحه" (165). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 424)، وأبو داود (175)، كتاب: الطهارة، باب: تفريق الوضوء. (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 91)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 130).

توضأ، فترك موضعَ ظُفْرٍ على قدمه، فأمره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ارجِعْ فأحسنْ وضوءك"، فرجع فتوضأ ثم صلى (¬1). فهذه الأحاديث ونحوها تدل على اعتبار الموالاة. نعم لا يضر الجفاف؛ لاشتغاله بالآخَر بسنَّةٍ، كتخليلٍ أو إسباغ، أو إزالةِ شكٍّ، والله أعلم. وبعد فراغ سيدنا عثمان من وضوئه على النحو المشروح، (قال) - رضي الله عنه -: (مَنْ توضَّأَ) من المسلمين (نَحْوَ) أي قريبَ أو شِبْهَ، فإن لفظة "نحو" لا تطابق لفظة "مثل"، فإن لفظة "مثل" يقتضي ظاهرها المساواة من كل وجهٍ، إلا في الوجه الذي يقتضي التغاير بين الحقيقتين؛ بحيث تخرجهما عن الوحدة، ولفظة "نحو" لا تعطي ذلك. قال ابن دقيق العيد: ولعلها استعملت بمعنى المثل مجازاً، أو لعله لم يترك مما يقتضي المثليةَ إلا ما لا يقدحُ في المقصود، فقد يظهر في الفعل المخصوص أن فيه أشياءَ ملغاةً عن الاعتبار في المقصود من الفعل، فإذا تركت هذه الأشياء، لم يكن الفعل مماثلاً حقيقةً لذلك الفعل، ولم يقدح تركُها في الفعل المقصود منه، وهو رفع الحدث، وترتُّب الثواب، وإنما احتيج إلى هذا؛ لأن هذا الحديث ذُكر لبيان فعلٍ يقتدى به يحصِّل للثواب الموعود عليه، فلا بد وأن يكون الوضوء المحكيُّ المعقول محصلاً لهذا الغرض؛ فلهذا قلنا: إما أن يكون استعمل "نحو" في غير حقيقتها، يعني: بمعنى "مثل"؛ أي: مثل (وضوئي هذا) الذي شاهدتموه، أو يكون ترك ¬

_ (¬1) رواه مسلم (243)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة.

ما علم قطعاً أنه لا يخل بالمقصود، فاستعمل "نحو" في حقيقتها مع عدمِ فوات المقصود. ويمكن أن يقال: إن الثواب يترتَّب على مقاربة ذلك الفعل تسهيلاً وتوسيعاً على المخاطبين من غير تضييقٍ وتقييدٍ بما ذكرناه، إلا أن الأول أقربُ إلى مقصود البيان، انتهى (¬1). قال النووي في شرح هذا الحديث: إنما لم يقل: مثل؛ لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره (¬2). قال الحافظ ابنُ حجرٍ في "شرح البخاري": لكن ثبت التعبير بها في رواية البخاري في "الرقاق" من طريق معاذِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن حُمرانَ، ولفظه: "من توضَّأَ مثلَ هذا الوضوءِ". وله في "الصيام": من رواية معمرٍ: "مَنْ تَوَضَّأَ بوضوئي هذا". ولمسلمٍ من طريق زيدِ بنِ أسلمَ عن حُمران: "من توضأ مثل وضوئي هذا" (¬3). وعلى هذا، فالتعبير بـ: نحو، من تصرف الرواة؛ لأنها تطلق على المثلية مجازاً، ولأن "مثل" وإن كانت تقتضي المساواة ظاهراً، لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود، انتهى (¬4). فائدةٌ: النحو يطلق على معانٍ شتَّى، منها: الطريقُ، والجهةُ، والقصدُ، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 37 - 38). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 108). (¬3) تقدم تخريج هذه الروايات الأربع في حديث الباب، فلتنظر في مواضعها. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 260).

ظرفاً واسماً، وعِلْمُ العربية، والقربُ، والمثلُ، والجانبُ، والعدلُ، والرعدةُ، والتمطِّي، ونحَاهُ: صَرَفَهُ، وغيرها (¬1). (ثم صَلَّى) بعد فراغه من نحو هذا الوضوء المشروح (رَكْعَتَيَن). فيه: استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء، وسيأتي لذلك ذكر - إن شاء الله تعالى -. (لا يُحَدِّثُ فيهما)؛ أي: في حالِ صلاته لهما. قال الحافظ ابنُ حجرٍ: المراد به: ما تسترسلُ النفسُ معه، ويمكن المرءَ قطعُه؛ لأن قوله: يحدث يقتضي تكسباً منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس، ويتعذر دفعه، فذلك معفوٌّ عنه. ونقل القاضي عياض عن بعضهم: بأن المراد: من لم يحصل له حديث النفس أصلاً ورأساً (¬2). ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في "الزهد" بلفظ: لم يسر فيهما (¬3). ورده النووي، فصوب حصول هذه الفضيلة المذكورة في الحديث مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة (¬4)، نعم من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلاً، أعلى درجة بلا ريبٍ. ثم إن تلك الخواطر، منها ما يتعلق بالدنيا، ومنها ما يتعلق بالآخرة، والحديث محمول على المتعلق بالدنيا. يؤيده ما وقع في رواية الحكيم الترمذي (¬5) في هذا الحديث: "لا يحدث نفسه بشيءٍ من الدنيا"، وهي في ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1727)، (مادة: نحا). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 19). (¬3) لم أقف عليه في المطبوع من "الزهد" لابن المبارك، والله أعلم. (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 108). (¬5) في كتاب "الصلاة" له، كما ذكر العيني في "عمدة القاري" (3/ 7).

"الزهد" لابن المبارك -أيضاً-، و"المصنف" لابن لأبي شيبة (¬1)، وأما ما يتعلق بالآخرة، فإن كان أجنبياً، أشبهَ أحوال الدنيا، وإن كان من متعلقات الصلاة، فلا بأس به (¬2)؛ كالفكر في معاني المتلو من القرآن العزيز، والدعوات والأذكار الواقعة في الصلاة؛ بخلاف اشتغال قلبه بتفهيم مسائل البيع والشراء والشفعة، ودقائق الفقه التي في غير صلاته، فليس كل أمر محمود ومندوب إليه يندب استحضاره في الصلاة، بل المطلوب من المصلي أن يكون حاضر القلب، مقبلاً على الله في صلاته، قد أشعر قلبه عظمةَ من هو واقفٌ بين يديه، وأما من ذهب قلبه في أنواع الوساوس وأودية الأماني، فليس له من صلاته إلا ما عقل منها، فبين صلاتي هذين كما قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبلٌ بقلبه على الله - عز وجل -، والآخر ساهٍ غافل (¬3). كما أشار إليه في "الكلم الطيب" (¬4)، وفي "الفتاوى المصرية" (¬5) لشيخ الإسلام ابن تيمية. من العلماء من قال: إذا غلب الوسواس على قلبه في أكثر الصلاة، لم تصح صلاته، وعليه الإعادة، وهذا قول ابن حامد، وابن الجوزي من ¬

_ (¬1) رواه بن أبي شيبة في "المصنف" (7631)، عن صلة بن أشيم. ولم أره عند ابن المبارك في "الزهد"، والله أعلم. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 260). (¬3) رواه ابن المبارك في "الزهد" (ص: 24)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 71). (¬4) وانظر: "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 36). (¬5) انظر: "الفتاوي المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 23).

أصحاب الإمام أحمد، والغزالي من الشافعية (¬1). لكن المشهور عن الأئمة أن الفرض يسقط بذلك. وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: ليس لك من صلاتك إلا ما عَقَلْت منها (¬2). وفي سنن أبي داود وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إن العبدَ لينصَرِفُ من صلاتِه وما يُكتبُ له منها إلا نصفُها، إلا ثلثُها، إلا ربعُها، إلا خمسُها، إلا سدسُها، إلا سبعُها، إلا ثمنُها، إلا تسعُها، إلا عشرُها" (¬3). قال ابن تيمية: فهذا بينٌ أنه لا يُثاب إلا على عمله بقلبه، لكن معنى سقوط الفرض عنه: أن ذمته تبرأ من الإثم، فلا يعاقب عقوبة تارك الصلاة، وهو مع ذلك: لا يكون له ثوابٌ، فيكون كما جاء في الأثر: "رُبَّ قائمٍ حَظُّه من قيامِه السَّهرُ، وربَّ صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوعُ والعطشُ" (¬4). انتهى ملخصاً (¬5). (نَفْسَهُ) -بالنصب- مفعول "يُحدِّثُ"، والمراد: لم يسترسل مع نفسه في ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 119)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 393). (¬2) ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عدة من "الفتاوى"، انظر: (7/ 31)، (15/ 236)، (22/ 6)، (22/ 25)، وغيرها. وروى أبو نعيم في "حلية الأولياء" (7/ 61)، عن سفيان الثوري: أنه قال: يكتب للرجل من صلاته ما عقل منها. (¬3) رواه أبو داود (796)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في نقصان الصلاة، والنسائي في "السنن الكبرى" (611)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 321)، وابن حبان في "صحيحه" (1889)، وغيرهم عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه -. (¬4) رواه ابن ماجه (1690)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الغيبة والرفث للصائم، والنسائي في "السنن الكبرى" (3249)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 373)، وغيرهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 280).

أودية الأماني، وضروب الوساوس، ولفظ البخاري: "لا يحدث نفسه فيها بشيءٍ"؛ أي: مما قدمنا ذكره من الأماني. ونفس الإنسان: روحه، أو الروح غير النفس، وأن يراد بالروح: النفس المتردد في البدن، والنفس التي يتوفاها الله عند نوم الإنسان، وهو جسمٌ مخالفٌ بالماهية لهذا الجسم المحسوس، نوراني طري حقيقي متحركٌ ينفذ إلى جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم. فما دامت هذه الأعضاء صالحةً لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي هذا الجسم اللطيف متشابكاً بهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإرادة، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار، فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح. هذا الذي صوبه الإمام ابن القيم في كتابه "الروح" من عدة أقوال، وقال: إنه لا يصح غيره، وذكر على صحته مئة دليلٍ وبضعة عشر دليلاً (¬1). (غُفر له)؛ أي: لذلك المتطهر للصلاة المذكورة - وصلى الركعتين اللتين حفظ فيهما قلبه بإقباله فيهما على ربه، ولم يحدث نفسه ويسترسل معها في أودية الأماني. والغفرُ: السترُ، والمغفرة والتكفير يتقاربان، فالمغفرة: سترُ الذنوب، ووقاية شرها، ولهذا سُمي ما ستر الرأس ووقاه في الحرب مِغْفَراً، ولا يسمّى كل ساتر للرأس مِغْفَراً، والتكفير من هذا القبيل؛ لأن أصل الكُفر: الستر والتغطية. ¬

_ (¬1) انظر: "الروح" لابن القيم (ص: 178 - 179).

وفرق بعض المتأخرين بينهما: بأن التكفير: محو أثر الذنب، حتى كأنه لم يكن، والمغفرة تتضمن من ذلك إفضال الله على العبد وإكرامه. ونظر في هذا الفرق الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين". وقيل: إن المغفرة لا تكون إلا مع عدم العقوبة والمؤاخذة؛ لأنها وقاية شر الذنب بالكلية، والتكفير قد يقع بعد العقوبة، فإن المصَائب الدنيوية كلها مكفرات للخطايا، وهي عقوبات، وكذلك العفو يقع مع العقوبة وبدونها، وكذلك الرحمة (¬1). (ما)؛ أي: الذي (تَقَدَّمَ) على صلاته الركعتين المذكورتين. (من ذَنْبِهِ)، الذي كان قد فعله. والذنب: الإثم، والجمع: ذنوبٌ. وظاهره يعم الكبائر والصغائر، لكن العلماء خصوه بالصغائر، وقالوا: الكبائر إنما تكفر بالتوبة. قال ابن دقيق العيد: وكأن المستند في ذلك: أنه ورد مقيداً في مواضع؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، كَفَّاراتٌ لما بينَهُنَّ، ما اجتُنبتِ الكبائرُ" (¬2)، فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيداً للمطلق في غيرها، انتهى (¬3). وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وهذا فيمن له كبائر وصغائر، ومن ليس له إلا صغائر، كُفرت منه، ومن ليس له إلا كبائر، خُفف عنه منها ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 176). (¬2) رواه مسلم (233)، كتاب: الطهارة، باب: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة ... ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 39).

بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر، يُزاد في حسناته بنظير ذلك. وفي الحديث: التعليم بالفعل؛ لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم. والترغيبُ في الإخلاص. وتحذيرُ من لَهَا في صلاته بالتفكير في أمور الدنيا من عدم القبول، ولا سيما إن كان في العزم على معصية؛ فإن المرء يحضره في صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها (¬1)؛ فإن العبد إذا قام في العبادة، غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقامٍ وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أَلَّا يقيمه فيه، بل لا يزال به يَعِدُه ويُمنِّيه ويُنْسِيه ويُجْلِبُ عليه بَخَيْلِه، ورَجِلِهِ، حتى يهوِّنَ عليه شأنَ الصلاة، فيتهاون بها فيتركها، فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدوُّ الله حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكِّره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجةَ، وأيس منها، فيذكِّره إياها في الصلاة؛ ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن ربه - عز وجل -، فيقوم فيها بلا قلبٍ، فلا ينال من إقبال الله وكرامته وقربه ما يناله المقبلُ على ربه، الحاضرُ بقلبه وقالبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثلما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لم تَخِفَّ عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكملَ خشوعها، ووقف بين يدي الله بقلبه وقالبه، فهذا إذا انصرف منها، وجد خِفَّة من نفسه، وأحسَّ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 261).

بأثقال قد وُضِعت عنه، فوجد نشاطاً وراحةً وروحاً، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم - صلى الله عليه وسلم -: "يا بلال! أرحنا بالصلاة" (¬1)، ولم يقل: أرحنا منها (¬2). وسنرجع إلى شيءٍ من هذا في الصلاة - إن شاء الله تعالى -. تنبيه: وقع في رواية البخاري في الرقاق قال في آخر هذا الحديث: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغتروا"؛ أي: فتستكثروا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها؛ فإن الصلاة التي تكفر بها الخطايا هي التي يقبلها الله تعالى، وأنَّى للعبد اطلاع على ذلك؟! قلت: لفظ البخاري عن حمران: قال: أتيت عثمان بطهور وهو جالس على المقاعد، فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وهو في هذا المجلس، فأحسن الوضوء، ثم قال: "من توضأ مثلَ هذا الوضوء، ثم أتى المسجدَ، فركعَ ركعتين، ثم جلسَ، غفر له ما تقدَّم من ذنبه". قال: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغتروا" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4985)، كتاب: الأدب، باب: في صلاة العتمة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 364)، عن رجل من الصحابة - رضي الله عنهم -. (¬2) نقلاً عن ابن القيم - رحمه الله - في "الوابل الصيِّب" (ص: 35 - 36). (¬3) تقدم تخريجه في حديث الباب.

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَن عَمْرِو بْنِ يَحْيَى المَازِنِيِّ، عَنْ أَبيهِ، قالَ: شَهِدْتُ عَمْرَو بنَ أبي حَسَنٍ، سَأَلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ زَيْدٍ، عَنْ وُضُوءِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فَدَعَا بتَوْرٍ مِنْ مَاءً، فَتَوَضَّأَ لَهُم وُضُوءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَكْفَأَ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاثاً، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ في التَّوْرِ، فَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ ثَلاثاً بِثَلاثِ غَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا مَرَّتيْن إلى المِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيْهِ، فَمَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً واحِدَةً، ثمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ (¬1). وفي رواية: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى المَكَانِ الَّذي بَدَأَ مِنْهُ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (184)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين إلى الكعبين، ومسلم (235)، (1/ 210)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنهما قالا: "فغسلهما مرتين مرتين إلى المرفقين"، كما أنهما زادا في آخره: "إلى الكعبين". (¬2) رواه البخاري (183)، كتاب: الوضوء، باب: مسح الرأس كله، ومسلم (235)، (1/ 211)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو داود (118)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنسائي (97)، كتاب: الطهارة، باب: حد الغسل، والترمذي (32)، كتاب: الطهارة، باب: =

وفي رواية: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً في تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ (¬1). قال - رضي الله عنه -: التَّوْرُ إِنَاءٌ يُشْبِهُ الطَّسْتِ. * * * (عن عَمْرِو بنِ يحيى) بنِ عمارة بن أبي الحسنِ تميمٍ (المازنيِّ) من بني مازنِ بنِ النجارِ الأنصاريِّ. ¬

_ = ما جاء في مسح الرأس أنه يبدأ بمقدم الرأس إلى مؤخره، وابن ماجه (434)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في مسح الرأس. (¬1) رواه البخاري (194)، كتاب: الوضوء، باب: الغسل والوضوء في المخضب والقَدَح والخشب والحجارة، وأبو داود (100)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء في آنية الصفر، وابن ماجه (471)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بالصفر، وهذا لفظ ابن ماجه، ولفظ البخاري: "أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرجنا ..... ". وقال ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (1/ 385): قول المصنف: وفي رواية: "أتانا رسول الله ... "، كذا أخرجه البخاري، ولم أر هذا الإسناد ولا المتن هكذا في مسلم، فكان ينبغي للمصنف إذن أن يقول: وفي رواية للبخاري، فتنبه لذلك، انتهى. ثم إنه ليس في شيء من روايات مسلم لفظة: "التور"، وإنما هي من أفراد البخاري؛ كما نبه عليه الصنعاني في "حاشية إحكام الأحكام" (1/ 194). * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 122)، و"المنتقى في شرح الموطأ" لأبي الوليد الباجي (1/ 269)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 50)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 24)، و"المُفهم" للقرطبي (1/ 484)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 121)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 40)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 17 - 19)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام " لابن الملقن (1/ 385)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 291)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 45)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 191).

فأما عمرٌو: فروى عنه الإمام مالكٌ، ووهبٌ، وخلقٌ، وهو ثقةٌ، أخرج له الستة، توفي سنة أربعين ومئة (¬1). وأما والده يحيى: فوثقه النسائي وغيره، وأخرج له الجماعة. روى عن عبد الله بن زيد بن عاصم، وأبي سعيد الخدري، وشقران بن أنس بن مالك، وغيرهم. وروى عنه: الزهريُّ، ومحمدُ بن يحيى بن حبان، وابنه عمرو، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة (¬2). (قال): -يعني: يحيى بن عمارة -: (شهدتُ عَمْرَو بنَ أبي حسنٍ) اسمُهُ: تميمٌ، فعمَارةُ وعمرٌو هذا أخوه، فيكون يحيى روى عن عمه عمرو بن أبي الحسن الأنصاري المازني من بني مازن بن النجار. ووقع في "سنن أبي داود": أن عمرو بن يحيى هو السائل لعبد الله بن زيدٍ، فقال له: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ (¬3)؟ وهو مخالفٌ لما في "الصحيحين" وغيرهما: أنه روى عن أبيه سؤالَ عمِّ ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 382)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 269)، و"الثقات" لابن حبان (7/ 215)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 295)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (8/ 104)، و"تقريب التهذيب" له أيضاً (تر: 5139). (¬2) انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 295)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 175)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 522)، و"تهذيب الكمال" للمزي (31/ 474)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 227). (¬3) انظر: "سنن أبي داود" (1/ 29). وقد تقدم تخريجه في حديث الباب.

أبيه عمرِو بنِ أبي حسنٍ لعبد الله بنِ زيدٍ؛ لأنه هو الذي سأله، وليس لعمرِو بن أبي الحسن روايةٌ في شيءٍ من الكتب الستة. وأما أبوه أبو الحسن؛ فهو معدود من الصحابة؛ يقال: شهد العقبة وبدراً، وأما ابناه عمرٌو، وعمارة، فقيل: لهما صحبةٌ، فقد ذكر ابن منده عمارة في الصحابة. وأما عمرو بن أبي الحسن، فذكره أبو موسى المديني في كتابه الذي أدخل به من أخل به ابن منده في الصحابة، وقال: أورده سعيد -يعني: القرشي - في الصحابة (¬1). (سأَلَ) عمرُو بنُ أبي الحَسنِ (عبدَ اللهَ بنَ زيدِ) بن عاصمٍ بن كعب بن عمرو بن عوف المازني، خال عبّاد بن تميم، كنيته: أبو محمد، ويُعرف بابن أم عمارة، واسمها: نسيبة -بفتح النون وضمها-، شهد أُحُداً، ولم يشهد بدراً، كما قاله ابن عبد البر. وقال ابن قتيبة وأبو نعيمٍ: شهدها. ويقال: إنه الذي قتل مسيلمة الكذاب، وهو قول خليفة بن خياط، والواقدي، وغيرهما. وقال غيرهم: شارك في قتله وحشيُّ بنُ حرب، فوحشيٌّ رماه بالحربة التي رمى بها حمزة - رضي الله عنه -، وأجهز على مُسيلمة عبدُ الله بنُ زيدٍ ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1141)، و"أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير (4/ 130)، و"تهذيب الكمال" للمزي (21/ 237)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 580)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (7/ 362)، و"تقريب التهذيب" له أيضاً (تر: 4842).

بسيفه، وكان مسيلمةُ قد قَتَلَ خبيبَ بنَ زيدٍ أخا عبد الله بن زيدٍ، فقضى الله أن شارك في قتله. قال الحافظ عبد الغني المصنف - رحمه الله ورضي عنه -: وقد روي من وجهٍ غريبٍ عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: أنا قتلت مسيلمة، فيحتمل-أيضاً- أن يكون شاركه فيه. وقُتِلَ عبدُ الله بن زيد - رضي الله عنه - يوم الحرة بالمدينة سنة ثلاثٍ وستين من الهجرة، وهو ابن سبعين سنةً (¬1). وهو غير عبد الله بن زيدِ بنِ عبدِ ربِّه الذي نادى بالأذان، وَرُوِيَ حديثُهُ - كما قاله الحفاظ - من المتقدمينَ والمتأخرين، وغَلَّطوا سفيانَ بنَ عيينةَ في قوله: إنه هو، وممن نصّ على غَلَطِهِ البخاري (¬2). وتوفي عبدُ الله بن زيدٍ هذا سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن أربعٍ وستين سنةً. (عن وُضُوء) متعلقٌ بـ: "سأل" (رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -). (فدعا) عبدُ الله بنُ زيدٍ - رضي الله عنه - (بِـ) إحضار (تَوْرٍ) - بالتاء المثناة -. قال في "المطالع" (¬3): التور: مثل قدح القدر من الحجارة، ويطلق ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 295)، و"تهذيب الكمال" للمزي (31/ 474)، و"الكاشف" للذهبي (تر: 6218)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 227)، و"تقريب التهذيب" له أيضاً (تر: 7612). (¬2) قال البخاري في "صحيحه" (1/ 343): كان ابن عيينة يقول: هو صاحب الأذان، ولكنه وهم؛ لأن هذا عبد الله بن زيد بن عاصم المازني مازن الأنصار. (¬3) لابن قُرقُول -بضم القافين- إبراهيم بن يوسف الوهراني الأندلسي، المتوفى سنة =

على الطست، وهو المراد هنا (¬1). (من ماء)؛ أي: فيه ماء، (فَتَوضَّأَ) عبدُ الله بنُ زيدٍ - رضي الله عنه - (لهم)؛ أي: للسائل، بيان كيفية وضوء رسول الله، والحاضرين (وُضُوءَ) هُ؛ يعني: نحو وضوءِ (النبي - صلى الله عليه وسلم -). (فَأَكْفَأَ) أي: كبَّ من الماء، يقال: كفأه؛ كمنعه: صَرَفَهُ، وكَبه، وقلبه، كأكفأه، قاله في "القاموس" (¬2)، وقال: كبه: قلبه، وصرعه، كأكبه، وكبكبه، فأكب، وهو لازمٌ متعد (¬3). وفي "النهاية": كفأتُ الإناءَ، وأكفأْتُهُ: إذا كببتُهُ، وإذا أَمَلْتُهُ. ومنه حديث الهِرة: "أنه كان يَكفأُ لها الإناءَ" (¬4)؛ أي: يُميله لتشربَ منه بسهولة (¬5). ¬

_ = (569 هـ)، كتاب: "مطالع الأنوار على صحاح الآثار" فيما استغلق من كتاب: "الموطأ" و"البخاري" و"مسلم"، وإيضاح مبهم لغاتها في غريب الحديث، اختصر فيه "مشارق الأنوار" للقاضي عياض، واستدرك عليه، وزاد فيه أشياء. انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1715) والشارح - رحمه الله - ينقل عنه في مواضع كثيرة. (¬1) وانظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 96)، (مادة: تور). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 64)، (مادة: كفأ). (¬3) المرجع السابق (ص: 164)، (مادة: كبب). (¬4) رواه أبو داود (75)، كتاب: الطهارة، باب: سؤر الهرة، والنسائي (68)، كتاب: الطهارة، باب: سؤر الهرة، والترمذي (92)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في سؤر الهرة، وابن ماجه (367)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بسؤر الهرة والرخصة في ذلك، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -، وفيه: "فأصغى لها الإناء". وكذا رواه الأئمة وأصحاب الحديث. (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 182).

(على يَدَيْهِ مِنْ) ماء (التَّوْرِ، فغسلَ يديهِ) من ذلك الماء (ثَلاثاً) من المرافق، ولم يدخل يده في التور قبل غسلها، (ثم) بعد غسل يديه (أدخلَ يدَهُ في التور)، فتناول بها من الماء الذي فيه، (فمضمض) فمه بالماء، (واستنشق) في أنفه منه، (واستنثر)؛ أي: استخرج الماء الذي في أنفه (ثلاثاً)؛ أي: لكلٍّ من فيه وأنفه ثلاثاً ثلاثاً (بثلاث غَرَفات)، فكان يتمضمض ويستنشق ويستنثر من غرفةٍ، ثم يفعل ذلك ثانياً وثالثاً، وهذه إحدى كيفيات المستحب في المضمضة والاستنشاق؛ فإنه إن شاء فعلهما من غرفةٍ، وإن شاء من ثلاث، كما يرشد إليه هذا الحديث، وإن شاء من ست. وتقدم أن المضمضة إدارةُ الماء في الفم، والاستنشاق: اجتذابُ الماء بالنَّفَس إلى باطن الأنف، والمستحَبُّ أن يتمضمض ويستنشق بيمينه، ويستنثر بشماله، وفي بعض ألفاظ حديث عثمان: "ثم غرفَ بيمينه، ثم رفعَها إلى فيه، فمضمضَ واستنشقَ بكفٍّ واحدةٍ، واستنثر بيساره، فعل ذلك ثلاثاً، ثم ذكرَ سائرَ الوضوء، ثم قال: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضأ لنا كما توضأتُ لكم، فمن كان سائلاً عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا وضوءه " رواه سعيد بن منصور (¬1). وفي لفظٍ لهما: فمضمض واستنشق من كف واحدة، فعل ذلك ثلاثاً (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (188)، كتاب: الوضوء، باب: من مضمض واستنشق من غرفة واحدة، ومسلم (235)، (1/ 210)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(ثم أدخل) عبدُ الله بن زيدٍ - رضي الله عنه - (يَدَهُ) فاستخرج بها ماء، (فغسل) به (وَجْهَهُ)، فعل ذلك (ثَلاثاً، ثم أدخلَ يديه)، فأخرج بهما ماءً، (فغسلَهما) به (مَرَّتين) من رؤوس الأنامل (إلى المِرْفَقَين)، كما قدمنا ذلك في حديث عثمان، إلا أنه هنا لم يأت في غسل اليدين بالتثليث، بل اكتفى بمرتين، وترجم له البخاري: باب: الوضوء مرتين مرتين لكل عضوٍ، وذكر الحديث (¬1)، وليس فيه الغسل مرتين، إلا في اليدين إلى المرفقين، نعم روى النسائي من طريق سفيان بن عيينة، في حديث عبد الله بن زيدٍ هذا التثنيةَ في اليدين والرجلين، ومسحَ الرأس، وتثليثَ غسل الوجه (¬2). ونظر الحافظ ابنُ حجرٍ في هذه الرواية (¬3)، والله أعلم. وفي مسلم من حديث عبد الله بن زيدٍ -أيضاً- رضي الله عنه -: أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويده اليمنى ثلاثاً، والأخرى ثلاثاً (¬4). (ثم أدخل يديه)، فاغترف من التور ماءً، (فمسح رأسه) بكلتا يديه، (فأقبل بهما)؛ أي: يديه بعد أن وضع إبهامي يديه على الصدغين من مقدم رأسه، ثم مرهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى مقدمه، وهو معنى قوله: (وأدبر). فإن قيل: مقتضى الإقبال أن يبدأ من مؤخر رأسه مقبلاً إلى مقدمه، ثم يدبر بهما؛ لأن ذهابه إلى جهة القفا إدبارٌ، ورجوعه إلى جهة الوجه إقبالٌ؟! ¬

_ (¬1) رواه البخاري (157)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء مرتين مرتين. (¬2) رواه النسائي (99)، كتاب: الطهارة، باب: عدد مسح الرأس. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 259). (¬4) رواه مسلم (236)، (1/ 211)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قلتُ: أجاب بعض العلماء عن هذا: بأن الواو لا تقتضي الترتيب، فالتقدير: أدبر وأقبل. وأحسنُ من هذا قولُ ابن دقيق العيد: الإقبالُ والإدبار من الأمور الإضافية؛ أعني: أنه ينسب إلى ما يقبل إليه ويدبر عنه، والمؤخَّر محلٌّ يمكن أن يُنسب الإقبال إليه، والإدبار عنه، فيمكن حمله على هذا. ويحتمل أن يريد بالإقبال: الإقبال على الفعل لا غير. قال ابن دقيق العيد: ويضعفه قوله: وأدبر (¬1). (مرةً واحدةً) فلا يستحب في مسح الرأس التثليث، وهو مذهبنا؛ كالحنفية والمالكية. والأحاديث وردت مطلقةً ومقيدةً بمرةٍ واحدة، فحمل المطلق على المقيد. (ثم غسل رجليه)، وفي رواية لمسلمٍ: ومسح برأسه بماء غير فضل يديه، وغسل رجليه حتى أنقاهما (¬2). وتقدم الكلام على غسل الرجلين. (وفي رواية) في كيفية مسح الرأس: أن عبد الله بن زيدٍ - رضي الله عنه - (بدأ) في مسحه (بمقدم رأسه)، بأن وضع إبهامي يديه على صدغيه، وأصابعَ يديه على حدِّ منابت شعره؛ فإنه حد الرأس من مقدمه من حيث لا يسمى وجهاً، وهو ما يحاذي النزعتين والتحذيف والصدغين والمفصل والجبينين (حتى ذهبَ بهما)؛ أي: يديه، ماراً بالماء على رأسه مسحاً إلى ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 42). (¬2) تقدم تخريجه قريباً، إلا أنه عنده: "فضل يده" بدل "فضل يديه".

أن انتهى بذلك (إلى قَفاهُ)؛ أي: إلى قفا رأسه من الزرقتين التي وراء الأذنين إلى ما يسمى قفا. وليس ظهر الرقبة من الرأس، فلا يجب مسحها، بل ولا يستحب، خلافاً للحنفية؛ فالأذنان والبياض الذي فوقهما من الرأس -كما قدمناه في حديث عثمان-. ويجب أن يبلغ بالمسح إلى جزءٍ من الوجه، كما يبلغ بغسل الوجه إلى جزء من الرأس؛ ليحصل الاستيعاب؛ من باب: ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجبٌ، (ثم رَدَّهما)؛ أي: ردَّ عبدُ الله بنُ زيدٍ - رضي الله عنه - يديه راجعاً بهما إلى جهة وجهه، (حتى رجعَ إلى المكانِ الذي بدأ) بالهمز (منه)، وهو مقدَّم رأسه، وهذا يرد قولَ من قال: يبدأ بمؤخر رأسه، ويمر إلى جهة الوجه، ثم يرجع إلى المؤخر محافظةً على ظاهر قوله: (أقبل وأدبر). وينسب الإقبال إلى ناحية المقدم والوجه، والإدبار إلى ناحية المؤخر؛ فإن الحديث مصرحٌ بكيفية الإقبال والإدبار صريحاً، لا يحتمل التأويل، والحديث صحيحٌ متفقٌ على صحته. (وفي رواية) في حديث عبد الله بن زيدٍ - رضي الله عنه -: (أتانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرجَنْا له ماءً في تَوْرٍ). وفي لفظٍ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ في إناءٍ (من صُفْرٍ) -بضم الصاد المهملة -أي: من نحاسٍ، وفاعله يقال له الصفَّار؛ كما في "القاموس" (¬1). ولم يذكر مسلم: إناء الصفر، وإنما ذكره البخاري. ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 546)، (مادة: صفر).

(قال) الحافظ أبو محمد المصنف (- رضي الله عنه -: التور: إناءٌ يشبه الطَّسْت). تقدم أن التور -بالتاء المثناة-. والطست -بكسر الطاء المهملة وفتحها وبإسقاط التاء-، وجمعه طساس، ويجمع على طسوس، وفي حديث الإسراء: واختلف إليه ميكائيل بثلاث طساس من زمزم (¬1). قال في "القاموس": الطَّسُّ الطَّسْتُ؛ كالطَّسَّة، والطِّسَّة، والجمع: طُسوس، وطِساس، وطَسيس، وطَسَّاتٌ، والطَّسَّاسُ صانعُه، والطِّساسةُ حِرْفته (¬2). قال في "النهاية": والهاء فيه بدل من السين، فجمع إلى أصله (¬3). وفي "القاموس": الطست: الطسُّ، أبدل من إحدى السينين تاءً، وحكي بالشين المعجمة (¬4). وفي "المطالع": التور: مثل قدح القدر من الحجارة (¬5). والحاصل: أنه إناءٌ لا من جملة الأوعية يكون من نحاسٍ، وهو الطست، ومن غير نحاسٍ، والله أعلم. وفي الحديث: جواز الاغتراف للطهارة من الماء القليل، وأنه لا يستعمل لذلك، ولا تعتبر نية الاغتراف، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (15/ 6)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: " القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 714)، (مادة: طسس). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 124). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 199). (¬5) تقدم ذكره عند الشارح.

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُه التَّيَمُّنُ في تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وطَهُورِهِ، وَفي شَأْنِهِ كلِّهِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (166)، كتاب: الوضوء، باب: التيمن في الوضوء والغسل، وهذا لفظه، و (416)، كتاب: أبواب المساجد، باب: التيمن في دخول المسجد وغيره، و (5065)، كتاب: الأطعمة، باب: التيمن في الأكل وغيره، و (5516)، كتاب: اللباس، باب: يبدأ بالنعل اليمنى، و (5582)، كتاب: اللباس، باب: الترجيل والتيمن فيه. ورواه مسلم (268)، (1/ 226)، كتاب: الطهارة، باب: التيمن في الطهور وغيره، وأبو داود (4140)، كتاب: اللباس، باب: في الانتعال، والنسائي (421)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: التيمن في الطهور، و (5059)، كتاب: الزينة، باب: التيامن في الترجل، والترمذي (608)، كتاب: أبواب الصلاة، باب: ما يستحب من التيمن في الطهور، وابن ماجه (401)، كتاب: الطهارة، باب: التيمن في الوضوء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المُعلم" للقاضي عياض (2/ 75)، و"المُفهم" للقرطبي (1/ 511)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 161)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 44)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 269)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 29، 4/ 171)، و"فيض القدير" للمناوي (5/ 207)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 50)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 212).

(عن عائشة) أُمَّ المؤمنين (- رضي الله عنها -): أنها (قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعجبُه التيمُّنُ)؛ أي: يحبه ويرضاه، وتعني بالتيمن: الابتداء باليمين، قيل: لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الفأل الحسن؛ إذ أصحاب اليمين أهل الجنة. زاد البخاري من رواية شعبة: "ما استطاع"، فنبه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانعٌ. (في تنعُّلِه)؛ أي: في لبس نعله؛ بأن يبدأ بلبس رجله اليمنى للنعل. (و) في (ترجُّلِه) وهو ترجيلُ شعره؛ أي: تسريحُه ودهنُه؛ بأن يبدأ بالشق الأيمن من رأسه، وكذا لحيته. قال في "المشارق": رجَّل شعَره: إذا مشَّطه بماءٍ أو دُهنٍ لِيَلِين، ويرسل الثائر، ويمد المنقبض (¬1). زاد أبو داود من رواية شعبة: "وسِواكِه" (¬2). (و) في (طهوره) بأن يبدأ بغسل يده اليمنى قبل اليسرى، ورجله اليمنى كذلك، في الوضوء، وبالشق الأيمن في الغسل. والبداءة باليمين من السنة المستحبة، وإن كنا نقول باعتبار الترتيب، إلا أن اليدين كالعضو الواحد، وكذا الرجلين، ومن ثم جُمعا في القرآن حيث قال - تعالى -: {وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6] {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6]. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 282)، ونصُّه: رجَّل شعره، ورجَّل رأسه، ويرجل رأسه؛ أي: مشَّطه وأرسله، انتهى. وما ذكره الشارح هو من سياق ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 269). وانظر في مادة (رجل): "غريب الحديث" لابن قتيبة (12/ 241)، و"المُغرب" للمطرزي (1/ 323)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 203). (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب.

(وفي شأنه كله)، وفي أكثر الروايات بإسقاط الواو. وفي روايةٍ أبي الوقت بإثباتها. قال الحافظ ابن حجرٍ: وهي التي اعتمدها صاحب "العمدة" (¬1)، يعني: المصنف - رحمه الله تعالى -. قال ابن دقيق العيد. هو عامٌّ مخصوصٌ؛ لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما يبدأ فيهما باليسار، انتهى (¬2). وتأكيد الشأن بقوله: "كلِّه" يدل على التعميم؛ لأن التأكيد يرفع المجاز، فيمكن أن يقال: حقيقة الشأن ما كان فعلاً مقصوداً، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة، بل هي إما تروك، وإما غير مقصودةٍ. وهذا كله على تقدير إثبات الواو، وأما على إسقاطها، فقوله: "في شأنه كله" متعلقٌ بـ"يعجبه"، لا بالتيمن؛ أي: يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله إلخ؛ أي: لا يترك ذلك سفراً ولا حضراً، ولا في فراغه ولا شغله. قاله في "الفتح" (¬3). وقال الطيبي: قوله "في شأنه" بدل من قوله: "في تنعله"؛ بإعادة العامل، قال: وكأنه ذكر التنعل؛ لتعلقه بالرجل، والترجل؛ لتعلقه بالرأس، والطهور؛ لكونه مفتاح أبواب العبادة، فكأنه نبه على جميع الأعضاء، فيكون كبدل الكل من الكل. ووقع في رواية مسلمٍ بتقديم قوله: "في شأنه كله" على قوله: "في تنعله إلخ". ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 269 - 270). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 44). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 270).

وزاد الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة: أن عائشة -أيضاً- كانت تُجمله تارةً، وتبينه تارةً. قال الحافظ ابنُ حجرٍ: فعلى هذا يكون أصلُ الحديث ما ذُكر من التنعل وغيره، ويؤيده رواية مسلمٍ وابن ماجه، كلاهما عن أشعث بدون قوله: "في شأنه كله" (¬1)، وكأن الرواية المقتصرة (في شأنه كله) من الرواية بالمعنى (¬2). وفي الحديث: استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل والغسل والحلق، لا يقال: هو من باب الإزالة، فيبدأ فيه بالأيسر، بل من باب العبادة والتزيين، وقد ثبت الابتداء في الشق الأيمن، وفي الحلق -كما سيأتي-. وفيه: البداءة بالرجل اليمنى في التنعل، وفي إزالتها باليسرى. وفيه: البداءة باليد اليمنى في الوضوء، وكذا الرِّجل، وبالشق الأيمن في الغسل- كما تقدم -، واستدل به على استحباب الصلاة عن يمين الإمام، وفي ميمنة المسجد، وفي الأكل والشرب باليمين (¬3). والحاصل: أن قاعدة الشرع المستمرة: استحباب البداءة في اليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدها استحب فيه التياسر، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 270). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الحديث العاشر

الحديث العاشر عن نُعَيْم الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّه قالَ: "إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ" (¬1). وفي لفظٍ: رأيتُ أبَا هريرةَ يتوضَّأُ، فَغسَلَ وَجْهَهُ ويَدَيْهِ حتَّى كَادَ يَبْلُغُ المَنْكِبَيْنِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حتَّى رَفَعَ إلى السَّاقَيْنِ، ثمَّ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الوُضُوء، فَمَنِ استَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ" (¬2). وفي لفظٍ لمسلم: سمعتُ خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوءُ" (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (136)، كتاب: الوضوء، باب: فضل الوضوء، والغر المحجلون من آثار الوضوء. (¬2) رواه مسلم (246)، (1/ 216)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، وعنده: "يأتون" بدل "يدعون". (¬3) رواه مسلم (250)، (1/ 219)، كتاب: الطهارة، باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، والنسائي (149)، كتاب: الطهارة، باب: حلية الوضوء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 192)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 43، 53)، و"المُفهم" للقرطبي (1/ 499)، =

(عن نُعَيْمٍ) -بضم النون وفتح العين المهملة- ابنِ عبدِ الله (المُجْمِرِ) -بضم الميم الأولى وإسكان الجيم وكسر الميم الثانية-، ويقال:-بفتح الجيم وتشديد الميم بعدها راء-، سمي بذلك؛ لأنه كان يُجْمر مسجدَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: يبخره، والمجمرُ صفة لعبد الله، ويطلق على ابنه نُعيم مجازاً، وقيل: صفةٌ لنعيم. قال البرماوي (¬1): ولا يمتنع أن يكون صفةً لكل منهما، وأنه كان يبخر. وقيل: سُمي المجمِر؛ لأن عبد الله كان يأخذ المجمر قدام عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - إذا خرج إلى الصلاة في رمضان. ونعيمٌ هذا من خيار التابعين، مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، روى عن أبي هريرةَ وغيرِه. قال نعيم: جالست أبا هريرةَ عشرين سنة. روى عنه ابنُه محمدُ بنُ نُعيم، ومالكُ بنُ أنس الإمامُ، وغيرُهما، وكنيته: أبو عبد الله (¬2)، فروى نعيم - رحمه الله تعالى - (عن أبي هريرة) ¬

_ = و"شرح مسلم" للنووي (3/ 140)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 45)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 20)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 235)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 246)، و"فيض القدير" للمناوي (2/ 184)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 50). (¬1) تقدم التعريف بالإمام البرماوي، وكتبه التي ينقل عنها الشارح - رحمه الله - في كتابه هذا. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 309)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 460)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 476)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 395)، و"الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (1/ 216)، و"تهذيب الكمال" للمزي (29/ 487)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 227)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 414).

صاحبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وحافظِ عصره من الصحابة المكرمين - (رضي الله عنه) وعنهم أجمعين -. (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: إِنَّ أُمَّتي) الذين اتَّبعوني؛ فالمراد: أمةُ الإجابة، (يُدْعَوْنَ) -بضم أوله -؛ أي: ينادَوْن ويسمَّوْن (يومَ القيامةِ) في موقف الحساب أو الميزان، أو غير ذلك مما يُدعى إليه الناسُ في ذلك اليوم. (غُرًّا) -بضم المعجمة وتشديد الراء-، جمع أغر؛ أي: ذو غرة. وأصل الغرة: لمعةٌ بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استُعمل في الجَمال والشهرة وطيبِ الذكر. والمراد بها هنا: النور الكائن في وجوه أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). و"غراً" منصوبٌ على المفعولية ليدعون، أو على الحال (¬2)؛ أي: إنهم إذا دُعوا على رؤوس الأشهاد نُودوا بهذا الوصف، وعلى هذه الصفة. (مُحَجَّلين): -بالمهملة والجيم-: وهو الخلخال (¬3)، والمراد هنا: النور (من آثارِ الوُضوءِ) -بضم الواو- ويجوز -فتحها- على أنه الماء المستعمل في الوضوء، فيكون الغرة والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، قاله ابن دقيق العيد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 354)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 236). (¬2) وهو الأقرب، كما ذكر ابن دقيق في "شرح العمدة" (1/ 45)، وتبعه الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 21). (¬3) انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (3/ 62)، و"مختار الصحاح" (ص: 197)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 14)، (مادة: غرر) و (مادة: حجل). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 46).

تنبيهٌ: استدل بهذا الحديث على أن الوضوءَ من خصائص هذه الأمة جماعةٌ، منهم: الحليمي من الشافعية. وذكر الإمام ابن مفلح حديث: "هذا وضوئي ووضوءُ الأنبياءِ قبلي" (¬1) من عدة طرقٍ، وقال: يحتمل أن يكون هذا الحديث حسناً؛ لكثرة طرقه، قال: وعلى هذا لا يكون الوضوء من خصائص هذه الأمة، وقاله أبو بكر بن العربي المالكي، وغيرُه، قال: وقد ذكر بعض أصحابنا التيممَ من خصائص هذه الأمة؛ للخبر الصحيح، فدلَّ أن الوضوء ليس كذلك، وقاله القرطبي المالكي، وغيرُه، وعلى هذا يكون المراد بهذا الحديث: أن أمته - صلى الله عليه وسلم - يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء: أنهم امتازوا بالغرة والتحجيل، لا بالوضوء. وقال ابن عبد البر: قد يجوز أن تكون الأنبياء يتوضؤون، فيكتسبون بذلك الغرة والتحجيل، ولا يتوضأ أتباعهم كما جاء عن موسى - عليه السلام -: أنه قال: أجدُ أمةً كلُّهم كالأنبياء، فاجعلها أمتي، قال: "تلك أمةُ محمدٍ"، في حديثٍ فيه طولٌ. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (420)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً، من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه -، إلا أن لفظه: " ... ووضوء المرسلين ... ". وقد رواه باللفظ الذي ساقه الشارح: الطيالسي في "مسنده" (1924)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (5598)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 161 - 162)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 246)، والدارقطني في "سننه" (1/ 79)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 80)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

قال: وقد قيل: إن سائر الأمم كانوا يتوضؤون، قال: ولا أعرفه من وجهٍ صحيحٍ (¬1)، انتهى (¬2). ونظر الحافظ ابنُ حجرٍ في قول الحليمي: إن الوضوء من خصائص هذه الأمة؛ قال: لأنه ثبت عند البخاري في قصة سارة - عليها السلام - مع الملكِ الذي أعطاها هاجر: أن سارةَ لما همَّ الملك بالدنوِّ منها، قامت تتوضأ وتصلي (¬3)، ومن قصة جريج الراهب: أنه قام فتوضأ وصلى، ثم كلم الغلام (¬4). قال: فإن ظاهره: أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء، وقد صرح بذلك في روايةٍ لمسلمٍ عن أبي هريرة -أيضاً- مرفوعاً، قال: "لكم سيما ليست لأحدٍ غيركم" (¬5). وله من حديث حذيفة نحوه (¬6). وللطحاوي: "ولا يأتي أحدٌ من الأمم كذلك" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 193). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 324 - 325). (¬3) رواه البخاري (6550)، كتاب: الإكراه، باب: إذا استكرهت المرأة على الزنا، فلا حد عليها، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) رواه البخاري (2350)، كتاب: المظالم، باب: إذا هدم حائطاً، فليبنِ مثله، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) رواه مسلم (247)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء. (¬6) رواه مسلم (248)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء. (¬7) رواه الطحاوي قي "شرح معاني الآثار" (1/ 40)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

و"سيما" -بكسر المهملة وإسكان الياء-، أي: علامةٌ، والله أعلم (¬1). (فمن)؛ أي: أيُّ إنسانٍ (استطاع)؛ أي: استفعالٌ من الطاعة؛ والمراد: من قدرَ وأطاقَ. ويقال: اسطاع، يحذفون التاء استثقالاً لها مع الطاء، ويكرهون إدغام التاء فيها، فتحرك السين، وهي لا تحرك أبداً، وقرأ حمزة غير خلاَّدٍ: {فَمَا اسْطَاعُوا} [الكهف: 97]، فجمع بين الساكنين (¬2). وبعض العرب يقول: استاع يستيع، وبعض يقول: إسطاع يسطيع -بقطع الهمزة- بمعنى: أطاع يطيع. قاله في "القاموس" (¬3). (منكم) معشَر المتوضئين من هذه الأمة (أن يُطيل غُرَّته) بمجاوزة محل الفرض؛ بأن يغسل اليدين إلى ما فوق المِرْفقين حتى يبلغ العَضُدَين، والرجلين إلى ما فوق الكعبين حتى يبلغ منتهى الساقين. (فليفعلْ) ذلك؛ أي: فليُطِل الغرةَ والتحجيل. واقتصر في الحديث على إحداهما؛ لدلالتها على الأخرى، نحو قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، واقتصر على ذكر الغرة مع أنها مؤنثة، دون التحجيل وهو مذكر، وتغليب المذكر أشيعُ وأشهر؛ كالقمرين؛ لأن محل الغرة أشرفُ أعضاء الوضوء، وأول ما يقع عليه النظر من الإنسان، على أن في رواية مسلمٍ من طريق عمارة بن غزيّة، ذكرَ الأمرين، ولفظه: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 236). (¬2) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 295)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 271)، و"معجم القراءات القرآنية" (4/ 17). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 962)، (مادة: طوع).

"فليطِلْ غرته وتحجيلَه"، قاله الحافظ ابن حجر (¬1). وقال ابن بَطَّالٍ: كنى أبو هريرةَ بالغرة على التحجيل؛ لأن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله (¬2). قال ابن حجرٍ: وفيما قاله نظرٌ؛ لأنه يستلزم قلبَ اللغة، وما نفاه ممنوع؛ لأن الإطالة ممكنة في الوجه، بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلاً، وفي هذ انظر لا يخفى. ونقل الرافعي عن بعضهم: أن الغرة تطلق على كل من الغرة والتحجيل، انتهى (¬3). قلت: ظاهر صنيع الحافظ عبدِ الحق في "الجمع بين الصحيحين" اتفاقُهما على ذكر الغرة والتحجيل معاً، فإنه ذكر حديث نعيم بن عبد الله المُجمِر، قال: رأيت أبا هريرة - رضي الله عنه - يتوضأ، فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق. ثم قال لي: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ. وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم الغُرُّ المُحَجَّلون يومَ القيامة من إسباغِ الوضوءِ، فمن استطاعَ منكم فليطِلْ غرتَه وتحجيلَه" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 236)، نقلاً عن "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 46). (¬2) انظر: "شرح ابن بطَّال على البخاري" (1/ 235). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 236). (¬4) تقدم تخريجه.

وفي لفظٍ آخر: فغسل وجهه ويديه حتى كاد أن يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أمتي يأتون يومَ القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من أثرِ الوضوءِ" الحديث (¬1). قال الحافظ عبدُ الحق: وقال البخاري: "يُدعون" بدل "يأتون" (¬2). فهذا - على قاعدته واصطلاحه - يدل على أنهما لم يختلفا إلا في لفظة "يأتون" كما نبه عليه - رحمة الله تعالى -، مع أن البخاري لم يذكر: "وتحجيله" فيما رأيته في النسخ، ولا سيّما والحافظ ابن حجرٍ عزا ذلك لمسلمٍ حسب (¬3). تنبيهات: الأول: ظاهر "الصحيحين" وغيرِهما: أن قوله: "فمن استطاع منكم .... إلخ" من الحديث. وذكر الإمام المحقق ابنُ القيم: أنه مدرَج من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬4). يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد في "المسند"، وفي آخره: قال نعيمٌ: لا أدري قوله: "من استطاع .. إلخ" من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من قول أبي هريرة (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 203)، حديث رقم (329). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 236). وقد عزاه قبله إلى مسلم فقط: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 77). (¬4) انظر: "حادي الأرواح" (ص: 137)، و"إغاثة اللهفان" كلاهما لابن القيم (1/ 181). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 334).

قال الحافظ ابن حجرٍ في "الفتح": ولم أر هذه الجملة في رواية أحدٍ ممن روى هذا الحديثَ من الصحابة، وهم عشرة - رضي الله عنهم -، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه، انتهى (¬1). وهذا يؤيد ما مال إليه المحقق ابن القيم، وشيخُه شيخُ الإسلام (¬2): أنه مدرج، والله أعلم. الثاني: اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى ورضي عنهم - في استحباب ذلك، وفيه روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: استحباب التجاوز لمحل الفرض لإطالة الغرة والتحجيل، وهذا الصحيح من المذهب، جزم به في "المغني"، و"الشرح"، وابن رزين، وغيرهم، وقدمه في "الفروع"، و"الرعاية"، وابن تميم، وغيرهم، واختاره المجد؛ وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي (¬3). ولحديث: "تبلغُ الحِليةُ من المؤمنِ حيثُ يبلغُ الوضوءُ" متفق عليه من حديث أبي هريرة، ولفظه: عن أبي حازم، قال: كنت خلف أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمدُّ يده حتى تبلغ إبطَه، فقلت: يا أبا هريرة! ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ! أنتم هاهنا؟ لو علمتُ أنكم هاهنا، ما توضأت هذا الوضوء، سمعتُ خليلي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 236). (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 279). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (74)، و "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 214)، و"الفروع" لابن مفلح (1/ 126)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 168)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 103).

"تبلغُ الحليةُ من المؤمن حيثُ يبلغُ الوضوءُ". لم يقل البخاري: يا بني فروخ! إلى قوله: هذا الوضوء (¬1). قوله: "يا بني فروخ! ": أراد بهم الأعاجم. قال في "النهاية": قال الليث: بلغنا أن فروخ كان من ولد إبراهيم - عليه السلام - بعد إسماعيل وإسحاق، فكثر نسله، ونما عدده، فولد العجم الذين في وسط البلاد. هكذا حكاه الأزهري، انتهى (¬2). وفي " القاموس": وفرُّوخ؛ كتنُّور: أخو إسماعيلَ وإسحاقَ، وأبو العجمِ الذين في وسط البلاد (¬3). ولأن أبا هريرة - رضي الله عنه - فعل ذلك، وهو راوي الحديث، وكذا ابن عمر - رضي الله عنهما -، أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو عبيد بإسناد حسن (¬4). وقيل: المستحب من ذلك: إلى نصف العضد والساق. والرواية الثانية عن الإمام أحمد: عدمُ استحباب ذلك، وهو مذهب الإمام مالك، واختيار ابن القيم الجوزية. ¬

_ (¬1) قلت: بل الحديث من أفراد مسلم كما تقدم تخريجه في حديث الباب، وهكذا نسبه لمسلم وحده: المصنف - رحمه الله -، ومن قبله البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 56)، والنووي في "رياض الصالحين" (ص: 254)، والمنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 91)، وابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 88)، والعيني في "عمدة القاري" (22/ 72)، وغيرهم كثير. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 425). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 328)، (مادة: فرخ). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (604). عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان ربما بلغ بالوضوء إبطه في الصيف.

قال في "إغاثة اللهفان": قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حَدَّ حدوداً فلا تعتدوها" (¬1)، والله سبحانه قد حدّ المرفقين والكعبين، فلا ينبغي تعديتُهما، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل مَنْ نقلَ عنه وضوءه أنه تعداهما؛ لأن ذلك أصل الوسواس، ومادته، ولأن فاعله إنما يفعله قربةً وعبادةً؛ والعبادات مبناها على الاتباع، ولأن ذلك ذريعة إلى غسل الفخذ والكتف، وهذا مما يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يفعلوه ولا مرةً واحدةً؛ ولأن هذا من الغلو في الدين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والغُلُوَّ في الدين" (¬2)، ولأنه تعمُّق، وهو منهي عنه، ولأنه عضوٌ من أعضاء الطهارة؛ فكره مجاوزته؛ كالوجه (¬3). وقال في كتابه "حادي الأرواح إلى منازل الأفراح"، بعد سياقه لحديث أبي حازم: قد احتج بهذا من يرى استحباب غسل العضد وإطالته، والصحيح: أنه لا يستحب، وهو قول أهل المدينة، وعن الإمام أحمد روايتان. قال: والحديث لا يدل على الإطالة؛ فإن الحلية إنما تكون زينة في الساعد والمعصم، لا في العضد والكتف. قال: وأما قوله: "فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرته فليفعلْ"، فهذه الزيادة مدرجة في الحديث من كلام أبي هريرة - رضي الله عنه -، لا من ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 221 - 222)، والدارقطني في "سننه" (4/ 184)، والحاكم في "المستدرك" (7114)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 12)، وغيرهم، عن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه -. (¬2) رواه النسائي (3057)، كتاب: الحج، باب: التقاط الحصى، وابن ماجه (3029)، كتاب: المناسك، باب: قدر حصى الرمي. ورواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 215)، وغيرهم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 181).

كلام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، بيّن ذلك غيرُ واحد من الحفاظ، وذكرَ كلامَ نعيمُ الذي رواه الإمام أحمد (¬1). وقال: وكان شيخنا يقول: هذه اللفظة لا يمكن أن تكون من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الغرة لا تكون في اليد، ولا تكون إلا في الوجه، وإطالتها غير ممكنةٍ، إذ يدخل في الرأس، ولا يسمى ذلك غرةً، انتهى (¬2). وقال ابن بطالٍ وطائفة من المالكية: لا تستحب الزيادة على الكعب والمرافق؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"من زادَ على هذا، فقد أساءَ وظلمَ" (¬3). والحاصل: أن مذهب أبي هريرة - رضي الله عنه -، وكذا ابن عمر - رضي الله عنهما -، ومذهب أبي حنيفة، والشافعي، ومعتمد الروايتين من مذهبنا استحبابُ تجاوز محل الفرض، وقيده بعض العلماء، بنصف العضد والمرفق. ومذهبُ مالكٍ، وأنصُّ الروايتين كما قال ابنُ قاضي الجبل في "الفائق" (¬4) عن إمامنا، واختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذيه ابن القيم وابن قاضي الجبل: عدمُ الاستحاب، والله أعلم. (وفي لفظٍ) للإمام مسلمٍ: في هذا الحديث: قال نُعيم بنِ عبد الله المجمر: (رأيتُ أبا هريرةَ) - رضي الله عنه - (يتوضأ، فغسلَ) أبو هريرة ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: "حادي الأرواح" لابن القيم (ص: 137 - 138). (¬3) تقدم تخريجه، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 236). (¬4) للإمام أبي العباس أحمد بن الحسن بن عبد الله المقدسي المعروف بابن قاضي الجبل، المتوفى سنة (771 هـ). كتاب: "الفائق في المذهب" في فروع الحنابلة، انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 454)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 991).

(وجهَهُ ويَدَيه)، يعني: واحدةً بعد واحدةٍ؛ بأن قدم يده اليمنى ثم اليسرى، كما ذكرناه آنفاً (حتى كادَ يبلُغ) بغسلِهما (المَنْكِبين) -تثنية مَنْكِبٍ- وهو ما بين الكتف والعنق، كما في "النهاية" (¬1). وفي "القاموس": المنكب: مجتمع رأس الكتف والعضد، مذكر (¬2)، وهذا الظاهر. قال في "المطلع": العاتق: موضع الرداء من المنكب، يذكر ويؤنث (¬3)، يعني: العاتق. وكتب عليه بعض الفضلاء بأن العاتق بين المنكب والعنق، قال: والصحيح تذكيره، وجمعه عواتق، وعُتُق -بضم التاء وكسرها-، انتهى. (ثم غسل رجليه)؛ أي: بعد مسح رأسه، كما تقدم في سياق الحديث بتمامه، وإنما اقتصر على ذكر اليدين والرجلين بعد غسل الوجه؛ لبيان المقصود منه، وهو قوله: (حتى رفع) في غسل كل واحدةٍ من رجليه (إلى الساقين) تثنية ساق؛ وهو ما بين الكعب والركبة، وجمعه سوق وسيقان وأَسْؤُق، -بهمز الواو-؛ لتحمل الضمة، كما في "القاموس" (¬4). (ثم قال) أبو هريرة - رضي الله عنه -: (سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنَّ أُمتي يُدْعون). ولفظ مسلمٍ: "يأتون" (يومَ القيامةِ غُرًّا) بالنور في وجوههم (مُحَجَّلين) في أرجلهم. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 112). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 179)، (مادة: نكب). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 62). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1156)، (مادة: سوق).

وهل المراد به: الحلي، أو أمرٌ زائدٌ عليه؟ الحق: الثاني؛ وهو نورٌ يتلألأ في سائر أعضاء الوضوء لهذه الأمة (من أَثر الوضوء)، بإفراد أثر في هذه الرواية المضاف إلى الوضوء، فيؤدي مؤدَّى الجمع، (فمن استطاعَ منكم أن يُطيلَ غرته، فليفعلْ)؛ أي: فليُطل الغرة والتحجيل -كما مر-. قلت: ليس هذا من أفراد مسلم، بل متفق على هذه الرواية، وإنما اختلفا في لفظة "يدعون"، فقال مسلمٌ: "يأتون". (وفي لفظٍ لمسلم) -أيضاً-: قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: (سمعتُ خليلي) يعني: النبيَّ (- صلى الله عليه وسلم - يقولُ: تبلغُ الحِليةُ من المؤمن) بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من التيجان والأساور والخلاخيل، وغيرِها من اللؤلؤ والذهب والفضة وغيرها يوم القيامة في الجنة، (حيثُ)؛ أي: إلى المحل الذي (يبلغُ الوضوءُ) من الأعضاء. قلت: ليس هذا اللفظ من أفراد مسلم، بل متفقٌ عليه، كما تقدم في سياقه عن أبي حازم (¬1). قال ابن القيم في "حادي الأرواح": عن الحسن - رحمه الله - قال: الحلي في أهل الجنة على الرجال أحسنُ منه على النساء (¬2)، وأخرج ابنُ أبي الدنيا عن داودَ بنِ عامرِ بنِ سعدِ بنِ أبي وقاص، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لو أن رجلاً من أهلِ الجنة اطلع، فبدا سوارُه، لطمسَ ضوءَ الشمس، كما تطمسُ الشمسُ ضوءَ النجوم" (¬3). ¬

_ (¬1) بل هو من أفراد مسلم، كما سبق التنبيه عليه والاستدراك من كلام الحفاظ. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (214). (¬3) رواه الترمذي (2538)، كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة أهل الجنة، =

وذى في "حادي الأرواح" عن أبي هريرة: أن أبا أمامةَ - رضي الله عنهما - حدث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم، وذكرَ حليَ أهلِ الجنة، فقال: "مُسَوَّرون بالذهبِ والفضةِ، مُكَلَّلون بالدُّرِّ، عليهم أكاليلُ من دُرٍّ وياقوتٍ متواصلة، وعليهم تاجٌ كتاجِ الملوك، جُرْدٌ مُكَحَّلون" (¬1). تنبيه: إن قلت: كيف ساغ لأبي هريرة - رضي الله عنه - أن يقولَ عن سيد العالم النبيِّ المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (سمعتُ خليلي) مع ما ثبت وصح عنه - عليه الصلاة والسلام -: "لو كنتُ مُتَّخِداً خليلاً غيرَ ربي، لاتخذتُ أبا بكرٍ .... الحديث" (¬2)؟ قلت: ليس في هذا كبيرُ إشكال؛ لأن أبا هريرةَ - رضي الله عنه - أخبر أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خليلُه، وهو أن حبَّ المصطفى قد تخلَّلَ في لحم أبي هريرةَ وَعَصبِه وعظمه، ولا يلزم منه أن يكون أبو هريرة - رضي الله عنه - خليلاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا بيِّنٌ ظاهرٌ، والله أعلم. * * * ¬

_ = وقال: غريب، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 169)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (276). (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"، كما نسبه إليه ابن كثير في "تفسيره" (3/ 558)، والسيوطي في "الدر المنثور" (7/ 26). وانظر: "حادي الأرواح" لابن القيم (ص: 137). (¬2) رواه البخاري (3454)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر" ومسلم (2382)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

باب الاستطابة

باب الاستطابة الباب في اللغة: فرجة في ساتر، يُتوصل منها من داخل إلى خارج، ومن خارج إلى داخل (¬1). وفي العرف: اسم لطائفةٍ من العلم يتفصل على فصولٍ وفروعٍ ومسائل غالباً. والاستطابة: مأخوذة من الطيب. قال في "الفروع": قال أهل اللغة: يقال: استطاب وأطاب: إذا استنجى، انتهى (¬2). فهي إزالة الأذى عن المخرجين بماءٍ طهورٍ، أو حجر طاهرٍ مباحٍ مُنقٍ. قال في "النهاية": وفيه: "نهى أن يستطيبَ الرجلُ بيمينه" (¬3). الاستطابة والإطابةُ: كنايةٌ عن الاستنجاء، سمي به؛ من الطيب؛ لأنه ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 223). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 81). (¬3) رواه ابن ماجه (313)، كتاب: الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة، والنهي عن الروث والرمة، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 247)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بهذا اللفظ.

يطيب جسده بإزالة ما عليه من الخبث بالاستنجاء؛ أي: يطهره، انتهى (¬1). والاستنجاء: إزالة النجو، وهو العذرة. قاله الجوهري (¬2). وقيل: من النجو، وهو القَشْر والإزالة. يقال: نَجَوْتُ العودَ: إذا قشرته. وقيل: أصل الاستنجاء: نزعُ الشيء عن موضعه، وتخليصُه، ومنه: نجوت الرطب، واستنجيته: إذا جنيته. وقيل: من النجو، وهو القطع، يقال: نجوتُ الشجرةَ وأنجيتُها واستنجيتها: إذا قطعتها، فكأنه قطع الأذى عنه باستعمال الماء أو الحجر، أو كلٍّ منهما (¬3). وذكر الحافظ - رضي الله عنه - في هذا الباب ستة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 149). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2502)، (مادة: نجا). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 11). وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 180 - 181)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 567)، (مادة: طيب).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ النبيَّ كانَ إذا دخلَ الخَلاءَ، قال: "اللَّهُمَّ إِنَّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبَائِثِ" (¬1). الخُبُثُ -بضمِّ الخَاء والبَاء-، وهو جمعُ خَبيثٍ، والخبائثُ: جمعُ خَبيثةٍ، استعاذَ من ذُكْرانِ الشَّياطينِ وإناثِهم. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (142)، كتاب: الوضوء، باب: ما يقول عند الخلاء، و (5963)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء عند الخلاء، ومسلم (375)، (1/ 283 - 284)، كتاب: الحيض، باب: ما يقول إذا أراد دخول الخلاء، وأبو داود (4، 5)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، والنسائي (19)، كتاب: الطهارة، باب: القول عند دخول الخلاء، والترمذي (5، 6)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول إذا دخل الخلاء، وابن ماجه (298)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 10)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 19)، و"إكمال المُعلم" للقاضي عياض (2/ 229)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 553)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 70)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 49)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 23)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (1/ 421)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 242)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 270)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 73)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 87).

(عن أنس بنِ مالكِ) بنِ النَّضْرِ -بالضاد المعجمة- بن ضَمْضَم -بفتح المعجمتين- بنِ زيدِ بنِ حَرام -بفتح الحاء والراء المهملتين-، الأنصاريُّ الخزرجيُّ -بالخاء المعجمة والزاي بعدها جيم- النجَّاري -بالنون والجيم المشددة والراء؛ لأنه من ولد النجار، وهو تَيْمُ اللاتِ بنُ ثعلبةَ بنِ عمرِو بنِ الخزرجِ، وهو أخو الأوس والأنصار - رضي الله عنهم كلَّهم -، من أولاد الأوس والخزرج من الأزد، سماهم الله - تعالى - ورسولُه بذلك لمَّا نصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآووه. وأنسٌ هذا خادمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينةَ، كان عُمْرُ أنسٍ - رضي الله عنه - عشرَ سنين - على المشهور -، فخدم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مدةَ إقامته بالمدينة، وهي عشر سنين، وكناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أبا حمزة - بالحاء المهملة والزاي - ببقلة تسمى حمزة (¬1)، ويقال: فيها حُموضة. ويكنى: أبا ثُمامة -بضم المثلثة وتخفيف الميم -، نقله ابن عساكر، وابن الأثير. وأمه: أم سُلَيم بنتُ مِلْحان -بكسر الميم وبالحاء المهملة-، وقد طلبت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لابنها أنس؛ فقالت: يارسول الله! إن لي خُوَيِّصة، قال: "ما هي؟ "، قالت: خادمُك أنس، فما تركَ خيرَ آخرةٍ ولا دنيا إلا دعا به: "اللهمَّ ارزْقه مالاً وولداً، وباركْ له". قال: فأنا أكثر الأنصار مالاً، وحدثتني ابنتي أُمَيْنَةُ: أنه دفن لصُلبي إلى مقدم الحَجَّاج البصرةَ بضعٌ وعشرون ومئة (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3830)، كتاب: المناقب، باب: مناقب أنس بن مالك - رضي الله عنه -، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 127)، وغيرهما. (¬2) رواه البخاري (1881)، كتاب: الصوم، باب: من زار قوماً فلم يفطر عندهم، عن أنس - رضي الله عنه -.

رُوي لسيدِنا أنسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديث، ومئتان وستة وثمانون حديثاً، اتفق الشيخان على مئةٍ وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاثةٍ وثمانين، ومسلم بأحد وستين، فهو أحد المكثرين. مات - رضي الله عنه - بالبصرة، في موضع يعرف بقصر أنس، خارجها، على فرسخٍ ونصف منها، وهو آخر من مات بها من الصحابة - رضي الله عنهم - سنة إحدى وتسعين، أو اثنتين أو ثلاث أو خمسٍ وتسعين. والأول أرجح عند ابن الأثير، ورجح الثالثَ: النوويُّ والذهبي، وغيرهما. وعمره مئة وثلاث سنين. قال النووي: اتفقوا على أنه جاوز المئة (¬1). (- رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء)؛ أي: أراد أن يدخل؛ كما في بعض ألفاظ البخاري، ولم يصل به سنده (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 17)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 4)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 109)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (9/ 332)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 710)، و"المنتظم" له أيضاً (6/ 303)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 294)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 136)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 353)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 395)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضاً (1/ 44)، و"العبر" له أيضاً (1/ 107)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (5/ 331)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 126)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (1/ 329). (¬2) قال البخاري عَقِب حديث (142) المتقدم تخريجه: تابعه ابن عَرْعَرة عن شعبة، =

نعم، وصله في "الأدب المفرد"، ولفظه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدخل الخلاء، قال، فذكر مثله (¬1). وفي بعضها: إذا أتى الخلاء (¬2). والخلاء -ممدود-: المكان الذي يُتوضأ فيه -عن الجوهري- (¬3)؛ سمي بذلك؛ لكونه يُتخلى فيه. وقال أبو عبيدٍ: يقال لموضع الغائط: الخلاء، والمذهب، والمرفق، والمرحاض (¬4). وفي روايةٍ في "الصحيحين": كان إذا دخل الكنيف (¬5)، وهو بمعنى الخلاء، سمي بذلك لأنه يَكْنُف من دخله ويستره. قال في "القاموس": والكنيف؛ كأمير: المرحاض (¬6). (قال: اللهمَّ)؛ أي: يا ألله! فالميم عوض عن النداء، ولهذا لا يجمع بينهما في اختيار الكلام (إني أعوذ)؛ أي: أتَحَرَّزُ وأَتَحَصَّن. قال ابن القيم في "بدائع الفوائد": اعلم أن لفظة: عاذَ، وما تصرف ¬

_ = وقال غندر، عن شعبة: "إذا أتى الخلاء". وقال موسى، عن حماد: "إذا دخل". وقال سعيد بن زيد: حدثنا عبد العزيز: "إذا أراد أن يدخل". (¬1) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (692). (¬2) كما تقدم عند البخاري قريباً. وقد رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 282) موصولاً. (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2330)، (مادة: خلا). (¬4) نقله عنه ابن الجوزي في "غريب الحديث" (1/ 367). وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 11). (¬5) هي من رواية مسلم فقط دون البخاري، وقد تقدم تخريجها في حديث الباب. (¬6) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1099)، (مادة: كنف).

منها، تدل على التحرُّز والتحصُّن والالتجاء، وحقيقة معناها: الهروبُ من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، ولهذا سمي المستعاذ به: مَعاذاً، كما يسمى: مَلْجأ، وفي الحديث: لما دخل - عليه الصلاة والسلام - على ابنة الجون، فوضع يده عليها، قالت: أعوذ بالله منك، قال: "لقد عُذْتِ بِمَعاذٍ، الحقي بأهلِكِ" (¬1). فمعنى "أعوذ": ألتجىء وأعتصم وأتحرز. وفي أصله قولان: أحدهما: أنه مأخوذٌ من الستر. والثاني: من لزوم المجاورة. فمن قال بالأول: استدل بأن العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة، الذي قد استتر بها: عُوَّذ -بضم العين وتشديد الواو مفتوحة-، فكأنه لما عاذ بالشجرة، واستتر بأصلها وظلها، سمي عوذاً، فكذا - العائذ - قد استتر من عدوه بمن استعاذ به. ومن قال بالثاني: استدل بأن العرب تقول للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلص منه: عوذ؛ لأنه اعتصم به واستمسك، فكذا العائذ قد استمسك بالمعاذ به، واعتصم به، ولزمه (¬2). (بك) يا ألله لا بغيرك، وأجرى عليه ضمير الخطاب؛ لاستشعار قربه منه، وأنه معه بعلمه وحفظه له - جلَّ شأنه -. (من الخُبُثِ والخبائِثِ). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4956)، كتاب: الطلاق، باب: من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، عن أبي أسيد - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 426).

قال الحافظ - رضي الله عنه -: (الخُبثُ -بضم الخاء المعجمة والباء-: جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة). كذا في الرواية. وقال الخطابي: إنه لا يجوز غيره، وغلَّط من سكّن الباء الموحدة (¬1)، وتعقب بأنه يجوز الإسكان كما في نظائره مما جاء على هذا الوجه؛ كُكُتب ورسُل وسُبُل (¬2). فعلى هذا يكون قد (استعاذَ - صلى الله عليه وسلم - من ذُكرانِ الشياطينِ): مفرد شيطان، إما من شاط: إذا احترق، أو من شطنَ: إذا بَعُدَ (¬3)، وعلى كل، فالشيطان محروق مبعود، (وإناثِهم)، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ إظهاراً للعبودية، ويجهر بها للتعليم. وقد روى المعمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار، عن ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 10 - 11)، و"إصلاح غلط المحدثين" له أيضاً (ص: 48). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 71)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 50)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 23 - 24)، وقد صوّب الزركشي كلام الخطابي، فقال: وفيما قالا -أي: النووي وابن دقيق - نظر، فإنه إن أريد بالخبث هنا المصدر، لم يناسب قوله: "الخبائث"؛ إذ لا ينتظم أعوذ بالله من أن أكون خبثاً، ومن إناث الشياطين، وإن أريد جمع خبيث بالضم وخفف، فينبغي المنع؛ لأن التخفيف إنما يطَّرد فيما لا يلتبس كُعُنق وأُذُن من المفرد، ورسُل وسبُل من الجمع، ولا يطَّرد مما يلتبس كحمر وخضر، فإن التخفيف في حمر مُلْبس لجمع أحمر وحمراء، وفي خضر بالمفرد، ولذلك قرأ في السبع: {رُسْلنا} و {وسُبْلنا} و {الأُذْن بالأذْن} كل ذلك بالتخفيف، ولم يقرأ في السبع: {كأنهم حمر مستنفرة} إلا بالضم، فبذلك ينبغي ألّا يخفف الخبث إلا مسموعاً من العرب، لئلا يلتبس بالمصدر، فالذي قاله الخطابي أقرب إلى الصواب، انتهى. (¬3) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (13/ 237)، (مادة: شطن).

عبد العزيز بن صهيب، بلفظ الأمر، قال: "إذا دخلتُم الخلاءَ، فقولوا: باسم الله، أعوذ بالله من الخبثِ والخبائثِ"، وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية. قال الحافظ ابن حجرٍ: ولم أرها في غير هذه الرواية، انتهى (¬1). قلت: لعله أراد: لم يرها في الحديث المذكور، وإلا فقد روى ابن ماجه، والترمذي من حديث علي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سترُ ما بين الجِنِّ وعوراتِ بني آدم إذا دخلَ أحدُهم الخلاءَ: أن يقول: باسم الله" (¬2). وروى سعيد بن منصور حديث أنس، فذكر: "باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث" (¬3). قال: الإمام أحمد - رضي الله عنه -: ما دخلت المتوضأ ولم أقلها إلا أصابني ما أكره (¬4). وروى أبو داودَ وابنُ ماجه من حديث زيد بن أرقمَ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن هذه الحُشوشَ مُحْتَضَرَةٌ، فإذا دخلَ أحدُكم، فليقلِ: اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ من الخُبُثِ والخبائث" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 244). (¬2) رواه الترمذي (606)، كتاب: الطهارة، باب: ما ذكر من التسمية عند دخول الخلاء، وقال: إسناده ليس بذلك القوي، وابن ماجه (297)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، وغيرهما. (¬3) لم أر هذه الرواية في المطبوع من "سنن سعيد بن منصور". وقد نسبها إليه الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/ 87)، وغيره. (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 110). (¬5) رواه أبو داود (6)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، والنسائي في "السنن الكبرى" (6/ 23)، والترمذي في "العلل" (ص: 22)، =

"الحُشوش": جمع حُشّ؛ وهي في الأصل: البساتين، كانوا يقضون الحاجة بها، ثم سُمي به موضعُ قضاء الحاجة، والمحتضرة: التي تحضرها الشياطين (¬1)، ولذلك أمر بذكر الله والاستعاذة قبل دخولها؛ ليكون ذلك حصناً ومعاذاً منها. ويستحب أن يقدم رجله اليسرى دخولاً، واليمنى خروجاً؛ لأن اليمنى لما شَرُف، واليسرى لما خَبُث، والخروج من محل الخبث يمنٌ في الجملة، عكس منزل ومسجد. وروى ابن ماجه عن أبي أمامة مرفوعاً: "لا يعجز أحدُكم إذا أدخل مرفقه أن يقول: اللهمّ إني أعوذُ بك من الرِّجْس النَّجِس الخبيثِ المُخَبث الشيطانِ الرجيمِ (¬2) ". قال في "المطلع": الرجس: القذر، والنجس: اسم فاعل من نَجِس ينجَس فهو نَجِسٌ؛ كفرِح يفرَح فهو فَرِحٌ. وقال الفراء: إذا قالوه مع الرجس، أتبعوه إياه، فقالوا: رِجْسٌ نِجْس - بكسر النون وإسكان الجيم -، وهو من عطف الخاص على العام؛ فإن الرجس النجس: الشيطان الرجيم، قد دخل في الخبث والخبائث؛ لأن المراد بهم: الشياطين (¬3). ¬

_ = وابن ماجه (296)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، والحاكم في "المستدرك" (669). (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 10). (¬2) رواه ابن ماجه (299)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، والطبراني في "المعجم الكبير" (7849)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 179)، وغيرهم. (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 12).

تنبيهات: الأول: قد نبهنا على أن ضبط الحافظ المصنف - رحمه الله تعالى - هو الذي صوبه الخطابي. لكن قد صرح جماعةٌ من الأئمة، وأهل المعرفة: بأن "الباء" في لفظة "الخبث" ساكنةٌ، منهم: أبو عُبيدٍ (¬1)، إلا أنه يقال: إنَّ تركَ التخفيف أولى؛ لِئلا يُشتبه بالمصدر. قال الحافظ ابن حجرٍ: ووقع في نسخة ابن عساكر -يعني: من "صحيح البخاري"-: قال أبو عبد الله -يعني: البخاري-: ويقال: الخبْث- بإسكان الموحدة -، فإن كانت مخففة من المحركة، فقد تقدم توجيهه، يعني: أنه جمعُ خبيثٍ لذكرانِ الشياطين، وإن كان بمعنى المفرد، فمعناه كما قال ابن الأعرابي: المكروه. قال: فإن كان من الكلام، فهو الشتم، وإن كان من الملل، فهو الكفر، وإن كان من الشراب، فهو الضار. وعلى هذا؛ فالمراد بالخبائث: المعاصي، أو مطلق الأفعال المذمومة؛ ليحصل التناسب. قال: ولهذا وقع في رواية الترمذي وغيره: "أعوذ بالله من الخُبْث والخبيث، أو الخُبُث والخبائث" (¬2) هكذا على الشك، الأول بالإسكان مع الإفراد، والثاني بالتحريك مع الجمع؛ أي: من الشيء المكروه، ومن الشيء المذموم، أو ذكران الشياطين وإناثهم، انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 192). (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 243 - 244).

قال ابن قرقول في "المطالع": الخبث - بإسكان الباء - (¬1). قال أبو عبيدٍ: هو الشر. وقال ابن الأنباري: هو الكفر. والخبائث: الشياطين. وقال الداودي: الخبث: الشيطان، والخبائث: المعاصي. قال: وقيل: الخبائث: إناث الجن، والخبُث -بضم الباء-: ذكورهم، جمع خبيث. وغَلَّط الخطابي مَنْ سكَّن الباء. وقيل: استعاذ الخبث نفسِه الذي هو الكفر، ومن الخبائث التي هي الأخلاق الخبيثة، انتهى (¬2). الثاني: يسن للمتخلِّي إذا خرج أن يقدِّم رجلَه اليمنى خروجاً، ويقول: غُفرانَكَ، الحمدُ لله الذي أذهبَ عني الأذى وعافاني؛ لِما روت عائشة - رضي الله عنها -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرجَ من الخلاء، قال: "غُفرانَكَ" رواه الخمسة إلا النسائي. حديثٌ حسنٌ غريبٌ (¬3). وعن أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء، قال: "الحمدُ لله الذي أذهبَ عنِّي الأَذَى وعافاني" ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 228). (¬2) وانظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 6)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 36)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 141)، (مادة: خبث). (¬3) رواه أبو داود (30)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء، والترمذي (7)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (300)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 155).

رواه ابن ماجه (¬1)، وذكره الإمام أحمد (¬2). فقوله: "غُفرانَكَ" منصوبٌ على المفعولية بفعلٍ محذوفٍ، أي: أسألك غفرانَك، أو على المصدرية، أي: اغفرْ غفرانَكَ. قال في "المطلع": معناه: اغفر لي تقصيري في شكر ما أنعمت به علي من الرزق ولذَّتِه وإساغتِه والانتفاعِ به، وتسهيلِ خروجه (¬3). وكان نوح - عليه السلام - يقول: "الحمدُ لله الذي أذاقَني لَذَّتَهُ، وأبقى فِيَّ منفعتَهُ، وأذهبَ عني أذاه" (¬4). وقيل: مِنْ تَرْكِ الذكر مُدَّةَ التخلِّي. وقال في "شرح الوجيز": إنما شُرع له ذلك؛ لأن الخلاءَ مَظِنَّةُ الغفلةِ والوسواس، فاستُحِبَّ الاستغفارُ عقبَهُ. الثالث: المراد بالخلاء: محلُّ قضاء الحاجة، حتى لو بال في نحو إناء، لكن إن كان قضاء الحاجة في الأمكنة المعدَّة لذلك يقول الذكرَ المشروع عند إرادة دخولها، وإلا، فيقوله عند الشروع في ذلك؛ كتشمير ثيابه، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (301)، كتاب: الطهارة، باب: ما يقول إذا خرج من الخلاء. (¬2) ذكر هذا شيخُ الإسلام ابن تيمية في "شرح العمدة" (1/ 139)، وعنه نقل الشارح، ولم أره في "مسند الإمام أحمد"، ولم ينسبه أحد من الحفاظ إليه، فالله أعلم. (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 12). (¬4) رواه ابن أبي الدنيا في "الشكر" (127)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4469)، عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً. وقد رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (370)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص: 24)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوله إذا خرج من الخلاء.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأنصاريِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ، فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلاَ بَوْلٍ، وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبوُا". قالَ أَبو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنا الشَّامَ، فوجدْنا مَراحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الكَعْبَةِ، فَنْنَحرِفُ عَنْهَا، ونَسْتَغْفِرُ اللهَ - عَزَّ وجَلَّ - (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (144)، كتاب: الوضوء، باب لا تُستقبل القبلة بغائط أو بول، إلا عند البناء؛ جدار أو نحوه، و (386)، كتاب: القبلة، باب: قبلة أهل المدينة، وأهل الشام، والمشرق، ومسلم (264)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، وعندهما: "قِبَل القبلة" بدل "نحو القبلة"، وليس في رواية البخاري "عنها" في قوله: "فننحرف عنها". ورواه أيضاً: أبو داود (9)، كتاب: الطهارة، باب: كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، والنسائي (21)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن استدبار القبلة عند الحاجة، و (22)، كتاب: الطهارة، باب: الأمر باستقبال المشرق أو المغرب عند الحاجة، والترمذي (8)، كتاب: الطهارة، باب: في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وابن ماجه (318)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن استقبال القبلة بالغائط والبول. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 16)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 23)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 66)، و"المُفهم" للقرطبي (1/ 521)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 158)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 51)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن =

الغائطُ: المَوْضِعُ المُطْمَئِنُّ مِنَ الأرضِ، كانوا يَنْتابونه للحاجَةِ، فَكَنَّوا به عن نَفْسِ الحَدَثِ؛ كراهيةً لذكرِه بخاصِّ اسمِهِ. والمراحيضُ: جمعُ مِرْحاض، وهو المُغْتَسَلُ، وهو -أيضاً- كنايةٌ عن مَوْضِعِ التَخَلِّي. * * * (عن أبي أيوبَ) خالدِ بنِ زيدِ بنِ كُلَيبِ بنِ ثعلبةَ بنِ عبد عوفٍ (الأنصاريِّ) الخزرجيِّ النَّجَّاريِّ (- رضي الله عنه -)، صحابيٌّ جليلٌ شهد العقبةَ وبدراً وأُحداً والمشاهدَ كلَّها، ونزل عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة مهاجراً، وأقام عنده شهراً، حتى بنيت مساكنه ومسجده. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مئة وخمسون حديثاً. اتفق الشيخان منها على سبعةٍ، انفرد البخاري بحديثٍ، ومسلمٌ بخمسةٍ. روى عنه جمع من الصحابة؛ كالبراءِ بنِ عازبٍ، وجابرِ بنِ سَمُرَةَ، والمقدامِ بنِ معدي كرب، وأبي أمامةَ الباهليِّ، وزيدِ بنِ خالدٍ الجهنيِّ، وابنِ عباسٍ، وغيرهم. توفي غازياً بالروم مع يزيدَ بنِ معاوية في أيام أبيه، سنة خمسين، أو إحدى وخمسين، أو اثنتين وخمسين، وقبره بالقسطنطينية معظم جداً (¬1). ¬

_ = الملقن (1/ 438)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 245، 498)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 276، 4/ 128)، و"فيض القدير" للمناوي (1/ 239)، و"سبل السلام " للصنعاني (1/ 79)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 97). (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 484)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 102)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 424)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 153)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (16/ 33)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي، (1/ 468)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6 / =

(قال) أبو أيوب (- رضي الله عنه -: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أَتيتم)، وفي رواية لهما، وللإمام أحمدَ وغيره: "إذا أتى أحدُكم" (¬1). (الغائطَ): أصله: المكانُ المطمئنُّ، كانوا ينتابونه للحاجة، فكنوا به عن نفس الحدث، كما يأتي في كلام الحافظ، وإنما فعلوا ذلك؛ كراهيةً لاسمه؛ لأن من عادة العرب التعفُّف في ألفاظها؛ واستعمالُ الكنايات في كلامها، وصونُ الألسنة بما تُصان الأسماعُ والأبصار عنه. وقال بعضهم: كني [به] عن العَذِرة؛ كراهةً لذكرها بخاصِّ اسمها، فصار حقيقةً عرفية غلبت على الحقيقة اللغوية. وقال ابن العربي: غلب هذا الاسم على الحاجة حتى صار فيها أعرفَ منه في مكانها، وهو أحد قسمي المجاز (¬2). (فلا تستقبلوا) وفي الرواية الأخرى: "فلا يستقبل" (¬3) (القبلةَ) اللام فيها للعهد؛ أي: الكعبة، و (لا) ناهيةٌ. (بغائطٍ) أراد به: الفضلةَ الخارجةَ من الدُّبر، فيكون استعمله في حقيقته، وهو المكان المقصود لقضاء الحاجة، ومجازه، وهو الفضلة الخارجة. ¬

_ = 22)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 469)، و"تهذيب الكمال" للمزي (8/ 66)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 402)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 58)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (10/ 37)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 234)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (3/ 79). (¬1) تقدم تخريجه عندهما، وهي رواية للبخاري فقط دون مسلم، ورواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 416). (¬2) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي المالكي (1/ 24). (¬3) وهي عند البخاري فقط دون مسلم.

(ولا) تستقبلوا القبلة بـ (بولٍ) هو معروف، جمعه أبوال، والاسم: البِيْلَة -بالكسر- (¬1). (ولا تستدْبِروها)، أي: القبلة، وفي الرواية الأخرى: "ولا يُوَلِّها ظَهْرَهُ" (¬2). قال في "شرح البخاري" لابن حجرٍ: والظاهر من قوله: "ببولٍ": اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره: إكرام القبلة من المواجهة بالنجاسة، ويؤيده قوله في حديث جابرٍ: "إذا أَهْرَقْنا الماءَ" (¬3). وقيل: مثار النهي: كشف العورة؛ كالوطء مثلاً، ونقله ابن شاس المالكي قولاً في مذهبهم. وكأن قائله تمسكَ بروايةٍ في "الموطأ": "لا تستقبلوا القبلةَ بفروجِكم" (¬4)، ولكنها محمولة على المعنى الأول عند الجمهور؛ أي: حال قضاء الحاجة؛ جمعاً بين الروايتين (¬5). (ولكنْ شَرِّقوا)؛ أي: استقبلوا جهة المشرق، (أو غَرِّبوا)؛ أي: استقبلوا جهة المغرب. ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1252)، (مادة: بول). (¬2) وهي عند البخاري فقط. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 360)، وابن حبان في "صحيحه" (1420)، والدارقطني في "سننه" (1/ 58)، والحاكم في "المستدرك" (552)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 92). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 419)، والطبراني في "المعجم الكبير" (3932)، ولم أر هذه الرواية في "الموطأ"، ولم يذكرها ابن عبد البر في كتابيه: "التمهيد"، و"الاستذكار"، والله أعلم. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 246).

قال الخطابي: هذا خطابٌ لأهل المدينة، ولمن كان قبلته على ذلك السمت، فأما من كانت قبلته إلى جهة المشرق والمغرب، فإنه لا يغرب ولا يشرق (¬1). تنبيه: أكثرُ الكتب الصحيحة المعتمدة بإثبات الألف قبل الواو في "أو غربوا"، وذكر العلقمي في "شرح الجامع الصغير" (¬2) عن شيخه ولي الدين: أنه قال: ضبطناه في "سنن أبي داود": "وغربوا" بغير ألفٍ (¬3). ونقل النووي في "شرح مسلم" عن بعض نسخ أبي داود: "أو غربوا" (¬4)، والمعنى صحيحٌ على كل منهما. (قال أبو أيوبَ) - رضي الله عنه -: (فَقَدِمْنا الشامَ) بعد فتحِها، ومراده: ديرةَ الشام، لا خصوصَ دمشق، وسُميت الشام؛ لأن قوماً من بني كنعان تشاءموا إليها؛ أي: تياسروا، أو سمي بسام بن نوح؛ فإنه بالشين بالسريانية، أو لأن أرضها شامات، بيضٌ وحمرٌ وسودٌ، وعلى هذا لا يهمز، وقد يذكَّر (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 16). (¬2) هو كتاب: "الكوكب المنير في شرح الجامع الصغير للسيوطي" في مجلدين، لتلميذ الإمام السيوطي: الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن علي الشافعي المعروف بالعلقمي، المتوفى سنة (969 هـ)، إلا أنه قد يترك فيه الأحاديث بلا شرح؛ لكونها غير محتاجة للشرح؛ كما قال حاجي خليفة في "كشف الظنون" (1/ 560)، وانظر: "الأعلام" للزركلي (6/ 195). (¬3) وانظر: "فيض القدير" للمناوي (1/ 239). (¬4) لم يتعرض النووي في "شرح مسلم" (3/ 158) لهذا النقل عند شرحه الحديث، والله أعلم. (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1453)، (مادة: شأم).

وحدودُها: ما بين الفرات والعريش شمالاً، وقبلةً، وما بين دومة الجندل والبحر مشرقاً، ومغرباً. (فوجَدْنا مراحيضَ قد بُنيت نحوَ)؛ أي: متوجهة إلى جهة (الكعبةِ، فـ) ـــصرنا إذا دخلناها لقضاء حاجتنا فيها (ننحرف) في تلك المراحيض (عنها)؛ أي: عن جهة الكعبة المشرفة. (ونستغفرُ اللهَ - عز وجل -) من ذلك؛ أي: نطلب منه المغفرة؛ لاستقبالنا القبلةَ في حال البراز. وهذا يُشعر بالمنع من ذلك، ولو في البنيان. وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - نص عليه في رواية الأثرم، وإبراهيمَ بنِ الحارث، فقال: البيوت والصحراء سواءٌ (¬1). وهو قول أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - كما ذكرناه، وبه قال النخعي، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، واختاره أبو بكرٍ عبدُ العزيز، وشيخُ الإسلام ابنُ تيمية، وتلميذاه ابنُ القيم، وابن قاضي الجبل، وقدَّمه في "الرعايتين"، وجزم به في "الوجيز" (¬2). وهذا مرجوح في المذهب، والمعتمد: التفصيل بين البنيان والصحارى، فيحرم في الصحاري دون البنيان. وهذا المذهب بلا ريبٍ؛ وفاقاً لمالكٍ، والشافعي، فلا يمتنع الاستقبال والاستدبار في البنيان. ¬

_ (¬1) وهذه الرواية مرجوحة، وأصح الروايات عنه: أنه لا يجوز الاستقبال والاستدبار في الصحارى دون البنيان، كما هو مذهب مالك والشافعي - رحمهما الله -. انظر: "كتاب التمام لما صحَّ في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام" لابن أبي يعلى (1/ 114). (¬2) انظر: "تصحيح الفروع" للمرداوي (1/ 125).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا المنصور عند الأصحاب (¬1). قال في "الفروع": اختاره الأكثر (¬2)، وجزم به في "الإيضاح"، و"تذكرة ابن عقيلٍ" (¬3) و"الطريق الأقرب" (¬4)، و"العمدة" للإمام الموفق، و"المنوَّر" (¬5)، وقدمه في "الخلاصة" (¬6)، و"المحرَّر" (¬7). قال في "الشرح الكبير" للإمام شمس الدين بن أبي عمر: هذا هو الصحيح، لما روت عائشةُ - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذُكر له أن قوماً يكرهون استقبالَ القبلة بفروجِهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ قد فعلوها؟! استقبلوا بمقعدتي القبلةَ" رواه أصحاب السنن (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 148). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 81). (¬3) كتاب: "التذكرة" في الفقه، لابن عقيل الحنبلي، توجد منه نسخة خطية في المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت رقم (87)، ويقع في (245) ورقة، وفي بعض أوراقها طمس. (¬4) للإمام الشيخ يوسف بن عبد الرحمن أبو محمد ابن الجوزي البغدادي، المتوفى سنة (656 هـ)، كتاب: "الطريق الأقرب" في الفقه. انظر: "معجم مصنفات الحنابلة" لعبد الله الطريقي (3/ 189). (¬5) انظر: "المنور في راجح المحرر" للأدمي (ص: 144). (¬6) كتاب: "الخلاصة في الفقه" لأبي المعالي ابن المنجَّى، المتوفى سنة (606 هـ). انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 49)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 979). (¬7) انظر: "المحرَّر في الفقه" للإمام مجد الدين بن تيمية (1/ 8). وانظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 81)، و"تصحيح الفروع" للمرداوي (1/ 125). (¬8) رواه ابن ماجه (324)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك في الكنيف، وإباحته دون الصحارى، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 227). قال الترمذي في "العلل" (ص: 24): سألت محمداً -يعني: البخاري- عن هذا الحديث، =

قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أحسنُ ما روي في الرخصة: حديث عائشة هذا، وإن كان مرسلاً؛ لأن عراكَ بنَ مالك رواه عن عائشة. قال الإمام أحمد: ولم يسمع منها (¬1). وروى أبو داود، عن مروان الأصفر، قال: رأيت ابن عمر - رضي الله عنهما - أناخ راحلته مستقبلَ القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: أبا عبد الرحمن! أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: بلى، إنما نُهي عن هذا في الفضاء، أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك، فلا بأس (¬2)، وفي هذا تفسير لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العامِّ، وفيه الجمعُ بين الأحاديث، فتحمل أحاديثُ النهي على الفضاء، وأحاديث الرخصة على البنيان، فيتعين المصير إليه، والله الموفق (¬3). وقيل: يحرم الاستقبالُ دون الاستدبار. وقيل بعدم الحرمة مطلقاً، وهو مذهب عائشةَ، وعروةَ، وغيرِهما. والله أعلم. قال الحافظ المصنف - رضي الله عنه -: (الغائط: الموضعُ المطمئنُّ من الأرضِ)، وهو بخلاف الرابي العالي منها؛ (كانوا) في الزمن الأول (ينتابونه)؛ أي: يقصدونه (لـ) ــلقضاء (الحاجة) مرةً بعد أخرى (فكَنَّوْا به)؛ ¬

_ = فقال: هذا حديث فيه اضطراب، والصحيح عن عائشة، قولها. (¬1) انظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص: 162). (¬2) رواه أبو داود (11)، كتاب: الطهارة، باب: كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، وابن خزيمة في "صحيحه" (60)، والحاكم في "المستدرك" (551)، وغيرهم. (¬3) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (1/ 89).

أي: الغائط (عن نَفْسِ)؛ أي: حقيقة (الحَدَث) الخارجِ من الدبر وذاته، وإنما فعلوا ذلك (كراهيةً) منهم (لذكرهِ بخاصِّ اسمه) (¬1)، كما قدمناه. والكناية والكنية من قولك: كنيت عن الأمر، وكنوت عنه: إذا وَرَّيْتَ عنه بغيره (¬2). قال الحافظ: (والمراحيضُ): يقال: رَحَضْتُ الثوبَ رَحْضاً؛ من باب نفع: غسلته، فهو رحيض (جمعُ مِرْحاضٍ) -بكسر الميم -: موضع الرَّحْض (¬3)، (وهو المُغْتَسَلُ)؛ أي: محل الاغتسال. قال: (وهو -أيضاً-) مصدر "آض": إذا رجع؛ كأنه رجع من تحويله عن أصل حقيقتة إلى كونه (كنايةٌ عن موضعِ التخلِّي) من أمكنة الأرض. قال في "القاموس": المِرْحاض: خشبةٌ يُضرب بها الثوبُ، والمُغْتَسَلُ، وقد يكنى بها عن مَطْرَحِ العَذِرَة (¬4). وفي "المطالع": المراحيض: المذاهبُ، والخَلَوات، وأصلُه من الرَّحْض، وهو الغسل (¬5). والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1147)، (مادة: غوط). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 207)، و"لسان العرب" لابن منظور (15/ 234)، (مادة: كني). (¬3) انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 222)، (مادة: رحض). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 829)، (مادة: رحض). (¬5) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 286).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قالَ: رَقِيتُ يَوماً عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْضِي حاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ، مُسْتَدْبِرَ الكَعْبَةِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (145)، كتاب: الوضوء، باب: من تبرَّز على لبنتين، و (147، 148)، كتاب: الوضوء، باب: التبرز في البيوت، و (2935)، كتاب: أبواب الخمس، باب: ما جاء في بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما نسب من البيوت إليهن، ومسلم (266)، (1/ 224 - 225) كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، وعندهما، "القبلة" بدل "الكعبة". ورواه أيضاً: أبو داود (12)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك، والنسائي (23)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك في البيوت، والترمذي (11)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء من الرخصة في ذلك، وابن ماجه (322)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك في الكنيف، وإباحته دون الصحارى. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 16)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 444)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 26)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 66)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 522)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 155)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 56)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 247)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 279)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 98).

(عن عبدِ الله بنِ عمرَ بنِ الخَطَّاب - رضي الله عنهما -): هو أبو عبدِ الرحمن القرشيُّ العَدَوِيُّ، وتقدم ذكرُ نسب والدهِ أميرِ المؤمنين - رضي الله عنه-، أسلمَ مع أبيه بمكة وهو صغير. وقيل: أسلم قبل أبيه، ولم يصح هذا القول. وهاجر قبل أبيه، ولم يشهد بدراً، واختُلِف في أُحد، والأصح أن أول مشاهده الخندق، وشَهِدَ ما بعده. وقيل: إنه أول من بايع بيعة الرضوان، والصحيح: سنان بن أبي سنان الأسدي. وكان عامَ الخندق ابنَ خمسَ عشرةَ سنة، وكان - رضي الله عنه - من أهل العلم والورع والزهد، شديدَ التحري والاحتياط في فتواه. ولد - رضي الله عنه - قبل الوحي بسنةٍ، ومات بمكة سنة ثلاثٍ وسبعين، بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر، وقيل: بستةٍ، ودفن بذي طوى في مقابر المهاجرين، وله أربع وثمانون سنةً، وقيل: ستٌّ وثمانون سنةً، ورجَّحه ابنُ الأثير، وعلى كل، ففيه إشكالٌ، فقد ثبتت الأخبار أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُجِزْهُ يومَ أُحُد، وكان عمره أربعَ عشرةَ سنةً، وكانت أُحُد في الثالثة. وهذا لا يلتئم مع كونه ولد قبل الوحي بسنةٍ - على القول المعتمد - بأنه مكث - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد الوحي ثلاث عشرةَ سنةً، وإنما يلتئم ذلك أن يكون ولد بعد البعثة بسنتين قبل إسلام أبيه بأربع سنين؛ فإنه - رضي الله عنه - أسلم في السادسة - كما قدمنا -. روى عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أولاده الأربعة: سالم، وحمزة، وعبد الله، وبلال، وخلائقُ من التابعين، ومن الصحابة ممن لا يحصى عددهم.

ومناقبه كثيرة، ومزاياه غزيرة، واعتزل الفتنة، فلم يقاتل في شيءٍ من الحروب التي جرت بين المسلمين، وهو أحد العبادلة الأربعة الذين هم: هو، وابن عباس، وابن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص. وغَلَّطوا مَنْ عدَّ ابنَ مسعودٍ - رضي الله عنه - فيهم؛ لأنه لم يشتهر هذا الإطلاق عليهم إلا بعده، نص عليه الإمام أحمد - رضي الله عنه -. وأحدُ الفقهاء والمفتين، وأحدُ المكثرين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفا حديثٍ، وست مئةٍ وثلاثون حديثاً، اتفقا على مئةٍ وسبعين. وقال الحافظ ابن الجوزي: مئةٍ وثلاثةٍ وستين. قاله البرماوي في شرح "الزهر البسام" (¬1). قلت: الذي ذكره الحافظ ابن الجوزي في "منتخب المنتخب": أن المتفق عليه منها مئة وثمانيةٌ وستون. وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم التعريف به. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 142)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 2)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 209)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 641)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 950)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (31/ 79)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 563)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 336)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 261)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 180)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 203)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضاً (1/ 37)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 181)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (5/ 287).

(قال) عبدُ الله بن عمر - رضي الله عنهما -: (رَقِيتُ)؛ أي: صَعِدْتُ وعَلَوْتُ- (يوماً) من الأيام زمنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (على بيتِ) أختي (حفصةَ) أمِّ المؤمنين بنتِ عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنها -، كانت تحت خُنَيسٍ -بضم الخاء المعجمة وفتح النون ثم مثناه تحتية، فسينٍ مهملةٍ- بنِ حذافةَ، ممن شهد بدراً، فهاجرت معه إلى المدينة، توفي عنها بالمدينة بعد بدرٍ، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنة ثلاثٍ، ثم طلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدةً، ثم راجعها بأمر جبريل؛ وقال: "إنَّ اللهَ يأمُركَ أن تُراجعَ حفصةَ؛ فإنها صَوَّامةٌ قوامةٌ، وزوجَتُك في الجنة" (¬1). وفي لفظٍ: "إنها صؤوم وقؤوم، وإنها من نسائك في الجنة" (¬2). ماتت - رضي الله عنها - في شعبان سنة خمسٍ وأربعين في خلافة معاوية، ولها ستون سنةً. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وقال الحافظ ابن الجوزي: أربعة، وانفرد مسلم بستةٍ (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البزار في "مسنده" (1401)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3052)، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 188)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 50)، وغيرهم، عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 84)، عن قتادة مرسلاً. وانظر: "الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين" لابن عساكر (ص: 91). (¬3) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 81)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 98)، و"المستدرك" للحاكم (4/ 15)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 50)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1811)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (3/ 180)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 38)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 67)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 605)، =

قال عبد الله بن عمر: (فرأيتُ النبيَّ) - صلى الله عليه وسلم - بعد رُقيّي على بيتِ أختي حفصة (يَقْضي حاجتَهُ) من البول والغائط، أو أحدهما، حال كونه (مستقبلَ الشامِ، مستدبرَ الكعبةِ). وهذا تصريحٌ بالمفهوم؛ لأن كل من استقبل الشام في المدينة النبوية وما قاربها، يكون قد استدبر الكعبة قطعاً، يعني: جهة مكة؛ لأن المدينة بين مكة والشام. ولم يقصد ابن عمر الإشرافَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة، وإنما صَعِدَ السطحَ لحاجةٍ له، كما في الرواية الأخرى: فحانت منه التفاتةٌ، كما رواه البيهقي من طريق نافعٍ، عن ابن عمر (¬1)، نعم لما اتفقت له رؤيته له في تلك الحالة عن غير قصدٍ، أحبَّ ألا يُخلي ذلك عن فائدة، فحفظ هذا الحكمَ الشرعيَّ، وكأنه إنما رآه من جهة ظهره حتى ساغ له تأمل الكيفية المذكورة من غير محذورٍ، ودلَّ ذلك على شدة حرص سيدنا ابن عمر على تتبُّعِ أحوال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ ليتَّبعها كما هو المعروف من عادته وديدنه - رضي الله عنه -. وسبب إيراد ابن عمر - رضي الله عنه - هذا الحديث: ما في "الصحيحين" عن واسع بن حَبَّانَ - رضي الله عنه -، قال: كنت أصلي في المسجد، وعبدُ الله بنُ عمر مسندٌ ظهره إلى القبلة، فلما قضيتُ صلاتي، انصرفت إليه بشقي، فقال: عبد الله! يقول أناس: إذا قعدْتَ للحاجة تكون ¬

_ = و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 153)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 227)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 581)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (12/ 439). (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 93).

لك، فلا تقعدْ مستقبلَ القبلةِ ولا بيت المقدس. قال عبد الله: ولقد رقيتُ على ظهر بيتي، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعداً على لَبِنتين مستقبلَ بيت المقدس لحاجته (¬1). ولما كان ظاهر حديث أبي أيوب منعَ استقبال القبلة، ولو في البنيان، أورد الحافظ حديث ابن عمر هذا؛ ليخص عمومَ مفهومِ ذاك، فَحُمِلَ المنعُ على التخلي في الفضاء، والإباحةُ على البنيان. فإن قيل: أين البنيان هنا؟ قلت: جاء في رواية عند ابن خزيمة (¬2)، قال: فأشرفْتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في خلائه يقضي حاجته محجوباً عليه بلَبِن (¬3). وللحكيم الترمذي بسندٍ صحيح: فرأيته في كنيفٍ (¬4) -وهو بفتح الكاف وكسر النون، بعدها ياءٌ تحتية ففاء-: ما قدمناه، فانتفى زعمُ مَنْ زعمَ أن ابن عمر كان يرى الجواز مطلقاً، يدل له ما تقدم عنه من بوله إلى ناقته، فانتظم المقصود من الأخبار النبوية على تخصيص المنع بالفضاء، والإباحة بالبنيان -كما قدمنا-. فإن قلت: قد ذكرت أن ابن عمر في الحديث الذي أوردته عنه في "الصحيحين": قال: رقيت على ظهر بيتي. وفي روايةٍ: بيتٍ لنا، وفي ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب، وهذا لفظ مسلم. (¬2) في الأصل المخطوط: "ابن حزم"، والاستدراك من "فتح الباري" لابن حجر (1/ 247)؛ حيث ينقل عنه الشارح ما أثبته هنا. (¬3) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (59)، إلى قوله: "في خلائه". ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 234) بلفظ: " ... اطلعت يوماً ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ظهر بيت يقضي حاجته محجوباً عليه بلبن". (¬4) كذا نسبه إليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 247).

روايةٍ: ظهر بيتنا (¬1)، والحديث الذي ذكره المصنف - رحمه الله ورضي عنه - قال: رقيت يوماً على بيت حفصة، فظاهرهما التعدد أو الاختلاف؟! قلت: كلُّ هذه الألفاظِ صحيحةٌ مخرجةٌ في الصحاح وغيرها، ولا اختلافَ ولاتعدُّدَ؛ فإن حفصةَ بنتَ عمرَ شقيقةُ عبدِ الله بنِ عمرَ - رضي الله عنهم -، فإما أن يكون أضافَ البيت إليه على سبيل المجاز؛ لكونها أخته، فله منه سبب، أو حيث أضافه إلى حفصة، فباعتبار أنه البيت الذي أسكنها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيه، واستمرَّ بيتَها إلى أن ماتت، فورثه عنها، فأضافه إلى نفسه بحسب ما آل إليه الحال؛ لأنه ورِثَ حفصة دون إخوته؛ لكونه شقيقَها، ولم تتركْ من يحجُبه عن الاستيعاب. وهذا ظاهرٌ لاخفاءَ فيه، كما نبه عليه الحافظ ابنُ حجرٍ في "شرح البخاري" (¬2)، وغيره، والله أعلم. فائدة: قيل: إن لواسعِ بنِ حَبَّانَ رؤيةً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنه ذُكر بذلك في الصحابة، والمشهور: أنه تابعي، وأبوه حَبَّان -بفتح الحاء المهملة وبالموحدة-، ولحبان ولأبيه منقِذِ بنِ عمرٍو صحبةٌ، كما في "الفتح" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريج هذه الروايات في حديث الباب. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 247). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. وانظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 440)، و"تهذيب الكمال" للمزي (30/ 396).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قالَ: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ الخَلاءَ، فَأَحْمِلُ أَنا وغُلامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ، وعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالماءِ (¬1). العَنَزَةَ: الحَرْبَةُ. * * * (عن أنسِ بنِ مالكٍ) خادمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاريِّ (- رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (149)، كتاب: الوضوء، باب: الاستنجاء بالماء، و (150)، باب: من حمل معه الماء لطهوره، و (151)، باب: حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء، و (214)، باب: ما جاء في غسل البول، و (478)، كتاب: سترة المصلي، باب: الصلاة إلى العنزة، ومسلم (271)، (1/ 227)، كتاب: الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء من التبرز، وهذا لفظ مسلم. ورواه أبو داود (43)، كتاب: الطهارة، باب: في الاستنجاء بالماء، والنسائي (45)، كتاب: الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 77)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 520)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 162)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 58)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 251)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 291)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 74)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 121).

قال) أنس - رضي الله عنه -: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء) لأجل قضاء الحاجة، (فأحمل أنا وغلام نحوي)؛ أي: مثلي. ولفظ البخاري: و"غلام منا" بدل "نحوي". وفي كلام الحافظ ابن حجر: أن البخاري دلَّ ظاهرُ صنيعه على أن الغلامَ المذكورَ في حديث أنسٍ، هو ابنُ مسعودٍ. قال: ولفظ الغلام يطلق على الصغير والكبير، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعودٍ بمكة وهو يرعى الغنم: "إنك لَغُلامٌ مُعَلَّمٌ" (¬1). قال: وعلى هذا؛ فقول أنس: وغلامٌ منا؛ أي: من الصحابة، أو من خَدم النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: وأما رواية الإسماعيلي التي فيها: "من الأنصار"، فلعلها من تصرف الراوي؛ حيث رأى في الرواية: "منَّا"، فحملها على القبيلة، فرواها بالمعنى، فقال: "من الأنصار". وإطلاقُ الأنصار على جميع الصحابة سائغٌ، وإن كان العرف خصَّه بالأوس والخزرج. لكنْ يبعده وصفُ أنس له بالصغر؛ كما في حديثه: "وتَبِعَهُ غلام، ومعه ميضأة، وهو أصغرنا" (¬2). وهذا يبعد كونَه ابنَ مسعود. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 379)، والبزار في "مسنده" (1824)، وأبو يعلى في "مسنده" (4985)، وابن حبان في "صحيحه" (6504)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8455). (¬2) وهي رواية أبي داود المتقدم تخريجها. وانظر: "المسند المستخرج على صحيح مسلم" لأبي نعيم (621).

وفي حديث جابرٍ عند مسلم: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - انطلق لحاجته، فاتبعه جابرٌ بإداوة (¬1)، فيحتمل أن يفسر به المبهم، ولا سيما وهو أنصاري. ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي، عن شعبة: فأتبعُه وأنا غلامٌ -بتقديم الواو- فتكون حاليةً. ولكن تعقبه الإسماعيلي: بأن الصحيح: أنا وغلامٌ، بواو العطف (¬2)، ولا سيما مع قوله في رواية مسلم: نحوي. (إداوةٌ من ماء): "الإِداوة" -بالكسر-: المِطْهَرة، وجمعُها: أَداوي؛ كفتاوي، كما في "القاموس" (¬3). وقال غيره: الإداوة -بكسر الهمزة-: إناءٌ صغيرٌ من جلدٍ يُتخذ فيه الماء كالسَّطيحة (¬4). والمَطهْرَةَ -بكسر الميم وفتحها-: إناءٌ يُتطهر به (¬5). (وعَنَزَةٌ، فيستنجي) - صلى الله عليه وسلم - (بالماءِ). وهذا المقصود الأكبر من هذا الحديث؛ حيث صرح بالاستنجاء بالماء، وكأن المقصود الردُّ على ما يروى عن سعيد بن المسيب: أن الاستنجاء بالماء يختص بالنساء (¬6). وعن غيره من السلف ما يُشعر بذلك -أيضاً-. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (3012)، كتاب: الزهد والرقاق، باب: حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 252). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1624)، (مادة: أدا). (¬4) انظر: النهاية في "غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 33)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 24)، (مادة: أدا). (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 554)، (مادة: طهر). (¬6) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 33).

والسنَّة دلت على الاستنجاء بالماء في هذا الحديث وغيره، فهي أولى بالاتباع، ولعل سعيداً - رحمه الله تعالى - فهم من أحدٍ غُلُوّاً في هذا الباب، بحيث يمنع الاستجمار بالحجارة، فقصد في مقابلته أن يذكر هذا اللفظ لإزالة ذلك الغلو، فإنه لما سُئل عن الاستنجاء بالماء، قال: إنما ذلك وضوء النساء؛؛ مبالغةً بإيراده إياه على هذه الصيغة. وقد ذهب ابن حبيبٍ من أصحاب مالكٍ إلى أن الاستجمار بالحجارة إنما هو عند عدم الماء. وإذا ذهب إليه بعض الفقهاء، فلا يبعد أن يقع لغيرهم ممن في زمن سعيدٍ - رحمه الله تعالى -، قاله ابن دقيق العيد (¬1). قال الحافظ - رضي الله عنه -: (العَنَزَة) -بفتح النون-: عَصًا أقصرُ من الرمح، [وقيل]: هي (الحَرْبَة) الصغيرة (¬2). وفي "القاموس": هي رُميحٌ بين العصا والرمح، فيه زُجٌّ (¬3). ووقع في رواية كريمة من "صحيح البخاري": "العنزة": عصًا عليها زُجٌّ - بزاي مضمومة ثم جيمٍ مشددة-؛ أي: سِنان. وفي "الطبقات" لابن سعدٍ: أن النجاشي كان أهداها للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 59). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 252). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 667)، (مادة: عنز). (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 235)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6/ 41)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (10/ 469)، عن عبد الله بن محمد بن عمار بن سعد، وعمار وعمر ابني حفص بن عمر بن سعد، عن آبائهم، عن أجدادهم: أنهم أخبروهم: أن النجاشي بعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث عنزات، فأمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة لنفسه ... الحديث.

وهذا يؤيد كونها على صفة الحربة؛ لأنها من آلات الحبشة (¬1). وصرح ابن الأثير في "النهاية" بذلك، فقال: العنزةُ مثلُ نصف الرمح، أو أكبر شيئاً، وفيها سنانٌ مثل سنان الرمح، والعكازة قريبٌ منها، وقد تكرر ذكرها في الحديث، انتهى (¬2). فإن قلت: أي مناسبةٍ لذكر العنزة في تعاطي التخلي؟ فالجواب: ما أشار إليه الحافظ ابن حجرٍ: أن المراد بـ (الخلاء) في هذا الحديث: الفضاءُ الواسع، يؤيده ما في بعض الروايات: كان إذا خرج لحاجته (¬3)، ولقرينة حمل العنزة مع الماء؛ فإن الصلاة إلى العنزة إنما تكون حيث لاسترة غيرها، وأيضاً أخليةُ البيوتِ، وكأن خدمته - صلى الله عليه وسلم - فيها متعلقة بأهله. قال الحافظ ابن حجرٍ: وفهم بعضهم من تبويب البخاري؛ أنها كانت تحمل ليستتر بها عند قضاء الحاجة، وفيه نظرٌ؛ لأن ضابط السترة في هذا ما يستر الأسافل، والسترة ليست كذلك. نعم، يحتمل أن يركزها أمامه، ويضع عليها الثوب، أو يركزها بجنبه لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه، أو تحمل لِنَبْشِ الأرض الصلبة، أو منع ما يعرض من هوام الأرض؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعد عند قضاء الحاجة، أو كانت تحمل لأنه كان إذا استنجى، توضأ، وإذا توضأ، صلى. واستظهر هذا على غيره في "الفتح" (¬4)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 252). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 308). (¬3) وهي رواية البخاري المتقدم تخريجها في حديث الباب. (¬4) انظرت "فتح الباري" لابن حجر (1/ 252).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أبي قَتَادَةَ الحَارِثِ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ، وَلا يَتَمَسَّحْ مِنَ الخَلاءِ بِيَمِينِهِ، وَلايَتنفَّسْ في الإِنَاءِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (153)، كتاب: الوضوء، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين، و (153)، باب: لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال، و (5307)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن التنفس في الإناء، ومسلم (267)، و (1/ 225)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين، وهذا لفظه، ورواه أيضاً (267)، (3/ 1602)، كتاب: الأشربة، باب: كراهة التنفس في نفس الإناء، واستحباب التنفس ثلاثاً خارج الإناء، مختصراً. ورواه أبو داود (31)، كتاب: الطهارة، باب: كراهية مس الذكر باليمين في الاستبراء، والنسائي (24، 25)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن مس الذكر باليمين عند الحاجة، و (47، 48)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين، والترمذي (15)، كتاب: الطهارة، باب: ماجاء في كراهة الاستنجاء باليمين، و (1889)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية التنفس في الإناء، وابن ماجه (310)، كتاب: الطهارة، باب: كراهة مس الذكر باليمين، والاستنجاء باليمين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 23)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 352)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 74)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 519)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 159)، و"شرح عمدة =

(عن أبي قتادةَ) هذه كنيتهُ -واسمه (الحارِثُ بنُ رِبْعي) - بكسر الراء وسكون الموحدة، وبالعين المهملة وتشديد المثناة تحت -، وهذا الأصح في اسم أبي قتادة واسم أبيه. وقيل: اسمُه: النعمانُ بنُ ربعي. وقيل: النعمانُ بنُ عمرٍ و، وربعيٌّ: ابنُ بَلْدَمَةَ -بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وفتح الدال المهملة-، ويقال: بُلْدُمَة - بالضم فيهما -، ويقال: بإعجام الذال مضمومةً، (الأنصاريِّ) السَّلَمِيِّ -بفتح السين المهملة - نسبةً إلى أحد أجداده كعبِ بنِ سَلَمة - رضي الله عنه -، وكان يقال له: فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. شهد أُحُداً وما بعدها، وفي شهوده بدراً خلافٌ، والصحيح: أنه مات بالمدينة سنة أربعٍ وخمسين. وقيل: مات في خلافة علي بالكوفة سنة ثمانٍ وثلاثين، وكان شهد معه صِفِّينَ وغيرَها، ولما مات، صلَّى عليه عليٌّ، وكَبَّرَ عليه سبعاً، وعمرُه يومَ مات سبعون سنةً، وهو ممن غلبت عليه الكنية. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئةُ حديثٍ وسبعون حديثاً، اتفقا على أحد عشر، وانفرد البخاري بحديثٍ، ومسلمٌ بثمانية (¬1). ¬

_ = الأحكام" لابن دقيق (1/ 59)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 253) و (10/ 92)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 294) و (21/ 200)، و"فيض القدير" للمناوي (1/ 386)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 77). (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 15)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 258)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1731)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 159)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (67/ 141)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 647)، و"المنتظم" له أيضاً (5/ 268)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 244)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2 / =

فمن المتفق عليه: مارواه (- رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يُمْسِكَنَّ)؛ "لا" ناهية، و"يمسكن": فعلٌ مضارعٌ مبنيٌّ على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، و (أحدكم) فاعل، و (ذَكَرَهُ) مفعولٌ، و (بيمينِهِ) متعلقٌ بيمسك، وجملة (وهو يبولُ) من المبتدأ والخبر جملةٌ حاليةٌ؛ أي: في حال بوله، فيقتضي النهي عن مس الذكر باليمين في حال البول، فيكون ما عداه مباحاً. وقال بعض العلماء: بل يكون ممنوعاً -أيضاً- من باب الأولى؛ لأنه إذا نُهي عن ذلك مع مَظِنَّة الحاجة في تلك الحال، ففي سواها أولى. وتعقبه ابن أبي جمرة بأن مظنة الحاجة لا تختص بحال الاستنجاء، وإنما خص النهي بحال البول من جهة أن مجاور الشيء يُعطى حكمه، فلما مُنع الاستنجاء باليمين، مُنع مسُّ آلته حسماً للمادة، انتهى (¬1). وقد جاء في رواية: النهيُ عن مس الذكر باليمين مطلقاً من غير تقييد بحال البول (¬2). قال في "الفروع": نقل صالح -يعني: عن أبيه الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أكره أن يمسَّ فرجَه بيمينه، فظاهره: مطلقاً، وذكره صاحب "المحرر" -يعني: المجد (¬3) -، وهو ظاهر كلام الشيخ -يعني: الموفق (¬4). ¬

_ = 449)، و"تهذيب الكمال" للمزي (24/ 194)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (11/ 185)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 327)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (12/ 224). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 254). (¬2) كما في إحدى روايتي مسلم المتقدم تخريجها في حديث الباب. (¬3) انظر: "المحرر في الفقه" للإمام مجد الدين بن تيمية (1/ 10). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 103).

قال في "الفروع": وحمله أبو البركات ابنُ مُنجَّى على وقت الحاجة؛ لسياقه فيها، وترجم الخَلاَّل روايةَ صالح كذلك، انتهى (¬1). واستدل ابنُ أبي جمرةَ على إباحة مسِّ الذكر باليمين في غير حال البول، بقوله - صلى الله عليه وسلم - لطلقِ بنَ عليٍّ حين سأله عن مس ذكره: "إنما هو بَضْعَةٌ منكَ" (¬2)، فدل على الجواز في كل حالٍ، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح، وبقي ما عداها على الإباحة، انتهى. والحديث الذي أشار إليه صحيحٌ أو حسنٌ. وقد يقال: حملُ المطلَق على المقيد غيرُ متفقٍ عليه بين العلماء، ومن قال به اشترط فيه شروطاً (¬3). لكن نبه ابنُ دقيق العيد على أن محلَّ الاختلاف إنما هو حيث تتغاير مخارجُ الحديث بحيث يعد حديثين مختلفين، فأما إذا اتحد المخرج، فكأن الاختلاف فيه من بعض الرواة، فيبقى حملُ المطلق على المقيد بلا خلافٍ؛ لأن القيد حينئذٍ يكون زيادةً من عدلٍ، فتقبل (¬4). (ولا يتمسح من) إتيانِ (الخلاء بيمينه) من بولٍ ولاغائطٍ، في قُبل ولا دبرٍ. قال البهاء البغدادي في "شرح الوجيز": فإن كان من غائطٍ، أخذ الحجر ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 93). (¬2) رواه أبو داود (182)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك، والنسائي (165)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر، وابن ماجه (483)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 254). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 60).

بشماله، فمسح به، وإن كان من بولٍ، وكان الحجر كبيراً، أخذ ذكره بشماله، فمسح به. وقال صاحب "المحرر": يتوخى الاستنجاء بجدارٍ، أو موضع ناتىء من الأرض، أو حجرٍ ضخم لا يحتاج إلى إمساكه، فإن اضطر إلى الحجارة الصغار، جعل الحجر بين عقبيه، أو بين أصابعه، وتناول ذكرَه بشماله، فمسحه بها، فإن لم يمكنه، أمسك الحجر بيمينه، ومسح بشماله؛ لأنه موضع حاجة، فأشبه الاستعانة بها في الاستنجاء بالماء. وقيل: يمسك ذكره بيمينه، ويمسح بشماله؛ ليكون المسح بغير اليمين (¬1). والأول أولى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمسَّ أحدُكم ذكرَه بيمينه"، فإذا أمسك الحجر باليمنى، ومسح الذكر عليه باليسرى، لم يكن ماسحاً ولا ممسكاً للذكر، وعلى كل يحرك اليسرى، وتكون اليمنى قارَّةً؛ لأن الاستجمار بالمتحركة (¬2). تنبيهات: الأول: النهي في الحديث عن مس الذكر باليمنى وعن التمسح بها للكراهة. قال في "الفروع": ويكره بيمينه؛ وفاقاً للشافعي، وقيل بتحريمه، وإجزائه في الأصح، انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 104). (¬2) انظر: "المبدع" لابن مفلح (1/ 88). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 93).

قال في "الإنصاف": الكراهةُ المذهبُ، وعليه أكثرُ الأصحاب، وجزم به في "المستوعب" (¬1)، و"النظم"، و"الوجيز"، و"الحاوي الكبير"، و- "تذكرة ابن عبدوس"، وغيرهم. قال: وجزم في "التلخيص" (¬2) للفخر بن تيمية بالتحريم، وعلى كلا القولين يجزيه الاستجمار، انتهى (¬3). قال في "شرح البخاري": القرينة الصارفة للنهي من التحريم: أنه أدبٌ من الآداب. قال: وبكونه للتنزيه قال به الجمهور. وذهب أهل الظاهر إلى أنه للتحريم. قال: وفي كلام جماعةٍ من الشافعية ما يُشعر به، لكن قال النووي: مرادُ من قال منهم: لا يجوز الاستنجاء باليمين؛ أي: لا يكون مُباحاً يستوي طرفاه، بل هو مكروهٌ راجحُ الترك (¬4). قال: ومع القول بالتحريم، فمن فعل، أساءَ، وأجزأه. قال: وقال أهل الظاهر وبعض الحنابلة: لا يجزىء. ¬

_ (¬1) انظر: "المستوعب" للسّامري (1/ 128). (¬2) هو كتاب: "تخليص المطلب في تلخيص المذهب" للإمام الفقيه المفسر محمد بن الخضر أبو عبد الله فخر الدين ابن تيمية، المتوفى سنة (622 هـ)، كذا سماه ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 153)، وسماه ابن مفلح في "المقصد الأرشد" (2/ 408)، والمرداوي في "الإنصاف" (1/ 14) بـ"التلخيص". وانظر "معجم مصنفات الحنابلة" لعبد الله الطريقي (3/ 92). (¬3) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 103). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 159).

قال: ومحل هذا الاختلاف حيث كانت اليد تباشر ذلك بآلة غيرها، كالماء وغيره، أما بغير آلةٍ، فحرامٌ غير مجزىءٍ، بلا خلافٍ، واليسرى في ذلك كاليمنى، انتهى (¬1). قلت: كأنه أخذ ما نقله من فحوى كلام بعضهم، ومفهومِه، وإلا، فلا أعلم قائلاً به في المذهب، وعبارة "الإنصاف" إن قلنا بالكراهة، أجزأه الاستنجاء والاستجمار، وإن قلنا بالتحريم، أجزأه -أيضاً- على الصحيح من المذهب. وقيل: لا يجزىء. قال في "مجمع البحرين": قياس قولهم في الوضوء في الفضة أنه لا يجزئه هنا. وقيل: يجزىء الاستنجاءُ دونَ الاستجمار. وجزم ابنُ تميمٍ بصحة الاستنجاء، وأطلقَ على الوجهين في الاستجمار، فنقل الخلاف في الجملة، ولم يبين قائله، والله أعلم (¬2). الثاني: قوله: "ولا يتمسَّحْ" بالجزم بلا الناهية. وقال الحافظ ابن حجر: وروي بالضم فيها، وفي "يتنفس"، على أن "لا" نافية (¬3). الثالث: التنصيص على الذَّكَر لا مفهوم له، بل مثلُه الدُّبر وفرجُ المرأة، وإنما خص الذَّكَرَ بالذِّكْرِ؛ لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون، والنساءُ شقائق الرجال في أحكام التكليف، إلا ما خص الرجال. الرابع: استنبط بعض العلماء من الحديث: منعَ الاستنجاء باليد التي فيها الخاتم المنقوش فيه اسم الله - تعالى -؛ لكون النهي عن ذلك لتشريف اليمين، فيكون ذلك من بابٍ أولى. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 253). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 103). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 253).

وما وقع في "الغنية" عن مالك من عدم الكراهة، قد أنكره حذاقُ أصحابه. وقيل: الحكمة في النهي؛ لكون اليمين معدةً للأكل بها، فلو تعاطى ذلك بها، لأمكن أن يتذكره عند الأكل، فيتأذى بذلك (¬1). (ولا يتنفس في الإناء)؛ أي: الوعاء. وهذه جملةٌ جزئيةٌ مستقلةٌ إن كانت "لا" نافية، وإن كانت "لا" ناهية، فمعطوفةٌ، لكن لا يلزم من كون المعطوف عليه مقيداً بقيدٍ أن يكون المعطوف مقيداً به؛ لأن التنفس لا يتعلق بحالة البول، وإنما هو حكمٌ مستقل، ويحتمل أن تكون الحكمة في ذكره هنا: أن الغالب من أخلاق المؤمنين التأسي بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان إذا بال يتوضأ، وثبتَ أنه شرب فضل وضوئه، فالمؤمن بصدد أن يفعل ذلك، فعلمه أدب الشرب مطلقاً لاستحضاره (¬2). والنهي عن التنفس في الإناء مختصٌّ بحالة الشرب كما دل عليه سياق الرواية؛ ففي "الصحيحين" عن أبي قتادة: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتنفس في الإناء (¬3). وفي حديث أنس عندهما: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الإناء ثلاثاً" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 255). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه، وانظرت "عمدة القاري" للعيني (2/ 297). (¬3) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬4) رواه البخاري (5308)، كتاب: الأشربة، باب: الشرب بنفَسين أو ثلاثة، ومسلم (2028)، كتاب: الأشربة، باب: كراهة التنفس في نَفْسِ الإناء، واستحباب التنفس ثلاثاً خارج الإناء.

فظاهر هذه الأحاديث: المدافعة، وليس كذلك، وإنما المقصود في أحاديث النهي: أَلاَّ يتنفس داخل الإناء، إذ قد يخرج مع النفس بصاقٌ أو مخاطٌ، أو بخار رديء، فيكسبه رائحة كريهة، فيستقذر منه هو أو غيره، فيترك شربه. وعند الحاكم، من حديث أبي هريرة: "لا يتنفسْ أحدُكم في الإناء إذا كانَ يشربُ منه" (¬1). والمقصود في أحاديث الأمر: أن يشربَ، ثم يُبِينَ الإناءَ عن فيه، فيتنفسَ خارجَ الإناء ثلاثاً. ففي حديث لأنسٍ عند مسلمٍ وأصحاب السنن: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتنفَّس في الشر اب ثلاثاً، ويقول: "إنه أَرْوى، وأَمْرَأ، وأَبْرَأُ"-، وفي رواية أبي داود: "أهنأُ" بدل "أروى" -. قال أنس: وأنا أتنفس في الشراب ثلاثاً (¬2). قال الحافظ ابن حجرٍ في "شرح البخاري": تقديره: كان يتنفس في حالة الشرب من الإناء. وقال الإسماعيلي: المعنى: أنه كان يتنفس على الشراب، لا فيه داخلَ الإناء. ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (7207)، وأبو يعلى في "مسنده" (6677)، وابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 396). (¬2) رواه مسلم (2028)، كتاب: الأشربة، باب: كراهة التنفس في الإناء، واستحباب التنفس ثلاثاً خارج الإناء، وأبو داود (3727)، كتاب: الأشربة، باب: في الساقي متى يشرب، والنسائي في "السنن الكبرى" (6887، 6888)، والترمذي (1884)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في التنفس في الإناء، وابن ماجه (3416)، كتاب: الأشربة، باب: الشرب بثلاثة أنفاس.

قال: وإن لم يحمل على هذا، صار الحديثان مختلفين، وكان أحدهما منسوخاً لا محالة، والأصلُ عدم النسخ، والجمعُ مهما أمكن أولى. وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه مرفوعاً: "إذا شربَ أحدُكم، فلا يتنفَّسْ في الإناء، فإن أراد أن يعودَ، فلينحِّ الإناَء، ثم ليعدْ إن كان يريدُ" (¬1). قال الأثرم: اختلاف الرواية في هذا دال على الجواز، وعلى اختيار الثلاث. والمراد بالنهي عن التنفس في الإناء: أَلَّا يجعل نَفَسَه داخل الإناء، وليس المراد أَلَّا يتنفس خارجه طلباً للراحة، انتهى ملخصاً (¬2). تتمة: كما أنَّ التنفس في الشراب مكروهٌ، كذلك النفخُ، فإنه مكروهٌ. وفي حديث أبي قتادة: النهي عن النفخ في الإناء. وله شاهدٌ من حديث ابن عباسٍ عند أبي داود، والترمذي: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتنفَّسَ في الإناء، وأن ينفخَ فيه" (¬3). وجاء في النهي عن النفخ في الإناء عدةُ أحاديث؛ لأن العلة التي لأجلها كره التنفس في الإناء -من مَظِنَّةِ تغيير المشروب بالنفس-، موجودة في النفخ بالأولى، فإن النفخ أشد من التنفس. قال المهلب: النهي عن التنفس في الشراب، والنهي عن النفخ في الطعام والشراب؛ من أجل أنه قد يقع فيه شيءٌ من الريق، فيعافه الشارب، ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (3427)، كتاب: الأشربة، باب: التنفس في الإناء، وابن أبي شيبة في "المصنف" (24169). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 93). (¬3) رواه أبو داود (3728)، كتاب: الأشربة، باب: في النفخ في الشراب والتنفس فيه، والترمذي (1888)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية النفخ في الشراب، وقال: حسن صحيح، وعندهما: "أو ينفخ فيه" بدل "وأن ينفخ فيه".

ويستقذزه؛ إذ كان التقذرُ في مثل ذلك عادةً غالبةً على طباع أكثر الناس. قال: ومحل هذا: إذا أكل أو شرب مع غيره، أما لو أكل وحده، أو مع أهله، أو مع من يعلم أنه لا يقذر شيئاً مما يتناوله، فلا بأس. واعترضه الحافظ ابن حجرٍ: بأن الأولى: تعميمُ المنع؛ لأنه لا يؤمَنُ مع ذلك أن يفضل فضلة، أو يحصل التقذر من الإناء، أو نحو ذلك. وقال ابن العربي: قال علماؤنا: هو من مكارم الأخلاق، ولكن يحرم على الرجل أن يناول أخاه ما يقذره، فإن فعَلَهُ في خاصَّةِ نفسه، فجاء غيرُه فناوله إياه، فليُعْلِمْه، فإن لم يُعلمه، فهو غش، والغش حرامٌ. كذا قال (¬1). تنبيه: أومأ بعضُ العلماء أن التنفس في الإناء من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. ويردُّه ما ذكرناه من قول أنسٍ - رضي الله عنه -، ولأنَّ محملَه على ما ذكرنا، لا ما توهمه من ظن المعارضة، وقد أخرج الطبراني في "الأوسط " بسندٍ حسنٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يشرب في ثلاثة أنفاسٍ، إذا أدنى الإناء إلى فيه، سمى الله، فإذا أخره، حَمِدَ الله، يفعل ذلك ثلاثاً (¬2). وأصله في ابن ماجه (¬3)، وله شاهدٌ من حديث ابن مسعودٍ عند البزار، والطبراني (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 94). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (840). وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/ 294): سألت أبي عنه، فقال: هذا حديث منكر. (¬3) تقدم تخريجه بلفظ: "إذا شرب أحدكم، فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود، فلينح ... ". (¬4) رواه البزار في "مسنده" (1752)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10475)، وفي "المعجم الأوسط" (9290).

وأخرج الترمذي في حديث ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: "وسَمُّوا إذا أنتم شربتم، واحْمَدُوا (¬1) إذا أنتم رفعتُم" (¬2). قال الحافظ ابنُ حجرٍ: وهذا يحتمل أن يكون شاهداً لحديث أبي هريرة المذكور، ويحتمل أن يكون المراد به في الابتداء والانتهاء فقط، والله أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "والإمام أحمد" بدل "واحمدوا"، ولعله سبق قلم؛ إذ لم يخرجه الإمام أحمد في "مسنده". (¬2) رواه الترمذي (1885)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في التنفس في الإناء، وقال: غريب. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 94).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهمَا-، قالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقَبْرَيْنِ، فقالَ: "إِنَّهُما لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذبَانِ في كبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُما، فَكَانَ لاَ يَسْتَنْزِهُ مِنَ البَوْلِ، وأَمَّا الآخَرُ، فَكَانَ يَمْشِي بالنَّميمَةِ"، فأخذَ جَريدَةً رَطْبَةَ، فَشَقَّها نِصْفَين، فَغَرَزَ في كُلِّ قبرٍ واحِدَةً، فَقالوا: يا رسولَ الله! لِمَ فعلتَ هذا؟ قالَ: "لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُما مَالَمْ يَيْبَسَا" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (213)، كتاب: الوضوء، باب: من الكبائر ألاّ يستتر من بوله، وهذا لفظه، و (215)، باب: ما جاء في غسل البول، و (1295)، كتاب: الجنائز، باب: الجريد على القبر، و (1312)، كتاب: الجنائز، باب: عذاب القبر من الغيبة والبول، و (5705)، كتاب: الأدب، باب: الغيبة، و (5708)، باب: النميمة من الكبائر. ورواه مسلم (292)، (1/ 240، 241)، كتاب: الطهارة، باب: الدليل على نجاسة البول، ووجوب الاستبراء منه، وأبو داود (20، 21)، كتاب: الطهارة، باب: الاستبراء من البول، والنسائي (31)، كتاب: الطهارة، باب: التنزه عن البول، و (2068، 2069)، كتاب: الجنائز، باب: وضع الجريدة على القبر، والترمذي (70)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في التشديد في البول، وابن ماجه (347)، كتاب: الطهارة، باب: التشديد في البول. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 19)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 90)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 118)، =

(عن عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنهما -): عبدُ الله بنُ عباسِ بنِ عبد المطلبِ ابنُ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حبرُ هذه الأمة، يكنى: أبا العباس، وأمه لُبَابة -بضم اللام وتخفيف الموحدة - بنتُ الحارث، أختُ ميمونة زوجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولد في الشِّعْب، وبنو هاشمٍ محصورون قبلَ الهجرة بثلاث سنين، وتوفي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وله ثلاثَ عشرةَ سنةً. ورجَّح الإمام أحمدُ أن عمره كان خمسَ عشرةَ سنةً، واستشكل بأن إقامته - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة عشر سنين. قلت: يمكن بجبر الكسرين، والله أعلم. دعا له - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة والفقه والتأويل، وحنَّكه - عليه الصلاة والسلام - بريقه حين ولد، فمن أجل هذا كان يسمى: البحر؛ لِسَعَةِ علمه - رضي الله عنه -، ورأى جبريلَ مرتين. قال مسروقٌ: كنتُ إذا رأيت ابن عباس، قلت: أجملُ الناس، فإذا تكلم، قلتُ: أفصحُ الناس (¬1). وكان سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقرِّبه، ويُدنيه، ويشاوره مع جلَة الصحابة. ¬

_ = و"المفهم" للقرطبي (1/ 551)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 200)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 61)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 28)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (1/ 526)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 317)، و (10/ 470)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 114)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 111). (¬1) رواه الطبري في "تهذيب الآثار" (1/ 179)، وعبد الله بن الإمام أحمد في "فضائل الصحابة" (2/ 960)، لكن عن الأعمش.

وهو أحد المُكثرين؛ فإنه روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألف حديثٍ، وست مئة وستون حديثاً، اتفقا على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بمئةٍ وعشرة، ومسلم بتسعةٍ وأربعين، وهو أحد المفتين، والأئمةِ المتبوعين؛ فإنه كان له أتباعٌ يقولون بمذهبه - رضي الله عنه -. مناقبه أكثرُ من أن تذكر، وأشهر من أن تشهر، وأزيد من أن تحصر. توفي- رضوان الله عليه - بالطائف سنة ثمانٍ وستين في أيام ابن الزبير - رضي الله عنهم -، وهو ابن إحدى وسبعين سنةً، وكُفَّ [بصره] في آخر عمره، وهو القائل - رضي الله عنه -: [من البسيط] إِنْ يَأْخُذِ اللهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا ... فَفِي لِسَانِي وَقَلْبي مِنْهُمَا نُورُ قَلْبِي ذَكِيٌّ وعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ ... وَفِي فَمِي صَارمٌ كَالَسَّيْفِ مَشْهُورُ (¬1) (قال) ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -: (مَرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقَبْرَين)، وفي روايةٍ: "على قبرين" (¬2)، (فقال) - عليه الصلاة والسلام -: (إنهما)، وفي ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 365)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 3)، و"فضائل الصحابة" لعبد الله بن الإمام أحمد (2/ 949)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 207)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 614)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 314)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 933)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 173)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (29/ 285)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 291)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 258)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 154)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 331)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي أيضاً (1/ 40)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 295)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (17/ 121)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 141)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (5/ 242). (¬2) وهي رواية للبخاري ومسلم، وتقدم تخريجها في حديث الباب.

لفظٍ: "أما إنهما" (¬1) يعني: صاحبي القبرين (لَيعذَّبان). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (¬2). لا يعلمون سواء نَمَّها أولم ينمَّها. وفي "الصحيحين": "لا يدخلُ الجنةَ نَمَّامٌ" (¬3)، وفي رواية: "قتَّاتٌ" (¬4). قال الحافظ المنذري: النمامُ والقَتَّاتُ بمعنى واحد، وقيل: النمامُ: الذي يكون مع جماعةٍ يتحدثون حديثاً، فينمُّ عليهم، والقَتَّاتُ: الذي يتسمَّع عليهم وهم لا يعلمون، ثم ينمُّ، انتهى (¬5). وفي "النهاية": "لا يدخلُ الجنةَ قتَّاتٌ": هو النمام، يقال: قَتَّ بالحديثِ، يقُتُّه: إذا زَوَّرَهُ، وهَيَّأه، وسَوَّاه. قال: والقَشَّاش: الذي يسأل عن الأخبار، ثم ينمُّها (¬6). (فأخذَ) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (جريدةً) هي سَعَفُ النخل وأغصانُه التي يخرج فيها خوصها (رَطْبَةً) غير جافة. ¬

_ (¬1) وهي رواية مسلم. (¬2) هنا سقط واضح من الأصل المحفوظ في المكتبة الظاهرية، بمقدار ورقة واحدة، ولم نستطع استدراكه. (¬3) رواه مسلم (105)، كتاب: الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم النميمة، عن حذيفة - رضي الله عنه -. (¬4) رواه البخاري (5709)، كتاب: الأدب، باب ت ما يكره من النميمة، ومسلم (105)، (1/ 101)، كتاب: الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم النميمة، عن حذيفة - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 323). (¬6) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 11).

قال في "القاموس": الرطبُ: ضدُّ اليابس، ومن الغصن والريش وغيره: الناعمُ، انتهى (¬1). وفي لفظٍ من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في "الصحيحين": "فدعا بِعَسيبٍ رَطْبٍ" (¬2). العسيبُ: الجريدةُ من النخل، وهي السَّعفةُ مما لا ينبت عليه الخوص، كذا في "النهاية" (¬3). والمراد به هنا: مجرد الجريدة. قال في "القاموس": العَسيبُ: جريدةٌ من النخل مستقيمةٌ يُكْشَط خوصُها، والذي لم ينبت عليه الخوص من السعف، انتهى (¬4). قلت: فالعسيبُ يطلق على الشيئين معاً، والمراد هنا: الجريدة وخوصُها عليها لم يُكشط. (فشقَّها)؛ أي: شقَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تلك الجريدةَ الرطبةَ (نصفين). وفي لفظٍ: "فدعا بعسيبٍ رَطْبٍ، فشقَّه باثنينِ" (¬5)؛ يعني: جعله شقين متساويين، والنصفان تثنية نصف، وفيه أربع لغات، نِصف -بكسر النون وفتحها وضمها -، ونَصيف -بفتح النون وزيادة الياء (¬6)، ومنه حديث: "لو أنفقَ أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهباً، ما أدَركَ مُدَّ [أحدِ] هِمْ ولا نَصيفَهُ" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 115)، (مادة: رطب). (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 234). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 147)، (مادة: عسب). (¬5) وهي رواية البخاري ومسلم معاً، وقد تقدم تخريجها. (¬6) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 15). (¬7) رواه البخاري (3470)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو =

(فغرزَ) - صلى الله عليه وسلم -، وفي لفظٍ: "غرسَ" (¬1) (في كل قبرٍ) من القبرين (واحدةً) من القطعتين، وفي لفظٍ: "ثم غرسَ على هذا واحداً، وعلى هذا واحداً" (¬2). (فقالوا: يا رسول الله! لم فعلت هذا؟) فيه: أنهم كانوا يبحثون عن العلة والسبب، ولم يكتفوا بمجرد المعاينة. (قال) - صلى الله عليه وسلم - مجيباً لهم عن سؤالهم عن العلة والسبب الحامل له على فعله الذي فعله: (لعلَّه)؛ أي: هذا الذي فعلتُه (يُخَفَّفُ) -بضم أوله مبنياً للفاعل، ويحتمل بناؤه للمفعول، ويكون الضمير ضمير الشأن- (عنهما)؛ أي: صاحبي القبرين من عذابهما، (ما لم يَيْبَسا) أي: الجريدتان. وفي حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - عند الإمام أحمد: "ليخففن عنهما" (¬3). ومن حديث أبي هريرةَ - رضي الله عنه - في "صحيح ابنِ حِبَّان": فدعا بجريدتين من جرائدِ النخل، فجعلَ في كلِّ قبرٍ واحدة، قلنا: وهل ينفعهم ذلك؟ قال: "نعم، يُخَفَّفُ عنهما ما دامتا رَطْبتين" (¬4). قال الخطابي: هذا عند أهل العلم محمولٌ على أن الأشياء ما دامت ¬

_ = كنت متخذاً خليلاً"، ومسلم (2541)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: تحريم سبّ الصحابة - رضي الله عنهم -، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬1) وهي رواية مسلم فقط، وتقدم تخريجها. (¬2) وهي رواية البخاري ومسلم معاً. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 266). (¬4) رواه ابن حبان في "صحيحه" (824).

على أصل خلقتها أو خضرتها وطراوتها، فإنها تسبح الله - عز وجل - حتى تجفَّ رطوبتها، أو تحول خضرتها، أو تُقْطَعَ من أصلها. قال: فإذا خُفف عن الميت بوضعه - صلى الله عليه وسلم - الجريدةَ على قبره؛ لكونها تسبح الله، فبطريق الأولى والأحرى أن تُخَفِّفَ القُرَبُ، على اختلاف أسبابها، وإنَّ أعظمَ القُرَبِ كلامُ ربِّ العالمين الذي نزلَ به الروحُ الأمين على قلب أشرف المرسلين (¬1). وقد أوصى بريدة - رضي الله عنه - أن يُجْعَلَ جريدة على قبره، ذكره البخاري (¬2). وقد استحبَّ ذلك جماعة من العلماء من أصحابنا وغيرهم، وأنكره آخرون. وقال الإمام النووي في "شرح مسلم": ذُكر أن العلماء استحبوا القراءة؛ لخبر الجريدة؛ لأنه إذا رُجي التخفيفُ لتسبيحها، فالقراءة أولى، انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) قال الخطابي في "معالم السنن" (1/ 19): وأما غرسه شِقَّ العسيب على القبر، وقوله: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا"، فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعائه بالتخفيف عنهما، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل مدة بقاء النداوة فيهما حداً لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابس، والعامة في كثير من البلدان تفرش الخوص في قبور موتاهم، وأراهم ذهبوا إلى هذا، وليس لما تعاطوه من ذلك وجه، والله أعلم. (¬2) ذكره البخاري في "صحيحه" معلقاً بصيغة الجزم. ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 8) موصولاً، عن مورق العجلي، قال: أوصى بريدة الأسلمي أن توضع في قبره جريدتان. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 202).

تنبيهات: الأول: قال قتادة: عذابُ القبر ثلاثةُ أثلاثٍ: ثلثٌ من الغيبة، وثلثٌ من النميمة، وثلثٌ من البول، رواه الخلال (¬1). وقد ذكر بعضهم السرَّ والمناسبةَ في تخصيص الغيبة والنميمة والبول بعذاب القبر: وهو أن القبر أولُ منازل الآخرة، وفيه أنموذجُ ما يقع في يوم القيامة من العقاب والثواب، والمعاصي التي يعاقَبُ عليها يوم القيامة نوعان: حقٌّ لله، وحقٌّ لعباده، وأول ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاةُ، ومن حقوق العباد الدماءُ، والبرزخُ مقدمة عذاب الآخرة، فيقضى فيه في مقدمات هذين الحقين ووسائلهما؛ فمقدمة الصلاة: الطهارة من الحدث والخبث، ومقدمة الدماء: النميمة والوقيعة في الأعراض بالغيبة، وهي من أيسر أنواع الأذى، فيبدأ في البرزخ بالمحاسبة والعقاب عليهما، فيبدأ بالأخف فا لأخف، ويؤخر الأثقل إلى الأثقل. نبه على هذا الحافظ ابن رجب، وتلميذُه البقاعي، والحافظُ ابنُ حجرٍ في "شرح البخاري" (¬2)، والحافظُ السيوطي في "البدور السافرة" (¬3)، وغيرُهم. الثاني: قال الإمام ابن القيم في كتابه "الروح": قد أخبر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخرُ الاستبراءَ من البول. ¬

_ (¬1) ورواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان" (189)، والبيهقي في "إثبات عذاب القبر" (238). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن جر (11/ 451). (¬3) انظر: "البدور السافرة في أحوال الآخرة" للسيوطي (ص: 446).

فهذا تركَ الطهارة الواجبة، وذلك ارتكبَ السببَ الموقع للعداوة بين الناس بلسانه، وإن كان صادقاً. وفي هذا تنبيهٌ على أن الموقع بينهم العداوةَ بالكذب والزور والبهتان أعظمُ عذاباً، كما أن في ترك الاستبواء من البول تنبيهاً على أن من ترك الصلاةَ التي الاستبواءُ من البول بعضُ واجباتها وشروطها، فهو أشد عذاباً، انتهى (¬1). الثالث: قال الإمام ابن القيم في كتاب "الروح ": اختلف الناس في هذين -يعني: صاحبي القبرين اللذين يعذبان-: هل كانا كافرين، أو مؤمنين؟! فقيل: كانا كافرين، وقوله: "وما يعذبان في كبيرٍ"، يعني: بالإضافة إلى الكفر والشرك. قالوا: ويدل عليه أن العذاب لم يرتفع عنهما، وإنما خفف، وأيضاً: فإنه خفف مدةَ رطوبة الجريدة فقط. وأيضاً: فإنهما لو كانا مؤمنين، لشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهما، ودعا لهما، فرفع عنهما العذاب بشفاعته. وأيضاً: ففي بعض طرق الحديث: أنهما كانا كافرين (¬2)، وهذا ¬

_ (¬1) انظر: "الروح" لابن القيم (ص: 77). (¬2) رواه أبو موسى المديني في "الترغيب والترهيب" من حديت ابن لهيعة، عن أسامة بن زيد، عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -، قال: مرَّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة. قال: هذا حديث حسن، وإن كان إسناده ليس بالقوي، لكن معناه صحيح؛ لأنهما لو كانا مسلمين، لما كان لشفاعته إلى أن تيبسر الجريدتان معنى، ولكنه لما رآهما يعذبان، لم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه، فشفع =

التعذيب زيادة على تعذيبهما بكفرهما وخطاياهما، وهو دليلٌ على أن الكافر يعذب بكفره وذنوبه جميعاً، وهذا اختيار أبي الحكم بن حيان. وقيل: كانا مسلمينِ؛ لنفي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - التعذيب بسببٍ غيرِ السببين المذكورينِ، ولقوله: "وما يُعذبان في كبير"، والكفر والشرك أكبرُ الكبائر على الإطلاق، ولا يلزمُ أن يشفع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لكل مسلمٍ يعذب في قبره من الحرام، فقد أخبر عن صاحب الشملةِ الذي قُتل في الجهاد: أن الشملة تشتعل عليه ناراً في قبره (¬1)، وكان مسلماً مجاهداً، ولا يعلم ثبوت هذه اللفظة، وهي قوله: "وكانا كافرين"، ولعلها لو صحت، فهي من قول بعض الرواة، وهذا اختيار أبي عبد الله القرطبي، انتهى كلام ابن القيم (¬2). قلت: الذي تدل عليه الأحاديث: الثاني، ففي حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - عند الإمام أحمد، قال: مر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في يومٍ شديد الحر في بقيع الغَرْقَد، قال: فكان الناس يمشون خلفه، فلما سمع صوتَ النعال، وقر ذلك في نفسه، فجلس حتى قدَّمهم أمامه؛ لئلا يقع في نفسه شيءٌ من الكِبْر، فلما مر ببقيع الغرقد، إذا بقبرين قد دَفَنوا فيهما رجلين، قال: فوقف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من دفنتم هاهنا اليوم؟ "، قالوا: فلانٌ وفلانٌ، قالوا: ¬

_ = لهما إلى المدة المذكورة. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 321): الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، وليس فيه سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة. (¬1) رواه البخاري (3993)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (115)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم الغلول ... ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "الروح" لابن القيم (ص: 61).

يانبي الله! وما ذاك؟ قال: "أما أحدُهما؛ فكان لا يتنزه من البول، وأما الآخرُ، فكان يمشي بالنميمة"، وأخذ جريدةً رطبة، فشقها، ثم جعلها على القبر، قالوا: يا نبي الله! لم فعلت؟ قال: "ليخففن عنهما"، قالوا: يا نبي الله! حتى متى هما يعذبان؟ قال: "غيبٌ لا يعلمُه إلا الله" (¬1). فهذا يدل دلالةً قاطعةً على أنهما مسلمان؛ فإن بقيع الغرقد جبَّانة (¬2) المسلمين في المدينة، والقبرانِ فيها، ودفنُهما حديث لا قديم، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريباً. (¬2) جبَّانة؛ أي: مقبرة، وتطلق أيضاً على الصحراء، والمنبت الكريم، أو الأرض المستوية. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1530)، (مادة: جبن).

باب السواك

باب السواك قال في "المطلع": السواك: اسمٌ للعود الذي يُتَسَوَّكُ به، وكذلك المِسْواك -بكسر الميم- (¬1). قال ابن فارس: سُمي بذلك؛ لكون الرجل يردِّده في فمه، ومنه: جاءت الإبل هَزْلى تَساوكُ، إذا كانت أعناقها تضطرب من الهزال. وذكر صاحب "المحكم": أن السواك يذكر ويؤنث، وجمعه: سُوُك؛ ككتاب وكتب، وذكر أنه يقال في جمعه: سُؤُكٌ -بالهمز-، انتهى. وفي "الفتح" للحافظ ابن حجر: السواك -بكسر السين، على الأفصح-، ويطلق على الآلة، وعلى الفعل، وهو المراد هنا (¬2). وذكر فيه أربعة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 14). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 355). وانظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 425)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 446)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 297).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي؛ لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ" (¬1). * * * (عن أبي هريرة) عبدِ الرحمنِ بنِ صخر (- رضي الله عنه -، عن ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (847)، كتاب: الجمعة، باب: السواك يوم الجمعة، و (6813)، كتاب: التمني، باب: ما يجوز من اللّو، ومسلم (252)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، وأبو داود (46)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، والنسائي (7)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في السواك بالعشي للصائم، والترمذي (22)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في السواك، وابن ماجه (287)، كتاب: الطهارة، باب: السواك. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 28)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 39)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 57)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 508)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 143)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 65)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 31)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 62)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 375) و (4/ 158)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 19)، و"فيض القدير" للمناوي (5/ 338)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 41)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 127).

النبي - صلى الله عليه وسلم -): أنه (قال: لولا أن أشق) محل (أن أشقَّ) الرفعُ با لابتداء، والخبرُ محذوفٌ وجوباً؛ أي: لولا المشقة موجودةٌ (¬1)، أي: لولا مخافةُ وجودها (على أمتي) التي أجابتني، وأطاعتني، واتبعَتْ ما جئتُ به من الدين القويم. (لأمرتهم بالسواك): أمرَ إيجاب؛ أي: باستعمالِ السواك إن أريد به الآلة، وقد يطلق على الفعل، فلا يفتقر إلى تقدير (¬2). وقال في "المغني": التقدير: لولا مخافُة أن أشق، لأمرتهم أمرَ إيجابٍ، وإلا، لانعكس معناه؛ إذ الممتنع المشقةُ، والموجود الأمرُ (¬3). وقال البيضاوي: "لولا": كلمةٌ تدل على انتفاء الشيء لثبوت غيره (¬4). قال القاضي (¬5): والحق: أنها مركبة من "لو" الدالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، و"لا" النافية، فدل الحديث على انتفاء الأمر بثبوت المشقة؛ لأن انتفاء النفي ثبوتٌ، فيكون الأمر منفياً لثبوت المشقة، انتهى (¬6). وقال ابن القيم في "البدائع": اعلم أنَّ "لو" حرف وضع للملازمة بين أمرين، يدل على أن الجزء الأول منهما: ملزوم، والثاني: لازمٌ، هذا وضع هذا الحرف وطبيعته، وموارده في هذه الملازمة أربعة: فإنه إما أن يلازم ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (6/ 180)، وفيض القدير "للمناوي" (5/ 339). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 375). (¬3) انظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 359). (¬4) انظر: "تفسير البيضاوي" (1/ 336). (¬5) في الأصل: "العلقمي" والصواب ما أثبت، وهو من تتمة كلام القاضي البيضاوي، كما نقله الشارح من "الفتح". (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 375).

بين نفيين، أو ثبوتين، أو بين ملزوم مثبت، ولازم منفيٌ، أو عكسه، ونعني بالثبوت والنفي هنا: الصوري اللفظي، لا المعنوي. فمثال الأول: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} [الإسراء: 100]، {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]. ومثال الثاني: "لو لم تكنْ ربيبتي في حَجْري، لما حَلَّتْ لي" (¬1)، "لو لم يخفِ اللهَ لم يعصِهِ" (¬2). ومثال الثالث: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27]. ومثال الرابع: "لو لم تُذْنِبوا، لذهبَ اللهُ بكم، ولجاء بقومٍ يُذْنِبون، فيستغفرونَ اللهَ، فيغفرُ لهم" (¬3). فهذه صورة ورودها على النفي والإثبات. قال: وأما حكم ذلك، فأمران: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4813)، كتاب: النكاح، باب: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، ومسلم (1449)، كتاب: الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان - رضي الله عنها -. (¬2) قال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 526): اشتهر في كلام الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية من حديث عمر - رضي الله عنه -، وذكر البهاء السبكي: أنه لم يظفر به في شيء من الكتب، وكذا قال جمع جمّ من أهل العربية. ثم رأيت بخط شيخنا أنه ظفر به في "مشكل الحديث" لابن قتيبة، لكن لم يذكر له ابن قتيبة إسناداً، انتهى. (¬3) رواه مسلم (2749)، كتاب: التوبة، باب: سقوط الذنوب بالاستغفار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

أحدهما: نفي الأول لنفي الثاني؛ لأن الأول ملزومٌ والثاني لازمٌ، والملزوم يعدم عند عدم لازمه. والثاني: تَحَقُّقُ الثاني لتحقق الأول؛ لأن تحقق الملزوم يستلزم تحققَ لازمه "لو لم تذنبوا إلخ" مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أشق على أمتي"، فمخافةُ وجود المشقة متحققةٌ، فتحقق لازمه، وهو عدُم أمرِ الإيجاب للسواك، وأطالَ الكلام على ذلك - رحمه الله تعالى - (¬1). واستدل بعض الأصوليين بهذا على أن الأمر للوجوب؛ لأن كلمة "لولا" تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره، فيدل على انتفاء الأمر لوجود المشقة، والمنتفي لأجل المشقة إنما هو الوجوب، وأما الاستحباب، فثابتٌ عند كل صلاةٍ، فيقتضي ذلك أن الأمر للوجوب (¬2). قال بعض أهل العلم من الأصولين -أيضاً-: في هذا الحديث دليلٌ على أن الاستدعاء على جهةِ الندب ليس بأمر حقيقة؛ لأن السواك مندوبٌ عند كل صلاةٍ من الفرائض والنوافل (¬3). قال الشافعي: وفيه دليلٌ على عدم وجوب السواك؛ لأنه لو كان واجباً، لأمرهم به، شق عليهم، أو لم يشق، انتهى (¬4). وفي روايةٍ عند النسائي: "لفرضْتُ عليهم" (¬5) بدل "لأمرتُهم". ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (1/ 59 - 60). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 60). (¬3) ذكره أبو إسحاق الشيرازي في "اللُّمع" (ص: 13)، ونقله عنه ابن حجر في "الفتح" (2/ 375). (¬4) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 23). (¬5) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (3032).

وإلى القول بعدم وجوب السواك ذهب أكثر أهل العلم، بل زعم بعضهم فيه الإجماع. لكن حكى الشيخ أبو حامد، وتبعه الماوردي، عن الإمام إسحاق بن راهوية، قال: هو واجب لكل صلاة، فمن تركه عامداً، بطلت صلاته. وعن داود الظاهري: أنه قال: هو واجبٌ، لكن ليس شرطاً. واستدل به على أن الأمر يقتضي التكرار؛ لأن الحديث دل على كون المشقة هي المانعة من الأمر بالسواك، ولا مشقة في وجوبه مرةً، وإنما المشقة في وجوب التكرار. وفيه نظرٌ؛ لأن التكرار استفيد من قيد (عند كل صلاة) (¬1). وفيه: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه من الشفقة على أمته. وفيه: جواز الاجتهاد منه فيما لم ينزل عليه فيه نص؛ لكونه جعلَ المشقةَ سبباً لعدم أمره، فلو كان الحكم متوقفاً على النص، لكان سببُ انتفاء الوجوب عدمَ ورود النص، لا وجود المشقة. قال ابن دقيق العيد: وفيه احتمالٌ للبحث والتأويل (¬2). قال العلقمي: وهو كما قال، ووجهه أنه يجوز أن يكون إخباراً منه - صلى الله عليه وسلم - بأن سبب عدم ورود النص وجود الشفقة، فيكون معنى قوله: "لأمرتهم"؛ أي: عن الله بأنه واجبٌ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 376). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 66). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 376)، و"شرح الزرقاني على الموطأ" (1/ 194).

قلت: ويجوز أن يكون فوض اللهُ أمرَ ذلك لنبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ كما قيل في تكرار وجوب الحج لمَّا قال له القائل: أفي كل عامٍ؟ فقال: "أما إني لو قلتُ: نعم، لوجب، ولما أطقتُم .. " الحديث (¬1). واستدل به النسائي وغيره على استحباب السواك للصائم بعد الزوال؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل صلاة" (¬2). قلت: وهي الرواية الثالثة عن الإمام أحمد، والأولى: الكراهة، والثانية: الإباحة (¬3). واختار كونَ السواك مستحباً حتى بعدَ الزوال للصائم: شيخُ الإسلام ابن تيمية (¬4)، وتلميذُه ابن القيم، وانتصر له في "الهدي" (¬5). وقال في "الفروع": هي أظهر (¬6)، واختارها في "الفائق"، وإليها ميله في "مجمع البحرين"، وقدمه في "نهاية ابن رُزين" و"نَظْمِها" (¬7). قال في "الإقناع": هو أظهر دليلاً (¬8)، وهو المختار؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1337)، كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، بلفظ: "لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم". (¬2) بوَّب النسائي في "سننه" (1/ 12) على حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - هذا بقوله: باب: الرخصة بالسواك بالعشي للصائم. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 95). (¬4) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (25/ 266). (¬5) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (2/ 63). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 95). (¬7) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 118). (¬8) انظر: "الإقناع لطالب الانتفاع" للحجاوي (1/ 31).

خيرِ خصال الصائم السواكُ" رواه ابن ماجه من حديث عائشة - رضي الله عنها - (¬1). وقول عامر بن ربيعة - رضي الله عنه -: رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ما لا أحصي يتسوَّكُ وهو صائمٌ. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وحسنه، ورواه البخاري تعليقاً (¬2). وتخصيصه قبل الزوال دعوى مجردةٌ عن الدليل. وفي البخاري: كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يستاك أولىَ النهار، وآخِرَه (¬3) -يعني: وهو صائمٌ-. واعلم: أن المشهور من المذهب استحبابُ السواك كلَّ وقتٍ اتفاقاً، إلا بعدَ الزوال للصائم، فيكره؛ وفاقاً للشافعي؛ لما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "خلوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عند الله من ريح المِسْك" متفقٌ عليه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (1677)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في السواك والكحل للصائم، والدارقطني في "سننه" (2/ 203)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 272) وقال: عاصم بن عبيد الله ليس بالقوي. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 445)، وأبو داود (2364)، كتاب: الصوم، باب: السواك للصائم، والترمذي (725)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في السواك للصائم، وقال: حسن، ورواه البخاري في "صحيحه" (2/ 682) معلقاً بصيغة التمريض. (¬3) ذكره البخاري في "صحيحه" (2/ 681) بصيغة الجزم. وانظر: "تغليق التعليق" لابن حجر (3/ 154). (¬4) رواه البخاري (1795)، كتاب: الصوم، باب: فضل الصوم، ومسلم (1151)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام.

والخلوف إنما يظهر غالباً بعد الزوال؛ ولأنه أثرُ عبادةٍ مستطابٌ شرعاً، فأشبهَ دمَ الشهيد، وشعثَ الإحرام عمَّن كان مُحْرِماً، وأولُ النهار لا خلوف فيه من الصوم غالباً (¬1). قال في "شرح الوجيز": وعنه: يستحب؛ وفاقاً لمالك، وأصحاب الرأي؛ واختارها الشيخ تقي الدين. تتمة: يتأكد استحباب السواك عند الصلاة؛ لهذا الحديث، ولما روى الإمام أحمد، وأبو داود من حديث عبد الله بن حنظلة الغسيل - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُمر بالوضوء لكل صلاة، طاهراً كان أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه، أُمر بالسواك لكل صلاة (¬2). وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فضلُ الصلاةِ بالسواكِ على الصلاةِ بغيرِ سواكٍ سبعون صلاةً" رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن خزيمة في "صحيحه"، وقال: في القلب من هذا شيءٌ، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد (¬3). ¬

_ (¬1) وهذا ما نقله ابن قدامة في "الكافي" (1/ 22) عن ابن عقيل. وانظر: "المبدع" لابن مفلح (1/ 99). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 225)، وأبو داود (48)، كتاب: الطهارة، باب: السواك. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 272)، وابن خزيمة في "صحيحه" (137) وقال: أنا استثنيت صحة هذا الخبر؛ لأني خائف أن يكون محمد بن إسحاق لم يسمع من محمد بن مسلم، وإنما دلَّسه عنه، وأبو يعلى (4738)، والحاكم في "المستدرك" (515)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 38)، وفي "شعب الإيمان" (2773).

وقول ابن خزيمة: في القلب منه شيءٌ، مع إيراده له في "صحيحه"؛ لكونه من رجاله محمدُ بنُ إسحاقَ صاحبُ "السيرة"، وهو مدلِّس، فخاف ابنُ خزيمة في أن يكون ابنُ إسحاق لم يسمع من ابن شهاب. وقول الحاكم: صحيحُ الإسناد على شرط مسلم، فيه نظرٌ؛ فإن ابنَ إسحاق إنما أخرج له مسلمٌ في المتابعات. قال الإمام ابن القيم في كتابه "المنار المُنيف" بعد إيراده لهذا الحديث: لم يرو في "الصحيحين"، ولا في الكتب الستة، ولكن رواه الإمام أحمد، وابن خزيمة، والحاكم في "صحيحيهما"، والبزار في "مسنده"، والبيهقي، وإسناده غير قوي؛ وذلك أن مداره على ابن إسحاقَ عن الزهري، ولم يصرِّحْ بسماعه منه، بل قال: ذكر الزهريُّ عن عروةَ، عن عائشة - رضي الله عنها -، فذكره، وله شاهد، فقد رواه البيهقي من طريق معاويةَ بنِ يحيى الصيرفي، عن الزهري، ومعاويةُ هذا ليس بقويّ، وقال في "شعب الإيمان": تفرد به معاوية بن يحيى، ويقال: إن ابن إسحاق أخذه عنه (¬1)، ورواه من حديث الواقدي، عن عبد الله بن أبي يحيى الأسلمي، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولفظه: "الركعتانِ بعدَ السواكِ أحبُّ إلى الله من سبعينَ ركعةً قبلَ السواك" (¬2)، لكن الواقديَّ لا يُحتج به (¬3). وأخرج أبو نعيم في كتاب "السواك"، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعاً: "لأَنْ أُصلِّيَ رَكعتين بسواكٍ، أحبُّ إليَّ من أن أُصلي سبعينَ ركعةً ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (2774). (¬2) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (2775)، وفي "السنن الكبرى" (1/ 38). (¬3) انظر: "المنار المنيف" لابن القيم (ص: 19) وما بعدها.

بغيرِ سواكٍ". قال الحافظ المنذري: إسناده جيدٌ (¬1). وأخرج أبو نُعيم أيضاً بإسنادٍ حسنٍ عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ركعتانِ بالسواك، أفضلُ من سبعينَ ركعةً بغير سواكٍ" (¬2). وبيان هذا - والله أعلم -: أن السواك سنةٌ من سنن الصلاة المطلوبة عندها، وهو مرضاةٌ للربّ، مَطْهَرَةٌ للفم، ولم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يحثُّ عليه ويفعلُه، حتى إنه استاكَ عند موته - وهو في السياق كما يأتي -. وكان السواك من أُذن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - موضعَ القلمِ من الكاتب، فإذا كانَ هذا شأن السواك، فلا يمتنع أن تكون الصلاة التي يستاك لها، أحبَّ إلى الله من سبعين صلاة لم يستك لها؛ وإن كان ثواب السبعين أفضل، كما نبه عليه ابن القيم في "المنار" (¬3). وذكرنا ما فيه من الأحاديث والآثار في رسالتنا: "بغية النساك في فضل السواك" (¬4). ويتأكد السواك أيضاً عند الوضوء؛ لحديث: "لولا أن أشقَّ على أمتي، لأمرتهم بالسواك مع كلِّ وضوءٍ" رواه الإمام أحمد، من حديث أبي هريرة (¬5). وفي معنى الوضوء الغسلُ، وعند قراءة القرآن؛ لأن الملَكَ يضع فاه ¬

_ (¬1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 102). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "المنار المنيف" لابن القيم (ص: 29). (¬4) وقد قامت دار الصميعي في الرياض بنشره، بتحقيق عبد العزيز الدخيل. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 460)، والإمام مالك في "الموطأ" (1/ 66)، وابن خزيمة في "صحيحه" (140)، وغيرهم.

على في المصلِّي، فلا يخرج من في المصلي قرآنٌ إلا في جوف المَلَك، ومثل المصلي غيرُه؛ إذ الملائكةُ تضع ذلك عند كل قراءة. * وهل مثل قراءة القرآن مطلَقُ الذكر؟ لم أر من تعرَّض له، والظاهر: نعم؛ لأن السواك ينظف مجاري ذكر الله - تعالى -، وذلك مطلوب؛ لأنه ينشط العبادة، ويرضي الرب، ويطهر الفم، ويُرغم الشيطان. وعند الانتباه من النوم، ليلاً كان أو نهاراً، ولعل مثلَه: الإفاقةُ من نحو إغماء، لما في "الصحيحين" من حديث حذيفة - رضي الله عنه - الآتي. وفي حديث عائشة - رضي الله عنها -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرقد من ليلٍ أو نهارٍ، فيستيقظ، إلا تسوك قبل أن يتوضأ (¬1). وعند تغير رائحة الفم بمأكول أو غيره. قال بعض الشافعية: ولو كان التغير بأكل صائمٍ بعد الزوال ما له ريح سهواً. وعند دخول مسجدٍ، وعند دخول منزلٍ، كما في "صحيح مسلم" عن شُريح بن هانىء، قال: سألت عائشة - رضي الله عنها -: بأي شيءٍ كان يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك (¬2). والمسجدُ أولى بذلك. وعند إطالة سكوت؛ لأن به يحصل تغير رائحة الفم غالباً. وعند صفرة أسنانٍ؛ لأن السواك شُرع لتنظيف الفم وتطييب رائحته، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (57)، كتاب: الطهارة، باب: السواك لمن قام من الليل، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1791)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (3557). وإسناده ضعيف؛ كما ذكر ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 63). (¬2) رواه مسلم (253)، كتاب: الطهارة، باب: السواك.

فتأكد لزوال الصفرة المنافية للتنظيف، ولأنه ينشأ عن الصفرة تغيرٌ غالباً. وعند خروجه من منزله إلى الصلوات؛ لحديث زيدِ بن خالدٍ الجُهَنِيِّ - رضي الله عنه - قال: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من بيته لشيءٍ من الصلوات حتى يستاك. رواه الطبراني بإسنادٍ لا بأس به (¬1). وزاد غير واحدٍ: خلوّ المعدة من الطعام، وكأن من أخلَّ بذكرها، استغنى عنها بدخولها تحت قولهم: تغير رائحة فمٍ، والله أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (5261). (¬2) انظرت "الإنصاف" للمرداوي (1/ 118 - 119).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ، يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ (¬1). قالَ الحافِظُ: "يَشُوصُ": معناه يَغْسِلُ. يُقال: شاصَهُ يَشوصُهُ، ومَاصَه يَمُوصُهُ: إذا غَسَلَهُ. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (242)، كتاب: الوضوء، باب: السواك، و (849)، كتاب، الجمعة، باب: السواك يوم الجمعة، و (1085)، كتاب: التهجد، باب: طول القيام في صلاة الليل، وقال فيه: "كان إذا قام للتهجد من الليل"، ومسلم (255)، (1/ 220)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، وقال فيه: "إذا قام ليتهجد"، و (255)، (1/ 220 - 221)، باب: السواك، وأبو داود (55)، كتاب: الطهارة، باب: السواك لمن قام من الليل، والنسائي (2)، كتاب: الطهارة، باب: السواك إذا قام من الليل، و (1621)، كثاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ما يفعل إذا قام من الليل من السواك، وابن ماجه (286)، كتاب: الطهارة، باب: السواك. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 32)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 58)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 509)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 144)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 67)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 31)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 356، 2/ 375)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 185، 6/ 183، 7/ 185)، و"فيض القدير" للمناوي (5/ 153)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 129).

(عن حذيفةَ بنِ اليمانِ) - واسمُ اليمانِ: حِسْلٌ -بكسر الحاء وسكون السين المهملتين-، وقيل: بالتصغير. وفي "مستدرك الحاكم": أنه حذيفةُ بنُ اليمانِ بنِ حِسْل (¬1) - رضي الله عنه -، فجعل حسلاً جدَّه، لا اسمَ أبيه، وإنما قيل لحسلٍ: اليمان؛ لأن جدهُ جُرْوةَ كان أصاب في قومه دماً، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه: اليمان؛ لأنه حالف اليمانية؛ يعنون: الأنصار، والمنتسب إلى اليمن: يَمانٍ - على غير قياسٍ -، جعلوا الألف عوضاً من ياء النسبة، وربما قالوا: اليمني - على القياس -، ولا يقال: اليماني؛ لأنه جمعٌ بين العِوض والمعوَّض. وقيل: هو ابنُ جابرِ بنِ عمرِو بنِ ربيعةَ بنِ جُرْوة -بكسر الجيم كما قاله النووي، أو بضمها كما قاله ابن الأثير، وسكون الراء- بنِ الحارت بنِ مازنِ بنِ قُطَيعة -بضم القاف وفتح الطاء المهملة ثم تحتانية ساكنةٍ ثم عينٍ مهملةٍ- بنِ عَبْسٍ -بفتح العين المهملة وسكون الموحدة فسينٍ مهملةٍ- العبسيُّ: حليفُ بني عبد الأشهل من الأنصار، وابنُ أختهم، شهد حذيفةُ وأبوه أُحُداً، وقُتل أبوه يومئذٍ، قتله المسلمون خطأً؛ ظنوه كافراً، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَدِيَه، فتصدق حذيفةُ - رضي الله عنه - بديته على المسلمين، فلم يأخذ له ديةً. وأسلمت أم حذيفة -أيضاً-، واسمها الرَّيانُ -بفتح الراء وبالمثناة تحت - بنتُ كعبِ بنِ عديٍّ، من الأنصار، من بني عبد الأشهل. وكان حذيفةُ- رضي الله عنه - صاحبَ سِرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين يعلمُهم وحدَه، وفي غيرهم -أيضاً-. ¬

_ (¬1) انظر: "المستدرك" للحاكم (3/ 427).

ففي مسلمٍ، عنه: حدثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بما يكون حتى تقومَ الساعة، غير أني لم أسأله: ما يُخرج أهلَ المدينة منها (¬1)؟ وكان عمر- رضي الله عنه - إذا مات أحدٌ، فإن صلَّى عليه حذيفةُ، صلى عليه، وإلا، فلا، وهاجر مع أبويه أيام بدر، فلم يشهدها. وقد روى عنه خلقٌ كثر من الصحابة والتابعين. قال الحافظ ابن الجوزي: ولا يُحصى ما روى عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنه قد أُخرج له في "الصحيحين" سبعة وثلاثون حديثاً، اتفقا منها على اثني عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلمٌ بسبعة عشر. وشهد فتحَ نهاوندَ، وكان فتحُ همذانَ والريِّ والدِّيْنَوَرِ على يديه، وذلك كله سنة اثنتين وعشرين، ولاَّه عمرُ المدائنَ، فتوفي بها سنة ست وثلاثين أولَ خلافة علي بعد قتلِ عثمان بأربعين ليلةً، وقبره بالمدائن - (رضي الله عنه) - (¬2). فمما اتفقا عليه من حديثه - رضي الله عنه - هذا الحديث. (قال) حذيفة - رضي الله عنه -: (كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ من الليلِ) ظاهرُه: يقتضي تعليقَ الحكم بمجرد القيام، ويحتمل أن يكون المراد: إذا ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2891)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يكون إلى قيام الساعة. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 15)، و (7/ 317)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 95)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 354)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 354)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 161)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (12/ 259)، و"المنتظم" لابن الجوزي (5/ 104)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 706)، و"تهذيب الكمال" للمزي (5/ 495)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 361)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 44)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (2/ 193).

قامَ من الليل للصلاة، وحينئذ يعود إلى محش حديث أبي هريرةَ الأولِ، فالأولى عدمُ قيدِ: للصلاة؛ لأن النوم مقتضٍ لتغير الفم، والسواك آلةٌ التنظيف للفم، فيتأكد عندَ مقتضي التغير. وهذا الذي يرشد إليه صنيعُ الحافظ؛ فإنه ذكر حديثَ أبي هريرةَ ليدلَّ على الإتيان بالسواك في ابتداء العبادة من الصلاة منطوقاً، ومثلُها الوضوء والقراءة والذكرُ ونحوُها. وحديثُ حذيفةَ ليدل على زوال التغير؛ فإن النوم مظنةُ تغير رائحة الفم، فيشمل طلب التسوك لسائر التغيرات من أكلِ ما له رائحةٌ كريهةٌ، ومن إطالةِ سكوتٍ، وصفرةِ أسنانٍ، ونحوِها. وذكرَ حديثَ عائشة؛ ليدل على طلبه عند ختام الحياة؛ لأنه يُسَهِّلُ خروجَ الروح، ويُذَكِّر الشهادةَ، ويُطْلق اللسان، فيفصح بكلماتِ الذكر؛ فحملُ قيامه من الليل؛ لكونه للصلاة يفوِّتُ غرضَ الحافظ، والله أعلم. (يَشُوصُ) -بضم المعجمة وسكون الواو، وبعدها صادٌ مهملة-. (فاه) قال في "القاموس": الفاه والفوه بالضم، والفيه بالكسر [والفُوهة] والفم سواءٌ، والجمع: أفواه وأفمام، ولا واحد لها؛ لأن فماً أصلُه: فَوَهٌ، حذفت الهاء كما حذفت من سَنَةٍ، فبقيت الواو طرفاً متحركةً، فوجب إبدالها ألفاً؛ لانفتاح ما قبلها، فبقي فاً، ولا يكون الاسم على حرفين أحدُهما التنوين، فأُبدل مكانَها حرفٌ مشاكلٌ لها، وهو الميم؛ لأنهما شفهيتان، وفي الميم هُوِيٌّ في الفم يضارع امتداد الواو، ويقال في تثنيته: فَمَان وفَمَوان وفَمَيان، والأخيران نادران (¬1). (بالسواك) متعلقٌ بـ"يشوص". ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1614).

قال الحافظ - رحمه الله -: (يشوص معناه: يغسل) على ما في "الصحاح" (¬1)، (يقال: شاصَهُ يشوصُهُ، وماصَهُ يَموصُه: إذا غسله). وفي "القاموس": الشوص: نصبُ الشيء بيدك وزعزعتُه عن مكانه، والدَّلْكُ باليد، ومضغُ السواك، والاستياكُ به، أو الاستياكُ من أسفل إلى علو؛ كالإشاصة، ثم قال: والغسل والتنقية (¬2). والمَوْصُ: غَسْلٌ لينٌ، والدلكُ باليد، قاله في "القاموس" -أيضاً- (¬3). وفي "النهاية": المَوْص: الغسلُ بالأصابع، يقال: مُصْته أموصُه مَوْصاً (¬4). وفي "الفتح" (¬5): يشُوصُ (¬6) -بضم المعجمة وسكون الواو، وبعدها مهملةٌ-، والشَّوص -بالفتح-: الغسلُ والتنظيف، كذا في "الصحاح" (¬7). وفي "المحكم": الغسل، عن كراع (¬8)، والتنقية، عن أبي عبيدٍ (¬9)، ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1044)، (مادة: شوص). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 803)، (مادة: شوص). (¬3) المرجع السابق، (ص: 815)، (مادة: موص). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 372). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 356). (¬6) في الأصل: "الشوص"، والتصحيح من "الفتح". (¬7) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1044)، (مادة: شوص). (¬8) هو علي بن الحسن الهنائي الأزدي، أبو الحسن المصري، المعروف بـ"كراع النمل"؛ لقصره، أو لدمامته -، كان عالماً بالعربية، وله فيها كتب عدة، منها: "المنضد"، و"المنجد فيما اتفق لفظه واختلف معناه"، و"المنظم"، وغيرها، توفي بعد سنة (309 هـ). انظر: "بغية الوعاة" للسيوطي (ص: 333)، و"الأعلام" للزركلي (4/ 272). (¬9) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 260).

والدلك، عن ابن الأنباري (¬1). وقيل: الإمرارُ على الأسنان من أسفل إلى فوق. واستدل قائله: بأنه مأخوذٌ من الشوصة، وهي ريحٌ ترفع القلبَ عن موضعه (¬2). وعكسه الخطابي، فقال: هو دلكُ الأسنان بالسواك أو الأصابع عَرْضاً، والله أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) لم أقف على كلام ابن سيده في "المحكم"، والله أعلم. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 356)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 50)، (مادة: شوص). (¬3) ونقله عنه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 38).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْها -، قالَتْ: دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَنَا مُسْنِدَتُهُ إلَى صَدْرِي، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِه؛ فَأَبَّدَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بصَرهُ؛ فَأَخَذْتُ السِّوَاكَ، فَقَضَمْتُهُ، وَطَيَّبْتُهُ، ثم دَفَعْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَنَّ بهِ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَنَّ اسْتِنَاناً أَحْسَنَ مِنْهُ، فَمَا عَدَا أَنْ فَرَغَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يَدَهُ، أَوْ إصْبَعَهُ، ثُمَّ قالَ: "في الرَّفِيقِ الأَعْلَى"، ثَلاثاً، ثُمَّ قَضَى، وكانَتْ تَقُولُ: مَاتَ بين حَاقِنَتِي وذَاقِنَتِي (¬1). وفي لفظ: فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إلَيْه، وَعَرَفْتُ اَّنه يُحِبُّ السِّوَاك، فَقُلْتُ: آخُذُهُ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4174)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، واللفظ له. ورواه أيضاً بطرق وألفاظ مختلفة برقم: (850)، كتاب: الجمعة، باب: من تسوَّك بسواك غيره، و (1323)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، و (2933)، كتاب: الخمس، باب: ما جاء في بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما نسب من البيوت إليهن، و (4181)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، و (4184 - 4186)، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (4919)، كتاب: النكاح، باب: إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرض في بيت بعضهنَّ، فأذِنَّ له.

لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ؛ أَنْ: نَعَمْ، هَذَا لَفْظُ البُخَارِيِّ (¬1)، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ (¬2). * * * (عن عائشة) أمِّ المؤمنين (- رضي الله عنها -، قالت: دخلُ عبد الرحمن بنُ أبي بكرٍ الصديقِ) - رضي الله عنهم -. كان عبدُ الرحمن بنُ أبي بكرٍ الصديق يكنى: أبا محمد، ويقال: أبا عبد الله، ويقال: أبا عثمان، أسلم عامَ الحُديبية، وحسن إسلامه، وكان اسمه: عبدَ الكعبة، وقيل: عبد العزى، فسماه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: عبدَ الرحمن، وكان أسنَّ أولادِ أبي بكرٍ الصديقِ، وأمُّه أُمُّ رومان؛ فهو شقيقُ عائشةَ - رضي الله عنهما -. شهد مع قومه بدراً وأُحُداً، ثم أسلم وحسن إسلامه، وهاجر إلى المدينة قبل الفتح، وكان - رضي الله عنه - من أشجع قريشٍ، وأرماهم بسهمٍ. ¬

_ (¬1) وهو المتقدم تخريجه برقم (4184). (¬2) لعلَّ الحافظ - رحمه الله - يشير إلى حديث عائشة - رضي الله عنها - الذي قالت فيه: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتفقد يقول: "أين أنا اليوم؟ أين أنا غداً؟ " استبطاء ليوم عائشة. قالت: فلما كان يومي، قبضه الله بين سحري ونحري. رواه مسلم (2443)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة - رضي الله عنها -، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، به. وهذا الطريق أحد طرق البخاري التي أخرجها في "صحيحه"، وتقدم تخريجها قريباً، وسيشير الشارح إلى هذا في شرحه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 451)، و"شرح مسلم" للنووي (15/ 208)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 68)، و"فتح الباري" لابن حجر (8/ 138)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 33)، و"عمدة القاري" للعيني (18/ 65).

قال الحافظ ابن الجوزي في "منتخب المنتخب": دعي عبدُ الرحمن - رضي الله عنه - يومَ بدرٍ إلى المبارزة، فنهض إليه الصدِّيقُ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمْتِعْنا بنفسِكَ"، قال: ثم أسلم عبدُ الرحمن في هدنة الحديبية، وهاجر، ومات سنة ثلاثٍ وخمسين فجأةً بالحُبْشِيِّ، وهو جبلٌ بينه وبين مكة ستة أميال، فحمل إلى مكة، فدفن بها، فقدمت عائشة، فأتت قبره، فصلّت عليه، وتمثَّلَتْ: [من الطويل] وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيْمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا وَعِشْنَا بِخَيْرٍ فِي الْحَيَاةِ وَقَبْلَنا ... أَصَابَ المَنايا رَهْطَ كِسْرَى وَتُبَّعَا فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكاً ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا (¬1) روي لعبد الرحمن - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانيةُ أحاديثَ، اتفقا منها على ثلاثةٍ (¬2). (على النبي - صلى الله عليه وسلم -) متعلق بـ"دخل". قالت عائشة - رضي الله عنها -: (وَأَنا مُسْنِدَتُهُ)؛ أي: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - (إلى صَدْري) جملة "وأنا مسنِدَتُه" إلخ، من المبتدأ والخبر جملة حالية، (وَ) ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1055)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الرخصة في زيارة القبور، والحاكم في "المستدرك" (6013)، وغيرهما، إلا أنه لا يوجد في روايات الحديث المشهورة أنها تمثَّلت بالبيت الثاني الذي أورده الشارح، والله أعلم. (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 242)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 824)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 462)، و"تهذيب الكمال" للمزي (11/ 311)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 471)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 325)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (6/ 133).

الحالُ أنه (مَعَ عبدِ الرحمنِ) أخي - رضي الله عنه -؛ أي: في حال دخوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (سواكٌ رطبٌ)، وهو الذي لم يجفَّ بعدُ، فهو ضد اليابس (يَسْتَنُّ) عبدُ الرحمن (به)؛ أي: بذلك السواك الرطبِ (فَأبَّدَه)؛ أي: أطالَ النظرَ إليه (رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَصَرَهُ). يقال: أَبَّدْتُ فلاناً النظرَ: إذا طَوَّلته إليه، وكأن أصله من معنى التبديد الذي هو التفريق، قاله ابن دقيق العيد (¬1). وفي "المطالع": فَأبَّدَهُ بصرَه؛ أي: أمدَّه. قاله الحربي. قال الضَّبي: معنى أَبَّدَ: أَمَدَّ، وقيل: طَوَّل (¬2). فقالت عائشة - رضي الله عنها -: آخذه لك؟ فأشار - صلى الله عليه وسلم - برأسه أن نعم، كما يأتي. قالت - رضي الله عنها - (فأخذْتُ السواكَ) من عبدِ الرحمن بنِ أبي بكرٍ - رضي الله عنهما -، (فقضَمْتُه)؛ أي: مضغتُه بأسناني. (فطيبته)؛ أي: لَيَّنْتُهُ، (ثم دفعتُه)؛ أي: السواكَ (إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فاسْتَنَّ به) -بسكون السين المهملة، وفتح المثناة، وتشديد النون- من السَّنِّ -بالكسر أو الفتح-؛ إما لأن السواك يمد على الأسنان فيجليها ويَصقُلها، أو يَسُنُّها؛ أي: يُحَدِّدُها. وفي "القاموس": استنَّ: استاك (¬3). قالت عائشة - رضي الله عنها -: (فما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استَنَّ)؛ أي: استاك (استِناناً)؛ أي: استياكاً. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 68). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 80). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1558)، (مادة: سنن).

(أحسنَ منهُ)؛ أي: من ذلكَ الاستياك الذي فعلَه - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ. (فما عدا)؛ أي: ما تجاوزَ (أن فرغَ) أن -بفتح الهمزة وسكون النون -: مصدرية؛ أي: ما عدا فراغَ (رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -) من استنانه بالسواك، حتى (رفعَ يدَه). وفي روايةٍ: "ثم نصبَ يده" (¬1)، (أو) قالت: رفع (إصبعَه). وفي روايةٍ: "فرفع برأسه إلى السماء" (¬2)، (ثم قال) - صلى الله عليه وسلم - بعد رفع يده أو إصبعه أو رأسه، ولا تدافع في شيء من ذلك؛ لأنه رفع إصبعه المسبحة بعد نصب يده، ورفع رأسه ليرمُقَ السماءَ: (في الرفيق الأعلى، ثلاثاً) من المرَّات، إشارةً إلى قوله - تعالى -: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. قال ابن دقيق العيد: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الرفيق الأعلى": يجوز أن يكون الأعلى صفةً من الصفات اللازمةً التي ليس لها مفهومٌ يخالف المنطوق، كما في قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117]، وليس ثَمَّ داعٍ إلهاً له به برهان، وكذلك: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61]، ولا يكون قتلُ النبيين إلا بغير الحق، فيكون الرفيق لم يطلق إلا على الذي اختص الرفيق به، ويقوي هذا ما ورد في بعض الروايات، "وأَلْحِقْني بالرفيق" (¬3) ولم يصفه بالأعلى، وذلك دليل على أنه ¬

_ (¬1) وهي رواية البخاري المتقدم تخريجها برقم (4184) في حديث الباب. (¬2) وهي رواية البخاري المتقدم تخريجها برقم (4186) في حديث الباب. (¬3) رواه البخاري (4176)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، ومسلم (2444)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة - رضي الله عنها -.

المراد بلفظ "الرفيق الأعلى"، ويحتمل أن يراد بالرفيق: ما يعم الأعلى وغيره، وذلك على وجهين: أحدهما: أن يخص الفريقان معاً بالمقربين المرضيين، ولا شك أن مراتبهم متفاوتةٌ، فيكون - صلى الله عليه وسلم - طلب أن يكون في أعلى مراتب الرفيق، وإن كان الكل من السعداء المرضيين. الثاني: أن يطلق الرفيق بالمعنى الوضعي، الذي يعم كل رفيق، ثم يخص منه الأعلى بالطلب، وهو مطلب المرضيين، ويكون الأعلى بمعنى العالي، ويخرج منه غيرهم، وإن كان اسم الرفيق منطلقاً عليهم، انتهى (¬1). وقال ابن قرقول في "المطالع": قوله: "في الرفيق الأعلى"؛ أي: اجعلني وألحقني بهم، وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون المذكورون في قوله - تعالى -: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وهو يقع على الجمع والواحد، وقيل: أراد: رفق الرفيق، وقيل: أراد: مرتفق الجنة،؛ وقال الداودي: هو اسم لكل سماء، وقال: "الأعلى"؛ لأن الجنة فوق ذلك. قال: وأهل اللغة: لا يعرفون هذا، ولعله تصحيفط من الرفيع. وقال الجوهري: الرفيق: أعلى الجنة، انتهى (¬2). وقال الحافظ جلال الدين السيوطي في "الرفيق الأعلى": الملائكة، أو مَنْ في آية الذين أنعم عليهم، أو المكان الذي تحصل فيه مرافقتُهم، وهو الجنة، أو السماء، أقوالٌ. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 69). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 296 - 297).

قال الحافظ ابن حجر: الثالثُ هو المعتمد، وعليه اقتصر أكثر الشراح، انتهى (¬1). قال السيوطي: وقيل: المراد به: الله - جل وعلا - لأنه من أسمائه. قال السهيلي "في اختياره": هذه الكلمة تتضمن التوحيد، والذكرَ بالقلب، حتى يستفاد منه الرخصة لغيره؛ لأنه لا يشترط الذكر باللسان. قال: وقد وجدت في بعض كتب الواقدي: أن أول كلمةٍ تكلم بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو مسترضَع عندَ حليمةَ: الله أكبر، وآخر كلمةٍ تكلم بها: "في الرفيق الأعلى". وروى الحاكم من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن آخر ما تكلم به: "جلال ربي الرفيع" (¬2)، انتهى (¬3). (ثم قضى) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: تُوفي. قال الأزهري: القضاءُ في اللغة على وجوهٍ؛ مرجعها: إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أُحكم عملُه، أو أُتِمَّ، أو خُتِم، أو أُدِّيَ، أو أُوجبَ، أو أُعلم، أو أُنفذ، أو أُمضي، فقد قُضي، انتهى (¬4). وفي "القاموس": قضى عليه يقضي قَضياً وقَضاءً وقَضِيَّةً، وهي الاسم -أيضاً-، والصنع، والحتم، والبيان، والقاضية: الموت؛ كالقَضيِّ. ثم قال: قضى: مات، وعليه: قتله، انتهى (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 138). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (4387). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 138). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 78). (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1707).

(وكانت) عائشةُ الصديقةُ بنتُ الصديق - رضي الله عنهما - (تقول: ماتَ) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (بين حاقِنَتي)؛ أي: أسفل بطني، (وذاقِنَتي)؛ أي: ثُغرة نحري، وقيل: الذاقنة: طرف الحلقوم، كما قاله ابن دقيق العيد (¬1). وفي "المطالع": الحاقنة: ما سفل من البطن (¬2)، والذاقنة: ما علا. وقيل: الحاقنة: ما فيه الطعام، وقيل: الحاقنتان: الهيطتان اللتان بين الترقُوتين من الصدر وحبلي العاتق. قال أبو عبيدٍ: الحاقن: ما يحقن الطعام في البطنِ، والذواقن أسفل من ذلك، وقيل: الذاقنة: ثغرة الذقن، وقيل: طرف الحلقوم (¬3)، انتهى (¬4). وخرج البخاري أيضاً من حديث عائشة - رضي الله عنها -: أنها كانت تقول: إن من نعم الله عليَّ أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تُوفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته (¬5). قال في "النهاية": النحر: أعلى الصدر (¬6). وفي " القاموس": السَّحْر، ويحرَّكُ ويضم: الرئةُ، والجمعُ: سُحور وأسحار (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 69). (¬2) في الأصل: "الأرض"، والتصويب من "مشارق الأنوار". (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 322). (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 209 - 210). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4184) في حديث الباب. (¬6) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 26). (¬7) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 518)، (مادة: سحر).

وقال: نحر الصدر: أعلاه، أو موضعُ القلادة، مذكر، والجمع: نُحورٌ (¬1). وحاصل هذا كله: أنه - صلى الله عليه وسلم - توفي ورأسه الشريف من جسد عائشة الصديقة - رضي الله عنها - ما بين عنقها وخاصرتها أو بطنها، والله أعلم. قال الحافظ - رحمه الله تعالى -: (وفي لفظٍ) للبخاري: قالت عائشة - رضي الله عنها -: (فرأيتُه)؛ أي: رسولَ الله (ينظرُ إليه)؛ أي: للسواك الذي بيدِ عبدِ الرحمن بن أبي بكرٍ يتسوك به، فعرفتُ، وفي لفظٍ: (وعرفْتُ أنه) - صلى الله عليه وسلم - (يحبُّ السواك)، قالت: (فقلتُ؛ آخذه)؛ أي: السواك (لك) من عبد الرحمن، (فأشار) - صلى الله عليه وسلم - (برأسه) الشريف (أن: نَعَمْ)؛ أي: خذيه لي. (هذا لفظ) الإمام (البخاريِّ)، وتمامُ سياق حديث البخاري: قالت: عائشة - رضي الله عنها -: فتناولته، فاشتدَّ عليه، فقلتُ: أُلينه لك؟ فأشار أن: نعم، فلينته، فأمره، وبين يديه ركو أو علبة فيها ماء، فأمره، فجعل يُدخل يدَه في الماء، فيمسح بها وجهه، ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموتِ سَكَرات"، ثم نصب يده، فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى" حتى قُبض، ومالت يده (¬2). وفي روايةٍ: ومرَّ عبدُ الرحمن وفي يده جريدةٌ رطبةٌ، فنظر إليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فظننتُ أن له به حاجة، فأخذتها؛ أي: الجريدةَ، فمضغتُ رأسَها، ونفضتها، فدفعتها إليه، فاستنَّ بها أحسنَ ما كان مستناً، ثم ناولنيها، فسقطت يدُه، أو سقطَتْ من يدِه، فجمعَ الله بينَ ريقي وريقه في ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 617)، (مادة: نحر). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4184) في حديث الباب.

آخر يومٍ من الدنيا، وأولِ يومٍ من الآخرة (¬1). (ولـ) الإمامِ (مسلمٍ) في "صحيحه" (نحوُه)، ففي "صحيح مسلم" من حديثها: فلما كان يومي، قبضه الله بين سحري ونحري (¬2). وفي روايةٍ له عنها: أنها سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت، وهو مستندٌ إلى صدرها، وأصغت إليه وهو يقول: "اللهمَّ اغفرْ لي وارحمْني، وأَلْحِقْني بالرفيقِ الأعلى" (¬3). وفي روايةٍ: فسمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه، وأخذته بُحَّةٌ يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، فظننته خُيِّرَ حينئذ (¬4). وفي حديثها عنده: كنتُ أسمعُ أنه لن يموتَ نبيٌّ حتى يُخَيَّرَ بينَ الدنيا والآخرة (¬5). وفي روايةٍ: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو صحيح: "إنه لم يُقبض نبيٌّ قطُّ حتى يرى مقعدَه في الجنة، ثم يُخيَّر". قالت عائشة: فلما نزل برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأسُه على فخذي، غُشِي عليه ساعة، ثم أفاق، فأشخصَ بصرَه إلى السقف، ثم قال: "اللهمَّ الرفيق الأعلى". قالت عائشة: قلت: إذاً لا يختارُنا، قالت: وعرفت أن الحديث الذي كان يحدثنا به وهو صحيحٌ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4186) في حديث الباب. (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬3) رواه مسلم (2444)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة - رضي الله عنها -. (¬4) رواه مسلم (2444)، (4/ 1893)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة - رضي الله عنها -. (¬5) هو صدر الحديث المتقدم تخريجه آنفاً.

في (¬1) قوله: "إنه لم يُقْبَضْ نبيٌّ قَطُّ حتى يرى مقعدَه من الجنةِ، ثم يُخير". قالت عائشة: فكانت تلك آخرَ كلمةٍ تكلم بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "اللهمَّ الرفيق الأعلى" (¬2). تنبيه: في هذا الحديث من الفوائد -غير ما مر مما أشرنا إليه في شرحه-: الاستياكُ بالرطب. وقال بعض الفقهاء: الأخضرُ لغير الصائم أحسنُ، وهذا مقتضى كلام علمائنا. قال في "الإقناع" كغيره: يُسن التسوكُ بسواكٍ رطبٍ، أو أخضر، ويابس مُنَدًّى، ولصائمٍ بيابسٍ قبلَ الزوال، ويُباحُ له برطبٍ قبله (¬3). ومنها: إصلاحُ السواك وتهيئته؛ لقول عائشة: فقضمتُهُ. ومنها: تلينيه، حيث كان يابساً، فيندَّى بالماء، وبماءِ وردٍ أجودُ، ثم يُغسل قبل وضعه في الفم؛ لقول الحسنِ البصريِّ: إنَّ الشيطان يستاك به إن لم يُغْسَل؛ لأنه يأمن من جرح لثته لشدة يبسه. ومنها: كونُ السواكِ من عُرجون النخلِ كما في الحديث. قال في "الفروع": يتسوك بعودٍ لا يضره ولا يتفتت. قال: وظاهره التساوي. قال: ويتوجه احتمالُ: أن الأراك أولى؛ لفعله - عليه السلام -، ¬

_ (¬1) في الأصل: "و" بدل "في"، والتصويب من "صحيح مسلم". (¬2) رواه مسلم (2445)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: في فضل عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 31).

وقاله بعض الشافعية، وبعض الأطباء، وأنه قياسُ قولهم في استحباب الفطر على التمر، وأنه أولى في الفطرة؛ لفعله - عليه الصلاة والسلام -. وذكر الأزَجيُّ من علمائنا: أنه لا يُعْدَلُ عنه، وعن الزيتون والعُرجون. وقال صاحب "التيسير" (¬1) من الأطباء: زعموا أنَّ التسوك من أصول الجوز في كل خامسٍ من الأيام، يُنْقي الرأس، ويُصَفِّي الحواسَّ، ويُحِدُّ الذهنَ (¬2). وفيه: الاستياك بسواك الغير. وفيه: العمل بما يفهم من الإشارة والحركات. ومنها: استحباب استعمال المسواك إذا كان للغير؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - قالت: فطيَّبتُه. قال في "الفتح": استعمالُ سواكِ الغيرِ ليس بمكروهٍ -يعني: أنه لإباحة التسوك به -، إلا أن المستحب: أن يغسله، ثم يستعمله. وفيه حديث عن عائشة - رضي الله عنها - في "سنن أبي داود" قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعطيني السواك لأغسلَهُ، فأبدأُ به، فأستاكُ، ثم أغسلُه، ثم أدفعُه إليه (¬3). وهذا دالٌّ على عظيم أدبها، وكبر فطنتها؛ لأنها لم تغسله ابتداءً؛ حتى لا يفوتها الاستشفاءُ بريقه، ثم غسلته تأدباً وامتثالاً. ¬

_ (¬1) هو كتاب: "التيسير في المداواة والتدبير" لأبي بكر بن عبد الملك بن زهر الإيادي الإشبيلي، الطبيب الأندلسي البارع، المتوفى سنة (595 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (21/ 325). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 95). (¬3) رواه أبو داود (52)، كتاب: الطهارة، باب: غسل السواك، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 39).

قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون المراد بأمرها بغسله: تطييبُه وتهيئتُه بالماء قبل أن يستعمله، انتهى (¬1). وشديد حرص عائشة - رضي الله عنها - على الاستشفاء والتبرك بأثر ريقه يشعر بأن المراد باجتماع ريقه - صلى الله عليه وسلم - بريقها لكل من الطرفين، فإنه لما استن - صلى الله عليه وسلم - بالسواك، ناوله لها لم تكن لتدع فضلة ريقه والتبرك بها حتى تستاك بالسواك ليصدق الاجتماعُ لكل منها ومنه - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: ما في هذا الحديث من المزايا والمناقب لسيدتنا عائشة على غيرها، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 357).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ يَسْتَاكُ بسِوَاكٍ، قالَ: وَطَرَفُ السِّوَاكِ عَلَى لِسَانِهِ؛ يَقُولُ: "أُعْ أُعْ"، والسِّوَاكُ في فِيهِ، كأنَه يَتَهَوَّعُ (¬1). * * * (عن أبي موسى) عبدِ الله بنِ قيسِ بنِ عامرٍ (الأشعريِّ) -بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح العين المهملة-، نسبةً إلى الأشعر، واسمه نَبْت -بفتح النون وسكون الموحدة فمثناة- بنُ أُدَد -بضم الهمزة بوزن عُمَر- بنِ زيدٍ. قدم أبو موسى (- رضي الله عنه -)، فحالفه سعيدُ بنُ العاصِ بنِ أميةَ، فأسلم بمكةَ، ثم هاجر إلى أرض الحبشة، ثم قدم مع أهل السفينتين ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (241)، كتاب: الوضوء, باب: السواك, واللفظ له، ومسلم (254)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، وأبو داود (49)، كتاب: الطهارة، باب: كيف يستاك؟ والنسائي (3)، كتاب: الطهارة، باب: كيف يستاك؟ * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح مسلم" للنووي (3/ 144)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 70)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 36)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 355)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 184).

ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فأسهم لهم منها، وكذلك أسلمت أمه طيبةُ بنتُ وهب، وتوفيت بالمدينة. ويقال: إن أبا موسى أسلم قديماً بمكة، ثم رجع إلى بلاده، ولم يزل بها حتى قدم هو وناسٌ من الأشعريين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الإمام ابنُ الأدهم أبو بكرِ بنُ أبي داود - رضي الله عنهما -: كان لأبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - مع حسن صوته بالقرآن فضيلةٌ ليست لأحدٍ من الصحابة: هاجر ثلاث هجرات؛ هجرةٌ من اليمن إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وهجرةٌ من مكة إلى الحبشة، وهجرةٌ من الحبشة إلى المدينة، انتهى. واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على زَبِيد، وعَدَن، وساحل اليمن، وولَّاه عمرُ بنُ الخطاب البصرةَ حين عزلَ عنها المغيرةَ بنَ شعبةَ في خبر الشهادة عليه سنة عشرين، فافتتح أبو موسى الأهواز، ولم يزل على البصرة إلى حين من خلافة عثمان، ثم عُزل عنها، فانتقل إلى الكوفة، وأقام بها، فلما رفع أهل الكوفة خلافة ابن العا صعنهم، وَلَّوا أبا موسى الأشعري عليهم، فأقره عثمان على الكوفة، ولم يزل عليهم حتى قُتل عثمان بن عفان، ثم انقبض أبو موسى إلى مكة بعد التحكيم وما كان منه، فلم يزل بها إلى أن مات سنة إحدى وخمسين على ما رجحه ابن الأثير، وقال النووي: سنة خمسين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، مات بالكوفة، ودُفن بالبصرة، ودُفن بالتربة التي على ميلين منها. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مئة وستون حديثاً، اتفقا على تسعةٍ وأربعين، وانفرد البخاري بأربعةٍ، ومسلم بخمسة عشر (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 105)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 22)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 221)، و"الاستيعاب" لابن =

مما اتفقا عليه من حديثه: أنه (قال) - رضي الله عنه -: (أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو) - صلى الله عليه وسلم - (يستاك)، أي: في حال استياكه (بسواكٍ، وطرفُ السواكِ على لسانِه) - صلى الله عليه وسلم - الواو: للحال -أيضاً-. وظاهرُ صنيع الحافظِ عبد الحق: أن هذا القدر من الحديث الذي أخرجه مسلم (¬1)، وأن البخاري روى عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يستنُّ بسواكٍ بيده، وهو (يقول)، وفي لفظٍ: بإسقاط "هو"، والضمير في "يقول" عائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو السواك مجازاً (أُعْ أُعْ) -بضم الهمزة وسكون المهملة-. كذا في رواية أبي ذر كما في "الفتح" (¬2). وأشار إلى أن غيره رواه بفتح العين، ورواية النسائي وابن خزيمة بتقديم العين على الهمزة، وكذا أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل بن أبي أويس (¬3). ولأبي داود: بهمزةٍ مكسورة، ثم هاء (¬4). وللجوزقي: بخاء معجمة بدل الهاء، والرواية الأولى أشهر. ¬

_ = عبد البر (3/ 979)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (32/ 24)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 364)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 545)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 446)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 380)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضا (1/ 23)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 211)، و"تهذيب التهذيب" له أيضا (5/ 317). (¬1) أي: لم يذكر مسلم صفة الاستياك التىِ ذكرها البخاري، انظر: "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق الإشبيلي (1/ 207). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 356). (¬3) تقدم تخريجه عند النسائي في حديث الباب، ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (141)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 35). (¬4) تقدم تخريجه في حديث الباب.

وإنما اختلفت لتقارب مخارج هذه الأحرف، وكلها ترجع إلى حكاية صوته، إذ جعل السواك على طرف لسانه، كما عند مسلم. والمراد: من طرف اللسان الداخل، كما عند الإمام أحمد: "ويَستن إلى فوق" (¬1)، ولهذا قال: (والسواك في فيهِ) - صلى الله عليه وسلم -، يستاك به على طرف لسانه الداخل إلى جهة حلقه (¬2). (كأنه يتهؤَع)، والمتهوِّع: المتقيىء؛ أي: له صوتٌ كصوت المتقيىء على سبيل المبالغة. ويستفاد منه: مشروعيةُ السواك على لسانه. والعلة التي تقتضي الاستياك على الأسنان موجودة في اللسان، بل هي أبلغ وأقوى؛ لما يتراقى إليه من أبخرة المعدة، فيكون الاستياك في اللسان طولاً، فأما الأسنان، فليكن فيها عرضاً (¬3). وقيل: طولاً، كما في "الفروع" لابن مفلح (¬4). وقال محققو متأخري علمائنا: طولاً بالنسبة إلى الفم، عرضاً بالنسبة إلى الأسنان، فالمسألة ليست بذات قولين، كما في "حواشي ابن قندُس على الفروع " (¬5)؛ بدليل ما روى عطاء، قال: [قال] رسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اسْتكتُمْ، فاستاكوا عَرْضاً، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 417). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 356). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 70). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 95). (¬5) انظر: "حاشية ابن قندس على الفروع" (1/ 146). وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 120).

وإذا شربتُم، فاشربوا مَصّا" رواه سعيد في "سننه"، وأبو داود في "مراسيله" (¬1). وعن سعيد بنِ المسيب، عن ربيعةَ بنِ أكثمَ، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستاك عرضاً، ويشربُ مَصّاَ، ويقول: "هو أهنأ وأمرأ" رواه أبو بكرٍ الشافعي في "فوائده" (¬2). ولأن التسوك طولاً من أطراف الأسنان إلى أصولها ربما آذى اللِّثَة وأدماها. وفيه: تأكيد استحباب السواك، وأنه لا يختص بالأسنان، بل يكون على الأسنان واللسان واللثة والحلق. قال حماد: في قوله: "يستن إلى فوق": كأنه يرفع سواكه، قال: ووصفه لنا غيلان قال: كأنه يستاك طولاً، رواه الإمام أحمد (¬3). يعني بقوله: طولاً: استياكه في حلقه. قال في "شرح الوجيز": وقال: ويمر السواك على أطراف أسنانه وكراسي أضراسه؛ ليستأصل جميعَ ما عليها من القلح. قال في "الرعاية": ومن سقطت أسنانه، استاك على لثته ولسانه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في "المراسيل" (5)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 40). (¬2) رواه أبو بكر الشافعي في "فوائده" المشهورة بـ"الغيلانيات" (978)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 229) وقال: لا يصح، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 40)، وابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 395)، وقال: لا يصح. (¬3) تقدم تخريجه قريباً. (¬4) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 118)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 71).

فوائد: الأولى: كان السواك واجباً على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند كل صلاة، كما اختار القولَ بخصوصية وجوبه عليه - صلى الله عليه وسلم -: القاضي أبو يعلى، وابنُ عقيل؛ بدليل حديث عبدِ الله بنِ أبي حنظلة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُمر بالسواك عند كل صلاةٍ، طاهراً أو غير طاهر، فلما شقَّ ذلك عليه، أمر بالسواك لكل صلاة. رواه أبو داود، وتقدم (¬1)، واختار ابن حامد: عدم وجوبه (¬2). الثانية: ذكر في "شرح الوجيز"، وكذا في أدلة "أوراد داود" لابنه (¬3): أن السواك لا ينبغي أن يزيد على قدر شبر. قال: فإن الشيطان يركب على الزائد منه، انتهى. قلت: وهو كلامٌ ساقطٌ، لا ينبغي الاعتبار به؛ لعدم وروده فيما علمت. قال في "شرح الوجيز": ولا يوضع السواك بالأرض، بل يُنصب نصباً؛ فإنه يروى عن سعيد بن جبير: أنه قال: من وضع سواكه بالأرض، فجُنَّ من ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسَه. الثالثة: المستحب أن يستاك بيساره، يعني: يحمل السواك بها، كما نقله حرب عن الإمام أحمد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما علمتُ إماماً خالف فيه -يعني: من أصحاب المذاهب-. ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجه. (¬2) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 72). (¬3) سيأتي التعريف به.

وقال جده: يستاك بيمينه (¬1). وكلام إمام الحرمين من الشافعية موجبه أنه يكودن باليسرى، فإنه قال: الاستياك عند الاصفرار إزالة القلح (¬2). وقال ابن الهمام من المالكية: إدن كالن لإزالة القلح وتغير الفم، فباليسرى، وإلا، فباليمنى (¬3). ويبدأ بالجانب الأيمن من فمه من ثنايا الجانب الأيمن إلى أضراسه، كما في "المطلع" (¬4). وفي "قطعة الفتوحي على الوجيز" (¬5): يبدأ من أضراس الجانب الأيمن. قال في "الرعاية": ويقول إذا استاك: اللهمَّ طهِّر به لساني وذنوبي. قال بعض الشافعية: وينوي به الإتيان بالسنة. قال في "شرح الوجيز" للبهاء البغدادي: ويستحب أن يسمي عند إرادته، كذا قال، ويبتلع ريقه أول ما يستاك؛ فإنه ينفع من الجذام والبرص وكل داءٍ، ولا يبتلعه بعد ذلك؛ فإنه يورث الوسوسة، ولا يمص السواك مصاً؛ فإن ذلك يورث العمى، انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (98/ 1)، و"حاشية ابن قندس على الفروع" (1/ 148). (¬2) انظر: "المجموع" للنووي (1/ 347). (¬3) انظر: "مواهب الجليل" (1/ 265). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 15). (¬5) للشيخ أحمد بن عبد العزيز بن علي شهاب الدين ابن النجار الفتوحي، المتوفي سنة (949 هـ): "شرح الوجيز" في الفقه، لم يتمه. انظر: "المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 751، 1002).

الرابعة: قال الحكيم الترمذي: المستحب في إمساكه: أن يجعل الخنصر من اليد أسفل السواك تحته، والبنصر والسبابة فوق، ويحمل الإبهام أسفل رأس السواك، كما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. قال: ولا يقبض عليه؛، فإنه يورث البواسير (¬1). الخامسة: جزم متأخرو علمائنا بعدم إصابة السنة بالاستياك بغير عود؛ من إصبع وخرقة. وقيل: بلى، وهو مذهب أبي حنيفة. وقيل: بالخرقة دون الإصبع، وهو مذهب الشافعي. قال الشيخ الموفق: والصحيح أنه يصيب بقدر ما يحصل من الإنقاء. قال: ولا يترك القليل من السنة للعجز عن كثيرها (¬2). وقال المجد في "شرح الهداية" (¬3): الصحيح إصابةُ السنة بالأصبع مَعَ المضمضة؛ لأن الماء يساعدها، وقد وَرد الأثر به، فروي عن علي - رضي الله عنه -: أنه أتي بكوز من ماء، فغسل كفيه، وتمضمض ثلاثاً، فأدخل بعضَ أصابعه في فيه، واستنشق ثلاثاً، وتمّم وضوءه، وقال: هكذا كان وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -. رواه الإمام أحمد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (1/ 21). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 70). (¬3) هو كتاب: "منتهى الغاية في شرح الهداية" لفخر الدين المجد ابن تيمية، بيض منه أربع مجلدات كبار إلى أوائل كتاب الحجر، والباقي لم يبيضه. انظر "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 153)، و"المقصد الأرشد" لابن مفلح (2/ 163)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 714). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 158)، وعبد بن حميد في "مسنده" (95).

وروى البيهقي بإسنادٍ لا بأس به، عن أنس مرفوعاً: "يُجزىء من السواكِ الأصابعُ" (¬1). السادسة: يكره السواك بقصب، وطَرْفاءَ، وريحان، ورمانٍ، وآسٍ. وفي "الإقناع": بريحان، وهو الآس، وبكل عود زكي الرائحة، وكل ما يضر أو يجرح، وكذا التخلل بها، وبالخوص، ولا يتسوك ولا يتخلل بما يجهله؛ لئلا يكون من ذلك (¬2). وقيل: يحرم فعل ذلك بشيء من هذه الأشياء. السابعة: ذكر أبو شامةَ من الشافعية في مصنفٍ له سماه: "السواك" (¬3): أنه لا يشترط السواك في الصلوات المتواليات، كالتراويح والتهجد، قال بعضهم: وكأن المراد: لا يُسن في غير الركعتين الأولتين، ويستأنس لذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه أنه كان يستاك عند افتتاح كل ركعتين من تهجده، وإنما كان يستاك مرةً واحدة، كذا قال. وفيه: ما روى ابن ماجه والنسائي - ورواته ثقاتٍ - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 40)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 334)، والديلمي في "مسند الفردوس" (8891)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (7/ 252). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 32). (¬3) للإمام المؤرخ عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي ثم الدمشقي الشافعي المعروف بأبي شامة، المتوفى سنة (665 هـ)، كتاب: "السواك وما أشبه ذلك"، ذكره البغدادي في "هدية العارفين" (1/ 272)، وفي "إيضاح المكنون" (2/ 304). (¬4) رواه ابن ماجه (288)، كتاب: الطهارة، باب: السواك، والنسائي فى "السنن الكبرى" (1343)، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 218)، وغيرهم.

الثامنة: في التسوك بكل عود ينقي ولا يضر عدة فوائد: يطيب النكهة والفم، ويجلو الأسنان ويقويها، ويشد اللِّثة. قال بعضهم: ويسمِّنها، ويقطع البلغم، ويجلو البصر، ويمنع الحفر، ويذهب به، ويُصِحُّ المعدة، ويعين على الهضم، ويشهي الطعام، ويصفِّي الصوت، ويسهِّل مجاري الكلام، وينشط، ويطرد النوم، ويخفف عن الرأس وفم المعدة، كما في "الفروع" (¬1). وروى الدارقطني وغيره فيما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفاً: في السواك عشر خصال: مَرْضاة الرب، ومَسْخَطةٌ للشيطان، مَفْرَحةٌ للملائكة، جيدٌ لِلِّثة، ويذهبُ بالبَخْر، ويجلو البصر، ويُطَيِّبُ الفمَ، ويُقِلُّ البلغمَ، وهو من السنة، ويزيد في الحسنات (¬2). وفي "أدلة الأوراد" لأبي داود: الاستياك بالأراك يمنع الحَفْر، ويُنقِّي الدماغَ، ويُشهي الطعام،- لاسيما إذا كان مبلولاً بماء الورد -، ويعين على هضمه، ويسهِّل مجاريه، ويُصفِّي اللون، ويجفف الرطوبة من الرأس وفم المعدة. وزاد غيره: ويسهل خروجَ الروح، ويذكِّر الشهادةَ عند الموت، ويغذِّي من جوع، ويُرهبُ العدو، ويُرغمُ الشيطان، ومع كونه متبِعاً للنبي الكريم، فهو مقتفٍ لأثر سيدنا الخليل إبراهيم - عليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم - ومضاعفة الصلاة على ما مرّ، ويكفي عن كل ذلك الاحتفالُ باقتفاء خير البشر، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 96). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 58)، وقال: معلى بن ميمون ضعيف متروك.

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين قال في "شرح الوجيز": يجوز المسحُ على الخفين إجماعاً، ولا اعتبارَ بقول الإمامية، والخوارج، وأبي بكر بن داود. قال: والصحيح عن علي، وابن عباس، وعائشة، وأبي هريرة - رضي الله عنهم -، كقول الجماعة، وإن روي عنهم المنعُ من وجه ضعيف، ورُوي ذلك عن مالك. قال ابن عبد البر: هي رواية أنكرها أكثرُ القائلين بقوله (¬1)، انتهى. قلت: وبما ذُكر علمت أن الإجماع، نعم، هو الصحيح المعتمد، وعليه اتفق الأئمة في الجملة، وقد اشتهر القول به عند علماء أهل السنة حتى صار شعاراً لهم، وعُدّ إنكاره من شعار أهل البدع. والمسحُ على الخفين رخصة، وهي لغةً: السهولة، وشرعاً: ما ثبت على خلاف دليلٍ شرعيًّ لمعارض راجح. وقيل: عزيمةٌ، وهي لغةً: القصدُ المؤكَّد، وشرعاً: حكمٌ ثابتٌ بدليلٍ شرعيٍّ خالٍ عن معارضٍ راجحٍ، والرخصةُ والعزيمةُ وَصْفان للحكم الوضعي. ¬

_ (¬1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 216).

قال في "الفروع": والظاهر أن من فوائدها المسح في سفر المعصية، وتعيين المسح على لابسه (¬1). ونظر فيه ابن اللحام في "القواعد الأصولية" (¬2). قال علماؤنا: والمسح أفضل من الغسل، إلا قولاً لأبي حنيفة، ومالك، والشافعي؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - داوم على الغسل، وهو الأفضل، وفيه إرغامُ أهل البِدع، ولحديث: "إن الله يحبُّ أن يُؤخَذَ بِرُخصه، كما يكره أن تُؤتى معصيتُه" رواه الإمام أحمد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - (¬3)، و"ما خُيِّرَ - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختارَ أيسرَهما" (¬4)، وحديث صفوان بن عسال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طُهْرٍ، ثلاثاً إذا سافرنا، ويوماً وليلة إذا أقمنا، ولا ننزعهما من غائطٍ ولا بولٍ ولا نومٍ. رواه الترمذي، وقال: حسنٌ صحيحٌ، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة في "صحيحه" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 127). (¬2) انظر: "القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللّحام (ص: 117). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 108)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2027)، وابن حبان في "صحيحه" (2742) بلفظ: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته". (¬4) رواه البخاري (3367)، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2327)، كتاب: الفضائل، باب: مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام ... ، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬5) رواه الترمذي (3535)، كتاب: الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار، وما ذكر من رحمة الله لعباده، والنسائي (127)، كتاب: الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين للمسافر، وابن ماجه (478)، كاتب: الطهارة، =

فأمرَ بالمسح وتركِ الخلع مدة التوقيت، وأقلُّها يومٌ وليلةٌ للمقيم. وذكر الحافظ - رحمه الله تعالى - في هذا الباب حديثين. * * * ¬

_ = باب: الوضوء من النوم، وابن خزيمة في "صحيحه" (17)، وابن حبان في "صحيحه" (1319)، وغيرهم.

الحديث الأول

الحديث الأول عن المُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فقالَ: "دَعْهُمَا؛ فَإنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ"، فَمَسَحَ عَلَيْهمَا (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (203)، كتاب: الوضوء، باب: إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان. ورواه أيضاً: (180)، كتاب: الوضوء، باب: الرجل يوضِّىء صاحبه، و (200)، باب: المسح على الخفين، و (356)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: الصلاة في الجبة الشامية، و (381)، باب: الصلاة في الخفاف، و (2761)، كتاب: الجهاد، باب: الجبة في السفر والحرب، و (4159)، كتاب: المغازي، باب: نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر، و (5462)، كتاب: اللباس، باب: من لبس جبة ضيقة الكمين في السفر، و (5463)، باب: لبس جبة الصوف في الغزو. ورواه مسلم (274)، (1/ 228 - 230)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، وأبو داود (151)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، والنسائي (82)، كتاب: الطهارة، باب: صفة الوضوء، و (125)، باب: المسح على الخفين في السفر، والترمذي (100)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المسح على العمامة، وابن ماجه (545)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المسح على الخفين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 58)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 150)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 84)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 529)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 170)، و"شرح =

(عن المغيرهْ) بضم الميم على الأشهر، وحكى ابنُ قتيبة والزمخشريُّ وغيرُهما كسرَها، والهاء فيه للمبالغة (بن شعبة) بنِ أبي عامر بن مسعود بن معتب، من ولد قيس عيلان -بالعين المهملة- ابنِ مضر بن نزار بنِ سعد بن عدنان، أبو عبد الله الثقفيُّ الكوفيُّ، الصحابيُّ الجليل (رضي الله عنه) أسلم عام الخندق، وقدم مهاجراً، وقيل: أول مشاهده الحُديبية، وكان رجلاً طُوالاً موصوفاً بالدهاء، قال الشعبي: دهاة العرب أربعة: معاويةُ بنُ أبي سفيان، وعمرُو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد (¬1). قال ابن الأثير: قيل: إن المغيرة أحصنَ ثلاثَ مئة امرأةٍ في الإسلام، وقيل: ألفاً، وكان ختنَ جرير بن عبد الله البجلى على ابنته. قال الحافظ ابن الجوزي: وكان يلزم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في مقامه وأسفاره، يحمل وضوءه معه، ورَمى خاتمَه في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دفن، ثم نزل، دكان آخرَهم عهداً به - صلى الله عليه وسلم - فيما يقال، وولي من قبل عمر - رضي الله عنهما - الولايات، فولي له الكوفة بعد البصرة حتى قتل عمر، فأمَّره عثمانُ عليها، ثم عزله، وذهبت عينُه يومَ اليرموك، ثم ولاَّه معاويةُ على الكوفة، فمات بها سنة خمسين، أو إحدى وخمسين، وهو ابن سبعين سنة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئةٌ وستة وثلاثون حديثاً، اتفقا منها على سبعة، وللبخاري حديث، ولمسلم حديثان (¬2). ¬

_ = عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 72)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 37)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 307) , و"عمدة القاري" للعيني (3/ 102)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 75)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 227). (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (19/ 182). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 285)، و"التاريخ الكبير" =

فمما اتفقا عليه ما أخرجا عنه، قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر من أسفاره، فقال: "يا مغيرة! خُذِ الإداوةَ"، فأخذتها، ثم خرجت معه، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توارى عني، فقضى حاجته، ثم جاء وعليه جُبَّة شامية ضيقةُ الكمين، فذهب يُخرج يدَه من كمِّها، فضاقت، فأخرج يده من أسفلها، فصببتُ عليه، فتوضأ وضوءه للصلاة، ثم مسح على خفيه، ثم صلى بنا، ولم يقل البخاري: بنا (¬1). وفي لفظ: في هذا الخبر: (قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) ذات ليلة (في سفر)، فقال لي: "أمعك ماء؟ "، قلت: نعم، فنزل عن راحلته، فمشى حتى توارى في سواد الليل، ثم جاء، فأفرغت عليه من الإداوة، فغسل وجهه، وعليه جبة من صوف، فلم يستطع أن يُخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة، فغسل ذراعيه، ومسح برأسه، (فأهويتُ)، وفي لفظ: ثم أهويت؛ أي: مِلْتُ إليه ومددت يدي (لأنزع)؛ أي: لأجذبَ وأقلع (خفيهِ) - صلى الله عليه وسلم -تثنية خف- بالضم -: وهو المعروف الذي يُلبس في الرجلين. (فقال) - عليه الصلاة والسلام-: (دَعْهما) في رجلَيَّ؛ أي: اتركهما فلا تنزِعْهما؛ (فإني أدخلتهما)؛ أي: أدخلت رجليَّ في الخفين حالَ كونهما (طاهرتين). ¬

_ = (7/ 216)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 372)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1445)، و"تاريخ بغداد" (1/ 191)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (60/ 13)، و"المنتظم" لابن الجوزي (5/ 237)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 238)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 369)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 21)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 197)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (10/ 234). (¬1) وتقدم تخريجه في حديث الباب.

وإذا كانتا كذلك، فيجزىء المسحُ على الخفين عن غسلهما، ونقل الإمام إخراجهما، (فمسح) - صلى الله عليه وسلم - (عليهما)؛ أي: الخفين الساترين للكعبين من الرجلين. وقد استدل بقوله: "فإني أدخلتُهما طاهرتين" على اشتراط لبسِهما بعد كمال الطهارة؛ لأنه - عليه السلام - علل عدمَ نزعهما بإدخالهما طاهرتين، ومفهومه: أن إدخالهما غير طاهرتين يقتضي النزع، وأصرَحُ من هذا - على اعتبار لبس الخفين بعد كمال الطهارة - حديثُ المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -، قال: قلت: يا رسول الله! أيمسح أحدنا على خفيه؟ قال: "نعم، إذا أدخلهما وهما طاهرتان" رواه الدارقطني (¬1). فإن قوله: "أدخلتُهما" يقتضي كل واحدة منهما. وقوله: "وهما طاهرتان" حالٌ من كل واحدة منهما، فيصير التقدير: إذا أُدخلت كلُّ واحدةٍ في حال طهارتها، فذلك إنما يكون في كمال الطهارة، فلو غسل إحدى رجليه، فأدخلهما الخفَّ، ثم غسل الأخرى، وأدخلها الخفَّ، لم يجز المسح؛ لأنه أدخل الرِّجلَ الأولى قبل كمال الطهارة. فإن نزعها، ثم أدخلها الخف، جاز المسح؛ لأنه حينئذ يكون قد لبسهما بعد كمال الطهارة، وهذا وفاقاً للشافعي، وإسحاق، ونحوُه عن مالك. وكذا حكمُ غير الخفِّ من كل ممسوح، فلو مسح رأسه، ولبس العمامة المحنكة، أو ذات الذؤابة، لم يَسُغْ له المسح عليها حتى ينزعها، فيلبَسها ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 197)، والحميدي في "مسنده" (758). ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 282)، وابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 129)، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موقوفاً.

بعد كمال طهارته، ولأنه لا يصدُق على عضو من أعضاء الوضوء أنه طاهر إلا بعد كمال طهارة سائر الأعضاء، وأما قبل ذلك، فطهارته متوقفةٌ ومراعية بكمال طهارة بقية أعضاء الوضوء، حيث قلنا بالترتيب، وهو الصحيح المعتمد على ما تقدم.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَن حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قالَ: "كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَالَ، وَتَوَضَّأَ، وَمسَحَ على خُفَّيْهِ" (¬1). مُختَصَرٌ. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (222)، كتاب: الوضوء، باب: البول قائماً وقاعداً، و (223)، باب: البول عند صاحبه، والتستر بالحائط، و (224)، باب: البول عند سباطة قوم. (2339) كتاب: المظالم، باب: الوقوف والبول عند سباطة القوم. قلت: وليس في شيء من ألفاظه ذكر المسح على الخفين، كما سيأتي في الشرح. وقد رواه مسلم (273)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، باللفظ الذي سيذكره الشارح قريباً، واختصوه صاحب "العمدة"، كما أشار. ورواه أيضاً: أبو داود (23)، كتاب: الطهارة، باب: البول قائماً، والنسائي (18)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ترك ذلك، و (26، 27، 28)، باب: الرخصة في البول في الصحراء قائماً، والترمذي (13)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ذلك، وابن ماجه (305)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في البول قائماً. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 20)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 360)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 83)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 525)، و"شرح مسلم"، للنووي (3/ 167)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 72)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 38)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 328)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 134)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 109).

(عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -) صاحبِ سرِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) في سفرٍ، (فبالَ، وتوضأ). كذا في نسخ "العمدة" على مارأيته، والذي في "صحيح مسلم"، و"الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق من حديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فانتهى إلى سُبَاطَةِ قومٍ، فبالَ قائماً، فتنحيتُ، فقال: "ادْنُهْ"، فدنوت حتى قمتُ عند عَقبِهِ، فتوضأ، فمسح على خفيه. قال الحافظ عبد الحق: لم يذكر البخاري المسحَ في حديث حذيفة (¬1). وفي "مسلم" أيضاً، عن أبي وائل، قال: كان أبو موسى يشدِّد في ¬

_ (¬1) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق (1/ 216). قال الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 38): وعلى هذا فلا يحسن من المصنف عدُّ هذا الحديث في هذا الباب من المتفق عليه. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 328): ولعلَّ البخاري اختصره لتفرد الأعمش به، فقد روى ابن ماجه من طريق شعبة: أن عاصماً رواه عن أبي وائل، عن المغيرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قوم، فبال قائماً. قال عاصم: وهذا الأعمش يرويه عن أبي وائل، عن حذيفة، وما حفظه؛ يعني: أن روايته هي الصواب، قال شعبة: فسألت عنه منصوراً، فحدثنيه عن أبي وائل، عن حذيفة؛ يعني: كما قال الأعمش، لكن لم يذكر فيه المسح، فقد وافق منصور الأعمشَ على قوله: "عن حذيفة" دون الزيادة، ولم يلتفت مسلم إلى هذه العلة، بل ذكرها في حديث الأعمش؛ لأنها زيادة من حافظ، وقال الترمذي: حديث أبي وائل، عن حذيفة أصحُّ -يعني: من حديثه عن المغيرة-، وهو كما قال، وإن جنح ابن خزيمة إلى تصحيح الروايتين؛ لكون حماد بن أبي سليمان وافق عاصماً على قوله: عن المغيرة، فجاز أن يكون أبو وائل سمعه منهما، فيصح القولان معاً. لكن من حيث الترجيح: رواية الأعمش ومنصور؛ لاتفاقهما، أصح من راوية عاصم وحماد؛ لكونهما في حفظهما مقال، انتهى.

البول، ويبول في قارورة، ويقول: إن بني إسرائيل كان إذا أصاب جلدَ أحدهم بولٌ، قَرَضَه بالمقاريض، فقال حذيفة: لَوَدِدْتُ أن صاحبكم لا يشدِّد هذا التشديدَ، فلقد رأيتُني أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نتماشى، فأتى سُباطةَ قومٍ خلفَ حائط، فقام كما يقوم أحدُكم، فبال، فانتبذُت منه، فأشار إلي فجئتُ، فقمت عند عَقِبيه حتى فرغ (¬1)، ترجم البخاري عليه: باب البول قائماً وقاعداً، وباب البول عند صاحبه، وباب البول عند سباطة قومٍ، وقال في بعض طرقه عن حذيفة: فبال قائماً، ثم دعا بماءٍ، فأتيته (¬2). (فتوضأ)؛ أي: من ذلك الماء الذي أتيتُه به، زاد مسلمٌ: (ومسح)، وفي لفظٍ - بالفاء - (على خفيه). قال الحافظ المصنف - رحمه الله تعالى -: (مختصرٌ)؛ أي: هذا مختصرٌ من حديث حذيفة - رضي الله عنه -، وقد ذكرته بطوله - كما ترى -. و"السُّباطة": ملقى القمامة والتراب. والعرب تستشفي لوجع الصُّلْب بالبول قائماً (¬3). وفي حديث حذيفة تصريحٌ بجواز المسح عن حدث البول. وفي حديث صفوان بن عَسَّالٍ (¬4) -بالعين المهملة والسين المشددة-، ما يقتضي جوازه عن حدث الغائط، وعن النوم أيضاً. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (273)، (1/ 228)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين. (¬2) تقدم تخريج طرقه عند البخاري في حديث الباب. (¬3) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 101)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 165)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 330). (¬4) تقدم تخريجه في صدر الباب.

تنبيهات: الأول: قد أشرنا -فيما تقدم- إلى اشتهار المسح على الخفين، وصيرورته من شعار أهل السنة، حتى يذكروه في العقائد إرغاماً لمن خالف فيه من الرافضة، قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - في رواية الميموني: سبعة وثلاثون نفساً يروون المسحَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال ابن عبد البر: نحو من أربعين (¬2). وروى ابن المنذر، عن الحسن، قال: حدثني سبعون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه مسح على الخفين (¬3). وذكر ابن عبد البر عنه: أنه قال: أدركتُ سبعين رجلاً من أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - يمسحون على الخفين (¬4). وقال الإمام أحمد: ليس في قلبي من المسح شيءٌ، فيه أربعون حديثاً عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رفعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما وقفوا (¬5). قال في "تنقيح التحقيق": قد روى حديثَ المسح: عمرُ، وعليٌّ، وسعدٌ، وبلالٌ، وثوبانُ، وعبادةُ بنُ الصامت، وحذيفةُ، وأنسٌ، وسهل بنُ سعد، وأسامةُ بنُ زيد، وأسامةُ بنُ شريك، وصفوان بنُ عَسَّال، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 249). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (11/ 137). (¬3) رواه ابن المنذر في "الأوسط" (1/ 433). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (11/ 137). (¬5) انظر "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 184). وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 174).

وأبو أمامةَ، وجابرٌ، وعمرُ وبنُ أمية، في آخرين (¬1). قال ابن عبد البر: عمل بالمسح على الخفين: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر أهل بدر، وأهلُ الحديبية، وغيرُهم من المهاجرين والأنصار - رضوان الله عليهم أجمعين - (¬2). واحتجت الإمامية بما رُوي عن علي - رضي الله عنه -: أنه قال: ما أبالي مسحتُ على الخفين، أو على ظهر حمار (¬3). وجواب هذا: أنه قد صح عن علي - رضي الله عنه - حديثُ المسح، وما ذكروه عنه لا يصحُّ ولا يثبت. واحتجوا أيضاً: بما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: سبقَ كتابُ الله المسحَ، وما أبالي أمسحتُ على الخفين، أو على ظهر بختي هذا (¬4)، وأنه قال: قد مسحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين، واللهِ! ما مسح بعد المائدة (¬5). فأثبتَ مسحَه - صلى الله عليه وسلم -، وادَّعى النسخَ. والجواب: أن هذا لم يصحَّ عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - (¬6)، ولو ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 184). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (11/ 137). (¬3) ذكره ابن الجوزي في "التحقيق" (1/ 206). وقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1952)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1949). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 323)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12287). (¬6) قال البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 272): إن ابن عباس كره المسح حين لم يثبت له مسح النبي على الخفين بعد نزول المائدة، فلما ثبت له، رجع إليه، ثم ساق بإسناده رجوع ابن عباس إلى المسح على الخفين.

صح، فقد روى البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -: أنه بالَ، ثم توضأ، ومسح على خفيه، قال: تفعل هذا؟ قال: نعم، رأيت رسول الله بالَ، ثم توضأ، ومسح على خفيه. قال الأعمش: قال إبراهيم: فكان يعجبُهم هذا الحديث؛ لأن إسلامَ جريرٍ كانَ بعدَ نزول المائدة (¬1). قال الحافظ ابن الجوزي في "التحقيق": فجريرٌ أعلمُ بحال نفسِه، وقد ذكر أنه روى المسح، وقال: أسلمتُ بعد [المائدة] (¬2). وفي النسائي: وكان أصحاب عبد الله -يعني: ابنَ مسعود رضي الله عنه - يعجبهم قولُ جرير، وكان إسلامُ جرير قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بيسير (¬3). ولأبي داود قالوا: إنما كان ذلك قبل نزول [المائدة]، قال: ما أسلمتُ إلا بعد نزول [المائدة] (¬4). وللإمام أحمدَ، عن جرير - رضي الله عنه -، قال: ما أسلمتُ إلا بعد أن نزلت المائدة، وأنا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح بعد ما أسلمت (¬5). قال أهلُ السِّيَر: كان إسلام جرير في آخر سنة عشر، وقيل: في أولها، وقيل: قي أول سنة إحدى عشرة، وفيها مات النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (380)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الخفاف، ومسلم (272)، كتاب الطهارة، باب: المسح على الخفين، وهذا لفظ مسلم. (¬2) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 206). (¬3) رواه النسائي (118)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين. (¬4) رواه أبو داود (154)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 363)، والطبراني في "المعجم الكبير" (2503). (¬6) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 217).

وجزم ابن عبد البر بأنه أسلم قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعين يوماً (¬1)، كذا قيل. قلت: وهذا ليس بشيءٍ؛ فقد ثبت في "الصحيحين": أنه - صلى الله عليه وسلم - قال له في حجة الوداع: "استَنْصِتِ الناسَ" (¬2). وجزم الواقدي بأنه أسلم، ودخل على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان سنةَ عشر، وأنَّ بعثه إلى ذي الخَلَصَة كان بعد ذلك، وأنه وافى مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع من عامه (¬3). قلت: واعتمد هذا، وجزم به الحافظُ ابن الجوزي في "الوفا" (¬4)، و"المنتخب" وغيرهما. قال ابن الجوزي: روى جرير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث. والحاصل: تأخرُ إسلام جرير عن إنزال سورة المائدة على كلِّ قولٍ، والله الموفق. وروى الإمام أحمد، من حديث عوف بن مالك الأشجعيِّ: أن ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 237). (¬2) رواه البخاري (121)، كتاب: العلم، باب: الإنصات للعلماء، ومسلم (65)، كتاب: الإيمان، باب: بيان معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". (¬3) انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 475) قال الحافظ: وفيه عندي نظر؛ لأن شريكاً حدث عن الشيباني، عن الشعبي، عن جرير، قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أخاكم النجاشي قد مات ... " الحديث، أخرجه الطبراني، فهذا يدل على أن إسلام جرير كان قبل سنة عشر؛ لأن النجاشي مات قبل ذلك. (¬4) انظر: "الوفا بأحوال المصطفى" لابن الجوزي (2/ 753).

رسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك، ثلاثةَ أيامٍ ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم (¬1). قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: هذا أجود حديث في المسح؛ لأنه في غزوة تبوك، وهي آخر غزاة غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ورواه الطبراني (¬3). الثاني: جوزَ الإمام مالك المسح سفراً، وعنه في جوازه حضراً روايتان، وقد تظافرت الأخبار وتظاهرت الآثار عن النبي المختار، وعن أصحابه الأطهار - صلوات الله وسلامه عليه وعليهم - ما تعاقب الليل والنهار، بجواز المسح حضراً وسفراً؛ في الحضر يوماً وليلة، وفي السفر الذي تقصر فيه الصلاة ثلاثة أيامٍ بلياليها. الثالث: لابد من لبسهما بعد كمال الطهارة -كما قدمنا-. وقال أبو حنيفة: لا يشترط ذلك، وتقدم حديث صفوان بن عسالٍ - رضي الله عنه -. الرابع: يمسح ظاهرُ الخف دونَ باطنه. وقال مالك والشافعي: يمسح الظاهر والباطن. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (27/ 6)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1853)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 40)، وفي "المعجم الأوسط" (1145)، والدارقطني في "سننه" (1/ 197)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 275). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 177)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 187). (¬3) كما تقدم تخريجه قريباً.

لنا: حديث عمر - رضي الله عنه -: سمعتُ رسولَ الله (¬1) ... وقال - رحمه الله -: يصح المسح أيضاً على خُمُر النساء المُدارة تحت حُلوقهن؛ لأن أم سَلَمة - رضي الله عنها - كانت تمسح ظاهر خمارها، كذا ذكره ابن المنذر (¬2). ولحديث: "امسحوا على الخفين والخمار" رواه الإمام أحمد (¬3)، ولأنه ساترٌ يشق نزعه (¬4). ولابد من كون العِمامة كالخِمار محنكتين، إلا أن تكون العمامة ذاتَ ذُوابة؛ لأنها المعهودة إذ ذاك، ولتخرج عن كونها صماء (¬5)، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) هنا سقط واضح من الأصل المخطوط في المكتبة الظاهرية، وتتمة الكلام: كما نقله الشارح من "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 212): "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالمسح على ظهر الخف"، انتهى. وقد رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 195)، وابن الجوزي في "التحقيق" (1/ 208). (¬2) انظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 471). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 12)، وعبد الرازق في "المصنف" (737)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1068)، عن بلال - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 186 - 187)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 112). (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 186)، و"المبدع" لابن مفلح (1/ 149).

باب المزي وغيره

باب المزي وغيره مِنْ تَخَيُّل الشخص ما ينقض طهارتَه، وحكم بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، وتطهير الأرض ونحوها إذا تنجست، وحديثِ الفطرة، ومن الخِتانِ، وغيرِه. قوله: "المَذْي" هو -بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء على المشهور-، وقيل:-بكسر الذال وتشديد الياء المثناة تحت-: الماء الذي يخرج من الذَّكَر عند الإنعاظ (¬1). وفي "النهاية": هو -بسكون الذال مخفف الياء-: البَلَلُ اللزجُ الذي يخرج من الذَّكَر عند ملاعبة النساء (¬2). وذكر الحافظ في هذا الباب ستة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 75). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 312).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: كنتُ رَجُلاً مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؛ لِمكانِ ابْنَتِهِ مِنِّي، فَأَمَرْتُ المِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: "يَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَيَتَوَضَّأُ" (¬1). وللبخاريِّ: "اغْسِلْ ذَكَرَكَ، وَتَوَضَّأ" (¬2). ولمُسْلِمٍ: "تَوَضَّأْ، وَانْضَحْ فَرْجَكْ" (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (303)، كتاب: الحيض، باب: المذي. (¬2) رواه البخاري (226)، كتاب: الغسل، باب: غسل المذي والوضوء منه، لكن بلفظ: "توضأ واغسل ذكرك"، وسيأتي تنبيه الشارح عليه. (¬3) رواه مسلم (303)، (1/ 247)، كتاب: الحيض، باب: المذي، والنسائي (438)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: الوضوء من المذي. وقد رواه البخاري (132)، كتاب: العلم، باب: من استحيا فأمر غيره بالسؤال، و (176)، كتاب الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، ومسلم (303)، (1/ 247)، كتاب: الحيض، باب: المذي، وأبو داود (207، 208، 209)، كتاب: الطهارة، باب: في المذي، والنسائي (156، 157)، كتاب: الطهارة، باب: ما ينقض الوضوء، وما لا ينقض الوضوء من المذي، و (435، 436، 437، 438، 439، 440)، كتاب: الغسل واليمم، باب: الوضوء من المذي، وابن ماجه (504)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من المذي، بألفاظ وطرق مختلفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 73)، و"الاستذكار" لابن =

(عن) سيدنا الإمام (علي) الهمام (- رضي الله عنه -) أمير المؤمنين (ابنِ أبي طالب)، واسم أبي طالب: عبد مناف، وقيل: اسمه كنيتة، وأبوه عبد المطلب، وفيه يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وولده الذكور أربعة: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلي. وفيهم لطيفةٌ، وهو أن كل واحدٍ أكبر ممن بعده بعشر سنين، فطالبٌ أكبر من عَقيل بعشر سنين، ثم عَقيلٌ، ثم جعفرٌ، ثم عليٌّ، وأشرفهم عليٌّ، ثم جعفرٌ، فعقيلٌ، وطالبٌ لم يسلم، فلا شرف له، والإناث: أم هانىء، وحمامة. وأم الجميع فاطمةُ بنتُ أَسَدِ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ مناف، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، أسلمت وهاجرت، ولما توفيت في حياة وسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألبسها قميصه، واضطجع معها في قبرها، فسُئل عن ذلك، فقال: "لم يكنْ بعدَ أبي طالب أَبَرَّ لي منها؛ فألبستُها قميصي؛ لتكتسيَ من حُلَل الجنةِ، واضطجعتُ معها؛ ليهون عليها" (¬1)، وهي التي سَمَّتْ عَلِيّاً حيدرةَ. ¬

_ = عبد البر (1/ 238)، و"المنتقى شرح الموطأ" لأبي الوليد الباجي (1/ 378)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 174)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 136)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 562)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 212)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 75)، و"فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب (1/ 304)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 39)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 379)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 214)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 65)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 63). (¬1) ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 1089) فقال: روى سعدان بن الوليد السابري، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، به. قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (2/ 118): هذا غريب.

قال ابن قتيبة: ولد عليٌّ وأبو طالب غائب، فسمته أمه حيدرةَ، فلما قدم أبوه، كره هذا الاسم، وسماه علياً. وحيدرةُ من أسماء الأسد، وهو أشجعها؛ ولذا قال سيدنا علي - رضي الله عنه - يوم خيبر: [من الرجز] أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ ... كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَهْ أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ (¬1) والسَّندرة: شجرٌ يُعمل منها القِسِيُّ. كان سيدنا علي - رضوان الله عليه - من الخلفاء الراشدين، والعشرةِ المبشرين، والأئمةِ المَهْديين، والشجعانِ المشهورين، والعلماء المتبحِّرين. يكنى بأبي تُراب، كناه بذلك سيدُ العالم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وكان لعلي - رضي الله عنه - من الولد أربعون إلا ولداً، أشرفُهم: الحسنُ، والحسين - رضوان الله عليهم أجمعين -. وعند جَمْعٍ: أنه أولُ من أسلم - رضي الله عنه -. والتحقيق: أن الصِّدِّيقَ الأكبرَ أولُ من أسلم من الرجال، وعلياً من الصبيان، وخديجة من النساء، وزيدَ بن حارثة من الموالي، وبلال بن حمامة -وهي أمه، وأبوه اسمه: رباح- من العبيد. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1807)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذي قرد وغيرها. (¬2) رواه البخاري (3500)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -.

وقد قال له - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: "لا يحبُّك إلا مؤمنٌ، ولا يُبغضك إلا منافقٌ" (¬1). ومناقبه - رضي الله عنه - لا تنحصر، وقد أُفْرِدَت بالتأليف. بويع له بالخلافة بعد عثمان، فوليها أربعَ سنين، وسبعةَ أشهر، وأياماً، وقيل: خمسة، وقيل: تسعة، وقيل: ثلاثة، أو غير ذلك. ثم قتله عبدُ الرحمن بن مُلْجِم ليلةَ الجمعة، فتُوفي ليلة الأحد، التاسع عشر من شهر رمضان، سنة أربعين، عام الجماعة، وله ثلاث وستون سنة على المشهور - رضي الله عنه - (¬2). (قال) علي - رضي الله عنه -: (كنت رجلاً مذاءً)؛ أي: كثير خروج المذي من ذَكَري. قال في "النهاية" مَذَّاء: فَعَّال للمبالغة في كَثْرَة المَذْي، وقد مذى الرجل يَمْذي وإمذاءً، والمذاء المماذاة: فَغَال منه (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (78)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي - رضي الله عنه - من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق، عن علي - رضي الله عنه -. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 19)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 259)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 61)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1089)، و"الثقات" لابن حبان (2/ 302)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 133)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (72/ 7)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 308)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 87)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 315)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 472)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 564)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (7/ 294). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 312). وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 300)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 38)، =

قال علي - رضي الله عنه -: (فاستَحييت) هي اللغة الفصحى، وقد يقال: استَحَيْتُ؛ من الحياء، وهو لغةً: تغيرُ وانكسارٌ يعتري الإنسانَ من خوف ما يُعاب به، وشرعاَّ: خُلُق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق (¬1) (أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عن حكم ذلك؛ المكان ابنته) - صلى الله عليه وسلم -، وهي فاطمة الزهراء - عليها السلام - (مِنِّي) (¬2). وفي روايةٍ لمسلم من طريق ابن الحنفية، عن علي: من أجل فاطمة - عليها السلام -. وفيه: استعمالُ الأدب ومحاسن العادات في ترك المواجهة مما يُستحيا منه عرفاً. (فأمرت المقداد بنَ الأسود) وليس الأسود - الذي اشتُهر به - أباه، وإنما هو المقدادُ بنُ عمرِو بنِ ثعلبةَ الكِنْديُّ، وقيل: القضاعيُّ، وذلك أن أباه حالفَ كندةَ، فنُسب إليها، وحالف المقدادُ الأسودَ بنَ عبدِ يغوثَ بنِ وهب بن مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة الزهريَّ، فقيل للمقداد: الزهري، ومن هنا عُلم سبب اشتهاره بابن الأسود، للحلف المذكور. أسلم - رضي الله عنه - قديماً، شهد بدراً، ولم يثبت أنه شهدها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فارسٌ غيرُه، وقد قيل: بل الزبير أيضاً كان فارساً، وشهد المقداد أحُداً، والمشاهدَ كلَّها، وكان من الفضلاء النجباء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ = و"لسان العرب" لابن منظور (15/ 274). (¬1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 76)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 75)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 52). (¬2) زيادة "مني" ليست عند البخاري ومسلم، وهي عند النسائي في "سننه" برقم (435)، وقد تقدم تخريجها عنده في حديث الباب.

روى عنه: عليٌّ، وغيره من الصحابة. رُوي له اثنان وأربعون حديثاً، اتفقا على واحد، ولمسلمٍ ثلاثة، مات بالجُرُف -بضم الجيم والراء - على ثلاثة أميال من المدينة، وقيل: عشرة أميال، فحمل على رقاب الناس، ودُفن بالبقيع، سنة ثلاثٍ وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - (¬1). (فسأله)؛ أي: سأل المقدادُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن حكم المذي. ووقع في رواية لأبي داود، والنسائي، وابن خزيمة ذكرُ سبب سؤاله، من طريق حصين بن قَبيصة، عن علي - رضي الله عنه -، قال: كنت رجلاً مذاءً، فجعلتُ أغتسل منه في الشتاء، حتى تشقَّق ظهري، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفعل" (¬2). ووقع في رواية النسائي: أن علياً قال: أمرتُ عماراً أن يسأل (¬3)، وفي ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 161)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 371)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 172)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1480)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (60/ 159)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 423)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 242)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 414)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 452)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 385)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 202)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (10/ 254). (¬2) رواه أبو داود (206)، كتاب: الطهارة، باب: في المذي، وابن خزيمة في "صحيحه" (20). وقد رواه النسائي في "سننه" بألفاظ مختلفة كما تقدم في حديث الباب، وليس في شيء منها هذا اللفظ الذي ساقه الشارح نقلاً عن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 380). (¬3) تقدم تخريجه في حديث الباب.

رواية لابن حبان والإسماعيلي: أن علياً قال: سألتُ (¬1)، وجمع ابنُ حِبَّانَ بين هذا الاختلاف أن علياً أمر عماراً أن يسأل، ثم أمر المقدادَ بذلك، ثم سأل بنفسه، وهو جمع جيد لولا آخره؛ لأنه ينافي قوله: إنه استحى من السؤال بنفسه لأجل فاطمة، فيتعين حملُه بأن بعض الرواة أطلق أنه سأله؛ لكونه الآمرَ بذلك (¬2)، وبه جزم الإسماعيلي، ثم النووي (¬3)، ويؤيده أنه أمر كلاً من المقداد وعمارٍ بالسؤال عن ذلك ما رواه عبد الرزاق، من طريق عائش بن أنس، قال: تذاكر عليٌّ والمقدادُ وعمارٌ المذيَ، فقال علي: إنني رجلٌ مذاءٌ، فاسألا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله أحد الرجلين (¬4). وصحح ابن بشكوال أن الذي تولى السؤال عن ذلك المقدادُ (¬5). وعلى هذا، فنسبة عمار إلى أنه سألَ عن ذلك محمولةٌ على المجاز؛ لكونه قصده، لكن تولى المقداد الخطابَ دونه (¬6) (فقال) - صلى الله عليه وسلم - مجيباً لسؤال المقداد: (يغسل ذَكَرَه)؛ أي: عليٌّ، إن كان أفصحَ بذكره. والأظهر: ما في رواية لمسلم من طريق ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن علي - رضي الله عنه -: فسأله عن المذي يخرج من الإنسان (¬7)، وفي ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1102). (¬2) انظر: "صحيح ابن حبان" (3/ 386). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 213). (¬4) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (597). (¬5) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 513 - 514). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 380). (¬7) تقدم تخريجه في حديث الباب.

"الموطأ" نحوه (¬1)، (ويتوضأ)؛ لأنه نجاسةٌ خارجةٌ من أحد السبيلين ناقضةٌ للطهارة الصغرى. وفيه دليل على عدم وجوب الغسل منه، وأنه نجسٌ؛ للأمر بغسل الذَّكَر منه. قال الحافظ - رحمه الله تعالى -: (ولـ) ــــــلإمام (البخاري): أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للمقداد بن الأسود - رضي الله عنه - بصيغة الخطاب، والمراد: ما يعمم كلَّ من خرج منه المذي: (اغسلْ ذَكَرَكَ)، وظاهره: ولو لم يصبه من الخارج شيء، وأنه لكل الذكر، (وتوضَّأْ)، والذي في نسخ البخاري: "توضأ، واغسلْ ذكرك" بتقديم الأمر بالوضوء على غَسل الذكر، وفي "شرح البخاري": وقع في "العمدة": تقديمُ غسل الذكر على الوضوء، ونسبه للبخاري، لكن الواو لا تفيد الترتيب، فالمعنى واحد، وهي رواية الإسماعيلي، فيجوز تقديمُ الوضوء على غسله، لكن من يقول: إن مس الذكر ينقض الوضوء، يشترط أن يكون ذلك بحائل (¬2). (ولـ) لإمام (مسلم) بلفظ: (توضأ، وانضَحْ فَرْجَك). قال الحافظ عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين": لم يذكر البخاري النضحَ (¬3). قال في "النهاية": الانتضاح بالماء: هو أن يأخذ قليلاً من الماء، فيبرش به مذاكيره، وهذا قاله في الانتضاح المندوب بعد الاستنجاء لدفع ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 40). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 380). (¬3) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 231 - 232)، حديث رقم (411).

الوسوسة، وقد نضح عليه الماءَ، ونضحه به: إذا رَشَّه عليه، وقد يرد النضحُ بمعنى الغسل والإزالة، ومنه حديث الحيض: "ثم لتنضحْه" (¬1)؛ أي: تغسله، وحديث: ونضحَ الدمَ عن جبينه (¬2). والمراد بالفرج هنا: الذكر. والصيغة لها وضعان؛ لغوي وعرفي: فاللغوي: مأخوذٌ من الانفراج، فيدخل فيه الدبر، ويلزم منه انتقاضُ الطهارة بمسِّه، لدخوله تحت قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من مَسَّ فرجَهُ فليتوضأ" (¬3). والعرفي: استعمالُه في القبل غالباً من الرجل والمرأة، والمراد: الثاني، والله أعلم. تنبيهات: أحدها: ظاهر الحديث: وجوبُ غسل الذكر كله، ولهذا أوجبنا ذلك على أصح الروايات، كالمالكية، وزدنا عليهم: بغسل الأنثيين أيضاً. وخالف في ذلك الحنفيةُ والشافعيةُ، فلم يوجبوا استيعابَ الذكَر؛ نظراً ¬

_ (¬1) رواه البخاري (301)، كتاب: الحيض، باب: غسل دم المحيض، ومسلم (291)، كتاب الطهارة، باب: نجاسة الدم وكيفية غسله، عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -. (¬2) رواه مسلم (1792)، (3/ 1417)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة أحد، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. وانظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 68 - 69). (¬3) رواه أبو داود (181)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر، والنسائي (444)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: الوضوء من مس الذكر، وابن ماجه (479)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من مس الذكر، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 406)، من حديث بسرة بنت صفوان - رضي الله عنها -.

منهم إلى أن الموجب لغسله إنما هو خروجُ الخارج، فلا يجب المجاوزةُ إلى غير محله. ولنا: أن الأصل في الأشياء الحقيقةُ، وحقيقةُ الذكَر استيعابه بالغسل؛ كما هو صريح الحديث. واختلف القائلون بذلك؛ هل هو معقول المعنى، أو للتقييد؟ وعلى الثاني، هل تجب فيه النية أو لا؟. عندنا: لا نية له. وقال الطحاوي من الحنفية: لم يكن الأمر بغسله لوجوب غسله كلِّه، بل ليتقلص فيبطل خروجه؛ كما في الضرع إذا غسل بالماء البارد، فينقبض اللبن إلى داخل الضرع، فينقطع خروجه (¬1). ولنا: أن هذه مكلَّفات جدليةٌ، وتخيلاتٌ وهميةٌ، لا يدل عليها منطوقُ الحديث، ولا مفهومُه. وقد قلنا: إن اسم الذكَر حقيقةٌ في العضو كله. وفي حديث علي - رضي الله عنه -: كنت رجلاً مذاءً، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرت المقدادَ بنَ الأسود، فسأله، قال: "يغسل ذكره وأُنثييه، ويتوضأ" رواه أبو داود (¬2). فهذا دليلٌ على المذهب. وفي "الفروع": المذيُ نجسٌ وفاقاً، ولا يطهر بنضحِه وِفاقاً، ولا يُعفى ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 381). (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب.

عن يسيره، خلافاً لأبي حنيفة (¬1)؛ أي: ولشيخ الإسلام. وصوبه في "الإنصاف"، قال: وخصوصاً في حق الشباب (¬2). قال: وهل يغسل ما أصابه وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي؟ أو ذكره كله وفاقاً لمالك؟ أو أنثييه؟ فيه رواياتٌ. قال: وأجيب عن أمره بغسلهما بمنع صحته، ثم لتبريدهما وتلويثهما غالباً؛ لنزوله مُتَسبْسِباً، انتهى (¬3). والذي استقر عليه المذهب: وجوبُ غسل الذكر والأنثيين مرةً واحدةً إن لم يصبهما. ثانيها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وانضحْ فرجك" إن أريدَ المحلُّ الذي أصابه المذي، فلا يجزىء إلا الغسل؛ كسائر النجاسات، فيكون النضحُ هنا بمعنى الغسل، وقد أشرنا إلى أنه يستعمل بمعنى ذلك، وإن أُريد نضحُ الذكَر والأنثيين على ما أسلفنا، فيجزىء النضح الذي هو دون الغسل؛ كنضح بول الغلام، على ما اختاره الشيخ وجمع (¬4). والمذهب: لابد من الغسل، ولكن يكتفي بمرةٍ واحدةٍ. ثالئها: استدل به أيضاً على وجوب الوضوء على مَنْ به سلسُ المذي؛ للأمر بالوضوء مع الوصف بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة. وتعقبه ابنُ دقيق العيد؛ بأن الكثرة هنا ناشئةٌ عن غلبة الشهوة، بخلاف ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 214). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 330). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 214). وقوله: مُتَسَبْسِباً؛ أي: سائلاً. (¬4) انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 98).

صاحب السَّلَسِ؛ فإنه ينشأ عن علة في الجسد (¬1). لكن من الممكن أن يقال: أمرُ الشارعِ بالوضوء، ولم يستفصل، يدلُّ على عموم الحكم (¬2). رابعها: استدل بالحديث على قبول خبر الواحد، وعلى جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع. وفيهما نظرٌ؛ لأن السؤال كان بحضرة علي، ثم لو صح كون السؤال كان في غيبته، لم يكن دليلاً على المدَّعى؛ لاحتمال وجود القرائن التي تحف الخبر، فترقِّيه عن الظن إلى القطع، قاله القاضي عياض (¬3). وقال ابن دقيق العيد: المرادُ به: الاستدلالُ به على قبول خبر الواحد، مع كونه خبر واحد: أنه صورة من الصور التي تدل، وهي كثيرةٌ تقوم الحجةُ بجملتها، لا بفردٍ معينٍ منها، وإلا لكان ذلك إثباتاً للشيء بنفسه، وهو محالٌ، وإنما ذكر صورةً مخصوصةً؛ للتنبيه على أمثالها، لا للاكتفاء بها، فليعلم ذلك، فإنه مما انتقد على بعض العلماء؛ حيث استدل بالمسألة بأخبارٍ آحادٍ، وقيل: قد أثبت خبر الواحد بخبر الواحد، وجوابه: ما ذكر، والله الموفق (¬4). خامسها: هل يجوز في المذي الاقتصارُ على الأحجار، أو لابدَّ من الاستنجاء بالماء؟. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 76). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 381). (¬3) انظر: "إكمال المعلم" (2/ 137). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 76 - 77).

المعتمد في المذهب: جوازُ الاقتصار على الأحجار في الخارج دون الذكر والأنثيين. وصحح ابن دقيق العيد عدمَ الجواز (¬1)؛ كالنووي في "شرح مسلم" (¬2)، وصحح في بقية كتبه الجوازَ؛ إلحاقاً له بالبول، وحمل الأمرَ بغسله على الاستحباب، أو أنه خرج مخرج الغالب. قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": وهذا هو المعروف في المذهب، يعني: مذهب الشافعي، والله أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق (1/ 77). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 213). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 380).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ المازِنيِّ، قَالَ: شُكِيَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجلُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيءَ فِي الصَّلاةِ، قالَ: "لا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً، أو يَجِدَ رِيحاً" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (137)، كتاب: الوضوء، باب: لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، و (175)، كتاب: الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، و (1951)، كتاب ت البيوع، باب: من لم ير الوساوس ونحوها من المشبهات، ومسلم (361)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث، فله أن يصلي بطهارته تلك، وأبو داود (176)، كتاب: الطهارة، باب: إذا شك في الحدث، والنسائي (160)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء من الريح، وابن ماجه (513)، كتاب: الطهارة، باب: لا وضوء إلا من حدث. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 64)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 257)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 607)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 49)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 78)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 41)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (1/ 660)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 237)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 250)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 255).

(عن عَبَّاد) -بفتح العين المهملة وتشديد الموحدة- (ابنِ تميمِ) بن زيد بن عاصمٍ المازنى؛ من مشاهير التابعين وثقاتهم، روى عن عمه عبدِ الله بن زيدٍ وغيرِه. وقد وقع اضطراب في كونه صحابياً أو تابعياً، وذكره الذهبيُّ في "التجريد في الصحابة"؛ فإنه قال: لقي يوم الخندق في السنة الخامسة وكان في الخامسة (¬1). واضطرب في نسبه أيضاً، وفي كون عبد الله بن زيد عمَّه من قِبَل أبيه، أو من قِبَلِ أمه، وفي صحبة أبيه (¬2)، (عن عبد الله بن زيد بن عاصمٍ) الأنصاريِّ (المازنيِّ)، وتقدمت ترجمته. (قال: شُكي) -بالبناء للمجهول-. وفي بعض طرق البخاري: أن عبد الله بن زيدٍ هو الشاكي، كما نبه عليه الحافظ عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين" (¬3). قال البخاري في كتاب الوضوء: عن عبد الله بن زيد: أنه شكا (¬4). قال الحافظ ابن حجر: كذا في روايتنا: شكا -بألف-، ومقتضاه: أن الراوي هو الشاكي. ¬

_ (¬1) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (1/ 291). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 81)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 141)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 243)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 108)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 612)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (5/ 79). (¬3) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 258)، حديث رقم (489). (¬4) تقدم تخريجها في حديث الباب برقم (137) عنده.

وصرح بذلك ابن خزيمة، عن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان، ولفظه: عن عباد بن [تميم، عن] (¬1) عمه عبد الله بن زيدٍ، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) متعلقٌ بشكي (الرجلُ) -بالضم- على الحكاية، وهو وما بعده في موضع نصبٍ (¬3) (يُخَيَّل) -بضم أوله وفتح المعجمة وتشديد الياء مفتوحةً-، وأصله من الخيال، والمعنى: يظن، والظن هنا أعمُّ من تساوي الطرفين، أو ترجيح أحدهما على أصل اللغة من أن الظن خلاف اليقين (إليه) متعلقٌ بيخيل ([أنَّه] يجد الشيء)؛ أي: الحدث خارجاً منه، وصرح به الإسماعيلي، ولفظه: يخيل إليه في صلاته أنه خرج منه شيء (¬4). وفيه: من مراعاة الأدب: العدولُ عن ذكر الشيء المستقذَر بخاصِّ اسمه إلا لضروةٍ. (في الصلاة) متعلقٌ بيجد، تمسك بظاهره بعض المالكية، فحصوا الحكمَ بمن كان داخل الصلاة، وأوجبوا الوضوءَ على مَنْ كان خارجها، وفرقوا بالنهي عن إبطال العبادة، والنهيُ عن إبطال العبادة متوقفٌ على صحتها، فلا معنى للتفريق بذلك؛ لأن هذا التخيل إن كان ناقضاً خارجَ الصلاة، فينبغي أن يكون كذلك فيها كبقية النواقض. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل، والاستدراك من "صحيح ابن خزيمة". (¬2) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (25). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 237). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 237). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

(قال) - صلى الله عليه وسلم - مجيباً للسائل: (لا ينصرفْ) - بالجزم - على النهي، ويجوز - الرفعُ - على أن "لا" نافية (¬1). وفي رواية للبخاريْ: "لا ينفتلْ، أو لا ينصرفْ" بالشكِّ من الراوي (¬2). قال الحافظ ابن حجر: وكأنه من علي؛ يعني: ابنَ عبد الله المدينيَّ العَلَمَ المشهور -، قال: لأن الرواة غيره رووه عن سفيان بلفظ: "لا ينصرف" من غير شكٍ (¬3)، يعني: بل يمضي في صلاته، ولا يلتفت إلى ما تخيل إليه. (حتى)؛ أي: إلى أن (يسمعَ صوتاً)؛ أي: من مخرجه، (أو يجدَ ريحاً) "أو": للتنويع، وعبر بالوجدان دون الشم؛ ليشمل كما لو لمس المحل، ثم شم يده، ولا حجة فيه لمن استدل به على أن لمس الدبر لا ينقض؛ لحمل الصورة على لمسِ ما قاربَ حلقةَ الدبر، لا عينَها، والذي ينقض الطهارة لمسُ حلقة الدبر دونَ ما قاربها. ودل هذا الحديث على صحة الصلاة ما لم يتيقن الحدث، وليس المراد تخصيص هذين الأمرين - أعني: سماعَ الصوتِ، ووِجْدانَ الريحِ باليقين -؛ لأن المعنى إذا كان أوسع من اللفظ، كان الحكم للمعنى، قاله الخطابي (¬4). وقال النووي: هذا الحديث أصلٌ في حكم بقاء الأشياء على أصولها ¬

_ (¬1) انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 42). (¬2) تقدم تخريجه عنده برقم (137) في حديث الباب. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 238). (¬4) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 64).

حتى يُتيقن خلافُ ذلك، ولا يضر الشكُّ الطارىء عليها، وأخذَ بظاهره جمهورُ العلماء (¬1). وروي عن الإمام مالك: النقضُ مطلقاً، وروي عنه: النقضُ خارج الصلاة دون داخلها (¬2). قلت: وهذا مقتضى ما ذكره عنه الإمام ابن مفلح في "فروعه" حيث قال: ومن شكَّ في طهارةٍ أو حدثٍ، بنى على أصله، ولو في غير صلاة؛ خلافاً لمالك، كمن به وَسْواسٌ، وفاقاً (¬3). فخصَّ النقض عنده بما إذا كان في غير صلاةٍ ما لم يكن به وسوسةٌ، فلا ينتقض الوضوء بالشك، وفاقاً لبقية الأئمة. قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": ورُوي هذا التفصيل عن الحسن البصري. قال البهاء البغدادي في "شرح الوجيز": إذا تيقن أنه توضأ، وشك هل أحدثَ أولا؟ بنى على أنه متطهر. وبهذا قال عامة أهل العلم. وقال الحسن: إن شك وهو في الصلاة، مضى فيها، وإن كان قبل الدخول فيها، توضأ. وقال مالك: إذا شك في الحدث إن كان يلحقه كثيراً، فهو على وضوئه، وإن كان لا يلحقه كثيرأ، توضأ؛ لأنه لا يدخل في الصلاة مع الشك، انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 49). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 238). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 153).

قال ابن دقيق العيد: على القول بطرح الشك إذا طرأ في داخل الصلاة خاصةً، هذا له وجهٌ حسنٌ، وهو أن القاعدة: أن مورد النص إذا وجد فيه معنى يمكن أن يكون معتبراً في الحكم، فالأصل يقتضي اعتباره وعدم اطراحه. قال: وهذا الحديث دليل على اطراح الشك إذا وجد في الصلاة، وكونه موجوداً في الصلاة معنًى يمكن أن يكون معتبراً، فإن الدخول في الصلاة مانعٌ (¬1) من إبطالها على [ما اقتضاه] (¬2) استدلالهم في مثل هذا بقوله - تعالى -: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، فصارت صحة الصلاة أصلاً سابقاً على حالة الشك مانعاً من الإبطال، ولا يلزم من إلغاء الشك مع وجود المانع من اعتباره إلغاؤه مع عدم المانع وصحة العمل ظاهراً معنى يناسب عدم الالتفات بالشك يمكن اعتباره، فلا يمكن إلغاؤه. قال: ومن أصحاب مالكٍ من قيد هذا الحكم -أعني: اطراح هذا الشك بقيدٍ آخر-، وهو أن يكون الشك في سبب حاضرٍ؛ كما في الحديث، حتى لو شك في تقدم الحدث على وقته الحاضر، لم تبح له الصلاة (¬3). وأطال في تقرير ذلك، مع أنه لا طائل تحته. وقد روى عن الإمام مالك ابنُ نافعٍ: لا وضوء عليه مطلقاً؛ كقول الجمهور. وروى ابن وهب عنه: أَحَبُّ إلي أن يتوضأ. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 238). (¬2) في الأصل: "مقتضاه"، والتصويب من "شرح العمدة" لابن دقيق. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 78 - 79).

قال الحافظ ابن حجر: ورواية التفصيل لم تثبت عنه، وإنما هي لأصحابه (¬1). قلت: هذا التفصيل لو لم ترد السنة باطراحه، كان يمكن التعلق به، فكيف وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وجدَ أحدُكم في بطنه شيئاً، فأشكلَ عليه أخرجَ منه شيءٌ أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمعَ صوتاً، أو يجدَ ريحاً" (¬2). قوله: "فلا يخرجن من المسجد"؛ أي: من الصلاة. وصرح بذلك أبو داود في روايته. قال الحافظ ابن حجر: قال [العراقي] (¬3): وما ذهب إليه مالكٌ راجحٌ؛ لأنه احتياطٌ للصلاة، وهي مقصِدٌ، وألغى الشك في السبب المبرىء، وغيرُه احتاط للطهارة، وهي وسيلةٌ، وألغى الشكَّ في الحدث الناقض لها، والاحتياط في المقاصد أولى من الاحتياط للوسائل. وجوابه: أن ذلك من حيث النظر قوي، ولكنه مغايرٌ لمدلول الحديث؛ لأنه أَمَرَ بعدم الانصراف إلى أن يتحقق (¬4). وفي "شرح الوجيز" عن علمائنا: الشيء إذا كان على حال، فانتقالُه عنها يفتقر إلى زوالها وحدوثِ غيرها، وبقائها، وبقاءُ الأولى ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 238). (¬2) رواه أبو داود (177)، كتاب: الطهارة، باب: إذا شك في الحدث. (¬3) في الأصل: "القرافى". (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 238).

لا يفتقر إلا إلى مجرد بقائها، فيكون أولى (¬1). وقد ورد في حديثٍ: "إنَّ الشيطان ينفخُ بين أليتي الرجل (¬2) "، يدل على إلغاء الشك، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 83)، و"المبدع" لابن مفلح (1/ 61). (¬2) قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 128): حديث: "إن الشيطان ليأتي لأحدكم فينفخ بين ألييه ..... "، قال ابن الرفعة في "المطلب": لم أظفر به، وقد ذكره البيهقي في "الخلافيات" عن الربيع، عن الشافعي: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره بغير إسناد، وكذلك ذكره المزني في "المختصر" عن الشافعي، نحوه بغير إسناد أيضاً، وفي الباب: عن أبي سعيد الخدري، وابن عباس. ا. هـ مختصراً.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ الأَسَدِيَّةِ: أَنَّهَا أَتَتْ بابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ؛ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في حِجْرِهِ، فَبَالَ على ثَوْبِه، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (221)، كتاب: الوضوء، باب: بول الصبيان، ومسلم (287)، (1/ 238)، كتاب: الطهارة، باب: حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله، وهذا لفظ البخاري. ورواه أبو داود (374)، كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي يصيب الثوب، والنسائي (302)، كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، والترمذي (71)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في نضح بول الغلام قبل أن يطعم، وابن ماجه (524)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 355)، و"المنتقى شرح الموطأ" للباجي (1/ 460)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 93)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 111)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 546)، و"شرح مسلم" للنووي 31/ 194)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 80)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 326)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 132)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 55).

(عن أم قيس): اسمها اَمنةُ كما قاله السهيلي في "الروض" (¬1)، وأبو القاسم الجوهري في "مسند الموطأ"، وقال ابن عبد البر: اسمها جذامة (¬2) (بنتِ مِحْصَن) -بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ثم نون- (الأسدية) نسبة إلى أسدِ بنِ خُزيمة، أختِ عُكَّاشةَ -بضم العين المهملة وتشديد الكاف وبالشين المعجمة - بنِ مِحْصَن بنِ حُرْثان -بضم الحاء المهملة وسكون الراء وبالثاء المثلثة-. أسلمت أم قيسٍ قديماً بمكة، وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهاجرت إلى المدينةِ. رُوي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة وعشرون حديثاً، اتفقا على حديثين منها (¬3). (أنها) - رضي الله عنها - (أتتْ بابنٍ لها صغيرٍ) صفة لابنٍ (لم يأكل الطعام)؛ أي: بشهوةٍ. وفي لفظٍ: أتت بابنٍ لها لم يبلغ أن يأكل الطعام (¬4) (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). قال البرماوي: لم نر مَنْ سَمَّاه. ¬

_ (¬1) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (2/ 252 - 253). (¬2) انظر: "التمهيد" (9/ 108)، و"الاستيعاب" كلاهما لابن عبد البر (4/ 1951). (¬3) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 242)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 459)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1951)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 368)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 379)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 280)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (12/ 502). (¬4) وهي رواية مسلم، كما تقدم تخريجها في حديث الباب.

(فأجلسه) لفظة: "فأجلسه" للبخاري وحده. وفي لفظٍ لمسلم: فوضعه؛ أي: أجلس ابنَها الصغير (رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حِجْره) -بفتح الحاء المهملة وكسرها وسكون الجيم -: هو الثوب، والحِضْن، وإذا أريد به المصدر، فالفتحُ لا غير، وإن أريد الاسم، فالكسرُ لا غير (¬1)، والمراد هنا: الحضن. (فبال)؛ أي: الصبيُّ (على ثوبه)؛ أي: النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، (فدعا) - صلى الله عليه وسلم - (بماء)؛ أي: فجيء به. (فنضحه)؛ أي: نضحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - البولَ الذي وقعَ من الصبي على ثوبه. والنضحُ: الرشُّ، وهو أن يغمره بالماء (¬2)، (ولم يغسله) - صلى الله عليه وسلم - الغسلَ المعهود، بل اكتفى برشِّ الماء عليه، بحيثُ غمرَ الماءُ المحلَّ الذي أصابه بولُ الغلام. وفي روايةٍ: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بماءٍ، فنضحه على ثوبه، ولم يغسِلْه غسلاً (¬3). وفي لفظٍ: فلم يزد على أن نضح الماء (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 342)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 167)، (مادة: حجر). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 602)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 68 - 69)، و"لسان العرب" لابن منظور (2/ 618)، (مادة: نضح). (¬3) وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها في حديث الباب. (¬4) وهي رواية لمسلم أيضاً.

وفي آخر: فدعا بماءٍ فَرَشَّه (¬1). وكل هذه الألفاظ في "الصحيحين" (¬2)، إلا أن البخاري لم يقل: غَسْلاً، وكلُّها تدل على الاكتفاء بالنضح والرش، ولم تحوج إلى الغسل، ومثله سواءٌ: * * * ¬

_ (¬1) وهي رواية لمسلم أيضاً. (¬2) تقدم أن هذه الألفاظ هي لمسلم فقط دون البخاري، إذ لم يروه البخاري إلا باللفظ الذي ساقه المصنف - رحمه الله -.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قالت: "أُتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِصبِيٍّ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ" (¬1). وَلِمُسْلِمٍ: "فَأَتْبَعَهُ بَوْلَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْه" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (220)، كتاب: الوضوء، باب: بول الصبيان، وهذا سياقه، و (5151)، كتاب: العقيقة، باب: تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه، وتحنيكه، و (5656)، كتاب: الأدب، باب: وضع الصبي في الحجر، و (5994)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء للصبيان بالبركة، ومسح رؤوسهم، والنسائي (303)، كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، وابن ماجه (523)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم. (¬2) رواه مسلم (286)، (1/ 237)، كتاب: الطهارة، باب: حكم بول الطفل الرضيع، وكيفية غسله. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 355)، و"المنتقى شرح الموطأ" لأبي الوليد الباجي (1/ 460)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 111)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 546)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 193)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 80)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 325)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 129)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 55).

(عن أم المؤمنين عائشةَ) الصديقة (- رضي الله عنها -، قالت: أُتي) بالبناء للمجهول (رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بصبي). قال البرماوي: يحتمل أن يكون المراد به: ابنَ أم قيس المذكورَ آنفاً، ويحتمل أن يكون المرادُ به في حديث عائشة هذا: عبدَ الله بنَ الزبير - رضي الله عنه - "لحديثها في "البخاري"، وغيره: أنه أُتي بابن الزبير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقباء ليُحَنِّكَهُ بتمرٍ وماء، فكان أولَ شيءٍ دخل جوفه ريقُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفي رواية الدارقطني: بال ابنُ الزبير على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخذته أخذاً عنيفاً، فقال: "إنه لم يأكل الطعام، فلا [يضرُّ بوله] (¬2) ". وفي رواية: " [لم] يطعم الطعام، فلا يُقذر بوله" (¬3). ويحتمل أن يكون الحسنَ؛ لحديث أم الفضل في "الطبراني": أنها أتت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! رأيتُ في المنام كأنَّ بَضْعَةً من جسدك قُطعت، فوُضعت في حِجْري، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيراً رأيت، تلدُ فاطمةُ - إن شاء الله - غلاماً، فيكون في حجرك"، فولدت حسناً، فكان في حجرها، فدخلت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبال عليه، فذهبتُ أتناوله، فقال: "دعي ابني؛ إنه ليس بنجس"، ثم دعا بماء، فصب عليه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5152)، كتاب: العقيقة، باب: تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه، وتحنيكه، ومسلم (2146)، كتاب: الآداب، باب: استحباب تحنيك المولود عند ولادته، لكن عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -. (¬2) في الأصل: "تضربوه"، والتصويب من "سنن الدارقطني". (¬3) رواهما الدارقطني في "سننه" (1/ 129)، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (25/ 27). ورواه أيضاً: ابن ماجه (3923)، =

قال: وقد ذكر الاحتمالين الأخيرين الحافظ قطب الدين عبد الكريم الحلبي، انتهى. قلت: الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم، وصححه من حديث أم الفضل لُبابةَ بنتِ الحارث، قالت: بال الحسينُ بنُ عليٍّ في حِجْر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! أعطني ثوبك والبسْ ثوباً غيرَه حتى أغسلَه، فقال: "إنما يُنْضَحُ من بولِ الذَّكَر، ويُغْسَلُ من بولِ الأنثى" (¬1). وفي "صحيح الحاكم" عن أبي السَّمْح، قال: كنت جالساً عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجيء بالحسن، أو الحسين، فبال على صدره، فأرادوا أن يغسلوه، فقال: "رُشُّوه رَشّاً؛ فإنه يُغْسَلُ بولُ الجاريةِ، ويُرَشُّ بولُ الغلام"، قال الحاكم: صحيحٌ. ورواه أهل السنن (¬2). (فبال). . . (¬3) يختلفان في حكم طهارة البول. كذا قال. ¬

_ = كتاب: تعبير الرؤيا، باب: تعبير الرؤيا، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 329)، وغيرهما. (¬1) رواه أبو داود (375)، كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي يصيب الثوب، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 339)، والحاكم في "المستدرك" (588). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (589). ورواه أبو داود (376)، كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي يصيب الثوب، والنسائي (304)، كتاب: الطهارة، باب: بول الجارية، وابن ماجه (526)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم. (¬3) هنا سقط واضح في الأصل المخطوط بالظاهرية بمقدار ورقة واحدة فقط، والكلام الآتي هو من تتمة الكلام السابق في الحديث عن التفرقة في غسل بول الأنثى، ونضح بول الذكر.

واقتصر ابن دقيق العيد على ما قيل: إن النفوس أعلقُ بالذكور منها بالإناث، فيكثر حملُ الذكور، فيناسب التخفيف بالاكتفاء بالنضح؛ دفعاً للعسر والحرج؛ بخلاف الإناث؛ فإن هذا المعنى قليلٌ فيهن، فيجري على القياس في غسل النجاسة. قال: وقد ذكروا في التفرقة بينهما وجوهاً، منها ما هو ركيكٌ جداً لا يستحق أن يذكر (¬1)، انتهى. قلت: من تلك الوجوه الركيكة: قول بعضهم: إن الغلام أصلُه من الماء والتراب، والجارية من اللحم والدم. مع أنه أفاده ابن ماجه في "سننه" (¬2)، وهو غريبٌ. والمعنى في ذلك: أن آدم خلق من الماء والتراب، وحواء خلقت من اللحم والدم. ورضي الله عن الإمام الشافعي حيث قال: لم يتبين لي فرقٌ من السنة بينهما (¬3)،انتهى. الثاني: حكم قيء الغلام الذي لم يأكل الطعام بشهوةٍ حكمُ بوله في الاكتفاء بنضحه، وهو غمرُه بالماء مرةً، وإن لم ينفصل الماء عن المحلِّ؛ لأن قيئه أخف من بوله، فيكتفى بنضحه بطريق الأولى، كما جزم به فقهاؤنا - رحمهم الله تعالى -. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 81 - 82). (¬2) وهو ما ساقه في "سننه" (1/ 174) بإسناده عن الإمام الشافعي: أنه سئل عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية"، فقال: لأن بول الغلام من الماء والطين، وبول الجارية من اللحم والدم. (¬3) انظر: "السنن الكبرى" للبيهتقي (2/ 416).

الثالث: قال في "تحفة المودود": لا يبطل حكمُ النضح بتلفيق الغسل والشراب والتحنيك ونحوه إلا بتعطلِ الرخصة؛ فإنه لا يخلو من ذلك مولودٌ غالباً، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من عادته تحنيك الأطفال بالتمر عند ولادتهم، وإنما يزول حكم النضح إذا أكل الطعام وأراده واشتهاه تغذياً به (¬1)، وهو معنى قول علمائنا: لم يأكل الطعام بشهوة. الرابع: تقدم أن معنى النضح: أن يغمره بالماء؛ كما قال في "الهداية": معنى النضح: أن تغرقه بالماء، وإن لم ينزل عنه. وفي "شرح العمدة" لخاتمة محققي المذهب العلامة الشيخ عثمان النجدي: غمرُ البول: سترُه بالماء، وإن لم ينفصل الماء عن محله. قال: والمراد: أنه يطهر بغسلة واحدة، ولا يحتاج إلى مَرْسٍ ولا عَصْرٍ (¬2)، انتهى. وهكذا قال سائر محققي المذهب. قال ابن القيم: قال الأصحاب وغيرهم: النضح: أن يغرقه بالماء وإن لم يزل عنه. قال: وليس هذا بشرط، بل النضحُ: الرشُّ؛ كما صرح به في اللفظ الآخر، بحيث يُكاثَرُ البول بالماء (¬3). قلت: وهو في التحقيق يرجع إلى ما قالوا. ¬

_ (¬1) انظر: "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص: 217). (¬2) انظر: "هداية الراغب شرح عمدة الطالب" لعثمان النجدي (1/ 138). (¬3) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 215 - 216).

وفسر بعض الشافعية النضحَ والرشَّ المذكور في الحديث: أن يغلب عليه من الماء ما يغلبه؛ بحيث لو كان بدل البول في الثوب نجاسة أخرى، وعصر الثوب، كان يحكم بطهارته، وهو بمعنى ما قال علماؤنا. والله أعلم.

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَبَالَ فِي طَائِفَةِ المَسْجدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلمَّا قَضَى بَوْلَهُ، أَمَرَ النَّبِى - صلى الله عليه وسلم - بِذَنُوبٍ مِنَ مَاءٍ؛ فأُهْرِيقَ عَلَيْه (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (219)، كتاب: الوضوء، باب: يهريق الماء على البول, وهذا لفظه. ورواه أيضاً: (216)، كتاب: الوضوء، باب: ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، و (218)، باب: صب الماء على البول في المسجد، و (5679)، كتاب الأدب، باب: الرفق في الأمر كله. ورواه مسلم (284، 285)، (1/ 236)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل البول وغيره من النجاسات، والنسائي (53، 54، 55)، كتاب: الطهارة، باب: ترك التوقيت في الماء، و (329)، كتاب: المياه، باب: التوقيت في الماء، وابن ماجه (528)، كتاب: الطهارة، باب: الأرض التي يصيبها البول كيف تغسل؟. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 358)، و"المنتقى" لأبي الوليد الباجي (1/ 462)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 107)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 543)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 190)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 82)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 43)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 323)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 124)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 24)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 53).

(عن) خادمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أنسِ بنِ مالك) الأنصاريِّ (- رضي الله عنه - قال: جاء أعرابي) منسوب إلى الأعراب، وهم سكان البوادي، ووقعت النسبة إلى الجمع دون الواحد، قيل: لأنه أُجري مجرى القبيلة، كأنمار. وقيل: لأنه لو نسب إلى الواحد، وهو عرب، لقيل: عَرَبي، فيشتبه المعنى، فإن العربيَّ كلُّ من هو من ولد إسماعيل - عليه السلام -، سواءٌ كان ساكناً بالبادية أو القرى. قاله ابن دقيق العيد (¬1). واعترض عليه: بأن ظاهر كلام الجوهري (¬2) وغيره: أن الأعراب ليس بجمع عرب، وأن أعراب لا واحد له من لفظه، كما في "البرماوي". وفي "القاموس": العُرب -بالضم-، و-بالتحريك-: خلاف العجم، وهم سكان الأمصار، أو عامّ، والأعراب منهم سكانُ البادية لا واحد له، ويجمع على أعاريب، انتهى (¬3). وفي لفظٍ في "الصحيحين": أن أعرابياً. وفي آخر: بينا نحن في المسجد، إذ جاء أعرابي، (فبال في طائفة المسجد)؛ أي: ناحيةٍ منه، وطائفةُ الشيء: القطعةُ منه. وفي لفظٍ لهما: أن أعرابياً بال في المسجد. وفي لفظٍ آخر: أن أعرابياً قام إلى ناحية في المسجد فبال فيها (¬4). (فزجره)؛ أي: نهاه (الناس). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 82). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 178)، (مادة: عرب). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 145)، (مادة: عرب). (¬4) تقدم تخريج هذه الروايات في حديث الباب.

قال في "المطالع": الزجر: النهيُ حيث وقع (¬1). وفي رواية لهما: فصاح به الناس. وفي أخرى: فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ. أي: اكفُفْ اكفُفْ. وفي لفظ للبخاري: فتناوله الناس (¬2)، (فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -) عن زجره والصياح به. وفي حديث أنس كما هو عندهما في رواية: فقام إليه بعض القوم، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "دعوه، لا تُزْرِمُوه" (¬3)، أي: لا تقطعوا عليه بوله. وفيه: المبادرة إلى إنكار المنكر عند من يعتقده منكراً، وتنزيهُ المسجد عن النجاسات وسائر القاذورات. وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن زجره؛ لأنه إذا قطع عليه البول، أدى إلى ضرر جسده، والمفسدة التي حصلت ببوله قد وقعت، فلا يُضم إليها مفسدةٌ أخرى، وهي ضررُ بنيته، وربما إذا زُجر مع ما ظهر منه من الجهل، يتنجس ببوله مكانٌ آخر، بل أمكنةٌ من المسجد بترشيش البول؛ لقلة فقهه ومبالاته بما يصدر منه من الجفاء، وعدم اكتراثه بآداب الشرع وحرمة المسجد، فكان الصواب ما شرعه - صلى الله عليه وسلم -، وأرشد إليه من عدم زجره،؛ بأن يُترك حتى يفرغ من بوله؛ فإن الرشاش لا ينتشر، مع ما في هذا من الإبانة عن جميل أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعظيم رحمته، ولطفه، ورفقة بالجاهل الجافي. فلما نهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن زجره، انكفُّوا وانتهَوْا عن ذلك؛ امتثالاً له - صلى الله عليه وسلم -، واستمر الأعرابي على حاله. ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 309). (¬2) تقدم تخريج هذه الروايات في حديث الباب. (¬3) تقدم تخريجها.

(فلما قضى) الأعرابي (بولَه) وفرغ منه، (أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: أمر بعضَ من حضر من القوم. فأُتي (بذنوب) -بفتح الذال المعجمة-: الدلو الكبيرة إذا كانت ملأى، أو قريباً من ذلك، ولا يسمى ذنوباً إلا إذا كان فيها ماء (¬1)، فلذا قال: (من ماء). وفي رواية: فلما فرغ، دعا بدلو من ماء. (فأُهريق) بالبناء للمجهول؛ أي: صُبَّ (عليه). وفي لفظٍ: "فصبه عليه". وفي آخر: "فصب على بوله". وفي رواية: "فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلوٍ من ماءٍ فشَنَّهُ" (¬2)؛ أي: صبه وفَرَّقه عليه. وأصل "أهريق": أُريق، فأبدلت الهمزة هاءً. يقال: هَراقَ يهريقُ وأَهْرقتُ الماءَ فأنا أُهْريقُه -بسكون الهاء فيهما- بمعنى: صبه وأفرغه، كما في "المطالع" (¬3). وفي "القاموس": هَراقَ الماء يهَريقه -بفتح الهاء- هِرَاقةً -بالكسر-، وأَهْرَقَه يُهْرِيقه إِهْراقاً، وأَهْراقه يُهْريقه اهرِياقاً، فهو مُهَرِيقٌ، وذاك مُهَراقٌ ومُهْراقٌ: صَبَّه، وأصله: أراقه يريقه إراقةً، وأصل أراق: أَرْيَقَ، انتهى مختصراً (¬4). وفي الحديث دليل على تطهير الأرض النجسة بالمكاثرة بالماء، وهو المسوق له. ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 178). (¬2) تقدم تخريج هذه الروايات في حديث الباب. (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 27). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1200)، (مادة: هرق).

قال علماؤنا: إذا تنجست الأرض، فعُمَّت بالماء مرةً، ولم يبق للنجاسة عينٌ، أو لا أثر من لون أو ريحٍ إن لم يعجز عن إزالتهما أو إزالة أحدهما، فإن عجز، أو كان مما لم يُزل إلا بمشقة، ألغي كما في "المبدع"، وطهر، ولو لم ينفصل الماء الذي غسلت به عين النجاسة؛ لظاهر الخبر؛ فإنه لم يأمر بإزالة الماء عنها. نعم، يضرُّ بقاء الطعم؛ لدلالته على بقاء العين، ولسهولة إزالته، فلا يحكم بطهارة المحل مع بقاء أجزاء النجاسة (¬1). قال في "شرح الوجيز"؛ كغيره: إذا تنجست الأرض، لا يعتبر فيها العدد، روايةً واحدةً، كما في "شرح الهداية" (¬2)، وُلوغاً كانَ أو غيرَه، نص عليه، وكذلك الأحواض المبنية، والأجرنة، نصَّ عليه، خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي في إيجابهما التسبيعَ من نجاسة الكلب والخنزير، وعند أبي حنيفة: ثلاثاً من الكل. وهذا الذي ذكرناه عن علمائنا هو المذهب؛ لهذا الحديث؛ ولأن الأرض مَصَبُّ الأنجاس، ومطارحُ الأقذار، فتعظُم المشقُّة فيها بالعدد، ولاسيما الأحواض والأجرنة، وما لا مصرف للغسالة النجسة بقربه؛ لأنا لو اعتبرنا العدد، فما قبل الأخيرة يكون نجساً، فتتفاقم المشقة بانتشار النجاسة، ولا جرم قلنا: تطهر بالمرة الواحدة، ويكون المنفصلُ طاهراً؛ بخلاف المنقولات، فإن نقلها وغسلَها عند الحفائر ومصارف الغسالات ممكنٌ، فلا تعظُم المشقةُ فيها بالعدد، انتهى ملخصاً. ¬

_ (¬1) انظر: "المبدع" لابن مفلح (1/ 329). (¬2) تقدم التعريف بـ: "شرح الهداية" للمجد ابن تيمية - رحمه الله -.

تنبيهان: الأول: اختلفوا في الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد: فقيل: إنه عُيينة بن حِصْن الفزاريُّ، وكان من الجُفاةِ المؤلَّفَةِ قلوبُهم، واسمُه حذيفة، وعُيينة لقبٌ له، ومنهم من أنكر هذا التفسير، وقال: لم يأت ذلك في طريق، وقد جزم بكونه ابنَ عيينة ابنُ فارس (¬1). وقال بعضهم: يُحتمل أن يكون هذا الأعرابي ذَا الخُوَيْصِرة، فقد روى أبو موسى [المديني في "الصحابة"] (¬2)، من حديث سليمان بن يسار، قال: اطلع ذو الخُويصرة اليماني - وكان رجلاً جافياً - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وساق الحديث، وفي آخره: أنه بال في المسجد، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بسَجْلٍ من ماء، فصبه على مَباله، وهو حديث مرسلٌ؛ لأن سليمان بن يسار تابعي (¬3). قال الحافظ الذهبي في "تجريده" في ترجمة ذي الخويصرة اليماني: فروي في حديثٍ مرسلٍ أنه هو الذي بال في المسجد (¬4). الثاني: فإن قلت: لِمَ لَمْ يرشدِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأعرابي عن العود لمثل فعله؟ فالجواب: أنه لما رأى من إنكار الصحابة عليه ما رأى، علم أنه قد تعدَّى وأخطأ، ثم إنه قد روى مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال: "إن هذه المساجدَ لا تصلُح لشيءٍ من هذا البول ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 324). (¬2) في الأصل: "أبو موسى الأصبهاني في "المعرفة"، والتصويب من "الفتح" لابن حجر. (¬3) كما أن في إسناده مبهماً بين محمد بن إسحاق وبين محمد بن عمرو بن عطاء، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 323). (¬4) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (1/ 169).

ولا القذر، وإنما هي لذكرِ الله والصلاةِ وقراءةِ القرآن" (¬1)، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى أصله البخاري أيضاً، إلا أنه لم يخرج قوله - صلى الله عليه وسلم -: في المساجد، كما نبه عليه الحافظ عبد الحق (¬2)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجه في حديث الباب، برقم (285) عنده. (¬2) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 223)، حديث رقم (384).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5550)، كتاب: اللباس، باب قص الشارب، و (5552)، باب: تقليم الأظفار، و (5939)، كتاب: الاستئذان، باب: الختان بعد الكِبَر ونتف الإبط، ومسلم (257)، (1/ 221 - 222)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة، وأبو داود (4198)، كتاب: الترجل، باب في أخذ الشارب، والنسائي (9)، كتاب: الطهارة، باب: ذكر الفطرة الاختتان، و (10)، باب: تقليم الأظفار، و (11)، باب: نتف الإبط، و (5043)، كتاب: الزينة، باب: من السنن الفطرة، و (5225)، باب: ذكر الفطرة، والترمذي (2756)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في تقليم الأظفار، وابن ماجه (292)، كتاب: الطهارة، باب: الفطرة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 211)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 334)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (10/ 215)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 61)، و"المفهم للقرطبي" (1/ 511)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 146)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 84)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 71)، و"فتح الباري" لابن حجر، (10/ 336)، و"عمدة القاري" للعيني (22/ 44)، و"فيض القدير" للمناوي (3/ 455)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 133).

(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمن بنِ صخر (- رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الفطرة). قال في "النهاية": الفَطْرُ: الابتداء والاختراع، والفِطْرَة منه: الحالةُ، كالجِلْسَةِ والرِّكْبَةِ (¬1). والمراد بالفطرة هنا: السُّنَّةُ، ومنه: فطرةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: دينُ الإسلام الذي هو منسوب إليه. والمعنى: أنها من سنن الأنبياء والمرسلين الذين أُمرنا أن نقتدي بهم فيها. قال أبو عبد الله محمدُ بنُ جعفر القزاز في "تفسير غريب صحيح البخاري": الفطرة في كلام العرب تنصرف على وجوه، منها: الخلق، والإنشاء، ومنها: الجِبِلَّة التي خلقَ اللهُ الناسَ عليها، وجبلهم على فعلها. وفي الحديث: "كلُّ مولودٍ يولَد على الفطرة" (¬2)؛ يعني: على الإقرار بالعبودية لله وتوحيده الذي كانوا أقروا به لما أخرجهم من ظهر آدم. والفطرة: زكاة الفطر. قال: وأولى الوجوه: أن تكون الفطرة في هذا الحديث: ما جبل اللهُ الخلقَ عليها، وجبلَ طباعَهم على فعله، وهي كراهةُ ما في جسده مما ليس من الزينة، انتهى ملخصاً (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 457). (¬2) رواه البخاري (1319)، كتاب: الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم (2658)، كتاب: القدر، باب: معنى: "كل مولود يولد على الفطرة"، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 84).

وقال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": قال الخطابي: ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالفطرة هنا: السنة (¬1). وكذا قاله غيره، قالوا: والمعنى أنها من سنن الأنبياء. وقالت طائفةٌ: المعنيُّ بالفطرة: الدين، وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج" (¬2)، واستشكل ابن الصلاح ما ذكره الخطابي، فقال: معنى الفطرة بعيدٌ من معنى السُّنة، لكن لعل المراد أنه على حذف مضافٍ، أي: سنة الفطرة. وتعقبه النووي: بأن الذي ذكره الخطابي هو الصواب؛ فإن في "صحيح البخاري" عن ابن عمر عن النبي، قال: "من السُّنة قَصُّ الشارب، ونتفُ الإبط، وتقليمُ الأظفار" (¬3)، وأصح ما فُسر الحديث بما في رواية أخرى، لا سيما في البخاري، انتهى. وتبعه ابنُ الملقن على هذا. قال الحافظ ابن حجر: ولم أر الذي قاله في شيءٍ من نسخ البخاري، بل الذي فيه من حديث ابن عمر بلفظ: الفطرة، وكذا من حديث أبي هريرة. نعم، وقع التعبير بالسنة موضعَ الفطرة في حديث عائشة عند أبي عَوانة في روايةٍ، وفي أخرى بلفظ: الفطرة (¬4)؛ كما في رواية مسلمٍ والنسائيِّ وغيرِهما (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 211). (¬2) انظر: "المسند المستخرج على صحيح مسلم" لأبي نعيم الأصبهاني (1/ 315). (¬3) رواه البخاري (5549)، كتاب: اللباس، باب: قص الشارب، بلفظ: "من الفطرة" بدل "من السنة"، وسيأتي تنبيه الحافظ عليه. (¬4) انظر: "مسند أبي عوانة" (1/ 190 - 191). (¬5) رواه مسلم (261)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة، والنسائي (5040)، كتاب: الزينة، باب: من سنن الفطرة. قلت: قد وقع في "السنن الكبرى" =

وقال الراغب: أصلُ الفَطر -بفتح الفاء-: الشَّقُّ طولاً، ويُطلق على الوهي، وعلى الاختراع، وعلى الإيجاد، والفطرة: الإيجاد على غير مثال (¬1). وقال أبو شامة: أصلُ الفطرة: الخلقة المبتدأة، ومنه: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، أي: المبتدىء خلقَهُنَّ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولودٍ يولد على الفطرة" (¬2)، أي: على ما ابتدأ الله خلقَه عليه. وفيه: إشارة إلى قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]. والمعنى: أن كل واحدٍ لو تُرك من وقت ولادته وما يُؤديه إليه نظره، لأدَّاه إلى الدين الحق، وهو التوحيدُ لله، وقوله تعالى قبلها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} [الروم: 30]، وإليه يشير في الحديث: "فأَبَواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه". قال الحافظ ابن حجر: والمرادُ بالفطرة في حديث الباب: أن هذه الأشياء إذا فُعلت، اتصف فاعلُها بالفطرة التي فطر الله العبادَ عليها، وحثَّهم على فعلها، واستحَبَّها لهم، ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفِها صورةً، انتهى (¬3). ¬

_ = للبيهقي (1/ 149) لفظ: "من السنة قص الشارب ... " من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، ثم قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح عن أحمد بن أبي رجاء، عن إسحاق بن سليمان، انتهى. فلعلَّ هذا الذي أوقع الإمام النووي في عزوه إلى البخاري بهذا اللفظ، والله أعلم. (¬1) انظر: "مفردات القرآن" للراغب الأصفهاني (ص: 640). (¬2) تقدم تخريجه قريباً. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 339).

وقال الإمام المحقق ابن القيم في "تحفة المودود": إنما كانت هذه الخصال من الفطرة؛ لأن الفطرة هي الحنيفية ملةُ إبراهيم، وهذه الخصال أُمر بها إبراهيمُ، وهي من الكلمات التي ابتلاه ربُّه بهن؛ كما ذكر عبد الرزاق عن ابن عباس في هذه الآية، قال: ابتلاه بالطهارة، الحديث (¬1). ثم قال ابن القيم: والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفةُ الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وفطرةٌ تتعلق بالجسد وعليه وهي هذه الخصال، فالأولى: تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية: تطهر البدن، وكل منهما تمد الأخرى وتقويها، انتهى (¬2). وحاصل هذا كله أن المراد بالفطرة في هذا الحديث: السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جِبِلِّيّ فُطِروا عليها. (خمسٌ)، أو "خمسٌ من الفطرة" بالشك لهما، ولأبي داود، وهو من سفيان بن عُيينة (¬3). ووقع في رواية الإمام أحمد: "خمسٌ من الفطرة"، ولم يشك (¬4)، وكذا في رواية معمر عن الزهري عند الترمذي، والنسائي (¬5). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره " (1/ 57)، والطبري في "تفسيره" (1/ 524)، والحاكم في "المستدرك" (3055)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 149). (¬2) انظر: "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص: 160 - 161). (¬3) تقدم تخريجها في حديث الباب، برقم (5550) عند البخاري، و (257)، (1/ 221) عند مسلم، و (4198) عند أبي داود. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 229). (¬5) تقدم تخريجها في حديث الباب، برقم (2756) عند الترمذي، و (10) عند النسائي.

والرواية التي اعتمدها الحافظ - رحمه الله تعالى - هي رواية إبراهيم بن سعد "الفطرةُ خمسٌ" عند البخاري، وكذا عند مسلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري. قال ابن دقيق العيد: دلالةُ "من" على التبعيض، أظهرُ من دلالة هذه الرواية على الحصر، وقد ثبت في أحاديث أخرى زيادة على ذلك؛ فدل على أن الحصر فيها غير مراد (¬1). قال الحافظ ابن حجر: واختلف في النكتة في الإتيان بهذه الصيغة، فقيل برفع الدلالة، وأن مفهوم العدد ليس بحجة. وقيل: بل كان أَعْلَمَ أولاً بالخمس، ثم أَعْلَمَ بالزيادة. وقيل: بل الاختلاف في ذلك بحسب المقام، فذكر في كل موضعٍ اللائقَ بالمخاطبين. وقيل: أريد بالحصر المبالغةُ لتأكيد أمر الخمس المذكورة، كما حمل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدينُ النصيحةُ" (¬2)، و"الحَجُّ عرفةُ" (¬3)، ونحوهما. وذكر ابن العربي أن خصال الفطرة تبلغُ ثلاثين خصلةً (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 84 - 85). (¬2) رواه مسلم (55)، كتاب: الإيمان، باب، بيان أن الدين النصيحة، من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أبو داود (1949)، كتاب: المناسك، باب: من لم يدرك عرفة، والنسائي (3016)، كتاب: مناسك الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة، والترمذي (889)، كتاب: الحج، باب، ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع، فقد أدرك الحج، وابن ماجه (3015)، كتاب: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي المالكي (10/ 215).

وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه إن أراد خصوصَ ما ورد بلفظ الفطرة، فليس كذلك، وإن أراد أعمَّ من ذلك، فلا تنحصر في الثلاثين، بل تزيد كثيراً. وأقل ما ورد في خصال الفطرة: حديثُ ابن عمر عند البخاري: "من السُّنة: حلقُ العانة، وتقليمُ الأظفار، وقَصُّ الشارب (¬1) "؛ فإنه لم يذكر إلا ثلاثاً. وفي لفظٍ: "الفطرة" (¬2). وفي آخر: "من الفطرة". وأكثر ما ورد فيها من مجموع الأحاديث خمسَ عشرةَ خَصْلةً، بزيادة عشرِ خصالٍ على ما في الحديث الذي اعتمده المصنف، وهو حديثٌ صحيحٌ متفقٌ على صحته. وفي "صحيح مسلم" من حديث عائشة - رضي الله عنها -: "عشرٌ من الفطرة" (¬3). وسأنبه على ما زاد في مجموع الأحاديث في آخر شرح هذا الحديث. (الختان) -بكسر الخاء المعجمة وتخفيف المثناة-: مصدر خَتَنَ؛ أي: قطع، والخَتْنُ -بفتح الخاء فسكون-: قطعُ بعضٍ مخصوصٍ من عضوٍ مخصوصٍ (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه، والتنبيه على أن لفظ البخاري: "من الفطرة". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 337). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (13/ 137)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 164)، (مادة: ختن).

ووقع في رواية يونس عند مسلم: الاختتان (¬1). قال ابن القيم في "تحفة المودود": والختان: اسمٌ لفعل الخاتن، ويسمَّى به موضعُ الختن أيضاً، ومنه: "إذا التقى الخِتانان، وجب الغُسْلُ" (¬2). والمراد هنا: الأول. قال في "التحفة": قال أبو البركات في كتابه "الغاية": يؤخذ في ختان الرجل جلدةُ الحشفة، وإن اقتصر على أخذ أكثرها، جاز (¬3). ومثله ما نقله الحافظ ابن حجر عن الماوردي من الشافعية؛ حيث قال: ختانُ الذكر: قطعُ الجلدة التي تُغطي الحشفة، والمستحبُّ أن تُستوعب من أصلها عند أول الحشفة، وأقل ما يجزىء ألا يبقى منها ما يتفش به شيء من الحشفة. وقال ابن الصباغ: حتى ينكشف جميع الحشفة، انتهى (¬4). قال ابن القيم: سئل الإمام أحمد -كما في رواية الفضل بن زياد عنه-: كم يقطع في الختانة؟ قال: حتى تبدو الحشفة. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340). (¬2) رواه ابن ماجه (608)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 159)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 239)، وغيرهم، عن عائشة - رضي الله عنها -. وانظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 152). (¬3) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 190). وانظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 246)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 125). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340).

وقال عبد الملك الميموني: قلت لأبي عبد الله: مسألةٌ سئلت عنها؛ ختَّانٌ ختنَ صبياً فلم يستقص، قال: فإذا كان الختان قد جاوز نصفَ الحشفة إلى فوق، فلا يعتد به؛ لأن الحشفة تغلظ، ورأى سهولة الإعادة إذا كانت الختانة في أقل من نصف الحشفة إلى أسفل. قال ابن القيم: وأما المرأة، فلها عذرتان؛ إحداهما: بكارتها، والأخرى: هي التي يجب قطعها، وهي كعرف الديك في أعلى الفرج بين الشَّفْرَين فوقَ مدخل الذكر، وإذا قُطعت، يبقى أصلها كالنواة (¬1). وقال الماوردي: خِتانها: قطعُ جلدة تكون في أعلى فرجها فوقَ مدخل الذكر كالنواة، أو كعرف الديك، والواجب: قطعُ الجلدة المستقبلة منه دون استئصاله. وقد أخرج أبو داود من حديث أم عطية: أن امرأةً كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنهكي؛ فإن ذلك أحظى للمرأة"، وقال: إنه ليس بالقوي (¬2). قال الحافظ ابن حجر: له شاهدان من حديث أنس، وأم أيمن - رضي الله عنهما - (¬3). قال الإمام أحمد: لا تَحيفُ خافضةُ الجارية؛ لأن عمر قال لختّانة النساء: أبقي منه شيئاً إذا خفضتِ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 190 - 191). (¬2) رواه أبو داود (5271)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في الختان. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 63).

وذكر الإمام عن أم عطيةَ الخبرَ المتقدمَ، وزاد في آخره: "وأحبُّ للبعل" للفعل (¬1). قال ابن القيم: ويسمى في حق الأنثى: خَفْضاً، يقال: ختنت الغلام ختناً، وخفضت الجارية خفضاً، قال: ويسمى في الذكر إعذاراً، وقد يقال: الإعذار لهما. قال أبو عبيدة: عَذَرْتُ الجاريةَ والغلامَ، وأَعْذَرْتُهُمَا: ختنتُهما، واختتنتهما؛ وزناً ومعنى. قال الجوهري: والأكثرُ خفضتُ الجارية (¬2). والذي لم يختتن يسمى: أقلفَ، وأغلفَ، والقُلْفَة والغُلْفَة والغُرْلَة: هي الجلدة التي تقطع. قال: وتزعم العرب أن الغلام إذا ولد في القمر، فسحت قُلْفته، فصار كالمختون، فختان الرجل الحرفُ المستدير على أسفل الحشفة، وهو الذي تترتب الأحكام على تغييبه في الفرج. قال: وقد بلغت أربع مئة إلا ثمانية أحكام. وأما ختان المرأة، فهي جلدةٌ كعرف الديك فوق الفرج، فإذا غابت الحشفة في الفرج، حاذى ختانُه ختانَها، فإذا تحاذيا، فقد التقتا، كما التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم يتضامَّا، فظهر أن الختان اسمٌ للمحلِّ، وهي ¬

_ (¬1) لم يروه الإمام أحمد في "مسنده"، ولا عزاه إليه أحد ممن تكلم في هذا الحديث؛ كابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 83). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 739)، (مادة: عذر).

الجلدة التي تبقى بعد القطع، واسم للفعل الصادر من الخاتن -كما تقدم-، والله أعلم (¬1). تنبيهات: الأول: المذهب المعتمد: أن الختان واجبٌ، وبه قال الشعبي، وربيعة، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، والشافعي، وشدَّد فيه مالك حتى قال: من لم يختتن، لم تصح إمامته، ولم تُقبل شهادتُه، كما في "تحفة المودود". قال: ونقل كثيرٌ من الفقهاء عن مالك أنه سنةٌ، حتى قال القاضي عياض: الاختتان عند مالك وعامة العلماء سنة (¬2)، ولكن السنة عندهم يأثم بتركها، فهم يطلقونها على مرتبةٍ بين الفرض والندب، وإلا، فقد صرح مالكٌ بعدم قبول شهادة الأقلف، انتهى (¬3). قال ابن دقيق العيد: قد اختلف العلماء في حكم الختان؛ فمنهم من أوجبه، وهو الشافعي، ومنهم من جعله سنةً، وهو مالك وأكثر أصحابه، انتهى (¬4). وقال بوجوب الختان من القدماء: عطاءٌ، وشدد فيه، حتى قال: لو أسلم الكبير، لم يُقبل إسلامه حتى يختن (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 152 - 153). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 65). (¬3) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 162 - 163). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 86). (¬5) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 62).

قال ابن القيم: وقال الحسن البصري، وأبو حنيفة: لا يجب الختان، بل هو سنةٌ، وكذلك قال ابن أبي موسى من علمائنا. قال: واحتج الموجبون له بوجوه: أحدها: قوله - تعالى -: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، والختان من ملته. قال غير واحدٍ من السلف: من حجَّ واختتن، فهو حنيفٌ، فالحجُّ والختانُ شعارُ الحنيفية، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال الشاعر (¬1) يخاطب أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -: [من الكامل] أَخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إِنَّا مَعْشَرٌ ... حُنَفاءُ نَسْجُدُ بُكْرَةً وَأَصيلاَ عَرَبٌ نَرَى لِلَّهِ فِي أَمْوَالِنَا .. حَقَّ الزَّكاةِ مُنَزَّلاً تَنْزِيلاَ الثاني: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود: أن رجلاً -وهو كُليب جدُّ عُثَيْم بنِ كثير (¬2) - جاء النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قد أسلمتُ، قال: "أَلْقِ عنكَ شعرَ الكُفْرِ واخْتَتِنْ" (¬3). وحملُه على الندب في إلقاء الشعر لا يلزم حمله في الاختتان. الثالث: ما روى حربٌ في "مسائله" عن الزهري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أسلمَ، فَلْيَخْتَتِنْ، وإن كانَ كبيراً" (¬4). ¬

_ (¬1) هو الراعي النُّميري، كما في "ديوانه" (ص: 136 - 137)، (ق 86/ 45 - 46). (¬2) انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 471). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 415)، وأبو داود (356)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يُسلم فيؤمر بالغسل. (¬4) انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 82).

وهذا، وإن كان مرسلاً، فيصلح للاعتضاد. الرابع: ما رواه البيهقي عن موسى بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي، عن آبائه واحداً بعد واحدٍ، عن علي - رضي الله عنه وعنهم -، قال: وجدنا في قائم سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيفة: "إِنَّ الأقلف لا يُترك في الإسلام حتى يَخْتَتِنَ، ولو بلغَ ثمانينَ سنةً". قال البيهقي: هذا حديثٌ يتفرد به أهلُ البيت بهذا الإسناد (¬1). الخامس: ما رواه ابنُ المنذر من حديث أبي برزة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأقلف: "لا يحجُّ بيتَ الله حتى يختتنَ". وفي لفظٍ: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل أقلفَ يحجُّ بيت الله، قال: "لا، حتى يَخْتتن" (¬2). ثم قال: إسناده مجهول. السادس: ما رواه وكيع عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: الأقلفُ لا تُقبل له صلاة، ولا تؤكل ذبيحته (¬3). ورواه الإمام أحمد عنه بلفظ: لا تؤكل ذبيحةُ الأقلف. وكذا قال عكرمة، كما رواه حنبل في "مسائله"، قال: وكان الحسن لا يرى ما قال عكرمة. قال: وقيل لعكرمة: له حج؟ قال: لا. قال حنبل: وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي، ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا سعيد بن أبي عكرمة، عن قتادة، عن جابر بن ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 324). (¬2) ورواه أبو يعلى في "مسنده" (7433)، والروياني في "مسنده" (1322)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 324). (¬3) ورواه عبد الرازق في "المصنف" (8562)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (13334).

زيد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الأقلفُ لا تحلُّ له صلاةٌ، ولا تؤكلُ له ذبيحةٌ، ولا تجوز له شهادة. قال قتادة: وكان الحسن لا يرى ذلك (¬1). السابع: الختان من أظهر شعائر الإسلام التي يُفرق بها بين المسلم والنصراني، فوجوبه أظهرُ من وجوب الوتر، وزكاةِ الخيل، ووجوبِ الوضوء على من قهقه في صلاته، ووجوب التيمم إلى المرفقين، حتى إن المسلمين لا يكادون يعدون الأقلفَ منهم. و-أيضاً- فهو قطعُ عضوٍ لا تؤمنُ سرايته، فلو لم يكن واجباً، لما تجشم تلك المشقة. و-أيضاً- قد جاز كشف العورة له لغير ضرورةٍ ولا مداواةٍ، فلو لم يجب، لما جاز؛ لأن الحرام لا يزول للمحافظة على المسنون. و-أيضاً- الوليُّ يفعله بموليه، ويولم فيه، مع كونه عرضةً للتلف بالسراية، ويُخرج من ماله أجرة الخاتن وثمنَ الدواء، ولا تُضمن سرايته بالتلف، ولو لم يكن واجباً، لما جاز ذلك. و-أيضاً-: فالأقلف معرضٌ لفساد طهارته وصلاته، فإن القلفة تستر الذكر، فيصيبها البول، ولا يمكن الاستجمار لها، فربما توقفت صحة الصلاة والطهارة على الختان؛ ولهذا منع كثيرٌ من السلف والخلف إمامة الأقلف، وإن كان معذوراً في نفسه، فإنه بمنزلة من به سلسُ البول. فالمقصودُ الأعظم بالختان: التحرزُ من احتباس البول في القُلفة، فتفسد الطهارة والصلاة، ولهذا يسقط بالموت؛ لزوال التكليف بهما. ¬

_ (¬1) انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 12).

و -أيضاً- فهو شعار الحنفاء، ولذا أولُ من اختتن إمامُهم سيدنا إبراهيم، فصار الختان شعار الحنيفية، وهو مما توارثته بنو إسماعيل - عليه السلام -، وبنو إسرائيل الذي هو يعقوب - عليه السلام - عن إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -، وضده شعار عباد النار وعباد الصليب. فلا ينبغي لعاقل أن يرضى لنفسه ترك سنة هؤلاء الأبرار، واقتفاء شعار هؤلاء الكفار، فالختان علم الحنيفية، وشعارُ الإسلام، ورأسُ الفطرة، وعنوان الملة. وإذا كان - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يأخذْ شاربَه فليسَ منا" (¬1)، فكيف بمن عَطَّل الختان، ورضي القلف شعارَ عباد الصلبان؟! فمن أَظْهَرِ ما يُفرَّقُ به بين عباد الصلبان وعباد الرحمن: الختان، وعليه استمر عمل الحنفاء من عهد أبيهم وإمامهم الخليل إبراهيم إلى عهد سيدهم ونبيهم خاتم الأنبياء - عليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم -. ومن أحسن ما يُستدل به على وجوبه ما بدأنا به من أن الله أمرنا باتباع خليله في اتباع ملته. ولَمَّا أمر الله الحليم الكريم الحكيم خليلَه إبراهيمَ بالاختتان كان عمره ثمانين سنةً - (¬2) على المشهور عند أئمة المحدثين والمؤرخين من أهل الإيمان -، فَبَادَرَ إلى امتثال الحي القيوم، وختن نفسَه بالقدوم، مبادرة للامتثال، وطاعة لذي العزة والجلال، وجعله فطرة باقية في عقبه يحتج ¬

_ (¬1) رواه النسائي (13)، كتاب: الطهارة، باب: قص الشارب، والترمذي (2761)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في قص الشارب، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 366)، وغيرهم عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه -. (¬2) كما سيأتي تخريجه قريباً.

إليها إلى أن يرث الله - جل شأنه - الأرض ومن عليها، ولم تزل الأنبياء من بعده على هذه الطريقة، حتى إن سيدنا عيسى ابن العذراء البتول اختتن متابعةً للخليل إبراهيم ذي العروة الوثيقة، حتى إن النصارى القلفَ لا ينكرون ختانته، ولا يجحدون أمانته. ويكفي الناصحَ لنفسه من التثبت والتثبيت؛ أذانُ عالمِ أهل البيت الإمامِ الأمة البحر، حبرِ هذه الأمة سيدِنا عبدِ الله بن عباس أذاناً سمعه العامُّ والخاص: أن لا تؤكل ذبيحة من لم يختتن من الناس، ولا صلاة له، ولا حج له. كما أخرجه أئمة الإسلام في كتبهم المتداولة. والله سبحانه يوفقنا لاتباع الآثار، ويلهمنا رشدنا إنه الرحيم الغفار (¬1). الثاني: (¬2) المذهب المعتمد على ما استقرت به النصوص، وجزم به المتأخرون من أئمة المذهب: وجوبُه أيضاً على النساء. قال في "شرح الوجيز": وجوبُ الختان على الذكر والأنثى والخنثى هو المذهب، وعليه جمهور علمائنا. والدليل على وجوبه مطلقاً قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]. والختان من ملته؛ بدليل ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اختتنَ إبراهيمُ خليلُ الرحمنِ بعدما أتتْ عليه ثمانون سنةً، واختتن بالقدوم" متفقٌ عليه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 162 - 168، 174 - 175)، وقد تصرف الشارح في بعض عبارات ابن القيم - رحمهما الله -. (¬2) أي: التنبييه الثاني من التنبيهات التي شرع الشارح فيها. (¬3) رواه البخاري (3178)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ =

إلا أن مسلماً لم يذكر السنين. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - في حديث: "إذا التقى الختانان، وجب الغُسل": (¬1) فيه بيان أن النساء كُنَّ يختتن، وقال: الرجل أشد؛ أي: الوجوبُ في حقه أشد؛ لأنه إذا لم يختتن، فتلك الجلدة مغشية الكمرة، والنساءُ أهون. وفي رواية أن: الختان ليس بواجب على النساء. وهو الذي أورده الإمام الموفق في "المغني" (¬2) عن الإمام أحمد، قاله الحافظ ابن حجر. قال: وفي وجه للشافعية: لا يجب في حق النساء (¬3). واحتج من جنح إلى هذا بحديث شداد بن أوس: "الختان سنةٌ للرجال، مكرمة للنساء" (¬4)، ففرق فيه بين الذكور والإناث، وقد يحتج له بأن الأمر به إنما جاء للرجال، كما أمر الله سبحانه به خليله - عليه السلام -، ففعله امتثالاً لأمره. وأما ختان المرأة، فكان سببه يمينُ سارةَ، وذلك أنها لما وهبت هاجرَ لإبراهيم - عليه السلام -، وأصابها، فحملت منه، غارت سارة، فحلفت لتقطعنّ منها ثلاثة أعضاء، فخاف إبراهيم أن تجدع أنفها، وتقطع أذنها، ¬

_ = إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [125]، ومسلم (2370)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 63). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 75)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (26468)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 325).

فأمرها بثقب أذنيها، وختانِها، فصار ذلك سنةً في النساء بعدها (¬1). قال ابن القيم: ولا ينكر هذا كما كان مبدأ السعي سعي هاجر بين الجبلين لالتماسها الغوث، وكما كان مبدأ رمي الجمار حصب إسماعيلَ الشيطانَ لمَّا ذهب مع أبيه، فشرع الله ذلك لعباده؛ تذكرةً وإحياءً لسنة خليله، وإقامةً لذكره، وإعظاماً لعبوديته (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ كما في "الفتاوى المصرية" - وقد سئل: هل تختتن المرأة أم لا؟ - فأجاب: نعم، وذكرَ صفة ختانها كما ذكرنا، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للخافضة وهي الخاتنة: "شمي ولا تنهكي، فإنه أبهى للوجه، وأحظى لها عند الزوج" (¬3)؛ يعني: لا تبالغي في القطع. وذلك أن المقصود بختان الرجل: تطهيرُه من النجاسة المحتقنة في القلفة، والمقصود من ختان المرأة: تعديلُ شهوتها؛ فإنها إذا كانت قلفاء، كانت مغتلمةً شديدة الشهوة. قال: ولهذا يقال في المشاتمة: يا بن القلفاء! فإن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر. قال: ولهذا يوجد من الفواحش في نساء التتر والإفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين، وإذا حصل المبالغة في ختانها، ضعفت شهوتها، فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة، حصل المقصود باعتدالٍ، انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (1/ 41). (¬2) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 190). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" (1/ 51)، و"مجموع الفتاوى" كلاهما لشيخ =

فائدة: رويت لفظة: "بالقَدُوم" مخففةً ومشددة. قال الماوردي وغيره: وهو الفأس. وقال البخاري: القدوم: -مخففةً-: اسم موضع (¬1). وقال المَرُّوذي: سئل أبو عبد الله -يعني: الإمام أحمد-: هل ختن إبراهيمُ نفسَه بقدوم؟ قال: طرف القدوم (¬2). وقال أبو داود، وعبد الله بن الإمام، وحرب: إنهم سألوا الإمام أحمد عن قوله: اختتن بالقدوم؟ قال: هو موضع (¬3). وقال غيره: هو اسمٌ للآلة، واحتج بقول الشاعر: [من الطويل] فَقُلْتُ: أَعِيرُوني الْقَدُومَ لَعَلَّنِي ... أَخُطُّ بِهِ قَبْراً لِأَبْيَضَ مَاجِدِ وقالت طائفةٌ: من رواه مخففاً، فهو اسم الموضع، ومن رواه مثقلاً، فهو اسم الآلة (¬4). قال أبو عبيد الهروي في "الغريبين": إنه اسم مكانٍ. ويقال: هو كان مقيله. وقيل: اسم قرية بالشام. قلت: ولعله البلدة المسماة الآن بكفر قدوم؛ فإن بها مكاناً يزعمون أنه الذي اختتن به الخليل. ¬

_ = الإسلام ابن تيمية (12/ 114). (¬1) انظر: "صحيح البخاري" (3/ 1224)، إلا أنه لم يزد على قوله: مخففة. (¬2) رواه الخلال في كتاب: الترجل من "جامعه" (ص: 59). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 153).

وذكر لي غير واحدٍ من أهلها: أن اليهود كانت تزوره وتعظِّمه، وقال لي نحو ذلك صاحبنا الشيخ عيسى القدومي الحسيني، ثم قال: منعناهم من ذلك، انتهى. وقال أبو شامة: هو موضعٌ بالقرب من القرية التي فيها قبره. وقيل: بقرب حلب. وجزم غير واحدٍ: أن الآلة بالتخفيف. وصرح ابن السكيت أنه لا يشدد. وأثبت بعضهم الوجهين في كل منهما (¬1). وروي: أن إبراهيم - عليه السلام - لما اختتن، كان ابن مئةٍ وعشرين سنة، وأنه عاش بعد ذلك ثمانين، فكمل مئتي سنة (¬2). والصحيح: أنه اختتن وهو ابن ثمانين، وعاشر بعدها أربعين، والله الموفق (¬3). الثالث: اختلف العلماء في الوقت الذي يُشرع فيه الختان: قلت: المعتمد عندنا: أنه تعتريه الأحكام الخمسة؛ فيكره يوم ولادته، ومنها: إلى فراغ اليوم السابع. ثم هو مستحب إلى قبيل الوجوب، فيجب؛ فإن خيف إتلاف، أبيح، وإن تحقق، حرم. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 342). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (4022)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - موقوفاً، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" (8639) عنه مرفوعاً. (¬3) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 155 - 156)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 342).

قال في "الفروع": يجب الختان. قال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-: إذا وجبت الطهارة والصلاة (¬1). وفي "صحيح البخاري" من حديث سعيد بن جبير: سئل ابن عباس - رضي الله عنهما -: مثلَ مَنْ أنت حين قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أنا يومئذٍ مختونٌ، وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك (¬2). وقد اختلف في سنه عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولد في الشِّعْب قبل الهجرة بثلاث سنين، وتُوفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وله ثلاثَ عشرةَ سنة. وروي: أنه كان ابنَ عشر سنين، والمعتمد في سنه: الأول. وأما قوله - رضي الله عنه -: وكانوا لا يختتنون الرجل حتى يدرك؛ أي: حتى يقارب البلوغ. وقد قال - رضي الله عنه -: إنه كان في حجة الوداع التي عاش بعدها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بضعةً وثمانين يوماً: أنه كان قد ناهز الحلم (¬3). قال ابن القيم في "تحفة المودود": ختن إبراهيم الخليل - عليه السلام - ابنه إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنةً، وختن ابنَه إسحاق لسبعة أيام من ولادته. قال: قال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-: فصار ختانُ إسحاق ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 105). (¬2) رواه البخاري (5941)، كتاب: الاستئذان، باب: الختان بعد الكِبَر، ونمَف الإبط. (¬3) رواه البخاري (1758)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: حج الصبيان.

سنةً في بنيه، وختانُ إسماعيل سنةً في بنيه (¬1). وقال الماوردي من الشافعية: له وقتان؛ وقتُ وجوبٍ، ووقت استحبابٍ: فوقت الوجوب: البلوغ، ووقت الاستحباب: قبله. والاختيار عندهم: في اليوم السابع، ثم في الأربعين، ثم في السنة السابعة، والله أعلم (¬2). الرابع: قد اختلف الناس في ختان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشتهر بين العامة والقُصَّاص والمُدَّاح: أنه ولد مختوناً. وقيل: ختنه جبريلُ عند شَقِّ صدره. وقيل: بل ختنه جدُّه عبدُ المطلب على عادة العرب في ختان أولادهم. وقد روى ابنُ عبد البر من حديث العباس - رضي الله عنه -، قال: ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختوناً مسروراً؛ يعني: مقطوع السرة، فأعجب من ذلك جده عبد المطلب، وقال: ليكونن لابني هذا شأنٌ عظيمٌ. ثم قال ابن عبد البر: ليس إسناده [بالقائم] (¬3). قال: وقد روي موقوفاً على ابن عمر، ولا يثبت أيضاً (¬4). وفي حديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كرامتي على الله أَنِّي وُلدتُ مختوناً، ولم ير سَوْءَتي أحدٌ" رواه الخطيب، وقال: تفرد به سفيان بن محمد المصيصي، وهو ¬

_ (¬1) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 185). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 342). (¬3) في الأصل: "بالغاً". (¬4) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 51).

منكَر الحديث، ورواه ابن عساكر, وفيه عدةُ مجاهيل (¬1)، ثم رجَّحَ كونَ عبد المطلب خَتَنَه، أو المَلَك، وأورد ذلك من عدة طرق لا تخلو من مناقشة، والله أعلم (¬2). (والاستحداد) -بالحاء المهملة-: استفعالٌ من الحديد، والمراد بها: استعمال الموسى في حلق الشعر من مكانٍ مخصوصٍ من الجسد. قيل: في التعبير بهذه اللفظة مشروعيةُ الكناية عمَّا يستحيا منه، إذا حصل الإفهام بها، وأغنى عن التصريح. قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر: أن ذلك من تصرف الرواة. وقد وقع في رواية النسائي في حديث أبي هريرة هذا التعبيرُ بحلق العانة (¬3)، وكذا في حديث عائشة، وأنس عند مسلم (¬4). قال النووي: المرادُ بالعانة: الشعرُ الذي فوق ذَكَر الرجل وحَوالَيه، وكذلك الشعر الذي حوالَي فرجِ المرأة. ونُقِلَ عن أبي العباس بن سريج: أنه الشعر النابتُ حولَ حلقةِ الدُّبر. فتحصل من مجموع هذا: استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 329)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"، (3/ 412)، ورواه أيضاً: الطبراني في "المعجم الأوسط" (6148)، وفي "المعجم الصغير" (936)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 24)، وغيرهم. (¬2) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 200) وما بعدها. (¬3) تقدم تخريجه في حديث الباب، برقم (11) عنده. (¬4) تقدم تخريج حديث عائشة عند مسلم بلفظ: "عشر من الفطرة". أما حديث أنس: فرواه مسلم (258)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة. (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 148).

وذُكر الحلقُ؛ لأنه الأغلب، وإلا فيجوز الإزالةُ بالنورةِ، والنتفِ، وغيرهما. وقال أبو شامة: العانة: الشعرُ النابت على الرَّكَب -بفتح الراء والكاف-، وهو ما انحدر من البطن، فكان تحتَ السرة وفوقَ الفرج. وقيل: لكل فخذٍ: ركبٌ. وقيل: ظاهر الفرج. وقيل: الفرج نفسه، سواء كان من رجل أو امرأة. قال: ويستحب إماطةُ الشعر عن القُبل والدُّبر، بل من الدُّبر أولى؛ خوفاً من أن يعلق شيءٌ من الغائط به، فلا يزيله المستنجي إلا بالماء، ولا يتمكن من إزالته بالأحجار (¬1). قال في "الفروع": ويحلق عانته، وله قصُّه، وإزالته بما شاء. والتنوير في العورة وغيرها، فعله الإمامُ أحمد، وكذا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، رواه ابن ماجه من حديث أم سلمة (¬2)، وإسناده ثقات، وقد أُعل بالإرسال. وقال الإمام أحمد: ليس بصحيح؛ لأن قتادة قال: ما اطَّلى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، كذا قاله الإمام أحمد (¬3). ولفظه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اطَّلى وَلِيَ عانتهُ بيدِه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 343). (¬2) رواه ابن ماجه (3751)، كتاب: الأدب، باب: الاطِّلاء بالنورة. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 101 - 102). (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 152).

ومقابله حديثُ أنس: كان لا يتنوَّرُ، وكان إذا كثر شعره، حلقه؛ وسنده ضعيف جداً (¬1). وفي "الغُنية" لسيدنا الشيخ عبدِ القادر - قدس الله سره -: ويجوز حلقه؛ لأنه تستحب إزالته بالنورة، وإن ذُكِرَ خبرٌ بالمنع، حُمِلَ على التشبه بالنساء، انتهى (¬2). قال في "الفروع": وكره الآمدي كثرةَ التنوير (¬3)؛ لأنه يضعف حركة الجماع. وقال المروزي: كان أبو عبد الله -يعني: الإمام أحمد- إذا احتاج إلى النورة، تنوَّر في البيت، وأصلحتُ له غيرَ مرةٍ نورةٌ تنور بها. قال: واشتريت له جلداً ليديه، فكان يُدخل يديه فيه، وينور نفسه، ولا يدع أحداً يلي عورته، إلا من يحل له الاطلاع عليها من زوجةٍ أو أمةٍ، كما في "شرح الوجيز"، قال: والحلق أفضل؛ لموافقته الحديث الصحيح، انتهى (¬4). وسئل الإمام أحمد عن أخذ العانة بالمِقْراض، فقال: أرجو أن يجزىء، قيل: فالنتف؟ قال: وهل يقوى على هذا أحد (¬5)؟ ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 152) قال البيهقي: المُلائي ضعيف فىِ الحديث، فإن كان حفظه، فيحتمل أن يكون قتادة أخذه أيضاً عن أنس، والله أعلم. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 152). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 64). (¬5) رواه الخلال في كتاب: الترجل من "جامعه" (ص: 52 - 53). وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 64).

وقال ابن دقيق العيد: قال أهل اللغة: العانة: الشعر النابت على الفرج. وقيل: منبت الشعر. قال: وهو المراد في الخبر. وقال أبو بكر بن العربي: شعرُ العانة أولى الشعور بالإزالة؛ لأنه يَكْثُف ويتلبَّدُ فيه الوسخُ؛ بخلاف شعر الإبط. قال: وأما حلقُ ما حولَ الدبر، فلا يُشرع (¬1). وكذا قال الفاكهي في "شرح العمدة": أنه لا يجوز، كذا نقله الحافظ ابن حجر، وقال: كذا قال، ولم يذكر للمنع مستنداً، والذي استند إليه أبو شامة قوي، بل ربما تصور الوجوب في حقِّ من تعيَّنَ ذلك في حقه؛ كمن لم يجد الماء إلا القليل، وأمكنه أن لو حلق الشعر ألا يعلق به شيءٌ من الغائط يحتاج معه إلى غسله، وليس معه ماءٌ زائدٌ على قدر الاستنجاء (¬2). وقال ابن دقيق العيد: كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدبر، ذكره بطريق القياس. قال: والأولى في إزالة الشعر الحلقُ اتباعاً، ويجوز النتفُ بخلاف الإبط؛ فإنه بالعكس (¬3). وقال النووي: السُّنةُ في إزالة شعر العانة الحلقُ بالموسى في حق الرجل والمرأة معاً، وقد ثبت الحديثُ الصحيح عن جابرٍ في النَّهي عن طروق النساء: "حتى تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ" (¬4)؛ يعني: التي غاب زوجها. ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (10/ 216). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 343 - 344). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 85 - 86). (¬4) رواه البخاري (4791)، كتاب: النكاح، باب: تزويج الثبات، ومسلم =

وقال النووي أيضاً: والأَوْلى في حق الرجل الحلقُ، وفي حق المرأة: النتفُ (¬1). واستشكل بأن فيه ضرراً على المرأة بالألم، وعلى الزوج باسترخاء المَحَلِّ؛ فإن النتف يُرخي المحل باتفاق الأطباء. ومن ثم قال ابن دقيق العيد: إن بعضهم مال إلى ترجيح الحلق في حق المرأة، لأن النتف يرخي المحل (¬2). لكن قال ابن العربي: إن كانت شابةً، فالنتفُ في حقها أولى؛ لأنه يربو مكان النتف، وإن كانت كهلةً، فالأولى في حقها الحلقُ؛ لأن النتف يُرخي المحل (¬3). ولو قيل: الأولى في حقها التنوُّر مطلقاً، لما كان بعيداً. وإذا طلب الزوج من امرأته وسُرِّيته إزالةَ شعر عانتها ونحوه، وجب عليها. قال في "الإقناع" كغيره: وله: أي: الزوج - إجبارُها -أي: الزوجة- على غسل نجاسةٍ، واجتنابِ مُحَرَّمٍ، وأخذِ شعرٍ وظفرٍ تعافه النفس، وإزالة وسخٍ، فإذا احتاجت إلى شراء الماء، فثمنه عليه (¬4). ¬

_ = (715) , كتاب: الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 148) و (10/ 54). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 86). (¬3) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (10/ 216). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 422).

تنبيه: في قدر ما يترك شعر العانة. قال في "الإقناع" (¬1) كغيره -وهو في "الفروع"-: ويفعله كلَّ أُسبوع، ولا يتركه فوقَ أربعين يوماً عند الإمام أحمد. قال في "الغنية": رُوي عنه أنه احتج بالخبر، وصححه (¬2). وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية: كم مقدار أن يقعد الرجل حتى يحلق عانته؟ أجاب بما روي عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لهم في حلقِ العانةِ ونتفِ الإبط ونحوِ ذلك لا يترك أكثرَ من أربعين يوماً، وهو في الصحيح، انتهى (¬3). قلت: هو في "صحيح مسلم" (¬4)، والله أعلم. (وقص الشارب): أصلُ القص: تَتَبُّعُ الأثر، وقيَّده ابنُ سيدَهْ في "المحكم" بالليل (¬5). والقص -أيضاً-: إيرادُ الخبر تماماً على مَنْ لم يحضره. ويُطلق على قطع شيءٍ من شيءٍ بآلةٍ مخصوصةٍ. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 33). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 102). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (21/ 115). (¬4) وتقدم تخريجه. (¬5) انظر: "المحكم" لابن سيده (6/ 65)، (مادة: قصص).

والمراد به هنا: قطعُ الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال (¬1). قال في "القاموس": قصَّ الشعرَ والظُّفرَ: قطعَ منهما بالمقص؛ أي: المِقْراض، وهما مِقَصّان، وقُصاص الشعر -مثلثة-: حيث ينتهي نبته من مقدمه أو مؤخره (¬2). والشارب المراد به هنا: الشعر النابت على الشفة العليا. واختلف في جانبيه، وهما السِّبالان: قيل: هما من الشارب، ويشرعُ قصهما. وقيل: هما من جملة شعر اللحية. والذي في أكثر الأحاديث: القصُّ؛ كما هنا، وكذا في حديث عائشة، وأنس - رضي الله عنهما - عند مسلم (¬3). وفي حديث حنظلة عن ابن عمر - رضي الله عنه - عند البخاري (¬4). وورد الخبر بالحلق عند النسائي بسندٍ صحيح (¬5). وورد عنده أيضاً بلفظ: تقصير الشارب (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 335). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 809)، (مادة: قصص). (¬3) تقدم تخريجهما. (¬4) رواه البخاري (5549)، كتاب: اللباس، باب: قص الشارب. (¬5) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (9)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬6) رواه النسائي (5043)، كتاب: الزينة، باب: من سنن الفطرة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قال الحافظ ابن حجر: وورد في لفظٍ عن أبي هريرة: "جُزُّوا الشواربَ" (¬1)، وهي تؤيد رواية الحلق. وفي "البخاري" في حديث ابن عمر - رضى الله عنهما -: "أَحفوا الشواربَ" (¬2). وفي لفظٍ: "انهكوا الشوارب" (¬3)، وكلها تدل على أن المطلوب: المبالغةُ في الإزالة؛ فإن الجزَّ -وهو بالجيم والزاي الثقيلة-: قصُّ الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلدَ، والإحفاءُ -بالمهملة والفاء-: الاستقصاء، ومنه: "حَتَّى أَحْفَوه بالمسألة" (¬4). قال أبو عبيد: معناه: الزموا الجز بالبشرة. وقال الخطابي: هو بمعنى الاستقصاء (¬5). والنهك -بالنون والكاف-: المبالغة في الإزالة. ومنه: ما تقدم في الخافضة: "شُمي ولا تنهكي" (¬6)، أي: لا تبالغي في ختان المرأة. وجرى على ذلك أهل اللغة. وقال ابن بطال: النهك: التأثير في الشيء، وهو غير الاستئصال (¬7). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (265)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة. (¬2) رواه البخاري (5553)، كتاب: اللباس، باب: تقليم الأظفار، ومسلم (259)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة. (¬3) رواه البخاري (5554)، كتاب: اللباس، باب: إعفاء اللحى. (¬4) رواه البخاري (6678) كاب: الفتن، باب: التعوذ من الفتن، ومسلم (2359)، كتاب: الفضائل، باب: توقيره - صلى الله عليه وسلم -، عن أنس - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 211). (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 346 - 347).

قال في "الفروع": ويحفُّ شاربه؛ خلافاً لمالك، أو يقصُّ طرفه، وحفُّه أولى في المنصوص؛ وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، ولا يمنعُ منه مالك. وذكر ابن حزم الإجماع: أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرضٌ. قال في "الفروع": وأطلق أصحابنا وغيرُهم الاستحبابَ. وفي حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - مرفوعاً: "من لم يأخذْ شاربه، فليس منا" رواه الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، وصححه (¬1). قال: وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم (¬2). وقال النووي: المختارُ في قص الشارب: أنه يقصه حتى يبدو طرفُ الشفة، ولا يحفُّه من أصله. وأما رواية: احفوا، فمعناها: أزيلوا ما طال عن طرف الشفتين، انتهى (¬3). وقال الأثرم: كان الإمام أحمد يُحفي شاربه إحفاءً شديداً، ونص على أنه أولى من القص. وكان الشعبي يقصُّ شاربه حتى يظهر حمرةُ الشفة العليا، وما قاربه من ألاه، ويأخذ ما شذَّ مما فوق ذلك، وينزع ما قارب الشفةَ من جانبي الفم، ولا يزيد على ذلك. قال في "الفتح": وهذا أعدلُ ما وقفت عليه من الآثار (¬4). وقد أبدى ابنُ العربي لتخفيف شعر الشارب معنًى لطيفاً، فقال: إن الماء النازل من الأنف يتلبَّد به الشعرُ؛ لما فيه من اللزوجة، فيعسر تنقيته ¬

_ (¬1) ثقدم تخريجه. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 100). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348).

عند غسله، وهو بإزاء حاسةٍ شريفةٍ، وهي الشم، فشُرع تخفيفُه ليتمَّ الجمال والمنفعة (¬1). قال الحافظ ابن حجر: وذلك يتحصَّل بتخفيفه، ولا يستلزم إحفاءه، وإن كان أبلغ. قال: ويؤخذ مما أشار إليه ابن العربي مشروعيةُ تنظيف داخل الأنف، وأخذُ شعره إذا طال، انتهى (¬2). قال في "الفروع": ولم يذكروا شعر الأنف، وظاهر هذا بقاؤه، ويتوجَّه: أخذُه إذا فَحُش، وأنه كالحاجبين، وأولى من العارضين. قال مجاهدٌ: الشعر في الأنف أمانٌ من الجذام، ورُوي مرفوعاً (¬3)، وهو باطلٌ، انتهى (¬4). وقد روى الإمام أحمد في "المسند": "قُصُّوا سبالاتكم، ولا تَتَشَبَّهوا باليهود" (¬5). وذكر - صلى الله عليه وسلم - المجوسَ، فقال: "إنهم يُوَفِّرون سِبالَهم، ويحلقون لِحاهم، فخالفوهم"، فكان ابن عمر يستعرض سبلته، فيجزها كما تُجز الشاة أو البعير. أخرجه الطبري، والبيهقي (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (10/ 217). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348). (¬3) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 151)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 100). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 264)، عن أبي أمامة - رضي الله عنه - بلفظ: "قصُّوا سبالكم، ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب". (¬6) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 151). ورواه ابن حبان في "صحيحه" =

وهذا محمولٌ على استئصال الشعر النابت على الشفة العليا، وما يلاقي حمرةَ الشفة من أعلاها، ولا يستوعب بقيتها؛ نظراً إلى المعنى في مشروعية ذلك، وهو مخالفة المجوس، والأمن من التشويش على الآكل، وبقاء زُهومة المأكول فيه، وكل ذلك يحصل بما ذكرنا، وهو الذي يجمع متفرقَ الأخبار الواردة في ذلك (¬1). وقد روى الإمام مالك، عن زيد بن أسلم: أن عمر كان إذا غضب، فتل شاربه (¬2)، فدل على أنه كان يوفِّره. وحكى ابن دقيق العيد عن بعض الحنفية: أنه قال: لا بأس بإبقاء الشوارب في الحرب؛ إرهاباً للعدو وزينة (¬3). فوائد: الأولى: يستحب أن يبدأ في قص الشارب بالأيمن. الثانية: يتخير أن يقصَّه بنفسه، أو يولي ذلك غيرَه؛ لحصول المقصود من غير هتكِ مروءةٍ؛ بخلاف الإبط، ولا ارتكاب حرمةٍ؛ بخلاف العانة، كما قاله الإمام النووي (¬4). قال الحافظ ابن حجر: ومحل ذلك حيثُ لا ضرورةَ، وأما من لا يحسن الحلق، فقد يباح له - إن لم تكن له زوجةٌ تحسنُ الحلق - أن ¬

_ = (5476)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (1622)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 453)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 94)، وغيرهم. (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (54). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149).

يستعينَ بغيره بقدرالحاجة؛ حيث لم يجد ما ينور به (¬1). الثالثة: قال النووي: يتأدى أصلُ السنة بأخذ الشارب بالمِقص، وبغيره (¬2). وتوقف ابنُ دقيق العيد في قَرْضِه بالسن، ثم قال: من نظر إلى اللفظ، منع، ومن نظر إلى المعنى، أجاز. الرابعة: قال ابن دقيق: لا أعلم أحداً قال بوجوب قصِّ الشارب من حيث هو هو، واحترز بذلك من وجوبه بعارضٍ؛ حيث يتعين كما تقدمت الإشارة إليه من كلام ابن العربي (¬3)، وقد تقدم ما نقله صاحب "الفروع" من كلام ابن حزم، وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه، وتقدم أيضاً ما ذكره صاحب "الفروع" من صيغة حديث: "من لم يأخذْ شاربَهُ، فليس منا". والله أعلم. (وتقليم)؛ تفعيلٌ من القَلْم، وهو القَطْع (¬4). ووقع في حديث ابن عمر: قَصُّ (¬5) (الأظفار) جمع ظُفُر -بضم الظاء والفاء وسكونها-، وحكي عن أبي زيد:-كسر أوله-، وأنكره ابن سِيَدهْ. وقد قيل: إنها قراءة الحسن. وعن أبي السماك: أنه قرأ -بكسر أوله وثانيه- (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348). (¬2) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (5/ 138 - 139). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348 - 349). (¬4) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 491)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 515)، (مادة: قلم). (¬5) وهي رواية النسائي المتقدم تخريجها في حديث الباب، برقم (12) عنده. (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344). وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي =

والتقليمُ أعمُّ من القص، والمراد: إزالة ما يزيد على ما يلابس رأسَ الإصبع من الظُّفر؛ لأن الوسخ يجتمع فيه، فيستقذر، وقد يصل إلى حدٍّ يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسلُه في الطهارة. قال في "شرح الوجيز": ربما حلَّ بها الوسخ، فيجتمع تحتها من المواضع المنتنة، فيصير رائحة ذلك في رؤوس أصابعه (¬1). وقال ابن دقيق العيد: قَلَّمَ أظفاره تقليماً: قطعَ ما طال عن اللحم منها، والمعروف فيه: التشديد. والقُلامة: ما يقطع من الظفر، وفي ذلك معنيان: أحدهما: تحسينُ الهيئة والزينة، وإزالة القَباحة في طول الأظفار. والثاني: أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه؛ لما عساه يحصل تحتها من الوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة. قال: وهذا على قسمين: أحدهما: أَلَّا يخرج طولها عن العادة خروجاً بيِّناً، فهذا هو الذي أشرنا إلى أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه؛ فإنه إذا لم يخرج طولها عن العادة، يعفى عما يتعلق بها من يسير الوسخ، وأما إذا زاد على المعتاد، فما يتعلق بها من الأوساخ مانعٌ من حصول الطهارة، انتهى (¬2). ¬

_ = عياض (1/ 329)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 183)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 17)، (مادة: ظفر). (¬1) وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 64). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 85).

قال في "الفروع": وإن منع يسيرُ وسخِ ظُفرٍ ونحوِه وصولَ الماء، ففي صحة طهارته وجهان (¬1). قلت: أصحهما: الصحة، ولولم يشق التحرزُ منه، على الذي استقر عليه المذهب؛ وفاقاً لأبي حنيفة، ولأحد الوجهين عند الشافعية. قال في "الفروع": وقيل: تصح ممن يشُقُّ تحرُّزُه منه. قال: وجعل شيخُنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-: مثلَه كلَّ يسير منعَ حيث كان؛ كدمٍ، وعجين، واختار العفو (¬2). وكذا قطع الغزالي في "الإحياء": بأنه يُعفى عن مثل ذلك، واحتجَّ بأن غالب الأعراب لا يتعاهدون ذلك، ولم يرد في شيءٍ من الآثار أمرُهم بإعادة الصلاة (¬3). واستظهره الحافظ ابن حجر، قال: لكن قد يعلق بالظفر إذا طال النَّجْوُ لمن استنجى بالماء، ولم يُعْفَ عن غسله، فيكون إذا صلى حاملاً للنجاسة. وقد أخرج البيهقي في "الشعب" من طريق قيس بن أبي حازم، قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاةً، فأوهمَ فيها، فسئل، فقال: "مالي لا أوهمُ، ورُفْغُ أَحَدِكم بين ظفره وأَنْمُلَتِه؟! " (¬4) رجاله ثقات مع إرساله، وقد وصله الطبراني من وجهٍ آخر (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 122). (¬2) المرجع السابق، (1/ 123). (¬3) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (1/ 219). (¬4) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (2766)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 221). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (10401)، والبزار في "مسنده" (1893)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 221)، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.

والرُّفْغُ -بضم الراء وفتحها وسكون الفاء بعدها غين معجمة- يجمع على أرفاغ: مَغابِنُ الجسد؛ كالإبط، وما بين الأُنثيين والفَخذين، وكلُّ موضع يجتمع فيه الوسخ، فهو من تسمية الشيء باسم ما جاوره، والتقدير: وسخُ رفغِ أحدِكم، والمعنى: أنكم لا تُقلمون أظفاركم، ثم تَحُكّون بها أرفاغَكم، فيتعلقُ بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة. قال أبو عبيد: أنكر عليهم طولَ الأظفار وتركَ قصِّها (¬1). قال الحافظ ابن حجر: وفيه أيضاً: الندب إلى تنظيف المغابن كلِّها. ويُستحب الاستقصاء في إزالتها إلى حدٍّ لا يدخل منه ضررٌ على الإصبع. واستحب الإمامُ أحمدُ للمسافر أن يُبقي شيئاً؛ لحاجته إلى الاستعانة بذلك غالباً (¬2). قال في "الفروع": ويُسن أَلَّا يَحيف عليها في السفر؛ لأنه يحتاج إلى حَلِّ حبلٍ أو شيءٍ، نص عليه (¬3). قال في "شرح الوجيز": واحتج، يعني: الإمام أحمد - رضي الله عنه - بحديث ذكره عن الحكم بن عمير - رضي الله عنه -، قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَلَّا نحفي الأظفار في الجهاد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 262 - 263). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 345). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 101)، ووقع في المطبوع: "الغزو" بدل "السفر". (¬4) رواه الجصّاص في "أحكام القرآن" (4/ 253).

وقال في رواية مهنا: قال عمر - رضي الله عنه -: وَفِّروا الأظفار في أرض العدو؛ فإنه سلاح (¬1). قال الإمام أحمد: هو محتاجٌ إليها في أرض العدو؛ ألا ترى إذا أراد الرجل أن يحل الحبل أو الشيء، ولم يكن له أظفارٌ، لم يستطع؟ انتهى (¬2). فوائد: الأولى: يستحبُّ تقليمُ الأظفار مخالِفاً؛ فيبدأ بيده اليمنى بحروف: خوابس، ويسراه: اوخسب، على ترتيب حروف الكلمتين؛ بأن يبتدىء بخنصرِ يده اليمنى، فالوسطى، فالإبهام، فالبنصر، فالسبابة، ثم إبهام اليسرى، فالوسطى، فالخنصر، فالسبابة، فالبنصر، والرِّجْل كذلك، كما صححه في "الإنصاف" (¬3). قال في "الشرح": روي في حديثٍ: "من قَصَّ أظفارَهُ مُخالفاً، لم يرَ في عينيه رَمَداً" (¬4). وفسره أبو عبد الله بن بطة بما ذكر، انتهى (¬5). قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": لم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيءٌ من الأحاديث، لكن جزم النوويُّ في "شرح مسلم": بأنه ¬

_ (¬1) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (2/ 366). (¬2) وانظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 167)، و"شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 240). (¬3) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 122). (¬4) قال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 497): هو في كلام غير واحد من الأئمة؛ منهم ابن قدامة في "المغني"، والشيخ عبد القادر في "الغنية"، ولم أجده. لكن كان الحافظ الشرف الدمياطي يأثر ذلك عن بعض مشايخه، ونص الإمام أحمد على استحبابه. (¬5) وانظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 76).

يُستحب البداءة بمسبِّحة اليمنى، فالوسطى، فالبنصر، فالخنصر، فالإبهام، وفي اليسرى: البداءة بخنصرها، فالبنصر إلى الإبهام، ويبدأ في الرجلين بخنصر اليمنى إلى الإبهام، وفي اليسرى: بإبهامها إلى الخنصر (¬1). قال: ولم يُذكر للاستحباب مستند (¬2). وقال ابن دقيق العيد: وما اشتهر من قصها على وجه مخصوصٍ لا أصل له في الشريعة، ثم ذكر الأبيات في ذلك، وأنكرها، وقال: هذا لا يجوز اعتقادُ استحبابه (¬3). الثانية: يستحب كونُ ذلك يومَ الجمعة قبلَ الصلاة، كما في "الإقناع" (¬4) وغيره. وفي "الفروع": يوم الجمعة قبل الزوال، وقيل: يوم الخميس، وقيل: يُخَيَّر (¬5). قال الحافظ ابن حجر: لم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديثٌ. وقد أخرجه جعفر المستغفري بسندٍ مجهولٍ، ورويناه في "مسلسلات التيمي" من طريقه. قال: وأقرب ما وقفتُ عليه في ذلك: ما أخرجه البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحبُّ أن يأخذ من أظفاره ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 345). (¬3) نقله البهوتي في "كشاف القناع" (1/ 76). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 33). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 101).

وشاربه يومَ الجمعة (¬1). وله شاهدٌ موصول عن أبي هريرة، لكن سنده ضعيف، أخرجه البيهقي أيضاً في "الشعب" (¬2). وسئل الإمام أحمد عنه، فقال: يُسن في يوم الجمعة قبل الزوال، وعنه: يوم الخميس، وعنه: يُخيَّر، كما قدمنا. قال الحافظ ابن حجر: وهذا هو المعتمد؛ يعني: أنه يستحب كيف ما احتاج إليه. والضابط في ذلك ونحوه: الاحتياج، والله أعلم (¬3). الثالثة: يستحب أن يدفن ما أخذ من شعرٍ أو ظفرٍ ونحوه، نص عليه الإمام أحمد - رضي الله عنه -، ففي "سؤالات مهنا" عن الإمام أحمد: قلت له: يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه، قلت: بلغك فيه شيءٌ؟ قال: كان ابن عمر - رضي الله عنه - يدفنه (¬4). وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفن الشعر والأظفار، قال: "لا يتلعب به سحرة بني آدم". وهذا الحديث أخرجه البيهقي من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه (¬5). قال في "شرح الوجيز" -بعد أن نقل أثر ابن عمر الذي أجاب به الإمام مهنا-: ولِمَا روت مِيل بنت مِشْرح الأشعري: أنها رأت أباها مِشْرحاً يقلم ¬

_ (¬1) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 244). (¬2) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (2763)، وقال: في هذا الإسناد من يجهل. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 346). (¬4) رواه الخلال في كتاب: الترجل من "جامعه" (ص: 50). (¬5) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (6488)، وكذا الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 32).

أظفاره، ثم يجمعها ويدفنها، ويخبر أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. رواه البخاري في "تاريخه" (¬1). وعن ابن جريج، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: كان يعجبه دفن الدم (¬2). وقال الإمام أحمد - رضي الله عنه - في قوله - تعالى -: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25 - 26]، قال: يكفت الأحياء فيها الدم والشعر والأظافير، وتدفنون فيها موتاكم (¬3). وفي حديث قبيصة بن ذؤيبٍ مرفوعاً: "ادْفِنوا شُعورَكم وأظفارَكُم ودماءكم، لا تلعبْ بها سَحَرَةُ بني آدمَ" (¬4). وقلمت عائشة - رضي الله عنها - أظفارها، فدفنتها؛ كما في "مسائل حرب" (¬5). ولأن ذلك من أجزائه، فاستحب دفنه كأعضائه. وكذا عند الشافعية كما قاله الحافظ في "شرح البخاري" (¬6). الرابعة: يُستحب غسلُ الأنامل بعد قصِّ الأظفار تكميلاً للنظافة. وقد قيل: إن الحك بها قبلَ غسلها يضرُّ بالبدن؛ والله الموفق (¬7). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 45)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2513)، والطبراني في "المعجم الكبير" (20/ 322)، وفي "المعجم الأوسط" (5938). (¬2) رواه الخلال في كتاب: الترجل من "جامعه" (ص: 51). (¬3) رواه الخلال في كتاب: الترجل من "جامعه" (ص: 31). (¬4) رواه ابن حبان في "المجروحين" (3/ 144). (¬5) انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 243). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 346). (¬7) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 76).

(ونتف الإبط)، وفي رواية الكشميهني: الآباط: بصيغة الجمع. والإبط -بكسر الهمزة والموحدة وسكونها، وهو المشهور، وصوبَّه الجواليقي، ويذكر ويؤنث-. وتأبَّط الشيء: وضعه تحت إبطه (¬1). والمستحب البداءة بنتف اليمين؛ لعموم: "كان يحبُّ التيامُنَ في شأنه كلِّه" (¬2). والأفضلُ النتفُ؛ لموافقة لفظ الحديث؛ ولأنه يذهب بالصّنان، فإن شق عليه النتف، حلقه، أو تنوَّر، كما في "الآداب الكبرى" للإمام ابن مفلح (¬3). قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": يتأدَّى أصلُ السنَّة بالحلق، ولا سيما من يؤلمه النتف. قال: وقد أخرج ابن أبي حاتم في "مناقب الإمام الشافعي" عن يونس بن عبد الأعلى، قال: دخلت على الشافعي، ورجلٌ يحلق إِبطَه، فقال: إني علمتُ أن السُّنَة النتفُ، ولكن لا أقوى على الوجع. قال الغزالي: هو في الابتداء موجِع، ولكن يَسْهُل على مَنِ اعتاده. والحلقُ كافٍ؛ [لأنَّ] (¬4) المقصود النظافة. وتعقب: بأن الحكمة في نتفه أنه محل للرائحة الكريهة، وإنما ينشأ ذلك من الوسخ الذي يجتمع بالعرق فيه، فيتلبد ويهيج، فشُرع فيه النتفُ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344). وانظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 3)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 253). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) وانظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 509). (¬4) في الأصل: "لكن".

الذي يضعفه، فتخفُّ الرائحة به، بخلاف الحلق؛ فإنه يقوِّي الشعرَ ويهيجه؛ فتكثر الرائحةُ لذلك (¬1). وقال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ، وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى، أجازه بكل مُزيلٍ، لكن لين أن النتفَ مقصود من جهة المعنى - أيضاً -. قال: وقد فرق لفظ الحديث بين إزالة شعر العانة، وإزالة شعر الإبط، فذكر في الثاني النتفَ، وذلك مما يدل على رعاية الهيئتين في محلَّيهما؛ فإن الشعر بالحلق يقوى أصله، ويغلظ جِرْمُه؛ ولهذا يصف الأطباء تكرارَ حلق الشعر في المواضع التي تراد قوته فيها. والإبط إذا قويَ فيه الشعر، وغلظ جرمُه، كان أَفْوَحَ للرائحة الكريهة المؤذية لمن يقاربها، فناسب أنْ سُن فيه النتفُ المُضْعِفُ لأصله، المقللُ للرائحة الكريهة. وأما العانة، فلا يظهر فيها من الرائحة الكريهة ما يظهر في الإبط؛ فزال المعنى المقتضي، ورجع إلى الاستحداد؛ لأنه أيسرُ وأخفُّ على الإنسان من غير معارض (¬2). قال: والنص إذا احتمل معنًى مُناسباً يحتمل أن يكون مقصوداً في الحكم، لا يُترك، والذي يقوم مقام النتف في ذلك التنوُّرُ، ولكنه يرقُّ الجلد، فقد يتأذى صاحبُه به، ولاسيما إن كان جلده رقيقاً؛ والله الموفق (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 86). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344).

تتمة: قد وعدنا في أول شرح هذا الحديث: بأن خصال الفطرة بلغت خمسةَ عشر، فهذه خمسة قد ذكرنا شرحها، وهي ما اتفق عليه الشيخان. وفي "صحيح مسلم" من حديث عائشة - رضي الله عنها -: "عَشْرٌ من الفطرة"، فذكر الخمسة التي في حديث أبي هريرة، إلا الختان، وزاد: "إعفاء اللحية، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل البراجم، والاستنجاء" أخرجه مسلم عن ابن الزبير، مال في آخره: إن الراوي نسي العاشرةَ، إلا أن تكون المضمضة (¬1). وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" بلفظ: "عشرة من السنة"، وذكر "الاستنثار" بدل "الاستنشاق" (¬2). وأخرجه النسائي، فذكره، إلا أنه ذكر "الختان" بدل "غسل البراجم" (¬3). وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود من حديث عيار نحوَه، إلا أنه ذكر "الانتضاح" (¬4). وأخرج الطبري بسند صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله - تعالى-: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، قال: ابتلاه بالطهارة، خمسٌ في الرأس، وخمسٌ في الجسد، فذكر مثل حديث ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه أبو عوانة في "مسنده" (1/ 190 - 191). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 264)، وأبو داود (54)، كتاب: الطهارة، باب: السواك من الفطرة، وابن ماجه (294)، كتاب: الطهارة، باب: الفطرة.

عائشة، إلا أنه ذكر "الفرق" بدل "إعفاء اللحية" (¬1). وأخرجه ابن أبي حاتم، فذكر "غُسل الجمعة" بدل "الاستنجاء" (¬2). فصارت من مجموع الأحاديث على اختلاف الروايات خمسَ عشرة، قد قدمنا منها خمسة، وبقي عشرة؛ فأما المضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، والاستنجاء، والسواك، فهذه الخمسة قد قدمنا الكلامَ عليها في محالِّها. وأما غسل الجمعة، فسيأتي الكلام عليه في محله - إن شاء الله تعالى-. فلم يبق إلا إعفاءُ اللحية، والفرقُ، وغسلُ البراجم، والانتضاحُ، فلنتكلم عليها على الترتيب. فنقول: أما إعفاء اللحية، فقال في "الفروع": ويُعْفي لحيتَه، وفى "المُذْهَب" للحافظ ابن الجوزي: ما لم يُسْتَهْجَنْ طولُها؛ وفاقاً لمالك، ويحرُمُ حلقها، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية. ولا يُكره أخذُ ما زاد على القبضة منها، ونَصُّه: ولا بأس بأخذه وتحت حلقه؛ لفعل ابن عمر، لكن إنما فعله إذ حجَّ أو اعتمر، رواه البخاري (¬3). وفي "المستوعب": وتركه أولى، وقيل: يكره. وأخذ الإمام أحمد من حاجبيه وعارضِه. نقله ابن هانىء (¬4). وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 219). (¬3) رواه البخاري (5553)، كتاب: اللباس، باب: تقليم الأظافر. (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 100).

النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أَحْفُوا الشوارب، وأَعْفُوا اللِّحى" (¬1). وفي لفظ آخر: "خالفوا المشركين، أَحْفوا الشوارب، وأَعْفوا اللحى" (¬2). وفي بعض ألفاظ البخاري "وَفِّروا اللِّحَى" (¬3). وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر، قبضَ على لحيته، فما فضل، أخذَ (¬4). وفي "مسلم" عن أبي هريرة مرفوعاً: "جُزُّوا الشَّوارِبَ، وأَرْخوا اللِّحى، خالفوا المجوس" (¬5). ضبطت لفظته: "أَرْجئوا" -بالجيم والهمزة-، أي: أَخِّروها، و-بالخاء المعجمة بلا همز-؛ أَي: أَطيلوها. قال النووي: وكل هذه الروايات بمعنى واحد (¬6). واللِّحَى -بكسر اللام، وحُكي ضمُّها، وبالقصر والمد-: جمع لِحيةٍ - بالكسر فقط -: هي اسمٌ لما نبت على الخدين والذقن (¬7). قال الكرماني: لعل ابن عمر - رضي الله عنهما - أراد الجمعَ بين الحلق ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) رواه مسلم (260)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة. (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 151). (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 350). وانظر: "لسان العرب" لابن منظور (15/ 243)، (مادة. لحا).

والتقصير في النُّسْك، فحلق رأسه كلَّه، وقَصَّر من لحيته؛ ليدخل في عموم قوله - تعالى -: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]. وخص ذلك من عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وفِّروا اللِّحى"، فحمله على غير حالة النسك. قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر: أن ابن عمر يحملُ الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه؛ فقد قال الطبري: ذهب قومٌ إلى ظاهر الحديث، فكرهوا تناول شيءٍ من طولها ومن عرضها. وقال قومٌ: إذا زاد على القبضة، يُؤْخَذُ الزائد. ثم ذكر خبرَ ابن عمر، وكذلك عمر فعله برجل، ومن طريق أبي هريرة أنه فعله. وأخرج أبو داود من حديث جابر بسندٍ حسنٍ، قال: كنا نعفِّي السِّبَال إلا في حَجٍّ أو عمرةٍ (¬1). فقوله: نُعَفِّي -بضم أوله وتشديد الفاء-؛ أي: نتركه وافراً. وهذا يؤيد ما نقل عن ابن عمر؛ فإن السِّبال -بكسر المهملة وتخفيف الموحدة- جمعُ سَبَلَة -بفتحتين-: هي ما طال من شعر اللحية، كما في "الفتح" (¬2). فأشار جابر إلى أنهم كانوا يقصِّرون منها في النسك. وقال الحسن البصري: يؤخذ من طول اللحية وعرضها ما لم يفحش. ونحوه عن عطاء. وحملوا النهي على صنع ما كانت الأعاجم تفعله. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4201)، كتاب: الترجل، باب: في أخذ الشارب، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 302). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 350).

واختار الطبري قول الحسن، وعطاء، وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى فحش طولها وعرضها، لعرَّضَ نفسه لمن يسخر به. واستدل بما أخرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها (¬1). وأنكر الحفاظ هذا الحديث؛ منهم البخاري. وحاصل ما ذهب إليه إمامنا وعلماؤنا: تحريمُ حلق اللحية، وقال أبو شامة من الشافعية: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها. وقال الإمام النووي: يستثنى من الأمر بإعفاء اللِّحَى: ما لو نبت للمرأة لِحْية، فإنه يستحب لها حلقُها (¬2). وكذا لو نبت لها شاربٌ أو عَنْفَقَةٌ (¬3)، والله الموفق. وأما الفَرْق -بفتح الفاء وسكون الراء بعدها قاف-، فالمراد به: فرق شعر الرأس، وهو قِسْمته في المفرق، وهو وَسَطُ الرأس. يقال: فرقَ شعرَه فَرْقاً -بالسكون-، وأصلُه من الفرق بين الشيئين. والمَفْرِق: مكانُ انقسام الشعر من الجبين إلى داره وسط الرأس، وهو - ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2762)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في الأخذ من اللحية، وقال: هذا حديث غريب، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: عمر بن هارون مقارب الحديث، لا أعرف له حديثاً ليس إسناده أصلاً، أو قال: ينفرد به إلا هذا الحديث. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 351).

بفتح الميم وبكسرها -، وكذلك الراء - تكسر وتفتح (¬1) -. وفي "الصحيحين" وغيرهما: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب موافقةَ أهل الكتاب فيما لم يؤمرْ فيه، زاد في لفظ من رواية معمر: في أمرٍ لم يؤمرْ فيه بشيء، وكان أهل الكتاب يَسْدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، فسدل النبي - صلى الله عليه وسلم - ناصيته، ثم فَرَق بعدُ (¬2). وأخرجا من حديث عائشة - رضي الله عنها -، قالت: كأني أنظرُ إلى وَبيصِ الطِّيب في مفارق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِم (¬3). وفي لفظٍ: في مفرِق النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وفي روايةٍ في حديث ابن عباس: ثم أُمر بالفرق، ففرق، وكان الفرقُ آخرَ الأمرين (¬5). قال القاضي عياض: سَدْلُ الشعر: إررسالهُ، يقال: سدلَ شعرَه: إذا أرسله، ولم يضمَّ جوانبه، وكذا الثوب. ¬

_ (¬1) المرجع السابق (10/ 361). (¬2) رواه البخاري (5573)، كتاب: اللباس، باب: الفرق، ومسلم (2336)، كتاب: الفضائل، باب: في سدل النبي - صلى الله عليه وسلم - شعره وفرقه. (¬3) رواه البخاري (5574)، كتاب: اللباس، باب: الفرق، ومسلم (1190)، (2/ 848). كتاب: الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. (¬4) رواه البخاري (268)، كتاب: الغسل، باب: من تطيب تم اغتسل وبقي أثر الطيب، ومسلم (1190)، (2/ 847)، كتاب: الحج، باب، الطيب للمحرم عند الإحرام. (¬5) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (20518)، من طريق معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، به.

والفَرْق: تفريقُ الشعر بعضِه عن بعض، وكشفه عن الجبين. قال: والفرق سنة؛ لأنه الذي استقر عليه الحال. قال: والذي يظهر أن ذلك وقع بوحي؛ لقول الراوي: إنه كان يحبُّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمرْ فيه بشيء. فالظاهر: أنه فرق بأمرٍ من الله. والصحيح: أن الفرق مستحبٌّ لا واجب، وهو قول عامة أهل العلم (¬1). قال في "شرح الوجيز": فرقُ الشعر سنةٌ، نص عليه، وذكر حديث ابن عباس المتفق عليه. قال: وفي شروط عمر - رضي الله عنه - على أهل الكتاب: أَلَّا يفرقوا شعورهم؛ لئلا يتشبهوا بالمسلمين (¬2). وقال في "الفروع": ويتخذ الشعر، ويتوجَّه احتمالُ، لا، إن شَقَّه إكرامُه؛ وفاقاً للشافعي، ولهذا قال الإمام أحمد: هو سنةٌ، ولو نقوى عليه، اتخذناه، ولكن له كلفةٌ ومؤنةٌ. قال: ويُسرِّحه، ويَفْرقه، ويكون إلى أذنيه، وينتهي إلى مَنْكِبيه؛ كشعره - صلى الله عليه وسلم -. ولا بأس بزيادته على مَنكبيه وجعله ذؤابةً. قال الإمام أحمد: أبو عبيدة - رضي الله عنه - كانت له عقيصتان، وكذا عثمان، انتهى (¬3). وقال النووي: الصحيح: جواز السَّدْل والفرق، والله أعلم (¬4). وأما غسل البراجم؛ فهو بالموحَّدة والجيم: جمع بُرْجُمَة -بضمتين-، ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 302). (¬2) وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 65). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 99 - 100). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (15/ 90).

وهي عُقَد الأصابع التي في ظهر الكف (¬1). قال الخطابي: هي المواضع التي تتشنج، ويجتمع فيها الوسخ، ولاسيما من لا يكون طري البدن (¬2). وقال الغزالي: كانت العرب لا تغسل اليدَ عقب الطعام، فيتجمع في تلك الغضون وسخٌ، فأمر بغسلها (¬3). قال النووي: هي سنة مستقلة، ليست مختصة بالوضوء، يعني: أنها يحتاج إلى غسلها في الوضوء والغسل والتنظيف. وقد ألحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن، وقعر الصماخ؛ فإن في بقائه إضراراً بالسمع (¬4). وأخرج ابن عدي من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتعاهُد البراجم عند الوضوء؛ لأن الوسخ إليها سريع (¬5). وأخرج الحكيم الترمذي من حديث عبد الله بن بُسر، رفعه: "قُصُّوا أَظْفاركم، وادْفِنوا قُلاماتِكم، ونَقُّوا براجِمَكم" (¬6). وفي سنده مجهول. وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أبطأ جبريلُ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لِمَ تبطىءُ عني؟ "، فقال: "ولمَ لا أُبطىء ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 113)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 338). (¬2) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/ 220 - 221). (¬3) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (1/ 219). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 150). (¬5) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (1/ 261). (¬6) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (1/ 185).

وأنتم لا تَسْتَنُّون؛ أي: لا تستاكون، ولا تقصون شواربكم، ولا تنقون رواجبكم؟! " (¬1). والرواجب: جمع راجبة -بجيم وموحدة-. قال أبو عبيد: البراجم والرواجب: مفاصل الأصابع كلها (¬2). وقال ابن سِيْده: البُرْجُمَة: المفصلُ الباطنُ عند بعضهم، والرواجبُ: بواطنُ مفاصل أصولِ الأصابع. وقيل: قصبُ الأصابع. وقيل: ظهور السلاميات. وقيل: ما بين البراجم (¬3). والبراجم: المُشَنَّجات من مفاصل الأصابع، وفي كل إصبعٍ ثلاث برجماتٍ، إلا الإبهام؛ فلها برجمتان (¬4). وقال الجوهري: الرواجب: مفاصل الأصابع اللاتي تلي الأنامل، ثم البراجم، ثم الأشاجع التي على الكف (¬5). وقال: أيضاً -: الرواجب: رؤوس السُّلاميات من ظهر الكف، إذا قبض القابضُ كَفَّه، نشزت، وارتفعت. والأشاجع: أصولُ الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف، واحدها أشجع (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 243)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12224)، وغيرهما بلفظ: أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يارسول الله! لقد أبطأ عنك جبريل - عليه السلام -؟ فقال: "ولمَ لا يُبطىء عني، وأنتم حولي لا تستنون، ولا تقلمون أظافركم ... الحديث". (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 83). (¬3) انظر: "المحكم" لابن سيده (3/ 350)، (مادة: برجم). (¬4) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 46)، (مادة: برجم). (¬5) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 134)، (مادة: رجب). (¬6) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1236)، (مادة: شجع).

وقيل: عروق ظاهر الكف، والمعاني متقاربة، والله أعلم (¬1). وأما الانتضاح: فسنة مندوبة. قال في "الفروع": ومن استنجى، نضحَ فرجَه وسراويلَه (¬2)؛ قطعاً للوسواس. قال أبو عُبيد الهَروي: هو أن يأخذ قليلاً من الماء، فينضحَ به مذاكيرَه بعد الوضوء؛ لينفي عنه الوسواس (¬3). وقال الخطابي: انتضاحُ الماء: الاستنجاء به، وأصله من النضح، وهو الماء القليل (¬4). فعلى هذا يكون هو والاستنجاء خصلةً واحدة. والمعتمد: أنه غيره؛ بدليل ما أخرجه أصحاب "السنن" من رواية الحكم بن سفيان الثقفي، أو سفيان بن الحكم، عن أبيه: أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ثم أخذ حفنةً من ماءٍ، فانتضح بها (¬5). وأخرج البيهقي من طريق سعيد بن جبير: أن رجلاً أتى ابنَ عباس - رضي الله عنهما -، فقال: إني أجد بللاً إذا قمتُ أصلي، فقال له ابن ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 338). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 92). (¬3) وانظر: "غريب الحديث" لابن الجوزي (2/ 413). (¬4) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 63). (¬5) رواه أبو داود (168)، كتاب: الطهارة، باب: في الانتضاح، والنسائي (132)، كتاب: الطهارة، باب: النضح، وابن ماجه (461)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النضح بعد الوضوء.

عباس: انضح بماءٍ، فإذا وجدت من ذلك شيئاً، فقل: هو منه (¬1). وذكر الإمام شمسُ الدين بنُ أبي عمر في "شرح المقنع": روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جاءني جبريل، فقال: يا محمدُ! إذا توضأتَ، فانضحْ" حديثٌ غريب، انتهى (¬2). قلت: رواه الترمذي، وابن ماجه في "سننهما" (¬3). فهذه الخصالُ المصرَّح فيها بلفظ الفطرة. وأما الخصال الواردة في المعنى، لكن لم يصرَّحْ فيها بلفظ الفطرة، فكثيرةٌ، منها: ما رواه الإمام أحمد في "المسند"، والترمذي، من حديث أبي أيوب، رفعه: "أربعٌ من سُنَنِ المُرسلين: الحياء، والتعطُّر، والسِّواك، والنكاح" قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريب (¬4). وأخرج البزار، والبغوي في "معجم الصحابة"، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، من طريق مليح بن عبد الله الخطمي، عن أبيه، عن جده، رفعه: "خمسٌ من سُنَنِ المرسلين" (¬5)، فذكر المذكورة في الحديث المار، ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 162). (¬2) انظر: "الشرح الكبير" لشيخ الإسلام ابن أبي عمر المقدسي (1/ 94). (¬3) رواه الترمذي (50)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النضح بعد الوضوء، وقال: غريب، وابن ماجه (463)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النضح بعد الوضوء. وعندهما، وفي "الشرح الكبير" أيضاً: "فانتضحْ" بدل "فانضحْ". (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 421)، والترمذي (1080)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في فضل التزويج والحث عليه، وقال: حسن غريب. (¬5) رواه البزار في "مسنده" (2/ 99 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (2/ 254)، والبغوي في "معجم الصحابة" (521)، وغيرهم.

سوى النكاح، وزاد: "الحِلْم، والحِجامة". والحلم -بكسر الحاء المهملة وسكون اللام-. وإذا تتبع ذلك من الأحاديث، كثر العدد؛ والله أعلم. تنبيهات: الأول: اختُلف في ضبط الحياء، في حديث أبي أيوب، فقيل:-بفتح الحاء المهملة والتحتية الخفيفة-، وقد ثبت في "الصحيحين": أن "الحياء من الإيمان" (¬1)، ويؤيده حديث البزار: "والحلم"؛ فإنه من ثمراته ولوازمه. وقيل: بكسر المهملة، وتشديد النون-. فعلى الأول: هي خصلة معنوية تتعلق بتحسين الخلق. وعلى الثاني: هي خصلة حسية تتعلق بتحسين البدن، كما في "الفتح" (¬2). قلت: لم يرض الإمام ابنُ القيم بذلك كله. بل قال: سمعت شيخنا أبا الحجاج الحافظَ -يعني: المِزِّيَّ- يقول: كلاهُما غلط، وإنما هو الخِتان، فوقعت النون بالهامش، فذهبت، فاختلف في اللفظة. قال: وكذلك رواه المحاملي عن الشيخ الذي رواه عنه الترمذي بعينه، فقال: الخِتان. قال: وهذا أولى من الحياء والحِنَّاء؛ فإن الحياء خلق، والحِنّاء ليس من ¬

_ (¬1) رواه البخاري (24)، كتاب: الإيمان، باب: الحياء من الإيمان، ومسلم (36)، كتاب: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها ... ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 338).

السنن، ولا ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في خصاد الفطرة، ولا ندب إليه، بخلاف الختان. انتهى (¬1). الثاني: يتعلق بخصال الفطرة مصالحُ دينية ودنيوية تُدرك بالتتبع، منها: تحسينُ الهيئة، وتنظيفُ البدن جملةً وتفصيلاً، والاحتياطُ للطهارتين، والإحسانُ إلى المخالطِ والمقارِب بكفِّ ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفةُ شعار الكفار من المجوس، واليهود، والنصارى، وعباد الأوثان، وامتثالُ أمر الشارع، والمحافظةُ على ما أشار إليه قوله - تعالى -: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3]؛ لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، فكأنه قيل: قد حَسَّنْتُ صورَكم، فلا تشوهوها بما يُقَبِّحُها، وحافظوا على ما يستمر به حسنُها، وفي المحافظة عليها محافظةٌ على المروءة، وعلى التآلف المطلوب؛ لأن الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة، كان أدعى لانبساط النفسِ إليه، فيُقبل قولُه، ويُحمد رأيُه، والعكس بالعكس. وفي "تحفة المودود" قد اشتركت خصال الفطرة في الطهارةِ والنظافة، وأخذِ الفضلات المستقذرةِ التي يألفها الشيطان ويجاورها من ابن آدم، وله بالعزلة اتصالٌ واختصاص. والله أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص: 159). (¬2) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 162).

باب الجنابة

باب الجنابة أي: أحكامُها؛ من موجباتها، والغسلِ منها، ومتعلقاتِ ذلك. والجنابة: مأخوذة من البُعْد. قيل: لأن المتصف بها يتجنب مواضعَ الصلاة. وقيل: لمجانبته الناس. وقيل: لمجانبة النطفةِ ومفارقتِها محلَّها، وخروجِها، وبعدِها عصَّا كانت فيه من الجسد (¬1). يقال: رجلٌ جُنُبٌ، ورجال جُنُبٌ، ومنه: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]، وامرأة جُنُبٌ. ويقال: رجلٌ جُنُبُ: بعيدُ النسب، وجنب وأجنب: أصابته جنابة، كما في "المطالع" (¬2). وقال في "المطلع": في تسميته بذلك وجهان حكاهما ابن فارس: أحدهما: لبعده عما كات مباحاً له. والثاني: لمخالطته أهله. قال: ومعلومٌ من كلام العرب أن يقولوا للرجل إذا خالط امرأته: قد أجنبَ، وإن لم يكن منه إنزال، وعزا ذلك إلى الشافعي. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 302)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 279)، (مادة: جنب). (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 155).

قال: ويقال: جُنُبٌ للمذكر والمؤنث والمثنى والمجموع. قال الجوهري: وقد يقال: أجنابٌ، وجُنُبُون (¬1). وفي "صحيح مسلم" في كلام عائشة - رضي الله عنها -: ونحن جُنُبان (¬2). وذكر الحافظ - رحمه الله تعالى - في هذا الباب ثمانية أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 103)، (مادة: جنب). (¬2) رواه مسلم (321)، كتاب: الحيض، باب: القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة. وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 31).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ المَدِينهِ، وهو جُنُبٌ، قال: فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ، فَذَهَبْتُ، فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ، فقالَ: "أَيْنَ كنتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ "، قال: كُنْتُ جُنُباً، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجالِسَكَ وَأَنا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فقالَ: "سُبْحَانَ اللهِ! إنَّ المُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (279)، كتاب: الغسل، باب: عرق الجنب، وأن المسلم لا ينجس، و (281)، باب: الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره، ومسلم (371)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن المسلم لا ينجس، وأبو داود (231)، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب يصافح، والنسائي (269)، كتاب: الطهارة، باب: مماسة الجنب ومجالسته، والترمذي (121)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في مصافحة الجنب، وابن ماجه (534)، كتاب: الطهارة، باب: مصافحة الجنب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 184)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 226)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 618)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 65)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 89)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 198)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 344)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 46)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (2/ 6)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 290)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 237)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 25).

(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمنِ بنِ صخرٍ (- رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه)؛ أي: لقي النبي - عليه الصلاة والسلام - أبا هريرة (في بعض طرقِ) جمع طريق، وهي المَحَجَّة: الجادة المسلوكة للسابلة، سميت بذلك؛ لأنها محلُّ طَرْقِ الأقدامِ وقَرْعها (¬1)؛ يعني: في بعض سكك (المدينة) المنورة، أصلُها مأخوذ من قولهم: مَدَدنَ بالمكان: إذا أقام، فهي فعيلةٌ، [وجمعَها مدائن]، فتكون -بالهمز-. وقيل: مَفْعَلَة من دِينَ: إذا مُلِك -بلا همز- كما لم تُهمز مَعايش (¬2). وصار هذا عَلَماً على مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغلبة، لا بالوضع، فلا يجوز ترك الألف واللام منها إلا في نداء، أو إضافة، وجمعها: مُدُن -بسكون الدال وبضمها-، ومدائن -بهمزٍ ودونه-؛ فالهمز على أنها من فَعيلة، كما مر (¬3). (وهو)؛ أي: أبو هريرة - رضي الله عنه - (جنبٌ) -بضم الجيم والنون-، وهو من صار جنباً بجماعٍ أو إنزالٍ، فهو جنبٌ، وأَجنبَ، فهو مُجْنِبٌ (¬4)، والجملة حاليةٌ. (قال) أبو هريرة - رضي الله عنه -: (فانخنست) -بنون فخاء معجمة فنون فسين مهملة-؛ أي: مضيتُ عنه مستخفياً، ولذا وُصف الشيطانُ بالخَنَّاس. قال الإمام ابن القيم في "بدائع الفوائد": الخنّاس: فَعَّال من خنس ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 405). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2201)، (مادة: مدن). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 155)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 42). (¬4) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 362).

يخنس، إذا توارى واختفى، ومنه قول أبي هريرة: لقيني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق المدينة وانا جنبٌ، فانخنست منه. وحقيقة اللفظة: اختفاءٌ بعد ظهور، فليست لمجود الاختفاء؛ ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله - تعالى -: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16]. قال قتادة: هي النجوم تبدو بالليل، وتخنس بالنهار فتختفي ولا ترى (¬1). وفي روايةٍ عند البخاري: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جنبٌ، فأخذ بيديَ، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت (منه) (¬2)؛ أي: من مجالسته ومحادثته وأنا جنب؛ تعظيماً واحتراماً له - صلى الله عليه وسلم -. (فذهبت) في "البخاري": فانسللت، فأتيت الرحل؛ أي: مسكني ومنزلي، (فاغتسلت) من الجنابة، (ثم) بعد غسلي (جئت) النبي، (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (أين كنت) وفي روايةٍ: أن أبا هريرة ذهب فاغتسل، فتفقده النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاءه، قال: "أين كنت (يا أبا هريرة؟ قال) أبو هريرة: (كنت جنباً) (¬3). وفي لفظٍ قال: يا رسول الله! لقيتني وأنا جنبٌ (فكرهت أَن أجالسك وأنا على غير طهارة). وفي لفظٍ: حتى أغتسل (¬4). ¬

_ (¬1) رواه عبد بن حميد في "تفسيره"، كما عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (8/ 432). وانظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 479). (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب، برقم (281) عنده. (¬3) وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها في حديث الباب. (¬4) وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها.

وفي هذا: استحباب الطهارة عند ملابسة الأمور العظيمة، واستحباب احترام أهل الفضل، وتوقيرهم، ومصاحبتهم على أكمل الهيئات. وفيه: تفقد الكبير أصحابه، والشيخِ تلامذتَه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - فقد أبا هريرة لما انسلَّ من عنده. (فقال) النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سبحان الله!) تعجب - صلى الله عليه وسلم - من اعتقاد أبي هريرة - رضي الله عنه - التنجس من الجنابة؛ أي: كيف يخفى عليه هذا الظاهر، مع شدة اعتنائه بالفحص عن حقائق الأمور، والكشف عن غوامضها؟! وفيه: استحبابُ استئذان التابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: "أين كنت؟ "، فأشار إلى أنه كان ينبغي له أَلَّا يفارقه حتى يعلمه. وفيه: استحبابُ تنبيه المتبوع لتابعه على الصواب، وإن لم يسأله (¬1)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن المؤمن لا ينجس)؛ من نَجَس، ونَجُس -بالفتح والضم- ينجَس وينجُس كذلك (¬2). وعبر - صلى الله عليه وسلم - بالعبارة الدالة على أن كل مؤمن لا ينجس بالجنابة؛ لإفادة الحكم العام؛ فإنه لو خَصَّ أبا هريرة، لسبق لبعض الأفهام قصرُ الحكم على المخاطب. وتمسك بمفهومه بعضُ أهل الظاهر، فقال بنجاسة عين الكافر، وقوَّاه بقوله - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 391). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 90)، و"لسان العرب" لابن منظور (6/ 226)، (مادة: نجس).

وأجاب الجمهور عن الحديث: بأن المؤمن طاهر الأعضاء؛ لاعتياده مجانبة النجاسة؛ بخلاف المشرك؛ لعدم تحفظه عن النجاسات. وعن الآية: بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد، ولاستقذار رائحتهم، فإن الله أباح نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلومٌ أن عَرَقهن لا يسلم منه مَنْ يضاجعهن؛ ومع ذلك لم يجب عليه من غسل الكتابية إلا مثلُ ما يجب عليه من غسل المسلمة؛ فدل على أن الآدمي الحيَّ ليس بنجس العين، وكذا الميت، على الصحيح المعتمد؛ لظاهر قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، فمن كرامته: طهارة عينه حياً وميتا (¬1). قال ابن دقيق العيد: قد استُدل بهذا الحديث على طهارة الميت من بني آدم، وهي مسألة مختلَف فيها. والحديث دل بمنطوقه على أن المؤمن لا ينجس، فمنهم من خص هذه الفضيلة بالمؤمن، والمشهور التعميم. قال: وبعضُ الظاهرية يرى أن المشرك نجس في حال حياته، آخذاً بظاهر قوله - تعالى -: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]. ويقال للشيء: إنه نجس، بمعنى: أن عينه نجسة. ويقال فيه: إنه نجس، بمعنى: أنه متنجس بإصابة النجاسة له. ويجب أن يُحمل الحديث على المعنى الأول، وهو أن عينه لا تصير نجسة، وأما بالمعنى الثاني، فيمكن أن تصيبه نجاسة فيتنجس (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 390). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 90).

قال الحافظ ابن حجو: وأمخوب القرطبيُّ في "شرح مسلم" (¬1)، فنسب القول بنجاسة الكافر إلى الشافعي. واستدل البخاري بالحديث على طهارة عرق الجنب؛ لأن بدنه لا ينجس بالجنابة، فكذلك ما تَحَلَّب منه، وعلى تصرُّف الجنب في حوائجه قبل أن يغتسل (¬2). وفيه دليلٌ: على جواز تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوبه. وبَوَّبَ به ابنُ حبان: في الرد على من زعم أن الجنب إذا وقع في البئر، فنوى الاغتسال أن ماء البئر ينجس (¬3). فائدة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - عما إذا كان الرجل جنباً، فقصَّ ظفرَه، أو شاربه، أو مشط رأسه، هل عليه لثمشيء في ذلك؛ فقد أشار بعضهم إلى أن الجنب إذا قص شعره أو ظفره، فإنه تعود إليه أجزاؤه في الآخرة، فيقوم يوم القيامة وعليه قسطٌ من الجنابة بحسب ما نقص من ذلك، أو على كل شعرة قسطٌ من الجنابة، فهل ذلك كذلك أم لا؟ فأجاب: بأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في "الصحيح" من حديث حذيفة -يعني: لمسلم- (¬4)، وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنهما -: أنه لما ذكر له الجنب، فقال: "إن المؤمن لا ينجس". وفي ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 630). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 391). (¬3) انظر: "صحيح ابن حبان" (4/ 69). (¬4) سيأتي تخريجه قريباً.

"صحيح الحاكم": "حياً ولا ميتاً" (¬1). قال: وما أعلم على كراهة إزالة شعر الجنب وظفره دليلاً شرعياً، بل قد قال - صلى الله عليه وسلم - للذي أسلم: "ألقِ عنك شعرَ الكفر، واختتن" (¬2)، فأمر الذي أسلم أن يغتسل، ولم يأمره بتأخير الاختتان وإزالة الشعر عن الاغتسال، فإطلاق كلامه - صلى الله عليه وسلم - جواز الأمرين. وكذلك تؤمر الحائض بالامتشاط في غسلها، مع أن الامتشاط يذهب ببعض الشعر، انتهى (¬3). ولفظ حديث حذيفة - رضي الله عنه - الذي أشار إليه، هو ما رواه مسلم عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه وهو جنب، فحاد عنه، فاغتسل أجاء، فقال: كنت جنباً، فقال: "إن المسلم لا ينجس" (¬4). والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (1422)، والدارقطني في "سننه" (2/ 70)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 360)، وغيرهم، عن أبن عباس - رضي الله عنهما -. ورواه البخاري في "صحيحه" (1/ 422)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - معلقاً موقوفاً. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (21/ 120 - 121). (¬4) رواه مسلم (372)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن المسلم لا ينجس.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، غَسَلَ يَدَيْهِ، وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدَيْهِ شَعْرَهُ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَّنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ؛ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ. وَقَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ، نَغْتَرِفُ مِنْهُ جَمِيعاً (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (269)، كتاب: الغسل، باب: تخليل الشعر، وهذا سياقه. ورواه أيضاً: (245)، كتاب: الغسل، باب: الوضوء قبل الغسل، و (259)، باب: هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها؟، ومسلم (316)، (1/ 253 - 254)، كتاب: الحيض، باب: صفة غسل الجنابة، وأبو داود (242)، كتاب: الطهارة، باب: الغسل من الجنابة، والنسائي (247)، كتاب: الطهارة، باب: ذكر وضوء الجنب قبل الغسل، و (248 - 249)، باب: تخليل الجنب رأسه، و (420)، باب: الابتداء بالوضوء في غسل الجنابة، و (423)، باب: استبراء البشرة في الغسل من الجنابة، والترمذي (104)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الغسل من الجنابة، وابن ماجه (574)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الغسل من الجنابة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 80)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 259)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 353)، و"إكمال =

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (- رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة)، أي: إذا أراد أن يغتسل؛ كما في قوله - تعالى -: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]. أو إذا شرعَ في الغسل، فإنه يقال: فعل: إذا فرغ، وإذا شرع. فإذا حملنا اغتسل على شرعَ، صح ذلك؛ لأنه يمكن أن يكون الشروع وقتاً للبداءة بغسل اليدين، وهذا بخلاف قوله - تعالى -: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]؛ فإنه لا يمكن أن يكون وقت الشروع في القراءة هو وقت الاستعاذة؛ كما أشار إليه ابن دقيق العيد (¬1). و"من" في قولها: من الجنابة: سببية، و"كان" تفيد تكرار هذا الفعل منه - صلى الله عليه وسلم -، كما هو الغالب على دلالتها. وقد تفيد مجرد وقوع الفعل من غير تكرار، وهذا غير الغالب (¬2). (غسل يديه) يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف من مَسِّ مستقذَر؛ كما يأتي في حديث ميمونة تقويته، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، ويدل عليه زيادة ابن عُيينة في هذا الحديث: قبل أن يدخلهما في الإناء. ¬

_ = المعلم" للقاضي عياض (2/ 155)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 576)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 228)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 91)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 203)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 233، 310)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 87)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 360)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 191)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 89)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 306). (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 91). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

وفي روايةٍ: غسل كفيه ثلاثاً، كما في "صحيح مسلم" (¬1). ورواه الشافعي، والترمذي، وزاد -أيضاً-: ثم يغسل فرجه (¬2). وكذا لمسلم، ولأبي داود (¬3)، وهي زيادة جليلةٌ؛ لأن تقديم غسله يحصل به الأمن من مسه في أثناء الغسل (¬4). (وتوضأ) - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك (وضوءه)؛ أي: كوضوئه (للصلاة). وفي روايةٍ عنها عند البخاري: كما يتوضأ (¬5)، وهذا احتراز منها عن الوضوء اللغوي، وهذا من كمال الغسل أن يتوضأ قبله وضوء الصلاة، على ما هو المذهب. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: الغسل من الجنابة على حديث عائشة - رضي الله عنها -، قالت؛ كما في "صحيح مسلم" في بعض ألفاظ هذا الحديث (¬6): كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه ثلاثاً، وتوضأ وضوءه للصلاة (¬7). (ثم اغتسل) بعد ذلك. وقد تنازع العلماء في تقديم غسل أعضاء الوضوء؛ هل هو وضوءٌ حقيقةً؛ كما يقوله الإمام أحمد ومَنْ وافقه، أو هو غسلٌ من الجنابة، وإنما قدمت هذه الأعضاء على بقية الجسد؛ تكريماً لها وتشريفاً، ويسقط غسلُها ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (316)، (1/ 254). (¬2) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 19). وتقدم تخريجه عند الترمذي. (¬3) تقدم تخريجه عندهما في حديث الباب. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 360). (¬5) تقدم تخريجه في حديث الباب، برقم (245) عنده. (¬6) وتقدم تخريجه عنده. (¬7) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 138).

عن الوضوء باندراج الطهارة الصغرى تحت الكبرى، كما يقوله من يقوله من أهل العلم؟. قال في "الفروع" في صفه الغسل الكامل: أن ينوي، ويسمي، ويغسل يديه ثلاثاً، وما لوثه، ثم يتوضأ كاملاً؛ وفاقاً لمالك، والشافعي، وعنه: يؤخر غسل رجليه وفاقاً لأبي حنيفة إن كانتا في مستنقع الماء المستعمل، وعنه: سواء (¬1). (ثم) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يخلل بيديه شعره). وفي لفظٍ: ثم يأخذ الماء فيُدْخل أصابعه في أصول الشعر، كما في مسلم (¬2)، وعند الترمذي، والنسائي: ثم يُشرب شعره الماء (¬3). وفي لفظ البخاري: ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصولَ الشعر (¬4). وفي لفظٍ له: أصولَ شعره (¬5)؛ أي: شعر رأسه، يدل له ما عند البيهقي: فخلل بها شق رأسه الأيمن (¬6). وقال القاضي عياض: استدل به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل، إما لعموم قوله: أصول الشعر، وإما للقياس (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 175). (¬2) تقدم تخريجه، برقم (316)، (1/ 253) عنده. (¬3) تقدم تخريجه عندهما. (¬4) كذا هي في رواية الكشميهني، كما ذكر الحافظ في "الفتح" (1/ 360). (¬5) تقدم تخريجها عنده برقم (245). (¬6) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 175). (¬7) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 156).

وفائدة التخليل: إيصالُ الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرةُ الشعر باليد؛ ليحصل تعميمُه بالماء. وليس التخليل بواجب اتفاقاً، إلا إن كان الشعر مُلبَّداً بشيءٍ يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله (¬1)؛ فإن كان، وجب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ تحتَ كلِّ شعرةٍ جنابةً، فاغسلوا الشعرَ، وأنقوا البشرةَ" رواه أبو داود (¬2). (حتى إذا ظن)، أي: لم يزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يخلل شعره بإيصال الماء إلى أصوله مُدْخِلاً له بأصابع يديه إلى أن ينتهي إلى حال ظنه (أنه قد أروى) بالماء (بشرته)؛ أي: ظن تروية بشرة شعره، وهي ظاهر جلده. والمراد: إيصال الماء إلى جميع الجلد، ولا يكون ذلك إلا بعد ابتلال أصول الشعر أو كله، المعبر عنه بالري مجازاً عن الابتلال (¬3). (أفاض) - صلى الله عليه وسلم - (عليه الماء)، أي: أساله، والإفاضة: الإسالة. واستدل به على عدم وجوب الدلك. قال القاضي عياض: لم يأت في شيءٍ من الروايات في أعضاء الغسل ذِكْرُ التكرار (¬4). وتعقَّبه الحافظ ابن حجر بأنه ورد من طريق صحيحة أخرجها النسائي، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 360). (¬2) رواه أبو داود (248)، كتاب: الطهارة، باب: الغسل من الجنابة، والترمذي (156)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن تحت كل شعرة جنابة، وقال: غريب، وابن ماجه (597)، كتاب: الطهارة، باب: تحت كل شعر جنابة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 93). (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 155).

والبيهقي من رواية أبي سلمة، عن عائشة: أنها وصفت غُسل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة ... الحديث، وفيه: ثم تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ويديه ثلاثاً، ثم أفاض الماء (¬1) (ثلاث مرات)؛ لأجل إفادة التعميم والتنظيف، (ثم غسل) - صلى الله عليه وسلم - (سائر جسده)؛ أي: بقيته؛ فإنها ذكرت الرأس أولاً. والأصل في سائر: أن يستعمل بمعنى البقية. قالوا: هو مأخوذ من السُّؤر. قال الشَّنْفَرى: [من الطويل] إِذَا احْتَمَلُوا رَأْسِي وَفِي الرَّأْسِ أَكْثَرِي ... وَغُودِرَ عِنْدَ المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِرِي (¬2) أي: بقيتي. وقد ذكر في "أوهام الخواص" جعلها بمعنى: الجميع؛ كما قاله ابن دقيق العيد (¬3). وفي "القاموس": والسائر: الباقي، لا الجميع كما توهم جماعة. أو قد يستعمل له. ومنه قولُ الأحوص: [من الخفيف] فَجَلَتْهَا لَنَا لُبَابَةُ لَمَّا ... وَقَذَ النَّوْمُ سَائِرَ الحُرَّاسِ (¬4) قال: وضاف أعرابي قوماً، فأمروا الجاريةَ بتطييبه، فقال: بَطْنِي عَطِّري، وسائري ذَرِي (¬5). ¬

_ (¬1) رواه النسائي (243)، كتاب: الطهارة، باب: ذكر غسل الجنب يديه قبل أن يدخلهما الإناء، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 174). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 361). (¬2) انظر: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة (1/ 80)، (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 94). (¬4) انظر: "ديوانه" (ص: 110)، (ق: 83). (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 517)، (مادة: سأر).

(وقالت) عائشة - رضي الله عنه -: (كنت أغتسل أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -) يحتمل أن يكون مفعولاً معه؛ أي: أغتسلَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون عطفاً، وهو من باب تغليب المتكلم (¬1). (من إناء واحد نغترف) (¬2) مشتق من الغَرْف: وهو أخذُ الماء باليد. يقال: غرف الماء يغرِفه، ويغرُفه: أخذه بيده؛ كاغترفه، والغَرْفة للمرة، و -بالكسر-: هيئةُ الغرف، والنَّعْل، والجمع غِرَف؛ كعنب، وبالضم: اسمٌ للمفعول، كالغُرافة؛ لأنك ما لم تغرفه لا تسميه غُرفة، كما في "القاموس" (¬3). (منه)؛ أي: الإناء (جميعاً) حال مؤكدة. وهذه الزيادة، وهي: قالت ... إلخ، ذكرها مسلم (¬4). وفي لفظٍ لمسلم: عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل، بدأ بيمينه، فصبَّ عليها من الماء فغسلها، ثم صبَّ الماء على الأذى به بيمينه (¬5)، وغسل عنه بشماله، حتى إذا فرغ من ذلك، صب على رأسه. قالت عائشة: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحدٍ ونحن جنبان (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 363). (¬2) لفظ البخاري المتقدم تخريجه عنده برقم (269): "نغرف" بدل "نغترف". (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1087)، (مادة: غرف). (¬4) بل هي لفظ البخاري دوِن مسلم. وقد رواها مسلم برقم (321)، (1/ 256 - 257)، بروايات متعددة ليس فيها هذا اللفظ، ولعله سبق قلم من المؤاسف؛ إذ سيذكر بعدها روايات مسلم التي أخرجها في "صحيحه". (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) تقدم تخريجه.

وأخرج مسلمٌ أيضاً عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد، أو قريباً من ذلك، لم يخرج البخاري هذا اللفظ. وأخرجا عنها - رضي الله عنها -، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحدٍ بيني وبينه، فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي، قالت: ونحن جنبان. إلا أن البخاري لم يقل: فيبادرني حتى أقول: دع لي، دع لي (¬1). وقد استدل بعضهم بنجاسة المني، ورطوبة فرج المرأة بقولها: وغسله عنه، وقولها: الأذى. وذلك بعيدٌ، لأن الغسل ليس مقصوراً على إزالة النجاسة، ولأن الأذى ليس بظاهر في النجاسة -أيضاً (¬2). وفي الحديث دليلٌ على: جواز اغتسال الرجل والمرأة من إناءٍ واحدٍ، ولا يؤثر كون اغتراف الرجل بعد اغترافها (¬3)؛ لأن ذلك معتبرٌ فيه أن تتطهر به في خلوةٍ لم يشاهدها من تزول به خلوة النكاح، ثم يفضل منه فضلةٌ، فيمنع الرجل من أن يتطهر بتلك الفضلة. وفيه: جواز إدخال الجنب يدَه في الإناء قبل تمام الغسل، إذا كانت نظيفة؛ لعدم نجاسة شيءٍ من أعضائه بالجنابة. وفي روايةٍ عنها عندهما: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من القدح، وهو الفرق. قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري، ورواه مسلم برقم (321)، (1/ 725). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 362). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 94). (¬4) وهي رواية مسلم (319)، (1/ 255)، كتاب: الحيض، باب: القدر المستحب =

وفي لفظٍ للبخاري: قالت: كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناءٍ واحدٍ من قدحٍ يقال له الفرق (¬1). ولمالكٍ عن الزهري: هو الفرق (¬2). قال ابن التِّين: الفرق: -بتسكين الراء-، ورويناه -بفتحها-، وجوز بعضهم الأمرين. وقال القتبي: هو بالفتح. وقال النووي: الفتح أفصح وأشهر. وزعم أبو الوليد البَاجي: أنه الصواب، قال: وليس كما قال، بل هما لغتان (¬3). قال الحافظ ابن حجر: لعل مستند البَاجي ما حكاه الأزهري عن ثعلبٍ وغيره: الفرق -بالفتح-، والمحدثون يسكنونه، وكلام العرب بالفتح (¬4)، انتهى. وحكى ابن الأثير: أن الفرق -بالفتح-: ستة عشر رطلاً، و - بالإسكان -: مئة وعشرون رطلاً (¬5). قال في "الفتح": وهو غريب، وتقدم ما في كلام سفيان عند مسلم: أنه ¬

_ = من الماء في غسل الجنابة. (¬1) رواه البخاري (247)، كتاب: الغسل، باب: غسل الرجل مع امرأته. (¬2) رواه مسلم (319)، (1/ 255)، كتاب: الحيض، باب: القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 3). (¬4) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (9/ 108)، (مادة: فرق). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 437).

ثلاثة آصع، قال النووي: وكذا قال الجماهير (¬1)، ونقل أبو عبيد الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع، وعلى أن الفرق ستة عشر رطلاً، ولعله يريد اتفاق أهل اللغة. وإلا فقد قال بعض الفقهاء من الحنفية وغيرهم: إن الصاع ثمانية أرطال، وتمسكوا بحديث عائشة أنه حزر الإناء ثمانية أرطال (¬2)، والصحيح الأول؛ لأن الحزر لا يعارض التحديد. و-أيضاً- لم يصرح راوي الحديث مجاهد بأن الإناء المذكور في الحديث صاعٌ، فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها. ومما يؤيد كون الفرق ثلاثةَ آصع: ما رواه ابن حبان من طريق عطاء عن عائشة - رضي الله عنها - بلفظ: قدر ستة أقساط (¬3)، والقِسْط -بكسر القاف-، وهو باتفاق أهل اللغة: نصف صاع، ولا اختلاف بينهم أن الفرق: ستة عشر رطلاً، فصح أن الصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي، كما جزم به علماؤنا وغيرهم. وزعم بعض الشافعية: أن الصاع الذي لماء الغسل ثمانية أرطال, والذي لزكاة الْفِطْرِ وغيرها خمسة أرطال، كذا قال. وفي الحديث: دليلٌ على جواز نظر كل من الزوجين إلى عورة الآخر، ويؤيده ما أخرجه ابن حبان من طريق سليمان بن موسى: أنه سئل عن ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 3). (¬2) رواه النسائي (226)، كتاب: الطهارة، باب: ذكر القدر الذي يكتفي به الرجل من الماء للغسل. (¬3) رواه ابن حبان في "صحيحه" (5577).

الرجل ينظر إلى فرج امرأته، فقال: سألت عطاء عن ذلك، فقال: سألت عائشة، فذكرت هذا الحديث بمعناه (¬1). وهو نص في المسألة، والله أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: تخريج الحديث المتقدم. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 364).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ مَيْمُونَةَ بنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: وَضَعَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَضُوءَ الجَنابةِ؛ فَأَكْفَأ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثاً، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ يدَهُ بالأَرْضِ، أَوْ بِالحَائِطِ مَرَّتَينِ، أو ثَلاثاً، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتنشَقَ، وغَسَلَ وَجْهَهُ، وذِرَاعَيْهِ، تمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الماءَ، ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ، ثُمَّ تَنَّحَى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ؛ فَأَتَيْتُه بِخِرْقَةٍ، فَلَمْ يُرِدْهَا؛ فَجَعَلَ يَنْفُضُ الماءَ بِيَدِهِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (270)، كتاب: الغسل، باب: من توضأ في الجنابة، ثم غسل سائر جسده، ولم يُعِد غسل مواضع الوضوء مرة أخرى، واللفظ له، ورواه أيضاً: (254)، باب: الغسل مرة واحدة، و (256)، باب: المضمضة والاستنشاق في الجنابة، و (257)، باب: مسح اليد بالتراب ليكون أنقى، و (262)، باب: تفريق الغسل والوضوء، و (263)، باب: من أفرغ بيمينه على شماله في الغسل، و (272)، باب: نفض اليدين من الغسل عن الجنابة، و (277)، باب: التستر في الغسل عند الناس. ورواه مسلم (317)، (1/ 254)، كتاب: الحيض، باب: صفة غسل الجنابة، وأبو داود (254)، كتاب: الطهارة، باب: الغسل من الجنابة، والنسائي (253)، كتاب: الطهارة، باب: غسل الرجلين في غير المكان الذي يغتسل فيه، والترمذي (103)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الغسل من الجنابة، وابن ماجه (573)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الغسل من الجنابة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 152)، و"إكمال =

(عن) أم المؤمنين (ميمونةَ بنتِ الحارث) بنِ حَزْن -بفتح الحاء وسكون الزاي وآخره نون- ابنِ بُجَير -بضم الموحدة وفتح الجيم وسكون المثناة تحت - الهلاليةِ العامريةِ- رضي الله عنها- (زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -). يقال: كان اسمها بَرَّة، فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة، كانت تحت مسعود بن عمرو الثقفي في الجاهلية، ففارقها، فتزوجها أبو رُهْم -بضم الراء وسكون الهاء- ابنُ عبد العزى، وتوفي عنها، فتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ستّ من الهجرة. والمشهور أنه تزوجها في عُمرة القضيَّة في ذي القعدة سنة سبع بِسَرِف -بفتح السين المهملة وكسر الراء وآخره فاء-: موضع على عشرة أميالٍ من مكة. قال ابن الجوزي وغيره: وقدر الله تعالى أنها ماتت بِسَرِف في المكان الذي بنى بها رسولُ الله فيه، ودفنت هناك. قال النووي: سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثلاث وستين، وقيل: ستٍّ وستين. والحق أنها ماتت قبل عائشة، وعائشةُ ماتت سنة سبع وخمسين، وصلى عليها لما توفيت ابن أختها سيدُنا عبد الله بن عباس - رضي الله عنهم -. ¬

_ = المعلم" للقاضي عياض (2/ 156)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 577)، وشرح مسلم" للنووي (3/ 228)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 95)، و"العُدَّة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 204)، و"فتح الباري" لابن رجب الحنبلي (1/ 315)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 383)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 211)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 90)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 309).

وهي أخت أم الفضل لأبيها، وأخت أسماء بنت عُمَيس لأمها، وأختُ أم خالد بن الوليد لأبيها، وهي لُبابة الصغرى، وهي آخر من تزوج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يتزوج بعدها. قال الحافظ ابن الجوزي في "منتخب المنتخب": روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستةٌ وسبعون حديثًا، منها في "الصحيحين " ثلاثة عشر، المتفق عليه منها: سبعة، وانفرد البخاري بحديثٍ، ومسلم بخمسة (¬1). فمن المتفق عليه ما (قالت) - رضي الله عنها-: (وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوء الجنابة). تقدم: أن الوَضوء -بالفتح- اسمٌ للماء المضاف إلى الوضوء، أو لمطلق الماء. ويؤيد الثانيَ إضافُته هنا للجنابة (¬2)، والجنابة تقدم الكلام عليها. ولما كان الغسلُ من الجنابة معروفا قبل الإسلام، وبَقِيّهً من دين إبراهيم وإسماعيل؛ كالحج والنكاح، خوطبوا في القرآن به، ولم يحتاجوا إلى بيانه، كما قال- تعالى-: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، ومن ذلك: نَذْرُ أبي سفيان أَلَّا يمسَّ رأسَه ماءُ من جنابةٍ حتى يغزوَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، بخلاف الحدث الأصغر، فإنه لم يكن معروفاً عندهم، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 132)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 407)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1914)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 262)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 619)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 312)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 238)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 126)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (12/ 480). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 95). (¬3) رواه ابن إسحاق في "السيرة" (3/ 291).

فبين أعضاءه -جل شأنه-، وكيفيتَه، والسببَ الموجبَ له. وفي روايةٍ: قالت ميمونة -رضي الله عنها-: وضعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - غسلاً (¬1). قال النووي في "شرح مسلم": الغسل إذا أريد به الماء، فهو بالضم، فإن أريد به المصدر؛ أي: الفعل، فيجوز -ضمُّ العين وفتحُها- لغتان مشهورتان. قال: وبعضهم يقول: إن كان مصدراً، فبالفتح؛ كضربت ضَرْباً، وإن كان بمعنى الاغتسال، فبالضم؛ كقولنا: غسلُ الجمعة مسنونٌ، وغسلُ الجنابة واجبٌ. وأما ما ذكره بعض مَنْ صنف في لحن الفقهاء من أن قولهم: غسل الجنابة والجمعة وشبههما بالضم لحنٌ، فخطأٌ منه، بل الذي قالوه صوابٌ؛ لما ذكرناه؛ يعني: على إحدى اللغتين، انتهى (¬2). وقال بعضهم: الفتح أفصح عند اللغويين، والضم أشهر عند الفقهاء. والغِسْل -بالكسر-: ما يُغسل به من سِدْر ونحوه. (فأكفأ) - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: قلبَ وأمال: الإناء. يقال: كَفَأَ وأكفأ. وقال القاضي عياض: أنكر بعضُهم كون كفأ وأكفأ بمعنًى، وإنما يقال: في قلبت: كفأت ثلاثياً، وأمّا أكفأت رباعياً، فبمعنى أملت، وهو مذهب الكسائي (¬3). وتقدم. ¬

_ (¬1) وهي رواية البخاري المتقدم تخريجها في حديث الباب، برقم (263، 272) عنده. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 99). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 344).

(بيمينه) متعلق بأكفأ (على يساره مرتين أو ثلاثاً)؛ مبالغةً في التنظيف، (ثم غسل فرجه). قال في "الفتح": فيه تقديم وتأخير؛ لأن غسل الفرج كان قبل الوضوء؛ إذ الواو لا تقتضي ترتيباً. وقد بين ذلك ابنُ المبارك عن الثوري في "البخاري" (¬1). قلت: والذي يظهر أن غسل اليدين هذا إما للتنظيف، أو للقيام من نوم الليل. (ثم ضرب - صلى الله عليه وسلم - يده) الشريفة (بالأرض مرتين أو ثلاثاً) من المرات. وفي لفظٍ للبخاري: ثم صبَّ بيمينه على شماله، فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض، فمسحها ثم غسلها (¬2). وفي آخر: غسل فرجه بيده، ثم دلك بها الحائط، ثم غسلها، ثم توضأ (¬3). وقال الإمام ابن القيم في كتابه "البدائع": وفي رواية أحمد بن الحسين؛ يعني: عن الإمام أحمد -رضي الله عنه-، قال: يغسل يده ثلاثاً، ثم يستنجي، ثم يغسل يده ويتوضأ. قال أبو حفص: قد نبئنا عن أبي عبد الله: غسلُ اليد في الطهارة في ثلاثة مواضع: أحدها: قبل الاستنجاء. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 362). (¬2) تقدم تخريجها في حديث الباب، برقم (272) عنده. (¬3) تقدم تخريجها في حديث الباب، برقم (257) عنده.

والثاني: غسل اليد اليسرى بعد الاستنجاء. والثالث: عند ابتداء الوضوء، انتهى (¬1). وحكمة ضرب يده - صلى الله عليه وسلم - بالأرض لإزالة ما لعلَّه يعلَق بها من رائحةٍ. وقد تقدم أنه يُعفى عن الرائحة، فلا يضر بقاءُ ريح النجاسة كلونها عجزاً، وحينئذٍ فهو لطلب الأكمل فيما لا تجب إزالته، أو لإزالة احتمال بقاء الرائحة مع الاكتفاء بالظن في زوالها (¬2). وفي روايةٍ لمسلم: فدلَكَها دلكاً شديداً، وهذا يؤيد أنه لإزالة الرائحة العالقة، فتكون موجودة، ولم تزل بالماء وحده؛ فدلكها لتذهب بالدلك. (ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه) وهذا دليلٌ على مشروعية هذه الأفعال في الغسل. وفي حديث عائشة: فإنه توضأ وضوءه للصلاة (¬3)، وهو المشروع المستحب كما تقدم، والفمُ والأنف من الظاهر، فلا بدَّ من المضمضة والاستنشاق؛ وفاقاً للحنفية، ونفى الوجوبَ مالكٌ والشافعي، وتقدم دليل ذلك في الوضوء (¬4). (ثم أفاض) - صلى الله عليه وسلم - (على رأسه الماء) ظاهره: أنه لم يمسح رأسه كما يفعل في الوضوء، لكن حديث عائشة يدل على أنه أكمل وضوءه، وكذلك في حديث ميمونة: ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حَفَناتٍ ملءَ كفيه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (4/ 914). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 96). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 96). (¬5) وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها في حديث الباب.

وفي لفظٍ (¬1): وصف الوضوء كله، كما في مسلم وغيره". والحاصل: أن الأحاديث دالةٌ على أنه أكمل الوضوء. (ثم غسل) - صلى الله عليه وسلم - (جسدَه)؛ أي: بقيته، أو المراد: أنه بعد التثليث أفاض الماء على جميع جسده، فعمَّمه بالماء. (ثم تنحى)؛ أي: قصد وانصرف لناحيةٍ غير المكان الذي كان واقفًا به، ومعتمدًا على رجليه فيه، (فغسل رجليه) - صلى الله عليه وسلم -، أي: أعاد غسلهما ثانيًا؛ استيعابًا للغسل بعد غسله لهما في الوضوء؛ ليوافق كونه تَوَضأ الوضوء الكامل. واختار أبو حنيفة تأخيرَ غسل الرجلين، كما تقدم، وهي رواية عن أحمد. وبعضهم فرق بين كون المكان وسخًا، فأخر غسلهما؛ ليكون مرةً واحدةً؛ توفيرًا للماء، وبين كونه نظيفًا، فقدمه، وهو قول المالكية (¬2). قالت ميمونة - رضي الله عنها -: (فأتيته)، تعني: بعدَ فراغه من غسله، وغسل رجليه (بخِرْقةٍ) -بالكسر-: القطعةُ من الثوب، والجمع: خِرَق، كعنب (¬3)، (فلم يُرِدْها) بضم أوله من الإرادة (¬4). استدل به على عدم استحباب التنشيف للأعضاء من ماء الطهارة. واختلفوا، هل يكره أو لا؟. ¬

_ (¬1) وهي من رواية وكيع، كما ذكر مسلم في "صحيحه" (1/ 254). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 97). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1133)، (مادة: خرق). (¬4) قال الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 49)، قوله: "يُردها" من الإرادة، لا من الرَّد، ومن رواه بالتشديد على أنه من الرَّد، فقد صحَّف وغيَّر المعنَى.

قال في "الفروع": وتُباح معونتُه وفاقًا، وتنشيفُ أعضائه وفاقًا. وعنه: يُكرهان؛ كنفض يده؛ لخبر أبي هريرة - رضي الله عنه -: "إذا توضَّأتم، فلا تنفُضوا أيديكم؛ فإنها مراوحُ الشيطان" رواه المعمري وغيره من رواية البَخْتَريِّ بن عُبَيد، وهو متروكٌ (¬1). واختار صاحب "المغني" (¬2)، و"المحرر"، وغيرهما: لا يكره، واستظهره في "الفروع" (¬3). ومن قال بالكراهة، استدل بظاهر هذا الحديث، ولا حجةَ فيه؛ لأنها واقعةُ حال يتطرَّق إليها الاحتمال، فلا ينهض بها الاستدلال؛ لجواز أن يكون عدمُ أخذه - صلى الله عليه وسلم - الخرقةَ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشيف، بل يتعلق بالخرقة؛ لكونها كانت مستعملة. قال المهلب: يحتمل تركُه التمندلَ؛ لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أو لشيءٍ رآه دي الثوب من حريرٍ أو وسخٍ. وقد وقع عند الإمام أحمد، والإسماعيلي، من رواية أبي عوانة هذا الحديث، عن الأعمش، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رَدَّه مخافة أن تصير عادةً (¬4). قال التيمي في شرح هذا الحديث: فيه دليلٌ على أنه كان يتنشف، ولولا ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "علل الحديث" (1/ 36)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 203)، والديلمي في "مسند الفردوس" (1029)، وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 99). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 95). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 124). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 336).

ذلك، لم تأته ميمونة - رضي الله عنها - بالمنديل (¬1). وفي لفظٍ: ثم أتيته بالمنديل، فرده (¬2). وفي آخر: فناولته ثوبًا، فام يأخذه (¬3). (فجعل - صلى الله عليه وسلم - ينفض الماء) عن أعضائه الشريفة (بيده). وفي لفظٍ: فانطلق وهو ينفض يديه (¬4). وفي آخر: فناولته خرقةً، فقال بيده هكذا، ولم يُردها (¬5). قال ابن دقيق العيد: نفضُه - صلى الله عليه وسلم - الماءَ بيده يدل على أَنْ لا كراهةَ في التنشيف؛ لأن كلًا منهما إزالة (¬6). وعند الشافعية: في التنشيف خمسة أوجه؛ أشهرها: الاستحبابُ تركه. وقيل: مكروهٌ. وقيل: مباحٌ (¬7). وقيل: مستحبٌ. وقيل: مكروهٌ في الصيف دون الشتاء. كما قاله في "الفتح" (¬8). وليس عندنا فيه إلا الإباحة -على المعتمد-، أو الكراهة -على مرجوحٍ -. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 363). (¬2) وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها في حديث الباب. (¬3) وهي رواية البخاري المتقدم تخريجها في حديث الباب برقم (272) عنده. (¬4) وهي رواية البخاري أيضاً برقم (272) السالف ذكرها. (¬5) وهي رواية البخاري المتقدم تخريجها في حديت الباب برقم (263) عنده. (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 97). (¬7) وهذا هو الأظهر المختار، كما ذكر النووي في "شرح مسلم" (3/ 232). (¬8) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 363) وقد نقله الحافظ عن الإمام النووي في "شرح مسلم" (3/ 232).

نعم، استوجه العلامة الشيخ مرعي في "غايته" (¬1) وجوبَه على مَنْ في بعض أعضائه ما يحتاج إلى تيمم له، وتفوت موالاةٌ لولاه، وهو وجيه. وأما نفض الماء: فاعتمدوا أنه مكروهٌ على ما اختاره ابنُ عقيلٍ وأكثر الأصحاب. قال شيخ الإسلام في "شرح العمدة": كرهه القاضي وأصحابه (¬2)، واختار [5] الموفق، والمجد. واستظهر في "الفروع" (¬3) عدمَ الكراهة -كما تقدم-. قال ابن عبيدان: والأقوى أنه لا يكره، وكذا قال في "مجمع البحرين" (¬4). والحديث الذي تقدم فيه، لا تنهض به حجةٌ، ولو لم يعارضه ما في "الصحيحين". وقد قال ابن الصلاح: لم أجده. وتُعقب: بأنه أخرجه ابن حِبان في "الضعفاء"، وابن أبي حاتم في "العلل" (¬5). واستدل بحديث ميمونة - رضي الله عنها - على طهارة الماء المتقاطر من أعضاء المتطهر، خلافًا لمن غلا من الحنفية فقال بنجاسته (¬6)، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "غاية المنتهى" لمرعي الحنبلي (1/ 123). (¬2) انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 215). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 124). (¬4) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 167 - 168). (¬5) تقدم تخريجه. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 363). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 363). وقد تكلَّف العيني في "عمدة القاري" (3/ 195) في الإجابة عمَّا أورده الحافظ ابن حجر، فلينظر في موضعه.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ - رضي الله عنهم -، قَالَ: يا رَسولَ اللهِ! أَيرْقُدُ أَحَدُنا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قال: "نَعَمْ، إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَرْقُدْ" (¬1). * * * (عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ عمر: أن) أمير المؤمنين (عمر بن ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (283)، كتاب: الغسل، باب: نوم الجنب، واللفظ له، وزاد في آخره: "وهو جنب"، و (258، 286)، باب: الجنب يتوضأ ثم ينام، ومسلم (306)، (1/ 248 - 249)، كتاب: الحيض، باب: جواز نوم الجنب، واستحباب الوضوء له، وأبو داود (221)، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب ينام، والنسائي (259)، كتاب: الطهارة، باب: وضوء الجنب إذا أراد أن ينام، و (260)، باب: وضوء الجنب وغسل ذكره إذا أراد أن ينام، والترمذي (120)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النوم للجنب حتى يتوضأ وضوءه للصلاة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 142)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 564)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 216)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 98)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 212)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 349)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 392)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 242).

الخطاب - رضي الله عنهم - قال: يا رسول الله! أيرقد)؛ أي: ينام، فالرقاد كالنوم. وقيل: الرقاد خاصةً بالليل، ومرقدٌ كمسكن: المَضْجع، وأرقده: أنامه (¬1). (أحدنا): فاعل يرقد، وجملة (وهو جنبٌ) حال؛ يعني: أيرقد أحدنا في حال كونه جنبًا؟ أي: في حال جنابته. (قال) - صلى الله عليه وسلم - مجيبًا لسؤال سيدنا عمر -رضي الله عنه-: (نعم، إذا توضأ أحدكم) معشرَ الأمة من ذكرٍ وأنثى (فليرقدْ) وهو جنبٌ، كما في بعض ألفاظ البخاري بزيادة: "وهو جنبٌ" (¬2) بعد تخفيف جنابته بالوضوء. وفي لفظٍ: "نعم، ليتوضأ، ثم لينمْ حتى يغتسلَ إذا شاء" (¬3). وفي آخر لهما: "توضأْ واغسلْ ذكرك، ثم نَمْ" (¬4). وفي لفظٍ عند البخاري: "نعم، ويتوضأ" (¬5). فقوله: "ويتوضأ"، معطوفٌ على ما سدَّ لفظُ "نعم" مسدَّه؛ أي: يرقد ويتوضأ، والواو لا تقتضي الترتيب؛ فالمعنى: يتوضأ، ثم يرقد (¬6). وللإمام أحمد، ومسلم من طريق الزهري، عن أبي سلمة بن ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 362)، (مادة: رقد). (¬2) وتقدم تخريجه. (¬3) وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها في حديث الباب برقم (306)، (1/ 249) عنده. (¬4) تقدم تخريجها عندهما في حديث الباب. (¬5) رواه البخاري (286)، كتاب: الغسل، باب: كينونة الجنب في البيت إذا توضأ قبل أن يغتسل، من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 392).

عبد الرحمن، عن عائشة - رضي الله عنها -: كان إذا أراد أن ينام وهو جنبٌ، توضأ وضوءه للصلاة (¬1). وهذا السياق أفصح في المراد. وللبخاري عنها مثلُه بزيادة: غسل الفرج (¬2). وفيه رد على من حمل الوضوء على التنظيف، وقد بيَّن النَّسائي سببَ ذلك في روايته من طريق ابن عون، عن نافع، قال: أصاب ابنَ عمر جنابةٌ، فأتى عمرَ، فسأله، فأتى عمرُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فاستأمره، فقال: "ليتوضأ ويرقد" (¬3). قال ابن دقيق العيد: جاء الحديث بصيغة الأمر، وجاء بصيغة الشرط، وهو متمسكٌ لمن قال بوجوبه (¬4). قال ابن عبد البر: ذهب الجمهور إلى أنه للاستحباب، وذهب أهل الظاهر إلى إيجابه، وهو شذوذٌ (¬5). وقال ابن العربي: قال مالك، والشافعي: لا يجوز للجنب أن ينام قبل أن يتوضأ (¬6). قال الحافظ في "الفتح": واستنكر بعض المتأخرين هذا النقل، وقال: لم يقل الشافعي بوجوبه، ولا يعرف ذلك أصحابه. وهو كما قال، لكن ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 36)، ومسلم (305)، كتاب: الحيض، باب: جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له. (¬2) رواه البخاري (4 - 28)، كتاب: الغسل، باب: الجنب يتوضأ ثم ينام. (¬3) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (9062). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 98). (¬5) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 279). (¬6) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 182).

كلام ابن العربي محمولٌ على أنه أراد نفي الإباحة المستوية الطرفين، لا إثبات الوجوب، أو أراد بأنه وجوب سنةٍ، أو تأكد الاستحباب، ويدل عليه مقابلته له بقول ابن حبيبٍ: هو واجب وجوب الفرائض، وهذا موجودٌ في عبارة كتب المالكية كثيراً. وأشار ابن العربي إلى تقوية قول ابن حبيب. وبوَّب له أبو عوانة في "صحيحه": إيجاب الوضوء على الجنب إذا أراد النوم (¬1)، ثم استدل هو وابن خزيمة بعد ذلك على عدم الوجوب بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا: "إنما أُمِرْتُ بالوضوء إذا قمتُ للصلاة" (¬2). تنبيهات: الأول: يستحب للجنب من رجلٍ وأنثى [غسل فرجه] على المعتمد. وعن الإمام أحمد: إنما يُسن للرجل غسلُ فرجه، ووضوءه لأكلٍ وشربٍ. ¬

_ (¬1) انظر: "مسند أبي عوانة" (1/ 277). (¬2) رواه أبو عوانة في "مسنده" (799)، وابن خزيمة في "صحيحه" (35)، ورواه أبو داود (3760)، كتاب: الأطعمة، باب: في غسل اليدين عند الطعام، والنسائي (132)، كتاب: الطهارة، باب الوضوء لكل صلاة، والترمذي (1847)، كتاب: الأطعمة، باب: في ترك الوضوء قبل الطعام، وقال: حسن صحيح. * جاء على هامش الأصل المخطوط: من الأحاديث الواردة في ذلك: ما في مسلم، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: سألت عائشة - رضي الله عنها - عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. الحديث. قلت: كيف كان يصنع في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام، أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما يغتسل فينام، وربما توضأ فنام، قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة.

وعنه: يغسل يده ويتمضمض، كما عند أبي حنيفة. ولمعاود وطء وفاقًا، ولا يكره في المنصوص تركه في ذلك وفاقًا، ولنوم. وفي كلام الإمام ما ظاهره وجوبه؛ كما قال شيخ الإسلام، كما في "الفروع". ويكره تركه في الأصح؛ خلافًا لأبي حنيفة. ومن أحدث بعده، لم يُعِدْه (¬1) في ظاهر كلامهم؛ لتعليلهم بخفَّة الحدث، أو بالنشاط الذي وجد، وظاهر كلام شيخ الإسلام: يتوضأ لمبيته على إحدى الطهارتين (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيه جُنُبٌ"، وهو حديثٌ رواه الإمام أحمد، وأبو داود (¬3). وحمل الخطابي الجنبَ في الحديث على من يتهاون بالاغتسال، ويتخذ تركه عادةً، لا من يؤخره ليفعله (¬4). وحمله بعضهم -وهو مرادٌ- على من لم يرتفع حدثه كله ولا بعضه، فلا يكون بينه وبين حديث "الصحيحين" منافاةٌ؛ لأنه إذا توضأ، ارتفع بعضُ حدثه، على الصحيح (¬5). ¬

_ (¬1) قال ابن قندس في "حاشيته على الفروع" (1/ 270): أي: إذا توضأ لأجل النوم، ثم أحدث بعد الوضوء، لم يُعدِ الوضوء في ظاهر كلامهم. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 177). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 83)، وأبو داود (277)، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب يؤخر الغسل، والنسائي (261)، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب إذا لم يتوضأ. (¬4) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 75). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 392).

الثاني: إذا أراد الجنب أن يعاود الوطء، يسن له أن يتوضأ، لما في مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدُكم أهلَه، ثم أراد أن يُعاود، فليتوضأ بينهما وضوءًا" (¬1). وقد قيل: إن الحكمة في ذلك لِينْشَطَ إلى العَوْد. الثالث: لا يُشرع الوضوء للحائض والنفساء إلا إذا انقطع الدمُ عنهما، لأنهما يكونان كالجنب، وأما قبل الانقطاع: فلا يُشرع لهما إذا أرادا أكلًا أو نومًا، كما قاله علماؤنا، كالشافعية، لعدم صحته. وقال الناظم في "مجمع البحرين": قلت: واستحبابُ غسلِ جنابتها وهي حائضٌ عند الجمهور يُشعر باستحباب وضوئها للنوم هنا، انتهى (¬2). وفيه ما لا يخفى على قواعد المذهب، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (308)، كتاب: الحيض، باب: جواز نوم الجنب، واستحباب الوضوء له. (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 261).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إلَى رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يا رَسولَ اللهِ! إنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ، هَلْ عَلَى المَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "نَعَمْ إذا رَأَتِ الماءَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (278)، كتاب: الغسل، باب: إذا احتلمت المرأة، واللفظ له، و (130)، كتاب: العلم، باب: الحياء في العلم، و (3150)، كحَاب: الأنبياء، باب: خلق آدم - صلوات الله عليه - وذريته، و (5740)، كتاب: الآداب، باب: التبسم والضحك، و (5770)، باب: مالا يستحيا من الحق للتفقه في الدين، ورواه مسلم (310 - 314)، (1/ 250 - 251)، كتاب: الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، وأبو داود (237)، كتاب: الطهارة، باب: في المرأة ترى ما يرى الرجل، والنسائي (195، 196، 197)، كتاب: الطهارة، باب: غسل المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، والترمذي (122)، كتاب، الطهارة، باب: ما جاء في المرأة ترى في المنام مثلما يرى الرجل، وابن ماجه (600، 601)، كتاب: الطهارة، باب: في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 79)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 291)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 187)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 147)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 568)، و"شرح =

(عن) أم المؤمنين، (أم سلمة) هندٍ بنتِ أبي أمية، واسمه: سهيلُ بنُ المغيرة بنِ عبد الله بن عمرو بن مخزوم - رضي الله عنها - (زوجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -)، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد. ويقال: إن أم سلمة أولُ ظعينةٍ دخلت المدينة مهاجرةً. وقيل: غيرها. فولدت له في أرض الحبشة زينبَ.، وولدت له سلمةَ، وعمرَ، ودُرَّةَ. ومات أبو سلمة سنة أربع، أو ثلاث، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليالٍ بقين من شوال من تلك السنة، وتوفيت سنة سبع وخمسين، وقيل: اثنتين وستين، وقيل: ستين. قال في "شرح الزهر البسام" (¬1): والأول أصح. قلت: الذي جزم به ابن القيم في "جلاء الأفهام": أنها توفيت سنة اثنتين وستين، ودفنت بالبقيع. قال: وهي آخر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - موتًا، وقيل: بل ميمونة (¬2). وكان عمرها: أربعًا وثمانين سنة. روي لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثلاث مئة وثماني وسبعون حديثًا، اتفقا على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري: بثلاثة، ومسلم: بثلاثة عشر (¬3). ¬

_ = مسلم" للنووي (3/ 219)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 99)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 215)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 340)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 388)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 211)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 275). (¬1) تقدم التعريف به. (¬2) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 252). (¬3) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 86)، و"الاستيعاب" لابن =

(قالت) أم سلمة - رضي الله عنها -: (جاءت أم سُلَيْم) بضم السين المهملة، وفتح اللام-، واسمها: سهلةُ -على المشهور-، وقيل: رُمَيلة، وقيل: رُمَيثة، وقيل: أُنيفَة -بضم أوائلها على التصغير في الكل-. وقيل: مُلَيكة -بضم الميم وفتح اللام-، وقيل: -بفتح الميم وكسر اللام-. وقيل: اسمها الرُّمَيصاء، ويقال: الغُمَيصاء -بالغين المعجمة- على ظاهر ما في "منتخب المنتخب". وصرح في "شرح الزهر"، فقال: بالغين المعجمة. قال ابن الجوزي: والرُّميصاء والغُمَيصاء واحد؛ لأنه يقال: الرَّمَص والغَمَص؛ كما يقال: الرَّيْن والغَيْن. وهي: أم أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بنتُ مِلحان -بكسر الميم وسكون اللام وبالحاء المهملة-، واسمه: مالك بنُ خالد بنِ زيد بن حَرام، الأنصاريةُ النجاريةُ. كانت تحت مالك بن النضر، أبي أنس بن مالك، فولدت له أنسًا، ثم قُتل عنها مشركًا، وأسلمت، فخطبها أبو طلحة وهو مشرك، فدعته إلى الإسلام فأسلم، فقالت: فإني أتزوجك ولا آخذُ منك صداقًا لإسلامك، فتزوجها (¬1)، فولدت له عبدَ الله، وأبا عمير الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ = عبد البر (4/ 1920)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 329)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 317)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 201)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 150)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (12/ 483). (¬1) رواه النسائي (3341)، كتاب: النكاح، باب: التزويج على الإسلام، عن أنس - رضي الله عنه -.

"يا أبا عُمير! ما فعل النُّغَير؟ (¬1) ". وشهدت - رضي الله عنها - أُحدًا وحُنينًا. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "دخلتُ الجنةَ، فسمعت خشفةً (¬2)، فقلت: ما هذا؟ فقيل: الرُّميصاءُ بنتُ مِلحان" (¬3). كان يزورها - صلى الله عليه وسلم -، وصلَّى في بيتها تطوعًا. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر حديثًا، اتفقا منها على حديثٍ، وانفرد البخاري بآخر، ومسلمٌ بحديثين (¬4). وهي: (امرأة أبي طلحة)، واسمه: زيدُ بنُ سهل بن الأسود الأنصاريُّ النجاريُّ، شهد العقبة وبدرًا وأُحدًا، والمشاهد كلها. وهو القائل: [من الرجز] أَنَا أَبُو طَلْحَةَ وَاسْمِي زَيْدُ ... وَكُلَّ يَوْمٍ في سِلاَحِي صَيْدُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5778)، كتاب: الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ومسلم (2150)، كتاب: الآداب، باب: استحباب تحنيك المولود عند ولادته، عن أنس - رضي الله عنه -. (¬2) جاء على هامش الأصل المخطوط: قوله: "خشفة" هو -بفتح الحاء، وسكون الشين المعجمة-: الحس والحركة. (¬3) رواه مسلم (2456)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أم سليم، عن أنس - رضي الله عنه -. (¬4) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 424)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 461)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1940)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 365)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 304)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 45)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (12/ 497).

وقال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لصوتُ أبي طلحةَ في الجيشِ خيرٌ من فِئَةٍ" (¬1) وقد غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات، ومع الصدِّيق حتى مات، ومع عمر حتى مات، فقال له أنس: دعنا ننفرْ عنك، فقال: قد قال الله - تعالى-: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، لا أرى رَبَّنا إلا استنفرنا شبابًا وشيوخًا، يا بني! جهزوني، فغزا البحر، فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه فيها وهو لم يتغير؛ رواه البيهقي بسندٍ صحيح (¬2). وقيل: مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: أربعين، وله سبعون سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. وقال أبو زرعة الدمشقي: عاش أبو طلحة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة، وكان يسرد الصوم، وهذا مخالف لقول الجمهور. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما قال ابن الجوزي - خمسةٌ وعشرون حديثًا؛ اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثٍ، ومسلم بآخر (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 111)، وأبو يعلى في "مسنده" (3983)، والحاكم في "المستدرك" (5554)، وغيرهم، عن أنس - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 21)، ورواه أبو يعلى في "مسنده" (3413)، وابن حبان في "صحيحه" (7184)، والحاكم في "المستدرك" (5508)، وغيرهم. (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 554)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 381)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 137)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 553)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (19/ 391)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 361)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 75)، و"سير أعلام =

(إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) متعلق بجاءت (فقالت) أم سُليم -رضي الله عنها-: (يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق)؛ أي: لا يأمر بالحياء في الحق. وقدمت أم سُليم هذا الكلام بسطًا لعذرها في ذكر ما تستحيي النساء بذكره بحضرة الرجال؛ ولهذا قالت لها عائشة -كما ثبت في "صحيح مسلم"-: فَضَحْتِ النساء (¬1). والذي يحسن الابتداء في مثل هذا: أن الذي يُعتذر به إذا كان متقدمًا على المعتذَر منه، أدركته النفسُ صافيًا من العيب، فإذا تأخر العذر، استقبلت النفسُ المعتذَر عنه، فتأثرت بقبحه، ثم يأتي العذر رافعًا، وعلى الأول يأتي دافعًا (¬2). قال ابن دقيق العيد: قد تكلم العلماء في تأويل قولها: إن الله لا يستحيي من الحق. ولقائلٍ أن يقول: إنما يحتاج إلى تأويل الحياء إذا كان مثبتًا، كما جاء: "إن الله حَيِيّ كريمٌ" (¬3)، وأما في النفي، فالمستحيلات على الله تعالى تُنفى، فلا يشترط في النفي أن يكون المنفيُّ ممكنًا. ¬

_ = النبلاء" للذهبي (2/ 27)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 607)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (3/ 357). (¬1) تقدم تخريجه عنده في حديث الباب، برقم (310 و 313). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 229). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 99). (¬3) رواه أبو داود (1488)، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، والترمذي (3556)، كتاب: الدعوات، باب: (105)، وابن حبان في "صحيحه" (876)، عن سلمان - رضي الله عنه -.

والجواب: أنه لم يرد النفي على الاستحياء مطلقًا، بل ورد على الاستحياء من الحق، ويفهم منه إثباتُه من غير الحق، فيعود بالمفهوم إلى الإثبات. قال: ومعنى الحديث: أن الله لا يأمر بالحياء في الحق، ولا يبيحه، أو لا يمتنع من ذكره. قال: وأصل الحياء: الامتناع، أو ما يقاربه من معنى الانقباض (¬1). وتعقبه الحافظ ابن حجر في كتاب: الأدب، من "شرح البخاري": بأن الحق أن الامتناع من لوازم الحياء، ولازم الشيء لا يكون أصله، ولما كان الامتناع لازِمَ الحياء، كان في التحريض على ملازمة الحياء حضٌّ على الامتناع عن فعل ما يعاب. انتهى (¬2). وتقدم أن الحياء -بالمد- لغةً: تغيرٌ وانكسار يعتري الإنسان من خوفِ ما يُعاب به. وشَرْعًا: خُلُق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. وقيل: المعنى: أن سنة الله وشرعه أَلَّا يُستحيا من الحق. واستقرب ابن دقيق العيد أن يكون على حذف مضاف تقديره: إن الله لا يمتنع من ذكر الحق، والحق هنا خلاف الباطل، وهو كون الواقع مطابقًا له وموافقًا. ويكون معنى الكلام: أن نقتدي بفعل الله سبحانه في ذلك (¬3)، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 99). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 521). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام"، لابن دقيق (1/ 100).

ونذكر هذا الحق الذي دعت إليه الحاجة، وهو المشار إليه بقولها: (هل) يجب (على المرأة من غسل إذا هي) ضميرُ فصلٍ جيء به لتأكيد الكلام وتحقيقه، ولو أسقطت "من"، لتم أصل المعنى (احتلمت؟)؛ أي: رأت في منامها أنها تُجامَع. وفي رواية الإمام أحمد من حديث أم سُليم: أنها قالت: يا رسول الله! إذا رأت المرأة أن زوجَها يُجامعها في المنام تغتسل؟ (¬1). فهو افتعالٌ من الحُلْم -بضم الحاء المهملة وسكون اللام-: وهو ما يراه النائم في نومه. يقال: منه حَلَم -بفتح اللام-، واحتلم، واحتلمت به، واحتلمته. قالـ[ــه] ابن دقيق العيد (¬2). وفي "القاموس": الحُلُم -بالضم، وبضمتين-: الرؤيا، والجمع أحلامٌ، وحَلَم في نومه، واحتلم، وتحلَّم [وانْحَلَم، وتَحَلَّم] الحلمَ: استعمله. وحَلَم به، وعنه: رأى له رؤيا أو رآه في النوم، والحُلُم -بالضم- والاحتلام: الجماع في النوم، والاسم: الحُلُم كعُنُق؛ انتهى (¬3). وكذا في "المطالع"، وعبارته: والحُلُم -بضم اللام أيضاً وبسكونها-: رؤيا النوم، والفعل منه: حَلَم -بفتح اللام-، والمحتلِم والحالم سواء، وهو البالغ. وقد نفى الاحتلامَ عنه - عليه الصلاة والسلام - بعضُ الناس، كما في "المطالع"، وغيرها؛ لأنه من الشيطان، ولأنه لم يرو عنه أثرٌ في ذلك. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 377). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 100). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1416)، (مادة: حلم).

قال: ويحتمل جوازُه عليه، ولا يكون من الشيطان، لكن من الطبع البشري عند اجتماع الماء، والبعد من الجماع (¬1). (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم)؛ أي: عليها غسل مُقَيَّدٌ وجوبُه عليها بشروط، وهو: ما (إذا رأت الماء)؛ أي: تحققت خروجَ المني منها بالرؤية، أو غيرها؛ من لمس وشمٍّ ونحوهما؛ بخلاف ما إذا رأت في المنام أنها تجامع، ولم ينزل منها ماء؛ فإنها لا يلزمها غسل؛ كالرجل. نعم، إن أحسَّت بانتقاله بعد إفاقتها من نومها، وجب، على معتمد المذهب؛ من جعلِهم إحساسَ الانتقال بمجرده موجبًا، وإن لم يبرز، وربما كان هذا الحديث حجةً على قائلي ذلك. إلا أن نقول: هذا في النائم، وإحساسُه والتذاذُه وعدمُه حينئذٍ سواء. وفي "مسلم": عن أنس - رضي الله عنه -، قال: جاءت أم سُليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت له -وعائشة عنده-: يا رسول الله! إن المرأة ترى ما يرى الرجل في المنام، وفيه: فقالت عائشة: يا أم سليم! فضحتِ النساء، تربَتْ يمينُكِ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "بل أنتِ تربت يمينُك، نعم، فلتغتسلْ يا أُمَّ سُلَيم إذا رأتْ ذلك" (¬2). وفي روايةٍ في "مسلم" -أيضاً-: فقالت أم سلمة: فاستحييتُ من ذلك، قالت: وهل يكون هذا؟ فقال نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، فمِنْ أين يكون الشبهُ؟ إنَّ ماءَ الرجلِ غَليظٌ أبيضُ، وماء المرأة رقيقٌ أصفرُ، فمن أَيِّهما علا، أو سبق، يكون منه الشبهُ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 196). (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب، برقم (310) عنده. (¬3) تقدم تخريجه في حديث الباب، برقم (311) عنده.

وفي لفظٍ: فقال لها؛ أي: لأم سليم: "إذا كان منها ما يكونُ من الرجل، فلتغتسلْ" (¬1). وفي لفظٍ لها: فقالت أم سلمة: يا رسول الله! وتحتلمُ المرأة؟ فقال: "تربتْ يداك، فبمَ يُشبهها ولدُها؟ ". زاد "البخاري": فقالت أم سلمة: تعني وجهها، وقالت: يا رسول الله! وتحتلم ... الحديث (¬2). وفي طريق البخاري: فضحكت أم سلمة، فقالت: أتحتلم المرأة؟ (¬3). وفي روايةٍ لمسلم عن أم سلمة: قالت: قلتُ: فضحتِ النساء (¬4). وفي لفظٍ له عن عائشة: فقلت لها: أُفٍّ لكِ، أترى ذلك المرأةُ؟! (¬5). وفي آخر: فقالت لها عائشة: تربَتْ يداك وأُلَّت (¬6). وهذا يدل على أن كتمان ذلك من عادتهن؛ لأنه يدل على شدة شهوتهن للرجال. وأُلَّت: على وزن غُلَّت، وصوب بعضهم كونه: أُلِلْتِ على وزن طُعِنْتِ: بمعنى اقتصرت. والأل: الشدة. وقال ابن فورك: هو مُصَحَّف من قالت، كذا قال (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب، برقم (312) عنده. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (130)، وعند مسلم برقم (313)، (1/ 215). (¬3) تقدم تخريجه برقم (5740) عنده. (¬4) تقدم تخريجه برقم (310) عنده. (¬5) تقدم تخريجه برقم (314) عنده. (¬6) تقدم تخريجه برقم (314) عنده. (¬7) انظر:"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 31)، و "شرح مسلم" للنووي (3/ 225)

وفيه: إذا علا ماؤها ماءَ الرجل، أشبهَ الولدُ أخوالَه، وإذا علا ماءُ الرجل ماءها، أشبه أعمامه. ويمكن الجمع: بأن كلًا من عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما - كانتا حاضرتين (¬1) - والأشبه: أن ابتداء الكلام كان بحضور أم سلمة، ثم حضرت عائشة. واستدل به بعضهم على أن الاحتلام يكون في بعض النساء دون بعضٍ؛ ولذلك أنكرت أم سلمة ذلك، ولكن الجواب يدل على أنها إنما أنكرت وجودَ المني من أصله، فلهذا أنكر عليها (¬2). وفيه: ردٌّ على من زعم أن ماء المرأة لا يبرز، وإنما يعرف إنزالها بشهوتها، والله أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 229). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) المرجع السابق، (1/ 389) نقلًا عن "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 101).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: كنْتُ أَغْسِلُ الجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ، وَإِنَّ بُقعَ الماءِ في ثَوْبهِ (¬1). وفي لَفْظِ لمُسْلِمٍ: لَقَدْ كنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرْكًا؛ فَيُصَلِّي فِيهِ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (227، 228)، كتاب: الوضوء، باب: غسل المني وفركه، وغسل ما يصيب من المرأة، و (229، 230)، باب: إذا غسل الجنابة أو غيرها فلم يذهب أثره. واللفظ له، ومسلم (289)، كتاب: الطهارة، باب: حكم المني، وأبو داود (3730)، كتاب: الطهارة، باب: المني يصيب الثوب، والنسائي (295)، كتاب: الطهارة، باب: غسل المني من الثوب، وابن ماجه (536)، كتاب: الطهارة، باب: المني يصيب الثوب، كلهم من طريق عمرو بن ميمون الجزري، عن سليمان بن يسار، عن عائشة، به. (¬2) رواه مسلم (288)، (1/ 238 - 239)، كتاب: الطهارة، باب: حكم المني، وأبو داود (371، 372)، كتاب: الطهارة، باب: المني يصيب الثوب، والنسائي (296 - 301)، كتاب الطهارة، باب، فرك المني من الثوب، والترمذي (116)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المني يصيب الثوب، وابن ماجه (537 - 539)، كتاب: الطهارة، باب: في فرك المني من الثوب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 114)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 286)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 177)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 114)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 548)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 196)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق =

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (- رضي الله عنها -، قالت: كنت أغسل الجنابة) أرادت: المني -بالتشديد-، وهو الماء الذي يخلق منه البشر. وفي لفظ: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل المني (¬1). (من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) متعلقٌ بـ: أغسل. والثوب: اللباس، يجمع على أثوب، وأثواب، وثياب (¬2). (فيخرج). وفي لفظٍ: ثم يخرج (¬3) (إلى الصلاة) في ذلك الثوب كما في مسلم (¬4)، (وإن بقع الماء) جمع بُقعةٍ -بضم الباء وفتحها-: مواضعه، ويجمع أيضاً على بقاعٍ (¬5). (في ثوبه) - صلى الله عليه وسلم -. وفي لفظٍ: وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه (¬6). قال الحافظ: (وفي لفظٍ لمسلم: لقد كنت (¬7) أفركه)؛ أي: المني (من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إذا كان يابسًا (فركًا). ¬

_ = (1/ 102)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 222)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 332)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 144)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 36)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 64). (¬1) وهو لفظ مسلم المتقدم تخريجه برقم (289) عنده. (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 82)، (مادة: ثوب). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (229) عنده. (¬4) تقدم تخريجه برقم (289) عنده. (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 909)، (مادة: بقع). (¬6) وهو لفظ مسلم المتقدم تخريجه برقم (289) عنده. (¬7) عند مسلم: "ولقد رأيتني أفركه" بدل "لقد كنت ... ".

وفي آخر: لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول - صلى الله عليه وسلم - الله - صلى الله عليه وسلم - فركًا. وفي آخر: كنت أفركه (¬1). وفي آخر: لقد رأيتني وإني لأَحُكُّه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يابسًا بظفري (¬2). وقد اختلف العلماء في طهارة المني ونجاسته: فقال الإمام أحمد -في أصح الروايات عنه-، والإمام الشافعي: بطهارته؛ كالبصاق والمخاط. وفي أخرى كأبي حنيفة: نجسٌ. وكذا قال مالك: إنه كبولٍ، كما في روايةٍ. وقطع ابن عقيلٍ بنجاسة منيِّ خَصيٍّ؛ لاختلاطه بمجرى بوله. والمذهب المعتمد: طهارة المني من فحلٍ وخصي وامرأةٍ وقتَ جماعٍ وغيره (¬3). والحديث حجةٌ لنا كالشافعية، بدليل قول عائشة - رضي الله عنها -: (فيصلي) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فيه)؛ أي: الثوب الذي أصابه المني بعد الفرك. والفاء: للتعقيب؛ فيقتضي أنه تعقب الصلاةُ الفركَ، ويقتضي عدم الغسل قبل دخوله في الصلاة، لكنه قد ورد بالواو، وبثم، والحديث واحدٌ، إلا أن الذي في "صحيح مسلمٍ": فيصلي فيه -بالفاء-، فهو أولى (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجها في حديث الباب، برقم (288)، (1/ 238). (¬2) رواه مسلم (290)، كتاب: الطهارة، باب: حكم المني. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 214)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 341). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 104).

قال في "شرح الوجيز": المذهب: طهارةُ مني الآدمي مطلقًا، وعليه جماهير علمائنا، ونصروه، سواءٌ كان من احتلامٍ، أو جماعٍ، من رجلٍ، أو امرأةٍ، فلا يجب فيه فرك ولا غسلٌ. وقال أبو إسحاق: يجب أحدُهما. وعنه -أي: الإمام-: أنه نجسٌ، ويجزىء فركُ يابسه، ومسحُ رَطْبه؛ كالحنفية. واختاره بعض علمائنا. وعنه: أنه نجسٌ، يجزىء فركُ يابسه من الرجل دون المرأة. وعنه: أنه كالبول (¬1). وبالمذهب المعتمد قال سعدُ بن أبي وقاص، وابنُ عمر، وابن عباسٍ - رضي الله عنهم-، وعطاء، والشافعي، وداود، وأبو ثورٍ، وابن المنذر (¬2). وقد روى الدارقطني عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب، فقال: "إنما هو بمنزلة المُخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحَه بخِرْقَةٍ أو إذْخِرَةٍ" (¬3). وروي هذا الحديث موقوفًا على ابن عباس، ولم يرفعه غيرُ إسحاق الأزرق، عن شريكٍ (¬4). قال في "شرح الهداية": وهذا لا يقدح؛ لأن إسحاق إمام متخرَّجٌ عنه ¬

_ (¬1) وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 340 - 341). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 416). (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 124)، ومن طريقه: ابن الجوزي في "التحقيق" (1/ 106). ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" كما ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 279). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 125).

في "الصحيحين"؛ فيقبل رفعه، وما تفرد به (¬1). وعن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَسْلُت المنيَّ من ثوبه بعِرْقِ الإذخِرِ، ثم يصلي فيه، ويحتُّه من ثوبه يابسًا، ثم يصلي فيه. رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح (¬2). وقد ثبت الاكتفاء بفركه بما تقدم من النصوص الصحيحة، ولو كان نجسًا، لما أجزأ فركُه كسائر النجاسات، فعُلم أن ما ورد من فركه وغسله ومسحه بالإذخر؛ لاستقذاره، لا لنجاسته؛ ولأنه مبدأُ خلق البشر، فكان طاهرًا كالتراب، ولو كان نجسًا، لما جعله الله مبدأ خلق الطيبين من عباده والطيبات؛ ولهذا لا يتكون من البول والغائط طيبٌ. وهذا ابن أبي شيبة أخرج بسنده عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أنه كان يفرك الجنابة من ثوبه (¬3). وعن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في الجنابة تصيب الثوب، قال: إنما هو كالنخامة أو النخاعة، أمِطْه عنك بخرقةٍ أو باذخرةٍ (¬4). قال ابن القيم في "بدائع الفوائد"-بعد أن ذكر حجج الفريقين-: وبالجملة: فمن المحال أن يكون نجسًا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم شدة ابتلاء الأمة ¬

_ (¬1) وانظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 107). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 243)، وابن خزيمة في "صحيحه" (194)، وغيرهما. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (918، 919)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 52)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 418). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (924).

به في ثيابهم وأبدانهم، ولا يأمرهم يومًا من الأيام بغسله، وهم يعلمون الاجتزاء بمسحه وفركه. قال: والآثار -بحمد الله- في هذا الباب متفقة لا مختلفة، وشروط الاختلاف منتفية بأسرها عنها. وقد تقدم من صدور الغسل تارةً، والمسح والفرك تارةً، وهذا لا يدل على تناقض، ولا اختلاف أَلبتة، ولا على نجاسة المني، بل على طهارته. قال ابن القيم -بعد أن أبطل أدلة المنجِّسين له-: فظهر أن النظر لا يوجب نجاستَه، والآثار تدل على طهارته، وقد خلق الله الأعيانَ على أصل الطهارة؛ فلا ينجس منها إلا ما نجسه الشرع، وما لم يعلم تنجُّسه من الشرع، فهو على أصل الطهارة، والله أعلم (¬1). تنبيه: إن قيل: فضلاتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - طاهرةٌ، فكيف يُستدل بطهارة منيِّه - صلى الله عليه وسلم - على طهارة المني؟ فالجواب: أن منيَّه كان يختلط مع مني نسائه، ومع ذلك لم يجب غسله، فدل على طهارة المني، وأيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إنما هو بمنزلة المخاط ... " الحديث (¬2)، فظهر دليل الطهارة، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 646 - 647). (¬2) تقدم تخريجه.

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا؛ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ" (¬1)، وفي لفظ: "وَإِنَ لَمْ يُنْزِلْ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (287)، كتاب: الغسل، باب: إذا التقى الختانان، واللفظ له، ومسلم (348)، (1/ 271)، كتاب: الحيض، باب نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، وأبو داود (216)، كتاب: الطهارة، باب: في الإكسال، والنسائي (191، 192)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب الغسل إذا التقى الختانان، وابن ماجه (615)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان. (¬2) رواه مسلم (348)، (1/ 217)، كتاب: الحيض، باب: نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 74)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 276)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 197)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 601)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 39)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 104)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 225)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 366)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 395)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 247)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 85)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 276).

(عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس) الضمير المستتر فيه وفي قوله: "جهد" للرجل، وترك إظهاره؛ للعلم به، وقد جاء مصرَّحًا به في روايةٍ لابن المنذر من وجهٍ آخرٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: "إذا غشي الرجلُ امرأته، فقعد" (¬1) (بين شعبها)؛ أي: المرأة، والشعب: جمع شُعْبَةٍ، وهي لغةً: القطعةُ من الشيء. (الأربعِ) بالجر-: بيان للشُّعب، والمراد بها: يداها ورجلاها، وقيل: رجلاها وفخذاها، وقيل: ساقاها وفخذاها، وقيل: فخذاها وإسكتاها، وقيل: فخذاها وشفراها، وقيل: نواحي فرجها الأربع. قال الأزهري: الإسكتان: ناحيتا الفرج، والشَّفْران: طرفا الناحيتين (¬2). ورجح القاضي عياض الأخير (¬3). واختار ابن دقيق العيد: الأول؛ لأنه أقرب إلى الحقيقة، أو هو الحقيقة في الجلوس بينهما، وعبارته: وكأنه تحويم على طلب الحقيقة الموجبة للغسل. والأقرب عندي: أن يكون المراد: اليدين والرجلين، أو الرجلين والفخذين، ويكون الجماع مكنيًا عنه بذلك، ويكتفَى بما ذكر عن التصريح. قال: وأما إذا حملَ على نواحي الفرج، فلا جلوس بينهما حقيقةً، وقد ¬

_ (¬1) رواه ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 81)، والدارقطني في "العلل" (8/ 259). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 395). (¬2) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 359). (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 197)، و"مشارق الأنوار" له أيضاً (2/ 254)

يكتفى بالكناية عن التصريح؛ لاسيما في أمثال هذه الأماكن التي يستحيا من التصريح بذكرها (¬1). (ثم جَهَدها) -بفتح الجيم والهاء-، يقال: جَهَد وأجهد؛ أي: بلغ المشقة (¬2). وهذا لا يراد به حقيقتُه، وإنما المقصود منه: وجوبُ الغسل بالجماع، وإن لم ينزل (¬3). ولمسلم من طريق شعبة، عن قتادة: "ثم أجهد" (¬4). ورواه أبو داود من طريق شعبة وهشام معًا، عن قتادة، بلفظ: "وألزقَ الختانَ بالختانِ" (¬5) بدل قوله: "ثم جَهَدَها". وهذا يدل على أن الجهد هنا كناية عن معالجة الإيلاج. ورواه البيهقي من طريق ابن أبي عروبة، عن قتادة مختصرًا، ولفظه: إذا التقى الختان، (فقد وجب الغسل) (¬6). وروي هذا اللفظ من حديث عائشة، أخرجه الشافعي من طريق ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 104 - 105). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 395). وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 161)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 320)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 105). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 105). (¬4) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬5) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬6) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 163)، بلفظ: "إذا التقى الختان، وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل".

سعيد بن المسيب عنها، وفي إسناده علي بن زيد، ضعيفٌ (¬1)، وابن ماجه من طريق القاسم بن محمد عنها، ورجاله ثقاتٌ (¬2). وفي "صحيح مسلم" عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قال: اختلف في ذلك رَهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريُّون: لا يجب الغسل إلا من الدًّفقِ، أو من الماء، وقال المهاجرون: بلى، إذا خالط، فقد وجب الغسل. قال أبو موسى: فأنا شفيعكم من ذلك، فقصتُ فاستأذنت على عائشة، فأُذن لي، فقلت لها: يا أُمَّاه! أو يا أم المؤمنين! إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أستحييك، قالت: لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلًا عنه أمك التي ولدتك، فإنما أنا أمك، فقلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبيرِ سَقَطْتَ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جلس بينَ شُعَبِها الأربع، ومسَّ الختانُ الختانَ؛ فقد وجب الغسلُ" (¬3). والمراد بالمس والالتقاء: المحاذاة، وقد قدمنا في الخِتان: أنه متى حاذى الختانُ من الرجل الختانَ من المرأة، تكون الحشفةُ داخل الفرج. ومعنى الحديث: أن الغسل لا يتوقف على الإنزال، (و) قد جاء مصرَّحًا به (في لفظٍ) لمسلم من حديث أبي هريرة هذا: (وإن لم ينزل)، ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 159). (¬2) رواه ابن ماجه (658)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان. (¬3) رواه مسلم (349)، كتاب: الحيض، باب: نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، وعنده: "بل إذا خالط" بدل "بلى إذا خالط"، و"فأنا أشفيكم" بدل "فأنا شفيعكم".

ووقع ذلك في رواية قتادة -أيضاً-، رواه ابن أبي خيثمة في "تاريخه"، ولفظه: "أنزل أو لم ينزل"، وكذا رواه الدارقطني، وصححه، وأبو داود الطيالسي، وغيرهم (¬1). تنبيه: الحكم عند جمهور الأمة وغالب الأئمة على مقتضى هذا الحديث في وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزالٍ. وخالفَ في ذلك داودُ الظاهري وبعضُ أصحابه مستندًا لحديث: "إنما الماء من الماء" من حديث أبي سعيدٍ الخدري، قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين إلى قباء، حتى إذا كنا في بني سالم، وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على باب عتبان، فصرخ به، فخرج يجر إزاره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْجَلْنا الرجلَ"، فقال عتبان: يا رسول الله! أرأيتَ الرجلَ يُعجل عن امرأته، ولم يُمْنِ، ماذا عليه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الماءُ من الماء" (¬2). وفي لفظٍ آخر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على رجل من الأنصار، فأرسل إليه، فخرج ورأسه يقطر، فقال: "لعلنا أعجلناك"، قال: نعم يا رسول الله، قال: "إذا أُعجلْتَ، فلا غسلَ عليك، وعليك الوضوءُ" رواه مسلم، وكذا البخاري (¬3)، إلا أنه لم يقل: "إنما الماء من الماء"، ولا قال: "لا غسل عليك". ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 112)، وأبو داود الطيالسي في "مسنده" (2449). ورواه أيضاً: الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 347)، وغيرهم. (¬2) رواه مسلم (343) كتاب: الحيض، باب: إنما الماء من الماء. (¬3) رواه البخاري (178)، كتاب: الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، ومسلم (345)، كتاب: الحيض، باب: إنما الماء من الماء.

وأخرج مسلم، عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه -، قال: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يصيب من المرأة فيكسلُ؟ قال: "يغسل ما أصابه من المرأة، ثم يتوضأ ويصلي" (¬1). وفي لفظٍ: يأتي أهله، ثم لم ينزل -بدل: يكسل-؟ قال: "يغسل ذَكَره، ويتوضأ" (¬2). وأخرج مسلم، عن زيد بن خالد الجهني: أنه سأل عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، قال: قلت: أرأيتَ إذا جامعَ الرجلُ امرأته ولم يُمْنِ؟ قال: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، قال عثمان: سمعتُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وعن أبي أيوب - رضي الله عنه -: سمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). زاد البخاري: فسألت عن ذلك عليَّ بن أبي طالب، والزبيرَ بن العوام، وطلحةَ بن عبيد الله، وأبيَّ بنَ كعب - رضي الله عنهم -، فأمروه بذلك (¬5)؛ أي: بمثل ما أمربه عثمانُ بن عفان - رضي الله عنه -. وفي روايةٍ: فقالوا مثل ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (346) كتاب: الحيض، باب: إنما الماء من الماء. (¬2) رواه مسلم (346)، (1/ 270) كتاب: الحيض، باب: إنما الماء من الماء. (¬3) رواه مسلم (347)، (1/ 270)، كتاب: الحيض، باب: إنما الماء من الماء. (¬4) رواه مسلم (347)، (1/ 271)، كتاب، الحيض، باب: إنما الماء من الماء. (¬5) رواه البخاري (177)، كتاب: الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين. (¬6) هي من رواية الإسماعيلي، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 397)، وليست من رواية البخاري كما يوهم صنيع الشارح، وسيذكره الشارح قريبًا معزوًا إلى الإسماعيلي.

فهذا ظاهره الرفع؛ لأن عثمان أفتاه بذلك، وحدثه به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالمسألة تقتضي أنهم أيضاً أفتوه وحدثوه. وقد صرح بذلك الإسماعيلي في رواية له، ولفظه: فقالوا مثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الإسماعيلي: لم يقل ذلك غيرُ الحمّاني، وليس هو من شرط البخاري. وقد حكى الأثرمُ عن الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أن حديث زيد بن خالد المذكورَ في هذا الباب معلولٌ؛ لأنه ثبت عن هؤلاء الخمسة الفتوى بخلاف ما في هذا الحديث، وكذا حكى يعقوب بن أبي شيبة عن عليِّ بن المديني أنه شاذ. والجواب عن ذلك: أن الحديث ثابت من جهة اتصال إسناده، وحفظِ رواته، ولعل فتواهم بخلافه، لثبوت ناسخِه عندهم، فذهبوا إليه، وكم من حديث منسوخٍ وهو صحيح من حيث الصناعةُ الحديثيةُ! وقد ذهب جمهورُ الأمة وأكثرُ الأئمة [إلى] أن ما دل عليه حديث الباب بالاكتفاء بالوضوء إذا لم ينزل المجامعُ منسوخٌ بما دل عليه حديثُ أبي هريرة وعائشةَ المذكورَين قبله. والدليل على النسخ: ما رواه الإمام أحمد، وغيره، من طريق الزهري، عن سهل بن سعد، حدثني أُبيُّ بنُ كعبٍ: أن الفتيا التي كانوا يقولون: الماء من الماء، رُخصة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصها في أول الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعدُ. صححه ابنُ خزيمة، وابن حبان، وقال الإسماعيلي: هو صحيح على شرط البخاري. ورواه أبو داود، وابن خزيمة، وذكره الترمذي (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (215)، كتاب: الطهارة، باب: في الإكسال، والترمذي (110)، =

وهو صريحٌ في النسخ، على أن حديث: "الغسل وإن لم يُنزل" أرجحُ من حديث: "الماء من الماء"؛ لأنه بالمنطوق، وترك الغسل من حديث الماء من الماء بالمفهوم، أو بالمنطوق أيضاً، لكن ذاك أصرح. وروى ابن أبي شيبة وغيره، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه حمل حديث الماء من الماء على صورة مخصوصة، وهي: ما يقع في المنام من رؤية الجماع (¬1)، وهو تأويلٌ يجمع بين الحديثين من غير معارض كما في "الفتح" (¬2)، انتهى. وفي "مسلم" باب: نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل، ثم روى بسنده، عن أبي العلاء بنِ الشِّخِّير، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينسخ حديثُه بعضُه بعضًا (¬3). والحاصل: وجوبُ الغسل بتغييب الحشفة في الفرج الأصلي، وإن لم ينزل، وفاقًا للأئمة الثلاثة، ولجمهور الأمة، والله أعلم. * * * ¬

_ = كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن الماء من الماء، وابن ماجه (609)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 116)، وابن خزيمة في "صحيحه" (225)، وابن حبان في "صحيحه" (1173). (¬1) رواه الترمذي (112)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن الماء من الماء، عن ابن عباس، قال: إنما الماء من الماء في الاحتلام. وفي إسناده مقال كما أشار الترمذي. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 398). قال الحافظ ابن رجب: وهذا التأويل إن احتمل في قوله: "الماء من الماء"، فلا يحتمل في قوله: "إذا أعجلت أو أقحطت، فلا غسل عليك"، وفي قوله: "يغسل ما مسَّ المرأة منه، ويتوضأ ويصلي" كما في "الفتح" له (1/ 384). (¬3) رواه مسلم (344) كتاب: الحيض، باب: إنما الماء من الماء.

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -: أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبدِ اللهِ، وَعِنْدَهُ قَوْمُهُ (¬1)؛ فَسَألوهُ عَنِ الْغُسْلِ، فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: ما يَكْفِيني، فَقَالَ جَابرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى مِنْكَ شَعْرًا، وخَيْرٌ مِنْكَ - يَرِيدُ: النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أمَّنَا فِي ثَوْب (¬2). وَفِي لَفْظٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يفْرِغُ عَلَى رَأْسِه ثَلاثًا (¬3). ¬

_ (¬1) في البخاري: "وعنده قوم". قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 366): كذا في النسخ التي وقفت عليها من البخاري، ووقع في "العمدة": "وعنده قومه" بزيادة الهاء، وجعلها شراحها ضميرًا يعود على جابر، وفيه ما فيه، وليست هذه الرواية في مسلم أصلًا، وذلك وارد أيضاً على قوله -أي: صاحب العمدة-: إنه يخرج المتفق عليه، انتهى. (¬2) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (249)، كتاب: الغسل، باب: الغسل بالصاع ونحوه، واللفظ له، و (253)، باب: من أفاض على رأسه ثلاثًا، ومسلم (329)، كتاب: الحيض، باب: استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثًا، والنسائي (230)، كتاب: الطهارة، باب: ذكر القدر الذي يكتفي به الرجل من الماء للغسل، وابن ماجه (270)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في مقدار الماء للوضوء والغسل من الجنابة. (¬3) رواه البخاري (252)، كتاب: الغسل، باب: من أفاض على رأسه ثلاثًا، ومسلم =

الرَّجُلُ الَّذِي قَالَ: "مَا يَكْفِينِي" هو: الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَبُوهُ هُوَ ابْنُ الحَنفيَّةِ. * * * (عن أبي جعفرٍ) الإمام (محمد) الباقرِ (بن علي) زين العابدين (بنِ الحسين) شهيدِ كربلاء (بن علي) الهُمامِ أميرِ المؤمنين (بن أبي طالب - رضي الله عنهم -). أما أبو جعفر محمد الباقر: لقب بالباقر، لأنه بقر العلم؛ أي: شقَّ عن مشكلاته وغوامضه. فروى عن أبي سعيد الخدري، وابن عباس، وأبي هريرة، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وجابر، وأنس - رضي الله عنهم -. وروى أيضاً عن التابعين: عن ابن المسيب، ومحمد بن الحنفية، وغيرهما. ¬

_ = (328)، كتاب: الحيض، باب: استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثًا: أن وفد ثقيف سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إن أرضنا أرض باردهَ، فكيف بالغسل؟ فقال: "أما أنا، فأفرغ على رأسي ثلاثًا"، وروى نحوه ابن ماجه (577)، كتاب: الطهارة، باب: في الغسل من الجنابة. ورواه النسائي (426)، كتاب: الطهارة، باب: ما يكفي الجنب من إفاضة الماء عليه، بنحو لفظ البخاري. * مصَادر شرح الحَدِيث: "المفهم" للقرطبي (1/ 586)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 9)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 106)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 230)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 250)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 52)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 367)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 198).

وروى عنه: أبو إسحاق الهمذاني، وعمرو بن دينار، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم. أخرج له الجماعة. وكنيته بابنه جعفرٍ الصادقِ. قال البرماوي في "شرح الزهر": كان مولده سنة ست وخمسين، ومات سنة مئة وأربع عشرة، وعمره ثمان وخمسون سنة - رضي الله عنه - (¬1). وأما والدُه عليٌّ، فيلقب: زينَ العابدين، ويكنى: أبا الحسين، ويقال: أبا الحسن، ويقال: أبا محمد. كان - رضي الله عنه - من أكابر أئمة أهل البيت، وساداتهم (¬2)، ومن جلة التابعين وأعلامهم. وأمه: أُمُّ وَلَد، اسمُها غزالة، خلفَ عليها بعدَ الحسين مولاه زُبَيد -بضم الزاي وفتح الموحدة-، فولدت له: عبدَ الله بنَ زُبيد، فهو أخو عليٍّ زينِ العابدين لأمه. قال الزهري: ما رأيت قرشيًا أفضلَ من علي بن الحسين. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 320)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 180)، و"تهذيب الكمال" للمزي (26/ 136)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 401)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 311)، و"تقريب التهذيب" له أيضاً (تر: 6151). (¬2) جاء على هامش الأصل المخطوط: الأئمة الاثنا عشر من أهل البيت - رضوان الله عليهم -: أبو القاسم محمد الحجة بن الحسن الخالص أبي محمد العسكري بن علي التقي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي السجاد زين العابدين بن سيدنا الحسين شهيد كربلاء بن أمير المؤمنين وشقيقه سيدنا الحسن ابنا فاطمة البتول - عليها السلام -.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: إن أصح الأسانيد: الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي - رضي الله عنه -. وهذه المسألة فيها مذاهب معروفة في علوم الحديث. والمختار عند المحققين: أنه لا يُجزم في إسناد بأنه أصحُّ مطلقا (¬1). قال أحمد بن صالح: وُلد الزهريُّ وعليُّ بنُ الحسين في سنة واحدة، سنة خمسين. وقال يعقوب بن سفيان: ولدا في سنة ثلاث وثلاثين، وهذا هو الظاهر؛ لما تقدَّم في أن ولده الباقر ولد سنة ست وخمسين. ومات علي زين العابدين - رضي الله عنه - سنة أربع وتسعين، وكان يقال لها: سَنَةُ الفقهاء؛ لكثرة مَن مات فيها منهم. وقيل: سنة اثنتين وتسعين، وهو ابن ثمان وخمسين سنة. ودفن في البقيع، في القبة التي فيها قبر العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -. سمع زينُ العابدين من أبيه، وابنِ عباس، والمِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَة، وأبي رافعٍ مولى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعائشةَ، وأم سلمة، وصفيَّةَ، وغيرِهم. وروى عنه: أبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمن، والزهريُّ، وأبو الزناد، وزيدُ بنُ أسلم، وغيرهم. ¬

_ (¬1) انظر أقوال الأئمة في أصح الأسانيد: "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص: 53)، و"الكفاية" للخطيب (ص: 397)، و"علوم الحديث" لابن الصلاح (ص: 15)، و"فتح المغيث" للسخاوي (1/ 23)، وغيرها.

أخرج له الجماعة - رضي الله عنه (¬1). وأما سيدنا الحسين - رضي الله عنه -، فهو أحد السِّبْطَين، وأحدُ الرَّيحانتين لسيد الكونين - صلى الله عليه وسلم -. ولم يكن اسمُ الحسن والحسين يُعرف في الجاهلية. قال الفضل: إن الله حجبَ اسمَ الحسن والحسين، حتى سَمَّى بهما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابنيه (¬2). وفي البخاري: عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هما ريحانتاي في الدنيا" (¬3) -يعني: الحسن والحسين-. وفي الترمذي: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحسنُ والحسينُ سيدا شبابِ أهلِ الجنة" (¬4). وفيه أيضاً: عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وحسن وحسين على ركبتيه-، فقال: "هذان ابناي، وابنا ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 211)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 133)، و"تاريخ دمشق" (41/ 360)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 382)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 386)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (7/ 268). (¬2) رواه أبو أحمد العسكري، عن ابن الأعرابي، عن الفضل، كما ذكر النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 162). (¬3) رواه البخاري (3543)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الحسن والحسين - رضي الله عنهما -، وعنده: "من الدنيا" بدل "في الدنيا". (¬4) رواه الترمذي (3768)، كتاب، المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين - عليهما السلام -، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 3)، وغيرهما.

ابنتي، اللهمَّ إِني أُحِبُّهما وأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهما" (¬1). وأخرج أيضاً: عن أنس - رضي الله عنه -، قال: سئل رسول - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ أهل بيتك أحبُّ إليك؟ قال: "الحسنُ والحسينُ" (¬2). وفضائل الحسين كأخيه لا تُحصى، ومزاياهما لا تُستقصى. قال ابن الجوزي في "منتخب المنتخب" كغيره: ولد الحسين سنة أربع من الهجرة، وكان له ثلاثة ذكور، وابنتان، وحَجَّ خمسًا وعشرين حجة ماشيًا. وروي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثمانيةُ أحاديث. واستُشهد - رضي الله عنه - بكربلاء من أرض العراق، بناحية الكوفة. ويُعرف الموضعُ أيضاً بالطَّفِّ. قتله سنانُ بنُ أنسٍ النخعيُّ، وقيل: شمرُ بنُ ذي الجَوْشَن، وقيل غير ذلك، نهار الجمعة، يومَ عاشوراء سنة إحدى وستين، وله ستٌّ وخمسون سنة، وأَشْهُر - رضي الله عنه وعن آبائه وذريته - (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3769)، كتاب، المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين - عليهما السلام -، وقال: حسن غريب، وابن حبان في "صحيحه" (6967)، وغيرهما. (¬2) رواه الترمذي (3772)، كتاب، المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين - عليهما السلام -، وقال: حديث غريب، وأبو يعلى في "مسنده" (4294)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (7/ 166). (¬3) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 381)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 39)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 392)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (14/ 111)، و"تهذيب الكمال" للمزي (6/ 396)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 280)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 24)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 11)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 76)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 299).

(أنه)؛ أي: أبا جعفر محمدًا الباقر - رضي الله عنه - (كان هو وأبوه) عليٌّ زينُ العابدين- رضوان الله عليهما- (عند جابر بن عبد الله) بن عمرِو بنِ حَرام -بالمهملتين- بنِ عمرِو بنِ سواد بن سَلِمة -بكسر اللام- الأنصاريِّ الخزرجيِّ السَّلَمي -بفتح السين واللام- المدنيِّ - رضي الله عنه -. كنيته: أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن. وهو وأبوه صحابيان - رضي الله عنهما -، شهد العقبة مع أبيه صغيرًا، وكان أبوه نقيبًا، وأول قتيل للمسلمين في أحد، وشهد جابرٌ بدرًا على قول البخاري وغيره. ونقل ابن عساكر عن ابن سعدٍ والواقدي: أنه لم يشهدها، ورجَّحه أبو عمر بن عبد البر، ودليلُه: ما رواه مسلم، من حديث أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه -: أنه قال: غزوتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع عشرة غزوة، لم أشهد بدرًا ولا أحدًا؛ منعني أبي (¬1). ثم شهد جابر جمع علي - رضي الله عنه - صفين. وكُفَّ بصرُه في آخر عمره. مات - رضي الله عنه - بالمدينة، سنة أربع وسبعين، وقيل: سبع وسبعين، وقيل: ثمان وسبعين، وقيل: إحدى وستين، ذكره ابن دقيق العيد (¬2). وقيل: ثلاث وسبعين، وهو الذي قدمه النووي. وأرجحها: الأول، كما قال ابن عبد البر وغيره. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1813) كتاب: الجهاد والسير، باب: عدد غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 113).

وصلى عليه: أَبانُ بنُ عثمان، وهو أميرُها يومئذٍ، وله من العمر أربع وتسعون سنة. وقيل: إنه آخر من مات من الصحابة بالمدينة، والراجحُ خلافه. وإذا أُطلق جابر، فهو المراد، وهو أحدُ المُكثرين من الصحابة، رُوي له: ألف وخمس مئةٍ وأربعون حديثًا، اتفقا على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمئة وستة وعشرين (¬1). (وعنده قومه) أي: والحالُ أن عند جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قومَه من الأنصار - رضي الله عنهم -، (فسألوه)؛ أي: سأل القومُ جابرًا (عن الغسل). وأفاد الإمام إسحاق بن راهويه في "مسنده": أن الذي تولى السؤال هو أبو جعفر الراوي، فأخرج من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: سألتُ جابرَ بن عبد الله عن غسل الجنابة (¬2). وبين النسائي في "سننه" سبب السؤال، فأخرج من طريق أبي الأحوص، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 648)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 257)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 51)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 219)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (11/ 208)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 492)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 149)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 443)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 189)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 434)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (2/ 37). (¬2) لم أقف عليه في المطبوع من "مسنده"، وقد عزاه إليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 366)، كما نقله الشارح.

عن أبي جعفر، قال: تَمارَيْنا في الغسل عند جابر، فقال: .. إلخ (¬1). ونسب السؤال في هذه الرواية إلى الجميع مجازًا؛ لقصدهم ذلك، ولهذا أفرد جابر بالجواب، (فقال) جابر - رضي الله عنه -: (يكفيك) -بفتح أوله- (صاعٌ). وتقدم أنه خمسة أرطال وثلث بالعراقي، وهو: مئة وثمانية وعشرون درهمًا، وأربعة أسباع درهم. وقال الشافعي وغيره: مئة وثلاثون درهمًا. ورجح النووي الأول (¬2)، كعلمائنا. قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": وقد بين الشيخ الموفق سبب الخلاف في ذلك، فقال: إنه كان في الأصل مئة وثمانية وعشرين وأربعة أسباع، ثم زادوا فيه مثقالًا لإرادة جبر الكسر، فصار مئة وثلاثين. قال: والعمل على الأول؛ لأنه هو الذي كان موجودًا وقتَ تقدير العلماء به، انتهى كلام الحافظ (¬3). فائدة: أوقية العراقي: عشرة دراهم، وخمسةُ أسباع درهم. وأوقية المصري والمكي والمدني: اثنا عشر درهمًا. وأوقية الدمشقي والصفدي: خمسون درهمًا. وأوقية الحلبي والبيروتي: ستون درهمًا. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (230) عنده. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 49). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 365).

وأوقية القدسي والنابلسي والحمصي: ستة وستون درهمًا، وثلثا درهم. وأوقية البعلي: خمسة وسبعون درهمًا، كما قاله الحجاوي في "حاشية التنقيح " (¬1) -رحمه الله تعالى-. (فقال رجل): زاد الإسماعيلي-: منهم (¬2)، أي: من القوم. وسيأتي في كلام الحافظ بيانه. (ما يكفيني) -بفتح الياء التحتية-، أي: الصاعُ لغسلي. (فقال جابر) - رضي الله عنه -: (كلان)، أي: الصاعُ (يكفي مَنْ هو أوفى) يحتمل الصفة، والمقدار، أي: أطول وأكثر (منك شعرًا وخيرٌ منك) -بالرفع- عطفًا على أوفى (¬3)، المخبَر به عن هو. ¬

_ (¬1) ونقله عنه البهوتي في "كشاف القناع" (1/ 44). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 366). (¬3) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 366): وفي رواية الأصيلي: "أو خيرًا" - بالنصب- عطفًا على الموصول، انتهى. قال الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 52): هكذا ثبت في النسخ بنصب "خير" وهو الدائر على الألسنة، والظاهر أنه مرفوع عطفًا على (أَوْفَى) المخبَر به عن (هو)، أي: كان يكفي مَنْ هو أَوْفَى وخير، كما تقول: أحبُّ من هو عالم وعامل. وأما النصب، فله تخريجات فاسدة، وأجودها: أنه بالعطف على شعر، لأن أوفى بمعنى أكثر، فكأنه قيل: أكثر منك شعرًا وخيرًا، ويبعده ذكره منك بعد خيرًا. أو يجاب: بأنها مؤكدة للأولى. وجعله الشيخ تاج الدين الإسكندراني الشارح منصوبًا على المفعول؛ أعني: "من" كما قاله الحافظ ابن حجر فيما نقلناه عنه، وهو فاسد، فإنه يؤذن بمغايرة المعطوف لمن وقعت عليه "من"، وتصير بمنزلة: كان يكفي زيدًا وعمرًا، فيكون الذي هو أوفى غير الذي هو خير، وليس المراد ذلك، انتهى.

وفي هذا بيان ما كان عليه السلف من الاحتجاج بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والانقياد إلى ذلك. وفيه: جواز الرد بعنف على من يماري بغير علم؛ إذا قصد الرادُّ إيضاح الحق وتحذيرَ السامعين من مثل ذلك. وفيه: كراهيةُ التنطُّع والإسراف في الماء. (يريد) جابر- رضي الله عنه - بقوله: كان يكفي مَنْ هو أوفى .. إلخ (النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -)، وهذا السياق للبخاري. قال جابر - رضي الله عنه - في آخره: (ثم أَمَّنا) يعني النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -أي: صلى بنا إماماً (في ثوب). ولفظه: ثم أمنا في ثوبٍ، لهما معًا. وسياق مسلم في أصل حديث جابر- رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة، صبَّ على رأسه ثلاث حَثَيات من ماء، فقال له الحسنُ بنُ محمد: إن شعري كثير، قال جابر: فقلت له: يا بن أخي! كان شعرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من شعرك وأطيبَ، هذا المتفق عليه. وزاد البخاري: ثم يفيض على سائر جسده. وقال: عن أبي جعفر، الحديث (¬1). ولذا قال الحافظ: (وفي لفظٍ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفرغ على رأسه ثلاثاً)؛ أي: من الماء، ولفظ هذا الحديث: عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن وفد ثقيف سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إن أرضنا أرض ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (253)، وعند مسلم برقم (329).

باردة، فكيف نغتسل؟ فقال: "أما أنا، فأفرغ على رأسي ثلاثاً" (¬1). وفي حديث جُبير بن مطعم: "أما أنا، فأفيض على رأسي ثلاثاً"، وأشار بيديه كلتيهما (¬2). لم يخرج البخاري من الحديث إلا ذكرَ العدد عن جُبيرٍ، وجابر - رضي الله عنهما -. تنبيه: المقصود من هذا الحديث: الاكتفاءُ في غسل الجنابة بالصاع من الماء، فإن أسبغ بدونه، أجزأه ذلك؛ لأن الله- سبحانه- أمر بالغسل، وقد فعله، ولم يكره. والإسباغ: تعميمُ سائر البدن بالماء بحيث يجري عليه، ولا يكون مسحًا، بل إنما يسمى غسلاً بإفاضة الماء على العضو، وسيلانِه عليه، فمتى حصل ذلك، تأدى الواجب، وذلك يختلف باختلاف الناس. قال الإمام الشافعي - رضي الله عنه -: قد يرفق بالقليل فيكفي، ويخرق بالكثير فلا يكفي (¬3). لكن المستحب: أَلَّا ينقص الغسل عن صاعٍ، والوضوء عن مدٍ. كما دل هذا الحديث على الاغتسال بصاعٍ. وقد دلت الأحاديث على مقادير مختلفة، وكان ذلك لاختلاف الأوقات أو الأحوال (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (251)، كتاب: الغسل، باب: من أفاض على رأسه ثلاثاً، ومسلم (327)، كتاب: الحيض، باب: استحباب إفاضة الماء على الرأس وغيره ثلاثاً. (¬3) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 28). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 107).

ففي "الصحيح": عن أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغتسل بخمس مكاكيك.- وفي رواية: مكاكي-، ويتوضأ بمكوك (¬1)، وعنه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد (¬2). قال في "النهاية": أراد بالمكوك: المد، وقيل: الصاع. والأول: أشبه. والمكاكي: جمع مكوك على إبدال الياء من الكاف الأخيرة. والمكوك: اسم للمكيال، ويختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد. ومنه: في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير قوله تعالى: {صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف: 72]. قال: كهيئة المكوك، وكان للعباس مثله في الجاهلية يشرب به (¬3)، والله أعلم (¬4). قال الحافظ- رحمه الله ورضي عنه -: (الرجل الذي قال: ما يكفيني، هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب) - رضي الله عنه -. (أبوه) - ¬

_ (¬1) رواه مسلم (325) كتاب: الحيض، باب: القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة. (¬2) رواه البخاري (198)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء بالمد، ومسلم (325)، (1/ 258)، كتاب: الحيض، باب: القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة، واللفظ له. (¬3) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (13/ 18)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (7/ 2173)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (10/ 95)، وهذا سياقه. (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 350).

أي: أبو الحسن- (هو) محمد المشهور بـ (ابن الحنفية). ففي هذا: ذكر الحسن، وذكر أبيه محمد، وذكر الحنفية. فأما الحسن، فكنيته: أبو محمد المدني التابعي، سمع: سلمةَ بن الأكوع، وجابرَ بن عبد الله الصحابيين، وسمع أباه، وغيره من التابعين. وروى عنه: عمرو بن دينار، والزهري، وآخرون، واتفقوا على توثيقه. روى له الجماعة، وهو أول المرجئة، ألف في ذلك. قال عمرو بن دينار: أَخْبرنَا الحسن بن محمد، ولم أر قَطُّ أعلمَ منه. توفي الحسن: سنة خمس وتسعين، كما اختاره الذهبي، وقيل: سنة مئة، أو تسعة وتسعين (¬1). وأما أبوه: فهو محمد بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وأمه: الحنفية: أم ولد علي - رضي الله عنه -. ولد محمد هذا في خلافة الصديق -في أرجح الأقوال على المعتمد-، وعليه اقتصر البرماوي في "نظم رجال العمدة" (¬2). وقيل: في أواخر خلافة عمر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 328)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 305)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (13/ 373)، و"تهذيب الكمال " للمزي (6/ 316)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 130)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (2/ 276). (¬2) تقدم التعريف بكتابه هذا.

وجزم ابن خلكان بأنه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر. وتوفي - رضي الله عنه - سنة أربع عشرة ومئة، وقيل: سنة ثمانين، بين الشام والمدينة، وقيل: إحدى وثمانين، وقيل: ثلاث وثمانين، وقيل: ثلاث وسبعين، ودفن بالبقيع، وقيل: إنه خرج إلى الطائف هاربًا من ابن الزبير، فمات هناك، وقيل: إنه مات ببلاد أيلة. والفرقة الكيسانية تعتقد إمامته، وتغلو فيه، وتزعم أنه مقيم بجبل رَضْوَى، وإلى هذا أشار كثيِّر عزة -وكان كيساني الاعتقاد- بقوله: [من الوافر] وَسِبْطٌ لا يَذُوقُ المَوْتَ حَتَّى ... يَقُودَ الْخَيْلَ يَقْدُمُها اللِّوَاءُ تَغيَّبَ لاَ يُرَى فِيهِمْ زَمَاناً ... بِرَضْوَى عِنْدَهُ عَسَلٌ وَمَاءُ (¬1) أخرج له الجماعة (¬2). وأما أم محمدٍ الحنفيةُ: فاسمها خَوْلَةُ بنتُ جعفرِ بنِ قيس، من بني حنيفةَ بنِ لُجَيْم -بضم اللام وفتح الجيم وسكون الياء (¬3). واسم حنيفة: أُثَيْل -بضم الهمزة وفتح المثلثة-، قيل له: حنيفة؛ لأن الأحزنَ بنَ عوف العبديَّ ضربه على رجله، فحنفها، وضرب حنيفةُ ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" (ص: 521). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 91)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 174)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (54/ 318)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 77)، و"تهذيب الكمال" للمزي (26/ 147)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 110)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 172)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 315). (¬3) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 91)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 103)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 148).

الأحزن، فجذمه بالسيف، فسمي: جذيمة. وبنو حنيفة: قبيلة كبيرة تولوا باليمامة (¬1). وكانت وقعة اليمامة التي فيها سبيُ بني حنيفة سنة إحدى عشرة؛ وذلك بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول خلافة الصديق، فوهب خولةَ لعليٍّ - رضي الله عنه -، فأولدها محمداً هذا، والله تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 26) ووقع عنده تسمية حنيفة: "أُثاَل" بدل "أُثَيل".

باب التيمم

باب التيمم التيمم في اللغة: القصدُ، وأصله: التعمُّد والتوخِّي. قال امرؤ القيس: [من الطويل] تَيَمَّمْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتَ وَأَهْلُهُا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دارَهَا نَظَرٌ عَالِي (¬1) أي: قصدتها. وقال ابن السِّكِّيت في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]؛ أي: اقصدوا الصعيدَ الطيب (¬2). وفي الشرع: القصدُ إلى الصعيد بمسح الوجه واليدين، بنيَّةِ استباحةِ الصلاة، ونحوها (¬3). وفي كلام فقهائنا: التيمم لغةً: القصد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" (ص: 31)، (ق: 2/ 18)، ووقع في "الديوان": "تنورتها" بدل "تيممتها". (¬2) انظر: "إصلاح المنطق" لابن السِّكيت (2/ 315). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 431). (¬4) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 52)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 32).

وشرعاً: مسح وجه ويدين بترابٍ طهورٍ على وجهٍ مخصوص (¬1). والأصل في التيمم: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]. وأما السنة: فالأحاديث الآتية وغيرها. وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على مشروعيته في الجملة. وتقدم أن التيمم من خصائص هذه الأمة؛ لأن الله تعالى [لم] يجعله طهورًا لغيرها؛ توسعةً عليها، وإحسانًا إليها. قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": اختُلف في التيمم هل هو عزيمة، أو رخصة؟ قال: وفصَّل بعضهم، فقال: هو لعدم الماء عزيمةٌ، وللعذر رخصةٌ، انتهى (¬2). وفي "شرح الوجيز": أن التيمم رخصة، وجزم في "الإقناع": بأنه عزيمة (¬3)، والله أعلم. ثم إن الحافظ - رحمه الله تعالى - ذكر في هذا الباب ثلاثة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 160). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 432). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجَّاوي (1/ 77).

الحديث الأول

الحديث الأول عن عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً مُعْتَزِلاً لَمْ يُصَلِّ في القَوْمِ، فقالَ: "يا فُلانُ! ما مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ في القَوْمِ؟ "، فقال: يا رَسُولَ الله! أصَابَتْنِي جَنَابَةٌ، ولا ماءَ، قال: "عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ" (¬1). * * * (عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما -) يكنى عمرانُ: بأبي نُجَيْد - ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (341)، كتاب: التيمم، باب: التيمم ضربة، واللفظ له. ورواه أيضاً: (337)، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء، و (3378)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم (682)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، والنسائي (321)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم بالصعيد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 676)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 190)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 109)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 237)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 70، 98)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (2/ 117)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 448)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 25)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 322).

بضم النون وفتح الجيم- ابن الحصين بن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي. أسلم عام خيبر، كذا قال البرماوي. وقال الحافظ ابن الجوزي في "منتخب المنتخب": أسلم قديمًا، وغزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوات، ومات في البصرة في خلافة معاوية، وكان به مضرة، فكانت الملائكة تسلِّم عليه، فلما اكتوى، انقطع التسليم، ثم عاد إليه، انتهى. وكان مجاب الدعوة. سكن البصرة إلى أن مات بها سنة اثنتين وخمسين، وقيل: سنة ثلاث. وكان أبيض الرأس واللحية؛ وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم. وأسلم أبوه الحصين، فهو صحابي ابن صحابي - رضي الله عنهما -. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مئة وثمانون حديثًا؛ اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بتسعة (¬1). قال عمران - رضي الله عنه - (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأى رجلًا) هو خلَّاد بنُ رافع بنِ مالك العجلانيُّ، الأنصاريُّ الخزرجيُّ، أخو رفاعة بن رافع، شهد بدرًا. يكنى: أبا نَجِيح -بفتح النون وكسر الجيم-. قال ابن الكلبي: وقُتِل خلاد يومئذٍ، قاله ابن الأثير في "أسد الغابة". ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 9)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 408)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 287)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 534)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1208)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 269)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 319)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 508)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 705)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (8/ 111).

قال ابن عبد البر: وقال غير ابن الكلبي: إن له رواية (¬1)، وهذا يدل على أنه عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال البرماوي: وفيه نظرٌ؛ إذ لا يلزم ذلك، فقد وُجد لجمعٍ ماتوا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - روايات. نعم: إن كان الراوي لا يمكن أن يكون تحمل عنه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيتوجَّه ذلك، انتهى. وفي "الفتح" للحافظ ابن حجر: قوله: إذا هو برجلٍ، لم أقف على تسميته. قال: ووقع في "شرح العمدة" للشيخ سراج الدين بن الملقن، ما نصه: هذا الرجل خلاد بن رافع بن مالك الأنصاري، ونقل كلام ابن الكلبي (¬3). ثم قال: أما على قول ابن الكلبي: فيستحيل أن يكون هو صاحب هذه القصة؛ لتقدم وقعة بدر على هذه القصة بمدة طويلة بلا خلاف، فكيف يحضر هذه القصة بعد قتله؟! وأما على قول غير ابن الكلبي، فيحتمل أن يكون هو، لكن لا يلزم من كونه له رواية أن يكون عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). (معتزلًا): صفة لرجل. والمعتزل: المنفرد عن القوم المتنحِّي عنهم. يقال: اعتزل وانعزل وتعزل، بمعنى واحد (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 451). (¬2) انظر: "أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 181). (¬3) انظر: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (2/ 117 - 118). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 451). (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1333)، (مادة: عزل).

واعتزاله عن القوم: أدبًا في ترك جلوس من لم يصل مع القوم عندهم، في حال صلاتهم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمن رآه في المسجد والناس يصلون: "ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجلٍ مسلم؟ " (¬1). وهذا إنكارٌ لهذه الحالة. (لم يصل) ذلك الرجل (في القوم)، صفة مبينة للعزلة. (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (يا فلان!). قال في "النهاية": وفلان وفلانة كنايةٌ عن الذكر والأنثى من الناس، فإن كنيتَ بهما من غير الناس، قلت: الفلانُ والفلانة (¬2). وفي "القاموس": فلان وفلانة -مضمومتين- كنايةٌ عن أسمائنا، وقد يقال للواحد: [يا فُلُ]، [وللاثنين: يا فلانِ] وجمع: يا فُلونَ، وفي المؤنث: يافُلَةُ، ويافُلَتانِ، ويافُلاتُ. وقد يقال للواحدة: يا فلاتُ، ويا فُلَ، يراد: يا فُلَةُ (¬3). (ما)؛ أي: أيُّ شيءٍ (منعك أن تصلي في القوم؟). وفي لفظ: "مع القوم" (¬4)؛ أي: ما منعك أن تكون داخلًا فيما دخل فيه القوم من اجتماعهم لأداء الصلاة، أو ما منعك من صحبتهم فيها؟ ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 132)، ومن طريقه: الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 214)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 34)، والنسائي (857)، كتاب: الإمامة، باب: إعادة الصلاة مع الجماعة بعد صلاة الرجل لنفسه، وغيرهم، عن محجن الديلي - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 474). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1277)، (مادة: ف ل ن). (¬4) وهو لفظ البخاري المتقدم تخريجه في حديث الباب برقم (337).

(فقال) الرجل: (يا رسول الله! أصابتني جنابة، ولا ماءَ) -بفتح الهمزة-؛ أي: معي، أو موجودٌ، وهو أبلغ في إقامة عذره. وهذا يحتمل أَلَّا يكون عالمًا بمشروعية التيمم، أو اعتقد أن الجنب لا يتيمم. قال في "الفتح": وفيه جواز الاجتهاد بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن سياق القصة يدل على أن التيمم كان معلومًا عندهم. لكنه صريحٌ في الآية عن الحدث الأصغر؛ بناءً على أن المراد بالملامسة: ما دون الجماع، وأما الحدث الأكبر: فليست صريحة فيه، فكأنه كان يعتقد أن الجنب لا يتيمم، فعمل بذلك مع قدرته على أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الحكم. ويحتمل: أنه كان لا يعلم مشروعية التيمم أصلًا، فكان حكمه حكمَ فاقد الطَّهورين. ويؤخذ من هذه القصة: أن العالم إذا رأى فعلًا محتملًا، ساغ له أن يسأل فاعله عن الحال فيه؛ ليوضح له وجه الصواب. وفيه: التحريض على الصلاة في الجماعة، وأن ترك الصلاة بحضرة المصلين معيبٌ على فاعله، حيث لا عذر. وفيه: حسن الملاطفة والرفق في الإنكار (¬1). (قال) - صلى الله عليه وسلم - للرجل: (عليك بالصعيد). وفي رواية: فأمره أن يتيمم بالصعيد (¬2)، واللام فيه للعهد المذكور في الآية. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 451). (¬2) وهي رواية البخاري المتقدم تخريجها في حديث الباب برقم (3378).

ويؤخذ منه: الاكتفاء في البيان بما يحصل به المقصود من الإفهام؛ لأنه أحاله على الكيفية المعلومة من الآية، ولم يصرح له بها (¬1). ودل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإنه)؛ أي: الصعيد (يكفيك) -بفتح الياء-، على أن المتيمم في مثل هذه الحالة لا يلزمه قضاء الصلاة بعد ذلك ولو في الوقت؛ ذكره في "الفروع" اتفاقًا. وعن الإمام أحمد: تسن إعادتها (¬2)، والله أعلم. والصعيد: وجه الأرض (¬3). قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافًا بين أهل اللغة، سواءٌ أكان عليها تراب، أم لا، ومنه قوله تعالى: {صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8] و {صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40]. وإنما سمي صعيدًا؛ لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض (¬4). وقال الطبري بعد أن روى من طريق قتادة، قال: الصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات (¬5). ومن طريق عمرو بن قيس، قال: الصعيد: التراب (¬6)، ومن طريق ابن زيد، قال: الصعيد: الأرض المستوية (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 451). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 181). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 125)، و"العين" للخليل (1/ 290)، (مادة: صعد). (¬4) انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 56). (¬5) رواه بن جرير الطبري في "تفسيره" (5/ 108). (¬6) رواه بن جرير الطبري في "تفسيره" (5/ 109). (¬7) رواه بن جرير الطبري في "تفسيره" (5/ 109).

الصواب: أن الصعيد هي الأرض المستوية، الخالية من الغرس والنبات والبناء (¬1). وأما الطيب: فهو الذي تمسك به من اشترط في التيمم التراب؛ لأن الطيب هو التراب المُنْبِت، قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58]. وروى عبد الرزاق، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: الصعيد الطيب: الحرث (¬2). والحاصل: أن معتمد مذهبنا كالشافعية اعتبارُ كون المتيمَّم به ترابًا طهورًا مغبرًا غيرَ محترق، لا ما تصاعد على وجه الأرض من أجزائها، خلافًا للحنفية. ولا بكل ما تصاعد عليها، ولو كان من غير أجزائها؛ كنبات؛ خلافًا للمالكية (¬3). ومن أدلة مذهبنا كالشافعية: قولُه تعالى في آية المائدة: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]. فمن: للتبعيض المشعرِ بتبعيض ما يُتيمَّم به، وذلك هو التراب لا الصخرُ. وأما قول ابن بطال: يجوز كون "من" صلة، فتعقب بأنه تعسفٌ، ولذا ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (5/ 109). (¬2) رواه عبد الرازق في "المصنف" (814). وانظر فيما ذكره الشارح: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 252). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 192).

قال الزمخشري في "كشافه": فإن قلت: لا يفهم أحدٌ من العرب من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن وغيره إلا معنى التبعيض، قلت: هو كما تقول، والإذعانُ للحق خير من المراء، انتهى (¬1). وذلك لأنه حنفي المذهب في الفروع الفقهية، وإن كان معتزلي الاعتقاد، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (2/ 84 - 85). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 447).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَاجَةٍ، فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ المَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ في الصَّعِيدِ كَما تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بيَدَيْكَ هَكَذَا"، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبةً واحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَىَ اليَمِينِ، وظَاهِرَ كفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (340)، كتاب: التيمم، باب: التيمم ضربة، وانظر: (331)، باب: التيمم هل ينفخ فيهما؟ و (336)، باب: التيمم للوجه والكفين، و (339)، باب: إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت، أو خاف العطش، تيمم. ورواه مسلم (368)، (1/ 280 - 281)، كتاب: الحيض، باب: التيمم، واللفظ له، وأبو داود (321 - 328)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم، والنسائي (312)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم في الحضر، و (317)، باب: نوع آخر من التيمم، و (319)، باب: نوع آخر، و (320)، باب: تيمم الجنب، والترمذي (144)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في التيمم، وابن ماجه (569)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في التيمم ضربة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 98)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 239)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 219)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 613)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 56)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 111)، و"العدة في شرح العمدة" لابن =

(عن عمار بن ياسر) بنِ عامر بنِ مالك بنِ كنانةَ بنِ قيسٍ العَنسْيِّ -بالنون-، مولى بني مخزوم، وحليفهم، وذلك أن ياسرًا والدَ عمار قدم مكة مع أخوين له، يقال لهما: الحارث، ومالك، في طلب أخٍ لهم رابع، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف أبا حذيفةَ بنَ المغيرة بنِ عبد الله بنِ عمرَ بنِ مخزوم، فزوجه أبو حذيفة أمةً له يقال لها: سُمَيَّة -بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء المثناة تحت-، فولدت له عمارًا، فأعتقه أبو حذيفة، فعمار مولى أبي حذيفة. أسلم عمار - رضي الله عنه - قديمًا هو وأبواه، وكان إسلامُ عمار وصهيب في وقت واحد، حين كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلًا. وكان هو وأبواه من المستضعَفين الذين عُذِّبوا بمكة؛ ليرجعوا عن الإسلام، وأحرقه المشركون بالنار، فكان - صلى الله عليه وسلم - يمرُّ به، وهم يعذبونه بالنار، فَيُمِرُّ يده عليه، ويقول: "كوني بردًا وسلامًا على عمَّار، كما كنت على إبراهيم" (¬1). ويقول: "صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فإنَّ مَوْعِدَكمُ الجَنَّةَ" (¬2). ¬

_ = العطار (1/ 241)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 43)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 444)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 17)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 95)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 332). (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 248)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (43/ 372)، عن عمرو بن ميمون، مرسلًا. (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (5646)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1631)، عن ابن إسحاق: أن رجالًا من آل عمار أخبروه. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (769)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 343)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (43/ 368)، عن عثمان - رضي الله عنه -.

وقتل أبو جهلٍ سمية - رضي الله عنها -، وَجَأهَا بحَرْبَةٍ في قُبُلها، فكانت أولَ شهيدة في الإسلام. وهاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، وصلَّى إلى القبلتين، وشهد بدرًا والمشاهدَ كلها، فأبلى فيها. قال ابن الجوزي في "منتخب المنتخب": لم يشهد بدرًا ابنُ مؤمنينِ غيرُه، وسمَّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطَّيِّبَ المُطَيَّبَ"، كما في "مسند الإمام أحمد"، و"سنن الترمذي" (¬1). قُتل عمار - رضي الله عنه - بصِفِّين مع سيدنا عليِّ بن أبي طالب - رضوان الله عليه - في ربيع الأول، وقيل: الآخر، سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "وَيْحَ عَمَّار تقتلُه الفئةُ الباغِيةُ، يدعوهم إلى الجنةِ، ويَدْعونَه إلى النار". رواه الإمام أحمد، والبخاري، وغيرهما (¬2). فكان ذلك من أعلام النبوة. وأوصى عمار - رضي الله عنه - أن يدفن في ثيابه، فدفنه علي - رضي الله عنه - في ثيابه، ولم يغسله. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3798)، كتاب: المناقب، باب: مناقب عمار بن ياسر - رضي الله عنه -، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (146)، في المقدمة، باب: فضل عمار بن ياسر، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 99)، وابن حبان في "صحيحه" (7075)، والحاكم في "المستدرك" (5662)، عن علي - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (436)، كتاب: المساجد، باب: بنيان المسجد، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 90)، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

وفي عمار نزل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. قال ابن عبد البر بإجماع المفسرين (¬1). روى عنه: علي، وابن عباس، وأبو موسى، وأبو أُمامة، وجابر، وغيرهم من الصحابة والتابعين كثير. وفي "مسند الإمام أحمد" بسندٍ منقطع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عادى عمارًا، عاداهُ اللهُ، ومن أبغضَ عمارًا، أبغضَه اللهُ" (¬2). وكان يكنى: أبا اليقظان، وهو المراد بقول ابن عبدون في قصيدته الرائية الفريدة المشهورة: [من البسيط] وَمَا رَعَتْ لأَبِي اليَقْظَانِ صُحْبَتَهُ ... وَلَمْ تُزَوِّدْهُ إِلَّا الضَّيْحَ في الغُمَرِ روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اثنان وستون حديثًا، اتفقا على حديثٍ واحد، وهو هذا، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلمٌ بواحد (¬3). قال عمار (- رضي الله عنه -: بعثني) بعثه؛ كمنعه: أرسله؛ كابتعثه فانبعث، والناقةَ: أثارها، وفلانًا من منامه: أَهَبَّه، والبَعْثُ -ويُحرَّك-: الجيش (النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، فأجنبتُ)؛ أي: أصابتني جنابة، أو تعاطيتُ ما صرت به جنبًا. يقال: أجنب الرجل، وجَنُب -بالضم-، وجَنَب -بالفتح-، كما تقدم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1136). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 89)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8269)، وابن أبي شيبة في "المصنف" " 32252 "، والطبراني في "المعجم الأوسط" (4796)، والحاكم في "المستدرك" (5674)، عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 211)، (مادة: بعث). (¬4) وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 111).

(فلم أجد الماء) لأغتسل به من جنابتي، (فتمرغت في الصعيد)؛ أي: التراب (كما تَمَرَّغُ الدابة) -بفتح المثناة وضم الغين المعجمة-، وأصله: تتمرغ، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا. وفي الرواية الأخرى: فتمَعَّكْتُ في التراب (¬1)؛ أي: تقلبت. وكأنه - رضي الله عنه - استعمل القياسَ في هذه المسألة؛ لأنه لما رأى أن التيمم إذا وقع بدل الوضوء، وقع على هيئة الوضوء، رأى أنَّ التيمم عن الغسل يقع على هيئة الغسل. ويستفاد منه: وجودُ اجتهاد الصحابة في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وأن المجتهد لا لومَ عليه حيثُ بذل وُسْعَهُ، وإن لم يصب الحقَّ، وأنه إذا عمل بالاجتهاد، لا يجب عليه الإعادة. وقال ابن حزم الظاهري: في هذا الحديث إبطالٌ للقياس؛ لأن عمارًا قدَّر أنَّ المسكوت عنه من التيمم للجنابة، حكمُه حكمُ الغسل للجنابة؛ إذ هو بدل عنه، فأبطل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وأعلمَهُ أن لكل شيء حكمَه المنصوصَ عليه فقط. والجواب عمَّا زعم: أن الحديثَ دلّ على بطلان هذا القياس الخاصِّ، ولا يلزم من بطلان الخاص بطلان العام. والقائلون بالقياس لا يعتقدون صحةَ كلِّ قياس، على أن الأصل الذي هو الوضوء قد أُلغي فيه مساواةُ البدل له، فإن التيمم لا يعمُّ جميعَ أعضاء الوضوء، وحيث أُلغيت مساواة بدل الأصل، فلأَنْ تُلْغى في الفروع أولى. بل لقائلٍ أن يقول: في الحديث دليلٌ على صحة أصلِ القياس؛ لقوله - ¬

_ (¬1) وهي رواية البخاري ومسلم، وقد تقدم تخريجها في حديث الباب.

عليه السلام -: "إنما كان يكفيكَ ... إلخ" يدل على أنه لو كان قليلًا، لكفى. وذلك دليلٌ على صحة قولنا: لو كان فعله، لكان مصيبًا، فلو كان فعله لكان قائسًا التيمم للجنابة على التيمم للوضوء، على تقدير كون اللمس المذكور في الآية ليس هو الجماع (¬1). قال عمار - رضي الله عنه -: (ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك)؛ أي: ما فعلت من تمرغي في التراب (له) - صلى الله عليه وسلم -، (فقال) - عليه الصلاة والسلام -: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا). استعمل القول في معنى الفعل، وقد استعملت العرب القول في كل فعل، و"أَنْ" وما بعدها من الفعل في تأويل مصدر فاعل يكفيك. (ثم ضرب بيديه الأرض)، وفي رواية: فضرب بكفيه الأرض، وفي لفظ: فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) (ضربة واحدة)، وسياقه يدل على أن التعليم وقع بالفعل من النبي - صلى الله عليه وسلم -. ووقع للإسماعيلي، من طريق يزيد بن هارون، وغيره، عن شعبة: أن التعليم وقع بالقول، ولفظه: "إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، [ثم تنفخ]، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك" (¬3). ورواية الجمهور: أن التعليم وقع بفعله - صلى الله عليه وسلم -. وفي قوله: واحدة" دليلٌ لمذهبنا ومن وافقه. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 111 - 112). (¬2) هي رواية البخاري المتقدم تخريجها برقم (331) عنده. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 444).

قال في "الفروع" -في صفة التيمم بعد النية والتسمية-: ويضرب بيديه مُفَرَّجَتَي الأصابع واحدةً، ويمسح وجهه بباطن أصابعه، وكفيه براحتيه، نصَّ عليه -يعني: الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه -، واستحب القاضي وغيرُه ضربتين؛ واحدةً لوجهه، وأخرى ليديه إلى مرفقيه، وحُكِيَ روايةً، ولا يجب ذلك، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، ولمالك في رواية (¬1). والحديث نصٌّ في المذهب. وعند الإمام أحمد، وأبي داود بإسناد صحيح، من حديث عمار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في التيمم: ضربة للوجه والكفين. وهو صحيحٌ (¬2). قال إسحاق: حديث عمار في التيمم ضربة للوجه والكفين صحيح (¬3). وقال الإمام أحمد: من قال: ضربتين، إنما هو شيءٌ زاده (¬4). وذلك لأن حديث جابر عند الدارقطني: "ضربة للوجه، وضربة لليدين" موقوف -على الصواب- (¬5). (ثم مسح - صلى الله عليه وسلم - الشمال) من يديه (على اليمين) منهما، (و) مسح (ظاهرَ كفيه ووجهه)، وهذا لفظ مسلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 193 - 194). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 263)، وأبو داود (327)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم. (¬3) ذكره الترمذي في "سننه" (1/ 270). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 154). (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 181) بلفظ: "التيمم ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين"، وقال: رجاله كلهم ثقات، والصواب موقوف.

وفي رواية للبخاري: فضرب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه واحدة (¬1). وكذا لمسلم، من حديث الأعمش: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا"، وضرب بيديه الأرض، فنفضَ يديه، فمسح وجهَه وكفيه (¬2). وفي لفظٍ، فقال: "يكفيك الوجه والكفين" (¬3). وفي لفظٍ للبخاري: وضرب بكفيه ضربة على الأرض، ثم نفضهما، ثم مسح ظهر كفه بشماله، أو ظهرَ شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه (¬4). وكذا بالشك في جميع رواياته. وفي رواية أبي داود تحريرُ ذلك من طريق أبي معاوية، ولفظه: ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفين، ثم مسح وجهه (¬5). ورواه أيضاً الإمام أحمد كذلك (¬6)، لكن قد قال الإمام أحمد: هذه غلط، والله أعلم. ويستفاد من مجموع الأحاديث: أن الواجب في التيمم مسحُ الوجه والكفين، وما زاد على الكفين ليس بفرض كما علم، كما هو معتمد مذهبنا. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (331) عنده، إلا أنه لم يقل فيه: "واحدة". (¬2) تقدم تخريجه برقم (368)، (1/ 280) عنده. (¬3) رواه البخاري (334)، كتاب: التيمم، باب: التيمم للوجه والكفين. (¬4) تقدم تخريجه برقم (340) عنده، إلا أنه وقع هناك قوله: "بكفه" بدل "بكفيه"، و"نفضها" بدل "نفضهما"، و"مسح بها" بدل "مسح بهما". (¬5) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (321) عنده. (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 264).

وإليه ذهب إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن خزيمة، ونقله ابن أبي الجهم، وغيرُه عن الإمام مالك، ونقله الخطابي عن أصحاب الحديث (¬1). وقال النووي: رواه أبو ثور وغيره عن الشافعي في القديم، وأنكر ذلك الماوردي وغيره. قال: وهو إنكار مردود؛ لأن أبا ثور إمامٌ ثقة. قال: وهذ! القول، وإن كان مرجوحًا عند الأصحاب، فهو القوي في الدليل، ذكره في "شرح المهذب" (¬2). وما استدل به من اشتراط بلوغ المسح إلى المرفقين، من أن ذلك شرط في الوضوء (¬3)، فجوابه: أنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسد الاعتبار، وقد عارضه أصحابنا من أن إطلاق اليد إنما هو إلى الكوع؛ بدليل آية السرقة؛ وليس في ذلك كبيرُ فائدة مع وجود النص الثابت عن الشارع - صلى الله عليه وسلم - (¬4). تنبيه: ربما يؤخذ من مجموع الأحاديث: عدمُ اعتبار الترتيب في التيمم. قلت: وهو صحيحٌ حيث كان التيممُ لجنابةٍ، كما هو الواقع في الحديث، ومن استدل به على عدم الترتيب مطلقًا، أو على عدمه في الوضوء؛ فقد استدل بما لا دليل له فيه، والله الموفق (¬5). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 445). (¬2) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (2/ 241 - 242). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 61). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 446). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 113).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِياءِ قَبْلِي، نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا؛ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ، فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، ولم تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً" (¬1). ¬

_ (¬1) في تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (328)، في أول كتاب: التيمم، واللفظ له، و (427)، كتاب: المساجد، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، و (2954)، كتاب: الخمس، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لكم الغنائم"، ومسلم (521)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، والنسائي (432)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم بالصعيد، و (736)، كتاب المساجد، باب: الرخصة في ذلك. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 435)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 3)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 113)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 249)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 16)، و"النكت على شرح العمدة" للزركشي (ص: 54)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 104)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 436)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 7)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 93)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 134).

(عن جابر بن عبد الله) الأنصاريِّ الخزرجيِّ (- رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أُعْطِيت) -بالبناء للمجهول-؛ أي: أعطاني الله سبحانه (خمسًا)، بيَّن في رواية عمرو بن شعيب: أن ذلك كان في غزوة تبوك (¬1)، وهي آخر غزوات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا تعديدٌ منه - صلى الله عليه وسلم - للفضائل التي خُصَّ بها دون سائر الأنبياء، وظاهره يقتضي: أن كل واحدة منها لم تكن لأحدٍ من قبله - صلوات الله عليه - (¬2)، وهو كالصريح في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لم يُعْطَهن أحدٌ من الأنبياء) - عليهم السلام - (قبلي). وفي حديث ابن عباس: "لا أقولهن فخرًا" (¬3). ومفهومه: أنه لم يختص بغير الخمس المذكورة، لكن روى مسلم، من حديث أبي. هريرة مرفوعًا: "فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بستٍّ" (¬4). وسأذكر في آخر شرح هذا الحديث أكثر من ذلك - إن شاء الله تعالى -. الأولى من الخمس: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نصرت بالرعب). زاد الإمام أحمد من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -: "يُقذف في قلوب أعدائي" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 222)، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 114). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 301). (¬4) رواه مسلم (523)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 436). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 248)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 222).

(مسيرة شهر) مفهومه: أنه لم يوجد لغيره النصرُ بالرعب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما دونها، فلا. لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب: "ونُصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرةُ شهر" (¬1) فالظاهر -كما قال الحافظ ابن حجر-: اختصاصُه به مطلقًا، وإنما جعل الغاية شهرًا؛ لأنه لم يكن بين يديه وبين أعدائه أكثرُ منه. وهذه الخصوصية حاصلة في الإطلاق حتى لو كان وحده بلا عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال (¬2). والرعب: هو الوَجَلُ والخوف لتوقُّع نزول محذورٍ (¬3). قال في "القاموس": الرُّعْب -بالضم وبضمتين-: الفَزَعُ؛ رَعَبَهُ؛ كمنعَه: خَوَّفَه، فهو مرعوب، وَرَعِيبٌ، كرَعَّبهُ تَرْعِيبًا وَتَرْعابًا، فَرَعَبَ؛ كمنَع رُعْبًا -بالضم-، وارْتَعَبَ، انتهى (¬4). الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وجُعلت) بالبناء للمفعول (لي) دون غيري (الأرضُ) -بالرفع- نائب الفاعل؛ أي: جعلَ الله لي الأرضَ (مسجدًا)؛ أي: موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه؛ لأنه لما جازت الصلاة في جميعها، كانت كالمسجد في ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 437). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 115). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 115)، (مادة: رعب). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 115)، وعنه أخذ الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 437).

قال ابن [التِّين] (¬1): قيل: المراد: جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجُعلت لغيري مسجدًا، ولم تُجعل له طهورًا؛ لأن عيسى - عليه السلام - كان يَسيح في الأرض، ويُصلي حيث أدركته الصلاة، كذا قال، وسبقه إلى ذلك الداودي. وقيل: إنما أُبيحت لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة، فأُبيح لها في جميع الأرض، إلَّا فيما تيقنوا نجاسته. والأظهر: قولُ الخطابي، وهو أن مَنْ قبله إنما أُبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة، كالبِيَع والصوامع (¬2). ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: "وكان مَنْ قبلي إنما كانوا يُصَلُّون في كنائِسهم" (¬3)، وهذا نص في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية. ويؤيده أيضاً: ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس بنحو حديث الباب، وفيه: "ولم يكن أحدٌ من الأنبياء يصلي حتى يبلغَ محرابَهُ " (¬4). (وطهورًا): بالنصب عطفًا على مسجدًا. وقد استدل به على أن الطهور هو المطهِّرُ لعْيره؛ لأنه لو كان المراد به: الطاهر، لم تثبت الخصوصية، والحديث سيق لإثباتها. وقد روى ابن المنذر، وابن الجارود بإسنادٍ صحيح مرفوعًا: "جُعلت ¬

_ (¬1) في الأصل "التيمي"، والتصويب من "الفتح". (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 146). (¬3) تقدم تخريجه قريبًا. (¬4) رواه البزار في "مسنده" (8/ 258 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، وقال: فيه من لم أعرفهم. ورواه أيضًا: البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 114)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 433).

لي كلُّ أرضٍ طَيِّبَةٍ مسجدًا وطهورًا" (¬1). قلت: وهذه في "الصحيحين" من حديث جابر، ولفظه: "وجُعلت لي الأرضُ طيبة طهورًا ومسجدًا" (¬2)، ومعنى طيبة: طاهرةً. فلو كان معنى قوله: طهورًا: طاهرًا؛ للزم تحصيل الحاصل. قال الخطابي: في قوله: "مسجدًا وطهورًا": فيه إجمالٌ وإبهام، وتفصيلُه في حديث حذيفة - رضي الله عنه -: "جُعلت لنا الأرضُ مسجدًا، وتربتُها لنا طَهورًا". وهو عند مسلم، ولفظه: "جُعلت لنا الأرضُ كلُّها مسجدًا، وجُعلت تربتُها لنا طهورًا إذا لم نجدِ الماءَ" (¬3). قال الخطابي: والحديث جاء على جهة الامتنان على هذه الأمة بأن رخص لهم في الطهور بالأرض، والصلاة في بقاعها، وكانت الأمم المتقدمة لا يصلون إلا في كنائسهم وبِيَعهم (¬4)، ويتأيد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتربتُها لنا طهورًا" ما أسلفناه من اعتبار التراب. والزيادة من الثقة مقبولة. (فأيَّما): مبتدأ فيه معنى الشرط، و"ما": زائدة للتأكيد (¬5). و (رجلٍ): مجرور بالإضافة. والمراد: شخص ذكر أو أنثى، وإنما ¬

_ (¬1) رواه ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 12)، وابن الجارود في "المنتقى" (124)، عن أنس - رضي الله عنه -. (¬2) هو لفظ مسلم فقط دون البخاري، وقد تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬3) رواه مسلم (552)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة. (¬4) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 146). (¬5) انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 54).

خص الرجل بالذكر؛ لشرفه، ولأنه المحتاج لذلك غالبًا. (من أمتي): أمةِ الإجابة. (أدركته الصلاة) المكتوبةُ، وهذه صيغة عموم يدخل تحتها من لم يجد ماء ولا ترابًا، ووجد شيئًا من أجزاء الأرض، فإنه يتيمم به (¬1). لا يقال: هو خاص بالصلاة؛ لأنا نقول: لفظ حديث جابر مختصر. وفي رواية أبي أمامة عند البيهقي: "فأيُّما رجلٍ من أمتي أَتى الصلاةَ، فلم يجدْ ماء، وجدَ الأرض طهورًا ومسجدًا" (¬2). وعند الإمام أحمد: "فعنده طهورُهُ ومسجدُه" (¬3). وفي رواية عمرِو بنِ شعيب: "فأينما أدركتني الصلاةُ، تَمَسَّحْتُ وصَلَّيت" (¬4). وفيه: ما ربما استدل به من جوَّز التيممَ بسائر أجزاء الأرض. ولنا: أنه مخصوص العموم بحديث حذيفة، وهو خاص، فينبغي أن يُحمل العامُّ عليه، فتختص الطهورية بالتراب. وفي حديث علي - رضي الله عنه - عند الإمام أحمد، والبيهقي بإسنادٍ حسن: "وجُعل الترابُ لي طهورًا" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 117). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 212). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 248)، بلفظ: (فعنده مسجده، وعنده طهوره". (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 158)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 213).

ويقوي القول بأنه خاصٌّ بالتراب: أن الحديث سيق لإظهار التشريف والتخصيص، فلو جاز التيمم بغيره، لما اقتصر عليه؛ نعم؛ إذا لم يجد ماءً ولا ترابًا صلى على حسب حاله، والله أعلم (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فليصلِّ): جملة فعلية محلها الرفع، خبر المبتدأ، وجملة الجار والمجرور؛ أعني: "من أمتي"، والفعل والمفعول والفاعل؛ أعني: "أدركته الصلاة" صفتان لرجل. وقد عرف مما تقدم أن المراد: فليصل بعد أن يتيمم. الثالثة: ما أشار إليها بقوله: (وأحلت) - بالبناء للمفعول- الي الغنائمُ) - بالرفع- نائب الفاعل، أي: أحل الله - جل شأنه - لي دون غيري الغنائمَ. وللكشميهني: المغانم (¬2). قال في "النهاية": المَغْنَمُ والغنائمُ: ما أُصِيبَ من أموال أهل الحرب، وأَوْجَفَ عليه المسلمون بالخيل والرِّكَاب. يقال: غَنِمْتُ أَغْنَمُ غُنْمًا وغَنيمَةً، والغنائم جمعُها، والمغانم: جمعُ مَغْنَم. والغُنْمُ-بالضم-: الاسم، -وبالفتح-: المصدر. والغانِم: آخِذُ الغنيمةِ، والجمع: الغانِمون (¬3). (ولم تحل)، أي: الغنائم (لأحد) من الأنبياء- عليهم السلام - (قبلي). قال الخطابي: كان مَنْ تقدَّم على ضربين؛ منهم من لم يؤذنْ له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانمُ. ومنهم: من أُذن لهم فيه، لكن كانوا إذا غنموا ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 438). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 389 - 390).

شيئًا، لم يحلَّ لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته. وقيل: المراد؛ أنه خاص بالتصرف في الغنيمة يصرفها حيث شاء. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": والأول أصوب، وهو أنَّ مَنْ مضى لم تحلَّ لهم الغنائم أصلًا (¬1). الرابعة: ما أشار إليه بقوله: (وأُعطيت) -بالبناء للمفعول-. و (الشفاعة): نائب الفاعل؛ أي: أعطاني الله الشفاعة. قال ابن دقيق العيد: الأقربُ أن اللام فيها للعهد (¬2). والمراد: بالشفاعة: العظمى في راحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها. وكذا جزم النووي (¬3)، وغيره بذلك. وقيل: الشفاعةُ التي اختص بها - صلى الله عليه وسلم -: أن يشفع في إدخال قوم الجنةَ بغير حساب؛ فإنها وردت لنبينا - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: الشفاعةُ بخروج مَنْ في قلبه مثقالُ ذرةٍ من إيمان؛ لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثرُ من ذلك، قاله القاضي عياض (¬4). قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي أن هذه مرادةٌ مع الأولى؛ لأنه يتبعها بها (¬5). وقال البيهقي: يحتمل أن الشفاعة التي يختص بها: أن يشفع لأهل ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 438). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 118). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 4). (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 437). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 438).

الصغائر والكبائر، وغيره إنما يشفع لأهل الصغائر دون الكبائر (¬1). أو أن الشفاعة المختصة به - صلى الله عليه وسلم - شفاعة لا تُرَد (¬2). وقد وقع في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: "وأُعطيت الشفاعةَ، فأَخَّرْتُها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا" (¬3). وفي رواية عمرو بن شعيب: "فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله" (¬4). فالظاهر: أن المراد بها: الشفاعةُ الأولى، لكن جاء التنويهُ بذكرها؛ لأنها غايةُ المطلوب من تلك؛ لاقتضائها الراحة المستمرة (¬5). وقيل: إنها شفاعته لقوم قد استوجبوا النار، فيشفع فىِ عدم دخولهم لها، إلا أنه ثبت عدم اختصاصه بها. وقيل: المراد: شفاعتُه بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها. وهذه كالأولى مما لا ينكره المعتزلة، إلا أن الأظهر -والله أعلم- عدمُ إرادته إياها في هذا الحديث، والله الموفق (¬6). الخامسة: مما أُعطيه - صلى الله عليه وسلم - وامتاز به على غيره من الأنبياء - عليهم السلام - ¬

_ (¬1) انظر: "البعث والنشور" للبيهقي (ص: 55). (¬2) كما قاله القاضي عياض في "إكمال المعلم" (2/ 437). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 301)، وعبد بن حميد في "مسنده" (643)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (31643)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11085). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 439). (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 35 - 36).

ما أشار إليه في قوله: (وكان النبي) من الأنبياء (يُبعث) -بالبناء للمفعول-، والضمير المستتر نائب الفاعل؛ أي: يبعثه الله - سبحانه - (إلى قومه) الذي هو فيهم (خاصة) دون غيرهم، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق. يقال: خصَّه بالشيء، خَصًّا، وخُصوصًا، وخُصوصِيَّه، ويُفْتَح، وخَصيَّهً وتَخِصَّةً: فَضَّلَه، والخاصَّةُ ضدُّ العامَّة (¬1). وفي لفظٍ لمسلم: "وكان كلُّ نبي يُبعث إلى قومه خاصَّةً" (¬2). (وبُعثت إلى الناس عامة). وفي لفظٍ: "إلى كلِّ أحمرَ وأسودَ" (¬3). وفي "البخاري": "وبُعثت إلى الناس كافَّةً" (¬4). وعند "مسلم" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "وأُرسلت إلى الخَلْق كافةً" (¬5). فإن قيل: قد كان نوح مبعوثًا إلى أهل الأرض بعدَ الطوفان؛ لأنه لم يبقَ فيها إلا من كان مؤمنًا معه، وقد كان مرسلًا إليهم؟ فالجواب: إن هذا العموم لم يكن في أصل البعثة، وإنما اتفق له ذلك بالحادث الذي وقع، وهو انحصارُ الخلق في الموجودين عنده بعد هلاك سائر الناس، بخلاف عموم رسالة نبينا؛ فإنها من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 796)، (مادة: خصص) (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬3) هو لفظ مسلم المتقدم تخريجه في حديث الباب. (¬4) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (427) عنده. (¬5) تقدم تخريجه بلفظ: "فضلت على الأنبياء بست". (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 114).

وأما قول أهل الموقف لنوحِ كما صحَّ في حديث الشفاعة: "وأنت أولُ رسول إلى أهل الأرض" (¬1)، فليس المراد به عمومَ بعثته، بل إثباتَ أولية إرساله. وعلى تقدير أن يكون مرادًا، فهو مخصوص بتنصيصه -سبحانه وتعالى - في عدة آيات على أن إرسالَ نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أُرسل إلى غيرهم. واستدل بعضهم لعموم بعثته: بكونه دعا على جميع أهل الأرض، فأُهلكوا بالغرق إلا أهلَ السفينة، ولولم يكن مبعوثًا إليهم، لما أُهلكوا؛ لقوله- تعالى-: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقد ثبت أنه أول الرسل. وأجيب: بجواز أن يكون غيرُه أُرسل إليهم في أثناء مدة نوح، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمنْ من قومه وغيرِهم، فَأجيب. واستحسن هذا الجوابَ الحافظُ في "الفتح"، قال: لكن لم يُنقل أنه نبي زمن نوح غيره (¬2). ويحتمل: أن يكون معنى الخصوصية لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: بقاءَ شريعته إلى يوم القيامة. ونوحٌ وغيره بشَّر أن يبعث نبيٌّ في زمانه أو بعده فينسخُ بعض شريعته. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4206)، كتاب: التفسير، باب: قول الله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، ومسلم (193)، كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، عن أنس - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 437).

ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد بلغ بقية الناس، فتمادَوْا على الشرك، فاستحقوا العقاب، وإلى هذا نحا ابنُ عطية في تفسير سورة هود - عليه السلام -، قال: وغير ممكن أن نبوته لم تبلغ القريب والبعيد؛ لطول مدته (¬1). ووجه ابن دقيق العيد: بأن توحيد الله تعالى يجوز أن يكون عامًا في حق الأنبياء، وإن كان التزامُ فروع شريعتِه ليس عامًا؛ فإن منهم من قاتل غيرَ قومه على الشرك وعبادةِ غير الله -عز وجل-، ولو لم يكن التوحيد لازمًا لهم، لم يقاتلوا، ولم يقتلوا، إلا على طريقة المعتزلة القائلين بالحسن والقبح العقلِيَّيْنِ. ويجوز أن تكون الدعوة على التوحيد عامة، لكن على ألسنة أنبياء متعدِّدة، فيثبت التكليفُ به على سائر الخلق، وإن لم تعم الدعوة به بالنسبة إلى نبي واحد، انتهى (¬2). ويحتمل: أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قومُه، فبعثتُه خاصة؛ لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة؛ لعدم وجود غيرهم. لكن لو اتفق وجودُ غيرهم، لم يكن مبعوثًا إليهم، وقائل هذا كأنه غَفَل عن آخر الحديث كما قدمناه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وكانَ كلُّ نبيٍّ يُبعث إلى قو مِه " ... الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 420) عند تفسير قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ ...} الآية [هود: 36]. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 114). (¬3) انظر فيما ذكره الشارح: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 436 - 437).

تتمة: في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بستٍّ"، فذكر الخمسة المذكورة في حديث جابر، إلا عن الشفاعة، وزاد خصلتين، وهما: "وأُعطيتُ جوامعَ الكلم، وخُتِم بي النبيُّونَ". وهذا في "صحيح مسلم"، وأصل الحديث متفقٌ عليه (¬1). وفي حديث حذيفة - رضي الله عنه - عند مسلم: "فُضِّلنْا على الناس بثلاثٍ: جُعلت صفوفُنا كصفوف الملائكة"، وذكر الأرض كما تقدم، وذكر خصلة أخرى (¬2). وبيَّن أبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" من حديث حذيفة: أنها الآياتُ من آخر البقرة، ولفظه: "وأُوتيت هؤلاءِ الخصال من كنزٍ تحت العرش، من آخرِ سورةِ البقرة، لم يُعْطَ أحدٌ منه كانَ قبلي، ولا يُعطى أحدٌ منه كان بعدي" (¬3). يشير إلى ما حَطَّ الله عن أمته من الإصْر، وتحميلِ ما لا طاقةَ لهم به، ورفعِ الخطأ والنسيان (¬4). وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث علي - رضي الله عنه -: "أعطيت أربعًا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ من أنبياء الله: أُعطيتُ مفاتيحَ الأرض، وسُمِّيتُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم. ورواه البخاري (6611)، كتاب: التعبير، باب: المفاتيح في اليد. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (31649)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8022)، وابن خزيمة في "صحيحه" (263)، وابن حبان في "صحيحه" (1697)، وغيرهم. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 439).

أحمدَ، وجُعلت أمتي خيرَ الأمم"، وذكر خصلة التراب (¬1). قلت: خصلة إعطائه مفاتيحَ الأرض في "صحيح مسلم"، ولفظه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "بُعِثْتُ بجَوامعِ الكَلِم، ونُصِرْتُ بالرُّعْب، وبينا أنا نائم أُوتيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرضِ، فوُضِعَتْ في يدي". قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنتم [تنتثلونها] (¬2)، وهو في "صحيح البخاري" أيضًا (¬3). وفي بعض طرقه: "بينا أنا نائم البارحةَ" (¬4). وقال -يعني: البخاري-: بلغني أن جوامع الكلم: أن الله يجمعُ الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكتب قبلَه في الأمر الأول، والأمرين، أو نحو ذلك، وذكره في كتاب: التعبير (¬5). وله في لفظٍ آخر: "مفاتيح الكلام" (¬6). وعند البزار من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -أيضاً من وجه آخر: ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 158)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (31647)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 213)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (2/ 348)، وغيرهم. (¬2) في الأصل: "تتلونها"، والصواب ما أثبت كما في "الصحيحين"، ومعنى "تنتثلونها"؛ أي: تستخرجون ما فيها، وتتمتعون به، كما في "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 4). (¬3) رواه البخاري (2815)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نُصرت بالرعب مسيرة شهر"، ومسلم (523)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة. (¬4) رواه البخاري (6597)، كتاب: التعبير، باب: رؤيا الليل. (¬5) انظر: "صحيح البخاري" (6/ 2573). (¬6) تقدم تخريجه قريبًا برقم (6597) عنده، إلا أن فيه: "مفاتيح الكلم".

"فُضلْتُ على الأنبياء بستٍّ: غُفِرَ لي ما تقدَّمَ من ذنبي وما تأخَّر، وإني لصاحبُ لواءِ الحمدِ يومَ القيامة، تحته آدمُ فمَنْ دونه .... " الحديث (¬1). وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: "فُضِّلْتُ على الأنبياء بخَصْلَتين: كان شيطاني كافرًا، فأعانني اللهُ عليه حتى أسلمَ، وكُنَّ أزواجي عونًا لي". هذا حديث ابن عمر، ولفظه: "فُضِّلْتُ على آدم بخَصْلتين .... " الحديث. وتمامُه: "وكان شيطانُ آدمَ كافرًا، وكانت زوجتُه عونًا على خطيئته" رواه البيهقي في "الدلائل" (¬2). وأما حديث ابن عباس: "فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بخَصْلَتين: كان شيطاني كافرًا .... إلخ". قال: ونسيت الأخرى (¬3). ويمكن من تتبُّع الأحاديث في ذلك أن يُجمع من ذلك ما هو أكثر. وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتابه: "شرف المصطفى": أن عدد الذي اختص به نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن الأنبياء: ستون خصلة. ¬

_ (¬1) رواه البزار في "مسنده" بإسناد جيد، كما ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 269). (¬2) رواه البيهقي في "دلائل النبوة" (2242) وقال: وهذه رواية محمد بن الوليد بن أبان، وهو في عداد من يضع الحديث. ورواه أيضاً: الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 331)، وفي "تالي تلخيص المتشابه" (2/ 114)، ومن طريقه: ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 181)، وغيرهم. (¬3) رواه البزار في "مسنده"، وفيه إبراهيم بن صرمة، وهو ضعيف كما ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 225، 269).

وقد أُفردت خصائصُه بالتأليف، فبلغت أضعافَ ذلك بكثير، فلا نطيل الكتاب بذكرها. وقد ذكرنا منها طرفا صالحًا في "شرح نونيه الصرصري معارج الأنوار"، وفي "تحبير الوفاء" (¬1)، وغيرهما؛ فلعل النبى - صلى الله عليه وسلم - واطلع أولًا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي، على أن العددَ لا مفهوم له عند الأكئر، فحينئذ يندفع الإشكال من أصله. تنبيهات: الأول: إن قيل: قد كان لسيدنا سليمان بن داود - عليهما السلام - ولغيره السراري، ومعلومٌ أن العبيد والإماء أثرُ الغنيمة، فما وجه قولِ الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أُحلت لي الغنائمُ ولم تحلَّ لأحدٍ قبلى"؟. قلت: أجاب عن هذا الإمام الحافظ ابن الجوزي: أن الأنبياء كانوا إذا جاهدوا قدَّموا الغنيمة من الأمتعة والأطعمة والأموال، فنزلت نارٌ فأكلتها كلَّها من خُمْسِ النَّبيِّ وسهامِ أمَّته. يدل له ما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "غزا نبيٌّ، فجمعوا ما غَنِموا، فأقبلت النارُ لتأكله، فأبتْ أن تطعمه، فقال النبي: فيكم غلول، فأخرجوا مثلَ رأس بقرةٍ، فوضعوه في المال، وأقبلت النار فأكلته، فلم تحلَّ الغنائمُ لأحدٍ ممَّنْ قبلنا، ذلك بأن الله تعالى رأى ضعفَنا وعجزَنا، فَطَيَّبَها لنا" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الكلام على هذين الكتابين في مقدمة الكتاب، عند الحديث عن مؤلفات الشارح -رحمه الله-. (¬2) رواه البخاري (2956)، كتاب: الخمس، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لكم الغنائم"، ومسلم (1747)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحليل الغنائم لهذه =

قال ابن الجوزي: وأما العبيد والإماء والحيوانات، فإنها تكون ملكًا للغانمين دون الأنبياء، فلا يجوز للأنبياء أخذُ شيء من ذلك بسبب الغنيمة، بل بالابتياع والهدية ونحو ذلك، ومن هذا تسرَّى سليمان - عليه السلام - وغيره، فطابَ ذلك لنبّينا - صلى الله عليه وسلم -، فكان يأخذ الخمسَ، والصَّفِيَّ، ويتصرف فيه كيف شاء. هذا كلامه (¬1). قلت: على أنه لا ينحصر ملكُ السراري والعبيد في الغنائم؛ إذ من الشرائع من كان يرى بيعَ نحو الأبناء، كما هو معروف، والله أعلم. الثاني: فإن قيل: ما وجهُ اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بعموم البعثة، ومن المعلوم أن موسى- عليه السلام - لما بُعِثَ في بني إسرائيل، لو جاءه غيرُهم من الأمم يسألونه تبليغَ ما جاء به عن الله - عز وجل-، لم يَسُغْ له كتمه، مع ما قدَّمنا من خبر نوح وهلاك العالَمِ بدعوته، وما ذاك إلا لعموم رسالته؟ قلت: أما الجواب عن أمر سيدنا نوحٍ، فقدمنا ما يشفي ويكفي. وأما الجواب عن الأول: فقد أجاب الإمام ابنُ عقيلٍ، فقال: إن شريعة نبينا جاءت ناسخةً لكل شريعةٍ قبلها، وقد كان يجتمع في العصر الواحد النَّبيَّان، والثلاثةُ، والأكثرُ، يدعو كل واحدٍ إلى شريعةٍ تخصُّه، ولا يدعو غيرُه من الأنبياء إليها، ولا ينسخها، بخلاف نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه دعا الكل، ونسخَه، وقال: "لو كان موسى حَيّا، ما وَسِعَهُ إلا اتِّباعي" (¬2)، وما كان ¬

_ = الأمة خاصة، واللفظ له. (¬1) ولم أقف على كلامه هذا في شيء من كتبه المطبوعة، والله أعلم. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 338)، وأبو يعلى في "مسنده" (2135)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (176)، وغيرهم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.

يمكن أن يقول هذا عيسى في حق موسى، انتهى. على أنه فرق بين من جاءه إنسان يسأله كشفَ ما جاء به ليدلَّه ويهديَه إليه، وبين من بُعث إلى كافة الناس، وأُمر بقتالهم حتى يتبعوه ويؤمنوا به، وبما جاء به من عند ربه - جل وعلا -، وهذا بيِّن، والله أعلم.

باب الحيض

باب الحيض أصله: السيلان. قال في "المطلع": حاضت المرأة تَحيضُ حَيْضًا، ومَحِيضًا، فهي حائض، وحائضةٌ أيضاً، ذكره ابن الأثير (¬1)، وغيرُه (¬2). واستُحِيضَت: استمرَّ بها الدمُ بعد أيامها، فهي مُسْتَحاضَةٌ، وتَحَيَّضَت: قعدَتْ أيامَ حَيْضِها عن الصَّلاة (¬3). وقال الزمخشري في كتابه "أساس البلاغة": من المجاز: حاضت السَّمُرة: خرج منها شبهُ الدم (¬4). وفي العرف: الحيض: دمٌ يُرخيه الرحم، فيخرج من قَعْرِه إذا بَلَغَتِ المرأةُ، ثم يعتادها في أوقات معلومة مع الصحة؛ لحكمة تربية الولد، فإذا حملت، انصرف ذلك الدم بإذن الله تعالى إلى تغذية الجنين، ولذلك الحاملُ لا تحيض، فإذا وضعت الولد، قَلَبَه الله تعالى بحكمته لبنًا يتغذَّى ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 468). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1073)، (مادة: حيض). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 149).

به؛ ولذلك قلَّما تَحيض المُرْضِع، فإذا خَلَتْ من حمل ورضاع، بقي ذلك الدمُ لا مَصْرِفَ له، فيستقر في مكان، ثم يخرج في الغالب في كل شهر ستة أيام أو سبعة، وقد يزيد على ذلك، ويقل، ويطول شهر المرأة، ويقصر، على حسب ما يركِّبه الله تعالى في الطِّباع (¬1). وأما الاستحاضة: فسيلانُ الدم في غير وقته من عِرْقٍ يقال له: العاذل -بالذال المعجمة، وقد يقال بالمهملة-، حكاه ابن سيده (¬2). وقال الجوهري: العاذرُ لغةٌ؛ يعني:- بالذال المعجمة، والراء (¬3). وفم ذلك العرق في أدنى الرحم دون قعره (¬4). وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن الاستحاضة، فقال: ذاك العاذل يغذو (¬5)؛ يعني: يسيل (¬6). فائدة: حكى في "شرح الوجيز" عن الماوردي: أن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: لما أكل آدم - عليه السلام - من الشجرة التي نهاه الله -عز وجل- عن الأكل منها، قال الله -عز وجل-: يا آدم! ما حملكَ على ¬

_ (¬1) وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 188). (¬2) انظر: "المخصص" لابن سيده (2/ 158). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 740)، (مادة: عذر). (¬4) قاله الأزهري في "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص: 68)، وقال: ذكر ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬5) ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" (4/ 234)، وابن معين في "تاريخه" (4/ 272 - روايه الدوري). (¬6) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 39 - 40).

ما صنعتَ قال: زيَّنته لي حوَّاءُ، قال: فإني أعاقِبُها لا تحمل إلا كُرْهًا، ولا تضع إلا كُرْهًا، ودَمَيْتُها في الشهر مرتين، قال: فرنَّت حواءُ عند ذلك، فقال: "عليك الرنّة وعلي بناتكِ" (¬1). وفي "صحيح البخاري": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هذا شيءٌ كتبه الله على بناتِ آدَم" (¬2). وقال بعضهم: كان أول ما أرسل الحيض علي بني إسرائيل. قال البخاري: وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر (¬3). وأخرج عبد الرزاق من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - بإسنادٍ صحيح؛ قال: كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا، وكانت المرأة تتشرَّفُ للرجل، فألقى الله عليهن الحيض، ومنعهنَّ المساجد (¬4). وعنده عن عائشة نحوه (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن منيع في "مسنده" (2/ 515 - "المطالب العالية، لابن حجر"، وقال الحافظ: هذا موقوف صحيح الإسناد، وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 201)، والحاكم في "المستدرك" (3437)، وأبو الشيخ في "العظمة" (5/ 1583)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5790). (¬2) رواه البخاري (290)، كتاب: الحيض، باب: كيف كان بدء الحيض؟ ومسلم (1211)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، عن عائشة - رضي الله عنها-. (¬3) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 113). ويعني البخاري ببعضهم: ابن مسعود - رضي الله عنه -، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق" (2/ 167). وانظر الأثر الآتي عنه - رضي الله عنه -. (¬4) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (5115)، ومن طريقه: الطبراني في "المعجم الكبير" (9484). (¬5) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (5114).

قال الداودي: ونساء بني إسرائيل من بنات آدم، فلا مخالفة، ولعل الذي أرسل علي بنات إسرائيل طولُ مكثه بهن عقوبةً لهن. وإلا ففي قصة إبراهيم {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71] أي: حاضت. والقصة سابقة لبني إسرائيل، وقصة حواء المذكورة، فإما أن يحمل على طوله، أو على أنهن أول من استحضن، والله أعلم (¬1). ثم إن الحافظ - رضي الله عنه - ذكر في هذا الباب خمسة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 400).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أَنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فَقَالَتْ: إنِّي اسْتَحَاضُ، فلا أَطْهُرُ، أَفَأَدع الصَّلاَةَ؟ فقالَ: "لا، إِنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ؛ وَلَكِنْ دَعِي الصَّلاَةَ قَدْرَ الأَيامِ الَّتي كنْتِ تَحِيضِينَ فيها، ثُمَّ اغْتَسِلِي، وصَلِّي" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ (¬2): "وَلَيْسَ بالحَيْضَةِ، فَإذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ؛ فَاتْرُكِي الصَّلاَةَ، فَإذَا ذَهَبَ قَدْرُها؛ فَاغسِلِي عَنْكِ الدَّمَ، وصَلِّي" (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (319)، كتاب: الحيض، باب: إذا حاضت في شهر ثلاث حيض، واللفظ له. (¬2) قال الصنعاني في "حاشيته على الإحكام" (1/ 465): لا أدري لم زاد: في رواية؛ فإن هذا اللفظ في "الصحيحين" معًا في باب: الاستحاضة في سياق واحد من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وكأنه يشير إلى أنه لفق عن روايات منها، نعم للبخاري في باب: غسل الدم بلفظ: "وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم". (¬3) رواه البخاري (300)، كتاب: الحيض، باب: الاستحاضة، واللفظ له، ورواه أيضاً: (226)، كتاب: الوضوء، باب: غسل الدم، و (314)، كتاب: الحيض، باب: إقبال المحيض وإدباره، و (324)، باب: إذا رأت المستحاضة الطهر. ورواه مسلم (333)، كتاب: الحيض، باب: المستحاضة وغسلها وصلاتها، وأبو داود (282، 283)، كتاب: الطهارة، باب: من روى أن الحيضة إذا =

(عن عائشة) الصدّيقةِ - (رضي الله عنها -: أن فاطمةَ بنتَ أبي حُبَيش) - بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية فشين معجمة - اسمُه: قيسُ بنُ المطلب بنِ أسدِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ قصيِّ بنِ كلابٍ، القرشيةُ الأسديةُ، وهي زوجة عبدِ الله بنِ جحش - رضي الله عنها -. ووقع في أكثر النسخ من "صحيح مسلم": قيس بن عبدالمطلب. والصواب: المطلب بإسقاط عبد (¬1). ¬

_ = أدبرت لا تدع الصلاة، والنسائي (201)، كتاب: الطهارة، باب: ذكر الاغتسال من المحيض، و (212)، باب: ذكر الأقراء، و (217، 218، 219)، باب: الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، و (349)، كتاب: الحيض والاستحاضة، باب: ذكر الاستحاضة وإقبال الدم وإدباره، و (359)، باب: ذكر الأقراء، و (364، 365، 366، 367)، باب: الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، والترمذي (125)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المستحاضة، وابن ماجه (621)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المستحاضة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 86)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 337)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي المالكي (1/ 197)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 174)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 590)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 16)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 121)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 258)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 497)، و"النكت على شرح العمدة" للزركشي (ص: 55)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 409)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 141)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 63)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 282). (¬1) قال مسلم في "صحيحه" (1/ 262) عقب حديث (333): وفي حديث قتيبة عن جرير: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش بن عبد المطلب بن أسد، وهي امرأة منا. ا. هـ. وانظر ترجمة فاطمة - رضي الله عنها - في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 245)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1892)، و"أسد الغابة" لابن الأثير =

(سألَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت) في سؤالها له: (إني أُستحاض): قد قدمنا أن الاستحاضه جريان الدم من المرأة في غير أوانه، وأنه يخرج من العاذل. (فلا أطْهُر): هذا بحسب ما عندها أنها لا تطهُر إلا بانقطاع الدم، فَكَنَّتْ بعدم الطهر عن اتصاله، وكانت قد علمت أن الحائض لا تصلي، فظنَّت أنَّ ذلك الحكم مقترنٌ بجريان الدم من الفرج، فأرادت تحقيق ذلك، فقالت: (أفأدع الصلاة؟)؛ لأجل ما يتواصل من جريان الدم؟ (فقال) لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا) تدعي الصلاة في كل ذلك الزمن. (إن ذلك)؛ أي: تواصلَ جريان الدم الذي يخرج منك (عرقٌ) ظاهرهُ: انبثاقُ الدم من عرق. وقد جاء في الحديث: "عرقٌ انفجرَ" (¬1). وتقدم تسميةُ العرق وموضعُه من الرحم. (ولكن دعي)؛ أي: اتركي (الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها). فيه دليلٌ على أن الحائض تترك الصلاة من غير قضاء، وهو كالإجماع من السلف والخلف في تركها، وعدمِ وجوب القضاء، ولم يخالف في عدم وجوب القضاء إلا الخوارج. نعم، استحبَّ بعضُ السلف للحائض إذا دخل وقت الصلاة أن تتوضأ، ¬

_ = (7/ 214)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 254)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (8/ 61)، و"تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (12/ 469). (¬1) رواه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 258)، عن أسماء بنت عُميس - رضي الله عنها -، وضعّفه.

وتستقبل القبلة، وتذكر الله. ذكره ابن دقيق العيد، قال: وأنكره بعضهم، انتهى (¬1). قلت: والذي في "الفروع" للإمام ابن مفلح: أن الحيض يمنع الطهارةَ له؛ وفاقًا، والوضوءَ والصلاةَ إجماعًا، ولا تقضيها إجماعًا، قيل للإمام أحمد: فإن أحبت أن تقضيها؟ قال: لا، هذا خلاف، فظاهرُ النهي التحريمُ. قال ابن مفلح: وَيتوجَّه احتمال: يُكره، لكنه بدعة (¬2). كما يأتي في شرح الحديث الخامس. (ثم) بعد مُضِيِّ الأيام التي كنت تحيضين فيها، (اغتسلي) من الحيض، و (صلي) بعد ذلك الغسلِ، لكن لا بدَّ من الوضوء لكل صلاة بعد فى خول وقتها. وقال الإمام أحمد: إن اغتسلت لكل صلاة، فهو أحوط، وكذا قال إسحاق (¬3). (وفي رواية): "إنما ذلك عرق"، (وليس بالحَيْضة) -بفتح الحاء- كما نقله الخطابي عن أكثر المحدثين، أو كلِّهم (¬4)، وإن كان قد اختار -الكسرَ- على إرادة الحالة، لكن -الفتح- هنا أظهر. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 123). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 225). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 410). (¬4) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (3/ 220)، و"إصلاح غلط المحدثين" له أيضاً (ص: 47).

وقال النووي: هو متعيِّنٌ، أو قريبٌ من المتعيق؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أراد إثباتَ الاستحاضة، ونفيَ الحيض. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا أقبلت الحيضة)، فيجوز فيه الوجهان معًا جوازًا حسنًا (¬1)، كما في "الفتح"، ثم قال: والذي في روايتنا: -بفتح الحاء- في الموضعين (¬2). (فاتركي الصلاة) قدرَ أيام حيضتك، (فإذا ذهب قدرُها)، أي: الأيام التي كنت تحيضين فيها. وصحَّفه بعضُ الطلبة، فقال: فإذا ذهب قَذَرُها -بالذال المعجمة المفتوحة-، قاله ابن دقيق العيد (¬3). (فاغسلي عنك الدم وصلي)، أي: بعد الاغتسال -كما مر-. وفي بعض طرق البخاري: قال -يعني: عروة بن الزبير-: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت (¬4). وزعم ابن حزم أن الزيادة هذه موقوفة على عروة، وليس كذلك؛ كما رده الحافظ ابن حجر. تنبيه: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قدر الأيام التي كنت تحيضين .... " الحديث. فيه: الردُّ إلى أيام العادة. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 21). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 409). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 124). (¬4) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (226) عنده.

وحاصل هذا الباب: أن المستحاضة إما مبتدأة، أو معتادة، وعلى كلٍّ إما مميزة أو غير مميزة. والمميزة: إما أن يكون تمييزُها صالحًا أن يكون حيضًا، أو لا. والحديث دل لفظه على أن هذه المرأة كانت معتادة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعي الصلاةَ قدرَ الأيام التي كنتِ تحيضين فيها". وحكم المستحاضة -التي لها عادة معلومة لها؛ بأن تعرفَ شهرها، وهو ما اجتمع لها فيه حيضٌ وطهر صحيحان، وتعلمَ وقتَ حيضها وطهرها، وعددَ أيامها-: أن تجلس عادتها، ولو كان لها تمييزٌ صالح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بترك الصلاة قدر أيام حيضها، ولم يستفصل (¬1). وتركُ الاستفصال في قضايا الأحوال ينزل منزلة عموم المقال، وهذا مذهبنا كالحنفية، وأحد قولي الشافعي، لكن معتمد مذهبه: تقديمُ التمييز على العادة، وعند مالك: لا عبرة بالعادة (¬2). وعلى معتمد مذهبنا: فإن عدمت العادة؛ بأن جهلَتْها، عملت بتمييز صالح للحيض، ونعني به: أنه لا ينقص عن أقل الحيض يومًا وليلة، وأَلاَّ يتجاوز أكثرُه خمسة عشر يومًا، فإن نسيت العدد فقط، وعلمت غيره: جلست من أول موضع حيضها غالبَ الحيض إن اتسع شهرها، وإلا، فالفاضل عن أقل طهر. وتجلس ناسيةً الوقتَ فقط، العددَ به، وناسية العدد والوقت: تجلس غالب حيض من أول كل مدة عُلم فيها، وَضَاع موضعه، فإن جهلت: فمن ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 332) و (1/ 409). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 123).

أول كل شهر هلالي، ومتى ذكرت عادتها، رجعت إليها، وقضت الواجب زمنها، فهذا حكم المعتادة بقسميها. وأما المبتدأة: فإن كان لها تمييز صالح، جلسته بعد تكرره ثلاثًا، وقبله، أقلَّ حيض. وإن لم يكن لها تمييز، أو كان ولم يصلح أن يكون حيضًا: جلست أقلَّه حتى يتكرر ثلاثًا، ثم غالبَهُ من أول وقت ابتدائها إن علمته، وإلا، فأقل كل شهرٍ هلالي. والمذهب: أن أقلَّ الحيض يومٌ وليلة، وفاقًا للشافعي. وقال أبو حنيفة: أقلُّه ثلاثةُ أيام. وعند مالك: لا حدَّ لأقله. وأكثره: خمسة عشر يومًا؛ وفاقًا لمالك والشافعي. وعند أبي حنيفة: أكثره عشرة أيام بلياليها، وغالبه: ست أو سبع. وأقل الطهر: ثلاثة عشر يومًا، وقال الثلاثة: خمسة عشر، ولا حد لأكثره، وغالبه بقية الشهر، والله أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 511)، و"الفروع" لابن مفلح (1/ 237)، و"المبدع"، لابن مفلح (1/ 279)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 207).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاَةٍ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (321)، كتاب: الحيض، باب: عرق الاستحاضة، واللفظ له، ومسلم (334)، (1/ 263 - 264)، كتاب: الحيض، باب: المستحاضة وغسلها وصلاتها، وأبو داود (285)، كتاب: الطهارة، باب: من قال: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، و (288، 289، 290، 291، 292)، باب: من روى أن المستحاضة تغتسل لكل صلاة، والنسائي (203، 204، 205، 206، 207)، كتاب: الطهارة، باب: ذكر الاغتسال من الحيض، و (209، 210)، باب: ذكر الأقراء، و (356، 357)، كتاب: الحيض، باب: ذكر الأقراء، والترمذي (129)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المستحاضة أنها تغتسل عند كل صلاة، وابن ماجه (626)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المستحاضة إذا اختلط عليها الدم، فلم تقف على أيام حيضها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 86)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 343)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 178)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 592)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 22)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 125)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 226)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 524)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 426)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 310).

(عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصدِّيقةِ (- رضي الله عنها -: أن أمَّ حبيبة) بنتَ جحشِ بنِ رِئاب -بكسر الراء وبالهمزة ممدودًا- الأسديِّ، من نسل أسدِ بنِ جذيمةَ بنِ مدركةَ. وقد اختُلف في اسمها، فقيل: حبيبة، وأن كنيتها أم حبيب -من غير هاء-، والمشهور -بالهاء-، وقيل: اسمها زينب. وهي أختُ زينبَ وحَمْنَةَ ابنتي جحش. وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وكانت حمنةُ أيضاً تُستحاض، وقيل في زينب أيضاً، وليس بشيء. وفي "الموطأ" وَهْمٌ: أن زينب بنت جحش استُحيضت، وأنها كانت تحت عبد الرحمن بن عوف (¬1)، وهذا غلط؛ إنما كانت زينبُ تحت زيد بن حارثة قبل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم تكن عند ابن عوف قَطُّ، وقلَّ من يسلمُ من الغلط (¬2). وإذا كان اسم أم حبيبة زينب، فلا غلط في التسمية؛ لأنها كانت تحت ابن عوف (¬3). وأُمُّ أمِّ حبيبة: أُمَيمَةُ بنتُ عبد المطلب، عمةُ رسول - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 62). (¬2) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 343). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 427). (¬4) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 242)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1928)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 302)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 157)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 586)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (12/ 440).

وممَّن عُدَّ من المُستحاضات في زمنه - صلى الله عليه وسلم - غير بنات جحش: فاطمةُ بنتُ أبي حُبيش المتقدم ذكرُها، وسَهْلَةُ بنتُ لسُهيل بن عمرو القرشية، كما في "سنن أبي داود" (¬1) وغيره، وسودةُ بنتُ زمعةَ زوجُ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقد جمعهنَّ البرماوي في قوله: [من الطويل] سِتُّ نِسْوَةٍ جَاءَ اسْتِحَاضَتُهُنَّ في ... زَمَانِ النَّبيِّ الْهَاشِمِيِّ الْمُشَرَّفِ كَاُمِّ حَبِيبٍ ثُمَّ حَمْنَةَ زَيْنَبٍ ... بَنَاتٍ لِجَحْشٍ في الأَخِيرِ تَوَقَّفِ وَبِنْتِ سُهَيْلٍ سَهْلَةٍ ثُمَّ بِنْتِ أَبِي ... حُبَيْشٍ كَذَا مِنْهُنَّ سَوْدَةُ فَاعْرِفِ (استُحِيْضَت) -بالبناء للمفعول-، ولم يبن هذا الفعل للفاعل، كما في قولهم: نُفِسَتِ المرأة، ونُتِجَتِ الناقة، وأصلُ الكلمة من الحيض، والزوائدُ اللاحقة لها للمبالغة؛ كما يقال: قَرَّ في المكان، ثم يقال للمبالغة: استقرَّ. وأعشبَ المكان، ثم يقال فيه للمبالغة: اعشوشب (¬3). (سبع سنين). قيل: فيه حجة لمن أسقط قضاء الصلاة عن المستحاضة إذا تركتها ظانَّة أن ذلك حيض؛ لعدم أمره لها بالإعادة مع طول المدة. ولعل قولها: سبع سنين، بيان لمدة استحاضتها، مع قطع النظر عن كون المدة كانت كلها قبل السؤال أو لا، وحينئذ فلا حجة فيه لما ذكر (¬4). (فسألت)، وفي لفظ: فاستفتت. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (295)، كتاب: الطهارة، باب: من قال: تجمع بين الصلاتين، وتغتسل لهما غسلًا. (¬2) انظر: "مختصر سنن أبي داود" للمنذري (1/ 190). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 122). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 427).

(رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك). وفي لفظٍ: في ذلك. فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه ليستْ بالحَيْضة، ولكن هذا عِرْقٌ، فاغتسلي وصَلِّي". قالت عائشة - رضي الله عنها -: فكانت تغتسل في مِرْكَنٍ في حجرة أختها زينبَ بنتِ جحش، حتى تعلو حمرةُ الدم الماءَ (¬1). قالت عائشة: رأيت مِرْكَنَهَا ملانَ دمًا (¬2). (فأمرها) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن تغتسل). وفي لفظٍ: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "امْكُثي قَدْرَ ما كانتْ تحبسكِ حَيْضتُك، ثم اغتسلي وصَلِّي" (¬3). (فكانت) أمُّ حبيبةَ بنتُ جحش - رضي الله عنها - (تغتسل لكل صلاة). وليس في كلامه - صلى الله عليه وسلم - أمرُها بالغسل لكل صلاة، ولا فيه ما وكأنها فهمت ذلك بقرينة. قال الشافعي: إنما أمرَها - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل وتصلِّي، وإنما كانت تغتسل لكلِّ صلاة تطوعًا (¬4). وكذا قال الليث بن سعد في روايته عند مسلم: لم يذكر ابنُ شهاب أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تغتسل لكل صلاة، ولكنه شيءٌ فعلته هي (¬5). وإلى هذا ذهب الجمهور من عدم وجوب الغسل عليها لكل صلاة. نعم: الواجبُ عليها لكل صلاة الوضوءُ. وله ما وقع عند أبي داود من رواية سليمان بن كثير، وابن إسحاق، عن ¬

_ (¬1) هذا لفظ مسلم المتقدم تخريجه برقم (334)، (1/ 263) عنده. (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (334)، (1/ 264) عنده. (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (334)، (1/ 264) عنده. (¬4) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 62). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (332)، (1/ 263).

الزهري في هذا الحديث: فأمرها بالغسل لكل صلاة (¬1)، فقد طعن الحفاظ في هذه الزيادة؛ لأن الأئمة الأثباتَ من أصحاب الزهري لم يذكروها (¬2). قال ابن دقيق العيد: ووقع في نسخ من هذا الكتاب -يعني: "العمدة"-: فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل لكل صلاة. قال: وليس في "الصحيحين"، ولا أحدِهما (¬3). قلت: ولعلَّه وقع ذلك له، وإلا، فما رأيتُ ذلك ولا في نسخة مما وقفت عليه، وقد علمت وقوع هذه الزيادة في رواية لأبي داود، فعلى فرض صحة ذلك يُحمل الأمر على الندب، جمعًا بين الروايتين. وأجاب بعضهم عن ذلك: بأنه أمرها أن تغتسل من الدم الذي أصابها؛ لأنه من إزالة النجاسة، وهي شرط لصحة الصلاة. وقال الطحاوي: حديثُ أم حبيبة منسوخٌ بحديث فاطمةَ بنتِ أبي حبيش؛ لأن فيه الأمرَ بالوضوء لكل صلاة دون الغسل (¬4). والجمع بين الحديثين بحمل الأمرِ بالغسلِ على الندب أولى (¬5)، ولهذا استحبَّه سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه -، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (292). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 427). وانظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 350). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 125). (¬4) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 105). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 428).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنا وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ؛ كِلاَنا جُنُبٌ، وَكَان يَأْمُرُني، فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُني؛ وَأَنا حَائِضٌ، وكانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ إِلَيَّ؛ وهُوَ مُعْتكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ؛ وأنا حائِضٌ (¬1). ¬

_ (¬1) * - تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (295)، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض، واللفظ له، ومسلم (293)، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض فوق الإزار، و (297)، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، وأبو داود (77)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بفضل وضوء المرأة، و (268)، باب: في الرجل يصيب منها ما دون الجماع، و (2469)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف يدخل البيت لحاجته، والنسائي (412)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: اغتسال الرجل والمرأة من نسائه من إناء واحد، و (286)، كتاب: الطهارة، باب: مباشرة الحائض، و (374)، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض، و (275)، كتاب: الطهارة، باب: غسل الحائض رأس زوجها، و (387)، كتاب: الحيض، باب: غسل الحائض رأس زوجها، والترمذي (132)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في مباشرة الحائض، و (728)، كتأب: الصوم، باب: ما جاء في مباشرة الصائم، وابن ماجه (636)، كتاب: الطهارة، باب: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا، و (633)، باب: الحائض تتناول الشيء من المسجد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 84، 2/ 139)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 329)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي =

(عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصدِّيقةِ (- رضي الله عنها -، قالت: كنت أغتسلُ أنا والنبىُّ - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، كلانا جنب). وتقدم هذا وشرحه. (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (يأمرني فأَتَّزر)، كذا في الرواية -بتشديد المثناة بعد الهمزة-، وأصله: فَأَأْتَزِرُ- بهمزة ساكنة بعد الهمزة المفتوحة ثم المثناة-، بوزن: أَفْتَعِل، وأنكرَ أكثرُ النحاة الإدغامَ، حتى قال صاحب "المفضَّل": إنه خطأ (¬1). لكن نقل غيرُه أنه مذهبُ الكوفيين، وحكاه الصنعاني في "مجمع البحرين" (¬2). وقال ابن مالك: إنه مقصور على السماع (¬3)، ومنه قراءة ابن مُحَيصِن: ¬

_ = (1/ 214، 3/ 259)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 121، 129)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 555)، و"شرح مسلم" للنووي (1/ 134)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 126)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 269)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 410)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 57)، و" طرح التثريب" للعراقي (2/ 87)، و" فتح الباري" لابن حجر (1/ 403)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 258)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 355). (¬1) انظر: "المُفصَّل في صنعة الإعراب" للزمخشري (ص: 524) في باب: الواو والياء في مضارع افتعل. (¬2) كتاب: "مجمع البحرين" في اللغة، للإمام حسن بن محمد الصغاني الهندي، المتوفى سنة (650 هـ)، في اثني عشر مجلدًا، ذكر فيه: أنه جمع بين كتاب: "تاج اللغة"، و"صحاح العربية" للجوهري، وبين: كتاب "التكملة"، و"الذيل"، و"الصلة". انظر: "كشف الظنون" (2/ 1599). (¬3) انظر: "شرح ابن عقيل" (4/ 243) في شرح قوله: =

{فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} [البقرة: 283]-بالتشديد- (¬1). والمراد بذلك: أنها تشدّ إزارها (¬2)، ولم يحدَّ إمامنا - رضي الله عنه - ذلك بين السرة والركبة، بل له المباشرة حتى ما بينهما، وإطلاق الحديث يقتضي ذلك. (فيباشرني وأنا حائض)؛ أي: تلتقي بشرته ببشرتي من غير جماع، وهو دليلٌ على أن ذاتَ الحائض طاهرة، وعلى أن حيضها لا يمنعُ ملامستها، وأن عرقها طاهر، وأن المباشرة الممنوعة: الجماع (¬3). قال في "الفروع": وله أن يستمتع من الحائض بغير الوطء في الفرج (¬4). قال في "شرح الوجيز": هذا المذهب مطلقًا، وعليه جمهور علمائنا، وقطع به كثيرٌ منهم. وهو من المفردات، وهو قول عكرمة، وعطاء، والشعبي، والثوري، وإسحاق، والنخعي، والحكم، ومحمد بن الحسن، وأصبغ المالكي، وأبي ثور، وابن المنذر، وداود، وأبي إسحاق المروزي من الشافعية؛ لهذا الحديث، ولما روى أبو داود، والبيهقي، عن عبد الله بن سعد الأنصاري: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يحلّ لي من امرأتي وهي حائضٌ؟ قال: "لكَ ما فوقَ الإزار" (¬5). ¬

_ = ذو اللين فاتا في افتعال أُبدلا ... وشذَّ في الهمز نحو ائتكلا (¬1) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 356). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 404). (¬3) المرجع السابق، (1/ 401). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 226). (¬5) رواه أبو داود (212)، كتاب: الطهارة، باب: في المذي، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 312).

والآيةُ الشريفة تدلَّ على أن المنع مختصٌّ بالوطء في الفرج، قال- تعالى-: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]. والمَحِيضُ: اسمٌ لمكان الحيض؛ كالمَقيل والمَبيت، فتخصيصُه موضعَ الدم بالمنع يدلُّ على إباحته فيما عداه (¬1). فإن قيل: المَحيض يراد به: الحيض؛ بدليل قوله -تعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]، والأذى: الحيض. وقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] وإنما يئسن من الحيض. فالجواب: يمكن حملُ ذلك على ما ذكرنا، وهو أولى؛ لوجهين: أحدهما: أنه لو أراد الحيضَ، لأمر باعتزال النساء في مدة الحيض بالكلية، والإجماعُ بخلافه. والثاني: أن سبب نزول الآية: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة، اعتزلوها، فلم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجتمعوا معها في البيت، فسأل أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فنزلت هذه الآية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا كُلَّ شيءٍ إلا النِّكاحَ" رواه الإمام أحمد، ومسلم (¬2). وهذا تفسير لمراد الله -تعالى-؛ لأنه لا تتحقق مخالفةُ اليهود بإرادة الحيض؛ لأنه يكون موافقًا لهم. وعن عكرمة، عن بعض أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إذا أرادَ من الحائض ¬

_ (¬1) وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 203)، و"المبدع" لابن مفلح (1/ 264)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 200). (¬2) رواه مسلم (302)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 246)، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

شيئًا، ألقى على فرجها خرقة. رواه أبو داود، وإسناده صحيح (¬1). ولأنه وطءٌ منع منه للأذى، فاختص بمحله؛ كالدبر. وليس في حديث عائشة - رضي الله عنها - دليلٌ على المنع مما تحت الإزار، وإنما فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يباشرها فيما دونه؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد يترك بعض المباح تقدُّرًا؛ كتركه أكلَ الضَّبِّ (¬2). وأما حديث عبد الله بن سعد، وحديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا عند الإمام أحمد في الرجل يباشر امرأته وهي حائض، قال: "له ما فوق الإزار"، فالدلالة بذلك بالمفهوم، والمنطوقُ مرجَّحٌ عليه. وحديث عبد الله بن سعد: فيه حكيم بن حرام الأنصاري، ضعفه ابن حزم، ووثقه دُحَيم، والعجلي (¬3). وعلى معتمد المذهب: يُستحب سترُ الفرج عند المباشرة، ولا يجب ذلك. وقال ابن حامد: يجب. وقطع الأزجيُّ في "نهايته" بأنه إذا لم يأمن على نفسه مواقعةَ المحذور، أو خاف ذلك بالمباشرة لما بين السرة والركبة، حرم عليه ذلك. وقيل: يمنع ذلك مطلقًا، وهو مذهب الثلاثة، والله أعلم (¬4). قالت عائشة - رضي الله عنها -: (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (يُخرج رأسه) الشريفَ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (272)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يصيب منها ما دون الجماع، إلا أنَّ فيه: "ثوبًا" بدل "خرقة". (¬2) وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 203). (¬3) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 231). (¬4) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 350 - 351).

(إليَّ، وهو)؛ أي: والحال أنَّه (معتكف، فأغسلُه وأنا حائض) الواو: للحال. وفي رواية لهما عنها - رضي الله عنها -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف، يُدْني إليَّ رأسه، فأرجِّله (¬1). وفي لفظ لهما من حديثها: وإنْ كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليُدخلُ عليَّ رأسه وهو في المسجد، فأُرَجِّله (¬2). وفي بعض ألفاظه، عن عروة: أخبرتني عائشة - رضي الله عنها -: أنها كانت ترجِّل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائضٌ، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ مجاوِرٌ في المسجد، يُدني لها رأسَه وهي في حُجرتها فترجِّلُه وهي حائض (¬3). ففي هذه الأحاديث: جواز استخدام الرجل لامرأته فيما يخفُّ من الشغل، واقتضته العادةُ. وأن المعتكف إذا أخرجَ رأسه من المسجد، لم يفسدِ اعتكافُه، ويقاس عليه غيرُه من الأعضاء إذا لم يخرج جميع بدنه من المسجد (¬4). قال في "شرح البخاري": كانت حجرة عائشة - رضي الله عنها - ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1924)، كتاب: الاعتكاف، باب: الحائض تُرَجِّل المعتكف، وعنده: "يُصغي" بدل "يدني"، ومسلم (297)، (1/ 244)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد. (¬2) رواه البخاري (1925)، كتاب: الاعتكاف، باب: لا يدخل البيت إلا لحاجة، ومسلم (297)، (1/ 244)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد. (¬3) رواه البخاري (292)، كتاب: الحيض، باب: غسل رأس زوجها وترجيله. (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 127).

ملاصقةً للمسجد النبوي؛ أي: في ذلك الزمن (¬1). وأما الآن، فالحجرة الشريفة التي فيها القبرُ الشريف، وقبر الوزيرين المعظمين والخليفتين الراشدين في داخل المسجد. ودل الحديث: على أن المباشرة الممنوعة للمعتكف في قوله - تعالى-: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] هي الجماعُ، ومقدِّماته، وأن الحائضَ لا تدخل المسجد. تتمة: من وطىءَ في الحيض، ولو بحائل، لزمه دينارٌ، أو نصفُه على التخيير كفارة، نقله الجماعة عن الإمام أحمد. قال إسحاق بن راهويه: مضت السنَّةُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه مع إجماع المسلمين على ذلك: أن الله تعالى قد افترضَ اجتنابَ وطئهن في حيضهن حتى يطهرن من الحيض. وأما وجوبُ الكفارة، فمن المفردات، دليله: ما رواه الإمام أحمد بسنده، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: "يتصدَّقُ بدينار، أو بنصفِ دينارٍ" (¬2). وفي رواية: "يتصدَّق بدينار، فإن لم يجد دينارًا، فنصف دينار" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 401). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 229)، وأبو داود (264)، كتاب: الطهارة، باب: في إتيان الحائض، والنسائي (289)، كتاب: الطهارة، باب: ما يجب على من أتى حليلته في حال حيضتها، وابن ماجه (640)، كتاب: الطهارة، باب: في كفارة من أتى حائضًا، والحاكم في "المستدرك" (612). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 306).

وروى اللفظ الأول أيضاً: أبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والحاكم، وصححه (¬1)، وقال أبو داود: هكذا الرواية الصحيحة: دينارٌ أو نصف دينار، وربما لم يرفعه شعبة (¬2). وقد صحح هذا الحديث ابنُ القطان -أيضاً- (¬3). وقال أبو داود: سمعت أحمدَ يقول -وقد سئل عن الرجل يأتي امرأته وهي حائض-: ما أحسنَ حديثَ عبد الحميد! قيل له: فتذهب إليه؟ قال: نعم، يعني: اللفظ الأول (¬4). وقال أكثر العلماء: لا يلؤمه شيء إلا التوبة فقط مطلقًا، وهو قول الأئمة الثلاثة، واختاره منا: أبو بكر في "التنبيه"، وابن عبدوس في "تذكرته"، وجزم به في "الوجيز"، وإليه ميل الموفق، والشارح، وقدمه ابن تميم (¬5). قال في "المغني": وهو قولُ أكثر أهل العلم؛ لأنه وطءٌ حرم للأذى (¬6). أو وطء لا لأجل العبادة، فلم يوجب كفارة؛ كالوطء في الموضع المكروه، وكالزنا. وفي الحديث اضطراب، وإن ثبت، حُمل على الاستحباب. ¬

_ (¬1) كما تقدم تخريجه قريبا عندهم. (¬2) انظر: "سنن أبي داود" (1/ 69). (¬3) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 233). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (3/ 175)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 233). (¬5) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 351). (¬6) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 203).

وقد روى أبو بكر الشافعي في "فوائده" بإسناده، عن أبي قلابة: أن رجلًا أتى أبا بكر - رضي الله عنه -، فقال: رأيت في المنام كأني أبولُ الدمَ، فقال: "إنك تأتي امرأتَكُ وهي حائض"، فقال: نعم، فقال: "استغفرِ اللهَ ولا تَعُدْ"، قال أيوب: لا أراه ذكر كفارةً (¬1). والمذهب المعتمد: عليه الكفارة، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو بكر الشافعي في "فوائده" المشهورة بـ "الغيلانيات" (99).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَّكِىءُ في حِجْرِي، فَيَقْرَأُ القُرْآنَ؛ وأَنا حَائِضٌ (¬1). (عن أم) المؤمنين (عائشة) الصدِّيقةِ (- رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكىء)؛ أي: يضطجع، والتاء فيه مبدلة من واو. قال الخطابي: كل معتمدٍ على شيءٍ متمكنٍ منه، فهو متكئٌ عليه، كما ¬

_ (¬1) تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (293)، كتاب: الحيض، باب: قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض، و (7110)، كتاب: التوحيد، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة"، ومسلم (301)، كتاب: الحيض، باب: الاضطجاع مع الحائض في لحاف واحد، واللفظ له، إلا أن عنده: " ... وأنا حائض، فيقرأ القرآن"، وأبو داود (260)، كتاب: الطهارة، باب: في مؤاكلة الحائض ومجامعتها، والنسائي (274)، كتاب: الطهارة، باب: في الذي يقرأ القرآن ورأسه في حجر امرأته وهي حائض، وابن ماجة (634)، كتاب: الطهارة، باب: الحائض تتناول الشيء من المسجد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 132)، و"المفهم" للقرطبىِ (1/ 559)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 211)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 127)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 273)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 403)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 402)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 261).

في "المطلع" (¬1). وفي باب الهمزة من "القاموس": توكَّأ عليه: تَحَمَّلَ واعتمدَ، كأَوْكَأَ، والتكَّاَةُ؛ كَهُمَزَة: العصا، وما يُتكَّاُ عليه، والرجلُ الكثيرُ الاتِّكاءِ (¬2). قال الحافظ ابن حجر: المراد بالاتكاء: وضعُ رأسه في حِجْرها (¬3)؛ أي: بدليل قولها (في حَجري) -بفتح الحاء وكسرها-، وهو الثوب والحضن، وتقدم في بول الغلام في حِجْره - صلى الله عليه وسلم -. (فيقرأ) - صلى الله عليه وسلم - (القرآن). وللبخاري في "التوحيد": عنها - رضي الله عنها -: كان يقرأ القرآن ورأسه في حجري (وأنا حائض) (¬4). قال ابن دقيق العيد: فيه إشارةٌ إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن؛ لأن قراءتها لو كانت جائزةً، لما توهم امتناعُ القراءة في حجرها، حتى احتيجَ إلى التنصيص عليها (¬5). وفيه: جواز ملامسة الحائض، وأن ذاتها وثيابها طاهرة ما لم يتحقق نجاسة شيءٍ من ذلك، بالحيض ونحوه (¬6). تنبيه: مما يمنعه الحيض: مسُّ المُصحف اتفاقًا، والقراءةُ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ¬

_ (¬1) كذا في الأصل: "المطلع"، ولم أر لابن أبي الفتح كلاما فيه، ولعلّ الشارح يريد "المطالع" لابن قرقول، فسبق قلمه إلى "المطلع"، وفي "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 121) نقل كلام الخطابي هذا، والله أعلم. (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 71)، (مادة: وكأ). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 402). (¬4) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 127). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 402).

تقرأُ الحائضُ ولا الجُنُبُ شيئًا من القرآن" رواه أبو داود (¬1). وقيل: لا يمنع الحيضُ القراءةَ. وحُكي روايةً؛ وفاقًا لمالك في رواية عنه، واختاره شيخ الإسلام ابن تيميةَ -طيَّب الله تربته-، وقال: [إِنْ] (¬2) ظنَّتْ نسيانَه، وجبت. ونقل الشَّالنجيُّ كراهتَها لها، ولجُنُب، وعنه: لا يقرأان، وهي أشدُّ، كما في "الفروع" (¬3)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) لم يروه أبو داود في "سننه"، ورواه الترمذي (131)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرأان القرآن، وضعفه، وابن ماجه (596)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) في الأصل: "إني"، والتصويب من "الفروع" لابن مفلح. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 226).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ مُعَاذَةَ، قالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، فَقُلْتُ: مَا بَالُ الحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، ولا تَقْضِي الصَّلاَةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أنتِ؟! فَقُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِّيةٍ، ولَكِنِّي أَسْأَلُ، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُومَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، ولا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ (¬1). ¬

_ (¬1) تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (315)، كتاب: الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة، ومسلم (335)، (1/ 265)، كتاب: الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، واللفظ له، وأبو داود (262)، كتاب: الطهارة، باب: في الحائض لا تقضي الصلاة، والنسائي (382)، كتاب: الطهارة، باب: سقوط الصلاة عن الحائض، و (2318)، كتاب: الصيام، باب: وضع الصيام عن الحائض، والترمذي (130) كتاب: الطهارة، باب ما جاء في الحائض أنها لا تقضي الصلاة، وابن ماجه (631)، كتاب: الطهارة، باب: الحائض لاتقضي الصلاة. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 164): وجعله عبد الغني في "العمدة" متفقًا عليه، وهو كذلك، إلا أنه ليس في رواية البخاري تعرضٌ لقضاء الصوم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 183)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 595)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 211)، و "شرح مسلم" للنووي (4/ 26)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 128)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 274)، و"فتح الباري" لابن رجب =

(عن مُعَاذَةَ) -بضم الميم وبالعين المهملة فذالٌ معجمةٌ- تكنى: أُمَّ الصَّهْباء -بفتح الصاد المهملة وسكون الهاء فموحدة والمد- ابنةِ عبدِ الله، العدويَّةِ، التابعيةِ، البصريةِ، امرأةِ صِلَة بنِ أَشْيَمَ، وصِلَةُ -بكسر الصاد المهملة-، وأَشيَم -بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح المثناة تحت غير منصرفٍ-: صحابيٌّ توفي سنة خمسٍ وثلاثين. روت مُعاذةُ: عن علي، وهشامِ بن عامرٍ الأنصاريِّ، وعائشةَ، وغيرهم - رضي الله عنهم -. وروى عنها: قتادةُ، وعاصمٌ الأحول، وغيرُهما. وكانت من العابدات الزاهدات، ففي "مسند سيدنا الإمام أحمد": عن محمد بن فضيل، عن أبيه، قال: كانت معاذة إذا جاء النهار، قالت: هذا يومي الذي أموتُ فيه، فما تنام حتى تمسي، وإذا جاء الليل، قالت: هذه ليلتي التي أموت فيها، فلا تنام حتى تصبح، وإذا جاء البرد، لبست الثيابَ الرقاق حتى يمنعَها البردُ من النوم (¬1). وقال: إنها لم تتوسَّدْ فراشًا بعدَ أبي الصهباء (¬2)، وهو صهيبٌ البكريُّ التابعيُّ البصريُّ المشهور، مولى ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -. قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتاب "النساء": وكانت تصلي كل يوم وليلةٍ ست مئة ركعة، وتقول: عجبتُ لعينٍ تنام وقد عرفَتْ طولَ الرُّقاد في ظُلَمِ القبر. ¬

_ = (1/ 501)، و"النكت على شرح العمدة" للزركشي (ص: 58)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 421)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 300)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 354). (¬1) لم يروه الإمام أحمد في "المسند". وقد رواه في "الزهد" (ص: 208). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في "التهجد وقيام الليل" (83)، عن سلمة بن حسَّان العدوي.

وقال: ولم ترفع رأسها إلى السماء أربعين سنةً، وقتل ابنُها وزوجُها في غَزاةٍ، واجتمع النساء عندها، فقالت: من جاءت تهنيني، فمرحبًا، ومن جاءت لغير ذلك، فلترجع (¬1). وقد روى لها الجماعة. قال الإمام يحيى بن معينٍ: هي حجةٌ ثقةٌ. قال الواقدي: توفيت سنة ثلاثٍ وثمانين - رحمها الله تعالى، ورضي عنها - (¬2). (قالت) معاذة - رحمها الله تعالى -: (سألتُ عائشةَ) أمَّ المؤمنين (- رضي الله عنها -، فقلت: ما بالُ الحائض)؛ أي: ما حالُها وشأنُها (تقضي الصومَ) إذا طهرت من حيضها، (ولا تقضي الصلاة)، مع أنهما فرضانِ لازمانِ لكل عاقل، وهما من أركان الإسلام الخمس؟ وفي لفظٍ للبخاري: قالت معاذة: إن امرأةً قالت لعائشة: أتجْزي إحدانا صلاتَها إذا طَهُرت؟ -بفتح أوله-؛ أي: أتقضي، و (صلاتَها) -بالنصب- على المفعولية، ويروى: أتُجزىءُ -بالضم والهمزة- (¬3)؛ أي: أتكفي المرأةَ الصلاةُ الحاضرةُ وهي طاهرة، ولا تحتاج إلى قضاء الفائتة في زمن الحيض، فصلاتُها على هذا بالرفع على الفاعلية، والرواية الأولى أشهر (¬4). ¬

_ (¬1) وانظر: "صفة الصفوة" لابن الجوزي (4/ 22 - 23). (¬2) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 483)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 300)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (4/ 22)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 308)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 508)، و"الكاشف" له أيضاً (2/ 517)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (12/ 479). (¬3) كما رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 94)، وغيره. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 422).

(فقالت) عائشة - رضي الله عنها - مجيبةً لها، ومتعجبةً مما سألتها: (أحروريةٌ أنت؟) استفهامٌ إنكاريٌّ، والحروريُّ منسوبٌ إلى حَرُورٍ -بفتح الحاء وضم الراء المهملتين، وبعد الواو الساكنة راءٌ أيضاً-: بلدةٌ على ميلين من الكوفة، والأشهر: أنها بالمد (¬1). قال المبرِّد: النسبة إليها حروراوي، وكذا كل ما كان في آخره ألف تأنيثٍ ممدودةٍ، ولكن قيل: الحروري بحذف الزوائد (¬2). ويقال لمن يعتقد مذهبَ الخوارج: حروريٌّ؛ لأن أول فرقة منهم خرجوا على علي - رضوان الله عليه - بالبلدةِ المذكورة، فاشتهروا بالنسبة إليها، وهم فرقٌ كثيرةٌ، لكن من أصولهم المتفق عليها بينهم: الأخذُ بما دلَّ عليه القرآن، وردُّ ما زاد عليه من الحديث مطلقًا؛ ولهذا استفهمت عائشةُ معاذةَ استفهامًا إنكاريا (¬3). (فقلت)؛ أي: فقالت لها معاذة: (لستُ بحروريةٍ). وفي لفظٍ: فقلت: لا (¬4)؛ (ولكنـ[ــي] أسأل)؛ أي: سؤالًا مجردًا لطلب العلم، لا لتعنتٍ. وفهمت عائشة - رضي الله عنها - طلبَ الدليل منها على ذلك. (قالت) عائشةُ مجيبةً لمعاذةَ لمطلوبها: (كان يصيبنا ذلك)؛ أي: الحيضُ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فنؤمَرُ) -بالبناء للمفعول-؛ أي: يأمرنا ¬

_ (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (2/ 245). (¬2) انظر: "الكامل" للمبرد (3/ 1101). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 422). (¬4) ذكر هذ اللفظ الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 422) أن مسلمًا زاد في رواية عاصم، عن معاذة: فقلت: لا، ولكني أسأل، انتهى. والذي في "صحيح مسلم": قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بقضاء الصوم) إذا طهرنا. (ولا نؤمر)؛ أي: ولا يأمرنا (بقضاء الصلاة). وفي لفظٍ: كانت إحدانا تحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لا تؤمر بقضاءٍ (¬1). وفي آخر: قد كُنَّ نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَحِضْنَ، أفأُمرنَ أن يَجْزِينَ؟!. قال محمد بن جعفر تلميذ شعبة: يعني: يقضين، انتهى (¬2). وهذا استفهامُ ردعٍ وإنكارٍ. وفي البخاري عند الإسماعيلي من وجهٍ آخرٍ: فلم نكنْ نقضي، وهو أوضحُ في الاستدلال من قولها: فلم نؤمر؛ لأن عدمَ الأمر بالقضاء هنا، قد ينازع في الاستدلال به على عدم الوجوب؛ لاحتمال الاكتفاء بالدليل المعلوم على وجوب القضاء، بخلاف: فلم نقض؛ فإنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة (¬3). وقولها: لستُ بحروريةٍ، ولكنـ[ـــي] أسأل، من أفراد مسلمٍ، واقتصرت عائشة - رضي الله عنها - على الدليل دون التعليل. والذي ذكره العلماء في الفرق بين الصلاة والصيام: أن الصلاة تتكرر، فتعظُم المشقة، ويحصُل بوجوب القضاء حرجٌ، بخلاف الصيام. ووجه دلالة ما أبدته عائشة على المطلوب: أن الحاجة ماسةٌ إلى بيان هذا الحكم؛ لتكرر الحيضِ منهن على عهده - صلى الله عليه وسلم -، وعلمِه بذلك، فحيثُ لم ¬

_ (¬1) هو لفظ مسلم، وقد تقدم تخريجه. (¬2) هو لفظ مسلم، وقد تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 422).

يبينْ، دلَّ على عدم الوجوب؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة غيرُ جائزٍ، ولاسيما وقد اقترن بهذا الأمرُ بقضاء الصوم (¬1). وتقدم في حديث أول الباب انعقادُ الإجماع على عدم القضاء؛ فقد نقل ابن المنذر (¬2) وغيره إجماعَ أهل العلم على ذلك. وروى عبد الرزاق، عن معمرٍ: أنه سأل الزهري عنه، فقال: أجمع الناس عليه (¬3). وحكى ابن عبد البر عن طائفةٍ من الخوارج: أنهم كانوا يوجبونه (¬4). وعن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ: أنه كان يأمر به، فأنكرت عليه أُمُّ سلمَة (¬5)، لكن استقر الإجماع على عدم الوجوب، كما قال الزهري وغيره. قال في "الفروع": ولعل المراد: إلا ركعتي الطواف؛ لأنهما نسكٌ لا آخرَ لوقته، فَيُعَايا بها. قال: ويتوجَّه: أنَّ وصفه - عليه السلام - لها بنقصان الدين بترك الصلاة زمنَ الحيضِ، يقتضي أَلَّا تُثاب عليها؛ ولأن نيَّتها تركُها زمن الحيض، وفضلُ الله يؤتيه من يشاء، بخلاف المريض والمسافر (¬6). * * * ¬

_ (¬1) وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 128). (¬2) انظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 203). (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (1280). (¬4) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 338). (¬5) رواه أبو داود (312)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في وقت النفساء، بإسناد فيه لين؛ كما ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري" (1/ 502). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 225).

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة قد قدمنا في صدر كتاب الطهارة مناسبةَ تقديمها على الصلاة؛ لتقدم الشرط على المشروط، والوسيلة على المقصود. والصلاة في اللغة: الدعاء. قال الله -تعالى-: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]؛ أي: ادع لهم. وقال الأعشى: [من المتقارب] وَقَابَلَهَا الرِّيحُ في دَنِّهَا ... وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ (¬1) أي: دعا وكبر. وهي مشتقة من الصَّلَوَيْن، واحدُهما: صَلا، كَعَصَا، وهما عِرْقان من جانبي الذنب. وقيل: عظمان ينحنيان في الركوع والسجود. وقال ابن سيدَهْ: الصلاة: وسط الظهر من الإنسان، ومن كل ذي أربع (¬2). وقيل: هو ما انحدر من الو [ر] كين، وقيل: الفُرْجَة التي بين الجاعرة والذنب، وقيل: هو ما عن يمين الذنب وشماله. ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" (ص: 402)، (ق: 75/ 11). (¬2) انظر: "المخصص" لابن سيده (1/ 2 / 15).

وقيل في اشتقاق الصلاة غيرُ ذلك (¬1). وفي الشرع: الأفعال المعلومة؛ من القيام والقعود، والركوع والسجود، والقراءة والذكر، وغير ذلك. وسميت بذلك؛ لاشتمالها على الدعاء (¬2). * * * ¬

_ (¬1) وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 177)، و"القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1681) (مادة: صلا). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 46).

باب المواقيت

باب المواقيت جمع ميقات، والأوقاتُ جمعُ وقتٍ، وهو لغةً: مقدارٌ من الزمان ؤمفروضٌ لأمر ما، وكل شيءٍ قَدَّرْتَ له حينًا، فقد وَقَّتَّهُ توقيتًا، وقد استُعير الوقتُ للمكان، ومنه: مواقيتُ الحج: لمواضع الإحرام، ووَقَّت اللهُ الصلاة توقيتًا، وَوَقَتها، يَقِتُها؛ من باب وَعَد: حدَّد لها وقتًا، ثم قيل لكل شيءٍ محدود: موقوت (¬1). وكتابًا موقوتًا؛ أي: مفروضًا في الأوقات (¬2). قال في "الفروع": سبب وجوب الصلاة: الوقت؛ لأنها تضاف إليه، وهي تدل على السببية، وتتكرر بتكرره، وهو سبب نفس الوجوب، إذ سبب وجوب الأداء الخطاب (¬3). وذكر الحافظ - قدَّس الله روحه - في هذا الباب أحدَ عشرَ حديثًا. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 667)، (مادة وقت). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 208) (مادة: وقت). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 259).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، وَاسْمُهُ: سَعْدُ بْنُ إِياسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ -وَأَشَارَ بيَدِهِ إلَى دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللهِ تَعَالَى؟ قَالَ: "الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "بِرُّ الوَالِدَيْنِ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ"، قال: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ، لَزَادَني (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (504)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها، و (2630)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الجهاد والسير، و (5625)، كتاب: الأدب، باب: السبر والصلة، و (7096)، كتاب: التوحيد، باب: وسمَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عملًا، ومسلم (85)، (1/ 89 - 90)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، والنسائي (610) كتاب: المواقيت، باب: فضل الصلاة لمواقيتها، والترمذي (173)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوقت الأول من الفضل، و (1898)، كتاب: البر والصلة، باب: منه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 284، 8/ 92)، و"إكمال المعلم" للقاضىِ عياض (1/ 349)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 278)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 72)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 131)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 39)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 61)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 9)، و"عمدة القاري" =

(عن أبي عمرٍو الشيباني) التابعيِّ (واسمه: سعدُ بن إياس) -بكسر الهمزة وتخفيف المثناة تحت-، والشيباني -بفتح الشين المعجمة-؛ لأنه من بني شَيبان. وتقدمت هذه النسبة في ترجمة سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه -، وربما قيل لأبي عمرو هذا: البكريُّ، نسبةً إلى بَكْرِ -بفتح الموحدة- ابنِ وائل، وهو مخضرَمٌ أدركَ الجاهلية والإسلام. قال: أذكر أني سمعتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أرعى إبلًا لأهلي بكاظِمَةَ، فقيل: خرج نبيٌّ بتهامة (¬1). وهو معدود من التابعين؛ لعدم رؤيته النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. وكان من أصحاب ابن مسعود، يروي عنه كثيراً، وعن علي، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وغيرهم. وروى عنه: الشعبيُّ، والأعمش، وسَلَمَةُ بنُ كُهَيْل، وغيرُهم. قال يحيى بن معين: هو ثقةٌ، زاد هبة الله بن الحسن: مجمَعٌ على ثقته. مات سنة إحدى ومئةٍ، وقيل: سنة خمسٍ وتسعين، وعمره يوم مات مئة وعشرون سنةً (¬2). ¬

_ = للعيني (5/ 13)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 37). (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 104)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 47)، والطبراني في "المعجم الكبير" (5532). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 68)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 47)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 273)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 583)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 421)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 258)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 173)، و"الإصابة في =

(قال) أبو عمرٍو الشيبانيُّ: (حدثني صاحبُ هذه الدار، وأشار) أبو عميرٍو (بيده إلى دار عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -). في هذا: الاكتفاءُ بالإشارة المفهِمة عن التصريح، وقد صرح باسم ابن مسعودٍ في رواياتٍ عند الإمام أحمد (¬1)، وعند البخاري في: الجهاد (¬2)، ومسلم في: التوحيد (¬3)، والنسائي (¬4)، وغيرهم (¬5). وعبد الله بن مسعودٍ: هو أبو عبد الرحمن بنُ مسعودِ بنِ غافل -بالغين المعجمة والفاء -بن شَمْخٍ -بفتح الشين المعجمة وسكون الميم وبالخاء المعجمة-. وقيل: ابن حبيب بن شمخٍ بن قار -بالقاف-، وقيل:- بالفاء والراء المخففة-، وعليه اقتصر النووي (¬6)، بنِ مخزوم بن صاعد -بالصاد والعين المهملتين- بنِ كاهل بنِ الحارث بنِ تميم بنِ سعد بنِ هُذيل بنِ مُدْركة بن إلياسَ بنِ مضرَ، الهذليُّ، حليفُ بني زهرة، وأمُّه أمُّ عبدٍ بنتُ عبدِ وَدِّ بنِ سواء، من هذيلٍ، أسلمت وهاجرت. وكان إسلام عبد الله قديمًا في أول البعثة، حين إسلام سعيد بن زيد وزوجته فاطمةَ بنتِ الخطاب قبلَ عمر بزمانٍ. وقيل: إنه كان سادسًا في الإسلام. ¬

_ = تمييز الصحابهَ" (3/ 254)، و"تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (3/ 406). (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 451). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه النسائي (611)، كتاب: المواقيت، باب: فضل الصلاة لمواقيتها. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9). (¬6) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 269).

وفي "الصحيحين" مرفوعًا: "خُذُوا القرآنَ عن أربعٍ: عن عبدِ الله، وسالمٍ مولى أبي حُذَيفة، ومُعاذٍ، وأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ" (¬1). وروى الدارقطني أنه قال - رضي الله عنه -: لقد رأيتُني سادسَ ستة، وما على الأرض مسلمٌ غيرُنا (¬2). وكان صاحبَ سواكِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونعلِه وطهورِه في سفره. وقال له - صلى الله عليه وسلم -: "إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ ترفعَ الحجابَ، وتسمعَ سِوادي" (¬3)، وهو بكسر السين: السرار. وفي "مسند الإمام أحمد": سوادي: سري، قال: أَحَلَّ له أن يسمعَ سِرَّه (¬4). وروى الإمام أحمد عنه، قال: كنتُ لا أُحْبَس عن النجوى، وعن كذا، وعن كذا (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3597)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب أبي كعب - رضي الله عنه -، ومسلم (2464)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه - رضي الله تعالى عنهما -، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. (¬2) ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (33880)، وابن حبان في "صحيحه" (7062)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8406)، والحاكم في "المستدرك" (5368)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 126). (¬3) رواه مسلم (2169)، كتاب: السلام، باب: جواز جعل الإذن رفع حجاب أو نحوه من العلامات. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 388). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 427)، وأبو يعلى في "مسنده" (5291)، والحاكم في "المستدرك" (7367).

هاجر للحبشه، وشهد بدرًا وما بعدها، وصلَّى إلى القبلتين، وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رَضيتُ لأُمَّتِي ما رَضِيَ لها ابنُ أُمِّ عَبْدٍ" (¬1). وكان يشبهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في سَمْته وهَدْيه؛ كما ثبت ذلك في "صحيح البخاري" من حديث حذيفة (¬2). وكان - رضي الله عنه - خفيفَ اللحم، شديدَ الأُدْمَة، قصيرًا، يكاد طِوالُ الرجالِ إذا جلس يوازيه قائمًا. وليَ القضاءَ بالكوفة، وبيتَ المال بها لعمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه -، وصدرًا من خلافة عثمان - رضي الله عنه -، ثم جاء فوالي المدينة المنورة، فمات بها سنة اثنتين. وقيل: ثلاث وثلاثين، ودفن بالبقيع، كما قاله ابن الأثير في "جامع الأصول" (¬3). وجزم به الإمام الحافظ ابن الجوزي، قال: وهو ابن بضع وستين سنةً. روى عنه: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومن بعدهم من الصحابة - رضي الله عنهم -. روي عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانُ مئةٍ وثمانيةٌ وأربعون حديثًا، وأسقط ابن الجوزي الثمانية الزائدة على الأربعين، اتفقا منها على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحدٍ وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين (¬4). ¬

(¬1) رواه البزار في "مسنده" (1986)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (6879)، والحاكم في "المستدرك" (5387)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 120)، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (5746)، كتاب: الأدب، باب: في الهدي الصالح. (¬3) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 484 - قسم التراجم). (¬4) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 150)، و"الثقات" لابن =

فمما اتفقا عليه من حديثه: هذا الحديث، وهو قوله - رضي الله عنه -: (قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟). وفي رواية: أيُّ العمل أفضل (¬1)؟ وإنما سأل - رضي الله عنه - عن ذلك؛ طلبًا لمعرفة ما ينبغي تقديمُه منها؛ حرصًا على معرفة الأفضل؛ ليتأكد القصد إليه، وتشتد المحافظة عليه (¬2). ومعنى المحبة من الله تعالى: تعلُّق الإرادة بالثواب؛ أي: أكثر الأعمال توابًا، قاله ابن العربي (¬3). (قال) - عليه الصلاة والسلام -: (الصلاة على وقتها). هكذا رواية شعبة وأكثر الرواة. وفي رواية الإمام أحمد، ولهما، وغيرهم: "لوقتها" (¬4). و"على" قيل: هي بمعنى اللام، وقيل: لإرادة الاستعلاء على الوقت. ¬

_ = حبان (3/ 208)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 124)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 987)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 147)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (33/ 54)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 381)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 121)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 461)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 233)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (6/ 24). (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (2630) عند البخاري، و (85)، (1/ 89) عند مسلم. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 131). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 102). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 442)، وتقدم تخريجهما عندهما في حديث الباب.

وفائدته: تحقيق دخوله ليقع الأداء فيه، واللام: للاستقبال، مثل قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]؛ أي: مستقبلاتٍ عِدَّتَهن. وقيل: للابتداء؛ كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، وقيل: بمعنى: في؛ أي: في وقتها، كما في رواية علي بن حفص، وهو شيخٌ صدوقٌ من رجال مسلمٍ من أصحاب شعبة، فقال: الصلاة في أول وقتها، إلا أنه كبر، وتغير حفظه. قال الحافظ ابن حجر: ورواه الحسن بن علي المعمري في "اليوم والليلة"، عن أبي موسى محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة، كذلك. قال: والظاهر: أن المعمري وَهِمَ فيه. وأطلق النووي في "شرح المهذب": أن رواية "في أول وقتها" ضعيفةٌ (¬1). وفيه نظر؛ لأن لها طريقًا أخرى أخرجها ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم (¬2)، وغيرهما (¬3). تنبيهان: الأول: لعل الأعمال محمولة هنا على البدنية، كما قيل: أفضلُ عبادات البدن: الصلاة، واحترزوا عن عبادات المال. وأما عملُ القلوب: ففيه ما هو أفضل؛ كالإيمان (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 52). (¬2) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (327)، والحاكم في "المستدرك" (674). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 132).

وذكر أكثر علمائنا: أن أفضل الأعمال بعدَ الجهاد والعلم: الصلاةُ؛ خلافًا للشافعي في تقديمها؛ للأخبار في أنها أحبُّ الأعمال إلى الله، وخيرُها، ولأن مداومته - صلى الله عليه وسلم - على فعلها أشدُّ، ولقتل مَنْ تركها تهاونًا، ولتقديم فرضِها، وإنما أضاف إليه سبحانه الصومَ في قوله: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصومَ، فإنه لي" (¬1)؛ لأنه لم يُتعبد به غيرُه في جميع المِلل، بخلاف غيره. وإضافةُ عبادةٍ إلى غير الله قبل الإسلام لا يوجب عدمَ أفضليَّتها في الإسلام؛ [فإن] (¬2) الصلاة في الصفا والمروة أعظمُ منها في مسجد من مساجد قرى الشام إجماعًا، وإن كان ذلك المسجدُ ما عُبِدَ فيه غيرُ الله قَطُّ، وقد أضافه إليه بقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، فكذا الصلاةُ مع الصوم (¬3). ومحصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره؛ مما اختلفتْ فيه الأجوبةُ بأنه أفضلُ الأعمالط بأن الجواب: إنما اختلف لاختلاف السائلين؛ فأعلمَ كلَّ قومٍ بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبةٌ، أو بما هو لائقٌ بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات؛ بأن يكون العملُ في ذلك الوقت أفضلَ منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضلَ الأعمال (¬4). قال ابن دقيق العيد: مثال ذلك: أن يُحمل ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5583)، كتاب: اللباس، باب: ما يذكر في المسك، ومسلم (1151)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) في الأصل: "في أنَّ". (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 468). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9).

"ألا أخبرُكم بأَفضلِ أعمالِكم، وأزكاها عندَ مَليكِكم، وأرفعِها في درجاتكم؟ " (¬1)، وفسره بذكر الله، على أن يكون ذلك أفضلَ الأعمال بالنسبة للمخاطبين بذلك، أو مَنْ هو في مثل حالهم، ولو خوطب بذلك الشجاعُ الباسلُ المتأهِّلُ للنفع الأكبر في القتال، لقيل له: الجهاد، ولو خوطب به مَنْ لا يقوم مقامَ هذا في القتال، ولا يتمحَّضُ حالُه لصلاحية التبتُّل للذكر، وكان غنيًا ينتفع بصدقة ماله، لقيل له: الصدقةُ، وهكذا في بقية أحوال الناس، قد يكون الأفضلُ في حق هذا، مخالفًا للأفضل في حق ذاك، بحسب ترجيح المصلحة التي تليق به، انتهى (¬2). وقد تظافرت النصوص على أن الصلاة أفضلُ من الصدقة، ومع ذلك، ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضلَ. أو تحمل أن صيغة "أفضل" ليست على بابها، بل المراد: إثباتُ الفضلِ لها، أو المر اد: من أفضل الأعمال، فحذفت "من"، وهي مرادةٌ (¬3). الثاني: البدار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضلُ من التراخي فيها؛ لأنه إنما شُرط فيها أن تكون أحبَّ الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحبِّ، قاله ابن بطال (¬4). وقال ابن دقيق العيد: ليس في هذا الحديث ما يقتضي أولَ الوقت أو آخرَه، وكأن المقصود منه الاحترازُ عما إذا وقعت خارجَ الوقت قضاءً (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3377)، كتاب: الدعوات، باب: منه، وابن ماجه (3790)، كتاب: الأدب، باب: فضل الذكر، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 195). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 132). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 132).

وتُعقب: بأن إخراجها عن وقتها محرَّمٌ، ولفظ "أَحَبّ": يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المرادُ الاحترازَ عن إيقاعها آخر الوقت. وأجيب: بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال؛ فإن وقعت الصلاة في وقتها، كانت أحبَّ إلى الله من غيرها من الأعمال، فوقع الاحترازُ عما إذا وقعت خارجَ وقئها من معذورٍ؛ كالنائم، والناسي؛ فإن إخراجه لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم، ولا بكونه أفضلَ الأعمال، مع كونه محبوبًا، لكن إيقاعها في الوقت أحبُّ (¬1). (قلت: ثم أيُّ؟)، قيل: الصوابُ عدم تنوين "أي"؛ لأنه غير موقوف عليه في الكلام، والسائل ينتظر الجواب، والتنوينُ لا يوقف عليه، فتنوينُه ووصله بما بعدَه خطأ، بل يوقف عليه وقفةً لطيفةً، ثم يؤتى بما بعده، قاله الفاكهاني. وحكى ابن الجوزي عن ابن الخشاب الجزمَ بتنوينه؛ لأنه معربٌ غير مضافٍ (¬2). وفيه: بأنه مضاف تقديرًا، والمضاف إليه محذوفٌ لفظًا. والتقدير: ثم أيُّ العمل أحبُّ؟ فيوقف عليه بلا تنوينٍ. وقد نص سيبويه على أنها تبنى إذا أُضيفت؛ أي: وحُذف صدرُ صلتها (¬3). واستشكله الزجَّاجُ، فقال: ما تبين لي أن سيبويهِ غلط إلا في موضعين؛ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9 - 10). (¬2) انظر: "مشكل الصحيحين" لابن الجوزي (1/ 292). (¬3) انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 399).

هذا أحدهما، فإنه يسلم أنها تعرب إذا أفردت، فكيف يقول ببنائها إذا أضيفت؟!. وقد أجيب عنه: بما هو مذكورٌ في محالِّهِ (¬1). (قال) - صلى الله عليه وسلم -: (بِرُّ الوالدين). وفي رواية: بزيادة: ثم (¬2). قال بعضهم: هذا الحديث موافقٌ لقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وكأنه أخذه من تفسير ابن عُينية حيث قال: من صلَّى الصلواتِ الخمس، فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه عقبَها، فقد شكر لهما (¬3). وقدم في هذا الحديث بر الوالدين على الجهاد، وهو دليلٌ على تعظيمه، ولا شك في أن أذى الوالدين في غير ما يجبُ ممنوعٌ منه، وأما ما يجب من البر في غير هذا، ففي ضبطه إشكالٌ كبيرٌ، قاله ابن دقيق العيد (¬4). وقال ابن التين: تقديمُ البر على الجهاد يحتمل وجهين: أحدهما: التعدية إلى نفع الغير. والثاني: أن الذي يفعله يرى أنه مكافأةٌ على فعلهما، فكأنه يرى أن غيره أفضلُ منه، فنبهه على إثبات الفضيلة فيه. قال الحافظ ابن حجر: والأول ليس لواضحٍ، ويحتمل أنه قُدِّم لتوقف الجهاد عليه؛ إذ من بر الوالدين استئذانُهما في الجهاد؛ لثبوت النهي عن ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10). (¬2) وهي رواية لهما، برقم (504. 5625) عند البخاري، و (85)، (1/ 90) عند مسلم. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 132).

الحهاد بغير إذنهما (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ففيهما فجاهِدْ" (¬2). وفي "مسند الإمام أحمد"، من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: هاجر وجلٌ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هل باليمنِ أبواك؟ "، قال: نعم، قال: "أَذِنا لك؟ "، قال: لا، قال: "ارجعْ فاستأذِنْهما، فإن أذنا لك، وإلا فبرَّهما" (¬3). ولا ريب أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، والله أعلم. (قلت: تْم أي؟)؛ أي: أيُّ العمل بعدَ برِّ الوالدين أحبُّ إلى الله تعالى؟ (قال: الجهاد في سبيل الله). ولا شك أن مرتبة الجهاد في الدين عظيمة، والقياس يقتضي أنه أفضل من سائر الأعمال التي هي وسائل؛ فإن العبادات على قسمين؛ منها ما هو مقصود لنفسه، ومنها ما هو وسيلةٌ إلى غيره، وفضيلةُ الوسيلة لحسب فضيلة المتوسَّل إليه، فحيث تعظُمُ فضيلة المتوسَّل إليه، تعظُمُ فضيلة الوسيلة، ولما كان الجهاد في سبيل الله وسيلةً إلى إعلانِ الدين ونشره، وإخمالِ الكفر ودَحْضِه، كانت فضيلةُ الجهاد بحسب فضيلة ذلك (¬4). ولهذا كان المعتمَدُ عند علمائنا: أنه أفضل تطوُّعات البدن، أطلقَه ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 401). (¬2) رواه البخاري (2842)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الجهاد بإذن الأبوين، ومسلم (2549)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 75)، وأبو داود (2530)، كتاب: الجهاد، باب: في الرجل يغزو وأبواه كارهان، وابن حبان في "صحيحه" (422)، وغيرهما. (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 132 - 133).

الإمامُ والأصحاب، كما في "الفروع"، فالنفقةُ فيه أفضلُ. ونقل جماعةٌ: الصدقةُ على قريبه المحتاج أفضلُ، مع عدم الحاجة إليه، ذكره الخلال وغيره (¬1). ويأتي الكلام عليه في بابه -إن شاء الله تعالى-. (قال) ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: (حدثني بهن)؛ أي: الخصالِ المذكورةِ ([رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -]). وفيه: تقريرٌ وتأكيدٌ لما تقدم، وأنه باشر السؤال وسمع الجواب. (ولو استزدتُه) - صلى الله عليه وسلم -، (لزادني)؛ من هذا النوع، وهي مراتب أفضل الأعمال، أو من مطلق المسائل المحتاج إليها. زاد الترمذي، من طريق المسعودي، عن الوليد:. فسكت عني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو استزدتُه لزادني (¬2)؛ فكأنه استشعر منه مشقةً. ويؤيده ما في روايةٍ لمسلم: فما تركت أستزيده إلا [إ] رعاء عليه (¬3)؛ أي: مشقةً عليه؛ لئلا يسأم (¬4). وفي الحديث: تعظيم بر الوالدين، وأن أعمال البر يفضل بعضُها على بعضٍ. وفيه: السؤال عن مسائلَ شتى في وقتٍ واحدٍ، والرفقُ بالعالم، والتوقُّفُ عن الإكثار عليه خشيةَ ملاله، وما كان عليه الصحابةُ من تعظيمِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، والشفقةِ عليه - صلى الله عليه وسلم -، وغير ذلك، والله أعلم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 464). (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (1898) عنده. (¬3) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 236). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: لقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الفَجْرَ، فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنَ المُؤمِنَاتِ، مُتَلَفِّعَاتٍ بمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلى بُيُوتِهِنَّ لا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الغَلَسِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (365)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: في كم تصلي المرأة من الثياب؟ و (553)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت الفجر، و (829)، كتاب: صفة الصلاة، باب: انتظار الناس قيام الإمام العالم، و (834)، باب،: سرعة انصراف النساء من الصبح، وقلة مقامهن في المسجد، ومسلم (645)، (1/ 445 - 446)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، وأبو داود (423)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت الصبح، والنسائي (545، 546)، كتاب: المواقيت، باب: التغليس في الحضر، و (1362)، كتاب: السهو، باب: الوقت الذي ينصرف فيه النساء من الصلاة، والترمذي (153)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التغليس بالفجر، وابن ماجه (669)، كتاب: الصلاة، باب: وقت صلاة الفجر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 132)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 37)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 260)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 609)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 269)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 143)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 133)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 287)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 224)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 482)، و"عمدة القاري" للعيني =

المُرُوطُ: أَكْسِيَةٌ مُعْلَمَةٌ تَكُونُ مِنْ خَزٍّ، وتَكُونُ مِنْ صُوفٍ. ومُتَلَفِّعَاتٍ: مُتَلَحِّفاتٍ. والغَلَسُ: اخْتِلاطُ ضِياءِ الصُّبْح بظُلْمَةِ اللَّيلِ. (عن) أم المؤمنين (عائشة) الصدّيقةِ (- رضي الله عنها -، قالت: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي الفجر)؛ أي: بغَلَس، (فيشهد الصلاة معه نساءٌ من المؤمنات). وفي رواية عند البخاري: نساءُ المؤمنات (¬1)، بإسقاط "من". قال الحافظ ابن حجر: تقديرُه: نساءُ الأنفسِ المؤمناتِ، ونحو ذلك، حتى لا يكون من إضافة الشيء إلى نفسه. وقيل: إن "نساء" هنا، بمعنى: الفاضلات؛ أي: فاضلات المؤمنات، كما يقال: رجال القوم؛ أي: فضلاؤهم (¬2). (متلفعاتٍ)؛ أي: متجلِّلات ومتلحِّفات (بمروطهنَّ)؛ جمعُ مِرْط -بكسر الميم-: وهو كساءٌ معلمٌ من خزٍّ، أو صوفٍ، أو غير ذلك. وقيل: لا يسمى مرطًا، إلا إذا كان أخضر، ولا يلبسه إلا النساء، وهو مردودٌ بقوله: من شعرٍ أسودٍ (¬3). وقال في "النهاية": قوله: متلفعات بمروطهن؛ أي: متلفعات بأكسيتهن. واللفاع: ثوبٌ يجلَّل به الجسدُ كله، كساءً كان أو غيره، وتَلَفَّعَ ¬

= (4/ 89)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 420). (¬1) تقدم تخريجه آنفًا برقم (553) عنده. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 55). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

بالثوب: إذا اشتمل [به]، ومنه: حديثُ عليٍّ وفاطمة: وقد دخلْنا في لِفاعِنا (¬1)؛ أي: لِحافِنا (¬2). وقال: في قوله: كان يصلي في مروط نسائه؛ أي: أكسيتهن، الواحد: مرط، ويكون من صوفٍ، وربما كان من خَزّ، أو غيرِه، انتهى (¬3). (ثم يرجعن). وفي لفظٍ لهما: ثم ينقلبن (¬4)؛ أي: بعد أداء الصلاة (إلى بيوتهن). (ما يعرفهن أحدٌ) من الرجال (من الغلس)، وفيه الحجة لمن يرى التغليس في صلاة الفجر، وتقديمها في أول الوقت، ولاسيما مع ما ورد من طول قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح (¬5). وهذا أظهر الروايتين من مذهبنا؛ وفاقًا لمالك، والشافعي، أو يراعي أكثر المأمومين. الذي استقر عليه المذهب: الأفضلُ: التغليسُ. وقيل: الإسفار؛ وفاقًا لأبي حنيفة، لغير الحاج بمزدلفة. قال الحنفية في تعريفه: بحيث يقدر على قراءةٍ مسنونةٍ، وإعادتها لوضوء، وإعادة الوضوء قبل طلوع الشمس لو ظهر سهو، ولهم في الإسفار بسنة الفجر خلافٌ (¬6). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (5063)، كتاب: الأدب، باب: في التسبيح عند النوم. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 261). (¬3) المرجع السابق، (4/ 319). (¬4) تقدم تخريجه برقم (553) عند البخاري، و (645)، (1/ 446) عند مسلم. (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 133). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 265).

ولنا: حديث: "أولُ الوقتِ رضوانُ الله، وأوسطُ الوقتِ رحمةُ الله، وآخرُ الوقت عفوُ الله" رواه ابن عدي، والدارقطني، وغيرهما (¬1). وروى الإمام أحمد، والشيخان من حديث أبي برزة - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفتل من صلاة الغداة حين يعرفُ أحدُنا جليسَه (¬2). وروى أبو داود، والدارقطني، من حديث أبي مسعودٍ الأنصاري: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نزلَ جبريلُ فأخبرني بوقتِ الصلاة، فصليت معه، ثم صلَّيتُ معه، ثم صلَّيتُ معه" يحسب بأصابعه خمسَ صلواتٍ، فرأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي الظهرَ حين تزول الشمس، وربما أخرها حين يشتدُّ الحر، ورأيته يصلِّي العصر والشمسُ مرتفعةٌ بيضاءُ، فينصرف الرجل من الصلاة فيأتي ذا الحُلَيفة قبل غروب الشمس، ويصلي المغرب حين تسقط الشمس، ويصلي العشاء حين يسودُّ الأفق، وصلَّى الصبحَ مرة بغَلَسٍ، ثم صلى مرةً أخرى فأسفرَ، ثم كانت صلاته بعد ذلك بالغلس حتى مات، ثم لم يَعُدْ إلى أن يُسْفِر (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 249)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (1/ 256)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 435)، عن أبي محذورة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 420)، والبخاري (574)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما يكره من السمر بعد العشاء، ومسلم (461)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح والمغرب. إلا أنّ مسلمًا لم يخرج هذه الجملة في سياق حديثه. (¬3) رواه أبو داود (394)، كتاب: الصلاة، باب: في المواقيت، والدارقطني في "سننه" (1/ 250)، واللفظ له.

واحتج الحنفية للإسفار: بما رواه الترمذي، عن رافع بن خَديج - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَسْفِروا بالفجرِ؛ فإنه أعظمُ للأجر" (¬1). ورواه الإمام أحمد بلفظ: "أَصْبِحوا بالصبح؛ فإنه أعظمُ لأجورِكم، أو أعظمُ للأجر" (¬2). قال الترمذي: هذا حديثٌ صحيحٌ، وهو محمولٌ على ما إذا تأخر الجيران. قال الحافظ ابن عبد الهادي: في "تنقيح التحقيق": ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، وأبو حاتم البُسْتي. وإنما حملناه على ما إذا تأخر الجيران؛ لما روى سعيدٌ الأمويُّ في "المغازي" بإسناده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال له: "إذا كانَ الشتاءُ، فصلِّ الفجرَ في أولِ وقتِها، ثم أَطِلِ القراءةَ، وإذا كان في الصيفِ، فأسفرْ بالصبح؛ فإن الليلَ قصيرٌ، والناس ينامون" (¬3). فانتظم لنا من الأحاديث ما قال به إمامنا، ولم نهمل منها شيئًا -ولله الحمد-. قال الحافظ - رضي الله عنه -: (المُروط): جمعُ مِرْطٍ، (أكسيةٌ معلَمةٌ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (154)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الإسفار بالفجر، وقال: حسن صحيح، والنسائي (548)، كتاب: المواقيت، باب: الإسفار، وابن حبان في "صحيحه" (1490). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 140)، وأبو داود (424)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت الصبح، وابن ماجه (672)، كتاب: الصلاة، باب: وقت صلاة الفجر. (¬3) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 261 - 262).

تكون من خَزٍّ، وتكون من صوفٍ) كما قدمناه عن صاحب "النهاية"، وغيره. (و) قوله: (متلفِّعاتٌ) -بالعين-، ويروى: متلِّففاتٍ -بالفاء- (¬1)، والمعنى متقاربٌ، إلا أن التلفُّع يستعمل في تغطية الرأس. قال ابن حبيب: لا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس. واستأنسوا في ذلك بقول عبيد بن الأبرص: [من الرمل] كَيْفَ يَرْجُونَ سُقُوطِي بَعْدَما ... لَفَعَ الرَّأسَ بَيَاضٌ وَصَلَعْ (¬2) واللِّفاع: ما التُفع به، واللِّحاف: ما التُحِف به (¬3)؛ أي: (متلحِّفات). (والغلسُ: اختلاطُ ضياءِ الصُّبحِ بظلمة الليل). قال في "النهاية": الغلس: الظلمة آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح، انتهى (¬4). والغلس والغَبَش متقاربان، والفرق بينهما: أن الغلسَ في آخر الليل، وقد يكون الغبشُ في أوله وآخره. وأما من قال: الغبس -بالباء والسين المهملة-، فغلط (¬5). * * * ¬

_ (¬1) كما رواه مسلم في الحديث المتقدم تخريجه عنه برقم (645)، (1/ 446). (¬2) انظر: "العقد الفريد" لابن عبد ربه (4/ 208، 5/ 487). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام " لابن دقيق (1/ 134)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (2/ 231)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 482). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 377). (¬5) ذكره ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام" (1/ 134) نقلًا عن ابن عبد البر في "التمهيد" (23/ 390).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ بالهَاجِرَةِ، والعَصْرَ والشَّمْسُ نَقِيَّةٌ، والمَغْرِبَ إِذَا وَجَبَتْ، والْعِشَاءَ أَحْيانًا وَأَحْيَانًا؛ إذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا؛ عَجَّلَ، وَإِذا رَآهُمْ أَبْطَؤُوا، أَخَّرَ، والصُّبْحُ كانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ (¬1). * * * (عن جابر بن عبد الله) الأنصاريِّ (- رضي الله عنهما -، قال: كان ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (535)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت المغرب، و (540)، باب: وقت العشاء إذا اجتمع الناس أو تأخروا، ومسلم (646)، (1/ 446 - 447)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، وأبو داود (397)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف كان يصليها، والنسائي (527)، كتاب: المواقيت، باب: تعجيل العشاء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 127)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 611)، و"المفهم" للقرطبىِ (2/ 270)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 145)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 134)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 290)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 160)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 41)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 56)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 414).

النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة)، وهي شده الحر في نصف النهار. والمراد: أنه كان يصليها في أول وقتها. فإن قيل: هذا يعارض الحديثَ الآخر: "إذا اشتدَّ الحرُّ، فأبردوا" (¬1)؛ لأن صيغة: (كان يفعل) تُشعر بالكثرة والدوام عرفاَّ؟ فالجواب: يمكن الجمعُ بينهما: بأن يكون أطلق اسم الهاجرة على الوقت الذي بعد الزوال مطلقًا؛ فإنه قد يكون فيه الهاجرة في وقتٍ، فيطلق على الوقت مطلقًا بطريق الملازمة، وإن لم يكن وقت الصلاة في حر شديدٍ. وقد نقل عن صاحب "العين": أن الهجير والهاجرة: نصف النهار (¬2). وفي "القاموس": والهَجيرُ، [و] الهجيرة، والهجر، [و] الهاجرة: نصفُ النهار عند زوال الشمس مع الظهر، أو: من عند زوالها إلى العصر؛ لأنَّ الناس يستكنُّون في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا، وشدَّةُ الحر، انتهى (¬3). فظهر: أن ما بعد الزوال يسمى هاجرةً مطلقًا، والإبراد مقيدةٌ بحال شدة الحر، فإن وجدت شروط الإبراد، أبرد، وإلا، عجل (¬4). قال الإمام ابن مفلح: ويُستحب تعجيلُها؛ بأن يتأهب لها بدخول الوقت، وذكر الأَزجيُّ قولًا: [لا] يتطهر قبلَه إلا مع حَرّ؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (512)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر، ومسلم (615)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "العين" للخليل (3/ 387). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 638) (مادة: هجر). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 134 - 135).

وقيل: لقاصدِ جماعةٍ. قال جماعةٌ: ليمشي في الفيء، وقيل: في بلدٍ حارٍّ، وفاقًا للشافعي. وفي "الواضح": لا بِمَسْجِدِ سوقٍ. ولا تؤخر هي والمغرب [لِغَيمٍ] في رواية؛ وفاقًا لمالك، والشافعي، وعنه: بلى؛ وفاقًا لأبي حنيفة، فلو صلى وحده، فوجهان (¬1). قلت: الذي استقر عليه المذهب: استحبابُ الإبراد، ولو صلَّى وحده، والتأخير في غيمٍ لمن يصلي في جماعةٍ إلى قرب وقت الثانية في غير صلاة جمعةٍ، فيستحب تعجيلها في كل حالٍ بعد الزوال. نعم، يستحب تأخيرُ ظهرٍ لمن لم تجبْ عليه الجمعةُ إلى ما بعدَ صلاتها، ولمن يرمي الجمراتِ حتى يرميَها، والله أعلم (¬2). (والعصرَ)؛ أي: وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر (والشمس نقية)؛ أي: حَيَّة لم يغشَها الاصفرارُ بعد. وفيه دليلٌ على تعجيلها؛ خلافًا لأبي حنيفة، حيث جعل وقتها بعد القامتين (¬3). وفي "الصحيحين": كان يصلي الظهرَ حين تزول الشمس، والعصرَ يذهب الرجل إلى أقصى المدينة والشمسُ حية. ولفظ البخاري: يذهب إلى أقصى المدينة ويرجعُ والشمسُ حية (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 260). (¬2) انظر: "المبدع" لابن مفلح (1/ 339 - 340). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 135). (¬4) رواه البخاري (516)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: و "الظهر عند الزوال، =

قال ابن المنير. المرادُ بحياتها: قوةُ أثرها حرارةً ولونًا وشعاعًا وإنارة، وذلك لا يكون بعد مصير الظل مثلي الشيء، انتهى (¬1). وفي "سنن أبي داود" بإسناد صحيح: عن خيثمة أحدِ التابعين، قال: حياتُها أن تجدَ حَرَّها (¬2). فمتى صار ظلُّ الشيء مثلَه سوى ظل الزوال، دخل وقت العصر، ويستمرُّ وقتُ الاختيار إلى أن يصير ظل الشيء مثليه سوى ظل الزوال. وعنه: حتى تصفر الشمس، اختاره جماعة. قال في "الفروع": وهي أظهر؛ خلافًا للشافعي، والمذهبُ: الأولُ. وما بعد ذلك وقتُ ضرورة إلى غروبها، وتعجيلُها أفضلُ بكل حال؛ وفاقًا لمالك، والشافعي. وقال القاضي أبو يعلى: وقتُ الظهر على مذهب الإمام أحمد مثلُ وقت العصر؛ لأنه لا خلاف بين العلماء أن من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله ربعَ النهار، ويبقى الربع إلى الغروب. فقال له الخصم: طَرَفُ الشيء ما يقرب من نهايته؟ فقال: الطَّرَفُ ما زاد عن النصف، وهذا مشهور في اللغة، ثم بيَّن صحته بتفسير الآيتين (¬3). ¬

_ = ومسلم (647)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، عن أبي برزة - رضي الله عنه -. (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 27). (¬2) رواه أبو داود (405)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت صلاة العصر. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 261 - 262). قال ابن قندس في "حاشيته على الفروع" (1/ 430): يحتمل أنه أراد بالآيتين قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114]، وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78].

(و) كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي (المغرب)، وهو في الأصل: مصدرُ غَرَبَتِ الشمسُ غُروبًا ومَغْرِبًا، ثم سميت الصلاة مغربًا، أو على حذف مضاف؛ أي: صلاة المغرب (¬1) (إذا وجبت)؛ أي: غابت. وأصل الوجوب: السقوطُ (¬2)، والمراد: سقوطُ قرص الشمس؛ بأن يغيب حاجبُها الفوقاني، وفاعل وجبت مستتر، وهو الشمس. وفي رواية أبي داود، عن مسلم بن إبراهيم: والمغربَ إذا غربت الشمسُ (¬3). ولأبي عوانة، من طريق أبي النضر عن شعبة: والمغربَ حين تجبُ الشمس (¬4)؛ أي: تسقط. وفيه دليلٌ: أن سقوط قرص الشمس يدخل به وقتُ المغرب، ولا يخفى أن محلَّه ما إذا كان لا يحول بين رؤيتها غاربةً وبين الرائي حائلٌ (¬5). ويستدل على غروبها بطلوع الليل من المشرق. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا غَرَبَتِ الشمسُ من هاهنا، وطلعَ الليلُ من هاهنا، فقد أفطرَ الصائمُ" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 57). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 567)، و"النهاية فىِ غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 153). (¬3) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬4) رواه أبو عوانة في "مسنده" (1/ 367 - 368)، من طريق أبي داود. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 42). (¬6) رواه البخاري (1853)، كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم؟ ومسلم (1100)، كتاب: الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

وإن لم يكن ثم حائل: فقال بعض أصحاب مالك: إن الوقت يدخل بغيبوبة الشمس وشعاعِها المستولي عليها. وقد استمر العملُ بصلاة المغرب عقبَ الغروب، وأخذ منه: أن وقتها واحد (¬1). (و) كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي (العشاء). قال الجوهري: العَشيُّ والعَشِيَّةُ: من صلاة المغرب إلى العَتَمة، والعشاء -بالمد والكسر- مثلُه. وزعم قومٌ أن العشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، والعشاءان: المغرب والعتمة، انتهى (¬2). قال في "المطلع": فكأنها سميت باسم الوقت الذي تقع فيه، كما ذكر في غيرها (¬3). وقال الأزهري: والعشاء: هي التي كانت العرب تسميها العتمةَ، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؛ يعني في قوله - صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن عمر- رضي الله عنهما - عند مسلم: "لا تَغْلِبَنَكمُ الأَعْرابُ على اسمِ صلاتِكم، ألا إِنها العشاءُ، وهم يُعْتِمونَ بالإِبِلِ" (¬4). وفي لفظٍ: "فإنها في كتاب الله العِشاءُ" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 135). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2426)، (مادة: عشا). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 57 - 58). (¬4) رواه مسلم (644)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: وقت العشاء وتأخيرها. (¬5) انظر: "صحيح مسلم" (644)، (1/ 445).

ولم يخرج البخاري في هذا شيئًا، وإنما أخرج: "لا تغلبنكم الأعرابُ على اسمِ صلاتِكم المغربِ"، قال: "وتقول الأعراب: هي العشاء" (¬1). قال الأزهري: وإنما سَمَّوها عتمةً باسم عتمة الليل، وهي ظلمةُ أوله، وإعتامُهم بالإبل: إذا راحت عليهم النَّعَمُ بعد المساء، أناخوها، ولم يحلبوها حتى يُعتموا؛ أي: يدخلوا في عتمة الليل، وهي ظلمته، وكانوا يسمُّون تلكَ الحلبة: عتمةً باسم عتمةِ الليل. ثم قالوا: لصلاة العشاء: العتمة، لأنها تؤدَّى في ذلك الوقت. يقال: أعتم الليل، وعَتَمَ لغةٌ (¬2). ولا يُكره تسمية العشاء بالعتمة على المعتمد؛ لما ثبت في عدة أحاديث تسميتُها بذلك. (أحيانًا وأحيانًا)، ولمسلم: أحيانًا يؤخرها، وأحيانًا يعجِّل (¬3). كان - صلى الله عليه وسلم - (إذا رآهم)؛ أي: الصحابةَ - رضي الله عنهم - قد (اجتمعوا، عَجَّل) بالصلاة (وإذا رآهم) - صلى الله عليه وسلم - (أبطؤوا) عن الاجتماع، (أخَّر) الصلاةَ بمن حضر منتظرًا اجتماعَهم. وفي رواية للبخاري، من رواية مسلم بن إبراهيم، عن شعبة: إذا كثر الناسُ، عَجَّلَ، وإذا قَلُّوا أَخَّر (¬4). ونحوه لأبي عوانة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (538)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من كره أن يقال للمغرب: العشاء، عن عبد الله المزني - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "تهذيب اللغة " للأزهري (2/ 288)، (مادة: عتم). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (646)، (1/ 446). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (540). (¬5) رواه أبو عوانة في "مسنده" (1/ 367) بلفظ: "إن رأى في الناس قلة، أخَّر، وإن رأى فيهم كثرة، عجَّل".

والأحيان: جمعُ حِين، وهو اسمٌ مبهَمٌ يقع على قليل الزمان وكثيرِه، على المشهور (¬1). (والصبحُ: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلِّيها بغلَس) -بفتح اللام-: ظلمة آخر الليل، كما مر. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 42).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كَشْفُ اللِّثَامِ شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1428 هـ - 2007 م رَقم الْإِيدَاع بمَكتَب الشؤون الفَنيَّة 22/ 2007 م قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة الكويت - الرقعي - شَارِع مُحَمَّد بني الْقَاسِم بدالة: 4892785 - داخلي: (404) فاكس: 5378447 موقعنا على الإنترنت www.islam.gov.kw قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة قَامَت بعمليات التنضيد الضوئي والتصحيح العلمي والإخراج الفني والطباعة دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) - فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَبِي المِنْهَالِ سَيَّارِ بْنِ سَلاَمَةَ، قالَ: دَخَلْتُ أَنا وأَبِي عَلَى أَبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فَقَالَ لَهُ أَبي: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي المَكْتُوبةَ؟ فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الهَجِيرَ التي تَدْعُونَهَا الأُوْلَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، ويُصَلِّي العَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنا إِلَى رَحْلِهِ في أَقْصَى المَدِينةِ؛ والشَّمْسُ حَيَّة، ونَسِيتُ ما قَالَ في المَغْرِبِ، وكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ العِشَاءِ الَّتي تَدْعُوْنَها العَتْمَةَ، وكان يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، والحَدِيثَ بَعْدَهَا، وكانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاَة الغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، ويَقْرَا بالسِّتِّينَ إلى المِئَةِ (¬1). ¬

_ (¬1) تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (522)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت العصر، واللفظ له، ورواه أيضاً: (516)، باب: وقت الظهر عند الزوال، و (543): باب: ما يكره من النوم قبل العشاء، و (574)، باب: ما يكره من السَّمر بعد العشاء، و (737)، كتاب: صفة الصلاة، باب: القراءة في الفجر، ومسلم (461)، (1/ 338)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح والمغرب، و (647)، (1/ 447)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، وأبو داود (398)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف كان يصليها، والنسائي (495)، كتاب: المواقيت، باب: أول وقت الظهر، و (525)، باب: كراهية النوم بعد صلاة =

(عن أبي المِنْهال سَيَّارِ بنِ سلامة)، أبو المِنْهال -بكسر الميم وسكون النون- اسمه: سَيَّار -بفتح السين المهملة وتشديد المثناة التحتية وآخره راء-. وأبوه: سَلَامةُ -بتخفيف اللام- الرِّيَاحيُّ -بكسر الراء وتخفيف الياء المثناة تحت والحاء المهملة- البصريُّ التميميُّ، من مشاهير التابعين. سمع: أبا برزةَ الأَسْلَمِيَّ، وأبا العاليةِ رُفَيعًا. سمع منه: عوفٌ، وشعبةُ، والتيميُّ، وخالدٌ الحَذَّاءُ، وغيرُهم. قال يحيى بن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق الحديث. قال الإمام أحمد: مات سنة تسع وعشرين ومئة، روى له الجماعة. قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": وسلامةُ والدُ سيار، حكى عنه ولدُه هنا. قال: ولم أجد مَنْ ترجمه. قال: وقد وقعت لابنه عنه رواية ¬

_ = المغرب، و (530)، باب: ما يستحب من تأخير العشاء، والترمذي (168)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في كراهية النوم قبل العشاء والسمر بعدها، مختصرًا، وابن ماجه (701)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن النوم قبل صلاة العشاء، وعن الحديث بعدها، مختصرًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 270)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 612)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 270)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 145)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 137)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 295)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 80، 100)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 26)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 34)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 108)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 415).

في "الطبراني الكبير" في ذكر الحوض، انتهى (¬1). قال البرماوي: وسلامة الرياحي -يعني: والد سيار- ذكره العسكريُّ في "تاريخه" (¬2). (قال) سيار: (دخلت أنا وأبي) سلامة الرياحيُّ البصريُ، زاد الإسماعيلي: زمنَ أُخْرِج ابنُ زياد من البصرة. قال في "الفتح": وكان ذلك في سنة أربع وستين (¬3). (على أبي بَرْزَةَ) متعلقٌ بدخلتُ، وهو -بفتح الموحدة وسكون الراء بعدها زاي، واسمه: نَضْلَة -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة- ابنُ عبيد -بالتصغير (الأسلميِّ) من ولد أَسْلَم -بفتح اللام- ابن أَفْصَى -بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح الصاد المهملة-، فنسب إليه. وأبو برزة (- رضي الله عنه -) أسلمَ قديمًا، وشهد فتح مكة، وهو الذي قتل ابنَ خَطَل- فيما قيل-، ولم يزل يغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قُبِض، فتحولَ ونزلَ بالبصرة، ثم غزا خراسان، ومات بِمَرْو، على الأشهر، وقيل: رجع للبصرة، ومات بها، وقيل: مات بمفازة بينَ سجستان وَهَرَاةَ -حكي هذا الخلاف في "تاريخ نيسابور"- سنة ستين، وقيل: أربعٍ وستين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون حديثًا، اتفقا على حديثين، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 26). (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 160)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 254)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 335)، و"تهذيب الكمال" للمزي (34/ 323)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 255)، و"تقريب التهذيب" له أيضاً (تر: 2715). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 26).

وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأربعةٍ (¬1). قال أبو المنهال: (فقال له)؛ أي: لأبي برزة: (أبي) فاعلُ قال: (كيف كلان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة؟)؛ أي: المفروضة. واستدل به على أن الوتر ليس من المكتوبة؛ لكون أبي برزة لم يذكره. وفيه بحثٌ (¬2). ولفظة: "كان" تشعر عرفًا بالدوام والتكرار، كما يقال: كان فلانٌ يكرم الضيف، وكان فلانٌ يقاتل العدو: إذا كان ذلك دَأْبَه وعادتَه. والألف واللام في "المكتوبة": للاستغراق؛ ولهذا أجاب أبو برزة - رضي الله عنه - بذكر الصلواتِ كلَّها؛ لأنه فهم من السائل العمومَ (¬3). (قال) أبو برزة - رضي الله عنه -: (كان) - صلى الله عليه وسلم - (يصلي الهجيرَ)؛ أي: صلاة الهجير، والهجير والهاجرة بمعنًى واحدٍ، وهو وقت شدة الحر وقوته (¬4). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 9)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 118)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 499)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 419)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 32)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1495)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 182)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (62/ 83)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 305)، و"تهذيب الكمال" للمزي (29/ 407)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 40)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 433)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (10/ 399). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 26). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 137). (¬4) وقد تقدم عن صاحب "العين"، و"القاموس" تفسير معنى الهجير، فلينظر في موضعه.

وسميت الظهر بذلك؛ لأن وقتها يدخل حينئذٍ، ويكون الناس قد سكنوا من شدة الحر في بيوتهم، فكأنهم هجروا الاجتماع ومخالطةَ بعضهم بعضًا. (التي تدعونها الأولى): قيل: سميت الأولى؛ لأنها أولُ صلاة النهار. وقيل: لأنها أول صلاةٍ صلاها جبريلُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حين بيَّن له الصلواتِ الخمسَ (¬1). (حين تَدْحَضُ)؛ أي: تزولُ (الشمس) عن وسط السماء، مأخوذٌ من الدَّحْض، وهو الزلق، وهو -بفتح التاء المثناة وسكون الدال المهملة فحاءٌ مهملةٌ مفتوحةٌ فضادٌ معجمةٌ - (¬2). وفي روايةٍ لمسلمٍ: حين تزول الشمس (¬3). ومقتضى ذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الظهر في أول وقتها، ولا يخالف ذلك الأمرُ بالإبراد؛ لأنه لاحتمال كونِ ذلك في زمن البرد، أو قبل الأمر بالإبراد، أو عندَ فقدِ شروط الإبراد؛ لأنه يختص بشدة الحر، أو لبيان الجواز. وقد يتمسك بظاهره من قال: إن فضيلة أول الوقت لا تحصل إلا بتقديم ما يمكن تقديمُه من شروط الصلاة؛ من طهارةٍ، وستر عورةٍ، وغيرهما قبلَ دخول الوقت. والأظهر: أن المراد بالحديث: التقريب، فتحصُل الفضيلة لمن لم ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 27). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 828) (مادة: دحض). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (647)، (1/ 447).

يتشاغلْ عند دخول الوقت بغير أسباب الصلاة (¬1). ويشهد لهذا فعلُ السلف والخلف، ولم يُنقل عن أحدٍ منهم أنه كان يشدِّد في هذا حتى تقع أول تكبيرةٍ في أول جزءٍ من الوقت (¬2). (و) كان - صلى الله عليه وسلم - (يصلي العصر ثم يرجع أحدنا) بعد أن يصليها معه - عليه الصلاة والسلام - (إلى رَحْله) متعلق بيرجع، والرحل -بفتح الراء وسكون الحاء المهملة-: مسكنه (¬3). (في أقصى المدينة): صفة للرحل. (والشمس حية): أي: بيضاء نقية. قال أبو المنهال -سيارُ بنُ سلامة-: (ونسيتُ ما قال)؛ أي الذي قاله أبو برزة - رضي الله عنه - (في المغرب)، كما بينه الإمام أحمد -طيَّب الله ثراه-: أن الذي نسي أبو المنهال من روايته، عن حجاج، عن شعبة (¬4). (و) عنه: (كان) - عليه الصلاة والسلام - (يستحب أن يؤخِّر العشاء)، هذا لفظ البخاري (¬5). وفي لفظٍ لهما: من العشاء (¬6). وفي رواية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخر العشاء إلى ثلث الليل (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 27). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 138). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1298) (مادة: رحل). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 425). (¬5) تقدم تخريجه عنه برقم (522)، و (574). (¬6) لم أر هذا اللفظ عندهما، والله أعلم. (¬7) وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها برقم (647)، (1/ 447)، عنده.

وفي رواية قال: كان لا يبالي بعضَ تأخيرها -يعني: العشاء- إلى نصف الليل، ولا يحب النوم قبلها، ولا الحديث بعدها (¬1). قال ابن دقيق العيد: فيه دليلٌ على استحباب التأخير قليلًا؛ لأن التبعيض يدل عليه (¬2). وتعقب: بأنه بعض مطلق لا دلالة فيه على قلة ولا كثرة. وتقدم في حديث جابر: أن التأخير إنما كان لانتظار من يجيء لشهود الجماعة (¬3). (التي تدعونها العتمة)، فيه إشارة إلى ترك تسميتها بذلك كما تقدم. وقال الطيبي: لعل تقييده الظهرَ والعشاءَ دون غيرهما؛ للاهتمام بأمرهما، فتسميتُه الظهرَ بالأولى يُشعر بتقديمها، وتسميتُه العشاءَ بالعتمة يُشعر بتأخيرها (¬4). (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (يكره النوم قبلها)، لأنه قد يكون سببًا لنسيانها، أو تأخيرها إلى خروج وقتها المختار، قاله ابن دقيق العيد (¬5). قا ل في "الفروع": ويكره النوم قبلها، وفاقًا لمالك، والشافعي. وعنه -أي: الإمام أحمد-: بلا مُوقظٍ، وفاقًا لأبي حنيفة؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - رخص لعليٍّ، رواه الإمام أحمد (¬6). ¬

_ (¬1) هي رواية مسلم المتقدم تخريجها برقم (647)، عنده. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 138). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 27). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 139). (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 111).

واحتج -يعني: الإمام أحمد- لهذه الرواية بفعل ابنِ عمر (¬1)، جزم بها القاضي في "جامعه" (¬2). وقال الترمذي: كره أكثرُ أهل العلم النومَ قبل صلاة العشاء، ورخَّصَ فيه بعضُهم في رمضان خاصة، انتهى (¬3). قال في "الفتح": ومن نُقلت عنه الرخصةُ، قُيِّدت عنه في أكثر الروايات بما إذا كان له من يوقظه، أو عرف من عادته أنه لا يستغرق وقتَ الاختيار بالنوم. وهذا جيدٌ؛ حيث قلنا: إن علة النهي: خشيةُ خروج الوقت (¬4). وحمل الطحاوي الرخصةَ على ما قبل دخول وقت العشاء، والكراهةَ على ما بعد دخوله (¬5). (و) كان - صلى الله عليه وسلم - يكره (الحديث بعدها)؛ أي: المحادثة بعد صلاة العشاء. قال في "الفروع": والحديثُ؛ أي: يكره بعدها في الجملة؛ وفاقًا، إلا لشغلٍ في أمر المسلمين، وشيءٍ يسيرٍ، والأصح: وأَهْلٍ (¬6). وفي "الإقناع": أو ضيفه (¬7)؛ لأنه خيرٌ ناجزٌ، فلا يُترك لمفسدة متوهَّمةٍ (¬8). ¬

_ (¬1) وهو ما رواه عبد الرزاق في "المصنف" (2146)، عن نافع: أن ابن عمر كان ربما رقد عن العشاء الآخرة، ويأمر أهله أن يوقظوه. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 263). (¬3) انظر: "سنن الترمذي" (1/ 314). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 49). (¬5) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 330). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 263). (¬7) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 128). (¬8) انظر: "المبدع" لأبي إسحاق ابن مفلح (1/ 348).

قيل: الحكمة في النهي عن الحديث بعد صلاة العشاء: لئلا يكون سببًا لترك قيام الليل، أو الاستغراق في الحديث، فيستغرق في النوم، فيخرج وقت الصبح، أو: لأن الحديث قد يقع فيه من اللغط واللغو ما لا ينبغي ختمُ اليقظة به. وعلله القرطبي: بأن الله جعل الليل سكنًا، وهذا يخرجه عن ذلك (¬1). (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (ينفتل)؛ أي: ينصرف (من صلاة الغداة)، أو: يلتفت إلى المأمومين بعد فراغه منها، والغداة: الصبح. وفيه: أنه لا كراهة في تسمية الصبح بذلك. قال في "الإقناع": ولا يكره تسميتها بالغداة (¬2). قال في "المبدع": في الأصح (¬3). (حين يعرف الرجل جليسه): فيه دليل التعجيل بصلاة الصبح؛ لأن ابتداء معرفة الإنسان وجهَ جليسه يكون في أواخر الغلس. وقد صرح بأن ذلك عند فراغ الصلاة، ومن المعلوم من عادته - صلى الله عليه وسلم - ترتيلُ القراءة، وتعديل الأركان، فمقتضى ذلك: أنه كان يدخل فيها مغلسًا. وادعى الزينُ بنُ المنير: أنه مخالفٌ لحديث عائشة المتقدم، حيث قالت فيه: لا يُعْرَفْنَ من الغَلَس. وتُعقب: بأن الفرق بينهما ظاهرٌ: وهو أن حديث أبي برزة يتعلَّق بمعرفة ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 271). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 128). (¬3) انظر: "المبدع" لأبي إسحاق ابن مفلح (1/ 348).

من هو جالسٌ إلى جنب المصلِّي، فهو ممكنٌ. وحديثُ عائشة متعلقٌ بمن هو مُلَفَّفٌ، مع أنه على بعدٍ، فهو بعيدٌ (¬1). (و) كان - صلى الله عليه وسلم - (يقرأ) في الصبح (بالستين) آية من القرآن العظيم (إلى المئة) من الآيات وقدرها في رواية الطبراني بسورة: الحاقة، ونحوِها (¬2)، وفي لفظ: من الستين إلى المئة (¬3). وفي لفظٍ: ما بين الستين إلى المئة (¬4). وقال الكرماني على هذه الرواية: القياس أن تقول ما بين الستين والمئة؛ لأن لفظة "بين" تقتضي الدخول على متعددٍ. قال: ويحتمل أن سكون التقدير: ويقرأ ما بين الستين وفوقها إلى المئة، فحذف لفظة "فوقها" لدلالة الكلام عليه. وفي سياق الحديث: تأدُّبُ الصغير مع الكبير، ومسارعةُ المسؤول بالجواب، إذا كان عارفًا به، والله الموفق (¬5) * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 27). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (1914)، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، ووقع عنده: كان يقرأ في الفجر: الواقعة ونحوها من السور. (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (574)، وعند مسلم برقم (461). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (516، 737)، وعند مسلم (461)، (1/ 338). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 27).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمَ الخَنْدَقِ: "مَلأَ اللهُ قُبُورَهُمْ وبُيُوتَهُمُ نَارًا، كمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: "شَغَلُونَا عنِ الصَّلاةِ الوُسْطَى؛ صَلاَةِ العَصْرِ"، ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ" (¬2). وَلَهُ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: حَبَسَ المُشْرِكُونَ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2773)، كتاب: الجهاد، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، واللفظ له، و (3885)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، و (4259)، كتاب: التفسير، باب: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، و (6033)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء على المشركين، ومسلم (627)، (1/ 436)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر، وأبو داود (409)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت صلاة العصر، والنسائي (473)، كتاب: الصلاة، باب: المحافظة على صلاة العصر، والترمذي (2984)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البقرة، وابن ماجه (684)، كتاب: الصلاة، باب: المحافظة على صلاة العصر. (¬2) رواه مسلم (627) (1/ 437)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر. ووقع عنده: " .. ثم صلاها بين العشاءين بين المغرب والعشاء".

رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلاَةِ العَصْرِ حَتَّى احْمَرتِ الشَّمْسُ، أَوِ اصْفَرَّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "شَغَلُونا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى؛ صَلاَةِ العَصْرِ، مَلا اللهُ أَجْوَافَهُمْ وقُبُورَهُمْ نَارًا"، أَوْ "حَشَا اللهُ أَجْوَافَهُمْ وقُبُورُهُمْ نَارًا" (¬1). * * * (عن) سيدنا (عليِّ بنِ أبي طالب) أميرِ المؤمنين، وأبي رَيْحانتي سيدِ العالمين، الهُمامِ الدرغامِ (- رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال يومَ الخندق) وهو غزوة الأحزاب، وكانت في الخامسة على الصحيح المعتمد عند محققي أهل المغازي والسير: (ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا،؛ يعني: المشركين. وقد استشكل هنا الحديث بأنه تضمن دعاء صدرَ من النبي - صلى الله عليه وسلم - على من يستحقه، وهو من مات منهم مشركًا، ولم يقع أحد الشقين ظاهرًا، وهو البيوت، أما القبور، فوقع في حق مَنْ مات منهم مشركًا لا محالة. ويجاب: بأن تُحمل البيوتُ على سكانها، وبه يتبين رجحانُ الرواية ¬

_ (¬1) رواه مسلم (628)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر، وابن ماجه (686)، كتاب: الصلاة، باب: المحافظة على صلاة العصر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 592)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 253)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 127)، وشرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 139)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 303)، "طرح التثريب" للعراقي (2/ 168)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 405، 8/ 195)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 203)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 393).

بلفظ: "قلوبَهم وأجوافَهم" (¬1)، كما يأتي في كلام المصنف -رحمه الله تعالى-. (كما شغلونا)؛ أي: منعونا. ولفظ البخاري: "حبسونا" (¬2). (عن) فعل صلاة (الصلاة الوسطى) تأنيث الأوسط. والأوسط: الأَعْدَلُ من كل شيء، وليس المراد به التوسُّطَ بين شيئين؛ لأن فُعْلَى معناها التفضيل، ولا يُبنى للتفضيل إلا ما يقبل الزيادة والنقصَ، والوسطُ بمعنى الخيار والعدل يقبلُهما، بخلاف المتوسط، فلا يقبلهما، فلا يُبنى منه أفعلُ تفضيل (¬3). (حتى)، أي: استمر إشغالهم لنا عنها إلى أن (غابت الشمس). (وفي لفظ لـ) لإمام (مسلم) من حديث عليٍّ - رضي الله عنه -: (شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاةِ العصر). وزاد في آخره: (ثم صلاها بين المغرب والعشاء). وفي لفظٍ لهما، من حديث علي - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاةِ الوسطى، صلاةِ العصر، ملأ الله بيوتَهم وقبورَهم نارًا" (¬4). وفي لفظٍ: "كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى، حتى غابت الشمس" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 198). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4259). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 195). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6033)، ومسلم (627)، (1/ 436). (¬5) هو لفظ مسلم المتقدم تخريجه برقم (627)، (1/ 436).

وفي بعض طرق البخاري: "حتى غابت الشمس، وهي صلاة العصر" خرجه في: الأدعية (¬1). وليس في شيء من طرقه عن علي: ثم صلى - صلى الله عليه وسلم - العصر بعدما غربت الشمس. (و) في لفظٍ (له)؛ أي: لمسلم دون البخاري في حديث (عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: حبس)؛ أي: منع (المشركون) من الأحزاب الذين تحزَّبوا وساروا مع أبي سفيان إلى المدينة؛ لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قريشٍ، وكان قائدُهم أبا سفيان، وغطفانَ، وقائدُهم عُيينة بن حصن في بني فزارة، وبني مر، وقائدهم عوفُ بنُ حارثة المُرِّيُّ، وأشجعَ، وقائدهم مسعد بن رحيلة. فكان جملةُ من وافى الخندقَ من المشركين عشرة آلاف؛ أربعةَ آلاف من قريش، والبقيةُ من غيرها. وكان الذين حرضوا الأحزاب على ذلك، نفرٌ من اليهود، منهم: سلامِ بن مِشْكَم، وابن أبي الحُقَيْق، وحُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ، وكِنانةُ بنُ الربيعِ، وهَوْذةُ بنُ قَيْس، وأبو عامرٍ الفاسقُ من الأنصار، وهو والدُ حنظلةَ الغسيلِ- رضي الله عنه -. فساروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحاصروه وأصحابَه، وكان قد أشار سلمانُ الفارسي - رضي الله عنه - بحفر الخندق، فحُفر. واشتد القتال في بعض أيام الخندق حتى اقتحم بعضُ المشركين الخندقَ، وشغلوا (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في ذلك اليوم (عن صلاة العصر). وفي السير: أنه - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيام الخندق استمر به القتال من جوانب ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (6033) عنده.

الخندق إلى الليل، ولم يُصَلِّ هو ولا أحدٌ من الصحابة الظهرَ ولا العصرَ (¬1). (حتى احمرت الشمسُ، أو اصفرت) الشمس وحينئذ يكون خرجَ وقتُ الاختيار، ودخل وقت الضرورة، ولا تؤخَّر الصلاة عن وقت الاختيار إلى وقت الضرورة. وقد يُتوهَّم من ظاهر هذا مخالفةٌ لما في حديث عليٍّ من صلاتها بين المغرب والعشاء، وليس كذلك، بل انتهى الحبس إلى هذا الوقت، ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب. وكان التأخير من حين الاصفرار إلى ما بعد المغرب؛ للاشتغال بأسباب الصلاة من نحو الطهارة أو غيرها مما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ مقتضيًا لجواز التأخير إلى ما بعد الغروب (¬2). (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شغلونا عن) فعل (الصلاة الوسطى)؛ أي: الفُضْلى، (صلاةِ العصر) بالجرِّ على أنه بدل، ويصحّ الرفع على تقدير: وهي، والنصب على أنها مفعول لفعل محذوف تقديره: أعني، ونحوه. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (ملأ الله أجوافَهم وقبورَهم)، يعني: مشركي الأحزاب (نارًا). (أو) قال: (حشا اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا). الشكُّ وقع بين لفظتي: ملأ، وحشا، وتمسك بظاهر ذلك من لم يجوِّزْ رواية الحديث بالمعنى؛ لكون ابنِ مسعود - رضي الله عنه - تردد بين اللفظتين، مع تقاربهما في المعنى، ولا حجةَ في ذلك؛ لما بين اللفظتين ¬

_ (¬1) انظر: "العلل الواردة في الأحاديث النبوية" للدارقطني (11/ 301). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 143).

من التفاوت، فإن قول: حشا الله تقتضي من التراكم وكثرة أجزاء المحشو ما لاتقتضيه ملأ. وقد قيل: إن شرط الراوية بالمعنى؛ كون اللفظين مترادفين، على أن لك أن تقول: على كل حال رواية اللفظ بعينه أفضل، فلعل ابنَ مسعود - رضي الله عنه - تحرى الأفضل، وإن لم ير المنع من الرواية بالمعنى (¬1). تنبيهان: الأول: لا يخفى أن هذه الأحاديث ناطقةٌ بأن الصلاة الوسطى هي صلاةُ العصر، وهي في البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث علي (¬2). وفي مسلم أيضاً عنه بلفظ: "كما حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس" (¬3)، يعني بالوسطى: العصر. وروى الإمام أحمد، والترمذي، من حديث سَمُرَةَ، رفعه، قال: "صلاة الوسطى: صلاة العصر" (¬4). وروى ابن جرير، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، رفعه: "الصلاةُ الوسطى: صلاة العصر" (¬5). وأخرج من طريق كُهيل بن حرملَة: سئل أبو هريرة عن الصلاة ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) تقدم تخريجه عندهم في حديث الباب. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 22)، والترمذي (182)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر، وقال: حسن. (¬5) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 559).

الوسطى، فقال: اختلفنا فيها ونحن بِفِناء بيتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفينا أبو هاشم بنُ عتبة، فقال: أنا أعلمُ لكم، فقام فاستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم خرج إلينا، فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر (¬1). ومن طريق عبد العزيز بنِ مروان: أنه أرسل إلى رجل، فقال: أيَّ شيء سمعتَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة الوسطى؟ فقال: أرسلني أبو بكر وعمر أسأله وأنا غلامٌ صغير، فقال: "هي العصر" (¬2). ومن حديث أبي مالك الأشعري، رفعه: "الصلاةُ الوسطى صلاةُ العصر" (¬3). وروى الترمذي، وابن حبان، من حديث ابن مسعود، مثلَه (¬4). وروى ابن جرير، من طريق عُروةَ بن هشام، عن أبيه، قال: كان في مُصحف عائشةَ: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وهي صلاة العصر (¬5). وأخرج، من حديث أم سلمة، وأبي أيوب، وأبي سعيد، وزيد بن ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 559)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (560)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 174)، والطبراني في "المعجم الكبير" (7198). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 560). (¬3) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 561)، والطبراني في "المعجم الكبير" (3458). (¬4) رواه الترمذي (181)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر، وقال: حسن صحيح، وابن حبان في "صحيحه" (1746). (¬5) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 555).

ثابت، وأبي هريرة، وابن عباس - رضي الله عنهم - من قولهم: إنها صلاة العصر (¬1). وقد اختلف السلف في المراد بالصلاة الوسطى على عشرين قولًا، أصحُّها كلِّها: أنها العصر، وهذا قول علي - رضي الله عنه -؛ فقد روى الترمذي، والنسائي، من طريق زِرِّ بنِ حُبيش، قال: قلنا لعبيدة: سل عليًا عن الصلاة الوسطى، فسأله، فقال: كنا نرى أنها الصبح حتى سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يومَ الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاةِ العصر" (¬2)، انتهى. قال في "الفتح": وهذه الرواية تدفع دعوى من زعم أن قوله: "صلاة العصر" مُدْرَجٌ من تفسير بعض الرواة، وهي نصٌّ في أن كونها صلاةَ العصر من كلام النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وبه قال ابن مسعود، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وأبو سعيد، وعبد الله بن عمرو، وسَمُرة، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة - رضي الله عنهم -، وهو مذهب الإمام أحمد، والأصحُّ من مذهب أبي حنيفة، وقد صار إليه معظم الشافعية، لصحة الحديث فيه. قال الترمذي: هو قولُ أكثرِ علماء الصحابة (¬3). وقال الماوردي: هو قول جمهور التابعين. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (2/ 555) وما بعدها. (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (360). ولم أره في "سنن الترمذي" من رواية زر بن حبيش، عن عبيدة، عن علي - رضي الله عنه -، والله أعلم. وإنما رواه الترمذي (2984)، من طريق أبي حسان الأعرج، عن عبيدة، به، بسياق آخر. (¬3) انظر: "سنن الترمذي" (1/ 342).

وقال ابن عبد البر: هو قول أكثر أهلِ الأثر (¬1)، وبه قال من المالكية: ابنُ حبيب، وابن العربي، وابن عَطِية (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "الفتاوى المصرية": الصلاةُ الوسطى هي العصرُ بلا شك عند من عرف الأحاديث المأثورة؛ ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث، وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة، فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم، انتهى (¬3). قال في "الإنصاف": نص الإمام أحمد أن الصلاة الوسطى هي العصر، وقطع به الأصحاب. قال: ولا أعلم عنه ولا عنهم فيها خلافًا، انتهى (¬4). قال ابن دقيق العيد: اختلفوا في تعيين الصلاة الوسطى؛ فمذهب أحمد، وأبي حنيفة - رضي الله عنهما -: أنها العصر؛ ودليله: هذا الحديث مع غيره، وهو قويٌّ في المقصود، وهذا المذهب هو الصحيح في المسألة، انتهى (¬5). وهو مذهب النخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، والكلبي، ومقاتل، وداود، وابن المنذر. قال النووي في "شرح المهذب": الصحيح من المذاهب فيها مذهبان: ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 289). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 196). (¬3) انظر: "الفتاوى المصرية" (1/ 224)، و"مجموع الفتاوى" كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 106). (¬4) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 432). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 139).

الصبح، والعصر. قال: والذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر، وهو المختار، انتهى (¬1). وقال الزركشي في "الخادم" (¬2): كان بعض الفضلاء يتوقف في نسبة ذلك إلى الشافعي؛ فإن الأحاديث المصرِّحةَ بأنها العصر، من جملة من رواها الشافعي، ولم يخفَ عنه أمرُها مع شهرتها. وقد نقل البيهقي عنه في "المعرفة": أنه قال في "سنن حرملة": حديثُ عائشة يدل على أنها ليست العصر، كذا قال (¬3). ولا يخفى على ذي لبٍّ وبصيرةٍ واطلاع على الأحاديث الصحيحة الكثيرة أنها العصرُ بلا ريبٍ ولا نُكْرٍ، ولاسيما مع ما ورد من الوعيد الشديد على مَنْ تهاونَ في شأنها مما لم يأت مثلُه في غيرها؛ كما في حديث بريدة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تركَ صلاةَ العصر، فقد حَبِطَ عملهُ" رواه البخاري، والنسائي، وابن ماجه، ولفظه: "بَكِّروا بالصَّلاةِ في يومِ الغَيْمِ؛ فإنه من فاتَتْهُ صلاةُ العصرِ، حَبِطَ عملُه" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 65). (¬2) هو كتاب: "خادم الرافعي والروضة" في الفروع، لبدر الدين محمد بن بهادر الزركسي الشافعي، المتوفى سنة (749 هـ). ذكر في "بغية المستفيد": أنه أربعة عشر مجلدًا، كل مجلد منه خمس وعشرون كراسة، وذكر أنه شرح فيه مشكلات "الروضة"، وفتح مقفلات "فتح العزيز"، وهو على أسلوب التوسط للأذرعي، وأخذه جلال الدين السيوطي يختصر من الزكاة إلى آخر الحج، ولم يتم، وسماه: "تحصين الخادم". انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 698). (¬3) انظر "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (2/ 305) حديث رقم (2834). (¬4) رواه البخاري (528)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: إثم من ترك العصر، والنسائي (474)، كتاب: الصلاة، باب: من ترك صلاة العصر، وابن ماجه (694)، كتاب: الصلاة، باب: ميقات الصلاة في الغيم.

وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تركَ صلاةَ العصرِ مُتَعَمِّدًا، فقد حبطَ عملُه" رواه الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح (¬1). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الذي تفوتُه صلاةُ العصر، فكأنَّما وُتِرَ أهلَه ومالَه" رواه الإمام مالك، والبخارى، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة في "صحيحه"، وزاد في آخره: قال مالك: تفسيرُه ذهابُ الوقت (¬2). وعن نوفل بن معاوية مثلُه، رواه النسائي (¬3). قوله: "فكأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه" معناه: أُصيب بأهله وماله، ومثلُه قوله - تعالى-: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]. وقيل: "وتر" في الآية بمعنى: نقص. وقيل: في الحديث معناه: سُلِبَ أهلَه وماله. يقال: وترتُ الرجلَ: إذا قتلتُ له قتيلًا، أو أخذتُ ماله. وحقيقة الوتر كما قال الخليل: هو الظلمُ في الدم. فعلى هذا استعمالُه ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 442)، بلفظ: "من ترك صلاة العصر متعمدًا حتى تفوته، فقد أحبط عمله". (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 11)، ومن طريقه: البخاري (527)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: إثم من فاتته العصر، ومسلم (626)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: التغليظ في تفويت صلاة العصر، وأبو داود (414)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت صلاة العصر، والنسائي (512)، كتاب: المواقيت، باب: التشديد في تأخير العصر. ورواه الترمذي (175)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في السهو عن وقت صلاة العصر، وابن ماجه (685)، كتاب: الصلاة، باب: المحافظة على صلاة العصر، وابن خزيمة في "صحيحه" (335)، من طرق أخرى. (¬3) رواه النسائي (478)، كتاب: الصَّلاة، باب: صلاة العصر في السفر.

في المال مجازٌ، لكن قال الجوهري: الموتور: هو الذي قُتل له قتيل فلم يدرك بدمه. تقول: منه وَتَر، وتقول أيضاً: وَتَرهَ حقَّه؛ أي: انتقصه (¬1). وقيل: الموتور: من أُخذ أهلُه ومالُه وهو ينظر، وذلك أشدُّ لِغَمِّه (¬2). ومذهب مالك، والشافعي: أن الصلاة الوسطى صلاةُ الفجر، واحتجَّ لهما: بأن في مصحف عائشةَ - رضي الله عنها -: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر (¬3)، وكذا في مصحف حفصة (¬4)، وغيرهما. وفيه: أن في مصحف عائشة: وهي العصر. وأيضًا هذا لا ينهض الاستدلالُ به كما لا يخفى، واحتجَّ لهما أيضاً بقوله- تعالى-: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، ولا حجةَ فيه؛ لأن القنوتَ يطلق بالاشتراك على القيام، وعلى السكوت، وعلى الدعاء، وعلى كثرة العبادة، فلا يتعين القنوتُ الذي هو في صلاة الصبح. واحتجوا أيضاً بمَظِنَّةِ المشقة، وهو معارض بمشقة الاشتغال في صلاة العصر. قال ابن دقيق العيد: ولو لم يعارض بذلك، لكان المعنى الذي ذكروه في صلاة الصبح ساقطَ الاعتبار مع النص على أنها العصر. قال: وللفضائل والمصالح مراتبُ لا يحيط بها البشر، فالواجب اتباعُ النصوص، انتهى (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 843)، (مادة: وتر)، وعنده: تقول منه: وَتَرَه يَتِرُه وَتْرا وتِرَةً، وكذلك: وتَرَهُ حقَّه؛ أي: نَقَصَه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 30). وانظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 147). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 139). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 140 - 141)،

وقيل: إنها الظهر، وهو القول الثاني لأبي حنيفة، ورجحه الجلال السيوطيُّ في رسالةٍ له، والصحيحُ المعتمد: أنها العصر، والله تعالى أعلم. الثاني: ربما احتج من قال بأن آخر وقت الاختيار لصلاة العصر ما لم تحمرَّ الشمس، بهذا الحديث، وتقدم أن معتمد المذهب-: أن آخره صيرورة ظلِّ الشيء مثليه سوى ظل الزوال، وهو اختيار الخِرَقي، وأبي بكر، والقاضي، وكثيرٍ من أصحابه، وقدَّمه في "المحرر" (¬1)، و"الفروع" (¬2)، و"الإقناع" (¬3)، وقطع به في "المنتهى" (¬4)، وغيره؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: "الوقتُ ما بين هذين" (¬5). وعن الإمام أحمد رواية: حتى تصفرَّ الشمس، اختاره جماعة. قال في "الفروع": وهي أظهرُ؛ خلافًا للشافعي (¬6)، وصحَّحها في "الشرح الكبير"، وابن تميم، وجزم بها في "الوجيز"، واختارها الموفق، والمجد (¬7)؛ لما روى ابن عمر [و]- رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وقتُ العصرِ ما لم تصفرَّ الشمسُ" رواه مسلم (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر في الفقه" للمجد ابن تيمية (1/ 28). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 261). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 127). (¬4) انظر: "منتهى الإرادات" لابن النجار الفتوحي (1/ 151). (¬5) رواه أبو داود (393)، كتاب: الصلاة، باب: في المواقيت، والترمذي (149)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: حسن صحيح، وغيرهما. (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 261). (¬7) وانظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 252). (¬8) رواه مسلم (612)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: أوقات الصلوات الخمس.

قال في "الفروع": وآخرُه -أي: وقت صلاة العصر المختار- حتى يصير فيء الشيء مثلَيه سوى ظِلِّ الزوال. وعنه: حتى تصفر الشمس، اختاره جماعةٌ، وهي أظهر؛ خلافًا للشافعي. وفي "التلخيص": ما بينهما وقتُ جواز، ثم هو وقتُ ضرورة إلى غروبها؛ اتفاقًا، قال: وتعجيلُها أفضل؛ وفاقًا لمالك، والشافعي. وقيل: إلا مع غيم؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والمذهب: الأفضلُ تعجيلُها بكل حال (¬1). فائدة: يُسن لمن صلى العصرَ جلوسُه بعدها في مصلَّاه إلى غروب الشمس، وبعدَ فجرٍ إلى طلوعها؛ لما روى الإمام أحمد بإسنادٍ حسن، عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأَنْ أقعدَ أذكرُ اللهَ وأُكَبِّرُهُ وأَحْمَدُهُ وأُسَبِّحُهُ وأُهَلِّلُهُ حتى تطلعَ الشمسُ، أحبُّ إلي من أن أُعْتِقَ رَقَبتينِ من ولدِ إسماعيل، ومنَ العصرِ حتى تَغْرُبَ الشمسُ، أَحَبُّ إليَّ من أن أُعتقَ أربعَ رقابٍ من ولدِ إسماعيلَ" (¬2). وروى أبو داود، من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ أقعدَ معَ قومٍ يذكرون اللهَ من صلاةِ الغَداةِ حتى تطلعَ الشمسُ، أحبُّ إليَّ من أن أُعتق أربعةً من ولدِ إسماعيلَ، ولأَنْ أقعدَ مع قومٍ يذكرونَ الله من صلاةِ العصرِ إلى أن تغربَ الشمسُ، أَحَبُّ إليَّ من أن أُعتقَ أربعة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 261). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 255)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8028)، وفي "الدعاء" (1882). (¬3) رواه أبو داود (3667)، كتاب: العلم، باب: في القصص.

ورواه أبو يعلى، وقال في الموضعين: "أَحَبُّ إليَّ من أَنْ أُعتقَ أربعةً من ولدِ إسماعيلَ، ديةُ كلِّ رجلٍ منهم اثنا عشرَ ألفًا" (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى في "مسنده" (3392)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 466)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 38).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: أَعْتَمَ النَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالعِشَاءِ، فَخَرَجَ عُمَرُ - رَضِي اللهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: الصَّلاةَ يا رَسُولَ اللهِ! رَقَدَ اَلنِّسَاءُ والصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ وَرَأْسُه يَقْطُرُ، يقولُ: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، أَوْ عَلَى النَّاسِ، لأَمَرْتُهُمْ بِهَذِهِ الصَّلاَةِ، هَذِهِ السَّاعَةَ" (¬1). * * * (عن) أبي العباس حبرِ هذه الأمة وعالمِها (عبدِ الله بن عباس - رضي الله عنهما -، قال: أَعتمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: دخل في العتمة، كما يقال: أصبحَ وأمسى وأظهرَ. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6812)، كتاب: التمني، باب: ما يجوز من اللَّوِّ، واللفظ له، ومسلم (624)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: وقت العشاء وتأخيرها، والنسائي (531)، كتاب: المواقيت، باب: ما يستحب من تأخير العشاء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 606)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 136)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 144)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 311)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 50، 13/ 229)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 68، 25/ 8).

ويطلق أعتم بمعنى آخر، لكن الأول أظهرُ هنا، كما في "الفتح" (¬1). (بالعشاء)؛ أي: بصلاتها. يقال: عَتَم الليلُ، يَعْتِم -بكسر التاء-: إذا أظلم، والعتمة: الظُّلْمة. وقيل: إنها اسم لثلث الليل الأول بعد غروب الشفق، نُقل ذلك عن الخليل (¬2). (فخرج) الإمامُ (عمرُ) بن الخطاب أميرُ المؤمنين (- رضي الله عنه -). وفي لفظٍ (¬3): أعتمَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلةٍ بالعِشاء حتى رقد ناسٌ واستيقظوا، ورقدوا واستيقظوا، فقام عمر بن الخطاب (فقال: الصلاة) - بالنصب- بفعل مضمر تقديره مثلًا: صلِّ الصلاة (¬4)، وساغ هذا الحذف؛ لدلالة السياق عليه. (يا رسول الله! رقد). وفي لفظٍ: نام (¬5) (النساء والصبيان)؛ أي: الحاضرون في المسجد، وإنما خصهم بذلك؛ لأنهم مَظِنَّةُ قلة الصبر عن النوم، ومحلُّ الشفقة والرحمة؛ بخلاف الرجال (¬6). (فخرج) النبي - صلى الله عليه وسلم - (ورأسه) الشريفُ؛ أي: شعرُ رأسه (يقطر) ماء. وفي لفظٍ: قال ابن عباس: فخرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، كأني أنظر إليه الآن ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 46). (¬2) انظر: "العين" للخليل بن أحمد (2/ 82)، وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 144). (¬3) هو لفظ مسلم المتقدم تخريجه في حديث الباب. (¬4) انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 65). (¬5) رواه البخاري (541)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل العشاء، من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 48).

يقطر رأسه ماءً، واضعًا يده على شق رأسه. قال ابن جريج: فاستثبتُ عطاء: كيف وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - على رأسه يده، كما أنبأه ابن عباس؟ فبدَّد لي عطاء بين أصابعه شيئًا من تبديد؛ أي: تفريق، ثم وضع أطراف أصابعه على قرن الرأس، ثم صبَّها؛ أي:- بالصاد المهملة والموحدة -كما صوبه عياض، قال: لأنه يصف عَصرَ اللِّمَّة من الشعر باليد (¬1)، وفي لفظ البخاري:-بالضاد المعجمة والميم-، ووجه لها في "الفتح": بأن ضم اليد صفةُ العاصر يُمِرُّها كذلك على الرأس، حتى مسَّت إبهاميه طرفُ الأذن مما يلي الوجه، وروي بالتثنية والإفراد في إبهامه، وهو منصوب بالمفعولية، وفاعله: طرفُ الأذن، ويروى: إبهامُهُ -بالرفع- على أنه فاعل، وطرفَ منصوب على المفعولية، ثم على الصدغ وناحية اللحية، لا يقصر ولا يبطش بشيء إلا كذلك (¬2)، أي: لا يبطىء، ولا يستعجل (¬3). (يقول) - صلى الله عليه وسلم -: (لولا أن أشق على أمتي) إن أمرتُهم بتأخير صلاة العشاء. (أو) قال: لولا أن أشق (على الناس)؛ يعني: من أمته إن أخروها، (لأمرتهم) بتأخير (الصلاة) حتى يصلوها (هذه الساعة). وفي لفظٍ: "لأمرتهم أن يصلوها" (¬4). وفي روايةٍ قال: "إنه لَلْوَقْتُ، لولا أَنْ أَشُقَّ على أُمَّتي" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 606). (¬2) رواه البخاري (545)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: النوم قبل العشاء لمن غلب، وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (642). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 51). (¬4) هو لفظ البخاري برقم (545)، ولفظ مسلم أيضاً برقم (642). (¬5) هي رواية البخاري المتقدم تخريجها برقم (6812).

وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة، وغيرهم، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العتمة، فلم يخرج حتى مضى نَحْوٌ من شطر الليل، فقال: "إن الناسَ قد صَلَّوْا وأَخذوا مضاجِعَهم، وإنكم لَنْ تَزالوا في صلاةٍ ما انتظرتُمُ الصلاةَ، ولولا ضعفُ الضعيفِ، وسقمُ السَّقيمِ، وحاجةُ ذي الحاجةِ، لأَخَّرْتُ هذه الصلاةَ إلى شطرِ الليل" (¬1). وروى الترمذيُّ وصححه، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "لولا أن أَشُقَّ على أُمتي، لأمرتُهم أن يؤخِّروا العشاء -أي: صلاتها- إلى ثلثِ الليل، أو نصفِه" (¬2). ورواه الإمام أحمد بلفظ: "لأخرتُ عشاءَ الآخرةِ إلى ثلثِ الليلِ الأول"، ورواه ابن ماجه (¬3). وفي البخاري: وكانوا يصلون العشاء فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول (¬4). فعلى هذا من وجد به قوةً على تأخيرها، ولم يغلبه النوم، ولم يشقَّ على ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 5)، وأبو داود (422)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت العشاء الآخرة، والنسائي (538)، كتاب: المواقيت، باب: آخر وقت العشاء، وابن خزيمة في "صحيحه" (345). (¬2) رواه الترمذي (167)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في تأخير صلاة العشاء الآخرة. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 509)، وابن ماجه (619)، كتاب: الصلاة، باب: وقت صلاة العشاء. (¬4) رواه البخاري (826)، كتاب: صفة الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، عن عائشة - رضي الله عنها -.

أحد من المأمومين، فالتأخيرُ في حقه أفضلُ. وقد قرر النووي ذلك في "شرح مسلم" (¬1). وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعية، وغيرهم (¬2). وهذا مذهب الإمام أحمد. قال في "الإقناع" كغيره: وتأخيرها إلى آخر وقتها المختار أفضلُ، ما لم يَشُقَّ على المأمومين أو بعضِهم، أو يؤخِّرَ مغربًا لغيمٍ أو جمعٍ، فتعجيلُ العشاء إِذَنْ أفضل (¬3). وقال في "تنقيح التحقيق": يُستحب تأخير العشاء؛ خلافًا لأحد قولي الشافعي (¬4). ونقل ابن المنذر، عن الليث، وإسحاق: أن المستحب تأخيرُ العشاء إلى قبل الثلث (¬5). وقال الطحاوي: يُستحب إلى الثلث (¬6). وبه قال مالك أيضاً، وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد. وقال في القديم: التعجيلُ أفضل، وكذا قال في "الإملاء"، وصححه النووي وجماعة، وقالوا: إنه مما يُفتى به على القديم. وتُعقب بأنه ذكر في "الإملاء"، وهو من كتبه الجديدة. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 138). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 48). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 128)، ووقع في المطبوع: " ... فتعجيل العشاء فيهنَّ أفضل". (¬4) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 268). (¬5) انظر: "الأوسط" لابن المنذر (2/ 369). (¬6) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 146).

قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": والمختار من حيث الدليل التأخيرُ، ومن حيث النظر التفصيلُ، انتهى (¬1). تنبيهان: الأول: قد عُلم أن لصلاة العشاء ثلاثةَ أوقات: وقت جواز: وهو من غيبوبة الشفق الأحمر إلى قبل ثلث الليل. ووقت أفضلية: وهو فعلها في آخر الثلث الأول. ووقت ضرورة: وهو من خروج الوقت المختار، وهو الثلث الأول على معتمد المذهب. وعنه: من النصف، اختاره الموفق، والمجد، وجمعٌ. قال في "الفروع": وهي أظهر؛ وفاقًا لأبي حنيفة في قول. زاد في "التلخيص": هذا -أي: ما بين الثلث والنصف- وقتُ جواز، انتهى (¬2). الثاني: لا يجوز تأخيرُ الصلاة ولا بعضِها إلى وقت ضرورة بلا عذر، على الصحيح من المذهب. قال في "الفروع": ويحرم التأخير بلا عذر إلى وقت ضرورة في الأصح (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 49). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 263). قال المرداوي في "تصحيح الفروع" (1/ 432): ليس في "التلخيص" ذلك، بل الذي فيه: إلى طلوع الفجر، وقد نقله عنه المصنف -يعني: ابن مفلح- بعد ذلك، والظاهر: أنه ذهول، والله أعلم. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 400).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، وحَضَرَ العَشَاءُ، فَابْدَؤُوا بِالعَشَاءِ" (¬1). * * * (عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصِّديقةِ (- رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -): أنه (قال: إذا أقيمت الصلاة). قال ابن دقيق العيد: الألف واللام في الصلاة لا ينبغي أن تُحمل على ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5148)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، و (5148)، كتاب: الأطعمة، باب: إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه، واللفظ له، ومسلم (558)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، وابن ماجه (935)، كتاب: الصلاة، باب: إذا حضرت الصلاة ووضع العشاء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 505)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 492)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 45)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 147)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 315)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 102)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 159)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 197)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 405).

الاستغراق، ولا على تعريف الماهية، بل ينبغي أن تحمل على المغرب؛ لقوله: "فابدؤوا بالعَشاء" (¬1). ويترجح حملُه على المغرب؛ لقوله في الرواية الأخرى: "فابدؤوا به قبل أن تصلوا المغرب" (¬2). والحديث يفسر بعضه بعضًا. وفي رواية صحيحة: "إذا وُضع العشاء وأحدُكم صائم" (¬3)، فابدؤوا به قبل أن تصلوا. (وحضر العَشاء) -بفتح العين المهملة والشين المعجمة والمد- خلاف الغَداء. قال العراقي: والمراد بحضوره: وضعُه بين يدي الآكِل، لا استواءُ الطعام، أو غرفُه في الأوعية؛ كما في حديث ابن عمر المتفق عليه: "إذا وُضِع" (¬4)، وفي لفظٍ من حديث عائشة: "إذا قُرِّبَ" (¬5). والفرق بين لفظتي: وُضع، وحضر: أن الحضور أعمُّ من الوضع، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 147). (¬2) رواه البخاري (641)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، ومسلم (557)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وعندهما: " .. قبل أن تصلوا صلاة المغرب". (¬3) رواه ابن حبان في "صحيحه" (2068)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (5075)، وتتمته: "فليبدأ بالعشاء قبل صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم". (¬4) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬5) ليس في حديث عائشة - رضي الله عنها -: "إذا قرب"، وإنما هو حديث أنس- رضي الله عنه -، كما رواه مسلم (557)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال.

فيُحمل قوله: "حضر"؛ أي: بين يديه؛ لتأتلف الروايات لاتحاد المخرج. ويؤيده حديث أنس في "البخاري": "إذا قُدِّم العَشاءُ" (¬1)، ولمسلم: "إذا قُرَبَ" (¬2). وعلى هذا، فلا يناط الحكم بما إذا حضر العشاء، لكنه لم يقرَّب للأكل كما لو لم يُغْرَف (¬3). (فابدؤوا بالعَشاء) ندبًا كما حمله الجمهور، ثم اختلفوا؛ فمنهم من قيده بمن كان محتاجًا إلى الأكل، وهذا المشهور عندنا كالشافعية. قال في "الفروع": وابتداؤها؛ يعني: الصلاة؛ أي: يكره ذلك إذا كان تائقًا إلى طعام، اتفاقًا، ولو كثر، خلافًا لمالك في رواية عنه، قال: والمعنى يقتضيه (¬4). واحتج صاحب "المحرر" في المسألة بقول أبي الدرداء: مِنْ فقهِ الرجل إقبالُه على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ، رواه الإمام أحمد في "الزهد"، والبخاري في "تاريخه" (¬5). قال: وذكر جماعة المسألة بحضرة طعام، وهو ظاهر الأخبار. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (641)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 160)، ووقع في المطبوع: "يقرب" بدل "يغرف". (¬4) أي: المعنى يقتضي الكراهة ولو كثُر. (¬5) لم أقف عليه عند الإمام أحمد في "الزهد"، ولا عند البخاري في "تاريخه". وقد رواه ابن المبارك في "الزهد" (ص: 402)، ومن طريقه: محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (134). وعلقه البخاري في "صحيحه" (1/ 238). وانظر: "تغليق التعليق" لابن حجر (2/ 283).

قال الجوهري: بحضرة فلان؛ أي: بمشهد منه (¬1)، وهو مثلث الحاء، انتهى (¬2). وفي "شرح الوجيز": ويكره أن يصلي بحضرة طعام يشتهيه (¬3). وقال ابن نصر الله: وإن كان تائقًا إلى شراب أو جماع، ما الحكم؟ لم أجده، والظاهر: الكراهة، انتهى (¬4). وقد تعشى ابن عمر وهو يسمع قراءة الإمام (¬5). وقال ابن عباس: لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيءٌ، وبهذا قال الشافعي، وإسحاق، وابن المنذر. وقال مالك: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعامًا خفيفًا (¬6). ولنا: حديث عائشة، وما ذكرنا من الأحاديث؛ ولأنه إذا قدم الصلاة على الطعام، اشتغل قلبه عن خشوعها، ولو خشي فوات الجماعة. ومحله: إذا كانت نفسه تتوق إليه، أو يخشى فواته، أو فوات بعضه إن تشاغل بالصلاة. أو يكون حاجة إلى البداية به لوجهٍ من الوجوه، فإن لم يفعل، وبدأ بالصلاة، صحت في قولهم جميعًا، كما حكاه ابن عبد البر؛ لأن البداية ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 632)، (مادة: حضر). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 430). (¬3) وانظر: "الروض المربع" للبهوتي (1/ 187). (¬4) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 93). (¬5) رواه البخاري (5147)، كتاب: الأطعمة، باب: إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه. (¬6) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 364).

بالطعام رخصة، فإن لم يفعلها، صحت صلاته كسائر الرخص (¬1). ومنعت الصحةَ الظاهريةُ أخذًا بظاهر الحديث في تقديم الطعام على الصلاة. وأهل المذاهب من غيرهم: نظروا إلى المعنى، وفهموا أن العلة التشويش لأجل التشوق إلى الطعام. وقوى ذلك رواية: "وأحدكم صائم" (¬2). وقال أصحاب مالك: يبدأ بالصلاة إن لم يكن متعلق النفس بالأكل، أو كان متعلقًا به، لكن لا يعجله عن صلاته، فإن كان يعجله، بدأ بالطعام، واستحب له الإعادة (¬3). وادعى ابن حزم من الظاهرية أن في الحديث دليلًا على امتداد الوقت في حق من وضع له الطعام، ولو خرج الوقت المحدود، وقال مثل ذلك في حق النائم والناسي (¬4). واستدل جماعة من أهل العلم بحديث أنس - رضي الله عنه - على امتداد وقت المغرب (¬5). واعترض ذلك ابنُ دقيق العيد بأنه إن أُريد بذلك مطلقُ التوسعة، فهو صحيح، وليس هو حينئذ محلَّ الخلاف المشهور، وإن أُريد بذلك التوسعةُ إلى غروب الشفق، ففي الاستدلال نظر؛ لأن بعض من ضَيَّقَ وقتَ المغرب ¬

_ (¬1) انظر: "المبدع " لأبي إسحاق ابن مفلح (1/ 479). (¬2) تقدم تخريجه. وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 147). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 160). (¬4) انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 47). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 61).

جعلَه مقدراً بزمان يدخل فيه مقدار ما يتناول لُقيماتٍ يكسر بها سَوْرَة جوعه. ثم قال: على أن الصحيح الذي نذهب إليه أن وقتها موسَّع إلى غروب الشفق، انتهى (¬1). والذي اعتمده علماؤنا: أن للمغرب وقتين؛ وقت اختيار: وهو إلى ظهور النجم، وما بعده إلى آخر وقتها: وقت كراهة، ويمتد وقتها إلى مغيب الشفق الأحمر (¬2). فائدتان: الأولى: قال الإمام الحافظ ابن الجوزي: ظن قومٌ أن هذا -يعني: البداية بالطعام على الصلاة- من باب تقديم حق العبد على حق الله، وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الحق؛ ليدخل الخلق في عبادته بقلوب مقبلة. ثم إن طعام القوم كان شيئًا يسيرًا لا يقطع عن لحاق الجماعة غالبًا (¬3). الثانية: قال في "الفتح": ما يقع في بعض كتب الفقه: "إذا حضر العِشاء والعَشاء، فابدؤوا بالعَشاء"، لا أصل له في كتب الحديث بهذا اللفظ، كما في "شرح الترمذي" لأبي الفضل -يعني: شيخ العسقلاني، وهو الحافظ العراقي-. قال في "الفتح": لكن رأيت بخط الحافظ قطب الدين: أن ابن أبي شيبة أخرج، عن إسماعيل -وهو ابن علية-، عن ابن إسحاق، قال: حدثني ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 147). (¬2) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 253). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 162).

عبد الله بن رافع، عن أم سلمة مرفوعًا: "إذا حضر العَشاء وحضرتِ العِشاء، فابدؤوا بالعَشاء". فإن كان ضَبَطَه، فذلك، وإلا، فقد رواه الإمام أحمد في "مسنده"، عن إسماعيل بلفظ: "وحضرتِ الصلاةُ" (¬1). قال الحافظ: ثم راجعت "مصنف ابن أبي شيبة" (¬2)، فرأيت الحديث فيه كما أخرجه الإمام أحمد (¬3). وفي الحديث: دليلٌ على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت (¬4)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 291). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7913). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 162). (¬4) المرجع السابق، (2/ 161)، نقلًا عن ابن دقيق في "شرح عمدة الأحكام" (1/ 148).

الحديث الثامن

الحديث الثامن وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: نَحْوُهُ (¬1). وَلِمُسْلِمٍ عَنْهَا، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا صَلاَةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (642)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة، و (5147)، كتاب: الأطعمة، باب: إذا حضر العشاء فلا يعجل عن عشائه، ومسلم (559)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله، وأبو داود (3757)، كتاب: الأطعمة، باب: إذا حضرت الصلاة والعشاء، والترمذي (354)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء، وابن ماجه (934)، كتاب: الصلاة، باب: إذا حضرت الصلاة ووضع العشاء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 241)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 148)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 164)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 160)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 198). وانظر: مصادر الشرح المتقدمة في الحديث السابق. (¬2) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (560)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله، وأبو داود (89)، كتاب: الطهارة، باب: أيصلي الرجل وهو حاقن؟. =

(وعن) عبد الله (ابن) أميرِ المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (- رضي الله عنهما -؛ نحوُه)، أي: مثل حديث أم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها - الذي تقدم. ولفظه: قال ابن عمر - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وضع عَشاءُ أحدِكم، وأقيمتِ الصلاةُ، فابدؤوا بالعَشاء، ولا يَعْجَلَن حتى يفرغَ منه". زاد البخاري: وكان ابن عمر يوضع له الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه ليسمع قراءة الإمام. (ولـ) لإمام (مسلم عنها)؛ أي: عائشة - رضي الله عنها -، (قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة)؛ أي: كاملة، بل مكروهة، يعني: لا كمال لصلاة من (بحضرة طعام)، وهو يريد أكله؛ لاشتغال باله به، وذهاب كمال خشوعه، فيكره له الصلاة حينئذ، (ولا) صلاة كاملةً للشخص، و (هو يدافعه) مفاعَلَة من الدفع (الأخبثان)، وهما الغائط والبول، كما جاء مصرَّحًا به في بعض الأحاديث (¬1)، كأنهما يدفعان أنفسَهما؛ ليُفتح لهما المخرجُ فيبرزان، ويدفعهما الشخص بضم المخرج، وانضمام فخذيه ليدفعهما إلى الداخل، وهذا حقيقة المفاعلة. ولا شك أن هذه الحالة تُنقص الخشوع، أو تذهبه بالكلية، فإن أدى ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 45)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 493)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 165)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 46)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 148)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 316)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 152). (¬1) كما في رواية ابن حبان في "صحيحه" (2073).

ذلك إلى الإخلال بركن أو شرط أو واجب في الصلاة، فَسَدت الصلاةُ بذلك الإخلال، وإلا، فالمشهور فيه الكراهة (¬1). قال الإمام ابن مفلح في "الفروع": ويكره ابتداؤها -يعني: الصلاة- مع مدافعة أحد الأخبثين؛ وفاقًا، وعنه -يعني: الإمام أحمد-: يعيد مع المدافعة، وعنه: إن أزعجه. وذكر ابن أبي موسى: أنه الأظهر، وعن الإمام مالك كالروايات (¬2). وفي "النكت": لم أجد أحدًا صرح بكراهة صلاة من طرأ عليه ذلك، ولا من طرأ عليه التوقان إلى الأكل في أثناء الصلاة (¬3). والحاصل: أنه متى كان الشخص حاقنًا، كُرهت له الصلاة، ولو خاف فوتَ الجماعة. قال في "شرح المقنع": لا نعلم فيه خلافًا، وهو قول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي. فإن خالف، وفعل، صحت صلاته؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي. وقال مالك: أَحَبُّ إلي أن يعيدَ الصلاة إذا شغله ذلك؛ لظاهر الخبر (¬4). وأنه قال: يعيد في الوقت وبعده، وتأوله بعض أصحابه على أنه إن شغله حتى لا يدري كيف يصلي، فهو الذي يعيد مطلقًا، وأما إن شغله شغلًا خفيفًا لم يمنعه من إقامة حدودها، وصلى ضامًّا بين وَرِكيه، فهذا يعيدُ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 148). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 430). (¬3) نقله المرداوي في "الإنصاف" (2/ 92). (¬4) انظر: "الشرح الكبير" لشيخ الإسلام ابن أبي عمر (1/ 603).

في الوقت فقط (¬1)، لعله ندبًا إن لم يُخِلَّ بركن ولا شرط. وإلا، فقد قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لو صلى بحضرة الطعام، فأكمل صلاته، تجزئه، وكذلك إذا صلى حاقنًا (¬2)، ومراد ابن عبد البر: ما عدا أهل الظاهر؛ فإنهم قالوا ببطلانها إذن، والله أعلم. تنبيهات: الأول: مثل مدافعة الأخبثين أن يصلي مع ريح محتبسة، على الصحيح من المذهب (¬3). قال في "المطلع": هي في معنى مدافعة أحد الأخبثين (¬4). الثاني: لإيراد عائشة - رضي الله عنها - هذا الحديثَ سببٌ، وهو ما روى مسلم، عن ابن أبي عتيق، قال: تحدثت أنا والقاسم عند عائشة حديثًا، وكان القاسم رجلًا لَحّانًا، وكان لأم ولد، فقالت له عائشة: مالكَ لا تحدِّثُ كما يحدِّث ابن أخي هذا؟ أما إني قد علمت من أين أُتيت، هذا أدبته أمه، وأنت أدبتك أمك، قال: فغضب القاسم، وأضبَّ عليها، فلما رأى مائدة عائشة قد أُتي بها، قام، قالت: أين؟ قال: أُصلي، قالت: اجلس غُدَرُ! إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، فذكرته (¬5). قولها: اجلس غُدَرُ! أي: يا غدر! فحذفَتْ حرفَ النداء، وغُدَرُ معدولٌ عن غادر للمبالغة، يقال للذكر: غُدَرُ، والأنثى: غَدارِ كقطامي، وهما ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 148 - 149)، (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (22/ 206). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 430)، و"الإنصاف" للمرداوي (2/ 92). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 86). (¬5) تقدم تخريجه في حديث الباب.

مختصان بالنداء في الغالب، كما في "النهاية" (¬1). الثالث: حمل بعضهم النهيَ عن الدخول في الصلاة مع مدافعة الأخبثين: على أن خروج النجاسة عن مقرها يجعلها كالبارزة، ويوجب انتقاضَ الطهارة، وتحريم الدخول في الصلاة من غير التأويل الذي أشرنا إليه أولًا، وهو الإخلال ببعض الشروط أو الأركان، وهو حملٌ بعيد؛ لأنه إحداثُ سبب آخرَ من نواقض الطهارة من غير دليلٌ صريح؛ لأن نقض الطهارة منوط بإخراج الحدث وبروزه إلى الخارج، وهذا ظاهر، والله أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 345)، وعنده: "كقطامِ" بدل "كقطامي"، وهو الصواب. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 149).

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قالَ: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيُّون، وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، وبَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغرُبَ (¬1). ¬

_ (¬1) تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (556، 557)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، واللفظ له، ومسلم (826)، (1/ 556 - 567)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وأبو داود (1276)، كتاب: الصلاة، باب: من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة، والنسائي (562)، كتاب: المواقيت، باب: النهي عن الصلاة بعد الصبح، والترمذي (183)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فىِ كراهية الصلاة بعد العصر وبعد الفجر، وابن ماجه (1250)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 112)، "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 296)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 253)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 110)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 150)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 320)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 258)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 66)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 58)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 76)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 156).

(عن) أبي العباس حبر هذه الأمة (عبدِ الله بنِ عباس - رضي الله عنهما -، قال: شهد عند [ي])؛ أي: أعلمني وأخبرني، ولم يرد شهادةَ الحكم (رجال مرضيون)؛ أي: لا شكَّ في صدقهم ودينهم، (وأرضاهم عندي) الإمامُ (عمرُ) أميرُ المؤمنين ابن الخطاب - رضي الله عنه -. وفي رواية الإسماعيلي، من طريق يزيد بن زُرَيع، عن همام: فيهم عمر (¬1). وفي رواية شعبة: حدثني رجال أحبُّهم إليَّ عمرُ (¬2). وفي رواية: حدثني ناسٌ أعجبُهم إليَّ عمرُ (¬3). وفي رواية الترمذي عنه: سمعت غيرَ واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، منهم عمرُ، وكان من أحبِّهم إلي (¬4). (أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة)؛ أي: النافلة (بعد الصبح)، فيعلق الحكم بوقت الصبح الذي هو الفجر الصادق، فيمتنع بمجرد ظهوره تعاطي النوافل سوى ركعتي الفجر قبلها، وركعتي الطواف مطلقًا، وهذا ظاهر المذهب على المعتمد. وقيل: إن الحكم لا يتعلق بالوقت، بل بفراغ صلاة الصبح، ويكون المراد بقوله: بعد الصبح؛ أي: بعد صلاة الصبح، إذ لابد من أداء الصبح، فتعين التقدير المذكور. ¬

_ (¬1) وكذا في رواية أبي داود وابن ماجه المتقدم تخريجها قريبًا. (¬2) هي من رواية الإسماعيلي أيضاً، كما ذكر الحافظ في "الفتح" (2/ 58). (¬3) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1271)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 452)، وابن عبد البر في "التمهيد" (13/ 32). (¬4) تقدم تخريجه في حديث الباب، وكذا وقع أيضاً في رواية النسائي المتقدم تخريجها في حديث الباب.

قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث معمولٌ به عند فقهاء الأمصار، وخالف بعض المتقدمين وبعضُ الظاهرية من بعض الوجوه. وصيغة النفي إذا دخلت على فعل في ألفاظ صاحب الشرع، حُمِلت على نفي الفعل الشرعي، لا على الوجودي، فلا صلاة بعد الصبح نفيًا للصلاة الشرعية المعتد بها، لا الحسية؛ لأن الشارع يطلق ألفاظه على عرفه (¬1). ومن هذا: "لا نِكَاح إلا بِوَليٍّ" (¬2)، و"لا صيامَ لمن لم يُبيِّتِ الصيامَ من الليل" (¬3). ويستمر النهي عن الصلاة بعد الصبح ممتدًا (حتى)؛ أي: إلى أن (تشرق) -بضم أوله- من أشرق (الشمس)؛ أي: ترتفع وتضيء. يؤيده حديث أبي سعيد بعده بلفظ: "حتى ترتفع الشمس" (¬4). ويُروى -بفتح أول تَشْرُقُ، وضم ثالثه، بوزن تَغْرُبُ-. يقال: شَرَقَتِ الشمسُ؛ أي: طلعت (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 151). (¬2) رواه أبو داود (2085)، كتاب: النكاح، باب: في الولي، والترمذي (1101)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء: لا نكاح إلا بولي، وابن ماجه (1881)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، وغيرهم عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (¬3) رواه النسائي (2334)، كتاب: الصيام، باب: اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك، وغيره، عن حفصة - رضي الله عنها -. (¬4) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 59). وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 249)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 464)، و"المحكم" لابن سيده (6/ 162)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 66 - 67).

ويؤيده رواية البيهقي، من طريق أخرى بلفظ: "حتى تَشْرُقَ الشمسُ، أو تَطْلُعَ -على الشك (¬1) -". وفي رواية مسدد: "حتى تطلع" بلا شك (¬2). وكذا هو في حديث أبي هريرة في "الصحيحين" بلفظ: "حتى تطلع الشمس" بالجزم (¬3). وجمع بين الحديثين: بأن المراد بالطلوع: طلوع مخصوص؛ أي: حتى تطلع مرتفعة. قال النووي: اجتمعت الأمة على كراهة صلاةٍ لا سببَ لها في الأوقات المنهيِّ عنها، واتفقوا على جواز الفرائض المؤدَّاة فيها. واختلفوا في النوافل التي لها سبب؛ كصلاة تحية المسجد، وسنة الوضوء، وسجود التلاوة والشكر، فذهب الشافعي إلى جواز ذلك بلا كراهة (¬4). وهي رواية عن الإمام أحمد، واختاره صاحب "الفصول"، و"المُذْهَب"، و"المُسْتَوعِب" (¬5)، وشيخ الإسلام ابن تيمية (¬6)، وغيرهم؛ كتحية المسجد حالَ خطبة الجمعة. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 451). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 59). (¬3) رواه البخاري (563)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، ومسلم (825)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها. (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 110). (¬5) انظر: "المستوعب" للسَّامري (2/ 288). (¬6) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 200).

قال في "الفروع": وليس عنها جواب صحيح. وأجاب القاضي وغيره: بأن المنع هناك لم يختص الصلاة؛ ولهذا يمنع من القراءة والكلام، فهو أخف، والنهي هنا اختص الصلاة، فهو آكد. والمذهب المشهور: المنع؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك (¬1). (و) نهى - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة (بعد) فراغ صلاة (العصر)، ويمتدُّ النهيُ من حينئذ (حتى تغرب) الشمس، لا حتى تَصْفَرَّ؛ خلافًا لمالك، والشافعي. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 512).

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِي اللهُ عَنْهُ -، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفعَ الشَّمْسُ، ولاَ صَلاَةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ" (¬1). يُقَالُ: شَرَقَتِ الشَّمْسُ: إِذَا طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ: إِذَا أَضَاءَتْ وَصَفَتْ. وفي الباب: عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وعبدِ الله بنِ مسعودٍ، وعبدِ الله بنِ عمرَ بنِ الخطاب، وعبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاص، وأبي هريرةَ، وسَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ، وسَلَمَةَ بنِ الأكوعِ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، ومُعاذِ بنِ عفراءَ، وكَعْبِ بنِ ¬

_ (¬1) تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (561)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: لا يتحرَّى الصلاة قبل غروب الشمس، واللفظ له، و (1139)، كتاب: التطوع، باب: مسجد بيت المقدس، ومسلم (827)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، وأبو داود (2417)، كتاب: الصوم، باب: في صوم العيدين، والنسائي (566)، كتاب: المواقيت، باب: النهي عن الصلاة بعد العصر، وابن ماجه (1249)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 61)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 81)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 111). وانظر: مصادر شرح الحديث السابق.

مُرَّةَ، وأبي أمامةَ الباهِلِيِّ، وعَمْرِو بنِ عَبَسَةَ السلميِّ، وعائشةَ - رضوان الله عليهم أجمعين -، والصُّنابِحِيِّ، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * (عن أبي سعيد) سعدِ بنِ مالكِ بن سنانَ بنِ ثعلبةَ بنِ عبيدِ بنِ الأبجرِ (الخدري) نسبة إلى خُدْرَة من الأنصار، وخُدرةُ هو: الأبجرُ بن عوفِ بنِ الحارث بنِ الخزرج الأنصاريُّ، اشتهر بكنيته. كان من الحفاظِ المكثرين العلماءِ الفضلاءِ العقلاءِ. أولُ مشاهده الخندقُ، وذلك أنه قال: عُرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحد، وأنا ابن ثلاثَ عشرةَ، فجعل أبي يأخذُ بيدي، فيقول: يا رسول الله! إنه عبد الفطام، وإن كان مؤدنًا -بالدال المهملة مهموزًا-؛ أي: قصيرًا، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصَعِّد فيَّ بصرَه ويُصَوِّبه، ثم قال: رُدُّه، فردني، فخرجنا نتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أقبلَ من أُحد، فنظر إليَّ، فقال: "سعد بن مالك! "، فقلت: نعم، بأبي وأمي، فدنوتُ فقبلت ركبتيه، فقال: "آجرَكَ الله في أبيكَ"، وكان قُتل يومئذ شهيدًا. وغزا أبو سعيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرةَ غزوةً. روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، منهم: ابنُ عمر، وجابرٌ، وزيدُ بن ثابت، وغيرُهم. مات سنة أربع وسبعين، ودفن بالبقيع. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألفُ حديث، ومئة وسبعون حديثًا، أُخرج له منها في "الصحيحين" مئةٌ وأحدَ عشرَ، المتفق عليه منها: ثلاثة وأربعون، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم: باثنين وخمسين (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 44)، و"الثقات" لابن حبان =

فمن المتفق عليه: ما روى (- رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: لا صلاة بعد الصبح)، يعني: من النوافل المطلقة؛ أي: تحرم ولا تصح، ويستمر المنعُ من طلوع الفجر (حتى ترتفع الشمس) ارتفاعًا يذهب عنه صفرة الشمس أو حمرتها، وهو مقدَّرٌ بقدر رُمْح، (ولا صلاة)، أي: يحرم النفل المطلَق، ولا يصحُّ (بعد) صلاة (العصر)، ويستمر المنع من فراغ صلاة العصر (حتى تغيب الشمس)، أي: يغيب حاجبها الفوقاني. قال الحافظ المصنف - رحمه الله، ورضي عنه -: (يقال: شرقت الشمس)، يعني: من الثلاثي: (إذا طلعت). (و) يقال: (أشرقَتْ) من الرباعي: إذا (أضاءت) بنورها، (وصَفَتْ) من الصفرة والحمرة. وتقدم أنه روي باللفظين معًا. قال في "الفتح": حكى أبو الفتح اليعمريُّ عن جماعة من السلف: أنهم قالوا: إن النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، إنما هو إعلامٌ بأنهما لا يُتطوع بعدهما، ولم يقصد الوقت بالنهي كما قصد به وقت الطلوع ووقت الغروب (¬1). ¬

_ = (3/ 150)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 650)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 602)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 180)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (20/ 373)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 714)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 138)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 518)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 294)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 168)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضاً (1/ 44)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 78)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (3/ 416). (¬1) وانظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 113).

ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود، والنسائي، بإسناد حسن، عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُصَلُّوا بعدَ الصُّبح، ولا بعدَ العصر، إلا أن تكونَ الشمسُ نقيةً". وفي رواية: "مرتفعة" (¬1)، فدل على أن المرأد بالبعدية ليس على عمومه، وإنما المراد وقتُ الطلوع، ووقتُ الغروب، وما قاربهما، كذا قال (¬2). قال الحافظ المصنف - رحمه الله تعالى، ورضي عنه -: (وفي) هذا (الباب) -وهو بابُ النهي عن صلاة التطوُّع في أوقات النهي- أحاديثُ صحيحة ثابتة عن حضرة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -،رُويت عن عدة من الصحابة - رضي الله عنهم (¬3). منها: (عن علي) أميرِ المؤمنين (بنِ أبي طالب) - رضي الله عنه -، (و) عن أبي عبد الرحمن (عبد الله بن مسعود) - رضي الله عنه -. (و) روي أيضاً: عن (عبد الله) أبي عبد الرحمن (بن) أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب)، وتقدمت ترجمتهما. (و) روي أيضاً في الباب: عن أبي عبد الرحمن، وقيل: أبي محمد (عبدِ الله) أحدِ المُكثرين، وتقدَّمت ترجمتُه (بنِ عمرِو بنِ العاص)، وهو ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1274)، كتاب: الصلاة، باب: من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة، والنسائي (573)، كتاب: المواقيت، باب: الرخصة في الصلاة بعد العصر. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 61 - 62). (¬3) قال الزركشي في "النكت" (ص: 68): هذا تابع فيه الترمذي يعني: في "سننه" (1/ 344) -، لكن المصنف قد توهم أن ذلك كله متفق عليه، وليس كذلك، وإنما اتفقا على حديث ابن عمر، وأبي هريرة، وانفرد مسلم بحديث عائشة، وابن عَبسَة، انتهى.

أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد، عمرُو بنُ العاص بنِ وائل بنِ هاشمِ بنِ سعيدِ بنِ سعدِ بنِ سهمٍ القرشيُّ السهميُّ، أسلم بعدَ عمرة القضية هو وخالدُ بن الوليد، وعثمانُ بن طلحة في يوم واحد على الصحيح. وقيل: أسلم سنة خمس. وولَّاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على عُمان، فلم يزل عليها حتى قُبض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وعمل لعمرَ، وعثمانَ، ومعاويةَ. وهو الذي افتتح مصرَ لعمرَ، ولم يزل عاملًا عليها إلى آخر وفاته، وأقرَّه عثمانُ عليها نحوًا من أربع سنين، وعزله، ثم أقطعه إياها معاويةُ لما استقرَّ الأمر إليه، فمات بها سنة ثلاثٍ وأربعين. وقيل: اثنتين وأربعين. وقيل: ثمان وأربعين. وقيل: إحدى وخمسين. والصحيح: الأول، وله يومئذ تسعون سنة. وولي مصر بعده ابنُه عبدُ الله، ثم عزله معاويةُ. وكان معدودًا من الدُّهاة. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة وثلاثون حديثًا؛ منها في "الصحيحين" ستة، المتفقُ عليه منها ثلاثة، وانفرد البخاري بطرف من حديث، رواه عنه ابنُه عبد الله، ومسلم بحديثين (¬1). (و) في الباب أيضاً: عن حافظ الأمة (أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر - رضي الله عنه -، وتقدمت ترجمته. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 493)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 265)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1184)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 78)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 54)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 650)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 49).

(و) فيه أيضاً: عن (سَمُرَةَ بنِ جندُب): هو أبو سعيد، ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو سليمان، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو عبد الرحمن، سمرةُ بن جندب بن هلال بن حَريِج -بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبالجيم- بن مرة بن حَزْن -بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وبالنون- بن عمر بن جابر الفزاري، حليف الأنصار. نزل الكوفة، وولي البصرة، وعِدادُه في البصريين. كان زياد يستخلفه على الكوفة ستة أشهر، وعلى البصرة ستة أشهر، فلما مات زياد، كان بالبصرة، فأقرَّه معاوية عليها عامًا، ثم عزله. وكان - رضي الله عنه - شديدًا على الحرورية (¬1). روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة وثلاثة وستون حديثًا، اتفق الشيخان منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأربعة. ومات بالبصرة سنة تسع وخمسين، سقط في قدر مملوءة ماءً حارًا كان يتعالج بالصُّعود عليها من كُزَازٍ شديدٍ أصابه، فكان ذلك مصداقَ قوله - صلى الله عليه وسلم - له ولأبي هريرة وثالثٍ معهما: "آخِرُكُمْ مَوْتًا في النار" (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم ذكر الحرورية ومعناها في حديث عائشة - رضي الله عنها -: "أحرورية أنت؟ ". (¬2) رواه البخاري في "التاريخ الأوسط" (1/ 106)، والطبراني في "المعجم الأوسط " (6206). وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 34)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 176)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 653)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 554)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 226)، و "تهذيب الكمال" للمزي (12/ 130)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 83)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 178)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (4/ 207).

(و) في الباب أيضاً: عن أبي مسلم، ويقال: أبو عامر، ويقال: أبو إياس (سلمةَ بنِ الأكوع)، ويقال: سلمة بن عمرو بن الأكوع. واسم الأكوع: سنانُ بنُ عبد الله بنِ قُشَير -بضم القاف وفتح الشين المعجمة وسكون الياء- ابن خزيمة بن مالك بن سلامان بن أسلم بن أَفْصَى - بالفاء والصاد المهملة- الأسلميُّ المدنيُّ. كان ممن بايع تحت الشجرة مرتين أو ثلاثًا، وكان من أشد الناس وأشجعهم راجلًا. ويقال: إنه الذي كلمه الذئب. قال سلمة - رضي الله عنه -: رأيت الذئب قد أخذ ظَبْيًا، فطلبتُه حتى نزعتُه منه، فقال: ويحَك مالي ومالك، عمدتَ إلى رزقٍ رزقنيه الله، فنزعْتَه مني؟! قال: فقلت: أيا عباد الله! إن هذا لعجبٌ؛ ذئبٌ يتكلم، قال الذئب: أعجبُ من هذا: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في أصول النخل يدعوكم إلى عبادة الله، وتأبَوْن إلا عبادةَ الأوثان! قال: فلحقتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمت (¬1). سكن سلمة - رضي الله عنه - الرَّبذةَ، وتزوَّج هناك، وولد له، ولم يزل بها إلى قبل وفاته بليالٍ، فعاد إلى المدينة، وتوفي بها سنة أربع وأربعين، وهو ابن ثمانين سنة. روى عنه: ابنه إياس، والحسنُ بنُ محمدِ بنِ الحنفية، وعبدُ الله وعبدُ الرحمن ابنا كعب بن مالك. ¬

_ (¬1) ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 639).

روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وسبعون حديثًا، اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة (¬1). (و) في الباب أيضاً: عن أبي سعيد، وقيل: أبي خارجة، وقيل: أبي عبد الرحمن (زيد بن ثابت) بنِ الضحاكِ بنِ زيدِ بنِ لَوْذان -بفتح اللام وسكون الواو وبالذال المعجمة فألف فنون- بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري، كاتبِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وكان له حين قدم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ إحدى عشرة سنة، وكان له يوم بعاث ستُّ سنين. وبُعاث: وقعة كانت بين الأوس والخزرج قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وفي حرب بعاث قُتل أبوه، واستصغره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ بدر، ثم شهد أحدًا وما بعدها من المشاهد. وقيل: إن أول مشاهده الخندق. وكان - رضي الله عنه - أحدَ فقهاء الصحابة الجِلَّة، القائمَ بالفرائض، وهو أحدُ من جمع القرآن وكتبه في خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ونقله من المصحف في خلافة عثمان. روى عنه: عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وابناه خارجةُ وسليمان. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 305)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 69)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 639)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (22/ 83)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 517)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 220)، و"تهذيب الكمال" للمزي (11/ 301)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 326)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 151)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (4/ 133).

وكان أعلمَ الصحابة بالفرائض بشاهدِ قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفْرَضُكُمْ زيدٌ" (¬1). مات - رضي الله عنه - بالمدينة سنةَ خمس وأربعين، وله ستٌّ وخمسون سنة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنان وسبعون حديثًا، اتفق الشيخان منها على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بحديث (¬2). (و) في الباب أيضاً: (معاذُ بنُ عَفْراء) -بفتح العين المهملة وسكون الفاء- اسم أمه، اشتهر بالنسبة إليها؛ كابن البيضاء، وابن سلول، وغيرهم. وهذه عفراءُ بنتُ عبيدِ بنِ ثعلبة من بني النجار. وأما أبوه: فهو الحارث بنُ رفاعة بنِ سواد بنِ مالكِ بنِ غنمِ بنِ مالكِ بنِ النجَّارِ الأنصاريُّ. كان هو ورافعُ بنُ مالك أولَ من أسلم من الخزرج، شهد بدرًا هو ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3790)، كتاب: المناقب، باب: مناقب معاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأُبيّ، وأبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنهم -، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (154) في المقدمة، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 281)، وغيرهم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - في حديث، وفيه: " ... وأفرضهم زيد بن ثابت ... ". (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 358)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 380)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 135)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 475)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 537)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (19/ 295)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 704)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 346)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 24)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 426)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضاً (1/ 30)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 592)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 344).

وأخواه عوذٌ ومعوَّذ، ابنا عفراء، وقتل أخواه ببدر، وشهد المشاهد كلها في قول، وقيل: إنه جرح يوم بدر، فمات بالمدينة من جراحته، وقيل: بل عاش إلى زمن عثمان، وقيل: مات في خلافة علي - رضي الله عنه -. روى عنه: ابنُ عباس، وابنُ عمر، وغيرُهما (¬1). (و) في الباب أيضاً: عن (كعب بن مرة) البَهْزي -بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء وبالزاي- نسبة إلى بهز بن امرىء القيس بن بُهْثَة -بضم الموحدة وسكون الهاء فمثلثة- ابن سُلَيم -بضم السين المهملة وفتح اللام- بن عيلان بن مضر. ويقال: اسمه مرة بن كعب، على القلب، والأول أكثر. نزل البصرة، ثم سكن الأردن من الشام، ومات بها سنة تسع وخمسين (¬2). (و) في الباب أيضاً: عن (أبي أمامة)، واسمه صُدَيّ -بضم الصاد ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 491)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 360)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 370)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 245)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1408)، و"صفوة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 427)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 190)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 405)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 115)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 140)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (10/ 140). (¬2) انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 414)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 5)، و"الثقاث" لابن حبان (3/ 353)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1326)، و"تهذيب الكمال" للمزي (24/ 196)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 462)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 612)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (8/ 395).

المهملة وتشديد الياء المثناة تحت بينهما دال مهملة مشددة-، وربما: قيل الصُّدَيّ -بزيادة الألف واللام-، وهو ابن عجلان (الباهليِّ) نسبة إلى باهل بنتِ سعدِ العشيرة من مَذْحِج -بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة وبالجيم-. سكن مصر، ثم انتقل إلى حمص، ومات بها، وأكثر حديثه عند الشاميين. مات سنة ست وثمانين، وقيل: سنة إحدى وثمانين، وله إحدى وتسعون سنة، وهو آخر من مات من الصحابة بالشام، وقيل: إن آخر من مات منهم بالشام عبد الله بن بُسر. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئتا حديث، وخمسون حديثًا، روى له منها البخاري خمسة، ومسلم ثلاثة (¬1). (و) في الباب أيضاً: عن (عمرو) هو أبو نجيح، ويقال: أبو شعيب (بن عَبَسَة) -بفتح العين المهملة وفتح الباء الموحدة على ما في "جامع الأصول" لابن الأثير (¬2)، وبالسين المهملة -بن عامر بن خالد بن غَاضِرة- بالغين ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 411)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 326)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 743)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 736)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (24/ 50)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 733)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 15)، و"تهذيب الكمال" للمزي (13/ 158)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 359)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 468)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (3/ 420). (¬2) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 558 - قسم التراجم). قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" (ق 28 / ب): ومن ضَعَفة الفقهاء والطلبة من يزيد نونًا =

والضاد المعجمتين - بن عَتَّاب -بفتح العين المهملة وتشديد المثناة فوق فألف فموحدة- بن امرىء القيس بن بُهْثة -بضم الموحدة وسكون الهاء وبالثاء المثلثة- بن سُلَيم (السلمي). أسلم قديمًا في أول الإسلام. قيل: إنه رابع أربعة في الإسلام، ثم رجع إلى قومه من بني سليم، وكان قد قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتَ أني قد خرجْتُ، فاتبعني" (¬1). فلم يزل مقيمًا بقومه حتى انقضت خيبر، فقدم بعد ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأقام بالمدينة، وعِدادُه في الشاميين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وأربعون حديثًا، روى له مسلم حديثًا واحدًا (¬2). (و) في الباب أيضاً: عن أم المؤمنين (الصِّديقةِ) بنتِ الصِّديق- رضي الله عنهما -، وتقدمت ترجمتها. فهؤلاء الثلاثةَ عشرَ من الصحابة (- رضوان الله عليهم أجمعين-) لهم رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الصلاة في أوقات النهي. ¬

_ = بين العين والباء -يعني: عنبسة-، وهو خطأ كبير، وتصحيف شديد. (¬1) رواه مسلم (832)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: إسلام عمرو بن عبسة، بلفظ: "فإذا سمعت بي قد ظهرت، فأتني". (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 214)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 269)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1192)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (46/ 249)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 239)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 347)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 456)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 658)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (8/ 61).

(و) في الباب أيضاً: عن عبد الله (الصُّنَابحِيِّ) -بضم الصاد المهملة وتخفيف النون وكسر الباء الموحدة وبالحاء المَهملة آخره ياء النسبة- نسبة إلى صُنابحِ بنِ زاهرِ بنِ عامرٍ، بطنٍ من مراد، قبيلةٍ من اليمن. قال الحافظ المصنف -رحمه الله، ورضي عنه -: (ولم يسمع)؛ يعني: الصنابحيَّ (من النبي - صلى الله عليه وسلم -)، فعلى هذا يكون حديثه مرسلًا، وهو في ذلك متبع للبخاري، والترمذي. قال الترمذي في حديث الوضوء: سألت البخاريَّ عنه، فقال: أبو عبد الله الصنابحي لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديثه مرسل، انتهى (¬1). لكن جاء في "مسند الإمام أحمد" تصريحُه بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ونقل البيهقي في "سننه الكبرى"، عن عباس الدوري: سمعتُ يحيى بنَ معين يجعلُهما اثنين (¬3)، وإلى هذا مال أبو الحسن القطان (¬4)، وغيره. ¬

_ (¬1) انظر: "علل الترمذي" (ص: 21). (¬2) انظر: "مسند الإمام أحمد" (4/ 113)، حديث: "من أعتق رقبة، أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه في النار ... ". (¬3) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 81). وانظر: "تاريخ يحيى بن معين -رواية الدوري" (3/ 38). (¬4) قال أبو الحسن القطان في كتابه: "بيان الوهم والإيهام" (1/ 615): والمتحصل من هذا: أنهما رجلان: أحدهما: أبو عبد الله عبد الرحمن بن عُسيلة الصنابحي، ليست له صحبة، يروي عن أبي بكر وعبادة، والآخر: عبد الله الصنابحي، يروي أيضاً عن أبي بكر وعن عبادة، والظاهر منه أن له صحبة، ولا أبتُّ ذلك، ولا أيضاً أجعله أبا عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة، فإن توهيم أربعة من الثقات في ذلك لا يصح، فاعلمه، والله الموفق.

قال البرماوي: قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص سراجُ الدين عمرُ البلقينيُّ: الصواب أنهما اثنان، أحدهما: عبد الرحمن بن عسيلة تابعي، جاء ليلقى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقُبض النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في الطريق بالجحفة قبل أن يصل بخمسٍ أو ستٍّ، ثم نزل الشام، وهذا ليس هو المذكور في حديث: "لا صلاةَ بعدَ الصبح حتى ترتفعَ الشمس" كما توهَّمَه مَنْ توهَّمَه. والثاني: الصنابحيُّ عبدُ الله صحابي، وهو المذكور في هذا الحديث. فقول الحافظ: ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - تَبِعَ فيه البخاريَّ وابنَ المديني. وفي "جامع الأصول" لابن الأثير: قال يحيى بن معين، يقال: عبد الله، وأبو عبد الله، وخالفه غيره، فقال: هذا عبد الله. وأما عبدُ الله الصنابحيُّ: فاسمُه عبد الرحمن، وذكره -يعني: عبد الرحمن- في التابعين (¬1). وقال ابن عبد البر: الصوابُ عندي أن الصنابحيَّ أبو عبد الله التابعيُّ، لا عبدُ الله الصحابي، والصنابحيُّ الصحابيُّ قد أخرج حديثه في "الموطأ"، والنسائي في "سننه" (¬2). فظهر أن التحقيق في هذا أنَّ اسمه عبدُ الله، وأنه صحابي. وأما الثاني: وهو عبد الرحمن، ويكنى أبا عبد الله، فهو تابعي جليل، روى عن: أبي بكر الصديق ومَنْ بعده؛ كعمر، وبلال، وعبادة بن الصامت، وكان عبادة يُثني عليه. ومشى ابن دقيق العيد في "شرحه على العمدة" على أن الصنابحي الذي ¬

(¬1) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 463 - قسم التراجم). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 3)، و"الاستيعاب" له أيضاً (2/ 740).

ذكره الحافظ هو عبد الرحمن بن عُسَيْلة؛ أي: -بضم العين وفتح السين المهملتين وسكون المثناة تحت-، وأن كنيته: أبو عبد الله. قال: وكان مسلمًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقصدَه، فلما انتهى إلى الجحفة، لقيه الخبرُ بموته - صلى الله عليه وسلم -، انتهى (¬1). وقد علمت أن الصواب خلافه (¬2). تنبيهات: * الأول: قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": لم يقع لنا تسمية الرجال المرضيين الذين حدثوا ابنَ عباس بهذا الحديث. قال: وبلغني أن بعض من تكلم على "العمدة" تجاسَرَ، وزعم أنهم المذكورون فيها عند قول مصنفها: وفي الباب: عن فلان، وفلان. قال: ولقد أخطأ هذا المتجاسِرُ خطأ بينًا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، انتهى (¬3). قلت: أراد بالمتجاسر: أبا عبد الله محمد شمس الدين بن عبد الدائم البرماوي حيث قال في منظومته "الزهر البسام في رجال عمدة الأحكام" ما نصه: [من الرجز] وَفِي رِجَالٍ شَهِدُوا أَيْ بِخَبَرْ ... عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَرْضَاهُمْ عُمَرْ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 154). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 509)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 321)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 262)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 74)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 841)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 282)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 505)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 105)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 208). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 59).

يَحْتَمِلُ الأُلَى رَوَوْا ذَا الخَبَرا ... لِمَنْ لَهُمْ في الأَصْلِ عُدَّ مُكْثِرَا قال في "شرحه" لما ذكر حديث ابن عباس عن عمر: قد رواه جمع كثير، وقد ذكر المصنف منهم طائفةً، وهو معنى قولي: مكثراً؛ أي: أكثرَ من ذكر الرواة على خلاف عادته حيث قال: وفي الباب: عن علي بن أبي طالب إلخ .. ، فيحتمل أن يكون الرجال الذين رووا لابن عباس من هؤلاء الذين اتصلت روايتهم بالأئمة، ويحتمل أن يكون غيرهم. قال: ولكن الظاهر الأول، ولعل هذا السبب في تعداد المصنف لهم على خلاف عادته في سائر الأحاديث، انتهى. * الثاني: أوقاتُ النهي خمسةٌ: الأول: من طلوع الفجر الثاني، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، إلى طلوع الشمس. الثاني: من طلوعها إلى ارتفاعها قِيْدَ (¬1) رمح. والثالث: من بعد صلاة العصر بالإجماع، حتى جَمْعًا (¬2)، إلى غروبها، لا اصفرارِها؛ خلافًا لمالك، والشافعي. الرابع: من بدو غروبها حتى تتم. الخامس: عند قيام الشمس في قبة الفلك إلى زوالها، وفيه وجه؛ وفاقًا لمالك (¬3). ¬

_ (¬1) القِيد -بكسر القاف-: القَدْر. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (3/ 373)، (مادة: قيد). (¬2) أي: حتى في الجَمْع؛ أي: إذا جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر حصل النهيُ. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 511).

والمذهب: أنه وقت نهي؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، قال: "ثلاثُ ساعاتٍ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلِّيَ فيهنَّ، وأن نقبر فيهنَّ موتانا: حين تطلعُ الشمسُ بازغة حتى ترتفع، وحين يقومُ قائمُ الظهيرة حتى تميلَ الشمس، وحين تَضَيَّفُ للغروب حتى تغربَ"، رواه مسلم (¬1). وحديث عمرو بنِ عَبَسَةَ - رضي الله عنه -، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلِّ صلاةَ الصبح، ثم أَقْصِرْ عن الصلاة حينَ تطلُع الشمسُ حتى ترتفعَ، فإنها تطلُعُ حين تطلُع بين قرنَيْ شيطان، وحينئذ يسجدُ لها الكفار، ثم صَلِّ؛ فإن الصلاةَ مشهودةٌ محضورة". وفيه: "حتى يستقلَّ الظلُّ بالرمح، فإذا أقبلَ الفيءُ فَصَلِّ" رواه مسلم (¬2). وفي لفظ لأبي داود: "حتى يعدل الرمح ظلَّه" (¬3). وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند ابن ماجه، والبيهقي، ولفظه: "حتى تستويَ الشمسُ على رأسك كالرمح، فإذا زالتْ، فَصَلِّ" (¬4). وحديمث الصنابحيِّ في "الموطأ": "ثم إذا استوت، قارنَها، فإذا زالتْ، فارقَها"، وفي آخره: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في تلك الساعات (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (831)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها. (¬2) رواه مسلم (832)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: إسلام عمرو بن عبسة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أبو داود (1277)، كتاب: الصلاة، باب: من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة. (¬4) رواه ابن ماجه (1253)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 455). (¬5) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 219)، ومن طريقه: الإمام الشافعي في =

وعن عمر - رضي الله عنه -: نهى عن الصلاة نصف النهار. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: كنا نُنهى عن ذلك. وعن أبي سعيد المقبري، قال: أدركتُ الناسَ وهم يتقون ذلك (¬1). وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، والجمهور؛ خلافًا لمالك، مع أنه روى حديثَ الصنابحيِّ. قال ابن عبد البر: فإما أنه لم يصحَّ عنده، وإما ردَّه؛ لقوله: ما أدركتُ أهلَ الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلُّون نصف النهار، فكأنه رأى العملَ علي خلافه (¬2)، وفيه نظر (¬3). * الثالث: استثنى بعضُ علمائنا كالشافعية يومَ الجمعة، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. قال الإمام أحمد في الجمعة: إذن لا يعجبني، وظاهره الجواز، ولو لم يحضر الجامع، وقال الشافعي: إن حضره (¬4). قال الحافظ ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق": يكره التنفُّل يوم الجمعة عند الزوال. وقال الشافعي: لا يكره. لنا: عمومُ النهي في الأحاديث المتقدمة. وللشافعي: حديث أبي قتادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: "إن جهنم تُسْجَرُ إلا يومَ الجمعة" رواه ¬

_ = "مسنده" (ص: 166)، والنسائي (559)، كتاب: المواقيت، باب: الساعات التي نهي عن الصلاة فيها. (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 28). (¬2) المرجع السابق، (4/ 17 - 18). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 63). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 511).

أبو داود، وهو مرسل، وأبو خليل من رجاله لم يسمع من أبي قتادة (¬1) وفيه ليثٌ: ضعيفٌ بِمرَّة. وروى البيهقي، عن أبي هريرة مرفوعًا: "تحرم -يعني: الصلاة- إذا انتصف النهار كلَّ يوم إلا يومَ الجمعة" (¬2)، وفيه: إبراهيم بن محمد: هو ابن أبي يحيى الأسلمي، وقد كذبه الإمام مالك، ويحيى القطان، ويحيى بن معين، وغيرهم (¬3). * الرابع: تحريمُ النوافل عندنا- كالحنفي والمالكي- منوطٌ بطلوع الفجر، إلا ركعتي الفجر. وقال أكثر العلماء: التحريمُ منوط بفراغ صلاة الفجر، وهو مذهب الشافعي، واختاره من علمائنا أبو محمد رزق الله التميمي (¬4). لنا: ما رواه الترمذي، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا: "لا صلاةَ بعدَ الفجرِ إلا سجدَتَين"، قال الترمذي: غريب، لا نعرفه إلا من حديث قدامة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1083)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال. (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 464). (¬3) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 485 - 486). (¬4) هو الشيخ الواعظ المعمَّر عبد الوهاب بن عبد العزيز بن أبي الفرج التميمي البغدادي، شيخ العراق، وفقيه الحنابلة وإمامهم، قرأ القرآن والفقه والحديث والتفسير والفرائض والعربية، وعُمّر حتى قصد من كل جانب، توفي سنة (488 هـ). انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (1/ 77). (¬5) رواه الترمذي (419)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء: لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين.

قال ابن الجوزي (¬1): قدامةُ معروف، ذكره البخاري في "تاريخه" (¬2)، وأخرج عنه مسلم في "صحيحه" (¬3). وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، عن يسار مولى عبد الله بن عمر، قال: رآني ابن عمر - رضي الله عنهما - وأنا أصلي بعدَما طلع الفجر، فقال: يا يسار! كم صليت؟ قلت: لا أدري، قال: لا دَرَيْتَ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا ونحنُ نصلي هذه الصلاةَ، فقال: "ألا ليبلِّغْ شاهدُكم غائبكُمْ، أَلا لا صلاةَ بعدَ الصبح إلا سجدتان" (¬4). وروى ابن ماجه منه: "ليبلغ شاهدُكم غائبَكم" (¬5). ورواه [الطبراني] (¬6)، ولفظه: أن عبد الله بن عمر رأى مولًى له يقال له: يسار يصلِّي بعد طلوع الفجر، فقال: ما هذه الصلاة؟ قال: شيءٌ لا بقي عليَّ من حزبي، فقال ابن عمر: خرج علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة الفجر، فقال: "إذا طلعَ الفجرُ، فلا صلاةَ إلا ركعتين، فليبلغِ الشاهدُ الغائبَ". وفي الباب: أحاديث وطرق متعددة لا تخلو من نظر. والمختار من جهة الدليل: أن النهي في الفجر كالنهي في العصر، لا يتعلق بالوقت، بل بفعل الصلاة. ¬

_ (¬1) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 446). (¬2) انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 179). (¬3) انظر: "صحيح مسلم" (2720)، (4/ 2087). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 104)، وأبو داود (1278)، كتاب: الصلاة، باب: من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة. (¬5) رواه ابن ماجه (235)، في المقدمة. (¬6) في الأصل: الدارقطني، والصواب ما أثبت، كما عزاه إليه ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (1/ 487 - 488)، وقال محمد بن النبيل وشيخه لا يعرفان.

ودليله: ما خرجاه في "الصحيحين" -واللفظ لمسلم-، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاةَ بعدَ صلاةِ العصرِ حتى تغربَ الشمس، ولا صلاةَ بعدَ صلاة الفجرِ حتى تطلعَ الشمسُ" (¬1). وفي البخاري: من حديث عمر - رضي الله عنه -: "لا صلاةَ بعدَ صلاةِ الصبحِ حتى تطلعَ الشمسُ" (¬2). ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، وقالا فيه: "بعدَ صلاةِ العصر، وبعدَ صلاةِ الصبح" (¬3). وفي حديث عَمرو بن عَبَسَةَ: "صلِّ الصبحَ، ثم أَقصِرْ عنِ الصلاةِ حتى تطلعَ الشمسُ" رواه مسلم (¬4). ولفظ الإمام أحمد، وأبي داود، وابن ماجه: "حَتَّى تصلِّيَ الفجرَ، ثم انْهَهْ حتى تطلعَ الشمس، ومادامتْ كالحجفةِ حتى تنتشرَ" (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: شهد عندي رجال مرضيون ... الحديث، وانظر لفظه في موضعه. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 18). وتقدم تخريجه عند أبي داود برقم (1276) عنده. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 111)، وابن ماجة (1251)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة، وتقدم تخريجه عند أبي داود. وقوله: "ثم انهه": أمرٌ من النهي، والهاء للسكت؛ أي: ثم انه نفسك عن الصلاة. وقوله: "كالحَجَفة" -بتقديم الحاء على الجيم-؛ أي: كالترس في إمكان النظر إليها؛ لقلة ضوئها وحرها.

* الخامس: يجوز قضاءُ الفوائت في أوقات النهي عند الثلاثة؛ خلافًا لأبي حنيفة؛ لظاهر النهي العام (¬1). ولنا: ما في "الصحيحين" من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصلِّيَها إذا ذكرها" (¬2). ورواه مسلم، من حديث أبي هريرة (¬3). ورواه الإمام أحمد، والترمذي، وصححه، من حديث أبي قتادة (¬4). وفي مسلم، عن أبي قتادة - رضي الله عنه -، قال: ذكروا للنبي - صلى الله عليه وسلم - نومَهم عن الصلاة، قال: "إنه ليسَ في النوم تفريطٌ، إنما التفريطُ على من لم يُصَلِّ الصلاة حتى يجيءَ وقتُ الأخرى، فمن فعلَ ذلك، فليصلِّها حين ينتبهُ لها، فإذا كانَ الغدُ، فليصلِّها عند وقتِها" (¬5). وقد وَهَّموا في هذه الزيادة رباح الذي روى عن أبي قتادة (¬6). ¬

_ (¬1) إنظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 477). (¬2) رواه البخاري (572)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة، فليصل إذا ذكرها، ولا يعيد إلا تلك الصلاة، ومسلم (684)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، واللفظ له. (¬3) رواه مسلم (680)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة، الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 298)، والترمذي (177)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في النوم عن الصلاة. (¬5) رواه مسلم (681)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها. (¬6) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 478).

* السادس: لا يجوز فعلُ النافلة في أوقات النهي؛ وإن كان لها سبب. وعن الإمام أحمد جوازُ ذات السبب؛ كقول الشافعي (¬1). دليل الأول: عمومُ الأحاديث المتقدمة، وحديثُ أبي هريرة عند الترمذي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يُصَلِّ ركعتي الفجرِ، فليصلِّهما بعدَما تطلعُ الشمس"، قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث عَمرو بن العاصم (¬2)، وهو ثقة، أخرج عنه البخاري في "صحيحه" (¬3)، ورواه الحاكم، وقال: على شرطهما (¬4). وأما حديث قيس بن عمرو بن سهل: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقيمت الصلاة، فصلَّيتُ معه الصبح، ثم انصرفَ، فوجدني أصلِّي، فقال: "مهلًا ياقيس، أصلاتانِ معًا؟ "، قلت: يا رسول! إني لم أكن ركعتُ ركعتي الفجر، قال: "فلا إذن" (¬5)، فإسناده ليس بمتصل، قاله الإمام أحمد، والترمذي (¬6). واختار فعلَ ذاتِ السبب في أوقات النهي: أبو الخطاب في "الهداية"، وابنُ عقيل، وابن الجوزي في "المُذْهَب"، و"مسبوك الذهب"، والسَّامُرِّيُّ ¬

_ (¬1) المرجع السابق (1/ 480). (¬2) رواه الترمذي (423)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في إعادتهما بعد طلوع الشمس. (¬3) انظر على سبيل المثال حديث: (550، 3277، 6437). (¬4) رواه الحاكم في "المستدرك" (1015). (¬5) رواه الترمذي (422)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن تفوته الركعتان قبل الفجر، يصليهما بعد صلاة الفجر. (¬6) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 445).

في "المستوعب" (¬1)، وصاحب "الفائق"، و"مجمع البحرين"، وشيخ الإسلام ابن تيمية (¬2)، وغيرهم (¬3). * السابع: المنع من التطوع في أوقات النهي متعلق بجميع البلدان، فمكة كغيرها، والمراد: غير ركعتي الطواف. وأما حديث: "لا يصلينَّ أحدٌ بعدَ الصبحِ إلى طلوع الشمس، ولا بعدَ العصرِ حتى تغربَ الشمسُ، إلا بمكةَ" يقول ذلك ثلاثًا (¬4)، فهذا الحديث لا يصح. قال الإمام أحمد: رواه عبد الله بن المؤمل المخزومي، عن حميد مولى عفراء، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، قال: قدم أبو ذر، فأخذ بِعِضادَةِ بابِ الكعبة، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره (¬5). قال الإمام أحمد: أحاديث ابن المؤمل مناكير (¬6). وقال يحيى: هو ضعيف (¬7). ورواه الشافعي، وغيره، عن ابن المؤمل، قال البيهقي: هذا الحديث يعد في أفراد عبد الله بن المؤمل، وهو ضعيف (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "المستوعب" للسامري (2/ 288). (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (22/ 297). (¬3) انظر: "تصحيح الفروع" للمرداوي (2/ 414). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 424)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 461). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 165). (¬6) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "العلل" (1/ 567)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 175). (¬7) رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 175). (¬8) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 461).

وأما حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يا بني عبدِ مناف! لا تمنعوا أحدًا طافَ بهذا البيتِ وصَلَّى أيَّةَ ساعةٍ شاءَ من ليلٍ أو نهار" رواه الترمذي، وصححه، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وأبو حاتم البستي، وغيرهم (¬1). فيدل على ركعتي الطواف، كما في بعض ألفاظه: "من طافَ، فَلْيُصَلِّ أَيَّ حين طافَ" (¬2)، والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (868)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 80)، وأبو داود (1894)، كتاب: المناسك، باب: الطواف بعد العصر، وابن ماجه (1254)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت، وابن حبان في "صحيحه" (1553)، وغيرهم. (¬2) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 389)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 462)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. ويعني الشارح بقوله: "في بعض ألفاظه" أي: ألفاظ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق بلفظ: "لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ... الحديث" فلا يتوهم أنه يريد حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه - السالف الذكر، وبالله التوفيق.

الحديث الحادى عشر

الحديث الحادى عشر عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْه - جَاءَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! مَا كِدْتُ أُصَلِّي العَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فقالَ النَبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "واللهِ! مَا صَلَّيْتُها"، قَالَ: فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ للصَّلاَةِ، وَتَوَضَّأنَا لَهَا، فَصَلَّى العَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَها المَغْرِبَ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (571)، كتاب: مواقيت الصلاة، من صلّى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، واللفظ له، و (573)، باب الصلوات، الأولى فالأولى، و (615)، كتاب: الأذان، باب: قول الرجل: ما صلينا، و (903)، كتاب: صلاة الخوف، باب: الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو، و (3886)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، ومسلم (631)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، والنسائي (1366)، كتاب: السهو، باب: إذا قيل للرجل: هل صليت؟ هل يقول: لا؟، والترمذي (180)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل تفوته الصلوات، بأيتهنَّ يبدأ؟. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذىِ" لابن العربي (1/ 293)، وإكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 596)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 259)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 132)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 154)، =

(عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أنَّ) أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -) قد اتفق الرواة على أن هذا الحديث من رواية جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا حجَّاجَ بنَ نُصير، فإنه رواه بسنده عن جابر، عن عمر، فجعله من مسند عمر، تفرد بذلك حجاج، وهو ضعيف (¬1). (جاء) يعني: عمرَ - رضي الله عنه - (يوم الخندق)، وكان في الخامسة على المعتمد (بعدما غربت الشمس). وفي رواية عند البخاري: وذلك -يعني: مجيء عمرَ - رضي الله عنه - بعدما أفطر الصائم (¬2)، والمعنى واحد، (فجعل) سيدنا عمر - رضي الله عنه - (يسب كفار قريش). فيه دليل: على جواز سب المشركين؛ لتقرير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر- رضي الله عنه - على ذلك، ولم يعين في الحديث لفظَ السبِّ، فينبغي مع إطلاقه أن يُحمل على ما ليس بفحش (¬3)، وإنما خص كفار قريش بالسب؛ لأنهم كانوا السبب في تأخيرهم الصلاة عن وقتها (¬4). (وقال) يعني: عمرَ - رضي الله عنه -: (والله) (¬5). فيه دليل: على جواز الحلف بالله وإن لم يُستحلف. ¬

_ = و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 336)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 343)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 70)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 68)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 89). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 68). (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (615) عنده. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 154). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 69). (¬5) كذا في الأصل، والذي في روايات الحديث: "يا رسول الله! " بدل: "والله".

(ما كدت). قال اليعمري: لفظة كاد من أفعال المقاربة، فإذا قلت: كاد زيد يقومُ، فُهم منه أنه قارب القيامَ، ولم يقم، قال: والراجح فيها أَلَّا تقرن بأن، بخلاف عسى؛ فإن الراجح فيها أن تُقرن. قال: وقد جاء في "مسلم" في هذا الحديث: حتى كادت الشمسُ أن تغربَ (¬1). قال ابن حجر: وفي "البخاري" في باب: غزوة الخندق أيضاً، قال: وهو من تصرف الرواة. وهل تسوغ الرواية بالمعنى في مثل هذا أولا؟ الظاهر: الجواز؛ كما في "الفتح"؛ لأن المقصود الإخبارُ عن صلاته العصرَ كيف وقعت، لا الإخبارُ عن عمر هل تكلم بالراجح أو المرجوح. وإذا تقرر أن معنى كاد المقاربة، فقول عمر: ما كدت (أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب). معناه: أنه صلى العصر قرب غروب الشمس؛ لأن نفي الصلاة يقتضي إثباتها، وإثبات الغروب يقتضي نفيه، فيحصل من ذلك لعمر ثبوتُ الصلاة، ولم يثبت الغروب. قال الكرماني: لا يلزم من هذا السياق وقوعُ الصلاة في وقت العصر، بل يلزم منه أَلَّا تقع الصلاة فيه؛ لأنه يقتضي أن كيدودته كان عند كيدودتها. قال: وحاصله عرفًا: ما صليت حتى غربت الشمس، انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر: "شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك" (1/ 324). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 69).

قال في "الفتح": ولا يخفى ما بين التقريرين من الفرق -يعني: تقرير اليعمري، وتقرير الكرماني-، ورجح كلام اليعمري من الإثبات والنفي؛ لأن كاد إذا أثبتت، نفت، وإذا نفت، أثبتت، كما قال فيها المعري ملغزًا. [من الطويل] إِذَا مَا نَفَتْ وَاللهُ أَعْلَمُ أَثْبَتَتْ ... وَإِنْ أَثْبَتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ (¬1) وكان عمر - رضي الله عنه - لما وقع الاشتغال بالمشركين إلى قرب غروب الشمس، كان متوضئًا حينئذ، فلما فرغ، بادر، فأوقع الصلاة، ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعلمه بذلك في الحال التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها وقد شرع يتهيأ للصلاة (¬2). (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -) مجيبًا لعمر: (واللهِ ما صلَّيتها)؛ يعني: العصر. وقد اختلف في سبب تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ ذلكَ اليومَ، فقيل: كان ذلك نسيانًا. واستُبعد أن يقع ذلك من الجميع. ويمكن أن يُستدل له بما رواه الإمام أحمد، من حديث أبي جمعة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى المغربَ يوم الأحزاب، فلما سلم، قال: "هل علمَ رجلٌ منكم أَنِّي صليتُ العصر؟ " قالوا: لا يا رسول الله، فصلَّى العصرَ، ثم صلى المغرب (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 868)، ووقع عنده قول المعري: [من الطويل] أَنَحْوِيَّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ ... جَرَتْ في لِسَانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ في صُورَةِ الْجَحْدِ أَثْبَتَتْ ... وَإِنْ أَثْبتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 69). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 106)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 220).

فيه ابنُ لهيعة، وهو ضعيف لا يُحتج به إذا انفرد، وأبو جمعة اسمه: حبيب بن سباع (¬1)، وهو مخالف لهذا الحديث، وقد يجمع بينهما بتكلف. وقيل: كان التأخير عمدًا، لكنهم شغلوه، فلم يمكِّنوه من ذلك، وهو أقرب؛ ولاسيما وقد وقع عند الإمام أحمد، والنسائي، من حديث أبي سعيد: أن ذلك كان قبل أن يُنزل اللهُ صلاةَ الخوف (¬2). وقيل: وفي قَسَمِه - صلى الله عليه وسلم - إشفاقٌ منه على مَنْ تركها. وتحقيق هذا: أن القسمَ تأكيدٌ للمقسَم عليه، وفي هذا القسم إشعارٌ ببعد وقوع هذا المقسَم عليه، حتى كأنه لا يعتقد وقوعه، فأقسم على وقوعه، وذلك يقتضي: تعظيمَ هذا الترك، وهو مقتضٍ الإشفاق منه، أو ما يقارب هذا المعنى، قاله ابن دقيق العيد (¬3). (قال)، أي: جابر - رضي الله عنه -: (فقمنا إلى بطحان) -بضم الموحدة وسكون الطاء المهملة- (¬4): وادٍ بالمدينة. وقيل: هو -بفتح أوله وكسر ثانيه فحاء مهملة فنون بعد الألف-، حكاه أبو عبيد البكري (¬5). (فتوضأ) - صلى الله عليه وسلم - (لـ) أجل (الصلاة، وتوضأنا) معشرَ أصحابه (لها)، قد ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 43 - 44). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 67)، والنسائي (661)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للفائت من الصلوات. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 69). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 155). (¬4) وهو قول المحدثين، كما ذكر الزركشي في "النكت" (ص: 71). (¬5) انظر: "معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (1/ 258)، وانظر: "معجم البلدان" لياقوت (1/ 446)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 115)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 135).

يشعر هذا بصلاتهم معه - صلى الله عليه وسلم - جماعة، فيستدل به على صلاة الفوائت جماعة؛ ولذا بوب له البخاري في "صحيحه" باب: من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت (¬1)، يؤيده ما وقع في رواية الإسماعيلي بلفظ: فصلى بنا العصر (¬2). (فصلى) - عليه الصلاة والسلام - (العصر). فيه دليل على: تقديم الفائتة على الحاضرة في القضاء (¬3)؛ للتصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر (بعدما غربت الشمس، ثم صلى) - عليه الصلاة والسلام - (بعدها)؛ أي: العصرِ (المغربَ). وهذا الذي أخذ به الإمام أحمد، فقال: يقضي الفوائت مرتبًا فورًا ما لم يضعف بدنه، أو يشغله عن معيشة من يقوم بكفايته، وهذا معتمد المذهب، قلَّت الفوائت أو كثرت، نصَّ عليه، واختاره الشيخ؛ لأن القضاء يحكي الأداء، والأداء مرتب، فالقضاء مثله. قال في "الفروع": يجب قضاء الفوائت اتفاقًا على الفور في المنصوص؛ خلافًا للشافعي. ويجب ترتيبها؛ خلافًا للشافعي. وعنه -يعني الإمام أحمد-: لا يجب ترتيب. وقيل: يجبان؛ أي: الفوريةُ والترتيبُ في خمس صلوات؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك في الترتيب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - رَتَّبَ، وفعلُه بيانٌ لمجمَل الأعمال ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 214). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 70). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 155).

المطلَقة، وهي تشمل الأداء والقضاء، مع عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي" (¬1). واستوجه في "الفروع": احتمال وجوب الترتيب؛ ولا يعتبر للصحة، قال: وله نظائر. قال: قال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام-: إن عجز فمات بعدَ التوبة، غُفر له، ولا تسقط بحجٍّ، ولا تضعيفِ صلاةٍ في المساجد الثلاثة، ولا غيرِ ذلك إجماعًا. ويسقط الترتيبُ بخشية فواتِ الحاضرة؛ لئلا تصيرا فائتتين، ولأن ترك الترتيب أيسرُ من ترك الوقت. وعنه: مع الكثرة؛ وفاقًا لمالك. ويسقط الترتيبُ بالنسيان أيضاً، على الأصح فيهما (¬2)؛ خلافًا لمالك (¬3). تنبيهات: الأول: قولُ صاحب "الفروع": يجبان؛ أي: الفوريةُ والترتيبُ في خمس؛ وفاقًا لمالك وأبي حنيفة: المشهورُ من مذهب مالك: وجوبُ الترتيب في القليل من الفوائت، وهو عنده ما دون الخمس، وفي الخمس خلاف (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (605)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، والإقامة، عن مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -. (¬2) أي: مسألة النسيان، ومسألة خشية فوت الحاضرة. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 267). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (6/ 403).

الثاني: وقع في "الموطأ" من طريق أخرى: أنَّ الذي فاتَهم الظهرُ والعصرُ (¬1). وفي حديث أبي سعيد: الظهرُ والعصرُ والمغربُ، وأنهم صَلَّوا بعد هُوِيٍّ من الليل (¬2). وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي، والنسائي: أن المشركين شغلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أربع صلوات يومَ الخندق حتى ذهبَ من الليل ما شاء الله (¬3). وفي قوله: أربعٌ، تجوُّزٌ؛ لأن العشاء لم تكن فاتت. قال اليعمري: من الناس من رجَّح ما في "الصحيحين"، وصرح بذلك ابن العربي، فقال: الصحيح أن التي شُغل عنها واحدةٌ، وهي العصر (¬4). قال في "الفتح": ويؤيده ما في "مسلم": "شغلونا عن الصَّلاةِ الوسطى، صلاةِ العصرِ" (¬5). ومنهم من جمع بأن الخندق كانت وقعتُه أيامًا، فكان ذلك في أوقات مختلفة في تلك الأيام، وهذا أولى. ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 184)، عن سعيد بن المسيب، مرسلًا. (¬2) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد، والنسائي قريبًا. (¬3) رواه النسائي (662)، كتاب: الأذان، باب: الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد، والإقامة لكل واحدة منها، والترمذي (179)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل تفوته الصلوات، بأيتهنَّ يبدأ؟، وقال: ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله. (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 291). (¬5) تقدم تخريجه.

قال في "الفتح": ويقويه أن روايتي أبي سعيد وابن مسعود ليس فيهما تعرُّضٌ لقصة عمر، بل فيهما أن قضاءه الصلاةَ وقع بعد خروج وقت المغرب (¬1). الثالث: في هذا الحديث من الفوائد: اعتبار ترتيب الفوائت، وهذا المقصود منه هنا، والأكثر على وجوبه مع الذكر. وما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من مكارم الأخلاق، وحسن التأني مع أصحابه، وما ينبغي الاقتداء به في ذلك (¬2). وأن الفوائت تقضى جماعة، وذلك مستحبٌّ كما في "المغني" (¬3). وأنه لا يلزم القضاء أكثرَ من مرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقض أكثر من مرة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاةٍ أو نسيها، فليصلِّها إذا ذكرَها" (¬4)، لم يزد على ذلك. وقد روى عمرانُ بنُ حُصين في حديثه حين ناموا عن صلاة الفجر، قال: فقلنا: يا رسول الله! ألا نصلِّي هذه الصلاة لوقتها؟ قال: "لا، لا ينهاكم عن الربا ويَقْبَلُه منكم" رواه الإمام أحمد (¬5)، واحتج به، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 69 - 70). (¬2) المرجع السابق، (2/ 70). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 356). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 441)، وابن حبان في "صحيحه" (1461)، والدارقطني في "سننه" (1/ 385)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 217).

باب فضل صلاة الجماعة ووجوبها

باب فضل صلاة الجماعة ووجوبها عقد الحافظ -قدس الله روحه- هذا الباب لشيئين: الأول: فضل صلاة الجماعة على الصلاة فرادى. والثاني: وجوب الجماعة في الصلوات الخمس والجمع والأعياد. وأتبع ذلك بالنهي عن منع النساء من المساجد، وذكرَ الرواتب، وذكرَ في هذا الباب ستة أحاديث:

الحديث الأول

الحديث الأول عَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "صَلاَةُ الجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةِ الْفَذِّ بِسَبع وَعِشْرِينَ دَرَجَةً" (¬1). * * * (عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (- رضي الله عن هـ) ما -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة الجماعة أفضل من ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (619)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الجماعة، و (621)، باب: فضل صلاة الفجر في جماعة، ومسلم (650)، (1/ 450 - 451) كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: صلاة الجماعة، واللفظ له، والنسائي (837)، كتاب: الإما مة، باب: فضل الجماعة، والترمذي (215)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فضل الجماعة، وابن ماجه (789)، كتاب: الصلاة، باب: فضل الصلاة في جماعة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 135)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 15)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 617)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 274)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 151)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 157)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 340)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 29)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 296)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 131)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 165)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 18).

صلاة الفذ) -بالفاء والذال المعجمة-: المنفرد، يقال: فَذَّ الرجلُ من أصحابه: إذا بقي وحده (¬1). وفي لفظ لمسلم: "صلاةُ الرجلِ في الجماعة تزيدُ على صلاته وحده" (بسبعٍ وعشرين درجةً). قال الترمذي: عامة من رواه قالوا: "خمسًا وعشرين"، إلا ابن عمر؛ فإنه قال: "سبعًا وعشرين" (¬2). قال في "الفتح": لم يختلف عنه في ذلك إلا ما وقع عن عبد الرزاق (¬3)، عن عبد الله العمري، عن نافع، فقال: "خمس وعشرون" (¬4)، والعمري: ضعيف (¬5). وعلى كل حال ما في "الصحيحين" هو الصحيح. ويأتي في الحديث الثاني، عن أبي هريرة: "خمس وعشرون". وقد جمع العلماء بين الحديثين بوجوه: منها: أن ذكرَ القليل لا ينفي الكثير، وهذا قول من لا يَعتبرُ مفهومَ العدد. ومنها: احتمالُ أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بالخَمْس، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل، فأخبر بالسبع. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 422)، و"لسان العرب" لابن منظور (3/ 502)، (مادة: فذذ). (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (650)، (1/ 451) عنده. (¬3) انظر: "سنن الترمذي" (1/ 420). (¬4) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (2005). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 132).

وتُعقب: بجهل التاريخ، وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلَفٌ فيه. ومنها: احتمالُ اختلاف العددين باختلاف مميزهما، وعلى هذا فقيل: الدرجةُ أصغر من الجزء. وتُعقب: بأن الذي رُوي عنه الجزء، روى الدرجةَ. وقال بعضهم: الجزء في الدنيا، والدرجة في الآخرة، وهو مبني على التغاير. ومنها: الفرق بقرب المسجد وبعده. ومنها: الفرق في حال المصلي؛ كأن يكون أعلمَ أو أخشعَ. ومنها: الفرق بإيقاعها في المسجد وغيره، أو المنتظر للصلاة وغيره، أو أدركها كلَّها أو بعضَها، أو بكثرة الجماعة وقِلَّتهم، أو أن السبعَ مختصة بالفجر والعشاء. وقيل: الفجر والعصر، والخمس ما عدا ذلك، أو السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية، واستوجهه في "الفتح" (¬1). وقال صدر الوزراء عونُ الدين بنُ هبيرة -رحم الله روحه-: لما كانت صلاةُ الفَذِّ مفردةً، أشبهت العددَ المفرد، فلما جمعتْ مع غيرها، أشبهت ضربَ العدد، وكانت خمسًا، فضربت في خمس، فصارت خمسًا وعشرين، وهي غاية ما يرتفع إليه ضربُ الشيء في نفسه. قال: فأما رواية: "سبع وعشرين"، فإن صلاة المنفرد وصلاة الإمام أدخلتا مع المضاعفة في الحساب، انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) نقلًا عن "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 455).

وقد أشار إلى مثل ذلك الكرماني (¬1). وقد ذكر بعضهم الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة، ولم ير ذلك ابن الجوزي، بل قال عن الذين عينوا ذلك: لم يأتوا بطائل (¬2). وذكر الطبري (¬3): أن في حديث أبي هريرة الآتي إشارةً إلى بعض ذلك. وحاصل ذلك: إجابة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة، التبكير إليها في أول الوقت، المشي إليها بالسكينة، دخول المسجد داعيًا، صلاة التحية عند دخوله- كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة-، انتظار صلاة الجماعة والتعاون على الطاعة، صلاة الملائكة واستغفارهم له، شهادتهم له، إجابة الإقامة، السلامة من الشيطان حين يفر عند الإقامة، الوقوف منتظرًا إحرامَ الإمامِ والدخولَ معه في أي هيئة وجده عليها، إدراك تكبيرة الإحرام كذلك، تسوية الصفوف وسد فُرَجها، جواب الإمام عند قوله: سمع الله لمن حمده، الأمن من السهو غالبًا، تذكير الإمام بالتسبيح والفتح عليه، حصول الخشوع والسلامة عما يُلهي غالبًا، تحسين الهيئة غالبًا، احتفاف الملائكة، التدربُ على تجويد القراءة وتعلم الأركان والأبعاض، إظهار شعائر الإسلام، إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل، السلامة من صفة النفاق، ومن إساءة ظن غيره به بأنه تارك الصلاة رأسًا، نية رد السلام على الإمام، الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص، قيام نظام الألفة [بين ¬

_ (¬1) كما نقل عنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 133). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) هو المحب الطبري، كما في "الفتح".

الجيران] (¬1) وحصولُ تعاهدهم في أوقات الصلوات، فهذه خمس وعشرون خصلة، ورد في كل واحد منها أمرٌ أو ترغيب، وثَمَّ أمران يختصان بالجهرية، وهما: الإنصات عند قراءة الإمام، والاستماع لها، والتأمينُ عند تأمينه؛ ليوافق تأمينَ الملائكة، ذكر ذلك في "الفتح"، قال: وبهذا يرجح أن السبع تختص بالجهرية، انتهى (¬2). فإن قيل: التضعيفُ يقتضي اختصاص الخصال بالتجميع، والمشي للمساجد ودخولها، والتحيةُ لا اختصاص لها بذلك؟. فالجواب: يمكن أن يعوض عنها مما ذكرنا مما يشتمل على خصلتين متقاربتين أقيمتا مقام خصلة واحدة؛ كاجتماعهم على الانتفاع بالدعاء والذكر، وعود بركة الكامل على الناقص، وكذا فائدةُ قيام الألفة غيرُ فائدة حصول التعاهد، وكذا فائدةُ أمن المأمومين من السهو غالبًا غيرُ فائدة تنبيه الإمام إذا سها، فهذه ثلاثة يمكن أن تكون عوضًا من الثلاثة المذكورة، فيحصل المطلوب، والله أعلم (¬3). تتمة: ورد في حديث صحيح: تضعيفُ الصلاة في الفلاة على صلاة الجماعة، ففي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلاةُ في جماعة تعدلُ خمسًا وعشرين صلاة، فإذا صلاها في فلاة، فأتمَّ ركوعَها وسجودَها، بلغت خمسين صلاة" رواه أبو داود، والحاكم، وقال: على شرطهما، وابن حبان بمعناه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "من الخسران"، والتصويب من "الفتح". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 133 - 134). (¬3) المرجع السابق (2/ 134).

قال عبد الواحد بن زياد: في هذا الحديث صلاة الرجل في فلاة تضاعف على صلاته في الجماعة (¬1). * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (560)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة، والحاكم في "المستدرك" (753)، وابن حبان في "صحيحه" (2055)، وهذا لفظ أبي داود.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاَةُ الرَّجُلِ في الجَمَاعةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَفي سُوقِهِ: خَمْسًا وَعِشْرينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنّهُ إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ، لا يُخْرِجُهُ إلأَ الصَّلاةُ، لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً، إلأَ رُفِعَتْ لَهُ بَها دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بهَا خَطِيئَةٌ، فَاذَا صَلَّى، لَمْ تَزَلِ المَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَادَامَ في مُصَلاَّهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ولاَ يَزالُ (¬1) في صَلاةٍ؛ مَا انْتَظَرَ الصَّلاَةَ" (¬2). ¬

(¬1) عند البخاري زيادة: "أحدكم"؛ باعتبار أن اللفظ الذي ساقه المصنف هو للبخاري. (¬2) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (620)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الجماعة، واللفظ له، و (465)، كتاب: المساجد، باب: الصلاة في مسجد السوق، و (2013)، كتاب: البيوع، باب: ما ذكر في الأسواق، ومسلم (649)، (1/ 449 - 450)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة، وأبو داود (559)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة، والنسائي (486)، كتاب: الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة، والترمذي (216)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فضل الجماعة، وابن ماجه (786، 787)، كتاب: المساجد والجماعات، باب: فضل الصلاة في جماعة. =

(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمن بنِ صخرٍ (- رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الرجل في الجماعة): ظاهره قلَّت الجماعة أو كَثُرت، نعم الجماعةُ الكثيرةُ أفضل؛ خلافًا لمالك؛ محتجًا بأنه لا مدخل للقياس في الفضائل؛ لأن الحديث دل على فضيلة الجماعة بالعدد، فتدخل كلُّ جماعة، ومن جملتها الجماعةُ الكبرى، والجماعةُ الصغرى، والتقدير فيهما واحد بمقتضى العموم (¬1). ولنا: ما رواه أبو داود، من حديث أُبي بن كعب - رضي الله عنه -: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحدَهُ، وصلاتُه مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلَّما كَثُرَ، فهو أحبُّ إلى الله -عز وجل-". ورواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، والحا كم (¬2). وقد جزم يحيى بن معين والذهلي بصحة هذا الحديث (¬3). ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 16)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 618)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 165)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 159)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 344)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 135)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 257)، وانظر: مصادر شرح الحديث السابق. (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 158). (¬2) رواه أبو داود (554)، كتاب: الصلاة، باب: في فضل صلاة الجماعة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 140)، والنسائي (843)، كتاب: الإمامة، باب: الجماعة إذا كانوا اثنين، وابن خزيمة في "صحيحه" (1476)، وابن حبان في "صحيحه" (2056)، والحاكم في "المستدرك" (904). (¬3) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 161)، حديث رقم. (596).

وروى البزار، والطبراني بإسناد لا بأس به، عن قَبَاث بنِ أَشْيَم الليثيِّ - رضي الله عنه - (¬1)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى، وصلاة أربعة أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مئة تترى" (¬2). (تُضَعَّفُ)، قال الأزهري: الضعف: المِثْل إلى ما زاد، وليس بمقصور على المثلين، تقول: هذا ضعف الشيء: أي: مثليه أو مثاله فصاعدًا، لكن لا يزاد على العشرة (¬3). وفي "النهاية": الضعف مثلان. يقال: [إن] أعطيتني درهمًا فلك ضعفه، أي: درهمان، وربما قالوا: فلك ضعفاه. وقيل: ضعف الشيء: مثله، وضعفاه: مثلاه. قال: وحديث "تضعف صلاة الجماعة على صلاة الفرد خمسًا وعشرين درجة"؛ أي: تزيد عليها، يقال: ضعف الشيء يضعف: إذا زاد، وأضعفته وضعَّفته وضاعفته، بمعنى (¬4). ¬

_ (¬1) جاء على هامش الأصل المخطوط: قوله: قَبَاث: هو -بفتح القاف والموحدة، بعدها مثلثة-، وابن أَشيَم- بالمعجمة، بعدها تحتانية-، على وزن أًحْمَر. (¬2) رواه الطبراني في "المعجمِ الكبير" (19/ 36)، وفي "مسند الشاميين" (487)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (926)، والحاكم في "المستدرك" (6626)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 61). وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 161)، و"مجمع الزوائد" للهيثمي (2/ 39). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (1/ 480 - 481)، (مادة: ضعف). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 89).

قال في "الفتح" (¬1): معنى الدرجة والجزء: حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للجمع، كما استظهر ابن دقيق العيد (¬2). وفي بعض طرق مسلم: "صلاة الجماعة تعدل خمسًا وعشرين من صلاة الفرد" (¬3). وفي لفظ: "صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده" (¬4). ونحوه في "مسند الإمام أحمد"، من حديث ابن مسعود، برجال ثقات، وفي آخره: "كلها مثل صلاته" (¬5). وهذا ظاهر هذا الحديث حيث جعل أن صلاة الرجل في الجماعة تضعف؛ أي: تزيد (على صلاته) منفردًا (في بيته و) كذا صلاته في جماعة تضعف على صلاته منفردًا (في سوقه، خمسًا وعشرين ضعفًا". قال في "الفتح": مقتضاه: أن الصلاة في المسجد جماعةً تزيد على الصلاة في البيت، وفي السوق جماعة وفرادى، كما قاله ابن دقيق العيد، والذي يظهر: أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاةُ في غيره منفردًا، لكنه خرج مخرجَ الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد، صلى منفردًا. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 134). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 158). (¬3) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (649)، (1/ 450) عنده. (¬4) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (649)، (1/ 450) أيضاً. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 376)، والبزار في "مسنده" (2059)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10098). وانظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (2/ 38).

قال: وبهذا يرتفع الإشكال عمن استشكل تسويةَ الصلاة في البيت والسوق (¬1). فلا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التسويةُ المذكورة، إذ لا يلزم من استوائهما في المفضولية عن المسجد أَلَّا يكون أحدُهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن تكون الصلاة في البيت أو السوق جماعةً لا فضل فيها على الصلاة منفردًا، بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختصّ بالجماعة في المسجد، والصلاة في البيت مطلقا أولى منها في السوق؛ لما ورد من كون الأسواق موضعَ الشياطين، والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد (¬2). وقد جاء عن بعض الصحابة قصرُ التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع في المسجد العام، مع تقرير الفضل في غيره، فروى سعيد بن منصور، بإسناد حسن، عن [أوس المعافري] (¬3): أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: أرأيت من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى في بيته؟ قال: حسن جميل، قال: فإن صلى في مسجد عشيرته، قال: خمس عشرة صلاة، قال: فإن مشى إلى مسجد جماعة فصلى فيه؟ قال: خمس وعشرون (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 161 - 162). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 135). (¬3) في الأصل: "أويس المغافري"، والتصويب من "الفتح". وهو أوس بن بشر المعافري، ومعافر: سكة بمصر. قال البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 19): يعد في المصريين، صَحِبَ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكره ابن حبان في "الثقات" (4/ 44)، وانظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (9/ 403). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 135).

(وذلك أنه)؛ أي: الرجل (إذا توضأ) بالماء، ومثله بالتراب بشرطه (فأحسن الوضوء)، وهذا ظاهر في أن الأمور المذكورة علةٌ للتضعيف المذكور، إذ التقدير: وذلك لأنه، فكأنه يقول: التضعيفُ المذكورُ سببُه كيتَ وكيتَ، وإذا كان كذلك، فما رُتِّبَ على موضوعات متعددة لا توجد بوجود بعضها إلا إذا دل الدليل على إلغاء ما ليس معتبرًا، أو ليس مقصودًا لذاته (¬1). وهذه الزيادة التي في هذا الحديث معقولةُ المعنى، فالأخذُ بها متوجِّهٌ، والروايات المطلقة لا تنافيها، بل يُحمل مطلقُها على هذه المقيدة. والذين قالوا بوجوب الجماعة على الكفاية، ذهب كثير منهم إلى أن الحرج لا يسقط بإقامة الجماعة في البيوت، وكذا روي عن الإمام أحمد في فرض العين، ووجهوه بأن أصل المشروعية إنما كان في جماعة المساجد، وهو وصف معتبر لا ينبغي إلغاؤه، فيختص به المسجد، ويلتحق به ما في معناه مما يحصل به إظهار الشعار، قاله في "الفتح" (¬2). (ثم خرج)؛ أي: الرجل بعد ذلك (إلى المسجد، لا يخرجه) من بيته (إلا الصلاةُ)؛ أي: قصدُ الصلاة في جماعة، واللام فيها للعهد (لم يخط) -بفتح أوله وضم الطاء المهملة- (خطوة). قال في "الفتح": ضبطناه بضم أوله، ويجوز الفتح (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 159). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 135 - 136) مُفَادًا من كلام الإمام ابن دقيق العيد في الموضع المشار إليه آنفًا في التخريج. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 136).

قال الجوهري: الخُطْوَةُ -بالضم-: ما بين القدمين، و-بالفتح-: المرة الواحدة (¬1). وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح. وقال القرطبي: في رواية مسلم -بالضم-، انتهى (¬2). والذي في "القاموس": الخُطْوَةُ، ويفتح: ما بين القدمين، والجمعُ خُطًا وخُطْوات، وبالفتح: المرة، والجمع: خَطَوات (¬3). (إلا رُفِعَت) -بالبناء للمفعول- (له)؛ أي: للرجل الآتي إلى المسجد على الصفة المذكورة (بها)؛ أي: الخطوة (درجةٌ) نائب الفاعل؛ أي: رفع الله له بذلك درجةً (وَحُطَّ) -بالبناء للمفعول- (عنه)؛ أي: الرجل المذكور (بها)؛ أي: الخطوةِ (خطيئةٌ) بالرفع نائب فاعل، وهي الذنبُ، أو ما تُعُمِّد منه؛ كالخِطْءِ -بالكسر-، والخطأ: ما لم يُتَعَمَّدْ، والجمع: خَطَايا (¬4). (فإذا صلى) أي: صلاة تامة، قاله ابن أبي جمرة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال للمسيء في صلاته: "ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" (¬5). (لم تزل الملائكة) الحَفَظَةُ، أو أَعَمُّ (تصلي عليه مادام في مصلاه)؛ أي: المكانِ الذي أوقع فيه الصلاةَ في المسجد، وكأنه خرجَ مخرجَ الغالب، وإلا، فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرًا على نية انتظار الصلاة، كان كذلك (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2328)، (مادة: خطا). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 290). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1651)، (مادة: خطو). (¬4) المرجع السابق، (ص: 49)، (مادة: خطأ). (¬5) سيأتي تخريجه، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 136). (¬6) المرجع السابق، الموضع نفسه.

يقولون: (اللهم صَلِّ)؛ أي: أَثْنِ (عليه) ثناءً حسنًا في الملأ الأعلى، والجملةُ وما بعدها مبينة؛ لقوله: "تصلي عليه". (اللهم ارحمه). وفي لفظ: "اللهمَّ اغفرْ له، اللهمَّ ارحمه" (¬1)، طلبتْ له الرحمة من الله بعدَ طلب المغفرة؛ لأن صلاة الملائكة استغفار. وزاد في رواية عندهما: "اللهم تُبْ عليه" (¬2)؛ أي: وفقه للتوبة، وتقبلْها منه. (ولا يزال في) ثوابِ (صلاةٍ؛ ما انتظر)؛ أي: مدةَ دوام انتظاره (الصلاةَ). وفي رواية: "ما دامتِ الصلاةُ تَحْبسُه" (¬3)؛ أي: تمنعه الخروجَ من المسجد؛ لأجل انتظاره لها. زاد في رواية: "ما لم يُؤْذِ فيه، أو يُحْدِثْ فيه" (¬4)؛ أي: يؤذي أحدًا من الخَلْق، أو ينقض طُهره. واستدل به على أفضلية الصلاة؛ لما ذكر من دعاء الملائكة للمصلي بالرحمة والمغفرة والتوبة. ¬

_ (¬1) هو لفظ البخاري ومسلم معًا، وقد تقدم تخريجه في حديث البخاري برقم (465)، ومسلم برقم (649). (¬2) هو رواية مسلم فقط دون البخاري، وقد تقدم تخريجها برقم (649)، (1/ 459) عنده. (¬3) هي رواية البخاري ومسلم معًا، وتقدم تخريجها في البخاري برقم (628)، ومسلم برقم (649): (1/ 460). (¬4) هي رواية مسلم فقط، وقد تقدم تخريجها عنده برقم، (649)، (1/ 459)، وعنده: "ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه".

وعلى تفضيل صالحي البشر على الملائكة؛ لأنهم يكونون في تحصيل الدرجات لهم بالدعاء والاستغفار. وبأن الجماعة ليست شرطًا لصحة الصلاة؛ لأن قوله: "على صلاته وحده" يقتضي صحة صلاته منفردًا؛ لاقتضاء صيغة "أفعل" الاشتراكَ في أصل التفاضل؛ فإن ذلك يقتضي وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصحّ لا فضيلة فيه (¬1). فصل في ذكر وجوب صلاة الجماعة: وهكذا ترجم البخاري في "صحيحه" (¬2)؛ لقوة دليل الوجوب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه-: صلاةُ الجماعة اتفق العلماء على أنها من آكَدِ العبادات، وأجلِّ الطاعات، وأعظمِ شعائر الإسلام، مع ما ثبت من فضلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: ومن ظن من المتنسكة أن صلاتَه وحدَه أفضلُ؛ إما في خلوته، أو في غير خلوته، فهو مخطىء ضالٌّ، وأضلُّ منه من لم يرَ الجماعةَ إلا خلفَ الإمام المعصوم، فعطَّلَ المساجد عن الجُمَع والجماعات التي أمر الله ورسولُه بها، وعمر المشاهد بالبدع والضلالات التي نهى الله ورسولُه عنها. ولكن تنازعَ الناسُ بعد ذلك في كونها واجبةً على الأعيان، أو على الكفاية، أو سنة مؤكدة؟ فقيل: إنها سنة مؤكدة، وهذا المعروف عن أصحاب أبي حنيفة، وأكثرِ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 136). (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 231).

أصحابِ مالك، وكثيرٍ من أصحاب الشافعي، ويذكر روايةً عن الإمام أحمد. وقيل: بل هي واجبة على الكفاية، وهذا الراجح من مذهب الشافعي، وقولُ بعض أصحاب مالك، وقولٌ في مذهب أحمد. ومعتمد المذهب: أنها واجبة على الأعيان، وهو المنصوص عن الإمام أحمد، وغيره من أئمة السلف، وفقهاء الحديث، وغيرهم. وهؤلاء تنازعوا فيما إذا صلى منفردًا لغير عذر، هل تصحُّ صلاته، أو لا؟ فقيل: لا تصح، وهو قول طائفة من قدماء أصحاب الإمام أحمد، كما ذكره القاضي أبو يعلى في "شرح المذهب" عنهم، وهو قول ابن عقيل وطائفةٍ من السلف، واختاره ابنُ حزم وغيره. وصحيح المذهب المعتمد: تصحُّ مع إثمه بالترك، كما هو المأثور عن الإمام، وهو قول أكثر أصحابه. ودليل الوجوب: الكتابُ والسنةُ والآثار، أما الكتاب، فقوله -تعالى-: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} الآية [النساء: 102]. فأمرَهم بصلاة الجماعة معه في الخوف، وذلك دليل على وجوبها حال الخوف، وبطريق الأولى حال الأمن، وسنَّ صلاة الخوف جماعةً، وسوغ فيها ما لا يجوز لغير عذر؛ كاستدبار القبلة، والعمل الكثير، ومفارقة الإمام قبل السلام عند الجمهور، والتخلف عن متابعته، فلو لم تكن الجماعة واجبة، لكان التزم فعلَ محظورٍ مبطلٍ للصلاة لأجل فعل مستحب؛ لإمكان الصلاة فرادى تامة، فعلم أنها واجبة.

وأيضًا قوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]. وإنما خص الركوع من بين أركان الصلاة؛ لأنه به تُدرك الركعةُ وما بعده؛ بخلاف القيام، فإنه لا يجب الدخولُ مع الإمام من أوله، بل الواجب إدراكُ الركعة، وقد حصل (¬1). وأما السنة: فذكر المصنف - رضي الله عنه - من ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وهو: * * * ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 222 - 228)، بتصرف يسير عند الشارح.

الحديث الثالث

الحديث الثالث وعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ، وَصَلاَةُ الفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا، لأَتوْهُمَا، وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاةِ، فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا، فَيُصَلِّيَ بالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجالٍ، مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ، إلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيوتَهُمْ بِالنَّارِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (618)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: وجوب صلاة الجماعة، و (626)، باب: فضل العشاء في الجماعة، و (2288)، كتاب: الخصومات، باب: إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة، و (6797)، كتاب: الأحكام، باب: إخراج الخصوم وأهل الرَّيب من البيوت بعد المعرفة، ومسلم (651)، (1/ 451، 452)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة، واللفظ له، بزيادة: "إنَّ" في أول الحديث، وأبو داود (548)، كتاب: الصلاة، باب: في التشديد في ترك الجماعة، والنسائي (848)، كتاب: الإمامة، باب: التشديد في التخلف عن الجماعة، والترمذي (217)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن يسمع النداء فلا يجيب، وابن ماجه (791)، كتاب: المساجد والجماعات، باب: التغليظ في التخلف عن الجماعة. =

وأشار إليه بقوله: (وعنه)؛ أي: أبي هريرة - رضي الله عنه -، (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أثقل الصلاة على المنافقين) الذين يُظْهِرون الإيمانَ، ويُبْطِنون الكفرَ، أو المراد بالنفاق هنا: نفاقُ المعصية، ومال إليه في "الفتح"؛ لأمور: منها: أن الكافر لايصلي في بيته، إنما يصلي في المسجد رياءً وسمعة، فإذا خلا في بيته، كان كما وصفه الله تعالى من الكفر والاستهزاء. ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يشهدون الجماعات" (¬1). وأصرحُ من هذا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إن قومًا يصلون في بيوتهم ليستْ بهم علَّة" (¬2)، فهذا يدل على أن نفاقهم نفاقُ معصيةٍ لا كفرٍ (¬3). (صلاةُ العشاء وصلاة الفجر). وفيه دلالة على أن الصلاة كلَّها ثقيلة على المنافقين؛ بدليل قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة: 54]. ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 139)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 622)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 276)، وإ شرح مسلم" للنووي (5/ 153)، وشرح عمدة الأحكام "لابن دقيق (1/ 163)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 348)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 12)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 73)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 307)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 125)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 159)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 18)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 150). (¬1) في "الفتح" (2/ 127): وقوله في حديث أسامة: "لا يشهدون الجماعة". (¬2) رواه أبو داود (549)، كتاب: الصلاة، باب: في التشديد في ترك الجماعة. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 127).

وإنما كانت العشاء والفجر أثقلَ عليهم من غيرهما ولقوة الداعي إلى تركهما، لأن العشاء وقتُ السكون والراحة، والصبح وقتُ لذة النوم. وقيل: وجهه: كونُ المؤمنين يفوزون بما يترتب عليهما من الفضل؛ لقيامهم بحقوقهما (¬1). فالعشاء: وقتُ الإيواء إلى البيوت، والاجتماعُ مع الأهل، واجتماعُ ظلمة الليل، أو طلبُ الراحة من متاعب السعي بالنهار (¬2)، بخلاف المؤمن الكامل الإيمان، فهو عالم بزيادة الأجر لزيادة المشقة، فتكون هذه الأمور داعيةً له إلى الفعل، كما كانت صارفة للمنافقين؛ ولهذا قال: (ولو يعلمون ما)؛ أي: الذي (فيهما) من مزيد الثواب والفضل (¬3). (لأتوهما)؛ أي: لأتوا المحل الذي يصليان فيه جماعة، وهو المسجد. (ولو) كان إتيانهم لهما (حبوًا) (¬4) أي: يزحفون إذا منعهم مانعٌ من المشي، كما يزحف الصغير. ¬

_ (¬1) المرجع السابق (2/ 141). (¬2) في "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 163)، وعنه نقل الشارح هذا الإيضاح: وأما الصبح: فلأنها وقت لذة النوم، فإن كانت في زمن البرد، فهي وقت شدته؛ لبعد العهد بالشمس؛ لطول الليل، وإن كانت في زمن الحر، فهو وقت البرد والراحة من أثر حر الشمس؛ لبعد العهد بها، فلما قوي الصارف عن الفعل، ثقلت على المنافقين، وأما المؤمن الكامل ... ، إلى آخر كلامه - رحمه الله - الذي نقله الشارح هنا. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 163 - 164). (¬4) قال الزركشي في "النكت" (ص: 73): فيه حذف كان واسمها، أي: ولو يكون الإتيان حبوًا، وقدَّره السهيلي في "أماليه": ولو أتوا حبوًا، لكانوا أحقاء، فحذف عامل حبوًا، وجواب لو.

ولابن أبي شيبه، حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "ولو حبوًا على المرافِقِ والرُّكبِ" (¬1). (ولقد هممت): اللام جواب القسم، والهمُّ: العزم، وقيل: دونه. وزاد مسلم: "والذي نفسي بيده" (¬2). وإنه - صلى الله عليه وسلم - كان كثيراً ما يقسم به، والمعنى: أنَّ أَمْرَ نفوس العباد بيد الله؛ أي: بتقديره، (أن آمرَ بالصلاة فتُقام): اختلف في تعيين الصلاة، هل هي العشاء، أو الفجر، أو الجمعة؟ قال في "الفتح": رأيت التعيين ورد في حديث أبي هريرة، وابن أم مكتوم، وابن مسعود. وحديث أبي هريرة هذا من رواية الأعرج عنه يومىء أنها العشاء والفجر، وعيَّنها الشراح في رواية له من هذا الوجه؛ حيث قال في صدر الحديث: أخر العشاء ليلة، فخرج فوجد الناس قليلًا، فغضب، فذكر الحديث (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3355)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2879)، بلفظ: "ولو حبوًا على مرافقكم وركبكم". والشارح يحكي كلام الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 141). ثم إن الحديث موقوف على أبي الدرداء - رضي الله عنه -، كما أخرجه ابن أبي شيبة والبيهقي، وليس مرفوعًا، كما زعم الحافظ، والله أعلم. (¬2) هي من زيادة البخاري، وليس من مسلم، وقد تقدم تخريجه عند البخاري برقم (618). ولعلَّ الشارح -رحمه الله- قد وقع في قلب كلام الحافظ ابن حجر حين نقلِه كلامَه من "الفتح" (2/ 129)، قال الحافظ في شرح حديث البخاري: "والذي نفسي بيده": هو قسم، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يقسم به، والمعنى: أن أمر نفوس العباد بيد الله؛ أي: بتقديره. ثم قال: قوله: "لقد هممت": اللام جواب القسم، والهم: العزم، وقيل، دونه، وزاد مسلم في أوله: أنه - صلى الله عليه وسلم - فقد ناسًا في بعض الصلوات، فقال: "لقد هممت". (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 416).

وعند ابن حبان: "الصلاتين العشاء والغداة" (¬1). وفي رواية عجلان، والمقبري، عند الإمام أحمد: التصريحُ بتعيين العشاء (¬2). وأخرج الإمام أحمد، وابن خزيمة، والحاكم، عن ابن أم مكتوم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبل الناس في صلاة العشاء، فقال: "لقد هممتُ أن آمرَ بهؤلاء الذين يتخلَّفون فأُحَرِّقَ عليهم بيوتَهم"، فقال ابنُ أم مكتوم: يا رسول الله! لقد علمتَ ما بي، وليس لي قائد. زاد الإمام أحمد: وبيني وبين المسجد شجر، أو نخل، ولا أقدر على قائد كل ساعة، قال: "أتسمعُ الإقامة؟ "، قال: نعم، قال: "فاحضُرْها" (¬3). ولم يرخص. ولابن حبان، من حديث جابر: "أتسمعُ الأذانَ؟ "، قال: نعم، قال: "فَأْتِها ولو حَبْوًا" (¬4). (ثم) بعد الأمر بإقامة الصلاة (آمرَ رجلًا) ممَّنْ هو حاضرٌ من أصحابه (فيصليَ بالناس) تلكَ الصلاةَ القائمةَ. (ثم أنطلقَ) من المسجد إليهم و (معي برجالٍ معهم)؛ أي: الرجال الذين معي. (حُزَم): جمع حُزْمة: جرز (من حطب). ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (2097). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 244، 377). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 128). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 423)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1479)، والحاكم في "المستدرك" (902). (¬4) رواه ابن حبان في "صحيحه" (2063)، وأبو يعلى في "مسنده" (1803).

(إلى قوم): متعلق بأنطلق. وفي لفظ: "ثم أخالفَ إلى رجال" (¬1)؛ أي: آتيهم من خلفهم (لا يشهدون الصلاة) جماعةً. (فأحرِّقَ): بالتشديد، والمرادُ به: التكثيرُ، ويقال: حَرَّقَهُ: إذا بالغ في تحريقه (¬2). (عليهم بيوتهم) فيه إشعارٌ بأن العقوبة ليست قاصرةً على المال، بل المراد تحريقُ المقصودين، والبيوت تبع للقاطنين بها. وفي رواية مسلم، من طريق أبي صالح: "فأحرقَ بيوتًا على مَنْ فيها" (¬3). واستدل ابنُ العربي به على جواز إعدام محلِّ المعصية؛ كما هو مذهب مالك. وتُعقب: بأنه منسوخ كما قيل في العقوبة بالمال (¬4). (بالنار) متعلق بـ: "أحرق". وفي هذا من التهديد والوعيد ما يفيد الوجوبَ بلا ترديد. ¬

_ (¬1) هو لفظ "الصحيحين"، كما تقدم تخريجه عند البخاري برقم (618) و (6797)، ومسلم برقم (651)، (1/ 451). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 129). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (651)، (1/ 452)، إلا أن لفظه عنده: "ثم تحرق بيوتٌ على من فيها". وقد نقل الشارح كلام الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 129). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 129).

وروى الإمام أحمد، عن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد هممتُ أن آمرَ رجلًا فيصليَ بالناس، ثم آمرَ بأناسٍ لا يصلُّون معنا، فتُحَرَّقَ عليهم بيوتُهم" (¬1). ورواه مسلم بغير هذا اللفظ (¬2). وفي مسلم أيضاً، قال عبد الله - رضي الله عنه -: لقد رأيتُنا وما يتخلَّف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقه، أو مريض، وإن كان المريضُ ليمشي بين رجلين حتى يأتيَ الصلاة. وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمنا سُنَنَ الهدى، وإنَّ من سنن الهدى، الصلاةَ في المسجد الذي يؤذَّن فيه (¬3). وفي مسلم عنه أيضاً: قال: من سره أن يلقى الله غدًا مُسلِمًا، فليحافظْ على هؤلاء الصلوات، حيث يُنادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو تركتم سنة نبيكم، لضللتم، وما من رجل يتطهرُ، فيحسنُ الطهور، ثم يعمدُ إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتبَ الله له بكل خطوة يخطوها حسنةً، ويرفعه بها درجةً، ويحطُّ عنه بها سيئة (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 394). (¬2) رواه مسلم (652)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاة الجماعة، وبيان التشديد في التخلف عنها، بلفظ: "لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم". (¬3) رواه مسلم (654)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: صلاة الجماعة من سنن الهدى. (¬4) رواه مسلم (654)، (1/ 453)، كتاب: المساجد ومواضع الصَّلاة، باب: صلاة الجماعة من سنن الهدى.

وأخرج الإمام أحمد، عن عمرو بن أم مكتوم، قال: جئتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله! أنا ضريرٌ شاسِعُ الدار، ولي قائدٌ لا يلائمني، فهل تجد لي رخصةً أن أصلي في بيتي؟ قال: "أتسمعُ النداء؟ "، قلت: نعم، قال: "ما أجدُ لك رخصةً" (¬1). وأبو داود، والنسائي، عن ابن أم مكتوم، قال: يا رسول الله! إن المدينة كثيرة الهوامِّ والسباع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تسمعُ حَيَّ على الصلاةِ، حَيَّ على الفلاح؟ "، قال: نعم، قال: "فحيَّ هَلا"، ورواه الحاكم، وصححه (¬2). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: من سمع النداء، فلم يجبْ، فلا صلاة له (¬3). ومثلُه عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - (¬4). وروي مرفوعًا (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 423)، وأبو داود (552)، كتاب: الصلاة، باب: في التشديد في ترك الجماعة، وابن ماجه (792)، كتاب: المساجد والجماعات، باب: التغليظ في التخلف عن الجماعة. (¬2) رواه أبو داود (553)، كتاب: الصلاة، باب: في التشديد في ترك الجماعة، والنسائي (851)، كتاب: المساجد، باب: المحافظة على الصلوات حيث ينادى بهن، والحاكم في "المستدرك" (901). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3464)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 174). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3463)، والبيهقى في "السنن الكبرى" (3/ 174). (¬5) رواه البزار في "مسنده" (3157)، والحاكم في "المستدرك" (899)، والبيهقي =

وفي "المسند"، وغيره: "لولا ما في البيوت من النساء والذريَّةِ، لأمرتُ أن تُقام الصلاة ..... " الحديث (¬1). فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه همَّ بتحريق البيوت على مَنْ لم يشهد الصلاة، وبين أنه إنما يمنُعه من ذلك مَنْ فيها من النساء والذرية، فإنهم لا يجبُ عليهم شهود الجماعة، وفي تحريق البيوت قتلُ من لا يجوز قتلُه، وكان ذلك بمنزلة إقامة الحدِّ على الحبلى (¬2). وقد قال سبحانه: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25]. وفي "السنن"، من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من سمعَ النداءَ ثم لم يُجب من غيرِ عذر، فلا صلاة له" (¬3). ¬

_ = في "السنن الكبرى" (3/ 174)، عن أبي موسى - رضي الله عنه - مرفوعًا. ورواه أبو داود (551) " كتاب: الصلاة، باب: في التشديد في ترك الجماعة، وابن ماجه (793)، كتاب: المساجد والجماعات، باب: التغليظ في التخلف عن الجماعة، وابن حبان في "صحيحه" (2064)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (7/ 213)، والدارقطني في "سننه" (1/ 420)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 174)، وغيرهم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا. قال البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 57): والموقوف أصح. (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 367)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في "مجموع الفتاوى" (23/ 229). (¬3) كذا نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (23/ 233) إلى "السنن" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وإنما هو معروف من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، كما تقدم تخريجه قريبًا عند أبي داود، وابن ماجه، وغيرهما.

ويؤيد ذلك قولُه: "لا صلاةَ لجارِ المسجد إلا في المسجد"؛ فإنه معروف من كلام علي (¬1)، وعائشة (¬2)، وأبي هريرة (¬3)، وابن عمر (¬4) - رضي الله عنهم -. وقد رواه الدارقطني وغيره مرفوعًا، وقوَّى ذلك بعضُ الحفاظ، كما قاله شيخ الإسلام في "الفتاوى المصرية". قالوا: ولا يعرف في كلام الله ورسوله، حرفُ النفي دخل على فعل شرعيٍّ إلا لتركِ واجبٍ؛ كقوله: "لا صلاةَ إلا [بأمِّ] بالقرآن" (¬5)، و"لا إيمانَ ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "الأم" (7/ 165)، وعبد الرازق في "المصنف" (1915)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (3469)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 57)، وغيرهم، موقوفًا عليه من قوله - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ان حبان في "المجروحين" (2/ 94)، ومن طريقه: ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 411)، مرفوعا عنها - رضي الله عنها -، وهو لا يصح، كما ذكر ابن حبان وابن الجوزي. (¬3) رواه الدارقطني في "السنن" (1/ 420)، والحاكم في "المستدرك" (898)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 57)، مرفوعًا. (¬4) لم أره من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - موقوفًا ولا مرفوعًا، ولم يعزه إليه الحفاظ؛ كابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 410)، والزيلعي في "نصب الراية" (4/ 412)، وفي "تخريج أحاديث الكشاف" (1/ 88)، وابن حجر في "الدراية" (2/ 293). والمذكور عندهم: حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، ولقد رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 419)، ومن طريقه: ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 411)، مرفوعًا، قال ابن الجوزي: في إسناده مجاهيل. (¬5) رواه مسلم (394)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -.

لمن لا أمانةَ له" (¬1)، ونحو ذلك (¬2). والحاصل: أن الأخبار النبوية، والآثار السلفية، دالةٌ دلالةً بينةً على الوجوب على الأعيان، لا يقال: يمكن أن يكون التهديدُ والوعيدُ على ترك فرض الكفاية، إنما نقول: لو كانت فرض كفاية، لكانت قائمةً بالرسول ومَنْ معه (¬3). وإلى القول بوجوبها على الأعيان ذهب عطاء، والأوزاعي، وجماعة من محدِّثي الشافعية، وغيرهم، كأبي ثور، وابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان. وبالغ داود ومن تبعه، فجعلها شرطًا لصحة الصلاة (¬4). ولا يخفى توسُّطُ مذهب سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - بين طرفي التفريط والإفراط، فإن الأحاديث قاضية بالوجوب، فلم ينظر لعدمه، ولا لمن قال به؛ ممن قال بسنيتها، ولم يتغال إلى كونها شرطًا؛ لأنه لم يأمر مَنْ لم يحضرها بالإعادة. وهذا الذي تدل عليه الأحاديث والآثار، ويقتضيه النظرُ الصحيح؛ لموافقة الخبر الصريح، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 135)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2335)، وأبو يعلى في "مسنده" (2863)، وابن حبان في "صحيحه" (194)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 97)، وغيرهم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 233). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 164). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 126).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إِذَا اسْتأْذنَتْ أَحَدَكُم امْرَأَتُهُ إِلَى المَسْجِدِ، فَلا يَمْنَعْهَا". قالَ: فقالَ بلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: وَاللهِ! لَنَمْنَعُهُنَّ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَليْهِ عَبْدُ اللهِ، فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مًا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَه قَطُّ، وقَالَ: أُخْبِرُكَ عَنْ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وتَقُولُ: واللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ!! (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (827)، كتاب: صفة الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، و (835)، باب: استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد، و (4940)، كتاب: النكاح، باب: استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره، إلا أن قصة بلال هذه ليست في شيء من الطرق التي أخرجها البخاري لهذا الحديث، كما يوهم صنيع المصنف - رحمه الله-، وسيأتي التنبيه على ذلك عند الشارح -رحمه الله-، نقلًا عن الحافظ ابن حجر. ورواه -أيضاً-: مسلم (442)، (1/ 326 - 327)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيَّبة، واللفظ له، وأبو داود (568)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، والنسائي (706)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن منع النساء من إتيانهن المساجد، والترمذي (570)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في خروج النساء إلى المساجد، وابن ماجه (16)، في المقدمة.

وفي لفظ: "لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ" (¬1). * * * (عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (- رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -): أنه (قال: إذا استأذنت)؛ السين للطلب، و (أحدَكم) بالنصب مفعول مقدم، أي: إذا طلبت من أحدكم (امرأتُه) أن تذهب (إلى المسجد)؛ لتحضر الجماعة فيه، (فلا يمنعها) من الذهاب. وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، عن ابن عمر مرفوعًا: "ائذنوا للنساءِ بالليل إلى المساجد" (¬2)، (فقال بلالُ بنُ عبدِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (858)، كتاب: الجمعة، باب: هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم، ومسلم (442)، (1/ 327)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأبو داود (566)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في خروج النساء إلى المسجد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 162)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 465)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 52)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 353)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 68)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 161)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 167)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 354)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 305، 317)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 74)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 314)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 348، 383)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 156)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 160). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 49). وتقدم تخريجه عند مسلم، وأبي داود، والترمذي في حديث الباب. وقد فات الشارحَ -رحمه الله-: أن البخاري قد رواه أيضًا في "صحيحه" (857)، كتاب: الجمعة، باب: هل على من يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم، بهذا اللفظ.

الله) بنِ عمرَ - رضي الله عنهما -. وبلال هذا تابعي، روى عن أبيه، وروى عنه: عبد الله بن هبيرة، وكعب بن علقمة، أخرج له مسلم. قال أبو زرعة: إنه ثقة (¬1). (والله! لنمنعهن)؛ أي: النساءَ من الذهاب إلى المساجد. وفي أبي داود: فقال ابنٌ له: والله! لا نأذن لهن (¬2). وفي رواية لمسلم: فقال ابنٌ يقال له: واقد: إذًا يَتَّخِذْنَه دَغَلًا (¬3)، وهو - بفتح الدال المهملة فالغين المعجمة -: أصلُه الشجرُ المُلْتَفُّ، ثم استُعمل في المخادعة، لكون المخادع يلفُّ في ضميره أمرًا، ويُظْهِر غيرَه (¬4). وفي رواية عند الإمام أحمد: فقال سالم، أو بعضُ بنيه (¬5). قال في "الفتح": الراجحُ أنه بلال؛ لورود ذلك من روايته بنفسه، ومن رواية أخيه سالم (¬6). (قال: فأقبل عليه عبد الله) بنُ عمر - رضي الله عنهما -؛ أي: أقبل على ابنه (فسبه سبًا سيئًا). وفي رواية أبي داود: فسبه وغضب (¬7). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 107)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 396)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 65)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 296)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (1/ 442). (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود، وكذا -للترمذي أيضاً-. (¬3) كما تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (442)، (1/ 327). (¬4) انظر: "مشارق الأنوا" للقاضي عياض (1/ 260)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 348). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 43). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 348). (¬7) تقدم تخريجه.

وفسر السبُّ المذكور عند الطبراني باللَّعن ثلاث مرات (¬1). وعند الإمام أحمد: فانتهره وقال: أف لك (¬2). وعنده أيضاً: فعلَ بكَ وفعلَ (¬3). ويحتمل أن كل واحد من بلال وواقد وقعَ منه ذلك، إما في مجلس، أو مجلسين، وأجاب ابنُ عمر كلَّ واحد منهما بجواب يليق به. ويحتمل أن يكون بلالٌ البادىء، فلذلك أجابه بالسبِّ المفسَّرِ باللعن، وأن يكون واقدٌ تلاه، فأجابه بالسبِّ المفسَّر بالتأفيف مع الدفع في صدره. وأما رواية: فقال سالم، فمرجوحة؛ لوقوع الشك فيها (¬4). قال سالم بن عبد الله: (ما سمعته)، يعني: أباه عبدَ الله (سبَّه)، يعني: أخاه بلالًا (مثلَه) أي: مثلَ ذلك السبِّ (قَطُّ). ويحتمل أن المعنى: ما سمعتُه سبه، أي: ذلك السبَّ، مثلُه؛ أي: عبدُ الله، فيكون مثلُه: فاعلَ سبَّه. (وقال) عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لابنه بلال: (أُخبرُك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: أنه قال: "فلا يمنعها". (وتقول): أنتَ: (والله! لنمنعهنَّ) فتصادِمُ حديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!. وهذا الذي حمل ابنَ عمر على سبِّه ولدَه؛ لأنه صرَّحَ بمخالفة الحديث، ولو قال مثلًا: إن الزمانَ قد تغير، وإنَّ بعضهن ربَّما أظهرتْ قصدَ المسجد، ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (13251)، وفي "المعجم الأوسط" (120)، وابن عبد البر في "التمهيد" (24/ 280). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 127). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 143). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 348).

وأضمرت غيره، لكان يظهر أن لا ينكر عليه (¬1). (وفي لفظ: لا تمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله). وفي لفظ: "لا تمنعوا النساءَ حظوظَهُنَّ من المساجدِ إذا استأذَنَّكم" (¬2). وفي لفظ: "لا تمنعوا النساءَ من الخروج إلى المساجد بالليل" (¬3). وكأن اختصاص الليل بذلك؛ لكونه أسترَ، ولا يخفى أن محلَّ ذلك إذا أُمِنَتِ المفسدةُ منهنَّ وعليهنَّ. وفي رواية عند الطبراني: عن بلال، قال: فقلت: أما أنا، فأمنع أهلي، فمن شاء، فليسرحْ أهلَه (¬4)، وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت، وحمله على ذلك الغيرةُ. ويؤخذ من إنكار عبد الله - رضي الله عنه - على ولده: تأديبُ المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه. وتأديب الرجلِ ولدَه، وإن كان كبيرًا إذا تكلم بما لا ينبغي. وجوازُ التأديبِ بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عند الإمام أحمد: فما كلَّمه عبدُ الله حتى مات (¬5). وهذا إن كان محفوظًا: يُحتمل أن يكون أحدُهما مات عقب هذه القصة بيسير (¬6). ¬

_ (¬1) المرجع السابق (2/ 349). (¬2) هو لفظ مسلم، تقدم تخريجه برقم (442)، (1/ 328) عنده. (¬3) هو لفظ مسلم أيضاً، وقد تقدم برقم (442)، (1/ 327) عنده. (¬4) تقدم تخريجه عند الطبراني قريبًا في "معجمه الكبير". (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 36). (¬6) انظر "فتح الباري" لابن حجر (2/ 349).

تنبيهات: الأول: ظاهر صنيع المصنف -رحمه الله تعالى-: أن قصة بلال مع أبيه وسبَّه إياه مما اتفق عليه الشيخان، وهو ظاهرُ صنيع الحافظ عبد الحق الإشبيلي في "الجمع بين الصحيحين" (¬1). ولم أر ذلك في النسخ التي وقفتُ عليها. وفي "الفتح" للحافظ ابن حجر: لم أر لهذه القصة ذكر [اً] في شيء من الطرق التي أخرجها البخاري لهذا الحديث. قال: وقد أوهم صنيعُ صاحب "العمدة" خلافَ ذلك، ولم يتعرض لبيان ذلك أحدٌ من شراحه. قال: وأظن البخاري اختصرها؛ للاختلاف في تسمية ابن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما (¬2). الثاني: تُستحبُّ الجماعة للنساء، وفاقًا للشافعي؛ لما روى أبو داود، والدارقطني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أُمَّ ورقة أَن تؤمَّ أهلَ دارها (¬3). وفي رواية عن الإمام أحمد: لا تُستحب لهن، بل تُكره، وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك. ولهن حضورُ جماعة الرجال تَفِلاَتٍ غيرَ مُتَطَيِّبات بإذن أزواجهنَّ، ويُكره حضورُها لحسناءَ من شابةٍ وغيرِها، لأنه مظنة الافتتان، ويُباح لغيرها تَفِلَةً غيرَ متطيبة. ¬

_ (¬1) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 307)، حديث رقم (609). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 348). (¬3) رواه أبو داود (592)، كتاب: الصلاة، باب: إمامة النساء، والدارقطني في "سننه" (1/ 403)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 405).

قال في "الفروع": وكرهه القاضي، وابن عقيل، وغيرهما للشابة، وهو أشهر، وفاقًا لمالك، وأبي يوسف، ومحمد. قال: والمراد -والله أعلم-: المستحسَنة؛ وفاقًا للشافعي، ويؤيده: أن القاضي احتجَّ بقول الإمام أحمد وقد سئل عن خروج النساء إلى العيد [فقال]: يَفْتِنَّ الناسَ، إلا أن تكون امرأةً طَعَنَتْ في السن (¬1). واحتج بالنهي عن التطيب؛ للافتتان به، وهذا غير معدوم في عجوز مستحسنة. وكرهه أبو حنيفة لشابة، وكذا لعجوز في ظُهر وعَصْر؛ لانتشار الفَسَقَة فيهما. قال بعض أصحابه: والفتوى اليوم على الكراهة في كل الصلوات؛ لظهور الفساد (¬2). وقد قيل لبعض الصحابة: إن نساءنا يستأذِنَّنا في المسجد، فقال: احبسوهُنَّ، فإن أرسلتموهن، فأرسلوهُنَّ تَفِلاتٍ (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم - لامرأة قالت له: نحبُّ الصلاةَ معك، فيمنعُنا أزواجُنا: "صلاتُكُنَّ في بيوتكُنَّ أفضلُ .... " الحديث (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "كتاب التمام لما صحَّ في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام" لابن أبي يعلى (1/ 246). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 516 - 517). (¬3) لم أقف عليه، وقد ذكره ابن مفلح في "الفروع" (1/ 517)، فقال: حدث به أبو بكر محمد بن جعفر الحنبلي المؤدِّب، بإسناده عن محمد بن عبد الله بن قيس: أنَّ رجالًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا ... ، فذكره. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7620)، وابن أبي عاصم في "الآحاد =

وذكر الحافظ ابن الجوزي في كتابه "آداب النساء"، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان النساء الأكابر وغيرُهن يحضرْنَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر، وعثمانَ العيدَ، فلما كان زمنُ سعيد بن أبي العاص، سألني عن خروج النساء، فرأيت أن تُمنع الشوابُّ الخروجَ، فأمر مناديه أنْ: لا تخرجْ للعيدِ شابَّةٌ، وكان العجائزُ يخرجن (¬1). وعن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى النساء اليومَ، نهاهُنَّ عن الخروج، أو حَرَّمَ عليهنَّ الخروجَ (¬2). وقالت: لو رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النساء ما نرى، لمنعهنَّ المساجدَ كما مَنعَتْ بنو إسرائيل نساءها (¬3). قال ابن دقيق العيد في حديث زينب امرأة ابن مسعود عند مسلم: "إذا شهدَتْ إحداكُنَّ المسجدَ، فلا تمسَّ طيبًا" (¬4). قال: يلحق بالطيب ما في معناه؛ لأن سبب المنع منه ما فيه من تحريك ¬

_ = والمثاني" (3379)، والطبراني في "المعجم الكبير" (25/ 148)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 132)، عن أم حميد - رضي الله عنها -. قال البيهقي: وفيه دلالة على أن الأمر بأن لا يمنعن أمرُ ندب واستحباب، لا أمرُ فرض وإيجاب، وهو قول العامة من أهل العلم. (¬1) انظر: "أحكام النساء" لابن الجوزي (ص: 50 - 51). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 232)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (988)، كلاهما من طريق عبد الرزاق في "المصنف" (6289). (¬3) رواه البخاري (831)، كتاب: صفة الصلاة، باب: انتظار الناس قيام الإمام العالم، ومسلم (445)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة. (¬4) رواه مسلم (443)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة.

داعية الشهوة؛ كحسن الملبس، والحليِّ الذي يظهر أثره، والزينة الفاخرة. وحمل بعضُهم قول عائشة - رضي الله عنها - في الصحيح: لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أحدَثَ النساءُ بعدَه، لمنعهنَّ المساجد (¬1)، على هذا؛ يعني: إحداث حسن الملابس والزينة والطيب (¬2). الثالث: استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استأذنت أحدَكم امرأتُه ... " إلخ، على أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه؛ لتوجه الأمر إلى الأزواج بالإذن، كما قاله النووي (¬3). وتعقبه ابن دقيق العيد: بأنه إن أخذ من المفهوم، فهو مفهوم لقب، وهو ضعيف، ولكن يتقوى بأن يقال: إنَّ منعَ الرجال نساءَهم أمرٌ مقرر، وإنما علق الحكم بالمساجد؛ لبيان محل الجواز، فيبقى ما عداه على المنع (¬4). وفيه إشارة إلى أن المذكور لغير الوجوب؛ لأنه لو كان واجبًا، لانتفى معنى الاستئذان؛ لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذَنُ مخيَّرًا في الإجابة والرد، والله أعلم (¬5). * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه تقريبًا. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 168). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 162). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 169). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 348).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-، قالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، ورَكعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ (¬1). وفي لفظ: فَأَمَّا المَغْرِبُ، والعِشَاءُ، والجُمُعَةُ، فَفِي بَيْتِه (¬2). وَفي لَفْظٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَمَا يَطْلُعُ الفَجْرُ، وكانَتْ سَاعَةً لا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا" (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1112)، كتاب: التطوع، باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى، واللفظ له، و (895)، كتاب: الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة وقبلها، ومسلم (729)، (1/ 504)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة، وأبو داود (1252)، كتاب: الصلاة، باب: تفريع أبواب التطوع وركعات السنة، والنسائي (873)، كتاب: الإمامة، باب: الصلاة بعد الظهر، والترمذي (433)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أنه يصليهما في البيت. (¬2) رواه البخاري (1119)، كتاب: التطوع، باب: المَطوع بعد المكتوبة، إلا أن لفظة: "والجمعة" لم يخرجها، ومسلم (729)، (1/ 504)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة. (¬3) رواه البخاري (1119)، (1/ 383)، كتاب: التطوع، باب: التطوع بعد المكتوبة، و (1126)، باب: الركعتان قبل الظهر، وانظر حديث: (593)، =

(عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر). هذا الحديث يتعلق بالسنن الرواتب قبل الفرائض وبعدها، وقدم ذكر راتبة صلاة الظهر على غيرها؛ لأنها أول صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهي الأولى. وفي تقديم السنن على الفرائض معنًى لطيفٌ؛ لأن الإنسان يشتغل بأمور الدنيا وأسبابها، فتتكيف النفسُ من ذلك بحالة بعيدة عن حضور القلب في العبادة والخشوع فيها الذي هو روحها، فإذا قدمت السنن، تأنست النفس بالعبادة، [وتكيفت] بحالة تقرب الخشوع، فيدخل في الفرائض على حالة حسنة لم تكن تحصل له لو لم تقدم السُّنَّة؛ فإن النفس مجبولة على التكيف بما هي فيه، ولاسيما إذا كثر أو طال، وورودُ الحالةِ المنافيةِ لما قبلَها قد ¬

_ = كتاب: الأذان، باب: الأذان بعد الفجر، واللفظ له. ورواه مسلم (723)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما، والنسائي (1766 - 1777)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: وقت ركعتي الفجر، والترمذي (433)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أنه يصليهما في البيت، وابن ماجه (1145)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الركعتين قبل الفجر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 218)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 70)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 361، 365)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 6)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 170)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 357)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 502)، و"طرح التثريب" للعراقي (3/ 29)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 426)، (3/ 50)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 226)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 3)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 17).

تمحو أكثر الحالة السابقة، أو تضعفُه (¬1)، ولذا قال ابن أبي داود في "تحفة العباد في أدلة الأوراد" (¬2): الحكمة في مشروعية النوافل قبلَ الفرائض لترتاضَ نفسُ الإنسان بتقديمها، وينشطَ بها، ويتفرغ قلبه أكملَ فراغ للفريضة، ولهذا يُستحب افتتاحُ التهجد بركعتين خفيفتين، انتهى. وقد اختلف العلماء في أعداد الرواتب: والمذهب: ما دلَّ عليه هذا الحديثُ من كونِ راتبة الظهر قبلها ركعتين. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل أربع؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي. وقيل: إنهما وسنةُ الفجر بعد فرضه في وقتهما أداء؛ وفاقًا للشافعي (¬3). وإنما أُطلق عليها اسم الرواتب، لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - داوم عليها. (و) قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - (ركعتين بعد الظهر). قال ابن دقيق العيد: حكمةُ تأخير السنن عن الفرائض؛ لما ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض، فإذا وقع الفرض، ناسبَ أن يكون بعدهَ ما يجبر خللًا فيه إن وقع (¬4). ¬

_ (¬1) قاله ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام" (1/ 170). (¬2) للشيخ عبد الرحمن بن أبي بكر بن داود الدمشقي الحنبلي، المتوفى سنة (856 هـ)، شرح فيه أوراد والده تقي الدين أبي الصفا، المتوفى سنة (806 هـ) الذي رتبه لأصحابه، وسماه: "الدر المنتقى المرفوع في أوراد اليوم والليلة والأسبوع"، وقد أتى شرح ولده في مجلد ضخم، فرغ منه سنة (809 هـ). انظر: "كشف الظنون" (1/ 733)، و"هدية العارفين" (1/ 275). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 486). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 175).

وقد أخرج الإمام أحمد، والنسائي، وأبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح، عن أم حبيبة - رضي الله عنها -، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من يُحافِظْ على أربعِ رَكَعاتٍ قبلَ الظُّهرِ، وأربع بعدَها، حرَّمه اللهُ على النار" (¬1). وفي رواية للنسائي: "فتمسّ وجهَه النارُ" (¬2)، ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬3). وروى الإمام أحمد، والترمذي، وحسنه، عن عبد الله بن السائب - رضي الله عنه -: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي أربعًا بعد أن تزول الشمس قبلَ الظهر، وقال: "إنها ساعةٌ تُفتح فيها أبوابُ السماء، فأُحِبُّ أن يصعدَ لي فيها عملٌ صالح" (¬4). وقال عبد الله: ليس شيء يعدلُ صلاة الليل من صلاة النهار، إلا أربعًا قبل الظهر، وفضلُهن على صلاة النهار، كفضل صلاة الجماعة على صلاة الواحد. رواه الطبراني في "الكبير" (¬5)، وهو موقوف لا بأس به (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 326)، والنسائي (1816)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: الاختلاف على إسماعيل بن أبي خالد، وأبو داود (1269)، كتاب: الصلاة، باب، الأربع قبل الظهر وبعدها، والترمذي (428)، كتاب: الصلاة، باب: منه آخر. (¬2) رواه النسائي (1813)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: الاختلاف على إسماعيل بن أبي خالد. (¬3) حديث رقم: (1190). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 411)، والترمذي (478)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة عند الزوال، واللفظ له. (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (9446). (¬6) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (855)، (1/ 226).

(وركعتين بعد الجمعة)؛ هذا أقلُّ راتبة الجمعة عند الإمام أحمد، وأكثرها بعدَها سِتٌّ، نص عليه. واختار الشيخ الموفق أربعًا؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي (¬1). قال في "الإفادات": الأربعُ أَشْهَرُ، وإنما قلنا بأن أكثرها ستُّ ركعات؛ لأن عمر - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد الجمعة ركعتين، ثم يتقدم فيصلي أربعًا، ذكره في "الشرح الكبير" (¬2). وعن [أبي] عبد الرحمن السلمي: أنه قال: علَّمنا عبدُ الله بن مسعود أن نصليَ بعد الجمعة أربعًا، فلما قدم علي - رضي الله عنه -، علمنا أن نصلِّيَ سِتًّا (¬3). وحاصل المذهب: أن أكثر الراتبة بعد الجمعة ستُّ ركعات، وأقلها ركعتان. وفي "صحيح مسلم"، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان منكم مُصلِّيًا بعدَ الجمعة، فليصَلِّ بعدَها أربعًا" (¬4). قال في "مختصر الفتاوى المصرية": صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كانَ مصليًا بعد الجمعة، فليصل أربعًا". وروي الست عن طائفة من الصحابة - رضي الله عنهم -، انتهى (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 101). (¬2) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 196). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5368)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9553). (¬4) رواه مسلم (881)، كتاب: الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة. (¬5) وانظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 202).

فائدة: لا راتبةَ للجمعة قبلَها، نعم يُستحب أن يصلِّي أربعًا؛ لما روى ابن ماجه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يركع من قبل الجمعة أربعًا (¬1). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعَ ركعات، وبعدها أربعَ ركعات. رواه سعيد (¬2). قال عبد الله بن الإمام أحمد - رضي الله عنهما -: رأيت أبي يصلي في المسجد إذا أذن المؤذن يوم الجمعة ركعاتٍ قبل الخطبة، فإذا قرب الأذان أو الخطبة، تربَّع، ونكس رأسه (¬3). قال الشيخ: الصلاة قبلها جائزة حسنة، وليست راتبة، فمن فعل، لم ينكر عليه، ومن ترك، لم ينكر عليه. قال: وهذا أعدل الأقوال، وكلام الإمام أحمد يدل عليه (¬4). ومال الحافظ ابن رجب إلى استحباب ذلك (¬5)، والله أعلم. (وركعتين بعد المغرب). قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: نعم ساعة الغفلة؛ يعني: الصلاةَ فيما ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (1129)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة قبل الجمعة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) ورواه عبد الرزاق في "المصنف" (5524)، ومن طريقه: الطبراني في "المعجم الكبير" (9555). (¬3) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية ابنه عبد الله" (ص: 124). (¬4) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 194). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن رجب (5/ 533). وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 406 - 407).

بين المغرب والعشاء. رواه الطبراني في "الكبير" (¬1). وعن مكحول يبلغ به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من صلَّى بعدَ المغربِ قبلَ أن يتكلم ركعتين -وفي رواية: أربع ركعات- رُفعت صلاته في عِلِّيِّينَ" ذكره رزين. وقال المنذري: لم أره في الأصول (¬2). وروى ابن ماجه، وابن خزيمة في "صحيحه"، والترمذي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلَّى بعدَ المغربِ ستَّ ركعات، لم يتكلَّمْ فيما بينَهُنَّ بسوءٍ، عدلن بعبادةِ ثنتي عشرةَ سنةً" (¬3). وروي عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا: "من صلَّى بعد المغرب عشرين ركعةً، بنى الله له بيتًا في الجنة" (¬4)، وفيه يعقوب بن الوليد المدائني، كذبه الإمام أحمد (¬5). وعن أنس - رضي الله عنه - في قوله- تعالى-: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (9450)، من طريق عبد الرازق في "المصنف" (4725). (¬2) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (866)، (1/ 228). وقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5935)، بلفظ: "من صلّى ركعتين بعد المغرب؛ يعني: قبل أن يتكلم، رفعت صلاته في علِّيين". (¬3) رواه الترمذي (435)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فضل التطوع وست ركعات بعد المغرب، وقال: غريب، وابن ماجه (1167)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الست ركعات بغد المغرب، وابن خزيمة في "صحيحه" (1195). (¬4) رواه ابن ماجه (1373)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة بين المغرب والعشاء، وأشار إليه الترمذي في "سننه" (2/ 298). (¬5) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (863)، (1/ 227).

الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]، نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة، رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وأبو داود، إلا أنه قال: كانوا يتنفلون ما بين المغرب والعشاء يصلون. وكان الحسن يقول: قيام الليل (¬1). وروى النسائي بإسناد جيد، عن حذيفة - رضي الله عنه -، قال: أتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فصليت معه المغربَ، فصلى إلى العشاء (¬2). (وركعتين بعد العشاء) الآخرة. وفي حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: "أربع قبلَ الظهر، كأربع بعد العشاء، وأربعٌ بعد العشاء، كعدلهنَّ من ليلة القدر" رواه الطبراني في "الأوسط" (¬3). وفي حديث البراء مرفوعًا: "من صلَّى قبلَ الظهر أربعَ ركعات، كأنما تهجَّدَ بهن من ليلته، ومن صلَّاهن بعدَ العشاء، فهنَّ كمثلهن من ليلة القدر" رواه الطبراني في "الأوسط" (¬4). وفي "الكبير"، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا: "من صلَّى العشاءَ الآخرةَ في جماعةٍ، وصلَّى أربعَ ركعات قبل أن يخرجَ من المسجد، كان كعدل ليلةِ القدر" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1321)، كتاب: الصلاة، باب: وقت قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، وعنده: "يتيقظون" بدل "يتنفلون"، والترمذي (3196)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة السجدة. (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (380)، والترمذي (3781)، كتاب: المناقب، باب: مناقب الحسن والحسين - عليهما السلام -، وقال: حسن غريب. (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2733). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6332). (¬5) ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5239). وقد عزاه إلى "المعجم الكبير": =

(وفي لفظ): قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: (فأما المغرب)، فكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الركعتين التي بعدها في بيته، (و) كذا (العشاء)، فكان يصلي ركعتيها في بيته. (و) أما (الجمعة)، فكان يصلي ركعتيها التي بعدها (ففي بيته). وفي لفظ: فصليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -يعني: هذه الركعات المذكورة - في بيته (¬1). ولم يقل البخاري: إن ابن عمر صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته. (وفي لفظ) للبخاري: (أن) عبد الله (ابن عمر) - رضي الله عنهما -، (قال: حدثتني) أختي (حفصة) -يعني: أمَّ المؤمنين شقيقتَه رضي الله عنها-: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سجدتين خفيفتين)، فيسن تخفيف ركعتي الفجر لذلك. وكان صلاته - صلى الله عليه وسلم - لهما (بعدما يطلع الفجر) الثاني، (وكانت) تلك (ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها). وفي لفظ: لا أدخل فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وعندهما: عن حفصة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سكت المؤذنُ من أذان صلاة الصبح، وبدا الصبح، ركع ركعتين خفيفتين قبل أن تُقام الصلاة (¬3). ¬

_ = المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 229)، والهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 231). (¬1) وهو لفظ لمسلم المتقدم تخريجه في حديث الباب برقم (729). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 189). (¬3) رواه البخاري (593)، كتاب: الأذان، باب: الأذان بعد الفجر، ومسلم =

وفي لفظ عنها: كان إذا طلع الفجر، لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين (¬1). وفي بعض طرق البخاري: عن عائشة - رضي الله عنها -: يركع ركعتين خفيفتين قبل أن تقام صلاة الفجر بعد أن يتبين الفجر (¬2). وعنها عندهما: كان يصلي ركعتي الفجر، فيخفف، حتى إني لأقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن (¬3)؟ * * * ¬

_ = (723)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما، واللفظ له. (¬1) هو لفظ مسلم المتقدم تخريجه برقم (723)، (1/ 500). (¬2) رواه البخاري (600)، كتاب: الأذان، باب: من انتظر الإقامة، بلفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر، بعد أن يستبين الفجر ... " الحديث. (¬3) رواه البخاري (1118)، كتاب: التطوع، باب: ما يقرأ في ركعتي الفجر، ومسلم (724)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر والحث عليهما وتخفيفهما، واللفظ له.

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْه عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: "رَكْعَتَا الفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1116)، كتاب: التطوع، باب: تعاهد ركعتي الفجر، ومن سماهما تطوعًا، واللفظ له، إلا أن عنده: "أشد منه تعاهدًا"، ومسلم (724)، (1/ 105)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر، وأبو داود (1254)، كتاب: الصلاة، باب: ركعتي الفجر. (¬2) رواه مسلم (725)، (1/ 501 - 502)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر، والنسائي (1759)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: المحافظة على الركعتين قبل الفجر، والترمذي (416)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في ركعتي الفجر من الفضل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 209)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 63)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 363)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 4)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 174)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 367)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 45)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 228)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 4)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 22).

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصدِّيقةِ (- رضي الله عنها -، قالت: لم يكن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -[على شيءٍ] من النوافل) إنما قيدته بالنوافل؛ لئلا يتوهم العموم الشامل للفرائض (أشد تعاهدًا)، أي: تفقدًا وحفاظة (منه) - صلى الله عليه وسلم - (على ركعتي الفجر). وفي رواية: ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من النوافل أسرعَ منه إلى الركعتين قبل الفجر (¬1). أضافتهما للفجر، لوقوعهما بعد انفجار الصبح. (وفي لفظ لمسلم) دون البخاري: (ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها). وفي رواية له عنها: "لهما أحبُّ إليَّ من الدنيا جميعًا" (¬2). وروى أبو داود، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَدَعوا رَكْعَتَيِ الفجرِ ولو طَرَدَتْكُمُ الخَيْلُ" (¬3). وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا: "ورَكْعَتَي الفجرِ، حافظوا عليهما، فإنَّ فيهما الرغائبَ" رواه الإمام أحمد، وغيره (¬4). تنبيهات: الأول: اختلف العلماء في هذه الركعات، فمنهم من لم يرَ التوقيت في الرواتب، كمالكٍ، فإنه لا يرى سوى الوترِ وركعتي الفجر. ¬

_ (¬1) هي رواية مسلم المتقدم تخريجها برقم (724)، (1/ 105). (¬2) تقدم تخريجه عنده برقم (725)، (1/ 502). (¬3) رواه أبو داود (1258)، كتاب: الصلاة، باب: في تخفيفهما، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 405)، واللفظ له. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 82)، إلا أنه قال: "فإنهما من الفضائل"، والطبراني في "المعجم الكبير" (13502)، وفي "المعجم الأوسط" (2959)، وغيرهم.

والثلاثة يرون أنها للجميع راتبة. نعم: يعدون قبل الظهر أربعًا، بل عند أبي حنيفة رواية بوجوب ركعتي الفجر. وفي كلام الحنفية: أربع ركعات قبل العصر راتبة، وإن شاء اثنتين، وأربع قبل العشاء وأربع بعدها، وإن شاء ركعتين. وقيل: إن الأربع قول أبي حنيفة، والركعتين قول صاحبيه (¬1). الثاني: أفضل هذه الرواتب ركعتا الفجر، لما مر من الأحاديث، ثم سنة المغرب، ثم سواء. ويُسن الاضطجاعُ بعد سنة الفجر على شِقِّه الأيمن؛ خلافًا لمالك؛ لحديث عائشة - رضي الله عنها -، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر، اضطجع على شقه الأيمن. رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي (¬2). وفي رواية: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظةً، حدثني، وإلا، اضطجع (¬3). زاد في رواية: حتى يؤذن بالصلاة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 486 - 487). (¬2) رواه البخاري (1107)، كتاب: التهجد، باب: الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر. ومسلم (739)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها. باب: صلاة الليل، وأبو داود (1336)، كتاب: الصلاة، باب: في صلاة الليل، وقد ذكره الترمذي في "سننه" (2/ 281) دون إسناد. (¬3) رواه البخاري (1115)، كتاب: التطوع، باب: الحديث، يعني: بعد ركعتي الفجر، ومسلم (743)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل. (¬4) رواه البخاري (1108)، كتاب: التهجد، باب: من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع.

وروى الترمذي، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إذا صلى أحدُكم الركعتين قبلَ صلاةِ الصبح، فَلْيَضْطَجِعْ على يَمينه". قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬1). ونُقل عن بعض السلف: أنه يقول في هذه الضجعة: اللهمَّ قِنِي عذابَكَ يومَ تبعثُ عبادَك. الثالث: فعلُ هذه الرواتب، بل وسائر النوافل في البيت أفضلُ من فعلها في المساجد؛ خلافًا لمالك في النهاريات (¬2)؛ لحديث ابن عمر (¬3). وفي حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - مرفوعًا: "إذا قضى أحدُكم صلاته، فليجعلْ لبيته نصيبًا من صلاته؛ فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا" رواه مسلم، وغيره (¬4)، وابن خزيمة، من حديث أبي سعيد (¬5). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتَّخِذُوها قبورًا" رواه البخاري، ومسلم (¬6). وفي حديث أبي موسى مرفوعًا: "مَثَلُ البيتِ الذي يُذْكَرُ اللهُ فيه، ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (420)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وكذا أبو داود (1261)، كتاب: الصلاة، باب: الاضطجاع بعدها. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 487). (¬3) أي: الحديث الخامس في هذا الباب الذي سبق شرح هذا الحديث. (¬4) رواه مسلم (778)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 315). (¬5) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1206)، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 59). (¬6) رواه البخاري (1131)، كتاب: التطوع، باب: التطوع في البيت، ومسلم (777)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد، واللفظ له، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

والبيتِ الذي لا يُذْكَرُ اللهُ فيه، مثلُ الحَيِّ والميتِ" رواه البخاري، ومسلم (¬1). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّما أفضل، الصلاةُ في بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ قال: "أَلا تَرى إلى بيتي، ما أقربَهُ من المسجد، فلأَنْ أُصَلِّي في بيتي أَحَبُّ إليَّ من أَنْ أُصَلِّيَ في المسجدِ، إلا أن تكونَ صلاةً مكتوبةً" رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن خزيمة في "صحيحه" (¬2). وروى البيهقي، بإسناد جيد، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أراه رفعه، قال: "فضلُ صلاةِ الرجلِ في بيته على صلاتِه حيث يراهُ الناس، كفضلِ الفريضةِ على التطوُّع" (¬3). وعن أبي موسى، قال: خرج نفرٌ من أهل العراق إلى عمر، فلما قدموا عليه، سألوه عن صلاة الرجل في بيته، فقال عمر: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أما صلاةُ الرجل في بيته، فنورٌ، فَنَوِّروا بيوتَكم" رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6044)، كتاب: الدعوات، باب: فضل ذكر الله -عز وجل-، ومسلم (779)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحبابة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد، واللفظ له. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 342)، وابن ماجه (1378)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التطوع في البيت، وابن خزيمة في "صحيحه" (1202)، لكن من حديث عبد الله بن سعد - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (3259)، قال: وهذا في صلاة النفل. (¬4) ورواه ابن ماجه (1375)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التطوع في البيت، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 14). وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 171).

الرابع: استثنى علماؤنا سنةَ الجُمعة، ففعلُها في المسجد مكانَه أفضلُ من فعلها في البيت. نص عليه. وعنه: بل في البيت أفضلُ؛ لظاهر هذه الأحاديث (¬1). قال الإمام الموفق: يُستحب لمن أراد الركوع بعد صلاة الجمعة أن يفصل بينها بكلامٍ، أو انتقالٍ من مكانه، أو خروجٍ إلى منزله؛ لما روى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، من حديث السائب بن يزيد ابن أخت نَمِرٍ - رضي الله عنه -، قال: صليت مع معاوية الجمعةَ في المقصورة، فلما سَلَّمَ الإمامُ، قمت في مقامي، فصليت، فلما دخل، أرسل إليَّ، فقال: لاتَعُدْ لما فعلتَ، إذا صليت الجمعة، فلا تَصِلْها بصلاةٍ حتى تتكلمَ، أو تخرج؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك، أن لا نوصل صلاةً حتى نتكلمَ، أو نخرجَ (¬2). الخامس: يُسن قضاء الرواتب إذا فاتت -على الأصح-. وقال مالك: لا تُقضى. وعن الشافعي كالمذهبين. وقال أبو حنيفة: لا تقضى إلا إذا فاتت مع الفرائض (¬3). لنا: أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى سنةَ الفجر مع فرضِه لمَّا نام عنه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 487)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 423). (¬2) رواه مسلم (883)، كتاب: الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة، وأبو داود (1129)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة بعد الجمعة، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 95). وانظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 109). (¬3) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 448). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 441)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" =

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من لم يصلِّ ركعتي الفجر، فَلْيُصَلِّهما بعدَما تطلُعُ الشمس" رواه الترمذي، وابن خزيمة (¬1). وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من نامَ عن حِزْبِهِ منَ الليل، أو عن شيءٍ منه، فقرأه ما بين صلاةِ الفجرِ، وصلاة الظهر، كُتِبَ له كأنما قرأهُ من الليل"، رواه الجماعة إلا البخاري (¬2). وروى الترمذي، عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يصلِّ أربعًا قبل الظهر، صلاهن بعدها (¬3). ورواه ابن ماجه، ولفظه: كان إذا فاتَتْه الأربعُ قبل الظهر، صَلَّاهنَّ بعد الركعتين بعد الظهر (¬4). ¬

_ = (1/ 400)، وابن حبان في "صحيحه" (2650)، والدارقطني في "سننه" (1/ 385)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 212)، عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -. (¬1) رواه الترمذي (423)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في إعادتهما بعد طلوع الشمس، وابن خزيمة في "صحيحه" (1117). (¬2) رواه مسلم (747)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، وأبو داود (1313)، كتاب: الصلاة، باب: من نام عن حزبه، والنسائي (1790)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: متى يقضي من نام عن حزبه من الليل؟، والترمذي (581)، كتاب: الصلاة، باب: ما ذكر فيمن فاته حزبه من الليل فقضاه بالنهار، وابن ماجه (1343)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن نام عن حزبه من الليل، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 32)، وغيرهم. (¬3) رواه الترمذي (426)، كتاب: الصلاة، باب: منه آخر. (¬4) رواه ابن ماجه (1158)، كتاب: الصلاة، باب: من فاتته الأربع قبل الظهر.

قال الإمام أحمد: يُعجبني أن يكون للرجل شيءٌ معلوم من الصلاة وغيرِها، فإذا فاته، قضاه (¬1). ولأنها صلاةٌ راتبة في وقت؛ فلم تسقطْ بفواته إلى غير بدل؛ كالمكتوبة (¬2). وكلُّ صلاة قُضيت مع غيرها قُضيت وحدَها؛ كالوتر. السادس: هذه الرواتب العشرُ مع الركعتين بعد الجمعة والوتر يكره تركُ شيء منها، ولا تُقبل شهادةُ من داومَ عليه؛ لسقوط عدالته؛ لاستخفافه بالسنة النبوية، مع ما ورد في شأنها من الثواب الجزيل، والمزيَّة والتفضيل. ففي "صحيح مسلم"، وأبي داود: عن أم حبيبةَ رملةَ بنتِ أبي سفيان أُمِّ المؤمنين - رضي الله عنها -، قالت: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِنْ عبدٍ مسلمٍ يصلِّي لله تعالى في كلِّ يومٍ ثنتي عشرةَ ركعةً تطوُّعًا غيرَ فريضة، إلا بنى الله تعالى له بيتًا في الجنة"، أو "إلا بُنِيَ له بيتٌ في الجنة" (¬3) رواه الترمذي، وزاد فيه: "أربعًا قبلَ الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعدَ المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الغداة" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 435). (¬2) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 84). (¬3) رواه مسلم (728)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وعدهن، وبيان عددهن، وأبو داود (1250)، كتاب: الصلاة، باب: تفريع أبواب التطوع وركعات السنة. (¬4) ورواه الترمذي (415)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة من السُّنَّة، وماله فيه من الفضل، إلا أنه قال: "صلاة الفجر" بدل "صلاة الغداة".

ورواه بالزيادة: ابنُ خزيمة، وابن حبان، في "صحيحيهما"، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، إلا أنهم زادوا: "وركعتين قبل العصر"، ولم يذكروا ركعتين بعد العشاء. وهو كذلك عند النسائي في رواية (¬1). ورواه ابن ماجه، فقال: "وركعتين قبل الظهر، وركعتين- أظنه [قال]: - قبل العصر"، ووافق الترمذيَّ على الباقي (¬2). وروى النسائي، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عائشة مثلَه، إلا أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ثابرَ على ثِنْتَيْ عَشْرَةَ ركعةً في اليومِ والليلةِ، دخلَ الجنة؛ أربعةً قبلَ الظهر" الحديث (¬3). قوله: "ثابر" -بالمثلثة وبعد الألف موحدة فراء-؛ أي: لازمَ وواظبَ (¬4). السابع: ذِكْرُ حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في صلاة الجماعة ¬

_ (¬1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1188)، وابن حبان في "صحيحه" (2452)، والحاكم في "المستدرك" (1173)، والنسائي (1801)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ثواب من صلى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة سوى المكتوبة. (¬2) ورواه ابن ماجه (1142)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في ثنتي عشرة ركعة من السُّنَّة، لكن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه النسائي (1794)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ثواب من صلى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة سوى المكتوبة، والترمذي (414)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة من السنة، وماله فيه من الفضل، وقال: غريب من هذا الوجه، ومغيرة بن زياد قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وابن ماجه (1145)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في ثنتي عشرة ركعة من السنة. (¬4) انظر "لسان العرب" لابن منظور (4/ 99)، (مادة: ثبر).

لا يظهر له مناسبة إلا أن يريد المصنف -رحمه الله-: أن قول ابن عمر: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معناه: أنه اجتمع معه في الصلاة جماعة، لكن دلالة الحديث على هذا غير قوية؛ لعموم المعية للصلاة جماعة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص غير لازم، وإن كان محتملاً، والله أعلم (¬1). تتمة: السنن غير الرواتب: أربعٌ قبل الظهر، وأربعٌ بعدها، وأربعٌ قبل الجمعة، وأربعٌ قبل العصر، وأربعٌ بعد المغرب. وقال الموفق: ستٌّ، وأربعٌ بعدَ العشاء؛ لما روى الترمذي وصححه، من حديث أم حبيبة - رضي الله عنها -، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حافظ على أربعٍ قبل الظهر، وأربع بعدَها، حرَّمه الله على النار" (¬2). وتقدم دليل الأربع التي قبل الجمعة. وروى الترمذي، وقال: حسنٌ غريب، عن ابن عمر مرفوعًا: "رَحِمَ اللهُ امرأً صلَّى قبلَ العصر أربعًا". ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبان، وابن خزيمة في "صحيحيهما" (¬3). ¬

_ (¬1) قاله ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام " (1/ 174). (¬2) تقدم تخريجه. وانظر "المغني" لابن قدامة (1/ 434 - 436). (¬3) رواه الترمذي (430)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الأربع قبل العصر، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 117)، وأبو داود (1271)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر، وابن خزيمة في "صحيحه" (1193)، وابن حبان في "صحيحه" (2453).

وعن أم حبيبةَ زوجِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي عنها -، قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حافظَ على أربعِ رَكَعاتٍ قبل العصر، بنى اللهُ له بيتًا في الجنة" رواه أبو يعلى الموصلي بإسناده (¬1). ورواه الإمام أحمد، من حديث أبي سفيان، عن أم حبيبة -يعني: ابنته- مرفوعًا: "من صلَّى أربعًا قبلَ الظهر، وأربعًا قبلَ العصر، حَرَّمَ اللهُ لَحْمَه على النار". ورواه النسائي وغيره (¬2). ورواه الطبراني من حديث عائشة بلفظ: "من صلى أربعَ ركعات قبل العصر، حَرَّمَ الله بدنَه على النار" (¬3). ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "من صلَّى أربعَ ركعات قبلَ العصر، لم تَمَسَّه النارُ" (¬4). وروى الإمام أحمد، والترمذي وحَسَّنه، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات، يفصل ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (7137). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 325)، والنسائي في "السنن الكبرى" (1480)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 472)، لكن من حديث عنبسة بن أبي سفيان، عن أم حبيبة -يعني: أخته-. ولعله تصحَّف على الشارح أو الناسخ، والله أعلم. (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 281)، لكن من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -. وهو كذلك في "الترغيب والترهيب" للمنذري (859)، (1/ 227)، الذي ينقل عنه الشارح هذه الأحاديث، والله أعلم. (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2580)، والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 463).

بينهن بالتسليم على الملائكة المقرَّبين، ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين (¬1). قال ابن أبي داود في "التحفة" بعد أن ذكر الأحاديثَ الواردة في الحث على صلاة الأربعِ ركعاتٍ قبلَ العصر: ولا ينبغي لفقيه ولا غيره أن يقولَ بحضرة جاهلٍ أو متهاونٍ في الصلاة: ليس للعصر سُنَّةٌ، مع معرفته بما الناسُ عليه، ولاسيما في زماننا هذا، من التقصير في العبادات، وعدمِ الاحتفال بالقُرُبات، مع ورود هذه النصوص المتقدمة، بل ينبغي أن يقول: إنها سنة، بفعله - صلى الله عليه وسلم -، وترغيبه، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 85)، والترمذي (429)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الأربع قبل العصر، وقال: حسن، واللفظ له.

باب الأذان

باب الأذان وهو لغةً: الإعلام، قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3]. قال الأزهري: الأذان: اسم من قولك: آذَنْتُ فلانًا بأمرِ كذا أو كذا، أُؤْذِنُه إيذانًا؛ أي: أعلمتُه (¬1). واشتقاقه من الأَذَن -بفتحتين-، وهو الاستماع. وشرعًا: الإعلامُ بوقت الصلاة، بألفاظٍ مخصوصة (¬2). قال القرطبي وغيره: الأذانُ -على قلة ألفاظه- مشتملٌ على مسائل العقيدة؛ لأنه بدأ بالأكبرية، وهي تتضمَّنُ وجودَ الله وكمالَه، ثم ثَنَّى بالتوحيدِ ونفي الشريك، ثمَّ بإثبات الرسالة، ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة عقبَ الشهادة بالرسالة؛ لأنها لا تُعرف إلا من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح، وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المَعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا. ويحصل بالأذان الإعلامُ بدخول الوقت، والدعاءُ إلى الجماعة، وإظهارُ شعائر الإسلام (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (15/ 17)، (مادة: أذن). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 47)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 77). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 7، 14).

والحكمة في اختيار القول له دون الفعل: سهولةُ القول، وتيسيرُهُ لكل واحد في كل زمان ومكان (¬1). وهو أفضلُ من الإقامة، ومن الإمامة -على الأصح-؛ وفاقًا للشافعي (¬2). وفي "الفتح": اختُلف أَيُّما أفضلُ، الأذان أو الإقامة؟ ثالثها: إن علم من نفسه القيامَ بحقوق الإمامة، فهي أفضل، وإلا، فالأذان، وفي كلام الشافعي ما يومىء إليه، انتهى (¬3). ويشهد لفضل الأذان عليها حديثُ أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإمامُ ضامِنٌ، والمؤذِّنُ مؤتَمَنٌ، اللهمَّ أرشِدِ الأئمةَ، واغفرْ للمؤذنين" رواه أبو داود، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، إلا أنهما قالا: "فأَرشد الله الأئمة واغفر للمؤذنين" (¬4). وفي رواية لابن خزيمة: "المؤذنون أُمناء، والأئمةُ ضُمناء، اللهمَّ اغفرْ للمؤذنين، وسَدِّدِ الأئمةَ" ثلاث مرات (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 77). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 405). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 77). (¬4) رواه أبو داود (517)، كتاب: الصلاة، باب: ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، والترمذي (207)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، وابن خزيمة في "صحيحه" (1528)، وابن حبان في "صحيحه" (1671). إلا أن لفظ ابن خزيمة هو كلفظ أبي داود والترمذي. (¬5) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1531)، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 33)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 430).

ورواه الإمام أحمد، من حديث أبي أمامة بإسناد حسن (¬1). فالأمانة أعلى من الضَّمان، والمغفرةُ أعلى من الإرشاد، وإنَّما لم يتولَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعدِه الأذانَ؛ لضيق وقتهم عنه (¬2). قال شيخ الإسلام في "الاختيارات": الأذانُ والإقامةُ أفضلُ من الإمامة، في أصح الروايتين عن الإمام أحمد، واختيار أكثر الأصحاب. وأما إمامته - صلى الله عليه وسلم - وإمامةُ الخلفاء الراشدين، فكانت متعيِّنة عليهم، فإنها وظيفةُ الإمام الأعظم، ولم يمكن الجمع بينها وبين الأذان، فصارت الإمامةُ في حقِّهم أفضلَ من الأذان؛ لخصوص أحوالهم، وإن كان لأكثر الناس الأذانُ أفضلُ (¬3). ولا يُكره الجمع بينهما، وما في البيهقي من حديث جابر مرفوعًا في النهي عن ذلك ضعيف (¬4). وصح عن عمر: لو أُطيقُ الأذانَ مع الخلافة لأَذَّنْتُ، رواه سعيد بن منصور، وغيره (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 265)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8097)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 432)، بلفظ: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن". (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامهَ (1/ 242). (¬3) وانظر: "الفتاوى الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 405 - 406). (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 433) وقال: هذا حديث إسناده ضعيف بمرة، إسماعيل بن عمرو بن نجيح أبو إسحاق الكوفي حدث بأحاديث لم يتابع عليها، وجعفر بن زياد ضعيف. ورواه أيضاً: ابن حبان في "المجروحين" (3/ 17)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 398). (¬5) ورواه عبد الرازق في "المصنف" (1869)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (2334)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 290)، والبيهقي في "السنن =

وفي "الفروع": وله الجمعُ بينهما اتفاقًا. وذكر أبو المعالي: أفضلُ؛ وفاقًا للشافعي، وأن ما صلح له، فهو أفضل (¬1). فائدة: اختلف في السَّنة التي فُرض فيها الأذان؛ رجح في "الفتح" كغيره: أنه كان في السنة الأولى من الهجرة. وقيل: في الثانية (¬2). وأصل ذلك ما في "الصحيحين"، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحَيَّنون الصلاةَ، فليس ينادي لها أحدٌ، فتكلموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: نتَّخِذُ ناقوسًا مثلَ ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قَرْنًا مثلَ قرن اليهود، فقال عمر: ألا تبعثون رجلًا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بلال! قم فنادِ بالصلاة" (¬3). وروى البيهقي في "سننه"، عن أنس - رضي الله عنه -، قال: كانت الصلاة إذا حضرت على عهد رسول الله، سعى رجل في الطريق فنادى: الصَّلاةَ الصَّلاةَ، فاشتدَّ ذلك على الناس، فقالوا: لو اتَّخذنا ناقوسًا يا رسول الله؟ قال: "ذلك للنصارى"، فقالوا: لو اتخذنا بوقًا؟ قال: "ذلك لليهود"، قال: فأُمر بلالٌ أن يشفع الأذان، ويوترَ الإقامة (¬4). ¬

_ = الكبرى" (1/ 433)، وغيرهم. (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 271). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 78). (¬3) رواه البخاري (579)، كتاب: الأذان، باب: بدء الأذان، ومسلم (377)، كتاب: الصلاة، باب: بدء الأذان، واللفظ له. (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 390). ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" =

وروى الإمام أحمد، عن عبد الله بن زيد - رضي الله عنه -، قال: لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يُعمل ليضرب به الناس في الجمع للصلاة، وهو كاره لموافقة النصارى، أطاف بي من الليل وأنا نائم رجلٌ، عليه ثوبان أخضران، وفي يده ناقوس يحملُه، فقلت له: يا عبد الله! ألا تبيع الناقوس؟ قال: ما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ فقلت: بلى، قال: تقول: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حَيَّ على الصلاة، حَيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حَيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخر غيرَ بعيد، ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حَيَّ على الصلاة، حَيَّ على الفلاح، قد قامتِ الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: فلما أصبحتُ، أتيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتُه بما رأيت، فقال: "إن هذه لرؤيا حق إن شاء الله"، ثم أمر بالتأذين، فكان بلال يؤذن بذلك، ويدعو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفي لفظ: فقال: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقمْ مع بلال فألقِ عليه ما رأيتَ، فليؤذِّنْ به، فإنه أندى صوتًا منك"، فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه، ويؤذن به، فسمع ذلك عمرُ وهو في بيته، فخرج يجرُّ رداءه، يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله! لقد رأيتُ مثلَ ما رأى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلله الحمد". ¬

_ = (369)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (5984). (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 42).

ورواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، وابن خزيمة في "صحيحه"، وقال: خبرُ عبدِ الله بن زيد ثابتٌ صحيح من جهة النقل؛ لأن محمد بن إسحاق قد سمعه من محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وليس هو مما دلسه (¬1). وقال الترمذي، عن البخاري: لا يعرف لعبد الله بن زيد إلا حديثُ الأذان (¬2). وقال محمد بن يحيى الذهلي: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في الأذان خبرٌ أصح من هذا (¬3). وبما ذكرنا يُعرف طريقُ الجمع بين هذا، وما مرَّ من حديث ابن عمر: بأن النِّداءَ الأولَ الذي كان يُنادى به: الصَّلاةَ، كما في "سنن البيهقي"، ثم رأى عبد الله بن زيد؛ فإن قوله في حديث ابن عمر: "يا بلال! قم فناد بالصلاة" ظاهرٌ في أنه قبل رؤيا عبد الله بن زيد (¬4). وقد روي أن أبا بكر - رضي الله عنه - رأى الأذان أيضاً (¬5). وفي "وسيط الغزالي": أنه رآه بضعة عشر رجلًا (¬6). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (499)، كتاب: الصلاة، باب: كيف الأذان، والتر مذي (189)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في بدء الأذان، وابن ماجه (706)، كتاب: الأذان والسنة فيها، باب: بدء الأذان، وابن خزيمة في "صحيحه" (371). (¬2) انظر: "سنن الترمذي" (1/ 361). (¬3) رواه عنه ابن خزيمة في "صحيحه" (372)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 390). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 78). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2020)، عن بريدة - رضي الله عنه -. (¬6) انظر: "الوسيط" للغزالي (2/ 44).

وفي "شرح التنبيه" (¬1) للجيلي: أربعة عشر. وأنكره ابن الصلاح، والنووي، ونقل مغلطاي: أن في بعض كتب الفقه: أنه رآه سبعة. قال في "الفتح": ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض طرقه (¬2). وما قيل: إن أول من أذن جبريلُ في السماء الدنيا، فسمعه عمرُ وبلال، فسبق عمرُ بلالًا، فأخبرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاء بلال، فقال: "سبقك بها عمر" لا يثبت (¬3). وكذا ما ورد أنه شُرع قبل الهجرة ليلة الإسراء، وأنه خرج مَلَكٌ من الحجاب، فقال: الله أكبر الله أكبر، وفي آخره: ثم أخذ الملكُ بيده، فأم بأهل السماء، فلا يصح، ولا يثبت شيء من ذلك (¬4). والحكمة في إعلام الناس به على غير لسانه - صلى الله عليه وسلم -؛ للتسوية بعبده، والرفع لذكره بلسان غيره؛ ليكون أقوى لأمره، و [أفخم] (¬5) لشأنه، وهو حسن بديع، كما أبداه السهيلي (¬6). ¬

_ (¬1) هو كتاب: "موضح السبيل في شرح التنبيه" لعبد العزيز بن عبد الكريم الجيلي، الفقيه الشافعي المعروف بـ "المعيد"، فرغ منه سنة (629 هـ). انظر: "كشف الظنون" (2/ 1904)، و"هدية العارفين" (1/ 305). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 78). (¬3) رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (118)، عن كثير بن مرة الحضرمي - رضي الله عنه -. وسنده واه، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 78). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 78)، وعزاه إلى البزار من حديث علي - رضي الله عنه -، ثم قال: وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو متروك. (¬5) في الأصل: "أفخر"، والتصويب من "الروض الأنف" للسهيلي (2/ 357). (¬6) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (2/ 357).

ويؤخذ منه: حكمةُ عدم الاكتفاء برؤيا عبد الله بن زيد، حتى أضيف إليه عمر؛ للتقوية، وليتم نصاب الشهادة. ومما يكثر السؤالُ عنه بين أهل العلم: هل باشر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان بنفسه، أولا؟ فقد وقع عند السهيلي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَذَّنَ في سفر، وصلَّى بأصحابه وهم على رواحلهم، السماءُ من فوقهم، والبِلَّةُ من أسفلهم، أخرجه الترمذي، من حديث أبي هريرة (¬1). وليس هو من حديث أبي هريرة، ولكنه من حديث يعلى بن مرة (¬2). وكذا جزم النووي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن مرة للسفر، وعزاه للترمذي، وقوَّاه (¬3). قال في "الفتح": لكن وجدنا في "مسند الإمام أحمد" من الوجه الذي أخرجه الترمذي، ولفظه: فأمر بلالًا فأذن (¬4)، فعرف أن في رواية الترمذي اختصارًا، وأن قوله: أذن: أمر بلالًا به، كما يقال: أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفًا، وإنما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة؛ لأنه الآمر (¬5). فعُلم من هذا السياق، وأمر الشارع لسيدنا بلال - رضي الله عنه - في عدة أحاديث: أن الأذان والإقامة فرضُ كفاية للصلوات الخمس المؤدَّاة، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 360). (¬2) رواه الترمذي (411)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر، وقال: غريب. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 79). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 173)، وعنده: "فأمر المؤذن فأذن". (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 79).

والجمعة، على الرجال الأحرار، جماعة في الأمصار والقرى، وغيرهم، هذا معتمد المذهب. وقيل: سُنَّة؛ وفاقًا للثلاثة (¬1). وفي "الروضة": هو فرض، وهي سنة، فعلى معتمد المذهب، وقيل: وعلى أنهما سنة: يُقاتَلون على تركهما؛ خلافًا لأبي حنيفة (¬2). وذكر الحافظ -قدس الله روحه- في هذا الباب أربعة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 232). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 271). ولعلَّ الإمام ابن مفلح الذي نقل عنه الشارح هذا النص يعني بالروضة: "روضة الناظر وجنة المناظر" لابن قدامة المقدسي - رحمه الله -.

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ:"أُمِرَ بِلال أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ، وَيُوتِرَ الإِقَامَةَ" (¬1). * * * (عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -) خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (أُمر) ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (578)، كتاب: الأذان، باب: بدء الأذان، و (580، 581)، باب: الأذان مثنى مثنى، و (3270)، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم (378)، (1/ 286)، كتاب: الصلاة، باب: الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة، واللفظ له، وأبو داود (508، 509)، كتاب: الصلاة. باب: في الإقامة، والنسائي (627)، كتاب: الأذان، باب: تثنية الأذان، والترمذي (193)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في إفراد الإقامة، وابن ماجه (729، 730)، كتاب: الأذان، باب: إفراد الإقامة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 154)، و"عارضة الأحوذي " لابن العربي (1/ 359)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 241)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 7)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 77)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 176)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 370)، انظر: "فتح الباري" لابن رجب (3/ 398)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 79)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 153)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 121)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 20).

بالبناء للمفعول، كما في معظم الروايات. وقد اختلف أهل الحديث وأهل الأصول في اقتضاء هذه الصيغة للرفع. والمختار عند محققي الطائفتين: أنها تقتضيه؛ لأن الظاهر أن المراد بالأمر من قوله: الأمرُ الشرعيُّ الذي يلزم اتباعُه، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويؤيد ذلك هنا من حيث المعنى: أن التقدير في العبادة إنما يؤخذ عن توقيف، فيقوى جانب الرفع جدًّا (¬1). (بلالٌ) -بالرفع- نائب فاعل، ووقع في رواية روح بن عطاء: فأَمَرَ بلالًا - بالنصب (¬2) -، وفاعل أمر هو النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من غير لَبْس، كما تشهد به الأخبارُ الصحيحة الصريحة. وبلال هو: ابن رَبَاح -بفتح الراء والباء الموحدة مخففة وآخره حاء مهملة-، وأُمُّه حَمَامةُ -بفتح الحاء المهملة وتخفيف الميم - مولاةٌ لبني جُمَح. أسلم قديمًا، فعذبه قومه، وجعلوا يقولون: ربُّك اللَّاتُ والعزَّى، وهو يقول: أَحَدٌ أَحَد، فمرَّ الصدِّيقُ وأميةُ بنُ خلفٍ الجمحيُّ يعذبه، فلامه على ذلك، فقال: اشترِهِ، فاشتراه أبو بكر - رضي الله عنه - بسبعة أواق، ويقال: بخمسة أواق، فأعتقه. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 176)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 80). (¬2) رواه أبو الشيخ الأصبهاني في "كتاب الأذان "، كما عزاه إليه ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 80)، والعيني في "عمدة القاري" (5/ 103). قلت: وقد رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (369)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 390)، وغيرهما من الطريق نفسه الذي رواه أبو الشيخ، فقالا: "فأُمِرَ بلالٌ" -بالرفع-.

ولم يَفُتْه مشهدٌ، وكان من حكمة تقدير الحكيم العليم أن قَتَلَ بلالٌ - رضي الله عنه - أميَّةَ بنَ خلف الذي كان يُعذبه يومَ بدر. فبلالٌ قرشيٌّ تيميٌّ، وقد عد الحافظ ابن الجوزي ذلك في مناقب الصدِّيق، فقال: جاز أبو بكر على بلال وهو يُعَذَّب، فجذبَ مغناطيسُ صَبْرِ بلالٍ حديدَ صدقِ الصدِّيق، فلم يبرح حتى اشتراه، وكسرَ قفصَ حبسه، فكان عمر يقول: أبو بكرٍ سيدُنا، وأعتقَ بلالًا سيدَنا (¬1). قال ابن الجوزي: تعب -يعني: الصديقَ- في المكاسب، فنالها حلالًا، ثم أنفقها حتى جعل في النساء خَلالًا، ثم حاز من خلال المكرمات خِلالًا، قال له الرسول: أسْلِمْ، فكان الجواب: نعم بلا لا، ولو لم يفعل في الإسلام إلا أنه أعتق بلالًا. [من الوافر] أَبُو بَكْرٍ حَبَا فِي اللهِ مَالاَ ... وَأَعْتَقَ في مَحَبَّتِهِ بِلاَلاَ وَقَدْ وَاسَى النَّبِيَّ بِكُلْ فَضْلٍ ... وَأَسْرَعَ في إِجَابَتِهِ بِلاَلاَ لَوَ أَنَّ الْبَحْرُ يَقْصُدُهُ بِبُغْضٍ ... لَمَا تَرَكَ الإِلَهُ بِهِ بِلاَلاَ قال ابن الجوزي في "منتخب المنتخب": لم يَفُتْ بلالًا مشهد، وهو أولُ من أَذَّنَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان خازنَه على بيت ماله، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لأبي بكر: أعتقتني لله أو لنفسك؟ قال: لله، قال: فَأْذَنْ لي حتى أغزوَ، فأذِنَ له، فذهب إلى الشام (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3544)، كتاب: فضائل الصحابة، مناقب بلال بن رباح مولى أبي بكر - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (20412)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 236)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 150)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 419).

وقيل: إنه أَذَّنَ لأبي بكر مُدَّته، وأذن لعمرَ مرةً حين قدم عمرُ الشام، ظم يُرَ أكثر باكيًا من ذلك اليوم، وأذن في قَدْمَةٍ قدمَها المدينَةَ بسؤال الصحابة إياه ذلك، فأذَّنَ، ولم يُتِمَّ الأذانَ؛ لبكائه، ولما سمع أهلُ المدينة صوته، خرجوا، حتى العوانسُ من خدورها، ولم يُر أكثر باكيًا من ذلك اليوم؛ لتذكرهم أيامَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -. كان بلال شديد الأُدْمة، نحيفًا، طُوالًا، مات بدمشق، ويقال: بحلب. وله قبر في جَبَّانة باب الصغير من مقابر دمشق، عليه قبة عالية، وقد زرناه مرارًا - رضي الله عنه -. وهو أحد سادات السودان، بل أفضلُهم، إن لم يكن لقمانُ نبيًّا، المذكورِين في قول بعضِهم: [من مجزوء الرَّمل] سَادَةُ السُّودَانِ أَرْبَعْ ... هَكَذا قَالَ المُشَفَّعْ النَّجاشِيْ وبِلاَلٌ ... ثُمَّ لُقْمَانٌ وَمِهْجَعْ (¬1) ومِهْجَع مولى عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنهما - أول قتيل استُشهد ببدر (¬2). روي لسيدنا بلال أربعةٌ وأربعون حديثًا، في "الصحيحين" منها أربعة؛ اتفقا على واحد، وانفرد البخاري بحديثين غير مسنَدين، ومسلم بحديث واحد مسنَد. وفضائل بلال كثيرة، ومناقبه غزيرة - رضي الله تعالى عنه (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر: "كشف الخفاء" للعجلوني (1/ 473 - 474). (¬2) قاله موسى بن عقبة، كما ذكر الحافظ ابن حجر في: "الإصابة في تمييز الصحابة" (6/ 231). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 232)، و"التاريخ الكبير" =

(أن يَشْفَع) -بفتح أوله وفتح الفاء-؛ أي: يأتي بألفاظ (الأذان) شفعًا؛ أي: مَرَّتين مرتين، بتربيع التكبير أوَّلَه، [لا] مرتين؛ خلافًا لمالك (¬1). وهذا هو أذان بلال - رضي الله عنه -، وهو خمس عشرة كلمةً؛ وفاقًا لأبي حنيفة، بلا ترجيع الشهادتين خُفْيةً، خلافًا لمالك، والشافعي (¬2). كان بلال - رضي الله عنه - يؤذن كذلك حضرًا وسفرًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن مات، وعليه عمل أهل المدينة. قال الإمام أحمد: هو آخر الأمرين (¬3). (و) أُمر بلال أن (يوتر الإقامة) زاد في البخاري: إلا الإقامة، فالمراد بالمنفي غيرُ المراد بالمثبت، فالمرادُ بالمثبت: جميعُ الألفاظ المشروعة عند القيام إلى الصلاة، والمراد بالمنفي: خصوصُ قوله: "قد قامت الصلاة" (¬4). ¬

_ = للبخاري (2/ 106)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 28)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 318)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 147)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 178)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (10/ 429)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 434)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 415)، و"الكامل في التاريخ" له أيضاً (1/ 588)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 144)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 288)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 347)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (5/ 333)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 326)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (1/ 441). (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 272)، وقوله: "لا مرتين خلافًا لمالك"؛ أي: التكبير في أول الأذان عند مالك مرتان. (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "المبدع" لأبي إسحاق ابن مفلح (1/ 316)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 236). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 83).

وعند عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب بسنده متصلًا بالخبر مفسرًا، ولفظه: كان بلال يُثني الأذان، ويوتر الإقامة، إلا قوله: قد قامت الصلاة، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، والسراج في "مسنده"، وكذا هو في "مصنف عبد الرزاق" (¬1). فالإقامة: إحدى عشرة كلمة؛ وفاقَّا لَلشافعي. وعنه: أو يُثنّيها، ولا يقتصر على مرة واحدة في: قد قامت الصلاة، بل يثنيها اتفاقًا. وعند الحنفي: يشفع الإقامة كالأذان، فإن ثَنَّى في الإقامة، لم يكره، خلافًا لمالك والشافعي (¬2). فائدة: قيل: الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة: أن الأذان لإعلام القابلين، فيكرر ليكون أوصلَ إليهم؛ بخلاف الإقامة؛ فإنها للحاضرين، ومن ثم استُحب أن يكون الأذان بمكان عال، بخلافِ الإقامة، وأن يكون الصوتُ في الأذان أرفعَ منه في الإقامة، وأن يترسَّل في الأذان، ويحدر في الإقامة (¬3). لكن قال ابن بطة من علمائنا، وغيره: يكون في حال ترسُّله وحَدْره لا يصلُ الكلامَ بعضَه ببعض مُعْرَبًا بل جَزْمًا، وحكاه عن ابن الأنباري، عن ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (1794)، ومن طريقه: أبو عوانة في "مسنده" (955)، وابن خزيمة في "صحيحه" (375)، وغيرهم. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 274). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 84).

أهل اللغة، قال: وروي عن إبراهيم النخعي: أنه قال: شيئان مجزومان، كانوا لا يعربونهما: الأذان والإقامة (¬1). قال المجد في "شرحه": معناه: استحبابُ تقطيع الكلمات بالوقف على كل جملة، فيحصل الجزم والسكون بالوقف؛ لا أنه مع عدم الوقف على الجملة يترك إعرابها، انتهى (¬2). تنبيه: استدل علماؤنا على وجوب الأذان في الجملة بأمره - صلى الله عليه وسلم - لبلال، من حيث إنه إذا أمر بالوصف، لزم أن يكون الأصل مأمورًا به، وظاهر الأمر الوجوب (¬3). وروى مالكُ بنُ الحُوَيْرِثِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا حَضرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيُوذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ" متفق عليه (¬4). وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من ثلاثةٍ في قرية لا يُؤَذَّنُ، ولا تُقامُ بهم الصلاةُ، إلا استَحْوَذَ عليهمُ الشيطانُ" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي (¬5). وليس فيه ذكر التأذين. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 245). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 414). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 177). (¬4) رواه البخاري (602)، كتاب: الأذان، باب: من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، ومسلم (674)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: من أحق بالإمامة. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 196)، وأبو داود (547)، كتاب: الصلاة، باب: في التشديد في ترك الجماعة، والنسائي (847)، كتاب: الإمامة، باب: التشديد في ترك الجماعة.

وعن أسماءَ بنتِ يزيد - رضي الله عنها -، قالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس على النساء أذانٌ ولا إقامةٌ" رواه النّجاد بإسناده، وحَرْبٌ في "مسائله" (¬1). وقال إسحاق: مضت السُّنَّةُ من النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ليسَ على النساءِ أذانٌ ولا إقامة في حَضَرٍ ولا سَفَرٍ". وكذلك ورد عن ابن عباس، وابن عمر، وأنس - رضي الله عنهم (¬2). ومفهومه: أن ذلك على الرجال، وعلى الوجوب؛ ولأنه من أعلام الدين الظاهرة، فكان واجبًا، كالجهاد، والصلاة، وأنه قربة يتعلق نفعُها بعامة المسلمين، فكانت واجبة؛ كصلاة الجنازة، ودفن الميت. وليس الأذان والإقامة من فرض الصلاة، إنما هو مشروع لها خارجًا عنها، فلو تركوهما، ولو عمدًا، وصلَّوا، صحَّت صلاتُهم، وأَثِموا على الترك، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) كما عزاه ابن قدامة في "المغني" (1/ 253). والحديث رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 203)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 408). قال ابن الجوزي في "التحقيق في أحاديث الخلاف" (1/ 313): حكاه أصحابنا، وهذا لا نعرفه مرفوعًا، وإنما رواه سعيد بن منصور عن الحسن، وإبراهيم، والشعبي، وسليمان بن يسار. وحكي عن عطاء، أنه قال: يُقمن. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 252 - 253).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ السُّوَائيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: أَتيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ في قُبةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَم، قَالَ: فَخَرَج بلاَلٌ بوَضُوءً؛ فَمِنْ نَاضِحٍ، وَنَائِلٍ، قَالَ: فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - علَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ؛ كَأَنَي أَنْظُرُ إلَى بيَاضِ سَاقَيْهِ، قَالَ: فَتَوَضَّأَ، وأَذَّنَ بلاَلٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَتبَّعُ فَاهُ، هَاهُنَا، وهَاهُنَا؛ يَقُولُ يَمِينًا وشِمَالًا: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلاَح؛ ثُمَ رُكزَتْ لَه عَنَزَةٌ، فَتَقَدَّمَ، وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكعَتَيْنِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكعَتَينِ؛ حَتَى رَجَعَ إِلىَ المَدِيْنَةِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (185)، كتاب: الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس، و (369)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: الصلاة في الثوب الأحمر، و (473)، كتاب سترة المصلي، باب سترة الإمام من خلفه، و (477)، باب: الصلاة إلى العنزة، و (479)، باب: السترة بمكة وغيرها، و (607)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامهَ، وكذلك بعرفة وجمع، و (3360)، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (3373)، باب: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (5449)، كتاب: اللباس، باب: التشمير في الثياب، و (5521)، باب: القبة الحمراء من أدَم. ورواه مسلم (503)، (1/ 360 - 361)، كتاب: الصلاة، باب: سترة المصلى، واللفظ له، وأبو داود (520)، كتاب: الصلاة، باب: في المؤذن يستدير في =

(عن أبي جُحَيفة) -بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وبالفاء-، واسمه (وهب بن عبد الله)، على المشهور. وقيل: وهب بن جابر. وقيل: وهبُ الله بنُ وُهيب -بالتصغير-. وقيل غير ذلك، ابنِ مسلمِ بنِ جُنَادة - بضم الجيم (السُّوائيِّ) -بضم السين المهملة وتخفيف الواو وألف ممدودة بعدها همزة- نسبة إلى سوة (¬1) بنِ عامرِ بنِ صعصعةَ، بطنٍ كبيرٍ من هوازن. نزل أبو جُحيفة الكوفة، وابتنى بها دارًا، وكان من أصاغر الصحابة. ¬

_ = أذانه، و (688)، باب: ما يستر المصلي، والنسائي (137)، كتاب: الطهارة، باب: الانتفاع بفضل الوضوء، و (470)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة الظهر في السفر، و (643)، كتاب: الأذان، باب: كيف يصنع المؤذن في أذانه، و (772)، كتاب: القبلة، باب: الصلاة في الثياب الحمر، و (5378)، كتاب: الزينة، باب: اتخاذ القباب الحمر، والترمذي (197)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في إدخال الإصبع في الأذن عند الأذان، وابن ماجه (711)، كتاب: الأذان، باب: السنة في الأذان. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 313)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 514)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 102)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 216)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 178)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 376)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 218)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 76)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 295، 573)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 74)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 28). (¬1) كذا في الأصل: والصواب: "سواءة". قال ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (2/ 432): ووقع في شرح ابن العطار، أنها نسبة إلى بني سواه، وقال ابن السمعاني، وابن دقيق العيد: نسبة إلى سواءة بن عامر بن صعصعة. وقال الزركشي في "النكت" (ص: 76): نسبة إلى قبيلة بني سُواء.

قيل: إنه لما توفي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان لم يبلغ الحلم، لكنه سمع منه، وروى عنه. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وأربعون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة. روى ابنُه عون عنه: أنه قال: أكلتُ ثريدةً بلحم، وأتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا أَتَجَشَّاُ، فقال: "اكْفُفْ أو احْبِسْ عليكَ جُشاءكَ أبا جُحيفةَ" فإن أكثرَ الناس شبعًا في الدنيا، أطولُهم جوعًا يومَ القيامة"، قال: فما أكل أبو جحيفة ملء بطنه حتى فارق الدنيا، كان إذا تعشَّى لا يتغدى، وإذا تغدى لا يتعشَّى (¬1). جعله علي - رضي الله عنه - على بيت المال في الكوفة، وشهد معه مشاهده كلها، وكان يسميه: وهب الله، ووهب الخير. ومات - رضي الله عنه - بالكوفة في إمارة بشر بن مروان. وفي "جامع الأصول": توفي سنة أربع وسبعين (¬2). وفي "تهذيب النووي": سنة اثنتين وسبعين (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (8929)، وابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/ 1620)، ومن طريقه: ابن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة" (1/ 328). (¬2) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (15/ 467 - قسم التراجم). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 63)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 428)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1619)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 199)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 47)، و"تهذيب الكمال" للمزي (31/ 132)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 489)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 202)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 626)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (11/ 145).

(قال - رضي الله عنه -: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو) الواو للحال؛ أي: والحال أنه - صلى الله عليه وسلم - (في قبة له) - صلى الله عليه وسلم -. والقبة من الخيام: بيتٌ صغير مستدير، وهو من بيوت العرب (¬1). وتلك التي فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - (حمراء من أدم). قال في "القاموس": الأديم: الجلدُ، أو أحمرُه، أو مدبوغُه، ويجمع على آدِمَة، وأُدُم، والأَدَم: اسم [للجمع] (¬2). والحاصل: أنه وصف القبة بكونها حمراء من جلد. (قال) أبو جُحيفة: (فخرج بلال) - رضي الله عنه - من تلك القبة (بوَضوء)؛ أي: بالماء الذي توضأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتبادر الناس إلى التبرك بذلك الماء، (فـ) كانوا قسمين (من ناضحٍ) عليه من ذلك الماء، وهؤلاء القسم الذين بادروا فظفروا بمطلوبهم، (و) من (نائل) دون ذلك. فالنضحُ: الرشُّ على بدنه وثيابه. قيل: معناه أن بعضهم كان ينال منه مالا يفضلُ منه شيء، وبعضهم كان ينال منه ما ينضحُه على غيره (¬3)، ويشهد لهذا: الروايةُ في الصحيح: ورأيت بلالًا أخرج وضوءًا، فرأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئا، تمسَّحَ به، ومن لم يصب منه، أخذ من بَلَلِ يد صاحبه (¬4). وفيه: التماسُ البركة بما لابَسَه الصالحون؛ فإنه ورد في الوضوء الذي ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 3). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1389)، (مادة: أدم). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 178). (¬4) هي رواية البخاري برقم (369)، ومسلم (503)، (1/ 360)، المتقدم تخريجها في حديث الباب.

توضأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي معناه كلُّ ما لابسه الصالحون (¬1). (قال) أبو جُحيفة - رضي الله عنه -: (فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -)؛ يعني: من القبة و (عليه حُلَّة) هي -بضم الحاء المهملة وتشديد اللام، فهاء تأنيث-: ثوبان غير لِفقين، رداءٌ لا وإزار، سُفَيا بذلكٌ؛ لأن كل واحد منهما يحلُّ على الآخر (¬2). قال الخليل: لا يقال حلة لثوب واحد (¬3). وقال أبو عبيد: الحُلَلُ: برود اليمن (¬4). وقال بعضهم: لا يقال له حلة حتى تكون جديدة؛ لحلِّها عن طَيِّها. وفي الحديث: أنه رأى رجلًا عليه حلة، ائتزر بإحداهما، وارتدى بالأخرى (¬5)، فهذا يدل على أنها ثوبان كما في "المطالع" (¬6). ونقل في "النهاية": الحلة: إزار ورداء إذا كانا من جنس واحد (¬7). وفي "المحكم" لابن سيده: الحلة: بردٌ، أوغيره (¬8)؛ كما في "الفتح" (¬9). ¬

(¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 178 - 179). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 196). (¬3) انظر: "العين" للخليل بن أحمد (3/ 28). (¬4) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 228). (¬5) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (2606) في قصة ذي البجادين، بلفظ: "فاتزر نصفًا، وارتدى نصفًا ... ". (¬6) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 196). (¬7) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 432). (¬8) انظر: "المحكم" لابن سيده (2/ 371)، (مادة: حلل). (¬9) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 297).

(حمراء) قال الإمام المحقق ابن القيم: غلطَ من ظنَّ أن الحلة كانت حمراء بحتًا، لا يخالطها غيرُها، وإنما الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حُمْر مع الأسود، كسائر البرود اليمنية. قال: وهي معروفة بهذا الاسم؛ باعتبار ما فيها من الخطوط، وإلا، فالأحمر البحت نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ النهي (¬1)، انتهى. قال في "الفتح": وقد تلخص من أقوال السلف في لبس الثوب الأحمر سبعة أقوال: الأول: الجواز مطلقًا، جاء عن علي، وطلحة، وعبد الله بن جعفر، والبراء، وغير واحد من الصحابة - رضي الله عنهم -، وعن سعيد بن المسيب، والنخعي، والشعبي، وأبي قلابة، وأبي وائل، وطائفة من التابعين. الثاني: المنع مطلقًا، لما روى ابن عمر [و]- رضي الله عنهما -، قال: مر على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجل عليه بردان أحمران، فسلم عليه، فلم يردَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليه. رواه أبو داود، والترمذي وحَسَّنَه، والبزار (¬2). وأخرج ابن ماجه، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: نهى ¬

_ (¬1) روى البخاري في "صحيحه" (5500)، كتاب: اللباس، باب: لبس القَسِّيِّ، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، قال: نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المياثر الحمر، والقَسِّيِّ وانظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 137). (¬2) رواه أبو داود (4569)، كتاب: اللباس، باب: في الحمرة، والترمذي (2807)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجل، والقسَيِّ، والبزار في "مسنده" (2381)، إلا أنهم قالوا: "ثوبان أحمران" بدل "بردان أحمران".

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُفَدَّم -بالفاء وتشديد الدال المهملة-، وهو: المشبَعُ بالعصفر (¬1). وأخرج ابن أبي شيبة، من مرسل الحسن: "الحمرةُ من زينة الشيطان، والشيطانُ يحبُّ الحُمْرَة" (¬2). ووصله أبو علي بن السكن، وأبو أحمد بن عدي (¬3). وروى البيهقي في "الشعب"، عن رافع بن يزيد الثقفي، رفعه: "إن الشيطانَ يحثُّ الحمرةَ، فإياكم والحمرةَ وكلَّ ثوبٍ ذي شهرةٍ"، وأخرجه ابن منده، لكنه ضعيف (¬4). وأما قول الجوزقاني: إنه باطل، فباطل، كما نبه عليه في "الفتح" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (3601)، كتاب: اللباس، باب: كراهية المعصفر للرجال. (¬2) لم أره في "مصنف ابن أبي شيبة". وقد رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (19975). ولعلَّ الحافظ ابن حجر أراد عبد الرزاق، فسبق قلمه إلى ابن أبي شيبة، والله أعلم. (¬3) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 325). (¬4) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (6327)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (7708). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 305 - 306). قلت: ولم يتمَّ الشارحُ -رحمه الله- كلامَ الحافظ ابن حجر الذي كان قد بدأ به في مسألة لبس الثوب الأحمر، حيث ذكر قولين من السبعة التي حكاها الحافظ، ثم ذكر أربعة أخرى فيما بعد، ونجمل كلامه، فنقول كما قال: القول الثالث: يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما كان صبغه خفيفًا. الرابع: يكره لبس الأحمر مطلقًا؛ لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في البيوت والمهنة. الخامس: يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج، ويمنع ما صبغ بعد النسج. =

وقال ابن عبد البر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب من الألوان الخضرةَ، ويكره الحمرةَ، ويقول: "هي زينةُ الشيطان" (¬1)، انتهى. ونص الإمام أحمد - رضي الله عنه - على كراهة لبس الأحمر المُصْمَت للرجال. قال في "المغني": قال أصحابنا: يكره، وهو مذهب ابن عمر - رضي الله عنهما - (¬2). وقال الإمام ابن مفلح في "الآداب": يكره للرجال لبس أحمر مُصْمَت، نص عليه. وقال الموفق: إنه لا يكره (¬3). وهو مذهب الثلاثة، واستظهره في "الفروع" (¬4). ¬

_ = السادس: اختصاص النهي بما يصبغ بالعصفر؛ لورود النهي عنه، ولا يمنع ما صبغ بغيره من الأصباغ. السابع: تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله، وأما ما فيه لون آخر غير الأحمر من بياض وسواد وغيرهما، فلا. ثم قال: والتحقيق في هذا المقام: أن النهي عن لبس الأحمر، إن كان من أجل أنه لبس الكفار، فالقول فيه كالقول في الميثرة الحمراء، وإن كان من أجل أنه زي النساء، فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء، فيكون النهي عنه لا لذاته، وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة، فيمنع حيث يقع ذلك، وإلا، فيقوى ما ذهب إليه مالك من التفرقة بين المحافل والبيوت، انتهى. وقد أعاد الشارح -رحمه الله- في كتاب: اللباس، كلامَ الحافظ ابن حجر، فسرد الأقوال السبعة التي حكاها الحافظ، وبالله التوفيق. (¬1) ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 856)، وقد تقدم تخريجه من حديث رافع بن يزيد الثقفي مرفوعًا، ومن مرسل الحسن. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 341). (¬3) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (4/ 165). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 313).

وعنه: يكره شديدُ الحمرة دون خفيفها، ومعتمدُ المذهب: كراهةُ ذلك، ولو بطانةً. قال في "الآداب": وأولُ من لبس الثياب الحمرَ آلُ قارون وآلُ فرعون، ثم قرأ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79]، قال: في ثياب حمر، نقل ذلك عن الإمام أحمد - رضي الله عنه -، وقيل له: الثوب الأحمر تغطى به الجنازة؟ فكرهه (¬1). وقولهم: المصمت؛ يعني: الذي لا يخالطه لونٌ غيرُ الاحمرار (¬2). والمراد بالكراهة للتنزيه. وقيل: يكره لبسُ المشبَع بالحمرة دونَ ما كان صبغُه خفيفًا، كما جاء عن عطاء، وطاوس، ومجاهد. وقيل: إنما يكره لقصد الزينة والشهرة. وقيل: ما صُبغ غزلُه ثم نسج، لم يكره، وأما ما نسج ثم صبغ، فيكره. وقيل: يختص النهي بالمعصفر، والله أعلم (¬3). قال أبو جُحَيفة - رضي الله عنه -: (كأني أنظر) يعني: وقتئذْ حدثهم بهذا الحديث (إلى بياض ساقيه) الشريفتين، تثنية ساق، وهو ما بين الكعب والركبة، والجمع: سؤق، وسيقان، وأسؤق (¬4). وفيه جواز النظر إلى الساق، وهو إجماع في الرَّجُل حيث لا فتنةَ، كما في "الفتح". ¬

_ (¬1) انظر: "الآداب الشرعية" لابن المفلح (4/ 166). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 199)، (مادة: صمت). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 305 - 306). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1156)، (مادة: سَوَق).

(قال) أبو جحيفة: (فتوضأ)؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ، (وأذن بلال، قال) أبو جحيفة: (فجعلت أتتبع) أنا (فاه)؛ أي: فمَه، يعني: ما يخرج منه (هاهنا وهاهنا) بالأذان (يمينًا)؛ أي: جهة اليمين، (وشِمالًا) أي: جهة اليسرى. (يقول): في حال التفاته يمينًا: (حَيَّ على الصلاة)؛ أي: هَلُمُّوا إليها، وأَقْبلوا عليها، ويقول حال التفاته شمالًا: (حَيَّ على الفلاح)؛ أي: أقبلوَا على البقاء الدائم والفوز والنجاح (¬1). فمحلُّ الالتفات في الأذان لا يكون إلا عند الحَيْعَلَتين، وبوب عليه ابن خزيمة، وقيد كون الانحراف بفمه دون بدنه كلِّه، قال: وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف الوجه (¬2). وساق الحديث، من طريق وكيع، ولفظه: فجعل يقول في أذانه هكذا، ويحرف رأسه يمينًا وشمالًا (¬3). ولفظه عند الترمذي: [رأيتُ] بلالًا يؤذن ويدور، ويتبع فاه هاهنا وهاهنا، وإصبعاه في أذنيه (¬4). قال في "الفتح": قوله: "ويدور" مدرج (¬5). وعند أبي داود: "ولم يستدر" (¬6). وجمعوا بين اللفظين بأن من أثبت ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 574). (¬2) انظر: "صحيح ابن خزيمة" (1/ 202). (¬3) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (387). (¬4) تقدم تخريجه، برقم (197) عنده. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 115). (¬6) تقدم تخريجه، برقم (520) عنده، ورواه من طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 395).

الاستدارة، عَنَى: استدارة الرأس، ومن نفاها، عنى استدارة الجسد كله. ومشى ابن بطال على ظاهره، فاستدل به على جواز الاستدارة بالبدن كله (¬1). قال ابن دقيق العيد: وفيه دليل على استدارة المؤذن للإسماع عند الدعاء إلى الصلاة، وهو وقت التلفظ بالحيعلتين. واختلفوا في موضحين: أحدهما: هل تكون قدماه قارَّتين مستقبلتَي القبلة، ولا يلتفت إلا بوجهه دون بدنه، أو يستدير كله؟. الثاني: هل يستدير مرتين؛ إحداهما عند قوله: حيَّ على الصلاة المرتين، والأخرى عند قوله: حي على الفلاح كذلك؟ أو يلتفت يمينًا ويقول: حي على الصلاة، ثم حي على الصلاة عن شماله، وكذا في الأخرى؟ قال: رُجِّح الثاني؛ لأنه يكون لكل جهة نصيبٌ منها. قال: والأولُ أقرب إلى لفظ الحديث، قال: وهما عند الشافعية، انتهى (¬2). وفي "الفروع" لابن مفلح: ويلتفت -يعني: المؤذنَ- يَمْنَةً ثم يَسْرَةً اتفاقًا في الحَيْعلة. وعن أبي حنيفة: لا. وذكر غير واحد من أصحابه مذهَبَه، كقولنا. قال: وقيل: يقول يمينًا: حي على الصلاة، ثم يُعيده يسارًا، ثم كذلك حيَّ على الفلاح. قال: ولا يُزيل قدميه؛ لفعل بلال، وكالخطبة، لا ينتقل فيها، ذكره في "الفصول" -يعني: ابن عقيل-. قال: وظاهره: يُزيل صدره؛ خلافًا للشافعي. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 115). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 179).

قال: ونقل حرب: ويلتفت يَمْنَةً ويَسْرَةً، وكأنه لم يعجبه الدورانُ في المنارة، وعنه: يزيل قدميه في منارة، ونحوِها، نصره في "الخلاف"، وغيره، واختاره "صاحب المحرر"؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، وجزم به في "الروضة"، وابن الفرج حفيد الجوزي في كتابه "المَذْهَب الأحمد" (¬1). قال في "الإقناع": ولا يزيل قدميه، قال القاضي، والمجد، وجمع: إلا في منارة، ونحوها، انتهى (¬2). وصوَّبه في "الإنصاف" قال: لأنه أبلغُ في الإعلام، وهو المعمول به، انتهى (¬3). وأما وضع الإصبعين في الأذنين: ففي حديث أبي جُحيفة: أن بلالًا وضعَ إصبعيه في أُذنيه، رواه الإمام أحمد، والترمذي، وصحَّحه أبو عوانة (¬4). وعن سعدٍ القُرَظِيِّ: أن رسول الله أمر بلالًا بذلك، وقال: "إنه أرفعُ لصوتك" رواه ابن ماجه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 275 - 276)، ووقع في المطبوع: "وأبو الفرج" بدل "ابن الفرج". ونظر فيه المرداوي في "تصحيح الفروع" (2/ 15)؛ لأن "المُذْهَب الأحمد" لأبي المحاسن وأبي محمد يوسف بن الشيخ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، فقوله: "أبو الفرج" غيرُ مُسلَّم، وكذا قوله: "حفيد الجوزي"، وإنما هو ولد الشيخ أبي الفرج شيخ الإسلام، ويعرف والده بابن الجوزي، فلعلَّ هنا نقصًا، والله أعلم. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 120). (¬3) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 416). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 308)، والترمذي (197) -كما تقدم-، عنه، وأبو عوانة في "مسنده" (960). (¬5) رواه ابن ماجه (710)، كتاب: الأذان، باب: السنة في الأذان، والطبراني في =

قال الترمذي: استحب أهل العلم أن يُدخل المؤذنُ إصبعيه في أذنيه في الأذان، انتهى (¬1). وعَيَّنَ علماؤنا السبَّابتين، وكذا النووي من الشافعية (¬2). وعبارة "الفروع": ويجعل سَبابتيه في أذنيه؛ وفاقًا، ويرفع وجهه للسماء -يعني: في كل أذانه - (¬3). وخصه في "المستوعب" بالشهادتين (¬4). (ثم رُكِزَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: غُرِزَت (له) - صلى الله عليه وسلم -. (عَنَزَةٌ) -بالرفع- نائب الفاعل، وهي كما تقدم -بفتح النون-: عَصًا أقصرُ من الرمح، لها سِنان (¬5). (فتقدم) - صلى الله عليه وسلم -، (وصلى الظهر ركعتين)، وكانت صلاته ببطحاء مكة، وهو موضع خارج مكة، وهو الذي يقال له: الأبطح، وذلك في حجة الوداع عند ابتداء رجوعه من مكة، كما أشار إليه في "الفتح" (¬6)، وغيره. (ثم لم يزل) - صلى الله عليه وسلم - (يصلي) الظهر (ركعتين) مقصورةً (حتى)؛ أي: إلى أن (رجَع) من سفره ذلك (إلى المدينة) المنورة - زادها الله تشريفًا -. ¬

_ = "المعجم الكبير" (5448)، والحاكم في "المستدرك" (6554)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 396). (¬1) انظر: "سنن الترمذي" (1/ 377). (¬2) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 117). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 275). (¬4) انظر: "المستوعب" للسَّامُرِّي (2/ 63). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 252). (¬6) المرجع السابق، (1/ 573).

ففي الحديث من الفوائد: استحبابُ اتخاذ السترةِ للمصلي، حيث يخشى المرور من بين يديه، كالصحراء. ودليل الاكتفاء في السترة بمثل غِلَظ العَنَزَة، وأن المرورَ من وراء السترة لا يضر. وفيه دليل: على مواظبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على قَصْر الصلاة في السفر، ورجحانه على الإتمام. وفيه: مشروعية الأذان في السفر، والله أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 179)، وعنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 574).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنه قَالَ: "إِنَّ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ؛ فَكُلُوا واشْرَبُوا، حَتَّى تَسْمَعُوا أَذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (592)، كتاب: الأذان، باب: أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، و (595)، باب: الأذان بعد الفجر، و (597)، باب: الأذان قبل الفجر، و (2513)، كتاب: الشهادات، باب: شهادة الأعمى، و (6821)، كتاب: التمني، باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم، والفرائض، والأحكام، ومسلم (1092)، (2/ 768)، كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، واللفظ له، والنسائي (637، 638)، كتاب: الأذان، باب: المؤذن للمسجد الواحد، والترمذي (203)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الأذان بالليل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 455)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 27)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 150)، و (شرح مسلم" للنووي (7/ 200)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 180)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 381)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 498)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 205)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 102)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 129)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 124)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 34).

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بن) أمير المؤمنين (عمر) بن الخطاب (- رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: إن بِلالًا)؛ يعني: ابنَ رباح الحبشيَّ - رضي الله عنه - مؤذِّنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (يؤذن) للفجر (بليلٍ)، فلا يمنعنَّكم ذلك من الأكل والشرب حيث أردتم الصيام. ولهذا قال: (فكلوا واشربوا) ما تتقوَّوْنَ به على الصيام لبقاء الليل (حتى تسمعوا أذان) عمرِو (ابنِ أم مكتوم) زاد في رواية: "فإنه لا يؤذنُ حتى يطلعَ الفجرُ" (¬1). واسمُها (¬2): عاتكةُ بنتُ عبدِ الله المخزوميةُ. قيل: سُميت بأم مكتوم؛ لاكتتام نور بصره؛ لأنه ولد أعمى، والمعروف أنه إنما عمي بعد بدر بسنين. وأبوه: قيسُ بنُ زائدةَ بنِ الأصمِّ، والأصمُّ: هو جندبُ بنُ هَرِمِ بنِ رواحةَ بنِ حجرِ بنِ عبدِ ابن معيص بنِ عامر بنِ لؤيٍّ، القرشيُّ العامريُّ. وقيل: اسمُه عبد الله بن عمرو (¬3). وقيل: كان اسمُه الحصين، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: عبد الله، ولا مانِعَ من كون له اسمين (¬4)، وهو المذكور في سورة عبس، والأولُ أكثرُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1819)، كتاب: الصوم، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال"، من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وصنيع الشارح -رحمه الله- يوهم أن هذه الزيادة من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) أي: اسم أم مكتوم. (¬3) وصححه النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (2/ 567). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 100)، نقلًا عن ابن حبان في "الثقات" (3/ 214).

وأشهر، وهو ابنُ خال خديجةَ أمِّ المؤمنين. أسلم - رضي الله عنه - قديمًا بمكة، وكان من المهاجرين الأولين مع مصعب بن عمير، استخلفه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثَ عشرةَ مرةً في غزوات على المدينة، وكان ضريرًا. مات بالمدينة، وقيل: استُشهد بالقادسية، ولم يسمع له بذكر بعد عمر بن الخطاب. وقال الواقدي: رجع ابن أم مكتوم من القادسية إلى المدينة، ولم نسمع له بذكر بعد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه (¬1). تنبيهات: الأول: دل الحديث على جواز الأذان للصبح قبل طلوع الفجر، وهذا معتمد مذهبنا؛ كالمالكية، والشافعية، وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ الأذان لها إلا بعد طلوع الفجر (¬2). وعن الإمام أحمد: أنه كره أن يؤذن للصبح قبل طلوع الفجر في شهر رمضان خاصة (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 205)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 214)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 735)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 4)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1198)، و، "صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 582)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 251)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 567)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 26)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 360)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 600)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (8/ 30). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 181). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 247).

قال صدر الوزراء أبو المظفر عونُ الدين بنُ هبيرة: والذي أراه: أنه لا يكره؛ للحديث المشهور. وذكر هذا الحديث: "إن بلالًا يؤذن بليل، فلا يمنعنكم ذلك من سحوركم" (¬1). فلو كان مما يكره، لم يقر بلالًا إقرارًا مطلقًا من غير إشارة على ما يستدل به على الكراهة، انتهى. قال في "الفروع": ويصح للفجر بعد نصف الليل، وقيل: قبل الوقت بيسير، ونقل صالحٌ: لا بأس به قبل الفجر، إن كان بعد طلوع الفجر -يعني: الكاذبَ-. قال: ويكره قبل الفجر في رمضان -في المنصوص-. وقيل: ممن لا عادة له. وقيل: ما لم يُعِد (¬2). وقال القاسم: لم يكن بين أذانيهما -يعني: بلالًا وابنَ أم مكتوم- إلا أن يرقى ذا، وينزل ذا (¬3). قال في "الفتح": وفي هذا تقييد لما أُطلق في الرواية الأخرى من قوله: "إن بلالًا يؤذن بليل"، لا يقال: إنه مرسل؛ لأن القاسم تابعي لم يدرك القصة المذكورة؛ لأنه ثبت عند النسائي من رواية حفص بن غياث، وعند ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1094)، كتاب: الصيام، باب: بيان الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، والترمذي (706)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في بيان الفجر، وغيرهما، من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - بلفظ: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال"، واللفظ للترمذي. وقد علقه البخاري في "صحيحه" (2/ 677). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 279). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1819)، من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

الطحاوي من رواية يحيى القطان، كلاهما عن عبـ[ــيـ]ـــد الله بنِ عمر، عن القاسم، عن عائشة (¬1). وأجاب النووي -بعد أن صحح أن مبدأه من نصف الليل الثاني- عن الحديث في "شرح مسلم"، فقال: قال العلماء: معناه: أن بلالًا كان يؤذن ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، فإذا قارب طلوعَ الفجر، نزل، فأخبر ابنَ أم مكتوم بذلك، فيتأهب بالطهارة وغيرها، ثم يرقى، ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر (¬2). قال في "الفتح": ومع وضوح مخالفته لسياق الحديث، يحتاج إلى دليل خاص لما صححه، حتى يسوغ له التأويل، وأما احتجاج الطحاوي على عدم مشروعية الأذان قبل الفجر بقول عائشة: إنهما كانا يعتقدان وقتًا واحدًا، وهو طلوع الفجر، فيخطئه بلال، ويصيبه ابن أم مكتوم (¬3)، فتُعقب: بأنه لو كان كذلك، لما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذنًا، واعتمد عليه، ولو كان كما ادعى، لكان وقوعُ ذلك منه نادرًا، وظاهر الحديث يدل على أن ذلك كان شأنَهُ وعادتَهُ (¬4). الثاني: في الحديث دليل على اتخاذ مؤذنين في المسجد الواحد. وفي "الفروع": ويكفي مؤذن في المصر، نصَّ عليه، وأطلقه جماعة. [وقال جماعة: بحيث] يُسْمِعُهم. وفي "المستوعب": متى أذن واحد، سقط عمن صلى معه مطلقًا خاصة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه النسائي (639)، كتاب: الأذان، باب: هل يؤذنان جميعًا أو فرادى؟، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 138). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 105). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 203 - 204). (¬3) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 139). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 106). (¬5) انظر: "المستوعب" للسَّامُرِّي (2/ 51). وقوله: "مطلقًا"؛ أي: سواء سمع =

وقيل: يستحب أن يؤذن اثنان. قال: ويتوجه احتمال في الفجر فقط؛ كبلالٍ وابنِ أم مكتوم، ولا يُستحب الزيادة عليهما، وقال القاضي: على أربعة، لفعل عثمان إلا من حاجة. قال: والأَوْلى أن يؤذن واحد بعد واحد، ويُقيم مَنْ أذن أولًا، وإن لم يحصل الإعلام بواحد، زيد بقدر الحاجة، كلُّ واحد في جانب، أو دفعةٌ واحدة بمكان واحد. ويقيم أحدهم، والمراد: بلا حاجة، فإن تَشَاحُّوا، أُقْرِع (¬1). الثالث: في الحديث دليل على جواز كون المؤذن أعمى؛ فإن ابن أم مكتوم كان أعمى -كما مر-، ولا يكره منه حيث كان له طريق إلى معرفة الوقت من مُعْلِم، ونحوِه، وقد جاء في الحديث: أن ابن أم مكتوم كان لا يؤذن حتى يقال له: أَصْبَحْتَ أصبحتَ (¬2). وقال أبو حنيفة: يُكره أذان الأعمى (¬3). * * * ¬

_ = الأذان، أولا، وقوله: "خاصة"؛ أي: خاصة بمن صلَّى معه دون من لم يصلِّ. انظر: "حاشية ابن قندس على الفروع" (2/ 6). (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 271). (¬2) كما تقدم تخريجه عند البخاري برقم (592) في حديث الباب. وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 182). (¬3) نقل النووي عن أبي حنيفة، وداود: أن أذان الأعمى لا يصح، وتعقَّبه السَّروجي بأنه غلط على أبي حنيفة، نعم في "المحيط" للحنفية: أنه يكره. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 99).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سَمِعْتُمُ المُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ" (¬1). ¬

(¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (586)، كتاب: الأذان، باب: ما يقول إذا سمع المنادي، ومسلم (383)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ووقع عندهما: "النداء" بدل "المؤذن"، وفات الشارحَ التنبيهُ عليه، نعم في رواية مسلم (384): "إذا سمعتم المؤذن"، لكنها من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. ورواه أيضاً: أبو داود (522)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع المؤذن، والنسائي (673)، كتاب: الأذان، باب: القول مثل ما يقول المؤذن، والترمذي (208)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء: ما يقول الرجل إذا أذن المؤذن، وابن ماجه (720)، كتاب: الأذان، باب: ما يقال إذا أذن المؤذن. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 273)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 10)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 250)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 11)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 87)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 182)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 385)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 446)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 91)، و"عمدة القاري" للعيني (117/ 5)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 125)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 35).

(عن أبي سعيد) سعدِ بنِ مالكٍ (الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا سمعتم) معشرَ الأمة (المؤذن) يؤذن (فـ) أجيبوه الإجابة الشرعية، (قولوا) في إجابتكم (مثل ما)؛ أي: الذي (يقول)، أي: مثل قول المؤذن. وكأنَّ المصنف -رحمه الله تعالى- اعتمد على أن لفظة "المؤذن" مُدْرَجة في الحديث، فأسقطها، كما ادعى ابن وضاح ذلك. وتُعقب: بأن الإدراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد الفقت الروايات في "الصحيحين" و"الموطأ" على إثباتها. ولذا قال في "الفتح": لم يصب صاحبُ العمدة -يعني: المصنف- في حذفها (¬1). قال الكرماني: إنما لم يقل: "مثل ما قال"؛ ليشعر بأن يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها (¬2). وأدلُّ من هذا على المقصود: ما رواه النسائي، من حديث أم حبيبة - رضي الله عنها -: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول كما يقول المؤذن، حتى يسكت (¬3). قال في "الفروع": ويُستحب وفاقًا للمؤذن وسامعِه، نصَّ عليهما -يعني: الإمام أحمد-، ولو [كان] في طواف، أو امرأة، قاله أبو المعالي وغيرُه متابعةُ قولي بمثله خُفْيةً (¬4)، لكن في الحيعلة يُحَوْقِل، نصَّ عليه؛ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 91). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (9863)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 326)، وابن خزيمة في "صحيحه" (413)، وغيرهم. (¬4) أي: يستحب للمؤذن وسامعه متابعةُ قولي خفيةً.

للخبر، [و] لأنه خطاب، فإعادتُه عَبَثٌ، بل سبيلُه الطاعة، وسؤالُ الحولِ والقوة؛ خلافًا لمالك. قال: وظاهر كلام جماعة: لا يجيب نفسه، وحُكِيَ روايةً، انتهى (¬1). فلو لم يجاوب المؤذن حتى فرغ، استُحب له التداركُ إن لم يطل الفصلُ، قاله النووي في "شرح المهذب" بحثًا (¬2)، وقاله علماؤنا فيما إذا كان في الصلاة، أوخَلاء، ونحوِهما، فإنه يقضي الإجابة إذا فرغَ من ذلك، فسمَّوه قضاء (¬3). تنبيهات: الأول: ظاهرُ حديث أبي سعيد هذا: أنه يُشرع لسامع الأذان أن يقول مثل قوله في جميع الكلمات، لكن حديث أبي رافع عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقول مثلَ ما يقول المؤذن، فإذا بلغ: حَيَّ على الصلاة، قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله" رواه الإمام أحمد (¬4). وحديث عمر - رضي الله عنه - رواه الإمام أحمد، ومسلم، وفيه: ثم قال: حيَّ على الصلاة، قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، ثم قال: حي، على الفلاح، قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 281). (¬2) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 123). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 91). (¬3) انظر: "المبدع" لابن مفلح (1/ 329)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 426). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 9)، والبزار في "مسنده" (3868). (¬5) رواه مسلم (385)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه. ولم أره في "مسند الإمام أحمد"، من حديث عمر - رضي الله عنه -، فالله أعلم.

وحديثُ معاوية: رواه الإمام أحمد، وفيه: أن مؤذنه أذن، فقال كما قال، حتى إذا قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقال بعد ذلك ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك (¬1). وأصل هذا الحديث في "البخاري" (¬2). وكونُ المشروع عندَ الحيعلة الحوقلةَ هو مذهبنا؛ كالشافعية. وقال بعض الحنفية: يُحوقل عند حيَّ على الصلاة، ويقول عند حَيَّ على الفلاح: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وكأنهم استدلوا بما نقل عبد الرزاق، عن ابن جريج: أن الناس كانوا يُنصتون للمؤذن إنصاتَهم للقرآن، فلا يقول شيئًا إلا قالوا مثله، حتى إذا قال: حَيَّ على الصلاة، قالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: حَيَّ على الفلاح، قالوا: ما شاء الله، انتهى (¬3). والأحاديثُ الصحيحة بما ذهب إليه علماؤنا صريحة. قال الطيبي: معنى الحَيْعَلَتين: هَلُمَّ بوجهِك وسريرتِك إلى الهُدى عاجلًا، والفوز بالنعيم آجلًا، فناسب أن يقول: هذا أمر عظيم لا أستطيع مَعَ ضعفي القيامَ به، إلا إذا وَفَّقني اللهُ بحوله وقوته (¬4). وروي عن سعيد بن جبير، قال: يقول في جواب الحَيْعَلَة: سمعْنا ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 91). (¬2) رواه البخاري (587، 588)، كتاب: الأذان، باب: ما يقول إذا سمع المنادي. (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (1849). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 92).

وأطعْنا، ويقول في أذان الفجر عند التثويب، وهو: قولُ المؤذن: الصلاةُ خير من النوم: صَدَقْتَ وبَررْتَ (¬1). وثمَّ أقوال ووجوه أخر مذكورة في المطولات. الثاني: يستحب أن يقول في الإقامة مثل ما يقول، لكن يقول عند كلمة الإقامة: أقامها الله وأدامها، زاد في "المستوعب" (¬2)، و"التلخيص": ما دامت السموات والأرض (¬3). لما روى أبو داود، عن شهر بن حوشب، عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن بلالًا أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة، ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. قال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 310 - 311): حديث: "صدق رسول الله" هو كلام يقوله كثيرون من العامة عقب قول المؤذن في الصبح: الصلاة خير من النوم، وهو صحيح بالنظر لكونه - صلى الله عليه وسلم - أقَرَّ بلالًا على قوله: الصلاة خير من النوم، بل ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا محذورة بقول ذلك، ولذا كان استحبابُ قوله وجهًا، ولكن الراجح قول: صدقت وبررت، لا هذا، انتهى. قال العجلوني في "كشف الخفاء" (2/ 28): وقال القاري: "صدق رسول الله" ليس له أصل، وكذا قولهم عند قول المؤذن: الصلاة خير من النوم: "صدقت وبررت، وبالحق نطقت" استحبه الشافعية. قال الدميري: وادَّعى ابن الرفعة أن خبرًا ورد فيه لا يعرف قائله. وقال ابن الملقن في "تخريج أحاديث الرافعي": لم أقف عليه في كتب الحديث. وقال الحافظ ابن حجر: لا أصل له. وأجاب الشمس الرَّملي عن اعتراض الدميري على ابن الرفعة: بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ. وفيه إشارة إلى اختيار استحبابه، فتأمل؟!. وقال النجم في "صدقت وبررت": لا أصل لذلك في الأثر، قال: وكذلك قول كثير من العوام للمؤذن مطلقًا: صدقت يا ذاكر الله في كل وقت، لا أصل له، فاعرفه. (¬2) انظر: "المستوعب" للسَّامري (2/ 65). (¬3) انظرت "المبدع" لابن مفلح (1/ 330).

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"أقامَها اللهُ وأدامَها"، وقال في سائر الإقامة مثلَ ما قال المقيم (¬1). لكن في إسناده مجهول، وشهر بن حوشب تكلم فيه غيرُ واحد، ووثقه الإمام أحمد، ويحيى بن معين (¬2). ولأن الإقامة أحد الأذانين. الثالث: يسن أن يصلِّيَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إجابة النداء، ثم يقول: "اللهمَّ رَبَّ هذهِ الدعوةِ التامةِ، والصلاةِ القائمة، آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثْه مقامًا محمودًا الذي وعدته" رواه الجماعة إلا مسلمًا، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، ولفظه: "من قال حين يسمع النداء: اللهمَّ ربَّ ... إلخ. حَلَّت له شفاعتي يوم القيامة" (¬3). زاد أبو الخطاب الكلوذاني: "واسْقِنا من حوضِه بكأسِه مشربًا هنيئًا، سائغًا رَوِيًّا، غيرَ خزايا ولا ناكثين" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (528)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع الإقامة، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 411)، عن أبي أمامة، أو عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) انظر: "المنتقى" للمجد ابن تيمية (1/ 240)، حديث رقم (508). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 250). (¬4) رواه البخاري (589)، كتاب: الأذان، باب: الدعاء عند النداء، وأبو داود (529)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الدعاء عند الأذان، والنسائي (680)، كتاب: الأذان، باب: الدعاء عند الأذان، والترمذي (211)، كتاب: الصلاة، باب: منه آخر، وابن ماجه (722)، كتاب: الأذان، باب: ما يقال إذا أذن المؤذن.

وزاد البيهقي في قوله: الذي وعدته: "إنك لا تخلف الميعاد" (¬1). قال الطيبي: المراد بقوله: مقامًا محمودًا الذي وعدته: قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]. وأطلق عليه الوعد؛ لأن عسى من الله واقع، كما صح عن ابن عيينة (¬2)، وغيره (¬3). ووقع في رواية النسائي، وابن خزيمة، وغيرهما: "المقام المحمود" بالألف واللام (¬4). وقوله: "حَلَّتْ له شفاعتي" (¬5)؛ أي: استحقت، ووجبت، أو نزلت عليه. يقال: حلَّ يَحُل -بالضم-: إذا نزل، واللام بمعنى على، ويؤيده رواية مسلم: "حَلَّتْ عليه" (¬6). ووقع في الطحاوي، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: "وَجَبَتْ له"، ولا يجوز أن يكون حلت من الحِل؛ لأنها لم تكن قبلَ ذلك محرمة. والمراد بالشفاعة: لرفع الدرجات، ودفع المناقشات (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 127)، و"المستوعب" للسامري (2/ 66). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 410). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 95). (¬4) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (420)، وتقدم تخريجه قريبًا عند النسائي. (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1274)، (مادة: حلل). (¬6) رواه مسلم (384)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -، إلا أنه وقع عنده: "حلَّت له"، والشارح ذكر كلام الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 95). (¬7) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 145).

ونقل عياضٌ عن بعض شيوخه: أنه كان يرى اختصاص ذلك بمن قاله مخلِصًا، مستحضِرًا إجلالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا من قصدَ بذلك مجردَ الثواب، ونحوه (¬1). قال في "الفتح": وهو تحكُّم غيرُ مُرْضٍ، ولو كان أخرجَ الغافل اللاهي، لكان أشبهَ. وقال المهلب: في الحديث الحض على الدعاء في أوقات الصلوات؛ لأنه حال رجاء الإجابة (¬2)؛ فقد روى الإمام أحمد من حديث أنس- رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاءُ لا يُرَدُّ بينَ الأذان والإقامة" (¬3)، ورواه الترمذي، وزاد: قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: "سَلُوا اللهَ العافيةَ في الدنيا والآخرة" (¬4). وفي "صحيح مسلم"، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، رضيتُ بالله رَبًّا، وبمحمدٍ رسولًا، وبالإسلامِ دينًا، غُفِرَ له"، وأخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 253). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 96). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 119)، والترمذي (212)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، وقال: حسن صحيح. (¬4) رواه الترمذي (3594)، كتاب: الدعوات، باب: في العفو والعافية، وقال: حسن. (¬5) رواه مسلم (386)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، وأبو داود (525)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع =

وفي حديث عائشة - رضي الله عنها -، عند أبي داود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع المؤذن تشهَّد، قال: "وأنا، وأنا" (¬1). وفي حديث أم سلمة - رضي الله عنها -، عند أبي داود، قالت: علَّمني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقول عند أذان المغرب: "اللهمَّ هذا إقبالُ ليلِك، وإدبارُ نهارِك، وأصواتُ دُعاتِك، وحضورُ صلواتِك، فاغفرْ لي" (¬2). وفي "صحيح مسلم"، عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتُم المؤذنَ، فقولوا مثلَ ما يقول، ثم صلُّوا علي؛ فإنه من صلى عليَّ صلاة، صلَّى الله بها عليه عشرًا، ثم سَلُوا ليَ الوسيلةَ؛ فإنها منزلةٌ في الجنة، لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكونَ أنا هو، فمن سأل لي الوسيلةَ، حَلَّتْ عليه الشفاعةُ" (¬3). ¬

_ = المؤذن، والنسائي (679)، كتاب: الأذان، باب: الدعاء عند الأذان، والترمذي (210)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء: ما يقول الرجل إذا أذن المؤذن من الدعاء، وابن ماجه (721)، كتاب: الأذان، باب: ما يقال إذا أذن المؤذن، وهذا لفظ أبي داود. (¬1) رواه أبو داود (526)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا سمع المؤذن، وابن حبان في "صحيحه" (1683)، والحاكم في "المستدرك" (734)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 409). (¬2) رواه أبو داود (530)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول عند أذان المغرب، والترمذي (3589)، كتاب: الدعوات، باب: دعاء أم سلمة، وقال: غريب. (¬3) تقدم تخريجه برقم (384) عنده، وقدمنا أنه وقع في المطبوع: "حلت له الشفاعة"، وكذلك ذكره النووي في "رياض الصالحين" (ص: 257)، والمنذري في "الترغيب والترهيب" (389)، (1/ 114)، وشيخ الإسلام في "الكلم الطيب" (ص: 33). وخالف في ذلك الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 95)، فقال: "حلت عليه الشفاعة"، فالله أعلم.

فهذه خمسُ سُنن في الأذان: إجابته، وقول: رضيتُ بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا حين يسمع التشهد، وسؤالُ الله لرسوله الوسيلةَ والفضيلةَ، والصلاةُ عليه - صلى الله عليه وسلم -، والدعاءُ لنفسه، كما أشار إليه ابن القيم في "الكَلِم" (¬1)، وشيخه شيخ الإسلام في "الفتاوى المصرية" (¬2)، وغيرهما، والله أعلم. الرابع: لا يُستحب الترجيعُ في الأذان: وهو ذكرُ الشهادة مرتين، خُفية، ثم جَهْرة، وهو من الرجوع إلى ذكرهما جهرًا، بعد أن ذكرهما خفية؛ لأن الذي اختاره إمامُنا أذانُ بلال - رضي الله عنه -؛ لكونه كان أكثر مؤذني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملازمة له، حضرًا وسفرًا، أذن له بمكة والمدينة، حتى توفي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مُقِرٌّ له على أذانه، مستصحِبٌ له، وما كان ليقرَّه إلا على الأتم الأكمل؛ فلذا اختار أذانه سيدُنا الإمام أحمد. قال الحافظ ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق": لا يستحب الترجيع في الأذان، وقال مالك والشافعي: يستحب. لنا: حديث ابن عمر في "الصحيحين" (¬3)، وحديث عبد الله بن زيد في "المسند"، و"السنن"، وغيرهما، من صفة أذان بلال، وما ألقاه عليه عبد الله بن زيد، فكان يؤذن بذلك، ويدعو رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة، فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل له: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نائم، فصرخ بلال بأعلى صوته: الصلاةُ خيرٌ من النوم. قال سعيد بن المسيب: فأُدخلت هذه الكلمة في التأذين لصلاة الفجر (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الوابل الصيِّب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 142). (¬2) وانظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 200، 247). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه.

وحديث عبد الله بن زيد أصلُ الأذان، وليس فيه ترجيعٌ، فدل على أنه المستحب، وعليه عمل أهل المدينة، والأخذ بالمتأخر من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى. واحتجوا للترجيع، بما رواه الإمام أحمد، من أذان أبي محذورة، واسمه: سَمُرَةُ بنُ مِعْيَر -بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الياء فراء مهملة آخر الحروف، بوزن مِقْسم-، عن عبد الله بن مُحَيريز، وكان يتيمًا في حَجر أبي محذورة، قال: قلت لأبي محذورة: أخبرني عن تأذينك؟ قال: نعم، خرجت في نفر، فكنتُ في بعض طريق حُنين، مَقْفَلَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض الطرق، فأذن مؤذنُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة، فسمعنا صوت المؤذن، فصرخنا نَحْكيه، ونستهزىء به، فسمع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصوت، فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال: "أيكم الذي سمعتُ صوتَه قد ارتفَع؟ "، فأشار القومُ كلهم إليَّ، وصَدَقوا، فأرسلهم كلَّهم، وحبسني، فقال: قمْ فأَذِّنْ بالصلاة، فقمتُ ولا شيءَ أكرهُ إليَّ من النبي وما يأمرني به، فقمتُ بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فألقى على رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - التأذين هو بنفسه: الله أكبر، الله أكبر، قال روح: مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال لي: "ارجع فامدُدْ من صوتك"، ثم قال لي: "قل: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله " ... إلخ. ثم دعاني حين قضيتُ التأذين، فأعطاني صرة فيها شيءٌ - صلى الله عليه وسلم - من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أَمَرَّها على وجهه، ثم بين ثدييه، ثم على كبده، وقال: "باركَ اللهُ فيكَ، وباركَ عليكَ"، فقلت: يا رسول الله!

مُرْني بالتأذين بمكة، قال: "قد أمرتُك"، وذهب كلُّ شيء كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كراهية، وعاد ذلك كلُّه محبةً لرسول - صلى الله عليه وسلم - الله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه: أنه علمه الإقامة مثنى مثنى، ورواه الترمذي، وصححه (¬1). وأجاب عن هذا علماؤنا: أنه لما لقن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الأذانَ أبا محذورة، وكان من المؤلَّفة كافرًا، أعاد عليه الشهادةَ وكررها؛ لتثبتَ عندَه، ويخصصها ويكررها على أصحابه المشركين، فإنهم كانوا ينفرون منها، خلافَ نفورهم من غيرها، فلما كررها عليه، ظنَّها من الأذان، فعدَّ الأذان تسعَ عشرةَ كلمة، وإذا كان كذلك، لم يكن تكرارُها سنة. وأيضًا: أذان أبي محذورة: عليه أهلُ مكة، وما ذهب إليه إمامنا: عليه أهل المدينة، ويعمل على المتأخر من الأمور. وبعضهم زعم: أن في أذان بلال ترجيعًا، وهذا محال، لأنه لا يختلف أهل الحديث في أن بلالًا كان لا يُرَجِّعُ. وفي سنده عبدُ الله بنُ محمد بنِ عمار بنِ سعدٍ القرظي، قال يحيى بن معين: ليس بشيء، والله أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 409)، والترمذي (192)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الترجيع في الأذان. (¬2) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 271 - 276).

باب استقبال القبلة

باب استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة؛ بنص الكتاب، والسنة، والإجماع في الجملة. قال الله تعالى-: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]؛ وقال علي - رضي الله عنه -: شَطْرَه: قِبَلَه (¬1). وروى النسائي، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، قال: قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى نحو بيت المقدس ستةَ عشرَ شهرًا، ثم إنه توجه إلى الكعبة، فمر رجل صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على قوم من الأنصار، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وَجَّهَ إلى الكعبة، فانحرفوا إلى الكعبة (¬2). وفي "البخاري"، عن البراء - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي نحو بيت المقدس ستةَ عشرَ أو سبعةَ عشرَ شهرًا، وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة، فأنزل الله- تعالى-: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، فتوجه نحو الكعبة، فقال السفهاء من الناس، وهم اليهود: ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 22)، والحاكم في "المستدرك" (3064)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 3). (¬2) رواه النسائي (489)، كتاب: الصلاة، باب: فرض القبلة، وأبو عوانة في "مسنده" (1164).

{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]، فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ هو عباد بنُ بشر بن قيظي، كما رواه ابن مندَهْ، ذكره في "الفتح" (¬1)، ثم بعدما صلى، مرَّ على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحوَ بيت المقدس، فقال: هو يشهدُ أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه توجَّهَ نحو الكعبة، فتحرَّفَ القوم، حتى توجَّهوا نحو الكعبة (¬2). وأخرج الطبري، وغيره، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس- رضي الله عنهما -: لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، واليهودُ أكثرُ أهلها يستقبلون بيت المقدس، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعةَ عشرَ شهرًا، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فنزلت (¬3). قال مجاهد: إنما كان يحب أن يتحول إلى الكعبة؛ لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد، ويتبع قبلتنا! فنزلت (¬4). فظاهر حديث ابن عباس هذا: أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة، ولكن أخرج الإمام أحمد، من وجه آخر، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بمكة نحو بيت المقدس (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 97). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 20). (¬3) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 502)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 12) (¬4) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 20). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 325)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11066).

وأخرج الطبري، من طريق ابن جريج، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصفى ثلاث حِجَج (¬1). والحاصل: أن قدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ المشرفةَ كان في ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويلُ في نصف رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح، عن ابن عباس (¬2). فعلى هذا؛ فمن عد أشهُرَ صلاةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة إلى بيت المقدس ستةَ عشرَ شهرًا، لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، وألغى الأيام الزائدة. ومن جزمَ بسبعةَ عشرَ شهرًا، عدَّهما معًا، ومن شكَّ، تردَّدَ في ذلك، وشذت أقوالٌ وروايات أخرُ، وهذا الصحيح (¬3). ثم إن الحافظ -رحمه الله تعالى- ذكر في هذا الباب ثلاثة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 5). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (3063). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 96 - 97).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: اَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ؛ حَيْثَ كَانَ وَجْهُهُ، يُومىءُ برَأسِهِ، وكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ (¬1). وفي روايةٍ: كَانَ يُؤتِرُ عَلَى بَعيرِهِ (¬2). ولِمُسْلِمٍ: غَيْرَ أَنّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا المَكْتُوبَةَ (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1054)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات وقبلها، واللفظ له، ومسلم (700)، (1/ 486)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت. (¬2) رواه البخاري (954)، كتاب: الوتر، باب: الوتر على الدابة، ومسلم (700)، (1/ 487)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، والنسائي (1688)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: الوتر على الراحلة، كلهم بلفظ: "كان يوتر على البعير". (¬3) رواه مسلم (700)، (1/ 487)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، وكذا البخاري (1047)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: ينزل للمكتوبة، والنسائي (490)، كتاب: الصلاة، باب: الحال التي يجوز فيها استقبال غير القبلة، و (744)، كتاب: القبلة، باب: الحال التي يجوز عليها استقبال غير القبلة.

وللبخاريِّ: إلَّا الفَرائِضَ (¬1). * * * (عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح)؛ أي: يصلي النافلة، وهو (على ظهر راحلته). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (955)، كتاب: الوتر، باب: الوتر فىِ السفر. وقد رواه البخاري -أيضاً-: (954)، كتاب: الوتر، باب: الوتر على الدابة، و (1044)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: صلاة التطوع على الدواب، وحيثما توجهت به، و (1045)، باب: الإيماء على الدابة، و (1050)، باب: من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها، ومسلم (700)، (1/ 486 - 487)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، وأبو داود (1224)، كتاب: الصلاة، باب: التطوع على الراحلة والوتر، والنسائي (492)، كتاب: الصلاة، باب: الحال التي يجوز عليها استقبال غير القبلة، و (743، 744)، كتاب: القبلة، باب: الحال التي يجوز عليها استقبال غير القبلة، و (1686، 1687)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: الوتر على الواحلة، والترمذي (352)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة على الراحلة، و (472)، باب: ما جاء في الوتر على الراحلة، وابن ماجه (1200)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوتر على الراحلة، بطرق وألفاظ مختلفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 266)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 255)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 146، 256)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 26)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 340)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 209)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 187)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 391)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 417)، (6/ 265)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 488)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 286)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 135)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 182).

الراحلة، أصلها: الناقة المنجبة الكاملة الخَلق، المدرَّبَةُ على الركوب والسير، ولا يكون ذلك إلا بعد الرياضة والتدريب، مع حسن خَلْقها وخُلُقها؛ لتأتِّي ذلك منها، ومثالها في الإبل قليل، وكذلك النجيب من الناس، فهم وإن تساووا في الخلق والنسب، فقد تباينوا في النجابة والعقل والدين والخلق. ثم إن الراحلة اسم يقع على الذكر والأنثى، وقصره القعنبي (¬1) على الأنثى، وأنكره الأزهري. والهاء: زائدة إذا كان المذكر للمبالغة؛ سميت بذلك لأنهما تُرْحَل؛ كـ {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] و {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] أي: مَرْضِيَّة، ومدفوق، فتكون بمعنى مرحولة، بأن يوضُع عليها الرحالة، وهي مركب من مراكب الرجال، وجمعه: رحال، ومنه: رحلت البعير -مخفف-: إذا شددت عليه الرحل (¬2). (حيث كان وجهه). وفي حديث: يصلي على راحلته حيثما توجهت به (¬3). قال ابن التين: مفهومه: أنه يجلس علي هـ[ــــا] على هيئته التي يركبها علي هـ[ـــــا] ويستقبل بوجهه ما استقبلته الراحلة، فتقديره: يصلي على راحلته إلى حيث توجهت به (¬4). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل: "القعنبي"، وفي "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 285) وعنه نقل الشارح نصه هذا: "وخصَّها ابن قتيبة بالنوق". (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 285)، عن "تهذيب اللغة" للأزهري (5/ 5)، (أبواب الحاء والراء). (¬3) هو لفظ البخاري المتقدم تخريجه برقم (955) عنده، ومسلم برقم (700)، (1/ 486). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 574).

(يومىء) - صلى الله عليه وسلم - (برأسه) الشريف إيماءً: بالركوع والسجود. قال العلماء: ويكون سجودُه أخفضَ من ركوعه وجوبًا إن قدر (¬1)؛ لما روى جابر - رضي الله عنه -، قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، فجئت وهو يصلِّي على راحلته نحوَ المشرق، والسجودُ أخفضُ من الركوع، رواه أبو داود (¬2). (وكان ابن عمر) - رضي الله عنهما - (يفعله)؛ أي: ويصلي النافلة على ظهر راحلته، حيث كان وجهه، يومىء برأسه؛ لهذا الحديث، [و] لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: نزلت في التطوع خاصة (¬3). ومثلُ الراكب الماشي؛ وفاقًا للشافعي؛ لأن الصلاة أُبيحت للراكب؛ لئلا ينقطع عن القافلة في السفر، وهو موجود في الماشي (¬4)، وذلك تخفيفٌ في النوافل، وتيسيرٌ لحصولها وتكثيرِها؛ فإن ما اتسع طريقُه، سَهُلَ، وماضُيقِّ طريقُه، قَلَّ؛ فاقتضت رحمةُ الله بالعباد أن تُقلل الفرائض عليهم؛ تسهيلًا للكلفة، وتُفتح لهم طريق التكثير للنوافل؛ تعظيمًا للأجور (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 188). (¬2) رواه أبو داود (1227)، كتاب: الصلاة، باب: التطوع على الراحلة والوتر، والترمذي (351)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة على الدابة حيثما توجهت به، وقال: حسن صحيح. (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 271). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 261). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 87 - 188)

وفي قوله: حيث كان وجهه: دليل لقول من قال من الفقهاء: إن جهة الطريق تكون بدلًا من القبلة؛ حتى لا ينحرف عنها بغير حاجة المسير (¬1). والحاصل: أن المتنفِّل إذا كان مسافرًا سفرًا مُباحًا، ولو قصيرًا؛ خلافًا لمالك، لم يُشترط في حقه استقبالُ القبلة، بل جهة سيره؛ لا إذا تنفل في الحضر؛ خلافًا لأبي حنيفة؛ كالراكب السائر في مصره. ولا راكب تعاسيف: وهو ركوبُ الفلاة وقطعُها على غير صَوْب، ومنه الهائمُ والتائهُ والسائح. فلو عدلت بالمسافر المتنفل دابَّتُه عن جهة سيره إلى غير جهة القبلة؛ لعجزه عنها، أو لجماحِها وحرنها، أو عدل هو إلى غير القبلة؛ غفلةً أو نومًا أو جهلًا أو سهوًا، أو لظنه أنها جهةُ سيره، وطالَ، بَطَلَت صلاتُه؛ لأنه عملٌ كثير؛ فيبطلها عمدُه وسهوُه وجهلُه. وإن قصر عدوله لعذر، لم تبطل، ويسجد للسهو إن كان عذره السهو. وإن كان غير معذور في ذلك؛ بأن عدلت دابته، وأمكنه ردُّها ولم يردَّها، أو عدلَ إلى غير القبلة، مع علمه بأنها غيرُ جهة القبلة وغير جهة سيره، بطلت صلاتُه، ولو لم يطل. وإن انحرف عن جهة سيره، فصار قفاه إلى القبلة عمدًا، بطلت؛ لا إن كان انحرافه عن جهة سيره إلى جهة القبلة؛ لأن التوجه إليها هو الأصل، وإنما جهة سيره بدلٌ عن ذلك. وعلى الراكب إذا تنفَّل على راحلته افتتاحُ الصلاة إلى القبلة بالدابة، بأن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (1/ 188)، زاد ابن حجر في "الفتح" (2/ 576): إلا إن كان سائرًا في غير جهة القبلة، فإن ذلك لا يضره على الصحيح.

يديرها إلى القبلة إن أمكنه بلا مشقة، أو بنفسه بأن يدور إلى القبلة، ويدع راحلته سائرة مع الركب إن أمكنه ذلك بلا مشقة؛ خلافًا لأبي حنيفة، ومالك؛ لما روى الإمام أحمد، وأبو داود، من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر، فأراد أن يتطوع، استقبل بناقته القبلة، فكَبَّرَ، ثم صلى حيث كان وجهة ركابه (¬1). وكذا إن أمكنه ركوعٌ وسجود واستقبال في جميع النافلة على الراحلة؛ كمن [هو] في سفينة أو مِحَفَّةٍ (¬2) ونحوِهما، أو كانت راحلته واقفة، فيلزمه افتتاحُ الصلاة إلى القبلة، والركوع والسجود إن أمكنه بلا مشقة؛ وفاقًا للشافعي. ويلزم الماشيَ افتتاحُ نافلته إلى القبلة، ويلزُمه ركوع وسجود؛ وفاقًا للشافعي؛ لتيسُّر ذلك عليه من غير انقطاع عن جهة سيره، ويفعل الباقي إلى جهة سيره. وصحح المجدُ: أنه يومىء بالركوع والسجود إلى جهة سيره كالراكب (¬3). (وفي رواية) عن سعيد بن يسار: أنه قال: كنت أسير مع ابن عمر بطريق مكة، قال سعيد: فلما خشيتُ الفجرَ، نزلتُ فأوترت، فقال عبد الله - ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 203)، وأبو داود (1225)، كتاب: الصلاة، باب: التطوع على الراحلة، والوتر، واللفظ له. (¬2) المِحَفَّة -بكسر الميم-: رَحْلٌ يُحفُّ بثوب، ثم تركب فيه المرأة، وقيل: المحفة: مركب كالهودج، إلا أن الهودج يُقبب، والمحفة لا تُقبب. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (9/ 49)، (مادة: حفف). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 153 - 154)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 302 - 304).

يعني: ابن عمر رضي الله عنهما -: أليس لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة؛ فقلت: بلى والله، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كان يوتر على بعيره)، وفي لفظ: على البعير (¬1). ففي إيتاره - صلى الله عليه وسلم - على البعير: دليلٌ على أن الوتر ليس بواجب؛ لأن الفرض لا يقام على الراحلة، وأن الفرض مرادفُ الواجب (¬2). (ولمسلمٍ) دُون البخاري (¬3)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبِّحُ على الراحلة قِبَلَ أَيِّ وجهٍ توجَّهَ، ويوتر عليها (غير أنه) كان (لا يصلي عليها المكتوبة). (وللبخاري) عنه - رضي الله عنه -، قال: [كان] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به، يومىء إيماءَ صلاةِ الليل (إلا الفرائض)، ويوتر على راحلته. وفي البخاري أيضاً: عن جابر - رضي الله عنه -، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته حيث توجهت، فإذا أراد الفريضة، نزل فاستقبل القبلة (¬4). وفيه: من حديث عامر بن ربيعة - رضي الله عنه -: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم، وقدَّمنا أن لفظهما: "على البعير"، وليس "على بعيره". (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 188). (¬3) قدَّمنا أن في رواية للبخاري برقم (1047) اللفظَ نفسَه الذي عزاه المصنف إلى مسلم فقط. ولا أدري وجه الاقتصار عليه؛ مع كونهما اشتركا في متنه وإسناده؟! وقد فات الشارحَ التنبيهُ عليه، والعصمة لله وحده. (¬4) رواه البخاري (391)، كتاب: القبلة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان.

وهو على راحلته يُسَبِّحُ، يومىء برأسه قِبَلَ أَيِّ وجهٍ توجَّهَ، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة (¬1). ففي مجموع هذه الأخبار الصحيحة إيماءٌ إلى أن الصلاة المكتوبة لا تؤدَّى على الراحلة، وهو كذلك، لا يقال: لا دلالة في ذلك؛ لأنه إنما فيه ترك الفعل، وليس الترك بدليل على الامتناع؛ لأنا نقول: لا ريب أن وقت الفرائض مما يكثر على المسافرين، فتركُ الصلاة على الراحلة دائمًا مع فعل النوافل عليها يُشعر بالفرق بينهما، مع ما يؤيد كونَ المكتوبة قليلةً محصورة، لا يؤدي النزول لها إلى نقصان المطلوب. بخلاف النوافل؛ فإنها لا حصر لها، فيؤدي النزولُ لها إلى ترك المطلوب من تكثيرها، مع اشتغال المسافر (¬2). فائدة: لو ركب المسافرُ النازل في حال تنفُّله غير السائر، بطلت صلاته، سواء كان يتنفل قائمًا، أو قاعدًا؛ لأن حالته حالة إقامة، فيكون ركوبه فيها بمنزلة العمل الكثير من المقيم، لا صلاة الماشي بركوبه فيها، فيتمها؛ لأنه انتقل من حالة مختلَف في صحة التنفل فيها، وهي المشي، إلى حالة متفقٍ على صحة التنفل فيها، وهي الركوب، مع أن كلًا منهما حالة سير، وإن نزل الراكب في أثنائها، نزل مستقبلَ القبلة، وأتمَّها، نصًا؛ لكونه انتقل إلى حالة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1046)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: ينزل للمكتوبة، ومسلم (701)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 188).

إقامة؛ كالخائف إذا أَمِنَ، وإن وقفت دابة المتطوع عليها تعبًا، أو منتظرًا رفقته، أو لم يسر لسيرهم، أو نوى النزول ببلد دخلَه، استقبلَ القبلة، ويتمُّها؛ لانقطاع السير؛ كالخائف يأمن، والله أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 303).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بقُباءَ، في صَلاَةِ الصُّبْح، إذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَدْ أُنْزِلَ علَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرآن، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ؛ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتدارُوا إِلَى الكَعْبَةِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (395)، كتاب: القبلة، باب: ما جاء في القبلة، و (4218)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ ...} [البقرة: 143]، و (4220)، باب: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ...} [البقرة: 145]، و (4221)، باب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ...} [البقرة: 146]، و (4224)، باب: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ ...} [البقرة: 150]، و (6824)، كتاب: التمني، باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام، ومسلم (526)، (1/ 375)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، والنسائي (493)، كتاب: الصلاة، باب: استبانة الخطأ بعد الاجتهاد، و (745)، كتاب: القبلة، باب: استبانة الخطأ بعد الاجتهاد، والترمذي (341)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في ابتداء القبلة، مختصرًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 451)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 138)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض =

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (- رضي الله عنهما - قال: بينما الناس بقباءً)؛ هو -بالمد والصرف على الأشهر-، ويجوز فيه القصرُ وعدمُ الصرف، وهو يذكر ويؤنث: موضع معروف ظاهرَ المدينة المشرفة، كما في "الفتح" (¬1). وفي "القاموس": قُباء -بالضم، ويُذَكَّرُ ويُقْصَر-: موضع قربَ المدينة (¬2). (في صلاة الصبح) وقد ذكرنا في أول الباب من حديث البراء: أنهم كانوا في صلاة العصر، ولا منافاة بين الحديثين؛ لأن خبر التحول وصل وقتَ العصر إلى مَنْ هو داخلَ المدينة، وهم بنو حارثة، والآتي إليهم بذلك عبادُ بنُ بشر كما تقدم، أو ابنُ نهيك، وأما أهل قُباء فلم يسمَّ الآتي بذلك إليهم، وإن كان ابنُ طاهر وغيرُه زعموا أنه عباد بن بشر، فقد نظر فيه الحافظ ابن حجر في "الفتح"؛ لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر، وعلى تقدير صحة نقلهم لذلك، فلعل عبادًا أتى بني حارثة أولًا في وقت العصر، ثم توجه إلى قُباء، فأعلمهم بذلك في الصبح. ¬

_ = (2/ 448)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 127)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 10)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 189)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 395)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 320)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 78)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 506) و"عمدة القاري" للعيني (4/ 147)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 176). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 506). قال النووي في "شرح مسلم" (5/ 9): أفصحها بالمد. (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1705)، (مادة: قَبَو).

ومما يدل على تعدُّدهما: أن مسلمًا روى من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن رجلًا من بني سلمة مَرَّ وهم ركوعٌ في صلاة الفجر (¬1)، فهذا موافق لرواية ابن عمر - رضي الله عنهما (¬2)، حيث قال: (إذ جاءهم)؛ أي: الناسَ الذين في صلاة الصبح من أهل قُباءٍ (آتٍ) فاعلُ جاء، مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. قال البرماوي: الآتي هو عباد بن بشر الأشهليُّ، قاله الفاكهي في "أخبار مكة" (¬3). وقيل: عباد بن نُهَيك -بضم النون وفتح الهاء-. وفي "الفتح": أنه -بفتح النون وكسر الهاء (¬4)، الخطميُّ الأنصاريُّ، قاله ابن عبد البر (¬5)، وكذا قاله ابن سِيْدَه: هو عباد بن لهيب بن إساف الخزرجي الشاعر، عُقَر في الجاهلية زمانًا، وأسلم وهو شيخ كبير، فوضع عنه - صلى الله عليه وسلم - الغزوَ. وهو الذي صلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة يوم صرف القبلة -يعني: من صلاة الظهر-، ثم أتى قومه بني حارثة وهم ركوع من صلاة العصر، فأخبرهم بتحويل القبلة، فاستداروا إلى الكعبة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (527)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 506). (¬3) ولم أره فيما طبع من كتابه هذا، والله أعلم. وقد حكى هذا القولَ ابنُ بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة" (1/ 225). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 97). (¬5) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 806).

وقيل: إن الذي أتى أهلَ قباء عَبَّادُ بن وهب من بني حازم (¬1). والحاصل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحول إلى الكعبة المشرفة عن استقبال بيت المقدس في صلاة الظهر، ثم ذهب مَنْ أخبر بني حارثة بالتحويل، فصادفهم في صلاة العصر، ثم ذهب مَنْ أخبر أهل قباء، فوافقهم في صلاة الصبح، فيكون بنو حارثة صلوا جميع الظهر بعد التحويل إلى جهة الصخرة، وصلى أهل قُباء الظهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ إليها كذلك؛ لأنه لم يبلغهم النسخُ، ولم يؤمروا بالإعادة؛ لعدم علمِهم بورود الناسخ؛ لأنهم صلَّوا إلى قبلة كانوا مأمورين بالتوجه إليها، وجهلوا التحويلَ الطارىء، فلم تلزم إعادة، وهذا على قاعدة اشتراط العلم لصحة التكليف. (فقال) ذلك الآتي لأهل قُباء: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أتى بأداة التأكيد؛ لاقتضاء المقام لذلك؛ لعظم الأمر وفخامته وغرابته (قد أُنزل) -بالبناء للمفعول- (عليه الليلة قرآنٌ) -بالرفع- نائب فاعل؛ أي: أنزل الله عليه الليلة قراَنًا، وإنما حذف الفاعل للعلم به. وفيه: إطلاقُ الليلة على بعض اليوم الماضي، وما يليه، مجازًا، والتنكير في قوله "قرآن" لإرادة [البعضية] (¬2)، والمراد: قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآيات [البقرة: 144]. (وقد أُمر) - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: أمره الله في القرآن الذي أنزل عليه (أن يستقبل القبلة)؛ أي: الكعبةَ المشرفةَ. فيه: أن ما يؤمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - يلزم أُمَّتَه، وأن أفعاله يؤتَسى بها ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة" (3/ 620): والمحفوظ في ذلك عباد بن بشر بن قيظي. (¬2) في الأصل: "التعظيم"، والتصويب من "الفتح" (1/ 506).

كأقواله حتى يقوم دليل على الخصوص (¬1). (فاستقبَلوها) هو بفتح الباء الموحدة للأكثر (¬2)؛ أي: فتحولوا إلى جهة الكعبة، وفاعل استقبلوها المخاطبون بذلك، وهم أهل قباء. (وكانت وجوهُهم إلى) جهة (الشام، فاستداروا إلى) جهة (الكعبة) المشرفة. فعلى كون الباء مفتوحة، تكون جملة: فكانت وجوههم ... إلخ: تفسيرًا من الراوي للتحول المذكور، ويحتمل أن يكون فاعل استقبلوها: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ معه، وضمير "وجوههم"، لهم، أو لأهل قباء، على الاحتمالين. وفي رواية الأصيلي: فاستقبلوها -بكسر الموحدة بصيغة الأمر، ويأتي في ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران، وعوده إلى أهل قُباء أظهر. ورجَّح هذه الرواية ما في "البخاري" في: التفسير، من حديث سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، في هذا الحديث، بلفظ: وقد أُمِرَ أن يستقبلَ الكعبةَ، ألا فاستقبِلُوها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 506). (¬2) كما قاله ابن عبد البر في "الاستذكار" (2/ 451). قال النووي في "شرح مسلم" (5/ 10): والكسر أصح وأشهر، وهو الذي يقتضيه تمام الكلام بعده. قال القاضي عياض في: "مشارق الأنوار" (2/ 171): رواية عبيد الله، عن يحيى: -بكسر الباء- على الأمر، وكذا رواه الأصيلي في "البخاري"، ورواية ابن وضاح: -بفتحها- على الخبر، وكذا لبقية رواة البخاري، وضبطناه فىِ "مسلم" بالفتح على أبي بحر، وبالكسر على غيره. (¬3) تقدم تخريجه برقم (4220)، وهذه الراوية تؤيد كلام النووي -رحمه الله- الذي سبق ذكره.

فدخولُ حرف الاستفتاح يُشعر بأن الذي بعده أمرٌ، لا أنه بقية الخبر الذي قبله (¬1). فوائد: الأولى: ذكر في حديث تُويلةَ بنتِ أسلمَ، عند ابن أبي حاتم كيفيةُ التحول. قالت فيه: فتحول النساءُ مكانَ الرجال، والرجالُ مكان النساء، فصلينا السجدتين -يعني: الركعتين الباقيتين- إلى البيت الحرام، يعني: الكعبة (¬2). وتصويره: أن الإمام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخره؛ لأن من استقبل الكعبة في المدينة، استدبرَ بيتَ المقدس، وهو لو دار كما هو في كل مكانه، لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، ولما تحول الإمام، تحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحولت النساء حتى صِرْنَ خلف الرجال، وهذا يستدعي عملًا كثيراً في الصلاة، فيحتمل كونُ ذلك وقعَ قبل تحريم العمل، كما كان قبل تحريم الكلام، ويحتمل أن يكون اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة، أولم تتوال الخُطا عند التحويل، بل وقعت مفرقة (¬3). الثانية: كان التحويل المذكور في شهر رجب -كما قدمناه-، بعد الزوال قبلَ غزوة بدر بشهرين. وكانت صلاته - عليه الصلاة والسلام - بأصحابه - رضي الله عنهم - في ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 506). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 37)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3461)، والطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 207). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 506 - 507).

مسجد بني سلمة، فلما صلى ركعتين من الظهر إلى بيت المقدس، تحول في الصلاة، واستقبل الميزاب، وتبادل الرجال والنساء، فسمي: مسجدَ القبلتين (¬1). الثالثة: فيه قبول خبر الواحد، ووجوبُ العمل به، ونسخُ ما تقرر بطريق العلم به؛ لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع؛ لمشاهدتهم صلاةَ الشارع - صلى الله عليه وسلم - إلى جهته، ووقع تحويلهم عنها إلى جهة الكعبة بخبر الواحد. لكن إنما عملوا به؛ لما احتف به من القرائن، والمقدمات المفيدة للقطع عندهم بصدق ذلك الخبر، فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيده. وقيل: كان النسخ بخبر الواحد جائزًا في زمنه - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا دون ما بعده (¬2)، والله تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 242)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 94 - 95)، و"تفسير ابن كثير" (1/ 191)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 503). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 507)، باختصار عن ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام" (1/ 189 - 190).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: اسْتَقْبَلْنَا أَنَسًا حِينَ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ، فَلَقِينَاهُ بعَيْنِ التَّمْرِ، فَرَأَيتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ، وَوَجْهُهُ مِنَ ذا الجَانِبِ -يَعْنِي: عَنْ يَسَارِ القِبْلَةِ-، فَقُلْتُ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرَ القِبْلَةِ؟ فَقَالَ: لَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ، لمَ أفْعَلْهُ (¬1). * * * (عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ سيرينَ) الأنصاريِّ، مولاهم، التابعيِّ أخو الإمام المشهور محمد بن سيرين. والمشهورون من أولاد سيرين ستة: محمد، ومعبد، وأنس، ويحيى، ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1049)، كتاب: صلاة التطوع على الحمار، ومسلم (702)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 29)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 210)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 193)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 403)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 79)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 576)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 141)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 126).

وحفصة، وكريمة، وكلهم ثقات على الراجح، وإن كان ابن السكن نقل عن ابن معين تضعيفًا لبعضهم. وفي "تاريخ الحاكم"، عن شيخه أبي علي الحافظ: أنه أبدل كريمة بخالدة. وفي "طبقات ابن سعد": أنهم عشرة، فزاد خالدًا، وعمرة، وأم سليم سودة. وقد ضبطهم البرماوي في أبيات، وهي: [من الطويل] لِسِيرِينَ أَوْلاَد يُعَدُّونَ ستَّةً ... عَلَى الأَشْهَرِ الْمَعْرُوفِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ وَبِنْتَانِ مِنْهُمْ حَفْصَةٌ وَكَرِيمَةٌ ... كَذَا أَنَسٌ مِنْهُمْ وَيَحْيَى وَمَعْبَدُ وَزَادَ ابْنُ سَعْدٍ خَالِدًا ثُمَّ عَمْرَةً ... وَأُمَّ سُلَيْمٍ سَوْدَةً لَا تُفَنَّدُ وفي "معارف" ابن قتيبة: ولد لسيرين ثلاثة وعشرون ولدًا من أمهات أولاد (¬1). قال النووي: وعن محمد، قال: حججنا، فدخلنا المدينةَ على زيد بن ثابت، ونحن سبعة ولد سيرين، فقال: هذان لأم، وهذان لأم، وهذان لأم، وهذا لأم، فما أخطأ (¬2). وإذا أُطلق ابنُ سيرين، فالمراد به: محمدٌ إمامُ الدنيا في العلم، وستأتي ترجمته. وكان أبوهم سيرينُ من سَبْي عينِ التمر، وهو مولى أنسِ بنِ مالك، كاتَبَهُ على عشرين ألفَ درهمٍ، فأوَفاها، وعَتَقَ. ¬

_ (¬1) انظر: "المعارف" لابن قتيبة (ص: 442). (¬2) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 100).

يقال: إن أنسًا هذا لما ولد، حُمل إلى أنسٍ، فسمَّاه باسمه، وكناه بكنيته، ولد في خلافة عثمان لسنةٍ بقيت منها. قيل: كان أصغرَ أولاد سيرين. وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: أصغرُهم حفصةُ. سمع أنسٌ صاحبُ الترجمة من أنسِ بنِ مالك، وابنِ عمر. روى عنه: عبدُ الله بنُ عوف، وحمادُ بن زيد، وغيرُهما. مات سنة عشرين ومئة، بعد أخيه بعشر سنين، كما قاله الإمام أحمد، وغيره، وله ثمانون سنة (¬1). (قال) أنسُ بن سيرين: (استقبلنا أنسًا) يعني: ابن مالك (- رضي الله عنه -)؛ أي: طلبْنا إقبالَه لنتلقاه (حين قدم من الشام)؛ أي: من جهة البلاد المسماةِ بهذا الاسم. قال أهل اللغة: الشامُ: اسمُ بلاد، تُذَكَّر وتؤنث، يقال: شام، وشأم - بالهمز وتركه -، وشآم -بالهمز والمد-، وسميت شامًا؛ لأنها من شمال الكعبة المشرفة، كما سمي اليمن يمنًا؛ لكونه عن يمينها. وقيل: بل سُميت بذلك، لكون نوحِ - عليه السلام - لما خرج من السفينة، فرق أولاده، فمنهم من أخذ نحو يمين الكعبة، ومنهم من أخذ ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 207)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 32)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 48)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 287)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (9/ 314)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 346)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 622)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (1/ 328).

نحو يسارها، فسمِّي الموضع باسم الجهة المأخوذ منها، فقالوا: يمين وشام. وقيل: سمي شامًا؛ لجبال هناك سودٍ وبيض، كأنها شامات. وقيل: بل سميت بسام بن نوح - عليه السلام -؛ لأنه أول من نزلها، فتطيَّرت العرب أن تسكنها من أجل تقول: سام؛ لأنه اسم الموتُ، فقالت: شام. وقيل: سميت بذلك؛ لكثرة قراها وتداني بعضِها من بعض، فشبهت بالشامات. وتسمى أيضاً: سُورِيَة -بضم السين المهملة وكسر الراء وفتح الياء المخففة-. وحدُّ الشام من الغرب: البحرُ المالح، وعلى ساحله مدائنُ عدَّة، وحدُّه من الجنوب: رملُ مصرَ والعريش، ثم تِيهُ بني إسرائيل، وطورُ سيناء، ثم تبوك، فدومة الجندل، وحدُّه من الشرق: بعد دومة الجندل برية السماوة، وهي كبيرة ممتدة إلى العراق ينزلها عرب الشام، وحدُّه من الشمال مما يلي الشرق: الفرات. وطولُه من العريش إلى الفرات عشرون يومًا. وفي "المسالك": أنه خمسة وعشرون يومًا. وعرضه: أكثره ثمانية، وأقله ثلاثة، كما في العلقمي (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر هذه الأقوال في: "الصحاح" للجوهري (5/ 1957)، (مادة: شأم)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (1/ 9 - 10)، و"معجم البلدان" لياقوت (3/ 312)، و"لسان العرب" لابن منظور (12/ 316)، (مادة: شأم)، و"صبح =

وقسمت الأوائلُ الشامَ خمسةَ أقسام: الشام الأولى: فلسطين، وسُميت بذلك؛ لأن أولَ من نزلها فلسطينُ بن لوسخين بن معطي بن تومان بن يافث بن نوح - عليه السلام -، وهي - بكسر الفاء وفتح اللام -، وأول حدود فلسطين من طريق مصر أصح وهي العريش، ثم يليها غزة، فالرملة فلسطين. ومن مدنها: إيلياء، وهي بيت المقدس، وهي دارُ ملك داود، وسليمان- عليهما السلام -، ومنها عسقلان، وهي الآن خراب. وَلُدّ، ونابُلُس، وهي الآن أعمرُها. قال في "المسالك": طول فلسطين للراكب يومان من العريش إلى حد اللجون. قلت: الصوابُ أكثر من يومين، بل تزيد على ستة مراحلَ بسير الأثقال. وعرضًا من يافا إلى أريحا (¬1). الشام الثانية: حوران، ومدينتها العظمى طبرية، ومن مدنها كان الغور، واليرموك، وبيسان، وهما بين فلسطين والأردن، وهي الشريفة المعنية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} (¬2) [البقرة: 249]. الثالثة: الغوطة، ومدينتها العظمى دِمَشْق -بكسر الدال المهملة وفتح الميم-، وفي لغة ضعيفة -بكسرها-، قال ابن عساكر: هي أمُّ الشام، وأكبرُ بلدانه، وهي من الأرض المقدسة (¬3). ¬

_ = الأعشى" للقلقشندي (4/ 93 - 94)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 437)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 58 - 59). (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (4/ 274). (¬2) المرجع السابق (2/ 317). (¬3) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (1/ 3).

الشام الرابعة: حِمْص (¬1). الخامسة: قِنَّسرين، ومدينتها العظمى حلبُ الشهباء (¬2). وفي "القاموس": الشَّأْم: بلاد على [مَشْأَمَةِ] القبلة، وسُميت كذلك؛ لأن قومًا من بني كنعان تشا [ء] موا إليها؛ أي: تياسروا، أو سُمِّي بسام بن نوح، فإنه -بالشين- بالسُّرْيانية، انتهى (¬3). تنبيه: وقع في "صحيح مسلم" في هذا الحديث ما هذا لفظه: عن أنس بن سيرين، قال: لقينا أنس بن مالك حين قدم الشام (¬4). والصواب: ما ذكره الحافظ من قوله: حين قدم من الشام؛ فإنهم -يعني: أنس بن سيرين ومن معه- إنما خرجوا من البصرة ليتلقوه من الشام (¬5). قال: (فلقيناه)؛ أي: أنسًا - رضي الله عنه -: (بعين التمر). قال في "القاموس": عينُ التمر قرب الكوفة (¬6). (فرأيته)؛ أي: أنسَ بنَ مالك - رضي الله عنه - (يصلي على حمار) - الحيوان المعروف-، (ووجهه)؛ أي: وجهُ أنس - رضي الله عنه - (من ذا الجانب). ¬

_ (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (2/ 302). (¬2) المرجع السابق (4/ 403). (¬3) في الأصل "سمت"، والتصويب من "القاموس". (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1453)، (مادة: شأم). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 576). (¬6) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 455)، (مادة: تمر). وانظر: "معجم البلدان" لياقوت (4/ 176).

الواو في "ووجهه" للحال، وجملة المبتدأ وخبره حالية؛ أي: والحال أن وجهَ أنسِ بنِ مالك منحرفٌ عن جهة القبلة (يعني) أنس بن سيرين: أن وجه أنس بن مالك - رضي الله عنه - (عن يسار القبلة) -يعني: جهتها-. قال أنس بن سيرين: (فقلت): لأنس بن مالك - رضي الله عنه -: (رأيتك تصلي)، يعني: على حمارك (لغير القبلة)، يعني: فهل ذلك سائغ؟ (فقال أنس) بن مالك - رضي الله عنه - (لولا أني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله)؛ أي: يصلي النافلةَ كذلك، (لم أفعلْه) أنا، لكن فعلتُه؛ لأني رأيته - صلى الله عليه وسلم - يفعله؛ أي: يصلي النافلة على الدابة إلى غير القبلة، وهو كما تقدم في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وليس فيه زيادة على ما مر إلا كونُه على حمار. وقد يؤخذ منه: طهارته؛ لأن ملابسته مع التحرز منه متعسِّرة، ولاسيما مع طول الزمن في ركوبه، فاحتمل العرق، لكنه يحتمل أن يكون على حائل طاهر (¬1). وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي على حمار، وهو متوجِّه إلى خيبر، رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي (¬2). وفي النسائي أيضاً، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أنه ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 194). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 7)، ومسلم (700)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، وأبو داود (1226)، كتاب: الصلاة، باب: التطوع على الراحلة والوتر، والنسائي (740)، كتاب: المساجد، باب: الصلاة على الحمار.

رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على حمار وهو راكب إلى خيبر، والقبلة خلفه (¬1). تنبيه: لا تُصَلَّى المكتوبة على راحلة إلا لضرورة؛ كما في حديث يعلى بن مرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى مَضِيقٍ هو وأصحابهُ، وهو على راحلته، والسماءُ من فوقهم، والبِلَّة من أسفلَ منهم، فحضرت الصلاةُ، فأمر المؤذن، فأذن، وأقام، ثم تقدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، فصلى بهم يومىء إيماءً، يجعلُ السجودَ أخفضَ من الركوع. رواه الإمام أحمد، والترمذي (¬2). قال في "منتقى الأحكام": إنما تنبت الرخصةُ إذا كان الضررُ بذلك بيِّنًا، فأما اليسير، فلا (¬3). ففي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجدُ في الماء والطين، حتى رأيتُ أثرَ الطين في جبهته. متفق عليه (¬4). * * * ¬

_ (¬1) رواه النسائي (741)، كتاب: المساجد، باب: الصلاة على الحمار. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "المنتقى" للمجد ابن تيمية (1/ 282)، عقب حديث (625). (¬4) رواه البخاري (638)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: هل يصلي الإمام بمن حضر؟، ومسلم (1167)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها.

باب الصفوف

باب الصفوف أي: أحكامُها؛ من تسويتها، وعدمِ تقدُّم المأموم على الإمام، وموقف الرجل مع الرجل، وموقف المرأة، وغير ذلك. وذكر في هذا الباب أربعة أحاديث.

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَنَسِ بْنِ ماِلكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإنَّ تَسْوِيَةَ الصفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ" (¬1). (عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سووا)؛ أي: اعتدلوا على سمتٍ واحد عندَ الشروع في الصلاة (صفوفَكم) جمعُ صفّ، وهو وقوفُ الاثنين فأكثر متحاذِيَيْنِ معتدِلَيْنِ؛ (فإن تسوية ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (686)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، و (690)، باب: إقامة الصف من تمام الصلاة، و (692)، باب: إلزاق المنكب بالمنكب، والقدم بالقدم في الصف، ومسلم (433)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها، واللفظ له، وأبو داود (668)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف، والنسائي (814)، كتاب: الإمامة، باب: حث الإمام على رص الصفوف والمقاربة بينها، و (845)، باب: الجماعة للفائت من الصلاة، وابن ماجه (993)، كتاب: الصلاة، باب: إقامة الصفوف. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 194)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 407)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 259)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 207)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 257)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 229).

الصف) في الصلاة، سواءٌ كانت فريضة أو نفلًا (من تمام الصلاة). وفي لفظ البخاري: "من إقامة الصلاة" (¬1). وقد استدل به ابنُ حزم على وجوب تسوية الصف. قال: لأن إقامة الصلاة واجبة، وكل شيء من الواجب واجب (¬2). ولا يخفى ما فيه، ولا سيما وأشهر لفظين عن الرواة الأول، يؤيده حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "أَحْسِنوا إقامةَ الصفوفِ في الصلاة" رواه الإمام أحمد، ورواته رواة الصحيح (¬3). وفي "الصحيحين"، من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقيموا الصفَّ في الصلاة؛ فإن إقامةَ الصفِّ من حُسْنِ الصلاة" (¬4)، فهذا يرشد إلى أن التسوية سنة؛ لأن حسن الشيء زيادةٌ لا على تمامه. وقال ابن دقيق العيد: يؤخَذ من قوله: "تمام الصلاة": الاستحبابُ؛ لأن تمامَ الشيء في العرف أمرٌ زائد على حقيقته التي لا يُسَمَّى إلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتمُّ الحقيقة إلا به، كذا قال (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (690) عنده. (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 60). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 485)، وابن حبان في "صحيحه" (2179). وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (711)، (1/ 189). (¬4) رواه البخاري (689)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم (435)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها، لكن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 194 - 195).

واستبعد في "الفتح" هذا المأخذَ؛ لأن لفظ الشارع لا يُحمل إلا على ما دلَّ عليه الوضع في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع، لا العرف الحادث (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 209).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لِيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ" (¬1). ولِمُسْلِمٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا، حَتَّى كأَنَّمَا يُسَوِّي بها القِدَاحَ، حَتَّى رَأَى أَنْ قَدْ عَقَلْنَا، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا، فَقَامَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ؛ فَرَأى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ؛ فَقَالَ: "عِبادَ اللهِ! لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (685)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: تسوية الصفوف عند الإقامة وبعدها، ومسلم (436)، (1/ 324)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها، وأبو داود (662)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف. (¬2) رواه مسلم (436)، (1/ 324)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها، وأبو داود (663)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف، والترمذي (227)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في إقامة الصفوف، وابن ماجه (994)، كتاب: الصلاة، باب: إقامة الصفوف. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 183)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 52)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 346)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 64)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 157)، و"شرح =

(عن النعمانِ بنِ بَشيرٍ) -بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة - بنِ سعدِ بنِ ثعلبة الخزرجيِّ الأنصاريِّ (- رضي الله عنه -)، يكنى: أبا عبد الله، وهو أولُ مولود وُلد للأنصار من المسلمين بعد الهجرة، وهو وأبوه صحابيان، وأمه عَمْرَةُ بنت رواحة. قيل: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وللنعمان ثمان سنين؛ لأن مولده في الثانية من الهجرة على رأس أربعةَ عشرَ شهرًا منها، كما قاله النووي، وقد صححوا سماعَه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قُتل - رضي الله عنه - بالشام، بقرية من قرى حِمْصَ، في ذي الحجة سنة أربع وستين، وكان قد استعمله معاوية على حمص، ثم على الكوفة، واستعمله عليها يزيدُ بنُ معاوية. وقال ابن الأثير: إنه حين كان واليًا بحمصَ بعدَ الكوفة، دعا لعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -، فطلبه أهلُ حمص، فقتلوه بمَرْجِ راهِطٍ. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئةٌ وأربعةَ عشرَ حديثًا، اتفقا على خمسة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأربعة (¬1). ¬

_ = عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 195)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 408)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 248)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 80)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 324)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 207)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 253)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 187). (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 53)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 75)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 409)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1496)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (62/ 111)، و"أسد الغابة" =

(قال) النعمانُ بنُ بَشير - رضي الله عنه -: (سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لتسون) -بضم التاء وفتح السين المهملة وتشديد الواو المضمومة فنون توكيد مشددة-، وللكشميهني (¬1): "لتسوُّونَ"-بواوين-. قال البيضاوي: هذه اللام التي يُتلقى بها القسم (¬2). (صفوفكم) بمحاذاة المناكب والأكعب، وإن لم تتحاذ أطرافُ الأصابع. (أو لَيُخالفنَّ الله بينَ وجوهكم)؛ أي: إن لم تُسَوُّوا. وكما أن المراد بتسوية الصف: اعتدالُ القائمين به على سمت واحد، يراد بها أيضاً: سدُّ الخَلَل الذي في الصف (¬3). ففي أبو داود، من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رُضُوا صُفوفَكُم، وقارِبوا بينَها، وحاذوا بالأعناقِ، فوالذي نَفْسي بيده! إني لأرى الشيطان يدخل من خَلَل الصف، كأنها الحَذَفُ". ورواه النسائي، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، نحو رواية أبي داود (¬4). ¬

_ = لابن الأثير (5/ 310)، و"تهذيب الكمال" للمزي (29/ 411)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 411)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 440)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 399). (¬1) كذا في الأصل، وفي "فتح الباري" لابن حجر (2/ 207)، وعنه نقل الشارح، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 253): "للمستملي" بدل "للكشميهني". (¬2) انظر: "تفسير البيضاوي" (1/ 136)، قال القرطبي في "تفسيره" (9/ 105): وهي التي تدخل على الفعل، ويلزمها النون المشددة أو المخففة. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 207). (¬4) رواه أبو داود (667)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف، والنسائي =

والخَلَلُ -بفتح الخاء المعجمة واللام أيضاً-: هو ما يكون بين الاثنين من الاتساع عند عدم التراصّ. والحَذَف -بفتح الحاء المهملة والذال المعجمة مفتوحتين وبعدهما فاء -يعني: أولاد الضأن الصغار (¬1). واختلف في الوعيد المذكور، فقيل: على حقيقته، والمراد: تشويهُ الوجوه؛ بتحويلِ خَلْقِه عن وضعه، بجعله موضعَ القفا، أو نحو ذلك، فهو نظيرُ الوعيد فيمن رفع رأسه قبل الإمام "أن يجعلَ اللهُ رأسَه رأسَ حمارٍ" (¬2) -كما يأتي- (¬3). وحكمةُ ذلك: أنهم لما اختلفوا عن سَمْت الاعتدال، حول خلقتهم إلى التسوية، فكان الجزاء من جنس الفعل (¬4). وقال ابن دقيق العيد: قوله: "أو لَيُخالِفَنَّ [اللهُ] بين وجوهكم" يظهر لي: أنه راجع إلى اختلاف القلوب، وتغييرِ بعضِهم على بعض؛ فإن تقدُّم الإنسان على الشخص، أو على الجماعة، وتخليفَه إياهم من غير أن يكون مُقامًا للإمامة بهم، قد يوغر صدورَهم، وذلك موجبٌ لاختلافِ قلوبهم؛ فعبر عنه بمخالفة وُجوههم؛ لأن المختلفينِ في التباعد والتقارب، يأخذ كل واحد منهما غير وجه الآخر. ¬

_ = (815)، كتاب: الإمامة، باب: حث الإمام على رصِّ الصفوف والمقاربة بينها، وابن خزيمة في "صحيحه" (1545)، وابن حبان في "صحيحه" (2166). (¬1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 188). (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 346). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 207).

ثم لك أن تعبر عن الوجه بالجهة، أو تعبر به عن اختلاف المقاصد، وتباين النفوس؛ فإن من تباعدَ من غيره، وتنافرَ، زوى وجهَه عنه، فيكون المقصود: التحذيرَ من وقوع التباغض والتنافر، كذا قال (¬1). وربما استدل لقوله بما في "أوسط الطبراني" بسند ضعيف، عن علي - رضي الله عنه - مرفوعًا: "استووا تستوي قلوبُكم، وتَماسُّوا تَراحَمُوا". قال سريج: تماسُّوا؛ يعني: ازدحموا في الصلاة. وقال غيره: تماسُّوا: تَواصَلوا (¬2). ويؤيد الأولَ -يعني: حملَ الحديث على ظاهره -: حديثُ أبي أمامة - رضي الله عنه - مرفوعا، بلفظ: "لتسَوُّنَّ الصفوفَ، أو لتطْمَسَنَّ الوجوهُ" رواه الإمام أحمد (¬3)، وفي سنده ضعف (¬4). ولهذا قال الإمام الحافظ ابنُ الجوزي: الظاهرُ أنه مثل الوعيد المذكور في قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47]. والحاصل: إنْ حُمل الوجهُ على العضو المخصوص، فالمخالفةُ إما بحسب الصورة الإنسانية، أو الصفة؛ بأن يحول من قُدَّام إلى القَفا، وإن [حُمل] على ذاتِ الشخص، فالمخالفةُ بحسب المقاصد، كما أشار إليه الكرماني. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 196). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5121). قال الدارقطني في "العلل": الموقوف -يعني: عن علي رضي الله عنه - هو الصحيح. وقد رواه موقوفًا عن علي - رضي الله عنه -: ابن أبي شيبة في "المصنف" (3533). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 258)، والروياني في "مسنده" (1203)، والطبراني في "المعجم الكبير" (7859). (¬4) قاله الحافظ في "الفتح" (2/ 207). وانظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (2/ 90).

وأبدى في "الفتح" احتمال إرادة المخالفة بالجزاء، فيجازي المستوي بِخير، ومن لا يستوي بِشَرّ (¬1). (و) في رواية (لمسلم) دون البخاري، عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي)؛ أي: يُعَدِّل (صفوفنا) معشرَ أصحابه (حتى) كان - صلى الله عليه وسلم - (كأنما يسوِّي)؛ أي: يعدِّل (بها)؛ أي: بتلك التسوية (القداح)، جمع قِدْح -بالكسر-: السهم حين يُبْرَى ويُنحَت ويُهَيَّأُ للرمي، وهو مِمَّا يُطلب فيه التحريُر والاستقامة، وإلا كان طائشًا، فلا يُصيب الغوضَ عند رميه، فضُرب به المثل؛ لتحرير التسوية (¬2). وفيه دليل: على أن تسوية الصفوف من وظيفة الإمام، وبه صرح علماؤنا كغيرهم. قال في "الفروع": ثم يسوِّي الإمامُ الصفوف بالمناكبِ والأَكعُبِ، ويكمل الأول، فأول، ويتراصون (¬3). وفي "شرح الوجيز": يُسن للإمام أن يسوِّيَ صفَّه، يلتفتُ عن يمينه، فيقول: استووا رحمكم الله، وعن يساره كذلك (¬4). وفي "سنن أبي داود"، عن محمد بن مسلم، قال: صليت إلى جنب أنس بن مالك - رضي الله عنه - يومًا، فقال: هل تدري لم صُنع هذا العود؟ قال: لا والله، فقال: لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة، أخذه ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 207). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 197)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (2/ 520). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 357). (¬4) وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 275)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 328).

بيمينه، فقال: "اعتدِلوا وسَوُّوا صفوفَكم"، ثم أخذه بيساره، وقال: "اعتدِلوا وسَوُّوا صفوفكم" (¬1). قال ابن دقيق العيد: وكان بعضُ أئمة السلف يوكل بالناس من يُسوِّي صفوفَهم (¬2). قال النعمان - رضي الله عنه -: (حتى) إذا (رأى) - صلى الله عليه وسلم - (أَنْ قد عَقَلْنا)؛ يعني: أنه كان يراعيهم في التسوية، ويتلطَّفُ بهم إلى أن علم أنهم عَقَلوا المقصودَ منه، وامتثلوه وكان ذلك غاية مراقبة لهم، وتكلف مراعاة إقامتهم، وثمرة ملاطفته لهم (¬3). (ثم) بعد ذلك (خرج) - صلى الله عليه وسلم - (يومًا) من الأيام للصلاة، (فقام) في القبلة أمامهم، (حتى كاد أن يكبر) تكبيرةَ الإحرام، (فرأى رجلًا باديًا)؛ أي: ظاهرَ التقدمة على الصف. (صَدْرُه) أعلى مقدَّم جسد الإنسان. قال في "القاموس": صدرُ الإنسان مُذَكَّر، وهو ما أشرفَ من أعلاه (¬4). (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (عباد الله!) بحذف أداة النداء. في هذا دليل على جواز كلام الإمام بين الإقامة والصلاة؛ لما يعرض من حاجة، وإن كان العلماء اختلفوا في كراهة ذلك، لكن تزول الكراهةُ لأدنى حاجة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (669، 670)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 22). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 197). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 543)، (مادة: صدر). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 197).

(لتسوُّنَّ صفوفكم) بأن يُحاذوا بينَ مناكبهم، كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَقيموا الصفوفَ، وحاذوا بينَ المناكِب، وسُدُّوا الخَلَل، ولِينُوا بأيدي إخوانِكم، ولا تَذَروا فُرُجاتِ الشيطان، ومن وَصَلَ صَفًّا وَصَلَه اللهُ، ومن قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ" رواه الإمام أحمد، وأبو داود (¬1). الفُرُجات: جمع فُرْجَة: المكان الخالي بين الاثنين (¬2). (أو ليخالفن الله) -عز وجل- (بين وجوهكم) بالمسخ، أو التحويل، أو إلقاء البغضاء، والتنافر بينكم، وعدم التآلف واجتماع المقاصد والكلمة. وفي حديث البراء بن عازب - رضي الله عنهما -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي ناحيةَ الصف، ويسوِّي بين صدور القوم ومناكبِهم، ويقول: "لا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم، إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يُصَلُّون على الصفِّ الأول" رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (¬3). وفي "البخاري"، من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: أُقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه، فقال: "أَقيموا صُفوفَكُم، وتَراصُّوا؛ فإِني أَراكُمْ من وَراءِ ظَهْري" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 97)، وأبو داود (666)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف، واللفظ له. (¬2) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (707)، (1/ 188 - 189). (¬3) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1557)، وكذا أبو داود (664)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 285). وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (704)، (1/ 188). (¬4) رواه البخاري (687)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف.

زاد في طريق أخرى: فكانَ أحدُنا يُلْزِق منكبَه بمَنْكِبِ صاحبه، وقدَمَه بقدَمِه (¬1)، رواه مسلم أيضاً بإسقاط لفظ: "تراصوا" (¬2). وقول أنس: فكان أحدنا .... إلخ، فلم يخرجه مسلم. وزيد في رواية معتمر: قال أنس: فلو فعلت ذلك بأحدهم اليومَ، لنفرَ كأنه بَغْلٌ شَموس (¬3). وأخرج البخاري، عن أنس - رضي الله عنه -: أنه قدم المدينة، فقيل له: ما أنكرتَ منا منذ يوم عهدتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ما أنكرتُ شيئًا، إلا أنكم لا تُقيمون الصفوف (¬4). وأخرج أبو داود، وابن خزيمة، وصححه، عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -، قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس بوجهه، فقال: "أَقيمُوا صُفوفكم -ثلاثًا- واللهِ لتقيمُنَّ صُفوفَكم، أو ليخالِفَنَّ اللهُ بينَ قلوبِكم". قال: فلقد رأيتُ الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وكعبه بكعبه (¬5). وبعضه في مسلم (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (692)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إلزاق المنكب بالمنكب، والقدم بالقدم في الصف. (¬2) رواه مسلم (434)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها، وفضل الأول فالأول منها، بلفظ: "أتموا الصفوف، فإني أراكم خلف ظهري". (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3524)، وأبو يعلى في "مسنده" (3720). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 211). (¬4) رواه البخاري (691)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إثم من لم يتم الصفوف. (¬5) رواه أبو داود (662)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف، وابن خزيمة في "صحيحه" (160). (¬6) تقدم تخريجه برقم (436) عنده.

واستدل بهذا الحديث على أن المراد بالكعب في آية الوضوء: العظمُ الناتىء في جانبي الرِّجْل، وهو عند مُلتقى الساق والقدم -كما تقدم-؛ إذ هو الذي يُمكن أن يلزق بالذي بجنبه، خلافًا لمن ذهبَ إلى أن المراد بالكعب مؤخر القدم، وهو قول شاذ يُنسب إلى بعض الحنفية، ولم يثبته محققوهم (¬1). تنبيهان: الأول: تسويةُ الصفوف سنة مؤكدة، لا واجب. وقد نقل الإجماعَ على استحباب ذلك غيرُ واحد. وفي "الفروع": ويتوجه: تجبُ تسويةُ الصفوف. قال: وهو ظاهر كلام شيخنا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا باديًا صدرُه، فقال: "لتسوُّنَّ صفوفَكم، أو ليخالفنَّ الله بينَ وجوهكم" (¬2)، فيحتمل أن يمنع الصحة، ويحتمل لا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سَوُّوا صُفوفَكم؛ فإن تسويةَ الصفِّ من تمام الصلاة" (¬3)، وتمام الشيء يكون واجبًا ومستحبًا، لكن قد يدل على حقيقة الصلاة بدونه، وكالجماعة، وذكر حديث قدوم أنس المدينةَ، وقولَه: ما أنكرتُ شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف (¬4)؛ وترجم عليه البخاري: إثم من لم يتم الصفوف (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 211). (¬2) تقدم تخريجه من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -. (¬3) تقدم تخريجه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬4) تقدم تخريجه قريبًا. (¬5) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 254).

قال في "الفروع": ومن ذكرَ الإجماعَ على أنه مستحب، فمرادُه ثبوتُ استحبابه، لا نفيُ وجوبه. انتهى (¬1). وفي "الفتح": على قول البخاري: إثم من لم يُتم الصفوف، تُعقب: بأن الإنكار قد يقع على ترك السنة، فلا يدل ذلك على حصول الإثم. وأجيب: بأنه لعله - حمل الأمر في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] على أن المراد بالأمر: الشأن والحال، لا مجردُ الصيغة، فيلزم منه أن من خالف شيئًا من الحال التي كان - صلى الله عليه وسلم - عليها أن يأثم؛ لما يدل عليه الوعِيد المذكور في الآية. وإنكار أنس ظاهر في أنهم خالفوا ما كانوا عليه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من إقامة الصفوف، فعلى هذا تستلزم المخالفة التأثيم. هذا ملخص كلام ابن رشـ[ــيـ]ــــد. وضعفه في "الفتح"؛ بأنه يفضي إلى أنه لا يبقى شيء مسنون؛ لأن التأثيم إنما يحصل عن ترك واجب. وقولُ ابن بطال: لما كان تسويةُ الصفوف من السنن المندوب إليها التي يستحق فاعلُها المدحَ عليها، دلَّ على أن تاركها يستحقُّ الذم، متعقَّبٌ من جهة أنه لا يلزم من ذم تارك السنة أنه يكون آثمًا، ولئن سلم، لزم علياا ما قبله من التعقب. ويحتمل أن البخاري إنما أخذ الوجوبَ المترتِّبَ على تركِه الإثمُ من صيغة الأمر في قوله: "سَوُّوا"، ومن عموم قوله: "صَلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي" (¬2)، ومن ورود الوعيد على تركه، فترجَّح عنده بهذه القرائن: أن ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 358). (¬2) تقدم تخريجه.

إنكارَ أنس إنما وقع على تركِ الواجب، وإن كان الإنكارُ يقع على ترك السنن. وعلى القول: بأن التسوية واجبة، فصلاة من خالفَ ولم يستوِ صحيحةٌ؛ لاختلاف الجِهتين، بدليل أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - مع إنكاره عليهم، لم يأمرهم بالإعادة. وأفرط ابنُ حزم فجزمَ بالبطلان، ونازع من ادَّعى الإجماعَ، على عدمِ الوجوب بما صح عن عمر - رضي الله عنه - أنه ضرب قدمَ أبي عثمان النهديِّ لإقامة الصف (¬1)، وبما صح عن سُويد بن عقلة، قال: كان بلال يسوِّي مناكبنا، ويضربُ أقدامَنا في الصلاة (¬2). فقال: ما كان عمر وبلال - رضي الله عنهما - يضربان أحدًا على ترك غير الواجب (¬3). ونظر فيه في "الفتح"؛ لجواز أنهما كانا يريان التعزير على ترك السنة، انتهى. الثاني: جاء في عدة أحاديث الحثُّ على وصل الصفوف، وتسويتها، وسدِّ الخلل والفُرَج التي بها. فروى الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، من حديث عائشة - رضي الله عنها -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 58)، والأثر رواه أيضاً: ابن أبي شيبة في "المصنف" (3530)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (35/ 476 - 477). (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (2435). (¬3) انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 59).

قال: "إن اللهَ وملائكته يُصلُّون على الذين يَصِلونَ الصُّفوف" (¬1). زاد ابن ماجه: "ومن سَدَّ فُرْجَةً، رفعه اللهُ بها درجةً" (¬2). وروى النسائي، وابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا: "مَنْ وَصَلَ صَفًّا، وصلَه اللهُ، ومن قطعَ صَفًّا، قطعَه اللهُ" (¬3). وروى البزار بإسناد حسن، وابن حبان في "صحيحه"، من حديث ابن عمر مرفوعًا، "خِيارُكُمْ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ في الصَّلاةِ" (¬4). ورواه الطبراني في "الأوسط"، وزاد: "وَما مِن خُطوة أعظمُ أَجْرًا، من خطوةٍ مشاها رجلٌ إلى فُرْجَةٍ في الصَّفِّ، فَسَدَّها" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 210). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 67)، وابن ماجه (995)، كتاب: الصلاة، باب: إقامة الصفوف، وابن خزيمة في "صحيحه" (1550)، وابن حبان في "صحيحه" (2163)، والحاكم في "المستدرك" (775). (¬3) رواه النسائي (819)، كتاب: الإمامة، باب: من وصل صفًا، وابن خزيمة في، "صحيحه" (1549). وقد تقدم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - بأطول، من هذا. (¬4) كذا ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" (718)، (1/ 190)، وعزاه إلى البزار، وابن حبان، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، وعنه نقل الشارح - رحمه الله -. وهو كذلك في "مسند البزار"، كما ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 90)، إلا أنَّ ابن حبان رواه في "صحيحه" (1756)، من حديث ابن عباس.- رضي الله عنهما -. (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5217)، والديلمي في "مسند الفردوس" (2858).

والبزار بإسناد حسن، عن أبي جُحيفة مرفوعًا: "مَنْ سَدَّ فُرْجَةً في الصفِّ، غُفِرَ لَهُ" (¬1). والطبراني في "الأوسط"، عن عائشةَ مرفوعًا: "مَنْ سَدَّ فُرْجَةً، رفعَهُ اللهُ بها درجةً، وبَنى له بِها بيتًا في الجنةِ" (¬2). وروى الحاكم، وقال: على شرط مسلم، من حديث معاذ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "خُطوَتانِ إحداهُما أَحَبُّ الخُطا إلى الله، والأُخْرى أبغضُ الخُطا إلى الله؛ أما التي يُحِبُّها الله، فرجل نظرَ إلى خَلَل في الصفِّ، فسدَّه، وأما التي يُبْغِضُها الله؛ فإذا أرادَ الرجلُ أن يقومَ، مَدَّ رِجْلَه اليُمْنى، ووضَعَ يدَه عليها، وأثبتَ اليسرى، ثُم قام" (¬3). وعن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لتسَوُّنَّ الصُّفوفَ، أو لتطْمَسَنَّ الوجوهُ، أو لتغْمَضَنَّ أبصارُكُم، أو لتخْطَفَنَّ أَبْصارُكُمْ" رواه الإمام أحمد، والطبراني (¬4)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (720)، (1/ 191)، و "مجمع الزوائد" للهيثمي (2/ 91). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5797)، والديلمي في "مسند الفردوس" (5661). (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" (1008)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 288). (¬4) تقدم تخريجه.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَنَسِ بْنِ ماِلكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: "قُومُوا فَلأُصَلِّيَ لَكُمْ"، قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إلى حَصِيرٍ لَنَا؛ قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَصَفَفْتُ أَنَا وَاليَتِيمُ وَرَاءَهُ، والعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَكعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولمسلم: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بهِ وَبأُمِّهِ؛ فَأَقَاَمَني عَنْ يَمِينِهِ، وَأَقَامَ المَرْأَةَ خَلْفَنَا (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (373)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: الصلاة على الحصير، و (694)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: المرأة وحدها تكون صفًا، و (822)، كتاب: صفة الصلاة، باب: وضوء الصبيان، و (833)، باب: صلاة النساء خلف الرجال، و (1111)، كتاب: التطوع، باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى، ومسلم (658)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز الجماعة في النافلة، وأبو داود (612)، كتاب: الصلاة، باب: إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون، والنسائي (801)، كتاب: الإمامة، باب: إذا كانوا ثلاثة وامرأة، والترمذي (234)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل يصلي ومعه الرجال والنساء. (¬2) رواه مسلم (660)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز =

اليتيمُ: قيل: هو ضُميرةُ جدُّ حُيَيٍّ بنِ عبدِ اللهِ بنِ ضُميرةَ. عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، (عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن جدته مليكة)؛ -بالضم تصغير ملكة-، واختلف في الضمير من جدته: فقيل: يعود على إسحاق، جزم به ابن عبد البر (¬1) وعبد الحق، والقاضي عياض (¬2)، وصححه النووي (¬3). وقيل: بل على أنس، وهو ظاهر صنيع الحافظ المصنف -رحمه الله ¬

_ = الجماعة في النافلة، وأبو داود (609)، كتاب: الصلاة، باب: الرجلين يؤم أحدهما صاحبه كيف يقومان، والنسائي (805)، كتاب: الإمامة، باب: موقف الإمام إذا كان معه صبي وامرأة، وابن ماجه (975)، كتاب: الصلاة، باب: الاثنان جماعة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 174)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 268)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 30)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 635)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 285)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 162)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 197)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 412)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 248)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 82)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 489)، و"عمدة القاري" للعشِي (4/ 110)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 220). (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 264). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" (2/ 635)، و"مشارق الأنوار" كلاهما للقاضي عياض (2/ 372). (¬3) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 580).

تعالى-. وجزم به ابن منده، وابن سعد، وغيرهما. ويؤيده ما في "فوائد العراقيين" لأبي الشيخ، من طريق القاسم بن يحيى المقدمي، عن عبد الله بن عمر، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس، قال: أرسلتني جدتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسمها مليكة، فجاءنا، فحضرت الصلاة، الحديث (¬1). قال ابن سعد في "الطبقات": أم سليم بنت ملحان -فساقَ نسبها- إلى عدي بن النجار، ثم قال: وهي الغميصاء، ويقال: الرميصاء، ويقال اسمها: سهلة، ويقال: أُنَيفة -بالنون والفاء- مصغرة، ويقال: رُمَيثة، وأمها مليكة بنت مالك بن عدي. فساق نسبها إلى مالك بن النجار، ثم قال: تزوجها -أي: أم سليم- مالكُ بن النضر، فولدت له أنسَ بنَ مالك، ثم خلف عليها أبو طلحة، فولدت له عبدَ الله، وأبا عمير. وأبو عمير هذا هو الذي كان يداعبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول له: "يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ " (¬2). وعبد الله هو والد إسحاق راوي هذا الحديث عن عمه أخي أبيه لأمه أنس بن مالك. ومقتضى كلام من أعاد الضمير في "جدته" إلى إسحاق أن يكون اسم أم سليم: مليكة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 489). (¬2) رواه البخاري (5778)، كتاب: الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، ومسلم (2150)، كتاب: الآداب، باب: استحباب تحنيك المولود عند ولادته، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬3) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 424)، و"الاستيعاب" =

ومستندهم في ذلك ما رواه ابن عيينة، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس قال: صففت أنا واليتيم في بيتنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمي أم سليم خلفنا، هكذا أخرجه البخاري (¬1). قال في "الفتح": ويحتمل تعددها، فلا تخالف (¬2). (دعت) أم سليم، أو أمها. والأول أظهر. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنعته لى، فأكل) - صلى الله عليه وسلم - (منه) فيه دلالة: على ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من التواضع، وإجابة دعوة الداعي. ويستدل به: على إجابة أهل الفضل لمن دعاهم لغير الوليمة (¬3). قال في "الفتح": قوله: لطعام؛ أي: لأجل طعام؛ وهو مشعر بأن مجيئه كان لذلك، لا ليصلي بهم، ليتخذوا مكان صلاته مصلى لهم، كما في قصة عتبان، وبدأ في قصة عتبان بالصلاة قبل الطعام، وهنا بالطعام قبل الصلاة، فبدأ في كلٍّ منهما بأصل ما دعي لأجله (¬4). (ثم قال) - صلى الله عليه وسلم - لهم: (قوموا فلأصلي لكم). فيه: دليل على ترك الوضوء مما مست النار؛ لكونه صلى بعد الطعام. وفيه نظر؛ لما رواه الدارقطني في "غريب مالك"، عن البغوي، عن ¬

_ = لابن عبد البر (4/ 1914)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 579)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 124). (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (694)، إلا أنه قال: "صليت" بدل "صففت". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 489). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 198). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 489 - 490).

عبد الله بن عون بن مالك، ولفظه: صنعت مليكة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاماً، فأكل منه وأنا معه، ثم دعا بوضوء فتوضأ ... الحديث (¬1). قوله: "فلأصلي لكم" كذا هو في الرواية -بكسر اللام وفتح الياء-. وفي رواية الأصيلي: بحذف الياء (¬2). قال ابن مالك: روي بحذف الياء وثبوتها، مفتوحة وساكنة، ووجهه: أن اللام عند ثبوت الياء مفتوحةً لامُ كي، والفعل بعدها منصوبٌ بأن مضمرة، واللام ومصحوبها خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: [قوموا] قيامكم لأصلي لكم. ويجوز على مذهب الأخفش كون الفاء زائدة، واللام متعلقة بقوموا، وعند سكون الياء يحتمل كون اللام أيضاً لام كي، وسكنت الياء تخفيفاً، أو لام الأمر، وثبتت الياء في الجزم إجراء للمعتل مجرى الصحيح؛ كقراءة قنبل (من يتقي ويصبر) [يوسف: 90] (¬3). وعند حذف الياء اللام لام الأمر، وأمر المتكلم نفسه بفعل مقرون باللام فصيح، إلا أنه قليل في الاستعمال؛ ومنه قوله -تعالى-: {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12]. قال: ويجوز فتح اللام (¬4). وحكى ابن قرقول في بعض الروايات: "فَلِنُصَلِّ" -بالنون وكسر اللام والجزم-، واللام على هذا لام الأمر، وكسرها لغة معروفة (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (1/ 490). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 635). (¬3) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 297). (¬4) انظر: "شواهد التوضيح" لابن مالك (ص: 243). (¬5) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 45).

والمر اد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لكم"؛ أي: لأجلكم. قال السهيلي: الأمر هنا بمعنى الخبر، وهو كقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، ويحتمل أن يكون أمراً لهم بالائتمام، لكنه أضافه لنفسه؛ لارتباط فعلهم بفعله (¬1). (قال أنس) - رضي الله عنه -: (فقمنا إلى حصير لنا). قال ابن بطال: إن كان ما يصلي عليه كبيراً قدر طول الرجل فأكثر، فإنه يقال له: حصير، ولا يقال له: خُمْرَة، وكل ذلك يُصنع من سَعَف النخل وما أشبهه (¬2). (قد اسودَّ) ذلك الحصير (من طول ما لُبِس). فيه: أن الافتراش يسمى: لبساً. واستدل به: على منع افتراش الحرير؛ لعموم النهي عن لبس الحرير، ولايرد على ذلك من حلف لا يلبس حريراً، فإنه لا يحنث بالافتراش؛ لأن الأيمان مبناها على العرف، حيث لا نية، ولا سبب، مع أن تحريم افتراش الحرير قد ورد فيه نص يخصه (¬3). (فنضحته) الضمير يرجع إلى الحصير، والفاعلُ أنس- رضي الله عنه - (بماء)، والنضح يطلق على الغسل وعلى ما دونه، وهو الأشهر، فيحتمل إرادة الغسل؛ إما لتطهيره، أو لتليينه، وتهيئة الجلوس عليه، أو ما دون ¬

_ (¬1) انظر: "الأمالي" للسهيلي (ص: 94). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 490). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 488). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 198).

الغسل، ويكون لتليينه. والنضح تستحبه المالكية لما شُك في نجاسته (¬1). (فقام عليه)؛ أي: الحصير بعد نضحه (رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وصففت أنا واليتيمُ) كذا للأكثر. وفي بعض الروايات: فصففت واليتيم، بغير ضمير فصل، والأول أفصح. ويجوز في اليتيم الرفع والنصب (¬2). (وراءه) - صلى الله عليه وسلم - متعلق بـ: فصففت. (والعجوز) هي مليكة المذكورة. (من ورائنا) وهذا دليل لقول الجمهور بأن موقف الاثنين وراء الإمام، خلافاً لمن قال من الكوفيين: إن أحدهما يقف عن يمينه، والآخر عن يساره، وحجتهم في ذلك حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي أخرجه أبو داود وغيره: أنه أقام علقمة عن يمينه، والأسود عن شماله (¬3). وأجاب عنه ابن سيرين بأن ذلك كان لضيق المكان، رواه الطحاوي (¬4). وفيه: دليل على أن المرأة لا تصف مع الرجال، وأصل ذلك ما يخشى من الافتتان بها، فلو خالفت، أجزأت صلاتها عند الجمهور. وعند الحنفية: تفسد صلاة الرجل دون المرأة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 490)، ونسب الحافظ رواية: "فصففت واليتيم" للمستملي والحموي. (¬3) رواه أبو داود (613)، كتاب: الصلاة، باب: إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون، والنسائي (799)، كتاب: الإمامة، باب: موقف الإمام إذا كانوا ثلاثة، والاختلاف في ذلك، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 424). (¬4) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 306).

قال في "الفتح": وهو عجيب، وفي توجيهه تعسف؛ حيث قال قائلهم: دليله قول ابن مسعود: أخروهن من حيث أخرهن الله (¬1)، والأمر للوجوب، وحيث ظرف مكان، ولا مكان يجب فيه إلا مكان الصلاة. فإذا حاذت الرجل، فسدت صلاة الرجل؛ لأنه ترك ما أمر به من تأخيرها. قال: وحكاية هذا تغني عن تكلف جوابه، انتهى (¬2). وفي "الفروع" للعلامة ابن مفلح: وإن وقفَتْ مع رجال، لم تبطل صلاة من يليها وخلفها، خلافاً لأبي حنيفة، ولا تبطل صلاتها؛ وفاقاً للثلاثة. وقال الشريف، وأبو الوفاء ابن عقيل: بلى، وهو مذهب داود، والمعتمد: لا تبطل، والله الموفق (¬3). (فصلى) النبي - صلى الله عليه وسلم - (لنا)؛ أي: لأجلنا (ركعتين)؛ إما للتعليم، أو لحصول البركة بالاجتماع فيها، أو بإقامتها في المكان المخصوص، وهو الذي يشعر به قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لكم"؛ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بهم، كأنه أراد تعليم المرأة أفعال الصلاة بالمشاهدة، فإنها قد يخفى عليها بعض تفاصيل الصلاة؛ لبعد موقفها. وفيه: مشروعية الجماعة في النافلة في البيت. وتنظيف مكان المصلي. وقيام الصبي مع الرجل في النفل صفاً. وتأخير النساء عن صفوف الرجال. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (5115)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1700)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9484). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 212). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 26 - 27).

وقيام المرأة صفاً وحدها إذا لم تكن مع نساء، إلا إذا صلت مع امرأة أو نساء، فإنها لا تقف خلفها أو خلفهن وحدها، فإن فعلت، نفذ، كما سننبه عليه (¬1). (ثم انصرف - صلى الله عليه وسلم -) بعد صلاته إلى بيته، أو من صلاته. (و) في رواية (لمسلم) دون البخاري: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى به وبأمه)، قال أنس - رضي الله عنه -: (فأقامني) أنا (عن يمينه)، (وأقام) - صلى الله عليه وسلم - (المرأة) التي هي أم أنس (خلفنا). والذي في مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى به وبأمه أو خالته -بالشك- (¬2). وفي رواية: عن أنس عندهما، قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا، وما هو إلا أنا وأمي، وأم حرام خالتي، فقال: "قوموا فلأصلي لكم" في غير وقت صلاة، فصلى بنا -فقال لثابت: أين جعل أنساً منه؟ قال: جعله عن يمينه-، ثم دعا لنا أهل البيت بكل خير، الحديث. والمراد: أهل بيتهم (¬3). والحاصل: أن موقف المرأة الواحدة خلف الرجال، فإذا كان إمام ومأموم رجل وامرأتان، وقف الرجل عن يمين الإمام، ووقفت الامرأتان خلفه. قال الحافظ -قدس الله روحه-: (اليتيم) الذي قال عنه أنس - رضي الله ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 490). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه مسلم (660)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز الجماعة في النافلة. والحديث من أفراد مسلم عن البخاري، فلم يروه البخاري في "صحيحه" بهذا السياق، والله أعلم.

عنه -: إنه صف هو وإياه ([قيل]: هو): (ضُمَيرة) -بضم الضاد المعجمة وفتح الميم على التصغير- ابن أبي ضميرة، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأبيه أبي ضميرة صحبة، وهو (جد حُيَيّ) -بضم الحاء المهملة فياءين تحتيتين الأولى منهما مفتوحة- (بن عبدالله بن ضميرة) يعد في أهل المدينة (¬1). ذكر ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن حيي بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده ضميرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بأم ضميرة وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك؟ أجائعة أنت أم عارية؟ "، قالت: يا رسول الله! فرق بيني وبين ابني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يفرق بين الوالدة وولدها"، ثم أرسل إلى الذي عنده ضميرة، فابتاعه منه (¬2). وهذا الصحيح المعتمد عند الحفاظ. وقال ابن بشكوال: وقيل: إن اسم اليتيم: سليم. كذا وقع في حديث يحيى بن يحيى التميمي، عن سفيان، قال: وأخشى أن يكون تصحيفاً مكان يتيم سليم. والأول: هو المحفوظ -يعني: ضميرة- (¬3)، كما في "شرح ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 388)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 199)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1695)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 495). (¬2) رواه ابن وهب (10/ 281 - "المدونة" لابن قاسم)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 126)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (2/ 35)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (4/ 272)، وابن حجر في "الإمتاع بالأربعين المتباينة السماع" (ص: 42 - 43). (¬3) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 171).

الزهر" (¬1). وجزم في "الفتح" بأنه تصحيف (¬2)، والله أعلم. تنبيهات: الأول: أفضل الصفوف: الأول، ففي "الصحيحين"، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه -أي: يقترعوا-، لاستهموا" (¬3). وفي لفظ لمسلم: "لو يعلمون ما في الصف المقدم، لكانت قرعة" (¬4). وفي "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود"، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن أبي هريرة- رضي الله عنه -: "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها" (¬5)، والمراد: إذا صلَّيْنَ مع الرجال، وإلا فكالرجال. وهذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة، منهم: ابن عباس، وعمر بن الخطاب، وأنس بن مالك، وأبو سعيد، وأبو أمامة، وجابر بن ¬

_ (¬1) للبرماوي، وقد تقدم الكلام عنه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 490). (¬3) رواه البخاري (590)، كتاب: الأذان، باب: الاستهام في الأذان، ومسلم (437)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها. (¬4) رواه مسلم (439)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها. (¬5) رواه مسلم (440)، كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها، وأبو داود (678)، كتاب: الصلاة، باب: صف النساء، وكراهية التأخر عن الصف الأول، والنسائي (820)، كتاب: الإمامة، باب: ذكر خير صفوف النساء، وشر صفوف الرجال، والترمذي (224)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فضل الصف الأول، وابن ماجه (1000)، كتاب: الصلاة، باب: صفوف النساء.

عبد الله، وغيرهم - رضي الله عنهم - (¬1). والمراد بالصف الأول: الذي يلي الإمام مطلقاً. قال في "الفروع": يسوي الإمام الصفوف، ويُكمل الأول فالأول، ويتراصون، ويمينُه والصفُّ الأولُ للرجال أفضلُ. قال ابن هبيرة: وله ثوابه، وثوابُ من وراءه، ما اتصلت الصفوف؛ لاقتدائهم به. قال الأصحاب: وكذا كلَّما قرب منه أفضل، ويقرب الإمام الأفضل والصف منه، وللأفضل تأخيرُ المفضول، والصلاةُ مكانَه، ذكره بعضُهم؛ لأن أبياً نَحَّى قيسَ بن عُباد، وقام مكانه، فلما صلى، قال: يا بني! لا يَسُؤْك الله، فإني لم آتك الذي أتيت بجهالة، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كونوا في الصف الذي يليني"، وإني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك. إسناده جيد، رواه الإمام أحمد، والنسائي (¬2). وظاهر ما حكاه الإمام أحمد عن عبد الرزاق: أن نقرة الإمام أفضل (¬3). وفي حواشي "الفروع" لابن مفلح: قال الإمام أحمد- رضي الله عنه - لحَرْمي: كم فضل الصلاة عند الناس من الفرادى إلى الجماعة؟ فقال حَرْمي: خمس وعشرون، فقال الإمام أحمد: إني سمعت عبد الرزاق يقول: إنها مئة صلاة، من أجاب الداعي، فهي خمس وعشرون، ومن صلى في الصف الأول، فهي خمسون، ومن صلى يَمْنة الإمام، فهي خمس ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الترمذي" (1/ 436)، و"الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 187). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 140)، والنسائي (808)، كتاب: الإمامة، باب: موقف الإمام، والمأموم صبي. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 375).

وسبعون، ومن صلى نُقْرة الإمام، فهي مئة صلاة (¬1). وفي "وصية ابن الجوزي" لولده: اقصد وراء الإمام. واستوجه في "الفروع" أن بعد يمينه ليس أفضل من قرب يساره، ولعله مرادهم، انتهى (¬2). لأنهم قالوا في الحض على الصف الأول: المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين (¬3). قال في "الفروع": وفي كراهة ترك الصف الأول للقادر وجهان (¬4). قلت: المذهب الكراهة. قال في "الإنصاف": على الصحيح من المذهب (¬5)، ومشى عليه في "الإقناع" (¬6)، وغيره. قال في "الفروع": وهو -أي: الصف الأول- ما يقطعه المنبر؛ وفاقاً للأئمة الثلاثة (¬7)، صححه في "الإنصاف"، وقال: عليه الأصحاب (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "حاشية ابن قندس على الفروع" (2/ 160). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 358). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 208). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 358). (¬5) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 40). (¬6) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 172). (¬7) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 358). (¬8) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 41).

والمراد: أنه أول صف يلي الإمام، قطعه المنبر أولا، كما قدمنا، لا أول صف يلي المنبر (¬1). ويحافظ على الصف الأول، وإن فاتته ركعة، إلا إن خاف فوت الجماعة (¬2). وفي حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر للصف المقدم ثلاثاً، وللثاني مرة. رواه ابن ماجه، والنسائي، وابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما (¬3). وروى الإمام أحمد بإسناد لا بأس به، عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول"، قالوا: يا رسول الله! وعلى الصف الثاني؟ قال: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول"، قالوا: يا رسول الله! وعلى الصف الثاني؟ قال: "وعلى الثاني" (¬4). وروى أبو داود، وابن ماجه، بإسناد حسن، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 328). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 358). (¬3) رواه النسائي (817)، كتاب: الإمامة، باب: فضل الصف الأول على الثاني، وابن ماجه (996)، كتاب: الصلاة، باب: فضل الصف المقدم، وابن خزيمة في "صحيحه" (1558)، والحاكم في "المستدرك" (788). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 262). (¬5) رواه أبو داود (676)، كتاب: الصلاة، باب: من يستحب أن يلي الإمام في الصف، وكراهية التأخر، وابن ماجه (1005)، كتاب: الصلاة، باب: فضل ميمنة الصف.

الثاني: السنة أن يقف المأموم خلف الإمام إذا كانوا اثنين فصاعداً، رجالاً كانوا أو نساء، وفاقاً. ولا يصح قُدَّامه بإحرام فأكثر؛ لأنه ليس موقوفاً بحال؛ خلافاً لمالك (¬1). ويأتي تفاصيل هذا، في الحديث الآتي -إن شاء الله تعالى-. الثالث: لا تصح صلاة الفذ -على المعتمد-، فإن صلى فذاً ركعة -ولو امرأة خلف امرأة-، لم تصح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لفذ خلف الصف" رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، من حديث علي بن شيبان، قال: خرجت وافداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فصلينا خلفه، فرأى - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استقبل صلاتك، فلا صلاة لفرد خلف الصف" (¬2). قال الحافظ ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق": إسناده قوي. وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: هذا الحديث حسن؟ قال: نعم (¬3). وروى الإمام أحمد، من حديث وابصة بن معبد - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وحده خلف الصف، فأمره أن يعيد صلاته. ورواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 23). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 23)، وابن ماجه (1003)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة الرجل خلف الصف وحده. وانظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 490). (¬3) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 34). (¬4) الإمام أحمد في "المسند" (4/ 228)، وأبو داود (682)، كتاب: الصلاة، باب: الرجل يصلي وحده خلف الصف، والترمذي (230)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده.

وقال الإمام أحمد: حديث وابصة حديث حسن. وقال ابن المنذر: ثبته أحمد وإسحاق (¬1). وهو قول النخعي، وابن المنذر. وعند الثلاثة: تصح صلاة الفذ، وكذا أجازها الحسن. احتجوا بحديث أبي بكرة - رضي الله عنه -؛ حيث أحرم وركع دون الصف، ثم دخل الصف (¬2)، فلم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة؛ ولأنه موقف المرأة. ولنا: مع ما تقدم، أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن رجل صلى وراء الصف وحده، فقال: "يعيد" رواه تمام في "الفوائد" (¬3). وأما حديث أبي بكرة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه فقال: "لا تعد". والنهي يقتضي الفساد، وعذره - صلى الله عليه وسلم - فيما فعله لجهله، وللجهل تأثير في العفو (¬4)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 34). (¬2) رواه البخاري (750)، كمَاب: صفة الصلاة، باب: إذا ركع دون الصف. (¬3) رواه تمام الرازي في "فوائده" (887)، من حديث وابصة بن معبد الجهني - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 22 - 23).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: بتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي؛ فَأَقَامَني عَنْ يَمِينِهِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (117)، كتاب: العلم، باب: السمر في العلم، و (138)، كتاب: الوضوء، باب: التخفيف في الوضوء، و (181)، كتاب: قراءة القرآن بعد الحدث وغيره، و (665)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواءً إذا كانا اثنين، و (667)، باب: إذا لم ينو الإمام أن يؤم، ثم جاء قوم فأمَّهم، وهذا سياقه، و (693)، باب: إذا قام الرجل عن يسار الإمام، وحوله الإمام وخلفه إلى يمينه، تمَّت صلاته، و (695)، باب: ميمنة المسجد والإمام، و (821)، كتاب: صفة الصلاة، باب: وضوء الصبيان، و (947)، كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر، و (1140)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: استعانة اليد في الصلاة، إذا كان من أمر الصلاة، و (4293)، كتاب: التفسير، باب: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 164]، و (4296)، باب: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 193]، و (5575)، كتاب: اللباس، باب: الذوائب، و (5861)، كتاب: الأدب، باب: رفع البصر إلى السماء، و (5957)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء إذا انتبه بالليل، و (7014)، كثاب: التوحيد، باب: ما جاء في تخليق السماوات والأرض، وغيرها من الخلائق. ورواه مسلم (763)، (1/ 525 - 531)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، =

(عن) عبد الله حبرِ الأمة (ابنِ عباس- رضي الله عنهما -) (قال: بتُّ عند خالتي) أختِ أمي أم المؤمنين (ميمونةَ) بنتِ الحارث بنِ حَزْن -بفتحَ الحاء المهملة وسكون الزاي وآخره نون- ابن بُجَيْر -بضم الموحدة وفتح الجيم وسكون المثناة تحت- الهلاليةِ العامريةِ؛ زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقال: كان اسمها برَّة، فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ميمونة (¬1). ¬

_ = باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وأبو داود (610 - 611)، كتاب: الصلاة، باب: الرجلين يؤم أحدهما صاحبه كيف يقومان، و (1356 - 1365)، باب: في صلاة الليل، والنسائي (442)، كتاب: الغسل والتيمم، باب: الأمر بالوضوء من النوم، و (806)، كتاب: الإمامة، باب: موقف الإمام والمأموم صبي، و (842)، باب: الجماعة إذا كانوا اثنين، و (1121)، كتاب: التطبيق، باب: الدعاء في السجود، و (1620)، كتاب: قيام الليل وثطوع النهار، باب: ذكر ما يستفتح به القيام، والترمذي (232)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل يصلي ومعه رجل، وابن ماجه (423). كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في القصد في الوضوء، وكراهية التعدي فيه، و (973)، كتاب: الصلاة، باب: الاثنان جماعة، و (1363)، باب: ما جاء في كم يصلي بالليل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 174)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 167)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 30)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 117)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 392)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 44)، وشرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 199)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 417)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 191)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 239، 288، 2/ 282)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 177)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 31)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 242). (¬1) رواه الطيالسي في "مسنده" (2445)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (26)، والبخاري في "الأدب المفرد" (832)، والحاكم في "المستدرك" (6793)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

كانت تحت مسعود بن عمرو الثقفي في الجاهلية، ففارقها، فتزوجها أبو رُهْم -بضم الراء وسكون الهاء- بنُ عبدِ العزى، وتوفي عنها، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضية، وكانت في السابعة، في ذي القعدة بِسَرِف، على عشرة أميال من مكة. وقيل: بل ستة أميال أو سبعة. وتوفيت سنة إحدى وخمسين. وقيل: ثلاث وستين. والصحيح: أنها توفيت قبل عائشة - رضي الله عنها -. دفنت بِسَرِف في المكان الذي بنى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه. وهي أخت أم الفضل زوجِ العباس لأبيها، وأخت أسماءَ بنتِ عُميس لأمها. ولم يتزوج بعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قيل. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست وأربعون حديثاً، اتفقا على سبعة، وللبخاري حديث، ولمسلم خمسة (¬1). وفي مبيت سيدنا عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما -: جواز المبيت عند المحارم مع الزوج. وقيل: إنه تحرى وقتاً لا يكون فيه ضرر على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا على خالته، وهو وقت الحيض. وإنما بات ابن عباس- رضي الله عنهما - عندها؛ لينظر إلى صلاته - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ¬

_ (¬1) قلت: قد ترجم الشارح -رحمه الله- لأم المؤمنين ميمونة - رضي الله عنها - في باب: الجنابة، الحديث الثالث، ولعل الشارح، قد سها عن ذلك، والعصمة لله وحده. (¬2) انظر: "شرح عمده الأحكام" لابن دقيق (1/ 199).

وفيه: دليل على ماكان عليه ابن عباس من حرصه على ضبط شؤونه وتهجداته - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (فقام النبي يصلي من الليل)؛ لأن قيام الليل كان واجباً عليه - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، والمقام المحمود أعلى درجاته - صلى الله عليه وسلم -، كما في "اختيار الأولى" للحافظ ابن رجب (¬1). وقد دل على الترغيب في قيام الليل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 15 - 19]، فوصفهم بالتيقظ بالليل، والاستغفار بالأسحار، وبالإنفاق من أموالهم. وذكر الحافظ ابن رجب في "شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" قال: كان بعض السلف نائماً، فأتاه آت في منامه، فقال له: قم فصل، أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل، هم خُزَّانها، هم خزانها؟ (¬2). قال ابن عباس: (فقمت) يعني: بعد الطهارة (عن يساره) - صلى الله عليه وسلم -، (فأخذ) - عليه الصلاة والسلام - (برأسي) يعني: بيده الشريفة، (فأقامني عن يمينه). وهذا محل الدليل من الحديث، وهو أنه لا تصح الصلاة عن يسار الإمام مع خلو يمينه. ¬

_ (¬1) انظر: "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" لابن رجب (ص: 65). (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في "التهجد وقيام الليل" (ص: 499 - 500)، عن أبي هريرة. وانظر: "اختيار الأولى" لابن رجب (ص: 65).

قال في "الشرح الكبير" لابن أبي عمر: إن كان المأموم واحداً، وقف عن يمين الإمام، رجلاً كان أو غلاماً، وذكر حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وفيه: فأخذ بذؤابتي، فأدارني عن يمينه متفق عليه (¬1). فإن وقف خلفه، أو عن يساره، لم تصح صلاته -كما قدمنا ذلك-، وأما إن وقف عن يسار الإمام، وكان عن يمين الإمام أحد، صحت صلاته؛ لما قدمنا من حديث ابن مسعود- رضي الله عنه -: أنه صلى بين علقمة والأسود، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل. رواه أبو داود (¬2)، فدل حديث ابن مسعود على الجواز، ودل حديث جابر - رضي الله عنه - على الأفضلية، وهو أن جابراً قال: سرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، فقام يصلي، فتوضأت، ثم جشما حتى قمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره، فأخذنا جميعاً بيديه حتى أقامنا خلفه. رواه أبو داود (¬3). فإن كان أحد المأمومين صبياً، فمعتمد المذهب: إن كانت الصلاة تطوعاً، صفهما خلفه، لقصة أنس مع اليتيم. وإن كانت فرضاً، جعل الصبي عن يساره، والرجل عن يمينه، أو جعلهما عن يمينه (¬4). وفي الحديث دليل على مشروعية الجماعة في صلاة النافلة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5575)، ومسلم (763)، واللفظ للبخاري. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه أبو داود (634)، كتاب: الصلاة، باب: إذا كان الثوب ضيقاً يتزر به، والحديث رواه مسلم أيضاً (3010)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر. (¬4) انظر: "الشرح الكبير" لشيخ الإسلام ابن أبي عمر (2/ 61 - 62).

وقد يستدل به على الدخول في الصلاة من لم ينو الإمامة؛ لأن ابن عباس- رضي الله عنهما - دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد دخوله في الصلاة (¬1). وفيه نظر، يأتي في الإمامة -إن شاء الله تعالى-. والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 485).

باب الإمامة

باب الإمامة وحقيقتها: أن يتقدم الإمام، ويتابعه المؤتم في صلاته. وذكر الحافظ في هذا الباب سبعة أحاديث.

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَال: "أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ، أَنْ يُحَوِّلَ اللهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ، أو يَجْعَلَ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ؟ " (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (659)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إثم من رفع رأسه قبل الإمام، ومسلم (427)، (1/ 320 - 321)، كتاب: الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود أو نحوهما، وأبو داود (623)، كتاب: الصلاة، باب: التشديد فيمن يرفع قبل الإمام أو يضع قبله، والنسائي (828)، كتاب: الإمامة، باب: مبادرة الإمام، والترمذي (582)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء من التشديد في الذي يرفع رأسه قبل الإمام، وابن ماجه (961)، كتاب: الصلاة، باب: النهي أن يسبق الإمام بالركوع والسجود. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 177)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 494)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 62)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 341)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 59)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 151)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 201)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 419)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 163)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 85)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 183)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 223)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 172).

(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (- رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , قال: أما) -بفتح الهمزة وتخفيف الميم-: حرف استفتاح، مثل ألا، وأصلها النافية دخلت عليها همزة الاستفهام، وهو هنا استفهام توبيخ (¬1). وفي لفظ: "ألا" (¬2) (يخشى)، وفي لفظ: "أولا يخشى" (¬3)؛ أي: يخاف ويرهب الشخص المؤتم (الذي يرفع رأسه قبل الإمام). زاد ابن خزيمة: "في صلاته" (¬4). وفي رواية: "والإمام ساجد" (¬5)، فتبين أن المراد: الرفع من السجود. وفيه تعقب على من قال: إن الحديث نص في المنع من تقدم المأموم على الإمام في الرفع من الركوع والسجود معاً، وإنما هو نص في السجود، ويلتجق به الركوع؛ لكونه في معناه، ويمكن أن يفرق بينهما: بأن السجود له مزيد مزية؛ لأن العبد أقرب ما يكون فيه من ربه، ولأنه غاية الخضوع المطلوب منه؛ فلذلك خص بالتنصيص عليه، والأليق أنه من باب الاكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم، إذا كان للمذكور مزية. وأما التقدم على الإمام في الخفض للركوع والسجود، فقيل: يلتحق به من باب أولى؛ لأن الاعتدال والجلوس بين السجدتين من الوسائل، والركوع والسجود من المقاصد. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 183). (¬2) هكذا وقع في رواية البخاري بالشك، وتقدم تخريجها في حديث الباب. (¬3) وهو لفظ الكشميهني، كما ذكر الحافظ في "الفتح" (2/ 183). (¬4) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1600)، عن حماد بن زيد، عن محمد بن زياد، به. وليس في الحديث زيادة: "في صلاته" كما ذكر الشارح نقلاً عن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 183). (¬5) وهي رواية أبي داود المتقدم تخريجها في حديث الباب برقم (623).

وإذا دل الدليل على الموافقة فيما هو وسيلة، فأولى أن يجب فيما هو مقصد (¬1). وقد ورد الزجر عن الخفض والرفع قبل الإمام، من حديث أبي هريرة أيضاً- رضي الله عنه - مرفوعاً: "الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان" رواه البزار، والطبراني بإسناد حسن (¬2)، ورواه مالك في "الموطأ"، فوقفه على أبي هريرة، ولم يرفعه (¬3). (أن يحول الله) - عز وجل- (رأسه) الذي رفعه قبل إمامه حتى يجعله (رأس حمار، أو) قال - صلى الله عليه وسلم -: أن (يجعل صورته) البشرية (صورة حمار). وخصه من بين سائر الحيوانات؛ لأنه أبلدها. والشك الواقع في لفظتي "يحول"، و"يجعل" من شعبة، كما في "الفتح". فالحمادان قالا: "رأس حمار". ويونس قال: "صورة حمار". والربيع قال. "وجه حمار" (¬4). قال في "الفتح": والظاهر أنه من تصرف الرواة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 183). (¬2) رواه البزار في "مسنده"، كما عزاه المنذري في "الترغيب والترهيب" (745)، والهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 78)، وابن حجر في "المطالب العالية" (3/ 721). ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (7692). (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 92). وانظر "التمهيد" لابن عبد البر (13/ 59)، و"الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 197). (¬4) ومنهم من قال: "رأس كلب أو خنزير"، كما نقل ابن رجب عن الحافظ أبي موسى المديني. انظر: "فتح الباري" لابن رجب (4/ 163). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 183).

وقال عياض: هذه الروايات متفقة؛ لأن الوجه في الرأس، ومعظم الصورة فيه (¬1). قال الحافظ ابن حجر: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضاً، لكن رواة الرأس أكثر، وهو أشمل، فهي المعتمدة، وخص وقوع الوعيد عليها؛ لأن بها وقعت الجناية. وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام؛ لكونه توعد عليه بالمسخ، وهو أشد العقوبات (¬2). وبه جزم أئمة مذهبنا وغيرهم. قال شمس الدين بن أبي عمر في "شرح المقنع": من فعل ذلك عامداً، أثم، وبطلت صلاته في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ فإنه قال: ليس لمن سبق الإمام صلاة، لو كان له صلاة، لرجي له الثواب، ولم يخش عليه العقاب (¬3). وروي عن ابن مسعود- رضي الله عنه -: أنه نظر إلى من سبق الإمام، فقال: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت (¬4). نعم، لا تبطل إن كان ساهياً أو جاهلاً؛ لأنه سبق يسير، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: " إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 341). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 183). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 310)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 441). (¬4) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 14). (¬5) رواه ابن ماجه (2045)، كتاب: الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، وابن جان في "صحيحه" (7219)، وغيرهما، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، =

وعليه أن يرجع ليأتي به بعد؛ ليكون مؤتماً بإمامه، فإن لم يفعل عالماً عمداً، بطلت صلاته؛ لتركه الواجب عمداً؛ خلافاً للقاضي أبي يعلى (¬1). وهو قول جمهور الفقهاء: أنه يأثم ولا تبطل. وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنها تبطل. وكذا قال أهل الظاهر، بناء على أن النهي يقتضي الفساد (¬2). تنبيه: اختلف في معنى الوعيد المذكور في هذا الحديث: فقيل: يرجع إلى أمر معنوي، فإن الحمار موصوف بالبلادة، فاستعير هذا المعنى للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة، ومتابعة الإمام. ويرجحه: أن التحويل الذي هو المسخ لم يقع مع كثرة الفاعلين، لكن ليس في الحديث ما يدل على وقوعه ولابد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضاً لذلك، وكون فاعله صالحاً لأن يقع عليه الوعيد المذكور، لا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء (¬3). وقال ابن بزيزة: يحتمل أن يراد بالتحويل: المسخ، أو تحويل الهيئة الحسية أو المعنوية، أو هما معاً. وحمله آخرون على ظاهره، إذ لا مانع من جواز وقوع ذلك (¬4). وقد صحت الأحاديث بجواز وقوع المسخ في هذه الأمة، كما في ¬

_ = بلفظ: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". (¬1) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 14). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 183). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 203). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 184).

حديث أبي مالك الأشعري؛ فإن فيه: ذكر الخسف، والمسخ قردة وخنازير (¬1)، ويقوي حمله على ظاهره: ما رواه الطبراني في "الأوسط"، بإسناد جيد، من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: "ما يؤمن أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس كلب" (¬2). ورواه في "الكبير" موقوفاً على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - بأسانيد، أحدها جيد (¬3). وفي "صحيح ابن حبان"، من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس كلب" (¬4). فهذا يبعد المجاز؛ لانتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار. وقال الحافظ ابن الجوزي في الرواية التي عبر فيها بالصورة: هذه اللفظة تمنع تأويل من قال: المراد: رأس حمار في البلادة، ولم يبين وجه المنع (¬5). وكأنه -والله أعلم-: أن الجاري على ألسنة الناس القول في حق كل بليد وأحمق: رأسه رأس حمار، ولم يقولوا: صورته صورة حمار، والله الموفق. * * * ¬

_ (¬1) كما رواه البخاري (5268)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (4239). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (9173 - 9174)، وكذا ابن أبي شيبة في "المصنف" (7148). (¬4) رواه ابن حبان في "صحيحه" (2283). وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 197). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 184).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ؛ لِيُؤْتَمَّ بهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، فَإذَا كبَّرَ فَكَبِّرُوا، وإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإَذَا صَلَّى جَالِساً، فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (689)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إقامة الصف من تمام الصلاة، و (701)، كتاب: صفة الصلاة، باب: إيجاب التكبير، وافتتاح الصلاة، ومسلم (414)، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، و (417)، باب: النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره، وأبو داود (601)، كتاب: الصلاة، باب: الإمام يصلي من قعود، والنسائي (9221 - 92)، كتاب: الافتتاح، باب: تأويل قوله -عز وجل-: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وابن ماجه (846)، كتاب: الصلاة، باب: إذا قرأ الإمام فأنصتوا، و (1239)، باب: ما جاء في "إنما جعل الإمام ليؤتم به". * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح مسلم" للنووي (4/ 134)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 203)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 421)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 259، 284)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 86)، و" طرح التثريب" للعراقي (2/ 327)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 217)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 256)، و"سبل =

(عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -): أنه (قال: إنما جعل). إنما: تفيد الحصر، وبناء جُعل للمجهول، والفاعل الشارع. والمراد من هذا: أن الائتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه، فتنتفي المقارنة، والمسابقة، والمخالفة، إلا ما دل الدليل الشرعي عليه (¬1). (الإمام):-بالرفع- نائب الفاعل. (ليؤتم) -بالبناء للمفعول-، أي: يُقتدى (به)؛ أي: الإمام، يعني: جعل الشارع الإمام ليقتدي به المأموم، ويتبع صلاته، بحيث أن يوقع أفعالها بعد أفعال إمامه؛ لأن من شأن التابع ألا يسبق متبوعه، ولا يساويه، ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله، ويأتي على أثره بنحو فعله. ومقتضى ذلك: ألا يخالف في شيء من الأحوال (¬2). (فلا تختلفوا) -معشر المأمومين- (عليه)؛ أي: الإمام في سائر أفعاله الظاهرة، بخلاف النية، فإنها من أعمال القلوب، فلا يضر تقدمها. (فإذا كبر) الإمام تكبيرة الإحرام. (فكبروا) أنتم بعده، فالفاء للتعقيب، كما جزم بذلك ابن بطال (¬3)، وابن دقيق العيد (¬4). ويفيد ذلك: وجوب وقوع التكبيرة كالأفعال من المأموم عقب الإمام. ولكن تعقب ذلك: بأن الفاء التي للتعقيب هي العاطفة، وأما هنا، فهي ¬

_ = السلام" للصنعاني (2/ 22)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 170). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 174). (¬2) المرجع السابق (2/ 178). (¬3) المرجع السابق (2/ 179). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 203).

للربط فقط؛ لأنها وقعت جواباً للشرط، فعلى هذا لا يقتضي تأخر أفعال المأموم عن الإمام، إلا على القول بتقدم الشرط على الجزاء. وقد قال قوم: إن الجزاء قد يكون مع الشرط، فعلى هذا لا تنتفي المقارنة (¬1). قال في "الفروع": وإن كبر للإحرام معه، لم تنعقد؛ وفاقاً لمالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: تنعقد، انتهى (¬2). وإن وافقه في أفعال الصلاة، كره له ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجد [وا] حتى يسجد" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، من حديث أبي هريرة (¬3). وإن وافقه في السلام، كره أيضاً، وإن سبقه عمداً، بطلت صلاته. (وإذا ركع) الإمام. (فاركعوا) زاد أبو داود، من رواية مصعب بن محمد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة- رضي الله عنه - في الحديث: "ولا تركعوا حتى يركع، ولا تسجدوا حتى يسجد" (¬4)، وهي زيادة حسنة تنفي احتمال إرادة المقارنة (¬5). (وإذا قال) الإمام: (سمع الله لمن حمده، فقولوا) أنتم -معشر المأمومين-: (ربنا ولك الحمد). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 179). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 527). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 341)، وأبو داود (603)، كتاب: الصلاة، باب: الإمام يصلي من قعود. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 179).

كذا لجميع الرواة في حديث أبي هريرة، وكذا في حديث عائشة وأنس بإثبات الواو، إلا في رواية الليث عن الزهري فللكشميهني بحذفها (¬1). ورجح إثبات الواو، بأن فيها معنىً زائداً؛ لكونها عاطفة على محذوف تقديره: ربنا استجب، أو ربنا أطعنا ولك الحمد، فيشتمل على الدعاء وعلى الثناء معاً. ورجح قوم حذفها؛ لأن الأصل عدم التقدير، فتصير عاطفة على كلام غير تام، والأول أوجه، كما قال ابن دقيق العيد (¬2). وفي "المطلع": صحت الرواية بإثبات الواو ودونها، وكلاهما مجزىء، إلا أن الأفضل بالواو. وقال القاضي عياض: بإثبات الواو تجمع معنيين: الدعاء، والاعتراف؛ أي: ربنا استجب لنا، ولك الحمد على هدايتك إيانا، ويوافق قول من قال: سمع الله لمن حمده بمعنى الدعاء. وعلى حذف الواو يكون بالحمد مجرداً، ويوافق قول: من قال: سمع الله لمن حمده خبر، انتهى (¬3). (وإذا سجد) الإمام، (فاسجدوا). وفي حديث البراء بن عازب في "الصحيحين": "وإذا رفع -يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه من الركوع، فقال: سمع الله لمن حمده، لم نزل قياماً حتى نراه قد وضع وجهه في الأرض، فنتبعه" (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 204). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 298). وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 76). (¬4) رواه البخاري (714)، كتاب: صفة الصلاة، باب: رفع البصر إلى الإمام في =

وفي لفظٍ: لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهرَه حتى يقع النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وروى الإمام أحمد، عن غندر، عن شعبة: حتى يسجد، ثم يسجدون (¬2). واستدل به ابن الجوزي على أن المأموم لا يشرع في الركن حتى يتمه الإمام. وتعقب: بأن ليس في الحديث إلا التأخر حتى يتلبس الإمام بالركن الذي ينتقل إليه، بحيث يشرع المأموم بعد شروعه بالتلبس به، وقبل فراغه منه. ووقع في حديث عمرو بن حريث، عند مسلم: فكان لا يحني أحدٌ منا ظهره حتى يستتم ساجداً (¬3). ولأبي يعلى، من حديث أنس: حتى يتمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - من السجود (¬4)، وهو واضح في انتفاء المقارنة، واستدل به على طول الطمأنينة، وفيه نظر. وعلى جواز النظر إلى الإمام، لاتباعه في انتقالاته (¬5). (وإذا صلى) الإمام (جالساً) لعذر يبيح له ذلك، (فصلوا) أنتم - معشر ¬

_ = الصلاة، ومسلم (474)، كتاب: الصلاة، باب: متابعة الإمام والعمل بعده، واللفظ له. (¬1) رواه البخاري (658)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: متى يسجد من خلف الإمام، ومسلم (474)، (1/ 345)، كتاب: الصلاة، باب: متابعة الإمام والعمل بعده. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 284). (¬3) رواه مسلم (475)، كتاب: الصلاة، باب: متابعة الإمام والعمل بعده. (¬4) رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (4082). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 182).

المأمومين - خلفه (جلوساً) بالنصب على الحال. وقوله: (أجمعون) مرفوعاً بالواو، توكيد لفاعل صلوا، وهو الواو (¬1). وفي هذا دليل: لمن قال بصحة صلاة الإمام جالساً، بشرط كونه إمام مسجد راتباً عاجزاً عن القيام لمرضٍ يرجى زواله، وخالف في ذلك الإمام مالك، فلم يجز الإمامةَ جالساً، واعتذر عن صلاته - صلى الله عليه وسلم - جالساً: بأن ذلك من خصائصه، وكذا منع صحة الإمامة جالساً محمدُ بن الحسن، واحتج بحديث جابر، عن الشعبي مرفوعاً: "لا يؤمَّنَّ أحدٌ بعدي جالساً" (¬2). واعترضه الإمام الشافعي، فقال: قد علم من احتج بهذا أن لا حجة فيه؛ لأنه مرسل، ومن رواية رجل يرغب أهل العلم عن الرواية عنه -يعني: جابراً الجعفي- (¬3). وقد ادعى ابن حبان، وغيره إجماعَ الصحابة على صحة إمامة القاعد (¬4). ¬

_ (¬1) قال الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 86): هكذا وقع بالرفع، وحقه من جهة العربية بالنصب؛ لأنه حال، وقد جاء في بعض الروايات: "أجمعين" منصوباً. قلت: والظاهر الرفع؛ لأنه تأكيد للضمير في "فصلوا"، والمعترض فهم أنه حال من "جلوساً"، وليس كذلك، ولا المعنى عليه، انتهى. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 398)، وقال: لم يروه غير جابر الجعفي، عن الشعبي، وهو متروك الحديث، والحديث مرسل لا تقوم به حجة، ومن طريق الدارقطني: رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 80). قال ابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 143): وهو حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث، إنما يرويه جابر الجعفي، عن الشعبي مرسلاً، وجابر الجعفي لا يحتج بشيء يرويه مسنداً، فكيف بما يرويه مرسلاً, وجابر الجعفي لا يحتج بشيء يرويه مسنداً, فكيف بما يرويه مرسلاً؟!. (¬3) انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 255 - 256). (¬4) انظر. "صحيح ابن حبان" (5/ 471).

وقال أبو بكر بن العربي من كبار أئمة المالكية: لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - يخلص عند السبك، واتباع السنة أولى، والتخصيص لا يثبت بالاحتمال. قال: إلا أني سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبي - صلى الله عليه وسلم - والتبرك به، وعدم العوض عنه، يقتضي الصلاة معه على أي حالٍ كان عليها (¬1). وأيضاً: فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه - صلى الله عليه وسلم -، ويتصور في غيره، انتهى. وأجاب في "الفتح": بأنه يرد بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2)، وعن الثاني: بأن النقص إنما هو في حق القادر في النافلة، وأما المعذور في الفريضة، فلا نقص في صلاته عن القائم (¬3). تنبيهات: الأول: استدل بعض العلماء بحديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - قاعداً وأصحابه قياماً: على نسخ ما دل عليه هذا الحديت من الأمر بصلاة المأمومين قعوداً إذا صلى الإمام قاعداً؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أقرهم على القيام خلفه وهو قاعد، هكذا أقره الإمام الشافعي (¬4)، ونقله البخاري، عن الحميدي أيضاً (¬5)، وهو تلميذ الشافعي، وبذلك يقول أبو حنيفة، وأبو يوسف، والأوزاعي، وحكاه ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 158 - 160). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 175 - 176). (¬4) انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص: 252) وما بعدها. (¬5) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 238) عَقِبَ حديث (657).

الوليد بن مسلم عن مالك (¬1)، وأنكر الإمام أحمد نسخ الأمر المذكور بذلك. وجمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين: إحداهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قاعداً لمرضٍ يرجى برؤه، فحينئذٍ يصلون خلفه قعوداً. ثانيهما: إذا ابتدأ الإمام الراتب الصلاة قائماً، ثم لم يطق القيام، لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً، سواءً طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعداً، أم لا، كما في الأحاديمث التي في مرض موته - صلى الله عليه وسلم -، فإن تقريره على القيام دل على أنه لا يلزمهم الجلوس في تلك الحالة؛ [لأنّ] (¬2) أبا بكر - رضي الله عنه - ابتدأ الصلاة بهم قائماً، وصلوا معه قياماً، بخلاف الحالة الأولى، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ الصلاة جالساً، فلما صلوا خلفه قياماً، أنكر عليهم. ويقوي هذا الجمع: أن الأصل عدم النسخ، لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم دعوى النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام: ألا يصلي قاعداً، وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعداً، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك يقتضي وقوع النسخ مرتين، وهو بعيدٌ، وأبعد منه: إنكار الإمام مالك كونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّ في مرض موته قاعداً، وهو في "الصحيحين"، من حديمث عائشة - رضي الله عنها -، قالت: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل عليه ناسٌ من أصحابه يعودونه، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً، فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، ¬

_ (¬1) وهي رواية غريبة عن مالك، ومذهبه عند أصحابه على خلاف ذلك، كما قال ابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 142). (¬2) في الأصل: "إلا أنَّ".

فجلسوا، فلما انصرف، قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، الحديث (¬1). وكذا حديث أنس في "الصحيحين": لما سقط - صلى الله عليه وسلم - عن فرسه، فجحش شقه الأيمن، قال: فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلى بنا قاعداً، فصلينا وراءه قعوداً، فلما قضى الصلاة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" (¬2). وقد قال بقول الإمام أحمد جماعة من محدثي الشافعية؛ كابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان، وأجابوا عن حديث الباب بأجوبةٍ أخرى. وقد أخرج ابن المنذر، بإسنادٍ صحيح، عن أسيد بن حضير - رضي الله عنه -: أنه كان يؤم قومه، فاشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروه أن يصلي بهم، فقال: إني لا أستطيع أن أصلي قائماً، فاقعدوا، فصلى بهم قاعداً، وهم قعود (¬3). وروى عبد الرزاق، بإسنادٍ صحيح، عن قيس بن فَهْد -بفتح الفاء وسكون الهاء- الأنصاري: أن إماماً لهم اشتكى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فكان يؤمنا وهو جالسٌ ونحن جلوسٌ (¬4). وروى أبو داود، عن أسيد بن حضير - رضي الله عنه -: أنه قال: يا رسول الله! إن إمامنا مريضٌ، قال: "إذا صلى قاعداً، فصلوا قعوداً" (¬5). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في حديث الباب الآتي. (¬2) رواه البخاري (657)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، ومسلم (411)، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام. (¬3) ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7141)، وابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 139). (¬4) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (4084). (¬5) رواه أبو داود (607)، كتاب: الصلاة، باب. الإمام يصلي من قعود، وقال: =

وروى ابن أبي شيبة، بإسنادٍ صحيح، عن جابر - رضي الله عنه -: أنه اشتكى، فحضرت الصلاة، فصلى بهم جالساً، وصلوا معه جلوسا" (¬1). وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه أفتى بذلك، وإسناده صحيحٌ أيضاً (¬2). وقد ألزم ابن المنذر من قال بأن الصحابي أعلم بتأويل ما روي، بأن يقول بذلك؛ لأنَّ أبا هريرة وجابراً، رويا الأمر المذكور، واستمرا على العمل به، والفتيا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا واضح الدلالة، فلا يحتاج إلى الإطالة، والله أعلم (¬3). الثاني: لا تصح إمامة العاجز عن القيام إلا إمام الحي، المرجو زوال علته، بخلاف غير إمام الحي المذكور، فلا تصح خلفه؛ رواية واحدة عن الإمام أحمد؛ لإخلاله بركنٍ من أركان الصلاة، أشبه العاجز عن الركوع. نعم، تجوز بمثله، وإذا استكمل الشروط: فالمستحب له أن يستخلف من يصلي بالناس؛ لاختلاف الناس في صحة إمامته، إذ في استخلافه خروجٌ من الخلاف (¬4). وقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تارةً، واستخلف أخرى؛ لبيان التشريع. ¬

_ = هذا الحديث ليس بمتصل. (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7138). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7139)، بلفظ: "الإمام أمير، فإن صلى قائماً، فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً، فصلوا قعوداً". وقد رواه عبد الرزاق في "المصنف" (4083) مرفوعاً من حديثه - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 175 - 176). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 20)، و"الإنصاف" للمرداوي (2/ 260)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 477).

الثالث: لو ابتدأ الإمام الصلاة جالساً لعذرٍ يبيح ذلك، فصلى المأمومون خلفه قياماً، صحت صالاتهم في أحد الوجهين. وقيل: لاتصح، أومأ إليه الإمام أحمد؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالجلوس، ونهاهم عن القيام، فقال في حديث جابر: "إذا صلى الإمام قاعداً، فصلوا قعوداً، وإذا صلى قائماً، فصلوا قياماً، ولا تقوموا والإمام جالس، كما يفعل أهل فارس بعظمائها"، فقعدنا (¬1). ولأنه ترك الاقتداء بإمامه مع القدرة عليه، أشبه تارك القيام في حال قيام إمامه. ومعتمد المذهب: الصحة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى وراءه قوم قياماً، فلم يأمرهم بالإعادة، فيحمل الأمر على الندب والاستحباب، ولأنه تكلف القيام في موضع يجوز له الجلوس فيه أشبه المريض إذا تكلف (¬2). وأبدى في "الشرح الكبير" وجهاً: وهو أن تصح صلاة الجاهل بوجوب القعود دون العالم، كما قالوا في الذي ركع دون الصف (¬3)، والله الموفق. الرابع: زاد مسلم في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بعد قوله: "فصلوا جلوساً أجمعون" -في طريق أخرى-: "وإذا صلى قائماً، فصلوا قياماً" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (602)، كتاب: الصلاة، باب: الإمام يصلي من قعود، وابن خزيمة في "صحيحه" (1615)، وأبو يعلى في "مسنده" (1896)، وابن حبان في "صحيحه" (2112). ورواه مسلم (413)، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، بلفظ نحوه. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 28). (¬3) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 50). (¬4) تقدم تخريجه برقم (417) عنده.

وفي لفظٍ آخر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا، يقول: "لا تبادروا الإمام، إذا كبر فكبروا، وإذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد" (¬1). وفي طريقٍ أخرى. "ولا ترفعوا قبله" (¬2)، والله تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (415)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره. (¬2) رواه مسلم (415)، (1/ 310)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْها -، قَالَتْ: صَلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ؛ فَصَلَّى جَالِساً، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَاماً، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ؛ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُوتَمَّ بِهِ، فِإذَا رَكلعَ فَارْكَعُوا، وَإذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ؛ فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ، وَإذَا صَلَّى جَالِساً؛ فَصَلُّوا جُلُوساً أَجْمَعُونَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (656)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، و (1062)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: صلاة القاعد، و (1179)، كتاب: السهو، باب: الإشارة في الصلاة، و (5334)، كتاب: المرضى، باب: إذا عاد مريضاً، فحضرت الصلاة، فصلَّى بهم جماعة، ومسلم (412)، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، وأبو داود (605)، كتاب: الصلاة، باب: الإمام يصلي من قعود، وابن ماجه (1237)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في "إنما جعل الإمام ليؤتم به". * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 172)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 168)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 313)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 46)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 132)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 421)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 151)، و"طرح الثريب" للعراقي (2/ 343)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 178)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 217)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 208).

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (- رضي الله تعالى عنها - قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته)، أي: في المشربة التي في حجرة عائشة كما بيَّنه أبو سفيان، عن جابر (¬1). وهو يدل على أن تلك الصلاة لم تكن في المسجد، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - عجز عن الصلاة بالناس في المسجد، فكان يصلي في بيته بمن حضر، لكنه لم ينقل أنه استخلف. ومن ثم قال القاضي عياض: الظاهر أنه صلى في حجرة عائشة وائتم به من حضر عنده ومن كان في المسجد (¬2). وهذا الذي قاله محتمل. ويحتمل أيضاً: أن يكون استخلف، وإن لم ينقل، لا يقال: على الأول لجزم منه صلاة الإمام أعلى من المأمومين، ومذهب مالك خلافه؛ لأن المنع حيث لم يكن مع الإمام في مكانه العالي أحد، وهنا كان معه بعض أصحابه (¬3). (وهو) - صلى الله عليه وسلم - (شاكٍ) -بتخفيف الكاف بوزن قاضٍ- من الشكاية، وهي المرض. وكان سبب ذلك ما في حديث أنس - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - سقط عن فرسه، فجحش شقه الأيمن (¬4). (فصلى) - عليه الصلاة والسلام - (جالساً). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند أبي داود، برقم (602). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 314 - 315). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 178). (¬4) رواه البخاري (657)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، ومسلم (411)، كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام.

قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون أصابه من السقطة رضٌّ في الأعضاء منعه من القيام (¬1). قال في "الفتح": ليس كذلك، وإنما كانت قدمه - صلى الله عليه وسلم - منفكة، كما في حديث بشر بن المفضل، عن حميد، عن أنس عند الإسماعيلي. وكذا لأبي داود، وابن خزيمة، من رواية أبي سفيان، عن جابر (¬2). وأما قوله: جحش كتفه، أو ساقه، أو شقه، كما تقدم في حديث أنس، فلا ينافي ذلك؛ لاحتمال وقوع الأمرين. والجحش: الخدش، والخدش: قشر الجلد. ووقع عند البخاري في حديث أنس: قال سفيان: حفظت من الزهري: شقه الإيمن، فلما خرجنا، قال ابن جريج: ساقه الأيمن (¬3). وحاصل ذلك: أن سبب شكواه - صلى الله عليه وسلم - سقوطه عن الفرس، وأن تلك الشكوى انفكاك القدم الشريفة. وأفاد ابن حبان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة (¬4). (وصلى وراءه قوم قياماً). وفي لفظ لمسلم، من رواية عروة، عن هشام: فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه (¬5)، وقد سمي منهم في الأحاديث: أنس، وجابر، ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 311). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه البخاري (772)، كتاب: صفة الصلاة، باب: يهوي بالتكبير حين يسجد. (¬4) انظر: "صحيح ابن حبان" (5/ 492). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 178). (¬5) تقدم تخريجه من حديث عائشة - رضي الله عنها -، برقم (412) عنده.

وأبو بكر، وعمر - رضوان الله عليهم -. (فأشار) - صلى الله عليه وسلم - (إليهم) هكذا للأكثر، وهو الأصح. ووقع في البخاري هنا للحموي: فأشار عليهم - من المشورة. يؤيد الأول أنه روي بلفظ: فأومأ إليهم (¬1). وفي رواية عند عبد الرزاق، بلفظ: فأخلف بيده، يومىء بها إليهم (¬2). (أن اجلسوا) يعني: فجلسوا. (فلما انصرف) - صلى الله عليه وسلم - من صلاته، (قال) لهم - عليه الصلاة والسلام -: (إنما جعل الإمام) -أي: إماماً- (ليؤتم)، أي: يقتدى (به)، ويتبع، ومن شأن التابع ألا يسبق المتبوع، ولا يساويه، ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله، ويأتي على أثره. كما تقدم ذلك في الحديث الذي قبله. (فإذا ركع) الإمام، (فاركعوا) أنتم بعد شروعه في الركوع. (وإذا رفع) من الركوع، (فارفعوا) أنتم بعده. وزاد في رواية عند مسلم: "وإذا سجد فاسجدوا"، وهذا يتناول الرفع من الركوع، والرفع من السجود، وجميع السجدات، كما في "الفتح" (¬3). (وإذا قال) الإمام في حال رفعه من الركوع: (سمع الله لمن حمده)، (فقولوا) أنتم في حال رفعكم منه: (ربنا ولك الحمد). (وإذا صلى) الإمام (جالساً) لعذرٍ يبيح له ذلك، وكان إماماً راتباً ¬

_ (¬1) كما في رواية أبي يعلى في "مسنده" (4807)، من رواية أيوب، عن هاشم، به. (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (4080). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 178). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 179).

بمسجد، وعذره مرجواً لزواله، ولم يبتد الصلاة قائماً (فصلوا) أنتم وراءه (جلوساً) -ندباً- (أجمعون). كذا في جميع الطرق في "الصحيحين" بالواو. غير أن الرواة اختلفوا في رواية همام، عن أبي هريرة، فقال بعضهم: "أجمعين" (¬1) -بالياء-. والأول: تأكيد لضمير الفاعل في قوله: "صلوا". وأخطأ من ضعفه، كما في "الفتح"؛ فإن المعنى عليه. والثاني: نصب على الحال؛ أي: جلوساً مجتمعين، أو على التأكيد لضمير مقدر منصوب، كأنه قال: عنيتكم أجمعين، والله أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) كما رواه عبد الرزاق في "المصنف" (4082)، ومن طريقه: أبو نعيم في "المستخرج" (922)، وغيرهما. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 180).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ الخَطْمِيِّ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي البَرَاءُ؛ وَهُوَ غَيْرُ كذُوبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَالَ: "سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ، حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِداً؛ ثُمَّ نَقَعُ سُجُوداً بَعْدَهُ (¬1). * * * (عن) أبي موسى (عبدِ الله بن يزيدَ) بنِ حصينِ بنِ عمرِو بنِ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (658)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: متى يسجد مَنْ خلفَ الإمام، و (714)، كتاب: صفة الصلاة، باب: رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، و (778)، باب: السجود على سبعة أعظم، ومسلم (474)، (1/ 345)، كتاب: الصلاة، باب: متابعة الإمام والعمل بعده، وأبو داود (620 - 622)، كتاب: الصلاة، باب: ما يؤمر به المأموم من اتباع الإمام، والنسائي (829)، كتاب: الإمامة، باب: مبادرة الإمام، والترمذي (281)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في كراهية أن يبادر الإمام بالركوع والسجود. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 77)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 389)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 190)، و "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 206)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 429)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 159)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 87)، و"فتح الباري " لابن حجر (2/ 181)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 220).

الحارثِ بنِ خَطمَةَ -بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء المهملة-؛ سمي بذلك؛ لأنه ضرب رجلاً على خطمه، (الخطمي الأنصاري) الأوسي- رضي الله عنه -، شهد الحديبية وهو ابن سبعَ عشرةَ سنة، وكان أميراً على الكوفة في عهد ابن الزبير. مات بها في زمن ابن الزبير أيضاً. قال الذهبي: بعيد السبعين. وكان الشعبي كاتبه. روى عنه: ابنه موسى، وعدي بن ثابت، والشعبي. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وعشرون حديثاً، أخرج له البخاري حديثين، ولم يخرج له مسلم شيئاً. قاله الحافظ المصنف - رحمه الله تعالى-، ونقل عن البرذعي أنه قال: إن مسلماً خرج له أحد حديثي، البخاري (¬1). (قال) عبد الله بن يزيد الخطمي المذكور - رضي الله عنه -: (حدثني البراء) -بفتح الموحدة وتخفيف الراء والمد على المشهور- هو أبو عمارة بنُ عَازِب -بالعين المهملة والزاي المكسورة- بنِ الحارثِ الأنصاريُّ الأوسيُّ الحارثيُّ- رضي الله عنهما -، فهو صحابي بن صحابي. أول مشاهده الخندق؛ لأنه استُصغر قبل ذلك من المشاهد، نزل ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 18)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 12)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 197)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 255)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1001)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 413)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 301)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (197/ 3)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 267)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (6/ 71).

الكوفة، وافتتح الرَّي سنة أربع وعشرين في قول. وشهد مع سيدنا الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقعة الجمل، وصفين، والنهروان، ومات بالكوفة أيام مصعب بن الزبير. روى عنه: أبو جحيفة، وعبد الله بن يزيد الأنصاري، وبنوه: الربيع، ويزيد، وعبيد، وأبو إسحاق السبيعي (¬1). (وهو) يعني البراء بن عازب - رضي الله عنهما - (غير كذوب)، هذه العبارة لا تقال في رجلٍ من الصحابة - رضي الله عنهم -؛ لأنهم كلهم عدول، وإنما تحسن فيمن يشك في عدالته. وهم - رضوان الله عليهم - لا يحتاجون إلى تزكية، لكنه جرى على ألسنة من يريد أن يصف إنساناً بغاية الصدق؛ ولذا قال الخطابي: هذا القول لا يوجب تهمة في الراوي، وإنما يوجب حقيقة الصدق له، وقال: هذه عادتهم إذا أرادوا تأكيد العلم بالراوي، والعمل بما روى. وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: سمعت خليلي الصادق المصدوق (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 364)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 117)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 26)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 155)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 177)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 362)، و"تهذيب الأسماء واللغات"، للنووي (1/ 140)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 34)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 194)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 278)، و"تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (1/ 372). (¬2) رواه البخاري (6649)، كتاب: الفتن، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء".

وقال ابن مسعود: حدثني الصادق المصدوق (¬1). وقال عياض، وتبعه النووي: لا وصم في هذا على الصحابي؛ لأنه لم يرد به التعديل، وإنما أراد به تقوية الحديث إذ حدث به البراء، وهو غير متهم (¬2). والحاصل: أن المراد تقوية جانب الحديث لا تزكية الراوي، والله أعلم (¬3). (قال) يعني: البراء بن عازب - رضي الله عنهما -: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده)، في رواية شعبة: إذا رفع رأسه من الركوع (¬4)، ولمسلم: إذا رفع رأسه من الركوع، فقال: سمع الله لمن حمده، لم نزل قياماً (¬5). (لم يَحْنِ) -بفتح التحتانية وسكون المهملة-، يقال: حنيت وحنوت بمعنى (¬6). (أحد منا) -معشر أصحابه المؤتمين به- (ظهره)؛ ليهوي إلى السجود، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3036)، كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (2643)، كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه. وانظر: "أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري" للخطابي (1/ 475). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 389)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 190). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 181). (¬4) تقدم تخريجها عند البخاري، برقم (714). (¬5) تقدم تخريجها عند مسلم، برقم (474)، (1/ 345). (¬6) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2321)، (مادة: حنا).

(حتى يقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجداً، ثم نقع) نحن (سجوداً بعده) - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: حتى يضع جبهته على الأرض، وهي عندهما (¬1)، وفي أخرى عند الإمام أحمد: حتى يسجد، ثم يسجدون (¬2). والمقصود من هذا: ألا يتلبس المأموم بالركن إلا بعد أن يتلبس به الإمام؛ بحيث يشرع المأموم في الركن الفعلي بعد شروع الإمام فيه، وقبل فراغه منه -كما تقدم قريباً (¬3) -، والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجها عند البخاري، برقم (778)، ومسلم (474)، (1/ 345). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 284). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 207).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أَمَّنَ فَأَمِّنُوا؛ فَإنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (747)، كتاب: صفة الصلاة، باب: جهر الإمام بالتأمين، و (748)، باب: فضل التأمين، و (749)، باب: جهرِ المأمِوم بالتأميِن، و (4205)، كتاب: التفسير، باب: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، و (6039)، كتاب: الدعوات، باب: التأمين، ومسلم (410)، (1/ 307)، كتاب: الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين، وأبو داود (934 - 936)، كتاب: الصلاة، باب: التأمين وراء الإمام، والنسائي (925 - 928)، كتاب: الافتتاح، باب: جهر الإمام بآمين، و (929)، باب: الأمر بالتأمين خلف الإمام، والترمذي (250)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فضل التأمين، وابن ماجه (851 - 853)، كتاب: الصلاة، باب: الجهر بآمين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 223)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 472)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 51)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 308)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 44)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 129)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 207)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 89)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 265)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 263)، و"عمدة القاري" للعيني =

(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (- رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا أمن الإمام) -أي: قال: آمين-، والتأمين مصدر أمَّن -بالتشديد -أي: قال: آمين-، والمطلوب من ذلك بعد قراءة الفاتحة في الجهرية (¬1). (فأمنوا) معشر المأمومين -أي: قولوا: آمين-. واستدل به على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام؛ لأنه رتب عليه بالفاء، لكن المراد المقاربة. قال في "الفروع": وإذا فرغ -يعني من قراءة الفاتحة-، قال: آمين، يجهر بها الإمام والمأموم فيما يجهر به؛ وفاقاً للشافعي. قيل: بعده، وقيل: معه وفاقاً للشافعي. وعن الإمام أحمد - رضي الله عنه - روايةٌ بترك الجهر بها، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك (¬2). ومعتمد المذهب: أنه يجهر به مع الإمام، لا بعده. صححه في "تصحيح الفروع" (¬3)، وقطع به في "المغني" (¬4)، و"الكافي" (¬5)، و"والتلخيص"، و"شرح المجد"، و"الشرح الكبير" (¬6)، وغيرهم. قال بعض العلماء: لا تستحب مقارنة الإمام في شيءٍ من الصلاة إلا في ¬

_ = (6/ 49)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 173)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 244). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 262). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 366). (¬3) انظر: "تصحيح الفروع" للمرداوي (2/ 175). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 290). (¬5) انظر: "الكافي" لابن قدامة (1/ 132). (¬6) انظر: "المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف" (3/ 448).

التأمين. وهذا الأمر عند الجمهور للندب. وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم؛ عملاً بظاهر الأمر. قال: وأوجبه الظاهرية على كل مُصلٍّ (¬1). وإن ترك الإمام التأمين، أتى به المأموم؛ كالتعوذ، ويجهر بالتأمين؛ ليذكِّره، ولو أسرَّه الإمام، جهر به المأموم (¬2). ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - علل الأمر به، فقال: (فإنه)؛ أي: الشأن والأمر (من وافق تأمينه تأمين الملائكة). زاد ابن شهاب: "فإن الملائكة تؤمن قبل قوله، فمن وافق تأمينه" (¬3)، وهو دال على أن المراد: الموافقة في القول والزمان، خلافاً لمن قال: المراد: الموافقة في الإخلاص والخشوع. والمراد بتأمين الملائكة: استغفارهم للمؤمنين. وقال ابن المنير: الحكمة في إثبات الموافقة في القول والزمان: أن يكون المأموم على يقظة؛ للإتيان بالوظيفة في محلها؛ لأن الملائكة لا غفلة عندهم، فمن وافقهم، كان متيقظاً. وظاهر الرواية: أن المراد بالملائكة: جميعهم، واختاره ابن بزيزة. وقيل: الحفظة منهم. وقيل: الذين يتعاقبون منهم، إذا قلنا: إنهم غير ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 264). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 51). (¬3) ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 265): أن هذه زيادة يونس، عن ابن شهاب، عند مسلم، ولم أره في "مسلم" بهذا السياق، من الطريق التي أشار إليها الحافظ، والله أعلم.

الحفظة، والذي استظهره في "الفتح": أن المراد بهم: من شهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو في السماء، كما في حديث: "فوافق ذلك [قول] أهل السماء" (¬1). وروى عبد الرزاق، عن عكرمة، قال: صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء، غفر للعبد (¬2). ومثل هذا لا يقال بالرأي، فالمصير إليه أولى (¬3). (غفر له ما تقدم من ذنبه): ظاهره: غفران جميع الذنوب الماضية، ولكنه محمول عند العلماء على الصغائر (¬4)، كما تقدم في الوضوء. زاد في رواية شاذة: "وما تأخر". قال الحافظ ابن حجر: وقد وجدته في بعض النسخ من ابن ماجه، عن هشام بن عمار، وأبي بكر بن أبي شيبة، كلاهما عن ابن عيينة، بإثبات هذه الزيادة (¬5). قال في "الفتح": ولا تصح؛ لأن أبا بكر قد رواه في "مسنده"، و"مصنفه" (¬6) بدونها، وكذلك حفاظ أصحاب ابن عيينة (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه من رواية مسلم برقم (410)، (1/ 307). (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (2648). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 265). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) وقد عزاه السيوطي في "تنوير الحوالك" (1/ 85) إلى ابن وهب في "مصنفه". (¬6) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7958). (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 265).

تنبيهان: الأول: في فضل التأمين، وذكر بعفما ورد فيه من الأحاديث النبوية: عق أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين؛ فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه" رواه الإمام مالك، والبخاري، واللفظ له، ومسلم، وأبو داود (¬1). وفي رواية للبخاري: "إذا قال أحدكم: آمين، قالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬2). وفي رواية للنسائي، وابن ماجه: "إذا أمن القارىء، فأمنوا ... " الحديث (¬3). وفي رواية للنسائي: "إذا قال. غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين" الحديث (¬4). وفي ابن ماجه، بإسنادٍ صحيح، وابن خزيمة، عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 87). وتقدم تخريجه عند البخاري، ومسلم، وأبي داود. (¬2) تقدم تخريجه برقم (748) عنده. (¬3) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (925)، وابن ماجه برقم (851). (¬4) تقدم تخريجه برقم (927) عنده. (¬5) رواه ابن ماجه (856)، كتاب: الصلاة، باب: الجهر بآمين، وابن خزيمة في "صحيحه" (574).

ورواه الإمام أحمد، ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذُكرت عنده اليهود، فقال: "إنهم لم يحسدونا على شيء، كما حسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين" (¬1). ورواه الطبراني في "الأوسط"، بإسنادٍ حسن، ولفظه: قال: "إن اليهود قد سئموا دينهم، وهم قومٌ حسد، ولم يحسدوا المسلمين على أفضل من ثلاث: رد السلام، وإقامة الصفوف، وقولهم خلف إمامهم في المكتوبة: آمين" (¬2). وفي مسلم، وأبي داود، وغيرهما، من حديثٍ طويل، وفيه: "وإذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين، يجبكم الله" (¬3). الثاني: لفظة آمين تمد الهمزة فيها وتقصر، والمد أولى. وفي "الفتح": هي بالمد، والتخفيف، في جميع الروايات، وعن جميع القراء. وحكى الواحدي، عن حمزة والكسائي: الإمالة، قال: وفيها ثلاث لغات أخرى شاذة؛ القصر: حكاه ثعلب (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 134)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 56). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (4910)، وفي "مسند الشاميين" (1896). (¬3) رواه مسلم (404)، كتاب: الصلاة، باب: التشديد في الصلاة، وأبو داود (972)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد، من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 262).

وحكى عياض ومن تبعه عن ثعلب: إجازة القصر في الشعر خاصة. والتشديد مع المد، والقصر، وحكاهما جماعة من أهل اللغة (¬1). وفي "الفروع": ويحرم تشديد الميم (¬2). وفي "المنتهى" وغيره: وتبطل به الصلاة (¬3). قال ابن نصر الله في "حواشي الكافي": لأن معناها حينئذ قاصدين، فيصير متكلماً بكلمة عمداً، فتبطل صلاته (¬4). وفي "ترغيب المنذري": وتشديد الممدود لغية. قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى. وقيل: معناها: اللهم استجب، أو كذلك فافعل، أو كذلك فليكن (¬5). وفي "الفتح": آمين: من أسماء الأفعال مثل صَهْ، تكسر وتفتح في الوصل؛ لأنها مبنية بالاتفاق، وإنما لم تكسر؛ لثقل الكسرة بعد الياء. ومعناها: اللهم استجب عند الجمهور. وقيل: معناها: اللهم أمنا بخير، والله أعلم (¬6). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 38). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 366). (¬3) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (1/ 210). (¬4) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 339). (¬5) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 194). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 262).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ فِيهِمً الضَّعِيفَ، والسَّقِيمَ، وَذَا الحَاجَةِ، وإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ؛ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ" (¬1). * * * (عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صلى أحدكم للناس) -أي: أمَّهم-كما هو لفظ حديث أبي هريرة في ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (671)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا صلَّى لنفسه، فليطول ما شاء، ومسلم (467)، (1/ 341)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، وأبو داود (794 - 795)، كتاب: الصلاة، باب: في تخفيف الصلاة، والنسائي (823)، كتاب: الإمامة، باب: ما على الإمام من التخفيف، والترمذي (236)، كتاب: الصلاة، باب ما جاء "إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف". * مصارد شرح الحديث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 383)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 183)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 208)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 436)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 214)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 346)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 199)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 241)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 26)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 166).

"الصحيحين"، ولفظه: "إذا أم أحدكم الناس" (¬1). (فليخفف) على المأمومين، ولا يُطل القيام لطول القراءة، بل يخفف القراءة والأذكار، بحيث لا يقتصر على الأقل، ولا يستوفي الأكمل المستحب للمنفرد؛ من طوال المُفَصَّل وأوسطه، وأذكار الركوع والسجود. وقال الكرماني في "شرح البخاري": التخفيف هو بحيث لا يفوته شيء من الواجبات، كذا قال. وفي "الفروع": عن شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس للإمام أن يزيد على القدر المشروع، وينبغي أن يفعل غالباً ما كان - صلى الله عليه وسلم - يفعله غالباً، ويزيد وينقص للمصلحة، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يزيد وينقص أحياناً، انتهى (¬2). وأولى ما أخذ حد التخفيف من حديث أبي داود، والنسائي، عن عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "أنت إمام قومك، واقدر القوم بأضعفهم"، إسناده حسن (¬3)، وأصله في مسلم (¬4)، كما في "الفتح" (¬5). ¬

_ (¬1) هو لفظ مسلم دون البخاري، وقد تقدم تخريجه عنده قريباً. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 531). وانظر: "الفتاوى الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 431). (¬3) رواه أبو داود (531)، كتاب: الصلاة، باب: أخذ الأجر على التأذين، والنسائي (672)، كتاب: الأذان، باب: اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجراً، بلفظ: "أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم". (¬4) رواه مسلم (468)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، بلفظ: "إذا أممت قوماً فأخفف بهم الصلاة". (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 199).

(فإن فيهم) -أي: الناس، يعني: المأمومين-. وفي لفظ: "فإن خلفه" (¬1). وهو تعليلٌ للأمر المذكور، ومقتضاه: أنه متى لم يكن فيهم من هو متصف بصفة من المذكورات، لم يضر التطويل. لكن لما كان بصدد من يجيء ممن هو متصف بأحدها، كان منهياً عنه، مع كون الأحكام إنه، تناط بالغالب، لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقاً، اللهم إلا أن يؤثروا التطويل حيث كانوا محصورين، وفي محلٍّ لا يتأتى مجيء من يدخل معهم، كما نص عليه فقهاؤنا (¬2). (الضعيف) المراد هنا: ضعيف الخِلْقة، (والسقيم)؛ أي: من به مرض. وفي لفظٍ: "كان فيهم المريض والضعيف" (¬3). (و) إن فيهم (ذا)؛ أي: صاحب (الحاجة) هي أشمل الأوصاف. وفي رواية عند الطبراني: "والحامل، والمرضع" (¬4)، "والعابر السبيل" (¬5). ¬

_ (¬1) هذا لفظ البخاري في حديث أبي مسعود - رضي الله عنه - الآتي تخريجه قريباً. وليس من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -كما يتوهم من سياق الشارح -رحمه الله-. (¬2) وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 209)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 199). (¬3) هو لفظ البخاري في حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي لله عنه - الآتىِ تخريجه قريباً. (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (8379)، وفي "المعجم الأوسط" (7978)، بزيادة: "والحامل والمرضع". (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 257)، من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -.

والحاجة تعم ذلك، وتزيد عليه، فهي من عطف العام بعد الخاص. (وإذا صلى أحدكم لنفسه) غير إمام للناس، (فليطول) صلاته (ما شاء). وفي لفظٍ لمسلم: "فليصل كيف شاء" (¬1)؛ أي: مخففاً أومطولاً، ما لم يُفْضِ التطويل إلى خروج الوقت، ولو المختار. فمراعاة وقوع جميع الصلاة في وقتها المختار أولى من مراعاة مصلحة التطويل، بل يجب عليه أداؤها في وقتها، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عنده.

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إِنِّي لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ، مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ؛ مِمَّا يُطِيلُ بنَا، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فًقَالَ: "يا أيها النُّاسُ! إِنَّ مِنْكُم مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ، فَلْيُوجِزْ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِه الكَبِيرَ، والصَّغِيرَ، وَذَا الحَاجَةِ" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (90)، كتاب: العلم، باب: الغضب في الموعظة والتعليم، إذا رأى ما يكره، و (670)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود، و (672)، باب: من شكا إمامه إذا طوَّل، و (5759)، كتاب: الأدب، باب: ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله، و (6740)، كتاب: الأحكام، باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، ومسلم (466)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، وابن ماجه (984)، كتاب: الصلاة، باب: من أمَّ قوماً فليخفف. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 382)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 184)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 207)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 198)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 240)، وانظر مصادر الشرح في الحديث السابق.

(عن أبي مسعود) عقبةَ بنِ عمرِو بنِ ثعلبةَ، الخزرجيِّ (الأنصاريِّ - رضي الله عنه -)، شهد العقبة الثانية، وكان أصغر من حضرها، وقد اشتهر بالبدري، ولم يشهد بدراً عند جمهور أهل العلم بالسير، وإنما نسب إلى بدر؛ لأنه نزله، فنسب إليه. وسكن الكوفة، ومات بها في خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قبل الأربعين. وقيل: إنه تأخر إلى إحدى، أو اثنتين وأربعين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث وحديثان، اتفقا منها على تسعة، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بسبعة (¬1). (قال) أبو مسعود - رضي الله عنه -: (جاء رجل). قال في "الفتح": لم أقف على تسميته. ووهم من زعم أنه حزم بن أبي كعب، فإن قصته كانت مع معاذ، انتهى (¬2). كما يأتي ذلك بعد ثلاثة أبواب. وقال البرماوي: الشاكي: حَرام -بالحاء المهملة والراء- بنُ مِلْحان. واسم ملحان: مالكُ بنُ خالدِ بن زيد بن حَرام النجَّاري، خالُ أنس بن مالك. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 16)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 429)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 279)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1074)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 157)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (40/ 507)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 55)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 215)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 493)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 524)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (7/ 220). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 198).

وقيل: إنه سُلَيم -بضم السين المهملة- بنُ الحارث، قاله البخاري في "تاريخه الكبير" (¬1). ووقع عند القرطبي: أنه سَلْم -بإسكان اللام- (¬2). وعند الطحاوي في "معاني الآثار": أنه رجل من بني سليم، يقال له: سليم (¬3). وفي "سنن أبي داود" تسميته: حزم بن أبي كعب (¬4)، وكذا هو في "تاريخ البخاري" أيضاً (¬5). ونقله ابن الجوزي عن "طبقات ابن سعد" (¬6). ووهم من قال: ابن أبي حزم -بفتح الحاء المهملة وتشديد الزاي- بن أبي العين، وضبطه كذلك. قال البرماوي: وكأنَّه تصحف عليه بابن حزم المذكور آنفاً، انتهى ملخصاً. (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) متعلق بـ: جاء، (فقال): يا رسول الله! (إني لأتأخر عن صلاة الصبح). وفي لفظٍ: "الغداة" (¬7)، فلا أحضرها مع الجماعة لأجل التطويل. ¬

_ (¬1) انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 110). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 76). (¬3) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 409). (¬4) انظر: "سنن أيي داود" (791)، (1/ 210). (¬5) انظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 110). (¬6) لم أره في "الطبقات الكبرى" لابن سعد. (¬7) وهو لفظ البخاري المتقدم تخريجه في حديث الباب برقم (670)، و (5759)، و (6740).

وفي رواية ابن المبارك: "والله إني لأتأخر" (¬1)، بزيادة القسم. وفيه: جواز فعل ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه، وإنما خص صلاة الفجر -التي هي صلاة الغداة- بالذِّكر؛ لأنها تطول فيها القراءة غالباً، ولأن الانصراف منها وقت التوجه لمن له حرفة إليها (¬2). (من أجل فلانٍ) استظهر في "الفتح": أن المراد بفلان: أُبَيُّ بنُ كعب - رضي الله عنه -، كما أخرجه أبو يعلى الموصلي، بإسنادٍ حسن، عن جابر - رضي الله عنه -، قال: كان أبي بن كعب يصلي بأهل قباء، فاستفتح سورة طويلة، فدخل معه غلامٌ من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها، انفتل من صلاته، فغضب أُبيٌّ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أبيّاً ... الحديث (¬3). قال: وهذا أظهر من حمله على قصة معاذ؛ لأن قصته كانت في العشاء، وكان معاذ إمامها، وكانت في مسجد بني سلمة، وهذه كانت في الصبح، وكانت في مسجد قباء. ووهم من فسر الإمام المبهم هنا بمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - (¬4). (مما يطيل بنا) تعليل لتأخره عن صلاة الصبح جماعةً. (قال) أبو مسعودٍ الأنصاري - رضي الله عنه -: (فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظةٍ) من المواعظ التي كان يخطبها أصحابه. ¬

_ (¬1) وهي رواية البخاري المتقدم تخريجها برقم (6740) عنده. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 198). (¬3) رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (1798). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 198).

(قط أشدَّ مما غضب يومئذٍ)، وهو نعت لمصدرٍ محذوفٍ؛ أي: غضباً أشد (¬1). وكأنَّ حكمة ما ظهر من الغضب: لإرادة الاهتمام لما يلقيه لأصحابه؛ ليكونوا من سماعه على بالٍ؛ لئلا يعود من فعل ذلك إلى مثله (¬2). وفي حديث جابرٍ الذي خرَّجه أبو يعلى: فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى عرف الغضب في وجهه (¬3). (فقال: يا أيها الناس! إنَّ منكم منفرين). ولعل قصة أُبي هذه، بعد قصة معاذ، فلهذا أتى بصيغة الجمع، وفي قصة معاذ: واجهه بالخطاب بقوله له: "أفتان أنت يا معاذ؟ " (¬4)، ولهذا ذكر في هذا الغضب، ولم يذكر في قصة معاذ: (فأيكم أَمَّ الناسَ، فليوجز)؛ أي: يخفف، يقال: كلامٌ وجيزٌ؛ أي: خفيفٌ مقتصد، كما في "النهاية" (¬5). وفي لفظٍ: "فليخفف" (¬6) قال ابن دقيق العيد: التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية، فقد يكون ¬

_ (¬1) انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 90). (¬2) قاله أبو الفتح اليعمري، كما نقله الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 199). (¬3) تقدم تخريجه قريباً. (¬4) رواه البخاري (673)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: من شكا إمامه إذا طوَّل، ومسلم (465)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 155). (¬6) هو لفظ البخاري المتقدم تخريجه برقم (90) عنده.

الشيء خفيفاً بالنسبة إلى عادة قوم، طويلاً بالنسبة لعادة آخرين (¬1). (فإن من ورائه)؛ أي: الإمام. (الكبير) العاجز، (والصغير) الدْي لم تكمل قوته، ولم ترتَضْ نفُسه ليأثر التطويل في الصلاة، (وذا الحاجة) التي يشتغل باله بخوف فواتها، أو نحو ذلك. وعند مسلمٍ في رواية، وأبي داود: "أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم" (¬2). قال الطيبي: قوله: "اقتد بأضعفهم" جملة إنشائية عطفت على "أنت إمامهم" وهي خبرية على تأويل: أُمَّهم، وإنما عدل إلى الاسمية؛ لدلالتها على الثبات، وأنَّ إمامته قد حصلت، وهو - صلى الله عليه وسلم - مخبر ضها. والحاصل: أنه يراعي أضعف الجماعة المقتدين به، والله تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 209). (¬2) تقدم تخريجه من حديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه -.

باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -

باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان يصليها بأصحابه، ويصليها منفرداً؛ يعني: ما ورد وصحَّ من ذلك، والمراد: الإشارة إلى جملة من الأحاديث الثابتة، بحيث يحصل من مجموعها المقصود المترجم له. وذكر الحافظ -روَّح الله روحه- في هذا الباب أربعة عشر حديثاً:

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَال: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاَةِ، سَكَتَ هُنَيْهَةً، قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ! بأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَكبِيرِ، والقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: "أَقُولُ: الَّلهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي، وبَيْنَ خَطَايَايَ؛ كمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرقِ والمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بالمَاءِ، والثَّلْجِ، والبَرَدِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (711)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، واللفظ له، وأبو داود (781)، كتاب: الصلاة، باب: السكتة عند الافتتاح، والنسائي (60)، كتاب الطهارة، باب: الوضوء بالثلج، و (895)، كتاب الافتتاح، باب: الدعاء بين التكبيرة والقراءة، وابن ماجه (805)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح الصلاة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 550)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 216)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 96)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 212)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 443)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 342)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 91)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 229)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 292)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 165)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 206).

(عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -). تقدم: أن "كان" تشعر بكثرة وقوع مدخولها، والمداومة عليه، وقد تستعمل في مجرد وقوعه (¬1). (إذا كبر في الصلاة) هذا يدل مع ما يأتي من الأحاديث على افتتاح الصلاة بالتكبير، فلا تنعقد الصلاة إلا بقوله قائماً في فرضٍ: الله أكبر، مرتَّباً، وفاقاً لمالك، لا إن قال: الله الأكبر، خلافاً للشافعي، أو الله جليل، ونحوه، خلافاً لأبي حنيفة، ولو زاد: أكبر، خلافاً للشافعي، ولا إن قال: الله أقبر -بالقاف-. وقالت الحنفية: تنعقد، قالوا: لأن العرب تُبْدِل الكاف بها. ولا تنعقد إن مد همزة أكبر، أو قال: أكبار، اتفاقاً. وأما لو خلل الألف بين اللام والهاء، لم يضر؛ لأنه إشباع؛ وحذفها أولى؛ لكراهة التمطيط (¬2). وترجم البخاري في "صحيحه"، باب: إيجاب التكبير (¬3)، أطلق الإيجاب، والمراد: الوجوب تجوزاً؛ لأن الإيجاب خطاب الشرع، والوجوب ما يتعلق بالمكلف، وهو المقصود هنا (¬4). فائدة: تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة عند الجمهور. وقيل: شرطٌ، وهو عند الحنفية، ووجهٌ عند الشافعية. قال في "الفروع" عن تكبيرة الإحرم: إنها ليست بشرطٍ، بل من ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 212). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 359). (¬3) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 257). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 216).

الصلاة، نص عليه -يعني: الإمام أحمد-، ولهذا تعتبر لها شروطها. وعند الحنفية شرطٌ، فيجوز عندهم بناء النفل على تحريمة الفرض، حتى لو صلى الظهر، صح إلى النفل بلا إحرامٍ جديدٍ (¬1). وقيل: إن تكبيرة الإحرام سنةٌ. قال ابن المنذر: لم يقل به أحدٌ غير الزهري، ونقله غيره عن سعيد بن المسيب، والأوزاعي، ومالك. قال في "الفتح": ولم يثبت عن أحد منهم تصريحاً، وإنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعاً: يجزئه تكبيرة الركوع. نعم، نقله الكرخي من الحنفية عن إسماعيل بن عُلَيّه، وأبي بكرٍ الأصم (¬2). (سكت هنيهة)؛ كذا وقع في رواية الكشميهني، وغيره بقلب الياء هاء. وفي أكثر الروايات: هنيئة -بضم الهاء وفتح النون بلفظ التصغير-، وهو عند الأكثر: بتشديد الياء. وذكر القاضي عياض: أن أكثر رواة مسلم قالوه بالهمز (¬3)، وأما النووي، فقال: الهمز خطأٌ، قال: وأصله: هنيوةٌ، فاجتمعت واوٌ وياء سبقت إحداهما السكون، فقلبت الواو ياء، ثم أدغمت (¬4). قال غيره: لا يمنع ذلك إجازة الهمز، فقد تقلب الياء همزةً (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 408). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 217). (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 550). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 96). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 229).

وفي "النهاية": أقام هنيئةً؛ أي: قليلاً من الزمان، وهو تصغير هنة، ويقال،: هنيهة أيضاً. (قبل أن يقرأ) - صلى الله عليه وسلم -، (فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي) الباء متعلقة بمحذوف اسم أو فعل، والتقدير: أنت مفدي، أو أفديك. واستدل به على جواز قول ذلك. وزعم بعضهم أنه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. (أرأيت سكوتك) هكذا في رواية مسلم (¬1). وفي البخاري: إسكاتك -بكسر أوله-، وهو بالرفع على الابتداء. قال [المظهري] (¬2) شارح "المصابيح": هو بالنصب على أنه مفعولٌ بفعلٍ محذوفٍ؛ أي: أسألك إسكاتك، أو على نزع الخافض، انتهى (¬3). وفي رواية الحميدي: ما تقول في سكتتك (¬4) (بين التكبيرة والقراءة)؛ أي: بعد تكبيرة الإحرام، وقبل الشروع في قراءة الفاتحة. (ما تقول) كأن أبا هريرة - رضي الله عنه - فهم أن هناك قولاً؛ فإن السؤال وقع بقوله: ما تقول؟ لا بقوله: هل تقول؟ والسؤال بهل مقدمٌ على السؤال، بما هاهنا. ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم، كما ورد في استدلالهم على القراءة باضطراب لحيته - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 278). (¬2) في الأصل: "الضميري"، وهو خطأ، والتصويب من "الفتح" (2/ 229). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 229). (¬4) رواه أبو عوانة في "مسنده" (1599)، من طريق الحميدي. ورواه أبو يعلى في "مسنده" (6097)، من طريق العباس بن الوليد النَّرسي. (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 212).

(قال) - صلى الله عليه وسلم -: (أقول: اللهم)؛ أي: يا ألله! حذف حرف النداء تخفيفاً، وعوض عنه حرف الميم، ولهذا لا يجمع بينهما في اختيار الكلام. (باعِدْ) المراد بالمباعدة: بمحو ما حصل منها، والعصمة عما سيأتي منها، وهو مجاز؛ لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان (¬1). (بيني وبين خطاياي): جمع خطيئة، وهي الذنوب، أو العمد منها، والمراد: مجرد الذنوب. وكرر لفظة "بين"؛ لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض، يعني: مجازاً عن زوال الذنوب ومحو أثرها. (كما باعدت بين المشرق) من الأفق الذي تشرق الشمس منه (والمغرب) الذي تغيب فيه، وأفرد كل واحدٍ منهما باعتبار الجهة. وموقع التشبيه من ذلك: أن التقاء المشرق والمغرب مستحيلٌ، فكأنه أراد ألا يبقى لذنوبه منه - صلى الله عليه وسلم - اقترابٌ بالكلية (¬2). (اللهم نقني): من التنقية، وهو غسله وتنظيفه (من خطاياي)؛ أي: ذنوبي. (كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)؛ أي: الوسخ. يعني بـ"نقني": أَزِلْ عني الذنوب بمحو أثرها. ولما كان الدنس في الثوب الأبيض أظهرَ من غيره من الألوان، وقع التشبيه به، قاله ابن دقيق العيد (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 230). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 213).

(اللهم اغسلني من خطاياي) بأن تمحوها، وتمحو أثرها عني. (بالماء والثلج والبرد) قال ابن دقيق العيد: يحتمل إرادة المحو بالمجموع، فإن الثوب الذي تكرر عليه التنقية بثلاثة أشياء منقيةٍ يكون في غاية النقاء، ويحتمل أن يكون كل واحدٍ من هذه الأشياء مجازاً عن صفة يقع بها التكفير والمحو، ولعل ذلك كقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286]، فكل واحدةٍ من هذه الصفات -أعني: العفو والمغفرة والرحمة- لها أثرٌ في محو الذنوب. فعلى هذا ينظر إلى الأفراد، ويجعل كل فردٍ من أفراد الحقيقة دالاً على معنىً فرد مجازي، انتهى (¬1). وقال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيداً، ولأنهما ماءان لا تمسهما الأيدي، ولم يمتهنهما الاستعمال. قال التوربشتي: خص هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنها منزلةٌ من السماء. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاثة إشارةٌ إلى الأزمنة الثلاثة؛ فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي، انتهى (¬2). وبدأ بتقديم المستقبل؛ للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل. واستدل بالحديث على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة، خلافاً للمشهور عن مالك، والله أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 230). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

تنبيهان: الأول: حديث أبي هريرة هذا أحد استفتاحات الصلاة، والذي اختاره الإمام أحمد وفاقاً للإمام أبي حنيفة: ما في السنن الأربعة، عن عائشة، وأبي سعيد، وغيرهما - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة، قال: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك" (¬1)، وهو في "صحيح مسلم"، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موقوفاً عليه (¬2). نص على استحباب الاستفتاح بهذا الإمامُ أحمد، وصحح قول عمر - رضي الله عنه - بمحضرٍ من الصحابة، وقال عن غيره من الأخبار: إنما هي عندي في التطوع. واحتج له القاضي بقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]؛ يعني: إلى الصلاة، فمنع غيره من الأذكار. ومعنى الواو: وبحمدك سبحتك (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (775)، كتاب: الصلاة، باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، والنسائي (899، 900)، كتاب: الافتتاح، باب: نوع آخر من الذكر بين افتتاح الصلاة، وبين القراءة، والترمذي (242)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة، وابن ماجه (804)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. ورواه أبو داود (776)، كتاب: الصلاة، باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، والترمذي (243)، كسَاب: الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة، وابن ماجه (806)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رواه مسلم (399)، كتاب: الصلاة، باب: حجة من قال: لا يجهر بالبسملة. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 362).

واختار الإمام الشافعي ما في "صحيح مسلم"، عن علي- رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة، قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين" (¬1). لكن قيده مسلم بصلاة الليل، وبذلك رجَّح الإمام أحمد عليه استفتاحَ عمر، وأخرجه الشافعي، وابن خزيمة، وغيرهما بلفظ: إذا صلى المكتوبة (¬2). واعتمده الشافعي في "الأم" (¬3). واختار عون الدين بن هبيرة، وشيخ الإسلام ابن تيمية: جمعَ التسبيح والتوجُّه. وقال شيخ الإسلام -أيضاً-: الأفضل أن يأتي بكل نوع من أنواع الاستفتاحات أحياناً (¬4). ونقل الساجي عن الشافعي: استحبابَ الجمع بين التوجه والتسبيح، وهو اختيار ابن خزيمة، وجماعةٍ من الشافعية. وحديث أبي هريرة المشروح أصح ما ورد في ذلك (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (771)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه. (¬2) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 35)، وابن خزيمة في "صحيحه" (462)، بلفظ: كان إذا افتتح الصلاة ... ، ثم ذكره. وما ذكره الشارح -رحمه الله-، نقله عن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 230). (¬3) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 106). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 362). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 230).

الثاني: صدر هذا الدعاء -في حديث أبي هريرة- من النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، والاعتناء بمقتضياتها. وقيل: قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض: بأنه لو أراد ذلك، لجهر به. وأجيب: بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزار (¬1). وفي هذا الحديث: ما كان الصحابة -رضوان الله عليهم- من المحافظة على تتبع أحوال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حركاته وسكناته، وإسراره وإعلانه، حتى حفظ الله بهم الدين (¬2)، والله الفتاح المعين. * * * ¬

_ (¬1) رواه البزار في "مسنده" (2/ 106 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، بلفظ: "إذا صلى أحدكم، فليقل: اللهم باعد بيني وبين خطاياي ... " الحديث. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 230).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ، وَالقِرَاءَةَ بِـ: "الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ"، وَكَانَ إِذَا رَكَعَ؛ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ، وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِماً، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسهُ مِنَ السَّجْدَةِ، لَم يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِداً، وَكَانَ يَقُولُ في كُلِّ رَكْعَتَيْنِ: التَّحِيَّةَ، وكَان يَفْرُشُ رِجْلَهُ اليُسْرَى، ويَنْصِبُ رِجْلَهُ اليُمْنَى، وكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ، وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاَةَ بالتَّسْلِيمِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (498)، كتاب: الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، وما يفتتح به ... ، وأبو داود (783)، كتاب: الصلاة، باب: من لم ير الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وابن ماجه (893)، كتاب: الصلاة، باب: الجلوس بين السجدتين. والحديث من أفراد مسلم، فلم يخرجه البخاري في "صحيحه"، وسيأتي تنبيه الشارح -رحمه الله- عليه من كلام الحافظ عبد الحق الإشبيلي، والإمام ابن دقيق العيد -رحمهما الله-. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 199)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 409)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 98)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 213)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 213)، و"العدة في =

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (- رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة)؛ أي: يقصد استفتاحها (بالتكبير)، أي: بقوله: "الله أكبر" بالرفع، قال ابن سِيْده: حمله سيبويه على الحذف؛ أي: أكبر من كل شيءٍ. وقيل: أكبر من أن ينسب إليه ما لا يليق بوحدانيته (¬1). وقال الأزهري: قيل: أكبرُ كبير، كقوله: هو أعز عزيزٍ. ومنه قول الفرزدق: [من الكامل] إِنَ الذي سَمَكَ السَّماءَ بَنَى لنا ... بيتاً دعائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ (¬2) أراد: دعائمه أعز عزيزٍ، وأطول طويلٍ (¬3). وفي حديث المسيء في صلاته عند أبي داود بلفظ: "لا تتم صلاة أحد من النالس، حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يُكَبِّر" (¬4). وحديث أبي حُميد: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة، اعتدل قائماً، ورفع يديه، ثم قال: "الله أكبر" رواه الترمذي (¬5). ¬

_ = شرح العمدة" لابن العطار (1/ 446)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 93)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 166). (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (3/ 171)، (مادة: كبر). (¬2) انظر: "ديوان الفرزدق" (2/ 155). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 214 - 215)، (مادة: كبر). وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 70)، وعنه أخذ الشارح -رحمه الله- هنا. (¬4) رواه أبو داود (857)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، عن رفاعة بن رافع - رضي الله عنه -. (¬5) رواه الترمذي (304)، كتاب: الصلاة، باب: (227)، وقال: حسن صحيح.

فهذا فيه بيان المراد بالتكبير. (و) كان - صلى الله عليه وسلم - يستفتح (القراءة) في الصلاة (بالحمدُ لله رب العالمين) بضم دال "الحمدُ" على الحكاية؛ أي: كان - صلى الله عليه وسلم - يفتتح الصلاة بهذا اللفظ، من غير أن يجهر بالبسملة. قال بعض رواته عن شعبة وغيره: فلم أسمع أحداً منهم يقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، خرجه مسلم (¬1)، وفي بعض الروايات: فلم يكونوا يجهرون ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬2). ويأتي الكلام على ذلك بعد ثلاثة أبواب. (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (إذا ركع) يضع يديه على ركبتيه، فيمكِّنهما من ركبتيه، ويفرِّج بين أصابعه، ويجافي مرفقيه عن جنبيه، ثم اعتدل في ركوعه، وجعل رأسه حيال ظهره، (لم يُشْخِص) النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثناء ركوعه (رأسَه) الشريف؛ أي: لم يرفعه. (ولم يصوِّبه)؛ أي: رأسه؛ أي: لم يخفضه. (ولكن) كان - صلى الله عليه وسلم - يجعله (بين ذلك)؛ أي: ما بين الرفع والخفض؛ بأن يَهْصر ظهرَه الشريف، ويمدَّه؛ ولم يجمعه، فهكذا كان ركوعه - صلى الله عليه وسلم -. ولا ريب أن الركوع لغةً: هو مجرد الانحناء (¬3)، والمقصود: الانحناء ¬

_ (¬1) رواه مسلم (399)، كتاب: الصلاة، باب: حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، عن أنس - رضي الله عنه -. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 275)، وابن حبان في "صحيحه" (1803)، وغيرهما. (¬3) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (8/ 133)، (مادة: ركع).

الشرعي؛ بحيث يكون رأس المصلي حيال ظهره؛ أي: بإزائه وقبالته (¬1). وفي حديث وابصة - رضي الله عنه - عند أبي داود بإسنادٍ حسنٍ، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع، سوى ظهره، حتى لو صب عليه الماء لاستقر (¬2). ورواه الطبراني أيضاً من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬3). وعن أبي برزة (¬4)، وابن مسعود - رضي الله عنهما - (¬5). (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (إذ رفع رأسه من الركوع) مع إتيانه بالتكبير والتسميع والتحميد مع رفع اليدين، كل شيء من ذلك في محاله، كما يأتي. (لم يسجد حتى يستوي قائماً)، وكان يطيل الطمأنينة هنا، ويأتي بالذكر المشروع كما سيأتي، ثم يكبر - صلى الله عليه وسلم -، ويخر ساجداً، ولا يرفع يديه، وكان يضع ركبتيه قبل يديه، هكذا قال عنه وائل بن حجر (¬6)، وأنس بن مالك (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 75). (¬2) لم يروه أبو داود في "سننه"، ولا عزاه إليه أحد من الحفاظ، وقد رواه ابن ماجه (872)، كتاب: الصلاة، باب: الركوع في الصلاة. (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (12781). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5676). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الصغير" (36)، لكن من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. وكذا نسبه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 123). (¬6) رواه أبو داود (838)، كتاب: الصلاة، باب: كيف يضع ركبتيه قبل يديه، والنسائي (1089)، كتاب: التطبيق، باب: أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده، والترمذي (268)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في وضع الركبتين قبل اليدين في السجود، وابن ماجه (882)، كتاب: الصلاة، باب: السجود. (¬7) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 345)، والحاكم في "المستدرك" (822)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 99).

وقال عنه ابن عمر: إنه كان يضع يديه قبل ركبتيه (¬1). واختلف على أبي هريرة - رضي الله عنه -، ففي "السنن"، عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سجد أحدُكم-، فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضعْ يديه قبلَ ركبتيه" (¬2). وروى عنه المقبري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سجد أحدكم، فليبدأ بركبتيه قبل يديه" (¬3). فأبو هريرة قد تعارضت الرواية عنه. وحديث وائل، وابن عمر قد تعارضا، فرجحت طائفة حديث وائل بن حجر، وسلكت طائفة مسلك النسخ، وقالت: كان الأمر الأول وضع اليدين قبل الركبتين، ثم نسخ بوضع الركبتين أولاً، وهذه طريقة ابن خزيمة (¬4)، وروى في ذلك حديثاً عن سعد، قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين (¬5)، وهذا لو ثبت، لكان فيه الشفاء. ¬

_ (¬1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (627)، والحاكم في "المستدرك" (821)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 100). (¬2) رواه أبو داود (840)، كتاب: الصلاة، باب: كيف يضع ركبتيه قبل يديه، والنسائي (1091)، كتاب: التطبيق، باب: أول ما يصل إلى الأرض من الإنسان في سجوده، والترمذي (269)، كتاب: الصلاة، باب: (200)، وقال: غريب. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2702)، وأبو يعلى في "مسنده" (6540)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 255)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 100). (¬4) قال ابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 319)، باب: ذكر الدليل على أن الأمر بوضع اليدين قبل الركبتين عند السجود منسوخ، وأن وضع الركبتين قبل اليدين ناسخ. (¬5) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (628)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 100).

لكن في سنده يحيى بن سلمة بن كهيل، قال البخاري: عنده مناكير، وقال ابن معين: ليس بشيء، لا يكتب حديثه، وقال النسائي: متروك الحديث (¬1). قال الإمام ابن القيم في كتابه: "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ": هذه القضية مما وهم فيها يحيى أو غيره، وإنما المعروف عن مصعب بن سعد، عن أبيه: نسخُ التطبيق في الركوع بوضع اليدين على الركبتين، فلم يحفظ هذا الراوي، فقال: المنسوخ وضع اليدين قبل الركبتين (¬2). والحاصل: أن المشروع أن يضع ركبتيه أولاً، ثم يديه، وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي. وفي رواية مرجوحة: يضع يديه أولاً، ثم ركبتيه، وفاقاً لمالك، ثم يضع جبهته وأنفه (¬3). قال الإمام ابن القيم: المصلي في انحطاطه إلى السجود ينحط منه إلى الأرض الأقرب إليها أولاً، ثم الذي من فوقه، ثم الذي من فوقه، حتى ينتهي إلى أعلى ما فيه، وهو وجهه، فإذا رفع رأسه من السجود، ارتفع أعلى ما في أولاً، ثم الذي دونه، حتى يكون آخر ما يرتفع منه ركبتاه (¬4). وكان - صلى الله عليه وسلم - يسجد على جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وأطراف قدميه، ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، وكان يعتمد على أليتي كفيه، ويرفع ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 400)، و"صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " لابن القيم (ص: 236). (¬2) انظر: "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " لابن القيم (ص: 236 - 237). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 379). (¬4) انظر: "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " لابن القيم (ص: 238).

مرفقيه، ويجافي عضديه عن جنبيه، ويرفع بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه (¬1)، وإنما يطلب ذلك من المصلي إذا لم يؤذ جاره. (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (إذا رفع رأسه) الشريف (من السجدة) الأولى مع إتيانه بالذكر المشروع، (لم يسجد) السجدة الثانية (حتى يستوي) بعد ارتفاعه من السجدة الأولى (قاعداً)، فكان يرفع رأسه مكبراً. (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (يقول في كل ركعتين) من صلاته: (التحية)، ويأتي الكلام على ذلك في باب التشهد بعد ستة أبواب. (وكان) - عليه الصلاة والسلام - (يَفْرُش) -بفتح الياء المثناة تحت، والمشهور فيه ضم الراء، وأما كسرها، فذكره أبو حفص بن مكي في لحن العوام، فقال: يكسرون الراء من "يفرش"، والصواب ضمها (¬2). (رجله اليسرى) ويجلس عليها (وَينْصِب) -بفتح المثناة وسكون النون وكسر الصاد المهملة-؛ أي: يرفع (رجله اليمنى) على هيئة المتخشع المتذلل المسكين التي نفسه بين يدي سيده ومولاه. (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (ينهى عن عُقْبَةِ الشيطان). قال في "النهاية": عقبة الشيطان: هو أن يضع المصلي أَلْيَيْهِ على عقبيه بين السجدتين، وهو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء. وقيل: هو أن يترك عقبيه غير مغسولين في الوضوء (¬3)، والأول أصح هنا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 239). (¬2) انظر: "غريب ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 69)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 93). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 269).

(و) كان - صلى الله عليه وسلم - (ينهى أن يفترش الرجل) -يعني: الشخص المصلي- (ذراعيه) - تثنية ذراع، يذكر ويؤنث، وهو العظم من المرفق إلى الكوع - (¬1) (افتراش السبع)، وهو أن يبسط ذراعيه في السجود ولا يرفعهما عن الأرض، كما يبسط الكلب والذئب ذراعيه. والافتراش: افتعال من الفَرْش والفِرَاش، والمرأة تسمى فِراشاً؛ لأن الرجل يفترِشها (¬2). والسبع: هو الحيوان المفترس، والجمع: أسبع، وسباع (¬3). ومن العجائب أنه قيل: إنما سمي سبعاً؛ لكونه يمكث في بطن أمه سبعة أشهر، ولا تلد الأنثى أكثر من سبعة أولاد، ولا ينزو الذكر منها على الأنثى إلا بعد سبع سنين من عمره. (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (يختم الصلاة بالتسليم)، فجعل التسليمَ تحليلاً لها، يخرج به المصلي منها، كما يخرج بتحليل الحج منه، فكان هذا التحليل، دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة التي هي أصل الخير وأساسه، فشرع لمن وراءه أن يتحللوا بمثل ما تحلل به الإمام. وفي ذلك دعاء له وللمصلين معه بالسلام. ثم شرع ذلك لكل مصل، وإن كان منفرداً، فلا أحسن من هذا التحليل للصلاة، كما أنه لا أحسن من كون التكبير تحريماً لها، فتحريمها: تكبير الله تعالى الجامع لإثبات كل كمال له، وتنزيهه عن كل نقص وعيب، وإفراده وتخصيصه بذلك، وتعظيمه وإجلاله. ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (8/ 93)، (مادة: ذرع). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 429 - 430). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 938)، (مادة: سبع).

فالتكبير لمجضن تفاصيل أفعال الصلاة وأقوالها وهيئاتها، فالصلاة من أولها إلى آخرها تفصيل لمضمون: الله أكبر، فلا أحسن من هذا التحريم المتضمن للإخلاص والتوحيد. وهذا التحليل المتضمن للإحسان إلى إخوانه المؤمنين؛ فافتتحت بالإخلاص، وختمت بالإحسان (¬1). وحديث: "تحليلها التسليم" أخرجه أصحاب السنن، بسندٍ حسن (¬2). وأما حديث: "إذا أحدث وقد جلس في آخر الصلاة قبل أن يسلم، فقد جازت صلاته" (¬3)، فقد ضعفه الحفاظ (¬4). تنبيهان: الأول:. لم يبين في هذا الحديث عدد التسليم، وقد أخرج مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، ومن حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - التسليمتين. أما حديث ابن مسعود، فرواه مسلم، عن أبي معمر: [أنَّ] أميراً كان ¬

_ (¬1) انظر: "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " لابن القيم (ص: 218). (¬2) رواه أبو داود (61)، كتاب: الطهارة، باب: فرض الوضوء، والترمذي (3)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء: أن مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (275)، كتاب: الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهور، عن علي - رضي الله عنه -. (¬3) رواه الترمذي (408)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل يُحْدِثُ في التشهد، وقال: هذا حديث إسناده ليس بذاك القوي، وفد اضطربوا في إسناده، والبيهقي في "السنن الكبرى" (139/ 2)، عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما -. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 323).

بمكة يسلم تسليمتين، فقال عبد الله -يعني: ابن مسعود-: أنَّى عقلها (¬1)، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله (¬2). وأما حديث سعد، فأخرجه مسلم، عنه، قال: كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى أرى بياض خده. ورواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والنسائي (¬3)، وروي نحو ذلك في عدة أحاديث. وأما حديث التسليمة الواحدة، فمعلول، كما قاله العقيلي (¬4)، وابن عبدالبر (¬5). وقد بسط ابن عبد البر الكلام على ذلك (¬6). ومعتمد المذهب: لا بد من تسليمتين في صلاة الفرض، وفي النفل: الثانية سنة، وفي صلاة الجنازة: الثانية مباحة. ¬

_ (¬1) جاء على هامش الأصل المخطوط: قوله: أنّى عقلها؟ أي: من أين له ذلك؟ كأنه تعجب منه؛ لكونه وافق المأثور. قال في "النهاية" (3/ 288): أي: من أين تعلمها، وممن أخذها؟. (¬2) رواه مسلم (581)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته. (¬3) رواه مسلم (582)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته. والإمام أحمد في "المسند" (1/ 172)، والنسائي (1317)، كتاب: السهو، باب: السلام، وابن ماجه (915)، كتاب: الصلاة، باب: التسليم. (¬4) انظر: "الضعفاء الكبير" للعقيلي (3/ 272). (¬5) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (16/ 188). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 323).

وعند مالك، والشافعي: يخرج من الصلاة -ولو مكتوبة- بتسليمة واحدة، والله تعالى الموفق (¬1). الثاني: ظاهر سياق المصنف الحافظ -روَّح الله روحه بالرحمة-: أن حديث عائشة هذا متفق من الشيخين، وليس كذلك، بل هو من أفراد مسلم، وقد نبه على ذلك ابن دقيق العيد (¬2)، وغيره. وفي "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق الإشبيلي -بعد أن ذكر حديث عائشة المذكور عند مسلم-: لم يخرج البخاري هذا الحديث، ولكن أخرج في الركوع، والسجود، والجلوس، عن أبي حميد الساعدي، وغيره (¬3). وحديث أبي حميد الساعدي: أخرجه البخاري، عن محمد بن عمرو بن عطاء: أنه كان جالساً مع نفرٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبوحميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبر، جعل يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه، استوى حتى يعود كل فقارٍ مكانه، فإذا سجد، وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، وإذا جلس في الركعتين، جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة، قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته. تفرد بهذا الحديث البخاري (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 324)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 389). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 213). (¬3) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 335)، حديث رقم (686). (¬4) رواه البخاري (794)، كتاب: صفة الصلاة، باب: سنة الجلوس في التشهد.

قوله: هصر ظهره -بفتح الهاء والصاد المهملة-؛ أي: أماله (¬1). وفي رواية الكشميهني: أمال ظهره، والمعنى: ثناه في استواء من غير تقوس (¬2). وفي رواية: غير مقنع رأسه ولا مصوِّبه (¬3). وقوله: حتى يعودَ كلُّ فَقار، الفَقَار -بفتح الفاء والقاف- جمع فقارة: هي عظام الظهر، وهي العظام التي يقال لها: خرز الظهر (¬4). وقال ابن سيده: هي من الكاهل إلى العجب (¬5). وحكى ثعلب عن نوادر ابن الأعرابي: أن عدتها سبع عشرة. وفي "أمالي الزجاج": أصولها تسع غير التوابع. وعن الأصمعي: هي خمسٌ وعشرون، سبع في العنق، وخمس في الصلب، وبقيتها في أطراف الأضلاع (¬6)، والله تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 263). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 308). (¬3) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 260)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 101). (¬4) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 622)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 162). (¬5) انظر: "المحكم" لابن سيده (4/ 102)، (مادة: كهل). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 308).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمْرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ النَبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ، وَإذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ؛ رَفَعَهُمَا كذَلِكَ، وَقَالَ: "سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ"، وَكَانَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُوِد (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (702)، كتاب: صفة الصلاة، باب: رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، واللفظ له، و (703)، باب: رفع اليدين إذا كبَّر، وإذا ركع، وإذا رفع، و (705)، باب: إلى أين يرفع يديه، و (706)، باب: رفع اليدين إذا قام من الركعتين، ومسلم (390)، (21 - 23)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، وفي الرفع من الركوع، وأنه لا يفعله إذا رفع من السجود، وأبو داود (722)، كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين في الصلاة، و (741، 742)، باب: افتتاح الصلاة، والنسائي (876)، كتاب: الافتتاح، باب: العمل في افتتاح الصلاة، و (877)، باب: رفع اليدين قبل التكبير، و (878)، باب: رفع اليدين حذو المنكبين، و (1057)، كتاب: التطبيق، باب: رفع اليدين حذو المنكبين عند الرفع من الركوع، و (1059)، باب: ما يقول الإمام إذا رفع رأسه من الركوع، والترمذي (255)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في رفع اليدين عند الركوع، وابن ماجه (858)، كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 191)، و"الاستذكار" =

عن أبي عبد الرحمن (عبد الله بن عمر) بن الخطاب (- رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان) تقدم أنها تفيد الكثرة والمداومة، (يرفع يديه حذو)؛ أي: مقابل (منكبيه) تثنية مَنْكِب، وهو مجمع عظم العضد والكتف (¬1). (إذا افتتح الصلاة) بتكبيرة الإحرام. وفي رواية: كان يرفع يديه حين يكبر (¬2)، فهو دليل المقارنة. وقد ورد تقديم الرفع على التكبير، وعكسه، أخرجهما مسلم؛ ففي لفظٍ عند مسلم: رفع يديه ثم كبر (¬3). وفي لفظٍ عنده: كبر ثم رفع يديه (¬4). وفي المقارنة، وتقديم الرفع على التكبير، خلافٌ بين العلماء (¬5). والمرجح عند علمائنا؛ كالشافعية: المقارنة. قال في "الفروع": ويرفع ¬

_ = لابن عبد البر (1/ 407)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 56)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 260)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 18)، و"شرح مسلم " للنووي (4/ 93)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 220)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 458)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 296)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 252)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 220)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 271)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 167)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 196). (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (1/ 771)، (مادة: نكب)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 221). (¬2) هي رواية البخاري المتقدم تخريجها برقم (705) عنده. (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (390/ 22). (¬4) رواه مسلم (391)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام والركوع، من حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 218).

يديه ندباً، نص عليه -يعني: الإمام أحمد-، أو إحداهما عجزاً مع ابتداء التكبير؛ وفاقاً للشافعي، وينهيه معه، نصَّ عليه، وعنه: يرفعهما قبله، ثم يحطُّهما بعده، وفاقاً للحنفية. ولم يعتبروا حطَّهما بعده؛ لأنه ينفي الكبرياء عن غير الله، وبالتكبير يثبتها لله، والنفي مقدم؛ ككلمة الشهادة، وقيل: يُخَيَّر، وهو أظهر. وقال الشافعي: يرفعهما معه، ثم يحطهما بعده، انتهى (¬1). والمرجح عند المالكية؛ كمعتمد المذهب: أنه يرفع يديه مع التكبير، وينتهي بانتهائه (¬2)، وهو الذي صححه النووي من الشافعية في "شرح المهذب" (¬3)، ونقله عن نص الشافعي (¬4)، وصحح في "الروضة" تبعاً لأصلها: أنه لا حد لانتهائه (¬5). وحكمته: ما ذكرناه من النفي والإثبات. وقيل: الحكمة في اقترانها: أن يراه الأصم، ويسمعه الأعمى. وقيل: الإشارة إلى طرح الدنيا، والإقبال بكليته على العبادة. وقيل: إلى الاستسلام والانقياد؛ ليناسب فعلُه قولَه: الله أكبر (¬6)، أو لاستعظام ما دخل فيه. وقيل: إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 361). (¬2) انظر: "حاشية الدسوقي" (1/ 247). (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 251). (¬4) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 200). (¬5) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 231). (¬6) قال القرطبي في "المفهم" (2/ 20): هذه أنسبها.

وقيل: ليستقبل بجميع بدنه. وقال الربيع: قلت للشافعي: ما معنى رفع اليدين؟ قال: تعظيم الله، واتباع سنة نبيه (¬1). ونقل ابن عبد البر، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه قال: رفع اليدين من زينة الصلاة (¬2). [وعن عقبة بن عامر قال:] بكل رفعٍ عشر حسناتٍ، بكل أصبع حسنة (¬3). وقال أبو حفص من أئمة مذهبنا: يجعل المصلي يديه حذو منكبيه، وإبهاميه عند شحمة أذنيه؛ جمعاً بين الأخبار. وقاله في "التعليق" -يعني: القاضي أبا يعلى-. قال: وإن اليد إذا أطلقت، اقتضت الكف، وإن الإمام أحمد أومأ إلى هذا الجمع، وهو تحقيق مذهب الشافعي. قال في "الفروع": ولعل المراد: مكشوفتان، فإنه أفضل هنا، وفي الدعاء. قال: ورفعهما إشارة إلى رفع الحجاب بينه وبين ربه، كما أن السبابة إشارة إلى الوحدانية، ذكره ابن شهاب، انتهى (¬4). وقال الإمام النووي في "شرح مسلم": أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام. وحكي وجوبه عند تكبيرة الإحرام عن داود، وبه قال أحمد بن [سيَّار] (¬5) من أصحابنا، انتهى (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 201)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 82). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (4/ 83). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 218). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 361). (¬5) في الأصل: "يسار"، والتصويب من "شرح مسلم" للنووي. (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 95).

واعترض عليه: بأن مالكاً لا يرى استحبابه، كما في رواية عنه، نقله صاحب "التبصرة" منهم، وحكاه الباجي عن كثير من متقدميهم. وأسلم العبارات قول ابن المنذر: لم يختلفوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة (¬1). وقول ابن عبد البر: أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة (¬2). وممن قال بوجوب رفع اليدين أيضاً: الأوزاعي، والحميدي شيخ البخاري، وابن خزيمة، قاله في "الفتح"، قال: وحكاه القاضي حسين، عن الإمام أحمد (¬3). قلت: ولم يحكه عنه في "الإنصاف" مع التزامه ذكر الخلاف، والله أعلم. فائدة: قال ابن عبد البر: كل من نقل عنه الإيجاب لا يبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي، والحميدي شيخ البخاري (¬4). قال في "الفتح": ونقل بعض الحنفية عن أبي حنيفة: يأثم تاركه. ونقل ابن خزيمة: أنه ركن، واحتج ابن حزم بمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك (¬5)، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬6)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه إذا كبر للركوع (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "المنتقى في شرح الموطأ" لأبي الوليد الباجي (2/ 119). (¬2) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 408). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 219). (¬4) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 411). (¬5) انظر: "المحلى" لابن حزم (3/ 234). (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 219).

قال الإمام ابن القيم: في "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ": كان - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه إذا كبر للركوع إلى أن يحاذي بهما فروع أذنيه، كما رفعهما في الاستفتاح، صح عنه ذلك، كما صح عنه التكبير للركوع (¬1). ونقل البخاري عقب هذا الحديث، عن شيخه علي بن المديني، قال: حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع، والرفع منه؛ لحديث ابن عمر هذا (¬2). (و) كان - صلى الله عليه وسلم - (إذا رفع رأسه) الشريف (من الركوع) مكبراً، (رفعهما)؛ أي: يديه (كذلك)؛ أي: كما رفعهما عند تكبيرة افتتاح الصلاة التي هي تكبيرة الإحرام. وقد صنف الإمام البخاري في هذه المسألة جزءاً مفرداً، وحكى فيه عن الحسن، وحميد بن هلالٍ: أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال البخاري: ولم يستثن الحسن أحداً. وقال محمد بن نصر المروزي: اجتمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك، إلا أهل الكوفة. وقال ابن عبد [البر] (¬3): لم يرو أحدٌ عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن القاسم، والذي نأخذ به الرفع على حديث ابن عمر، وهو الذي رواه ابن وهب وغيره عن مالك (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -) لابن القيم (ص: 233 - 234). (¬2) وهذا في رواية ابن عساكر، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 220)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬3) في الأصل: "الحكم"، والتصويب من "فتح الباري" لابن حجر (2/ 220). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (9/ 213)، و"الاستذكار" له أيضًا (1/ 408).

ولم يحك الترمذي عن مالك غيره (¬1). ونقل الخطابي (¬2)، وتبعه القرطبي في "المفهم" (¬3): أنه آخر قولي مالكٍ، وأصحهما. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى المصرية": رفع اليدين عند الركوع والاعتدال عنه، لم يعرفه أكثر فقهاء الكوفة؛ كإبراهيم النخعي، وأبي حنيفة، والثوري، وغيرهم. وأما أكثر فقهاء أهل الأمصار، وعلماء الآثار، فإنهم عرفوا ذلك، بما استفاضت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ كالأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وهو إحدى الروايتين عن مالك. فإنه قد ثبت في "الصحيحين"، من حديث ابن عمر، وغيره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك بين السجدتين (¬4). وثبت هذا في الصحيح من حديث مالك بن الحويرث (¬5)، ووائل بن حجر (¬6)، وأبي حميد الساعدي، في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أحدهم أبو قتادة (¬7). قال: وهو معروف من حديث علي بن أبي طالب (¬8)، ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الترمذي" (2/ 37). (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 193). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 20). (¬4) كما تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) تقدم تخريجه. (¬8) رواه أبو داود (744)، كتاب: الصلاة، باب: (119)، والترمذي (3423)، كتاب: الدعوات، باب: (32)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (864)، =

وأبي هريرة (¬1)، وعدد كثير من الصحابة - رضي الله عنهم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا رأى من يصلي لا يرفع يديه في الصلاة، حَصَبَه (¬2). وقال عقبة بن عامر: له بكل إشارة عشر حسنات (¬3)، انتهى (¬4). وقال الإمام أحمد: رفع اليدين من تمام الصلاة، فمن رفع يديه أتمُّ صلاةً ممن لم يرفع يديه. وقال محمد بن سيرين: رفع اليدين من تمام صحتها (¬5)، وحكي عنه: أن من تركه، أعاد. وقال الإمام أحمد مرة: لا أدري. قال القاضي: إنما توقف على نحو ما يقوله ابن سيرين، ولم يتوقف على التمام الذي هو تمام فضيلة أو سنة. وقال الإمام أحمد عن رفع اليدين: من تركه، فقد ترك السنة. وقال له المروذي: من ترك الرفع يكون تاركاً للسنة؟ قال: لا نقول هكذا، ولكن نقول: راغب عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال القاضي: إنما هذا على طريق الاختيار في العبارة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - سمى ¬

_ = كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. (¬1) رواه أبو داود (738)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، وابن ماجه (860)، كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 289). (¬3) تقدم ذكره. وانظر: "التمهيد" لابن عبد البر (9/ 225). (¬4) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 448). (¬5) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود" (ص: 50).

تارك السنة: راغباً عنها، فَأَحَبَّ اتباعَ لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلا، فالراغب -في التحقيق- هو التارك. وقال الإمام أحمد لمحمد بن موسى: لا ينهاك عن رفع اليدين إلا مبتدع، فقد فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والكوفيون حجتهم: أن عبد الله بن مسعود لم يكن يرفع يديه، وهم معذورون قبل أن تبلغهم السنة الصحيحة، فإن عبد الله بن مسعود هو الفقيه الذي بعثه عمر بن الخطاب ليعلم أهل الكوفة السنة، لكن لقد حفظ الرفع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير من الصحابة- رضوان الله عليهم-. وابن مسعود لم يصرح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع إلا أول مرة، لكنهم رأوه يصلي ولا يرفع إلا أول مرة، والإنسان قد ينسى وقد يذهل، وقد خفي عن ابن مسعود نسخ التطبيق في الصالأة، فكان يصلي، وإذا ركع، طبق بين يديه، كما كانوا يفعلون ذلك أول الإسلام (¬2)، ثم نسخ التطبيق، وأمروا بالرُّكَب (¬3)، وهذا لم يحفظه ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬4). وأما حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه عند الافتتاح، ثم لا يعود، أخرجه أبو داود (¬5)، فرده الإمام الشافعي بأنه لم ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 379). (¬2) رواه مسلم (534)، كتاب: المساجد ومواضح الصلاة، باب: الندب إلى وضح الأيدي على الركب في الركوع ونسخ التطبيق. (¬3) رواه مسلم (535)، كتاب: المساجد ومواضح الصلاة، باب: الندب إلى وضح الأيدي على الركب في الركوع ونسخ التطبيق، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 448 - 449). (¬5) رواه أبو داود (748)، كتاب: الصلاة، باب. من لم يذكر الرفع عند الركوع، =

يثبت، قال: ولو ثبت، لكان المثبت مقدماً على النافي (¬1). وقد صححه بعض أهل الحديث، لكنه استدل به على عدم الوجوب. والطحاوي (¬2): إنما نصب الخلاف مع من يقول بوجوبه؛ كالأوزاعي، وبعض أهل الظاهر (¬3). وقد نسب بعض المغاربة فاعل رفع اليدين إلى البدعة، وعبارة ابن دقيق العيد: لما ظهر لبعض متأخري فضلاء المالكية قوة الرفع في الأماكن الثلاث على حديمث ابن عمر، اعتذر عن تركه في بلاده، وقال: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رفع يديه في الركوع، والرفع منه، ثبوتاً لا مردَّ لصحته، فلا وجه للعدول عنه، إلا أنَّ في بلادنا هذه يستحب للعالم تركُه؛ لأنه إن فعله، نسب إلى البدعة، وتأذَّى به في عرضه، وربما تعدت الأذية إلى بدنه، ووقاية البدن والعرض بتركه سنةً واجبٌ في الدين، انتهى (¬4). وقد قال البخاري في "جزء رفع اليدين": من زعم أنه بدعة، فقد طعن في الصحابة؛ فإنه لم يثبت عن أحدٍ منهم تركُه، قال: والأسانيد أصح من أسانيد ترك الرفع. وذكر البخاري أيضاً: أنه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة. ¬

_ = بلفظ: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فصلى، فلم يرفع يديه إلا مرة. قال أبو داود: هذا مختصر من حديث طويل، وليس هو بصحيح على هذا اللفظ. (¬1) انظر: "اختلاف الحديث" للإمام الشافعي (ص: 523). (¬2) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 195). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 220). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 221).

وذكر الحاكم (¬1)، وأبو قاسم بن منده (¬2): ممن رواه: العشرة المبشرة. قال في "الفتح": وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ: أنه تتبع من رواه من الصحابة، فبلغوا خمسين رجلاً (¬3)، انتهى (¬4). تنبيه: زعم بعض من لا تحقيق لديه في علوم الآثار: أن النبي المختار - صلى الله عليه وسلم - إنما رفع يديه بسبب المنافقين الذين كانوا يصلون بالأصنام تحت آباطهم، فلما عدم ذلك الآن، لم يستحب رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام، وهذا مع كونه معلوماً عدمُ ثبوته، فهو جهل فاحش. ومن المعلوم أنهم كانوا يرفعون أيديهم مع تكبيرة الإحرام، فكانت تسقط الأصنام لو كانت، ثم إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقرهم على شيء من ذلك أبداً، وهذا لا ينبغي الاشتغال برده؛ لظهور فساده، ولا شك أن الرفع عند الركوع والرفع منه كالرفع عند تكبيرة الإحرام، فعلى من أسقط هذا أن يسقط الآخر، ولهذا لما صلى الإمام الجليل عبد الله بن المبارك بجنب أبي حنيفة - رضي الله عنهما -، فرفع ابن المبارك يديه عند الركوع والرفع منه، قال له أبو حنيفة: تريد أن تطير؟ فقال له ابن المبارك: إن كنت تطير في أول مرة، فأنا أطير في هذه المرة، وإن كنت لا تطير في أول مرة، فأنا لا أطير في هذه المرة، والله الموفق. ¬

_ (¬1) رواه عنه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 74). وانظر: "نصب الراية" للزيلعي (1/ 417). (¬2) في كتاب له سماه: "المستخرج من كتب الناس". انظر: "طرح التثريب" للعراقي (2/ 264). (¬3) انظر: "طرح التثريب" للعراقي (2/ 254). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 220).

(وقال) - صلى الله عليه وسلم - في حال رفعه من ركوعه مع رفع يديه: (سمع الله لمن حمده). قال في "الفروع": معنى سمع -هنا-: أجاب (¬1). وقال ابن دقيق العيد: وقد فسر قوله: "سمع الله لمن حمده": استجاب الله دعاء من حمده (¬2)، (ربنا ولك الحمد) وتقدم الكلام على ذلك، وله قول: "ربنا لك الحمد" بلا واو، وبها أفضل على الأصح، ولَهُ قولُ: "اللهم ربنا ولك الحمد"، وبلا واو أفضل، نص عليه الإمام أحمد، وهو رواية عند مالك (¬3). قال الأثرم: سمدت أحمد يثبت الواو، وفي "ربنا ولك الحمد"، ويقول: ثبتت في عدة أحاديث (¬4). تنبيه: مال الإمام ابن القيم إلى عدم ثبوت الواو في صيغة: "اللهم ربنا ولك الحمد"، وهي في "صحيح البخاري" في رواية الكشميهني (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 378). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 222). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 349). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 282). (¬5) قال ابن القيم في "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " (ص: 207): ولا يهمل أمر هذه الواو في قوله: "ربنا ولك الحمد"، فإنه قد ندب بها في "الصحيحين"، وهي تجعل الكلام في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما؛ فإن قوله: "ربنا" متضمن في المعنى: أنت الرب، والملك القيوم الذي بيديه أَزِمَّة الأمور، وإليه مرجعها، فعطف على هذا المعنى المفهوم مِن قوله: "ربنا" قولَه: "ولك الحمد"، متضمن ذلك معنى قول الموحد: له الملك وله الحمد. قلت: وهذا يخالف ما نقله =

ومعتمد المذهب: الإجزاء بالصيغ الأربع، والله أعلم. (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (لا يفعل ذلك)، يعني: رفع اليدين (في السجود)، أي: لا في الهُوِيِّ إليه، ولا في الرفع منه، وفي البخاري، من حديث ابن عمر: ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود (¬1). وقد روى يحيى القطان، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، هذا الحديث، وفيه: ولا يرفع بعد ذلك، أخرجه الدارقطني في "الغرائب"، بإسنادٍ حسنٍ. وظاهره يشمل النفي عمَّا عدا المواطن الثلاثة. تنبيه: قد ورد الحديث، وصح برفع اليدين إذا قام من الركعتين بعد التشهد عن ابن عمر، واختلف الحفاظ في رفعه، وعلى كل، فهي زيادٌ من ثقةٍ، فعلى من قال بالرفع القولُ بها (¬2). قال ابن خزيمة من الشافعية: هو سنةٌ، وإن لم يذكره الشافعي؛ فالإسناد صحيحٌ (¬3). وقد قال: قولوا بالسنة، ودعوا قولي (¬4). وقال ابن دقيق العيد: قياس نظر الشافعي: أن يستحب الرفع فيه (¬5). ¬

_ = الشارح -رحمه الله- عن ابن القيم من ميله إلى عدم ثبوت الواو. والله أعلم. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 217). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 221). (¬2) قاله الخطابي، كما في "معالم السنن" (1/ 194). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 222 - 223). (¬4) رواه ابن حبان في "صحيحه" (5/ 497)، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص: 109)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (51/ 389). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 220).

قال في "الفتح": وأطلق النووي في "الروضة": أنه نص عليه (¬1)، لكن الذي في "الأم" خلاف ذلك؛ قإنه قال: ولا نأمره أن يرفع يديه في شيءٍ من الذكر في الصلاة التي لها ركوعٌ وسجودٌ إلا في هذه المواضع الثلاثة، يعني: عند الافتتاح، والركوع، والرفع منه (¬2). وأما ما وقع في أواخر "البويطي": يرفع يديه في كل خفضٍ ورفعٍ، فيحمل الخفض على الركوع، والرفع على الاعتدال منه، وإلا فظاهره مخالفٌ لما عليه الجمهور، انتهى (¬3). وفي "الفروع": ثم ينهض في ثلاثيةٍ أو رباعيةٍ مكبراً، ولا يرفع يديه وفاقاً، وعنه: بلى، اختاره صا حب "المحرر" -يعني: المجد-، وحفيده -يعني: شيخ الإسلام-، وهي أظهر، انتهى (¬4). وفي "الفتاوى المصرية" لشيخ الإسلام ابن تيمية: سئل: هل رفع اليدين بعد القيام من الجلسة بعد الركعتين الأُول، مُندوبٌ إليه؟ وهل فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أحد من الصحابة؟ أجاب: نعم، هو مندوب إليه في الصلاة عند محققي العلماء العاملين بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وهو أحد الروايتين عن الإمام أحمد، وقولُ طائفةٍ من أصحابه، وأصحاب الشافعي، وغيرهم. وقد ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في "الصحاح"، و"السنن"؛ ففي "البخاري"، و"سنن أبي داود"، والنسائي، عن نافع: أن ابن عمر- رضي الله عنهما - كان إذا دخل في ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 251). (¬2) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 104). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 223). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 386).

الصلاة، كبر، ورفع يديه، وإذا ركع، رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه، وإذا قام من الركعتين، رفع يديه، ورفع ابن عمر ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ورواه الإمام أحمد، وأبو داود مرفوعاً، وفيه: وإذا قام من الركعتين، رفع يديه كذلك، وكبر (¬2). ورواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح (¬3)، ومثله في حديث أبي حميدٍ الساعدي. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ما جه، والنسائي، والترمذي، وصححه (¬4). فهذه ثلاثة أحاديث صحيحةٍ ثابتةٍ، مع ما في ذلك من الآثار، وليس لها ما يصلح أن يكون معارضاً مقاوماً، فضلاً عن أن يكون راجحاً، والله أعلم (¬5). * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 133)، وتقدم تخريجه عند أبي داود. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 105)، و"مجموع الفتاوي" له أيضاً (22/ 452 - 453).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ؛ عَلَى الجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِه إلى أَنْفِهِ، واليَدَيْنِ، والرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ القَدَمَيْنِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (776، 777)، كتاب: صفة الصلاة، باب: السجود على سبعة أعظم، و (779)، باب: السجود على الأنف، واللفظ له، إلا أنه قال: "على أنفه" بدل "إلى أنفه"، وسيأتي تنبيه الشارح -رحمه الله- عليه، و (782)، باب: لا يكف شعراً، و (783)، باب: لا يكف ثوبه في الصلاة، ومسلم (490)، (227 - 231)، كتاب: الصلاة، باب: أعضاء السجود ووأبو داود (889، 890)، كتاب: الصلاة، باب: أعضاء السجود، والنسائي (1093)، كتاب: التطبيق، باب: على كم السجود، و (1096)، باب: السجود على الأنف، و (1097)، باب: السجود على اليدين، و (1098)، باب: السجود على الركبتين، و (1113)، باب: النهي عن كف الشعر في السجود، و (1115)، باب: النهي عن كف الثياب فى السجود، والترمذي (273)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في السجود على سبعة أعضاء، وابن ماجه (883، 884)، كتاب: الصلاة، باب: السجود. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 71)، و"إكمال، المعلم" للقاضي عياض (2/ 404)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 94)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 206)، "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 223)، =

(عن) حبر هذه الأمة (عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت) بضم الهمزة في جميع الروايات بالبناء لما لم يُسم فاعله، والمراد به: الله -جل جلاله-. (أن أسجد) قال ابن الأنباري: السجود يرد لمعانٍ؛ منها: الانحناء والميل، من قولهم: سجدت الدابة، وأسجدت: إذا خفضت رأسها لتركب، ومنها: الخشوع والتواضع، ومنها: التحية. قال الجوهري: سجد: خضع، ومنه سجود الصلاة (¬1)، قاله في "المطلع" (¬2). وفي "القاموس": سجد: خضع، وانتصب، ضد، وأسجد: طأطأ رأسه، وانحنى. ثم قال: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58]؛ أي: ركعاً، انتهى (¬3). قال الإمام ابن القيم: شرع السجود على أكمل الهيئات وأبلغها في العبودية، وأعمها لسائر الأعضاء، بحيث يأخذ كل جزءٍ من البدن بحظه من العبودية. قال: والسجود سر الصلاة، وركنها الأعظم، وخاتمة الركعة، وما قبله ¬

_ = و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 464)، "فتح الباري" لابن رجب (15/ 13)، "فتح الباري" لابن حجر (2/ 296)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 89)، و"فيض القدير" للمناوي (2/ 191)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 181)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 287). (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 483)، (مادة: سجد). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 77). (¬3) انظر: "القاموس المحيط " للفيروزأبادي (ص: 366)، (مادة: سجد).

من الأركان كالمقدمات له، فهو شبه طواف الزيارة في الحج، فإنه مقصود الحج، ومحل الدخول على الله تعالى وزيارته، وما قبله كالمقدمات له. قال: ولهذا "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجدٌ" (¬1)، وأفضل أحواله حالٌ يكون فيها أقرب إلى الله؛ ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب إلى الإجابة. ولما خلق الله -سبحانه- العبد من الأرض، كان جديراً بألا يخرج عن أصله، بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع والنفس بالخروج عنه؛ فإن العبد لو ترك وطبعه ودواعي نفسه، لتكبر وأشر، وخرج عن أصله الذي خلق منه، وتوثب على حق ربه من الكبرياء والعظمة، فنازعه إياهما، فأمر بالسجود خضوعاً لعظمة ربه وفاطره، وخشوعاً له، وتذللاً بين يديه، وانكساراً له، فيكون هذا الخشوع والخضوع والتذلل راداً له إلى حكم العبودية، ويتدارك به ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض الذي خرج به عن أصله، فيمثل له حقيقة التراب الذي خلق منه، فيضع أشرف شيء منه وأعلاه، وهو الوجه فيه، وقد صار أعلاه، أسفله، خضوعاً بين يدي ربه الأعلى، وخشوعاً له، وتذللاً لعظمته، واستكانة لعزته، وهذا غاية خشوع الظاهر؛ فإن الأرض التي خلق منها مذللةٌ للوطء بالأقدام، وقد استعمره فيها، ورده إليها، ووعده بالإخراج منها، فهي أمه وأبوه، وأصله وفصله وعنصره، تضمه حياً على ظهرها، وميتاً في بطنها، وجعلت طهوراً له ومسجداً، فأمر بالسجود الذي هو غاية خشوع الظاهر، وأجمع العبودية لسائر الأعضاء (¬2). ¬

_ (¬1) فيما رواه مسلم (482)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " لابن القيم (ص: 209 - 210).

ولهذا قال خلاصة العالم - صلى الله عليه وسلم -: (على سبعة أعظم). وفي لفظ عندهما: "سبعة أعضاءٍ" (¬1). وفي روايةٍ عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سجد العبد، سجد معه سبعة آراب .. " الحديث، رواه الجماعة إلا البخاري (¬2). و"الآراب":-بالمد-: جمع إرب -بكسر أوله وإسكان ثانيه-: العضو (¬3). سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - كل واحدٍ من هذه الأعضاء عظماً باعتبار الجملة، وإن اشتمل كل واحدٍ منها على عظام، ويجوز أن يكون من باب تسمية الجملة باسم بعضها (¬4). ثم فصل السبعة أعضاء بإعادة حرف الجر تأكيداً، فقال: (على الجبهة) بدأ بها؛ لأنها الأصل، ولهذا لو عجز عن السجود بالجبهة، لم يلزم بغيرها، وأومأ ما أمكنه، وسقط لزوم باقي الأعضاء تبعاً لها، على معتمد المذهب، وفاقاً لمالك (¬5). ¬

_ (¬1) هو لفظ البخاري فقط دون مسلم، وقد تقدم تخريجه عنده برقم (776). (¬2) رواه مسلم (491)، كتاب: الصلاة، باب: أعضاء السجود، وأبو داود (891)، كتاب: الصلاة، باب: أعضاء السجود، والنسائي (1099)، كتاب: التطبيق، باب: السجود على القدمين، والترمذي (272)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في السجود على سبعة أعضاء، وابن ماجه (885)، كتاب: الصلاة، باب: السجود، لكن من حديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 36). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 223). (¬5) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 351).

(وأشار - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى أنفه) بلفظة "إلى"، كما في بعض النسخ من رواية كريمة، وفي رواية ابن طاوس: وأشار بيده على أنفه، كأنه ضمن أشار معنى أمرَّ -بتشديد الراء-، فلذلك عداه بـ"على" دون "إلى". وعند النسائي من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي طاوس، فذكر هذا الحديث، وقال في آخره: قال ابن طاوس: ووضع يده على جبهته، وأمرَّها على أنفه، وقال: هذا واحدٌ (¬1). فهذه رواية مفسرهٌ (¬2). قال القرطبي: هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود، والأنف تبع (¬3). ونظر فيه ابن دقيق العيد؛ لأنه يلزم منه أن يكتفى بالسجود على الأنف، كما يكتفى بالسجود على بعض الجبهة. وقد احتج بهذا لأبي حنيفة في الاكتفاء بالسجود على الأنف. قال: والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة، وإن أمكن أن يعتمد أنها كعضوٍ واحدٍ، وذلك في التسمية والعبارة، لا في الحكم الذي دل عليه الأمر (¬4). ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزىء السجود على الأنف وحده. وذهب الجمهور إلى أنه يجزىء على الجبهة وحدها. ومعتمد مذهب الإمام أحمد: يجب الجمع بينهما، وهو مذهب ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (1098) عنده. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 296). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 94). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 224).

الأوزاعي، وإسحاق، وقول ابن حبيب من المالكية، وغيرهم. قال في "الفتح": وهو قول الإمام الشافعي (¬1). (واليدين) وهما العضو الثاني والثالث من أعضاء السجود، والمراد بهما: الكفان؛ لئلا يدخل تحت المنهي عنه من افتراش السبع والكلب (¬2). ووقع بلفظ: "الكفين" في رواية حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عند مسلم (¬3). (والركبتين): تثنية رُكبةٍ -بالضم-، وهي ما بين أسافل أطراف الفخذ وأعالي الساق (¬4). وهما: الرابع والخامس من أعضاء السجود. (وأطراف): جمع طرفٍ، وهو منتهى (القدمين) تثنية قدمٍ، وهي مؤنثةٌ، وهما السادس والسابع من أعضاء السجود. قال ابن المنير: المراد: أن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما، وعقباه مرتفعتان، فيستقبل بظهور قدميه القبلة (¬5). تنبيهات: الأول: ظاهر هذا الحديث -كغيره من الأحاديث الصحيحة الصريحة-: وجوبُ السجود على هذه الأعضاء المذكورة؛ لأن الأمر للوجوب، وهذا مذهبنا كالمالكية، ومعتمد قول الشافعية -خلا الأنف عندهم-. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 296 - 297). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 225). (¬3) تقدم تخريجه عنده برقم (490/ 227). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 117)، (مادة: ركب). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 295).

وقال أبو حنيفه: لا يجب السجود إلا على الجبهة -يعني: مع الأنف-. وعن الشافعي: فيما عدا الجبهة قولان (¬1). ولا يخفى قوة دليلنا ومن وافقنا على من لم يقل بذلك؛ ولهذا قال ابن دقيق العيد: لم أر من لم يقل بوجوب ذلك عارضه بدليل قوي؛ فإنه استدل لعدم الوجوب بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث رفاعة: "ثم يسجد، فيمكن جبهته" (¬2). وغاية هذا: أن يكون دلالة مفهوم لقب، أو غاية، ودلالة المنطوق الدالة على وجوب السجود على هذه الأعضاء مقدمة. وأضعفُ من هذا: ما استدل به على عدم الوجوب من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته" (¬3). قالوا: فأضاف السجود إلى الوجه، ولا ريب: أنه لا يلزم من ذلك انحصار السجود فيه. وأضعف من هذا: زعمُهم بأن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة؛ فإن هذا -مع كونه قياساً في معارضة نص-، فقد دل الحديث على إثبات زيادة على المسمى، فلا تترك (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 407). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (4525)، والحاكم في "المستدرك" (881)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 102)، وابن الجارود في "المنتقى" (194). (¬3) رواه أبو داود (1414)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا سجد، والنسائي (1129)، كتاب: التطبيق، باب: نوع آخر، والترمذي (3425)، كتاب: الدعوات، باب: ما يقول في سجود القرآن، وقال: حسن صححِح، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 30)، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 223 - 224).

ولا تخفى أرجحية الوجوب على مُنصف، قال في "الفتح": والذي يظهر: أن الأحاديث الواردة في الاقتصار على الجبهة، لا تعارض الحديث المنصوص فيه على الأعضاء السبعة. بل الاقتصار على الجبهة؛ إما لكونها أشرفَ الأعضاء المذكورة، أو أشهرَها في تحصيل هذا الركن، فليس فيها ما ينفي الزيادة التي في غيرها، والله الموفق (¬1). الثاني: قال في "الفروع": ويخر ساجداً، فيضع ركبتيه ثم يديه، وفاقاً لأبي حنيفة، والشافعي. وعنه: عكسه؛ وفاقاً لمالك، ثم جبهته وأنفه. قال: وسجوده عليها -يعني: الأعضاء المذكورة-، وعلى قدميه، ركنٌ مع القدرة، اخمْاره الأكثر. وعنه: إلا الأنف، اختاره جماعة. ومذهب الحنفية: أن وضع القدمين فرض في السجود، لتحقق السجود، وإن عجز بالجبهة، أومأ ما أمكنه، وفاقاً لمالك. وقيل: يلزم السجود بالأنف؛ وفاقاً لأبي حنيفة، والشافعي، وإن قدر بالوجه، تبعه بقية الأعضاء، وإن عجز به، لم يلزمه بغيره، خلافاً لتعليق القاضي؛ لأنه لا يمكن وضعه بدون بعضها، ويمكن رفعه بدون شيءٍ منها، ولا يلزم بجزء بدل الجبهة مطلقاً، خلافاً لأبي حنفية، وخالفه صاحباه، ويجزىء بعض العضو، لابعضها فوق بعض، على الصحيح المعتمد، ومباشرة المصلي بشيء منها -أي: أعضاء السجود- ليس ركناً في ظاهر المذهب؛ وفاقاً لأبي حنيفة، ومالك. نعم، يكره عدم ذلك لغير عذر، والله تعالى الموفق (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 297). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 380).

الثالث: قال الإمام ابن القيم في حكمة السجود: إنه يعفر وجهه في التراب استكانةً، وتواضعاً، وخضوعاً، وإلقاء باليدين. ولذا قال مسروقٌ لسعيد بن جبير: يا سعيد! ما بقي شيءٌ نرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في هذا التراب له (¬1). وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يتقي الأرض بوجهه قصداً، بل إذا اتفق له ذلك، فعله، ولذلك سجد في الماء والطين (¬2)، ولهذا كان من كمال السجود الواجب أن يسجد على الأعضاء السبعة، فهذا الذي أمر الله به رسولَه، وبلَّغه الرسولُ لأمته. ومن كماله المستحب أو الواجب: مباشرة مصلاه بأديم وجهه، واعتماده على الأرض؛ بحيث ينالها ثقل رأسه، وارتفاع أسافله على أعاليه، فهذا من تمام السجود. ومن كماله: أن يكون على هيئة يأخذ كل عضوٍ من البدن بحظه من الخضوع، فيقل بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويجافي عضديه عن جنبيه، ولا يفرشهما على الأرض؛ ليستقل كل عضوٍ منه بالعبودية. ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجداً لله، اعتزل ناحيةً يبكي ويقول: يا ويله! أُمر ابنُ آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأُمرت بالسجود ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 80)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 96)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (57/ 423). (¬2) رواه البخاري (638)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: هل يصلي الإمام بمن حضر، وهل يخطب يوم الجمعة في المطر؟ ومسلم (1167)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، والحث على طلبها، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

فعصيت، فلي النار (¬1)، ولذلك أثنى -جل ذكره وتقدست أسماؤه- على الذين يخرون له سجداً عند سماع كلامه، وذم من لا يقع ساجداً. ولما علمت السحرة صدقَ موسى، وكذبَ فرعون، خروا سجداً لربهم، فكانت تلك السجدة أول سعادتهم وغفران ما أفنوا فيه أعمارهم من السحر. ولما كانت العبودية غاية كمال الإنسان وقربه من الله تعالى بحسب نصيبه من عبوديته، وكانت الصلاة جامعة لمتفرق العبودية، متضمنةً لأقسامها، كانت أفضل أعمال العبد، ومنزلتها من الإسلام بمنزلة عمود الفسطاط منه، وكان السجود أفضل أركانها الفعلية، وسرَّها الذي شرعت لأجله، وكان تكرره في الصلاة أكثر من تكرر سائر الأركان، وجعل خاتمة الركعة وغايتها، وشرع فعله بعد الركوع؛ فإن الركوع توطئة له، ومقدمة بين يديه، وشرع فيه من الثناء على الله ما يناسبه، وهو قول العبد: سبحان ربي الأعلى (¬2)، كما يأتي. وقال الحافظ ابن رجب في كتابه "الذل والانكسار للعزيز الجبار": السجود أعظم ما يظهر فيه ذل العبد لربه- عز وجل-؛ حيث جعل العبد أشرف ما له من الأعضاء، وأعزها عليه، وأعلاها حقيقةً، أوضعَ ما يمكنه، فيضعه في التراب متعفراً، ويتبع ذلك انكسار القلب، وتواضعه، وخشوعه لله- عز وجل-. ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك: أن يقربه الله إليه، فإن "أقرب ¬

_ (¬1) رواه مسلم (81)، كتاب: الإيمان، باب: بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -" لابن القيم (ص: 210 - 212).

ما يكون العبدمن الله وهو ساجدٌ" (¬1)، كما صح ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]؛ ولهذا كان يأنف منه المشركون المستكبرون عن عبادة الله -عز وجل-، وكان يقول بعضهم: أكره أن أسجد، فتعلوني استي؛ فكأن العبد المؤمن يقول -حال سجوده-: العز والكبرياء، والعظمة والتقديس وصفك، والذل والانكسار، والتواضع والافتقار وصفي. ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال ليلةً في سجوده: "أقولُ كما قال أخي داود - عليه السلام -: أعفرُ وجهي في الترابِ لسيدي، وحُق لوجهِ سيدي؛ أن تُعَفَّرَ الوجوهُ لوجْهِهِ" (¬2)، والله أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (3838)، وفي "فضائل الأوقات" (27)، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) انظر: "الذل والانكسار" لابن رجب (1/ 304 - 305) من "مجموع رسائل الحافظ ابن رجب".

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ إلى الصَّلاَةِ، يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكعُ، ثُمَّ يَقُولُ: "سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ" حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكعَةِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُو قَائِمٌ: "رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ"، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ في صَلاَتِهِ كُلِّهَا، حَتَّى يَقْضِيَهَا، ويُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الجُلُوسِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (756)، كتاب: صفة الصلاة، باب: التكبير إذا قام من السجود، واللفظ له، و (762)، باب: ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع، و (770 - 771)، باب: يهوي بالتكبير حين يسجد، ومسلم (392)، (27 - 32)، كتاب: الصلاة، باب: إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة إلا رفعه من الركوع، وأبو داود (836)، كتاب: الصلاة، باب: تمام التكبير، والنسائي (1023)، كتاب الافتتاح، باب: التكبير للركوع، وابن ماجه (875)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 266)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 22)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 97)، "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 226)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 468)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 43، 71)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 272)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 61)، و"سبل السلام " للصنعاني =

(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي (- رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة، يكبر حين يقوم) يعني: تكبرة الافتتاح التي هي تكبيرة الإحرام، وهي ركن من أركان الصلاة، لا يُدْخَل في الصلاة إلا بها؛ بأن يقول في حال قيامه: الله أكبر، مرتباً، وعن الحنفية: بكل لفظ يُقصدُ به التعظيم؛ كما تقدم. (ثم) كان - صلى الله عليه وسلم - (يكبر) -أي: يقول: الله أكبر- (حين يركع)، وفي رواية عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال: أنا أشبهكم صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان يكبر إذا ركع (¬1) (ثم يقول) - صلى الله عليه وسلم - بعد إتيانه بالذكر المشروع في حال الركوع، وهو: سبحان ربي العظيم؛ كما سنبينه: (سمع الله لمن حمده). وفي لفظ: كان - صلى الله عليه وسلم - يكبر حين يقوم، ثم [يكبر] (¬2) حين يركع. ثم يقول: سمع الله لمن حمده (حين يرفع) - صلى الله عليه وسلم - (صلبه) -بضم الصاد المهملة، وسكون اللام-: عظم من لدن الكاهل إلى العجب، ويقال له: صالب (¬3)، والمراد به: ظهره - صلى الله عليه وسلم -. (من الرَّكعة، ثم يقول وهو قائم)؛ أي: حال قيامه معتدلاً. (ربنا ولك الحمد) بإثبات الواو في أكثر الروايات، ويكون قوله: "ربنا" متعلقاً بما قبله؛ أي: سمع الله لمن حمده، يا ربنا فاستجب، ولك الحمد على ذلك (¬4)؛ كما تقدم. ¬

_ = (1/ 179)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 277). (¬1) رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (5949). (¬2) في الأصل: "يسر" بدل "يكبر"، ولا وجه لها هنا، والله أعلم، وقد تقدم في لفظ البخاري ومسلم معاً. (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 135)، (مادة: صلب). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 121).

وفي "صحيح مسلم"، من حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع ظهره من الركوع، قال: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد" (¬1). وفيه: من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم ربنا لك الحمد"، وقال: "ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما بينهما" (¬2). وفيه: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع، قال: "ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (¬3). قال في "الفروع": أي حمداً، لو كان أجساماً، لملأ ذلك (¬4). (ثم) كان - صلى الله عليه وسلم - (يكبر) أي: يقول الله أكبر (حين يهوي). فالتكبيرُ ذكرُ الهُوِيُّ، فيبتدىء به من حين يشرع في الهُوَي ساجداً. والهُوِيُّ: السقوط؛ وهو بالفتح والضم، يقال: هوى الشيء هوياً، وهوياناً: سقط من علو إلى أسفل، وقيل: الهَوي -بالفتح- للإصعاد، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (476)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. (¬2) رواه مسلم (478)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. (¬3) رواه مسلم (477)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع. (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 378).

والهُوي -بالضم- الانحدار؛ كما في "القاموس" (¬1). قال الزين بن المنير: رُويناه بالفتح، وضبطه بعضهم بالضم، والفتح أرجح (¬2)، قال في "الفتح": وقع في روايتنا بالوجهين (¬3). (ثم) كان - صلى الله عليه وسلم -، (يكبر حين يرفع رأسه) من السجود، (ثم يكبر حين يسجد) السجدة الثانية؛ وذلك أنه لما شرع السجود بوصف التكرار، لم يكن بد من الفصل بين السجدتين؛ ففصل بينهما بركن مقصود، شمرع فيه من الدعاء ما يليق به، ويناسبه؛ وهو سؤال المغفرة -كما يأتي بيانه-، فجعل جلوس الفصل بين السجدتين محلاً لهذا الدعاء؛ لما تقدمه من حمد لله، والثناء عليه، والخضوع له، فكان هذا وسيلة للداعي، ومقدمة بين يدي حاجته، فجثا على ركبتيه؛ متمثلاً في خدمة مولاه، ملقياً نفسه الأمارة بالسوء بين يديه، راغباً فيما لديه، راهباً مما جنى عليها، معتذراً إليه (¬4). (ثم يكبر حين يرفع رأسه) من السجدة الثانية، (ثم) كان - صلى الله عليه وسلم -، (يفعل) مثل (ذلك)؛ يعني: أنه يكبر، عند ابتداء كل ركوع، وعند الرفع منه، وعند ابتداء كل سجود، وعند الرفع منه، فيكون التكبير مقارناً لأول ذلك الفعل؛ من الانتقالات من حال إلى أخرى. (في صلاته) فرضاً كانت، أو نفلاً، جماعة، أو لا؛ ولهذا قال: (كُلِّها) تأكيداً، ليفيد الشمول والإحاطة بسائر صلاته - صلى الله عليه وسلم -، ([حتَّى يقضيَه]). ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1735)، (مادة: هوي). (¬2) في "الفتح" (2/ 291)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-: "قال ابن التين" بدل "الزين بن المنير". (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 291). (¬4) انظر: "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " لابن القيم (ص: 212 - 213).

(و) كان - صلى الله عليه وسلم - (يكبر حين يقوم من الثنتين) من الصلاة بأن كانت الصلاة ثلاثية؛ كالمغرب، أو رباعية: كالظهر (بعد الجلوس). وفي لفظ: ثم يكبر حين يقوم من الجلوس في الثنتين (¬1)، فيَشرع في التكبير من حين ابتداء القيام في الثالثة، بعد التشهد الأول، خلافاً لمن قال: لا يكبر حتى يستوي قائماً. ومن تراجم البخاري: باب: يكبر وهو ينهض من السجدتين (¬2). قال في "الفتح": ذهب أكثر العلماء إلى أن المصلي يشرع في التكبير، أو غيره؛ عند-أي: مع- ابتداء الخفض، أو الرفع، إلا أنه اخُتلف على مالكٍ في القيام إلى الثالثة من التشهد الأول، فروى في "الموطأ"، عن أبي هريرة، وابن عمر، وغيرهما: أنهم كانوا يكبرون، في حال قيامهم (¬3)، ورَوَى ابن وهبٍ عنه: أن التكبير بعد الاستواء أولى. وفي "المدونة": لا يكبر حتى يستوي قائماً (¬4). ووَجَّهه بعض أتباعه: بأن تكبيرة الافتتاح، تقع بعد القيام، فينبغي أن يكون هذا نظيره؛ من حيث إن الصلاة فرضت أولاً ركعتين، ثم زيدت الرباعية؛ فيكون افتتاح المزيد كافتتاح المزيد عليه. قال في "الفتح": وكان ينبغي لصاحب هذا الكلام أن يستحب رفع اليدين حينئذٍ؛ لتكمل المناسبة، ولا قائل منهم به (¬5). * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (770) عنده. (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (1/ 283). (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 76). (¬4) انظر: "المدونة الكبرى" لابن القاسم (1/ 70). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 304).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنا وعِمْرانُ بنُ حُصَين، فَكَانَ إذَا سَجَدَ، كبَّرَ، وَإذَا رَفَعَ رَأْسَه، كبَّرَ، وَإذَا نَهَضَ مِن الرَّكْعَتَيْنِ، كبَّرَ؛ فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ، أَخَذَ بيَدِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، فقَالَ: قَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلاَةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، أَوْ قَالَ: صَلَّىَ بِنَا صَلاَةَ مُحْمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * * * (عن) أبي عبد الله (مُطَرِّف) -بضم الميم، وفتح الطاء المهملة، وكسر ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (751)، كتاب: صفة الصلاة، باب: إتمام التكبير في الركوع، و (753)، باب: إتمام التكبير في السجود، واللفظ له، و (792)، باب: يكبر وهو ينهض من السجدتين، ومسلم (393)، كتاب: الصلاة، باب: إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، وأبو داود (835)، كتاب: الصلاة، باب: تمام التكبير، والنسائي (1082)، كتاب: التطبيق، باب: التكبير. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 227)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 471)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 40، 149)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 271)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 59). وانظر: مصادر شرح الحديث السابق.

الراء المشددة، ثم فاء- (بن عبد الله) بنِ الشخِّير -بكسر الشين، وتشديد الخاء المعجمتين- بنِ عونِ بنِ عوفِ بنِ كعبٍ، العامريِّ الحوشيِّ، نسبة إلى بني الحَرِش -بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء، وبالشين المعجمة-، وهم بطن من بني عامر بن صعصعة. ومطرف هذا: تابعي، فقيه، ثقة، له فضل، وورع، وعقل، وأدب، ولوالده عبد الله - رضي الله عنه - صحبةٌ، وفدَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في بني عامر. روى عن: أبي ذر، وعثمان بن أبي العاص، وعمران بن حصين. وروى عنه: علي بن زيد، والحسن البصري، وقتادة. قال ابن الأثير: مات بعد السبع وثمانين. وقال النووي: توفي مطرف بن عبد الله، سنة خمس وتسعين من الهجرة؛ وكذا ذكره الحافظ الربعي، عن ابن المديني، ومشى عليه الذهبي، روى له الجماعة (¬1). نقل البرماوي، قال: وقع بين مطرف وبين رجل كلام، فكذب عليه، فقال مطرف: اللهم إن كان كاذباً، فأمته؛ فخر مكانه ميتاً، فرفع ذلك إلى زياد؛ فقال: قتلت الرجل، قال: لا، ولكنها دعوة وافقت أجلاً (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 141)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 396)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 429)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (58/ 289)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 67)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 187)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضاً (1/ 64)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 260)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (10/ 157). (¬2) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 189).

(قال) مصرف: (صليت خلف علي بن أبي طالب)، أمير المؤمنين (- رضي الله عنه - أنا، وعمران بن حصين) صاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عن عمران-. ولفظ "الجمع بين الصحيحين"، للحافظ عبد الحق: صليت أنا، وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (¬1)، وهو أنسب. وكانت هذه الصلاة بالبصرة بعد وقعة الجمل. ووقع عند الإمام أحمد، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن غيلان: بالكوفة (¬2)؛ وكذا لعبد الرزاق (¬3)، وغير واحد؛ فيحتمل أن يكون وقع منه بالبلدين (¬4). (فكان) الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (إذا سجد كبَّر) للانتقال، (و) كان (إذا رفع رأسه) من السجود، (كبر)، (و) كان (إذا نهض)؛ أي: قام، يقال: نهض؛ كمنع نهضاً ونهوضاً: قام (¬5) (من الركعتين) بعد التشهد الأول (كبر) عند نهوضه؛ للانتقال من حالة إلى أخرى، (فلما قضى) الإمام علي بن أبي طالب الهمام (الصلاة)، قال مطرف: (أخذ بيدي عمران بن حصين) - رضي الله عنه -، (فقال): (قد) وفي لفظ: لقد (¬6)، وكل منهما جواب قسم مقدر (ذكرني) -بتشديد الكاف، وفتح الراء-؛ وفيه إشارة إلى أن التكبير الذي ذكره كان قد ترك. ¬

_ (¬1) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 276)، حديث رقم (535). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 428). (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (2498). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 271). (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 846)، (مادة: نهض). (¬6) هو لفظ البخاري المتقدم تخريجه برقم (792) عمده.

وقد روى الإمام أحمد، والطحاوي؛ بإسناد صحيح، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قال: ذكرنا علي صلاة كنا نصليها، مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إما نسيناها، وإما تركناها عمداً (¬1). وللإمام أحمد، من وجه آخر، عن مطرف، قال: قلنا -يعني: لعمران بن حصين-: يا أبا نجيد -وهو بالنون والجيم، مصغراً-! مَنْ أولُ من ترك التكبير؟ قال: عثمان بن عفان حين كبر، وضعف صوته (¬2)؛ وهذا يحتمل إفادة ترك الجهر، وهو الظاهر. وروى [الطبراني] (¬3)، من حديث أبي هريرة: أن أول من ترك التكبير: معاوية، وروي: أن أول من تركه: زياد، وهذا لا ينافي الذي قبله؛ لأن زياداً تركه لترك معاوية، وكان معاوية تركه لترك عثمان، وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء، ويرشحه حديث أبي سعيد في "الصحيح": اشتكى أبو هريرة، أو غاب، فصلى أبو سعيد، فجهر بالتكبير حين افتتح، وحين ركع، الحديث، وفي آخره: لما انصرف، قيل له: قد اختلف الناس على صلاتك، فقام عند المنبر، فقال: والله! إني ما أبالي اختلفت صلاتكم، أم لم تختلف، إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هكذا يصلي (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 392)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 221). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 432). (¬3) في الأصل: "الطبري"، والتصويب من "الفتح" (2/ 270). (¬4) رواه البخاري (791)، كتاب: صفة الصلاة، باب: يكبر وهو ينهض من السجدتين، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 18)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 18)، واللفظ له.

فالذي يظهر: أن الاختلاف بينهم؛ إنما كان في الجهر بالتكبير، والإسرار به. وكان مروان وغيره من بني أمية يسرُّونه، وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يصلي بالناس، في إمارة مروان على المدينة. نعم، ذكر الطحاوي: أن قوماً كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع، قال: وكذا كانت بنو أمية تفعل (¬1)، وعن بعض السلف: أنه لا يكبر إلا تكبيرة الإحرام، وفرق بعضهم بين المنفرد، وغيره. والذي استقر عليه الأمر: مشروعية التكبير في الخفض والرفع، والجماعة والفرادى؛ اتباعاً لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). (هذا) يعني: علياً - رضي الله عنه - (صلاةَ محمد - صلى الله عليه وسلم -). وفي لفظ: لقد ذكرني هذا الرجل (¬3)، أو قال -كما في بعض طرق البخاري-: ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، (أو قال: صلى بنا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم -)، فذكر أنه كان يكبر؛ كلما رفع، وكلما وضع. وفي "الصحيحين"، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه كان يكبر في الصلاة؛ كلما رفع، ووضع، فقلنا: يا أبا هريرة! ما هذا التكبير؟ فقال: إنها لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 220). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 270). (¬3) هو لفظ البخاري المتقدم تخريجه برقم (729) عنده. (¬4) تقدم تخريجه برقم (751) عنده. (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (752)، وعند مسلم برقم (392)، وهذا لفظ مسلم.

وفي "البخاري": عن عكرمة، قال: صليت خلف شيخ بمكة، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق، فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - (¬1). تنبيهات: الأول: التكبير بعد تكبيرة الإحرام، والتسبيح والتحميد، وقول: رب اغفر لي بين السجدتين؛ واجب في معتمد المذهب؛ يسقط جهلاً وسهواً، وتبطل الصلاة بتركه، أو بشيء منه عمداً. وقيل: سنة؛ وفاقاً للثلاثة، لنا (¬2): على معتمد المذهب؛ بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله، ويواظب عليه، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3). وفي حديث حذيفة - رضي الله عنه -: أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى" رواه الترمذي، وغيره، وقال: حديث صحيح. وروى الإمام أحمد، من حديث عقبة بن عامر الجهني، قال: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (755)، كتاب: صفة الصلاة، باب: التكبير إذا قام من السجود. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه الترمذي (262)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود، وأبو داود (871)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، والنسائي (1008)، كتاب: الافتتاح، باب: تعوذ القارىء إذا مرَّ بآية عذاب، وابن ماجه (888)، كتاب: الصلاة، باب: التسبيح في الركوع والسجود.

"اجعلوها في ركوعكم"، فلما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، قال: "اجعلوها في سجودكم" (¬1). ورواه أبو داود، وزاد: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع، قال: "سبحان ربي العظيم وبحمده"، ثلاثاً، وإذا سجد، قال: "سبحان ربي الأعلى وبحمده"، ثلاثاً، قال: وهذه الزيادة نخاف ألا تكون محفوظة (¬2). وتقدم حديث: "وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد"، وهذا صريح في الأمر، وحقيقته للوجوب، وبه قال جماعة من السلف، منهم: الحميدي شيخ البخاري، والإمام إسحق بن راهويه، وغيرهما. والآثار في ذلك كثيرة. وفي الجملة: من هذه الواجبات ما ثبت من أمره، وفعله، ومنها: ما ثبت من فعله، ومواظبته عليها، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3). فلا جرم قلنا: بالوجوب، لنخرج من مَعَرَّة تبعة الترك، والتساهل المفضي لإخلال الصلاة عن هيئتها الموضوعة لها من الزمن النبوي. الثاني: معتمد المذهب: الإتيان بتكبيرات الانتقال، ما بين الابتداء ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 155)، وأبو داود (869)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، وابن ماجه (887)، كتاب: الصلاة، باب: التسبيح في الركوع والسجود. (¬2) رواه أبو داود (870)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده. (¬3) تقدم تخريجه.

والانتهاء، فلو ابتدأ بالتكبير قبل الشروع في الركوع، أو الرفع منه، ونحو ذلك، عالماً عمداً، أو أتمه بعد فراغه منه، لم يعتد به؛ وكذا التسميع للإمام والمنفرد، والتحميد للمأموم، وأما التحميد للإمام والمنفرد، فبعد استوائه قائماً؛ وكذا قول: رب اغفر لي بين السجدتين، ففي حال جلوسه، وأما قوله: سبحان ربي العظيم، ففي حال الركوع، وسبحان ربي الأعلى، ففي حال السجود (¬1). فإذا صلى الصلاة على هذا النحو، وهذا الترتيب: فقد أداها على أكمل هيئة، وأتم صفة، وحينئذ لا بد من التمهل في الصلاة؛ ليحصل الذكر المقصود، ومحال حصول ما ذكر، مع النقر والتخفيف، الذي يرجع إلى شهوة الإمام، والمأمومين. الثالث: القدر الواجب من التسبيح المذكور في الركوع، والسجود، وكذا طلب المغفرة بين السجدتين: مرة، وأدنى الكمال: ثلاث مرات، وأكثره للإمام: عشر مرات، ولا حد لكثرة المنفرد (¬2). والمراد: أنه لا يتقيد بعدد مخصوص؛ بل بحسب نشاط الشخص، ورغبته، لا أنه يتمادى فيه حتى يخرج الوقت، أو يضر بنفسه، أو نحو عياله، والله -سبحانه وتعالى- الموفق. الرابع: ذكر في "الإنصاف": كون تكبير الخفض، والرفع، والنهوض؛ ابتداؤه مع ابتداء الانتقال، وانتهاؤه مع انتهائه، أو إيقاعه فيما بين طرفي الابتداء والانتهاء؛ مما يشق ويعسر، فيحتمل أن يعفى عن ذلك؛ لأن ¬

_ (¬1) انظر: "الروض المربع" للبهوتي (1/ 197 - 198). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 115)، و"المبدع" لابن مفلح (1/ 497).

التحرز منه يعسر، والسهو به يكثر؛ ففي إبطال الصلاة به، أو السجود له مشقة. قال ابن تميم: الأظهر: الصحة، وتابعه العلامة ابن مفلح في "الحواشي"، وصوبه في "الإنصاف" (¬1). قلت: وهو الإنصاف؛ وكذلك التسميع، والتحميد، والله تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 59).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: رَمَقْتُ صَلاَةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ، فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجِلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجِلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ والانْصِرَافِ؛ قَرِيبَاً مِنَ السَّوَاءِ (¬1). وفي رواية البخاري: مَا خَلاَ القِيَامَ وَالقُعُودَ، قَرِيباً مِنَ السَّوَاءِ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (768)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع، و (786)، باب: المكث بين السجدتين، ومسلم (471/ 193)، كتاب: الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة، وتخفيفها في تمام، واللفظ له، وأبو داود (852، 854)، كتاب: الصلاة، باب: طول القيام من الركوع وبين السجدتين، والنسائي (1065)، كتاب: التطبيق، باب: قدر القيام بين الرفع من الركوع والسجود، و (1148)، كتاب: قدر الجلوس بين السجدتين، و (1332)، باب: جلسة الإمام بين التسليم والانصراف، والترمذي (279)، كتاب: الصلاهْ، باب: ما جاء في إقامة الصلب إذا رفع رأسه من الركوع والسجود. (¬2) رواه البخاري (759)، كتاب: صفة الصلاة، باب: استواء الظهر في الركوع. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 386)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 80)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 187)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 228)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار =

(عن) أبي عمارة (البراء) -بفتح الموحدة، وتخفي الراء، والمد- على المشهور، وحكي فيه القصر - صحابي ابن صحابي (بن عازب) -بالعين المهملة، والزاي المكسورة- (رضي الله عنهما). كان البراء ممن استصغرهم - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، وأول مشاهده الخندق، وقال النووي: أحد [من] سكن الكوفة (¬1)، وافتتح الرَّي سنة أربع وعشرين، مات في الكوفة أيام مصعب بن الزبير، روي له ثلاث مئة حديث وخمسة، اتفقا على اثنين وعشرين، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بستة، وكانت ولاية ابن الزبير في أواخر عشر الستين، وأوائل عشر السبعين (¬2). (قال) البراء: (رمقت)؛ أي: لحظت (صلاة)، قال في "القاموس": رمقه: لحظه لحظاً خفيفاً، ورجل يرموق، ضعيف البصر (¬3). مع (محمد) رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -)؛ يعني: نظرت لها، وتأملتها (فوجدت قيامه) - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة للقراءة، (فركعته) التي يركعها، (فاعتداله) - صلى الله عليه وسلم - (بعد) رفعه من (ركوعه)، (فسجدته) الأولى، (فجلسته) التي جلسها - صلى الله عليه وسلم -؛ للفضل (بين السجدتين، فسجدته) الثانية، (فجلسته) التي جلسها - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: في الزمن الذي (بين التسليم) من الصلاة، (و) بين (الانصراف) من السجود؛ أي: الرفع من السجدة الثانية، يعني: حال جلوسه للتشهد، ويحتمل -ولعله المراد-: الجلوس ما بين السلام، والانصراف من المصلى، إلى ¬

_ = (1/ 472)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 53)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 276، 288)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 66). (¬1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 141). (¬2) قلت: وقد تقدم للشارح -رحمه الله- ترجمة البراء بن عازب - رضي الله عنهما -، فلتنظر في موضعها. (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1146)، (مادة: رمق).

نحو أهله (قريباً)، مفعول ثان لوجدت (من السواء). والمراد: زمان ركوعه، وسجوده، واعتداله، وجلو سه بين السجدتين: متقارب، ولم يقع الاستثناء؛ في المتفق عليه، (وفي رواية البخاري)، في باب: استواء الظهر: (ما خلا القيام والقعود)؛ يعني: القيام للمراءة، والقعود للتشهد. وأما من زعم أنه القعود بين السجدتين، والاعتدال عن الركوع؛ فرده الإمام ابن القيم في "حاشيته على السنن"، فقال: هذا سوء فهم من قائله؛ لأنه قد ذكر القعود بين السجدتين، والاعتدال عن الركوع بينهما، فكيف يستثنيهما؟! وهل يحسن قول القائل: جاء زيد وعمرو وبكر وخالد، إلا زيداً وعمراً، فإنه متى أراد نفي المجيء عنهما، كان متناقضاً، انتهى (¬1). وتعقب: بأن المراد بذكرهما: إدخالهما في الطمأنينة، وباستثناء بعضها: إخراج المستثنى من المساواة (¬2). (قريباً من السواء) -بالمد-، قال بعض شراح الحديث: المعنى: أن كل ركن قريب من مثله؛ فالقيام الأول قريب من الثاني، والركوع في الأولى قريب من الثانية، والمراد بالقيام والقعود اللذين استثنيا: الاعتدال، والجلوس بين السجدتين، انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف! بل الأولى أن المراد: القيام للقراءة، والجلوس للتشهد؛ لأن القيام للقراءة أطول من جميع الأركان في الغالب (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "حاشية ابن القيم على السنن" (3/ 75). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 276). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

وفي هذا الحديث دليل على: أن الاعتدال عن الركوع ركن طويل. قال الإمام ابن القيم في "صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم - ": كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل هذا الركن، حتى يقول القائل: قد نسي (¬1)، وقد صرح بذلك في حديث أنس - رضي الله عنه - الآتي؛ فلا يسوغ العدول عنه لدليل ضعيف؛ وهو قولهم: لم يسن فيه تكرير التسبيحات؛ كالركوع، والسجود، ووجه ضعفه: على أنه قياس في مقابلة النص؛ فهو فاسد. وأيضاً: فالذكر المشروع في الاعتدال أطولُ من الذكر المشروع في الركوع؛ فتكرير قوله: "سبحان ربي العظيم"، ثلاثاً، لا يجيء قدر قوله: "اللهم ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه". وقد ذكر في الاعتدال ذكرٌ أطولُ من هذا؛ كما في "صحيح مسلم"، من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس- رضي الله عنهم -، بعد قوله: "حمداً كثيراً طيباً، ملء السموات، وملء الأرض"؛ كما تقدم. زاد في حديث ابن أبي أوفى: "اللهم طهرني بالثلج، والبرد، والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا؛ كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ" (¬2)، وتقدم بعض ذلك (¬3). وفي "صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم - " لابن القيم، بعد قوله: "وملء ما شئت من شيء بعد": "أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، ¬

_ (¬1) انظر: "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " لابن القيم (ص: 235). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (476). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 289).

قال: وربما زاد على ذلك: "اللهم طهرني بالثلج، والبرد، والماء البارد"، الحديث (¬1). قال في "الفروع" في الكلام على ركن الاعتدال: فلو طوله -يعني: المصلي-، لم تبطل صلاته؛ خلافاً للشافعية. قال الحسن بن محمد الأنماطي (¬2): رأيت أبا عبد الله؛ يعني: الإمام أحمد - رضي الله عنه - يطيله، ويطيل بين السجدتين؛ لأن البراء أخبر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طَوَّلَه قريبَ قيامِهِ, وركوعِهِ (¬3). واختار النووي: جواز تطويل الركن القصير بالذكر، خلافاً للمرجح في مذهبهم، واستدل لذلك-أيضاً- بحديث حذيفة في "مسلم": أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعة بالبقرة، وغيرها، ثم ركع نحواً مما قرأ، ثم قام بعد أن قال: "ربنا لك الحمد" قياماً طويلاً قريباً مما ركع (¬4). قال النووي: الجواب عن هذا الحديث صعب، والأقوى: جواز الإطالة بالذكر، انتهى (¬5). قال في "الفتح": وقد أشار الإمام الشافعي في "الأم" إلى عدم البطلان، فقال في ترجمة: كيف القيام من الركوع: ولو أطال القيام بذكر الله، أو ¬

_ (¬1) كما تقدم من حديث ابن أبي أوفى - رضي الله عنه - في "صحيح مسلم" برقم (476)، (1/ 346). وانظر: "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " لابن القيم (ص: 235). (¬2) البغدادي، ذكره أبو بكر الخلال، فقال: نقل عن أحمد مسائل صالحة. انظر: "طبقات الحنابلة" للفراء (1/ 138). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 409). (¬4) رواه مسلم (772)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل. (¬5) انظر: "المجموع" للنووي (4/ 132 - 133).

يدعو، أو ساهياً؛ وهو لا ينوي القنوت، كرهت له ذلك، ولا إعادة، إلى آخر كلامه في ذلك (¬1). قال في "الفتح": فالعجب ممن يصحح -مع هذا- بطلانَ الصلاة بسطويل الاعتدال، قال: وتوجيههم ذلك؛ أنه إذا أطيل، انتفتا الموالاة، يعترض: بأن معنى الموالاة: ألا يتخلل فصل طويل بين الأركان بما ليس منها، وما ورد به الشرع لا يصح نفي كونه منها، انتهى (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 113). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 289).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ ثَابتٍ البُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: إِنَي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بَكُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بنَا، لمحالَ ثَابتٌ: فَكَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئاً، لَا أَرَاكمْ تَصْنَعُونَهُ؛ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الَرُّكُوعِ، انْتَصَبَ قَائِماً حَتَّى يَقُولَ القَائِلُ: قَدْ نَسِيَ، وَإِذَا رَفَعَ رأسه مِنَ السَّجْدَةِ، مَكَثَ حَتَّى يًقُولَ القَائِلُ: قَدْ نَسِيَ (¬1). * * * (عن) أبي محمد (ثابت) بن أسلم (البناني): تابعي من أعلام أهل البصرة، إمامهم، اشتهر بالرواية عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، صحبه أربعين سنة. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (767)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع، و (787)، باب: المكث بين السجدتين، ومسلم (472)، كتاب: الصلاة، باب: اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، واللفظ له. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 231)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 476)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 82)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 288)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 96)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 292).

وروى عن: ابن عمر، وابن الزبير، وغيرهما، روى عنه: شعبة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد. أخرج له الجماعة. وكان رأساً في العلم، والعمل، وكان يلبس الثياب الفاخرة، ويقال: إنه لم [ير] في وقته أعبد منه. وإنما قيل في نسبته: البناني -بضم الباء الموحدة، وتخفيف النون-؛ لاتصال نسبه ببنانة، وهم ولد سعد بن لؤي، وبنانة هي: أم سعد، وقيل: أمة لسعد، كانت حاضنة بنيه. توفي ثابت البناني سنة ثلاث وعشرين ومئة، وقيل: سبع وعشرين، وله ست وثمانون سنة (¬1). (عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -) خادمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (قال) أنس (إني لا آلو) -بهمزة ممدودة بعد حرف النفي، ولام مضمومة، بعدها واو خفيفة-؛ أي: لا أقصر (¬2) (أن أصلي بكم كلما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: كالصلاة التي رأيته - صلى الله عليه وسلم - (يصلي بنا)؛ أي: يصليها بنا معشر أصحابه. (قال ثابت) -رحمه الله تعالى-: (فكان أنس) بن مالك - رضي الله عنه -، (يصنع شيئاً) من التطويل في الاعتدال (لا أراكم تصنعونه)؛ وفيه إشعار بأنهم كانوا يخلون بتطويل الاعتدال. (كان إذا رفع رأسه من الركوع، انتصب قائماً) بعد اعتداله من الركوع، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 232)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 159)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 89)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 318)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 342)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 220)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (2/ 3). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 231).

فيطيل هذا القيام (حتى يقول) -بالنصب- (القائل) - بالرفع، فاعل يقول -: (قد نسي)؛ أي: وجوب الهوي إلى السجود؛ قاله الكرماني، ويحتمل أن يكون المراد: أنه نسي أنه في صلاة، أو ظن أنه وقت القنوت، حيث كان معتدلاً (¬1). (وكان إذا رفع رأسه في السجدة) الأولى، (مكث) جالساً بين السجدتين (حتى يقول القائل: قد نسي) أنه في صلاة. ودلالة الحديث واضحة على: طلب طول الاعتدال من الركوع؛ كما تقدم، وكذا طول المكث بين السجدتين، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 288).

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قالَ: ما صَلَّيْتُ وَرَاءَ إمامٍ قَطٍّ أَخَفَّ صَلاةً، وَلا أَتَمَّ صلاةً مِنْ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * * * (عن) أبي حمزة (أنس بن مالك) الأنصاريِّ النجاريِّ (- رضي الله عنه -، قال: ما صليت وراء إمام قط) -بالفتح، ويضم، ويخففان-، وقطٍّ: -مشددة مجرورة-: بمعنى: الدهر (¬2)، يعني: ما صليت زمن عمري (أخف صلاة) بالنسبة إلى التطويل المفرط؛ ولهذا قال: (ولا أتم صلاة، من النبي - صلى الله عليه وسلم -) فان يراعي المصالح؛ في التطويل, والتخفيف. * * * ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (676)، كتاب: الجماعة والإقامة، باب: مَنْ أَخَفَّ الصلاة عند بكاء الصبي، ومسلم (469)، كتاب: الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، واللفظ له. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 384)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 232)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 478)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 223)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 202)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 246). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 882)، (مادة: ق ط طـ).

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ الجَرْمِيِّ البَصْرِيِّ، قالَ: جاءَنا مالِكُ بْنُ الحُوَيْرِثِ في مَسْجِدِنا هَذَا، فقالَ: إنِّي لأُصَلِّي بِكُمْ وَما أُرِيدُ الصَّلاةَ، أُصَلِّي كيْفَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي، فَقُلْتُ لِأَبي قِلابَةَ: كيْفَ كانَ يُصَلِّي؟ قالَ: مِثْلَ صَلاةِ شَيْخِنا هَذَا، وَكانَ يَجْلِسُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (645)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: من صلَّى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، و (769)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع، و (785)، باب: المكث بين السجدتين، و (790)، باب: كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة، وأبو داود (842 - 844)، كتاب: الصلاة، باب: النهوض في الفرض، والنسائي (1151)، كتاب: التطبيق، باب: الاستواء للجلوس عند الرفع من السجدتين، و (1153)، باب: الاعتماد على الأرض عند النهوض، والترمذي (287)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء كيف النهوض من السجود. قلت: والحديث من أفراد البخاري، فلم يخرجه مسلم في "صحيحه"، كما يدل عليه صنيع المصنف -رحمه الله-، وسيأتي تنبيه الشارح -رحمه الله- على ذلك من كلام الحافظ عبد الحق الإشبيلي، والإمام ابن دقيق العيد -رحمهما الله-. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 82)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 233)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار =

(عن أبي قلابة) -بكسر القاف، وتخفيف اللام، وبالباء الموحدة-، اسمه: (عبد الله بن زيد الجَرْمي البصري) الأنصاري، ونسبته بالجرمي إلى جَرْم -بفتح الجيم، وسكون الراء- (¬1). روى عن: أنس بن مالك، ومالك بن الحويرث، والنعمان بن بشير، وغيرهم، وسمع من جماعة من التابعين، وروى عنه: أيوب السختياني، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير، وخالد الحذاء، وحميد الطويل، وغيرهم. قال ابن سيرين: قد عَلِمْنا أن أبا قلابة رجل صالح، ثقة. وقال أيوب: كان أبو قلابة من الفقهاء ذوي الألباب. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث. وعن ابن المديني: أن أبا قلابة أدرك خلافة عمر بن عبد العزيز. وقال أبو سعد بن يونس: قدم مصر زمن عبد العزيز بن مروان، وتوفي بالشام سنة أربع ومئة، روى له الجماعة -رحمه الله تعالى- (¬2). ¬

_ = (479/ 1)، و"فح الباري" لابن رجب (4/ 115)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 97)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 163، 351)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 200). (¬1) قبيلة من اليمن، انظر: "الأنساب" للسمعاني (2/ 47). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 183)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (7/ 185)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 92)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 57)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 2)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 282)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (28/ 287)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 238)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 542)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 468)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضاً (1/ 94)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (5/ 197).

(قال: جاءنا مالك) أبو سليمان (بن الحويرث)،-بضم الحاء على التصغير-، وقيل: مالك بن الحارث -بالتكبير-، وقيل: ابن حويرثة، بن أَشْيم -بفتح الهمزة، وسكون الشين المعجمة، وفتح الياء المثناة تحت- الليثي، ولم يختلفوا أنه من بني ليث بن بكربن عبدمناة، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقام عنده عشرين ليلة، وسكن البصرة. روى عنه: ابنه عبد الله، وابن عطية، وسلمة الجرمي، وغيرهم. مات سنة أربع وسبعين بالبصرة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمسة عشر حديثاً؛ اتفقا على حديثين، وللبخاري واحد - رضي الله عنه - (¬1). ونحن (في مسجدنا)، متعلق بمحذوف تقديره: مستقرون (هذا)؛ أي: مسجد البصرة (فقال: إني لأصلي بكم، وما أريد الصلاة)؛ يعني: حينئذ؛ أي: ليس نفسي بناهضة للصلاة، ولا صلاة مكتوبة علي، أو لا تطلب نفسي الإمامة. قال في "الفتح": استشكل نفي هذه الإرادة؛ لما يلزم منها، من وجود صلاة بغير قربة؛ ومثلها لا يصح. وأجيب: بأنه لم يرد نفي القربة، وإنما أراد بيان السبب الباعث له على الصلاة في غير وقت صلاة معينة جماعة؛ فكأنه قال: ليس الباعث لي على ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 44)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 301)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 207)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 374)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1349)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 18)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 387)، و"تهذيب الكمال" للمزي (27/ 132)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 719)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (10/ 12).

هذا الفعل حضورَ صلاة معينة؛ من أداء، أو إعادة، أو غير ذلك، وإنما الباعث لي عليه: قصد التعليم. وكأنه كان تعين عليه حينئذ؛ لأنه أحد من خوطب بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1)؛ ورأى أن التعليم بالفعل أوضح من القول؛ ففيه دليل على جواز مثل ذلك، وأنه ليس عمله من باب التشريك في العبادة (¬2). (أصلي كيف)؛ أي: مثل، يعني: على الكيفية التي (رأيت رسول الله يصلي). وفي لفظ: ولكن أريد أن أريكم (¬3). قال أيوب: (فقلت لأبي قلابة: كيف كان يصلي؟)، يعني: مالك بن الحويرث، (قال): كان يصلي صلاة (مثل صلاة شيخنا هذا)؛ وأراد به: أبا بُرَيد -بضم الباء الموحدة، وفتح الراء- عمرو بن سَلِمة -بكسر اللام- الجَرْمي -بفتح الجيم، وسكون الراء المهملة- (¬4). وكان ذلك الشيخ يُتِمُّ التكبير، وإذا رفع رأسه من السجدة، جلس، واعتمد على الأرض، ثم قام. وفي بعض طرق هذا الحديث: فقام؛ فأمكن القيام، ثم ركع؛ فأمكن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 163). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (790). (¬4) انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 89)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 313)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1179)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 222)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 344)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 50)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 523)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 643).

للركوع، ثم رفع رأسه؛ فأنصب [هُنَيَّةً] (¬1). وفي لفظ: (وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض). ومقصود هذا الحديث؛ كالذي قبله: التخفيف في حق الإمام، مع الإتمام وعدم التقصير؛ وذلك هو الوسط العدل، والميل إلى أحد الطرفين خروج عنه. أما التطويل في حق الإمام: فإضرار بالمأمومين، وقد تقدم من ذلك ما شفى وكفى. وأما التقصير عن الإتمام: فبخس لحق العبادة، ولا يراد بالتقصير هنا: ترك الواجبات؛ فإن ذلك مفسد للصلاة، وإنما المراد: ترك المسنونات (¬2). وقد ثبت أن عمر بن عبد العزيز كان أشبه الناس صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وكان مقدار ركوعه، وسجوده: عشر تسبيحات (¬3). تنبيهان: الأول: ظاهر هذا الحديث: مشروعية جلسة الاستراحة؛ لقوله: وكان يجلس، إذا رفع رأسه من السجود، قبل أن ينهض، وفي لفظ: وإذا رفع ¬

_ (¬1) في الأصل: "هيئته"، والتصويب من "صحيح البخاري". وقد تقدم تخريجه عنده برقم (769). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 232 - 233). (¬3) رواه أبو داود (888)، كتاب: الصلاة، باب: مقدار الركوع والسجود، والنسائى (1135)، كتاب: التطبيق، باب: عدد التسبيح في السجود، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 162)، من حديث سعيد بن جبير، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

رأسه من السجدة الثانية، جلس، واعتمد على الأرض، ثم قام (¬1). وهي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، قال في "الفروع": ثم يرفع مكبراً، قائماً على صدور قدميه، معتمداً على ركبتيه؛ وفاقاً لأبي حنيفة، نص الإمام أحمد على ذلك، لا على يديه؛ خلافاً لمالك، وإن شق، اعتمد بالأرض. وعنه -أي: الإمام أحمد-: يجلس للاستراحة؛ وفاقاً للشافعي؛ كجلوسه بين السجدتين، وفاقاً له أيضاً، وعنه: على قدميه، وعنه: وألييه، ثم ينهض كما سبق. واختار الآجري: جلسته على قدميه، ثم اعتمد بالأرض، وقام. وقيل: يجلس للاستراحة من كان ضعيفاً؛ جمعاً بين الأخبار، واختاره: الإمام الموفق، وغيره، وقاله القاضي، وغيره، انتهى (¬2). وفي "المقنع": لا يجلس جلسة الاستراحة، بل يقوم على صدور قدميه، معتمداً على ركبتيه، نصّ عليه، إلا أن يشق (¬3). وذكره في "الإنصاف"، مقدماً له، ثم قال: وعنه: أنه يجلس جلسة الاستراحة؛ اختاره أبو بكر عبد العزيز، والخلال، وقال: إن الإمام أحمد رجع عن الأول، وجزم به في "الإفادات" (¬4)، وقدمه في "الرعايتين"، و"الحاوي الصغير". ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (790). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 383). (¬3) انظر: "المقنع" لابن قدامة (3/ 523 - 526). (¬4) كتاب: "الإفادات في أحكام العبادات" لابن حمدان أبو عبد الله أحمد بن حمدان بن شبيب الحراني، الفقيه الأصولي، المتوفى سنة (695 هـ)، قال فيها: أذكر هنا =

ثم ذكر ما اختاره الموفق، والقاضي؛ من التفصيل بين الضعيف، وغيره (¬1). ومعتمد المذهب: عدم مشروعية جلسة الاستراحة، مطلقاً؛ بدليل قول المغيرة بن حكيم، لما رأى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، يرجع من سجدتين من الصلاة، على صدور قدميه، قال: فلما انصرف، ذكرت له ذلك، فقال: إنها ليست بسنة الصلاة، وإنما أفعل ذلك" من أجل أني أشتكي (¬2). وفي حديث آخر، لابن عمر: أنه قال: إن رجليَّ لا تَحْمِلاَنِي (¬3). ويؤيد هذا ما تقدم عن كل من ذكر نسق صلاته - صلى الله عليه وسلم -، فلم يذكر هذه الجلسة؛ فعلم أن ذلك الشيخ -الذي هو: عمرو بن سلمة-، إنما جلسها لضعفه، والله أعلم. الثاني: ظاهر صنيع الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: أنَّ حديث مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - مما اتفق عليه الشيخان؛ كما هو شرطه ¬

_ = غالباً صحيح المذهب ومشهوره، وصريحه ومشكوره، والمعمول عندنا عليه، والمرجوع غالباً إليه، وقد اختصره محمد بدر الدين بلبان البعلي، المتوفى سنة (1083 هـ) وسماه: "مختصر الإفادات في ربع العبادات مع الآداب وزيادات". انظر: "المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 984)، و"معجم مصنفات الحنابلة" لعبد الله الطريقي (2/ 271). (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 71 - 72). (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 89)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 124). (¬3) رواه البخاري (793)، كتاب: صفة الصلاة، باب: سنة الجلوس في التشهد، من طريق الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 89).

في كتابه، وليس كذلك، بل هو من أفراد البخاري، كما نص عليه ابن دقيق العيد، في "شرحه" (¬1)، والحافظ عبد الحق الإشبيلي، في "جمعه بين الصحيحين" (¬2)، والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 233). (¬2) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق الإشبيلي (1/ 334). وكذا نصَّ عليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 164).

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مالِكِ ابْنِ بُحَيْنَهَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إِذَا صَلَّى، فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَياضُ إِبْطَيْهِ (¬1). * * * (عن) أبي محمد (عبد الله بن مالك ابن بحينة) هي أم عبد الله -بضم الموحدة، وفتح الحاء المهملة، وسكون المثناة تحت، ثم نون -بنت الأرث- وهو الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، وقيل: بحينة: ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (383)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: يبدي ضبعيه ويجافي في السجود، و (774)، كتاب: صفة الصلاة، باب: يبدي ضبعيه ويجافي في السجود، و (3371)، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (495)، (235 - 236)، كتاب: الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة، والنسائي (1106)، كتاب: التطبيق، باب: صفة السجود. * مصَادر شرح الحَدِيث: "المفهم" للقرطبي (2/ 97)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 210)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 234)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 484)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 108)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 98)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 294)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 122)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 182)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 284).

أم أبيه (¬1)، والأول: أصح؛ فعلى الأول: ينون مالك، وعلى الثاني: يحذف التنوين منه (¬2)، وقيل في أم بحينة -أيضاً-: إنها أزدية من أزد شنوءة: ومالك أبو عبد الله هو ابن القِشْب -بكسر القاف، وسكون الشين المعجمة، وبالموحدة-، واسمه: جندب بن عبد الله بن نضلة الأزدي، من أزد شَنُوءة -بفتح الشين المعجمة، وضم النون، والمد والهمز-؛ وهو حليف لبني المطلب بن عبد مناف. ومات - رضي الله عنه - في خلافة معاوية؛ ما بين سنة أربع وخمسين، وثمان وخمسين؛ وهو صحابي، وأبوه مالك صحابي- رضي الله عنهما - (¬3). قال عبد الله بن مالك (- رضي الله عنه -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى) صلاة، (فرج) في حال سجوده (بين يديه)، أي نَحَّى كل يد عن الجنب الذي يليها. قال القرطبي: الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السجود: أنه يخفف بها اعتماده عن وجهه، ولا يتأثر وجهه، ولا جبهته، ولا يتأذى بملاقاة الأرض (¬4). ¬

_ (¬1) قاله أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 1776). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 234 - 235). (¬3) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 10)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 150)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (2/ 156)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 216)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 486)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 372)، و"تهذيب الكمال" للمزي (27/ 124)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 712)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (5/ 333). (¬4) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 96).

وقال غيره: هو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، مع مغايرته لهيئة الكسلان. وقال ابن المنير: الحكمة فيه: أن يظهر كل عضو بنفسه، ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده، كأنه عدد؛ ومقتضى هذا: أن يستقل كل عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض؛ وهذا ضد ما ورد في الصفوف من التصاق بعضهم ببعض؛ لأن المقصود هناك: إظهار الاتحاد بين المصلين؛ كأنهم جسد واحد (¬1). وقد روى الطبراني، وغيره؛ بإسناد صحيح، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه قال: "لا تفترش افتراش السبع، وادعم على راحتيك، وأبد ضبعيك؛ فإذا فعلت ذلك، سجد كل عضو منك" (¬2). وعند ابن خزيمة، عن أبي هريرة، مرفوعاً: "إذا سجد أحدكم؛ فلا يفترش ذراعيه افتراش الكلب، وليضم فخذيه" (¬3). (حتى يبدو) -أي: يظهر- (بياض إبطيه) تثنية إبط، وهو -بسكون الموحدة-: باطن المنكب، وتكسر الباء، وقد يؤنث، وجمعه: آباط، وتأبطه: وضعه تحت إبطه؛ كما في "القاموس" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 294). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (2/ 126 - من "مجمع الزوائد" للهيثمي)، وابن خزيمة في "صحيحه" (645)، وابن حبان في "صحيحه" (1914)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 109)، والحاكم في "المستدرك" (827)، مرفوعاً. ورواه عبد الرزاق في "المصنف" (2927)، موقوفاً على ابن عمر - رضي الله عنهما - من قوله. (¬3) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (653)، وكذا أبو داود (901)، كتاب: الصلاة، باب: صفة السجود، وغيرهما. (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 849)، (مادة: أبط).

وفي "صحيح الحاكم"، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد، يُرى وَضَحُ إبطيه (¬1). وروى الإمام أحمد، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد جافى حتى نرى بياض إبطيه (¬2). ولمسلم، من حديث البراء، رفعه: "إذا سجدت، فضع كفيك، وارفع مرفقيك" (¬3). وظاهر هذه الأحاديث: وجوب تجافي المرفق، وإنما صرف عن الوجوب؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: شكا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - له مشقة السجود عليهم، إذا انفرجوا، فقال: "استعينوا بالرُّكَب"، رواه أبو داود، وترجم له: الرخصة في ذلك؛ أي: في ترك التفريج، قال ابن علان -أحد رواته-: وذلك بأن يضع مرفقيه على ركبتيه، إذا طال السجود أعيا (¬4). واستدل ابن التين بالحديث: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عليه قميص؛ ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (829)، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلفه، فرأيت بياض إبطيه وهو مجنح، وقد فرج يديه. وقد رواه الحاكم في "المستدرك" (830)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. وهذا الذي قصده الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 294)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 294)، وابن خزيمة في "صحيحه" (649)، ووقع عندهما: "حتى يُرى" بدل "حتى نرى". (¬3) رواه مسلم (494)، كتاب: الصلاة، باب: الاعتدال في السجود. (¬4) رواه أبو داود (902)، كتاب: الصلاة، باب: الرخصة في ذلك للضرورة، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 339)، واللفظ له.

لانكشاف إبطيه، وتعقب: باحتمال أن يكون القميص واسع الأكمام، وقد روى الترمذي في "الشمائل"، عن أم سلمة - رضي الله عنها -، قالت: كان أحب الثياب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - القميص (¬1). واستدل به إلى: أن إبطيه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عليهما شعر، وفيه نظر؛ فقد حكى المحب الطبري، في الاستسقاء من "الأحكام" (¬2) له: أن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -: أن الإبط من جميع الناس متغير اللون، غيره. واستدل بإطلاقه على: استحباب التفريج في الركوع، وفيه نظر؛ لتقييده بالسجود؛ كما في رواية عند البخاري (¬3)، وفي رواية لمسلم، بلفظ: كان إذا سجد، فرج يديه عن إبطيه؛ حتى إني لأرى بياض إبطيه (¬4). تنبيه: خصص الفقهاء تفريج اليدين، عن الجنبين بالرجال، وقالوا: المرأة تضم بعضها إلى بعض؛ لأن المقصود منها التستر، والتجمع؛ وهو أقرب في حال التضامِّ، والاجتماع. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي في "الشمائل المحمدية" (55)، وأبو داود (4025)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في القميص، والترمذي (1762)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في القميص، وقال: حسن غريب، وغيرهم. (¬2) للشيخ محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري الشافعي، المتوفى سنة (694 هـ)، كتاب كبير في الأحكام، جمع فيه الصحاح والحسان، لكنه ربما أورد الأحاديث الضعيفة ولم يبين، كذا قال تلميذه اليافعي، وذكر جمال الدين في "المنهل الصافي" أن له "الأحكام الوسطى" مجلد كبير، و"الصغرى" أيضاً، تتضمن ألف حديث وخمسة عشر حديثاً. وانظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 1). (¬3) تقدم تخريجها برقم (3371) عنده. (¬4) تقدم تخريجها برقم (495/ 236) عنده. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 295) ..

قال في "الفروع": والمرأة تجمع نفسها، وتجلس متربعة، أو تسدل رجليها عن يمينها، ونصه -أي: الإمام أحمد-: سدلها أفضل، ولا تجلس كالرجل، خلافاً لمالك، والشافعي (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 391).

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، قالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي في نَعْلَيْهِ؟ قالَ: نَعَمْ (¬1). * * * (عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد) بن مسلم، الأزدي البصري، ويقال: الطاحي؛ نسبة إلى طاحية -بالطاء وكسر الحاء المهملتين، وتخفيف المثناة تحت- بن سُوْد -بضم السين المهملة، وسكون الواو، ثم دال مهملة-: بطن من الأزد. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (379)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب الصلاة في النعال، واللفظ له، و (5512)، كتاب: اللباس، باب: النعال السبتية وغيرها، ومسلم (555)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز الصلاة في النعلين، والنسائي (775)، كتاب: القبلة، باب: الصلاة في النعلين، والترمذي (400)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة في النعال. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 190)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 488)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 161)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 42)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 236)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 486)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 274)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 494)، "عمدة القاري" للعيني (4/ 119)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 131).

سمع أنس بن مالك، وأبا نضرة، وعبد الله بن غالب، وغيرهم. وعنه: سعيد، وحماد بن زيد، وإسماعيل بن علية، وغيرهم. روى له الجماعة، قال يحيى بن معين: ثقة، وقال ابن نافع: مات سنة اثنتين وثلاثين ومئة -رحمه الله تعالى- (¬1). (قال) أبو سلمة: (سألت أنس بن مالك) الأنصاري (- رضي الله عنه -)، فقلت له: (أكان) -بهمزة الاستفهام- (النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي) الصلوات، أو شيئاً منها؛ (في نعليه) -أي: ورجلاه فيهما-؟ (قال) أنس - رضي الله عنه - مجيباً له: (نعم)، كان يصلي في نعليه. قال ابن بطال: هو محمول على ما إذا لم يكن فيهما نجاسة، ثم هي من الرخص؛ كما قال ابن دقيق العيد، لا من المستحبات؛ لأن ذلك لا يدخل في معنى المطلوب من الصلاة. وهو وإن كان من ملابس الزينة، إلا أن ملابسة الأرض، التي تكثر فيها النجاسات؛ قد تقصر به عن هذه المرتبة، وإذا تعارضت مصلحة مراعاة التحسين، ومراعاة إزالة النجاسة، قدمت الثانية؛ لأنها من باب دفع المفاسد، والأخرى من باب جلب المصالح، إلا أن يرد دليل بإلحاقه بما يتجمل به؛ فيرجع إليه، ويترك هذا النظر، انتهى (¬2). وقد روى أبو داود، والحاكم، من حديث شداد بن أوس، مرفوعاً: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 520)، و"الجرح والتعديل" للرازي (4/ 73)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 280)، و"تهذيب الكمال" للمزي (11/ 114)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 88). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 236 - 237)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 494).

"خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم" (¬1)، فيكون ذلك مستحباً لقصد مخالفة أهل الكتاب. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه-: الصلاة في النعلين سنة، وكذلك سائر ما يلبس في الرجل من الخف، وذكر حديث أنس، وحديث شداد بن أوس عند أبي داود، وأورد حديث السنن: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في نعليه، وصلى أصحابه في نعالهم، فخلع - صلى الله عليه وسلم - نعليه، فخلعوا نعالهم، فلما سلم، قال: "لم خلعتم نعالكم؟ "، قالوا: رأيناك خلعت نعليك؛ فخلعنا نعالنا، فقال: "إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما أذى، فإذا أتى أحدكم المسجد، فلينظر في نعليه؛ فإن كان فيهما أذى، فليدلكهما بالتراب؛ فإن التراب لهما طهور" (¬2). قال: فصلاة الرجل للفرض، والتطوع، والجنازة؛ في الحضر، والسفر؛ في نعليه: من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انتهى (¬3). وقد ورد في كون الصلاة في النعال من الزينة المأمور بأخذها في الآية حديث ضعيف جداً، أورده ابن عدي في "الكامل"، وابن مردويه في "تفسيره"، من حديث أبي هريرة (¬4)، والعقيلي، من حديث أنس (¬5)، والله أعلم (¬6). * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (652)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في النعل، والحاكم في "المستدرك" (956). (¬2) رواه أبو داود (650)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في النعل، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 92)، وعبد الرزاق في "المصنف" (1516). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (22/ 192). (¬4) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 183)، والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 211). (¬5) رواه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 142). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 494).

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر عَنْ أَبي قَتادَةَ الأَنْصارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُصَلِّي وَهُوَ حامِلٌ أُمامَةَ بنْتَ زَيْنَبَ بنْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولأَبي العاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإذَا سًجَدَ، وَضًعَها، وَإِذا قامَ، حَمَلَها" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (494)، كتاب: سترة المصلي، باب: إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، واللفظ له، و (5650)، كتاب: الآداب، باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، ومسلم (543)، (41 - 43)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز حمل الصبيان في الصلاة، وأبو داود (917 - 920)، كتاب: الصلاة، باب: العمل في الصلاة، والنسائي (827)، كتاب: الإقامة، باب: ما يجوز للإمام من العمل في الصلاة، و (1204 - 1205)، كتاب: السهو، باب: حمل الصبايا في الصلاة ووضعهن في الصلاة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 217)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 348)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 474)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 152)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 33)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 238)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 488)، و"فتح الباري" لابن رجب (9/ 712)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 99)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 591)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 301)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 141)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 122).

(عن أبي قتادة) الحارث بن ربعي (الأنصاري) السلمي (- رضي الله عنه -)، تقدمت ترجمته في باب: الاستطابة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي) الصلاة المكتوبة؛ (وهو حامل أمامة). المشهور في الروايات بالتنوين، ونصب أمامة، وروي بالإضافة: كما في قوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} (¬1) [الطلاق: 3] (بنت) السيدة الجليلة (زينب) - رضي الله عنهما - (بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أما زينب - رضي الله عنها -: فهي أكبر بناته - صلى الله عليه وسلم -، وأمها:- كسائر بناته - السيدةُ خديجة- رضي الله عنهن-، ولدت - رضي الله عنها - قبل البعثة بعشر سنين، وتزوجها: ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، واسمه: مِقْسَم - بكسر الميم، وسكون القاف، وفتح السين المهملة-، وقيل: لَقِيط -بفتح اللام، وكسر القاف، وبالطاء المهملة-؛ نقله ابن عبد البر، عن الأكثر، وقيل: هُشَيم -بضم الهاء، وفتح الشين المعجمة، فياء مثناة تحت، فميم-، وقيل: ياسر -بالمثناة تحت، وكسر السين المهملة-؛ وهو ختن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو المراد بقول المصنف -رحمه الله تعالى-: (ولأبي العاص بن الربيع)؛ أي: بنت زينب لأبي العاص، ووقع في بعض طرق البخاري: ابن ربيعة (¬2)، وهو خلاف المشهور. ماتت السيدة زينب بالمدينة المشرفة، سنة ثمان من الهجرة، ونزل ¬

_ (¬1) انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 99). (¬2) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 591): كذا رواه الجمهور عن مالك، ورواه يحيى بن بكير، ومعن بن عيسى، وأبو مصعب، وغيرهم، عن مالك، فقالوا: ابن الربيع، وهو الصواب. والواقع أن من أخرجه من القوم من طريق مالك؛ كالبخاري، فالمخالفة فيه إنما هي من مالك، انتهى.

النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبرها - رضوان الله وسلامه عليها - (¬1). وأما أبو العاص بن الربيع - رضي الله عنه -، فأسلم، وحسن إسلامه، وكان يثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيراً في صهره، وأمه: هالة بنت خويلد، أخت خديجة شقيقتها، وكان مؤاخياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مضيافاً له، وأبوه: الربيع بن عبد العزى (بن عبد شمس) بن عبد مناف، والمصنف نسب الربيع إلى جده عبد شمس، القرشي. استشهد - رضي الله عنه - في خلافة الصديق، سنة اثنتي عشرة في ذي الحجة، يوم اليمامة - رضي الله عنه - (¬2). وأما أمامة - رضي الله عنها -: فتزوجها سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد موت خالتها، سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء - رضوان الله عليها، وسلامه-؛ كما أمرته فاطمة بذلك، زوجها منه الزبير بن العوام، بوصية أبيها إياه. ثم تزوجها بعد موت الإمام علي: المغيرةُ بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، بأمر علي إياه بذلك؛ خوفاً من أن يتزوجها معاوية، زوجها ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 30)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1853)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (3/ 141)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 131)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 610)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 246)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 665). (¬2) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1701)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (3/ 67)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 182)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 528)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 330)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 248).

منه الحسن بن علي - رضوان الله عليهما-، فولدت للمغيرة: يحيى، وبه كان يكنى، وماتت عنده. قال ابن عبد البر: وقد قيل: إنها لم تلد لعلي، ولا للمغيرة؛ وكذلك قال الزبير: إنها لم تلد للمغيرة، وقال: وليس لزينب عقب، انتهى (¬1). وكذا قيل: ليس لرقية، ولا لأم كلثوم -أيضاً- عقب، وإنما العقب: لفاطمة - رضوان الله عليهن -. قوله: ولأبي العاص؛ كذا في الروايات -بإثبات الواو-، لكن رأيتها محكوكة من نسختي، قال الكرماني: الإضافة في قوله: "بنت زينب"، بمعنى اللام، فأظهر في المعطوف -وهو قوله: ولأبي العاص- ما هو مقدر في المعطوف عليه، انتهى. فعلمنا وجوب إثبات الواو، وأشار ابن العطار إلى أن الحكمة في ذلك: كون والد أمامة كان إذ ذاك مشركاً، فنسبت إلى أمها؛ تنبيهاً لحقيقة نسبها، انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 36)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1788)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 20)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 599)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 335)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 501). (¬2) قال ابن العطار في "العدة في شرح العمدة" (1/ 491): وأما قوله: ولأبي العاص بن الربيع، دون نسبة أمامة إليه، وإنما نسبها إلى أمها؛ تنبيهاً على أن الولد إنما ينسب إلى أشرف أبويه ديناً ونسباً؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما حملها، كان أبوها مشركاً، وهو قرشي عبشمي، وكانت أمها أسلمت، وهاجرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي قرشية هاشمية، فنسبها إليها دونه، وبيَّن بعبارة لطيفة أنها لأبي العاص بن الربيع؛ تحرياً للأدب في نسبتها ونسبها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونسبه، والله أعلم.

وهذا على السياق المذكور؛ وهو لمالك وحده، وقد رواه غيره؛ فنسبوها إلى أبيها، ثم بينوا أنها بنت زينب؛ كما هو عند مسلم (¬1)، وغيره (¬2). وللإمام أحمد، من طريق المقبري، عن عمرو بن سليم: يحمل أمامة بنت أبي العاص- وأمُّها زينبُ بنتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عاتقه (¬3). وفي مسلم: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤم للناس، وأمامةُ على عاتقه (¬4). (فإذا سجد، وضعها، وإذا قام، حملها)؛ كذا لمالك عندهما. وعند مسلم، من طريق عثمان بن أبي سليمان (¬5)، والإمام أحمد من طريق ابن جريج، عن عامر بن عبد الله -شيخ مالك-: فإذا ركع، وضعها، وإذا رفع من السجود، رفعها (¬6). وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: ثم ركع، وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده، وقام؛ أخذها، فردها في مكانها (¬7)؛ وهذا صريح في: أن فعل الحمل، والوضع كان منه، لا منها. بخلاف ما أوَّله الخطابي، حيث قال: يشبه أن تكون الصبية، كانت قد ¬

_ (¬1) كما تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 591). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 303)، وكذا عند أبي داود والنسائي، كما تقدم تخريجه عندهما في حديث الباب. (¬4) تقدم تخريجه عنده برقم (543/ 42). (¬5) تقدم تخريجه عنده برقم (543/ 42). (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 304). (¬7) هذا لفظ أبي داود، كما تقدم تخريجه عنده برقم (920).

ألفته؛ فإذا سجد، تعلقت بأطرافه، والتوَتْ، فينهض من سجوده؛ فتبقى محمولة لذلك، إلى أن يركع؛ فيرسلها، قال: هذا وجه عندي (¬1). وقال ابن دقيق العيد: من المعلوم أن لفظ "حمل"، لا يساوي لفظ "وضع"؛ في اقتضاء فعل الفاعل، لأنا نقول: فلان حمل كذا، ولو كان غيره حمله إياه، بخلاف وضع، وعلى هذا فالفعل الصادر منه، هو الوضع، لا الرفع؛ فيقل العمل، وقد كنت استحسنت ذلك، إلى أن رأيت في بعض طرق هذا الحديث الصحيحة: فإذا قام، أعادها، وهذا يقتضي الفعل ظاهراً، انتهى (¬2). وهذه التي أشار إليها رواية مسلم (¬3)، ورواية أبي داود أصرح من هذه؛ وهي: ثم أخذها، فردها في مكانها، فإذا قام، حملها، فوضعها على رقبته (¬4). ومحل الدليل في هذا الحديث: أنه عمل يسير، فلا يبطل الصلاة، فمن قيد العمل بثلاث حركات، يحتاج إلى أن يجيب عن هذا الحديث، ومن لم يقيده بالثلاث؛ فلا يحتاج إلى ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 217). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 241). (¬3) قاله الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 591). قلت: رواية مسلم في "صحيحه" (543/ 42): وإذا رفع من السجود، أعادها. وقد رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (1074) باللفظ الذي ذكره الإمام ابن دقيق -رحمه الله-. (¬4) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (920) إلى قوله: فردها في مكانها. وروى الإمام أحمد في "المسند" (5/ 304) قوله: فإذا قام، حملها .... ، على أن لفظ الإمام أحمد كما رواه في "مسنده": فإذا ركع، وضعها، وإذا قام من سجوده، أخذها، فأعادها على رقبته. والشارح -رحمه الله- يحكي كلام الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 591 - 592)، والعصمة لله وحده.

وقد اختلف تأويلهم في ذلك؛ وذلك أنهم عدوه عملاً كثيراً. قال ابن القاسم، عن مالك: أنه كان في النافلة؛ وهذا تأويل بعيد، فإن ظاهر الأحاديث: أنه كان في فريضة (¬1)، وتقدم ما ثبت في مسلم: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤم الناس، وأمامة على عاتقه (¬2). والظاهر: أن إمامته بالناس في المكتوبة، وأما في النافلة؛ فليست بمعهودة، يؤيد كونه في المكتوبة: حديث: بينما نحن ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر، أو العصر، وقد دعاه بلال إلى الصلاة، إذ خرج إلينا، وأمامة على عاتقه، فقام في مصلاه، فقمنا خلفه، فكبر، وكبرنا، وهي في مكانها" (¬3). وعند الزبير بن بكار، وتبعه السهيلي (¬4): الصبح، ووهم من عزاه للصحيحين. وقد كثرت أجوبة العلماء عن هذا الحديث، وقل أن يخلو منها من نظر؛ فقيل: منسوخ (¬5)، وقيل: إن ذلك من خصائصه (¬6)؛ وكل ذلك دعوى لا برهان عليها. وحمل ذلك أهل العلم من المحققين على: أنه عمل غير متوال، فلا يبطل الصلاة (¬7). ¬

_ (¬1) قاله القرطبي في "المفهم" (2/ 152). (¬2) برقم (542/ 42) عنده. (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (920). (¬4) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (3/ 103). (¬5) قاله ابن عبدالبر في "التمهيد" (20/ 94)، فيما نقل عن الإمام مالك -رحمه الله-. (¬6) حكاه القاضي عياض في "إكمال المعلم" (2/ 475). (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 592).

وقال النووي: ادعى بعض المالكية: أن هذا الحديث منسوخ، وبعضهم: أنه من خصائصه، وبعضهم: أنه كان لضرورة؛ وكل ذلك دعوى باطلة مردودة، لا دليل عليها، وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع، لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه معفو عنه، وثياب الأطفال، وأجسادهم محمولة على الطهارة؛ حيث لم تتبين النجاسة. والأعمال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت، وتفرقت، ودلائل الشرع متظاهرة على ذلك، وإنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لبيان الجواز (¬1). وقال الفاكهاني: كأن السر في حمله - صلى الله عليه وسلم - أمامة في الصلاة: دفعاً لما كانت العرب تألفه؛ من كراهة البنات، وحملهن؛ فخالفهم في ذلك، حتى في الصلاة؛ للمبالغة في ردعهم، والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول (¬2). وفيه دليل على: صحة صلاة من حمل آدمياً، أو حيواناً طاهراً، وأن ما عفي عنه في حق المحمول، عفي عنه في حق الحامل؛ كما هو مذهبنا. والشافعية يجيبون عن ذلك: بأنها واقعة حال؛ فيحتمل أن تكون أمامة كانت حينئذ قد غسلت؛ كما يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمسها بحائل. وفيه: جواز إدخال الصبيان المساجد، وما كان عليه - صلى الله عليه وسلم -؛ من التواضع، وشفقته على الأطفال، والكرامة عليهم؛ جبراً لهم، ولوالديهم (¬3). وفي هذا الحديث: قمع للمتنطعين، ورغم أنوف المتوسوسين، ودحض دعوى المتعمقين، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 32). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 592). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "اعْتَدِلُوا في السُّجُودِ، وَلا يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الكَلْبِ" (¬1). * * * (عن) أبي حمزة (أنس بن مالك - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -): أنه (قال: اعتدلوا)؛ أي: كونوا متوسطين بين الافتراش والقبض. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (509)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: المصلي يناجي ربه -عز وجل-، و (788)، كتاب: صفة الصلاة، باب: لا يفترش ذراعيه في السجود، ومسلم (493)، (1/ 355 - 356)، كتاب الصلاة، باب: الاعتدال في السجود، وأبو داود (897)، كتاب: الصلاة، باب: صفة السجود، والنسائي (1110)، كتاب: التطبيق، باب: الاعتدال في السجود، والترمذي (276)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الاعتدال في السجود، وابن ماجه (892)، كتاب: الصلاة، باب: الاعتدال في السجود. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 75)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 407)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 96)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 210)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 242)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 495)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 135)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 15، 302)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 19، 6/ 97)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 285).

وقال ابن دقيق العيد: الاعتدال هنا محمول على أمر معنوي؛ وهو وضع هيئة السجود على وفق الأمر؛ فإن الأمر الخلقي الذي طلبناه في الركوع، لا يتأتى (في السجود)؛ فإنه هناك استواء الظهر والعنق، والمطلوب هنا: ارتفاع الأسافل على الأعالي؛ حتى لو تساويا، ففي بطلان الصلاة وجهان، لأصحاب الشافعي. قال: ومما يقوي هذا الاحتمال: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يبسط أحدكم ذراعيه) (¬1) تثنية ذِراع -بالكسر-؛ وهو من طرف المرفق، إلى طرف الإصبع الوسطى (¬2)، والمراد: ما بين المرفق، ومفصل الكف. وفي رواية في البخاري، وغيره: "ولا ينبسط"، قال في "الفتح": كذا للأكثر -بنون ساكنة، قبل الموحدة-، وللحموي: "يبتسط" -بمثناة بعد الموحدة-. وأما التي اقتصر عليها الحافظ المصنف -رحمه الله-، فهي: رواية ابن عساكر (انبساط) بالنون، وعلى رواية الحموي: بالمثناة، وعلى الرواية التي اقتصر عليها المصنف -رحمه الله- فالتقدير: ولا يبسط ذراعيه، فينبسط انبساط (الكلب) (¬3). قال ابن دقيق العيد: إنه كالتتمة للأول، والأول كالعلة له؛ فيكون الاعتدال -الذي هو فعل الشيء على وفق الشرع- علةً لترك الانبساط كانبساط الكلب؛ فإنه مناف لوضع الشرع، وقد ذكر في هذا الحديث الحكم مقروناً بعلته؛ فإن التشبيه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركه في الصلاة، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 242 - 243). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 925)، (مادة: ذرع). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 302).

ومثله في التنفير: "الراجع في هبته، كالكلب يعود في قيئه" (¬1). وتقدم -في الحديث الثاني من الباب- ما لعله يشفي ويكفي، والله أعلم. تنبيه: معتمد المذهب: إن علا موضع رأسه على موضع قدميه، فلم تستعل الأسافل بلا حاجة، كره، وصحت صلاته، وقيل: تبطل، وهو المشهور من مذهب الشافعية، وقال أبو الخطاب، وغيره من علمائنا: إن خرج به عن صفة السجود، لم يجزه، والله أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2841)، كتاب: الجهاد والسير، باب: إذا حمل على فرس فرآها تباع، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، إلا أنه قال: "العائد" بدل "الراجع". وقد رواه البخاري (2449)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: هبة الرجل لا مرأته، والمرأة لزوجها، ومسلم (1622)، كتاب: الهبات، باب: تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، نحوه. وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 243). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 381).

باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود

باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود الطمأنينة:-بضم الطاء، وبعدها ميم مفتوحة، وبعد الميم همزة ساكنة، ويجوز تخفيفها بقلبها ألفاً-، قال الجوهري: اطمأن الرجل اطْمِئناناً وطُمأنينة: سكن، واطبأنَّ: مثلُه على الإبدال (¬1). قال الإمام الموفق في "المغني": معنى الطمأنينة: أن يمكث إذا بلغ حد الركوع قليلاً (¬2)، انتهى (¬3). وفي "الفتح": الطمأنينة، المراد بها: السكون، وحدُّها: ذهاب الحركة التي قبلها (¬4). وفي "تنقيح التحقيق" للحافظ ابن عبد الهادي: الطمأنينة في الركوع والسجود: فرض (¬5). وقال أبو حنيفة: قيل: سنة، وقيل: واجب؛ يجب ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2158)، (مادة: طمن). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 296). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 88). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 276). (¬5) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 388)، وذكر عن أبي حنيفة ومالك: أنها لا تجب.

بتركها ساهياً سجود السهو (¬1)؛ وهذا سر تنصيص الحافظ -رحمه الله تعالى- على الركوع والسجود، وإلا فهي في كل ركن فعلي. ثم إنه ذكر في هذا الباب: حديث المسيء في صلاته، فقال: عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، ثُمَّ جاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ: "ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، فَرَجَعَ فَصَلَّى كَما صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقالَ: "ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، ثَلاثاً، فَقالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ! ما أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقالَ: "إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقرَأْ ما تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكعاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قائِماً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ ساجِداً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً، وَافْعَلْ ذَلِكَ في صَلاتِكَ كُلِّها" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 409). (¬2) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (724)، كتاب: صفة الصلاة، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، و (760)، باب: حد إتمام الركوع والاعتدال فيه والطمأنينة، و (5897)، كتاب: الاستئذان، باب: من رد فقال عليك السلام، و (6290)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسياً في، الأيمان، ومسلم (397)، (45 - 46)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وأبو داود (856)، كتاب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والنسائي (884)، كتاب: الافتتاح، باب: فرض التكبيرة الأولى، والترمذي (303)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في وصف الصلاة، و (2692)، كتاب: الاستئذان، باب: ما جاء كيف رد السلام، وابن ماجه (1060)، كتاب: الصلاة، باب: إتمام الصلاة، و (3695)، كتاب الأدب، باب: رد السلام. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 210)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 94)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 281)، =

(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (- رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد) النبوي، فجلس، (فدخل رجل)، وفي لفظ: دخل رجل المسجد (¬1)، (فصلى)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد. ووقع في حديث رفاعة بن رافع عند ابن أبي شيبة في هذه القصة: فدخل رجل، فصلى صلاة خفيفة، لم يتم ركوعها، ولا سجودها (¬2). وفي رواية: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في ناحية المسجد (¬3). وعند النسائي: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، ونحن حوله (¬4). وهذا الرجل هو: خلاد بن أبي رافع، جد علي بن يحيى؛ كما جاء مصرحاً به في رواية ابن أبي شيبة، ولفظه: عن علي بن يحيى، عن رفاعة: أن خلاداً دخل المسجد (¬5). ¬

_ = و"المفهم" للقرطبي (2/ 29)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 106)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 2)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 497)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 56)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 277)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 15)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 294). (¬1) هو لفظ الترمذي المتقدم تخريجه عنده برقم (2692). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2958)، و (36296). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5897). (¬4) رواه النسائي (1136)، كتاب: التطبيق، باب: الرخصة في ترك الذكر في السجود، عن رفاعة بن رافع - رضي الله عنه -. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2526)، من طريق عباد بن العوام، عن محمد بن عمرو، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن رفاعة بن رافع، به. وليس فيه التصريح بذكر اسم الرجل، كما قاله الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 277)، وكذا في "الإصابة" (2/ 338). على أني رأيت الحافظ ابن بشكوال =

(ثم جاء)؛ أي: بعد صلاته، (فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -)، ومن معه من أصحابه - رضي الله عنهم -، وفي بعض الروايات عند النسائي: أنه صلى ركعتين؛ وفيه إشعار بأنه صلى نفلاً، والأقرب أنها: تحية المسجد، وفي رواية النسائي هذه: أنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمقه في صلاته (¬1). وفي بعض الألفاظ: فجاء، فسلم (¬2)، وهي أولى؛ لأنه لم يكن بين صلاته ومجيئه تراخٍ. وفي رواية في "الصحيحين"، وغيرهما: فرد عليه السلام (¬3)، وفي لفظ في الصحيح: (فقال): "وعليك السلام" (¬4). (ارجع فصل)، وفي رواية ابن عجلان، عند الإمام أحمد، والبخاري، وغيرهما: "أعد صلاتك" (¬5)؛ (فإنك لم تصل). ¬

_ = قد رواه في "غوامض الأسماء المبهمة" (2/ 583)، من طريق ابن أبي شيبة، به، باللفظ الذي ساقه عنه الحافظ ابن حجر، فلعل ابن أبي شيبة قد رواه في "مسنده"، أو أنه قد سقط من المطبوع من "مصنفه"، والله أعلم بالصواب. (¬1) رواه النسائي (1314)، كتاب: السهو، باب: أقل ما يجزىء من عمل الصلاة، عن رفاعة بن رافع - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6290). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (724، 760)، وعند مسلم برقم (397/ 45). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5897). قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 278): والذي وقفنا عليه من نسخ "الصحيحين" ثبوت الرد في هذا الموضع؛ أي: عند الحديث (760) من البخاري وغيره، إلا الذي في الأيمان والنذور، وقد ساق الحديث صاحب "العمدة" بلفظ الباب، إلا أنه حذف منه: فرد النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 340)، من طريق ابن عجلان، وليس فيه قوله: "أعد صلاتك" إلا أنه رواه من طريق محمد بن عمرو، ورواه أيضاً ابن =

قال القاضي عياض: فيه: أن صلاة الجاهل في العبادة، على غير علم، لا تجزىء (¬1)؛ وهو مبني على أن المراد بالنفي: نفي الإجزاء؛ وهو الظاهر. ومن حمله على نفي الكمال، تمسك بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بعد التعليم بالإعادة -يعني: لما تقدم من صلاته-، فدل على إجزائها، وإلا لزم تأخر البيان عن وقت الحاجة؛ كذا قال بعض المالكية، وهو المهلب، ومن تبعه. ونظر فيه في "الفتح"؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمره -في المرة الأخيرة- بالإعادة، فسأله التعليم، فعلمه؛ فكأنه قال له: أعد صلاتك على هذه الكيفية (¬2). ويأتي الكلام على ذلك في آخر الحديث بأبسط من هذا. (فرجع) الرجل، (فصلى) ثانياً؛ (كما صلى) أول مرة، (ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: ومن معه من الصحابة، فرد عليه كما تقدم، (فقال) له: (ارجع فصل؛ فإنك لم تصل)، فعل ذلك (ثلاثاً) من المرات، (فقال) في الثالثة، أو في التي بعدها (¬3). وفي رواية: فقال في الثانية، أو الثالثة (¬4)، ويترجح كونه في الثالثة؛ لعدم وقوع الشك فيها، ولكونه كان من عادته - صلى الله عليه وسلم -: استعمال الثلاث في تعليمه غالباً (¬5). ¬

_ = حبان في "صحيحه" (1787) من طريق ابن عجلان، ومحمد بن عمرو، به. وليس هو في شيء من روايات البخاري، من حديث رفاعة بن رافع الزرقي - رضي الله عنه -، والله أعلم. (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 283). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 278). (¬3) كما في رواية ابن نمير عند البخاري برقم (5897)، إلا أنه قال: "في الثانية، أو في التي بعدها". (¬4) كما في رواية أبي أسامة، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 278). (¬5) المرجع السابق، الموضع نفسه.

(والذي بعثك بالحق) نبياً (ما أُحْسِن غيره)، وفي لفظ: غير هذا (¬1)؛ (فعلِّمني)، وفي لفظ: "فأرني، وعلمني؛ فإنما أنا بشر، أصيب وأخطىء" (¬2). (فقال): أجل، (إذا قمت إلى الصلاة، فكبر)، في رواية ابن نمير: "إذا قمت إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر" (¬3). (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن)، قال في "الفتح": لم تختلف الروايات في هذا عن أبي هريرة (¬4). وفي حديث رفاعة بن رافع، عند أبي داود، والدارقطني، وفيه: فلما صلى، فسلم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وعليك، ارجع فصل؛ فإنك لم تصل"، قال همام: لا أدري، أمره بذلك مرتين، أو ثلاثاً؟ فقال الرجل: ما ألوت، وما أدري ما عبت علي من صلاتي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها لا تتم صلاة أحدكم، حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله، فيغسل وجهه، ويديه [إلى] المرفقين، ويمسح برأسه، ورجليه إلى الكعبين، ثم يكبر الله، ويثني عليه، ثم يقرأ أم القرآن وما أذن له فيه، وتيسر" (¬5). وللإمام أحمد، وابن حبان، من هذا الوجه: "ثم اقرأ بأم القرآن، ثم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (397/ 45). (¬2) رواه الترمذي (302)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في وصف الصلاة، وابن خزيمة في "صحيحه" (545)، من حديث رفاعة بن رافع - رضي الله عنه -. (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5897)، و (6290)، وعند مسلم برقم (397/ 46). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 278). (¬5) رواه أبو داود (858)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والدارقطني في "سننه" (1/ 95).

اقرأ بما شئت" (¬1)، وترجم له ابن حبان: البيان بأن فرض المصلي قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة (¬2). (ثم اركع، حتى تطمئن راكعاً)، وفي رواية عند الإمام أحمد: "فإذا ركعت، فاجعل راحتيك على ركبتيك، وامدد ظهرك، ومكن لركوعك" (¬3). وفي رواية إسحق بن أبي طلحة: "ثم يكبر، فيركع؛ حتى تطمئن مفاصله، وتسترخي" (¬4). (ثم ارفع) من ركوعك، (حتى تعتدل قائماً)، وفي رواية: "حتى تطمئن قائماً"، أخرجه ابن أبي شيبة، بإسناد على شرط مسلم (¬5)؛ وكذا أخرجه إسحاق بن راهويه، وغيره (¬6). وفي حديث رفاعة عند الإمام أحمد: "فإذا رفعت رأسك، فأقم صلبك؛ حتى ترجع العظام إلى مفاصلها" (¬7)؛ فثبت ذكر الطمأنينة في الاعتدال، على شرط الشيخين. وبهذا عرف ما في كلام بعض الشافعية: في القلب من إيجاب الطمأنينة ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 340) , وابن حبان في "صحيحه" (1787). (¬2) انظر: "صحيح ابن حبان" (5/ 88). (¬3) تقدم تخريجه قريباً عند الإمام أحمد وابن حبان. (¬4) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (858). (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2958). (¬6) كذا نسبه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 279) إلى إسحاق بن راهويه في "مسنده" من رواية أبي أسامة، ولم أره في المطبوع من "مسنده"، والله أعلم. وقد رواه بهذا اللفظ: ابن ماجه (1060)، كما تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬7) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد، وكذا ابن حبان.

في الرفع من الركوع شيء؛ لأنها لم تذكر في حديث المسيء صلاته (¬1). والحاصل: أن الأحاديث صحت بالأسانيد الثابتة، بوجوبها في الاعتدال من الركوع؛ ولهذا قال الإمام ابن القيم عن الاعتدال من الركوع: إنه ركن مقصود، بذكر مقصود، ليس بدون الركوع والسجود (¬2). (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً)، وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة: "ثم يكبر، فيسجد، حتى يمكن وجهه، أو جبهته؛ حتى تطمئن مفاصله، وتسترخي" (¬3). (ثم ارفع حتى تطمئن جالساً)، وفي رواية إسحق المذكورة: "ثم يكبر فيرفع؛ حتى يستوي قاعداً على مقعدته، ويقيم صلبه". وفي رواية: "فإذا جلست في وسط الصلاة؛ فاطمئن جالساً، ثم افترش فخذك اليسرى (¬4) "، وفي حديث رفاعة، عند الإمام أحمد: "فإذا سجدت؛ فمكن لسجودك، فإذا رفعت رأسك، فاجلس على فخذك اليسرى" (¬5). (وافعل ذلك في صلاتك كلها)، وفي لفظ: "ثم افعل" (¬6)، وعند الإمام أحمد، من حديث رفاعة: "ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 279). (¬2) انظر: "صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - " لابن القيم (ص: 209). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه أبو داود (860)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، عن رفاعة - رضي الله عنه -. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (760، 5897. 6290)، وعند مسلم برقم (397/ 45). (¬7) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد برقم (4/ 340).

واستدل بهذا الحديث على: وجوب الطمأنينة في أركان الصلاة؛ وبه قال الجمهور. واشتهر عن الحنفية: أن الطمأنينة سنة، وصرح بذلك كثير من مصنفيهم. واعلم: أن المصنفين قد أكثروا من الاستدلال بهذا الحديث نفياً وإثباتاً، وحمَّلوه فوق وسعه، وطريق الإنصاف لا يخفى؛ فإن الظاهر من حال المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما علم الرجل الأمور التي أخل بها؛ فما لم يذكره له، فلا يخلو؛ إما أن يرد بدليل خاص فيعمل به، وإلا فيسوغ الاستدلال به عليه. وأما الأخبار التي وردت في الأذكار ونحوها، فلا يسوغ أن يقال: إنها لم تذكر في حديث المسيء صلاته، فيهمل العمل بمقتضى الأحاديث الواردة، مما سندُها فوق سند هذا الحديث، أو مثله، أو دونه؛ بمجرد سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذكرها، هذا عدول عن سنن الشريعة. فمن ذلك: تسبيحات الركوع والسجود، والذكر بين السجدتين، وذكر الرفع من الركوع والاعتدال، وتكبيرات الانتقال؛ فلا يسوغ إلغاء الأحاديث الواردة في ذلك كله؛ لعدم ذكرها في هذا الحديث؛ فإنه لم يذكر فيه النية، وهي ركن، أو شرط باتفاق منَّا ومنهم، وكذلك لم يذكر التشهد الأول والأخير، ولا الجلوس لهما، ولا السلام؛ وكل هذه ثابتة بأحاديث تخصها. والحاصل: ما ورد فيه حديث يوجبه، أو ينفيه، أو يندبه، عُمل بمقتضاه، وما لم يرد به شيء، ولم يذكر في هذا الحديث صلح أن يستدل له بهذا، وهذا بين ظاهر، ولله الحمد.

وفي هذا الحديث من الفوائد: وجوب الإعادة على من أخل بشيء من واجبات الصلاة. وربما استدل به على أن الشروع في النافلة ملزم، لكن يحتمل كون تلك الصلاة كانت فريضة، فيقف الاستدلال. وفيه: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحسن التعليم بغير تعنيف، وإيضاح المسألة [وتلخيص] (¬1) المقاصد، وطلب المتعلم من العالم أن يعلمه. وفيه: تكرير السلام، ورده، وإن لم يخرج من الموضع؛ إذا وقعت صورة انفصال. وفيه: جلوس الإمام في المسجد، وجلوس أصحابه معه. وفيه: الامتثال للعالم، والانقياد له، والاعتراف بالتقصير، والتصريح بحكم البشرية في جواز الخطأ، والحلف، وأن يحلف. وفيه: أن فرائض الوضوء مقصورة على ما ورد به القرآن، إلا ما زادته السنة، [فيندب]. وفيه: حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعاشرته. وفيه: جواز تأخير البيان في المجلس؛ للمصلحة، وقد استشكل تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - له على صلاته وهي فاسدة؛ على القول بأنه أخل ببعض الواجبات. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وتخليص". وكذا هي في المطبوع من "الفتح" (2/ 280)، والتصويب من "شرح مسلم" للنووي (4/ 108)، وعنه نقل الحافظ ابن حجر مع بعض الفوائد التي ذكرها الشارح -رحمه الله- هنا.

وأجاب المازري: بأنه أراد استدراجه، بفعل ما جهله مرات؛ لاحتمال أن يكون فعله ناسياً، أو غافلاً؛ فيتذكره، فيفعله من غير تعليم، وليس ذلك من باب التقرير على الخطأ؛ بل من باب تحقيق الخطأ. وللنووي نحوه: وإنما لم يعلمه أولاً؛ ليكون أبلغ في تعريفه، وتعريف غيره، بصفة الصلاة المجزئة (¬1). وقال الحافظ ابن الجوزي: فيحتمل أن يكون ترديده؛ لتفخيم الأمر، وتعظيمه عليه، ورأى أن الوقت لم يفته؛ فأراد إيقاظ الفطنة للمتروك (¬2). وقال ابن دقيق العيد: ليس التقرير بدليل على الجواز مطلقاً، بل لا بد من انتفاء الموانع، ولا شك أن في زيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه بعد تكرار فعله، واستجماع نفسه، وتوجيه سؤاله؛ مصلحةً مانعةً من وجوب المبادرة إلى التعليم، ولاسيما مع أمن خوف الفوات؛ إما بناء على ظاهر الحال، أو بوحي خاص (¬3). والمقصود الأعظم: وجوب الطمأنينة في الركوع، والاعتدال، والسجود والاعتدال منه. وفي حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها ظهره في الركوع والسجود" رواه الإمام أحمد، والترمذي، وقال: حديث صحيح (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 109). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 281). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 11). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 119)، والترمذي (265)، كتاب: الصلاة، باب: فيمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، وكذا أبو داود (855)، كتاب: =

وروى الإمام أحمد، والبخاري، وغيرهما، عن أبي وائل، عن حذيفة - رضي الله عنه -: أنه رأى رجلاً، لا يتم ركوعاً، ولا سجوداً، فلما انصرف من صلاته، دعاه حذيفة، فقال له: منذ كم صليت هذه الصلاة؟! قال: قد صليتها منذ كذا، وكذا، فقال حذيفة: ما صليت، أو ما صليت لله صلاة -شك مهدي-، وأحسبه قال: لو مت، مت على غير سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬1). والله تعالى الموفق. * * * ¬

_ = الصلاة، باب: صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والنسائي (1027)، كتاب: الافتتاح، باب: إقامة الصلب في الركوع، وابن ماجه (870)، كتاب: الصلاة، باب: الركوع في الصلاة. (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 396)، والبخاري (382)، كتاب: الصلاة، باب: إذا لم يتم السجود، وهذا لفظ الإمام أحمد.

باب القراءة في الصلاة

باب القراءة في الصلاة أي: وجوبها؛ فهي -يعني: فاتحة الكتاب- ركن في كل ركعة؛ ؤوفاقاً لمالك، والشافعى. وعند أبى حنيفة: تكفى آية من غيرها، وظاهره: ولو قَصُرت. قال في "الفروع": ظاهره: ولو كانت كلمة، قال: وللحنفية خلاف، لا بعضَ آية، إلا أن تكون طويلة، وعند صاحبيه: تكفي آيةٌ طويلة، أو ثلاثٌ قصار، وعند أبي حنيفة: لا تجب قراءة، في غير الأولتين والفجر؛ فإن شاء سَّبحَ، وإن شاء سكت (¬1). ثم إن الحافظ -طيب الله ثراه- ذكر في هذا الباب ستة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 356).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ" (¬1). (عن) أبي الوليد (عُبَادة) -بضم العين المهملة، وتخفيف الباء الموحدة - (بن الصامت) -بالصاد المهملة، فألف ساكنة، فميم مثناة فوق-، بنِ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (723)، كاب: صفة الصلاة، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، ومسلم (394)، (34 - 36)، كثاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وأبو داود (822 - 823)، كتاب: الصلاة، باب: من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، والنسائي (910 - 911)، كتاب: الافتتاح، باب: إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة، والترمذي (247)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء: أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وابن ماجه (837)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة خلف الإمام. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 205)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 46)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 271)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 24)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 100)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 13)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 507)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 241)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 10) و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 169)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 229).

قيسِ بنِ أصرمَ بنِ ثعلبةَ بنِ غنمِ بنِ سالمِ بنِ عوفٍ، الأنصاريِّ، الخزرجيِّ. كان - رضي الله عنه - أحد النقباء الاثني عشر، وشهد العقبة الأولى، والثانية، والثالثة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مرثد كناز بن حصن الغنوي، وشهد بدراً، والمشاهد كلها. استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقات، وكان يعلم أهل الصفة القرآن. ولما فتحت الشام، ولاَّه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قاضياً ومعلماً وإماماً بحمص، وأرسل أيضاً معاذاً وأبا الدرداء؛ ليعلموا الناس، ويفقهوهم؛ فأقام عبادة (- رضي الله عنه -) بحمص، ومعاذ بفلسطين، وأبو الدرداء بدمشق، ثم صار عبادة إلى فلسطين، بعد موت معاذ - رضي الله عنه -. ومات عبادة - رضي الله عنه - بالرملة؛ كما رجحه ابن الأثير، لكن النووي رجح: أنه مات ببيت المقدس، وقيل: إنه مات بفلسطين، ودفن ببيت المقدس، وكان ذلك سنة أربع وثلاثين، وقيل: خمس وأربعين، والأول أصح؛ وهو ابن اثنين وسبعين. قلت: له بظاهر القدس لصق السور (¬1) في الجانب الشرقي قبرٌ يزار ويتبرك به، وقد زرته، ولله الحمد. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث وثمانون حديثاً؛ اتفقا منها على ستة، وانفرد البخاري باثنين، ومسلم باثنين. روى عنه: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وفضالة بن جبير، والمقدام، وغيرهم من الصحابة، والتابعين -رحمه الله، ورضي عنه- (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "الصور". (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 546)، و"التاريخ الكبير" =

(أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة) شرعية صحيحة مسقطة للفرض، الذي أوجبه الله على عباده (لمن)، أي: لمكلف، ولا غيره (لم يقرأ) في تلك الصلاة (بفاتحة الكتاب) في كل ركعة منها. وهي أفضل سورة في القرآن؛ قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر معناه ابن شهاب، وغيره (¬1). قال - صلى الله عليه وسلم - فيها: "أعظم سورة في القرآن؛ وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته" رواه البخاري، وغيره (¬2). وآية الكرسي أعظم آية؛ كما رواه مسلم، وكذا رواه الإمام أحمد (¬3). وللترمذي، وغيره: "إنها سيدة آي القرآن" (¬4)؛ وقاله إسحاق بن راهويه، وغيره، وقاله شيخ الإسلام ابن تيمية (¬5)؛ كما نطقت به النصوص. ¬

_ = للبخاري (6/ 92)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (3/ 429)، و"الثقات" لابن حبان (1/ 95)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 398)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 807)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (26/ 180)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 158)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 183)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 5)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 624)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (5/ 97). (¬1) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 417). (¬2) رواه البخاري (4204)، كتاب: التفسير، باب: ما جاء في فاتحة الكتاب، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 540)، وغيرهما، عن أبي سعيد بن المعلَّى - رضي الله عنه -. (¬3) رواه مسلم (810)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل سورة الكهف وآية الكرسي، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 141)، عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه -. (¬4) رواه الترمذي (2878)، كتاب: فضائل القرآن، باب: في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، وقال: حديث غريب، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 417).

وفي حديث أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليه أُبي بن كعب فاتحة الكتاب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده! ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها؛ إنها السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيت" رواه الترمذي، وصححه، والنسائي بمعناه، وغيرهما (¬1). قال الحافظ ابن رجب في كتابه "الحجة الواضحة في وجوب الفاتحة" (¬2): وسبب ذلك: أن هذه السورة اشتملت على أصول قواعد الإسلام، وأهم مقاصد الدين؛ بما تضمنته من ذكر الحمد لله، والثناء عليه، وتمجيده، وذكر أصول الأسماء الحسنى؛ وهي: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والمالك؛ فإن معاني سائر الأسماء الحسنى ترجع إليها، ومحلى ذكر توحيد الإلهية بالعبادة التي لأجلها خلق الخلق، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب. وتوحيد الربوبية؛ بالتوكل، والاستعانة، والتفويض. وعلى الدعاء الذي لا غنى لأحد عنه طرفة عين، ولا سعادة لأحد في الدارين إلا بحصول مطلوبه منه؛ وهو هداية الصراط المستقيم. وعلى ذكر الجزاء، وإدانة العباد بأعمالهم، وافتراق الخلق، وانقسامهم إلى منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالين. وسميت فاتحة الكتاب؛ لأنه يفتتح بها في المصاحف؛ فتكتب قبل الجميع (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2878)، كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل فاتحة الكتاب، وقال حسن صحيح، والنسائي في "السنن الكبرى" (11205)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 357). (¬2) ذكر ابن عبد الهادي في "الجوهر المنضد" (ص: 50)، كتاباً لابن رجب في فاتحة الكتاب هو "إعراب أم الكتاب" وقال: لعله كتاب "الفاتحة". (¬3) قال البخاري في "صحيحه" (4/ 1623): سميت أم الكتاب؛ لأنه يبدأ بكتابتها =

وتسمَّى أم القرآن؛ لاشتمالها على المعاني التي في القرآن: من الثناء على الله، والتعبد بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وعلى ما فيها من ذكر الذات، والصفات، والفعل، واشتمالها على ذكر المبدأ والمعاد، والمعاش. وللفاتحة أسماء أخرى، جمعت من آثار وأخبار؛ منها: الكنز، والوافية، والشافية، والكافية (¬1). قال الحافظ ابن رجب: سميت الكافية؛ لأنها تكفي عن غيرها، ولا يكفي غيرها عنها. قال: والصلاة أفضل الأعمال، وهي مؤلفة من أقوال، وأفعال، وأفضل أقوالها وأوجبه: قراءة القرآن، وأفضك أفعالها وأوجبه: السجود؛ وقد جمع الله بين هذين الأمرين، في أول سورة أنزلها من القرآن وهي: {اقْرَأْ} [العلق: 1]. فافتتحها بالأمر بالقراءة، وختمها بالأمر بالسجود؛ فوضعت الصلاة على ذلك، أولها قراءة، وآخرها سجود؛ فكما أن السجود لا يقوم مقامه غيره من أنواع الخضوع والذل؛ فكذلك قراءة سورة الفاتحة، لا يقوم غيرها من سور القرآن مقامها. فإن فضل هذه السورة على غيرها من السور، أعظمُ من فضل الركوع والسجود على سائر أفعال الخضوع، فإذا لم يقم مقام الركوع والسجود غيره من أفعال الخضوع والتذلل؛ فلأن لا يقوم مقام الفاتحة غيرها من الأقوال أولى. ¬

_ = في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة. (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 156).

ولا ريب أن القراءة في الصلاة ركن من أركانها؛ فتكون معينة كسائر الأركان؛ فإن أركان الصلاة نوعان: فعلية، وقولية، وكل أركانها الفعلية متعينة، لا يقوم غيرها مقامها مع القدرة؛ كالقيام، والقعود، والركوع، والسجود؛ فكذلك أركانها القولية متعينة -أيضاً-؛ كالتكبير للتحريم، والتسليم للتحليل، والتشهد. وهذا، وإن نازع فيه من نازع، لكن الواجب اتباعه النص، وقد ثبت بالنصوص الصحيحة الدالة على المقصود الدلانة الصريحة؛ فوجب المصير إليه، وليس مع من لم يوجب الفاتحة ما ينهض بحجة ناجحة، كيف، والمصطفى يقول -بما ثبتت به النقول من غير شك ولا ارتياب-: "لا صلاة لمن، لم يقرأ بفاتحة الكتاب"؟! وقال الحافظ ابن عبد الهادي، في "تنقيح التحقيق": لا تصح الصلاة إلا بفاتحة الكتاب. وقال أبو حنيفة: يجزئه آية. لنا: حديثان: فذكر حديث عبادة بن الصامت هذا، قال: وأخرجه الدارقطني، بلفظ: "لا تجزىء صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، وقال: إسناده صحيح (¬1). الثاني: حديث أبي هريرة، رواه الإمام أحمد، ومسلم، وغيرهما، ولفظه: قال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن؛ فهي خداج، هي خداج، غير تمام"، فقال أبو السائب: قلت: ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 321).

يا أبا هريرة! أنا أحياناً أكون وراء الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، يا فارسي!! (¬1). تنبيهان: الأول: تجب قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة، وقال أبو حنيفة: لا تجب القراءة إلا في ركعتين، ويأتي في الحديث الآتي: التصريح بالقراءة بالفاتحة في الركعتين الأخيرتين، وفي حديث أبي الدرداء: أن رجلاً قال: يارسول الله! أفي كل الصلاة قراءة؟ فقال: "نعم"، فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه. رواه الإمام أحمد (¬2). قال ابن الجوزي: وقد روى أصحابنا من حديث عبادة، وأبي سعيد - رضي الله عنهما -، قالا: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأ بالفاتحة في كل ركعة، ورووا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة"، قال ابن الجوزي: وما عرفت هذين الحديثين (¬3). قال الحافظ ابن عبد الهادي: حديث عبادة، وأبي سعيد؛، رواه إسماعيل بن سعيد الشالنجي (¬4)، وروى حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ في ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 285)، ومسلم (395)، كتاب: الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة. وانظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 369). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 197)، والنسائي (923)، كتاب: الافتتاح، باب: اكتفاء المأموم بقراءة الإمام. (¬3) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 372). (¬4) أبو إسحاق، ذكره الخلال، وقال: عنده مسائل كثيرة، ما أحسب أحداً من أصحاب أبي عبد الله -يعني: الإمام أحمد- روى أحسن منه. انظر: "المقصد الأرشد" لابن مفلح (1/ 261).

كل ركعة بفاتحة الكتاب"، من حديث أبي سعيد -أيضاً-، انتهى (¬1). ولا يصح حديث يتمسك به القائل بعدم وجوب القراءة، والله تعالى الموفق. الثاني: لا تجب القراءة على المأموم، وفاقاً لأبي حنيفة، ومالك؛ أي: يحملها الإمام عنه، وإلا فهي واجبة عليه. وعن الإمام أحمد رواية ثانية: تجب؛ ذكرها الترمذي (¬2)، والبيهقي، واختاره الآجري. نقل الأثرم، عن الإمام أحمد - رضي الله عنه -: لا بد للمأموم من قراءة الفاتحة، ذكره ابن الزاغوني من علمائنا، قال: وكثير من أصحابنا لا يعرف وجوبه؛ حكاه في "النوادر"، واستظهر هذا القول في "الفروع"؛وفاقاً للشافعي. ونقل أبو داود، عن الإمام أحمد: يقرأ خلفه في كل ركعة إذا جهر، وقال: في الركعة الأولى تجزىء (¬3)، وهي مستحبة: بـ"الحمد"، ويقرأ في السكتات، ولو لتنفس. وقال أبو حنيفة: تكره، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا تكره بالإجماع، كذا قال. نعم، تكره القرَاءة في حال جهر الإمام؛ وفاقاً لمالك (¬4). واحتج علماؤنا، ومن وافقهم، لعدم وجوب القراءة على المأموم: بما ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 384). (¬2) انظر: "سنن الترمذي" (2/ 26). (¬3) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود" (ص: 48). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 373 - 374).

روى الإمام أحمد، من حديث جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من كان له إمام، فقراءته له قراءة"، ورواه الدارقطني (¬1). ورواه -أيضاً- من طريق أخرى، بلفظ: "من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة" (¬2). ومن طريق أخرى، عن جابر، مرفوعاً: "من صلى خلف الإمام، فقراءة الإمام له قراءة" (¬3). وعن مالك بن أنس -الإمام-، ثنا وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل صلاة، لا يقرأ فيها بأم الكتاب؛ فهي خداج، إلا أن يكون وراء الإمام" رواه الدارقطني (¬4). وروى الدارقطني، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة" (¬5). ومن حديث علي - رضي الله عنه -، قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أقرأ خلف الإمام، أو أنصت؟ قال: "بل أنصت، فإنه يكفيك" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 339)، والدارقطني في "سننه" (1/ 331). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 323)، وكذا ابن ماجه (850)، كتاب: الصلاة، باب: إذا قرأ الإمام فأنصتوا. (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 402)، وقال: حديث منكر. (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 327)، وقال: يحيى بن سلام ضعيف، والصواب موقوف. (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 402)، وقال: رفعه وهم، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 161)، وقال: غلط منكر، وإنما هو عن ابن عمر من قوله. (¬6) الدارقطني في "سننه" (1/ 330)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 155).

ومن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، مرفوعاً: "تكفيك قراءة الإمام؛ خافَتَ، أو جاهر" (¬1). ومن حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس، ورجل يقرأ خلفه، فلما فرغ، قال: "من ذا الذي يخالجني سورتي؟! "، فنهاهم عن القراءة خلف الإمام (¬2). ومن حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفي كل صلاة قراءة؟ قال: "نعم"، فقال رجل من الأنصار: وجبت هذه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لي -وكنت أقرب القوم إليه-: "ما أرى الإمام، إذا أم القوم، إلا قد كفاهم" (¬3). ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "من كان له إمام، فقراءته له قراءة" (¬4). وقل حديث منها، إلا وفيه مقال، والله أعلم (¬5). * * * ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 331)، وقال: رفعه وهم. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 326)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 228)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 162). (¬3) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد، والنسائي، ورواه الدارقطني في "سننه" (1/ 332). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 333). (¬5) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 374 - 375).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَينِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ؛ بفاتِحَةِ الكِتَابِ، وَسُورَتَيْن؛ يُطَوِّلُ فِي الأُولَى، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، يُسْمعُ الآيةَ أحياناً، وكان يقرأ في العَصْرِ بفاتِحَةِ الكِتابِ وسُورَتَيْنِ، يُطَوِّلُ في الأُوَلى، وَيُقَصِّرُ في الثانِيَةِ، وكَانَ يُطَوِّلُ فَي الأُولَى مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ؛ بِأُمِّ الكِتَابِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (725)، كتاب: صفة الصلاة، باب: القراءة في الظهر، واللفظ له، و (728)، باب: القراءة في العصر، و (743)، باب: يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب، و (745)، باب: إذا أسمع الإمام الآية، و (746)، باب: يطول في الركعة الأولى، ومسلم (451)، (154 - 155)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الظهر والعصر، وأبو داود (798 - 800)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في القراءة في الظهر، والنسائي (974)، كتاب: الافتتاح، باب: تطويل القيام في الركعة الأولى من صلاة الظهر، و (975)، باب إسماع الإمام الآية في الظهر، و (976)، باب: تقصير القيام في الركعة الثانية من الظهر، و (977)، باب: القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر، و (978)، باب: القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة العصر، وابن ماجه (819)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في صلاة الفجر، و (829)، باب: الجهر بالآية أحيانا في صلاة الظهر والعصر. =

(عن أبي قتادة) الحارت بن ربعي (الأنصاري - رضي الله عنه -، قال: كان)، تقدم -غير مرة-: أنها تفيد الكثرة، أو المداومة (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليين) بتحتانيتين تثنية أولى (من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب) تقدم سبب تسميتها بذلك، وباقي أسمائها، ومن أسمائها -غير ما تقدم-: سورة الحمد، والحمد لله، وسورة الصلاة، وسورة الشفاء، والأساس، وسورة الشكر، وسورة الدعاء (¬1). (و) كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ مع فاتحة الكتاب بـ (سورتين) تتنية سورة" وهي من القرآن معروفة، سميت بذلك؛ لأنها مَنْزِلة بعد مَنْزِلة، مقطوعة عن الأخرى (¬2)، (يطول في الأولى) من الركعتين الأوليين، لطول السورة التي يقرؤها فيها، (ويقصر في) الركعة (الثانية). قال في "الفتح" -كغيره-: كأن السبب في ذلك: أن النشاط [كان] (¬3) في الأولى يكون أكثر؛ فناسب التخفيف في الثانية؛ حذراً من الملل (¬4). وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى، في آخر هذا الحديث: ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 201)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 367)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 71)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 171)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 15)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 510)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 414)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 244)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 21)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 174)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 248). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 156). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 527)، (مادة: سور). (¬3) كذا في الأصل: "كان"، ولا موضع لها في سياق الكلام. (¬4) حكاه الحافظ ابن حجر في: "فتح الباري" (2/ 244)، عن الإمام ابن دقيق العيد في "شرح" عمدة الأحكام" (2/ 139).

فظننا أنه يريد بذلك: أن يدرك الناس الركعة الأولى (¬1). ولأبي داود، وابن خزيمة، نحوه؛ من رواية أبي خالد، عن سفيان، عن معمر (¬2). وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إني لأحب أن يطول الإمام الركعة الأولى، على الثانية (¬3). واستدل بظاهر الحديث: على أن قراءة سورة أفضل من قراءة قدرها من طويلة (¬4)، زاد البغوي: ولو قصرت السورة عن المقروء، وكأنه مأخوذ من قوله: كان يفعل " لدلالته على الدوام، أو الغالب (¬5). وفي "الفروع": تستحب سورة؛ نص على ذلك -يعني: الإمام أحمد-، قال القاضي وغيره: تجوز آية، إلا أن الإمام أحمد استحب كونَها طويلة؛ فإنه قال: تجزىء مع {الحمد} آية؛ مثل: آية الدين، وآية الكرسي (¬6). (يسمع الآية) -بضم المثناة تحت-، وفي رواية: ويسمعنا (¬7)، وفي حديث البراء: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر، فنسمع منه الآية بعد الآية؛ من سورة لقمان، والذاريات. رواه النسائي (¬8)، ورواه ابن خزيمة، من ¬

_ (¬1) رواه عبد الرازق في "المصنف" (2675). (¬2) رواه أبو داود برقم (855)، كما تقدم تخريجه عنه، من طريق عبذ الرازق، به. ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1580)، من طريق أبي خالد، به. (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (3710)، بلفظ: إني لأحب أن يطول الإمام الأولى من كل صلاة، حتى يكثر الناس. (¬4) قاله النووي في "شرح مسلم" (4/ 174). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 244). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 368). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (728، 743 , 745)، وعند مسلم برقم (451). (¬8) رواه النسائي (971)، كتاب: الافتتاح، باب: القراءة في الظهر، وابن ماجه =

حديث أنس بمعناه، ولكن من: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، والغاشية (1). (أحياناً) يدل على: تكرر ذلك منه. وقال ابن دقيق العيد: فيه دليل على: جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار، دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة، كأنه مأخوذ من سماع بعضها، مع قيام القرينة على قراءة باقيها، واحتمالُ كونِ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يخبرهم عقب الصلاة دائماً أو غالباً بقراءة السورتين بعيد جداً (¬2). (وكان) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (يقرأ في) صلاة (العصر بفاتحة الكتاب، وسورتين). ذكر في "الفروع": ذكر جماعة: أن المستحب أن تكون القراءة في الظهر أزيدَ من العصر، ونقل حرب -يعني: عن الإمام أحمد رضي الله عنه -: في العصر يعني: المستحب-: أن تكون القراءة في العصر- نصف الظهر؛ لخبر أبي سعيد (¬3)، وإن عكس، فقيل: يكره، وقيل: لا (¬4). ¬

_ = (830)، كتاب: الصلاة، باب: الجهر بالآية أحياناً في صلاة الظهر والعصر. (1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (512). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 16). (¬3) رواه مسلم (452/ 156)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الظهر والعصر، بلفظ: كنا نحزر قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك. (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 368).

وكان - صلى الله عليه وسلم - (يطول) القراءة (في) الركعة (الأولى)؛ كما هو مندوب لما تقدم في الظهر، (ويقصر في الثانية). ومن لم يستحب من العلماء تطويل الركعة الأولى على الثانية، قال: إنما طالت الأولى بدعاء الاستفتاح والتعوذ، وأما في القراءة، فهما سواء (¬1)، يدل له حديث أبي سعيد، عند مسلم: كان يقرأ في الظهر في الأوليين، في كل ركعة؛ قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين؛ خمس عشرة آية، قال: ونصف ذلك في العصر، في الركعتين الأوليين، في كل ركعة؛ قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين؛ قدر نصف ذلك (¬2). وفي رواية لابن ماجه: أن الذين حزروا ذلك من الصحابة، كانوا ثلاثين (¬3). (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (يطول في) قراءة (الأولى من صلاة الصبح، ويقصر في) قراءة الركعة (الثانية) دون الأولى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى المصرية": كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر بنحو ستين آية، إلى مئة آية (¬4)، يقرأ في الركعة الواحدة: بقاف (¬5)، أو الطور، أو {الم (1) تَنْزِيلُ}، وفي ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 244). (¬2) تقدم تخريجه قريباً. وانظر هذا اللفظ في: "صحيح مسلم" برقم (452/ 157). (¬3) رواه ابن ماجه (828)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الظهر والعصر، بلفظ: اجتمع ثلاثون بدرياً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... , الحديث. (¬4) رواه البخاري (516)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت الظهر عند الزوال، ومسلم (461)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، عن أبي برزة - رضي الله عنه -. (¬5) رواه مسلم (457)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، عن قطبة بن =

الأخرى: بـ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} (¬1). قال: وكانت قراءته في الظهر، بدون ذلك؛ يقرأ في الركعة الأولى: تارة بثلاثين آية؛ كتبارك الذي بيده الملك، أو دونها، وفي الثانية: بأقل من ذلك، ويقرأ في العصر: بأقل مما يقرأ في الظهر؛ إما النصف، أو غيره (¬2)، ودي العشاء الآخرة، بمثل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (¬3)؛ ونحو ذلك من أوساط المفصل (¬4)، وأما المغرب: فكان يقرأ فيها أقصر من ذلك، وكان يطيلها أحياناً؛ حتى قرأ فيها مرة بالأعراف (¬5)، ومرة بالطور (¬6)، ومرة بالمرسلات (¬7)، انتهى (¬8). ¬

_ = مالك - رضي الله عنه -. (¬1) رواه البخاري (851)، كتاب: الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة، ومسلم (880)، كتاب: الجمعة، باب: ما يقرأ في يوم الجمعة، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم تخريجه من حديث أبي سعد الخدري - رضي الله عنه - عند مسلم. (¬3) سيأتي تخريجه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬4) سيأتي تخريجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) رواه البخاري (730)، كتاب: صفة الصلاة، باب: القراءة في المغرب، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، بلفظ: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بطولى الطوليين. زاد أبو داود (812): قال: -يعني: مروان بن الحكم-: قلت: ما طولى الطوليين؟ قال -يعني: زيد بن ثابت-: الأعراف، والأخرى الأنعام. قال: وسألت أنا ابن أبي مليكة، فقال لي من قبل نفسه: المائدة والأعراف. (¬6) سيأتي تخريجه من حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه -. (¬7) رواه البخاري (729)، كتاب: صفة الصلاة، باب: القراءة في المغرب، ومسلم (462)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬8) انظر: "الفتاوى الحصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 507).

(و) كان - صلى الله عليه وسلم -، يقرأ (في الركعتين الأخريين: بأم الكتاب) -يعني: من غير زيادة-. قال في "الفتح": سميت أم الكتاب؛ لأن أم الشيء: ابتداؤه، وأصله؛ ومنه سميت مكة: أم القرى؛ لأن الأرض دُحيت من تحتها، وسميت أم القرآن؛ لاشتمالها على المعاني التي في القرآن؛ من الثناء على الله، والتعبد بالأمر والنهي؛ كما تقدم (¬1). تنبيه: قال في "تنقيح التحقيق": لا تسن قراءة السورة في الأخريين؛ خلافاً لأحد قولي الشافعي، واحتج لنا: بحديث أبي قتادة المذكور (¬2)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 156). (¬2) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 385).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بالطُّورِ (¬1). * * * (عن) أبي محمد (جبير) -بضم الجيم، وفتح الموحدة، وسكون الياء- (بن مطعم) -بضم الميم، وسكون الطاء، وكسر العين المهملتين -بنِ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (731)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الجهر في المغرب، و (2885)، كتاب: الجهاد، باب: فداء المشركين، و (3798)، كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدراً، و (4573)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة: {وَالطُّورِ}، ومسلم (463)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في الصبح، وأبو داود (811)، كتاب: الصلاة، باب: قدر القراءة في المغرب، والنسائي (987)، كتاب: الافتتاح، باب: القراءة في المغرب بالطور، وابن ماجه (832)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في صلاة المغرب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 425)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 17)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 513)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 437)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 248)، و"عمدة القاري" للعيني (1/ 425)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 176)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 257).

عديِّ بنِ نوفلِ بنِ عبدِ منافِ بنِ قصيٍّ، القرشيِّ النوفليِّ (- رضي الله عنه -). روى محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأكلمه في أسارى بدر، فوافقته، وهو يصلي بأصحابه المغرب أو العشاء، فسمعته، وهو يقرأ، وقد خرج صوته من المسجد {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7 - 8]، قال: وكأنما صدع قلبي (¬1)، وفي رواية: فسمعته يقرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36]، وكاد قلبي يطير، فلما فرغ من صلاته، كلمته في أسارى بدر، فقال: "لو كان أبوك الشيخ حياً، فأتانا فيهم؛ شفعناه" (¬2). وذلك أن المطعم كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يد؛ وهي أنه كان أجار رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم من الطائف؛ حين دعا ثقيفاً إلى الإسلام، وكان أحد الذين قاموا في شأن الصحيفة ونقضوها، وكانت وفاة المطعم في صفر، في الثانية من الهجرة، قبل بدر بنحو سبعة أشهر، ثم أسلم ابنه جبير بعد ذلك؛ يوم الفتح، وقال ابن الأثير: عام خيبر، وقيل: بعد الحديبية وقبل الفتح. وكان جبير بن مطعم - رضي الله عنه - من حكماء قريش، وساداتهم، وكان يؤخذ عنه النسب؛ فإنه كان عالماً بأنساب العرب، من أنسب قريش لقريش، وكان يقول: إنما أخذت النسب عن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه -. قال أبو عمر: يقال: إنه أول من لبس طيلساناً بالمدينة. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 83)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1499)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 212)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 444)، وغيرهم. (¬2) كذا ذكر ابن عبد البر سياقه في "الاستيعاب" (1/ 232)، ورواه أبو عبيد في "الأموال" (302)، نحوه.

وأقام جبير - رضي الله عنه - بالمدينة إلى أن توفي بها سنة سبع وثلاثين، وقيل: ثمان، وقيل: تسع، وقيل: أربع. ورجح ابن الأثير الأول في "أسد الغابة"، والثالث: الذهبي في "الكاشف"، والرابع: ابن الأثير في "جامع الأصول"، والنووي في "التهذيب". روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستون حديثاً، وقيل: سبعون، اتفقا على ستة، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث (¬1). (قال) جُبير بن مُطْعِم - رضي الله عنه -: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وهذا مما سمعه جبير من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلامه، لمَّا قَدِمَ بفداء الأسارى، وهذا النوع في الأحاديث قليل، يعني: التحملَ قبل الإسلامِ، والأداءَ بعده. (يقرأ)، وفي لفظ: "قرأ" (¬2) (في) صلاة (المغرب) (بـ) سورة (الطور) زاد البخاري: وكان في أسارى بدر (¬3)، زاد الإسماعيلي من طريق مَعمَر: وهو يومئذ مشرك (¬4). قال جُبير -كما في رواية عند البخاري-: وذلك أول ما وَقَر الإيمان في ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 223)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 50)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 517)، و"جامع الأصول" له أيضاً (14/ 242 - قسم التراجم)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 153)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 506)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 95)، و"الكاشف" له أيضاً (1/ 289)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 462)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (2/ 56). (¬2) تقدم تخريجه برقم (731) عند البخاري. (¬3) تقدم تخريجه عنده برقم (2885)، (3799). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 248).

قلبي (¬1)، وعند سعيد بن منصور، عن هشيم، عن الزهري: فكأنما صُدعَ قلبي، حينَ سمعتُ القرآن (¬2). قال الحافظ ابن الجوزي: يحتمل أن تكون الباء، في قوله: بالطور، بمعنى: من؛ كقوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (¬3) [الإنسان: 6]. وفيه: ما تقدم عن "فتاوى شيخ الإسلام" من كونه - صلى الله عليه وسلم - كان أحياناً يطيل القراءة في المغرب؛ إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين. وليس في حديث جبير دليل على تكرر ذلك منه - صلى الله عليه وسلم -. تنبيه: المستحب أن يقرأ المصلي في الفجر من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره، وفي الباقي من الوسط، وتكره القصار في الفجر، لا الطوال في المغرب. واستظهر في "الفروع": أن المريض، والمسافر، كصحيح، وحاضر؛ وإن اختلفا في الكراهة، خلافاً للحنفية، في استحباب القصار لضرورة، وإلا توسط، والأشهر عند الحنفية: الظهر كالفجر (¬4). وأول المفصل: "قاف"، وفي "الفنون": "الحجرات"، ومنتهاه: آخر القرآن، وطواله: إلى "عم"، وأوساطه: إلى "الضحى" (¬5)، والله تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (3798) عنده. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 248). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 368). (¬5) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ فِي سَفَرٍ، فَصَلَّى العِشَاءَ الآخِرَةَ، فَقَرأَ فِي إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ: بالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَداً أَحْسَنَ صَوْتاً، أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * * * (عن) أبي عُمارة (البراء) -بفتح الباء الموحدة، وتخفيف الراء، والمد ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (733)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الجهر في العشاء، و (735)، باب: القراءة في العشاء، و (4669)، كمَاب: التفسير، باب: تفسير سورة: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، و (7107)، كتاب: التوحيد، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة"، ومسلم (464)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، وأبو داود (1221)، كتاب الصلاة، باب: قصر قراءة الصلاة في السفر، والنسائي (1000)، كتاب: الافتتاح، باب: القراءة فيها بـ"التين والزيتون"، و (1001)، باب: القراءة في الركعة الأولى من صلاة العشاء الآخرة، والترمذي (315)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في القراءة في صلاة العشاء، وابن ماجه (834)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في صلاة العشاء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 18)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 515)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 445)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 255)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 30).

على المشهور-، كما تقدم (بن عازب) -بالعين المهملة، وبالزاي المكسورة- بن الحارث الأنصاريِّ الأوسيِّ الحارثيِّ المدنيِّ (-رضي اللَّه عنهما-)؛ فقد ذكر ابن سعد في "الطبقات": أنه أسلم (¬1). (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر) من أسفاره (فصلى العشاءَ الآخرة)، زاد الإسماعيلي: ركعتين (¬2)، يعني: مقصورة، (فقرأ في إحدى الركعتين) بعد الفاتحة، وفي رواية النسائي: في الركعة الأولى (¬3)، (بالتين)؛ أي: سورة التين والزيتون، والتين على الحكاية (والزيتون). قال البراء: (فما سمعتُ أحدًا) من الناس (أحسنَ صوتًا) بالقراءة، (أو) قال: ما سمعتُ أحدًا أحسنَ (قراءةً منه). وإنما قرأ -صلى الله عليه وسلم- في العشاء بقصار المفصل؛ لكونه كان مسافرًا، والسفر يطلب فيه التخفيف، وأما حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: وكان يقرأ في الأوليين من العشاء: من وسط المفصل (¬4)، فمحمول على الحضر. وحاصل معتمد المذهب: إنما تكره الصلاة بقصار المفصل في الفجر، ما لم يكن عذر؛ من مرض وسفر، وله: قراءة أواخر السور، وأوساطها، بلا كراهة؛ خلافًا لمالك. وله: جمع سورتين فأكثر في ركعة، ولو فرضًا؛ وفاقًا لمالك، والشافعي. وله: تكرار سورة في ركعتين، وتفريق سورة في الركعتين، نص على ¬

_ (¬1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 365). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 250). (¬3) تقدم تخريجه عنده برقم (1001). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 329)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2/ 329)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 388)، وغيرهم.

ذلك الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-؛ لفعله -صلى الله عليه وسلم- (¬1)، مع أنه لا يستحب الزيادة على سورة في ركعة، ذكره غير واحد؛ لفعله -صلى الله عليه وسلم-، فدل أن سورة وبعض أخرى كسورتين، وعنه: يكره؛ وفاقًا لأبي حنيفة، وعنه: المداومة، وعنه: يكره جمع سورتين، فأكثر في فرض. قال أبو حفص العكبري في جمعِ سُورٍ في فرضٍ: العملُ على ما رواه الجماعة: لا بأس؛ وكذا صححه القاضي، وغيره. ويجوزُ قراءةُ أوائل السورِ -أيضًا-؛ خلافًا لمالكٍ، وقيل: أواخرها أولى، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) فقد روى النسائي (991)، كتاب: الافتتاح، باب: القراءة في المغرب بـ {المَصَ} [الأعراف: 1]، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: أن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرقها في ركعتين. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 368).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابهِ فِي صَلاَتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فَلَمَّا رَجَعُوا، ذَكرُوا ذَلِكَ لِرَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سَلُوهُ: لِأَيِّ شَيْءٍ، يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ "، فَسَألوهُ، فَقَالَ: لأنَّها صِفَةُ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَأنا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّهُ" (¬1). * * * (عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (-رضي اللَّه عنها-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث رجلًا) قال ابن بشكوال: اسم هذا الرجل: قتادة بن ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6940)، كتاب: التوحيد، باب: ما جاء في دعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمته إلى توحيد اللَّه -تبارك وتعالى-، ومسلم (813)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، والنسائي (993)، كتاب: الافتتاح، باب: الفضل في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 180)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 95)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 18)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 516)، و"فتح الباري" لابن حجر (13/ 356)، "عمدة القاري" للعيني (25/ 83).

النعمان الظَّفَري -بفتح الفاء- (¬1). يعني بهذا: أبا عمرو الأنصاري، الذي أعيبت عينه يوم أحد، وردها له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فكانت أحسن عينيه إلى أن مات سنة ثلاث وعشرين، أو أربع وعشرين، وعمره: خمسون سنة (¬2). ونقل عن الإمام الحافظ ابن منده في كتاب "التوحيد" له: أن هذا الرجل: كلثوم بن زهدم (¬3)؛ وكذلك فسره ابن طاهر. واعترضه البرماوي: بأنه لم ير في السرايا من السير المشهورة من المتقدمين والمتأخرين؛ كابن إسحاق، وابن هشام، وابن عبد البر، والحافظ الدمياطي، وابن سيد الناس، والحافظ مغلطاي، وغيرهم، ولا في الكتب الستة، ونحوها من المشهور، سرية لكلثوم بن زهدم. والسرايا، وإن قال بعض العلماء: إنها لا تنحصر، فيبعد أن يفسر مبعوث في سرية، ويسمى، ولا تُعرف تلك السرية؛ لأنه إنما يستعان على التسمية بالواقعة، بذكر حديث أو طريق يدل عليها. بل، ولا ذكر ابن عبد البر في "استيعابه"، وأبو نعيم، وغيرهما؛ ممن جمع في الصحابة، حتى الذهبي في "تجريده"، الذي جمع فيه فأوعى، أحدًا من الصحابة، يسمى بهذا الاسم، إنما الذي ذكروه: كلثوم بن الهدم، وكلثوم بن الحصين، وكلثوم بن علقمة، وكلثوم بن المصطلق. قال الذهبي: ولعله الأول، يعني: أن كلثوم بن المطلق؛ هو كلثوم بن علقمة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 84). (¬2) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1274)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 417). (¬3) انظر: "التوحيد" لابن منده (1/ 66). (¬4) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (2/ 34).

وقال بعض شراح العمدة: هو كلثوم بن الهدم؛ وكأنه يقول: إن القائل: كلثوم بن زهدم تصحيف والتباس، وأن صوابه: كلثوم بن الهدم. قال البرماوي: وهذا لا يصح -أيضًا-؛ لأن كلثوم هذا، كان شيخًا كبيرًا من الأنصار، نزل عليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، حين قدومه في هجرته إلى المدينة، وأقام عنده أربعة أيام، ثم خرج إلى أبي أيوب الأنصاري، أو سعيد بن خيثمة -على الخلاف المشهور فيه في السير-، وما كان يؤمر -يومئذ- على سراياه أحدًا من الأنصار، بل لم يخرج أحدٌ من الأنصار في شيء من السرايا الواقعة قبل بدر. وأيضًا، فقد نقل ابن عبد البر، عن الطبري: أن كلثوم بن الهدم أول من مات من الأنصار، بعد مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة؛ مات بعد قدومه بأيام، في حين ابتدأ بنيان مسجده وبيوته، وكان موته قبل موت أبي أمامة أسعد بن زرارة بأيام (¬1). ومات أسعد بن زرارة في شوال، على رأس ستة أشهر من الهجرة، والسرايا إنما كانت بعد ذلك. فأول راية عقدت: لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، في ربيع الأول، بعد مقدمه باثني عشر شهرًا، وقيل: لواء حمزة إلى سيف البحر، وقيل: أرسلهما معًا. والذي صححه الحافظ مغلطاي: أن أول سرية سرية حمزة، في شهر رمضان، على رأس سبعة أشهر. وبذلك قال ابن حزم؛ تبعًا لموسى بن عقبة، وابن سعد، وغيرهما. ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1328).

فتلخص من هذا: أن موت كلثوم بن الهدم قبل السرايا جميعها؛ وكذا قال الحافظ في "الفتح". وقال: إنه رأى بخط الحافظ رشيد الدين العطار، في "حواشي مبهمات الخطيب"؛ نقلًا عن "صفة التصوف" لابن طاهر، قال: أخبرنا عبد الوهاب بن أبي عبد اللَّه بن منده، عن أبيه؛ فسماه: كرز بن زهدم. قال في "الفتح": وأما من فسره بأنه قتادة بن النعمان، فأبعد جدًا؛ فإن في قصة قتادة أنه كان يقرؤها في الليل يرددها، ليس فيه: أنه أم بها؛ لا في سفر، ولا في حضر، ولا أنه سئل عن ذلك، ولا بشر، وإنما فيه: أن رجلًا سمع رجلًا، يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها (¬1). قال الحافظ القاري: هو قتادة بن النعمان؛ فقد أخرج الإمام أحمد، من طريق [أبي] الهيثم، عن أبي سعيد، قال: بات قتادة بن النعمان، يقرأ من الليل كله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، لا يزيد عليها (¬2). والذي سمعه لعله أبو سعيد راوي الحديث؛ لأنه أخوه لأمه، وكانا متجاورين، وبذلك جزم ابن عبد البر (¬3)؛ وكأنه أبهم نفسه وأخاه. وقد أخرج الدارقطني بلفظ: إن لي جارًا يقوم بالليل، فما يقرأ إلا بـ: {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَد} (¬4). وأما الحديث الذي فسر مبهمه بكلثوم بن الهدم؛ فلفظه: كان رجلٌ من ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 258). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 15)، دون قوله: لا يزيد عليها. (¬3) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1276). (¬4) رواه الداقطني في "غرائب مالك"، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 60).

الأنصار يؤمهم في مسجد قباء (¬1)، قال ابن منده: هو كلثوم بن الهِدْم، والهدم -بكسر الهاء، وسكون الدال-: من بني عمرو بن عوف. فتلخص: أن الذي كان يؤم في مسجد قباء: كلثوم بن الهدم، وأما أمير السرية، فلعله: كرز بن زهدم، وأما قتادة بن النعمان: فلا مدخل له في حديث عائشة. ويدل على التغاير: أن إمام مسجد قباء، كان يبدأ بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، وأمير السرية: كان يختم بها. وفي هذا: أنه كان يصنع ذلك في كل ركعة، ولم يصرح بذلك في قصة الآخر. وفي هذا: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سأله، وأمير السرية سأل أصحابه أن يسألوه. وفي هذا: أنه قال: إنه يحبها؛ فبشره بالجنة، وأمير السرية قال: إنها صفة الرحمن؛ فبشره أن اللَّه يحبه، واللَّه تعالى الموفق (¬2). قوله: (على سرية)؛ متعلق بمحذوف، أي: بعث أميرًا. قال ابن الأثير في "النهاية": السرية: الطائفة من الجيش، يبلغ أقصاها أربع مئة، تبعث إلى العدو، وجمعها: سرايا، سموا بذلك: لأنهم يكونون خلاصة العسكر، وخيارهم من الشيء النفيس، وقيل: لكونهم ينفذون سرًا وخفية، وليس بشيء؛ لأن لام السر: راء، وهذه: ياء، انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (741)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الجمع بين السورتين في الركعة، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 258). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 363).

وقال شهاب الدين ابن خطيب الدهشة، في كتابه "المصباح": السرية: قطعة من الجيش، فعيلة بمعنى: فاعلة؛ لأنها تسري في خفية، والجمع: سرايا، وسريات؛ كعطية، وعطايا، وعطيات (¬1)، انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: السرية: قطعة من الجيش، تخرج منه، وتعود إليه؛ وهي من مئة إلى خمس مئة، فما زاد على خمس مئة يقال له: منسر -بالنون، والسين المهملة-، فإن زاد على الثمان مئة يسمى: جيشًا، فإن زاد على أربعة آلاف، سمي: جحفلًا، فإن زاد: فجيش جرّار، والخميس: الجيش العظيم (¬2). (فكان) ذلك الرجل المبعوث على السرية أميرًا (يقرأ لأصحابه) الذين معه، وتحت لوائه (في صلاتهم) التي يصلي بهم إمامًا فيها، بعد الفاتحة وسورة، (فيختم) الركعة، ويكون فيه دلالة على جمع السورتين، في ركعة واحدة، ويحتمل أن يكون يختم بها في آخر ركعة، يقرأ فيها السورة (بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ})؛ أي: بسورة الإخلاص، وخصت بذلك لاختصاصهما بصفات الرب -تبارك وتعالى-، دون غيرها (¬3). (فلما رجعوا) من سفرهم، الذي كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجههم إليه؛ لنكاية عدوهم، (ذكروا) يحتمل أن الذي ذكر: بعضُهم، وعبر بالجمع؛ ¬

_ (¬1) انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 275)، ونسبة الشارح -رحمه اللَّه- "المصباح المنير" لابن خطيب الدهشة وهم، فإن ابن خطيب الدهشة هو ابن الفيومي أحمد بن محمد الذي كان خطيب جامع الدهشة بحماة، وقد نقل عنه ولده محمود الذي صار يعرف بابن خطيب الدهشة غالب "المصباح" في كتابه "تهذيب المطالع". وانظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (1/ 372). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 56). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 19).

لاقتضاء رأيهم السؤال عن ذلك، ويحتمل حضور الجميع إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنهم ذكروا (ذلك)؛ أي: كونه يختم كل ركعة من أولييي صلاتهم، أو يختم صلاتهم؛ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-)؛ متعلق بذكروا، (فقال) لهم: (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: سلوه) -بفتح السين المهملة، وضم اللام- (لأي شيء يصنع ذلك؟) في صلاته. (فسألوه) في الكلام طي؛ أي: فرجعوا إليه، فسألوه، (فقال) مجيبًا لهم عن سؤالهم: إنه إنما صنع ذلك؛ (لأنها)؛ أي: سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، (صفة الرحمن -عز وجل-)؛ أي: لأن فيها صفة الرحمن، فلكونها صفته -تبارك وتعالى-، (فأنا أحب أن أقرأ بها) في كل صلاتي؛ تلذذًا ومحبة لذكر صفاته -تبارك وتعالى-، فرجعوا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخبروه بما قال، (فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أخبروه: أن اللَّه تعالى يحبه")؛ لمحبته قراءة هذه السورة، أو لما شهد به كلامه؛ من محبته لذكر صفات الرب -عز وجل-، وصحة اعتقاده. وفي هذا دليل على: الرضا بفعله ذلك. قال ابن المنير: في هذا الحديث: أن المقاصد تغير أحكام الفعل؛ لأن الرجل لو قال: إن الحامل له على إعادتها: أنه لا يحفظ غيرها، لم يبشر برتبة المحبة من اللَّه تعالى؛ لكنه اعتل بحبها، فظهر صحة قصده؛ فصوبه. وفيه دليل على: جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه، والاستكثار منه، ولا يعد ذلك هجرانًا لغيره، والله أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 258).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُوْلَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ لِمُعَاذٍ: "فَلَوْلَا صَلَّيْتَ؛ بسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، والشَّمْسِ وَضُحَاهَا، واللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى؛ فَإنَّهُ يُصَلِّيَ وَرَاءَكَ: الكَبِيرُ، والضعيفُ، وذو الحَاجَةِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (668، 669)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا طول الإمام، وكان للرجل حاجة، فخرج فصلى، و (673)، باب: من شكا إمامه إذا طول، واللفظ له، و (679)، باب: إذا صلى ثم أمَّ قومًا، و (5755)، كتاب: الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلًا، ومسلم (465)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، وأبو داود (790)، كتاب: الصلاة، باب: في تخفيف الصلاة، والنسائي (831)، كتاب: الإمامة، باب: خروج الرجل من صلاة الإمام وفراغه من صلاته في ناحية المسجد، و (835)، باب: اختلاف نية الإمام والمأموم، و (984)، كتاب: الافتتاح، باب: القراءة في المغرب بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و (997)، باب: القراءة في العشاء بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و (998)، باب: القراءة في العشاء الآخرة بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، وابن ماجه (986)، كتاب: الصلاة، باب: من أمَّ قومًا فليخفف. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 200)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 378)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 75)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 183)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 19)، و"العدة في =

(عن) أبي عبد اللَّه -وقيل: أبي عبد الرحمن- (جابر بن عبد اللَّه) بن عمرو بن حَرام، الأنصاريِّ الخزرجيِّ؛ وهو وأبوه صحابيان (-رضي اللَّه عن هـ) ـما-، وتقدمت ترجمته. قال: (إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لمعاذ) بن جبل -رضي اللَّه عنه- في قصة إطالته في الصلاة، وانصراف الرجل، وشكايته إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كما يأتي قريبًا، إن شاء اللَّه تعالى-: (فلولا صليت)؛ أي: قرأت في صلاتك (بـ) سورة: ({سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}) بعد الفاتحة، (و) سورة ({وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا})، (و) سورة ({وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى})، زاد عبد الرزاق: {وَالضُّحَى} (¬1). وعلل -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك بقوله: (فإنه يصلي وراءك: الكبير، والضعيف، وذو الحاجة). ولم يعين في هذه الرواية في أي الصلاة قيل له ذلك، وقد عرف أن صلاة العشاء الآخرة طوَّل فيها معاذ بقومه -كما يأتي-، فيدل ذلك على: استحباب قراءة هذا القدر في العشاء الآخرة، ومن الحسن قراءة هذه السور بعينها فيها؛ وكذلك كل ما ورد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، من هذه القراءة المختلفة، فينبغي أن يفعل، ولقد أحسن من قال من العلماء: اعمل بالحديث، ولو مرة، تكن من أهله (¬2). ¬

_ = شرح العمدة" لابن العطار (1/ 519)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 217)، وطرح "التثريب" للعراقي (2/ 272)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 193)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 243)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 25)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 205). (¬1) رواه عبد الرازق في "المصنف" (3725). (¬2) روى الخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 165)، عن عمرو بن قيس الملائي، قال: =

قلت: ويستدل من مجموع روايتي: "اقرأ من أوساط المفصل"، وزيادة: "والضحى": أن قصار المفصل: ما دون الضحى، وقد استثنى بعض العلماء؛ ومنهم شيخنا التغلبي (¬1): {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، و {لَمْ يَكُنِ} [البينة: 1]، فقال: هي من أوساطه، لا من قصاره، والله تعالى الموفق. * * * ¬

_ = إذا بلغك شيء من الخير، فاعمل به ولو مرة، تكن أهله. وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 19 - 20). (¬1) هو الشيخ الإمام، القدوة، العالم، عبد القادر بن عمر بن أبي تغلب التغلبي، الحنبلي، مفتي الحنابلة بدمشق، توفي سنة (1135 هـ). انظر: "ثبت السفاريني" (ص: 171)، و"السحب الوابلة" لابن حميد (2/ 563). وانظر ترجمته في مقدمة هذا الشرح الحافل.

باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم

باب ترك الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اعلم: أن البسملة آية من القرآن؛ مستقلة بنفسها، فاصلة بين كل سورتين، سوى {بَرَاءَةٌ}، وقال مالك: ليست من القرآن، والمراد: غير التي في "النمل"؛ فإنها بعض آية إجماعًا. فليست من الفاتحة؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، كغيرها؛ خلافًا لأحد قولي الشافعي؛ وهو: أي كونها منها، ومن غيرها من سور القرآن-؛ معتمد مذهبه، فتسن قراءتها في أول الفاتحة سرًا؛ وفاقًا لأبي حنيفة، وقال مالك: لا يسن ذلك، وأوجب الشافعي قراءتها؛ لكونها من الفاتحة، ويسن عنده الجهر بها في جهرية؛ كرواية عندنا (¬1). وذكر المصنف -رحمه اللَّه، ورضي عنه-، في هذا الباب: حديثًا واحدًا؛ وهو حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-، خادم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبا بَكْرٍ، وَعُمَرَ - ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 362)، و"الإنصاف" للمرداوي (2/ 48)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 336).

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ، بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) [الفاتحة: 1]. وفي رواية: صَلَّيْتُ مَعَ أَبي بكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، فلم أسمعْ أحدًا منهم يَقْرَأُ: بسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬2). ولمسلمٍ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأَبي بكْرٍ، وعمرَ له وعثمانَ، فكانوا يستفتحون بالحمدُ للَّه ربِّ العالمينَ، لَا يَذْكُرُونَ: بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ فِي أَوَلِ قَرَاءَةٍ، وَلَا فِي آخِرِهَا (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (710)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما يقول في التكبير، وأبو داود (782)، كتاب: الصلاة، باب: من لم ير الجهر بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، والنسائي (902، 903)، كتاب: الافتتاح، باب: البداءة بفاتحة الكتاب قبل السورة، والترمذي (246)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في افتتاح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وابن ماجه (813)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح القراءة. (¬2) رواه مسلم (399/ 50)، كتاب: الصلاة، باب: حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، إلا أنه زاد في أوله: صليت مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) رواه مسلم (399/ 52)، كتاب: الصلاة، باب: حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، والنسائي (907)، كتاب: الافتتاح، باب: ترك الجهر بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 198)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 435)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 44)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 287)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 31)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 110)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 21)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 522)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 342)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 227)، "عمدة القاري" للعيني (5/ 281)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 171)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 215).

(عن) أبي حمزة (أنس بن مالك) الأنصاري (-رضي اللَّه عنه-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبا بكر) الصديق من بعدِه، (وعمر) الفاروق، من بعد أبي بكر (-رضي اللَّه عنهما-، كانوا يفتتحون الصلاة)؛ أي: كان كل واحد منهم يفتتح القراءة في الصلاة. وقد رواه ابن المنذر، والجوزقي، وغيرهما؛ بلفظ: كانوا يفتتحون القراءة (¬1)؛ (بالحمد للَّه رب العالمين)، بضم الدال على الحكاية؛ وكذا رواه البخاري، في جزء "القراءة خلف الإمام"، وذكر: أن هذه الرواية أبين. وفي قوله: (بالحمد للَّه رب العالمين)؛ إبطال لقول من قال: كانوا يفتتحون بالفاتحة؛ لأنها إنما تسمى بالحمد فقط؛ فمراد الحديث: أنهم كانوا يفتتحون بهذا اللفظ؛ تمسكًا بظاهر الحديث (¬2). (وفي رواية) لمسلم، عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: (صليت مع أبي بكر) الصديق، (وعمر) الفاروق، (وعثمان) ذي النورين -رضي اللَّه عنهم-، يعني: زمن خلافة كل واحد منهم-؛ (فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ) في الصلاة، (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). ورواه الإمام أحمد عنه، وفي لفظه: صليت خلف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبي بكر، وعمر، وعثمان؛ وكانوا لا يجهرون ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ¬

_ (¬1) وذلك أنهما روياه من طريق أبي عمر الدوري حفص بن عمر شيخ البخاري الذي روى من طريقه هذا الحديث في "صحيحه"، كما ذكر في "الفتح" (2/ 227). وإلَّا فقد رواه أبو داود (782)، والترمذي (246)، وابن ماجه (813)، من طريق أخرى بهذا اللفظ. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 227).

ورواه النسائي -أيضًا-، ورجاله بشرط الصحيح (¬1). (ولمسلم) عن أنس -رضي اللَّه عنه-؛ وكذا رواه الإمام أحمد عنه (¬2)، قال: (صليت خلف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) -يعني: مدة حياته-، (و) خلف (أبي بكر) الصديق -رضي اللَّه عنه- مدة خلافته، (و) خلف (عمر) الفاروق -رضي اللَّه عنه- مدة خلافته، (و) خلف (عثمان) ذي النورين، -رضي اللَّه عنه- مدة خلافته، (فكانوا) كلهم (يستفتحون) القراءة في الصلاة، (بالحمد للَّه رب العالمين)، أي: بهذا اللفظ. (لا يذكرون: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، في أول قراءة) يقرؤونها في الصلاة، (ولا في آخرها)، زاد عبد اللَّه بن الإمام أحمد: قال شعبة: فقلت لقتادة: أنت سمعته من أنس؟ قال: نعم، نحن سألناه عنه (¬3). قال شيخ الإسلام، عن حديث أنس: هذا في نفي التسمية صريح لا يحتمل تأويلًا؛ فإن هذا النفي لا يجوز إلا مع العلم بذلك، لا يجوز بمجرد كونه لم يسمع، مع إمكان الجهر بالإسماع. وقال في قوله: فلم أسمع أحدًا منهم يجهر، أو قال: يصلي ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: فهذا نفى فيه السماع، ولو لم يرد إلا هذا اللفظ، لم يجز تأويله بأنه لم يكن يسمع مع جهر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لوجوه: أحدها: أنه إنما روى هذا؛ ليبين للناس ما كان يفعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إذ لا غرض لهم في معرفة كون أنس يسمع، أو لم يسمع، إلا ليستدلوا بعدم ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 179)، وتقدم تخريجه عند النسائي برقم (907) عنده. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 223). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 278).

سماعه على عدم المسموع، فلو لم يدل على ذلك؛ لما كان أنس يروي شيئًا لا فائدة فيه، ولا كانوا يروون هذا الذي لا يفيدهم. الثاني: إن مثل هذا اللفظ صار دالًا على عدم ما لم يدرك، فإذا قيل: ما سمعنا، ولا درينا، ولا رأينا؛ لما من شأنه أن يُسمع أو يرى؛ فالمقصود: نفي وجوده، وأكثر نفي الإدراك دليل على نفيه بتة. الثالث: أن أنسًا كان يخدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، من حين قدم المدينة إلى أن توفي، وكان يدخل على نسائه قبل الحجاب، ويصحبه حضرًا وسفرًا، وحين حَجِّه كان تحت ناقته، يسيل عليه لعابها، أفيمكن مع هذا القرب الخاص، والصحبة الطويلة؛ ألَّا يسمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يجهر بها، مع كونه كان يجهر؟! هذا مما يعلم بالضرورة بطلانه عادة. ثم إنه صحب أبا بكر، وعمر، وعثمان -رضي اللَّه عنهم-، ولم يسمع، مع أنهم كانوا يجهرون؟! هذا لا يمكن، بل هو تحريف، لا تأويل، لو لم يرد إلا هذا اللفظ، كيف والآخر صريح في نفي الذكر لها؟! ومثل هذا حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: أنهم كانوا يفتتحون القراءة، بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬1) [الفاتحة: 2 - 4]؛ وهذا صريح في إرادة الآية (¬2). تنبيهات: الأول: ليس في حديث أنس -رضي اللَّه عنه- نفيٌ لقراءتها سرًا؛ لأنه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه من حديث أبي الجوزاء، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- عند مسلم وغيره. (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (22/ 411 - 413).

روي: فكانوا لا يجهرون (¬1)، فنفى الجهر؛ وكذا قوله: لا يذكرون؛ نفي ما يمكنه العلم به، وذلك موجود في الجهر؛ فإنه إذا لم يسمع مع القرب، علم أنهم لم يجهروا، وأما كون الإمام لم يقرأها؛ فلا يمكن إدراكه، إلا إذا لم يكن بين التكبير والقراءة سكتة. يؤيد ذلك: حديث عبد اللَّه بن مغفل، في "السنن"، لما سمع ابنه يجهر بها؛ فأنكره، وقال. يا بني! إياك والحدث، وذكر أنه صلى خلف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبي بكر، وعمر؛ فلم يكونوا يجهرون بها (¬2). وأيضًا فمن المعلوم: أن الجهر بها مما تتوافر الدواعي على نقله، بل لو انفرد بنقل مثل هذا الواحد، أو الاثنان، قُطع بكذبهما؛ وبمثل هذا تكذب دعوى الرافضة: النص على علي -رضي اللَّه عنه- في الخلافة، وأمثال ذلك. وقد اتفق أهل المعرفة على: أنه ليس في الجهر حديث صريح، ولم يرو "أهل السنن" شيئًا من ذلك؛ إنما يوجد الجهر بها في أحاديث موضوعة، يروي ذلك: الثعلبي، والماوردي، وأمثالهما من الذين يحتجون بمثل حديث الحميراء (¬3). ¬

_ (¬1) رواه النسائي (908) كتاب: الافتتاح، باب: ترك الجهر بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، والترمذي (244)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في ترك الجهر بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وقال: حسن، وابن ماجه (815)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح القراءة. (¬2) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد والنسائي. (¬3) هو حديث: "خذوا شطر دينكم عن الحميراء". قال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص: 237): قال شيخنا -يعني: الحافظ ابن حجر- في "تخريج ابن الحاجب" من إملائه: لا أعرف له إسنادًا، ولا رأيته في شيء من =

ولما سئل الدارقطني عن البسملة: أفيها شيء صحيح؟ أجاب: أما عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فلا، وأما عن الصحابة؛ فمنه صحيح، وضعيف (¬1). فإذا لم يكن فيها حديث صحيح، فضلًا أن يكون فيها أخبار متواترة، أو مستفيضة، امتنع أن يكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جهر بها. ولا يعارض ذلك كون عدم الجهر مما تتوافر الدواعي على نقله، ولم ينقل متواترًا، بل تنازع فيه العلماء؛ لأن الذي تتوفر الهمم والدواعي على نقله في العادة هي الأمور الوجودية، فأما العدمية، فلا، ولا ينقل منها إلا ما ظن وجوده، أو احتيج إلى معرفته، ولهذا لو نقل ناقل: افتراضَ صلاة سادسة، أو صومَ يوم زائد، أو زيادةً في القراءة، أو في الركعات، لقطعنا بكذبه، وإن كان عدم ذلك لم ينقل نقلًا متواترًا قاطعًا. ولما احتيج إلى نقل الأمور العدمية، نُقلت، فلما انقرض عصر الخلفاء، سأل الناس أنسًا لمَّا جهر بها بعض الأئمة، كابن الزبير، فأخبرهم أنس بترك الجهر، مع أن نفي الجهر بها نقل نقلًا صحيحًا صريحًا، والجهر لم ينقل نقلًا صحيحًا، مع كون العادة توجب نقل الجهر، دون عدمه (¬2). ¬

_ = كتب الحديث إلا في "النهاية" لابن الأثير (1/ 438)، ولم يذكر من خرجه، ورأيته أيضًا في كتاب "الفردوس"، لكن بغير لفظه، وذكره من حديث أنس بغير إسناد أيضًا، ولفظه: "خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء"، وبيض له صاحب "مسند الفردوس"، فلم يخرج له إسنادًا. وذكر الحافظ عماد الدين بن كثير: أنه سأل الحافظين المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه. وانظر: "كشف الخفاء" للعجلوني (1/ 449). (¬1) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 357). (¬2) نقلًا عن "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 90 - 93)، مختصرًا.

الثاني: العلماء قد اختلفوا في هذا الباب على ثلاثة مذاهب: * أحدها: قراءتها سرًا لا جهرًا؛ وهذا مذهب الإمام أحمد، والإمام أبي حنيفة، ومن وافقهما. * الثاني: تركها سرًا وجهرًا؛ وهذا مذهب الإمام مالك بن أنس. * والثالث: الجهر بها في الجهرية؛ وهذا مذهب الإمام الشافعي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن تدبر وجوه الاستدلال من حديث أنس وغيره، قطع بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يجهر بها (¬1). وقال ابن دقيق العيد: المتيقن من حديث أنس عدمُ الجهر، وأما التركُ أصلًا، فمحتمل مع ظهور ذلك في بعض الألفاظ، وهو قوله: لا يذكرون. قال: وقد جمع جماعة من الحفاظ باب الجهر؛ وهو أحد الأبواب التي يجمعها أهل الحديث، وكثير منها، أو الأكثر: معتل، وبعضها: جيد الإسناد، إلا أنه غير مصرح فيه بالقراءة في الفرائض في الصلاة، وبعضها: فيه ما يدل على القراءة في الصلاة، إلا أنه ليس بصريح الدلالة على خصوص التسمية (¬2). الثالث: من روي عنه من الصحابة أنه يجهر بالبسملة: يحتمل أنه كان يجهر بها أحيانًا؛ كما أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يجهر ببعض الآيات من الفاتحة أحيانًا -يعني: في صلاة السر-. أو: لأنه كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يجهر قديمًا، ثم ترك ذلك؛ كما روى أبو داود، والطبراني: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يجهر بها بمكة، فإذا سمعه المشركون، سبوا ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (1/ 94). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 21 - 22).

الرحمن؛ فما جهر بها حتى مات -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)؛ فهذا محتمل. وفي "الصحيحين": أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يجهر بالآية أحيانًا (¬2)، ومثل جهر عمر -رضي اللَّه عنه-، بقوله: "سبحانك اللهم وبحمدك" (¬3)، ومثل جهر ابن عمر، وأبي هريرة: بالاستعاذة (¬4)، وجهر ابن عباس: بالقراءة على الجنازة؛ ليعلم الناس (¬5)، فيمكن أن يقال: إن من جهر بها من الصحابة، كان على مثل هذه الوجوه؛ ليعرف الناس أن قراءتها سنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى المصرية": وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر بالبسملة؛ لأن الشيعة ترى الجهر، وهم أكذب الطوائف، فوضعوا في ذلك أحاديث؛ ليلبسوا بها على الناس دينهم؛ ولهذا يوجد في كلام أئمة السنة من الكوفيين؛ كسفيان الثوري أنهم يذكرون: من السنة المسح على الخفين، وترك الجهر بالبسملة، كما يذكرون تقديم أبي بكر، وعمر، ونحو ذلك؛ لأن هذا كان عندهم من شعار الرافضة. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود لكن في "مراسيله" (34)، عن سعيد بن جبير، مرسلًا. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (12245)، وفي "المعجم الأوسط" (4756)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، به. (¬2) تقدم تخريجه من حديث أبي قتادة -رضي اللَّه عنه- عند البخاري برقم (728)، وعند مسلم (451). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (399/ 52). (¬4) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 35)، وفي "الأم" (1/ 107)، ومن طريقة: البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 36)، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. قال الشافعي -رحمه اللَّه-: وكان ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- يتعوذ في نفسه. (¬5) رواه البخاري (1270)، كتاب: الجنائز، باب: قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، عن طلحة بن عبد اللَّه بن عوف.

ولهذا ذهب أبو علي بن أبي هريرة -أحد الأئمة من أصحاب الشافعي (¬1) إلى ترك الجهر بها، قال: لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين (¬2). والكلام في البسملة كثير شهير، واللَّه تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) هو الإمام القاضي، شيخ الشافعية، أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة البغدادي، من أصحاب الوجوه في المذهب. تفقه بابن سريج وغيره، وصنف شرحًا لمختصر المزني، وانتهت إليه رياسة المذهب. توفي سنة (345 هـ). انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (15/ 430). (¬2) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" (1/ 95 - 96)، و"مجموع الفتاوى" كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية (22/ 423).

باب سجود السهو

باب سجود السهو اعلم: أن السهو، والنسيان، والغفلة، ألفاظ متقاربة، معناها: ذهول القلب عن معلوم. وقال الآمدي: يقرب أن تكون معانيها متحدة، وفي "المواقف"، وشرحها: السهو: زوال الصورة عن المدركة، مع بقائها في الحافظة، والنسيان: زوالها عنهما معًا، فيحتاج في حصولها حينئذ إلى سبب جديد (¬1). وهذا معنى قول الأصوليين: السهو: الذهول، أي: الغفلة عن المعلوم الحاصل في الحافظة، فلا ينافي الغفلة عنه؛ لأنه باعتبار المدرك، فيتنبه له بأدنى تنبه، بخلاف النسيان؛ فهو: زوال المعلوم، فيستأنف تحصيله؛ كما في "حاشية العلامة النجدي على المنتهى" (¬2). وذكر الحافظ -طيب اللَّه ثراه- في هذا الباب حديثين. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المواقف" للإيجي مع "شرحها" للشريف الجرجاني (2/ 66). (¬2) انظر: "حاشية المنتهى" لعثمان النجدي (1/ 241).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِحْدَى صَلَاتَي العَشِيِّ، قَالَ ابنُ سِيرِينَ: وَسَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا، قَالَ: فَصَلَّى بنَا رَكْعَتَينِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلى خَشَبةٍ مَعْرُوضَةٍ في المَسْجِدِ، فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا، كَأَنَّه غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَه اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابعِهِ، وخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ، فَقَالُوا: قَصُرَتِ الصَّلَاةُ، وفي القَوْمِ أَبو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي القَوْم رَجُلٌ في يَدَيْهِ طُولٌ، يُقَالُ لَهُ: ذُو اليَدَيْنِ، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَسِيتَ، أَمْ قَصُرَتِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: لَمْ أَنْسَ، ولَمْ تُقْصَرْ، فَقَالَ: أَكَمَا يَقُولُ ذُو اليَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَتَقَدَّمَ، فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كبَّرَ، وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ كبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُوْدِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَكبَّرَ، فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَنُبِّئْتُ: أَنَّ عِمْرَانَ بنَ حُصَيْنٍ، قَالَ: ثُمَّ سَلَّم (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (468)، كتاب: المساجد، باب: تشبيك الأصابع في المسجد، واللفظ له، و (682 - 683)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: هل يأخذ الإمام إذا شكَّ بقول الناس؟ و (1169)، كتاب: السهو، باب: إذا سلَّم في ركعتين، أو في ثلاث، فسجد سجدتين، مثل سجود الصلاة أو =

(عن) أبي بكر (محمد بن سيرين) الإمام المشهور البصري، ووالده سيرين مولى أنس بن مالك، يكنى: أبا عمرة، كاتَبَهُ مولاه أنس، فعتق بالأداء؛ كما تقدم في ترجمة أخيه أنس. وكان محمد بن سيرين إمامًا في التفسير، والفقه، والحديث، وتعبير الرؤيا، والزهد، والورع. ¬

_ = أطول، و (1170، 1171)، باب: من لم يتشهد في سجدتي السهو، و (1172)، باب: من يكبر في سجدتي السهو، و (5704)، كتاب: الأدب، باب: ما يجوز من ذكر الناس: نحو قولهم: الطويل والقصير، و (6823)، كتاب: التمني، باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام، ومسلم (573)، (97 - 100)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: السهو في الصلاة والسجود له، وأبو داود (1008 - 1016)، كتاب: الصلاة، باب: السهو في السجدتين، والنسائي (1224 - 1231)، كتاب: السهو، باب: ما يفعل من سلم من ركعتين ناسيًا وتكلم، و (1232 - 1235)، باب: ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين، والترمذي (399)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر، وابن ماجه (1213 - 1214)، كتاب: الصلاة، باب: فيمن سلم من ثنتين أو ثلاث ساهيًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 234)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 497)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 515)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 187)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 68)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 25)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 527)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 585، 4/ 239)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 104)، و"طرح التثريب" للعراقي (3/ 2)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 96)، "عمدة القاري" للعيني (4/ 263)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 202)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 130).

قال ابن قتيبة في "المعارف": وكانت أمه تسمى: صفية، مولاة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-. روى عن أنس، وأبي هريرة، وسمع من ابن عمر حديثًا، أو حديثين، وسمع عمران بن حصين، وعبد اللَّه بن الزبير، وعدي بن حاتم، وغيرهم من الصحابة، وسمع من كثير من التابعين. وقال هشام: أدرك الحسن البصري من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مئة وعشرين، وأدرك ابن سيرين ثلاثين منهم. روى عنه: الشعبي، وأيوب، وقتادة، وسليمان التيمي، وخلائق. قال ابن قتيبة: ولد لابن سيرين ثلاثون ولدًا من امرأة واحدة، ولم يبق منهم غير عبد اللَّه بن محمد، وقضى عنه ابنه هذا ثلاثين ألف درهم، فما مات عبد اللَّه حتى صار ماله ثلاث مئة ألف درهم. واتفقوا على أن ابن سيرين توفي بالبصرة، سنة عشر ومئة، بعد الحسن بمئة يوم. قال حماد بن زيد: مات الحسن أول رجب، سنة عشر، وصليت عليه، ومات ابن سيرين لتسع مضين من شوال، سنة عشر، قيل: إنه ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان -رضي اللَّه عنه- (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 193)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 90)، و"المعارف" لابن قتيبة (ص: 442) و"الثقات" لابن حبان (5/ 348)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 263)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (5/ 331)، و"تاريخ دمشق" (53/ 172)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 241)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 99)، و"تهذيب الكمال" للمزي (25/ 344)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 606)، و"تذكرة =

(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (-رضي اللَّه عنه- قال: صلى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-)؛ في هذا تصريح بحضور أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- ذلك. ويؤيده: ما في رواية الإمام أحمد، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: بينما أنا أصلي مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وفيه: رد على الطحاوي، في حمله قوله: صلى بنا؛ على المجاز، وأن المراد: صلى بالمسلمين؛ متمسكًا بما قاله الزهري، وهو أن القصة لذي الشمالين المستشهد ببدر، قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين (¬2). والصواب: أنها لذي اليدين؛ وهو غير ذي الشمالين؛ كما جزم به في "الفتح" (¬3)، وأبو عبد اللَّه الحاكم، والبيهقي (¬4)، وغيرهم. وقال الإمام النووي، في "الخلاصة": إنه قول الحفاظ، وسائر العلماء، إلا الزهري، واتفقوا على تغليطه (¬5). وقال أبو عمر: وأما قول الزهري: إن ذا اليدين هو ذو الشمالين، فلم يتابع عليه، ولم يعول على ما قاله في ذلك أحد، فليس قوله: إنه المقتول ببدر، حجة؛ فقد تبين غلطه في ذلك، انتهى (¬6). ¬

_ = الحفاظ" للذهبي أيضًا (1/ 77)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 190). (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 423). وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (573/ 100). (¬2) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 450). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 96 - 97). (¬4) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 341، 365). (¬5) انظر: "خلاصة الأحكام" للنووي (2/ 635). (¬6) انظر: "الاستذكار" (1/ 509)، و"التمهيد" كلاهما لابن عبد البر (1/ 366).

(إحدى صلاتي العَشِي) -بفتح العين المهملة، وكسر الشين المعجمة، وتشديد الياء-: الظهر، أو العصر". (قال) محمد (بن سيرين: وسماها أبو هريرة) -رضي اللَّه عنه-، (ولكن نسيت أنا). وفي رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة، عندهما: صلى بنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الظهر، أو العصر؛ بالشك (¬1). وجزم البخاري عنه، في باب الإمامة: أنها الظهر (¬2)؛ وكذا مسلم، في رواية له (¬3). وفي أخرى عند مسلم، الجزمُ من أبي هريرة: بأنها العصر (¬4). والشك الواقع بين الظهر والعصر من أبي هريرة؛ كما تبين من رواية عون، عن محمد بن سيرين، عند النسائي، ولفظه: قال أبو هريرة: صلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إحدى صلاتي العشي، قال أبو هريرة: لكن نسيت (¬5). فبين أبو هريرة أن الشك منه، وكأنه رواه في كثير من الروايات على الشك، وربما غلب على ظنه أنها الظهر، فجزم بها، ومرة، أنها العصر، فجزم بها. وأما قول ابن سيرين: وسماها أبو هريرة، ولكني نسيت أنا، وفي لفظ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1169)، وعند مسلم برقم (573/ 97). (¬2) تقدم تخريجه برقم (683). (¬3) تقدم تخريجه برقم (573/ 100). (¬4) تقدم تخريجه برقم (573/ 99). (¬5) تقدم تخريجه برقم (1224).

عن ابن سيرين؛ عند البخاري، وغيره: وأكبر ظني العصر (¬1)؛ فهو شك آخر من ابن سيرين؛ وذلك أن أبا هريرة حدثه بها معينة، كما عينها لغيره، ويدل على أنه عينها له: ما ذكرنا عنه. وقد حكى النووي عن بعض المحققين أنهما قضيتان (¬2)، والصحيح: أن قصة أبي هريرة واحدة، وقد علم وجه الجمع بين الروايات مما ذكرنا. (قال) أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: (فصلى بنا) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة) -بالتحريك، أي: بفتح الخاء، والشين المعجمتين، بعدهما موحدة-: ما غلظ من العيدان (¬3). (معروضة)؛ أي: موضوعة بالعرض، وفي لفظ: ثم قام إلى خشبة، في مقدم المسجد (¬4) -بتشديد الدال المفتوحة-؛ أي: في جهة القبلة. (في المسجد)، وفي لفظ: ثم أتى جذعًا، في قبلة المسجد (¬5). (فاتكأ عليها)، وفي لفظ: "فاستند إليها" (¬6). (كأنه غضبان)؛ لما يرى عليه من أثر الوجوم، وفي لفظ: فاستند إليها مغضبًا (¬7)، والغضب -بالتحريك-: ضد الرضا؛ وهو غليان الدم وهيجانه؛ لإرادة الانتقام (¬8). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1172)، إلا أنه قال: "وأكثر" بدل "وأكبر". (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 72). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 152)، (مادة: خشب). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1172، 5704). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (573/ 97). (¬6) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (573/ 97). (¬7) هو عند مسلم بالرقم المتقدم آنفًا. (¬8) انظر: "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي (ص: 539).

(ووضع) -صلى اللَّه عليه وسلم- (يده اليمنى على اليسرى)، وفي رواية: فوضع يده عليها (¬1)؛ أي: على الخشبة، ولا منافاة بين الروايتين؛ لاحتمال أن يكون وضعهما كذلك، ثم وضعها على الخشبة، وإنما أفردها؛ لكونها المباشرة للخشبة، أو باعتبار وقتين. (وشبك) -صلى اللَّه عليه وسلم- (بين أصابعه)؛ أي: أدخل أصابع يديه بعضها في بعض. قال الحافظ ابن حجر: هذا دال على جواز التشبيك في المسجد، وإذا جاز في المسجد؛ فهو في غيره أجوز (¬2). وترجم له البخاري: باب: تشبيك الأصابع في المسجد، وغيره، وأورد فيه حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه" (¬3). ووقع في بعض نسخ البخاري، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: شبك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أصابعه، قال الحافظ مغلطاي: هذا الحديث، ليس موجودًا في أكثر نسخ الصحيح. وقال الحافظ ابن حجر: هو ثابت في رواية حماد بن شاكر، عن البخاري. قال ابن بطال: مقصود البخاري بهذه الترجمة: معارضة ما ورد في ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1172). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 566). (¬3) رواه البخاري (467)، كتاب: المساجد، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ومسلم (2585)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم.

النهي عن التشبيك في المسجد، وقد وردت فيه مراسيل، ومسند [ة]؛ من طرق غير ثابتة. وقال ابن المنير: التحقيق أنه ليس بين الأحاديث تعارض؛ إذ المنهي عنه: فعله على وجه العبث. وجمع الاسماعيلي: بأن النهي مقيد بما إذا كان في الصلاة، أو قاصدًا إليها، أو منتظر الصلاة؛ إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي. وقيل: إن حكمة النهي عنه لمنتظر الصلاة: أنه يجلب النوم؛ وهو من مظان الحدث. وقيل: لأن صورته تشبه صورة الاختلاف؛ فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة، حتى لا يقع في المنهي عنه؛ وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- للمصلين: "ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم" (¬1). وقال مغلطاي: إنه ليس بين حديث النهي عن التشبيك، وبين تشبيكه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أصابعه، معارضة؛ لأن النهي إنما ورد عن فعله في الصلاة، أو في المضي إليها، وفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- للتشبيك ليس في صلاة، ولا في المضي إليها -أي: ولا في حال انتظاره لها-؛ فلا معارضة إذًا، وبقي كل حديث على حاله، انتهى (¬2). وقد روى أبو داود، من حديث كعب بن عجرة، مرفوعًا: "إذا توضأ أحدكم، فأحسن الوضوء، ثم خرج عامدًا إلى المسجد، فلا يشبكن بين يديه؛ فإنه في صلاة"، ورواه الإمام أحمد، والترمذي (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه من حديث أبي مسعود -رضي اللَّه عنه- (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 566 - 567). (¬3) رواه أبو داود (562)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الهدي في المشي إلى =

وفي حديث أبي هريرة، مرفوعًا: "إذا توضأ أحدكم في بيته، ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع؛ فلا يقل هكذا، وشبك بين أصابعه"، رواه الحاكم (¬1). فإن كان في المسجد بعد فراغه من صلاته، وليس يريد صلاة أخرى، ولا ينتظرها، فلا يكره؛ لحديث ذي اليدين؛ كما نبه عليه الحافظ السيوطي في "حسن التسليك في حكم التشبيك" (¬2)، والله أعلم. (وخرجت السرعان)، وفي لفظ: "وخرج سرعان الناس" (¬3)؛ والسرعان -بالمهملات المفتوحة-: هم الذين يتسارعون إلى الشيء، ويقدمون عليه بسرعة (¬4). وفي "القاموس": وسرعان الناس -محركة-: أوائلهم المستبقون إلى الأمر، ويسكن (¬5). وقال عياض: ضبطه الأصيلي في البخاري: سُرْعانُ الناس -بضم السين المهملة، وإسكان الراء، ووجه أنه جمع سريع؛ كقفيز وقُفزان، وكثيب وكُثبان (¬6). ¬

_ = الصلاة، والترمذي (386)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في كراهية التشبيك بين الأصابع في الصلاة، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 241) (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (744)، وابن خزيمة في "صحيحه" (439)، وغيرهما. (¬2) انظر: "حسن التسليك في حكم التشبيك" للسيوطي (2/ 49 - من "الحاوي للفتاوي"). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1172، 5704)، ومسلم برقم (573/ 97). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 361). (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 939)، (مادة: سرع). (¬6) انظر: "إكمال المعلم" (2/ 519)، و"مشارق الأنوار"، كلاهما للقاضي عياض (1/ 213).

(من أبواب المسجد) متعلق بخرج، (فقالوا: قَصُرَت الصلاة؟) -بضم صاد قصرت، وفتحها على صيغة-، وفي رواية: أقصرت؟ (¬1) بزيادة همزة الاستفهام. (وفي القوم) الحاضرين لتلك الصلاة (أبو بكر) الصديق (وعمر) الفاروق -رضي اللَّه عنهما-، (فهابا أن يكلماه) -يعني: النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ أي: غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن إظهار نوع الاعتراض عليه، وفي لفظ: فهاباه (¬2)، بزيادة الضمير. (وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين)؛ لطول يديه، واسمه: الخرباق -بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء، بعدها موحدة، فقاف آخر الحروف-؛ كما جاء التصريح به كذلك، في رواية لمسلم، وأبي داود، والنسائي (¬3). وقيل: الخرباق لقب له، واسمه: عمرو بن عبد عمرو بن نَضْلة -بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة-، ومن هنا وقع لابن شهاب الزهري: أنه ذو الشمالين؛ لأن هذا اسم ذي الشمالين، وخالفه الناس؛ كما تقدم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (682، 1170، 6823)، وعند مسلم برقم (573). (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (1008)، والنسائي (1224)، وابن ماجه (1214). (¬3) رواه مسلم (574)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: السهو في الصلاة والسجود له، وأبو داود (1018)، كتاب: الصلاة، باب: السهو في السجدتين، والنسائي (1237)، كتاب: الصلاة، باب: ذكر الاختلاف على أبي هريرة في السجدتين، وابن ماجه (1215)، كتاب: الصلاة، باب: فيمن سلم من ثنتين أو ثلاث ساهيًا، من حديث عمران بن حصين -رضي اللَّه عنه-.

وخرباق: رجل حجازي، من بني سُلَيم -بضم السين، وفتح اللام-، باتفاق (¬1). (فقال: يا رسول اللَّه! أنسيت، أم قصرت الصلاة؟) -بفتح القاف، وضم الصاد-، وإنما سكت الشيخان، ولم يسألاه؛ لكونهما هاباه؛ كما مر، مع علمهما أنه سيبين أمر ما وقع؛ وكأنه كان بعد النهي عن السؤال. ولم ينفرد ذو اليدين بالسؤال؛ فعند أبي داود، والنسائي، بإسناد صحيح، من حديث معاوية بن حُدِيج -بضم الحاء، وكسر الدال المهملتين، فياء ساكنة، فجيم-: أنه سأله عن ذلك طلحة بن عبيد اللَّه (¬2)، ولكنه ذكر فيه: أنه كان بقيت من الصلاة ركعة، ويجوز أن تكون العصر، فيوافق حديث عمران بن حصين؛ فيكون قد سأله طلحة مع الخرباق -أيضًا-. فـ (ـقال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لم أنس)؛ أي: قال ذلك بحسب ظنه واعتقاده، لا في نفس الأمر. (ولم تُقْصَر) -بضم أوله، وفتح ثالثه-، ولأبي ذر: -بفتح أوله، وضم ثالثه-؛ وهذا صريح في نفي النسيان، ونفي القصر. وهو نفس الرواية التي عند مسلم: "كل ذلك لم يكن" (¬3)؛ وهو أشمل من: "لم يكن كل ذلك"؛ لأنه من باب تقوي الحكم، فيفيد التأكيد في المسند، والمسند إليه، بخلاف ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 475)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 378)، و"فتح الباري" كلاهما لابن حجر (3/ 100). (¬2) رواه أبو داود (1023)، كتاب: الصلاة، باب: إذا صلى خمسًا، والنسائي (664)، كتاب: الأذان، باب: الإقامة لمن نسى ركعة من صلاة. (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (573/ 99).

الثاني؛ إذ ليس فيه تأكيد أصلًا، ولذا أجابه بقوله كما في مسلم: قد كان بعض ذلك يا رسول اللَّه (¬1). وفي رواية من سياق حديث أبي هريرة، من رواية ابن سيرين، قال: بلى قد نسيت (¬2)؛ لأنه لما نفى الأمرين، وكان مقررًا عند الصحابي أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية، جزم بوقوع النسيان، لا القصر، وفائدة جواز السهو في مثل هذا: بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره (¬3). وفي رواية: فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما يقود ذو اليدين؟ "، قالوا: صدق، لم تصل إلا ركعتين (¬4)، وفي لفظ: (فقال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: ("أكما يقول ذو اليدين؟ "، فقالوا: نعم)، وفي لفظ: فقال: "أصدق ذو اليدين؟ "، فقالوا: نعم يا رسول اللَّه. (فتقدم) إلى مصلاه، (فصلى ما ترك)، وفي لفظ: فصلى ركعتين (¬5)، بانيًا على ما سبق، بعد أن تذكر، أنه لم يتمها؛ كما رواه أبو داود في بعض طرقه، قال: ولم يسجد سجدتي السهو، حتى يقنه اللَّه ذلك؛ فلم يقلدهم في ذلك (¬6)، إذ لم يطل (¬7). (ثم) بعد فراغه من التشهد الأخير الذي أتى به بعد إتيانه بما ترك (سلم، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (573/ 99). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1172). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 101). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (573/ 97). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (573/ 99). (¬6) تقدم تخريجه عنده برقم (1169، 1172، 5704، 6823)، ومسلم برقم (573/ 97). (¬7) تخريجه عند أبي داود برقم (1012).

ثم) بعد سلامه (كبر، وسجد) للسهو (مثل سجوده) للصلاة (أو أطول) منه، (ثم رفع رأسه) من السجود، (فكبر، ثم كبر، وسجد) سجدة ثانية (مثل سجوده) الأول (أو أطول) منه، (ثم رفع رأسه) من السجدة الثانية، (وكبر). وظاهره: الاكتفاء بتكبيرة السجود، ولا يشترط تكبيرة الإحرام؛ وهو قول الجمهور. وحكى القرطبي: أن قول مالك لم يختلف في وجوب السلام بعد سجدتي السهو، قال: وما يتحلل منه بسلام؛ لابد له من تكبيرة الإحرام (¬1). وقد روى أبو داود، من طريق حماد بن زيد، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين؛ في هذا الحديث، قال: فكبر، ثم كبر، وسجد للسهو، قال أبو داود: لم يقل أحد: فكبر، ثم كبر، إلا حماد بن زيد (¬2)؛ فأشار إلى شذوذ هذه الزيادة، انتهى (¬3). (فربما سألوه)؛ يعني: ابن سيرين، فقالوا: (ثم سلَّم؟) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال: (فنبئت: أن عمران بن حصين) -رضي اللَّه عنه-، وفي لفظ: أخبرت عن عمران بن حصين (¬4): أنه (قال: ثم سلم). قال سلمة بن علقمة لمحمد بن سيرين: في سجدتي السهو تشهد؟ ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 190). (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (1009). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 99). (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 355).

قال: ليس في حديث أبي هريرة تشهد (¬1)، ومفهومه: أنـ[ـه]، رواه من غير حديث أبي هريرة (¬2). ويؤيده: حديث عمران بن الحصين، عند أبي داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى بهم، فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم (¬3). وهذا معتمد المذهب: أنه متى سجد بعد السلام، تشهد، وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك التشهدَ الأخير، وقيل: لا يتشهد؛ واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية؛ كسجوده قبل السلام -ذكره في "الخلاف" إجماعًا-، ولا يُحْرِم له (¬4). وسجود السهو وما يقول فيه، وما بعد الرفع منه: كسجود الصُّلْب؛ لأنه أطلقه في الحديث؛ فلو خالف، أعاده بنيته (¬5). وذكر بعضهم: أنه يندب له أن يقول فيهما: سبحان من لا ينام ولا يسهو، قال النووي -من الشافعية-: وهو لائق بالحال (¬6). * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1171). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 98). (¬3) رواه أبو داود (1039)، كتاب: الصلاة، باب: سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم، والترمذي (395)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التشهد في سجدتي السهو، وقال: حسن صحيح، وابن حبان في "صحيحه" (2672)، والحاكم في "المستدرك" (1208). (¬4) أي: يسجد للسهو من غير تكبيرة إحرام. (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 462). (¬6) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (1/ 315). قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/ 6): قلت: لم أجد له أصلًا.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، وَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلَاةَ، وانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ، فسجد سجدتين قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (795)، كتاب: صفة الصلاة، باب: من لم ير التشهد الأول واجبًا، واللفظ له، و (796) باب: التشهد في الأولى، و (1166، 1167)، كتاب: السهو، باب: ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، و (1173)، باب: من يكبر في سجدتي السهو، و (6293)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (570)، (85 - 87)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: السهو في الصلاة والسجود له، وأبو داود (1034، 1035)، كتاب: الصلاة، باب: من قام من ثنتين ولم يتشهد، والنسائي (1177، 1178)، كتاب: التطبيق، باب: ترك التشهد الأول، و (1222، 1223)، كتاب: السهو، باب: ما يفعل من قام من اثنتين ناسيًا ولم يتشهد، و (1261)، باب: التكبير في سجدتي السهو، والترمذي (391)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في سجدتي السهو قبل التسليم، وابن ماجه (1206، 1207)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن قام من اثنتين ساهيًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 238)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 520)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 182)، =

(عن) أبي محمد (عبد اللَّه) بن مالك (بن بحينة) -بضم الباء الموحدة، وفتح الحاء المهملة، وسكون المثناة تحت، فنون، فهاء تأنيث- بنت الأرث؛ كما تقدم -رضي اللَّه عنه، وعن أبيه-. قال الحافظ: (وكان) -يعني: عبد اللَّه بن بحينة- (من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-)؛ وكذا قال البخاري (¬1). (أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى بهم الظهر)؛ هكذا أفصح بأنها الظهر، وفي بعض الروايات: أنه قال: صلى لنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ركعتين من بعض الصلوات (¬2)، (فقام في الركعتين الأوليين) من صلاة الظهر. (ولم يجلس)؛ أي: ترك التشهد مع قعوده المشروع له، المستلزم تركُه تركَ التشهد. (فقام الناس معه) إلى الثالثة، زاد الضحاك بن عثمان، عن الأعرج عند ابن خزيمة: فسبحوا به، فمضى في صلاته (¬3). واستنبط منه: أن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة، ثم ¬

_ = و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 511)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 176)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 56)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 37)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 544)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 166، 6/ 489)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 92)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 107)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 202)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 305). (¬1) في حديث (795) المتقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1166)، ومسلم برقم (570/ 85). (¬3) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1030)، بلفظ: فسبح به، فمضى حتى فرغ من صلاته.

ذكر، لا يرجع؛ فقد سبحوا به -عليه الصلاة والسلام-، فلم يرجع؛ لتلبسه بالفرض، فلم يبطله للسنة (¬1). وحاصل معتمد المذهب: أن من نهض تاركًا للتشهد الأول؛ إما أن يتذكر قبل أن يستتم قائمًا، أو بعد استتمامه قائمًا، وقبل الشروع في القراءة. أو لا يتذكر إلا بعد قيامه وشروعه في القراءة. فإن تذكر قبل أن يستتم قائمًا: وجب عليه؛ ليرجع، فيأتي بالتشهد؛ لأنه واجب، ولم يتلبس في فرض مقصود؛ فوجب الرجوع إليه. وإن استتم قائمًا، ولم يشرع في القراءة: جاز له الرجوع والمضي، لكن المضي أولى؛ لأنه قد تلبس بركن، وهو القيام، إلا أنه غير مقصود لذاته، بل لأجل القراءة، نعم يكره له الرجوع والحالة هذه. وأما إن شرع في القراءة: امتنع عليه الرجوع؛ لأنه تلبس في ركن مقصود لذاته، وهو القراءة، فإن رجع عالمًا ذاكرًا: بطلت صلاته، وناسيًا أو جاهلًا: لم تبطل، ولم يعتد بما أتى به بعد رجوعه، وعليه سجود السهو في الكل (¬2). (حتى)، وفي لفظ: "فلما" (¬3)، ([إذا] قضى) -عليه الصلاة والسلام- (الصلاة)؛ أي: فرغ منها، ما عدا تسليم التحليل؛ بدليل قوله: (وانتظر الناس)، وفي لفظ: ونظرنا (¬4) (تسليمه) -عليه الصلاة والسلام-. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 93). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 453). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1166 - 1167، 6293)، ومسلم برقم (570/ 85). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1166)، ومسلم برقم (570/ 85).

(كبر، وهو جالس)؛ أي: أتى بالتكبير في حال جلوسه، (فسجد سجدتين) للسهو؛ كسجدتي صلب الصلاة (قبل أن يسلم). وفي لفظ: كبر قبل التسليم، فسجد سجدتين، وهو جالس (¬1). (ثم سلم)، وسلم الناس معه بعد ذلك. قال الأزهري: وفعله قبل السلام هو آخر الأمرين من فعله -عليه السلام-؛ ولأنه لمصلحة الصلاة، فكان قبل السلام؛ كما لو نسي سجدة منها. وفي الحديث من الفقه: - أن سجود السهو سجدتان، وإن كثر السهو. - وأنه يكبر لهما؛ كما يكبر في غيرهما من السجود. - وأن المأموم يتابع إمامه، ويلحقه سهو إمامه؛ فإن سجد، لزمه متابعته، فإن تركها عمدًا، بطلت صلاته، وإن لم يسجد إمامه، فعليه هو؛ على النص (¬2). تنبيهات: * الأول: سجود السهو يشرع لزيادة أو نقص، لا لعمد؛ خلافًا للشافعي، ولشك في الجملة، لا إذا كثر حتى صار كوسواس؛ بنفل وفرض سوى صلاة جنازة، وسجود تلاوة، وشكر، وسهو (¬3). وحاصل معتمد المذهب: وجوب سجود السهو؛ لما يبطل عمدُه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1166)، ومسلم برقم (570/ 85). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 38). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 209)

الصلاةَ، وللَّحْنِ يُحيل المعنى سهوًا أو جهلًا؛ إلا ما محلُّ أفضليته بعد السلام. وحاصل المذهب: جواز سجود السهو قبل السلام وبعده؛ لكن إن سلم قبل إتمامها سهوًا -وفي "الإقناع": عن نقص ركعة، فصاعدًا-، فمحل أفضليته بعد السلام، وإلا، فقبله (¬1). * الثاني: قال [في] "تنقيح التحقيق": سجود السهو قبل السلام، إلا في موضعين: أحدهما: إذا سلم من نقصان. قلت: وهذا معتمد. الثاني: إذا شك الإمام، وقلنا: يتحرى، على رواية، قلت: وهذا مرجوح، بل عليه أن يبني على اليقين، وهو الأقل، ويسجد للسهو، والأولى كون سجوده قبل السلام. وقال مالك: إن كان من نقصان، كان قبل السلام، وإن كان من زيادة، فبعده. وقال أبو حنيفة، وداود: كله بعد السلام. وقال الشافعي: كله قبل السلام (¬2). ونصَّ الإمام أحمد: أنه يستعمل كل حديث فيما يرد فيه، وما لم يرد فيه شيء، يسجد فيه قبل السلام (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (1/ 217). (¬2) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 466). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 377)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 36)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 94).

وحاصل المذهب: ما قدمنا من جواز الأمرين. وعند الشافعي: أن سجود السهو، من حيث هو شرع: سنة. وأوجبه مالك لنقص. وأوجبه أبو حنيفة: لجهر، وإخفات، وسورة، وقنوت، وتشهدين؛ كزيادة ركن، كركوع فأكثر؛ خلافًا لمالك. وأبطلها مالك بالزيادة بما فوق نصفها، والله أعلم (¬1). * الثالث: يجب سجود السهو لزيادة ركن فعلي من قيام، أو قعود، أو ركوع، أو سجود، أو شك، ونحو ذلك. ويسن لإتيانه بقولٍ مشروعٍ في غير محله سهوًا، نعم تبطل بتعمد السلام، مع كونه ركنًا قوليًا، فلو تشهد في قيامه، أو قرأ نحو الفاتحة في محل تشهده، أو قرأ سورة فيما بعد الأوليين: سن له أن يسجد للسهو. ويباح إن ترك مسنونًا سهوًا. ويحرم سجود السهو بلا موجب له، أو ما ذكرنا؛ لأنه زيادة سجود في الصلاة، فتبطل بعمده، واللَّه تعالى الموفق (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 450). (¬2) انظر: "دليل الطالب لنيل المطالب" للشيخ مرعي بن يوسف (ص: 35 - 36).

باب المرور بين يدي المصلي

باب المرور بين يدي المصلي أي: النهي عن ذلك، وما ورد فيه من التغليظ عن حضرة الرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وذكر الحافظ- رحمه اللَّه تعالى- في هذا الباب: أربعة أحاديث. * * *

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الإِثْم، لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ، خَيرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ". قَالَ أَبُو النَّضَرِ: لَا أَدْرِي أقَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنةً (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (488)، كتاب: سترة المصلي، باب: إثم المار بين يدي المصلي، ومسلم (557)، كتاب: الصلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي، إلا قوله: "من الإثم"، فإنه ليس من حديثهما، وسيأتي تنبيه الشارح عليه. ورواه أيضًا: أبو داود (701)، كتاب: الصلاة، باب: ما ينه عنه المرور بين يدي المصلي، والنسائي (756)، كتاب: القبلة، باب: التشديد في المرور بين يدي المصلي وبين سترته، والترمذي (336)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في كراهية المرور بين يدي المصلي، وابن ماجه (945)، كتاب: الصلاة، باب: المرور بين يدي المصلي. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 277)، و"عارضة الأحوذي " لابن العربي (2/ 130)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 421)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 106)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 224)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 39)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 546)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 677)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 584)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 293)، و"سبل =

(عن أبي جهيم) -بضم الجيم، وفتح الهاء، على التصغير- واسمه عبد اللَّه (بن الحارث بن الصِّمَّة)، -بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم-، وقيل: ابن جهيم بن الحارث، وقيل: الحارث، وقيل: أبو الجهم -بالتكبير- (الأنصاري)؛ وهذا هو الأصح في نسبه، واسمه. وفي "البرماوي": أن أباه من كبار الصحابة (-رضي اللَّه عنه-)، وعن أبيه، وعن سائر أصحاب رسول اللَّه أجمعين (¬1). (قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لو يعلم المار بين يدي المصلي)؛ أي: أمامه بالقرب منه، وإنما عبر باليدين، لكون أكثر الشغل يقع بهما، واختلف في تحديد ذلك: فقيل: إذا مر بينه وبين مقدار سجوده. وقيل: بينه وبين قدر رمية حجر وقيل: بينه وبين قدر ثلاثة أذرع (¬2). وهذا معتمد المذهب؛ حيث لا سترة؛ فإن كانت: فبينه وبين سترته ولو بعد منها؛ خلافًا للشافعي (¬3). (ماذا عليه من الإثم)؛ وهذه الزيادة، يعني: "من الإثم"، في رواية الكشميهني، خاصة، من "صحيح البخاري" (¬4)، والحديث في "الموطأ" بدونها (¬5). ¬

_ = السلام" للصنعاني (1/ 142)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 8). (¬1) وانظر ترجمته في: "الكنى والأسماء" لمسلم (1/ 195)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1624)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 58)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 73). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 585). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 415). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 585). (¬5) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 154).

قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في شيء منه (¬1)؛ وكذا رواه باقي الستة، وأصحاب المسانيد والمستخرجات بدونها. قال في "الفتح": ولم أرها في شيء من الروايات مطلقًا، لكن في "مصنف ابن أبي شيبة" -يعني: "من الإثم"- فيحتمل أن يكون ذُكرتْ في أصلِ البخاري حاشيةً؛ فظنها الكشميهني أصلًا؛ لأنه لم يكن من أهل العلم، ولا من الحفاظ. وقد عزاها المحب الطبري في ["الأحكام"] (¬2) للبخاري، وأطلق؛ فعيب ذلك عليه، وعلى صاحب "العمدة" في إيهامه أنها في "الصحيحين". وأنكر ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" على من أثبتها في الخبر، فقال: لفظ الإثم ليس في الحديث صريحًا. ولما ذكره النووي في "شرح المهذب" بدونها، قال: في رواية رويناها في "الأربعين" لعبد القادر الهروي: "ماذا عليه من الإثم" (¬3). (لكان أن يقف أربعين)، يعني: أن المار لو يعلم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي، لاختار أن يقف المدة المذكورة؛ حتى لا يلحقه ذلك الإثم. ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 146). (¬2) في الأصل: "الآكام"، والتصويب من "الفتح" (1/ 585). وتقدم التعريف بكتابه هذا فيما سبق. (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 219 - 220). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 585). وقد قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي في "الجمع بين الصحيحين" (1/ 340): قيل: إنها وقعت في بعض طرق البخاري في بعض روايات أبي ذر، عن أبي الهيثم.

(خيرًا)، جواب "لو" المقدرة، لا المذكورة، بل التقدير: لو يعلم ما عليه، لوقف أربعين، ولو وقف أربعين، لكان خيرًا له، كذا في "الفتح". قال: وليس هذا التقدير متعينًا (¬1). (له)؛ أي: المار بين يدي المصلي. (من أن يمر بين يديه)؛ أي: المصلي، وأبهم العدد؛ تفخيمًا للأمر وتعظيمًا. قال الكرماني: وخص الأربعين بالذكر؛ لأن الأربعة أصل جميع الأعداد، فلما أريد التكثير، ضربت في عشرة؛ ولأن كمال أطوار الإنسان بأربعين؛ كالنطفة، والمضغة، والعلقة، وكذا بلوغ الأَشُدّ، ويحتمل غير ذلك، انتهى. وفي "صحيح ابن حبان"، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، مرفوعًا: "لكان أن يقف مئة عام؛ خيرًا له، من الخطوة التي خطاها" (¬2). وهذا مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر، لا لخصوص عدد معين؛ لأن التقييد بالمئة، وقع بعد التقييد بالأربعين، زيادة في تعظيم الإثم على المار؛ لأنهما لم يقفا معًا، إذ المئة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أن يتقدم ذكر المئة على الأربعين؛ بل ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 585). قال ابن العربي في "العارضة" (2/ 131): روي برفع خير ونصبه، إذا رفعت "خيرًا" فخبر كان في جملة "أن يقف"، وإذا نصبته فهو الخبر، وهاتان الجملتان نكرتان تعرفتا بالإضافة، والثانية التي هي "خير له" أعرف من الأولى. (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (2365)، وكذا ابن ماجه (946)، كتاب: الصلاة، باب: المرور بين يدي المصلي.

المناسب: أن يتأخر، ومميز الأربعين: إن كان هو السنة، ثبت المدعى، أو ما دونها، فمن باب أولى (¬1). وفي "مسند البزار"، من طريق ابن عيينة، التي ذكرها ابن القطان: "لكان أن يقف أربعين خريفًا" (¬2). (قال أبو النضر): هو من كلام الإمام مالك، وليس من تعليق الشيخين. واسم أبي النضر-بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة-: سالم بن أمية، القرشي مولى عمر بن عبيد اللَّه بن معمر التيمي القرشي المدني، يعد في التابعين، وأكثر رواياته عنهم. روى عنه: مالك، والثوري، وابن عيينة، وكان رجلًا صالحًا، مات في خلافة مروان بن محمد، وكان ثقة، قال خليفة بن الخياط: توفي سنة تسع وعشرين ومئة، روى له الجماعة (¬3). (لا أدري أقال) بهمزة الاستفهام -يعني: النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (أربعين يومًا، أو) أربعين (شهرًا، أو) أربعين (سنة). وفي "الموطأ": أن كعب الأحبار قال: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يخسف به، خيرًا له من أن يمر بين يديه" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 585). (¬2) رواه البزار في "مسنده" (3782). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى - القسم المتمم" لابن سعد (ص: 312)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 111)، و"الثقات" لابن حبان (6/ 407)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (20/ 29)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 127)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 372). (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 155).

تنبيهات: الأول: وقع في رواية أبي العباس، من طريق الضحاك بن عثمان، عن أبي النضر: "لو يعلم المار بين يدي المصلي، والمصلَّى" (¬1)؛ فحمله بعضهم على ما إذا قصَّر المصلي في دفع المار، أو بأن صلى في الشارع. وفي "الفتح": يحتمل أن يكون قوله: "والمصلَّى" -بفتح اللام-؛ أي: بين يدي المصلي من داخل سترته، وهذا أظهر، والله أعلم (¬2). الثاني: قال النووي: في هذا الحديث دليل على تحريم المرور؛ فإن معنى الحديث [معناه] (¬3): النهي الأكيد، والوعيد الشديد (¬4). قال في "الفتح": ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر (¬5). الثالث: ظاهر عموم النهي: في كل مصل، وخصه بعض المالكية بالإمام، والمنفرد، لأن المأموم، لا يضره من مر بين يديه، لأن سترة إمامه سترة له، والتعليل المذكور لا يطابق المدعى؛ لأن السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي، لا عن المار. قال في "الفروع" في قوله: "وسترة الإمام سترة لمن خلفه"؛ معنى ذلك: فيما إذا مرَّ ما يبطلها -يعني: الصلاة-؛ من نحو الكلب الأسود البهيم؛ فإنه إذا مر بين يدي المأموم، لا تبطل صلاته؛ لأن سترة الإمام سترة ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" (2/ 678): خرَّجه أبو العباس السَّرَّاج في "مسنده"، وهو وهم، وزيادته: "المصلَّى" غير محفوظة. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 586). (¬3) كذا في الأصل، ولا ضرورة لها. (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 225). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 586).

له، وأما في نهي الآدمي عن المرور: فعلى ظاهره. وقال صاحب "النظم": لم أر أحدًا تعرض لجواز مرور الإنسان بين يدي المأمومين، فيحتمل جوازه اعتبارًا بسترة الإمام لهم حكمًا؛ ويحتمل اختصاص ذلك بعدم الإبطال؛ لما فيه من المشقة على الجميع. قال في "الفروع": ومراده: عدم التصريح به، وقد قال القاضي عياض المالكي: اختلفوا في سترة الإمام؛ هل هي سترة لمن خلفه، أم هي سترة له خاصة، وهو سترة لمن خلفه، مع الاتفاق على (¬1) أنهم مصلون إلى سترة (¬2)؟. ولمسلم، عن أبي هريرة، مرفوعًا: "إنما الإمام جُنَّة" (¬3) -أي: الترس-، يمنع من نقصٍ لصلاة المأموم؛ لا أنه يجوز المرور قُدَّامَ المأموم على ما سبق (¬4). الرابع: ذكر ابن دقيق العيد: أن بعض الفقهاء -أي: المالكية- قسم أحوال المار في الإثم وعدمه إلى أربعة أقسام: يأثم المار دون المصلي، وعكسه، يأثمان جميعًا، وعكسه. فالصورة الأولى: أن يصلي إلى سترة في غير مشرع، وللمار مندوحة، فيأثم المار دون المصلي. والثانية: أن يصلي في مشرع مسلوك بغير سترة، أو متباعدًا عن السترة، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 418). (¬3) رواه مسلم (416)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره. (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 419).

ولا يجد المار مندوحة، فيأثم المصلي دون المار. الثالثة: مثل الثانية، لكن يجد المار مندوحة، فيأثمان جميعًا. الرابعة: مثل الأولى، لكن لا يجد المار مندوحة، فلا يأثمان جميعًا (¬1). قلت: كلام علمائنا يخالف هذا التقسيم. قال في "الفروع": ويحرم؛ وفاقًا لمالك، وللشافعي، وذكره غير واحد من الحنفية، [ويكره] المرور بين المصلي وسترته ولو بعد منها خلافًا للشافعي، وكذا بين يديه قريبًا في الأصح؛ خلافًا للشافعي -أيضًا-؛ وهو ثلاثة أذرع، وقيل: العرف، لا موضعُ سجوده. وقيل: يكره المرور، لا أنه يحرم؛ وفاقًا لأبي حنيفة، نعم، إن احتاج إلى المرور في مكان ضيق، لم يرده. وقيل: بلى، وتكره الصلاة هناك ولا تحرم، والله أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 40). وقد نقل الشارح -رحمه اللَّه- هنا كلام ابن دقيق عن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 586). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 415).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "إذَا صَلَّى أَحَدُكمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإنْ أَبَى، فَلْيُقَاتِلْهُ؛ فَإنَّمَا هُوَ شَيْطَان" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (487)، كتاب: سترة المصلي، باب: يرد المصلي من مرَّ بين يديه، واللفظ له، و (3100)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، ومسلم (505)، (258 - 259): كتاب: الصلاة، باب: منع المار بين يدي الصلاة، وأبو داود (697 - 700)، كتاب: الصلاة، باب: ما يؤمر المصلي أن يدرأ عن المار بين يديه، والنسائي (757)، كتاب: القبلة، باب: التشديد في المرور بين يدي المصلي وبين سترته، و (4862)، كتاب: القسامة، باب: من اقتص وأخذ حقه دون السلطان، وابن ماجه (954)، كتاب: الصلاة، باب: ادرأ ما استطعت. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 188)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 273)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 419)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 104)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 223)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 41)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 550)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 668)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 582)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 290)، و "سبل السلام" للصنعاني (1/ 145)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 6).

(عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: إذا صلى أحدكم) - معشر المسلمين، (إلى شيء يستره) من: جدار، أو سارية، أو عصا، أو نحوها، وعرضها أعجب إلى الإمام أحمد؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ولو بسهم" (¬1) يقارب طول ذراع (¬2). (من الناس) متعلق بيستره؛ أي: يستره من مرور الناس بين يديه. (فأراد أحد) من الناس (أن يجتاز)؛ أي: يمر ويسلك (بين يديه)؛ يعني: دون سترته؛ أي: بينه وبين سترته (فليدفعه)، ولمسلم: "فليدفع في نحره" (¬3). قال القرطبي: بالإشارة ولطيف المنع، (فإن أبى) أن يرجع عن المرور، وصمم عليه؛ (فليقاتله)؛ أي: يزيد في دفعه الثاني أشدَّ من الأول، وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح؛ لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة، والاشتغال بها، والخشوع فيها (¬4). قال في "الفروع": ويستحب رد المار؛ اتفاقًا، وتنقض صلاته إن تركه قادرًا. وعنه: يجب رده، وإن غلبه، لم يردَّه؛ وفاقًا، وإن أبى، دفعه، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 404)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 187)، وابن خزيمة في "صحيحه" (810)، وأبو يعلى في "مسنده" (941)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6539 - 6540)، والحاكم في "المستدرك" (925 - 926)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 270)، من حديث سبرة بني معبد -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 415). (¬3) تقدم تخريجه برقم (505/ 259) عنده. (¬4) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 104 - 105).

خلافًا لأبي حنيفة. فإن أصر، فله قتاله -على الأصح-، ولو مشى؛ خلافًا لمالك (¬1). فإن خاف فساد صلاته، لم يكرر دفعه، ويَضْمَنهُ -على الأصح-؛ أي: حيث كرر الدفع، بحيث تفسد الصلاة؛ لكثرته (¬2). (فإنما هو)؛ أي: المار بين يدي المصلي بينه وبين سترته، أو كان لا سترة له، ومر قريبًا منه في ثلاثة أذرع فأقل (شيطان)؛ أي: فعلُه فعلُ الشيطان؛ لأنه أبى إلا التشويش على المصلي، وإطلاق الشيطان على المار من الإنس سائغ شائع، وقد جاء في القرآن قوله تعالى {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112]. وقال ابن بطال: في هذا حديث جواز إطلاق لفظ الشيطان على: من يفتن في الدين، وأن الحكم للمعاني، دون الأسماء؛ لاستحالة أن يصير المار شيطانًا، بمجرد مروره، انتهى. وهو مبني على أن لفظ الشيطان يطلق حقيقة على الجني، ومجازًا على الإنسي؛ وفيه بحث، ويحتمل أن يكون المعنى: فإنما الحامل له على ذلك الشيطان. ويؤيده ما في رواية الإسماعيلي: "فإن معه الشيطان" (¬3)، ونحوه ¬

_ (¬1) قال ابن قندس في "حاشية الفروع" (2/ 258): سمعت القاضي سالمًا المالكي يقول: مذهب مالك: لا يقاتله مطلقًا، فيكون قوله: "خلافًا لمالك" عائدًا إلى أصل المسألة، لا إلى قوله: "ولو مشى"، بل يكون المعنى: فله قتاله خلافًا لمالك. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 415 - 416). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 584).

لمسلم، من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، بلفظ: "فإن معه القرين" (¬1). تنبيهات: الأول: قال ابن أبي جمرة في قوله: "فإنما هو شيطان": إن المراد بقوله: "فليقاتله": المدافعة اللطيفة، قال: لا حقيقة القتال؛ لأن مقاتلة الشيطان، إنما هي بالاستعاذة، والتستر عنه بالتسمية، ونحوها، وإنما جاز الفعل اليسير في الصلاة؛ للضرورة، فلو قاتله حقيقة المقاتلة، لكان أشد على صلاته من المار. وهل المقاتلة لخلل يقع في صلاة المصلي بسبب المرور، أو ليدفع الإثم عن المار؟ استظهر ابن أبي جمرة الثاني، وقال غيره: بل الأول أظهر (¬2). وقد روى ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: إن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته (¬3). وروى أبو نعيم، عن عمر -رضي اللَّه عنه-: لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه، ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس (¬4). فهذان الأثران مقتضاهما: أن الدفع يتعلق بصلاة المصلي لخلل فيها، ولا يختص بالمار، وهما، وإن كانا موقوفين لفظًا، فحكمهما حكم الرفع؛ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (506)، كتاب: الصلاة، باب: منع المار بين يدي المصلي. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 584). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2908). (¬4) رواه أبو نعيم في كتاب: "الصلاة"؛ كما ذكر العيني في "عمدة القاري" (4/ 291).

لأن مثلهما، لا يقال من الرأي؛ كما في "الفتح" (¬1)؛ وهذا مقتضى نص الإمام أحمد: أن المرور ينقص صلاة المصلي (¬2). الثاني: لو غلب المار على المصلي، ومرَّ، لم يردَّه من حيث جاء، أو يكن محتاجًا، أو في مكة المشرفة، فلا يرد المار، وتكره الصلاة في موضع يحتاج فيه إلى المرور. ونقل [بكر] (¬3): يكره المرور بين يديه، إلا بمكة لا بأس به، انتهى (¬4). الثالث: يجزىء كون السترة جدارًا، أو شيئًا شاخصًا؛ كحربة، أو آدمي غير كافر، أو بهيم، أو غير ذلك، مثل آخرة الرحل تقارب طول ذراع، فأكثر؛ فأما قدرها في الغلظ، فلا حد له، فقد تكون غليظة؛ كالحائط، أو دقيقة؛ كالسهم. ويستحب قربه منها قدر ثلاثة أذرع من قدميه، وانحرافه عنها يسيرًا. فإن لم يجد شاخصًا، وتعذر غرز عصًا، ونحوها، وضعُها بالعرض أعجبُ إلى الإمام أحمد من وضعها طولًا، ويكفي خيط، ونحوه، وما اعتقده سترة. فإن لمن يجد، خَطَّ خطًا؛ كالهلال، لا طولًا، خلافًا للشافعي. قال غير واحد: ويكفي، وعنه: يكر [هـ] الخط؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 584). (¬2) قال ابن قدامة في "المغني" (2/ 42): قال أحمد: يضع من صلاته، ولكن لا يقطعها. (¬3) في الأصل: "أبو بكر"، والصواب ما أثبت. (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 415 - 416). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 415)، و"الإقناع" للحجاوي (1/ 201).

ولا تجزىء -على معتمد المذهب- سترة مغصوبة؛ فالصلاة إليها كالقبر، وتجزىء سترة نجسة (¬1). الرابع: لو مر بين المصلي وبين سترته، أو لم يكن له سترة، فمر بين يديه قريبًا كلب أسود بهيم -وهو ما لا لون فيه سوى السواد-، بطلت صلاته، لا بمرور امرأة، وحمار، وبغل، وشيطان، وسِنَّور أسود، ولا بالوقوف، والجلوس قدامه (¬2). وهو من المفردات، لحديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يقطع الصلاةَ: المرأةُ، والكلبُ، والحمار" رواه الإمام أحمد، وابن ماجه (¬3). ورواه مسلم، وزاد: "ويقي من ذلك مثلُ مؤخرة الرحل" (¬4). ورواه الإمام أحمد، وابن ماجه، من حديث عبد اللَّه بن مغفل (¬5)، ورواه الجماعة إلا البخاري، عن عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذر، بنحوه، قال ابن الصامت: قلت: يا أبا ذر! ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟! قال: يا بن أخي! سألتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما سألتني، فقال: "الكلب الأسود شيطان" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 383). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 202). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 299)، وابن ماجه (950)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقطع الصلاة. (¬4) رواه مسلم (511)، كتاب: الصلاة، باب: قدر ما يستر المصلي. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 86)، وابن ماجه (951)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقطع الصلاة. (¬6) رواه مسلم (510)، كتاب: الصلاة، باب: قدر ما يستر المصلي، وأبو داود =

فإن قلت: لِمَ لَمْ تقولوا بقطع الصلاة بمرور المرأة، والحمار؛ كما قلتم بالكلب الأسود؟! فالجواب: لما يأتي من حديثي ابن عباس، وعائشة- رضي اللَّه عنهم-، ولما روى الإمام أحمد، وابن ماجه: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصلي في حجرة أم سلمة، فمرت ابنة أم سلمة بين يديه، فقال بيده هكذا، فمضت، فلما صلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "هن أغلب" (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب: أن المرأة، والحمار؛ كالكلب الأسود البهيم في قطع الصلاة بمرورها بين المصلي وبين سترته، أو قريبًا منها؛ لثبوت ذلك في الصحيح، ولا شيء يعارضه - (¬2)، كما سننبه عليه في حديث ابن عباس قريبًا-، والله أعلم. * * * ¬

_ = (702)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقطع الصلاة، والنسائي (750)، كتاب: القبلة، باب: ما يقطع الصلاة وما لا يقطع إذا لم يكن بين يدي المصلي سترة، والترمذي (338)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب والحمار والمرأة، وابن ماجه (952)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقطع الصلاة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 149). (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 294)، وابن ماجه (948)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقطع الصلاة. (¬2) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 423)، و"مجموع الفتاوى" له أيضًا (21/ 15).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلَامَ، وَرَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي بالنَّاس بمنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ، فَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ في الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (76)، كتاب: العلم، باب: متى يصح سماع الصغير، و (471)، كتاب: سترة المصلي، باب: سترة الإمام سترة من خلفه، و (823)، كتاب: صفة الصلاة، باب: وضوء الصبيان، و (1758)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: حج الصبيان، و (4150)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، ومسلم (504)، (254 - 257)، كتاب: الصلاة، باب: سترة المصلي، وأبو داود (715 - 716)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: الحمار لا يقطع الصلاة، والنسائي (752، 754)، كتاب: القبلة، باب: ما يقطع الصلاة وما لا يقطع إذا لم يكن بين يدي المصلي سترة، والترمذي (337)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء لا يقطع الصلاة شيء، وابن ماجه (947)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقطع الصلاة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر 21/ 282)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 132)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 417)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 103)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 221)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 42)، و"العدة في شرح =

(عن عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: أقبلت راكبًا على حمار أتان) -بالتاء المثناة-: الحمارة، ولا تقل أتانة، وثلاث آتن؛ مثل عَناق، و [أ] عْنُق (¬1). (وأنا يومئذ [قد] ناهزت)؛ أي: قاربت (الاحتلام)؛ وذلك أن عمره كان لما توفي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خمس عشرة سنة؛ كما رجحه الإمام أحمد، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وقيل: عشرة (¬2). (ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي بالناس بمنى)، وذلك في حجة الوداع. وشذ ابن عيينة فقال: بعرفة (¬3)، وشك معمر، فقال: في حجة الوداع، أو الفتح (¬4). والحق: أنه بمنى في حجة الوداع (¬5). (إلى غير جدار) متعلق بـ: "يصلي"، ولا ينفي غير الجدار، إلا أن إخبار ابن عباس عن مروره بهم، وعدم إنكار هـ[ـم] لذلك مشعر بحدوث أمر لم يعهدوه، فلو فرض هناك سترة أخرى غير الجدار، لم يكن لهذا الإخبار فائدة؛ إذ مروره حينئذ لا ينكره أحد أصلًا (¬6). ¬

_ = العمدة" لابن العطار (1/ 552)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 607)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 109)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 171، 572)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 68)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 16). (¬1) انظر: "مختار الصحاح" (ص: 2)، (مادة: أتن). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 90). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (504/ 256). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (504/ 257). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 572). (¬6) المرجع السابق، (1/ 571).

قال ابن عباس: (فمررت بين يدي بعض الصف)، وفي لفظ: حتى سرت بين يدي الصف الأول (¬1)، (فنزلت) عن الأتان، (فأرسلت الأتان ترتع)؛ أي: ترعى، يقال: رتع؛ كمنع: رتعًا، ورتوعًا، ورِتاعًا -بالكسر-: أكل وشرب ما شاء في خصب وسَعَة، أو هو الأكل والشرب رغدًا في الريف (¬2). (ودخلت في الصف) أصلي معه، (فلم ينكر ذلك)؛ أي: مروري بالأتان بين يدي بعض الصف (عليَّ أحد)؛ لا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أصحابه. قال ابن دقيق العيد: استدل ابن عباس بترك الإنكار، ولم يستدل بترك إعادتهم للصلاة؛ لأن ترك الإنكار أكثر فائدة (¬3). وتوجيهه: أن ترك الإعادة يدل على صحتها فقط، لا على جواز المرور، وترك الإنكار يدل على جواز المرور وصحة الصلاة معًا. ويستفاد منه: أن ترك الإنكار حجة على الجواز، بشرط انتفاء الموانع من الإنكار، وثبوت العلم بالاطلاع على الفعل. واستدل بهذا الحديث على: أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة؛ فيكون ناسخًا لحديث أبي ذر -الذي ذكرناه قريبًا- في كون مرور الحمار يقطع الصلاة، وكذا المرأة، والكلب الأسود؛ فإن مرور الحمار محقق في حال مرور ابن عباس وهو راكبه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1758). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 930)، (مادة: رتع). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 43).

ورد ذلك؛ لكونه إنما مر بين يدي بعض الصف، وسترة الإمام سترة لمن خلفه (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في "الفتاوى المصرية": الصواب: أنه إذا مر الكلب الأسود، والمرأة، والحمار بين يدي المصلي دون سترة، أو قريبًا منه: أنه يقطع صلاته؛ فإنه قد ثبت ذلك عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في "الصحيح"، ولم يعارضه شيء. فإن ما سوى هذا الحديث -يعني: حديث أبي ذر- إنما فيه: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى إلى امرأة لم تمر أمامه، وأن الحمار مر بين يدي بعض الصف، وحكم اللبث خلاف المرور؛ باتفاق العلماء، وسترة الإمام سترة لمن خلفه، انتهى (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 572). (¬2) وانظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (21/ 15).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَرِجْلَايَ في قِبْلَتِهِ، فَإذَا سَجَدَ، غَمَزَني، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، وإذَا قَامَ، بَسَطْتُهُمَا، وَالبيوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (375)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: الصلاة على الفراش، و (491)، كتاب: سترة المصلي، باب: التطوع خلف المرأة، و (1151)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: ما يجوز من العمل في الصلاة، ومسلم (512/ 272)، كتاب: الصلاة، باب: الاعتراض بين يدي المصلي, وأبو داود (713 - 714)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: المرأة لا تقطع الصلاة، والنسائي (168)، كتاب: الطهارة، باب: ترك الوضوء من مس الرجل امرأته من غير شهوة، من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة، به. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 83)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 427)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 110)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 228)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 46)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 556)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 693)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 390)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 492)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 113).

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة بنت الصديق (-رضي اللَّه عنها)، وعن أبيها-، (قالت): (كنت أنام بين يدي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-, ورجلاي في قبلته)، وفي لفظ قالت: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي صلاته من الليل, وأنا معترضة بينه وبين القبلة" (¬1). (فإذا سجد) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، (غمزني)، قال في "القاموس": غمزه بيده، يغمزه: شِبْهُ نَخَسَه (¬2). وفي "النهاية": الغمز: العصرُ، والكبس باليد، ومنه حديث عمر: أنه دخل عليه، وعنده غُلَيّم أسود، يغمز ظهره (¬3). وبعضهم فسر الغمز في بعض الأحاديث بالإشارة؛ كالرمز بالعين، أو الحاجب، أو اليد (¬4). قال في "القاموس": وغمزه بالعين، والجفن، والحاجب: أشار (¬5). (فقبضت رجلي) من قبلته، (وإذا قام، بسطتهما)؛ كما كانا أولًا، قبل قبضي لهما، قالت: (والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح) مشعولة. وفي لفظ: أن عائشة -رضي اللَّه عنها- ذكر عندها ما يقطع الصلاة: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (377)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الثياب، باب: الصلاة على الفراش، ومسلم (512/ 267)، كتاب: الصلاة، باب: الاعتراض بين يدي المصلي، من طريق عروة، عن عائشة، به. (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 668)، (مادة: غمز). (¬3) رواه البزار في "مسنده" (282)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (8077)، وفي "المعجم الصغير" (226)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 210)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (1/ 183 - 184)، نحوه. (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 385 - 386). (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 668)، (مادة: غمز).

الكلب، والحمار، والمرأة، فقالت عائشة: قد شبهتمونا بالحمير والكلاب! ولقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي وأنا على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة (¬1). فاستدلوا: بأن هذا ناسخ لحديث أبي ذر، قال في "الفتح": مع أن حديث عائشة واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، بخلاف حديث أبي ذر، فإنه مسوق بسياق تشريع العام. وقد أشار ابن بطال إلى أن ذلك -أي: كونه كان يصلي، وعائشة بينه وبين القبلة- كان من خصائصه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه كان يقدر أن يملك إربه على ما لا يقدر عليه غيره (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما يعارض حديث أبي ذر وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحة، وصريحة غير صحيحة، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح، بالمحتمل -يعني: حديث عائشة، وما وافقه- (¬3). والفرق بين المار وبين الدائم في القبلة: أن المرور حرام، بخلاف الاستقرار؛ نائمًا كان، أم غيره، فهكذا يقطع مرورها دون لبثها (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (492)، كتاب: سترة المصلي، باب: من قال: لا يقطع الصلاة شيء، ومسلم (512/ 270)، كتاب: الصلاة، باب: الاعتراض بين يدي المصلي، من طريق مسروق والأسود، عن عائشة، به. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 590). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (21/ 15). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 590). وقد نقل الشارح -رحمه اللَّه- كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- عن الحافظ ابن حجر، حيث قال الحافظ في "الفتح": قال بعض الحنابلة، هكذا دون أن يسمي، وهذا من القليل النادر أن يحكي الشارح -رحمه اللَّه- كلام شيخ الإسلام من غير كتبه.

والحاصل: أن معتمد المذهب: اختصاص القطع بالكلب الأسود، دون المرأة، والحمار. وعند الشيخ: كل من الثلاثة يقطع الصلاة، والله تعالى أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 417).

باب جامع لأحكام متفرقة

باب جامع لأحكام متفرقة وذكر فيه تسعة أحاديث: * * *

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (433)، كتاب: المساجد، باب: إذا دخل المسجد، فليركع ركعتين، و (1110)، كتاب: التطوع، باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى، واللفظ له، ومسلم (714/ 69 - 70)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تحية المسجد بركعتين، وأبو داود (467 - 468)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة عند دخول المسجد، والنسائي (730)، كتاب: المساجد، باب: الأمر بالصلاة قبل الجلوس فيه، والترمذي (316)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء إذا دخل أحدكم المسجد، فليركع ركعتين، وابن ماجه (1013)، كتاب: الصلاة، باب: من دخل المسجد فلا يجلس حتى يركع. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 142)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 304)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 112)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 49)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 352)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 225)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 48)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 559)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 462)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 537)، و"عمدة القاري" =

(عن أبي قتادة) الحارث (بن ربعي الأنصاري) السَّلَمي -بفتح السين المهملة-، نسبة إلى أحد أجداده (-رضي اللَّه عنه-)، وكان يدعى بفارس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتقدمت ترجمته في باب الاستطابة. (قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إذا دخل أحدكم) -معشر الصحابة، ومن بعدهم من أمة الإجابة- (المسجد) "أل" فيه: للعهد، أو الجنس؛ أي: أي مسجد كان. (فلا يجلس) صرح جماعة بأنه: إذا خالف وجلس، لا يشرع له التدارك. وفيه: رواه ابن حبان، من حديث أبي ذر -رضي اللَّه عنه-: أنه دخل المسجد، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أركعت ركعتين؟ "، قال: لا، قال: "قم، فاركعهما" (¬1)، وترجم عليه ابن حبان: أن تحية المسجد، لا تفوت بالجلوس (¬2). وفي "الفروع" للعلامة ابن مفلح، في داخل المسجد والإمام يخطب: وإن جلس-يعني: الداخل-: قام فأتى بها -أي: تحية المسجد-، أطلقه أصحابنا، ويتوجه احتمال: تسقط من عالم، ومن جاهل لم يعلم عن قرب. ¬

_ = للعيني (4/ 201)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 159) و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 82). (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (361)، بلفظ: قال فيه أبو ذر -رضي اللَّه عنه-: دخلت المسجد، فإذا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جالس وحده، قال: "يا أبا ذر! إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان، فقم فاركعهما ... " الحديث. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 538). ولم أقف على تسمية الباب الذي ذكره الحافظ في "صحيح ابن حبان".

وأطلق الشافعية سقوطها به -أي: الجلوس-، وحمله بعضهم على العالم. وعند الحنفية: لا تسقط بالجلوس، وأن الجالس يُخيَّر بين صلاته أولًا، وعند انصرافه، انتهى (¬1). وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": قال المحب الطبري: يحتمل أن يقال: وقتها قبل الجلوس وقتُ فضيلة، وبعده وقتُ جواز، ويقال: وقتها قبله أداء، وبعده قضاء. ويحتمل أن تحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل. قال في "الفتح": وحديث أبي قتادة -هذا- ورد على سبب؛ وهو: أن أبا قتادة دخل المسجد، فوجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جالسًا بين أصحابه، فجلس معهم، فقال له -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما منعك أن تركع ركعتين؟ "، قال: رأيتك جالسًا، والناس جلوس، قال: "إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يركع ركعتين" أخرجه مسلم (¬2). وعند ابن أبي شيبة، من وجه آخر، عن أبي قتادة: "أعطوا المساجد حقها"، قيل له: وما حقها؟ قال: "ركعتين قبل أن تجلس" (¬3). (حتى)؛ أي: إلى أن (يصلي ركعتين)، فلا تحصل تحية المسجد بأقل ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 95 - 96). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (714/ 70). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3422)، وكذا ابن خزيمة في "صحيحه" (1824)، والديلمي في "مسند الفردوس" (353). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 538).

من ركعتين، ولا بصلاة جنازة، وتجزىء راتبة، وفريضة -ولو فائتتين- عن تحية المسجد، وإن نوى التحية والفرض، فظاهر كلامهم حصولهما؛ كما في "الإقناع" (¬1)، وغيره. قال في "الإقناع": وإن جلس قبل فعلها -يعني: تحية المسجد-، قام، فأتى بها إن لم يَطُلِ الفصلُ (¬2). قال في "الفروع": ومن دخل المسجد في الخطبة -يعني: خطبة الجمعة-، لم يمنع من التحية، خلافًا لأبي حنيفة، ومالك، ولا يزيد عليهما حينئذ، وفاقًا، ويوجز فيهما؛ أطلقه الإمام أحمد، والأكثر. وقال صاحب "المغني" (¬3)، و"التلخيص"، و"المحرر" (¬4): إن لم تفته معه تكبيرة الإحرام. ولا تستحب التحية للإمام -يعني: إذا دخل المسجد ليخطب-؛ لأنه لم ينقل؛ ذكره أبو المعالي، وغيره (¬5). تنبيه: لا تستحب تحية المسجد؛ وفاقًا. وقال داود وأصحابه: تجب؛ لظاهر الأحاديث الواردة بالأمر بها، كما في "الفروع" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 303 - 304). (¬2) المرجع السابق، (1/ 304). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 84). (¬4) قاله في "شرح الهداية"، كما في "النكت على مشكل المحرر" لابن مفلح (1/ 152). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 95 - 96). (¬6) المرجع السابق، (2/ 96).

قال في "الفتح": اتفق أئمة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب، ونقل ابن بطال، عن أهل الظاهر: الوجوب، والذي صرح به ابن حزم عدمُه (¬1). ومن أدلة عدم الوجوب: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- للذي رآه يتخطى: "اجلس فقد آذيت" (¬2)، ولم يأمره بصلاة؛ قاله الطحاوي (¬3)، وغيره. قال الطحاوي -أيضًا-: والأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، ليس هذا الأمر بداخل فيها (¬4). قال في "الفتح": هما عمومان تعارضا؛ الأمر بالصلاة لكل داخل من غير تفصيل، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، فلا بد من تخصيص أحد العمومين؛ فذهب جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر، وهو الأصح عند الشافعية. قلت: وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد (¬5)، واعتمدها شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6)، وجمع، وذهب جمع إلى عكسه؛ وهو قول الحنفية، والمالكية (¬7). ومعتمد مذهب الحنابلة. ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (5/ 96). (¬2) رواه أبو داود (1118)، كتاب: الصلاة، باب: تخطي رقاب الناس يوم الجمعة، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 188)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 366)، وغيرهم، من حديث عبد اللَّه بن بسر -رضي اللَّه عنه-. (¬3) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 366). (¬4) المرجع السابق، (1/ 371). (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 430 - 431). (¬6) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 210 - 211). (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 537 - 538).

نعم، تفعل تحية المسجد إذا دخل والإمام يخطب يوم الجمعة، ولو كان وقت قيام الشمس، قبل الزوال، بلا كراهة، على معتمد المذهب (¬1)، والله أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 453).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا نَتَكَلَّمُ في الصَّلَاة، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ، حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فَأمِرْنَا بالسُّكُوتِ، ونُهِينَا عَنِ الكَلَامِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1142)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: ما ينهى من الكلام في الصلاة، و (4260)، كتاب: التفسير، باب: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، ومسلم (539)، كتاب: المساجد، ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة، واللفظ له، وأبو داود (949)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن الكلام في الصلاة، والنسائي (1219)، كتاب: السهو، باب: الكلام في الصلاة، والترمذي (405) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في نسخ الكلام في الصلاة، و (2986)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البقرة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 195)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 468)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 147)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 26)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 52)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 565)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 363)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 112)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 73)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 270)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 139)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 360).

(عن) أبي عمرو، وقيل: أبي عامر (زيد بن أرقم) بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك، الأنصاري الخزرجي (-رضي اللَّه عنه-)، يعد في الكوفيين؛ لأنه نزل الكوفة، وابتنى بها دارًا، ومات بها أيام المختار، سنة ست وستين، وقيل: ثمان وستين. استصغره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أحد، وكان يتيمًا في حجر عبد اللَّه بن رواحة، ويقال: أول مشاهده المريسيع؛ وهو الذي رفع إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قول عبد اللَّه بن أبي ابن أبي سلول: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، وقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وفَّت أذنك" (¬1). شهد مع علي -رضي اللَّه عنه- صفين؛ وهو معدود من أصحابه. روى عنه: أنس، وابن عباس -رضي اللَّه عنهم-، ومن التابعين: ابن أبي ليلى، وأبو عمرو الشيباني، وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهم. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سبعون حديثًا؛ اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بستة (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4617)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]، ومسلم (2772) في أول كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، بلفظ -والسياق للبخاري-: "إن اللَّه قد صدقك يا زيد". وانظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 764). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 18)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 385)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 139)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 613)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 535)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (19/ 256)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 342)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 196)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 9)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 165)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر =

(قال) -أي: زيد بن أرقم -رضي اللَّه عنه-: (كنا نتكلم في الصلاة)، وفي رواية: "إن كنا لنتكلم" (¬1) -بتخفيف النون، بعد الهمزة المكسورة ولام التأكيد- في الصلاة على عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، (يكلم الرجل صاحبه)، وفي لفظ البخاري: يكلم أحدنا صاحبه بحاجته (¬2)، (وهو إلى جنبه في الصلاة)، وفي لفظ: "يسلم بعضنا على بعض" (¬3). (حتى)؛ أي: إلى أن (نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]). وفي البخاري: حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬4) [البقرة: 238]. (فأمرنا) -بضم الهمزة- (بالسكوت)؛ أي: عما كنا نفعله، يعني: أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك، (ونهينا) -ببنائه لما لم يسم فاعله- للعلم به؛ وهو رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (عن الكلام) (¬5) في الصلاة؛ يعني: من غير جنسها، فأل - ¬

_ = (2/ 589)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 340). (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1142). (¬2) تقدم تخريجه عنده برقم (1142). (¬3) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 455)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10131)، من طريق أبي الأحوص، عن ابن مسعود -رضي اللَّه-، قال: خرجت في حاجة ونحن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، ثم رجعت فسلمت، فلم يرد عليَّ، وقال: "إن في الصلاة شغلًا". (¬4) تقدم تخريجه عنده برقم (4260). (¬5) جاء على هامش الأصل المخطوط: قوله: "ونهينا عن الكلام" ظاهر القسطلَّاني: أنها من أفراد مسلم، ليحرر، انتهى. قلت: قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 75): زاد مسلم في روايته: ونهينا عن الكلام، ولم يقع في البخاري، وذكرهما صاحب "العمدة"، ولم ينبه من شراحها عليها، انتهى. قلت: نبه الزركشي في "النكت على العمدة" (112): أن هذه الزيادة من أفراد =

في الكلام-: للعهد الراجع إلى قوله: يكلم الرجل منا صاحبه بحاجته. وفي حديث معاوية بن الحكم -رضي اللَّه عنه-، في "صحيح مسلم"، وغيره: "إن هذه الصلاة" (¬1)، وفي لفظ: "إن صلاتنا هذه (¬2) لا يصلح فيها شيء من كلام الناس"، وفي لفظ: "لا يحل" (¬3) مكان "لا يصلح" (¬4)، "إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن"، أو كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- في "الصحيحين": كنا نسلم على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي، سلمنا عليه، فلم يرد علينا، وقال: "إن في الصلاة شغلًا" (¬5). زاد في رواية أبي وائل: "إن اللَّه تعالى، يُحْدِث من أمره ما يشاء، ¬

_ = مسلم، وقد فات الشارح -رحمه اللَّه- التنبيه عليه، وأكبر الظن أن هذا الإلحاق على هامش الأصل ليس من الشارح، وإنما هو من الناسخ؛ إذ لم يذكر في الثلث الأول من شرحه هذا نقلًا واحدًا عن القسطلاني، فاللَّه أعلم. (¬1) رواه مسلم (537)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة: باب: تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة. (¬2) رواه النسائي (1218)، كتاب: السهو، باب: الكلام في الصلاة، وابن خزيمة في "صحيحه" (859)، وابن حبان في "صحيحه" (2247)، وغيرهم. (¬3) رواه أبو داود (930)، كتاب: الصلاة، باب: تشميت العاطس في الصلاة. (¬4) رواه البخاري (1141)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: ما ينهى من الكلام في الصلاة، ومسلم (538)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة، من طريق علقمة، عن ابن مسعود، به. (¬5) رواه أبو داود (924)، كتاب: الصلاة، باب: رد السلام في الصلاة، والنسائي (1221)، كتاب: السهو، باب: الكلام في الصلاة، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 463).

وإن اللَّه تعالى قد أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة" (¬1). زاد في رواية كلثوم الخزاعي: "إلا بذكر اللَّه". واحتج بهذا الحديث على أن الأمر بشيء ليس نهيًا عن ضده، وإلا لما أحتاج إلى قوله: "ونهينا عن [الكلام] " (¬2). وأجيب: بأن دلالته على ذلك دلالة التزام؛ فذكر لكونه أصرح (¬3). ولا يخفى: أن مقتضى ما ذكرنا من الأحاديث: أن نسخ الكلام في الصلاة إنما كان بالمدينة؛ لأن الآية مدنية باتفاق، فتعين أن المراد بقول ابن مسعود: فلما رجعنا من عند النجاشي؛ يعني: من الهجرة الثانية، وأيضًا: لم يكونوا يجمعون بمكة إلا نادرًا (¬4). تنبيه: الذي استقر عليه المذهب: بطلانُ الصلاة بالكلام لغير مصلحة الصلاة؛ كقوله: يا غلام! اسقني، ونحوه، وإن تكلم يسيرًا لمصلحتها: لم يبطل؛ على ما قدمه في "الإقناع" (¬5). ومعتمد المذهب: بلى؛ كما جزم به المنقِّح (¬6)، و"المنتهى" (¬7)، وغيرهما؛ ككلامه في صلبها، ولو مكرهًا، إلا إن تكلم مغلوبًا على ¬

_ (¬1) رواه النسائي (1220)، كتاب: السهو، باب: الكلام في الصلاة. (¬2) في الأصل: "ضده" بدل "الكلام"، والتصويب من "الفتح". (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 75). (¬4) المرجع السابق، (3/ 74). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 212). (¬6) انظر: "التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع" للمرداوي (ص: 73). (¬7) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (1/ 247).

الكلام، مثل إن سلم سهوًا، أو نام فتكلم، أو سبق على لسانه حالَ قراءته كلمةٌ لا من القرآن، أو غلبه سعال، أو عطاس، أو تثاؤب؛ فبان حرفان. وإن قهقه، بطلت، ولو لم يَبنِ حرفان؛ لا إن تبسم، وإن نفخ، أو انتحب لا من خشية اللَّه تعالى، أو تنحنح من غير حاجة، فبان حرفان، فككلام، ويكره استدعاء البكاء كالضحك (¬1). وفي "الفروع": وإن وجب -أي: الكلام- لخائف تلف شيء، وتعين الكلام، بطلت، وقيل: لا؛ وفاقًا للشافعي؛ كإجابته -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). ومعتمد المذهب: تجب إجابته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتفسد الصلاة بها. وعند مالك: لا تبطل بالكلام مكرهًا، أو ناسيًا. وعند الشافعي: لا تبطل به ناسيًا، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 212). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 431).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "إِذَا اشْتد الحَرُّ، فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلَاةِ؛ فَإن شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّم" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (510)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر، من حديث عبد اللَّه بن عمر، وأبي هريرة -رضي اللَّه عنهم-، واللفظ له. ورواه البخاري (512)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، ومسلم (615/ 180 - 183)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، وأبو داود (402)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت صلاة الظهر، والنسائي (500)، كتاب: المواقيت، باب: الإبراد بالظهر إذا اشتد الحر، والترمذي (157)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في تأخير الظهر في شدة الحر، وابن ماجه (677 - 678)، كتاب: الصلاة، باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 128)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 97)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 266)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 579)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 243)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 119)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 54)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 570)، و"فتح الباري" لابن رجب =

(عن) أبي عبد الرحمن (عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب، (و) عن، (أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (-رضي اللَّه عنهم-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: إذا اشتد)، أصله: اشتدد -بوزن افتعل- من الشدة، ثم أدغمت إحدى الدالين في الأخرى (¬1). (الحر) ضد: البرد؛ كالحرور -بالضم-، والحرارة؛ كذا في "القاموس" (¬2). وفي "المطالع": الحَرور -بفتح الحاء:- هو الحر الشديد استعاره بالنهار والليل، وأما السموم، فلا تكون إلا نهارًا مع الشمس؛ قاله أبو عبيدة. وقال الكسائي والأصمعي: الحر [ور]: هي السموم، انتهى (¬3). (فأبردوا) -بقطع الهمزة، وكسر الراء-، أي: أخروا إلى أن يبرد الوقت، يقال: أبرد: إذا دخل في البرد، كأظهر: إذا دخل في الظهيرة؛ ومثله في المكان: أنجد: إذا دخل نجدًا، وأتهم: إذا دخل تهامة (¬4). والأمر بالإبراد للندب، وقيل: للإرشاد، وقيل: للوجوب؛ حكاه عياض (¬5)، وغيره، وغفل [الكرماني] فنقل الإجماع على عدم الوجوب. ¬

_ = (3/ 61)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 113)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 150)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 15)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 19)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 109)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 384). (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (5/ 20). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 478)، (مادة: حرر). (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 187). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 16). (¬5) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 579).

نعم، قال جمهور أهل العلم: يستحب تأخير الظهر في شدة الحر إلى أن يبرد الوقت، وينكسر الوهج. وخصه بعضهم بالجماعة، فأما المنفرد: فالتعجيل في حقه أفضل، وهذا قول أكثر المالكية والشافعية، لكن خصه الشافعي بالبلد الحارة (¬1). ومعتمد مذهبنا: يسن الإبراد؛ بأن تؤخر صلاة الظهر في شدة الحر حتى ينكسر، ولو صلى وحده. قال في "الفروع": في صلاة الظهر: يستحب تعجيلها بأن يتأهب لها بدخول الوقت. وذكر الأزجي قولًا: [لا] يتطهر قبله إلا مع حر؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك. وقيل: لقاصد جماعة، قال جماعة: ليمشي في الفيء، وقيل: في بلد حار؛ وفاقًا للشافعي. وفي "الواضح": لا بمسجد سودق، انتهى (¬2). وفي "الفتح"، عن مذهب الشافعية: لو كان الجماعة مجتمعين، أو كانوا يمشون في كِنّ؛ فالأفضل في حقهم التعجيل. والمشهور عن الإمام أحمد: التسوية من غير تخصيص ولا قيد، وهو قول إسحاق، والكوفيين، وابن المنذر. فإن قلت: كيف هذا، مع حديث خباب عند مسلم: شكونا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حر الرمضاء في جباهنا، وأكفنا، فلم يُشْكِنا (¬3)؛ أي: لم يزل ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 16). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 260). (¬3) رواه مسلم (619)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر. دون قوله: "في جباهنا وأكفنا". ورواه كذلك الطبراني في "المعجم الكبير" (3704)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 104).

شكوانا، مع الأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت، وبأن الصلاة حينئذ أكثر مشقة؛ فتكون أفضل؟ فالجواب عن حديث خباب: بأنه محمول على أنهم طلبوا تأخيرًا زائدًا عن وقت الإبراد؛ وهو زوال حر الرمضاء، وذلك قد يستلزم خروج الوقت؛ فلذلك لم يجبهم، أو هو منسوخ بأحاديث الإبراد؛ فإنها متأخرة عنه. واستدل الطحاوي: بحديث المغيرة بن شعبة، قال: كنا نصلي مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الظهر بالهاجرة، ثم قال لنا: "أبردوا بالصلاة"، الحديث؛ وهو حديث رجاله ثقات، رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن حبان (¬1). ونقل الخلال، عن الإمام أحمد: أنه قال: هذا آخر الأمرين من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وجمع بعضهم بين الحديثين: بأن الإبراد رخصة، والتعجيل أفضل؛ وهذا على رأي من قال: بأنه أمر إرشاد، وعكسه من جعل الأمر للندب. وأما الجواب عن أحاديث فضيلة أول الوقت، فإنها عامة، أو مطلقة، والأمر بالإبراد خاص؛ فهو مقدم. وأما زعم من زعم: أن التعجيل أكثر مشقة، فيكون أفضل؛ فلا التفات له؛ لأن الأفضلية لم تنحصر في الأشق، بل قد يكون الأخف أفضل؛ كما في قصر الصلاة في السفر. ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 187). ورواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 250)، وابن ماجه (680)، كتاب: الصلاة، باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر، وابن حبان في "صحيحه" (1505). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 234).

وأما قول من قال: معنى "أبردوا": صلوا في أول الوقت؛ أخذًا من برد النهار، وهو أوله؛ فهو تأويل بعيد، ويرده قوله: "فإن شدة الحر من فيح جهنم"؛ فإن التعليل المذكور يدل على أن التأخير هو المطلوب، واللَّه أعلم (¬1). (عن الصلاة)، "أل" في الصلاة: للعهد؛ أي: صلاة الظهر، وفي لفظ: "بالصلاة" (¬2)، وأما لفظة "عن"؛ فهي رواية الكشميهني، قيل: إنها زائدة، ومعنى أبردوا: أخروا؛ على سبيل التضمين، أو أنها بمعنى الباء، أو على أصلها؛ وهي للمجاوزة؛ أي: تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدة الحر (¬3)، وجاء في حديث أبي سعيد الخدري التصريح بصلاة الظهر (¬4). (فإن شدة الحر) تعليل لمشروعية التأخير المذكور، وهل الحكمة فيه دفع المشقة؛ لكونها قد تسلب الخشوع؟ وهذا أظهر، أو كونها الحالة التي ينشر فيها العذاب؟ ويؤيده حديث عمرو بن عنبسة (¬5)، عند مسلم، حيث قال له: "أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس؛ فإنها ساعة تسجر فيها جهنم" (¬6). واستشكل: بأن الصلاة مظنة وجود الرحمة، ففعلها مظنة لطرد العذاب، فكيف أمر -صلى اللَّه عليه وسلم- بتركها؟! وأجيب: بأن التعليل إذا جاء من جهة ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 16 - 17). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (512)، ومسلم برقم (615). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 17). (¬4) رواه البخاري (513)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر. (¬5) في المخطوط: "عنبسة"، والتصويب من "صحيح مسلم". (¬6) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (832).

الشرع، وجب قبوله، وإن لم يفهم معناه. واستنبط له الزين بن المنير معنًى مناسبًا، فقال: وقت ظهور أثر الغضب، لا ينجع فيه الطلب، إلا ممن أذن له فيه، والصلاة لا تنفك عن كونها طلبًا، ودعاء، فناسب الإقصار عنها حينئذ، واستدل بحديث الشفاعة؛ حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم: بأن اللَّه غضب غضبًا، لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، سوى نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فلم يعتذر، بل طلب؛ لكونه أذن له في ذلك (¬1). ويمكن أن يقال: سجر جهنم فيحها، وفيحها سبب وجود شدة الحر؛ وهو سبب المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع؛ فناسب ألا يصلَّى فيها. لكن يرد عليه: أن سجرها موجود في جميع السنة، والإبراد يختص بشدة الحر. ويمكن أن يقال: الحكمتان في ذلك متغايرتان؛ فحكمة الإبراد المشقة، وحكمة الترك وقت سجرها؛ لكونه وقت ظهور أثر الغضب (¬2). (من فيح)؛ أي: من سعة انتشارها (جهنم)، وتنفسها؛ ومنه: مكان أفيح، أي: متسع (¬3)؛ وهذا كناية عن شدة استعارها. وظاهره: أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة، وقيل: ¬

_ (¬1) كما رواه البخاري (3162)، كتاب: الأنبياء، باب: قول اللَّه تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح: 1]، ومسلم (194)، كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 17). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 300)، (مادة: فيح). وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 165).

هو من مجاز التشبيه؛ أي: كأنه نار جهنم في الحر. والأول أولى (¬1)، ويؤيده الحديث الذي فيه: "أن النار اشتكت إلى ربها، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء" فشدة الحر من فيح جهنم، وشدة البرد من زمهريرها، وهو حديث صحيح في البخاري، ومسلم، وغيرهما (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 17). (¬2) رواه البخاري (3087)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة النار وأنها مخلوقة، ومسلم (617)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنهُ-، عن النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ نَسِيَ صَلَاةً، فَلْيصلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفارَةَ لَها إِلَّا ذَلِكَ: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] " (¬1). ولمسلمٍ: "مَن نَسيَ صَلاةً، أَوْ نَامَ عَنْها، فَكَفَّارَتهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (572)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، ولا يعيد إلا تلك الصلاة، ومسلم (684/ 314)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، وأبو داود (442)، كتاب: الصلاة، باب: فيمن نام عن الصلاة أو نسيها، والنسائي (613)، كتاب: المواقيت، باب: فيمن نسي صلاة، والترمذي (178)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل ينسى الصلاة، وابن ماجه (696)، كتاب: الصلاة، باب: من نام عن الصلاة أو نسيها. (¬2) رواه مسلم (684/ 315)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 140)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 289)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 669)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 309)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 183)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 56)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 572)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 350)، =

(عن) أبي حمزة (أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-): أنه (قال: من نسي صلاة) من الصلوات الخمس، (فليصلها)، وفي لفظ البخاري: "فليصل" بحذف المفعول، قال في "الفتح": في جميع الروايات، قال: ورواه مسلم: "فليصلها"؛ وهو أبين للمراد (¬1) (إذا ذكرها) في أي وقت كان، ولا يؤخرها إلى الغد (لا كفارة لها)؛ أي: الصلاة المنسية (إلا ذلك)؛ أي: أن يصليها عند ذكره لها، ولا يعيد إلا تلك الصلاة؛ لأن الواجب خمس صلوات، لا أكثر، فمن قضى الفائتة، كمل عدد المأمور به؛ وهذا مقتضى ظاهر الخطاب من قول الشارع -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فليصلها"، ولم يذكر زيادة، وقال -أيضًا-: "لا كفارة لها إلا ذلك"، فاستفيد من هذا الحصر؛ أن لا تجب غير إعادتها. وذهب الإمام مالك: إلى أن من ذكر -بعد أن صلى صلاة- أنه لم يصل التي قبلها؛ فإنه يصلي التي ذكر، ثم يصلي التي كان صلاها؛ مراعاة للترتيب. وأما حديث أبي قتادة، عند مسلم، في قصة النوم عن الصلاة؛ حيث قال: "فإذا كان الغد، فليصلها عند وقتها" (¬2) من كون ظاهره يقتضي: إعادة المقضية مرتين: عند ذكرها، وعند حضور مثلها من الوقت الآتي؛ فمتروك الظاهر. ¬

_ = و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 114)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 71)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 92)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 2). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 71). (¬2) رواه مسلم (681)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها.

بل صرحوا: بأنه غلط، مع أن اللفظ المذكور ليس صريحًا في ذلك؛ لاحتمال أن يريد بقوله: "فليصلها عند وقتها"؛ أي: الصلاة التي تحضر، لا أنه يريد أن يعيد التي صلاها بعد خروج وقتها. لكن في رواية أبي داود، من حديث عمران بن حصين، في هذه القصة: "من أدرك منكم صلاة الغداة من غد [صالحًا]، فليقض معها مثلها" (¬1). ولفظ أبي داود في حديث أبي قتادة: "فليصلها حين يذكرها، ومن الغد للوقت" (¬2). قال الخطابي: لا أعلم أحدًا قال بظاهره وجوبًا، قال: ويشبه أن يكون الأمر فيه للاستحباب؛ لتحرز فضيلة الوقت في القضاء، انتهى (¬3). قال في "الفتح": لم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك -أيضًا-، بل عدوا الحديث غلطًا من راويه؛ وحكى ذلك: الترمذي وغيره، عن البخاري (¬4). ويؤيد ذلك: ما رواه النسائي، من حديث عمران بن حصين: أنهم قالوا: يا رسول اللَّه! ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا، ينهاكم اللَّه عن الربا، ثم يأخذه منكم!! " (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (438)، كتاب: الصلاة، باب: فيمن نام عن الصلاة أو نسيها، لكن من حديث أبي قتادة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه أبو داود (437)، كتاب: الصلاة، باب: فيمن نام عن الصلاة أو نسيها. (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 139). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 71). (¬5) تقدم تخريجه.

قال قتادة -الراوي عن أنس-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14])، وفي لفظ من حديث أنس، عند مسلم، بعد قوله: "فليصلها إذا ذكرها؛ فإن اللَّه تعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} " (¬1) , وفي بعض الروايات، عن أبي ذر، في كتاب البخاري: "للذكرى"؛ بلامين، وفتح الراء، بعدها ألف مقصورة (¬2) -، ووقع عند مسلم، من طريق يونس: أن الزهري كان يقرؤها كذلك (¬3). وقد اختلف في ذكر هذه الآية؛ هل هي من كلام قتادة، أو هي من قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ الأصح: الثاني (¬4)،-كما سيأتي قريبًا-. (ولمسلم)، دون البخاري: (من نسي صلاة، أو نام غيرها؛ فكفارتها أن يصليها، إذا ذكرها)، وفي رواية له، من طريق المثنى، عن قتادة، عن أنس -رضي اللَّه عنه-، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا رقد أحدكم عن الصلاة، أو غفل عنها؛ فليصلها إذا ذكرها، فإن اللَّه تعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} " (¬5). وظاهر هذا: أن الجميع من مرفوع كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. واستدل به على: أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا قص علينا، ولم ينسخ، وهو معتمد مذهبنا؛ لأن المخاطب بهذه الآية: موسى -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) رواه مسلم برقم (684/ 316). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 72). (¬3) رواه مسلم (680)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيلها. في حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 72). (¬5) تقدم تخريجه برقم (684/ 316).

قال في "الفتح": وهو الصحيح في الأصول، ما لم يرد ناسخ (¬1). قلت: وكأنه أراد بالصحيح: عنده، وأما عند الشافعية: فليس شرعُ من قبلنا شرعًا لنا. واختلف في المراد بقوله تعالى: {لِذِكْرِي} , فقيل: المعنى: لتذكرني فيها، وقيل: لأذكرك بالمدح، وقيل: إذا ذكرتها؛ أي: لتذكري لك إياها؛ وهذا يعضد قراءة من قرأ: "للذكرى". وقال النخعي: اللام للظرف، أي: إذا ذكرتني (¬2)، أي: إذا ذكرت الصلاة، فقد ذكرتني؛ فإن الصلاة عبادة لله تعالى، فمتى ذكرها العبد، ذكر المعبود؛ فكأنه أراد: لذكري الصلاة. قال التوربشتي (¬3): الأولى أن يقصد إلى وجه يوافق الآية والحديث، وكأن المعنى: أقم الصلاة لذكرها؛ لأنه إذا ذكرها، ذكر اللَّه تعالى، [أ] ويقدر المضاف؛ أي: لذكر صلاتي [أ] وذكر الضمير فيه موضع الصلاة؛ لشرفها (¬4). تنبيهات: الأول: تمسك بدليل الخطاب من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من نسي صلاة ... إلخ" من قال: إن العامد لا يقضي الصلاة؛ لأن انتفاء الشرط، يستلزم انتفاء ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 72). (¬2) رواه عبد بن حميد في "تفسيره"، كما في "الدر المنثور" للسيوطي (5/ 561). (¬3) هو فضل اللَّه بن حسن التوربشتي، فقيه محدث من أهل شيراز، شرح "مصابيح البغوي" شرحًا حسنًا، وسماه: "الميسر"، وله تصانيف منها: "المعتمد في المعتقد"، و"مطلب الناسك في علم المناسك"، وغيرها، توفي سنة (661 هـ). انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (8/ 349)، و"هدية العارفين" للبغدادي (1/ 434). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 72).

المشروط؛ فيلزم منه: أن من لم ينس، لا يصلي. ومن قال: يقضي العامد، تمسك بأن ذلك يستفاد من مفهوم الخطاب؛ فيكون من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا وجب القضاء على الناسي، مع سقوط الإثم ورفع الحرج عنه، فالعامد أولى. وادعى بعضهم أن وجوب القضاء على العامد يؤخذ من قوله: "نسي"؛ لأن النسيان يطلق على الترك، وسواء كان عن ذهول، أم لا؛ ومنه قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]. ويقوي ذلك قوله: "لا كفارة لها"، والنائم والناسي لا إثم عليهما. قال في "الفتح": وهو بحث ضعيف؛ لأن الخبر بذكر النائم ثابت، وقد قال: "لا كفارة لها"، والكفارة قد تكون عن الخطأ، كما تكون عن العمد، والقائل بأن العامد لا يقضي، لم يرد أنه أخف حالًا من الناسي، بل يقول: إنه لو شرع له القضاء، لكان هو والناسي سواء، والناسي غير مأثوم، بخلاف العامد؛ فالعامد أسوأ حالًا من الناسي، فكيف يستويان؟! ويمكن أن يقال: إن إثم العامد بإخراجه الصلاة عن وقتها باق عليه ولو قضاها، بخلاف الناسي؛ فإنه لا إثم عليه مطلقًا، ووجوب القضاء على العامد بالخطاب الأول؛ لأنه قد خوطب بالصلاة، وترتبت في ذمته؛ فصارت دينًا عليه، والدين لا يسقط إلا بأدائه؛ فيأثم بإخراجه لها عن الوقت المحدود لها، ويسقط عنه الطلب بأدائها، فمن أفطر من رمضان عامدًا؛ فإنه يجب عليه أن يقضيه مع بقاء إثم الإفطار عليه؛ قاله في "الفتح" (¬1). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 71 - 72).

الثاني: يجب قضاء الفوائت؛ وفاقًا، على الفور؛ خلافًا للشافعي. قال في "الفروع": نص على الفورية الإمام أحمد، إن لم يتضرر في بدنه، أو معيشة يحتاجها؛ وهذا ظاهر قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا ذكرها". وإنما تحول -صلى اللَّه عليه وسلم- بأصحابه لما ناموا، وقال: "إن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان" (¬1)؛ لأنه سنة كفعل سنة قبل الفرض -يعني: فلا ينافي الفورية-، ويجوز التأخير لغرض صحيح؛ كانتظار رفقة، أو جماعة للصلاة (¬2). قال المجد في "منتقى الأحكام"، في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من نسي الصلاة، فليصلها إذا ذكرها؛ فإن اللَّه قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ": فيه: أن الفوائت يجب قضاؤها على الفور، وأنها تقضى في أوقات النهي، وغيرها. فال: وفيه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد نسخه (¬3). ويجب الترتيب في قضاء الفوائت؛ خلافا للشافعي. وقيل: في خمس؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك. والدليل على اعتبار الترتيب: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رتب (¬4)، وفعله بيان لمجمل ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (680) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 267). (¬3) انظر: "المنتقى في الأحكام" للمجد ابن تيمية (1/ 229)، حديث رقم (483). (¬4) روى النسائي (662)، كتاب: الأذان، باب: الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد، والإقامة لكل واحدة منهما، والترمذي (179)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل تفوته الصلوات، بأيتهن يبدأ؟ والإمام أحمد في "المسند" (1/ 375)، وغيرهم، من حديث عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-: أن المشركين شغلوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الخندق عن أربع صلوات، حتى ذهب من الليل ما شاء اللَّه. قال: فأمر بلالًا، فأذن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.

الأوامر المطلقة، وهي تشمل الأداء والقضاء، مع عموم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬1)، وتقدم ذلك، واللَّه أعلم. الثالث: دل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا كفارة لها، إلا ذلك": على أن من مات، وعليه صلاة: أنها لا تقضى عنه، ولا يطعم عنه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا تسقط الصلاة بحج، ولا بتضعيف صلاة في المساجد الثلاثة، ولا غير ذلك؛ إجماعًا، وقال: إن عجز، فمات بعد التوبة، غفر له، واللَّه تعالى الموفق (¬2). * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. وانظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 267). (¬2) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 404).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ جَابر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُوْلِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عشَاءَ الآخِرَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلى قَوْمهِ، فَيُصَلِّي بِهِم تِلْكَ الصَّلاةَ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (668، 669)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: إذا طوَّل الإمام، وكان للرجل حاجة، فخرج فصلى، و (673)، باب: من شكا إمامه إذا طول، و (679)، باب إذا صلى ثم أم قومًا، و (5755)، كتاب: الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلًا، ومسلم (465/ 180)، واللفظ له، و (465/ 178، 179، 181)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء، وأبو داود (599 - 600)، كتاب: الصلاة، باب: إمامة من يصلي بقوم وقد صلى تلك الصلاة، والنسائي (831)، كتاب: الإمامة, باب: خروج الرجل من صلاة الإمام وفراغه من صلاته في ناحية المسجد، و (835)، باب: اختلاف نية الإمام والمأموم، و (984)، كتاب: الافتتاح، باب: القراءة في المغرب بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و (997)، باب: القراءة في العشاء الآخرة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و (998)، باب: القراءة في العشاء الآخرة بـ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، والترمذي (583)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الذي يصلي الفريضة ثم يؤم الناس بعدما صلى، وابن ماجه (836)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في صلاة العشاء، و (986)، باب: من أم قومًا فليخفف. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 170)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 65)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 378)، =

(عن) أبي عبد اللَّه (جابر بن عبد اللَّه) -رضي اللَّه عنهما-: (أن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه-)، ومعاذ أحد السبعة الذين شهدوا العقبة، وبعثه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى اليمن قاضيًا ومعلمًا، وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين من اليمن، وهو معاذ -بالذال المعجمة- بن جبل بن عمرو بن أوس، الخزرجي الأنصاري، أبو عبد الرحمن، أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وشهد بدرًا، والمشاهد كلها؛ وهو أحد الذين جمعوا القرآن على عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ وهم أربعة: معاذ، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، متفق عليه (¬1)، والمراد: من الأنصار. روي: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "واللَّه يا معاذ! إني أحبك"، قال: واللَّه! أنا أحبك يا رسول اللَّه، قال: "فلا تَدَعْ أن تقول دبرَ كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك" (¬2). مات -رضي اللَّه عنه- بناحية الأردن، في طاعون عمواس، وعَمواس ¬

_ = و"شرح مسلم" للنووي (4/ 181)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 59)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 575)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 201)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 276)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 193)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 235)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 205). (¬1) رواه البخاري (3599)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه-، ومسلم (2465)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي كعب وجماعة من الأنصار -رضي اللَّه عنهم-، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه أبو داود (1522)، كتاب: الصلاة، باب: في الاستغفار، والنسائي (1303)، كتاب: السهو، باب: نوع آخر من الدعاء.

بفتح العين-: قرية بين الرملة وبيت المقدس، نسب الطاعون إليها؛ لأنه أول ما نجم منها (¬1). وكانت وفاة معاذ -رضي اللَّه عنه- سنة ثمان عشرة؛ وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وكان قد أمره عمر -رضي اللَّه عنه- بعد أبي عبيدة بن الجراح، وقبره في شرقي غَوْر بَيْسان، قبلي الخان المعروف بخان معاذ؛ وهو مشهور يُزار ويقصد. روى عنه: عمر، وابنه، وابن عباس، وأنس، وغيرهم. وهو حامل لواء الفقهاء إلى الجنة، وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: مئة حديث، وسبعة وخمسون حديثًا؛ اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديث (¬2). (كان) معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- (يصلي مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-). زاد ¬

_ (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (4/ 157)، وفيه: أن الزمخشري رواه -بكسر العين، وسكون الميم-. وانظر: "معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (3/ 971). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 347)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 359)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 368)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 301)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 228)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1402)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (58/ 383)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 489)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 187)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 403)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 105)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 443)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 19)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 136)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (10/ 169).

مسلم، من رواية منصور، عن عمرو بن دينار، عن جابر: (عشاء الآخرة) (¬1)، فكأن العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين، (ثم يرجع) معاذ بعد فراغه من الصلاة خطف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (إلى قومه) من بني سلمة، (فيصلي بهم تلك الصلاة). وفي روايةٍ: "ثم يرجع، فيؤم قومه" (¬2)، وللبخاري في "الأدب": فيصلي بهم الصلاة (¬3)؛ أي: المذكورة. وفي هذا رد على من زعم أن المراد بالصلاة التي كان يصليها مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غير الصلاة التي كان يصليها بقومه (¬4)، وفي رواية: فصلى ليلة مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- العشاء، ثم أتى قومه فأمهم (¬5)، وفي رواية الشافعي: ثم يرجع، فيصليها بقومه في بني سلمة (¬6)، وفي رواية الإمام أحمد: ثم يرجع، فيؤمنا (¬7). [قوله] "فصلى ليلة مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- العشاء" [كذا في معظم] وفي لفظ عند أبي عوانة، والطحاوي: "فصلى بأصحابه المغرب" (¬8)؛ وكذا لعبد الرزاق (¬9). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عنده برقم (465/ 180)، إلا أن فيه: "العشاء الآخرة". (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (668، 669). (¬3) تقدم تخريجه برقم (5755) عنده. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 193). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (465/ 178). (¬6) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 56)، وفي "الأم" (1/ 172)، والحميدي في "مسنده" (1246). (¬7) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 308)، وأبو داود (790)، كتاب: الصلاة، باب: في تخفيف الصلاة. (¬8) رواه أبو عوانة في "مسنده" (2/ 158)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 213)، من طريق محارب بن دثار، عن جابر بن عبد اللَّه، به. (¬9) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (3725)، من طريق أبي الزبير، عن جابر، به، =

ثم أتى قومه، فأمهم، فافتتح بسورة البقوة، فانحرف رجل فسلم، ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له. أنافقت يا فلان؟! قال: لا واللَّه، ولآتين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلأخبرنه، فأتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه! إنا أصحاب نواضح، نعمل بالنهار، وإن معاذًا صلى معك العشاء، ثم أتى فاستفتح بسورة البقرة، فأقبل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على معاذ: "أفتان أنت؟! اقرأ بكذا، واقرأ بكذا"، قال أبو الزبير، عن جابر: "اقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، {وَالضُّحَى}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬1)؛ فإنه يصلي وراءك الكبير، والضعيف، وذو الحاجة" (¬2)، وفي لفظ: "أتريد أن تكون فتانًا يا معاذ؟! " (¬3). واختلف في الرجل، فقيل: اسمه حزم، أو حازم، وقيل: إنه حرام بن ملحان خال أنس بن مالك، وقيل: اسمه سليم، ووقع عند ابن حزم: أن اسمه سَلْم -بفتح أوله، وسكون اللام-؛ وكأنه تصحيف من سليم (¬4). وفي هامش "تنقيح التحقيق": عن معاذ بن رفاعة، عن سليم -رجل من بني سلمة-: أنه أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا رسول اللَّه! إن معاذًا يأتينا بعدما ننام، ونكون في أعمالنا في النهار، فينادي بالصلاة، فنخرج إليه، فيطول ¬

_ = كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 193). إلا أن الذي في "المصنف" أن ذلك وقع في صلاة العشاء، لا المغرب. (¬1) إلى هنا من رواية مسلم المتقدم تخريجها برقم (465/ 178). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (673). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (465/ 179). (¬4) وانظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 315 - 318). وقد تقدم للشارح -رحمه اللَّه- ذكر هذا الخلاف في الرجل المبهم في قصة معاذ -رضي اللَّه عنه-.

علينا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا معاذ! لا تكن فتانًا؛ إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك" رواه الإمام أحمد (¬1). قال الإمام المجد في "المنتقى": وقد احتج به بعض من منع اقتداء المفترض بالمتنفل. قال: لأنه يدل على أنه متى صلى معه، امتنعت إمامته، وبالإجماع لا يمتنع بصلاة النفل معه، فعلم أنه أراد بهذا القول: صلاةَ الفرض، وأن الذي كان يصلي معه كان ينويه نفلًا، كذا قال (¬2). فإنه يبعد من معاذ أن يصلي مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نافلة، ويصلي بقومه فريضة، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة" (¬3). وقد نص الإمام أحمد على صحة ائتمام المفترض بالمتنفل في رواية أبي داود (¬4)، وإسماعيل بن سعيد، قال صاحب "المغني": وهو أصح (¬5). وقال في "الشرح الكبير": اختلف عن الإمام أحمد في صحة اقتداء المفترض بالمتنفل: فنقل عنه حنبل، وأبو الحارث: أنه لا يصح، اختاره أكثر الأصحاب؛ وهو قول الزهري، ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم، واحتجوا بحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا" متفق عليه (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 74). (¬2) انظر: "المنتقى في الأحكام" للمجد ابن تيمية (1/ 459). (¬3) رواه مسلم (710)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬4) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود" (ص: 66). (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 353). (¬6) تقدم تخريجه.

والثانية: تصح، نقلها عنه إسماعيل بن سعيد، وأبو داود؛ وهذا قول عطاء، والأوزاعي، والشافعي، وأبي ثور، وابن المنذر. وقال شيخنا -يعني: موفق الدين بن قدامة-: وهي أصح، واحتج بقصة معاذ هذه، وبصلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأصحابه بكل طائفة ركعتين، كان يسلم فيهما بعد كل ركعتين (¬1)؛ فلا جرم تكون الثانية نفلًا في حقه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ وهي في حق الصحابة فرض (¬2). وفي "الفروع": ولا يصح ائتمام مفترض بمتنفل، اختاره الأكثر؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك. وعنه: بلى؛ اختاره في "النصيحة"، و"التبصرة"، وشيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-، والشيخ -يعني: الإمام الموفق-؛ وفاقًا للإمام الشافعي، وذكر وجهًا: لحاجة؛ نحو كونه أحق بالإمامة، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1248)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين، عن أبي بكرة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 59). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 526).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: كنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي شِدَّةِ الحَرِّ، فَإذَا لَمْ يَسْتَطعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الأَرْضِ، بَسَطَ ثَوْبَهُ، فَسَجَدَ عَلَيْهِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (378)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: السجود على الثوب في شدة الحر، و (517)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت الظهر عند الزوال، و (1150)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: بسط الثوب في الصلاة للسجود، ومسلم (620)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر، وأبو داود (660)، كتاب: الصلاة، باب: الرجل يسجد على ثوبه، والنسائي (1116)، كتاب: التطبيق، باب: السجود على الثياب، والترمذي (584)، كتاب: الصلاة، باب: ما ذكر من الرخصة في السجود على الثوب في الحر والبرد، وابن ماجه (1033)، كتاب: الصلاة، باب: السجود على الثياب في الحر والبرد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 183)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 67)، و "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 585)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 248)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 121)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 62)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 583)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 269)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 493)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 117)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 289).

(عن) أبي حمزة (أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-، قال: كنا نصلي) الصلوات المكتوبة، وغيرها (مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في شدة الحر)، ومثله شدة البرد (فإذا لم يستطع أحدنا) -معشر أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (أن يمكن جبهته من الأرض)؛ لشدة حرارتها الناشئة عن شدة الحر، (بسط)؛ أي: فرش (ثوبه)، وفي لفظ عند البخاري: طرف الثوب (¬1) (فسجد عليه)، وفي لفظ عند البخاري، في أبواب: العمل في الصلاة: سجدنا على ثيابنا (¬2). وروى الإمام أحمد، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: لقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في يوم مطير، وهو يتقي الطين إذا سجد بكساء عليه، يجعله دون يديه إلى الأرض إذا سجد (¬3). وروى الإمام أحمد -أيضًا-، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن، قال: جاءنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فصلى بنا في مسجد بني الأشهل، فرأيته واضعًا يديه في ثوبه إذا سجد (¬4)، ورواه ابن ماجه، وقال: على ثوبه (¬5). وقال البخاري: قال الحسن: كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة، ويداه في كميه (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (378) عنده. (¬2) تقدم تخريجه برقم (517)، إلا أنه مخرج في أبواب: مواقيت الصلاة. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 265). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 334)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (2728). (¬5) رواه ابن ماجه (1031)، كتاب: الصلاة، باب: السجود على الثياب في الحر والبرد. (¬6) رواه البخاري في "صحيحه" (1/ 151)، معلقًا بصيغة الجزم. ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2739)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 106)، =

قال في "الفروع": ومباشرة المُصَلَّى (¬1) بشيء منها؛ أي: أعضاء السجود، ليس ركنًا في ظاهر المذهب؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، ففي كراهة حائل [متصل]، حتى طين كثير، وحكي: حتى لركبتيه: روايتان، وعنه: بلى بجبهته؛ وفاقًا للشافعي، وعنه: ويديه، ولا يكره لعذر؛ نقله صالح وغيره (¬2). وفي "الإقناع": فلو سجد على مُتَّصِل به غيرَ أعضاء السجود؛ كَكَوْرِ عمامته (¬3)، وكُمِّه، وذيله، ونحوه، صحت، ولم يكره لعذر؛ كحَرٍّ أو برد ونحوه. ويكره كشفُ الركبتين كستر اليدين، انتهى (¬4). وهذا ظاهر حديث أنس؛ فإنه ظاهر في استعمال الثياب، وكذا غيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض؛ لاتقاء حرها، وكذا بردها. وفيه دليل على: جواز السجود على الثوب المتصل به المُصلِّي؛ كما هو مذهب الجمهور، وحمله الشافعي على المنفصل عن المُصلَّى (¬5). ولا ريب أن الحديث المذكور مع ما ذكرنا من الأحاديث، يدل على أنه متصل بالمُصلِّي كما لا يخفى. ¬

_ = عن الحسن موصولًا، بلفظ: كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد على عمامته. (¬1) في الأصل: "منفصل"، والصواب ما أثبت. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 380). (¬3) يقال: كار الرجل عمامته: إذا أدارها على رأسه، وكل دور كَوْرٌ، والجمع أكوار. انظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 308)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 543)، (مادة: كور). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 185). (¬5) حكاه النووي في "شرح مسلم" (5/ 121).

وفي الحديث: جواز العمل القليل في الصلاة، ومراعاة الخشوع فيها؛ لأن الظاهر أن صنيعهم ذلك لإزالة التشويش العارض من حرارة الأرض المُذْهِبة للخشوع، واللَّه أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 493).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ في الثَّوْبِ الوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى عاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ" (¬1). (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (-رضي اللَّه عنه-، قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا يصلي) قال ابن الأثير: كذا هو في "الصحيحين" بإثبات الياء، ووجهه: أن لا نافية؛ وهو خبر بمعنى النهي (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (352)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: إذا صلّى في الثوب الواحد، فليجعل على عاتقيه، ومسلم (516)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه، إلا أن عندهما: "عاتقيه" بدل "عاتقه"، وأبو داود (626)، كتاب: الصلاة، باب: جماع أثواب ما يصلى فيه، والنسائي (769)، كتاب: القبلة، باب: صلاة الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 177)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 430)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 112)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 231)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 64)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 585)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 151)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 471)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 65)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 58). (¬2) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (5/ 452) قال ابن الأثير: وأخرجه مسلم، =

قال في "الفتح": ورواه الدارقطني في "غرائب مالك"، من طريق الشافعي، عن مالك؛ بلفظ: "لا يصلِّ" -بغير ياء-، ومن طريق عبد الوهاب، بلفظ: "لا يصلينَّ" -بزيادة نون التوكيد-، ورواه الإسماعيلي، من طريق الثوري، عن أبي الزناد، بلفظ: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). (أحدكم) -معشر الصحابة، ومن بعدهم من سائر الأمة- (في الثوب الواحد، ليس على عاتقه)، وهو ما بين المنكبين. إلى أصل العنق (¬2)؛ وهو مذكر، وحكي تأنيثه (¬3)، وفي لفظ لمسلم: "ليس على عاتقه" (¬4) (منه)؛ أي: الثوب (شيء)، والمراد: أنه لا يتزر في وسطه، ويشد طرفي الثوب في حقويه؛ بل يتوشح بهما على عاتقيه؛ ليحصل الستر لجزء من أعالي البدن (¬5). قال في "الفروع": وستر المنكبين شرط في ظاهر المذهب، قال القاضي: وعليه أصحابنا، وعنه: واجب، وعنه: سنة؛ وفاقًا للثلاثة، انتهى (¬6). ¬

_ = وقال: "على عاتقيه" ا. هـ. ولم يزد على هذا. (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 471). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 49). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 471). (¬4) قلت: لفظ مسلم -كما قدمنا-: "عاتقه"، كذا في المطبوع، بتحقيق الأستاذ عبد الباقي، لكن الذي في "شرح مسلم" للنووىِ (4/ 231)، وكذا "المفهم" للقرطبي (2/ 112)، بتثنيته، ولعلَّه هو الصواب. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 471). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 287 - 288).

ومعتمد المذهب: يشترط في فرض الرجل مع -ستر العورة-: ستر جميع أحد عاتقيه بشيء من اللباس، ولو وصف البشرة، فلا يجزىء حَبْلٌ، ونحوه (¬1)؛ لهذا الحديث. قال الكرماني في "شرح البخاري": ظاهر النهي يقتضي التحريم، لكن الإجماع منعقد على جواز تركه، كذا قال. وهو ذهول فاحش، وقد نقل ابن المنذر، عن محمد بن علي -يعني: محمد الباقر- عدم الجواز، وكلام الترمذي يدل على ثبوت الخلاف -أيضًا- (¬2). وعقد الطحاوي له بابًا في "شرح المعاني" (¬3)، ونقل المنع عن ابن عمر، ثم عن طاوس، والنخعي، ونقله غيره عن ابن وهب، وابن جرير. وجمع الطحاوي بين أحاديث الباب بأن الأصل أن يصلي مشتملًا، فإن ضاق، اتزر (¬4). ونقل السبكي وجوبَ ذلك عن نص الشافعي، واختاره. لكن المعروف في كتب الشافعية خلافه (¬5). فظهر وهم الكرماني -سامحه اللَّه تعالى-. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 135). (¬2) قال الترمذي في "سننه" (2/ 168): والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، قالوا: لا بأس بالصلاة في الثوب الواحد. وقد قال بعض أهل العلم: يصلي الرجل في ثوبين. (¬3) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 377). (¬4) المرجع السابق، (1/ 382). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 472).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا، فَلْيَعْتَزِلْنَا، لْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا، وَلْيَقْعُدْ في بَيْتِهِ"، وَأُتِيَ بقِدْرٍ فِيهِ خُضَرَاتٌ مِنْ بقولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ، فَأُخبِرَ بمَا فِيهَا مِنَ البُقُولِ، فَقَالَ: "قَرِّبُوهَا" إلى بَعْضِ أَصْحَابهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: "كُلْ؛ فَإِنِّي أُناجِي مَنْ لَا تُنَاجِي" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (817)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النِّيء والبصل والكراث، و (5137)، كتاب: الأطعمة، باب: ما يكره من الثوم والبقول، و (6926)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الأحكام التي تعرف بالدلائل، وكيف معنى الدلالة وتفسيرها، ومسلم (564/ 73)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها، وأبو داود (3822)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل الثوم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 255)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 496)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 166)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 47)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 65)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 587)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 285)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 117)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 341، 13/ 332)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 147، 25/ 72).

(عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-)، (عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-): أنه (قال: من أكل). قال ابن بطال: هذا يدل: على إباحة أكل الثوم؛ فإن قوله: "من أكل"، لفظة إباحة. وتعقبه ابن المنير: بأن هذه الصيغة إنما تعطي الوجود لا الحكم؛ أي: من وجد منه الأكل؛ وهو أعم من كونه مباحًا أو غير مباح (¬1). (ثومًا) -بضم المثلثة-، قال في "القاموس": وهو بستاني وبَرِّي، ويعرف بثوم الحيَّة، وهو أقوى؛ وكلاهما مُسخِّن مخرج للنفخ والدود، مُدِرٌّ جدًا. قال: وهذا أفضل ما فيه. قال: وهو جيد للنسيان، والرَّبْو، والسعال المزمِن، والقولَنْج، وعرق النَّسا، ووجع الوَرِك، والنِّقْرس، ولَسْع الهوام والحيات والعقارب، والكلب الكَلِب، والعطش البلغمي، وتقطير البول، وتصفية الحلق، رديء للبواسير والزَّحير، وأصحاب الدِّق، والحَبَالى، والمرضعات، والصداع، وإصلاحه: سلقه بماء وملح، وتطجينه بدهن لوز، وإتباعه بمص رمَّانة مُزَّة، انتهى (¬2). (أو) أكل (بصلًا)، وروى مسلم، من رواية يحيى القطان، عن ابن جريج، بلفظ: "من أكل [من] هذه البقلةِ، الثومِ"، وقال مرة: "من أكل البصل، والثوم، والكراث" (¬3). ورواه أبو الزبير، عن جابر، بلفظ: نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أكل البصل ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 340). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1402)، (مادة: ثوم). (¬3) رواه مسلم (564/ 74)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها.

والكراث، قال: ولم يكن ببلدنا يومئذ الثوم، هكذا أخرجه ابن خزيمة (¬1). قال في "الفتح": لا يلزم من كونه لم يكن بأرضهم ألا يُجلب إليهم، حتى لو امتنع هذا الحمل، لكانت رواية المثبت مقدمة على رواية النافي (¬2). والبصل -بفتح الموحدة، والصاد المهملة-: معروف، واحدته بهاء (¬3). (فليعتزلنا) أنا وأصحابي، أو يعتزل الصلاة معنا؛ لما يحصل لنا من التأذي برائحته، (أو) قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: (ليعتزل مسجدنا) شك من الراوي، وهو الزهري، ولم تختلف الرواة عنه في ذلك، وفي حديث أنس بن مالك - رضي اللَّه عنه-، عندهما: "من أكل من هذه الشجرة، فلا يقربنا، ولا يصلي معنا" (¬4)، وفي لفظ عند البخاري: "فلا يقربن مسجدنا" (¬5)، وفي حديث أبي هريرة، عند مسلم، مرفوعًا: "من أكل من هذه الشجرة، فلا يقربن مسجدنا، ولا يؤذنا بريح الثوم" (¬6)، وفي حديث جابر، عند مسلم مرفوعًا: "من أكل من هذه الشجرة -يريد: الثوم-، فلا يغشنا في مسجدنا" (¬7)، ورواه ¬

_ (¬1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1668). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 341). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1249)، (مادة: بصل). (¬4) رواه البخاري (818)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث، ومسلم (562)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها. (¬5) رواه البخاري (5136)، كتاب: الأطعمة، باب: ما يكره من الثوم والبقول. (¬6) رواه مسلم (563)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها. (¬7) رواه مسلم (564/ 75)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها.

البخاري، وزاد: قلت: ما يعني به؟ قال: ما أراه يعني إلا نية، ولفظه في البخاري: "فلا يغشانا" (¬1)؛ بصيغة النفي التي يراد بها النهي. قال الكرماني: أو على لغة من يُجري المعتلَّ مجرى الصحيح، أو أشبع الراوي الفتحة، فظن أنها ألف، والمراد بالغشيان: الإتيان؛ أي: فلا يأتينا في مسجدنا (¬2). والنية في الحديث: التي لم تنضج بطبخ، ونحوه. (وليقعد في بيته)، وفي رواية أبي ذر، عند البخاري بزيادة الألف قبل الواو على صيغة الشك -أيضًا-، ولغيره؛ وكذا لمسلم بغير ألف، وهي أخص من الاعتزال؛ لأنه أعم من أن يكون في البيت، أو غيره (¬3). (وأتي -صلى الله عليه وسلم-)، قال في "الفتح": هذا حديث آخر، وهو معطوف بالإسناد المتقدم، وهذا الحديث الثاني كان متقدمًا على الحديث الأول؛ لأن الأول ذكر في حديث ابن عمر وغيره: أنه وقع منه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة خيبر (¬4)، وكانت في السابعة. وهذا وقع في الأولى عند قدومه -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة، ونزوله في بيت أبي أيوب الأنصاري -رضي اللَّه عنه- (¬5). (بقدر) -بكسر القاف-؛ وهو ما يطبخ فيه، ويجوز فيه التذكير، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (816)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث. ووقع عنده: "نيئه"، وقال مخلد بن يزيد، عن ابن جريج: إلا نتنه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 341). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) كما رواه البخاري (815)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث، ومسلم (561)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 341).

والتأنيث أشهر (¬1) (فيه)، أي: في الطعام الذي في القدر؛ فالتقدير: أتي بقدر من طعام فيه (خُضَرات) -بضم الخاء، وفتح الضاد المعجمتين-، كذا ضبط في رواية أبي ذر، ولغيره: بفتح أوله، وكسر ثانيه، وهو جمع خضرة، ويجوز مع ضم أوله: -ضم الضاد، وتسكينها أيضًا-، كما في "الفتح" (¬2). (من بقول)؛ يعني: من نحو ثوم وبصل، (فوجد) -صلى اللَّه عليه وسلم- (لها)؛ أي: الخضراوات التي في الطعام الذي في القدر، (ريحًا) كريهًا، (فسأل) عن ذلك الريح، (فأخبر بما فيها من البقول، فقال: قربوها)، أي: تلك القدر (إلى بعض أصحابه) -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورضي عنهم-. قال الكرماني: فيه النقل بالمعنى؛ إذ الرسول لم يقله بهذا اللفظ، بل قال: قربوها إلى فلان مثلًا، أو فيه حذف، أي: قال: قربوها مشيرًا، أو أشار إلى بعض أصحابه. قال في "الفتح": والمراد بالبعض: أبو أيوب الأنصاري، ففي "صحيح مسلم"، من حديث أبي أيوب، في قصة نزول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه، قال: فكان يصنع للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- طعامًا، فإذا جيء به إليه -أي: بعد أن يأكل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منه-، سأل عن موضع أصابع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فصنع ذلك مرة، فقيل له: لم ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. قال ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام" (2/ 66): قيل: إن لفظ "القدر" تصحيف، والصواب: ببدر -بالباء الموحدة-، والبدر: الطبق، وورد ذلك مفسرًا في رواية أخرى. قلت: كذا صوّبه القاضي عياض في "إكمال المعلم" (2/ 498)، تبعًا للخطابي في "أعلام الحديث" (1/ 559). قال الخطابي في "معالم السنن" (4/ 255): وسمي الطبق بدرًا؛ لاستدارته، ومنه سمي القمر. قبل كماله بدرًا، وذلك لاستدارته وحسن اتساقه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 342).

يأكل، وكان الطعام فيه ثوم (¬1)، (فلما رآه) أبو أيوب، لم يأكل؛ (كره) هو أيضًا (أكلها). وفي الرواية الأخرى: فقال: أحرام هو يا رسول اللَّه؟ قال: "لا، ولكن أكرهه" (¬2). و (قال: كل) أنت؛ (فإني أناجي) أنا، (من لا تناجي) أنت؛ يعني: الملائكة (¬3). وفي حديث أبي أيوب، عند ابن خزيمة، وابن حبان، من وجه آخر: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أرسل إليه بطعام من خضرة فيه بصل أو كراث، فلم ير فيه أثر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأبى أن يأكل، فقيل له: ما منعك؟ قال: لم أر أثر يدك، قال: "أستحيي من ملائكة اللَّه، وليس بمحرم" (¬4). ولهما، من حديث أم أيوب، قالت: نزل علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتكلفنا له طعامًا فيه بعض البقول، فذكر الحديث بنحوه، وقال فيه: "كلوا؛ فإني لست كأحد منكم، إني أخاف أن أوذي صاحبي" (¬5). * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2053/ 171)، كتاب: الأشربة، باب: إباحة أكل الثوم. (¬2) رواه مسلم (2053/ 170)، كتاب: الأشربة، باب: إباحة أكل الثوم. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 342). (¬4) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1670)، وابن حبان في "صحيحه" (2092)، والحاكم في "المستدرك" (7189)، وغيرهم. (¬5) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1671)، وابن حبان في "صحيحه" (2093)، وكذا رواه الترمذي (1810)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الرخصة في الثوم مطبوخًا، وابن ماجه (3364)، كتاب: الأطعمة، باب: أكل الثوم والبصل والكراث.

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَن النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ: "مَنْ أَكلَ البَصَلَ وَالثُّومَ والكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ المَلائِكَةَ تَتأَذَّى مِمَّا يَتأَذَى مِنْهُ بنو آدم" (¬1). * * * (عن جابر) أيضًا -رضي اللَّه عنه-، (أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: من أكل البصل ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (816)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث، ومسلم (564/ 74)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها، واللفظ له، والنسائي (707)، كتاب: المساجد، باب: من يمنع من المسجد، والترمذي (1806)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في كراهية أكل الثوم والبصل، وابن ماجه (3365)، كتاب: الأطعمة، باب: أكل الثوم والبصل والكراث. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 312)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 499)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 167)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 49)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 67)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 590)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 281)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 117)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 340)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 145)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 161).

والثوم والكراث)؛ كرمان، وكتان: بقل شبيه بالبصل، إلا أنه طويل بمقدار ثلثي شبر غالبًا (¬1). (فلا يقربن) -بفتح الراء الموحدة وتشديد النون- (مسجدنا)، وفي لفظ: "مساجدنا" بصيغة الجمع (¬2)، أراد به: المكان الذي أُعد ليصلي فيه -صلى اللَّه عليه وسلم- مدة إقامته بخيبر؛ فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهاهم عن ذلك بخيبر، ففي الحديث: أنهم لما فتحت خيبر، وقعوا في هذه البقلة، والناس جياع، الحديث (¬3). وذكر في "الفتح"، في كتاب الأطعمة: أنه وقع له سبب هذا الحديث، فأخرج عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الأطعمة، من رواية أبي عمرو؛ وهو بشر بن حرب، عنه، قال: جاء قوم مجلس النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد أكلوا الثوم والبصل، فكأنه تأذى بذلك، فقال، فذكره (¬4). والمراد بالمسجد: الجنس، والإضافة إلى المسلمين؛ أي: فلا يقرب مسجد المسلمين، ويؤيده رواية الإمام أحمد، بلفظ: "فلا يقربن المساجد" (¬5)، ونحوه لمسلم (¬6)، وهذا يدفع قول من خص النهي بمسجد ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 223)، (مادة: كرث). (¬2) رواه مسلم (561/ 69)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها، من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬3) رواه مسلم (565)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 575). وقد رواه الحافظ بإسناده إلى عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه "تغليق التعليق" (4/ 490). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 20)، من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- بلفظ: "فلا يأتين المساجد". (¬6) تقدم تخريجه برقم (561/ 69) عنده.

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد ورد في "البخاري"، من رواية الكشميهني، وأبي الوقت: "مساجدنا" بصيغة الجمع (¬1). (فإن الملائكة) الكرام -عليهم السلام-؛ وهذا تعليل للنهي، وهو يشمل ما لو خلا المسجد عن آدمي؛ لأنها (تتأذى مما يتأذى منه) الآدميون، وفي لفظ: "مما يتأذى منه" (بنو آدم) (¬2)، وفي رواية: "الإنسان" (¬3) من الرائحة الكريهة، وغيرها. قال في "الفروع": والمراد: حضور جماعة، ولو لم تكن بمسجد، ولو في غير صلاة، ولعله مراد قوله فى "الرعاية"، وهو ظاهر "الفصول": تكره صلاة من أكل ذا رائحة كريهة؛ لأجل رائحته، أراد دخول المسجد، أو لا (¬4). وفي "الصحيحين"، عن أنس، مرفوعًا: "من أكل من هذه الشجرة، فلا يقربنا، ولا يصلي معنا"؛ يعني: الثوم (¬5). وفي لفظ: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أكل الثوم يوم خيبر (¬6)، وزاد مسلم، من رواية ابن نمير، عن عبيد اللَّه: حتى يذهب ريحها (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 340). (¬2) كما هو لفظ الحديث عند مسلم. (¬3) رواه ابن ماجه (3365)، كتاب: الأطعمة، باب: أكل الثوم والبصل والكراث. وقد رواه مسلم (564/ 72)، بلفظ: "الإنس". (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 34). (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) رواه البخاري (3978)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬7) تقدم تخريجه.

وفي قوله: "شجرة" مجاز؛ لأن المعروف في اللغة: أن الشجرة ما كان لها ساق، وما لا ساق له يقال له: نجم؛ وبهذا فسر ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قوله سبحانه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (¬1) [الرحمن: 6]. ومن أهل اللغة من قال: كل ما نبت له أرومة؛ أي: أصل في الأرض يخلف ما قطع منه فهو شجر، وإلا فنجم، ومنهم من قال: بين النجم والشجر عموم وخصوص؛ فكل نجم شجر، بلا عكس (¬2). وفي "الصحيحين": أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- خطب الناس يوم الجمعة، وقال عن البصل والثوم: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا وجد ريحهما من الرجل، أمر به فأخرج إلى البقيع (¬3). قال في "الفروع": وقد ترك -صلى اللَّه عليه وسلم- المغيرة في المسجد، وقد أكل ثومًا، وقال: "إن لك عذرًا" حديث صحيح، رواه الإمام أحمد، وأبو داود (¬4)، واحتج به الشيخ الموفق على أنه لا يحرم، وظاهره: أنه لا يُخرج. وأطلق غير واحد أنه يُخرج منه مطلقًا؛ وهو معنى كلام المالكية، والشافعية، وغيرهم. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (27/ 117)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3322)، والحاكم في "المستدرك" (3769)، وأبو الشيخ في "العظمة" (5/ 1733). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 340). وانظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 568)، (مادة: نجم). (¬3) رواه مسلم (567)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 249)، وأبو داود (3826)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل الثوم.

لكن إن حرم دخوله، وجب إخراجه، وإلا، استحب، وسأل أبو طالب الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: إذا شم الإمام ريح الثوم، ينهاهم؟ قال: نعم، يقول: لا تؤذوا أهل المسجد بريح الثوم (¬1). تنبيه: معتمد المذهب: كراهة حضور مسجد لمن أكل بصلًا أو ثومًا أو فجلًا ونحو ذلك، وتستمر الكراهة له حتى يذهب ريحه، والمراد بالكراهة: تنزيهًا. قال في "الفروع"، عن بعض الأطباء: يقطع الرائحة الكريهة، من المأكول؛ مضخ السَّذاب، أو السُّعْد (¬2). واستوجه العلامة الشيخ مرعي في "غايته": أنه من الأعذار في ترك الجمعة والجماعة (¬3). قلت: وهو ظاهر صنيع صاحب "الفروع"، وغيره؛ حيث ذكروا ذلك في باب: العذر في تركهما (¬4). وقد استدل بعضهم بأحاديث الباب على عدم وجوب [الجماعة] (¬5) ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 35). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. والسَّذاب -بتشديد السين، وفتح الذال-: نوع من النباتات الطبية، له رائحة قوية خاصة. انظر: "المعجم الوسيط" (مادة: السذاب). والسُّعد -بضم السين المشددة، وسكون العين-: طِيب معروف، فيه منفعة عجيبة في القروح التي عَسُر اندمالها. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 368)، (مادة: سعد). (¬3) انظر: "غاية المنتهى" لمرعي الحنبلي (1/ 705). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 33). (¬5) في الأصل: "الجمعة" بدل "الجماعة"، والصواب ما أثبت.

على الأعيان؛ لأن اللازم من منعه أحد الأمرين؛ إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحًا، فتكون صلاة الجماعة ليست بفرض عين، أو حرامًا، فتكون الجماعة فرضًا. وجمهور الأمة: على إباحة أكلها؛ فيلزم ألا تكون الجماعة فرض عين (¬1). قلت: ولا يخفى على ذي بصيرة فساد ذلك؛ لأمور: الأول: أنه قياس في مقابلة نص، ومقابلة القياس للنص فاسد، ودليل المقدمة الأولى ما ذكرنا في وجوب صلاة الجماعة، فليراجع. الثاني: أنا نعلم من الشارع: أنه لم يُرِد بالنهي إلا لعدم الإيذاء، لا لترك الجماعة. الثالث: أن غاية ما يقال فيه: أنه صاحب عذر، وقد سقطت الجماعة عمن اتصف بأقل منه من الأعذار، كالجوع والنعاس والوحل والريح وغيرها. الرابع: إنما ينهض دليلهم -على فرض تسليمه-، أن لو قلنا: الجماعة شرط لصحة الصلاة، وأما إذا قلنا: إنها تجب، وليست شرطًا للصحة، لم ينهض. على أن ابن حزم قال بوجوب الجماعة على الأعيان، وعدم حرمة أكل الثوم ونحوه (¬2)؛ وهو من قد علم تحقيقه وتدقيقه. نعم، بعض الظاهرية نقل تحريمها، بناء على أن الجماعة فرض عين، ولا تصح الصلاة إلا بها. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 65). (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 202).

وتقريره أن يقال: الجماعة فرض عين، ولا تتم إلا بترك أكلها، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب؛ فتكون حرامًا. وانفصل ابن حزم عن اللزوم المذكور: بأن المنع من أكلها يختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة، ونظيره: أن صلاة الجماعة فرض عين بشروطها، ومع ذلك تسقط بالسفر، وهو في أصله مباح، لكن يحرم على من أنشأه بعد سماع النداء (¬1). وقال ابن دقيق العيد: قد يستدل بهذا الحديث على أنَّ كل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها، فلا يقتضي ذلك أن يكون عذرًا في تركها، إلا أن يدعو إلى أكلها ضرورة. قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه؛ فإن ذلك ينفي الزجر، انتهى (¬2). قال في "الفتح": ويمكن حمله على حالتين، والفرق بينهما: أن الزجر في حق من أراد إتيان المسجد، والإذن في التقريب وقع في حالة لم يكن فيها ذلك، بل لم يكن المسجد النبوي إذ ذاك بني. فقد ظهر مما تقدم: أن الزجر متأخر عن قصة التقرب، بست سنين (¬3)؛ يعني: من أكل أبي أيوب، ونحوه؛ لما فيه من ذلك، كما تقدمت الإشارة إليه. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 343). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 66). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 343).

تتمة: ألحق علماؤنا وغيرهم بما تقدم: كلَّ ذي رائحة كريهة؛ ولهذا لما سأل جعفر بن محمد أحد أصحاب الإمام أحمد، عن النفط يسرج به؟ قال الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: لم أسمع فيه بشيء، ولكن يتأذى بريحته، ذكره ابن البناء، في "أحكام المساجد" (¬1). وفي "الإقناع": وكذا؛ أي: مثل من به رائحة نحو الثوم -في كراهة حضور المسجد- جزَّار له رائحة كريهة منتنة، ومن له صُنَان؛ وكذا من به برص، أو جذام، يتأذى الناس به، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 35). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 270).

باب التشهد

باب التشهد سمي التشهد تشهدًا؛ لأن فيه شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وهو تفعُّل من الشهادة (¬1). ثم إن التشهد من حيث هو اثنان: الأول: وهو واجب على معتمد المذهب؛ كجلسته، وأوجب الحنفية جلسته دونه، وبعضهم: هو أيضًا، على أصلهم في الواجب (¬2). والثاني: ركن، ويأتي بيان ذلك. وذكر الحافظ -رحمه اللَّه تعالى ورضي عنه- في هذا الباب خمسة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) قاله ابن سيده، كما نقل عنه ابن منظور في "لسان العرب" (3/ 239)، (مادة: شهد). وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 81). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 412).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- التَّشَهُّدَ، كفِّي بَيْنَ كفَّيْهِ، كمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ: "التَّحِيَّاتُ للَّهِ، والصَّلَوَاتُ والطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَليْكَ أيهَا النَّبِيُّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُه ورَسُولُهُ" (¬1). وفي لفظ: "إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ للَّهِ"، وذكره (¬2). وفيه: "فَإنَكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ للَّهِ صَالحٍ في السَّمَاءِ والأَرْضِ" (¬3). وفيه: "فَلْيتخَيَّر مِنَ المَسأَلَةِ مَا شَاءَ" (¬4). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5910)، كتاب: الاستئذان، باب: الأخذ باليدين، ومسلم (402/ 59)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، والنسائي (1171)، كتاب: التطبيق، باب: كيف التشهد، من طريق مجاهد، عن عبد اللَّه بن سَخْبرة، عن ابن مسعود، به. (¬2) رواه البخاري (5969)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء في الصلاة، ومسلم (402/ 55)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، من طريق جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، به. (¬3) رواه البخاري (1144)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: من سمَّى قومًا، أو سلم في الصلاة على غيره مواجهة وهو لا يعلم، وابن ماجه (1/ 290)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التشهد، من طريق حصين بن عبد الرحمن، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، به. (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري (5969)، ومسلم (402/ 55)، واللفظ له، إلا أن =

(عن) أبي عبد الرحمن (عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-، قال: علمني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- التشهد، كفي بين كفيه)؛ وهذا يفيد تمام الاعتناء والاهتمام به، وأكده بقوله: (كما يعلمني السورة من القرآن) العظيم، فلا مزيد على هذا الاعتناء: (التحيات)، وفي بعض طرق البخاري، ورواه ¬

_ = عنده: "ثم يتخير" بدل: "فليتخير". والحديث رواه أيضًا: البخاري (797)، كتاب: صفة الصلاة، باب: التشهد في الآخرة، و (800)، باب: ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، و (5876)، كتاب: الاستئذان، باب: السلام اسم من أسماء اللَّه تعالى، و (6946)، كتاب: التوحيد، باب: قول اللَّه تعالى: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر: 23]، ومسلم (402/ 56، 57، 58)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، وأبو داود (968 - 970)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد، والنسائي (1162 - 1170)، كتاب: التطبيق، باب: التشهد في الصلاة، و (1277)، كتاب: السهو، باب: إيجاب التشهد، و (1279)، باب: كيف التشهد، و (1298)، باب: تخير الدعاء بعد الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والترمذي (289)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التشهد، و (1105)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في خطبة النكاح، وابن ماجه (899)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التشهد، و (1892)، كتاب: النكاح، باب: خطبة النكاح، بطرق وألفاظ مختلفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 226)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 484)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 83)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 293)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 34)، و "شرح مسلم" للنووي (4/ 115)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 68)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 597)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 172)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 311)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 109)، و"سبل السلام للصنعاني" (1/ 190)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 312).

الدارقطني وغيره: "قولوا: التحيات" (¬1)، وهي جمع تحية، قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: التحية: العظمة، وقال أبو عمرو: الملك، وقال ابن الأنباري: التحيات: السلام، وقال بعض أهل اللغة: البقاء، وحكى الأربعةَ موفقُ الدين في "المغني" (¬2)، وحكاها في "المطلع"، وزاد: وقيل: السلامة من الآفات، قال أبو السعادات: وإنما جمع التحية؛ لأن ملوك الأرض يحيون بتحيات مختلفة؛ فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: أنعمْ صباحًا، ولبعضهم: اسلمْ كثيرًا، ولبعضهم: ألف سنة، فقيل للمسلمين: قولوا: التحيات؛ أي: الألفاظ التي تدل على السلام والملك والبقاء هي (للَّه) -عز وجل- (¬3). وقال ابن القيم في كتابه "صفة صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-"، بعد ذكره بنحو ما تقدم؛ من كون من تقدم كان يحيي بعضهم بعضًا بأنواع من التحيات، مما يحييه المحيي من الأقوال والأفعال. قال: والمشركون كانوا يحيون أصنامهم، قال الحسن: كان أهل الجاهلية يتمسحون بأصنامهم، ويقولون: لك الحياة الدائمة، فلما جاء الإسلام، أمروا أن يجعلوا أطيب تلك التحابا وأزكاها وأفضلها للَّه تعالى. فالتحيات: هي تحية من العبد للحي الذي لا يموت، وهو سبحانه أولى بتلك التحيات من كل ما سواه، فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (800، 1144، 6946)، وعند النسائي برقم (1167، 1168، 1169، 1277). ورواه الدارقطني في "سننه" (1/ 350). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 319). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 183)، وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 79).

ولا يستحق أحد هذه التحيات إلا الحي الباقي الدائم الذي لا يموت، ولا يزول ملكه. (والصلوات) كذلك لا تكون ولا تسوغ إلا له سبحانه، وأما الصلاة لغيره، فمن أعظم الكفر، والشرك به (¬1). (والطيبات)؛ أي: الأعمال الصالحة. قال في "الفتح": وقد فسرت بالأقوال، قال: ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى؛ فيشمل الأفعال والأقوال والأوطان، وطيبها: كونها كاملة خالصة عن الشوائب (¬2). وقال ابن القيم: الطيبات: صفة لموصوف محذوف، أي: الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء للَّه وحده؛ فهو طيب، وكلامه طيب، وأفعاله طيبة، وصفاته أطيب شيء، وأسماؤه أطيب الأسماء، فاسمه: الطيب، ولا يصدر عنه إلا طيب، ولا يصعد إليه إلا طيب، وإليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الطيب يعرج إليه، فالطيبات كلها له، ومضافة إليه، وصادرة عنه، ومنتهية إليه، قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه طيب، لا يقبل إلا طيِّبًا" (¬3)، وقد حكم سبحانه بشرعه وقدره أن الطيبات للطيبين، فإذا كان هو سبحانه الطيب على الإطلاق؛ فالكلمات الطيبات، والأفعال الطيبات، والصفات الطيبات، والأسماء الطيبات، كلها له -سبحانه وتعالى-، لا يستحقها أحد سواه، بل ما طاب شيء قط إلا بطيبه، وطيب كل ما سواه ¬

_ (¬1) انظر: "صفة صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" لابن القيم (ص: 213 - 214). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 313). (¬3) رواه مسلم (1015)، كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

من آثار طيبه، ولا تصح هذه التحية الطيبة إلا له، انتهى (¬1). وقال القرطبي: في قوله: "للَّه"، تنبيه على الإخلاص في العبادة؛ أي: ذلك لا يفعل إلا للَّه (¬2). (السلام) بإثبات الألف واللام، في جميع روايات "الصحيحين"؛ من حديث ابن مسعود، وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، وهو من أفراد مسلم (¬3)؛ قاله في "الفتح" (¬4). قال في "المطلع": قال الأزهري: فيه قولان: أحدهما: اسمه السلام، ومعناه: اسم [اللَّه] (¬5) (عليك)؛ ومنه قول لبيد رضي اللَّه عنه: [من الطويل] إلى الحَوْل ثمَّ اسمُ السَّلامِ عَلَيْكُما ... ومَنْ يَبْكِ حولًا كاملًا فقد اعْتَذَرْ (¬6) والثاني: أن معناه: سلم اللَّه عليك تسليمًا، وسلامًا، ومن سلم اللَّه عليه، سلم من الآفات كلها (¬7). وفي "الفتح": تعريف السلام: إما للعهد التقريري؛ أي: ذلك السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك. ¬

_ (¬1) انظر: "صفة صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" لابن القيم (ص: 214 - 215). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 34 - 35). (¬3) رواه مسلم (403)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 313). (¬5) في الأصل: "السلام"، والتصويب من "الزاهر"، و"المطلع". (¬6) انظر: "ديوانه" (ص: 214)، (ق: 28/ 7). (¬7) انظر: "الزاهر في غريب الشافعي" للأزهري (ص: 92). وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 80).

(أيها النبي)؛ وكذلك السلام الذي وجه إلى الأمم السالفة: علينا وعلى إخواننا، وإما للجنس بمعنى: أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد، وعمَّن يصدر، وعلى من ينزل: عليك وعلينا. فإن قيل: لم شرع هذا اللفظ؛ وهو خطاب بشر، مع كونه منهيًا عنه في الصلاة؟! فالجواب: ذلك من خصائصه الشريفة، واختصاصاته المنيفة على سائر البشر -عليه الصلاة والسلام-. فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة للخطاب في قوله: "عليك أيها النبي"، مع أن لفظة الغيبة هو الذي يقتضيه السياق؛ كأن يقول: السلام على النبي؛ فينتقل من تحية اللَّه سبحانه إلى تحية نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم تحية نفسه، ثم الصالحين؟ قلت: أجاب عن هذا الطيبي بما حاصله: إنا نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علمه للصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وقال: ويحتمل أن يقال على طريق أهل العرفان: إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات؛ أذن لهم في الدخول في حريم الحي الذي لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة، فتنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة، وبركة متابعته، فالتفتوا، فإذا الحبيب حاضر، وأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي (¬1)، (ورحمة اللَّه وبركاته)، جمع بركة، وهي النماء والزيادة. وقال الإمام ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد"، في حكمة كون السلام عليه وقع بصيغة الخطاب، والصلاة بصيغة الغيبة ما حاصله: أنَّ الصلاة ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 313 - 314).

عليه، طلب وسؤال من اللَّه أن يصلي عليه، فلا يمكن فيها إلا لفظ الغيبة؛ إذ لا يقال: اللهم صل عليك. وأما السلام عليه، فأتى بلفظ الحاضر المخاطب، تنزيلًا له منزلة المواجه؛ لحكمة بديعة جدًا، وهي: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما كان أحب إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه، وأولى به منها وأقرب، وكانت حقيقته الذهنية، ومثاله العلمي موجودًا في الذهن؛ بحيث لا يغيب عنه إلا شخصه؛ كما قيل (¬1): [من الطويل] خَيالُكَ في عيني وذِكْرُك في فَمي ... ومثواكَ في قلبي فأينَ تَغيبُ؟! ومن كان بهذه الحال، فهو الحاضر حقًا، وغيره، وإن كان حاضرًا للعيان، فهو غائب عن الجنان، فكان خطابه خطاب المواجهة والحضور بالسلام عليه أولى من سلام الغيبة؛ تنزيلًا له منزلة المواجه المعاين؛ لقربه من القلب، وحلوله في جميع أجزائه، بحيث لا يبقى في القلب جزء، إلا ومحبته وذكره فيه، ولا ينكر استيلاء المحبوب على قلب المحب، وغلبته عليه، حتى كأنه يراه. ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم، إنما يعتمدون خطاب الحضور والمشاهدة، مع غاية البعد العياني؛ لكمال القلب الروحي، فلم يمنعهم بُعْد الأشباح عن محادثة الأرواح ومخاطبتها، وأما من كثفت طباعه، فهو هذا كله بمعزل. وإنه ليبلغ الحب ببعض أهله أن يرى محبوبه في القرب إليه بمنزلة روحه التي لا شيء أدنى إليه منها، كما قيل: [من الخفيف] يا مُقيمًا مَدَى الزمانِ بقلبي ... وبعيدًا عن ناظِري وعِياني ¬

_ (¬1) منسوب إلى أبي بكر الشبلي، كما في "ديوانه" (ص: 159)، قال جامع الديوان ومحققه الدكتور كامل الشيبي: وهو مما تمثّل به الشبلي، وليس له.

أنتَ رُوحي إنْ كنتُ لستُ أراها ... فهي أدنى إليَّ من كل دِاني قال ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-: ومن هنا نشأت الشطحات الصوفية، التي مصدرها عن قوة الوارد، وضعف التمييز، حتى حكَّموا الحال على العلم. وأما المحفوظون، فحكموا العلم على سلطان الحال، وعلموا أن كل حال لا يكون العلم حاكمًا عليه؛ فإنه لا ينبغي أن يغتر به، ولا يسكن إليه، إلا كما يساكن المغلوب المقهور، لما يرد عليه مما يعجز عن دفعه. وهذه حال الكُمَّل من القوم، الذين جمعوا بين نور العلم وأحوال المعالمة، فلم تُطْفِ عواصفُ أحوالهم نورَ علمهم؛ فالكامل من يحكم العلم على الحال؛ فيتصرف في حاله بعلمه، والناقصُ من يحكم الحال على العلم، فيتصرف في علمه بحاله. ولهذا أوصى المشايخ الكبار والعارفون، ألا يركنوا إلى الكشف والحال، حيث خالف الشريعة الغراء، واللَّه تعالى الموفق (¬1). تنبيه: ورد في حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين زمانه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيقال: بلفظ الخطاب، وبين ما بعد وفاته فيقال: بلفظ الغيبة. ففي "البخاري"، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-، بعد أن ساق حديث التشهد، قال: وهو بين أظهرنا، فلما قبض، قلنا: السلام -يعني: على النبي-، كذا وقع في البخاري (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 418 - 419). (¬2) تقدم تخريجه برقم (5910) عنده.

وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، والسراج، [و] الجوزقي، وأبو نعيم الأصفهاني، والبيهقي، من طرق متعددة، بلفظ: فلما قبض، قلنا: السلام على النبي، بحذف لفظة يعني (¬1). قال السبكي في "شرح المنهاج": إن صح هذا عن الصحابة، دل على أن الخطاب في السلام بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غير واجب؛ فيقال: السلام على النبي، انتهى (¬2). وهذا خلاف ظاهر كلام علمائنا، واللَّه الموفق. فإن قلت: ما الحكمة في ورود الثناء على اللَّه تعالى في التشهد بلفظ الغيبة، مع كونه سبحانه، هو [المخاطب] الذي يناجيه العبد، والسلام على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بلفظ الخطاب مع كونه غائبًا؟ فالجواب: إن الثناء على اللَّه عامة ما يجيء مضافًا إلى أسمائه الحسنى الظاهرة دون الضمير، إلا أن يتقدم ذكر الاسم الظاهر؛ فيجيء بعده المضمر، وهذا نحو قول المصلي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، إلى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 1 - 5]، وقوله في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وكذا في السجود، ونحوه. وفي هذا من السر: أن تعليق الثناء بأسمائه الحسنى، هو لما تضمنت معانيها من صفات الكمال، ونعوت الجلال، فأتي بالاسم الظاهر الدال ¬

_ (¬1) رواه أبو عوانة في "مسنده" (2026)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 138)، وكذا الإمام أحمد في "المسند" (1/ 414)، وغيرهم. (¬2) لم أقف على كلام السبكي هذا، واللَّه أعلم. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 314).

على المعنى الذي يثنى به ولأجله عليه تعالى، ولفظ الضمير لا إشعار له بذلك. ولهذا، إذا كان لا بد من الثناء عليه بخطاب المواجهة، أتي بالاسم الظاهر مقرونًا بميم الجمع الدالة على جميع الأسماء والصفات؛ نحو قول المصلي في رفعه من الركوع: اللهم ربنا لك الحمد، وربما اقتصر على ذكر الرب تعالى؛ لدلالة لفظه على هذا المعنى، فتأمله، فإنه لطيف المنزع جدًا. وتأمل كيف صدر الدعاء المتضمن للثناء والطلب بلفظة: اللهم؛ كما في سيد الاستغفار: "اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني"، إلى آخره (¬1). وجاء الدعاء المجرد مصدرًا بلفظ: الرب؛ نحو قول المؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [الحشر: 10]، وقول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي" (¬2). وسر ذلك: أن اللَّه تعالى يُسأل بربوبيته المتضمنة قدرته، وإحسانه، وتربيته عبده، وإصلاح أمره، ويثني عليه بإلهيته المتضمنة إثبات ما يجب له من الصفات، والأسماء الحسنى، وأما السلام على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بلفظ الخطاب؛ فتقدم سره. ملخص من "بدائع الفوائد" (¬3)، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5947)، كتاب: التطبيق، باب: أفضل الاستغفار، عن شداد بن أوس -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه النسائي (1069)، كتاب: التطبيق، باب: ما يقول في قيامه ذلك، وابن ماجه (897)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول بين السجدتين، وغيرهما، من حديث حذيفة -رضي اللَّه عنه-. (¬3) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 419 - 420).

(السلام علينا) استدل به على استحباب البداءة بالنفس في الدعاء. وفي "الترمذي"، مصححًا، من حديث أبي بن كعب -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا ذكر أحدًا، فدعا له، بدأ بنفسه، وأصله في "مسلم" (¬1)، وكما في قول نوح وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام-، كما في التنزيل. قال الحكيم الترمذي: من أراد أن يحظى بهذا السلام، الذي يسلمه الخلق في صلاتهم؛ فليكن عبدًا صالحًا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم (¬2). ألا ترى كيف قيد المدعو لهم بقوله: (وعلى عباد اللَّه الصالحين)! فالعباد: جمع عبد، وله أحد عشر جمعًا، جمعها ابن مالك في هذين البيتين؛ كما في "المطلع"، وهما: [من الطويل] عِبادٌ عَبيدٌ جَمْعُ عَبْدٍ وأَعْبُدٌ ... أَعَابِدُ مَعْبُودَا ومَعْبَدَةٌ عُبُدْ كَذَلِك عُبدانٌ وعِبْدانُ أُثْبِتَا ... كذاكَ العِبِدَّى وامدُدِ انْ شِئْتَ أَنْ تَمُدْ (¬3) قال أبو علي الدقاق: ليس شيء أشرف، ولا أتم للمؤمن من الوصف بها -كما تقدم في خطبة الكتاب-. والصالحين: جمع صالح، قال صاحب "المشارق"، وغيره: الصالح هو القائم، بما عليه من حقوق اللَّه، وحقوق العباد (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2380)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر -عليه السلام-، والترمذي (3385)، كتاب: الدعوات، باب: ما جاء أن الداعي يبدأ بنفسه، واللفظ له. (¬2) ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 314). (¬3) أي: عِبدَّاء. وانظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 378)، (مادة: عبد). (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 44). وانظر: "المطلع على أبواب =

وقال الفاكهاني: للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين، يعني: ليوافق لفظه مع قصده (¬1). (أشهد)؛ أي: أقر بلساني، وأعتقد بجناني (أن لا إله) معبود بحق في الوجود (إلا اللَّه). قال الجوهري: الشهادة: خبر قاطع، والمشاهدة: المعاينة (¬2)؛ فقول الواحد: أشهد أن لا إله إلا اللَّه: أخبر بأني قاطع بالوحدانية، فالقطع من فعل القلب واللسان، مخبر عن ذلك، و"اللَّه": مرفوع على البدل من موضع "لا إله"؛ لأن موضع لامع اسمها رفع بالابتداء، أو بدل من خبر لا المحذوف المقدر: بمعبود، ونحوه، ولا يجوز نصبه، حملًا على إبداله من اسم لا المنصوب؛ لأن "لا" لا تعمل النصب إلا في نكرة منفية، واللَّه أعرفُ المعارف، وهو مثبت وهذه الكلمة، وإن كان ابتداؤها نفيًا، فالمراد بها: غاية الإثبات، ونهاية التحقيق، فإن قول القائل: لا أخ لي سواك، ولا معين لي غيرك؛ آكد من قولك: أنت أخي، وأنت معيني. ومن خواصها: أن حروفها كلها مهملة ليس فيها حرف معجم؛ تنبيهًا على التجرد من كل معبود سوى اللَّه. ومن خواصها -أيضًا-: أن حميع حروفها جوفية، ليس فيها شيء من الشفوية (¬3)؛ إشارة إلى: أنها يصمم العبد، ويضمر على مضمونها، ويعقد عليه جنانه، ولا يكتفي بمجرد التلفظ بها من فمه، دون العقد بصميم ¬

_ = المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 80). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 314 - 315). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 494)، (مادة: شهد). (¬3) انظر: "المطبع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 81).

فؤاده، وقد روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "أفضل الذكر: لا إله إلا اللَّه"، رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، من حديث جابر -رضي اللَّه عنه- (¬1). (وأشهد)؛ أي: أقره بلساني، وأعقد بجناني: (أن محمدًا عبده) الكامل المؤدي حق العبودية، (ورسوله) الفاضل الذي أرسله لعامة الخلق؛ بشيرًا ونذيرًا. قال الحافظ ابن حجر: لم تختلف الطرق عن ابن مسعود في ذلك؛ وكذا هو في حديث أبي موسى، وابن عمر، وعائشة، وجابر، وابن الزبير (¬2). وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: بينا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعلم التشهد، إذ قال رجل: وأشهد أن محمدًا رسوله وعبده، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد كنتُ عبدًا قبل أن أكون رسولًا، [قل] (¬3): عبده ورسوله"، ورجاله ثقات، إلا أنه مرسل (¬4). وفي حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، عند مسلم، وأصحاب السنن: "وأشهد: أن محمدًا رسول اللَّه" (¬5)، ومنهم من حذف "أشهد"، ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3383)، كتاب: الدعوات، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، وقال: حسن غريب، والنسائي في "السنن الكبرى" (10667)، وابن ماجه (3800)، كتاب: الأدب، باب: فضل الحامدين، وابن حبان في "صحيحه" (846)، والحاكم في "المستدرك" (1852). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 315). (¬3) في الأصل: "قال" بدل "قل". (¬4) رواه عبد الرازق في "المصنف" (3076). (¬5) رواه مسلم (403)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، وأبو داود =

ورواه ابن ماجه، بلفظ ابن مسعود (¬1). قال الترمذي: حديث ابن مسعود روي من غير وجه، وهو أصح حديث روي في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم؛ من الصحابة ومن بعدهم. قال: وذهب الشافعي -رحمه اللَّه-: إلى حديث ابن عباس في التشهد (¬2). وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد، قال: هو عندي حديث ابن مسعود؛ روي من نيف وعشرين طريقًا، وسرد أكثرها، قال: ولا أعلم في التشهد أثبت منه، ولا أصح أسانيد، ولا أشهر رجالًا، انتهى (¬3). قال الحافظ المصنف -رحمه اللَّه تعالى-: (وفي لفظ) من حديث ابن مسعود، في "الصحيحين"، وغيرهما: (إذا قعد أحدكم) -معشر الأمة للتشهد- (في الصلاة، فليقل) بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، خلافًا لمن لم يقل بوجوبه؛ كمالك. وأجاب بعض المالكية: بأن التسبيح في الركوع والسجود مندوب، ¬

_ = (974)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد، والترمذي (290)، كتاب: الصلاة، باب: منه أيضًا. (¬1) رواه ابن ماجه (900)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التشهد. وكذا النسائي (1174)، كتاب: التطبيق، باب: نوع آخر من التشهد. (¬2) انظر: "سنن الترمذي" (2/ 82 - 83). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 315)، و"التلخيص الحبير" له أيضًا (1/ 264).

ووقع الأمر به في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، لما نزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]: "اجعلوها في ركوعكم"، الحديث (¬1)؛ فكذلك التشهد. قلت: هذا لا يصلح جوابًا؛ لأنا نقول: الكل ملوم في عدم القول بالوجوب؛ حيث ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مقتضاه. والعجب من الكرماني؛ حيث قال معارضًا لدعوى بعض المالكية: بأن الأمر حقيقة للوجوب؛ فيحمل عليه، إلا إن دل دليل على خلافه، ولولا الإجماع على عدم وجوب التسبيح في الركوع والسجود؛ لحملناه على الوجوب، انتهى (¬2). فهذا منه قصور زائد؛ فإن الإمام المبجل -سيدنا الإمام أحمد بن حنبل-، يقول بوجوبه، ويقول بوجوب التشهد الأول -أيضًا-. وفي رواية أبي الأحوص، وغيرها، من حديث عبد اللَّه، عند النسائي، قال: كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين، وإن محمدًا علَّمَ فواتحَ الخير وخواتيمه، فقال: "إذا قعدتم في كل ركعتين، فقولوا" (¬3)؛ دلالة بينة على وجوبه. فقد جاء عن ابن مسعود: التصريحُ بفرضية التشهد؛ وذلك فيما رواه ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (869)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، وابن ماجه (887)، كتاب: الصلاة، باب: التسبيح في الركوع والسجود، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 155)، وغيرهم، من حديث عقبة بن عامر -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 312). (¬3) رواه النسائي (1163)، كتاب: التطبيق، باب: كيف التشهد الأول، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 437)، وابن خزيمة في "صحيحه" (720)، وابن حبان في "صحيحه" (1951)، وغيرهم.

الدارقطني، وغيره، بإسناد صحيح، من طريق علقمة، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: وكنا لا ندري ما نقول، قبل أن يفرض علينا التشهد (¬1). (وفيه)؛ أي: في حديث ابن مسعود بذلك اللفظ: (فإنكم) -معشر المصلين من أمة الإجابة- (إذا فعلتم ذلك)؛ أي: وعلى عباد اللَّه الصالحين، وذلك أنهم كانوا يقولون: السلام على جبريل، السلام على فلان، السلام على فلان (¬2)؛ فكأنه أنكر عليهم عَدَّ الملائكة واحدًا واحدًا، إذ لا يمكن استيعابهم لهم، فعلمهم لفظًا يشمل الجميع، مع غير الملائكة (¬3) من النبيين والمرسلين والصديقين وغيرهم بغير مشقة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإلى ذلك الإشارة بقول ابن مسعود: وإن محمدًا علم فواتح الخير، وخواتيمه -كما تقدم-. (فقد سلمتم على كل عبد للَّه) -عز وجل- (صالح) استدل به على أن الجمع المضاف، والجمع المحلى بأل يعم؛ لقوله أولًا: "عباد اللَّه الصالحين"، ثم قال: "فقد سلمتم ... إلخ"، وفي لفظ: "فإنكم إذا قلتموها، أصابت كلَّ عبد صالح" (¬4)، واستدل به على أن هذه الصيغة للعموم (¬5). قال ابن دقيق العيد: وهو مقطوع به عندنا في لسان العرب، وتصرفات ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 350)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 138)، لكن من طريق شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود، بلفظ: كنا نقول قبل أن يفرض التشهد: السلام على اللَّه، السلام على جبرائيل وميكائيل .... (¬2) كما تقدم قريبًا. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 315). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (797). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 315).

ألفاظ الكتاب والسنة، قال: واستدلالنا بهذا الحديث ذكر لفرد من أفراده لا يحصى الجمع لأمثالها، لا للاقتصار عليه. وخص الصالحين؛ لأنه ثناء وتعظيم، وهم المستحقون له دون غيرهم (¬1). قال القفال في "فتاويه": ترك الصلاة يضر بجميع المسلمين؛ لأن المصلي يدعو بالمغفرة للمؤمنين والمؤمنات، ولابد أن يقول في التشهد: السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، فيكون مقصرًا في حق اللَّه، وحق رسول اللَّه، وحق نفسه، وفي حق كافة المسلمين، ولذلك عظمت المعصية بتركها (¬2)، فإن من تركها [أخلَّ] بحق جميع المؤمنين، من مضى، ومن يجيء إلى يوم القيامة؛ لوجوب قوله فيها: "السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين" (¬3). (في السماء والأرض) في رواية مسدد، عن يحيى: "أو بين السماء والأرض" (¬4)، والشك فيه من مُسَدَّد، وإلا، فقد رواه غيره، عن يحيى: "من أهل السماء والأرض" أخرجه الإسماعيلي، وغيره (¬5). (وفيه) أيضًا-: (فليتخير من المسألة ما شاء)، وفي لفظ: "ثم ليتخير من ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 71). (¬2) إلى هنا انتهى كلام القفال في "فتاويه" كما نقله الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 317)، ثم قال عَقِبَه: واستنبط منه السبكي: أن في الصلاة حقًا للعباد مع حق اللَّه، وأن من تركها، أخلَّ بحق جميع ... " إلى آخر كلامه الذي ساقه الشارح -رحمه اللَّه- هنا. (¬3) في الأصل: "أخذ" بدل "أخلَّ"، والتصويب من "الفتح". (¬4) كما تقدم تخريجه عند البخاري برقم (800). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 315).

الدعاء أعجبه إليه، فيدعو" (¬1)، وزاد أبو داود: "به" (¬2) , ونحوه للنسائي، من وجه آخر (¬3)، وفي لفظ: "ما أحب" (¬4). واستدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما اختاره المصلي من أمور الدنيا والآخرة. وخالف في ذلك النخعي، وطاوس، وأبو حنيفة، فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القرآن، هكذا أطلق ابن بطال ومن تبعه عن أبي حنيفة. والمعروف في كتب الحنفية: ألا يدعو إلا بما جاء في القرآن، أو ثبت في الحديث، وعبارة بعضهم: ما كان مأثورًا، قال بعضهم: والمأثور أعم من أن يكون مرفوعًا أو غير مرفوع، وظاهر هذا الحديث يرد عليهم (¬5). قلت: ومعتمد المذهب: يدعو بما أحب مما ورد، ما لم يخف سهوًا، أو يشق على مأموم؛ وكذا في ركوع وسجود وغيرهما، ويجوز بغير ما ورد من أمور آخرته، ولو لم يُشْبه ما ورد؛ خلافًا لأبي حنيفة، وفسره أصحابه: بما لا يستحيل سؤالُه من العباد؛ نحو أعطني كذا، وزوجني امرأة، وارزقني فلانة؛ فتبطل عندهم به. كما في "الفروع"، قال: وعنه -يعني: الإمام أحمد-: وحوائج دنياه، وملاذها -يعني: له أن يسأل اللَّه إياها في صلاته-، وفاقًا لمالك، والشافعي (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (800). (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (968). (¬3) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (1163). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (402/ 57). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 321). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 389).

وفي "تنقيح التحقيق": لا يجوز أن يدعو في صلاته بما ليس فيه قربة إلى اللَّه تعالى، ولا ورد به أثر؛ كقوله: ارزقني جارية حسناء، وبستانًا أنيقًا. وقال مالك، والشافعي: يجوز (¬1). لنا: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ إنما هي: التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن" رواه الإمام أحمد، ومسلم، وغيرهما (¬2). وأجابوا عما في حديث ابن مسعود: "فليتخير من المسألة ما شاء": أنه يتخير من المأثور. وقد قال ابن سيرين: لا تدعوا في الصلاة، إلا بأمر الآخرة (¬3). واستثنى بعض الشافعية: ما يقبح من أمر الدنيا؛ كما لو قال: اللهم أعطني امرأة صفتها: كذا، وكذا، وأخذ يذكر أوصاف أعضائها؛ قاله ابن دقيق العيد (¬4). وقد ورد فيما يقال بعد التشهد أخبار، من أحسنها: ما رواه سعيد بن منصور، وأبو بكر بن أبي شيبة، من طريق عمير بن سعد، قال: كان عبد اللَّه -يعني: ابن مسعود رضي اللَّه عنه-، يعلمنا التشهد في الصلاة، ثم يقول: إذا فرغ أحدكم من التشهد، فليقل: اللهم إني أسألك من الخير كله؛ ما علمتُ منه، وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، ما علمتُ منه وما لا أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، وأعوذ بك ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 427). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 321). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 71).

من شر ما استعاذك منه عبادك الصالحون، ربنا آتنا في الدنب حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قال: ولم يدع نبي، ولا صالح، بشيء؛ إلا دخل تحت هذا الدعاء (¬1). [وهذا] (¬2) من المأثور غير مرفوع، وليس هو مما ورد في القرآن، ولكنه ليس من ملاذ الدنيا، بل من أمور الآخرة، واللَّه أعلم. تنبيهات: الأول: تشهدُ ابن مسعود -الذي ذكرناه- أصحُّ وأثبت تشهدٍ ورد عن حضرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ ولهذا اختاره الإمام أحمد على ما سواه من التشهدات، وفضَّله واستحبه على غيره؛ وفاقًا لأبي حنيفة، وإن كان غيره من التشهدات الواردة جائزًا، إلا أنه مفضول بالنسبة لتشهد ابن مسعود. فهو أفضل من تشهد ابن عباس، الذي عند مسلم، واختاره الإمام الشافعي، ولفظه: "التحيات المباركات الصلوات الطيبات للَّه"، إلخ، ولفظ مسلم: "وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه" (¬3). ومن تشهدِ عمرَ الذي اختاره مالك، ولفظه: "التحيات للَّه، الزاكيات للَّه، الطيبات، الصلوات للَّه، سلام عليك"، إلخ، وفيه: "أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرازق في "المصنف" (3082)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (3025). (¬2) في الأصل: "وهما" بدل "وهذا"، والصواب ما أثبت. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 90)، ومن طريقه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 237)، والحاكم في "المستدرك" (979)، وغيرهم، دون قوله: "وحده =

وقد رجح تشهد ابن مسعود على غيره بأمور: منها: كونه في "الصحيحين"، وتقدم، وبأن واو العطف تقتضي المغايرة، بين المعطوف، والمعطوف عليه؛ فتكون [كل] جملة ثناء مستقلًا؛ وإذا سقطت واو العطف، كان ماعدا اللفظ الأول صفة؛ فيكون جملة واحدة في الثناء، والأول أبلغ، فكان أولى. ومنها: كون السلام معرفًا فيه، منكرًا في تشهد ابن عباس، والتعريف أعم. وفيه -أيضًا-: جمعه بين العبودية، والرسالة، ولا كذلك في تشهد ابن عباس (¬1). ويترجح على تشهد عمر: أنه مرفوع، وتشهد عمر موقوف، وذلك في "الصحيحين"، وتشهد عمر في "الموطأ". وغير ذلك من وجوه الترجيح. وبأي تشهد تشهد؛ مما صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، جاز (¬2)، واللَّه أعلم. الثاني: أقل ما يجزىء في التشهد: التحيات للَّه، سلام عليك أيها النبي، ورحمة اللَّه، وسلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه (¬3). ¬

_ = لا شريك له". وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 69)، و"الإنصاف" للمرداوي (2/ 77)، وغيرهما. (¬1) ذكر هذه الترجيحات الثلاث: ابن دقيق في "شرح عمدة الأحكام" (2/ 69 - 70). (¬2) كما نصَّ عليه الإمام أحمد، كما في "المغني" لابن قدامة (1/ 315). (¬3) انظر: "المبدع" لابن مفلح (1/ 464)، و"دليل الطالب" لمرعي بن يوسف (ص: 30).

الثالث: معتمد المذهب: أن التشهد الأول واجب، وقال بوجوبه -أيضًا-: الليث، وإسحاق، والشافعي في قول له، ورواية عن الحنفية. واحتج الطبري لوجوبه: بأن الصلاة فرضت أولًا ركعتين؛ فكان التشهد فيها واجبًا، فلما زيدت، لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الواجب. وأجاب من لم يقل بالوجوب: بعدم تعيين الزيادة في الأخيرتين؛ لاحتمال كون المزيدة الأولتان بتشهدهما (¬1). وتقدم ما يشفي ويكفي، واللَّه الموفق. تتمة: قال الإمام ابن القيم في كتابه "صفة صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-": شرعت هذه التحية في وسط الصلاة إذا زادت على ركعتين؛ تشبيهًا لها بجلسة الفصل بين السجدتين؛ فهي بين الركعتين الأولتين والأخريين؛ كالجلوس بين السجدتين، وفيها مع الفصل راحة للمصلي، لاستقباله للركعتين الأخريين بنشاط وقوة، بخلاف ما إذا والى بين الركعات، ولهذا كان الأفضل في النفل: مثنى مثنى، وإن تطوع بأربع، جلس في وسطهم، انتهى (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 310). (¬2) انظر: "صفة صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" لابن القيم (ص: 215).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي لَيْلَى-، قَالَ: لَقِيَنِي كعْبُ بنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً؟ إِنَ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمْنَا كيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3190)، كتاب: الأنبياء، باب: {يَزِفُّونَ} [الصافات: 94]، و (4519)، كتاب: التفسير، باب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...} [الأحزاب: 56]، و (5996)، كتاب: الدعوات، باب: الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومسلم (406/ 66 - 68)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد التشهد، وأبو داود (976 - 978)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد التشهد، والنسائي (1287 - 1289)، كتاب: السهو، باب: نوع آخر، والترمذي (483)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صفة الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وابن ماجه (904)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 268)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 302)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 40)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 123)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 72)، =

(عن عبد الرحمن)، يكنى: بأبي عيسى (بن أبي ليلى)، واسمه: سيار، وقيل: بلال، وقيل: داود الأنصاريُّ الأوسيُّ الكوفيُّ. وأبو ليلى صحابي، شهد أحدًا وما بعدها، وشهد مع علي مشاهده، وقُتل بصفين. وأما عبد الرحمن ولده: فتابعي جليل كبير، روى عن خلق، وروى عنه خلق، واتفقوا على توثيقه وجلالته، أخرج له الجماعة. قال عبد الرحمن: أدركت مئة وعشرين من الصحابة، كلهم من الأنصار. ولد لست بقين من خلافة عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، وفقد سنة ثلاث وثمانين بالجماجم (¬1)، وغلطوا من قال: إنها كانت سنة إحدى وسبعين، ولما كانت وفاته لم تتحقق في سنة الجماجم، وإنما فقد فيها؛ فنزل منزلة الميت، عَبَّر بفقد (¬2). ¬

_ = و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 604)، و"فتح الباري" لابن حجر (8/ 533، 11/ 153)، و"عمدة القاري" للعيني (19/ 126). (¬1) الجماجم: جمع جمجمة، وهو قدح من خشب، وبالجمع سمي دير الجماجم، وهو الذي كانت به وقعة ابن الأشعث مع الحجاج بالعراق؛ لأنه كان يُعمل به أقداح من خشب. وقيل: سمي به؛ لأنه بني من جماجم القتلى؛ لكثرة من قتل به. انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 299)، وانظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الجوزي (1/ 174)، و"معجم البلدان" لياقوت (2/ 159)، و"معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (2/ 573). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 109)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 350)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (10/ 199)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 372)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 262)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 58)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 234).

(قال) عبد الرحمن بن أبي ليلى: (لقيني كعب)، ويكنى: أبا محمد، وقيل: أبا اسحق (بنُ عُجرة) -بضم العين المهملة، وسكون الجيم، وبالراء- بنِ أمية بن عديِّ بن عبيد بنِ الحارث البَلَويِّ، من بَلِيٍّ -بفتح الموحدة، وكسر اللام، وتشديد الياء آخر الحروف- بنِ عمرو بن الحاف بن قضاعة، حليف بني سالم بن عوف، وقيل: بني عمرو بن عوف، وقال الواقدي: ليس حليفًا للأنصار، وإنما هو من أنفسهم. نزل كعب بن عجرة -رضي اللَّه عنه- الكوفة، ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين، وقيل اثنتين، وقيل: ثلاث، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: سبع وسبعين. تأخر إسلام كعب، وكان له صنم في بيته يكرمه، وكان عبادة بن الصامت صديقًا له، فرصده يومًا، فلما خرج من بيته، دخل عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- بالقدوم، فلما جاءه كعب، ورآه، خرج مغضبًا، يريد أن يشاتم عبادة، ثم فكر في نفسه؛ فقال: لو كان في هذا الصنم طائل؛ لامتنع، فأسلم، حينئذٍ. روي له سبعة وأربعون حديثًا؛ اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم باثنين (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الثقات" لابن حبان (3/ 351)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 545)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1321)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (50/ 139)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 454)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 377)، و"تهذيب الكمال" للمزي (24/ 179)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 52)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 599)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 390).

(فقال) كعب بن عجرة -رضي اللَّه عنه- لعبد الرحمن بن أبي ليلى -رحمه اللَّه تعالى-: (ألا) -بفتح الهمزة، والتخفيف-: أداة استفتاح، ومعناه: العرض والتحضيض، ومعناهما: الطلب، لكن العرض: طلب بلين؛ وهو المراد هنا؛ كقوله تعالى-: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (¬1) [النور: 22]. (أهدي لك هدية) -كَغَنِيَّة-: هي ما أُتْحِفَ به، والجمع: هدايا، وهَدَاوى، وتكسر الواو (¬2). وفي "المطلع": الهبة، والهدية، وصدقة التطوع: أنواع من البر متقاربة، يجمعها تمليك عين بلا عوض، فإن تمحض فيها طلب التقرب إلى اللَّه تعالى، بإعطاء محتاج، فهي صدقة، وإن حملت إلى مكان المهدي إليه إعظامًا له وإكرامًا وتوددًا؛ فهي هدية، وإلا فهبة، وأما العطية، فقال الجوهري: الشيء المعطى، والجمع: العطايا (¬3). وفي "الإقناع": إن قصد بإعطائه ثواب الآخرة فقط، فصدقة، وإن قصد إكرامًا وتوددًا أو مكافأة، فهدية، وإلا، فهبة وعطية ونِحْلة (¬4). والمراد بها هنا: التحفة والشيء المستظرف. وفسر كعب تلك الهدية بقوله: (إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج علينا) يعني: من نحو بيته، (فقلنا: يا رسول اللَّه! قد عَلِمنا كيف نسلم عليك) يعني: في التشهد، ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1738). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1734). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2430)، (مادة: عطا). وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 291). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 101).

وهو: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، وفي لفظ: يا رسول اللَّه! أما السلام عليك، فقد عرفناه (¬1). قال في "الفتح": المراد بالسلام: ما علمهم إياه في التشهد (¬2). (فكيف نصلي عليك؟) وقد وقع السؤال عن ذلك أيضًا، لبشـ[ـيـ]ـر بن سعد؛ كما في مسلم، بلفظ: أتانا رسول ال -صلى اللَّه عليه وسلم- في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشـ[ـيـ]ـر بن سعد: أمرنا اللَّه أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ (¬3). وعند أبي داود، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، من حديث أبي مسعود: فكيف نصلي عليك، إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا (¬4)؟ (قال: قولوا: اللهم صل) تقدم الكلام على معنى الصلاة عليه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (على محمد، وعلى آل محمد) تقدم في خطبة شرح الكتاب بعض الكلام على هذا المقام، وأن المقصود بالـ "آلِ" في مقام الدعاء: أَتباع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على دينه إلى يوم القيامة، أو أهل بيته ممن حرمت عليهم الصدقة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4519). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 533). (¬3) رواه مسلم (405)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد التشهد، من حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي اللَّه عنه-. (¬4) رواه أبو داود (980)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد التشهد، والنسائي (1285)، كتاب: السهو، باب: الأمر بالصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والترمذي (3220)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، وقال: حسن صحيح، وابن خزيمة في "صحيحه" (711)، وابن حبان في "صحيحه" (1958)، وغيرهم.

وفي "صحيح مسلم"، عن زيد بن أرقم -رضي اللَّه عنه-، قال: قام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا خطيبًا بيننا بماء يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فحمد اللَّه تعالى، وأثنى عليه، وذكَّر، ووعظ، ثم قال: "أما بعد: ألا أيها الناس! إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي -عز وجل-، [فأجيب]، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللَّه -عز وجل-، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللَّه، واستمسكوا به"، فحث على كتاب اللَّه، ورغب فيه، وقال: "وأهل بيتي، أذكركم اللَّهَ في أهل بيتي"، فقال سَبْرَة بن عجرة: ومنَ أهلُ بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من الصدقهَ بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: أكل هؤلاء حرم عليهم الصدقة؟ قال: نعم (¬1). وقد ثبت أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن الصدقة لا تحل لآل محمد" (¬2)؛ فكل من لم تحل له الزكاة، فهو من آله -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: المراد باله هنا: أهل بيته. قال: هو نص الإمام أحمد، واختاره الشريف أبو جعفر، وغيره. قال شيخ الإسلام: وأفضل أهل بيته: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين؛ الذين أدار عليهم الكساء، وخصهم بالدعاء (¬3). (كما صليت على آل إبراهيم)؛ أي: قد تقدمت الصلاة على إبراهيم ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2408)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه مسلم (1072) , كتاب: الزكاة، باب: ترك استعمال آل النبي على الصدقة، عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. (¬3) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 420).

وآله؛ فنسأل منك الصلاة على محمد، وعلى آل محمد بطريق الأولى؛ لأن ما ثبت للفاضل، يثبت للأفضل من باب أولى، وبهذا يحصل الانفصال عن الإيراد المشهور؛ من كون شرط التشبيه: أن يكون المشبه به أقوى من المشبه (¬1). وقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه "جلاء الأفهام" عن ذلك أجوبة كثيرة، لعلماء شهيرة، ولم يرض غالبها، بل زيف أكثرها، وحاصل ما ارتضاه من ذلك: قول طائفة من العلماء: آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله، وفيهم الأنبياء، حصل لآل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من ذلك ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء، وفيهم إبراهيم، لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيحصل له بذلك من المزيَّة، ما لم يحصل لغيره. وتقرير ذلك: أن تجعل الصلاة الحاصلة لإبراهيم وآله، وفيهم الأنبياء، جملة مقسومة على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وآله، ولا ريب أنه لا يحصل لآل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مثل ما حصل لآل إبراهيم وفيهم الأنبياء، بل يحصل لهم ما يليق بهم، فيبقى فسم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والزيادة المتوفرة التي لم يستحقها آله مختصة به -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيصير الحاصل له من مجموع ذلك أفضل وأعظم من الحاصل لإبراهيم. واستحسن هذا الجواب على غيره. قال: وأحسن منه أن يقال: محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم؛ كما روي عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، قال: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 534).

محمد من آل إبراهيم (¬1). وهذا نص، فإنه إذا دخل غيره من الأنبياء الذين من ذرية إبراهيم في آله، فدخول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم، متناولًا للصلاة عليه، وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم. ثم قد أمرنا اللَّه سبحانه أن نصلي عليه وعلى آله خصوصًا، بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عمومًا، وهو فيهم، ويتحصل لآله من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له -صلى اللَّه عليه وسلم-. وتقرير هذا: أنه يكون قد صلى عليه خصوصًا، وطلب له من الصلاة ما لإبراهيم، وهو داخل معهم. ولا ريب: أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- معهم, أكمل من الصلاة الحاصلة له دونهم، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم، الذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعًا، وتظهر حينئذ فائدة التشبيه، وجريه على أصله، وأن المطلوب له من الصلاة -بهذا اللفظ- أعظم من المطلوب له بغيره؛ فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء، إنما هو مثل المشبه به، وله أوفر نصيب منه، صار له من المشبه به، من الحصة التي لم تحصل لغيره، فظهر بهذا من فضله وشرفه على إبراهيم وعلى كل من آله، وفيهم النبيون، ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل، وتابعة له، وهي من موجباته ومقتضياته، فصلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا (¬2). (إنك حميد) فعيل من الحمد، بمعنى محمود، وحميد أبلغ من ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (3/ 234). (¬2) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 289 - 291).

محمود؛ فإن فعيلًا إذا عُدل به عن مفعول، دل على أن تلك الصفة قد صارت مثل السجية والغريزة والخلق اللازم؛ كقولك: فلان ظريف، وشَرُيف، وكريم؛ ولهذا يكون هذا البناء غالبًا من فعل بوزن شَرُف، وهو من أبنية الغرائز، والسجايا اللازمة؛ ككَبُر، وصَغُر، وحَسُن، ولَطُف، ونحو ذلك، ولهذا كان حبيب أبلغ من محبوب؛ لأن الحبيب هو الذي حصلت فيه الصفات والأفعال التي يحب لأجلها؛ فهو حبيب في نفسه، وإن قدر أن غيره لا يحبه؛ لعدم شعوره به، أو لمانع منعه من حبه، وأما المحبوب، فهو الذي تعلق به حب المحب؛ فصار محبوبًا بحب الغير له (¬1). (مجيد) فعيل من المجد، وهو مستلزم للعظمة والجلال والحمد، يدل على صفات الإكرام والإفضال، واللَّه سبحانه ذو الجلال والإكرام؛ فلهذه المناسبة، ختمت الصلاة بهذين الاسمين الشريفين، وفي التنزيل: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]؛ لكونهما يتضمنان الإفضال والإجلال. وفي "المسند"، و"صحيح أبي حاتم"، وغيره، من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام" (¬2)؛ يعني: الزموها، وتعلقوا بها، فالجلال والإكرام هو الحمد والمجد، فذكر هذين الاسمين عقب الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى آله, ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 315 - 316). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 177)، لكن من حديث ربيعة بن عامر -رضي اللَّه عنه-. ورواه الترمذي (3524)، كتاب الدعوات، باب: (92)، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-.

مطابق لقوله: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]. ولما كانت الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هي ثناء اللَّه عليه، وتكريمه، والتنويه به، ورفع ذكره، وزيادة حبه، وتقريبه، كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من اللَّه أن يزيد في حمده ومجده، وهذا مناسب لقول ابن القيم، وغيره إن الداعي يشرع له أن يختم دعاءه باسم من الأسماء الحسنى، يكون مناسبًا لمطلوبه، أو يفتتح دعاءه به (¬1). (وبارك على محمد، وعلى آل محمد) أصل البركة، وحقيقتها: الثبوت، واللزوم، والاستقرار، ومنه: برك البعير: إذا استقر على الأرض (¬2). قال في "الصحاح": كل شيء ثبت وأقام: فقد برك، والبِرْكة بكسر الموحدة كالحوض، سميت بذلك؛ لإقامة الماء فيها، والبَرَكة: النماء والزيادة، والتَّبريك: الدعاء بذلك، يقال: باركه اللَّه، وبارك فيه، وبارك عليه، وبارك له (¬3). وجاء في التوراة: ذكر البركة لإسماعيل دون إسحاق، وحكاية ذلك: هذا إسماعيل ها باركته، وهذا يؤذن بما حصل لبنيه من الخير والبركة، ولا سيما خاتمة بركتهم وأعظمها وأجلها برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنبههم بذلك على ما يكون في بنيه من هذه البركة العظيمة الموافية على لسان المبارك -صلى اللَّه عليه وسلم-. وذكر لنا في القرآن: بركته على إسحاق، منبهًا لنا على ما حصل في ¬

_ (¬1) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 317 - 318). (¬2) المرجع السابق، (ص: 302). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1574 - 1575)، (مادة: برك).

أولاده من نبوة موسى، وغيره، وما أوتوه من العلم والكتاب، مستدعيًا من عباده الإيمان بذلك، والتصديق به، وتنبيهًا منه -جل شأنه- على ألا يهمل حق هذا البيت المبارك، وأهل النبوة منهم، فلا يقول القائل: ما لنا ولأنبياء بني إسرائيل؟ بل يجب علينا احترامهم، والإيمان بهم، ومحبتهم، والثناء عليهم -صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين- (¬1). (كما باركت على آل إبراهيم) خليلك الأواه، ومعنى إبراهيم بالسريانية: أب رحيم، وهو الأب الثالث للعالم، والأول آدم، والثاني نوح -عليهم الصلاة والسلام-، وإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أبو الآباء، وعمود العالم، وإمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء؛ الذي اتخذه اللَّه خليلًا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته، ولم يأمر اللَّه رسوله محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يتبع ملة أحد من الأنبياء غيره، وهو الأمة، وهو القدوة المعلم للخير، القانت، المطيع للَّه، اللازم لطاعته، والحنيف المقبل على الحق سبحانه، المعرض عما سواه -عليه الصلاة والسلام-. (إنك حميد مجيد) لما كان المطلوب للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حمدًا ومجدًا بالبركة عليه، وذلك مستلزم الثناء عليه؛ ختم هذا المطلوب بالثناء على مرسِلِه بالحمد والمجد للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، والإخبار عن ثبوته للرب -سبحانه وتعالى- (¬2). تنبيهان: الأول: أكثر الأحاديث -الصحاح والحسان-، مصرحة بذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبذكر آله، وأما في حق المشبه به، وهو إبراهيم وآله، فإنما جاءت بذكر آل إبراهيم فقط دون ذكر إبراهيم، أو بذكره فقط دون ذكر آله. ¬

_ (¬1) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 308 - 309). (¬2) المرجع السابق، (ص: 320).

قال الإمام ابن القيم في "جلاء الأفهام": لم يجىء حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم وآل إبراهيم؛ كما تظاهرت على لفظ محمد وآل محمد، وساق الأحاديث الواردة في ذلك في "الصحيحين"، وغيرهما، إلى أن قال: وأما الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم، فرواه البيهقي في "سننه"، من حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا تشهد أحدكم في الصلاة، فليقل: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" (¬1)، قال: وهذا إسناد ضعيف. ورواه الدارقطني، من حديث ابن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي، عن محمد بن عبد اللَّه بن يزيد بن عبد ربه، عن أبي مسعود الأنصاري؛ فذكر الحديث، وفيه: "اللهم صل على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"، وقال: هذا إسناد حسن [متصل] (¬2)، لكن رواه هكذا، ورواه أيضًا مقتصرًا على ذكر إبراهيم، في الموضعين (¬3). وروى ابن ماجه في "السنن"، عن ابن مسعود موقوفًا، وفيه الجمع بين إبراهيم، وآل إبراهيم (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 379)، والحاكم في "المستدرك" (991). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 354). (¬3) انظر: "السنن" للدارقطني (1/ 354). (¬4) رواه ابن ماجه (906)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.

قال ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-: فحيث جاء ذكر إبراهيم وحده في الموضعين؛ فلأنه الأصل في الصلاة المخبر بها، وآله تبع [له] فيها، فدل ذكر المتبوع على ذكر التابع، واندرج فيه، وأغنى عن ذكره. وحيث جاء ذكر آله فقط؛ فلأنه داخل في آله، فيكون ذكر آل إبراهيم مغنيًا عن ذكره، وذكر آله بلفظين. وحيث جاء في أحدهما ذكره، وفي الآخر ذكر آله فقط؛ كان ذلك جمعًا بين الأمرين، فيكون قد ذكر المتبوع الذي هو الأصل، وذكر أتباعه بلفظ يدخل هو فيهم، انتهى (¬1). وحيث ذكر إبراهيم وآل إبراهيم في الموضعين؛ فيكون لتمام الإيضاح، وتصريحًا بما يدخل ضمنًا، واللَّه أعلم. وأما ذكر محمد وآل محمد بالاقتران، دون الاقتصار على أحدهما في عامة الأحاديث، وجاء الاقتصار على إبراهيم أو آله في عامتها؛ لكون الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء، والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال، كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفها؛ ولهذا شرع تكرارها وإبداؤها وإعادتها؛ فإنها دعاء، واللَّه تعالى يحب الملحين في الدعاء. والحاصل: أن مقام الطلب والدعاء مقام بسط واستقصاء وتكرار. وأما قوله: "كما صليت على إبراهيم"، فجملة خبرية عن أمر قد وقع وانقضى، فمقام الإخبار الأولى في الاختصار، ولا سيما والمقام ليس بمقام إيضاح ولا تفهم؛ لأنه سبحانه بكل شيء خبير عليم، واللَّه الموفق (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 292 - 297). (¬2) المرجع السابق، (ص: 297، 299).

الثاني: اختلف الناس في الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصلاة، هل هي ركن من أركان الصلاة التي لا تتم إلا بها، أو واجب من واجباتها فتسقط سهوًا، أو سنة من سننها فلا يؤثر الإخلال بها في الصلاة؟ مذاهب للعلماء -رحمهم اللَّه تعالى-، فمعتمد مذهب الإمام أحمد، والإمام الشافعي: أنها ركن من أركان الصلاة، لا تتم الصلاة إلا بها. قال الإمام ابن القيم في "جلاء الأفهام": قد أجمع المسلمون على مشروعية الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في آخر التشهد في الصلاة، واختلفوا في وجوبه فيها: فقالت طائفة: ليس ذاك بواجب فيها، ونسبوا من أوجبه إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع، منهم: الحافظ الطحاوي الحنفي، والقاضي عياض المالكي، والخطابي؛ فإنه قال: ليست بواجبة في الصلاة؛ وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، قال: ولا أعلم له قدوة (¬1)، وكذلك ابن المنذر، ذكر أن الشافعي تفرد بذلك، واختار عدم الوجوب. قال عياض: ودليل كون الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ليست من فروض الصلاة: عملُ السلفِ الصالح قبل الشافعي، وإجماعهم عليه، قال: وقد شنع الناس عليه المسألة جدًا، قال: وهذا تشهد ابن مسعود، الذي اختاره الشافعي، وهو الذي علمه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إياه، ليس فيه الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: وكذلك كل من روى التشهد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ كأبي هريرة، وابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وأبي موسى الأشعري، وعبد اللَّه بن الزبير؛ لم يذكروا فيه الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقد قال ابن عباس، وجابر: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعلمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن، ونحوه عن أبي سعيد، وابن مسعود، وكان عمر بن ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 227).

الخطاب يعلمه على المنبر (¬1)، يعني: وليس في شيء من ذلك أمرهم فيه بالصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وذكروا لعدم الوجوب أدلة، وظواهر أحاديث، وأجلبوا بخيلهم ورَجْلِهم، وانتصر الإمام ابن القيم للإمام الشافعي انتصارًا بليغًا، ورد على المشنع، ولا سيما على القاضي عياض ردًا ذريعًا. فقال: أما نسبة الشافعي ومن قال بقوله في هذه المسألة إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع، فغير صحيح، فقد قال بقوله جماعة من الصحابة ومن بعدهم؛ فمنهم: ابن مسعود، فإنه كان يراها واجبة في الصلاة، ويقول: لا صلاة لمن لم يصل فيها على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذكره ابن عبد البر عنه في "التمهيد" (¬3)، وحكاه غيره عنه -أيضًا-. ومنهم: أبو مسعود البدري، روى عثمان بن أبي شيبة، وغيره، عن شريك، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن أبي مسعود -رضي اللَّه عنه-، قال: ما أرى صلاة لي تمت، حتى أصلي فيها على محمد، وعلى آل محمد (¬4). ومنهم: عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن نسيت شيئًا من ذلك، فاسجد سجدتين بعد السلام. ¬

_ (¬1) تقدم تخريج أحاديث ابن عباس، وجابر، وأبي سعيد، وابن مسعود، وعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنهم- في أحاديث الباب. (¬2) انظر: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم-" للقاضي عياض (ص: 547 - 549). (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (16/ 194). (¬4) المرجع السابق، (ص: 16/ 195).

ومن التابعين: أبو جعفر محمد بن علي، وهو الباقر، والشعبي، ومقاتل بن حيان. وأما الإمام أحمد: فاختلفت الرواية عنه، وفي "مسائل أبي زرعة الدمشقي"، قال الإمام أحمد: كنت أتهيَّب ذلك، ثم تثبت، فإذا الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واجبة (¬1)، فيكون رجع إلى اعتبار وجوب الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو الذي استقر عليه مذهبه؛ أنها ركن في التشهد الأخير، يخل بالصلاة إهمالُها، كمذهب الشافعي. قال ابن القيم: وأما قول عياض: شنع الناس على الشافعي في المسألة، فيا سبحان اللَّه! أي شناعة عليه في هذه المسألة؟! وهل هي إلا من محاسن مذهبه؟! ثم ألا يستحيي المشنع عليه مثل هذه المسألة، من المسائل التي شنعتها ظاهرة جدًا، يعرفها من عرفها من المسائل؛ التي تخالف النصوص، والإجماع السابق، أو القياس، أو المصلحة الراجحة، ولو تتبعت، لبلغت مئتين، على أنه ليس من عادة أهل العلم تتبع المسائل المستبشعة. والمنصف خصم نفسه، فأي كتاب خالف الشافعي في هذه المسألة؟! أم أي سنة؟! أم أي إجماع لقول اقتضته الأدلة، وقامت على صحته، وهو من تمام الصلاة بلا خلاف؟! إما تمام وجوب، أو تمام استحباب، فرأى أنه من تمام واجباتها؛ بالأدلة المعلومة المذكورة في الكتب المعتبرة، التي منها: "جلاء الأفهام". زعم الزاعم، وتحذلق المتحذلق بالتشنيع على مثل هذا الإمام المحقق، مع أنه لم يخرق إجماعًا، ولم يخالف نصًا، فبأي وجه شنع عليه؟! وهل ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 318).

الشناعة إلا على من شنع ألبق، وبه أحرى وأليق؟! وأما قول القاضي عياض: وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي، وهو الذي علمه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إياه، فهكذا قال، والذي اختاره الإمام الشافعي، إنما هو تشهد ابن عباس، كما مر، وأما تشهد ابن مسعود، فاختاره الإمام أحمد، والإمام أبو حنيفة، ومالك اختار تشهد عمر، وتقدم ذلك، واللَّه أعلم (¬1). والحاصل: أن مذهب الإمام أحمد، والإمام الشافعي على ما استقر عليه مذهبه: أن الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في آخر التشهد الأخير، ركن من أركانها، لا يسقط سهوًا، ولا جهلًا، ولا عمدًا. وقال الإمام إسحاق بن إبراهيم -المعروف بابن راهويه-: هي واجبة، وتسقط بالنسيان. وقال الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك: هي سنة، لا تبطل الصلاة بتركها ولو عمدًا. وذكر في "الفتح": أن بعض أصحاب مالك وافق الشافعي وأحمد، واللَّه تعالى أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 327 - 334). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 321).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُو في صلاته: "اللَّهُمَّ إِنيِّ أَعُوذُ بكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، ومِنْ فِتنة المَحْيَا والمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَسِيح الدَّجَّالِ" (¬1). وفي لفظٍ لِمُسْلِمٍ: "إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ مِنْ أَرْبعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنم"، ثمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ (¬2). ¬

_ (¬1) * تحْريج الحديث: رواه البخاري (1311)، كتاب: الجنائز، باب: التعوذ من عذاب القبر، ومسلم (588/ 131)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، والنسائي (2060) كتاب: الجنائز، باب: التعوذ من عذاب القبر، و (5518)، كتاب: الاستعاذة، باب: الاستعاذة من عذاب النار، من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به. (¬2) رواه مسلم (588/ 128)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، وأبو داود (983)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول بعد التشهد، وابن ماجه (909)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في التشهد والصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، من طريق حسان بن عطية، عن محمد بن أبي عائشة، وعن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به. وقد رواه مسلم (588/ 130، 132، 133)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة، والنسائي (2061)، كتاب: الجنائز، باب: التعوذ من عذاب القبر، و (5505 - 5506)، كتاب: الاستعاذة، باب: الاستعاذة من عذاب جهنم وشر =

(عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدعو) تقدم غير مرة أن "كان" تفيد المداومة على الفعل الذي تدخل عليه مثلما هنا، أو الكثرة (في صلاته)، متعلق بيدعو، وظاهر صنيع المصنف: أن الإتيان بالدعاء المذكور يكون بعد الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وآله، وهو الذي جزم به علماؤنا، قال في "الفروع": بعد ذكر الصلاة، والبركة عليه، وعلى آله، ثم يقول: (اللهم إني أعوذ بك) إلخ (¬1). وقد تقدم في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود بعد التشهد: "ثم يتخير من الدعاء ما شاء"، وقد أخرج ابن خزيمة، من طريق ابن جريج، قال: أخبرني عبد اللَّه بن طاوس، عن أبيه: أنه كان يقول بعد التشهد كلمات يعظمهن جدًا، قيل له: في التشهد الأول؟ قال: في التشهد الأخير، قال: ما هي؟ قال: أعوذ باللَّه، الحديث (¬2). ¬

_ = المسيح الدجال، و (5508 - 5511)، باب: الاستعاذة من فتنة المحيا، و (5513)، باب: الاستعاذة من فتنة الممات، و (5514)، باب: الاستعاذة من عذاب القبر، و (5515)، باب: الاستعاذة من فتنة القبر، و (5516)، باب: الاستعاذة من عذاب اللَّه، و (5520)، باب: الاستعاذة من حر النهار، والترمذي (3604)، كتاب: الدعوات، باب: في الاستعاذة، من طرق وألفاظ مختلفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 542)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 208)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 85)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 75)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 614)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 182)، و"طرح التثريب" للعراقي (3/ 106)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 119)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 318)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 207)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 194)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 329). (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 389). (¬2) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (722)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 200)، والحاكم في "المستدرك" (1402).

وقال الإمام ابن القيم في "صفة الصلاة": كان المصلي إذا فرغ من صلاته، جلس جلسة الراغب الراهب، يستعطي من ربه ما لا غنى به عنه، فشرع له أمام استعطائه كلمات التحيات، مقدمة بين يدي سؤاله، ثم يتبعها بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يده، وبسفارته، فكأن المصلي توسل إلى اللَّه تعالى بعبوديته، ثم بالثناء عليه والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، ثم بالصلاة على رسوله، ثم قيل له: تخير من الدعاء أحبه إليك، فذاك الحق الذي عليك، وهذا الحق الذي لك، وشرعت الصلاة على آله مع الصلاة عليه؛ تكميلًا لقرة عينه، بإكرام آله والصلاة عليهم، ثم شرع له أن يستعيذ باللَّه من مجامع الشر كله (¬1). فلذا قال: (من عذاب القبر)؛ وهو مدفن الإنسان، وجمعه: قبور، والمقبُرة -مثلثة الباء، وكمكنسة-: موضعها (¬2). والمراد: الاستعاذة باللَّه من عذاب البرزخ. (ومن عذاب النار) التي هي أثر غضب الجبار. قال الإمام ابن القيم: العذاب نوعان: عذاب في البرزخ، وعذاب في الآخرة، وأسبابه الفتنة، وهي نوعان: كبرى، وصغرى؛ فالصغرى: المشار إليها بقوله: (ومن فتنة المحيا)، وإنما كانت صغرى: بالنسبة لما بعدها، ولأنها يمكن تداركها بالتوبة (¬3). قال ابن دقيق العيد: فتنة المحيا: ما يعرض للإنسان مدة حياته؛ من ¬

_ (¬1) انظر: "صفة صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" لابن القيم (ص: 215 - 216). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 590)، (مادة: قبر). (¬3) انظر: "صفة صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" لابن القيم (ص: 216).

الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها -والعياذ باللَّه- أمر الخاتمة عند الموت (¬1). (و) من فتنة (الممات). قال في "المطلع": أصل الفتنة: الاختبار، ثم استعملت فيما أخرجه الاختبار إلى المكروه، ثم استعملت في المكروه، فجاءت بمعنى الكفر في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217]. وبمعنى الإثم؛ كقوله: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]. وبمعنى الإحراق؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10]، ومنه: "أعوذ بك من فتنة النار". وبمعنى الإزالة والصرف؛ كقوله تعالى-: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73]. قال: والمحيا والممات، تفعل من الحياة والموت، يقع على المصدر، والزمان، والمكان، قال: وفتنة المحيا كثيرة، وفتنة الممات [فتنة القبر، وقيل:] عند الاحتضار (¬2). وقال ابن دقيق العيد في فتنة الممات: يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إلى الموت؛ لقربها منه، وتكون فتنة المحيا على هذا: ما يقع قبل ذلك في مدة حياة الإنسان، وتصرفه في الدنيا؛ فإن ما قارب الشيء يعطى حكمه، فحالة الموت تشبه الموت، ولا تعدُّ من الدنيا. ويجوز أن يراد بفتنة الممات: فتنة القبر؛ كما صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، في ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 75). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 82 - 83).

فتنة القبر كمثل، أو أعظم من فتنة الدجال (¬1)، ولا يكون على هذا متكررًا، مع قوله: "من عذاب القبر"؛ لأن العذاب مرتب على الفتنة، والسبب غير المسبب (¬2). وقيل: أراد بفتنة المحيا: الابتلاء مع زوال الصبر، وفتنة الممات: السؤال في القبر مع الحيرة، وهو من العام بعد الخاص؛ لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات (¬3). (ومن فتنة المسيح) -بفتح الميم، والسين المهملة المكسورة، فمثناة تحت، فحاء مهملة-، وأنكر الهروي على من جعله بكسر الميم، مع تشديد السين، وجعله تصحيفًا؛ كما في "المطلع"، وقال بعضهم: كسرت الميم؛ للتفرقة بينه وبين عيسى -عليه السلام-. وقال الحربي: بعضهم يكسرها في الدجال، ويفتحها في عيسى، وكل سواء. وقال أبو الهيثم: والمسيح -بالمهملة-: ضد المسيخ -بالمعجمة-، مسحه اللَّه: إذ خلقه خلقًا حسنًا، ومسخ الدجال: إذ خلقه ملعونًا. وقال أبو عبيد: المسيح: الممسوح العين، وبه سمي (¬4). (الدجال)، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (86)، كتاب: العلم، باب: من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس، ومسلم (905)، كتاب: الكسوف، ما عرض على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الكسوف، عن أسماء بنت أبي بكر -رضي اللَّه عنها-، وفيه: "فأوحي إليَّ: أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريب من فتنة المسيح الدجال ... "، الحديث. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 75 - 76). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 319). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 83)، نقلًا عن "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 387). قال ابن جرير الطبري: وأما المسيح =

سمي دجالًا: من الدجل، وهو طلي البعير بالقطران، فسمي بذلك؛ لتمويهه بباطله، وقيل: من التغطية، ويقال: الدجال في اللغة: الكذاب (¬1). والحاصل: أن الصواب إهمال الحاء، ولا فرق من حيث اللفظ بين الدجال وسيدنا المسيح عيسى بن مريم من كون كل واحد منهما بالمهملة، واللَّه تعالى الموفق. (وفي لفظ لمسلم) دون البخاري: (إذا تشهد أحدكم) -معشر المصلين من الأمة- (فليستعذ باللَّه) -سبحانه وتعالى- (من أربع)، في هذا الحديث زيادة كون الدعوات مأمورًا بها بعد التشهد، فقد ظهرت العناية بالدعاء بهذه الأمور؛ حيث أمرنا بها في كل صلاة، وهي حَرِيَّةٌ بذلك؛ لعظم أمرها (¬2)، وفسرها بقوله: (يقول) بعدما يفرغ من التشهد، وقيل: السلام: (اللهم إني أعوذ بك) هذا تفسير لقوله: "فليستعذ"، وأتي به على صيغة الخطاب؛ لشدة افتقاره والتجائه إليه، وتعويله في مهماته عليه، ولكونه معه حاضرًا غير بعيد، كيف وهو أقرب إليه من حبل الوريد؟! (من عذاب جهنم) هذا بيان للمستعاذ منه، (ثم ذكر نحوه)؛ أي: نحو ما تقدم؛ أي: من عذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال. ¬

_ = الدجال، فإنه بمعنى الممسوح العين، صرف من مفعول إلى فعيل، فمعنى المسيح في عيسى -عليه السلام-: الممسوح البدن من الأدناس والآثام، ومعنى المسيح في الدجال: الممسوح العين اليمنى أو اليسرى. انظر: "تفسير الطبري" (6/ 35). (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 84)، نقلًا عن "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 254). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 76).

وفي هذه الرواية من الفوائد: تعليم الاستعاذة، وصيغتها؛ فإنه قد كان يمكن التعبير عنها بغير هذا اللفظ؛ مما يحصل به المقصود، ويحصل به امتثال الأمر، ولكن الأولى قول ما أمر به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومن فوائد الحديث، مع الالتجاء إلى اللَّه -سبحانه وتعالى- من هذه الأمور المهولة: أنها أمور غيبية إيمانية، فتكررها على الأنفس في كل صلاة، يجعلها ملكة لها (¬1). فإن قيل: ظاهر الحديث يعم التشهد الأول، وقد خصوه بالتشهد الثاني، فمن أين لهم ذلك؟ فالجواب: أنه قد اشتهر بين العلماء استحباب التخفيف في التشهد الأول، وعدم استحباب الدعاء بعده، حتى إنه لم يصل على النبي وآله فيه، ومن رأى الصلاة عليه فيه، لم ير الصلاة على الآل فيه؛ كل ذلك طلبًا للتخفيف، وحرصًا على اقتفاء المأثور، والمجيء بالصلاة على نسق واحد، من غير فصل بين أبعاضها بغير ما هو من جملتها. وأما الإتيان بذلك في آخر التشهد الثاني؛ لكونه قد فرغ من صلاته، فساغ له أن يدعو لنفسه، ولا سيما بالمهمات المهولة (¬2)، وتقدم ما أخرجه ابن خزيمة، من حديث ابن طاوس، عن أبيه، من كونه خصه بالتشهد الأخير، قال ابن جريج: أخبر به، عن أبيه، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- (¬3). وأخرج مسلم من رواية الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، من حديث ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 76 - 77). (¬2) المرجع السابق، (2/ 77). (¬3) تقدم تخريجه.

أبي هريرة: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير"، فذكره (¬1). تنبيهان: الأول: ذهبت الظاهرية إلى وجوب هذا الدعاء في هذا المحل (¬2). قال في "الفروع": والتعوذ ندب، وفاقًا من الأئمة الأربعة، وعن الإمام أحمد رواية: أنه واجب؛ فيعيد تارك الدعاء عمدًا (¬3). فلم تنفرد الظاهرية بالقول بالوجوب. الثاني: أخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، عن سفيان الثوري: أن الميت إذا سئل: من ربك؟ تراءى له الشيطان [في صورة]، فيشير إلى نفسه: إني أنا ربك (¬4). فلهذا ورد سؤال التثبت حين يسأل. ثم أخرج بسند جيد، إلى عمرو بن مرة: كانوا يستحبون إذا وضع الميت في القبر أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطان (¬5). واللَّه تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (588/ 130) عنده. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 77). (¬3) وانظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 389). (¬4) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (3/ 227). (¬5) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (3/ 227). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 319).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كَشْفُ اللِّثَامِ شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1428 هـ - 2007 م رَقم الْإِيدَاع بمَكتَب الشؤون الفَنيَّة 22/ 2007 م قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة الكويت - الرقعي - شَارِع مُحَمَّد بني الْقَاسِم بدالة: 4892785 - داخلي: (404) فاكس: 5378447 موقعنا على الإنترنت www.islam.gov.kw قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة قَامَت بعمليات التنضيد الضوئي والتصحيح العلمي والإخراج الفني والطباعة دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) - فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، عَنْ أبي بكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم-: أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: "قُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلَّا أَنْتَ، فَاغْفِر لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنِّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ" (¬1). * * * (عن) أبي محمد، وقيل: يكنى بأبي عبد الرحمن (عبد اللَّه) العلم ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (799)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الدعاء قبل السلام، و (5967)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء في الصلاة، و (6953)، كتاب: التوحيد، باب: قوله اللَّه تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]، ومسلم (2705)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، والنسائي (1302)، كتاب: السهو، باب: نوع آخر من الدعاء، والترمذي (3531)، كتاب: الدعوات، باب: (97)، وابن ماجه (3835)، كتاب: الدعاء، باب: دعاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. * مصَادر شرح الحَدِيث: "المفهم" للقرطبي (7/ 32)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 77)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 616)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 131)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 118)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 194)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 231).

المشهور (بن عمرو بن العاص) -رضي اللَّه عنهما-، وتقدمت ترجمتهما، (عن) أمير المؤمنين خليفة رسول رب العالمين (أبي بكر الصديق) المكين، واسمه: عبد اللَّه بن أبي قحافة، واسمه: عثمان (-رضي اللَّه عنهم-) أجمعين: (أنه)؛ أي: الصديق الأعظم (قال لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: علمني دعاء)؛ أي: خصني به، بمعنى: أن يكون تلقاه عنه، يناسب أن يكون من زاد الآخرة؛ لـ (أدعو به)؛ أي: بذلك الدعاء العظيم الذي تعلمني إياه (في صلاتي) متعلق بأدعو، وخصه بالصلاة؛ لكونها أعظم العبادات والقرب، ومحل التجليات، وهي بالإجابة أجدر، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء" (¬1)، قال الدميري: هذا الدعاء، وإن كان ورد في الصلاة، فهو حسن نفيس صحيح، ويستحب في كل موطن، وقد جاء في رواية: "في بيتي" (¬2). (قال) -صلى اللَّه عليه وسلم- لخليفته، وصديقه -رضي اللَّه عنه-: (قل: اللهم) تقدم الكلام على اللهم. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة، من غير تعيين لمحله، ولو فعل فيها حيث لا يكره الدعاء في أي الأماكن كان لجاز. قال: ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين؛ إما في السجود، وإما في التشهد، فإنهما الموضعين (¬3) اللذان أمر [نا] فيهما بالدعاء، قال - عليه السلام-: "أما السجود، فاجتهدوا فيه بالدعاء" (¬4)، وقال في التشهد: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (482)، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) هي رواية مسلم المتقدم تخريجها في حديث الباب. (¬3) كذا في الأصل، والصواب: الموضعان. (¬4) رواه مسلم (479)، كتاب: الصلاة، باب: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-.

"ويتخير بعد ذلك من المسألة ما شاء" (¬1)، ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد؛ لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل، انتهى (¬2). ونازعه الفاكهاني، فقال: الأولى الجمع بينهما في المحلين المذكورين؛ أي: السجود والتشهد. وقال النووي: استدلال البخاري صحيح؛ لأن قوله: "في صلاتي" يعم جميعها، ومن مظانه هذا الموطن (¬3)؛ يعني: بعد التشهد. قال في "الفتح": ويحتمل أن يكون سؤال أبي بكر عن ذلك كان عند قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لما علمهم التشهد: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء" (¬4)، ومن ثم أعقب البخاري الترجمة بالترجمة؛ أي: والى بين ترجمة الدعاء قبل السلام؛ أي: بعد التشهد، وترجمة ما يتخير من الدعاء بعد التشهد، انتهى (¬5). وهذا ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: من كون محل هذا الدعاء عقب التشهد، واللَّه أعلم (¬6). (إني ظلمت نفسي)؛ أي: بملابسة ما يستوجب العقوبة، أو ينقص الحظ. وفيه: أن الإنسان لا يعرى عن تقصير، ولو كان صديقًا (¬7)، والظلم: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 77 - 78). (¬3) انظر: "الأذكار" للنووي (ص: 107). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 320). (¬6) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 202). (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 320).

وضع الشيء في غير موضعه (¬1)، وظلم الإنسان لنفسه: هو تركها مع هواها، حتى يصدر منها من المعاصي ما يوجب عقوبتها. (ظلمًا كثيرًا) قال النووي: روي -بالمثلثة-، وكبيرًا -بالموحدة - (¬2). قال الدميري: فيستحب أن يقول الداعي: كثيرًا كبيرًا، يجمع بينهما، ولم يرتض ابن القيم ذلك في "جلاء الأفهام" (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في "مختصر الفتاوى المصرية": الذنوب تتنوع، وهي كثيرة لها شعب: فمنها: من باب الضلال في الإيمان؛ كالفخر، والخيلاء، والحسد، والكبر، والرياء، وتوجد في الناس الذين هم متعففون عن الفواحش. وكذلك الذنوب التي هي ترك الواجبات، والإخلاص، والتوكل على اللَّه، ورجاء رحمته، وخوف عذابه، والصبر على حكمه، والتسليم لأمره، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحوه، وتحقيق ما يجب من المعارف والأعمال يطول ذكره. فإذا علم ذلك، فظلم العبد نفسه، يكون بترك ما ينفعها، وهي محتاجة إليه، أو بفعل ما يضرها؛ كما أن ظلم الغير كذلك، إما بمنع حقه، أو التعدي عليه، والنفس إنما تحتاج من العبد إلى فعل ما أمر اللَّه به، وإنما يضرها فعل ما نهى عنه، فظلمها لا يخرج عن ترك حسنة، أو فعل سيئة. وما يضطر العبد إليه، حتى أكل الميتة، داخل في هذا، فأكلها عند الضرورة واجب في المشهور من مذاهب الأئمة الأربعة، وكذلك ما يضرها ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1464)، (مادة: ظلم). (¬2) انظر: "الأذكار" للنووي (ص: 106). (¬3) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 321).

من جنس العبادات، مثل الصوم الذي يزيد في مرضها، والاغتسال بالماء البارد الذي يقتلها، هو من ظلمها؛ فإن اللَّه تعالى أمر العباد بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم. ومما ينبغي أن يعرف: أن الإنسان قد يتعاطى أمورًا، يجب عليه أشياء بسببها، ولولاها ما وجب عليه من ذلك شيء؛ كالولايات، ففي "المسند": "أحب الخلق إلى اللَّه إمام عادل، وأبغضهم إلى اللَّه إمام جائر" (¬1)، كحقوق الزوجة، والأولاد، والجيران. فمن هذه الأمور، وغيرها مما لم نذكره، يتبين بها أنها أجناس ظلم العبد نفسه، لكن كل إنسان بحسبه، وبحسب درجته، فما من صباح يصبح، إلا وللَّه على عبده حقوق، وكذلك للخلق على ذلك العبد حقوق، وحدود عليه أن يحفظها، ومحارم عليه أن يجتنبها؛ فإن أجناس الأعمال ثلاثة: مأمور به: فمنه واجب، ومنه مندوب. ومنهي عنه: فمنه محرم، ومنه مكروه. ومباح له حد: فتعديه تعدٍّ لحدود اللَّه، بل قد يكون الزائد على بعض الواجبات، أو المستحبات تعد (¬2) لحدود اللَّه، وذلك كالإسراف؛ كما قال ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 22)، والترمذي (1329)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الإمام العادل، وقال: حسن غريب، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، بلفظ: "إن أحب الناس إلى اللَّه -عز وجل- يوم القيامة، وأقربهم منه مجلسًا إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى اللَّه يوم القيامة، وأشده عذابًا إمام جائر". (¬2) كذا في الأصل، والصواب: تعديًا.

تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147]. وبهذا التمهيد يعرف أن قول القائل: ما مفهوم قول الصديق: "ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا"، والدعاء بين يدي اللَّه لا يحتمل المجاز، والصديق من أئمة السابقين، والرسول أمره بذلك؛ كانه نازله بشبهة؟ حيث قال: هو أجلُّ قدرًا من أن يكون له ظلم كثير، فإن ذلك ينافي مرتبة الصديقية! كلام من لا يمعن النظر، ولا يوفي لكل مقام حقَّه. وحاصل الجواب عن ذلك، من وجهين: أحدهما: أن الصديق -رضي اللَّه عنه- كملت مرتبته في نهايته لا بدايته، وإنما نال ذلك بفعل ما أمر اللَّه به من الأعمال الصالحة، وأفضلها التوبة، وما وجد قبل التوبة؛ فإنه لم ينقص صاحبه، ولا يتصور أن بشرًا يستغني عن التوبة؛ كما في "الصحيح": "أيها الناس! توبوا إلى اللَّه، فإني أتوب إلى اللَّه في اليوم أكثر من سبعين مرة، وإنه ليغان على قلبي، فأستغفر اللَّه في اليوم مئة مرة" (¬1)؛ وكذلك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اغفر لي خطئي، وجهلي، وعمدي، وكل ذلك عندي" (¬2) فيه: من الاعتراف أعظم مما في دعاء الصديق. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2702/ 41)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه، عن الأغر المزني -رضي اللَّه عنه-، بلفظ: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر اللَّه في اليوم مئة مرة". ثم روى مسلم عقبه (2702/ 42) بإسناد آخر عن الأغر المزني -رضي اللَّه عنه- بلفظ: "يا أيها الناس! توبوا إلى اللَّه، فإني أتوب في اليوم إليه مئة مرة". (¬2) رواه البخاري (6035)، كتاب: الدعوات، باب: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت"، ومسلم (2719)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، عن أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-.

والصديقون يجوز عليهم جميع الذنوب باتفاق الأئمة، فما يلقى لأهل المكاشفات والمخاطيات من المؤمنين، هو من جنس ما يكون لأهل القياس والرأي، فلا بد من عرضه على الكتاب والسنة والإجماع؛ فلا أحدٌ من هؤلاء المشايخ ولا الصديقين معصومًا، وكل من ادعى غناه عن الرسالة بمكاشفة أو مخاطبة أو عصمة، سواء ادعى ذلك لنفسه، أو لشيخه، فهو من أضل الناس، واللَّه أعلم. الثاني: أن التوبة والاستغفار قد يكونان من ترك الأفضل، وأما الذم والوعيد، فلا يكونان إلا عن ذنب، وحسناتُ الأبرار سيئات المقربين، فالصديقُ يرى من نفسه نوعَ فتور عن معالي الأمور اللائقة بمقامه الباذخ، وفضله الراسخ. فربما عُدَّ تقاعسُه عن المبادرة إلى ذروة ترك المعالي، وتقاعدُه عن إحراز فرائد هاتيك اللآلي، نوعًا من ظلم النفس التائقة إلى الصعود إليها، والطالبة العكوف عليها، فيمنعها من ذلك الاشتغال بما هو أهم وأحرى، فمع تكرر ذلك مرة بعد أخرى، صار ظلمًا كثيرًا، واللَّه أعلم. (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) فيه: إقرار بالوحدانية، واستجلاب المغفرة، وهو كقوله -سبحانه وتعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران: 135]، فأثنى على المستغفرين، وفي ضمن ثنائه عليهم بالاستغفار، لوح بالأمر؛ كما قيل: إن كل شيء أثنى اللَّه على فاعله، فهو أمر به، وكل شيء ذم فاعله، فهو ناه عنه؛ كما في "الفتح" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 320).

(فاغفر لي) رتب على كونه لا يغفر الذنوب إلا هو سبحانه: أن طلب منه -جل شأنه- ذلك، وغفران الذنوب: هو سترها بالتوبة منها، أو بالعفو عنها. (مغفرة) تفضلًا (من عندك)، وإن لم أكن لها أهلًا، وإلا، فالمغفرة والرحمة وكل النعم؛ من عنده تعالى. وفي "الفتح": قال الطيبي: دل التنكير على: أن المطلوب غفران عظيم، لا يدرك كُنْهُه ووصفه؛ بكونه من عنده سبحانه، مريدًا لذلك التعظيم؛ لأن الذي يكون من عند اللَّه، لا يحيط به وصف (¬1). وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين: أحدهما: الإشارة إلى التوحيد المذكور، كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت، [فافعله أنت]. والثاني -وهو أحسن-: أنه إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها، لا يقتضيها سبب من العبد؛ من عمل حسن ولا غيره (¬2). وقال شيخ الإسلام: المراد: اغفر لي مغفرة من عندك، لا يصلها بأسباب، لا من عزائم المغفرة التي يغفر لصاحبها؛ كالحج، والجهاد، ونحوه، بل اغفر لي مغفرة تهبها لي، وتجود بها علي، بلا عمل يقتضي تلك المغفرة التي هي ستر الذنب، ونحوه، انتهى. وبالثاني جزم الحافظ ابن الجوزي، فقال: المعنى: هب لي المغفرة تفضلًا، وإن لم أكن لها أهلًا بعملي (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 78 - 79). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 320).

وقال الحكيم الترمذي: سأله مغفرة من عنده، والأشياء كلها من عنده، ولكن أراد شيئًا مخصوصًا ليس مما تركه للعامة (¬1). (وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) هما صفتان ذكرتا ختمًا للكلام، على جهة المقابلة لما تقدم؛ فالغفور مقابل لقوله: "اغفر لي"، والرحيم لقوله: "ارحمني". قال الحكيم الترمذي: هذا عبد اعترف بالظلم، ثم التجأ إليه سبحانه مضطرًا، لا يجد لذنبه ساترًا غيره، ثم قال: وللَّه تعالى رحمة قد عمت الخلق بَرَّهم وفاجرهم، سعيدَهم وشقيهم، ثم له رحمة خص بها المؤمنين، وهي: رحمة الإيمان، ثم له رحمة خص بها المتقين، وهي: رحمة الطاعة للَّه تعالى، وللَّه رحمة خصن بها الأولياء، فالمراد بها الولاية، وله رحمة خص بها الأنبياء نالوا بها النبوية، وقال الراسخون في العلم: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [آل عمران: 8]، فسألوه رحمة من عنده، انتهى (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -بعد ذكره لكلام الحكيم الترمذي الذي ذكرناه-: هذا صورة ما شرحه، ولم يذكر صفة الظلم وأنواعه؛ كما ذكر صفة الرحمة. قال شيخ الإسلام: والدعاء الذي فيه اعتراف العبد بظلم النفس، ليس من خصائص الصديقين ومن دونهم، بل هو من الأدعية التي يدعو بها الأنبياء -عليهم السلام-، وهم أفضل الخلق، قال اللَّه تعالى عن آدم وحواء: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]، وقال موسى: {رَبِّ إِنِّيِ ¬

_ (¬1) انظر: "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي (2/ 323). (¬2) المرجع السابق، (2/ 323 - 324).

ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44]، والخليل {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [إبراهيم: 41] {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]، وقال يونس: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وثبت في "الصحيح"، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه كان يقول: "ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي" (¬1). قال: وأما ما ذكره الترمذي من أصناف الرحمة، فلا ريب أن الرحمة أصناف متنوعة، كما ذكره، وليس في الحديث: رحمة من عندك، وإنما فيه: "فاغفر لي مغفرة من عندك"، ولكن مقصوده: أن يشبه هذا بقوله: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [آل عمران: 8]، وقد جعل هذه المغفرة "من عنده" مغفرة مخصوصة، ليست مما يبذل للعامة، كما أن الرحمة المخصوصة ليست مما يبذل للعامة. ثم نظر في بعض كلامه، ثم حمل كلامه على وجه صحيح، وذكر كلام الإمام عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: احمل كلام أخيك على أحسنه، حتى يأتيك ما يغلبك منه (¬2)، واللَّه أعلم. وفي هذا الحديث أيضًا من الفوائد: استحباب طلب التعلم من العالم، خصوصًا في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم، الذي هذا الدعاء منه، واللَّه الموفق. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (771)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 360).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: مَا صَلَّى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إلَّا يَقُولُ فِيهَا: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" (¬1). وفي لَفْظٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبنا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4683)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} , واللفظ له، ومسلم (484/ 218)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود. (¬2) رواه البخاري (761)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الدعاء في الركوع، و (784)، باب: التسبيح والدعاء في السجود، و (4042)، كتاب: المغازي، باب: منزل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الفتح، و (4684)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} , ومسلم (484/ 217)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، وأبو داود (877)، كتاب: الصلاة، باب: في الدعاء في الركوع والسجود، والنسائي (1047)، كتاب: التطبيق، باب: نوع آخر من الذكر في الركوع، و (1122)، باب: نوع آخر، و (1123)، باب: نوع آخر، وابن ماجه (889)، كتاب: الصلاة، باب: التسبيح في الركوع والسجود. * مصادر ضرح الحديث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 214)، و "إكمال المعلم" =

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (-رضي اللَّه عنها-)، وعن أبيها (قالت: ما صلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاة) من الصلوات المكتوبات (بعد أن نزلت عليه:) سورة ({إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح})، وقد أخرج النسائي، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أنها آخر سورة أنزلت من القرآن (¬1)، وقد جاء: أن سورة براءة آخر سورة (¬2)، والجمع بينهما: أن آخرية "النصر" نزولها كاملة، بخلاف "براءة"، ويقال: إن {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} نزلت يوم النحر، وهو بمنى في حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها إحدى (¬3) وثمانين يومًا. وعند ابن أبي حاتم، من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال (¬4)، وعن مقاتل: سبعًا، وعن بعضهم: ثلاثًا، وقيل: ثلاث ساعات، وهو باطل؛ كما في "الفتح" (¬5). ¬

_ = للقاضي عياض (2/ 398)، و"المفهم " للقرطبي (2/ 87)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 201)، و "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 79)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 628)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 60)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 281، 299)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 68)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 178)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 274). (¬1) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (11713). والحديث رواه مسلم أيضًا (3024)، في أول كتاب التفسير. (¬2) رواه البخاري (4106)، كتاب: المغازي، باب: حج أبي بكر بالناس في سنة تسع، من حديث البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه-. (¬3) كذا في الأصل، والصواب: أحدًا، أو: واحدًا. (¬4) روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" (2/ 554)، عن سعيد بن جبير: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عاش بعد نزول آية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] تسع ليال، ثم مات. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 734).

وفي "تفسير مجير الدين الحنبلي" (¬1): قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: لما نزلت هذه السورة، علم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قد نُعيت إليه نفسه (¬2). وعند الكمال يُرتقب الزوال، قال: وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد نزولها لم يُر ضاحكًا مستبشرًا، قال: وعاش بعدها سنتين (¬3)، وحج، فنزل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فعاش أحدًا وثمانين يومًا، فنزل: {يسَتَفتُونَكَ} [النساء: 176]، فعاش خمسين يومًا، فنزل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، فعاش خمسة وثلاثين يومًا، فنزل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]، فعاش أحدًا وعشرين يومًا، وتوفي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الاثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وفرغ من جهازه يوم الثلاثاء، ودفن ليلة الأربعاء في سنة إحدى عشرة من الهجرة الشريفة -صلى اللَّه عليه وسلم-، انتهى. (إلا يقول فيها)؛ أي: الصلاة التي يصليها: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك)، قال في "الفتح": فسبح متلبسًا بالحمد؛ لأنه يحتمل أن يكون المراد: فسبح بنفس الحمد، فلا يتمثل حتى يجمعهما، وهو الظاهر، انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) ورقة (373 / ب) مخطوط بإستنبول، تحت رقم (143)، وهو كتاب: "فتح الرحمن بتفسير الفرقان" للشيخ مجير الدين العليمي عبد الرحمن بن محمد العمري. ونعمل على تحقيقه ونشره، وهو في مراحله الأخيرة الآن، نسأل اللَّه التوفيق والإعانة والسَّداد. (¬2) رواه البخاري (4685)، كتاب: التفسير، باب: قول: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2]. (¬3) انظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (4/ 319). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 300).

(اللهم اغفر لي) امتثالًا لقوله: {وَاستَغفِرهُ} [النصر: 3]. (وفي لفظ)، وفي نسخة: وفي رواية؛ أي: عندهما: (كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده)، قال في "الفتح": اختار -صلى اللَّه عليه وسلم- الصلاة لهذا القول؛ لأن كمالها أفضل من غيرها، قال: وليس في الحديث أنه لم يكن يقول ذلك خارج الصلاة أيضًا، بل في بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها (¬1)، وفي هذه الرواية بيان المحل الذي كان يقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه من الصلاة، وهو الركوع والسجود (¬2). وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ من هذا الحديث: إباحة الدعاء في الركوع، وإباحة التسبيح في السجود، ولا يعارضه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا فيه من الدعاء" (¬3)، قال: ويمكن أن يحمل حديث الباب على الجواز، وغيره على الأولوية، ويحتمل أن يكون أمر في السجود بتكثير الدعاء؛ لإشارة قوله: "فاجتهدوا"، والذي وقع في الركوع من قوله: "اللهم اغفر لي" ليس كثيرًا، فلا يعارض ما أمر به في السجود، انتهى (¬4). واعترضه الفاكهي: بأن قول عائشة -رضي اللَّه عنها-: كان يكثر أن يقول، صريح في كون ذلك وقع منه كثيرًا؛ هكذا نقله ابن الملقن في "شرحه". ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (484/ 218) عنده. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 299). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 80).

وتعجب منه في "الفتح": بأن ابن دقيق العيد أراد بنفي الكثرة: عدمَ الزيادة على قوله: "اللهم اغفر لي" في الركوع الواحد؛ فهو قليل بالنسبة إلى السجود المأمور به بالاجتهاد في الدعاء المشعر بتكثيره، ما لم يرد أنه كان يقول ذلك في بعض الصلاة دون بعض، حتى يعترض عليه بقول عائشة -رضي اللَّه عنها-: كان يكثر (¬1). تنبيه: الحديث الذي أشار إليه ابن دقيق العيد: "أما الركوع ... " إلى آخره، أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وفيه بعد قوله: "فاجتهدوا فيه في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم" (¬2)، وقمن: بفتح القاف، والميم، وقد تكسر - معناه: حقيق (¬3). وجاء الأمر بالإكثار من الدعاء في السجود، وهو أيضًا عند مسلم، وأبي داود، والنسائي، من حديث أبي هريرة، بلفظ: "أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء" (¬4). قال في "الفتح": والأمر بالإكثار في الدعاء، يشمل الحث على تكثير الطلب لكل حاجة؛ كما جاء في حديث أنس: "ليسأل أحدُكم حاجته ربه ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 300). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم. ورواه أبو داود (876)، كتاب: الصلاة، باب: في الدعاء في الركوع والسجود، والنسائي (1045)، كتاب: التطبيق، باب: تعظيم الرب في الركوع، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 111). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم. ورواه أبو داود (875)، كتاب: الصلاة، باب: في الدعاء في الركوع والسجود، والنسائي (1137)، كتاب: التطبيق، باب: أقرب ما يكون العبد من اللَّه -عز وجل-.

كلَّها، حتى شسع نعله" أخرجه الترمذي (¬1)، والمراد: التكرار للسؤال الواحد، والاستجابة تشمل استجابة الدعاء بإعطاء سؤله، واستجابة المثني بتعظيم ثوابه (¬2). وفي "الفتاوى المصرية" لشيخ الإسلام ابن تيمية: قد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا؛ أما الركوع، فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا فيه في الدعاء، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم" (¬3). قال: وقد اتفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود؛ تشريفًا للقرآن، وتعظيمًا له ألا يقرأ في حال الخضوع (¬4). وقال في موضع آخر منها: قد تنازع العلماء في الدعاء في الركوع والسجود؛ فقيل: يكره فيهما؛ كقول أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، وقيل: يكره في الركوع دون السجود؛ كقول مالك، وقيل: لا بأس به في الركوع والسجود؛ كقول الشافعي، والقول الآخر في مذهب الإمام أحمد. قال: وقد ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في "الصحيح": أنه كان يدعو في ركوعه وسجوده (¬5)، لكن عامة ذلك كان في النافلة (¬6)، انتهى. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3536)، كتاب: الدعوات، باب: ليسأل الحاجة مهما صغرت، وقال: حديث غريب. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 300). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 234). (¬5) كما تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬6) لم أقف عليه في "الفتاوى المصرية".

(سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) هذا مقول "يقول"، فهو في محل نصب على أنه مفعول، زاد في رواية: "يتأول القرآن" (¬1)؛ أي: يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال (¬2). وقد أخرجه ابن مردويه، من طريق أخرى، عن مسروق، عن عائشة - رضي اللَّه عنها-، فزاد فيه: "علامة في أمتي، أمرني ربي إذا رأيتها أكثر من قول: سبحان اللَّه وبحمده، وأستغفر اللَّه وأتوب إليه، فقد رأيت: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فتح مكة {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] " (¬3). قال الإمام ابن القيم في "الهدي": كأنه أخذه من قوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ}؛ لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتيم الأمور، فيقول إذا سلم من الصلاة: "أستغفر اللَّه، ثلاثًا" (¬4)، وإذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" (¬5)، وورد الأمر بالاستغفار عند انتهاء المناسك: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬6) الآية [البقرة: 199]. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (784، 4684)، وعند مسلم (484/ 217). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 734). (¬3) انظر: المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) رواه مسلم (591)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، عن ثوبان -رضي اللَّه عنه-. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) لم أقف عليه في "زاد المعاد"، وقد نقله الشارح -رحمه اللَّه- من "الفتح" (8/ 734). وقد ذكر ابن القيم -رحمه اللَّه- نحوه في "مدارج السالكين" (1/ 176).

قال في "الفتح": ويؤخذ أيضًا من قوله تعالى-: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]، فقد كان يقول عند انقضاء الوضوء: "اللهم اجعلني من التوابين" (¬1)، انتهى (¬2). * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 734).

باب الوتر

باب الوتر قال في "النهاية": الوتر -تكسر واوه، وتفتح-: الفرد (¬1). زاد في "القاموس": أو ما لم يشفع من العدد (¬2). وذكر الحافظ في هذا الباب ثلاثة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 146). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 631)، (مادة: وتر).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: سَأَلَ رَجُل النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: مَا تَرَى فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: "مَثْنَى مَثْنَى، فَإذَا خَشِيَ الصُّبْحَ، صَلَّى وَاحِدَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى"، وَإنَّه كَانَ يَقُولُ: "اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (460)، واللفظ له، و (461)، كتاب: المساجد، باب: الحلق والجلوس في المسجد، و (946، 948)، كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر، و (950)، باب: ساعات الوتر، و (1086)، كتاب: التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكم كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي من الليل، ومسلم (749/ 145 - 148، 156 - 159)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، وأبو داود (1326)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة الليل مثنى مثنى، و (1421)، باب: كم الوتر، و (1436، 1438)، باب: في وقت الوتر، والنسائي (1667 - 1674)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: كيف صلاة الليل، و (1689 - 1691)، باب: كم الوتر، و (1692 - 1695)، باب: كيف الوتر بواحدة، والترمذي (437)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن صلاة الليل مثنى مثنى، و (461)، ما جاء في الوتر بركعة، وابن ماجه (1174 - 1175)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوتر بركعة، و (1318 - 1320)، باب: ما جاء في صلاة الليل ركعتين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 287)، و"الاستذكار" =

(عن) أبي عبد الرحمن (عبد اللَّه بن) أمير المؤمنين (عمر) بن الخطاب (-رضي اللَّه عنهما-، قال) ابن عمر: (سأل رجل) في "معجم الطبراني": أن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- هو السائل (¬1)، لكن يعكر عليه ما في "صحيح مسلم"، عن ابن عمر: أن رجلًا سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنا بينه وبين السائل (¬2)، وفي أبي داود: أن رجلًا من أهل البادية قال: يا رسول اللَّه!، الحديث (¬3). (النبيَّ) بالنصب مفعول سأل (-صلى اللَّه عليه وسلم- وهو على المنبر-) يخطب، فقال: (ما ترى في صلاة الليل؟)، وفي لفظ: قال: يا رسول اللَّه! كيف صلاة الليل؟ (¬4) أي: عددها، (قال: مثنى مثنى) يسلم من كل ركعتين، ومثنى: في محل رفع خبر مبتدؤه هو قوله: "صلاة الليل"، والتكرير للتأكيد؛ لأن الأول مكرر معنى، فإن معناه: اثنين اثنين، ولذلك منع من الصرف. ¬

_ = لابن عبد البر (2/ 92)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 226)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 100)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 380)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 20)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 83)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 632)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 191)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 122)، و"طرح التثريب" للعراقي (3/ 73)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 478)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 2)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 7)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 38). (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الصغير" (286). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (749/ 148). (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (1421). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (461، 1086)، وعند مسلم برقم (749/ 147، 148).

قال الزمخشري: وإنما لم ينصرف؛ لتكرار العدل فيه، وزعم سيبويه: أن عدم صرفه للعدل والصفة، وتعقبه في "الكشاف": بأن الوصفية لا يعرج عليها؛ لأنها لو كانت مؤترة في المنع من الصرف، لقلت: مررت بنسوة أربع -مفتوحًا- فلما صرفه، علم أنها ليست بمؤثرة، والوصفية ليست بأصل؛ لأن الواضع لم يضعها لتقع وصفًا، بل عرض لها ذلك، نحو: مررت بحية ذراع، ورجل أسد؛ فالذراع والأسد: ليسا بصفتين للحية والرجل حقيقة (¬1). (فإذا خشي) المصلي (الصبح)، وفي لفظ: "فإذا خفت الصبح" (¬2)؛ أي: دخولَ وقته (صلى واحدة)، وفي رواية: "فأوترْ بواحدة" (¬3)؛ أي: ركعة مفردة، (فأوترت له) تلك الركعة (ما صلى) قبلها. وفيه: حجة لمن جوز الإيتار بواحدة؛ كالإمام أحمد، والشافعي، ومالك في رواية عنه، وهو مذهب الجمهور. قال في "الفروع": ولا يكره الوتر بواحدة، وفاقًا للشافعي ومالك في رواية، وعن الإمام أحمد رواية ثانية: يكره الاقتصار على ركعة، وقيل: بلا عذر. وفي "الفصول": إن أوتر بأكثر من ثلاث، فهل يسلم من كل ركعتين كسائر الصلوات؟ قال: وهذا أصح، أو يجلس عقب الشفع ويتشهد، ثم يجلس عقب الوتر ويسلم؟ فيه وجهان: معتمد المذهب: الأول، وأدنى ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" للزمخشري (5/ 136). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1086)، ومسلم برقم (749/ 147). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (461، 1086)، ومسلم برقم (749/ 147، 159).

كماله: ثلاث بتسليمتين، وجاز بتسليمة، وقيل: ما لم يجلس عقب ثانية، واختار الشيخ: يخير بين فصل ووصل. وليس الوتر كالمغرب حتمًا؛ خلافًا لأبي حنيفة، ولا أنه ركعة، وقبله شفع لا حد له؛ خلافًا لمالك، بل أقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة؛ وفاقًا للشافعي. وذكر بعض الشافعية: أن الشافعية قالوا: لم يقل أحد من العلماء: إن الركعة الواحدة لا يصح الإيتار بها؛ إلا أبو حنيفة والثوري، ومن تابعهما. وتعجب بعض الحنفية من هذا الشافعي: كيف ينقل هذا النقل الخطأ، ولا يرده مع علمه بخطئه؟! قال الحنفي: وذكرنا عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: أنه يوتر بثلاث، ولا تجزئه الركعة الواحدة؛ كذا قال. قال الإمام ابن مفلح في "فروعه": ولم أجد في كلام عن أحد: أن الركعة لا تصح ولا تجزىء، بل ولا يصح هذا عن صحابي ولا تابعي، وغايته: كراهة الاقتصار على الركعة -إن صح-، والعجب [ممن] حكى: أن الحسن البصري حكى إجماع المسلمين على الثلاث. وفي "جوامع الفقه" للحنفية: لو ترك القعدة الأولى في الوتر جاز. ونقل النووي عن أبي حنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة، ولا تكون الركعة الواحدة صلاة قط، والأحاديث الصحيحة ترد عليه، انتهى (¬1). (وأنه) -صلى اللَّه عليه وسلم- (كان يقول: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا)، وهذا الأمر محمول على الاستحباب؛ كما أن الأمر بأصل الوتر كذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 480 - 481).

والحاصل: أن الوتر اختلف فيه في أشياء، منها: في وجوبه وعدمه: فمعتمد المذهب؛ وفاقًا لمالك والشافعي: أنه سنة. وقال أبو حنيفة: هو واجب، وخالفه صاحباه؛ فوافقا الجمهور على أنه سنة. لنا على عدم وجوبه أحاديث: منها: حديث علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أهل القرآن! أوتروا؛ فإن اللَّه يحب الوتر" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، والنسائي، وابن خزيمة في "صحيحه"، وأبو يعلى الموصلي (¬1)، والطبراني، وغيره (¬2). وروى أبو داود، وابن ماجه، من حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، نحوه، وقال فيه: فقال أعرابي: ما تقول؟ قال: "ليس لك، ولا لأصحابك" (¬3). وفي حديث علي: أنه قال: الوتر ليس بحتم كهيئة الصلاة، ولكنه سنة ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 452). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 110)، وأبو داود (1416)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب الوتر، والترمذي (453)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن الوتر ليس بحتم، وابن ماجه (1169)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوتر، والنسائي (1675)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: الأمر بالوتر، وابن خزيمة في "صحيحه" (1067)، وقد رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" (618)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (1760)، عن علي -رضي اللَّه عنه- موقوفًا بلفظ: "الوتر ليس بحتم، ولكنه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬3) رواه أبو داود (1417)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب الوتر، وابن ماجه (1170)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوتر.

سنها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهكذا رواه من قدمنا ذكرهم من أصحاب السنن، وغيرهم (¬1). ومنها: حديث عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه-، وفيه: أن ابن محيريز القرشي أخبره: أن المخدجي -رجل من بني كنانة - أخبره: أن رجلًا من الأنصار بالشام يكنى: أبا محمد أخبره: أن الوتر واجب، فذكر المخدجي: أنه راح إلى عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه-، فذكر له: أن أبا محمد يقول -صلى اللَّه عليه وسلم-: الوتر واجب، فقال: كذب أبو محمد، سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "خمس صلوات كتبهن اللَّه تعالى على عباده، من أتى بهن، كان له عند اللَّه تعالى عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن، فليس له عند اللَّه عهد؛ إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له". قال الخطابي: أراد بقوله: "كذب": أخطأ في الفتوى؛ لأن الكذب إنما يكون في الإخبار، ولم يخبر عن غيره، وأبو محمد صحابي اسمه: مسعود بن زيد بن سبيع (¬2). وروى هذا الحديث -أيضًا-: أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والروياني، والطبراني، وأبو حاتم البستي، وقال: المخدجي هو أبو رفيع (¬3)، ذكره في ¬

_ (¬1) رواه النسائي (1676)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: الأمر بالوتر، والترمذي (454)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن الوتر ليس بحتم. (¬2) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 302). (¬3) رواه أبو داود (1420)، كتاب: الصلاة، باب: فيمن لم يوتر، والنسائي (461)، كتاب: الصلاة، باب: المحافظة على الصلوات الخمس، وابن ماجه (1401)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فرض الصلوات الخمس والمحافظة عليها، والطبراني في "المعجم الأوسط" (4658)، وابن حبان في "صحيحه" (1732).

كتاب "الثقات" (¬1)، وقيل: إن المخدجي رفيع. ومنها: ما رواه الإمام أحمد، والشيخان، من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أوتر على البعير" (¬2). وفي "الصحيحين"، وغيرهما، عن سعيد بن يسار، قال: كنت مع ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- في سفر، فتخلفت عنه، فقال: أين كنت؟ فقلت: أوترت، فقال: أليس لك في رسول اللَّه أسوة! رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوتر على راحلته (¬3). وروى الإمام أحمد، عن ابن عباس، مرفوعًا: "ثلاث هن عليَّ فرائض، وهنَّ لكم تطوع: الوتر، والنحر، وصلاة الضحى" (¬4)، وروى عنه -أيضًا-: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أمرت بركعتي الضحى، والوتر، ولم يكتب" (¬5). ومثله من حديث أنس رواه ابن شاهين، ولفظه: "أمرت بالضحى، والوتر، ولم يفرض علي" (¬6)، وروى ابن شاهين -أيضًا-، من حديث ابن ¬

_ (¬1) انظر: "الثقات" لابن حبان (5/ 570). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 7)، والبخاري (954)، كتاب: الوتر، باب: الوتر على الدابة، ومسلم (700)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت، وهذا لفظ الإمام أحمد. (¬3) تقدم تخريجه في الحديث السابق. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 231)، والدارقطني في "سننه" (2/ 21)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 468). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 232). (¬6) رواه ابن شاهين في "ناسخ الحديث ومنسوخه" (202)، ومن طريقه: ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 450).

عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاث عليَّ فريضة، وهنَّ لكم تطوع: الوتر، وركعتا الفجر، وركعتا الضحى" (¬1). وأما احتجاجهم على الوجوب؛ فبظواهر أحاديث صحيحة، لكن دلالتها على الوجوب غير صريحة، أو بأحاديث دلالتها صريحة لكنها غير صحيحة: منها: حديث: "الوتر حق" رواه الإمام أحمد "فمن لم يوتر، فليس منا"، رواه الإمام أحمد من حديث عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه، مرفوعًا (¬2)، ورواه من حديث أبي هريرة، مرفوعًا، بلفظ: "من لم يوتر، فليس منا" (¬3). ورواه الدارقطني من حديث أبي أيوب -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "الوتر حق واجب؛ فمن شاء أن يوتر بثلاث، فليوتر، ومن شاء أن يوتر بواحدة، فليوتر بواحدة" (¬4). وقد روى حديث عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه: أبو داود، والحاكم، وصححه (¬5)، وفي إسناده: عبيد اللَّه العتكي، قال البخاري: عنده مناكير، وقال النسائي: ضعيف، ووثقه يحيى في رواية (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن شاهين في "ناسخ الحديث ومنسوخه" (201)، ومن طريقه: ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 449). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 357). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 443)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (97)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (6861)، وغيرهم. (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 22). وستأتى تتمة تخريجه قريبًا. (¬5) رواه أبو داود (1419)، كتاب: الصلاة، باب: فيمن لم يوتر، والحاكم في "المستدرك" (1146)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 469). (¬6) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (2/ 469)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 505).

وفي حديث أبي هريرة: الخليل بن مرة؛ ضعفه يحيى، والنسائي، وقال البخاري: منكر الحديث (¬1). وفي حديث أبي أيوب: محمد بن حسان، وقد ضعفوه، قال الدارقطني: قوله: "واجب" ليس بمحفوظ، لا أعلم أحدًا تابع محمد بن حسان عليه، إنما يروى: "الوتر حق" (¬2). قال ابن الجوزي في "التعليق": قال أصحابنا: لو ثبت لفظة "حق"، فمعناها: أنه مشروع في السنة، وقوله: "ليس منا" إذا صح، المراد به: لم يتخلق بأخلاقنا (¬3). وقد روى حديث أبي أيوب: أبو داود، فقال فيه: "حق على كل مسلم"، ويتأول أنه حق في باب الاستحباب، ولفظه قال: "الوتر حق؛ فمن أحب أن يوتر بخمس، فليوتر، ومن أحب أن يوتر بواحدة، فليوتر" (¬4)، وفي لفظ: "فمن شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة"، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، وأبو حاتم البستي، والحاكم، وقال: على شرطهما (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 505). (¬2) انظر: "سنن الدارقطني" (2/ 22). (¬3) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 454). (¬4) رواه أبو داود (1422)، كتاب: الصلاة، باب: كم الوتر. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 418)، والنسائي (1710)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ذكر الاختلاف على الزهري في حديث أبي أيوب في الوتر، وابن ماجه (1190)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع، وابن حبان في "صحيحه" (2410)، والحاكم في "المستدرك" (1130).

وقال الحافظ ابن عبد الهادي، في حديث أبي أيوب: قوله: محمد بن حسان ضعفوه، ليس بصحيح؛ فلا نعلم أحدًا ضعفه، بل قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي، وهو صدوق ثقة (¬1)، واللَّه الموفق. ومنها: ما رواه الدارقطني، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: مكثنا زمانًا لا نزيد على الصلوات الخمس، فأمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فاجتمعنا، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: "إن اللَّه قد زادكم صلاة"، فأمرنا بالوتر (¬2). ورواه الإمام أحمد عنه، ولفظه: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه قد زادكم صلاة، وهي الوتر" (¬3). وقد روي من حديث ابن عباس، بلفظ: "إن اللَّه أمدكم بصلاة، وهي الوتر" (¬4). ورواه الإمام أحمد، من حديث خارجة بن حذافة، قال: خرج علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات غداة، فقال: "لقد أمدكم اللَّه بصلاة، هي خير لكم من ¬

_ (¬1) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 238)، وانظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 507). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 31)، ومن طريقه: ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 448). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 180)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (226)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 227). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 30)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11652).

حمر النعم"، قلنا: وما هي يا رسول اللَّه؟ قال: "الوتر، فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر" (¬1). والجواب: أما حديث عمرو بن شعيسب، عن أبيه، عن جده: ففيه محمد بن عبيد اللَّه العزرمي، قال الإمام أحمد: ترك الناس حديثه، وفي طريقه الثانية: الحجاج بن أرطاة، قال الإمام -أحمد أيضًا-: لا يحتج به. وأما حديث ابن عباس: ففيه النضر، قال الإمام أحمد: ليس بشيء، وقال يحيى: لا يحل لأحد أن يروي عنه. وأما حديث خارجة: ففيه ابن إسحاق، والكلام فيه مشهور، وقد رواه بالعنعنة، عن يزيد بن أبي حبيب، وفيه أيضًا عبد اللَّه بن راشد، وقد ضعفه الدارقطني، وقال البخاري: لا يعرف إلا بحديث الوتر (¬2). قال ابن عبد الهادي الحافظ في "تنقيح التحقيق": حديث خارجة رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد، ورواه الحاكم وصححه، وقال: تركاه لتفرد التابعي، عن الصحابي، وأما عبد اللَّه بن راشد، فرواه عن عبد اللَّه بن أبي مرة، ولا يعرف له منه سماع، وليس هو الذي ضعفه الدارقطني؛ فإن ذاك عبد اللَّه بن راشد البصري مولى عثمان بن عفان الراوي عن أبي سعيد الخدري، وأما راوي حديث خارجة، فهو الزوفي أبو الضحاك المصري. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 7)، من حديث أبي بصرة الغفاري -رضي اللَّه عنه-، وأبو داود (1418)، كتاب: الصلاة، باب: استحباب الوتر، والترمذي (452)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فضل الوتر، وابن ماجه (1168)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوتر، والحاكم في "المستدرك" (1148). (¬2) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 454).

قال أبو إسحاق: الزوفي من حِمْير، ولا يعرف سماعه من ابن أبي مرة، وذكره ابن حبان في "الثقات" (¬1). ومنها: حديث أبي بصرة، رواه الإمام أحمد، عن أبي تميم الجيشاني قال: سمعت عمرو بن العاص يقول: أخبرني رجل من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه -عز وجل- زادكم صلاة، فصلوها فيما بين صلاة العشاء، إلى صلاة الصبح، الوتر الوتر"، ألا وإنه أبو بصرة الغفاري، قال أبو تميم: فكنت أنا وأبو ذر قاعدين، فأخذ بيدي أبو ذر، فانطلقنا إلى أبي بصرة، فقال أبو ذر: يا أبا بصرة! أنت سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إن اللَّه زادكم صلاة، فصلوها ما بين صلاة العشاء، إلى صلاة الصبح، الوتر الوتر"؟ قال: نعم، فال: أنت سمعته؟ قال: نعم، قال: أنت سمعته؟ قال: نعم (¬2). وروى الإمام بن الإمام عبدُ اللَّه بنُ الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي القاضي: أن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- قدم الشام، وأهل الشام لا يوترون، فقال لمعاوية: ما لي أرى أهل الشام لا يوترون؟! فقال معاوية: أواجب ذلك عليهم؟ قال: نعم، سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "زادني ربي -عز وجل- صلاة، وهي الوتر، وقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 507). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 397)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 430)، والطبراني في "المعجم الكبير" (2167)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (227). (¬3) رواه عبد اللَّه بن الإمام أحمد في "زوائد المسند" (5/ 242).

وروى أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، عن عمه ابن وهب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "إن اللَّه زادكم صلاة إلى صلاتكم، وهي الوتر" (¬1). والجواب: أما حديت أبي تميم: ففيه ابن لهيعة، والكلام فيه مشهور، على أنه روي من غير طريق ابن لهيعة، ثم إنه لا يدل على الوجوب. وأما حديث معاذ: فصرح فيه بالوجوب، ولكن فيه عبيد اللَّه بن زحر، قال يحيى: إنه ليس بشيء، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات، وفيه عبد الرحمن بن رافع، قال البخاري: في حديثه مناكير. قال الحافظ ابن عبد الهادي: حديث معاذ هذا لا يثبت؛ لأن فيه ضعفًا، وانقطاعًا؛ فإن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية لم يدرك معاذًا (¬2). وأما حديث ابن عمر: فقال ابن حبان: لا يخفى على من كتب حديث ابن وهب: أن هذا الحديث موضوع، وأحمد بن عبد الرحمن كان يأتي عن عمه بما لا أصل له (¬3). وقد روى البيهقي بسنده إلى أبي نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه -عز وجل- زادكم صلاة إلى صلاتكم، هي خير من حمر النعم، ألا وهي الركعتان قبل صلاة الفجر". ¬

_ (¬1) انظر الكلام عليه فيما سيأتي. (¬2) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 508). (¬3) انظر: "المجروحين" لابن حبان (1/ 149).

قال العباس بن الوليد: قال لي يحيى بن معين: هذا حديث غريب، وفيه معاوية بن سلام محدث أهل الشام، وهو صدوق الحديث، ومن لم يكتب حديثه مسنده ومنقطعه فليس بصاحب حديث، وفيه عمر بن محمد بن بجير، قال ابن خزيمة: لو أمكنني أن أرحل إلى ابن بجير، لرحلت إليه هذا الحديث (¬1). قال الحافظ ابن عبد الهادي: وقد روي في ركعتي الفجر حديث صحيح؛ كما روي في الوتر، انتهى (¬2). يعني: فيلزم من قال بوجوب الوتر، القول بوجوب ركعتي الفجر، واللَّه أعلم. ومن الأشياء التي اختلف في الوتر فيها: عدده: وقدمنا أن معتمد مذهبنا كالشافعية: أن أكثره إحدى عشرة ركعة، وقيل: أكثره ثلاث عشرة ركعة. وعند أبي حنيفة: هو ثلاث ركعات كالمغرب، وعند مالك: الوتر ركعة، وما قبله شفع لا حد له (¬3). ومنها: وقته: فمذهبنا، كالمالكية، والشافعية: من بعد صلاة العشاء الآخرة إلى وقت الفجر، وعن الإمام أحمد رواية أخرى: إلى صلاة الفجر، وفاقًا لمالك. ومذهب أبي حنيفة: وقته من غيبوبة الشفق، إلا أنه واجب عنده، فيقدم العشاء عنده للترتيب؛ كصلاة الوقت، والفائتة، وقال صاحباه كقولنا. قال الإمام أحمد، فيمن يفجؤه الصبح، ولم يكن صلى بعد العتمة ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 469). (¬2) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 508). (¬3) وانظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 481).

شيئًا، ولا أوتر، قال: فيوتر بواحدة، قيل له: ولا يصلي قبلها شيئًا؟ قال: لا. قال القاضي: فبين جواز الوتر بركعة، ليس قبلها صلاة، والأفضل تأخير فعل الوتر لآخر وقته إن وثق من نفسه أن يستيقظ؛ إما بنفسه أو بمن يوقظه، لا مطلقًا؛ وفاقًا للشافعي (¬1). ومنها: هل يختص بقراءة، أو لا؟ فمعتمد المذهب: الأولى أن يقرأ في الأولى بـ "سبح"، وفي الثانية بـ "الكافرون"؛ وفاقًا لمالك في رواية، وفي الثالثة بـ "الإخلاص"، وعنه: والمعوذتين؛ وفاقًا لمالك والشافعي. ومذهب أبي حنيفة: لا يتعين في الركعات الثلاث سورة (¬2). لنا: ما رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم؛ عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو اللَّه أحد (¬3). وروى الإمام أحمد: نحوه، من حديث سعيد بن عبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (1/ 481 - 482). (¬2) المرجع السابق، (1/ 482). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 299)، والترمذي (462)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيما يقرأ به في الوتر، والنسائي (1702)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ذكر الاختلاف على أبي إسحاق في حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس في الوتر، وابن ماجه (1172)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيما يقرأ في الوتر.

أبزى، عن أبيه، وزاد: وإذا أراد أن ينصرف من الوتر، قال: "سبحان الملك القدوس"، ثلاث مرات، يرفع صوته في الثالثة، ورواه النسائي من عدة طرق (¬1). وأما زيادة المعوذتين في الثالثة: فرواه الدارقطني، من حديث عائشة، مرفوعًا، ومن حديث محمد بن سلمة (¬2)، قال ابن الجوزي: والطريقان لا يصحان: ففي الطريق الأولى يحيى بن أيوب، قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، وفي الثاني: محمد بن سلمة ضعيف، وقد أنكر الإمام أحمد، ويحيى بن معين: زيادة المعوذتين (¬3). قال الحافظ ابن عبد الهادي: يحيى بن أيوب من رجال "الصحيحين"، وفد روى حديثه هذا الحاكم في "المستدرك"، وقال: على شرطهما (¬4). وسئل يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فقال: لا أعرفه، وقال الإمام أحمد: كان يحيى بن أيوب يحدث من حفظه، وكان لا بأس به، وكان كثير الوهم في حفظه، فذكرت له حديثه هذا، عن عمرة، عن عائشة، فقال: من يحتمل هذا؟ وقال مرة: كم روى هذا عن عائشة من الناس! ليس فيه هذا؛ يعني: زيادة المعوذتين. وقال الحافظ ابن عبد الهادي: ومحمد بن سلمة الحراني صدقه الإمام ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 406)، والنسائي (1732 - 1736)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ذكر الاختلاف على شعبة فيه، و (1737 - 1739)، باب: ذكر الاختلاف على مالك بن مِغْوَل فيه، و (1740)، باب: ذكر الاختلاف على شعبة عن قتادة في هذا الحديث. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 24، 34). (¬3) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 458). (¬4) رواه الحاكم في "المستدرك" (1143).

أحمد، وغيره، وروى له مسلم في "صحيحه"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وقال البخاري في حديث الوتر، عن عائشة: عبد العزيز بن جريج، عن عائشة لا يتابع في حديثه (¬1). والحاصل: أن أئمة الحفاظ أنكروا زيادة المعوذتين، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 516).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ منْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَأَوْسَطِهِ، وَآخِره، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ (¬1). * * * (عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (-رضي اللَّه عنها-، قالت: من كل ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (951)، كتاب: الوتر، باب: ساعات الوتر، ومسلم (745/ 137)، واللفظ له، و (745/ 136، 138)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الليل، وأبو داود (1435)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت الوتر، والنسائي (1681)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: وقت الوتر، والترمذي (456)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوتر من أول الليل وآخره، وابن ماجه (1185)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوتر آخر الليل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 244)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 90)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 377)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 24)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 86)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 636)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 230)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 487)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 9)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 13)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 49).

الليل قد أوتر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-)، ثم بينت المراد من ذلك، فقالت: (من أول الليل) بعد صلاة العشاء وسنتها، (و) من (أوسطه)؛ أي: الليل، فكان ربما أخر الوتر إلى وسط الليل، فصلاه بعد صلاة الليل، (و) من (آخره)؛ أي: آخر الليل؛ ليكون آخر صلاته من الليل، (فانتهى وتره) -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ أي: تأخر فعله (إلى) وقت (السحر)، وهو آخر الليل. قال في "القاموس": السحر: قبيل الصبح (¬1). زاد أبو داود، والترمذي، بعد قوله: "إلى السحر": "حين مات" (¬2). قلت: هكذا في مسلم، ولم يخرجه البخاري بهذا اللفظ، وإنما الذي في البخاري عنها: كل الليل قد أوتر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فانتهى وتره إلى آخر الليل، فتنبه له. قال في "الإقناع": والأفضل فعلُه آخر الليل لمن وثق من قيامه فيه، وإلا، أوتر قبل أن يرقد -كما تقدم-، ويقضيه مع شفعه إذا فات وقته (¬3). ولا منافاة بين هذا الحديث، ووصية أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: بأن يوتر قبل النوم (¬4)؛ لأن حديث أبي هريرة لإرادة الاحتياط، وهذا لمن وثق من نفسه بالقيام، وعلم منها القوة على ذلك. قال بعض شراح الحديث: يحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 518)، (مادة: سحر). (¬2) تقدم تخريجه عندهما قريبًا. (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 220). (¬4) رواه البخاري (1124)، كتاب: التطوع، باب: صلاة الضحى في الحضر، ومسلم (721)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى.

باختلاف الأحوال؛ فحيث أوتر في أوله بعد صلاة العشاء, فلعله كان وَجِعًا، وحيث أوتر في وسطه، فلعله كان مسافرًا، وأما وتره في آخره، فكأنه كان غالب أحواله. وحكى الماوردي: أن السحر: السدس الأخير من الليل، وقيل: أوله الفجر الأول (¬1). والحكمة أنه جعل الوتر في آخر صلاة الليل: أن أول صلاة الليل المغرب، وهي وتر، فناسب أن يكون آخرها وترًا (¬2). والحاصل: أن وقت الوتر ممتد من بعد صلاة العشاء الآخرة، زاد بعضهم: وسنتها، إلى قبيل الفجر، فمن وثق من نفسه القيام من الليل، فالأفضل في حقه تأخيره إلى وقت قيامه؛ ليوتر به صلاته، وإلا، فالأفضل تقديمه، بأن يوتر قبل أن ينام، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 487). (¬2) انظر: "فيض القدير" للمناوي (1/ 160).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: كانَ رَسولُ اللهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكعَةً، يُوترُ مِنْ ذَلِكَ بخَمْسِ، لَا يَجْلِسُ في شَيْءٍ إِلَّا في آخِرِهَا (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (737/ 123)، واللفظ له، و (737/ 124)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل، وعدد ركعات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الليل، وأبو داود (1338)، كتاب: الصلاة، باب: في صلاة الليل، و (1359، 1360)، والترمذي (495)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوتر بخمس، وابن ماجه (1359)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في كم يصلي بالليل. والحديث من أفراد مسلم، كما نبه عليه الحافظ عبد الحق الإشبيلي، كما سيأتي للشارح؛ إذ لم يخرج البخاري هذا اللفظ، وإنما رواه (1089)، كتاب: التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، من طريق القاسم بن محمد، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر. نعم، جعله الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (4/ 38) من متفقي الشيخين، لكن الأول أولى، كما ذكر الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 123). * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 102)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 20)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 87)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 638)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 20) , و"عمدة القاري" للعيني (7/ 188)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 13)، و"نيل =

(عن عائشة) أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق (-رضي اللَّه عنها-) , وعن أبيها، (قالت: كان) تقدم غير مرة أن هذه العبارة تفيد الكثرة، أو المداومة (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة)، منها: ركعتان خفيفتان، وهما اللتان كان يفتتح بهما صلاته من الليل، (يوتر من ذلك بخمس) ركعات يسردها سردًا، (لا يجلس في شيء) منها (إلا في آخرها). قال في "الفروع": وإن أوتر بخمس، سردهن، وكذا السبع، نصَّ عليه، وإن أوتر بتسع، تشهد بعد الثامنة، وسلم بعد التاسعة، قال: في "الخلاف" عن فعله -صلى اللَّه عليه وسلم-: قصدَ بيانَ الجواز، وإن كان الأفضل غيره، وقد نص الإمام أحمد على جواز هذا (¬1). تنبيهات: الأول: ظاهر صنيع الحافظ: أن هذا الحديث من متفقي الشيخين، وليس كذلك، بل هو من أفراد مسلم، كما نبه عليه الحافظ عبد الحق الإشبيلي (¬2)، ولم ينبه عليه ابن دقيق العيد، وكأن ذلك؛ لكون البخاري خرج ما بمعناه، واللَّه أعلم. الثاني: مقصود الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: أن يبين بمجموع ما ذكره؛ من كون صلاة الليل مثنى مثنى؛ ليس على إطلاقه، فإنه قد ثبت عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه سرد خمس ركعات سردًا، لم يجلس إلا في آخرها، وهذا أدل على الجواز من مفهوم الحصر، من قوله: "صلاة الليل مثنى مثنى" (¬3)؛ إذ ¬

_ = الأوطار" للشوكاني (3/ 44). (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 480). (¬2) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق الإشبيلي (1/ 488). (¬3) تقدم تخريجه.

المفهوم لا يعارض صريح الفعل الثابت. والحاصل من معتمد المذهب: أن الإنسان لو نوى ليلًا أربعًا، جاز، وله أن يسلم من اثنتين، ولو نوى اثنتين، اقتصر عليهما، فلو قام إلى ثالثة سهوًا، فكقيامه إلى ثالثة بفجر، وهذا يعني: أنه لو نوى أكثر من ثنتين ليلًا، وكذا نهارًا؛ صح، خلافًا للشافعية (¬1). [و] الأحاديث الصحيحة بالجواز صريحة، فحمل علماؤنا كل فعل على محله الذي فعله فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، واللَّه أعلم. الثالث: قول عائشة -رضي اللَّه عنها-: كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها: الوتر، وركعتا الفجر (¬2)، وفي لفظ عنها: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، بركعتي الفجر (¬3). وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنه سأل عائشة -رضي اللَّه عنها-، عن صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثماني ركعات، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع، قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة، من صلاة الصبح، وهذه في "الصحيحين"، إلا أن البخاري لم يذكر: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصلي بعد الوتر شيئًا، إلا ركعتي الفجر خاصة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 397). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1089). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (737/ 124). (¬4) رواه البخاري (1106)، كتاب: التهجد، باب: المداومة على ركعتي الفجر، ومسلم (738/ 126)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل، وعدد ركعات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الليل، واللفظ له.

وفي رواية لمسلم في هذا الحديث. تسع ركعات قائمًا، يوتر فيهن (¬1). وفيهما عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: كانت صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الليل عشر ركعات، ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة ركعة (¬2). وكذا في حديث أم سلمة -رضي اللَّه عنها-: أن صلاته ثلاث عشرة، منها الوتر، وركعتا الفجر (¬3). وقد جاء من عدة طرق: أن الوتر إحدى عشرة ركعة (¬4). قال في "الفتح": وظهر لي أن الحكمة فى الزيادة على الإحدى عشرة: أن التهجد والوتر مختص بصلاة الليل، وفرائض النهار: الظهر وهي أربع، والعصر وهي أربع، والمغرب وهي ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد، جملة وتفصيلًا، وأما مناسبة ثلاث عشرة، فتضم صلاة الصبح؛ لكونها نهارية إلى ما بعدها (¬5). قلت: وفيه تأمل: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (738/ 126)، (1/ 509 - 510)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل، وعدد ركعات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الليل. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1089)، وعند مسلم (738/ 128)، واللفظ لمسلم. (¬3) لعل الشارح يريد حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة، المتقدم تخريجه قريبًا، واللَّه أعلم. (¬4) رواه البخاري (949)، كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر، ومسلم (736)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل، وعدد ركعات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الليل، من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 21).

أولًا: لعدم اعتبار صلاة العشاء في شيء من الطرفين. وثانيًا: لأن صلاة المغرب ليلية، وصلاة الفجر نهارية؛ لحديث: "إذا أقبل الليل من هاهنا، فقد أفطر الصائم" (¬1). وثالثًا: لقول مسروق بن الأجدع: سألت عائشة -رضي اللَّه عنها- عن صلاة رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بالليل، فقالت: سبع، وتسع، وإحدى عشرة؛ سوى ركعتي الفجر تفرد به البخاري (¬2)، يعني: كل عدد تارة في أوقات مختلفة؛ بحسب اتساع الوقت وضيقه، أو عذر من مرض، أو غيره، أو كبر سنه. وفي "النسائي" عنها: أنه كان يصلي من الليل تسعًا، فلما أسن صلى سبعًا (¬3). وفي "الصحيحين"، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا، قالت عائشة: فقلت: يا رسول اللَّه! أتنام قبل أن توتر؟ فقال: "يا عائشة! إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي" (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (1088)، كتاب: التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) رواه النسائي (1709)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ذكر الاختلاف على حبيب بن أبي ثابت في حديث ابن عباس في الوتر، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 225). (¬4) رواه البخاري (1096)، كتاب: التهجد، باب: قيام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالليل في رمضان وغيره، ومسلم (738/ 125)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الليل.

الرابع: يسن قيام الليل، وافتتاحه بركعتين خفيفتين؛ لفعله وأمره -صلى اللَّه عليه وسلم-، وينوي القيام عند النوم؛ ليفوز بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من نام ونيته أن يقوم، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه" رواه أبو داود، والنسائي، وهو حسن، من حديث أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه- (¬1). واعلم: أن الصلاة بالليل من موجبات الجنة؛ كما دلت عليه الأحاديث، ودل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 15 - 19] فوصفهم: بالتيقظ بالليل، والاستغفار بالأسحار، وبالإنفاق من أموالهم. وفي "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" للحافظ ابن رجب: كان بعض السلف نائمًا، فأتاه آت في منامه، فقال له: قم فصل، أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل، هم خزانها، هم خزانها (¬2)؟ واللَّه الموفق. * * * ¬

_ (¬1) رواه النسائي (1784)، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: من كان له صلاة بالليل فغلبه عليها النوم، وابن ماجه (1344)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن نام عن حزبه من الليل، وغيرهما. ولم أره في "سنن أبي داود"، ولم يعزه إليه أحد من الأئمة؛ كالمنذري، وغيره، واللَّه أعلم. (¬2) رواه ابن أبي الدنيا في "التهجد وقيام الليل" (ص: 499)، وفي "المنامات" (ص: 141 - 142). وانظر: "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" (ص: 38).

باب بالذكر عقب الصلاة

باب بالذكر عقب الصلاة وهو ما كان بعد السلام، وهذا المراد بقوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40]. وذكر الحافظ في هذا الباب أربعة أحاديث. * * *

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بالذِّكرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ، كانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ: كنتُ أَعْلَمُ إذَا انصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ (¬1). وفي لفظ: مَا كنا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (805)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، ومسلم (583/ 122)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، وأبو داود (1003)، كتاب: الصلاة، باب: التكبير بعد الصلاة. (¬2) رواه البخاري (806)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، ومسلم (583/ 120 - 121)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، وأبو داود (1002)، كتاب: الصلاة، باب: التكبير بعد الصلاة، والنسائي (1335)، كتاب: الصلاة، باب: التكبير بعد تسليم الإمام. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 534)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 84)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 89)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 642)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 233)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 325)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 125).

(عن) حبر هذه الأمة (عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما-) قال: (إن رفع الصوت بالذكر) المشروع (حين ينصرف الناس)؛ أي: يسلمون (من) الصلاة (المكتوبة)؛ أي: المفروضة (كان) مشهورًا ومعروفًا (على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-)، ومثل هذا محكوم له بالرفع، خلافًا لمن شذ، ومنع ذلك، وقد اتفق الشيخان، والجمهور على: أنه يحكم له بالرفع (¬1). وفيه: دليل على جواز الجهر بالذكر عقب الصلاة. قال الطبري: فيه الإبانة عن صحة ما كان يفعله بعض الأمراء من التكبير عقب الصلاة (¬2). وتعقبه ابن بطال: بأنه لم يقف على ذلك عن أحد من السلف، إلا ما حكاه ابن حبيب في "الواضحة" (¬3): أنهم كانوا يستحبون التكبير في العساكر عقب الصبح والعشاء، تكبيرًا عاليًا ثلاثًا، قال: وهو قديم من شأن الناس، قال ابن بطال: وفي "العتبية" (¬4) عن مالك: أنَّ ذلك مُحْدَث، قال: وفي السياق إشعار أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، لم يكونوا يرفعون أصواتهم بالذكر في الوقت الذي قال فيه ابن عباس ما قال. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 325). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 89). (¬3) كتاب: "الواضحة في إعراب القرآن" لعبد الملك بين حبيب المالكي القرطبي، المتوفى سنة (239 هـ). انظر: "كشف الظنون" (2/ 1996). (¬4) "العُتُبيَّة" منسوبة إلى مصنفها، فقيه الأندلس محمد بن أحمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي القرطبي المتوفى (سنة 254 هـ)، وهو مسائل في مذهب الإمام مالك. انظر: "كشف الظنون" (2/ 1124). وقد اعتمد أهل الأندلس كتاب "العتبية"، وهجروا "الواضحة" وما سواها، وكتبوا عليها ما شاء اللَّه أن يكتبوا؛ قبل ابن رشد وأمثاله. انظر: "أبجد العلوم" (2/ 412).

قال في "الفتح": في التقييد بالصحابة نظر، بل لم يكن حينئذ من الصحابة إلا القليل (¬1). وقال النووي: حمل الشافعي هذا الحديث على: أنهم جهروا به وقتًا يسيرًا، لأجل تعليم صفة الذكر، لا أنهم داموا على الجهر به، قال: والمختار أن الإمام والمأموم يخفيان الذكر، إلا إن احتيج إلى التعليم (¬2). وفي "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية": كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يجهر بالذكر؛ كقوله: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له" إلخ؛ أحيانًا، قال: وأما الذكر بعد الانصراف، فكما قالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: هو مثل مسح المرآة بعد صقالها؛ فإن الصلاة نور، فهي تصقل القلب؛ كما تصقل المرآة، ثم الذكر بعد ذلك بمنزلة مسح المرآة (¬3). و (قال ابن عباس) -رضي اللَّه عنهما-: (كنت أعلم) فيه إطلاق العلم على الأمر المستند إلى الظن الغالب (إذا انصرفوا)؛ أي: أعلم انصرافهم (بذلك)؛ أي: برفع الصوت (إذا سمعته)، أي: الذكر، والمعنى: كنت أعلم بسماع الذكر انصرافَهم. (وفي لفظ) عند البخاري، وغيره: كنت أعرف انقضاء صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتكبير (¬4). ووقع في رواية الحميدي، عن سفيان، بصيغة الحصر، ولفظه: (ما كنا ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 326). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 84). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (22/ 495)، و"الفتاوى المصرية الكبرى" له أيضًا (1/ 201). (¬4) تقدم تخريجه برقم (806) عنده.

نعرف انقضاء) (¬1) أي: فراغ (صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) وانصرافه منها (إلا بالتكبير)، وكذا أخرجه مسلم، من حديث سفيان بن عيينة (¬2). واختلف في كون ابن عباس قال ذلك: فقال عياض: الظاهر أنه لم يكن يحضر الجماعة؛ لأنه كان صغيرًا، ممن لا يواظب على ذلك، ولا يلزم به، فكأنه يعرف انقضاء الصلاة بما ذكر (¬3). وقال غيره: يحتمل أن يكون حاضرًا في أواخر الصفوف، فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما كان يعرفه بالتكبير (¬4). قال ابن دقيق العيد: ويؤخذ منه: أنه لم يكن هناك مبلِّغ جهير الصوت، يسمع من بعد (¬5). وقوله في هذه الرواية: "بالتكبير"، أخص من الرواية الأولى: "بالذكر"؛ لأنه أعم من التكبير، ويحتمل أن تكون هذه مفسرة لتلك، فكأن المراد: رفع الصوت بالذكر؛ أي: بالتكبير، وكأنهم كانوا يبدؤون بالتكبير بعد الصلاة، قبل التسبيح والتحميد (¬6) -كما سننبه عليه في الحديث الثالث-. ¬

_ (¬1) رواه الحميدي في "مسنده" (480)، ومن طريقه: أبو نعيم في "المستخرج على صحيح مسلم" (2/ 183). (¬2) كما تقدم برقم (583/ 12) عنده. (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 535). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 326). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 89). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 326).

قال في "الإقناع": ويستحب الجهر بالتسبيح، والتحميد، والتكبير؛ عقب الصلاة، نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1). قلت: المنقول عنه، وذكره في "الفتاوى المصرية"، وغيرها: أنه يجهر به أحيانًا؛ بقصد التعليم (¬2). وفى "الفروع": وهل يستحب الجهو بذلك، لقول بعض السلف والخلف؟ وقاله شيخنا، أم لا؟ كما ذكر أبو الحسين بن بطال، وجماعة: أنه قول أهل المذاهب المتبوعة، وغيرهم؟ قال: ظاهر كلام أصحابنا مختلف، ويتوجه تخريج واحتمال: يجهر؛ لقصد التعليم فقط، ثم يتركه؛ وفاقًا للشافعي، وحمل الشافعي خبر ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- على هذا، انتهى (¬3). وقال الحافظ ابن رجب في "شرح البخاري": حكي عن أكثر العلماء: أن الأفضل الإسرار بالذكر؛ لعموم قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205]، ولقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن جهر بالذكر من أصحابه: "إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا" (¬4). قال: وحمل الشافعي حديث ابن عباس هذا على أنه جهر به وقتًا يسيرًا، حتى يعلمهم صفة الذكر، لا أنهم جهروا دائمًا، قال: فاختار الإمام ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 193). (¬2) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 465). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 399). (¬4) رواه البخاري (2830)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يكره من رفع الصوت في التكبير، ومسلم (2704)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر، عن أبى موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-.

والمأموم أن يذكروا اللَّه بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك، إلا أن يكون إمامًا يريد أن يُتعلَّم منه؛ فيجهر حتى يَعْلَمَ أنه قد تُعلِّم منه، ثم يُسِرُّ؛ وكذلك ذكر أصحابه. قال: وذكر بعض أصحابنا مثل ذلك -أيضًا-، ولهم وجه آخر: أنه يكره الجهر به مطلقًا. وقال القاضي أبو يعلى في "الجامع الكبير": ظاهر كلام أحمد: أنه يسن للإمام الجهر بالذكر والدعاء عقب الصلوات بحيث يُسمِعُ المأمومَ، ولا يزيد على ذلك. وذكر عن الإمام أحمد نصوصًا تدل على أنه كان يجهر ببعض الذكر، ويسر الدعاء، وهذا هو الأظهر، وأنه لا يختص ذلك بالإمام؛ فإن حديث ابن عباس هذا ظاهره يدل على جهر المأمومين -أيضًا-. قال: وأما الدعاء؛ فالسنة إخفاؤه، وفي "الصحيحين"، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-، في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]: أنها نزلت في الدعاء (¬1). وكذا روي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعن سعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة، وعروة، ومجاهد، وإبراهيم، وغيرهم. وقال الإمام أحمد: ينبغي أن يسر دعاءه، لهذه الآية، قال: وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء، وقال الحسن: رفع الصوت بالدعاء بدعة، انتهى كلام الحافظ ابن رجب (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5968)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء في الصلاة، ومسلم (447)، كتاب: الصلاة، باب: التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية بين الجهر والإسرار إذا خاف من الجهر مفسدة. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن رجب الحنبلي (5/ 235 - 239).

قلت: وفي "الفتاوى المصرية" لشيخ الإسلام ابن تيمية: سئل عن قوم يواظبون عقب صلاة الجماعة، يجهرون بالذكر بعد الفراغ من الصلوات الخمس، فهل يجب نهيهم عن الجهر بالذكر، على مذهب مالك، وغيره، أم لا؟ أجاب بما ملخصه: أما الذكر المشروع في أدبار الصلوات، الذي ثبت أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقوله، أو يعلمه المسلمين، مثل ما في الصحيح: "أنه كان يهل" (¬1)؛ أي: يجهر بقوله: "لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له" إلخ؛ فلا يكره، بل يستحب للإمام أن يستقبل المأمومين، كفعله -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويقول ما كان يقوله من الذكر. نعم، كره بعض السلف للإمام أن يقعد بعد الصلاة مستقبل القبلة، فظن بعض الناس أنهم كرهوا القعود مطلقًا، وقد جاءت السنة بالذكر بعد الصلاة، وبالدعاء أي: في آخرها، فظن بعض الناس أنه قد يتناول دعاء الإمام والمأمومين عقب الصلاة، قال: والصواب ما جاءت به السنة: الجهر بالذكر عقب الصلاة، وذكر حديث ابن عباس هذا. ومن الناس من كره ذلك، وظنه بدعة، ومنهم من استحب ذلك مطلقًا، ظنًا منه مداومتهم على ذلك، قال: والصواب: أنه إن كان في الجهر مصلحة راجحة مثل تعليم من لم يعرف، ونحو ذلك فهو أفضل، وإلا: فالذكر سرًا أفضل، ولا يكره الجهر إلا حيث كرهته الشريعة، انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا من حديث المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) الذي وقفت عليه في "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 456) تحت مسألة (322): ما يقول سيدنا في جماعة يسبحون اللَّه ويحمدونه ويكبرونه، هل ذلك سنة أم مكروه، وربما في الجماعة يثقل بالتطويل =

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فِي كِتَابٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"، ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدُ عَلَى مُعَاوِيةَ، فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ (¬1). ¬

_ = من غير ضرورة؟! الجواب: أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-: التسبيح والتكبير عقب الصلاة مستحب ليس بواجب، ومن أراد أن يقوم قبل ذلك، فله ذلك، ولا ينكر عليه، وليس لمن أراد فعل المستحب أن يتركه، ولكن ينبغي للمأموم ألّا يقوم حتى ينصرف الإمام، أي: ينتقل عن القبلة، ولا ينبغي للإمام أن يقعد بعد السلام مستقبل القبلة إلا مقدار ما استغفر ثلاثًا، ويقول، "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والاكرام"، وإذا انتقل الإمام، فمن أراد أن يقوم قام، ومن أحب أن يقعد يذكر اللَّه فعل ذلك، انتهى. وانظر: "مجموع الفتاوى" (22/ 492) وما بعدها. (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (808)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، و (5971)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء بعد الصلاة، و (6241)، كثاب: القدر، باب: لا مانع لما أعطى اللَّه، ومسلم (593/ 137 - 138)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته، وأبو داود (1505)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول =

وفي لَفْظٍ: وكَانَ يَنْهَى عَنْ قِيل وَقَالٍ، وَإضَاعَةِ المَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ، وَمَنعٍ وهَاتِ (¬1). * * * (عن) أبي سعيد (وراد) -بفتح الواو، وتشديد الراء، وآخره دال مهملة- الثقفي، من التابعين، وكان (مولى المغيرة بن شعبة) -رضي اللَّه عنه-، وكاتبه، يروي عنه: الشعبي، ورجاء بن حيوة، وعبد الملك بن عمير، وغيرهم، وهو كوفي، أخرج له الجماعة (¬2). ¬

_ = الرجل إذا سلم، والنسائي (1341، 1342)، كتاب: السهو، باب: عدد التهليل والذكر بعد التسليم. (¬1) رواه البخارى (6862)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من كثرة السؤال، وتكليف مالا يعنيه، ومسلم (593)، (3/ 1341)، كتاب: الأقضية، باب: النهى عن كثرة المسائل من غير حاجة. ورواه البخاري (1407)، كتاب: الزكاة، باب: قول اللَّه تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، و (2277)، كتاب: الاستقراض وأداء الديون والتفليس، باب: ما ينهى عن إضاعة المال، و (5630)، كتاب: الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر، و (6108)، كتاب: الرقاق، باب: ما يكره من قيل وقال، بألفاظ مختلفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 543، 5/ 569)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 165)، و"شرح مسلم" للنووى (5/ 90، 12/ 10)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 90)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 644)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 251)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 125). و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 331، 10/ 406)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 132، 12/ 247)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 197، 4/ 162)، و "نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 346). (¬2) وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 48)، و"الثقات" لابن =

(قال) ورَّاد -رحمه اللَّه تعالى-: (أملى)؛ أي: ألقى (عليَّ المغيرةُ) بأن كان يسمي له، ويكتب ما يسميه له (بنُ شعبة) وتقدمت ترجمة المغيرة -رضي اللَّه عنه-، في باب: المسح على الخفين (في كتاب) كتبه (إلى معاوية) بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنهما-، وكان المغيرة إذ ذاك أميرًا على الكوفة، من قبل معاوية، وسبب ذلك: أن معاوية كتب إليه: اكتب لي بحديث سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقوله خلف الصلاة (¬1)، فكتب: (أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة) قيدها بالمكتوبة؛ كما في بعض طرق البخاري (¬2). وأما لفظ مسلم: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا فرغ من الصلاة، وسَلَّم (¬3)، كأنه لِمَا فهم من قرينة الحال في السؤال. واستدل به على العمل بالمكاتبة، وإجرائها مجرى السماع في الرواية، ولو لم تقترن بالإجازة، وعلى الاعتماد على خبر الشخص الواحد (¬4). (لا إله إلا اللَّه) لا معبود بحق في الوجود إلا اللَّه -سبحانه وتعالى- (وحده لا شريك له)، لا في ملكه، ولا في ذاته، ولا في صفاته، (له الملك) المطلق الحقيقي، وما سواه لا ملك له على الحقيقة، وإنما هو بتمليكه سبحانه، (وله الحمد) زاد الطبراني من طريق أخرى، عن المغيرة: ¬

_ = حبان (5/ 498)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (62/ 427)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 441)، و"تهذيب الكمال" للمزي (30/ 431)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 100). (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6241). (¬2) تقدم تخريجه عنده برقم (808). (¬3) تقدم تخريجه عنده برقم (593/ 137). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 332).

يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وإليه المصير، (وهو على كل شيء قدير) ورواة الطبراني موثوقون (¬1)، وثبت مثله عند البزار، من حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه- بسند ضعيف، لكن في القول: إذا أصبح، وإذا أمسى (¬2). (اللهم) تقدم أن الميم عوض عن حرف النداء (لا مانع لما)؛ أي: الشيء الذي (أعطيت) من الخير، (ولا معطي لما منعت) من ذلك (ولا ينفع ذا الجد)، قال القاضي عياض في "المشارق": روي بفتح الجيم وكسرها، والمشهور فيه الفتح؛ أي: البخت، والحظ، والعظمة، والسلطان، وقيل: الغنى، والمال (¬3). قال الخطابي: الجد: الغنى، ويقال: الحظ (¬4). (منك) قال في "الفتح": "من" في قوله: "منك" بمعنى: البدل، قال الشاعر (¬5): [من البحر الطويل] فليتَ لنا من ماءِ زمزَم شربةً ... مبردَةً باتَتْ على الطَّهيان ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (926). وانظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (10/ 103). (¬2) رواه البزار في "مسنده" (1051). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 142)، وقد أنكر أبو عبيد في "غريب الحديث" (1/ 257 - 258) رواية الكسر. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 332). وانظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 258). (¬5) هو الأحول الكندي، كما في "معجم البلدان" لياقوت (4/ 52)، و"لسان العرب" لابن منظور (15/ 17)، و"شرح الحماسة" للمرزوقي (1/ 300)، و"خزانة الأدب" للبغدادى (2/ 404). والطهيان: اسم قلة جبل بعينه.

يريد: ليت لنا بدل ماء زمزم (¬1). وفي "الصحاح": معنى "منك" هنا: عندك؛ أي: لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح (¬2). وقال ابن التين: الصحيح عندي: أنها ليست بمعنى البدل، ولا عند، بل هو كما تقول: لا ينفعك مني شيء إن أنا أردتك بسوء. قال في "الفتح": ولم يظهر من كلامه معنى، ومقتضاه: أنها بمعنى عند، أو فيه حذف تقديره: من قضائي، أو سطوتي، أو عذابي (¬3). واختار الشيخ جمال الدين في "المغني": أنها هنا بمعنى: البدل (¬4). وقال ابن دقيق العيد: قوله: "منك" يجب أن يتعلق بـ "ينفع"، وينبغي أن يكون "ينفع" قد ضمن معنى: يمنع، وما قاربه، ولا يجوز أن يتعلق "منك" بالجد؛ كما يقال: حظي منك قليل، أو كثير، بمعنى: عنايتك بي، أو رعايتك لي؛ فإن ذلك نافع، انتهى (¬5). (الجد) قال في "الفتح": مضبوط في جميع الروايات بفتح الجيم، ومعناه: الغنى؛ كما نقله البخاري، وعن الحسن: الحظ (¬6)، وحكى ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 332). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 452)، (مادة: جدد). (¬3) انظر: "فتح البارى" لابن حجر (2/ 332). (¬4) انظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 422). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 91). (¬6) عبارة الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 332): مضبوط في جميع الروايات بفتح الجيم، ومعناه: الغنى، كما نقله المصنف -يعني: البخاري- عن الحسن، أو الحظ، وحكى الراغب ... إلى آخر كلامه، وانظر: "صحيح البخاري" (1/ 289).

الراغب: أن المراد به هنا: أبو الأب؛ أي: لا ينفع أحدًا نسبه. قال القرطبي: حكي عن أبي عمرو الشيباني: أنه رواه -بالكسر-، وقال: معناه: لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده، وأنكره الطبري (¬1)؛ لأن الاجتهاد في العمل نافع؛ لأنه سبحانه دعا الخلق إلى ذلك، فكيف لا ينفع عنده؟ قاله القزاز. وقال: ويحتمل أن يكون المراد: أنه لا ينفع الاجتهاد في طلب الدنيا، وتضييع أمر الآخرة. وقال غيره: لعل المراد: لا ينفع بمجرده، ما لم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلا بفضل اللَّه سبحانه، ورحمته (¬2). وقال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور: أنه بالفتح، وهو الحظ في الدنيا بالمال، أو الولد، أو العظمة، أو السلطان، والمعنى: لا ينجيه حظه منك، وإنما ينجيه فضلك، ورحمتك (¬3). فينبغي استعمال هذا الذكر بعد الصلاة؛ لما اشتمل عليه من التوحيد، ونسبة الأفعال إلى اللَّه سبحانه؛ من المنع، والإعطاء، وتمام القدرة. قال وراد: (ثم وفدت)؛ أي: قدمت؛ كما في لفظ، يقال: وفد إليه، وعليه، يفد وفدًا، ووفودًا، ووفادة، وإفادة: قدم؛ كما في "القاموس" (¬4) (بعد) ذلك (على معاوية)؛ يعني: إلى الشام، (فسمعته)؛ أي: سمع ورادٌ معاويةَ (يأمر الناس بذلك)؛ أي: أمرَ ندب واستحباب. ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 84). (¬2) انظر: "فتح البارى" لابن حجر (2/ 332). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (4/ 196). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 417)، (مادة: وفد).

وفيه: المبادرة إلى امتثال السنن، وإشاعتها، والاعتناء بها (¬1). وزعم بعضهم: أن معاوية -رضي اللَّه عنه- كان قد سمع الحديث المذكور، وإنما أراد استثبات المغيرة، واحتج بما في "الموطأ"، من وجه آخر عن معاوية: أنه كان يقول على المنبر: أيها الناس! إنه لا مانع لما أعطى اللَّه، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، من يرد اللَّه به خيرًا يفقهه في الدين، ثم يقول: سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على هذه الأعواد (¬2). فائدة: اشتهر على الألسنة في هذا الذكر المذكور زيادة: "ولا راد لما قضيت"، وهي في "مسند عبد بن حميد"، ولكن حذف قوله: "ولا معطي لما منعت" (¬3)، ووقع عند الطبراني تامًا من وجه (¬4). ووقع عند الإمام أحمد، والنسائي، وابن خزيمة؛ من طريق هشيم، عن عبد الملك بالإسناد، أنه: كان يقول الذكر المذكور ثلاث مرات (¬5). تتمة: روى الترمذي، وغيره، وقال: حسن صحيح، من حديث أبي ذر -رضي اللَّه عنه-، مرفوعًا: "من قال في دبر صلاة الفجر، وهو ثانٍ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 333). (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 900)، وكذا الإمام أحمد في "المسند" (4/ 93). (¬3) رواه عبد بن حميد في "مسنده" (391)، من طريق عبد الرزاق في "المصنف" (19638). (¬4) الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 133)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4981). (¬5) الإمام أحمد في "المسند" (4/ 250)، والنسائي (1343)، كتاب: السهو، باب: كم مرة يقول ذلك، وابن خزيمة في "صحيحه" (742).

رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب اللَّه له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، فكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه، وحرس من الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم، إلا الشرك باللَّه" (¬1). قال في "المذهب"، وغيره: يستحب هذا في الفجر فقط، بناء على ما رواه من الخبر. ورواه النسائي في "اليوم والليلة" كذلك (¬2). ورواه أيضًا عن معاذ -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا (¬3). ورواه الإمام أحمد من حديث شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، وعبد الرحمن مختلف في صحبته، وقال فيه: "صلاة المغرب والصبح" (¬4). قال في "الفروع": ولهذا مناسبة، ويكون الشارع شرعه أول النهار، وأول الليل؛ ليحترس به من الشيطان فيهما، قال: ويتوجه أن قوله: "قبل أن يتكلم"؛ أي: بالكلام الذي كان ممنوعًا منه في الصلاة، أو يكون المراد: قبل أن يتكلم مع غيره (¬5). وروى أبو داود، من حديث عبد الرحمن بن حسان، عن مسلم بن الحارث التميمي، عن أبيه، وقيل: الحارث بن مسلم، عن أبيه: أن ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3474)، كتاب: الدعوات، باب: (63). (¬2) رواه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (127). (¬3) رواه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (126). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 227). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 395).

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أسر إليه، فقال: "إذا انصرفت من صلاة المغرب، فقل: اللهم أجرني من النار، سبع مرات"، وفي رواية: "قبل أن تكلم أحدًا؛ فإنك إذا قلت ذلك، ثم مت في ليلتك، كتب لك جوارٌ منها، وإذا صليت الصبح، فقل مثل ذلك، فإنك إن مت من يومك، كتب لك جوارٌ منها"، قال الحارث: أسرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونحن نخص بها إخواننا. وكذا رواه الإمام أحمد، وفي لفظه: "قبل أن تكلم أحدًا من الناس" (¬1). وروى الترمذي، وقال: غريب، عن عمارة بن شبيب، مرفوعًا: "من قال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات على إثر المغرب، بعث اللَّه له مسلحة يحفظونه [من الشيطان] حتى يصبح، وكتب له عشر حسنات موجبات، ومحي عنه عشر سيئات موبقات، وكانت له بعدل عشر رقاب مؤمنات". ورواه النسائي في "اليوم والليلة" (¬2). ورواه أيضًا، فقال عمارة بن شبيب: إن رجلًا من الأنصار حدثه، فذكر نحوه (¬3). قال في "الفروع": وإسنادهما جيد، وقيل: ابن شبيب لا صحبة له. قال: ويتوجه إليه حيث ذكر العدد في ذلك، فإنما قصد ألا ينقص منه، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (5079)، كتاب: الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 234)، والنسائي في "السنن الكبرى" (9939)، وابن حبان في "صحيحه" (2022). (¬2) رواه الترمذي (3534)، كتاب: الدعوات، باب: (98)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (577)، وفي "السنن الكبرى" (10413)، وغيرهما. (¬3) رواه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (578).

أما الزيادة، فلا تضر، لا سيما عن غير قصد؛ إذ الذكر مشروع في الجملة، فهو يشبه المقدر في الزكاة إذا زا [د] عليه، واللَّه تعالى الموفق (¬1). (وفي لفظ)، أي: وأملى المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه- على وراد، فيما كتبه لمعاوية -رضي اللَّه عنه-: (وكان) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (ينهى عن قيل وقال) -بفتح اللام من غير تنوين، على سبيل الحكاية-، قال الجوهري: "قيل وقال": اسمان، يقال: كَثُرَ القيلُ والقال (¬2). كذا جزم بأنهما اسمان، وأشار إلى الدليل على ذلك بدخول الألف واللام عليهما، ومثله في "القاموس" (¬3). والمراد في الحديث: الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام؛ لأنها تؤول إلى الخطأ، وإنما كرره للمبالغة في الزجر عنه، هذا على كونهما مصدرا: قال يقول. وقيل: المراد: النهي عن حكاية أقاويل الناس، والبحث عنها ليخبر عنها، فيقول: قال فلان كذا، وقيل له كذا، والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه، أو لشيء مخصوص منه؛ وهو ما يكرهه المحكي عنه. وقيل: إن المراد بذلك حكاية الاختلاف في أمور الدين؛ كقوله: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، ومحل كراهة ذلك: أن يكثر من ذلك، بحيث لا يؤمن مع الإكثار من الزلل، أو هو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبت، ولكن يقلد من سمعه، ولا يحتاط له (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 398). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 1806)، (مادة: قول). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1358)، (مادة: قول). (¬4) قاله المحب الطبري، كما نقله عنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 407).

ويؤيد ذلك الحديث الصحيح: "كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع" أخرجه مسلم (¬1)، وقال بعض السلف: لا يكون إمامًا من حدث بكل ما سمع (¬2). (و) كان ينهى -عليه الصلاة والسلام- عن (إضاعة المال) قال ابن دقيق العيد: حقيقته المتفق عليها: بذله في غير مصلحة دينية أو دنيوية، وذلك ممنوع؛ لأن اللَّه تعالى جعل الأموال قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويتٌ لتلك المصالح. وأما بذله وكثرة إنفاقه في تحصيل مصالح الآخرة، فلا يمنع منه، وقد قالوا: لا سرف في الخير، وأما إنفاقه في مصالح الدنيا، وملاذ النفس، على وجه لا يليق بحال المنفق، وقدر ماله؛ فهو إسراف على المشهور (¬3). قال في "الفتح": حمله الأكثر على الإسراف في الإنفاق، وقيده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى: أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، سواء كانت دينية أو دنيوية. والحاصل في كثرة الإنفاق، ثلاثة أوجه: الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعًا: فلا شك في منعه. الثاني: إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعًا، فلا شك في كونه مطلوبًا، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (5)، في المقدمة، باب: النهي عن الحديث بكل ما سمع، وأبو داود (4992)، كتاب: الأدب، باب: في التشديد في الكذب، عن حفص بن عاصم، وأبي هريرة -رضي اللَّه عنهما-، وهذا لفظ أبي داود. (¬2) رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 109)، عن عبد الرحمن بن مهدي. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 91).

اللهم إلا أن يفوت حقًا أخرويًا أهم منه، فلا ينبغي أن يشرع له حينئذ. الثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة؛ كملاذ النفس، وشهواتها، فهذا ينقسم على قسمين: أحدهما: أن يكون على وجه يليق بحال المنفق، وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف. والثاني: ما لا يليق به عرفًا، وهو أيضًا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: ما يكون لدفع مفسدة؛ إما ناجزة، أو متوقعة، فهذا ليس بإسراف -أيضًا-. والثاني: ما لا يكون في شيء من ذلك، فالجمهور على أنه إسراف. وقال الباجي من المالكية: يكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا، ولا بأس به إذا وقع نادرًا لحادث يحدث؛ كضيف، أو عيد، أو وليمة، ومما لا خلاف في كراهته: مجاوزة الحد في الإنفاق على البناء زيادة على قدر الحاجة، ولا سيما إن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة، ومنه احتمال الغبن الفاحش في البياعات بغير سبب. ولا يختص منع إضاعة المال في المعاصي بارتكاب الفواحش، بل يدخل فيه سوء القيام على الرقيق والبهائم حتى يهلكوا، ودفع مال من لم يؤنس منه الرشد إليه، وقسمة ما لا ينتفع بجزئه، كالجوهرة [النفيسة] (¬1). وفي "الفروع" للإمام ابن مفلح: من أراد الصدقة بماله كله؛ فإن كان وحده، وعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة: جاز، قال: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 408).

والدليل يقتضي الاستحباب، وجزم به في "منتهى الغاية" (¬1)، وغيرها؛ وفاقًا للشافعية. وذكر القاضي عياض المالكي: أنه جوزه جمهور العلماء، وأئمة الأمصار. وقال الطبري: المستحب الثلث. قال في "الفروع": قال أصحابنا: وإن لم يعلم -يعني: من نفسه حسن التوكل والصبر-: لم يجز، ذكره أبو الخطاب، وغيره، ويمنع من ذلك، ويحجر عليه. وقال الموفق: يكره؛ وفاقًا للشافعية، وإن كان له عائلة، ولهم كفاية، أو يكفيهم بمكسبه: جاز؛ لقصة الصديق -رضي اللَّه عنه-، وإلا فلا. وفي "السر المصون" (¬2) للحافظ ابن الجوزي: الإمساك في حق الكرام جهاد؛ كما أن إخراج ما في يد البخيل جهاد، والحاجة تحوج إلى كل محنة. وبعدُ فإذا صدقت نية العبد وقصده، رزقه اللَّه وحفظه من الذل، ودخل في قوله: {وَمَن يَتَّقِ اَللَّهَ} الآية [الطلاق: 2]، انتهى (¬3). (و) كان -صلى اللَّه عليه وسلم- ينهى عن (كثرة السؤال). اختلف في المراد به؛ هل هو ¬

_ (¬1) كتاب: "منتهى الغاية في شرح الهداية لأبي الخطاب" لأبي البركات عبد السلام بن عبد اللَّه مجد الدين ابن تيمية، المتوفى سنة (652 هـ). قال ابن رجب: بيض منه أربع مجلدات كبار إلى أوائل الحج، والباقي لم يبيضه. انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 252)، و"هدية العارفين" للبغدادي (1/ 570)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 714، 982)، و"معجم مصنفات الحنابلة" للطريقي (3/ 177). (¬2) في مجلد، كما ذكر ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (1/ 417). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 490 - 491).

راجع إلى الأمور العلمية؟ فقد كانوا يكرهون تكلف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها، وفي الحديث: "أعظم الناس جرمًا عند اللَّه، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته" (¬1). قال في "الفتح": حمله بعض العلماء إلى أن المراد به: كثر [ة] السؤال عن أخبار الناس، وأحداث الزمان، أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله؛ فإن ذلك مما يكرهه المسؤول غالبًا. وقد ثبت النهي عن الأغلوطات، أخرجه أبو داود من حديث معاوية (¬2)؛ وهي شداد المسائل وصعابها، وثبت عن جمعٍ من السلف: كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة، أو يندر جدًا، وإنما كرهوا ذلك؛ لما فيه من التنطع، والقول بالظن؛ إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ (¬3). وأما كراهة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كثرة المسائل، وعيبه لها؛ وكذا قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، فذلك خاص بزمان الوحي، ويشير إليه حديث: "أعظم الناس جرمًا عند اللَّه" الحديث (¬4). أو هو راجع إلى سؤال المال، وقد وردت أحاديث تعظيم مسألة الناس، ولا شك أن بعض سؤال الناس أموالهم ممنوع، وذلك حيث يكون الإعطاء ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2358)، كتاب: الفضائل، باب: توقيره -صلى اللَّه عليه وسلم-، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه أبو داود (3656)، كتاب: العلم، باب: التوقي في الفتيا، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 435)، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 389)، وغيرهم. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 407). (¬4) تقدم تخريجه قريبًا.

بناء على ظاهر الحال، ويكون الباطن خلافه، أو يكون السائل مخبرًا عن أمر هو كاذب فيه. وقد جاء في السنة ما يدل على اعتبار ظاهر الحال في هذا، وهو ما روي: أنه مات رجل من أهل الصفة، وترك دينارين، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَيَّتان" (¬1)، وإنما كان ذلك -واللَّه أعلم-؛ لأنهم كانوا فقراء مجردين يأخذون، ويتصدقون عليهم بناء على الفقر والعدم، فلما ظهر معه هذان الديناران، على خلاف ظاهر حاله، أخبر المعصوم بماله، وحذر مثل حاله (¬2). فقد روى البيهقي، من حديث مسعود بن عمرو -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه أتي برجل يصلي عليه، فقال: "كم ترك؟ " قالوا: دينارين، أو ثلاثة، قال: "ترك كيتين، أو ثلاث كيات"، فلقيت عبد اللَّه بن القاسم مولى أبي بكر، فذكرت له ذلك، فقال: ذاك رجل كان يسأل الناس تكثرًا (¬3). ومما ينبغي أن يعلم: أن السؤال لا يمنع مطلقًا، ولا يباح مطلقًا، بل يختلف الحكم بحسب الحال؛ فمن أبيح له أخذ شيء من الزكاة، أبيح له ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 405)، وأبو يعلى في "مسنده" (4997)، وابن حبان في "صحيحه" (3263)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6962)، عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 92). (¬3) كذا نسبه المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 324)، من رواية البيهقي عن مسعود بن عمرو، وعنه نقل الشارح -رحمه اللَّه-. والذي في "شعب الإيمان" للبيهقي (3515): أنه رواه من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، به إلى أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. وهي الطريق نفسها التي أشار إليها المنذري، واللَّه أعلم.

سؤاله، نص عليه الإمام أحمد، وفاقًا لمالك، والشافعي، فالغنى في باب الزكاة نوعان: نوع يوجبها، ونوع يمنعها؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم ينكر على السُّؤَّال إذا كانوا من أهلها. وعن الإمام أحمد: يحرم السؤال لا الأخذ، على من له قوت يومه غداء وعشاء. ذكر ابن عقيل: أنه اختاره جماعة؛ وفاقًا لأبى حنيفة، فيكون قولًا ثالثًا: يمنع السُّؤَّال. وذكر الحافظ ابن الجوزي في "المنهاج": إن علم أنه يجد من يسأله كل يوم: لم يجز إن يسأله أكثر من قوت يوم وليلة، وإن خاف ألا يجد من يعطيه، أو خاف أن يعجز عن السؤال أبيح له السؤال أكثر من ذلك، ولا يجوز له -في الجملة- أن يسأل فوق ما يكفيه لسنته، وعلى هذا ينزل الحديث: "في الغنى خمسين درهمًا" (¬1)، فإنها تكفي المنفرد المقتصد لسنة؛ كما في "الفروع" (¬2). وقال ابن حزم: اتفقوا على أن المسألة حرام على كل قوي على الكسب، أو غني، إلا من تحمل حمالة، أو سأل سلطانًا، أو ما لا بد منه، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1626)، كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة، وحد الغنى، والنسائي (2592)، كتاب: الزكاة، باب: حد الغنى، والترمذي (650)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء من تحل له الزكاة، وابن ماجه (1840)، كتاب: الزكاة، باب: من سأل عن ظهر غنى، من حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خموش، أو خدوش، أو كدوح في وجهه"، فقيل: يا رسول اللَّه! وما الغنى؟ قال: "خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب". (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 451).

واتفقوا أن ما كان أقل من مقدار قوت اليوم، فليس غنًى؛ كذا قال (¬1). وروى أبو داود، من حديث سهل بن الحنظلية -رضي اللَّه عنه-، قال: قدم عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس؛ على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسألاه، فأمر معاوية، فكتب لهما ما سألا، فأما الأقرع، فأخذ كتابه، فلفه في عمامته، وانطلق، وأما عيينة، فأخذ كتابه، وأتى به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا محمد! أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه، كصحيفة المتلمس؟! فأخبر معاوية بقوله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من النار". قال النفيلي -وهو أحد رواته-: قالوا: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: "قدر ما يغديه ويعشيه" هذا لفظ أبي داود (¬2). ورواه ابن حبان في "صحيحه"، وقال فيه: "من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من جمر جهنم"، قالوا: يا رسول اللَّه! وما يغنيه؟ قال: "يغديه، أو يعشيه" (¬3) كذا عنده: أو يعشيه، بألف. ورواه ابن خزيمة باختصار، إلا أنه قال: قيل: يا رسول اللَّه! وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: "أن يكون له شبع يوم وليلة، أو ليلة ويوم" (¬4). قوله في الحديث: "كصحيفة المتلمس" هذا مثل تضربه العرب لمن ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 138، 158). (¬2) رواه أبو داود (1629)، كتاب: الزكاة، باب: من يعطى من الصدقة، وحد الغنى. (¬3) رواه ابن حبان في "صحيحه" (3394). (¬4) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2391).

حمل شيئًا لا يدري هل يعود عليه بنفع، أو ضر؟ وأصله: أن المتلمس -واسمه عبد المسيح- قدم هو وطرفة العبدي على الملك عمرو بن المنذر، فأقاما عنده، فنقم عليهما أمرًا، فكتب إلى بعض عماله يأمره بقتلهما، وقال لهما: إني قد كتبت لكما بِصِلة، فاجتازا بالحيرة، فأعطى المتلمسُ صحيفته صبيًا، فقرأها، فإذا فيها الأمر بقتله، فألقاها، وقال لطرفة: افعل مثل فعلي، فأبى، ومضى إلى عامل الملك، فقرأها وقتله (¬1). قال الخطابي: اختلف الناس في تأويل هذا الحديث: فقال بعضهم: من وجد غداء يومه وعشاءه، لم تحل له المسألة، على ظاهر الحديث. وقال بعضهم: إنما هو فيمن وجد غداء وعشاء على دائم الأوقات، فإذا كان عنده ما يكفيه لقوته المدة الطويلة، حرمت عليه المسألة. وقال آخرون: هذا منسوخ بالأحاديث التي فيها تقدير الغنى بملك خمسين درهمًا، أو قيمتها، أو بملك أوقية، أو قيمتها (¬2). قال الحافظ المنذري: ادعاء النسخ مشترك بينهما، ولا أعلم مرجحًا لأحدهما على الآخر. قال: وقد كان الشافعي -رضي اللَّه عنه- يقول: قد يكون الرجل بالدرهم غنيًا مع كسبه، ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه، وكثرة عياله (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 326). (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 58). (¬3) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 74).

قال: وقد ذهب سفيان الثوري، وابن المبارك، والحسن بن صالح، والإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه: إلى أن من له خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب، لا يدفع إليه شيء من الزكاة. وكان الحسن البصري، وأبو عبيد يقولان: من له أربعون درهمًا، فهو غني. وقال أصحاب الرأي: يجوز دفعها إلى من يملك دون النصاب، وإن كان صحيحًا مكتسبًا، مع قولهم: من كان له قوت يومه، لا يحل له السؤال، استدلالًا بهذا الحديث، وغيره، انتهى (¬1). قلت: معتمد المذهب للإمام أحمد: إناطة الحكم بالكفاية، هذا الذي استقر عليه المذهب؛ فمن ملك نقدًا، ولو خمسين درهمًا فأكثر، أو قيمتها من الذهب، أو غيره، ولو كثرت قيمته لا يقوم بكفايته: فليس بغني، فيأخذ تمام كفايته سنة، واللَّه أعلم (¬2). قال العلامة ابن مفلح في "الفروع": كره -صلى اللَّه عليه وسلم- كثرة المسألة مع إمكان الصبر والتعفف، فكان ذلك سببًا لعدم البركة (¬3). يشير لحديث معاوية، مرفوعًا: "إنما أنا خازن، فمن أعطيته عن طيب نفس، فيبارك له فيه، ومن أعطيته عن مسألة وشره، كان كالذي يأكل ولا يشبع" (¬4). وفي لفظ: "لا تلحفوا في المسألة، فواللَّه! لا يسألني أحد منكم شيئًا، ¬

_ (¬1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 326). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 445). (¬3) المرجع السابق، (2/ 453). (¬4) رواه مسلم (1037)، كتاب: الزكاة، باب: النهي عن المسألة.

فتخرج له مسألته مني شيئًا، وأنا له كاره، فيبارك له فيما أعطيته" (¬1) رواهما مسلم (¬2). وقد ذكر بعض العلماء هذا في المسألة المحرمة، وفي حديث أبي سعيد، مرفوعًا: "فمن يأخذ مالًا بحقه، فيبارك له فيه، ومن يأخذ مالًا بغير حقه، فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع" متفق عليه (¬3). قال في "الفروع": ويتوجه عدول من أبيح له السؤال، إلى رفع قصة، أو مراسلة، قال مطرف بن الشِّخِّير فيمن له إليه حاجة: ليرفعها في رقعة، ولا يواجهني بها، فإني أكره أن أرى في وجه أحدكم ذل المسألة؛ وكذا روي عن يحيى بن خالد بن بَرْمَك (¬4)، وتمثل فقال: [من الكامل] ما اعتاضَ باذلُ وجهه بسؤاله ... عوضًا ولو نالَ الغِنى بسؤال وإذا السؤال مع النوال وَزَنْتَه ... رجحَ السؤال وخفَّ كلُّ نوال (¬5) ¬

_ (¬1) جاء على هامش الأصل المخطوط: "هنا نقص، فليراجع الحديث". ا. هـ. قلت: لا نقص في الحديث الذي أورده الشارح -رحمه اللَّه-، وهو كذلك في "صحيح مسلم". (¬2) رواه مسلم (1038)، كتاب: الزكاة، باب: النهي عن المسألة. (¬3) رواه البخاري (1396)، كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على اليتامى، ومسلم (1052)، كتاب: الزكاة، باب: تخوف من زهرة الدنيا، واللفظ له. (¬4) هو أبو علي يحيى بن خالد بن بَرْمَك، وزير هارون الرشيد، ومؤدبه، كان المهدي قد ضمَّ هارون الرشيد إليه، وجعله في حجره، فلما استخلف هارون، عرف ليحيى حقه، وكان يعظمه، وإذا ذكره، قال: أبي، وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه، إلى أن نكب هارون البرامكة، فغضب عليه، وأدخله الحبس إلى أن مات سنة (190 هـ). انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (14/ 128). (¬5) البيتان منسوبان إلى علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، كما في "ديوانه" (ص: 154). كما نسب إلى محمد بن عبد اللَّه المؤدب، كما ذكر ابن حبان في =

(وكان) -صلى اللَّه عليه وسلم- (ينهى) نهي تحريم (عن عقوق)؛ أي: إيذاء (الأمهات)، يقال: عق والده يعقه عقوقًا، فهو عاق: إذا آذاه وعصاه، وخرج عليه، وهو ضد البرِّ به، وأصله من العق، وهو: الشق والقطع (¬1)، والأمهات: جمع أمهة (¬2)، وهي لمن يعقل، بخلاف لفظ أم، فإنه أعم (¬3). وإنما خص الأمهات بالذكر، وإن كان عقوق الآباء، وغيرهم من ذوي الحقوق عظيمًا؛ فلمزية قبحه، وعظم جرمه (¬4)، وفي الحديث الصحيح: "عقوق الوالدين من الكبائر" (¬5). وفي "الصحيحين"، وغيرهما، عن أبي بكرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول اللَّه، قال: "الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين" وكان متكئًا فجلس، فقال: "ألا وقولُ الزور، وشهادة الزور"، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت (¬6). ¬

_ = "روضة العقلاء" (ص: 146). وانظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 210)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (58/ 330) وانظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 453 - 454). (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 277)، و"المحكم" لابن سيده (1/ 54). (¬2) قاله الجوهري، كما في "الصحاح" له (5/ 1863)، (مادة: أمم). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 406). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 92). (¬5) علقه البخاري في "صحيحه" (5/ 2229)، فقال: باب: "عقوق الوالدين من الكبائر" قاله عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وسيأتي تخريجه قريبًا. (¬6) رواه البخاري (5631)، كتاب: الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر، ومسلم (87)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر، وأكبرها، واللفظ له.

وأخرج البخاري، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الكبائر: الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس" (¬1). وأخرج البخاري، ومسلم، والترمذي، وغيرهم، عن أنس -رضي اللَّه عنه-، قال: ذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الكبائر، فقال: "الشرك باللَّه، وعقوق الوالدين"، الحديث (¬2). وأخرج النسائي، والبزار، واللفظ له، بإسنادين جيدين، والحاكم وصححه، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "ثلاثة لا ينظر اللَّه إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء" (¬3). قال الحافظ المنذري: الديوث: بتشديد الياء، الذي يقر أهله على الزنا، مع علمه بهم، والرجلة -بفتح الراء، وكسر الجيم-: هي المترجلة؛ أي: المتشبهة بالرجال (¬4). وفي حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، مرفوعًا: "ثلاثة حرم اللَّه- ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6289)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: اليمين الغموس. (¬2) رواه البخاري (2510)، كتاب: الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور، ومسلم (88)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر، وأكبرها، والترمذي (1207)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في التغليظ في الكذب والزور ونحوه. (¬3) رواه البزار في "مسنده" (8/ 147 - 148 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والنسائي (2562)، كتاب: الزكاة، باب: المنان بما أعطى، والحاكم في "المستدرك" (244، 7235). (¬4) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 223).

تبارك وتعالى- عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث الذي يقر الخبث في أهله" رواه الإمام أحمد، واللفظ له، والنسائي، والبزار، والحاكم وصححه (¬1). وفي "الصحيحين"، وغيرهما، عنه مرفوعًا: "من الكبائر: شتمُ الرجل والديه"، قالوا: يا رسول اللَّه! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم، يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه" (¬2). فعلى الولد طاعة والديه، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن يدعو لهما، ولا يصدر منه ما يتأذى به الوالد من قول، أو فعل، إلا في شرك، أو معصية، ما لم يتعنَّت الوالد. وضبطه ابن عطية: بوجوب طاعتهما في المباحات فعلًا وتركًا، واستحبابها في المسنونات، وفروض الكفايات كذلك، ومنه: تقديمهما عند تعارض الأمرين، وهو كمن دعته أمه ليمرضها مثلًا، بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمر عندها، ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها، وغير ذلك، أن لو تركها وفعله، وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة؛ كالصلاة أول الوقت، أو في الجماعة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 69)، لكن من حديث عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنهما-، بلفظ: "ثلاثة قد حرم اللَّه عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر أهله في الخبث". وقد تقدم قريبًا تخريجه عند النسائي والبزار والحاكم. (¬2) رواه البخاري (5628)، كتاب: الأدب، باب: لا يسب الرجل والديه، ومسلم (90)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر، وأكبرها. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 406).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذي ينتفع فيه الأبوان، ولا يتضرر هو بطاعتهما فيه قسمان: قسم يضرهما تركه: فهذا لا يستراب في وجوب طاعتهما فيه، بل هذا يجب عنده للجار. وقسم ينتفعان به، ولا يضره: فتجب طاعتهما فيه، لكن إن شق عليه، ولم يضره: وجب، وأما ما كان يضره طاعتهما فيه: فلا تجب طاعتهما في ذلك المضر له. وإنما لم يقيده الإمام، بل قال: بر الوالدين واجب ما لم يكن معصية؛ لأن فرائض اللَّه تعالى من الطهارة، وأركان الصلاة، والصوم تسقط بالضرر، فبر الوالدين لا يتعدى ذلك. وذكر أبو البركات ابن تيمية: أن الوالد لا يجوز له منع ولده من السنن الراتبة. قال في "الآداب": كل ما تأكد شرعًا، لا يجوز له منع ولده؛ فلا يطيعه فيه، واللَّه الموفق (¬1). (ووأد)؛ أي: دفن (البنات). قال في "الفتح": الوأد -بسكون الهمزة-: هو دفن البنات بالحياة، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك؛ كراهة فيهن. ويقال: إن أول من فعل ذلك: قيس بن عاصم التميمي، وكان بعض أعدائه أغار عليه، فأسر بنته، فاتخذها لنفسه، ثم حصل بينهم صلح، فخير ¬

_ (¬1) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (2/ 64 - 65)، وكذا ما نقله الشارح -رحمه اللَّه- هنا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن أبي البركات -رحمهما اللَّه-.

ابنته، فاختارت زوجها، فآلى قيس على نفسه ألا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب على ذلك، وكان من العرب فريق ثان، يقتلون أولادهم مطلقًا، إما نفاسة منه على ما ينقصه من ماله، وإما من عدم ما ينفقه عليه. وقد ذكر اللَّه تعالى أمرهم في عدة آيات؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (¬1) [التكوير: 8، 9]. يقال: وأدها يئدها وأدًا: فهي موءودة، وفي الحديث: "الوئيد في الجنة" (¬2)؛ أي: الموءود، فعيل بمعنى مفعول (¬3). قال في "الفتح": وكان صعصعة بن ناجية التميمي، وهو جد الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة: أولَ من فدى الموءودة، وذلك أنه كان يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك، فيفدي الولد منه بمال يتفقان عليه، وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله: [من المتقارب] وجَدِّي الذي منعَ الوائداتِ ... وأحيا الوئيدَ فلم يُوأَدِ (¬4) قال: وهذا محمول على الفريق الثاني -يعني: الذي كان يفعل الوأد؛ لعدم ما ينفقه على الولد، أو لئلا ينقصه ماله-، وقد بقي كل واحد من ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 406). (¬2) رواه أبو داود (2521)، كتاب: الجهاد، باب: في فضل الشهادة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 58)، وغيرهما، عن خنساء بنت معاوية الصريمية، عن عمها، به. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 142). (¬4) انظر: "الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (2/ 404)، و"المعجم الكبير" للطبراني (7412)، و"المستدرك" للحاكم (6562)، و"لسان العرب" لابن منظور (3/ 442)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 430).

قيس بن عاصم، وصعصعة بن ناجية التميميين، إلى أن أدرك الإسلام، ولهما صحبة. وإنما خص البنات في الحديث بالذكر؛ لأنه كان الغالب من فعلهم؛ لأن الذكور مظنة القدرة على الاكتساب، وكانوا في صفة الوأد على طريقين: أحدهما: أن يأمر امرأته إذا اقترب وضعها، أن تطلق بجانب حفيرة قد أعدتها؛ فإن وضعت ذكرًا، أبقته، وإن وضعت أنثى، طرحتها في الحفيرة، وهذا لائق بالفريق الأول. ومنهم: من كان إذا صارت البنت سداسية، قال لأمها: طيبيها وزينيها، لأزور بها أقاربها، ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر، فيقول لها: انظري فيها، فيدفعها من خلفها، ويطمُّها. قال في "الفتح": وهذا لائق بالفريق الثاني، كذا قال (¬1). (و) كان -عليه الصلاة والسلام- نهى عن (منع وهات). قال ابن دقيق العيد: هذا راجع إلى السؤال، مع ضميمة النهي عن المنع، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون النهي عن المنع حيث يؤمر بالإعطاء، وعن السؤال حيث يمنع منه؛ فيكون كل واحد مخصوصًا بصورة غير صورة الآخر. والثاني: أن يجتمعا في صورة واحدة، ولا تعارض بينهما، فيكون وظيفة الطالب ألا يسأل، ووظيفة المسؤول ألا يمنع إن وقع السؤال، وهذا ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 406 - 407).

لابد أن يستثنى منه ما إذا كان المطلوب محرمًا على الطالب؛ فإنه يمتنع من إعطائه؛ لئلا يكون معينًا على الإثم. ويحتمل: أن يكون الحديث محمولًا على الكثرة من السؤال (¬1). وفي "النهاية": معناه: ينهى عن منع ما عليه إعطاؤه، وطلب ما ليس له (¬2). وفي "الفتح": قوله: "ومنع وهات" -بسكون النون-: مصدر منع يمنع، وأما هات -فبكسر المثناة-: فعل أمر من الإيتاء، قال الخليل: أصل هات: آت، فقلبت الألف هاء (¬3). والحاصل من النهي: منع ما أمر بإعطائه، وطلب ما لا يستحق أخذه، ويحتمل أن يكون النهي عن السؤال مطلقًا، واللَّه الموفق (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 92 - 93). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 365). (¬3) انظر: "العين" للخليل بن أحمد (8/ 146)، (مادة: أتو). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 406).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أبي بكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أبي صَالحٍ السَّمَّان، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ فُقَرَاءَ المهاجرين أتوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالدَّرَجَاتِ العُلَا والنَّعِيمِ المُقِيمِ، فَقَاَل: "وَمَا ذَاكَ؟ "، قَالُوا: يُصَلُّونَ كمَا نُصَلِّي، ويَصُومُونَ كمَا نَصُومُ، ويَتصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ ولَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفَلَا أُعلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ "، قَالُوا: بَلَى يا رسولَ اللَّهِ، قَالَ: "تُسَبِّحُونَ وتكبِّرُونَ وَتَحْمَدُوِنَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً". قَالَ أبو صَالحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: سَمعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذلكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ". قَالَ سُمَيٌّ: فَحَدَّثْتُ بَعْضَ أَهْلِي هذا الحَدِيثِ، فَقَالَ: وَهِمْتَ، إِنَّمَا قَالَ لَكَ: "تُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ، وتَحْمَدُ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتكبِّرُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلاثِينَ"، فَرَجَعْتُ إلَى أبي صَاِلحٍ فَقُلْتُ لَهُ ذِلَكَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، والحَمْدُ للَّهِ، حَتَى تَبْلُغَ مِنْ جَمِيعِهِنَّ ثَلاثًا وثَلَاثِينَ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (807)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الذكر بعد الصلاة، و (5970)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء بعد الصلاة، ومسلم (595/ 142)، واللفظ له، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب =

(عن سمي) -بضم السين المهملة، وفتح الميم، وتشديد الياء-: مدني قرشي مخزومي مولاهم، روى عن مولاه أبي بكر، وأبي صالح السمان، وسعيد بن المسيب، وغيرهم. روى عنه: عبد اللَّه بن عمر العمري، ويحيى الأنصاري، وسهل بن أبي صالح، ومالك، وسفيان الثوري، ومحمد بن عجلان، وغيرهم. قال أحمد بن حنبل، وأبو حاتم: إنه ثقة، وروى له الجماعة، قتلته الحرورية الخوارج بقُديد -بضم القاف، وفتح الدال (¬1) - سنة إحدى وثلاثين ومئة (¬2). وهو (مولى أبي بكر) اسمه: كنيته -على الراجح- كما قاله النووي، وابن الأثير في "جامع الأصول"، وغيرهما، وقيل: محمد، وقيل: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن القرشي المخزومي؛ لأن جده هشامًا هو ابن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم -بفتح الميم، وسكون ¬

_ = الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 545)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 212)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 92)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 93)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 655)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 240)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 128)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 327)، و"عمدة القاري" (6/ 127). (¬1) قُديد: تصغير القد، من قولهم: قددت الجلد، أو من القِد بالكسر، وهو جلد السخلة، أو يكون تصغير القد، من قول اللَّه تعالى: {طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11]، وهي الفرق، وقديد: اسم موضع قرب مكة. انظر: "معجم البلدان" لياقوت (4/ 313). (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 203)، و"خلاصة تذهيب التهذيب" للخزرجي (ص: 156)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 209)، و"تقريب التهذيب" له أيضًا (تر: 2635).

الخاء المعجمة، وبالزاي -بن يقظة - بالمثناة تحت، فقاف، فظاء معجمة، مفتوحات- بن مرة بن كعب بن لؤي. ومخزوم بطن كبير من قريش، وعامتهم بالحجاز. وهو أبو بكر صاحب الترجمة، مدني، تابعي جليل، أحد فقهاء المدينة السبعة على قول، والفقهاء السبعة من أئمة كبار التابعين وساداتهم، وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار؛ هؤلاء الستة. قال النووي، وفي السابع ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، نقله الحاكم، عن علماء الحجاز. الثاني: أنه سالم بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب. الثالث: أنه أبو بكر المذكور، قاله أبو الزناد، وقد جُمعوا في شعر على هذا القول، وهو: [من الطويل] ألا كُلُّ من لا يَقتدي بأئمةٍ ... فقسمتُه ضِيزَى عن الحقِّ خارجَهْ [فَخُذْهم] (¬1) عُبيدُ اللَّهِ عُروةُ قاسِمٌ ... سعيدٌ أبو بكرٍ سليمانُ خارجَهْ (¬2) روى أبو بكر: عن أبيه عبد الرحمن الصحابي، وعن أبي مسعود البدري، وأبي هريرة، وعائشة، وأم سلمة -رضي اللَّه عنهم-. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فمنهم"، والتصويب من "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 174). (¬2) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 174).

ور [و] ى عنه: مجاهد، وعكرمة، وعمرو بن دينار، والزهري، وغيرهم. قال محمد بن سعد: ولد أبو بكر هذا في خلافة عمر بن الخطاب، وكان فقيهًا كثير الحديث، وكان يقال له: راهب قريش؛ لكثرة صلاته، وكان مكفوفًا. وهو وإخوته عكرمة، وعبد الرحمن، وعبد اللَّه؛ كلهم ثقات يضرب بهم المثل. توفي أبو بكر بالمدينة، قال ابن المديني: سنة ثلاث وتسعين، وعليه جرى البرماوي في "نظم رجال العمدة"، وكان يقال لها: سنة الفقهاء؛ لكثرة من مات بها منهم، وقال يحيى بن بكير: إنه توفي سنة أربع، أو خمس (¬1). وقوله: (بن عبد الرحمن) هو (بن الحارث بن هشام) بن المغيرة المخزومي، وعبد الرحمن، وأبوه الحارث: صحابيان -رضي اللَّه عنهما-، أسلم الحارث بن هشام يوم الفتح، استأمنت له أم هانىء بنت أبي طالب، فأمنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال الحارث: لما دخل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مكة، دخلت أنا وعبد اللَّه بن أبي ربيعة دار أم هانىء، وذكر حديث: "أن رسول اللَّه أجاز جوار أم هانىء" قال: فأقمنا يومين، ثم انطلقنا إلى منازلنا، فجلسنا بأفنيتنا لا يعرض لنا ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 207)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 336)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 560)، و"جامع الأصول" لابن الأثير (13/ 191)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 483)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 112)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 416).

أحد، وكنا نخاف عمر بن الخطاب، فواللَّه! إني لجالس في ملاءة مورسة على بابي، ما شعرت إلا بعمر بن الخطاب، فإذا معه عدة من المسلمين، فسلم ومضى، وجعلت أستحيي أن يراني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأذكر رؤيته إياي في كل موطن مع المشركين، ثم أذكر بره ورحمته، وصلته، فألقاه وهو داخل المسجد، فلقيني بالبشر، فوقف حتى جئته، فسلمت عليه، وشهدت شهادة الحق، فقال: "الحمد للَّه الذي هداك، ما كان مثلك يجهل الإسلام"، قال الحارث: فواللَّه! ما رأيت مثل الإسلام يجهل (¬1). وكان الحارث يكنى: أبا المغيرة، وقيل: أبا عبد الرحمن، وهو أخو أبي جهل بن هشام، عداده في أهل الحجاز، وكان شريفًا مذكورًا، وخرج إلى الشام، فقتل باليرموك سنة خمس عشرة، وقيل: مات بالشام في طاعون عمواس، سنة ثماني عشرة. وشهد مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حنينًا، وأعطاه مئة من الإبل؛ كما أعطى المؤلفة قلوبهم، وكان منهم، ثم حسن إسلامه، فخرج إلى الشام في زمن عمر بن الخطاب راغبًا في الجهاد، فخرج أهل مكة يبكون لفراقه، فقال: إنها النقلة إلى اللَّه تعالى، وما كنت لأوثر عليكم أحدًا. فلم يزل بالشام مجاهدًا إلى أن مات، وفيه يقول الشاعر: [من الكامل] أحسبتَ أنَّ أباك يومَ سَبَبْتَني ... في المَجْدِ كانَ الحارثَ بنَ هشامِ أَوْلَى قريشٍ بالمكارم كُلِّها ... في الجاهليةِ كانَ وفي الإسلامِ (¬2) ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (5210)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (11/ 495 - 496). (¬2) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 301)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (11/ 495)، و"تهذيب الكمال" للمزي (5/ 294)، و"الوافي =

فروى سمي مولى أبي بكر المخزومي (عن أبي صالح السمان)، واسمه: ذكوان مولى جويرية (¬1) بنت الحارث الغطفانية، سكن الكوفة، وكان يجلب إليها السمن والزيت، فنسب إلى ذلك، وهو من ثقات التابعين، سمع أبا هريرة، وأبا سعيد، وابن عباس، وابن عمر -رضي اللَّه عنهم-. روى عنه: عطاء، وأبو حازم سلمة بن دينار، والزهري، وغيرهم. توفي بالمدينة سنة إحدى ومئة، سنة وفاة عمر بن عبد العزيز (¬2). (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (-رضي اللَّه عنه-: أن فقراء المهاجرين) سمي منهم: أبو ذر الغفاري، كما عند أبي داود (¬3)، وأبو الدرداء، كما عند النسائي وغيره (¬4)، واستظهر في "الفتح": أن أبا هريرة منهم، وفي رواية النسائي عن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه-، قال: أمرنا أن نسبح، الحديث (¬5)، وهذا يمكن أن يقال: إن زيد بن ثابت كان ¬

_ = بالوفيات" للصفدي (11/ 192)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 606). (¬1) في الأصل: "جويرة". (¬2) وانظر ترجمته في "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 260)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 450)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 221)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 524)، و"تهذيب الكمال" للمزي (8/ 513)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 36). (¬3) رواه أبو داود (1504)، كتاب: الصلاة، باب: التسبيح بالحصى. (¬4) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (9975). (¬5) رواه النسائي (1350)، كتاب: السهو، باب: نوع آخر من عدد التسبيح، والترمذي (3413)، كتاب: الدعوات، باب: (25)، وقال: صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 184).

منهم؛ كما في "الفتح"، ولا يعارضه قوله: فقراء المهاجرين؛ لكون زيد بن ثابت من الأنصار؛ لاحتمال إرادة التغليب (¬1). (أتوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول اللَّه! قد ذهب) أي: سار، يريدون: ظفر وفاز (أهل الدثور) -بضم الدال المهملة، والمثلثة-؛ جمع دَثْر -بفتح فسكون-: هو المال الكثير (¬2)، ووقع عند الخطابي: ذهب أهل الدور من الأموال، وقال: كذا وقع الدور جمع دار، والصواب: الدثور، انتهى (¬3). وقال في "المطالع": الدثور جمع دثر: وهو المال الكثير، يقال: مال دثر، ومالان دثر، وأموال دثر؛ لا يثنى، ولا يجمع، قال: والدثور في غير هذا مصدر دثر الشيء: درس، قال: وجاء في رواية أبي زيد المروزي: أهل الدور، وهو تصحيف، انتهى (¬4). (بالدرجات) متعلق بذهب (العلا) -بضم العين-: جمع العُلْيا، وهي تأنيث الأعلى، ويحتمل أن تكون حسية، والمراد: درجات الجنات، أو معنوية، والمراد: علو القدر عند اللَّه تعالى. (والنعيم المقيم) وصف بالإقامة؛ إشارة إلى ضده، وهو النعيم العاجل؛ فإنه قل ما يصفو، وإن صفا، فهو بصدد الزوال (¬5)، وفي رواية ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 327). (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 259). (¬3) انظر: "أعلام الحديث في شرح البخاري" للخطابي (1/ 550). (¬4) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 253). وانظر: "غريب الحديث" لابن عبيد (4/ 460)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 100). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 327).

عند البخاري، ومسلم، وغيرهما: ذهب أصحاب الدثور بالأجور (¬1). (فقال) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (وما ذاك؟) استفهم -عليه الصلاة والسلام- عن السبب الحامل لهم على ما قالوا، أو عن كون أهل الأموال ذهبوا بالدرجات العلا، والنعيم المقيم. (قالوا: يصلون كما نصلي) من الفروض والنوافل (ويصومون كما نصوم) كذلك. زاد في حديث أبي الدرداء عند مسلم: ويذكرون كما نذكر (¬2). وللبزار من حديث ابن عمر: صدقوا تصديقنا، وآمنوا إيماننا (¬3). (ويتصدقون) من فضل أموالهم، (ولا نتصدق)، لعدم ما نتصدق به، ولفظ البخاري: ولهم فضل أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون (¬4)؛ يعني: ولا نحج، وما عطف عليه كذلك؛ كما هو في بعض الروايات. ¬

_ (¬1) قلت: هي رواية أبي داود المتقدم تخريجها قريبًا برقم (1504)، وكذا في "الفتح" (2/ 327). قال الحافظ ابن حجر: في رواية محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة: أبو ذر الغفاري؛ أي: من الفقراء الذين سمعوا، أخرجه أبو داود ... ، ثم قال الحافظ: وفي رواية محمد بن أبي عائشة المذكورة: ذهب أصحاب الدثور بالأجور، وكذا مسلم من حديث أبي ذر، انتهى، فاختصر الشارح -رحمه اللَّه- كلام الحافظ ابن حجر، وجعل هذا اللفظ من متفق الشيخين، والحال خلافه، كما رأيت من سياق الحافظ -رحمه اللَّه-، والعصمة للَّه وحده. (¬2) قلت: هو حديث النسائي فقط المتقدم تخريجه في "السنن الكبرى" برقم (9975). وكذا في "فتح الباري" (2/ 327)، وعنه نقل الشارح -رحمه اللَّه-. (¬3) رواه البزار في "مسنده" (10/ 101 - "مجمع الزوائد" للهيثمي). (¬4) تقدم تخريجه برقم (807) عنده.

(ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أفلا أعلمكم شيئًا) من الذكر لا تحتاجون فيه إلى مال، ولا دثر (تدركون به) لعظم فضله (من سبقكم) من أهل الأموال الذين فازوا عليكم بالصدقة، ونحوها، والسبقية يحتمل أن تكون معنوية، وهو السبق إلى الفضائل، ويحتمل أن تكون حسية؛ بأن يراد به: السبق الزماني، قال ابن دقيق العيد: والأول أقرب (¬1). (وتسبقون به) إذا أنتم أخذتم به، وداومتم عليه (من)؛ أي: الذين هم (بعدكم)؛ أي: من جاء من الناس بعدكم، ولم يأخذ بما أخذتم به، (ولا يكون أحد) من الناس من أرباب الصدقات، ولا غيرهم (أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟) يعني: من أرباب الصدقات، والعتق، والخيرات، فإنهم يكونوا أفضل؛ لأنهم ساووهم في الذكر، وزادوا عليهم بالتفضل، هذا ظاهر الحديث. ولفظ البخاري: "أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيهم" (¬2)، وفي لفظ عنده: "بين ظهرانيه" -بالإفراد (¬3) -، فإن قيل: ظاهر الإدراك المساواة، ولفظ البخاري ظاهره الأفضلية؟! فالجواب: الإدراك أعم من المساواة، فقد يدرك، ثم يفوت؛ كما في "الفتح" عن بعض أهل العلم، قال: وعلى هذا، فالتقرب بهذا الذكر راجح ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 95). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (807)، ووقع في "المطبوع": "ظهرانيه". (¬3) في رواية كريمة وأبي الوقت، كما في "الفتح" (2/ 328)، وكذا هي في المطبوع.

على التقرب بالمال، ويحتمل أن يقال: الضمير في "كنتم" للمجموع من السابق والمدرك. وكذا قوله: "إلا من صنع مثل ما صنعتم"، ولفظ البخاري: "إلا من عمل مثل عملكم" (¬1)؛ أي: من الفقراء فقال الذكر، أو من الأغنياء فتصدق، أو أن الخطاب للفقراء خاصة، لكن شاركتهم الأغنياء في الخيرية المذكورة؛ فيكون كل من الصنفين خيرًا ممن لا يتقرب بذكر، ولا صدقة، ويشهد له قوله في حديث ابن عمر، عند البزار: "أدركتم مثل فضلهم" (¬2)، ولمسلم من حديث أبي ذر: "أوليس قد جعل لكم ما تتصدقون؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة" الحديث (¬3). واستشكل تساوي هذا الذكر، بفضل التقرب بالمال، مع شدة المشقة فيه! وأجاب الكرماني: بأنه لا يلزم أن يكون الثواب على قدر المشقة في كل حالة، واستدل لذلك بفضل الشهادة مع سهولتها، على كثير من العبادات الشاقة (¬4). (قالوا: بلى يا رسول اللَّه!)؛ أي: علمنا الشيء الذي ندرك به إذا نحن صنعناه من سبقنا (قال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (تسبحون)؛ أي: تقولون: سبحان اللَّه، (وتكبرون) كذا في رواية ابن عجلان، عن سمي، بتقديم التكبير على ¬

_ (¬1) كذا في "الفتح" (2/ 328)، ولفظ البخاري (807): "إلا من عمله مثله"، وقد تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه، ورواه أيضًا: عبد بن حميد في "مسنده" (797). وانظر: "المطالب العالية" لابن حجر (4/ 244). (¬3) رواه مسلم (1006)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328).

التحميد (¬1)، (وتحمدون دبر كل صلاة) مكتوبة، وأكثر الروايات عند البخاري، وغيره؛ فيها: تقديم التحميد على التكبير، ولفظ البخاري: "خلف كل صلاة" (¬2)، وهي مفسرة للرواية التي عندهما بلفظ: "دُبُر" بضمتين. قال الأزهري: دبر [الأمر] يعني: -بضمتين-، ودبره. يعني:-بفتح، فسكون-: آخره (¬3)، وادعى أبو عمرو الزاهد: أنه يقال: -بالضم-، إلا للجارحة، ورد بمثل قولهم: أعتق غلامه عن دبر. ومقتضى الحديث: أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، ويأتي الكلام عليه -إن شاء اللَّه تعالى-. وظاهر قوله: "كل صلاة" يشمل الفرض والنفل، لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عجرة، عند مسلم: التقييد بالمكتوبة (¬4)؛ فكأنهم حملوا المطلق على المقيد (¬5). (ثلاثًا وثلاثين مرة) وهذا مجمل، يحتمل أن يكون المجموع للجميع؛ فإذا وزع كان لكل واحد إحدى عشرة، وهو الذي فهمه سهيل بن صالح؛ كما رواه مسلم، من طريق روح بن القاسم، عنه (¬6)، لكن لم يتابع سهيل على ذلك. ¬

_ (¬1) عند مسلم برقم (595/ 142)، وقد تقدمت. (¬2) تقدم تخريجه برقم (807) عنده. (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (14/ 110)، (مادة: دبر). (¬4) رواه مسلم (596)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328). (¬6) رواه مسلم (595/ 143)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته.

قال في "الفتح": لم أر في شيء من طرق الحديث كلها التصريح بإحدى عشرة، إلا في حديث ابن عمر عند البزار، وإسناده ضعيف (¬1)، بل المراد: المجموع لكل فرد فرد (¬2). زاد مسلم: (قال أبو صالح) السمان: (فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) بعد ذلك، (فقالوا) يا رسول اللَّه! (سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا)؛ أي: من الذكر الذي علمتنا إياه، (ففعلوا مثله)؛ أي: مثل فعلنا؛ بأن صاروا يسبحون، ويحمدون، ويكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة، (فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) لهم في جواب قولهم الذي قالوه: (ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء)؛ أي: من عباده. قال القرطبي: تأول بعضهم قوله: "ذلك فضل اللَّه" بأن قال: الإشارة راجعة إلى الثواب المـ[ـتـ]ـرتب على العمل الذي يحصل به التفضيل عند اللَّه -سبحانه وتعالى-، فكأنه قال: ذلك الثواب الذي أخبرتكم به، لا يستحقه أحد بحسب الذكر، ولا بحسب الصدقة، وإنما هو بفضل اللَّه سبحانه. قال: وهذا التأويل فيه بعد، ولكن اضطر إليه لما يعارضه (¬3). وتعقب: بأن الجمع بينه وبين ما يعارضه ممكن، من غير احتياج إلى التعسف (¬4). (قال سمي: فحدثت بعض أهلي هذا الحديث) المذكور على الصفة ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 214). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 331).

المذكورة، (فقال) لي ذلك البعض من أهلي: (وهمتَ)؛ أي: ذهب وهمك إلى غير الصواب، والمراد: غلطت، وأصل الوهم: خطرات القلب، أو مرجوحُ طرفي المُتَردَّد فيه، والجمع أوهام، ووهم في الحساب؛ كَوَجِلَ: غلط، وفي الشيء؛ كوعد: ذهب وهمه إليه (¬1). (إنما قال لك) أبو صالح: (تسبح اللَّه ثلاثًا وثلاثين) مرة، (وتحمد اللَّه ثلاثًا وثلاثين) مرة، (وتكبر اللَّه ثلاثًا وثلاثين) مرة. قال سمي: (فرجعت إلى أبي صالح) السمان، (فقلت له ذلك)؛ أي. ما نسبه بعض أهلي إليَّ من الوهم فيما حدثته؛ أي: لأبي صالح السمان، (فقال) أبو صالح: (اللَّه أكبر وسبحان اللَّه والحمد للَّه) تقول هكذا وتعاود عليها، وتكررها (حتى تبلغ من جميعهن ثلاثًا وثلاثين) مرة، "فتلك تسعة وتسعون، ثم تقول تمام المئة: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". ففي مسلم: أن من قال ذلك، "غفرت له خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر" (¬2). تنبيهات: الأول: صرح المصنف -طيَّب اللَّه ثراه-: أن الاختلاف وقع بين سمي وبعض أهله، وأنه هو الذي رجع إلى أبي صالح، وأن أبا صالح هو الذي قال له الذكر المذكور، على النسق الذي ذكرناه عنه، وفي "الفتح" أن الظاهر: أن أبا هريرة هو القائل، وكذا قوله: فرجعت إليه، وأن الذي رجع ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1507)، (مادة: وهم). (¬2) رواه مسلم (597)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

أبو هريرة إليه هو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال: وعلى هذا، فالخلاف في ذلك وقع بين الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. وقال عن رواية ابن عجلان التي ذكرها مسلم: بأن مسلمًا لم يوصل هذه الزيادة؛ فإنه أخرج عن قتيبة، عن الليث، عن ابن عجلان، ثم زاد غير قتيبة في هذا الحديث عن الليث، فذكرها، والغير المذكور يحتمل أن يكون: شعيب بن الليث، أو سعيد بن أبي مريم، فقد أخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" عن الربيع بن سليمان، عن شعيب (¬1)، وأخرجه الجوزقي، والبيهقي، من طريق سعيد (¬2)، فظهر بهذا: أن في رواية عبيد اللَّه بن عمر، عن سمي في حديث الباب إدراجًا، واللَّه أعلم (¬3). الثاني: ظاهر سياق الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: أن جميع الحديث من متفق الشيخين، وليس كذلك؛ فإن البخاري إنما أخرج منه في باب: الذكر بعد الصلاة، قال فيه: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يحجون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدقون، قال: "أحدثكم" الحديث، وفيه: فاختلفنا؛ فقال بعضنا: نسبح ثلاثًا وثلاثين، ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونكبر أربعًا وثلاثين، فرجعت إليه، فقال: تقول: سبحان اللَّه والحمد للَّه واللَّه أكبر، حتى يكون منهن كلهن ثلاث وثلاثون هذا نسق ما في البخاري (¬4)، إلا أن أصل الحديث متفق عليه، وإن ¬

_ (¬1) رواه أبو عوانة في "مسنده" (2/ 249). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 186). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328 - 329). وانظر: "غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة" للحافظ رشيد الدين العطار (ص: 301). (¬4) وتقدم تخريجه برقم (807).

اختلفا في بعض ألفاظ جزئية (¬1)، واللَّه أعلم. الثالث: الأولى في هذا الذكر: ما في هذا الحديث، من كونه يقول: سبحان اللَّه والحمد للَّه واللَّه أكبر ثلاثًا وثلاثين، حتى يفرغ من الجميع معًا. قال في "الفروع": ويفرغ من عدد التسبيح والتحميد والتكبير معًا، وذكر قول أبي صالح السمان راوي الخبر، عن أبي هريرة. قال: وعنه -أي: الإمام أحمد-: يخير بينه وبين إفراد كل جملة، واختار القاضي -يعني: أبا يعلى-: الإفراد، قال: ويعقده والاستغفار بيده، نص عليه، انتهى (¬2). وفي "الفتح" رواية ابن عجلان ظاهرها: أن العدد للجميع، لكن يقو [ل] ذلك مجموعًا، وهذا اختيار أبي صالح، لكن الروايات الثابتة عن غيره الإفراد (¬3). قال عياض: وهذا أولى (¬4). قال: ورجح بعضهم الجمع للإثبات فيه بواو العطف، قال: والذي يظهر: أنَّ كلًا من الأمرين حسن، قال: إلا أن الإفراد يتميز بأمر آخر، وهو أن الذاكر يحتاج إلى العدد، وله على كل حركة لذلك، سواء كان بأصابعه، [أ] وبغيرها، ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلث، كذا قال (¬5). ¬

_ (¬1) قال الحافظ ضياء الدين المقدسي في "أحكامه": لم يذكر البخاري رجوعهم إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقولهم: "سمع إخواننا ... " إلى آخره. كما نقله الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 128). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 398 - 399). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 329). (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 547). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 329).

قلت: بل الذي يظهر أولوية الجمع؛ لأن الروايات بجملة صالحة لكل من الأمرين، ورواية أبي صالح مفسرة، فالمصير إليها أولى، وما أبداها لا يعارض النص، واللَّه أعلم. الرابع: وقع الابتداء في أكثر الروايات بالتسبيح، ثم التحميد، فالتكبير، وفي رواية ابن عجلان تقديم التكبير على التحميد خاصة؛ كما تقدم، وفيه -أيضًا-: قول أبي صالح: تقول: اللَّه أكبر وسبحان اللَّه والحمد للَّه، ومثله لأبي داود من حديث أم الحكم (¬1)، وله في حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: "تكبر وتحمد وتسبح" (¬2)، وكذا في حديث ابن عمر (¬3). قال في "الفتح": وهذا الاختلاف دال على أن لا ترتيب فيها، ويستأنس لذلك بقوله في حديث: "الباقيات الصالحات، لا يضرك بأيهن بدأت" (¬4)، لكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتسبيح؛ لأنه يتضمن نفي النقائص عن الباري -سبحانه وتعالى-، ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له؛ إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير؛ إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال، أن يكون هناك كبير، ثم ختم بلا إله إلا اللَّه، إلخ، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2987)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في بيان مواضع قسم الخمس، وسهم ذي القربى. (¬2) تقدم تخريجه برقم (1504) عنده. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه مسلم (2137)، كتاب: الآداب، باب: كراهة التسمية بالأسماء القبيحة، وبنافع، ونحوه، عن سمرة بن جندب -رضي اللَّه عنه- بلفظ: "أحب الكلام إلى اللَّه أربع: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، لا يضرك بايهن بدأت ... " الحديث.

الدال على انفراده -سبحانه وتعالى- بالوحدانية، وبجميع ذلك، واللَّه أعلم (¬1). الخامس: وقع في رواية ورقاء، عن سمي، عند البخاري في: الدعوات: "تسبحون عشرًا، وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا" (¬2)، ووقع في مسلم من طريق آخر: يقول سهيل: إحدى عشرة، إحدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون" (¬3). وجاء في حديث زيد بن ثابت، وابن عمر: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرهم أن يقولوا كل ذكر منها خمسًا وعشرين، ويزيدوا فيها: لا إله إلا اللَّه خمسًا وعشرين، ولفظ زيد بن ثابت: أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، ونحمد ثلاثًا وثلاثين، ونكبر أربعًا وثلاثين، فأتي رجل في منامه، فقيل له: أمركم محمد أن تسبحوا، فذكره، قال: نعم، قال: اجعلوها خمسًا وعشرين، واجعلوا فيها التهليل، فلما أصبح أتي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخبره، فقال: "فافعلوه"، أخرجه النسائي، وابن خزيمة، وابن حبان (¬4). ولفظ ابن عمر: رأى رجل من الأنصار فيما يرى النائم، فذكر نحوه (¬5). والحاصل: أن العمل على ما ذكرناه في "الصحيحين"، وغيرهما، واللَّه الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328). (¬2) تقدم تخريجه برقم (5970) عنده. (¬3) تقدم تخريجه برقم (595/ 143) عنده. (¬4) تقدم تخريجه عند النسائي، وكذا الترمذي. ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" (752)، ورواه ابن حبان في "صحيحه" (2017)، وغيرهم. (¬5) تقدم تخريجه.

السادس: استنبط بعض العلماء من كثرة تنويع الروايات: أن اعتبار مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة، وإلا لكان يمكن أن يقال: أضيفوا إليها التهليل ثلاثًا وثلاثين، فلما رجع التسبيح والتحميد والتكبير إلى خمس وعشرين، خمس وعشرين، وأضيف إليها التهليل كذلك، علم أن اعتبار كون الجميع من الذكر مئة معتبرة. وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة كالأذكار خلف الصلاة، إذا رتب عليها ثواب مخصوص، فزاد الآتي بها على العدد المذكور، لا يحصل له ذلك الثواب؛ لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوته بمجاوزة ذلك العدد. قال الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم العراقي في "شرح الترمذي": وفيه نظر؛ لأنه أتى بالمقدار الذي رتب عليه الثواب على الإتيان، فحصل له الثواب بذلك، فإذا زاد عليه من جنسه، كيف تكون تلك الزيادة مزيلة للثواب بعد حصوله؟! (¬1) وتقدم كلام صاحب "الفروع"؛ من أنه حيث ذكر العدد، فلا تضر الزيادة عليه (¬2). وفي "الفتح": يمكن أن يفرق فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد، ثم أتى بالزيادة، فالأمر كما قال العراقي لا محالة، وإن زاد بغير نية؛ بأن يكون رتب على عشرة مثلًا، فيرتبه هو على مئة، فيتجه القول الماضي. قال: وقد بالغ القرافي -رحمه اللَّه تعالى- في "القواعد"، فقال: من ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 330). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 398).

البدع المكروهة الزيادة في المندوبات المحدودة شرعًا؛ لأن شأن العظماء إذا حدوا شيئًا، أن يوقف عنده، ويعد الخارج عنه مسيئًا للأدب، انتهى. قال في "الفتح": ومثَّله بعض العلماء بالدواء، يكون فيه مثلًا أوقية سكر، فلو زيد فيه أوقية أخرى، لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء، ثم استعمل من السكر بعد ذلك ما شاء، لم يتخلف الانتفاع. ويؤكد ذلك: أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص، مع طلب الإتيان بجميعها متوالية، لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص؛ لما في ذلك من قطع الموالاة؛ لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة خاصة تفوت بفواتها (¬1). السابع: قال ابن بطال عن المهلب: في هذا الحديث فضل الغنى نصًا لا تأويلًا، إذا استوت أعمال الغني والفقير فيما افترض اللَّه عليهما، فللغني حينئذ فضل عمل البر من الصدقة، ونحوها، مما لا سبيل للفقير إليه. قال: ورأيت بعض المتكلمين ذهب إلى أن هذا الفضل مختص بالفقراء دون من كان (¬2). وقال ابن دقيق العيد: الفقراء ذَكَروا للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ما يقتضي تفضيل الأغنياء، بسبب القربات المتعلقة بالمال، وأقرهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على ذلك، ولكن علمهم ما يقوم مقام تلك الزيادة، فلما قالها الأغنياء، ساووهم فيها، وبقي معهم رجحان قربات المال، فقال -عليه السلام-: "ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء"، فظاهره القريب من الظن، أنه فضل الأغنياء بزيادة القربات المالية. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 330). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

وبعض الناس تأول قوله -عليه السلام-: "ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء" بتأويل مستنكر يخرجه عما ذكرناه من الظاهر، والذي يقتضيه الأصل: أنهما إن تساويا، وحصل الرجحان بالعبادات المالية، أن يكون الغني أفضل. قال: ولا شك في ذلك، وإنما النظر إذا تساويا في أداء الواجب فقط، وانفرد كل واحد بمصلحة ما هو فيه، وإذا كانت المصالح متقابلة، ففي ذلك نظر يرجع إلى تفسير الأفضل؛ فإن فسر بزيادة الثواب، فالقياس يقتضي تفضيل المتعدية على القاصرة. وإن فسر الأفضل بمعنى الأشرف، بالنسبة إلى صفات النفس، فالذي يحصل للنفس من التطهير للأخلاق، والرياضة لسوء الطباع بسبب الفقر أشرف، فيترجح الفقر؛ ولهذا ذهب الجمهور من الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر على الغني الشاكر؛ لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثر منه مع الغنى، فكان أفضل بمعنى [الأشرف] (¬1)، انتهى (¬2). وقال القرطبي: للعلماء في هذه المسألة خمسة أقوال: ثالثها: الأفضل: الكفاف، رابعها: يختلف باختلاف الأشخاص، خامسها: التوقف (¬3). وقال الكرماني: قضية الحديث: أن شكوى الفقراء تبقى بحالها، وأجاب: أن مقصودهم كان تحصيل الدرجات العلا، والنعيم المقيم لهم، لا نفي الزيادة عن أهل الدثور مطلقًا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الشرف". (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 93 - 95). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 213).

قال في "الفتح": والذي يظهر: أن مقصودهم إنما كان طلب المساواة، ويظهر أن الجواب وقع قبل أن يعلم -صلى اللَّه عليه وسلم- أن متمني الشيء يكون شريكًا لفاعله في الأجر، ففي رواية الترمذي: "المنفق والمتمني إذا كان صادق النية، في الأجر سواء" (¬1)؛ وكذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من سن سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أجره شيء" (¬2). فإن الفقراء في هذه القصة، كانوا السبب في تعليم الأغنياء الذكر المذكور، فإذا استووا معهم في القول، فقد امتازوا بأجر السبب مضافًا إلى التمني، فلعل ذلك يقاوم التقرب بالمال، وتبقى المقايسة بين صبر الفقير على شَظَف العيش، وشكر الغني على التنعم بالمال، ومن ثم وقع التردد في تفضيل أحدهما على الآخر (¬3). وعلق البخاري حديث: "الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر" من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4)، وقد أخرجه البخاري في "التاريخ"، والحاكم في "المستدرك" موصولًا، ولفظه عن أبي هريرة: "إن للطاعم الشاكر من الأجر ما للصائم الصابر"، وأخرجه ابن ماجه، وابن ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2325)، كتاب: الزهد، باب: ما جاء: مثل الدنيا، مثل أربعة نفر، عن أبي كبشة الأنصاري -رضي اللَّه عنه- في حديث طويل، وفيه: " ... وعبد رزقه اللَّه علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا، لعملت بعمل فلان، فهو نيته، فأجرهما سواء ... " الحديث، وقال: حسن صحيح. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 331). (¬4) انظر: "صحيح البخاري" (5/ 2079).

خزيمة. وأخرجه أيضًا الترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وغيرهم؛ من حديث أبي هريرة (¬1). قال ابن بطال: هذا من تفضل اللَّه على عباده، أنْ جعل للطاعم -إذا شكر ربه على ما أنعم به عليه- ثوابَ الصائم الصابر. وقال الكرماني: التشبيه هنا في أصل الثواب، لا في الكمية، ولا الكيفية، والتشبيه لا يستلزم المماثلة من جميع الأوجه. وقال الطيبي: ربما توهم متوهم: أن ثواب الشكر يقصر عن ثواب الصبر، فأزيل توهمه، أو وجه الشبه: اشتراكُهما في حبس النفس؛ فالصابر يحبس نفسه على طاعة المنعم، والشاكر يحبس نفسه على محبته. قال في "الفتح": وفي الحديث رفع الاختلاف المشهور في الغني الشاكر والفقير الصابر، وإنما هما سواء؛ كذا قيل. وسياق الحديث يقتضي تفضيل الفقير الصابر؛ لأن الأصل [أنَّ] المشبه به أعلى درجة من المشبه، والتحقيق عند أهل الحذق: ألا يجاب في ذلك بجواب كلي، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأحوال؛ نعم عند الاستواء من كل جهة، ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 142)، والحاكم في "المستدرك" (7195)، وابن ماجه (1764)، كتاب: الصيام، باب: فيمن قال: الطاعم الشاكر، كالصائم الصابر، والترمذي (2486)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: (43)، وقال: حسن غريب، وابن خزيمة في "صحيحه" (1898)، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. وقد رواه ابن ماجه (1765)، كتاب: الصيام، باب: فيمن قال: الطاعم الشاكر، كالصائم الصابر، من حديث سنان بن سنة الأسلمي -رضي اللَّه عنه-. قلت: والشارح -رحمه اللَّه- اختصر كلام الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 582 - 583)، حيث تكلم هناك في طرق الحديث التي روي فيها هذا الحديث، فوقع اضطراب في هذا الاختصار من قبل الشارح، وحاصل كلام الحافظ ما قدمنا تخريجه مختصرًا، واللَّه أعلم.

وفرض رفع العوارض بأسرها، فالفقير أسلم عاقبة في الدار الآخرة، قال: ولا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيء، واللَّه أعلم (¬1). وفي "بدائع الفوائد" للإمام المحقق ابن القيم: إن أريد بالفضل: كثرةُ الثواب عند اللَّه، فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص؛ لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب، لا بمجرد أعمال الجوارح، وكم من عاملين أحدهما أكثر عملًا بجوارحه، والآخر أرفع درجة منه في الجنة. قال: هذا في التفاضل بين عائشة وفاطمة -رضوان اللَّه عليهما-. قال: وإن أريد التفضيل بالعلم؛ فعائشة أعلم وأنفع للأمة، وأدَّت من العلم ما لم يؤد غيرها، واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها. وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل، وجلالة النسب، كانت فاطمة؛ فإنها بضعة من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذلك الاختصاص لم يشركها فيه غير أخواتها. وإن أريد السيادة، ففاطمة سيدة نساء الأمة. قال: فإذا ثبتت وجوه التفضيل، وموارد الفضل، وأسبابه، صار الكلام بعلم وعدل. قال: وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل، لم يفصل جهات الفضل، وأسبابه بينها؛ فيبخس الحق، وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب، وهوى لمن يفضله، تكلم بالجهل والظلم. قال: وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل، فأجاب فيها بالتفصيل الشافي؛ فمنها: أنه سئل عن تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر، والعكس، فأجاب بما شفى الصدر، فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 583).

أفضلهما: أتقاهما للَّه، فإن استويا في التقوى، استويا في الدرجة، واللَّه الموفق (¬1). الثامن: مقتضى الحديث: اعتبار كون الذِّكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة المكتوبة، فلو تأخر ذلك عن الفراغ؛ فإن كان يسيرًا بحيث لا يعد معرضًا، أو كان ناسيًا، أو متشاغلًا بما ورد بعد الصلاة أيضًا؛ كآية الكرسي؛ فلا يضر، وتقييده في حديث كعب بن عجرة -رضي اللَّه عنه- بالمكتوبة؛ كما عند مسلم (¬2)، [وعلى هذا، هل] يكون التشاغل بالراتبة بعد المكتوبة فاصلًا بين المكتوبة والذكر المذكور؟، وتوقف فيه في "الفتح" (¬3). وقال ابن نصر اللَّه من علماء مذهبنا في "حواشيه": الظاهر: أن مرادهم أن يقول ذلك وهو قاعد، ولو قاله بعد قيامه وفي ذهابه، فالظاهر: أنه مصيب للسنة -أيضًا-؛ إذ لا تحجير في ذلك، ولو شغل عن ذلك، ثم تذكره، فالظاهر: حصول أجره الخاص له أيضًا إذا كان قريبًا للعذر، أما لو تركه عمدًا، ثم استدركه بعد زمن طويل، فالظاهر: فوات أجره الخاص، وبقاء أجر الذكر المطلق، انتهى، هكذا نقله العلامة النجدي (¬4). والظاهر: أنه لو تركه عمدًا أو لعذر، ومضى زمن طويل، ثم استدركه: لم يحصل له أجره الخاص، ويكون في العبادة سقط، يفهم من أولها، واللَّه تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 682 - 683). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 328). (¬4) "حاشية المنتهى" لعثمان النجدي (1/ 222). وكذا نقله البهوتي في "كشاف القناع" (1/ 365).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: "اذْهَبُوا بخَمِيصَتي هَذِهِ إلى أبي جَهْمٍ، وائْتُونِي بأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ؛ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عن صَلَاتِي" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (366)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: إذا صلى في ثوب له أعلام، ونظر إلى علمها، واللفظ له، و (719)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الالتفات في الصلاة، و (5479)، كتاب: اللباس، باب: الأكسية والخمائص، ومسلم (556/ 61 - 63)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: كراهة الصلاة في ثوب له أعلام، وأبو داود (914 - 915)، كتاب: الصلاة، باب: النظر في الصلاة، و (4052 - 4053)، كتاب: اللباس، باب: من كرهه، والنسائي (771)، كتاب: القبلة، باب: الرخصة في الصلاة في خميصة لها أعلام، وابن ماجه (3550)، كتاب: اللباس، باب: لباس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. * مصَادر شرح الحَدِيث: انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 216)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 529)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 489)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 162)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 43)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 96)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 659)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 201)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 129)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 377)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 483)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 92)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 151).

الخميصة: كساءٌ مربَّع له أعلام، والأنبجانية: كساء غليظ. * * * (عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (-رضي اللَّه عنها-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى في خميصة) -بفتح الخاء المعجمة، وكسر الميم، وبالصاد المهملة-: كساء مربع (لها أعلام) جمع علم: هي رَسْمُ الثوب ورقمه؛ كما في "القاموس" (¬1). (فنظر) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (إلى أعلامها) المرسومة بها (نظرة) كأنها أعجبته، (فلما انصرف)؛ أي: فرغ من صلاته، (قال) -عليه الصلاة والسلام-: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم) -بفتح الجيم، وسكون الهاء على التكبير-، وربما يقال: أبو جهم بدون "أل"، واسمه: عامر، وقيل: عبيد -بضم العين- بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد اللَّه بن عبيد -بفتح العين، وكسر الموحدة- بن عَوِيج -بفتح العين أيضًا، وكسر الواو، فياء مثناة، فجيم- بن عدي بن كعب القرشي العدوي، أسلم يوم الفتح، وكان معظمًا في قريش. قال الزبير: كان أبو جهم من مشيخة قريش، عالمًا بالنسب. قال ابن عبد البر: هو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم علم النسب؛ وهم: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل الزهري، وأبو جهم هذا، وحويطب بن عبد العزى العامري. وكان أبو جهم من المعمَّرين، بنى الكعبة مرتين؛ مرة في الجاهلية حين بنتها قريش، ومرة حين بناها ابن الزبير، وروي عنه أنه قال: قد عملت في ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1472)، (مادة: علم).

الكعبة مرتين: مرة في الجاهلية بقوة غلام يفاع، وفي الإسلام بقوة شيخ فان. توفي -رضي اللَّه عنه- في أيام ابن الزبير-رضي اللَّه عنهما- (¬1). وإنما خصه -صلى اللَّه عليه وسلم- بإرسال الخميصة؛ لأنه كان أهداها للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما رواه مالك في "الموطأ" من طريق أخرى، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: أهدى أبو جهم بن حذيفة إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خميصة لها علم، فشهد فيها الصلاة، فلما انصرف، قال: "رُدِّي هذه الخميصة إلى أبي الجهم" (¬2). ووقع عند الزبير بن بكار ما يخالف ذلك، فأخرج من وجه مرسل: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أتي بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما، وبعث بالأخرى إلى أبي الجهم (¬3). ولأبي داود من طريق أخرى: وأخذ كرديًا لأبي جهم، فقيل: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 451)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 291)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1623)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (38/ 173)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 56)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 492)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 556)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 71). (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 97)، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 177)، وابن حبان في "صحيحه" (2338). (¬3) قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/ 1624): وذكر الزبير، قال: حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، عن سعيد بن عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن أبيه، عن جده، قال: بلغنا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أتي بخميصتين ... ، فذكره. وانظر: "الروض الأنف" للسهيلي (1/ 305).

يا رسول اللَّه! الخميصة كانت خيرًا من الكردي (¬1). وقوله: (وائتوني بأَنْبِجانية أبي جهم) هي -بفتح الهمزة، وسكون النون، وكسر الموحدة، وتخفيف الجيم، وبعد النون ياء نسبة-: كساء غليظ؛ كما في كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- لا عَلَمَ له. وقال ثعلب: يجوز -فتح الهمزة، وكسرها، وكذا الموحدة- يقال: كساء أنبجاني: إذا كان ملتفًا كثيرًا لصوف (¬2)، وأنكر أبو موسى المديني على من زعم: أنه منسوب إلى منبج البلد المعروف بالشام. قال صاحب "الصحاح": إذا نسبت إلى منبج، فتحت الباء، فقلت: كساء مَنْبَجَاني، أخرجوه مُخْرَج مَنْظَرانيٍّ (¬3). وفي "القاموس": كساء مَنْبَجَاني، وأَنْبَجَاني -بفتح بائهما-: نسبة على غير قياس، انتهى (¬4). وفي "الجمهرة": منبج: موضع أعجمي تكلمت فيه العرب، ونسبوا إليه الثياب المنبجانية (¬5). قال أبو حاتم السجستاني: لا يقال: كساء أنبجاني، وإنما يقال: منبجاني، قال: وهذا مما تخطىء فيه العامة، انتهى (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (915) عنده. (¬2) نقله ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/ 530). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 342)، (مادة: نبج). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 264)، (مادة: نبج). (¬5) انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 272)، (مادة: نبج). (¬6) نقله أبو عبيد البكري في "معجم ما استعجم" (4/ 1265)، عن أبي حاتم في: "لحن العامة".

وقد علمت: أن صاحب "القاموس" أجازهما معًا (¬1). قال ابن بطال: إنما طلب منه ثوبًا غيرها؛ ليعلمه أنه لم يَرُدَّ عليه هديته استخفافًا به. قال: وفيه: أن الواهب إذا ردت عليه عطيته، من غير أن يكون هو الراجع فيها، فله أن يقبلها من غير كراهة، وهذا على ما في "الموطأ"، بخلاف ما رواه الزبير بن بكار (¬2). (فإنها)؛ أي: الخميصة المعلمة قد (ألهتني)؛ أي: شغلتني، يقال: لَهِيَ -بالكسر-: إذا غفل، ولَهَا -بالفتح-: إذا لعب؛ كذا في "الفتح" (¬3). وفي "النهاية": اللهو: اللعب، يقال: لهوت بالشيء، ألهو لهوًا، وتلهيت به: إذا لعبت به، وتشاغلت، وغفلت به عن غيره، وألهاه عن كذا: أي شغله، ولهيت عن الشيء -بالكسر- ألهى -بالفتح- لهيًا: إذا سلوت عنه، وتركت ذكره، وإذا غفلت عنه واشتغلت، انتهى (¬4). (آنفًا)؛ أي: قريبًا، وهو مأخوذ من ائتناف الشيء؛ أي: ابتدائه؛ كما في "الفتح" (¬5). وقال في "المطالع": قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "آنفًا" -بالمد والقصر- قيدناه في الحديث، وقرأناه في القرآن؛ أي: قريبًا، أو الساعة، وقيل: في أول وقت كنا فيه، وكله من الاستئناف، والقرب (¬6). ¬

_ (¬1) وانظر فيما ذكره الشارح -رحمه اللَّه-: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 483). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 282 - 283). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 483). (¬6) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 44).

(عن صلاتي)؛ أي: عن كمال الحضور فيها، كذا قيل، والطريق الثانية تقتضي أنه لم يقع شيء من ذلك، وإنما خاف أن يقع؛ لقوله في الرواية الثانية: "فأخاف أن تفتني"، وكذا في رواية مالك: "فكادت" (¬1). قال ابن فى قيق العيد: فيه: المبادرة من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى مصالح الصلاة، ونفي ما لعله يخدش فيها. وفيه: دليل على طلب الخشوع في الصلاة، والإقبال عليها، ونفي ما يقتضي شغل الخاطر بغيرها (¬2). ولا يلزم من بعثه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالخميصة لأبي جهم؛ أن يستعملها في الصلاة، ومنه: قوله في حلة عطارد حيث بعث بها إلى عمر: "إني لم أبعث بها إليك لتلبسها" (¬3). ويحتمل أن يكون ذلك من جنس قوله: "كل، فإني أناجي من لا تناجي" (¬4). واستنبط من هذا الحديث: كراهة كل ما يشغل عن الصلاة، من الأصباغ، والنقوش، ونحوها، واللَّه تعالى أعلم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 483). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 96). (¬3) رواه مسلم (2068)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم، من حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-. (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 96).

قال الحافظ -روح اللَّه روحه-: (الخميصة: كساء مربع له أعلام) -كما قدمنا-. (والأنبجانية) -بفتح الهمزة، وكسرها، وكذا الباء، كذا تقدم-: (كساء غليظ) لا أعلام فيه (¬1)، فإن كان فيه علم، فهو خميصة، واللَّه تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) كذا قاله الخطابي في "معالم السنن" (1/ 216).

باب الجمع بين الصلاتين في السفر

باب الجمع بين الصلاتين في السفر اعلم: أن الجمع بين الظهرين والعشاءين يجوز في وقت أحدهما لثلاثة أمور: للسفر الطويل المباح، والمرض الذي يلحقه بتركه مشقة، والمطر، ونحوه (¬1). وتركه أفضل، وعنه: فعلُه، اختاره أبو محمد [بن] الجوزي، وغيره؛ كَجَمْعَي عرفةَ ومزدلفة، وعنه: التوقف (¬2). والحافظ -رحمه اللَّه- ذكر في هذا الباب حديثًا واحدًا، يخص جواز الجمع في السفر، وهو: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ والعَصْرِ إِذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ، ويَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "دليل الطالب" للشيخ مرعي الحنبلي (ص: 49). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 57). (¬3) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1056)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، معلقًا، واللفظ له، ومسلم (705)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر، وأبو داود (1210 - 1211)، كتاب: الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين، =

(عن) حبر هذه الأمة (عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجمع) في السفر الطويل المباح، خلافًا لأبي حنيفة حيث منع الجمع رأسًا، سوى جمعي عرفة ومزدلفة، فجعله فيهما نسكًا (¬1). (بين صلاة الظهر و) صلاة (العصر) في وقت إحداهما (إذا كان) -صلى اللَّه عليه وسلم- (على ظهر سير) كذا في هذا الحديث، ولولا ورود غيره من الأحاديث بالجمع في غير هذه الحالة، لاختص جواز الجمع بها؛ لأن الأصل عدم جواز الجمع، ووجوب إيقاع الصلاة في وقتها المحدود لها، وجواز الجمع في هذا الحديث، قد علق بصفة مناسبة للاعتبار، فلم يجز إلغاؤه، لكن حيث صح الجمع في حالة النزول، فالعمل به أولى؛ لقيام دليل آخر على الجواز في غير هذه الصورة، أعني: السير-، وقيام ذلك الدليل يدل على إلغاء اعتبار هذا الوصف، إذ لا يعارض منطوقه بالمفهوم من هذا الحديث؛ ¬

_ = والنسائي (601 - 602)، كتاب: المواقيت، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر، والترمذي (187)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الجمع بين الصلاتين في الحضر، وابن ماجه (1069)، كتاب: الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين في السفر. * مصَادر شرح الحَدِيث: انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 264)، و"الاستذكار" لابن عبد البر في (2/ 210)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 303)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 35)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 346)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 215)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 98)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 662)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 131)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 580)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 152)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 264). (¬1) انظر: "المبسوط" للسرخسي (1/ 149).

لأن دلالة ذلك على الجواز في تلك الصورة بخصوصها أرجح (¬1). (و) كان (يجمع) -صلى اللَّه عليه وسلم- (بين المغرب والعشاء)؛ أي: كذلك من اعتبار الوصف الذي ذكره، وهو كونه على ظهر سير، كما تقدم. ولا خلاف أن الجمع ممتنع بين صلاة الصبح وغيرها، وبين العصر والمغرب، كما لا خلاف بين الأئمة في جواز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة (¬2). وفي "الصحيحين"، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-، قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أراد أن يرتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم ينزل، فيجمع بينهما، وإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل، صلى الظهر، ثم ركب (¬3). وفي "المسند"، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أنه قال: ألا أحدثكم عن صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في السفر؟ قلنا: بلى، قال: كان إذا زاغت الشمس في منزله، جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب. وفيه: وإذا حانت المغرب له في منزله، جمع بينها وبين العشاء، الحديث (¬4). وفي "مسلم"، من حديث معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه-، قال: جمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 99). (¬2) المرجع السابق، (2/ 100). (¬3) رواه البخاري (1060)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، ومسلم (704)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، واللفظ له. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 367)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11522).

قال أبو الطفيل عامر بن واثلة: فقلت: ما حمله على ذلك؟! قال: أراد ألا يحرج أمته (¬1). وأخرج الترمذي؛ من حديث معاذ -أيضًا-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان في غزوة تبوك، إذا ارتحل قبل زيغ الشمس، أخر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر، فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس، عجل العصر إلى الظهر، ويصلي الظهو والعصر جميعًا، وكذا العشاء والمغرب. وكذا رواه الإمام أحمد، وأبو داود، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة: الأحكام التي تختلف بحسب السفر وغيره: الجمع جائز في الوقت المشترك؛ فتارة يجمع في أول الوقت، كما جمع -صلى اللَّه عليه وسلم- بعرفة، وتارة يجمع في وقت الثانية، كما جمع بمزدلفة، وفي بعض أسفاره، وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى، وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية؛ وهذا كله جائز، والتقديم والتأخير والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة (¬3). تنبيهات: الأول: قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث بهذا اللفظ ليس في كتاب مسلم، وإنما هو في كتاب البخاري، وأما رواية ابن عباس في الجمع بين ¬

_ (¬1) رواه مسلم (706)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر. (¬2) رواه الترمذي (553)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الجمع بين الصلاتين، وأبو داود (1220)، كتاب: الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 241). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 56).

الصلاتين في الجملة، من غير اعتبار لفظ بعينه؛ فمتفق عليه، كذا قال (¬1). قلت: بل هو متفق عليه، نعم، في بعض ألفاظه اختلاف، قال في "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق، عن ابن عباس: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جمع بين الصلاة، في سفرة سافرها في غزوة تبوك؛ فجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟! قال: أراد ألا يحرج أمته (¬2). قال الحافظ عبد الحق: لم يذكر البخاري تبوك، ولا قول سعيد، ولا وصل سنده به، ولفظه: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجمع بين صلاة الظهر والعصر، إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء، انتهى (¬3). الثاني: لم تختلف الفقهاء في جواز الجمع بين الصلاتين في الجملة، لكن أبا حنيفة يخصصه بالجمع بعرفة ومزدلفة، ويكون العلة فيه عنده النسك لا السفر، ويؤولون الأحاديث الواردة بالجمع على أن المراد: تأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها، وتقديم الثانية في أول وقتها (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 98). (¬2) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬3) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق (1/ 47). قلت: ومما ينبغي التنبيه عليه -وفات الشارحَ ذكرُه-: أن البخاري قد علَّق الحديث في "صحيحه"، ولم يصل سنده، فقال: وقال إبراهيم بن طهمان ... ، فذكره، والبخاري لم يدرك إبراهيم بن طهمان؛ إذ توفي سنة (168 هـ)، ففي إطلاق المصنف -رحمه اللَّه- أن البخاري رواه، مشاحة قوية. وقد وصله البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 164). وانظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 131)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 580). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 98).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها؛ فإنه يريد أن يبتدىء فيها إذا بقي من الوقت مقدار أربع ركعات، أو ثلاث في المغرب، ويريد مع ذلك ألا يطيلها، وإن كان نيته الإطالة، يشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك، ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت. ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الأشياء، علمًا وعملًا، مع إشغاله لقلب المصلي عن مقصود الصلاة، والجمع شرع رخصة ورفعًا للحرج عن الأمة، فكيف لا يشرع إلا مع هذا الحرج الشديد، مع النقص لمقصود الصلاة، وأطال في تقريره ذلك، واللَّه أعلم (¬1). الثالث: يجوز الجمع بين الظهرين والعشاءين في سفر القصر؛ عند الإمام أحمد، والشافعي، وقيل: يجوز حتى في السفر القصير، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وفاقًا لمالك (¬2). الرابع: يجوز الجمع للمريض -على الأصح- للمشقة؛ وفاقًا لمالك، واحتج الإمام أحمد بأنه أشد من السفر، وشرط بعضهم: إن جاز له ترك القيام (¬3). قال في "تنقيح التحقيق" (¬4): يجوز الجمع لأجل المرض؛ خلافًا لأصحاب الشافعي، واحتج لنا: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجاز لحمنة بنت جحش -لما استحيضت- أن تجمع بين الصلاتين (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 54). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 334 - 335). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 57). (¬4) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 63). (¬5) رواه أبو داود (287)، كتاب: الطهارة، باب: من قال: إذا أقبلت الحيضة، تدع =

الخامس: يجوز الجمع بين المغرب والعشاء خاصة، لمطر وثلج -في المنصوص- مع المشقة؛ وفاقًا لمالك، والشافعي، وجوزه الشافعي بين الظهرين لذلك -أيضًا-، ويجوز للوحل -في الأصح-، خلافًا لأبي حنيفة، والشافعي، واللَّه أعلم (¬1). * * * ¬

_ = الصلاة، والترمذي (128)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، وابن ماجه (627)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في البكر إذا ابتدئت مستحاضة، أو كان لها أيام حيض فنسيتها. (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 57).

باب قصر الصلاة في السفر

باب قصر الصلاة في السفر اعلم: أن من ابتدأ سفرًا مباحًا؛ وفاقًا لمالك؛ والشافعي، والأصح: أو هو أكثر قصده ناويًا، مسافة يومين برًا أو بحرًا، لا ثلاثة أيام بلياليها، بسير الإبل، خلافًا لأبي حنيفة. ومسافة اليومين: أربعة بُرُد، قال أبو المعالي: تحديدًا، وظاهر كلامهم: تقريبًا، وهو أولى؛ كما في "الفروع" (¬1)، وغيره، وجزم به في "الإقناع" (¬2)، وغيره، وهي: ستة عشر فرسخًا، وفاقًا لمالك، والشافعي، والفرسخ: ثلاثة أميال هاشمية، وبأميال بني أمية ميلان ونصف، والميل: اثنا عشر ألف قدم، ستة آلاف ذراع، والذراع: أربع وعشرون إصبعًا معترضة معتدلة، كل إصبع ست حبات شعير، بطون بعضها إلى بعض، عرض كل شعيرة ست شعرات برذون؛ فله قصر الرباعية خاصة إلى ركعتين، إجماعًا (¬3). وذكر الحافظ في هذا الباب حديثًا واحدًا، وهو: ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 47). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 274). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: صَحِبْتُ رَسولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بكرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ كَذِلِكِ (¬1). * * * (عن) أبي عبد الرحمن (عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: صحبت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-, فكان لا يزيد في السفر على ركعتين) سبب إيراد ابن عمر لهذا الحديث: ما في "صحيح مسلم"، عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رَحْلَه، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحوَ حيثُ صلى، فرأى ناسًا قيامًا، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلنا: ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1051)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: من لم يتطوع في السفر دبر الصلوات وقبلها، واللفظ له، و (1032)، باب: الصلاة بمنى، و (1572)، كتاب: الحج، باب: الصلاة بمنى، ومسلم (689/ 8)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، و (694)، باب: قصر الصلاة بمنى، وأبو داود (1223)، كتاب: الصلاة، باب: التطوع في السفر، والنسائي (1458)، كتاب: تقصير الصلاة في السفر، باب: التطوع في السفر، والترمذي (544)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التقصير في السفر، وابن ماجه (1069)، كتاب: الصلاة، باب: الجمع بين الصلاتين في السفر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 15)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 20)، و"المفهم" للقرطبى (2/ 330، 334)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 198)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 102)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 667)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 133)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 578)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 144)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 244).

يسبحون، قال: لو كنت مسبحًا، أتممت صلاتي، يا بن أخي! إني صحبت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه (¬1). (وأبا بكر) الصديق، (وعمر) الفاروق، (وعثمان) بن عفان (كذلك)؛ أي: لم يزد واحد منهم الظهر في السفر على ركعتين. وأخرجه البخاري من قوله: صحبت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ... إلى آخره. فقول ابن دقيق العيد -بعد إيراد كلام الحافظ على النسق الذي ذكره-: هذا لفظ رواية البخاري في الحديث، وفي لفظ رواية مسلم أكثر وأزيد، فليعلم ذلك، انتهى (¬2). لا طائل تحته؛ فالحديث متفق عليه، وإنما زاد مسلم سبب الحديث الذي ذكرناه، وفي آخره: وقد قال اللَّه -عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. قال الحافظ عبد الحق: والصحيح أن عثمان -رضي اللَّه عنه- أتم في آخر عهده، انتهى (¬3). قال ابن تيمية: قد علم بالتواتر: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما كان يصلي في السفر ركعتين، وكذلك أبو بكر، وعمر -رضي اللَّه عنهما- بعده، وهذا يدل على أن الركعتين أفضل؛ كما عليه جماهير العلماء، فإن قيل: ما فائدة ذكره لأبي بكر وعمر وعثمان مع أن الحجة قائمة بفعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فالجواب: فائدة ذلك العلمُ بكون ذلك معمولًا به عند الأئمة، لم يتطرق إليه النسخ، ولا معارض راجح، وأما إتمام عثمان في آخر أمره، فقد عرف إنكار أئمة الصحابة عليه ذلك، ومع هذا، فكانوا يصلون خلفه، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا برقم (689/ 8) عنده. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 102). (¬3) انظر: "الجمع بين الصحيحين" لعبد الحق الإشبيلي (1/ 462).

بل كان ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- يصلي أربعًا، وإن انفرد، ويقول: الخلاف شر، وكان ابن عمر إذا انفرد، صلى ركعتين (¬1). تنبيهات: الأول: الأفضل للمسافر القصر، نص عليه الإمام أحمد في رواية الأثرم، وقد سأله: هل للمسافر أن يصلي أربعًا؟ فقال: لا يعجبني، ولكن السفر ركعتان، وقد نقل عنه المروذي؛ أنه قال: إن شاء صلى أربعًا، وإن شاء صلى ركعتين (¬2). قال شيخ الإسلام: ولا يختلف قول الإمام أحمد: أن الأفضل هو القصر، بل نقل عنه إذا صلى أربعًا: أنه توقف في الإجزاء. ومذهب مالك: كراهة التربيع، وأنه يعيد في الوقت. ومذهب الشافعي: جواز الأمرين، واختلف عنه في الأفضل؛ أصح القولين: القصر، كإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، واختيار كثير من أصحابه، ومذهب أبي حنيفة، وكذا حماد بن سليمان: ليس له الإتمام، وهو قول الثوري، وأوجب حماد على من أتم الإعادة (¬3). وقال أصحاب الرأي: إن كان جلس بعد التشهد قدر ركعتين، فصلاته صحيحة، وإلا فلا، كذا في "الشرح الكبير" (¬4). والذي في كلام شيخ الإسلام: إذا جلس مقدار التشهد، تمت صلاته، ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 98 - 100). (¬2) وانظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية ابنه عبد اللَّه" (ص: 117). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 93). (¬4) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 100).

والمفعول بعد ذلك كصلاة منفصلة قد تطوع بها، وإن لم يقعد مقدار التشهد، بطلت صلاته، انتهى (¬1). وقال عمر بن عبد العزيز: الصلاة في السفر ركعتان حتم، لا يصح غيرهما (¬2). والحديث إنما يقتضي أفضلية القصر؛ لمواظبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه، ورجحانه على الإتمام، والفعل بمجرده لا يدل على الوجوب، مع دلالة قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، فرفع الجناح، ولم يوجب القصر (¬3). وفي حديث يعلى بن أمية؛ لما سأل عمر عن الآية، وقال له: قد أمن الناس!، فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "صدقة تصدق اللَّه بها عليكم، فاقبلوا صدقة اللَّه" (¬4)، فدل على أنه رخصة، وليس بعزيمة. وقالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: خرجت مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في عمرة في رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول اللَّه! بأبي وأمي، أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت؟! قال: "أحسنت" رواه أبو داود، والدارقطني، وقال: إسناده حسن (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 96). (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 271). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 102). (¬4) رواه مسلم (686)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها. (¬5) لم يروه أبو داود في "سننه". وقد رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 188)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 142).

وأنكر الحافظ ابن عبد الهادي ذلك، وقال: قوله: "عمرة في رمضان" باطل؛ فإن نبي اللَّه لم يعتمر في رمضان قط (¬1). وفي حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: قصر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في السفر وأتم، وصام وأفطر، رواه عبد اللَّه بن الإمام أحمد، والدارقطني، وقال: إسناده صحيح، واللَّه أعلم (¬2). الثاني: قد علم مما تقدم: أن القصر رخصة، وهي لغةً: السهولة، واصطلاحًا: أتت على خلاف أصل شرعي لمعارض راجح. وقال أبو حنيفة: هو عزيمة، وهي لغة: القصد المؤكد، واصطلاحًا: ما جاء على وفق أصل شرعي خال من معارض راجح. وعن أصحاب مالك: كالمذهبين (¬3). فمن قال: إنه عزيمة، يوجب القصر، ولو في سفر غير مباح. قال ابن حزم، وغيره: من صلى أربعًا في السفر، فصلاته باطلة، كما لو صلى الفجر أربعًا (¬4). وقد روى سعيد في "سننه"، عن الضحاك بن مزاحم، قال: قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: من صلى في السفر أربعًا، كمن صلى في ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 48). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 189). قال عبد اللَّه بن الإمام أحمد في "العلل" (1/ 404): سألت أبي عن المغيرة بن زياد، فقال: ضعيف الحديث، قال أبي: وروى عن عطاء، عن عائشة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا سافر قصر وأتم، والناس يروونه عن عطاء مرسلًا. وانظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 48). (¬3) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 110). (¬4) انظر: "المحلى" لابن حزم (4/ 270).

الحضر ركعتين (¬1)، وخص ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- جواز القصر بسفر الحج والعمرة والجهاد، واللَّه أعلم (¬2). الثالث: اعتبار كون المسافة ستة عشر فرسخًا، فما زاد، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، وهو مذهب مالك، والليث، والشافعي، وإسحاق، وروي عن ابن عمر: أنه يقصر في مسيرة عشرة فراسخ، حكاه ابن المنذر. وروي نحوه عن ابن عباس، فإنه قال: يقصر في يوم، ولا يقصر فيما دونه (¬3)، وإليه ذهب الأوزاعي، قال ابن المنذر: عامة العلماء يقولون: مسيرة يوم تام، وبه نأخذ، انتهى. وعن ابن مسعود: أنه إنما يقصر في مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة. وقد وري عن جماعة من السلف ما يدل على جواز القصر في أقل من يوم، قال الأوزاعي: كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ (¬4). وهذا القول مختار شيخ الإسلام ابن تيمية، وله إليه ميل كلي، وذكر على صحته أدلة متعددة (¬5)، واللَّه -سبحانه وتعالى- أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 251) (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 96). (¬3) روى عبد الرزاق في "المصنف" (4299)، عن ابن عباس، قال: إذا سافرت يومًا إلى العشاء، فأتم الصلاة، فإن زدت، فاقصر. (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 47 - 48). (¬5) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 123)، وما بعدها.

باب الجمعة

باب الجمعة أي: وجوب صلاة الجمعة، والأحكام المتعلقة بها. الأصل في فرض الجمعة: الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] أمر بالسعي، ومقتضى الأمر الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى واجب، والمراد بالسعي هنا: الذهاب إليها، لا الإسراع؛ فإن السعي في كتاب اللَّه لا يراد به العَدْو، كقوله: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى} [عبس: 8، 9]، {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] وأشباهه، ويروى عن عمر -رضي اللَّه عنه-: أنه كان يقرأ: فامضوا إلى ذكر اللَّه (¬1). وأما السنة: فقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن اللَّه على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين" متفق عليه (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 106)، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 50)، وعبد الرازق في "المصنف" (5348)، وغيرهم. وانظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 70). (¬2) رواه مسلم (865)، كتاب: الجمعة، باب: التغليظ في ترك الجمعة، عن =

وقال -عليه الصلاة والسلام-: "الجمعة حق واجب على كل مسلم، إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض" رواه أبو داود (¬1). وروى ابن ماجه من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-، قال: خطبنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "واعلموا أن اللَّه تعالى قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في شهري هذا، من عامي هذا، فمن تركها في حياتي، أو بعد موتي، وله إمام عادل، أو جائر، استخفافًا بها، أو جحودًا بها، فلا جمع اللَّه له شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج له، ألا ولا صوم له، ولا برَّ له؛ حتى يتوب، فإن تاب، تاب اللَّه عليه" (¬2). وأجمع المسلمون: على وجوب الجمعة. وفرضت الجمعة بمكة قبل الهجرة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فعلت بمكة على صفة الجواز، وفرضت بالمدينة، انتهى (¬3). والجمعة: -بضم الجيم والميم، ويجوز سكون الميم، وفتحها؛ حكى الثلاثة ابن سيده (¬4)، مشتقة من اجتماع الناس للصلاة فيه، قاله ابن ¬

_ = ابن عمر، وأبي هريرة -رضي اللَّه عنهم-، وقد انفرد به، فلم يخرجه البخاري في "صحيحه". (¬1) رواه أبو داود (1067)، كتاب: الصلاة، باب: الجمعة للمملوك والمرأة، عن طارق بن شهاب -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه ابن ماجه (1081)، كتاب: الصلاة، باب: في فرض الجمعة، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (4/ 181)، وغيرهما. (¬3) نقله البهوتي في "كشاف القناع" (2/ 21). (¬4) انظر: "المحكم" لابن سيده (1/ 213)، (مادة: جمع).

دريد (¬1)، وقيل: لاجتماع الخليقة فيه وكمالها (¬2). وروي عنه -عليه الصلاة والسلام-؛ أنها سميت بذلك: لاجتماع آدم مع حواء فيه في الأرض (¬3). وفي "الفصول": سميت بذلك؛ لجمعها الجماعات، وقيل: لجمع طين آدم فيها، وقيل: لأن آدم جُمع فيها خلقُه، رواه الإمام أحمد، وغيره، مرفوعًا (¬4). وقدم صاحب "المحرر"، وغيره: لجمعها الخلق الكثير (¬5). ومن أسمائه القديمة: العروبة، قال ثعلب: أول من سماه جمعة كعبُ بن لؤي، وكان اسم الأحد: أول، والاثنين: أهون، والثلاثاء: جبار، والأربعاء: دبار، والخميس: مؤنس، والجمعة: عروبة، والسبت: شيار -بالشين المعجمة، فياء مثناة تحت، فألف، فراء-. قال الجوهري: أنشدني أبو سعيد قال: أنشدني ابن دريد، عن بعض شعراء الجاهلية: [من الوافر] أُؤَمِّلُ أَنْ أَعيشَ وإنَّ يومي ... بأَوَّلَ أَو بأَهْوَنَ أَوْ جبارِ أو التالي دُبارٌ أو فيومي ... بمؤنسَ أو عَروبةَ أو شيارِ (¬6) ¬

_ (¬1) حكاه عنه القاضي عياض في "مشارق الأنوار" (1/ 153). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 106). (¬3) انظر: "تفسير القرطبي" (2/ 421)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 523). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 439)، عن سلمان الفارسي -رضي اللَّه عنه-، وفيه: " .. هو اليوم الذي جمع اللَّه فيه أباكم ... " الحديث. (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 72). (¬6) البيتان في "جمهرة اللغة" لابن دريد (3/ 1311)، و"المحكم" لابن سيده (2/ 93)، (مادة: عرب)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 593)، وقد عزاهما ابن منظور هنا، وكذا الزبيدي في "تاج العروس" (3/ 341)، (مادة: عرب). =

وذكر الحافظ -قدس اللَّه روحه- في هذا الباب ثمانية أحاديث. * * * ¬

_ = وابن أبي الفتح -كما ذكر هنا- في "المطلع" (ص: 106)، إلى "الصحاح" للجوهري، ولم أر البيتين عنده، وإنما ذكر -كما نقلوا عنه- (1/ 180) في (مادة: عرب): ويوم العروبة: يوم الجمعة، وهو من أسمائهم القديمة، انتهى، وما زادوه من ذكر البيتين، لاذكر لهما في شيء من طبعات "الصحاح" التي وقفت عليها، واللَّه أعلم بالصواب.

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: كَانَ النَبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقْرَأُ في صَلَاةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجْدَةَ، و: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} (¬1) [الإنسان: 1]. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (851)، كتاب: الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة، و (1018)، كتاب: سجود القرآن، باب: سجدة "تنزيل" السجدة، ومسلم (880/ 65)، واللفظ له، و (880/ 66)، كتاب: الجمعة، باب: ما يقرأ في يوم الجمعة، والنسائي (955)، كتاب: الافتتاح، باب: القراءة في الصبح يوم الجمعة، وابن ماجه (823)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في صلاة الفجر يوم الجمعة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 284)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 516)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 167)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 119)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 692)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 382)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 378)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 184)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 177)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 341). * تنبيه: وقع هذا الحديث عند الإمام ابن دقيق العيد في آخر باب الجمعة، وحديث سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه- الذي يليه، في أول الباب، وتبعه ابن العطار في "العدة في شرح العمدة" على هذا، وكذا أورده الفاكهي في "شرحه"، قال ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (4/ 113): وكذا هو في محفوظنا.

(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي (-رضي اللَّه عنه-، قال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم (1) تَنْزِيلُ}) سورة (السجدة) في الركعة الأولى، (و) يقرأ في الركعة الثانية سورة: (هل أتى على الإنسان}) {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا} [الإنسان: 1]؛ لما في السورتين من مناسبة ذكر الخلق والبعث يوم الجمعة، والسجدة جاءت ضمنًا، فلم يجيء عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يقصد السجدة. قال في "الفروع": يسن أن يقرأ في فجرها؛ أي: الجمعة {الم} السجدة، وفي الثانية: {هَلْ أَتَى}؛ خلافًا لمالك، قال شيخنا: لتضمنهما ابتداء خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان إلى أن يدخل الجنة أو النار، وتكره مداومته عليهما -في المنصوص-. قال الإمام أحمد: لئلا يظن أنها مفضلة بسجدة، وقال جماعة: لئلا يظن الوجوب، وقرأها الإمام أحمد، فسها أن يسجد، فسجد للسهو. وقال: قال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-: يكره تحريه قراءة سجدة غيرها، والسنة إكمالها (¬1). وكره الإمام مالك للإمام قراءة السجدة في صلاة الفرض، خشية التخليط على المأمومين (¬2)، وخص بعض أصحابه الكراهة بصلاة السر؛ فعلى هذا لا يكون مخالفًا لمقتضى هذا الحديث (¬3)، وإلا، فالحديث حجة عليه، مع اتفاقهما على تخريجه من حديث أبي هريرة. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 100). (¬2) انظر: "المدونة" لابن القاسم (1/ 110). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 119).

وأخرج مسلم، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ... الحديث، وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الجمعة: سورة الجمعة، والمنافقين (¬1). فإن قلت: ظاهر الحديث يقتضي الدوام أو الكثرة، وأنتم قلتم بكراهة المداومة عليهما؟ فالجواب: ترك القراءة بهما أحيانًا من الجمع، لا ينفي الكثرة المفهومة من لفظة "كان"، ولما كانت المداومة على القراءة بالسورتين في الجمعة ذريعة لاعتقاد العامة وجوب ذلك، أو تفضيل صلاة فجر يوم الجمعة بسجدة؛ استحببنا ترك القراءة بهما في بعض الجمع؛ سدًا لهذه الذريعة، وحسمًا لما عساه يخلد في صدور العامة، من وجوب غير الواجب شرعًا. وأما القول بالكراهة مطلقًا، فيأباه الحديث، وإذا انتهى الحال إلى أن تقع هذه المفسدة، فينبغي أن تترك القراءة بهما في بعض الأوقات؛ لما ذكرنا، وليس في الحديث ما يقتضي فعل ذلك دائمًا اقتضاءً قويًا، وعلى كل حال، فهو مستحب، ويشرع ترك المستحب أحيانًا لدفع المفسدة؛ كترك مداومة صلاة الضحى (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -روح اللَّه روحه- في "الفتاوى المصرية" السجدة يوم الجمعة ليست واجبة باتفاق العلماء، وإنما تنازع العلماء، هل يستحب أن يقرأ في الفجر يوم الجمعة بـ {الم (1) تَنْزِيلُ}، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1]، ويسجد؟ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (879)، كتاب: الجمعة، باب: ما يقرأ في يوم الجمعة. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 120).

فكره ذلك: أبو حنيفة، ومالك، واستحبه الشافعي، وأحمد، لكن لا ينبغي للإمام أن يداوم عليها، حيث يظن العامة أن ذلك واجب، انتهى (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 429 - 430).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَامَ، فَكَبَّرَ، وَكبَّرَ النَّاسُ وَرَاءَهُ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، ثُمَّ رجع فَنَزَلَ القَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ في أَصْل المِنْبَرِ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِه، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "أيها النَّاسُ! إنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي" (¬1). وفي لفظ: صَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ كبَّرَ عَلَيْها، ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ نَزَلَ القَهْقَرَى (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (875)، كتاب: الجمعة، باب: الخطبة على المنبر، ومسلم (544)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة، وأبو داود (1080)، كتاب: الصلاة، باب: في اتخاذ المنبر، والنسائي (739)، كتاب: المساجد، باب: الصلاة على المنبر. (¬2) رواه البخاري (875)، كتاب: الجمعة، باب: الخطبة على المنبر. والحديث رواه أيضًا: البخاري (370)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، و (1988)، كتاب: البيوع، باب: النجَّار، و (2430)، كتاب: الهبة، باب: من استوهب من أصحابه شيئًا، وابن ماجه (1416)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في بدء شأن المنبر. * مصَادر شرح الحَدِيث: انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 247)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 477)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 153)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 33)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 107)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 671)، و"فتح الباري" لابن رجب =

(عن) أبي العباس (سهل بن سعد) بن مالك بن خالد بن ثعلبةَ بن حارثةَ بن عمرو بن الخزرج بن ساعدةَ بن كعب بن الخزرج (الساعدي) الخزرجيِّ الأنصاريِّ (-رضي اللَّه عنه-) كان اسمه حزنًا، فسماه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سهلًا (¬1)، مات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وله خمس عشرة سنة. ومات سهل بالمدينة سنة إحدى وسبعين، وقيل: سنة ثمان وثمانين، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة، قال ابن سعد: بلا خلاف، وكان عمره يومئذ ستًا وتسعين سنة، وقيل: مئة سنة. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: مئة حديث، وثمانية وثمانون حديثًا، اتفقا على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر (¬2). (أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قام، فكبر) تكبيرة الإحرام، (وكبر الناس) من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- (وراءه) -صلى اللَّه عليه وسلم-، (وهو)؛ أي: والحال أنه -عليه السلام- (على المنبر) النبوي، وكان ثلاث درجات، (ثم رجع) عن وقوفه على المنبر، (فنزل) عنه (القهقرى)، وهو المشي إلى خلف من غير أن يعيد وجهه إلى جهة مشيه، قيل: إنه من باب القهر (¬3). ¬

_ = (5/ 463)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 397)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 214). (¬1) قاله ابن حبان في "مشاهير علماء الأمصار" (ص: 25). (¬2) وانظر ترجمته في "الثقات" لابن حبان (3/ 168)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 664)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (26/ 261)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 575)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 227)، و"تهذيب الكمال" للمزي (12/ 188)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 422)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 200)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (4/ 221). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 129).

وفي لفظ في البخاري، من حديث سهل -رضي اللَّه عنه-: فاستقبل القبلة، وكبر، وقام الناس خلفه، فقرأ، وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى (¬1) (حتى سجد في أصل المنبر)، وفي لفظ للبخاري: فسجد على الأرض (¬2)، (ثم) بعد فراغه من سجوده (عاد) إلى المنبر، وذكر الركعة الثانية، ففعل مثل فعله الأول (حتى فرغ من آخر صلاته) وهو يفعل كذلك، (ثم أقبل) -صلى اللَّه عليه وسلم- (على الناس) من أصحابه -رضي اللَّه عنهم-، (فقال: أيها الناس! إنما صنعت هذا)؛ أي: الذي صنعه من كونه كان يصعد على المنبر، فيركع عليه، ويرفع من ركوعه، ثم يرجع القهقرى، حتى يسجد في أصل المنبر من الأرض؛ (لـ) أجل أن (تأتموا)؛ أي: تقتدوا (بي) في صلاتي (ولتعلَّموا صلاتي)؛ أي: من أن من صلى كصلاتي، وفعل فيها كفعلي، فأقل منه؛ لم يبطل صلاته. (وفي لفظ:) أرسل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى فلانة -امرأة من الأنصار، قد سماها سهل-: "مري غلامك النجار"، ووقع في "تجريد الذهبي": علانة (¬3)، وقال البلقيني وغيره: هو تصحيف من فلانة. قال في "الفتح": اسم الغلام ميمون، وأما المرأة، فزعم الكرماني: أن اسمها عائشة، ولم يرتض ذلك، وقال عن مالك: إن النجار كان مولى لسعد بن عبادة، فيحتمل أن [يكون] في الأصل مولى امرأته، ونسب إليها مجازًا، قال: واسم امرأته فكيهة بنت عبيد بن دليم، وهي ابنة عمه، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (370) عنده. (¬2) تقدم تخريجه برقم (370) عنده. (¬3) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (2/ 288).

أسلمت وبايعت، انتهى (¬1). "أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليها، إذا كلمت الناس" الحديث (¬2). وفيه: ثم رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (صلى عليها)؛ أي: على الأعواد، يعني: المنبر، (ثم كبر عليها) تكبيرة الركوع، (ثم ركع وهو) -صلى اللَّه عليه وسلم- (عليها، ثم نزل) عنها (القهقرى). ففي هذا الحديث: دليل على جواز صلاة الإمام على أرفع مما عليه المأموم؛ لقصد التعليم، وأما من غير هذا القصد، فمكروه، وزاد أصحاب مالك، أو من قال منهم، فقالوا: إن قصد التكبر، بطلت صلاته (¬3). وحاصل مذهبنا: يكره علو الإمام على المأموم علوًا كثيرًا، وهو ذراع فأكثر، لا عكسه، والكراهة تزول بقصد التعليم؛ لأنه حاجة، وإذا صلى مع الإمام على المكان المرتفع أحد من المأمومين مساويًا، أو أعلى منه: انتفت الكراهة (¬4). قال ابن دقيق العيد: من أراد أن يستدل بهذا الحديث على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم، لم يستقم له ذلك؛ لانفراد الأصل بوصف معتبر، تقتضي المناسبة اعتباره (¬5). وفي الحديث: دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة، وأنه لا يتقيد بثلاث حركات؛ لأن المنبر كان ثلاث درجات، فإذا نزل لها لا بد من تأخره ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 486 - 487). (¬2) تقدم تخريجه برقم (875) عند البخاري. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 108). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 29)، و"الروض المربع" للبهوتي (1/ 263). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 108).

حتى يسجد، فزاد على الثلاث حركات، والذي يقيد اليسير بما دون الثلاث ليس له مندوحة، إلا الاعتذار بعدم التوالي، وفي الرواية التي ذكرناها عن البخاري نص على أن نزوله كان بعد الرفع من الركوع، وهو متعين (¬1). وفيه: جواز الصلاة على الخشب، وكره ذلك الحسن، وابن سيرين، أخرجه ابن أبي شيبة عنهما (¬2)، وأخرج أيضًا عن ابن مسعود (¬3)، وابن عمر: نحوه، وعن مسروق: أنه كان يحمل لبنة فيسجد عليها، إذا ركب السفينة، وعن ابن سيرين: نحوه (¬4)، والمعتمد: الجواز، واللَّه تعالى أعلم (¬5). تنبيه: كان ذكر هذا الحديث في هذا الباب لمناسبة ذكر المنبر، وإلا، فلا اختصاص لصلاة الجمعة بذلك (¬6)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2832)، عن الحسن، و (2830)، عن ابن سيرين. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2829، 2831)، عن ابن مسعود، و (2828)، لكن عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6603، 6605)، عن ابن سيرين: أن مسروقًا كان يحمل ... ، فذكره. وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" (6604)، عن ابن سيرين: أنه كره أن يسجد على الخشبتين المقرونتين في السفينة. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 487). (¬6) قال ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (4/ 113): كان المناسب للمصنف -رحمه اللَّه- ذكر هذا الحديث في باب الإمامة، ووجه دخوله في هذا الباب من وجهين: الأول: ذكر شأن المنبر فيه. الثاني: أن فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- للصلاة على الوجه المذكور، وتعليله إنما كان ليأتموا به، وليتعلموا صلاته، وهذا المقصود في الجملة أبلغ منه في غيرها من الصلوات، إذ لا فرق في الحكم، انتهى. قلت: والثاني نقله عن ابن العطار في "العدة" (2/ 671).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ جاء مِنْكُمُ الجُمُعَةَ، فَلْيَغْتَسِلْ" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (837)، كتاب: الجمعة، باب: فضل الغسل يوم الجمعة، و (854)، باب: هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم، و (877)، باب: الخطبة على المنبر، ومسلم (844)، في أول كتاب: الجمعة، والنسائي (1376)، كتاب: الجمعة، باب: الأمر بالغسل يوم الجمعة، و (1405 - 1407)، باب: حض الإمام في خطبته على الغسل يوم الجمعة، والترمذي (492)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الاغتسال يوم الجمعة، وابن ماجه (1088)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الغسل يوم الجمعة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 17)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 280)، "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 232)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 478)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 130)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 109)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 674)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 337)، و"طرح التثريب" للعراقي (3/ 165)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 357)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 165)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 290).

(عن) أبي عبد الرحمن (عبد اللَّه بن عمر) بن الخطاب (-رضي اللَّه عنهما-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: من جاء منكم) -معشر المسلمين من ذكور الأمة- (الجمعة) لصلاتها، (فليغتسل) لها في يومها، يعني: من أراد المجيء، يعني: الذهاب إليها، وقصد الشروع فيه، وقال مالك به، واشترط الاتصال بين الغسل والذهاب، وغيره لم يشترط ذلك، وإنما اعتبر علماؤنا كون الغسل ما بين طلوع الفجر الثاني وصلاتها، نعم، الأفضل عند المضي إليها. وأبعد الظاهري؛ حيث لم يعتبر تقدم الغسل على إقامة صلاة الجمعة، حتى لو اغتسل قبل الغروب، كفى عنده؛ تعلقًا بإضافة الغسل إلى اليوم. وقد تبين في بعض الأحاديث: أن الغسل لإزالة الرائحة الكريهة، ويفهم: أن القصد عدم تأذي الحاضرين، وذلك منتف بعد إقامة الجمعة (¬1). فإن قيل: هذا التعليل ينافي قولكم: من اغتسل بعد الفجر حصل على السنة! فالجواب: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من اغتسل يوم الجمعة"، واليوم من طلوع الفجر، فلاحظنا العلة المذكورة، ولم نهمل ما صدق الحديث؛ وهذا قول مجاهد، والحسن، والثوري، والنخعي، والشافعي، وإسحاق، وحكي عن الأوزاعي: أنه يجزيه الغسل قبل الفجر. وإن اغتسل، ثم أحدث: أجزأه الغسل على المعتمد، وفاقًا لمالك، والشافعي. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 110).

واستحب طاوس، والزهري، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير إعادة الغسل. ولنا: أنه اغتسل في يوم الجمعة، أشبه من لم يحدث، والحدث إنما يؤثر في الطهارة الصغرى؛ ولأن المقصود من الغسل التنظيف وإزالة الرائحة، وقد حصل، والحدث لا أثر له في ذلك (¬1). تنبيه: ظاهر هذا الحديث يقتضي وجوب غسل الجمعة؛ لدلالة الأمر على الوجوب، وقد جاء مصرحًا بلفظ الوجوب؛ كما في حديث أبي سعيد، رواه مالك، وأحمد، والشيخان، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، ولفظه: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" (¬2). وفي "الصحيحين"، وغيرهما: أن عمر -رضي اللَّه عنهما- بينا هو يخطب الناس يوم الجمعة، إذ دخل رجل من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من المهاجرين الأولين -يعني: عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه؛ كما صرح به في رواية عندهما-، فناداه عمر: أية ساعة هذه؟! قال: إني شُغلت اليوم، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد على أن توضأت، فقال ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 99). (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 102)، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 6)، والبخاري: (839)، كتاب: الجمعة، باب: فضل الغسل يوم الجمعة، ومسلم (846)، كتاب: الجمعة، باب: الطيب والسواك يوم الجمعة، وأبو داود (341)، كتاب: الطهارة، باب: في الغسل يوم الجمعة، وابن ماجه (1089)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الغسل يوم الجمعة. قلت: ولم يخرج الترمذي هذا الحديث في "سننه"، بل خرج حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، ثم قال: وفي الباب: عن عمر، وأبي سعيد، وجابر، والبر اء، عن عائشة، وأبي الدرداء -رضي اللَّه عنهم-.

عمر: والوضوء أيضًا! وقد علمت أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يأمر بالغسل (¬1). قال الجلال السيوطي: أي متأكد (¬2). وقال الخطابي: معناه: وجوب الاختيار والاستحباب دون وجوب الفرض؛ كما يقول الرجل لصاحبه: حقك واجب علي؛ أي: متأكد (¬3). وقال ابن عبد البر: ليس المراد أنه واجب فرضًا، بل هو مؤول واجب في السنة، أو في المروءة، أو في الأخلاق الجميلة، ثم أخرج بسنده من طريق أشهب، عن مالك: أنه سئل عن غسل الجمعة: أواجب هو؟ قال: هو حسن، وليس بواجب. وأخرج من طريق ابن وهب: أن مالكًا سئل عن غسل يوم الجمعة: واجب هو؟ قال: هو سنة ومعروف، قيل: إنه في الحديث واجب؟، قال: ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك (¬4). والصارف له عن الوجوب: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي؛ من حديث سمرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من توضأ يوم الجمعة، فبها ونعمت، ومن اغتسل، فالغسل أفضل"، ورواه ابن خزيمة -أيضًا- (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (838)، كتاب: الجمعة، باب: فضل الغسل يوم الجمعة، ومسلم (845)، في أول كتاب الجمعة. (¬2) انظر: "حاشية السيوطي على سنن النسائي" (3/ 93). (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 106). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (16/ 212 - 215). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 8)، وأبو داود (354) كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، والنسائي (1380)، كتاب: الجمعة، باب: الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، والترمذي (497)، كتاب: =

قال الإمام شمس الدين بن أبي عمر في "شرح المقنع": ليس غسل الجمعة واجبًا في قول أكثر أهل العلم، قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن بعدهم، منهم: مالك، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، وحكاه ابن عبد البر إجماعًا، وفي حديث عكرمة: أن ناسًا من أهل العراق جاؤوا فقالوا: يا بن عباس! أترى الغسل يوم الجمعة واجبًا؟، قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل، فليس عليه بواجب، الحديث (¬1). وروي وجوبه: عن أبي هريرة، وعمرو بن سليم، وقاول عمار بن ياسر رجلًا، فقال: أنا إذًا شر ممن لا يغتسل يوم الجمعة (¬2). قال ابن دقيق العيد: وقد نص مالك على الوجوب، فحمله من لم يمارس مذهبه على ظاهره، وحكي عنه: أنه يرى الوجوب، ولم ير ذلك أصحابه على ظاهره (¬3). فائدة: روى البخاري، من حديث سلمان الفارسي -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين ¬

_ = الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء يوم الجمعة، وابن خزيمة في "صحيحه" (1757). (¬1) رواه أبو داود (353)، كتاب: الطهارة، باب: الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 295)، وابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 85). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5001)، بلفظ: أنا إذًا أنتن من الذي لا يغتسك يوم الجمعة. وانظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 199). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 110).

اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر له ما بينه، وبين الجمعة الأخرى" (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما"، والحاكم وصححه؛ عن أوس بن أوس الثقفي -رضي اللَّه عنه-، قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها" (¬2). ورواه الطبراني في "الأوسط" من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- (¬3). قال الخطابي: قوله: "غسل واغتسل، وبكر وابتكر" اختلف الناس في معناه: فمنهم من ذهب [إلى] أنه من الكلام المتظافر الذي يراد به التوكيد، ولم تقع المخالفة بين المعنيين لاختلاف اللفظين، وقال: ألا تراه يقول في هذا الحديث: "ومشى ولم يركب" ومعناهما واحد؟ قال: وإلى هذا ذهب الأثرم صاحب الإمام أحمد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (843)، كتاب: الجمعة، باب: الدهن للجمعة. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 9)، وأبو داود (345)، كتاب: الطهارة، باب: في الغسل يوم الجمعة، والترمذي (496)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الغسل يوم الجمعة، والنسائي (1381)، كتاب: الجمعة، باب: فضل غسل يوم الجمعة، وابن ماجه (1087)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الغسل يوم الجمعة، وابن خزيمة في "صحيحه" (1758)، وابن حبان في "صحيحه" (2781)، والحاكم في "المستدرك" (1040). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (4414).

وقال بعضهم: "غسل" معناه: غسل الرأس خاصة، وإلى هذا ذهب مكحول. و"اغتسل" معناه: غسل سائر الجسد. وزعم بعضهم: أن قوله: "غسل" معناه: أصاب أهله قبل خروجه إلى الجمعة؛ ليكون أملك لنفسه، وأحفظ في طريقه لنظره. وقوله: "وبكر وابتكر" زعم بعضهم: أن معنى "بكر": أدرك باكورة الخطبة، وهي أولها، ومعنى "وابتكر": قدم في الوقت. وقال ابن الأنباري: معنى "بكر": تصدق قبل خروجه، وتأول في ذلك ما روي في الحديث: "باكروا بالصدقة؛ فإن البلاء لا يتخطاها" (¬1). وقال الحافظ أبو بكر بن خزيمة: من قال في الخبر: "غسل واغتسل" -يعني: بالتشديد- معناه: جامع، فأوجب الغسل على زوجته أو أمته، واغتسل، ومن قال بالتخفيف: أراد غسل رأسه، واغتسل، فغسل سائر جسده؛ لخبر طاوس، عن ابن عباس، قال: قلت لابن عباس: زعموا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اغتسلوا يوم الجمعة، واغسلوا رؤوسكم، وإن لم تكونوا جنبًا، ومسوا من الطيب"، قال ابن عباس: أما الطيب، فلا أدري، وأما الغسل فنعم (¬2)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 248)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3353)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 339)، والديملي في "مسند الفردوس" (2079)، عن أنس -رضي اللَّه عنه-. ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5643)، عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-. انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 108). (¬2) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1759)، وكذا البخاري (844)، كتاب: الجمعة، باب: الدهن للجمعة، وانظر: "صحيح ابن خزيمة" (3/ 128).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَهُوَ قَائِمٌ، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: قال ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام" (2/ 113): لم أقف عليه بهذا اللفظ في "الصحيحين"، فمن أراد تصحيحه، فعليه إبرازه. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 406)، وغفل صاحب "العمدة"، فعزا هذا اللفظ للصحيحين. قلت: وأغرب ابن العطار في "العدة في شرح العمدة" (2/ 680)، فجعل هذا الحديث من رواية جابر بن سمرة، ثم قال: كذا هو مبين في "صحيح مسلم"؟! ثم ساق ترجمة جابر بن سمرة -رضي اللَّه عنه-. قال الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 136)، معقبًا على ما ذكره ابن العطار: وهو عجيب؟ لم يقع في العمدة من روايته، ولا يمكن ذلك؛ لأنه من أفراد مسلم، انتهى. وكذا قال ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (4/ 140). قلت: ورواه البخاري، من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- (886)، كتاب: الجمعة، باب: القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة، بلفظ: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب خطبتين، يقعد بينهما. ورواه البخاري (878)، كتاب: الجمعة، باب: الخطبة قائمًا، ومسلم (861)، كتاب: الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة، وما فيهما من الجلسة، من حديثه أيضًا بلفظ: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم، كما يفعلون اليوم"، والسياق لمسلم، والحديث الذي ذكره المصنف -رحمه اللَّه- رواه النسائي (1416)، كتاب: الجمعة، باب: الفصل بين الخطبتين بالجلوس، وابن خزيمة في "صحيحه" (1446)، والدارقطني في "سننه" (2/ 20)، وغيرهم. =

(عنه)؛ أي: عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، (قال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب خطبتين) يوم الجمعة (وهو قائم) على المنبر النبوي فيهما، فيسن أن يخطب الخطبتين قائمًا، وعنه: أن القيام شرط، جزم به في "النصيحة"؛ وفاقًا للشافعي، ولمالك في رواية عنه (¬1). (يفصل) الخطيب (بينهما)؛ أي: الخطبتين (بجلوس) منه خفيف، قال جماعة: بقدر سورة الإخلاص، وإن أبى، فصل بسكتة (¬2). وعند الشافعي: الجلوس بين الخطبتين ركن؛ كالقيام فيهما عنده، وقاله أبو بكر النجاد في الجلسة بينهما، وعن مالك: يجب، وتصح بدونه. قال الطحاوي عن قول الشافعي: لم يقله غيره (¬3). قال في "شرح المقنع": يجلس بين الخطبتين، لما روى ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يجلس إذا صعد المنبر، حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ويجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب، رواه أبو داود (¬4). ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 113)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 680)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 135)، "والإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (4/ 140)، وانظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 256)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 502)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 149)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 406)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 228)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 329). (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 93). (¬2) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 36). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 93). (¬4) رواه أبو داود (1092)، كتاب: الصلاة، باب: الجلوس إذا صعد المنبر.

قال: وتكون الجلسة بين الخطبتين خفيفة، وليست واجبة في قول أكثر أهل العلم، وقال الشافعي: هي واجبة. ولنا: أنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع، فلم تكن واجبة، كالجلسة الأولى (¬1). وروي عن أبي إسحاق، قال: رأيت علي بن أبي طالب- رضي اللَّه عنه- يخطب على المنبر، فلم يجلس حتى فرغ (¬2). تنبيهان: الأول: روي عن الإمام أحمد، ما يدل على أن القيام في الخطبة واجب، فروى الأثرم، قال: سمعت أبا عبد اللَّه يُسأل عن الخطبة قاعدًا، أو يقعد في إحدى الخطبتين؟ فلم يعجبه، وقال: قال اللَّه تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب قائمًا، فقال له الهيثم بن خارجة: كان عمر بن عبد العزيز يجلس في خطبته، فظهر منه إنكار (¬3). قال في "تنقيح التحقيق" (¬4): وأصحابنا حملوا هذا على الاستحباب، ورووا عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-؛ أنه قال: لما ثقل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، جلس (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 185). (¬2) رواه الإمام الشافعي في "الأم" (7/ 167)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (5181). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 74). وانظر: "كتاب التمام لما صحَّ في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام" للقاضي أبي يعلى الحنبلي (1/ 235). (¬4) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 77). (¬5) كذا ذكره ابن أبي يعلى في "كتاب التمام" (1/ 235)، فقال: روى ابن عباس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يخطب خطبة واحدة قائمًا، فلما ثقل وسمن، جعلها خطبتين، يجلس بينهما جلسة واحدة يستريح فيها. وقد روى الإمام أحمد في "المسند" =

الثاني: قال ابن دقيق العيد -رحمه اللَّه تعالى-: وهذا اللفظ الذي ذكره المصنف، لم أقف عليه بهذه الصيغة في "الصحيحين"، فمن أراد تصحيحه، فعليه إبرازه، انتهى (¬1). قلت: لفظ "صحيح البخاري" من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب قائمًا، ثم يقعد، ثم يقوم؛ كما تفعلون الآن (¬2)، ولفظ مسلم: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم؛ كما تفعلون اليوم (¬3). وفي "مسلم"، من حديث جابر بن سمرة، قال: كانت للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خطبتان، يجلس بينهما، يقرأ القرآن، ويذكِّر الناس. وفيه أيضًا عن جابر: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يخطب قائمًا، ثم يجلس، ثم يقوم، فيخطب قائمًا، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسًا، فقد كذب، فقد واللَّه! صليت معه أكثر من ألفي صلاة. انفرد به مسلم (¬4)، وقد عزاه بلفظ المصنف للشيخين جماعهٌ (¬5) واللَّه أعلم. * * * ¬

_ = (1/ 256)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (2620)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12091)، وغيرهم، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يخطب يوم الجمعة قائمًا، ثم يقعد، ثم يقوم فيخطب. (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 113). (¬2) تقدم تخريجه برقم (878) عنده. (¬3) تقدم تخريجه برقم (861) عنده. (¬4) رواهما مسلم (862/ 34 - 35)، كتاب: الجمعة، باب: ذكر الخطبتين قبل الصلاة، وما فيهما من الجلسة. (¬5) منهم: ابن قدامة في "المغني" (2/ 75)، وابن مفلح في "المبدع" (2/ 157)، والبهوتي في "كشاف القناع" (2/ 31).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ جَابرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ والنَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: "صَلَّيْتَ يا فُلانُ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ" (¬1). وفي روايةٍ: "فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (888)، كتاب: الجمعة، باب: إذا رأى الإمام رجلًا جاء وهو يخطب، أمره أن يصلي ركعتين، ومسلم (875/ 54)، كتاب: الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، ووقع عندهما "أصليت" بدل "صليت". (¬2) رواه البخاري (889)، كتاب: الجمعة، باب: من جاء والإمام يخطب، صلَّى ركعتين خفيفتين، ومسلم (875/ 55)، كتاب: الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب، وابن ماجه (1112)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن دخل المسجد والإمام يخطب. ورواه البخاري (1113)، كتاب: التطوع، باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى، ومسلم (875/ 56 - 59)، كتاب: الجمعة، باب: في التحية والإمام يخطب، وأبو داود (1115 - 1117)، كتاب: الصلاة، باب: إذا دخل الرجل والإمام يخطب، والنسائي (1400)، كتاب: الجمعة، باب: الصلاة يوم الجمعة لمن جاء والإمام يخطب، والترمذي (510)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الركعتين إذا دخل الرجل والإمام يخطب، من طرق وألفاظ مختلفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 294)، و"عارضة =

(عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-، قال: جاء رجل) هو سُلَيك -بضم السين المهملة، وفتح اللام، وآخره كاف- بنُ عمرو، وقيل: ابن هُدْبة -بضم الهاء، وسكون الدال المهملة، وفتح الموحدة- الغطفاني -بفتح الغين المعجمة، والطاء المهملة، وبالفاء- نسبة إلى غطفان بن سعد بن قيس -عيلان بالعين المهملة- (¬1)، بطن كبير، وهكذا جاء مصرحًا به في رواية لمسلم، ولفظها: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة (¬2) (والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: صليت يا فلان؟)، وذلك بعدما جلس، (قال: لا) ما صليت، (قال) له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (قم)، وفي لفظة رواية مسلم: "يا سليك قم" (¬3)، (فاركع ركعتين) تحية المسجد، (وفي رواية: فصل ركعتين)، وتجوَّزْ فيهما؛ أي: خففهما. وبمدلول هذا الحديث أخذ الإمام أحمد، والإمام الشافعي، وأكثر أصحاب الحديث. قال في "شرح المقنع": ومن دخل والإمام يخطب، لم يجلس حتى ¬

_ = الأحوذي" لابن العربي (2/ 298)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 278)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 513)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 126)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 111)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 677)، و"طرح التثريب" للعراقي (3/ 181)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 407)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 230)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 51)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 314). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 407). (¬2) تقدم تخريجه برقم (875/ 58) عنده. (¬3) تقدم تخريجه برقم (875/ 59) عنده.

يركع ركعتين يوجز فيهما؛ وبه قال الحسن، وابن عيينة، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر (¬1). وفي حديث جابر عند مسلم: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما" (¬2). فإن جلس قبل أن يركع، استحب له أن يقوم فيركع؛ لما في حديث جابر، عند مسلم: أن سليكًا الغطفاني جاء يوم الجمعة، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أركعت ركعتين؟ "، قال: لا، قال: "قم فاركعهما" (¬3). ولم ير ذلك شريح، وابن سيرين، والنخعي، وقتادة، والثوري، ومالك، والليث، وأبو حنيفة، فقالوا: يكره له أن يركع؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للذي جاء يتخطى رقاب الناس: "اجلس، فقدآنيت، وآذيت" رواه ابن ماجه (¬4). قالوا: ولأن الركوع يشغله عن استماع الخطبة، فكره؛ كغير الداخل (¬5)، ولأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب: أنصت، فقد لغوت" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 214). (¬2) تقدم تخريجه برقم (875/ 59) عنده. (¬3) تقدم تخريجه برقم (875/ 58) عنده. (¬4) رواه ابن ماجه (1115)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في النهي عن تخطي الناس يوم الجمعة. (¬5) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 214). (¬6) سيأتي تخريجه قريبًا، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

قالوا: فإذا منع من هذه الكلمة، مع كونها أمرًا بمعروف، ونهيًا عن منكر في زمن يسير؛ فلأن يمنع من الركعتين، مع كونهما مسنونتين في زمن طويل أولى. واعتذروا عن الأحاديث التي فيها الأمر بالصلاة مما تقدمت، وغيرها؛ بوجوه ضعيفة، فمن مشهورها: أن هذا مخصوص بذاك الرجل المعين الذي هو سليك الغطفاني، قالوا: وإنما خص بذلك؛ لأنه كان فقيرًا، فأريد قيامه لأجل أن يشاهد، فيتصدق عليه. ولا يخفى بعد هذا الحمل، مع ما عرف أن التخصيص خلاف الأصل، ولا سيما مع قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب ... " الحديث؛ فإنه تعميم مزيل لتوهم التخصيص بالرجل المذكور، واللَّه أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 111 - 112).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "إذَا قُلْتَ لصاحِبِكَ: أَنْصِتْ، يَوْمَ الجُمُعَةِ، والإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ" (¬1). * * * (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (-رضي اللَّه عنه-: أن ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (892)، كتاب: الجمعة، باب: الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب، ومسلم (851)، كتاب: الجمعة، باب: في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، وأبو داود (1112)، كتاب: الصلاة، باب: الكلام والإمام يخطب، والنسائي (1401 - 1402)، كتاب: الجمعة، باب: الإنصات للخطبة يوم الجمعة، و (1577)، كتاب: صلاة العيدين، باب: الإنصات للخطبة، والترمذي (512)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في كراهية الكلام والإمام يخطب، وابن ماجه (1110)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الاستماع للخطبة والإنصات لها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر في (2/ 20)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 300)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 242)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 137)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 114)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 682)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 495)، و"طرح التثريب" للعراقي (3/ 191)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 414)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 239)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 334).

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: إذا قلت لصاحبك) من الذين يستمعون خطبة الخطيب، أو غيرهم: (أنصت) عن اللغو، أي: اسكت، يقال: أنصت ينصت إنصاتًا: إذا سكت سكوت مستمع، وقد نصت أيضًا، وأنصته: إذا أسكته، فهو لازم ومتعد (¬1). (يوم الجمعة، والإمام يخطب) جملة حالية تخرج ما قبل خطبته، من حين خروجه، وما بعده، إلى أن يشرع في الخطبة. قال في "الفروع": ويجوز الكلام قبل الخطبة؛ كبعدها، نص عليه الإمام أحمد، خلافًا لأبي حنيفة، وكذا بين الخطبتين، وإذا شرع في الدعاء، ويحرم الكلام في الخطبتين والإمام يخطب، ولو كان غير عدل، إن كان منه بحيث يسمعه، ولو في حال تنفسه؛ لأنه في حكم الخطبة، إلا له، أو لمن كلمه لمصلحة؛ لما نذكره من الأخبار (¬2). ودليل الحرمة: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (فقد لغوت)، يقال: لغا يلغو، ولغي يلغى، واللغو واللغي: رديء الكلام، وما لا خير فيه، ويطلق على الخيبة (¬3). وقال [الحافظ جلال الدين السيوطي] (¬4): قال الأخفش: الكلام في اللغو: الكلام الذي لا أصل له؛ من الباطل وشبهه، وقال ابن عرفة: اللغو: السقط من القول، وقيل: الميل عن الصواب، وقيل: الإثم؛ كقوله تعالى: ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 61). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 96)، و"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 47). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 114). (¬4) كذا في "الأصل": "الحافظ جلال الدين السيوطي". ولعل الشارح -رحمه اللَّه- يريد: "الحافظ ابن حجر"؛ فإن ما سرده من أقوال عن الأئمة في اللغو، هي كذلك في "فتح الباري" للحافظ ابن حجر (2/ 414)، ولعله سبق قلم، والعصمة للَّه وحده.

{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، وقال الزين بن المنير: اتفقت أقوال المفسرين على أن اللغو: ما لا يحسن من الكلام. وقال النضر بن شميل: معنى لغوت: خبت من الأجر، وقيل: بطلت فضيلة جمعتك، وقيل: صارت جمعتك ظهرًا، ويشهد لهذا ما رواه أبو داود، وابن خزيمة، من حديث عبد اللَّه بن عمرو، مرفوعًا: "من لغا، وتخطى رقاب الناس، كانت له ظهرًا" (¬1)، قال ابن وهب أحد رواته: معناه: أجزأت عنه الصلاة، وحرم فضيلة الجمعة. وروى الإمام أحمد، من حديث سيدنا علي -رضي اللَّه عنه-، مرفوعًا: "ومن قال: صه، فقد تكلم، ومن تكلم، فلا جمعة له"، ورواه أبو داود بنحوه (¬2). وروى الإمام أحمد، والبزار، من حديث ابن عباس، مرفوعًا: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كالحمار يحمل أسفارًا، والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة" (¬3). قال العلماء: معناه: لا جمعة له كاملة، للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه (¬4). تنبيهات: الأول: يحرم بخروج الإمام إلى الخطبة ابتداءُ نافلة؛ اتفاقًا، وفي كلام ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (347)، كتاب: الطهارة، باب: في الغسل يوم الجمعة، وابن خزيمة في "صحيحه" (1810). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 93)، وأبو داود (1051)، كتاب: الصلاة، باب: فضل الجمعة، في حديث طويل. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 230)، والبزار في "مسنده" (2/ 184 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12563). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 414).

بعضهم: بجلوسه على المنبر، والأول أشهر، وفاقًا لأبي حنيفة، ولو لم يشرع في الخطبة؛ خلافًا لمالك، وظاهر كلام بعضهم: لا، وعند ابن عقيل، وابن الجوزي -من علمائنا-: لا يحرم على من لا يسمعها، خلافا لأبي حنيفة. قال في "الفروع": يمنع ابتداء التطوع بخروجه؛ لاتصاله بحال الخطبة، والكلام يمكن قطعه، فلا يتصل، وظاهر كلامهم: لا تحريم، إن لم يحرم الكلام فيها، وهو متجه، خلافًا للشافعي (¬1). قلت: معتمد المذهب: منع ابتداء النافلة بخروج الإمام (¬2)، وتعلق متسع الكلام بالخطبة، والفرق ما أبداه -رحمه اللَّه تعالى-. الثاني: يجب الكلام لتحذير ضرير، وغافل؛ عن نحو بئر، وَهَلَكَة، ومن يخاف عليه نارًا، أو حية، وتباح الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذا ذُكِر سرًا؛ كالدعاء؛ اتفاقًا؛ قاله الشيخ. ويجوز تأمينه على الدعاء، وحمدُه خفية إذا عطس، نصًّا، وتشميتُ عاطس، وردُّ سلام نطقًا، وإشارةُ أخرس مفهومة، ككلام. ويجوز لمن بعد عن الخطيب ولم يسمعه: الاشتغال بالقراءة، والذكر، والصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خفية، وفعله أفضل، نصًّا، فيسجد للتلاوة، وليس له أن يرفع صوته، ولا إقراءُ القرآن، ولا المذاكرةُ في الفقه (¬3). الثالث: معتمد المذهب: حرمة الكلام والإمام يخطب، إلا له، أو لمن كلمه؛ من حين يأخذ في الخطبة، فيمتنع الكلام لمن حضرها، نهى عن ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 97 - 98). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 419). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 304).

ذلك عثمان، وابن عمر، وقال ابن مسعود: إذا رأيته يتكلم والإمام يخطب، فاقرع رأسه بالعصا (¬1). والقول بالحرمة وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي. وقيل: لا يحرم الكلام؛ فقد كان سعيد بن جبير، والنخعي، والشعبي، وأبو بردة يتكلمون والحجاج يخطب، وقال بعضهم: إنا لم نؤمر أن ننصت لهذا. وللشافعي قولان، ومعتمد مذهبهم: الكراهة. واحتج من أجازه، بما روى أنس -رضي اللَّه عنه-، قال: بينما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول اللَّه! هلك الناس، فادع لنا ... الحديث متفق عليه (¬2). وروي: أن رجلًا قام والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول اللَّه! متى الساعة؟ فأعرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأومأ الناس له بالسكوت، فلم يقبل، وأعاد الكلام، فلما قال الثالثة، قال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ويحك! ما أعددت لها؟ "، قال: حب اللَّه ورسوله، قال: "إنك مع من أحببت" (¬3)، فلم ينكر عليهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كلامهم، ولو حرم عليهم، لأنكره! ¬

_ (¬1) رواه مسدد في "مسنده" (3/ 532 - "المطالب العالية" لابن حجر)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (4/ 263). (¬2) رواه البخاري (983)، كتاب: الاستسقاء، باب: رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، ومسلم (897)، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: في الدعاء في الاستسقاء. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 167 - 202)، والنسائي في "السنن الكبرى" (5873)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 221)، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-.

والجواب: إنا نستلزم هذا فيمن كلمه الإمام، أو كلم الإمام؛ لعدم اشتغاله بذلك عن سماع الخطبة، ولهذا سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الداخل: "هل صليت؟ "، فأجابه، وسأل عمر عثمان، فأجابه، فتعين حمله على ذلك؛ جمعًا بين الأخبار (¬1). الرابع: ذكر ابن دقيق العيد، عن الإمام الشافعي: أنه إنما يرى وجوب الإنصات في حق الأربعين، وله فيمن عداهم قولان (¬2). قال: هذه الطريقة المختارة عندنا. قلت: ومعتمد مذهب الشافعية: عدم الحرمة، قال القاضي زكريا في "شرح المنهج" بعد قوله: وسن إنصات فيهما: علم من سن الإنصات فيهما، عدمُ حرمة الكلام فيهما، كما صرح به الأصل -يعني: "المنهاج" للإمام النووي-؛ لما روى البيهقي بإسناد صحيح، عن أنس: أن رجلًا دخل والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة، فقال: متى الساعة؟ ... الحديث (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 84 - 85). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 114). (¬3) تقدم تخريجه. وانظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 135).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّما قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الرَّابعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ في السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإذَا خَرَجَ الإِمَامُ، حَضَرَتِ المَلائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (841)، كتاب: الجمعة، باب: فضل الجمعة، و (887)، باب: الاستماع إلى الخطبة، و (3039)، كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، ومسلم (850)، كتاب: الجمعة، باب: الطيب والسواك يوم الجمعة، وأبو داود (351)، كتاب: الطهارة، باب: في الغسل يوم الجمعة، والنسائي (1385 - 1387)، كتاب: الجمعة، باب: التبكير إلى الجمعة، و (1388)، باب: وقت الجمعة، والترمذي (499)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التبكير إلى الجمعة، وابن ماجه (1092)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التهجير إلى الجمعة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 109)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 6)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 281)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 238)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 484)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 135)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 115)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 684)، و"فتح الباري" لابن رجب =

(عنه)، أي: عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: (أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: من اغتسل يوم الجمعة) الغسل الشرعي، كما تقدم في حديث ابن عمر، (ثم راح)؛ أي: سار وذهب إلى الجامع، في الساعة الأولى من النهار بعد طلوع الشمس (فكأنما قرب) للَّه تعالى (بدنة) قال -يعني من "المطالع"-: البدنة والبدن: هذا الاسم يختص بالإبل، لعظم أجسامها (¬1). وفي "القاموس": والبدنة -محركة- من الإبل، والبقر: كالأضحية من الغنم، تُهدى إلى مكة، للذكر والأنثى، والجمع: بُدْن، ككُتْب (¬2). وفي "المطالع": الروحة: من زوال الشمس إلى الليل، والغدوة: ما قبلها. ومنه: راح، وغدا؛ حيث تأول مالك: فراح في الساعة الأولى ... إلخ، أجراه من الساعة السادسة، إذ لا يستعمل الرواح إلا من وقتها، وذهب غيره: إلى أنها من أول النهار، وأن راح يستعمل في معنى: سار، أيَّ وقت كان. ومنه: رحت إليه، ورائح إلى المسجد، والرواح إن كنت تريد السنة، ورحت أحضر؛ كله بمعنى: الذهاب والسير، انتهى (¬3). وفي "القاموس": الرواح: العشي، أو من الزوال إلى الليل، ورحنا ¬

_ = (5/ 349)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 137)، و"طرح التثريب" للعراقي (3/ 169)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 366)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 170)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 292). (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 80). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1522)، (مادة: بدن). (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 301).

رواحًا: سرنا فيه. ثم قال: ورحت القوم، وإليهم، وعندهم، رواحًا: ذهبت إليهم، وجئتهم، وفيه: وراح للمعروف يَراح: أَخَذَتْه له خِفَّةٌ وأَرْيَحِيَّةٌ، ويدُه لكَذا: خَفَّت، ومنه: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وراح في الساعة الثانية ... " الحديث، لم يرد رواح النهار، بل المراد: خَفَّ إليها، انتهى، كذا قال (¬1). (ومن راح في الساعة الثانية) من يوم الجمعة، (فكأنما قرب بقرة)، فهي دونَ البدنة، إذ المقصود بها في هذا الحديث: من الإبل خاصة. (ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشًا أقرن) الكبش: فحل الضأن في أي سن كان، وقيل: إذا أثنى، وقيل: إذا أربع (¬2). وقد روى الجماعة، من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-، قال: ضحى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين، فسمَّى وكبَّر، ووضع رجله على صِفاحهما (¬3)، والأقرن: الذي له قرنان، تثنية قرن، وهو الروق من الحيوان، وموضعه من رأسنا، [أ] والجانب الأعلى من الرأس؛ كما في "القاموس". ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 282)، (مادة: روح). (¬2) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (6/ 338)، (مادة: كبش). (¬3) رواه البخاري (5245)، كتاب: الأضاحي، باب: التكبير عند الذبح، ومسلم (1966)، كتاب: الأضاحي، باب: استحباب الضحية وذبحها مباشرة بلا توكيل، والتسمية والتكبير، وأبو داود (2794)، كتاب: الضحايا، باب: ما يستحب من الضحايا، والنسائي (4387)، كتاب: الضحايا، باب: الكبش، والترمذي (1494)، كتاب: الأضاحي، باب: ما جاء في الأضحية بكبشين، وابن ماجه (3120)، كتاب: الأضاحي، باب: أضاحي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 211).

(ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة) واحدة الدجاج -بتثليث الدال المهملة-، تطلق على الذكر والأنثى، والهاء فيه للوحدة؛ كبطة وحمامة، قال ابن سيده: سميت دجاجة؛ لإقبالها وإدبارها، يقال: دجَّ القوم يدجُّون، دَجًّا ودَجيجًا: إذا مشوا مشيًا رويدًا في تقارب خطا، وقيل: أن يقبلوا ويدبروا (¬1). (ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام، حضرت الملائكة يستمعون الذكر)، وطويت الصحف بخروج الإمام إلى الخطبة. وفي رواية: "فإذا قعد الإمام" (¬2) يعني: على المنبر، الجلسة اللطيفة قبل الخطبة. وفي حديث أبي أمامة، مرفوعًا: "تقعد الملائكة يوم الجمعة على أبواب المساجد، معهم الصحف يكتبون الناس، فإذا خرج الإمام، طويت الصحف"، قيل لأبي أمامة: ليس لمن جاء بعد خروج الإمام جمعة؟! قال: بلى، ولكن ليس ممن يكتب في الصحف (¬3). قال ابن القيم في "البدائع": قوله: "طويت الصحف"؛ أي: صحف الفضل، فأما صحف الفرض، فإنها لا تطوى؛ لأن الفرض يسقط (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (7/ 189). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 272)، وعبد الرازق في "المصنف" (5563)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1770)، وغيرهم. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 263)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8085)، وغيرهما. (¬4) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 679).

تنبيه: اختلف العلماء، هل الأفضل التبكير، أو التأخير؟ فأكثر أهل العلم: استحب التبكير؛ لهذا الحديث، وغيره من الأحاديث الدالة على استحبابه، والترغيب فيه. قال في "المقنع": ويبكر إليها ماشيًا، ويدنو من الإمام، قال شارحه شمس الدين بن أبي عمر: للسعي إلى الجمعة وقتان: وقت وجوب، ووقت فضيلة. وذكر أن وقت الوجوب من ابتداء النداء الذي بين يدي المنبر، فإنه المعهود على زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وزمن أبي بكر، وعمر، فلما كان زمن عثمان، وكثر الناس: زاد النداء الثالث، وأما النداء الأول: فمستحب في أول الوقت، سنه عثمان، والثاني: للإعلام بالخطبة، والثالث: للإعلام بقيام الصلاة. نعم، من منزله بعيد، لا يدرك الجمعة بالسعي وقت النداء، فعليه السعي في الوقت الذي يكون به مدركًا الجمعة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب؛ كاستسقاء الماء من البئر للوضوء. وأما وقت الفضيلة: فمن أول النهار، فكلما كان أبكر، كان أولى وأفضل؛ وهذا مذهب الأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي، وابن المنذر. وقال مالك: لا يستحب التبكير قبل الزوال؛ لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من راح إلى الجمعة" والرواح: بعد الزوال، والغدو: قبله، كما قدمناه. واحتج الشارح لنا، ولمن وافقنا: بحديث أبي هريرة هذا، وقال: قال علقمة: خرجت مع عبد اللَّه إلى الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه، فقال: رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد، إني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إن

الناس يجلسون من اللَّه -عز وجل- يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة" رواه ابن ماجه (¬1). وتقدم حديث: "من غسل واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب ... " الحديث (¬2). قال: فأما قول مالك، فمخالف ثلاثًا؛ ولأن الجمعة يستحب فعلها عند الزوال، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يبكر بها، ومتى خرج الإمام، طويت الصحف، فلم يكتب من أتى الجمعة بعد ذلك، وأي فضيلة لهذا؟! فإن أخر بعد ذلك شيئًا، دخل في النهي والذم؛ كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للذي جاء يتخطى رقاب الناس: "رأيتك آنيت وآذيت" (¬3)؛ أي: أخرت المجيء، وقال عمر لعثمان: أي ساعة هذه؟! (¬4) على وجه الإنكار، فكيف يكون لهذا بدنة، أو بقرة، أو فضل؟! فمعنى قوله: "راح إلى الجمعة"؛ أي: ذهب إليها، لا يحتمل غير هذا، انتهى (¬5). وأيضًا، المعروف حمل الساعات على الأجزاء الزمانية التي ينقسم النهار فيها إلى اثني عشر جزءًا، ومالك لا يساعده هذا العرف على قوله. ¬

_ (¬1) روراه ابن ماجه (1094)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التهجير إلى الجمعة، والبزار في "مسنده" (1525)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10013)، والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 204). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 203).

وأما استدلالهم بما في بعض الروايات: "فالمهجر كالمهدي بدنة" (¬1)، والتهجير إنما يكون في الهاجرة، ومن خرج عند طلوع الشمس مثلًا، أو بعد طلوع الفجر، لا يقال له: مهجر! فالجواب عن هذا: بأن المهجر مأخوذ من هجر المنزل، وتركه في أي وقت كان (¬2)، واللَّه تعالى أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (1386)، وعند ابن ماجه برقم (1092). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 116).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ-، قَالَ: كنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجُمُعَةَ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ، وَلَيْسَ لِلْحِيْطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِهِ (¬1). وَفِي لَفْظٍ: كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَتَتبَّعُ الفَيْءَ (¬2). * * * (عن) أبي مسلم، ويقال: أبو عامر (سَلَمة) -بفتح اللام- (بن الأكوع) - ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3935)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (860/ 32)، كتاب: الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، وأبو داود (1085)، كتاب: الصلاة، باب: في وقت الجمعة، والنسائي (1391)، كتاب: الجمعة، باب: وقت الجمعة، وابن ماجه (1100)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في وقت الجمعة. (¬2) رواه مسلم (860/ 31)، كتاب: الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس، وابن ماجه (1102)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في وقت الجمعة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 254)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 495)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 148)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 118)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 691)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 450)، و"عمدة القاري" للعيني (17/ 221)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 45)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 318).

بفتح الهمزة, وسكون الكاف، وفتح الواو-، جَدِّ سلمة، واسم أبيه: عمرو، واسم الأكوع: سنان بن عبد اللَّه بن قُشَير -بالقاف، وفتح الشين المعجمة، وسكون الياء- وتقدمت ترجمته في آخر باب: المواقيت -رضي اللَّه عنه-، (وكان) سلمة بن الأكوع -رضي اللَّه عنه- (من أصحاب الشجرة) التي كانت بيعة الرضوان تحتها يوم الحديبية، وكانت في السادسة، وكانت الشجرة من شجر السَّمُر، وبايع سلمةُ يومئذ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاث مرات: في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم، وبايعه يومئذ على الموت (¬1). (قال: كنا نصلي مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الجمعة، ثم ننصرف) من الصلاة إلى دورنا، (وليس للحيطان ظل نستظل به) عن كبد السماء (¬2). (وفي لفظ: كنا نجمِّع) -بتشديد الميم-؛ أي: نصلي الجمعة (مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا زالت الشمس) عن كبد السماء (ثم) بعد صلاتنا (نرجع) لدورنا، (فنتتبع الفيء). تقدم أن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال؛ لأنه فاء؛ أي: رجع، وأما الظل، فأصله: الستر، ومنه: أنا في ظل فلان، ومنه: ظل الجنة، وظل شجرها، وظل الشمس: ما ستر الشخوص من مسقطها، ويكون غدوة وعشية (¬3). ومقصود الحافظ بإيراد هذا الحديث: جواز إقامة الجمعة قبل الزوال؛ ¬

_ (¬1) انظر: ترجمته في آخر باب: المواقيت. (¬2) جاء على هامش الأصل المخطوط عند قوله: "عن كبد السماء": "تقدم: هبوط الشمس". (¬3) نقلًا عن "المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 56)، عن "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 50)، نقلًا عن ابن قتيبة في "أدب الكاتب" (ص: 23).

من حيث إنه يقع بعد الزوال الخطبتان، والصلاة، مع ما روي: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقرأ فيهما بالجمعة والمنافقين (¬1)، وذلك يقتضي زمانًا يمتد فيه الظل، بحيث كانوا ينصرفون منها، وليس للحيطان فيء يُستظل به؛ فاقتضى ذلك أن تكون واقعة قبل الزوال، أو خطبتاها، أو بعضهما (¬2). قال في "الفروع": تجوز -أي: صلاة الجمعة- وقت العيد؛ أي: من ارتفاع الشمس قيد رمح، نقله واختاره الأكثر -أي: من علمائنا-. وذكر القاضي، وغيره: أنه المذهب، وعنه: في الساعة السادسة، وعنه: في الخامسة، وعنه: بعد الزوال، اختاره الآجري؛ وفاقًا للأئمة الثلاثة. ومعتمد المذهب: دخول وقت الجمعة من خروج وقت النهي؛ وفاقًا لإسحاق بن راهويه (¬3). قال في "شرح المقنع": لا تصح صلاة الجمعة قبل وقتها، ولا بعده؛ إجماعًا، ولا خلاف فيما علمنا: أن آخر وقتها آخر وقت صلاة الظهر، وأما أوله: فقال القاضي وأصحابه: أوله أول وقت صلاة العيد. قال مجاهد: ما كان للناس عيد إلا في أول النهار (¬4). وقال عطاء: كل عيد حين يمتد الضحى: الجمعة، والأضحى، والفطر (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (877)، كتاب: الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الجمعة، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 118). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 77). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5131). (¬5) رواه عبد الرازق في "المصنف" (5208).

وفي "تنقيح التحقيق" للحافظ ابن عبد الهادي (¬1): يجوز عند الإمام أحمد إقامة الجمعة قبل الزوال؛ خلافًا لأكثرهم، لنا: ثلاثة أحاديث: الأول: حديث سهل بن سعد الساعدي، قال: ما كنا نتغدى، ولا نَقيل؛ إلا بعد الجمعة. متفق عليه (¬2). الثاني: حديث سلمة المذكور. الثالث: عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-، قال: كنا نصلي مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الجمعة، ثم نرجع إلى القائلة، فنقيل. رواه الإمام أحمد (¬3)، ورواه البخاري أيضًا بلفظ: كنا نبكر بالجمعة، ونقيل بعد الجمعة (¬4). وروى الدارقطني، عن عبد اللَّه بن سيدان السلمي، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر -رضي اللَّه عنه-، فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر -رضي اللَّه عنه-، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت صلاته وخطبته [إلى أن أقول]: زال النهار؛ فما رأيت أحدًا عاب ذلك، ولا أنكره (¬5)، ورواه الإمام أحمد، عن وكيع، واحتج به (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 71 - 72). (¬2) رواه البخاري (2222)، كتاب: المزارعة، باب: ما جاء في الغرس، ومسلم (859)، كتاب: الجمعة، باب: صلاة الجمعة حين تزول الشمس. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 237). (¬4) رواه البخاري (863)، كتاب: الجمعة، باب: وقت الجمعة إذا زالت الشمس. (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 17)، وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 354)، وغيرهما. (¬6) كذا نسبه ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (2/ 72)، وساق ابن قدامة سنده في "المغني" (2/ 105)، فقال: روى الإمام أحمد، عن وكيع، عن جعفر بن =

وروي عن ابن مسعود، وجابر، وسعيد، ومعاوية -رضي اللَّه عنهم-: أنهم صلوا قبل الزوال. وأحاديثهم تدل على أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فعلها بعد الزوال في كثير من أوقاته، ولا خلاف في جوازه، وأنه الأولى، وأحاديثنا تدل على جواز فعلها قبل الزوال، فلا تعارض بينهما، نعم، يكره فعلها قبل الزوال (¬1). * * * ¬

_ = برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عبد اللَّه بن سيدان، به. وذكر الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 46): أن الإمام أحمد رواه في رواية ابنه عبد اللَّه. قلت: ولم أر الحديث في طبعات "مسند الإمام أحمد"، ولا في "مسائل الإمام أحمد - رواية ابنه عبد اللَّه"، واللَّه أعلم بالصواب. (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 105).

باب العيدين

باب العيدين أي: صلاتهما، وهما: عيد الأضحى، وعيد الفطر، وسمي العيد عيدًا؛ لأنه يعود ويتكرر لأوقاته، وقيل: يعود بالفرح على الناس، وقيل: سمي بذلك تفاؤلًا ليعود ثانية (¬1). قال الجوهري: إنما جمع بالياء، وأصله الواو؛ للزومها في الواحد، وقيل: للفرق بينه وبين أعواد الخشب (¬2). وقد كان للجاهلية يومان مُعَدَّان لِلَّعب، فأبدل اللَّه تعالى المسلمين منهما هذين اليومين اللذين يظهر فيهما تكبير اللَّه تعالى، وتحميده، وتوحيده، وتمجيده، ظهورًا شائعًا يغيظ المشركين (¬3). ولما قدم -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة، كان لهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "إن اللَّه قد أبدلكم يومين خيرًا منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى" (¬4). ¬

_ (¬1) قاله القاضي عياض في "مشارق الأنوار" (2/ 105). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 515)، (مادة: عود). وانظر: "المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 108)، وعنه نقل الشارح -رحمه اللَّه-. (¬3) انظر: "شرح عمدة الاحكام" لابن دقيق (2/ 124). (¬4) رواه أبو داود (1134)، كتاب: الصلاة، باب: صلاة العيدين، والنسائي (1556)، كتاب: صلاة العيدين، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 103)، =

فائدة: قال الحافظ ابن رجب في "اللطائف": في الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد؛ عيد يتكرر كل أسبوع، وعيدان يأتيان في كل عام مرة، من غير تكرير في السنة. فأما العيد المتكرر: فيوم الجمعة، وهو عيد الأسبوع، وهو مرتب على إكمال الصلوات المكتوبات؛ فإن اللَّه فرض على المؤمنين في كل يوم وليلة خمس صلوات، وأيام الدنيا تدور على سبعة أيام، فكلما كمل دور أسبوع من أيام الدنيا، واستكمل المسلمون صلواتهم فيه؛ شرع لهم في استكمالهم، وهو اليوم الذي كمل فيه الخلق. وفيه: خلق آدم، وأدخل الجنة، وأخرج منها، وفيه ينتهي أمر الدنيا، فتزول، وتقوم الساعة. وفيه: الاجتماع على قيام الذكر، والموعظة، وصلاة الجمعة، وجعل ذلك لهم عيدًا، ولذلك نهي عن إفراده بالصوم (¬1)، وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "ما طلعت الشمس، ولا غربت، على يوم أفضل من يوم الجمعة" (¬2). وفي "المسند": أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في يوم الجمعة: "هو أفضل عند اللَّه من يوم ¬

_ = وغيرهم، من حيث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬1) روى البخاري (1883)، كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، ومسلم (1143)، كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، عن محمد بن عباد، قال: سألت جابرًا -رضي اللَّه عنه-: نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم. زاد غير أبي عاصم: أن ينفرد بصوم. (¬2) رواه الترمذي (3339)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البروج، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 272)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1727)، وغيرهم، من حديث -أبي هريرة رضي اللَّه عنه-.

الفطر، ويوم الأضحى" (¬1). فهذا عيد الأسبوع، وهو متعلق بإكمال الصلاة المكتوبة، وهي أعظم أركان الإسلام ومبانيه بعد الشهادتين. وأما العيدان اللذان يتكرران في كل عام، فإنما يأتي كل واحد منهما في العام مرة واحدة: فأحدهما: عيد الفطر من صوم رمضان، وهو مرتب على إكمال صوم رمضان، وهو الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا استكمل المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم، استوجبوا من اللَّه المغفرة والعتق من النار؛ فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنوب، وآخره عتق من النار، يعتق فيه من النار من استحقها بذنوبه، فشرع اللَّه لهم عقب إكمالهم لصيامهم عيدًا يجتمعون فيه على شكر اللَّه، وذكره، وتكبيره على ما هداهم، وشرع لهم في ذلك العيد من الصلاة والصدقة، وهو يوم الجوائز، يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم، ويرجعون من عيدهم بالمغفرة. والعيد الثاني: عيد النحر، وهو أكبر العيدين، وأفضلهما، وهو مرتب على إكمال الحج، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا أكمل المسلمون حجهم، غفر لهم، وإنما يكمل الحج بيوم عرفة، والوقوف فيه بعرفة ركن الحج الأعظم؛ كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحج عرفة" (¬2)، ويوم عرفة هو ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 430)، وابن ماجه (1084)، كتاب: الصلاة، باب: في فضل الجمعة، من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه أبو داود (1949)، كتاب: المناسك، باب: من لم يدرك عرفة، والنسائي (3016)، كتاب: مناسك الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة، والترمذي (889)، كتاب: الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، =

يوم العتق من النار، يعتق فيه من النار من وقف بعرفة، ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين، فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدًا لجميع المسلمين، في جميع أمصارهم؛ من شهد الموسم منهم، ومن لم يشهده؛ لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، فشرع للجميع التقربُ إليه بالنسك؛ وهو إراقة دماء القرابين؛ شكرًا منهم لهذه النعمة. فهذه أعياد المسلمين في الدنيا، وكلها عند كمال طاعة مولاهم الملك الوهاب، واللَّه أعلم (¬1). وذكر الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الباب خمسة أحاديث. * * * ¬

_ = وابن ماجه (3015)، كتاب: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 309)، وغيرهم، من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي -رضي اللَّه عنه-. (¬1) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 480 - 482).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبُو بَكْر، وَعُمَرُ، يُصَلُّونَ العِيْدَيْنِ قَبْلَ الخُطْبةِ (¬1). * * * (عن عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) مدةَ حياته (وأبو بكر) الصديق -رضي اللَّه عنه- مدة خلافته، (وعمر) ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (914)، كتاب: العيدين، باب: المشي والركوب إلى العيد، والصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، و (920)، باب: الخطبة بعد العيد، ومسلم (888) في أول كتاب: صلاة العيدين، والنسائي (1564)، كتاب: صلاة العيدين، باب: صلاة العيدين قبل الخطبة، والترمذي (531)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة العيدين قبل الخطبة، وابن ماجه (1276)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة العيدين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 380)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 3)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 296)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 528)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 175)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 124)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 694)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 97) , و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 451)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 281)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 66)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 361).

الفاروق -رضي اللَّه عنه- مدة خلافته، كلهم (يصلون) صلاة (العيدين) عيد الفطر، وعيد النحر (قبل الخطبة) للعيدين، وذكر الخليفتين، وإن كانت الحجة تقوم بفعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إشعارًا بأن ما أحدثه بنو أمية لا مستند لهم فيه، وأن الحكم المذكور لا نسخ يعتريه، ولا تأويل يتطرق إليه. قال في "الفروع": فلو خطب قبل الصلاة، لم يعتد بالخطبة، ذكره صاحب "المحرر" قول أكثر العلماء، خلافًا لأبي حنيفة، والشافعي (¬1). قال شمس الدين في "شرح المقنع": يبدأ في العيد بالصلاة قبل الخطبة، لا نعلم في ذلك خلافًا إلّا ما روي عن بني أمية، وقيل: إنه يروى عن عثمان، وابن الزبير: أنهما فعلا ذلك، ولا يصح عنهما. قال: وخلاف بني أمية مسبوق بالإجماع، فلا يعتد به، ولأنه مخالف لسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولخلفائه الراشدين، وقد أُنكر على بني أمية فعلهم، وعد منكرًا وبدعة، فروى طارق بن شهاب قال: قدَّم مروان الخطبة قبل الصلاة، فقام رجل، فقال: خالفت السنة، كانت الخطبة بعد الصلاة، فقال: ترك ذاك يا أبا فلان! فقام أبو سعيد: فقال: أما هذا المتكلم، فقد قضى ما عليه، قال لنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من رأى منكم منكرًا، فلينكره بيده، فإن لم يستطع، فلينكره بلسانه، فمن لم يستطع، فلينكره بقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه أبو داود الطيالسي، عن قيس بن مسلم، عن طارق (¬2)، ورواه مسلم بمعناه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 111). (¬2) رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (2196). (¬3) رواه مسلم (49)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.

فعلى هذا: من خطب قبل الصلاة، فهو كمن لم يخطب؛ لأنه خطب [فغير] (¬1) محل الخطبة، أشبه ما لو خطب في الجمعة بعد الصلاة (¬2). تنبيهات: الأول: جميع ما له خطب من الصلوات، فالصلاة مقدمة فيه، إلّا الجمعة، وخطبة يوم عرفة، وقد فرق بين صلاة الجمعة والعيدين بوجهين: أحدهما: أن صلاة الجمعة فرض عين، ينتابها الناس من خارج المصر، ويدخل وقتها بعد انتشارهم في أشغالهم، وتصرفاتهم في أمور الدنيا، فقدمت الخطبة عليها حتى يتلاحق الناس، فلا يفوتهم الفرض، لا سيما فرض لا يقضى على وجهه، وهذا معدوم في صلاة العيد. الثاني: أن صلاة الجمعة هي صلاة الظهر حقيقة، وإنما قصرت بشرائط، منها: الخطبتان، والشرط لا يتأخر، ويتعذر مقارنة هذا الشرط للمشروط الذي هو الصلاة؛ فلزم تقديمه، وليس هذا المعنى في صلاة العيد، إذ ليست مقصورة عن شيء، وليست الخطبة فيها شرط، واللَّه أعلم (¬3). الثاني: صلاة العيدين فرض كفاية، فيقاتل الإمام أهلَ بلد تركوها، وعنه: فرض عين، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وفاقًا لأبي حنيفة. وقيل: سنة، جزم به في "التبصرة"؛ وفاقًا لمالك، والشافعي، فلا يقاتل تاركها؛ كالتراويح (¬4). ¬

_ (¬1) في المطبوع من "شرح المقنع": "في غير". (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 237). (¬3) انظر: "شرح عمدة الاحكام" لابن دقيق (2/ 125). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 109). قال القاضي أبو بكر بن العربي في =

واستدل على سنيتها: بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للأعرابي، حين ذكر خمس صلوات، قال: هل علي غيرهن؟ قال: "لا، إلّا أن تتطوع" (¬1)، ولأنها ذات ركوع وسجود، ولا يشرع لها أذان؛ فلم تكن واجبة؛ كصلاة الاستسقاء. ودليلنا على الوجوب: قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَاَنحَر} [الكوثر: 2] , والأمر يقتضي الوجوب، ولأنها من شعائر الدين الظاهرة، فكانت واجبة؛ كالجمعة. وأما حديث الأعرابي، فليس لهم فيه حجة؛ لأن الأعراب لا تلزمهم الجمعة، فالعيد أولى، على أنه مخصوص بالصلاة على الجنازة والمنذورة؛ فكذلك صلاة العيدين، واللَّه أعلم (¬2). الثالث: أول وقت صلاة العيد: إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، وآخره: إذا زالت. وقال الشافعية: أول وقتها: إذا طلعت الشمس. والحجة لنا: فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والخلفاء بعده؛ فإنه لم يصل أحد منهم إلّا بعد ارتفاع الشمس، يؤيده الإجماع: أن فعلها حينئذ أفضل، ولم يكن ¬

_ = "عارضة الأحوذي" (3/ 2): لم أعلم أحدًا قال: إنها فرض على الكفاية إلّا أبو سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي، وهي دعوى لا برهان عليها. فإن قيل: فهل يقاتلون أهل بلد اتفقوا على تركها؟ قلنا: لا نقول ذلك، ومن أصحاب الشافعي من قال: إنهم يقاتلون؛ لأنها من شعائر الإسلام، وفي تركها تهاون في الشريعة، والأول أصح. (¬1) رواه البخاري (46)، كتاب: الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام، ومسلم (11)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، عن طلحة بن عبيد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 111).

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ليفعل إلّا الأفضل، ولو كان لها وقت قبل ذلك، لكان تقيده بطلوع الشمس بغير نص تحكم، ولا يجوز التوقيت بالتحكم. فإن لم يعلم بالعيد إلّا بعد الزوال، خرج الإمام من الغد، فصلى بهم؛ وهذا قول الأوزاعي، والثوري، وإسحاق، وابن المنذر، وحكي عن أبي حنيفة: أنها لا تقضى. وقال الشافعي: إن علم بعد غروب الشمس، كقولنا، وإن علم بعد الزوال: لم تصل؛ لأنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة، فلا تقضى بعد فوات وقتها؛ كالجمعة، وإنما يصليها إذا علم بعد الغروب؛ لأن العيد هو الغد؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وعرفتكم يوم تعرفون" (¬1). ولنا: ما روى أبو داود، عن أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أن ركبًا جاؤوا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "الام" (1/ 230)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 176)، عن عطاء، مرسلًا. وقد رواه أبو داود (2324)، كتاب: الصوم، باب: إذا أخطأ القوم الهلال، والترمذي (697)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء: "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون"، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (1660)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في شهري العيد، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، دون قوله: "وعرفتكم يوم تعرفون". (¬2) رواه أبو داود (1157)، كتاب: الصلاة، باب: إذا لم يخرج الإمام للعيد من يومه، يخرج من الغد، والدارقطني في "سننه" (2/ 170)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 249).

قال الخطابي: سنة رسول اللَّه أولى أن تتبع، وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب (¬1). ولأنها صلاة مؤقتة، فلا تسقط بفوات الوقت؛ كسائر الفرائض، فأما الجمعة؛ فإنها معدول بها عن الظهر بشرائط منها: الوقت، فإذا فات واحد منها، رجع إلى الأصل، وأما إذا فاتت الواحد، فإنه يقضيها متى أحب؛ لأنها في حقه نافلة (¬2). الرابع: تسن صلاة العيدين في الصحراء، وتكره في الجامع بلا عذر؛ كما أمر علي -رضي اللَّه عنه-، واستحبه الأوزاعي، وأصحاب الرأي، وهو قول ابن المنذر. وحكي عن الشافعي: إن كان مسجد البلد واسعًا، فالصلاة فيه أولى؛ لأنه خير البقاع، وأطهرها، ولذلك يصلي أهل مكة في المسجد الحرام. ولنا: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يخرج إلى المصلى، ويدع مسجده، وكذلك الخلفاء الراشدون بعده، ولا يترك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأفضل مع قربه، ويتكلف فضل المفضول مع بعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل، ولأنَّا قد أمرنا باتباع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص، ولأن هذا شائع معلوم للناس في كل عصر ومصر، يخرجون إلى المصلى، فيصلون فيه العيدين مع سعة المسجد وضيقه، ولا ينقل أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى العيد بمسجده إلّا من عذر، مع شرفه مسجده وسعته. وروي عن علي -رضي اللَّه عنه-: أنه قيل له: قد اجتمع في المسجد ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 252). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 225).

ضعفاء الناس وعميانهم، فلو صليت بهم في المسجد؛ فقال: أخالف السنة إذًا!! ولكن أخرج إلى المصلى، وأستخلف من يصلي بهم، فاستخلف أبا مسعود البدري، فصلى بهم ركعتين، وقيل: أربعًا (¬1). الخامس: التكبيرات الزوائد، والذكر بينهما، والخطبتان: سنة، لا تبطل الصلاة بترك شيء من ذلك، ولو عمدًا، بلا خلاف، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم- بعدما قضى صلاة العيد: "إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة، فليجلس، ومن أحب أن يذهب، فليذهب" رواه أبو داود، وقال: مرسل، ورواه النسائي، وابن ماجه (¬2)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 235). (¬2) رواه أبو داود (1155)، كتاب: الصلاة، باب: الجلوس للخطبة، والنسائي (1571)، كتاب: صلاة العيدين، باب: التخيير بين الجلوس في الخطبة للعيدين، وابن ماجه (1290)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في انتظار الخطبة بعد الصلاة، من حديث عبد اللَّه بن السائب -رضي اللَّه عنه-. وانظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 246).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنِ البراءِ بْنِ عَاِزب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: خَطَبَنَا النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: "مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلا نُسُكَ لَهُ". فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: يا رَسُولَ اللَّه! إنِّي نَسَكْتُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ اليَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُربٍ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بَيْتِي، فَذَبَحْتُ شَاتِي، وَتَغَدَّيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلَاةَ، قَالَ: "شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ"، قَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! فَإنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا هِيَ أَحَبُّ إليَّ مِنْ شَاتَيْنِ، أَفَتُجْزِي عَنِّي؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (912)، كتاب: العيدين، باب: الأكل يوم النحر، و (940)، باب: كلام الإمام والناس في خطبة العيد، و (5236)، كتاب: الأضاحي، باب: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي بردة: "ضحِّ بالجذع من المعز، ولن تجزي عن أحد بعدك"، ومسلم (1961/ 4 - 5)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها، وأبو داود (2800)، كتاب: الضحايا، باب: ما يجوز من السن في الضحايا، والنسائي (1581)، كتاب: صلاة العيدين، باب: حث الإمام على الصدقة في الخطبة، و (4395)، كتاب: الضحايا، باب: ذبح الضحية قبل الإمام. ورواه البخاري (908)، كتاب: العيدين، باب: سنة العيدين لأهل الإسلام، و (922)، باب: الخطبة بعد العيد، و (925)، باب: التبكير إلى =

(عن) أبي عمارة (البراء بن عازب -رضي اللَّه عنهما-، قال: خطبنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم) عيد (الأضحى بعد الصلاة) فيه دليل على خطبة عيد الأضحى، ولا خلاف فيه، وكذلك هو دليل على تقديم الصلاة عليها - كما قدمنا (¬1). قال الإمام الموفق: إنما أُخِّرت الخطبة عن الصلاة في العيدين؛ لأنها - ¬

_ = العيد، و (933)، باب: استقبال الإمام الناس في خطبة العيد، و (5225)، كتاب: الأضاحي، باب: سنة الأضحية، و (5240)، باب: الذبح بعد الصلاة، و (5243)، باب: من ذبح قبل الصلاة أعاد، و (6296)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (1961/ 6 - 8)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها، وأبو داود (2801)، كتاب: الضحايا، باب: ما يجوز من السن في الضحايا، والنسائي (1563)، كتاب: صلاة العيدين، باب: الخطبة يوم العيد، و (1570)، باب: الخطبة في العيدين بعد الصلاة، و (4394)، كتاب: الضحايا، باب: ذبح الضحية قبل الإمام، والترمذي (1508)، كتاب: الأضاحي، باب: ما جاء في الذبح بعد الصلاة، من طرق، عن الشعبي، عن البراء، به، بألفاظ مختلفة. ورواه البخاري (5237)، كتاب: الأضاحي، باب: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي بردة: "ضح بالجذع من المعز، ولن تجزي عن أحد بعدك"، ومسلم (1961/ 9)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها، من طريق أبي جحيفة، عن البراء، به. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 229)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 305)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 403)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 355)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 112)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 126)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 697)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 142)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 448)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 277)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 140)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 201). (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 127).

أي: الخطبة- لم تكن واجبة، بل سنة، فجعلت في وقت يتمكن من أراد تركها، بخلاف خطبة الجمعة. وذكر ابن عقيل في وجوب الإنصات لها روايتين: إحداهما: يجب كالجمعة، والثانية: لا يجب؛ لأن الخطبة غير واجبة، فلم يجب الإنصات لها، كسائر سنن الأذكار، والاستماع لها، وقد روي عن الحسن (¬1)، وابن سيرين: أنهما كرها الكلام يوم العيد والإمام يخطب (¬2). (فقال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (من صلى صلاتنا)؛ أي: مثل صلاتنا لعيدنا، (و) بعد الصلاة (نسك)؛ أي: ذبح أضحيته، وهذا معنى قوله: (نسكنا)؛ أي: نسك مثل نسكنا، يعني: ذبح الأضحية بعد فراغ صلاة العيد، (فقد أصاب النسك)؛ أي: الأضحية المشروعة، (ومن نسك)؛ أي: ذبح أضحيته (قبل الصلاة، فلا نسك)؛ أي: أضحية (له). فالنسك: يراد به: الذبيحة، وقد تستعمل فيها كثيرًا، واستعمله بعض الفقهاء في نوع خاص من الدماء المراقة في الحج، وقد يستعمل فيما هو أعم من ذلك من نوع العبادات، ومنه [يقال]: فلا [ن] ناسك؛ أي: متعبد (¬3). قال في "النهاية": المناسك: جمع منسك -بفتح السين، وكسرها-: هو المتعبد، ويقع على: المصدر، والزمان، والمكان، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك، والمنسك: المذبح، وقد نسك ينسك نسكًا: إذا ذبح، والنسيكة: الذبيحة، والنسك -أيضًا-: الطاعة، وكل ما تقرب به إلى اللَّه، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5688). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 246). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 127).

والنسك: ما أمرت به الشريعة، والورع: ما نهت عنه، والناسك: العابد. وسئل ثعلب عن الناسك، ما هو؟ فقال: هو مأخوذ من النسيك، وهي سبيكة الفضة المصفاة؛ كأنه صفى نفسه للَّه تعالى (¬1). فالمراد بقوله: "ونسك" أي: ذبح، وقوله: "نسكنا"، أي: مثل ذبحنا في الزمان، بدليل قوله: "ومن نسك"؛ أي: ذبح "قبل الصلاة، فلا نسك"؛ أي: لا أضحية "له". وقوله: (فقال أبو بردة) -بضم الموحدة، وسكون الراء- اسمه: هانىء، بنون بعدها همزة (بن نيار) -بكسر النون، فمثناة تحتية مخففة، بلا همز، فراء- ابن عمرو بن دينار البلوي، نسبة إلى بَلِيّ -بفتح الباء الموحدة، وكسر اللام، وتشديد الياء-، وقيل: اسمه الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هبيرة، والأول: أصح وأشهر، وكان حليف بني حارثة، وهو ابن (خال البراء بن عازب) -رضي اللَّه عنهم-، شهد العقبة مع السبعين، وشهد بدرًا، وما بعدها، وشهد مع علي حروبه كلها، توفي سنة خمس وأربعين، ولم يعقب أصلًا، وليس له في "الصحيحين" سوى حديث واحد (¬2)، وهو: "لا يجلد فوق عشرة أسواط، إلّا في حد من حدود اللَّه" (¬3)، ويأتي في باب: حد الخمر. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 47). (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 451)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 227)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 431)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1608)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 27)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 71)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 35)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 36)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 22). (¬3) سيأتي تخريجه.

وأبو بردة هذا -رضي اللَّه عنه- أحد من رخص لهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأضحية بالعناق؛ فإنه لما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما تقدم، قال أبو بردة: (يا رسول اللَّه! إني نسكت)؛ أي: ذبحت (شاتي)؛ أي: التي كنت قد أعددتها لأضحيتي (قبل الصلاة)؛ أي: صلاة العيد، (و) ذلك أني (عرفت)، وفي لفظ: علمت (أن اليوم يوم أكل وشرب)؛ لأنه عيد، (وأحببت أن تكون شاتي أول ما)؛ أي: نسيكة (يذبح في بيتي، فذبحت شاتي) التي كنت عينتها أضحية (وتغديت) منها، والغداء: طعام الغدوة -بالضم- البكر [ة]، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس (¬1) (قبل أن آتي الصلاة، قال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (شاتك) التي ذبحتها قبل صلاة العيد (شاة لحم) لا نسك. وفيه دليل على أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر، لم يعذر فيها بالجهل، وقد فرقوا في ذلك بين المأمورات والمنهيات؛ فعذروا في المنهيات بالنسيان والجهل؛ كما في حديث معاوية بن الحكم؛ حين تكلم في الصلاة (¬2). والفرق بينهما: أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها، وذلك لا يحصل إلّا بفعلها، والمنهيات مزجور عنها بسبب مفاسدها؛ امتحانًا للمكلف بالانكفاف عنها، وذلك إنما يكون بالتعمد لارتكابها، ومع النسيان والجهل لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي عنه، فعذر بالجهل فيه (¬3). (قال) أبو بردة -رضي اللَّه عنه- لما قال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك: ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1698)، (مادة: غدو). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 127 - 128).

(يا رسول اللَّه!) حيث لم تجز شاتي عن الأضحية، (فإن عندنا عناقًا)، وهي الأنثى من أولاد المعز، ما لم يتم له سنة (¬1) (هي)؛ أي: تلك العناق (أحبُّ إليَّ من شاتين)؛ لسمنها، ونجابتها، وكرم أصلها، (أفتجزي عني) إن أنا ذبحتها بعد الصلاة مكان أضحيتي؟ (قال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (نعم)؛ أي: تجزي أضحية عنك خاصة (ولن تجزي) العناق التي لم يتم لها سنة (عن أحد) من الناس (بعدك). اختار ابن دقيق العيد: فتح التاء من (تجزي) بمعنى: تقضي، يقال: جزى عني كذا؛ أي: قضى، وذلك أن الذي فعله لم يقع نسكًا، فالذي يأتي بعده لا يكون قضاء عنه (¬2). وقد صرح الحديث بتخصيص أبي بردة بإجزائها في هذا الحكم، عما سبق ذبحه؛ فامتنع قياس غيره عليه. قال البرماوي: وقد رخص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأضحية بالعناق أيضًا لزيد بن خالد الجهني، وعقبة بن الحارث الجهني، وقد نظمهم في قوله: [من الطويل] لقد خَصَّ خَيْرُ الخلقِ حَقًّا جَماعَةً ... بذبح عَنَاقٍ في الضَّحِيَّةِ يُقْبَلُ أَبو بُرْدَةٍ منهمْ، وزيدُ بنُ خالِدٍ ... كذا عقبةٌ نجلٌ لِعامِر يكمُلُ ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 311). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 128). قلت: وكذا ضبطه الجوهري في "الصحاح" (6/ 2302)، (مادة: جزى)، ثم قال: وبنو تميم يقولون: أجزأت عنك شاة -بالهمز-، انتهى. وعلى هذا: يجوز في الحديث ضم التاء؛ ولهذا جوزهما ابن الأثير في "النهاية" (1/ 270). وانظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 141).

فأما حديث عقبة، فهو في "الصحيحين" أيضًا (¬1) , وأما حديث زيد بن خالد: ففي "سنن أبي داود" (¬2). تنبيهان: الأول: هذا الحديث صريح في أن من ذبح أضحيته قبل الصلاة، لا تقع مجزية عن الأضحية الشرعية، والمقصود: قبل فعل الصلاة، إن كان يصلي العيد في تلك البلد، فإن تعددت الصلاة، فمن أسبق صلاة في البلد، وأما اعتبار وقت الصلاة دون فعلها -كما هو مذهب الشافعي-، فهو خلاف الظاهر من إطلاق لفظ الصلاة. وعند الشافعي: اعتبار وقت الصلاة ووقت الخطبتين، فإذا مضى ذلك، دخل وقت الأضحية. قال ابن دقيق العيد: ومذهب غير الشافعي: اعتبار فعل الصلاة والخطبتين، كذا قال (¬3). قلت: معتمد مذهبنا: ابتداء ذبح أضحية وهدي، نذرٍ أو تطوعٍ، ومتعةٍ وقرانٍ: يوم العيد بعد الصلاة، ولو قبل الخطبة، والأفضل بعدها، ولو سبقت صلاة إمام في البلد، جاز الذبح، أو بعد قدرها بعد دخول وقتها، في حق من لا صلاة في موضعه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5227)، كتاب: الأضاحي، باب: قسمة الإمام الأضاحي بين الناس، ومسلم (1965)، كتاب: الأضاحي، باب: سن الأضحية. (¬2) رواه أبو داود (2798)، كتاب: الضحايا، باب: ما يجوز من السن من الضحايا. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 127). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 45).

وعند أبي حنيفة: لا يجوز لأهل الأمصار الذبحُ حتى يصلي الإمام العيد، فأما أهل القرى، فيجوز لهم بعد طلوع الفجر (¬1). وقال مالك: وقته بعد الصلاة والخطبة، وذبحِ الإمام (¬2)؛ كما في "الإفصاح" لابن هبيرة (¬3)، واللَّه أعلم. الثاني: ينتهي وقت ذبح الأضحية بآخر يوم ثاني أيام التشريق؛ وهذا مذهب الثلاثة، ومذهب الشافعي: إلى آخر الثالث، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. ويجزىء ذبحها ليلًا من ليلتي أيام التشريق، نص عليه الإمام أحمد؛ وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي؛ خلافًا لمالك، ويكره عندنا -كالحنفية- مع الإجزاء (¬4)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الهداية شرح البداية" للمرغيناني (4/ 72). (¬2) انظر: "المدونة" لابن القاسم (3/ 69). (¬3) انظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح في الفقه على المذاهب الأربعة" للوزير ابن هبيرة (2/ 263). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 401).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البَجَلِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: صَلَّى رَسُوْلَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يوْمَ النَّحْرِ، ثُمَ خَطَبَ، ثُمَّ ذَبَحَ، وَقَالَ: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَلْيَذْبَحْ أُخْرَى مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ، فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللَّهِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (942)، كتاب: العيدين، باب: كلام الإمام والناس في خطبة العيد، واللفظ له، و (5181)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فليذبح على اسم اللَّه"، و (5242)، كتاب: الأضاحي، باب: من ذبح قبل الصلاة أعاد، و (6297)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيًا في الأيمان، و (6965)، كتاب: التوحيد، باب: السؤال بأسماء اللَّه تعالى، والاستعاذة بها، ومسلم (1960)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها، والنسائي (4368) كتاب: الضحايا، باب: ذبح الناس بالمصلى، و (4398)، باب: ذبح الضحية قبل الإمام، وابن ماجه (3152)، كتاب: الأضاحي، باب: النهي عن ذبح الأضحية قبل الصلاة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 398)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 347)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 110)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 128)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 702)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 159)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 20)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 305)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 92)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 213).

(عن) أبي عبد اللَّه (جندب) -بضم الجيم، وسكون النون، وضم الدال المهملة، وفتحها-، لغتان (بن عبد اللَّه) بن سفيان، وربما نسب إلى جده، فقيل: جندب بن سفيان (البجلي) -بفتح الباء الموحدة، وفتح الجيم-، نسبة إلى بجيلة؛ وهم ولد أَنْمار -بفتح الهمزة، وسكون النون-، قبيلة نُسبوا إلى أمهم بجيلة بنت صعب سعد العشيرة (¬1). ويقال في نسبة جندب أيضًا: -العَلَقي بفتح العين المهملة، وفتح اللام، وبالقاف-، نسبة إلى علقة بن عَبْقَر -بفتح العين، وسكون الموحدة، وفتح القاف، وآخره راء-، بن أنمار السابق. ويقال: لجندب -رضي اللَّه عنه- أيضًا: الأحمسي -بفتح الهمزة، وسكون الحاء المهملة، وفتح الميم، وبالسين المهملة-؛ نسبة إلى أحمس بجيلة، وهو أحمس بن الغوث -بفتح الغين المعجمة، وبالثاء المثلثة-، من أجداد أنمار السابق. ويقال في جندب -أيضًا-: جندب الخيل، وابن أم جندب، كما في "أسد الغابة"، و"شرح الزهر"، و"جامع الأصول" لابن الأثير، والذي ذكره ابن الكلبي: أن جندب الخيل إنما هو جندب بن عبد اللَّه بن الأحزم الأزدي، تابعي سمع على علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-. سكن جندب بن عبد اللَّه البجلي الكوفة، ثم انتقل إلى البصرة، ثم خرج منها، قال الحافظ المصنف -رحمه اللَّه تعالى-: مات سنة أربع وستين، وذكر الصريفي، عن العكبري: أنه توفي في فتنة ابن الزبير، يعني: سنة اثنتين وسبعين، وفي "جامع الأصول" لابن الأثير: مات في فتنة ابن الزبير ¬

_ (¬1) انظر: "الأنساب" للسمعاني (1/ 284).

بعد أربع سنين منها، لكن ذهب الحافظ الذهبي في "الكاشف" بالأول، وصحبته ليست بالقديمة. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ثلاثة وأربعون حديثًا، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بخمسة. روى عنه: سلمة بن كهيل، والأسود بن قيس، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وبكر بن عبد اللَّه المزني (¬1). (رضي اللَّه تعالى عنه-، قال) جندب: (صلى) بنا (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) صلاة العيد (يوم النحر) النحر: مصدر نحر؛ وهو طعن البدنة من الإبل بحربة ونحوه في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، والذبح: قطع الحلقوم، والمريء، والوَدَجين على رواية (¬2). وإضافة اليوم للنحر؛ لما يقع فيه من نحر الأضاحي، والهدي، ونحوها، وصار علمًا بالغلبة لعاشر ذي الحجة. (ثم) بعد فراغه -عليه الصلاة والسلام- من الصلاة، (خطب). فيه: دليل لما تقدم؛ من اعتبار كون الخطبة بعد الصلاة، (ثم) بعد فراغه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الخطبة (ذبح) أضحيته. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 35)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 221)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 56)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 510)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 236)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 66)، و"جامع الأصول" له أيضًا (13/ 262)، و"تهذيب الكمال" للمزي (5/ 137)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 174)، و"الكاشف" له أيضًا (1/ 298)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 508)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 101). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 200).

(وقال) -عليه الصلاة والسلام-: (من ذبح قبل أن يصلي)؛ أي: صلاة العيد بالفعل، أو فراغها ممن لم يصلِّ، لم تكن ذبيحته مجزية عن الأضحية؛ لوقوعها قبل وقتها الموقت لذبحها، فتكون لحمًا لا أضحية، وإذا كان الأمر وقع كذلك، (فليذبح) ذبيحة (أخرى) تكون (مكانها). وقد يستدل بصيغة الأمر من يرى وجوب الأضحية عليه بها، وقد ينفصل عنه من لم ير الوجوب: بأنه إنما يفيد كون الثانية عن الأولى لتعيينه بالشراء بنية الأضحية، أو بقوله: هذه أضحية مثلًا، وحينئذ تصير واجبة، فبوقوعها قبل وقتها المشروع، لم تبرأ الذمة من أدائها، فأمر بذبح أخرى لتبرأ ذمته من الواجب (¬1). (ومن لم يذبح) قبل الصلاة، (فليذبح) بعدها، وتجزيه، وليقل عند ذبحها: (باسم اللَّه)، ويسن أن يكبر. قال الإمام أحمد: حين يحرك يده بالذبح، ويقول: اللهم هذا منك ولك، ولا بأس بقوله: اللهم تقبل من فلان، نص عليه أحمد، وذكر بعضهم: يقول: اللهم تقبل مني، كما تقبلت من إبراهيم خليلك. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: وأنه يقول إذا ذبح: وجهت وجهي، إلى قوله: وأنا من المسلمين (¬2). تنبيهات: الأول: هذا الحديث بمعنى الحديث الذي قبله، إلّا أنه أظهر في اعتبار فعل الصلاة من الأول؛ من حيث إن الأول اقتضى تعليق الحكم بلفظ الصلاة، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 129). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 400).

لكن ظاهره يشعر باختصاص إجزاء الأضحية بمن صلى، وليس مرادًا (¬1). وأيضًا اجتمع في هذا الحديث مع الصيغة القولية الفعل منه -صلى اللَّه عليه وسلم-. الثاني: معتمد المذهب: أن الأضحية سنة مؤكدة، وعن الإمام: أنها واجبة، ذكره الحلواني عن أبي بكر، وخرجها أبو الخطاب وابن عقيل من التضحية عن اليتيم (¬2). قال الإمام ابن هبيرة: اتفقوا على أن الأضحية مشروعة بأصل الشرع، ثم اختلفوا: فقال أبو حنيفة: هي واجبة على كل مسلم مقيم مالك لنصاب، من أي الأموال كان. وقال مالك: هي مسنونة غير مفروضة، وهي واجبة غير فريضة؛ على كل من قدر عليها من المسلمين من أهل الأمصار، والقرى، والمسافرين، إلّا الحاج الذي بمنى؛ فإنهم لا أضحية عليهم. وقال الشافعي، وأحمد: هي مستحبة، إلّا أن الإمام أحمد قال: لا أحب تركها مع القدرة عليها (¬3). الثالث: تجوز الأضحية من الغنم، والإبل، والبقر، لا من غيرها، والأفضل الإبل، فالبقر، فالغنم، والأسمن الأملح أفضل، قال الامام أحمد: يعجبني البياض، ونقل حنبل عنه: أكره السواد، وذكر كأنثى سواء، وقيل له أفضل (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 128). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 405). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 263). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 397).

ولا يجزىء إلّا الجذع من الضأن، وهو ما له ستة أشهر، والثَّني مما سواه، فثني الإبل: ما كَمَل له خمس سنين، وبقر: سنتان، ومعز: سنة، ويجزىء أعلى سنًا مما ذكر. وجذع ضأن أفضل من ثنيِّ معز، وكل منهما أفضل من سُبعْ بدنة، أو بقرة، وسبعُ شياه أفضل من بدنة، أو بقرة، وزيادة عدد في جنس أفضل من المغالاة مع عدمه (¬1). قلت: الذي اعتمده الشافعية: اعتبار كون سن أضحية من الضأن سنة، ومن المعز كالبقر سنتين؛ كما في "المنهج"، و"شرحه" للقاضي زكريا، واستدلوا بحديث الإمام أحمد وغيره: "ضحوا بالجذع من الضأن فإنه جائز" (¬2)، وخبر مسلم: "لا تذبحوا إلّا مسنة، إلّا أن يعسر عليكم، فاذبحوا جذعة من الضأن" (¬3). قال العلماء: المسنة: هي الثنية من الإبل، والبقر، والغنم. وقضية حديث مسلم: أن جذعة من الضأن لا تجزىء إلّا إذا عجز عن المسنة، والجمهور على خلافه، وحملوا الخبر على الندب، انتهى (¬4). قال ابن نصر اللَّه في "حواشي الكافي": قال الأزهري: البقرة والشاة ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 41 - 42). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 368)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3395)، والطبراني في "المعجم الكبير" (25/ 164)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 271)، من حديث أم بلال -رضي اللَّه عنها-. (¬3) رواه مسلم (1963)، كتاب: الأضاحي، باب: سن الأضحية، عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. (¬4) انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 327 - 328).

يقع عليهما اسم المُسِنّ إذا أثنيا، ويثنيان في السنة الثالثة، وليس معنى إسنانها: كبرها؛ كالرجل، ولكن معناه: طلوع [ثنيتها] (¬1) في السنة الثالثة (¬2)، انتهى. قال في "المطالع": الجذع من الضأن: ابنُ سنة، وقيل: ابنُ ثمانية أشهر، وقيل: ابن ستة، وقيل: ابن سبعة، وقيل: ابن عشرة؛ وهو لا يجزىء إلّا من الضأن، لا من المعز، قال الحربي: لأنه ينزو من الضأن ويلقح، ولا ينزو إذا كان من المعز، فلا يجزىء إلّا ثنيًا، انتهى (¬3). ومعتمد المذهب: ما قدمنا، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل: "سنها" بدل "ثنتيها"، والتصويب من "تهذيب اللغة". (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (12/ 299)، (مادة: سن). (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 143).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ جَابرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوْمَ العِيدِ، فَبَدأَ بالصَّلاةِ قَبْلَ الخُطْبَةِ بِلا أَذَانٍ وَلا إِقَامَةٍ، ثَمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلالٍ، فَأَمَرَ بتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ، وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ، وَذَكَّرَهُنَّ، وَقَالَ: "تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنَّكُنَّ أَكْثَرُ حَطَبِ جَهَنَّمَ"، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لأنَكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتكفُرْنَ العَشِيرَ"، قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ، يُلْقِينَ في ثَوْبِ بِلالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وخَوَاتِيمِهِنَّ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (915، 918)، كتاب: العيدين، باب: المشي والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، و (935)، باب: موعظة الإمام النساء يوم العيد، ومسلم (885/ 4)، واللفظ له، و (885/ 3)، في أول كتاب: صلاة العيدين، وأبو داود (1141)، كتاب: الصلاة، باب: الخطبة يوم العيد، والنسائي (1562)، كتاب: صلاة العيدين، باب: ترك الأذان للعيدين، و (1575)، باب: قيام الإمام في الخطبة متوكئًا على إنسان. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 293)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 531)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 175)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 129)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار =

(عن) أبي عبد الرحمن (جابر) بن عبد اللَّه الأنصاري الخزرجي -رضي اللَّه عنهما-، (قال: شهدت مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم العيد)؛ أي: شهودَ حضور، يعني: حضرت معه صلاة العيد، (فبدأ) -صلى اللَّه عليه وسلم- (بالصلاة قبل الخطبة) كما هو المعلوم من سنته -صلى اللَّه عليه وسلم- كما تقدم- (بلا أذان) لصلاة العيد، (ولا إقامة) لها، وهذا متفق عليه بين العلماء. قال في "شرح المقنع": ولا يشرع لها أذان ولا إقامة، لا نعلم في هذا خلافًا، إلّا أنه روي عن ابن الزبير: أنه أذن وأقام، وقيل: أول من أذن في العيدين: [ابن] زياد، وهذا دليل على انعقاد الإجماع قبله، وعن عطاء، قال: أخبرني جابر: أن لا أذانَ يوم الفطر حين يخرج الإمام، ولا بعدما يخرج، ولا إقامة، ولا نداء، ولا شيء، لا نداء يومئذ ولا إقامة، رواه مسلم (¬1). قال ابن دقيق العيد: وكأن سببه تخصيص الفرائض بالأذان؛ تمييزًا لها بذلك عن غيرها، وإظهارًا لشرفها، وأشار بعضهم إلى معنى آخر، وهو: أنه لو دعا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إليها، لوجبت الإجابة -أي: على الأعيان-، وذلك منافٍ لعدم وجوبها كذلك (¬2). تنبيه: قال علماؤنا كالشافعية: ينادى لها: "الصلاة جامعة". ¬

_ = (2/ 705)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 93، 147)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 143)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 467)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 281)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 375). (¬1) رواه مسلم (886)، في أول كتاب: صلاة العيدين. وانظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 235 - 236). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 129).

قال في "شرح المقنع": والسنة أحق أن تتبع (¬1)، يعني: في عدم المناداة لها. (ثم) بعد فراغه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الصلاة (قام متوكئًا)؛ أي: متحاملًا ومعتمدًا (على بلال) بن حمامة مولى الصديق -رضي اللَّه عنهما-، (فأمر) -صلى اللَّه عليه وسلم- (بتقوى اللَّه) -عز وجل-؛ أي: أمر أن يجعل العبد بينه وبين عذاب اللَّه أمرًا يقيه منه؛ من فعل الطاعات، واجتناب المحرمات، وأصل الوقاية: الصيانة، وما وقيت به، واتقيت الشيء: حذرته، وقوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} [المدثر: 56]؛ أي: أهل أن يُتَّقى عقابه (¬2)، والتقي: من اتقاه؛ بأن فعل المأمور، واجتنب المحظور، وفي الحديث: "من عصى اللَّه، لم تقه من اللَّه واقية" (¬3). (وحث)؛ أي: حض (على طاعته)، يقال: حثه عليه، واستحثه، وأحثه: حضه (¬4). والطاعة: امتثال المأمور، واجتناب المحظور، (ووعظ)؛ أي: ذكَّر (الناس) ما يلين قلوبهم من الثواب والعقاب، (وذكرهم) ما يؤولون إليه من أمر آخرتهم، وما يلقونه من النعيم المقيم، أو العذاب الأليم، (ثم) بعد وعظه وتذكيره للرجال (مضى) من المكان الذي فيه الرجال، يعني: من المصلى (حتى أتى النساء) كونهن منعزلات عن الرجال، (فوعظهن وذكرهن) ما تلين به قلوبهن؛ من الترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (1/ 562). (¬2) نظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1731)، (مادة: وقى). (¬3) كذا ذكره ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" (5/ 216). ولم أقف عليه في شيء من المصادر الحديثية، واللَّه أعلم. (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 213)، (مادة: حثث).

(وقال) لهن في خلال ذلك: (تصدقن؛ فإنكن) الفاء للتعليل؛ أي: لأنكن (أكثر حطب جهنم). فيه: إشارة إلى أن الصدقة من دوافع عذاب جهنم؛ لأنها تطفىء غضب الجبار، والنار من آثار غضبه تعالى. وفيه: الإشارة أيضًا إلى الإغلاظ بالنصح بما لعله يبعث على إزالة العيب والذنب الذي يتصف بهما الإنسان. وفيه: العناية بذكر ما تشتد الحاجة إليه من المخاطبين، وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها (¬1). (فقامت امرأة من سطة النساء) زعم بعضهم: أن أصل اللفظة من الوسط الذي هو الخِيار، وبهذا فسر بعضهم ما في بعض الألفاظ: من علية النساء (¬2)؛ أي: خيارهن، وعند بعض الرواة: من واسطة النساء (¬3). وقال بعض فضلاء الأندلسيين: إنه تغيير؛ أي: تصحيف من الراوي، كأنَّ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 130). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 376)، والطيالسي في "مسنده" (384)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (9805)، والنسائي في "السنن الكبرى" (9257)، وابن حبان في "صحيحه" (3323)، والحاكم في "المستدرك" (2772)، من حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-. (¬3) قال القاضي عياض في "إكمال المعلم" (3/ 294): ضبطه الخُشني، عن الطبري: "واسطة" بدل "سطة"، لكن حذاق شيوخنا زعموا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم، وأن صوابه: "من سَفِلة الناس". وانظر: "مشارق الأنوار" له (2/ 214). وردَّ النووي في "شرح مسلم" (6/ 175) ما ادعوه من تغيير الكلمة، وقال: بل هي صحيحة، ولمس المراد بها: من خيار النساء؛ كما فسره هو، بل المراد: امرأة من وسط النساء، جالسة في وسطهن.

الأصل: من سفلة النساء، فاختلطت الفاء باللام، فصارت طاء، ويؤيد هذا: أنه ورد في كتاب ابن أبي شيبة، والنسائي: فقامت امرأة من سفلة النساء (¬1)، وفي رواية أخرى: فقامت امرأة من غير علية النساء (¬2). (سفعاء الخدين) الأسفع والسفعاء: من أصاب خدَّه لونٌ يخالف لونه الأصلي، من سواد، أو حمرة، أو غيره (¬3). قال في "القاموس": والسفائع (¬4): لوافح السموم، والسُّفع -بالضم-: الأثافي، واحدتها: سفعاء، والسود تَضْرِب إلى الحمرة، و-بالتحريك-: سُفْعَةُ سواد في الخدين من المرأة الشاحبة، والسُّفْعة -بالضم-: ما في دِمْنَة النار من نحو رماد، ومن اللون: سواد أُشْرِب حمرة، انتهى ملخصًا (¬5). فائدة: قال البرماوي في "مبهمات الشرح": هذه المرأة القائلة: أسماء بنت يزيد، صرح به البيهقي في رواية ذكرها في "شعب الإيمان"، وذكرها غيره -أيضًا- (¬6). قال: ومعنى قوله: "من سطة النساء"؛ أي: من خيارهن، وقيل: غير ذلك. قال: وأسماء هذه هي: بنت يزيد بن السَّكَن -بفتح السين المهملة ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مسنده"، كما ذكر الزركشي في "النكت" (ص: 144)، وتقدم تخريجه عند النسائي برقم (1575). (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 131). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 131). (¬4) في "القاموس": "السَّوافع". (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 941)، (مادة: سفع). (¬6) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (9127)، وكذا الطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 168).

والكاف- الأنصارية بنت عمة معاذ، كانت من ذوات العقل والدين، قتلت يوم اليرموك سبعة من الكفار بعمود فسطاط، وكنيتها: أم سلمة، وقيل: أم عامر، وهي خطيبة النساء، فقد روي أنها قالت للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه! إنه ليس في شرق البلاد وغربها امرأة، إلّا هي على مثل رأيي، إن اللَّه بعثك للرجال والنساء، فآمنا بك وبالذي أرسلك، وإنا -معاشر النساء- محصورات مقصورات، قواعد في بيوتكم، ومواضع شهواتكم، وحوامل أولادكم، وأنتم -معاشر الرجال-، فُضلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المريض، وتشييع الجنائز، والحج بعد الحج، ثم أفضل من ذلك الجهاد في سبيل اللَّه، وإنكم إذا خرجتم حجاجًا ومجاهدين وتجارًا ومسافرين، حفظنا لكم أموالكم، وربينا لكم أولادكم؛ أفنشارككم في الأجر يا رسول اللَّه؟ فالتفت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أصحابه، وقال: "هل سمعتم مقالة امرأة أحسن في مسألتها عن أمر دينها من هذه المرأة؟! "، فقالوا: يا رسول اللَّه! ما ظننا أن امرأة تهتدي في دينها إلى مثل مقالتها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي مَنْ خلفك من النساء: أنَّ حُسْنَ تَبَعُّل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته؛ تعدل ذلك -إن شاء اللَّه تعالى-"، فانصرفت وهي تهلل وتكبر استبشارًا (¬1). واللَّه أعلم. (فقالت: لم)؛ أي: لأي شيء كنا أكثرَ حطب جهنم؟. فيه: مراجعة المتعلم لمعلمه، والتابع لمتبوعه، فيما لا يظهر له معناه (يا رسول اللَّه؟ قال) -عليه الصلاة والسلام- مفسرًا لما استفهمت عنه: ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (8743)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (7/ 363).

(لأنكن) -معشر النساء- (تكثرن الشكاة)، وفي لفظ: "الشَّكا" يقال: شكى أمره إلى اللَّه شكوًا، وينون، وشكاة، وشكاوة، وشكية، وشكاية -بالكسر (¬1) -. وشكاة النساء في هذا الحديث: يجوز أن تكون راجعة إلى ما يتعلق بالزوج وبخدمته، وهذا الظاهر. ويجوز أن تكون راجعة إلى ما يتعلق بحق اللَّه تعالى؛ من عدم شكره، والشكاية لقضائه (¬2). (وتكفرن العشير) يعني: الزوج؛ أي: تجحدن حقه، وتنكرن نعمه. وفيه: دليل على تحريم كفران النعم؛ لأنه جعل سببًا لدخول النار، وفي رواية: "تكثرن اللعن، وتكفرن العشير" (¬3)، وليس المراد: الكفر المخرج عن الملة. وخص كفران العشير من بين أنواع الذنوب؛ لدقيقة بديعة، وهي قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" رواه أبو داود من حديث قيس بن سعد (¬4)، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" من حديث ابن أبي أوفى (¬5)، والترمذي وصححه من حديث ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (1677)، (مادة: شكا). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 131). (¬3) رواه البخاري (298)، كتاب: الحيض، باب: ترك الحائض الصوم، ومسلم (80)، كتاب: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (¬4) رواه أبو داود (2140)، كتاب: النكاح، باب: في حق الزوج على المرأة. (¬5) رواه ابن ماجه (1853)، كتاب: النكاح، باب: حق الزوج على المرأة، وابن حبان في "صحيحه" (4171)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 381).

أبي هريرة (¬1)، وغيرهم -رضي اللَّه عنهم-، فقرن حق الزوج على الزوجة بحق اللَّه، فإذا كفرت المرأة حق زوجها، وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية، كان ذلك دليلًا على تهاونها بحق اللَّه تعالى؛ فلذلك أطلق عليها الكفر، إلّا أنه لا يخرجها عن الملة (¬2)، كما قدمنا. والعشير: الزوج، وأصله: الخليط من المعاشرة، قيل له: عشير، بمعنى: معاشر، مثل: أكيل، بمعنى مؤاكل، ولفظ العشير يطلق بإزاء شيئين، فالمراد به هنا: الزوج، والمراد به في قوله تعالى: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 13]، المولى هنا: ابن العم، والعشير: المخالط المعاشر (¬3). وفي "الصحيحين"، من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، ورؤيته للنار، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ورأيت أكثر أهلها النساء"، قالوا: بم يا رسول اللَّه؟ قال: "بكفرهن"، قيل: أيكفرن باللَّه؟! قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهرَ كلَّه، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط" (¬4). قال في "الفتح": فيه إشارة إلى وجود سبب التعذيب؛ لأنها بذلك ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1159)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة. (¬2) قاله أبو بكر بن العربي في "شرح البخاري"، كما نقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 83). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 298). (¬4) رواه البخاري (29)، كتاب: الإيمان، باب: كفران العشير، وكفر بعد كفر، ومسلم (884)، في أول كتاب: العيدين.

كالمصرة على كفر النعمة، والإصرار على المعصية من أسباب العذاب (¬1). قال ابن دقيق العيد: وإذا كان -صلى اللَّه عليه وسلم- قد ذكر ذلك في حق من هذا ذنبه، فكيف بمن له منهن ذنوب أكثر من ذلك؛ كترك الصلاة، والقذف (¬2)؟! (قال: فجعلن) يعني: النساء المخاطبات من الصحابيات -رضي اللَّه عنهن- (يتصدقن من حليهن) الذي عليهن (يلقين)؛ أي: يطرحن (في ثوب بلال) -رضي اللَّه عنه- بعد أن بسطه (من أقرطتهن) جمع قُرْط -بضم القاف، وسكون الراء، بعدها طاء مهملة-: هو الحلقة التي تكون في شحمة الأذن (¬3). (وخواتيمهن) جمع خاتم، وهو: ما يوضع في الأصبع، ويجمع أيضًا على خواتم -بلا ياء-، وعلى خياتيم -بياء بدل الواو، وبلا ياء- أيضًا، وفي الخاتم ثمان لغات: فتح التاء وكسرها، وهما واضحتان. وبتقديمها على الألف مع كسر الخاء: خِتام. وخَيتوم -بسكون الياء المثناة تحت، وضم التاء المثناة فوق، بعدها واو، مع فتح الخاء-. وبحذف الياء والواو، مع سكون المثناة فوق: ختم. وبألف بعد الخاء، وأخرى بعد التاء: خاتام. وبزيادة تحتانية بعد المثناة المكسورة: خاتيام. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 299). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 131). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 193). وانظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 880)، (مادة: قرط).

وبحذف الألف الأولى، وتقديم التحتانية: خيتام. وقد جمعها الحافظ ابن حجر، كما في "الفتح" في قوله: [من البسيط] خُذْ نظمَ عَدِّ لغاتِ الخاتمِ انتظمت ... ثمانيًا ما حواها قَطُّ نَظَّامُ خاتامُ خاتِمُ خَتْمٌ خاتَمٌ وخِتا ... مٌ خاتيامٌ وخيتومٌ وخَيتامُ ثم زاد بيتًا ثالثًا: وهَمْزُ مفتوحِ تاءٍ تاسعٌ (¬1) وإذا ... ساغَ القياسُ أتمَّ العَشْرَ خاتامُ (¬2) تنبيهان: الأول: استنبط بعض الصوفية من هذا الحديث: جواز الطلب للفقراء من الأغنياء عند الحاجة. وفي مبادرة النساء للامتثال بالصدقة، وبذل ما لعلهن يحتجن إليه، مع ضيق الحال في ذلك الزمان؛ ما يدل على رفيع مقامهن في الدين، وامتثال أمر رسول رب العالمين -صلى اللَّه عليه وسلم-. ويؤخذ منه: جواز تصدق المرأة من مالها في الجملة (¬3). وفيه: جواز عظة الإمام النساء على حدة. وفيه: أن جحد النعم حرام، وكذا كثرة استعمال القبيح؛ كاللعن والشتم، واستدل النووي على أنهما من الكبائر، بالتوعد عليهما بالنار (¬4). وهو منطبق على ما ذكره علماؤنا، من أن تعريف الكبيرة: ما فيه جزاء ¬

_ (¬1) أي: خأتم. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 315 - 316). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 131). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 66).

في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، زاد شيخ الإسلام: أو لعن فاعله، أو نفى عنه الإيمان (¬1). وفيه: ذم اللعن، وهو: الدعاء بالإبعاد من رحمة اللَّه، وهو محمول على ما إذا كان لمعين. وفيه: إطلاق الكفر على الذنوب التي لا تخرج عن الملة، واللَّه أعلم (¬2). الثاني: ظاهر صنيع الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: أن جميع حديث جابر من متفق الشيخين، والحال: أن البخاري لم يخرج لفظ: "تصدقن" إلى "وتكفرن العشير" من حديثه، ولكن خرجه من حديث ابن عباس وغيره -رضي اللَّه عنهم-، كما نبه عليه الحافظ عبد الحق الإشبيلي في "جمعه للصحيحين" (¬3)، ولم ينبه عليه ابن دقيق العيد، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 491). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 406). (¬3) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 590 - 591) , حديث رقم (1302).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ نُسَيْتةَ الأَنْصَارِيَّةَ، قَالَتْ: أَمَرَنَا -تَعْنِي: النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ نُخْرِجَ فِي العِيدَيْنِ العَوَاتِقَ وذَوَاتِ الخُدُورِ، وَأَمَرَ الحُيَّضَ أَنْ يَعْتَزِلْنَ مُصَلَّى المُسْلِمِين (¬1). وفي لفظ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يومَ العيدِ، حتى نخرجَ البكرَ من خِدْرِها، حَتَّى تَخْرُجَ الحُيَّضُ، فَيُكَبِّرْنَ بتكْبيرِهِم، وَيدْعُونَ بدعَائِهِم، ويَرْجُونَ بَركةَ ذَلِكَ اليَوْمِ وَطُهْرَتَه (¬2). * * * ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (318)، كتاب: الحيض، باب: شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين، ويعتزلن المصلى، و (931)، كتاب: العيدين، باب: خروج النساء والحيض إلى المصلى، ومسلم (890/ 10) واللفظ له، كتاب: صلاة العيدين، باب: ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقاتٍ للرجال، والنسائي (390)، كتاب: الحيض والاستحاضة، باب: شهود الحيض العيدين ودعوة المسلمين، و (1558)، كتاب: صلاة العيدين، باب: خروج العواتق وذوات الخدور في العيدين، و (1559)، باب: اعتزال الحيض مصلى الناس، وابن ماجه (1308)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في خروج النساء في العيدين. (¬2) رواه البخاري (928)، كتاب: العيدين، باب: التكبير أيام منى، وإذا غدا إلى عرفة، واللفظ له، ومسلم (890/ 11)، كتاب: صلاة العيدين، باب: ذكر إباحة =

(عن أم عطية نسيبة) -بضم النون، وفتح السين المهملة، وسكون المثناة تحت، فباء موحدة، فهاء تأنيث-، ومنهم من -فتح النون، وكسر السين-، حكاه النووي عن "مبهمات الخطيب" وهو قول ابن عساكر، والحافظ عبد الغني بن سعيد المقدسي، وخالفهما ابن ماكولا وجماعة، فقالوا: نُسيبة -بضم النون-: هي أم عطية، وأما -بالفتح-: فهي أم عمارة، وقيل: اسمها نُبيشة -بضم النون، وفتح الموحدة، فمثناة تحتية، ¬

_ = خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات للرجال. ورواه البخاري (344)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: وجوب الصلاة في الثياب، و (937)، كتاب: العيدين، باب: إذا لم يكن لها جلباب في العيد، و (938)، باب: اعتزال الحيض المصلى، و (1569)، كتاب: الحج، باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، ومسلم (890/ 12)، كتاب: صلاة العيدين، باب: ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة، وأبو داود (1136 - 1139)، كتاب: الصلاة، باب: خروج النساء في العيد، والنسائي (1558)، كتاب: صلاة العيدين، باب: خروج العواتق وذوات الخدور في العيدين، والترمذي (539 - 540)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في خروج النساء في العيدين، وابن ماجه (1307 - 1308)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في خروج النساء في العيدين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 251)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 9)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 298)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 524)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 178)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 132)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 713)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 137، 6/ 139، 151)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 145)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 469)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 303)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 65)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 351).

فشين معجمة، فهاء تأنيث، حكاه ابن عبد البر. واختلف في اسم أبي أم عطية هذه، فقيل: بنت كعب، قاله الإمام أحمد، ويحيى بن معين، وابن منده، وأبو نعيم، وجماعة، وقال ابن عبد البر وجماعة: هي بنت الحارث (الأنصارية) -رضي اللَّه عنها-، وهي من كبار الصحابيات، كانت تغزو كثيرًا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فتمرض المرضى، وتداوي الجرحى. روى عنها: أنس بن مالك، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية، ومحمد بن سيرين، وغيرهم، وقدمت البصرة، وحصل حديثها عندهم، روي لها: أربعون حديثًا، اتفقا على ستة، وانفرد كل منهما بحديث (¬1). (قالت: أمرنا -تعني: النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نُخرج) بضم النون، وكسر الراء؛ من أخرج (في العيدين) عيد الفطر، وعيد الأضحى (العواتق) جمع عاتق، ويجمع على عُتَّق أيضًا كما في بعض ألفاظ حديث أم عطية (¬2)، وهي: الجارية حين تدرك (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 455)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 465)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 423)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1947)، و"الإكمال" لابن ماكولا (7/ 259)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 71)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 356)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 626)، وعنه أخذ المؤلف هذه الترجمة، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 315)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 318)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 261)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 482). (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (1139). (¬3) قاله الخطابي، كما في "غريب الحديث" له (1/ 124).

وفي "القاموس" العاتق: الجارية أو [لَ] ما أدركت، والتي لم تتزوج، أو التي بين الإدراك والتعنيس، والعانس: من طال مكثها في أهلها بعد إدراكها، حتى خرجت من عداد الأبكار، ولم تتزوج (¬1). عنسها أهلها تعنيسًا: فهي عانس، كما في "القاموس" (¬2). وفي "النهاية": العاتق: الشابة أول ما تدرك، وقيل: هي التي لم تبنْ من والدتها، ولم تتزوج، وقد أدركت وشبت (¬3). (وذوات) أي: صاحبات (الخدور) جمع خِدْر، وهو -بكسر الخاء المعجمة-: ستر يمد للجارية في ناحية البيت كالأخدور، وكل ما واراك من بيت ونحوه، ويجمع أيضًا على أخدار، وجمع الجمع: أخادير، كما في "القاموس" (¬4). وفي "المطالع": الخدور: ستور تكون للجواري الأبكار في ناحية البيت، الواحد: خدر، ويقال: الخدر: سرير عليه ستر، وقيل: الخدر: البيت نفسه، انتهى (¬5). (وأمر الحيض) جمع حائض (أن يعتزلن مصلى المسلمين)؛ أي: يتنحين عنه، وينصرفن عن الجلوس به، وليس ذلك لتحريم حضورهن فيه، إذا لم يكن مسجدًا، بل لقصد المبالغة في التنزيه لمحل العبادة في وقتها على سبيل الاستحسان، أو لكراهة جلوس من لم يصل مع المصلين في ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1171)، (مادة: عتق). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 722)، (مادة: عنس). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 178 - 179). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 490)، (مادة: خدر). (¬5) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 231).

محل واحد في حال إقامة الصلاة؛ كما جاء: "ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟! " (¬1)، كذا قال ابن دقيق العيد (¬2). قلت: ومعتمد المذهب: أن مصلى العيد مسجد، على الصحيح من المذهب؛ خلافًا لأبي حنيفة، والشافعي؛ لأنه أعد للصلاة حقيقة، لا مصلى الجنائز، فتمنع الحائض منه (¬3). والحديث حجة لنا. (وفي لفظ) كما في بعض طرق البخاري، عن أم عطية -رضي اللَّه عنها-، قالت: (كنا نؤمر)؛ أي: من قبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ أي: يأمرنا (أن نخرج) -معشر النساء- (يوم العيد) سواء كان عيد الفطر، أو النحر، جميعنا (حتى نخرج) البنت (البكر) -بكسر الموحدة-: العذراء، والبكارة هي: الالتحام الذي يكون للجارية قبل افتضاضها (¬4) (من خدرها)؛ أي: بيتها، أو الستارة التي ضربت لها في جانبه، والمراد: خروجها من بيتها لتحضر العيد، وقد كان حينئذ أهل الإسلام في حيز القلة، فاحتيج إلى المبالغة بإخراج العواتق، وذوات الخدور؛ لإظهار شعائر الإسلام، وفيه: إشارة إلى أن البروز إلى المصلى هو سنة العيد (¬5). (حتى) كانت (تخرج) النساء (الحيض)، ويعتزلن مصلى العيد، (فيكبرن بتكبيرهم)؛ أي: الرجال المصلين (ويدعون بدعائهم)؛ أي: يؤمِّنَّ على دعاء النبي، ويدعون لأنفسهنَّ حين يدعو (يرجون) بذلك كله (بركة ذلك اليوم) الذي هو يوم العيد (وطهرته)؛ أي: تطهيره لهن من الذنوب، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 133). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 170). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 196). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 470).

وتنزيهه لهن من الخطايا؛ فهو تعليل لخروجهن. ومعتمد مذهبنا: لا بأس بحضور النساء صلاة العيد، غيرَ مطيبات، ولا لابساتٍ ثيابَ زينة أو شهرة؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وليخرجْنَ تَفِلات" (¬1)، ويعتزلْنَ الرجال، ويعتزل الحيض المصلى بحيث يسمعن الخطبة. نعم، قال ابن حامد: يستحب، واحتج للاستحباب بما روي عن أبي بكر، و [علي] (¬2) -رضي اللَّه عنهما-: أنهما قالا: حق على كل ذات نطاق: أن تخرج إلى العيدين (¬3)، وكان ابن عمر يخرج من استطاع من أهله في العيدين (¬4)؛ لهذا الحديث، وفي بعض ألفاظه: فأما الحيض فليعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين"، قالت أم عطية: قلت: يارسول اللَّه! إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: "لتلبسها أختها من جلبابها" متفق عليه (¬5). قال القاضي: ظاهر كلام الإمام أحمد: أن ذلك جائز، لا مستحب. وكرهه النخعي، ويحيى الأنصاري، وقالا: لا نعرف خروج المرأة في ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (565)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 171)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 438)، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) في الأصل: "عمر" بدل "علي"، والتصويب من "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 232) وعنه نقل الشارح -رحمه اللَّه-. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5785)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3422)، عن أبي بكر -رضي اللَّه عنه-. ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5786)، عن علي -رضي اللَّه عنه-. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5787). (¬5) تقدم تخريجه.

العيدين عندنا، وكرهه سفيان، وابن المبارك. ورخص الحنفية للمرأة الكبيرة، وكرهوه للشابة؛ لما في خروجهن من الفتنة، وقول عائشة -رضي اللَّه عنها-: لو رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما أحدث النساء، لمنعهن المساجد، كما منحت نساء بني إسرائيل (¬1)، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 232).

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف قال في "المطلع": الكسوف: مصدر كسفت الشمس: إذا ذهب نورها، يقال: كسفت الشمس والقمر، وكُسفا، وانكسفا، وخَسَفا، وخُسفا، وانخسفا: ست لغات. وقيل: الكسوف: مختص بالشمس، والخسوف بالقمر. وقيل: الكسوف في أوله، والخسوف في آخره. وقال ثعلب: كسفت الشمس، وخسف القمر: هذا أجود الكلام، انتهى (¬1). قال في "شرح المقنع": الكسوف والخسوف: شيء واحد، وكلاهما قد وردت به الأخبار، وجاء القرآن بلفظ الخسوف، وصلاة الكسوف آكدُ صلاةِ التطوع؛ لكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فعلها، وأمر بها (¬2). وذكر الحافظ في هذا الباب أربعة أحاديث: * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 109). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 273).

الحديث الأول

الحديث الأول عَن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ الشَّمْسَ خَسَفَتْ عَلَى عَهدِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعُوا، وَتَقَدَّمَ فَكبَّر، وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكعَاتٍ في رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ (¬1). * * * (عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (-رضي اللَّه عنها-: أن الشمس ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1016)، كتاب: الكسوف، باب: الجهر بالقراءة في الكسوف، ومسلم (901/ 4 - 5)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف، واللفظ له، وأبو داود (1190)، كتاب: الصلاة، باب: ينادى فيها بالصلاة، والنسائي (1465)، كتاب: الكسوف، باب: الأمر بالنداء لصلاة الكسوف، و (1473)، باب: نوع آخر من صلاة الكسوف، و (1497)، باب: التشهد والتسليم في صلاة الكسوف، من طريق الأوزاعي وابن نمر، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-، به. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 257)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 329)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 198)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 135)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 719)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 549)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 91)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 73)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 13).

خسفت) بفتح الخاء المعجمة، وفتح السين المهملة-، ويقال: خُسفت -على صيغة ما لم يسم فاعله-. وهذا الحديث وغيره من الأحاديث يبطل زعم من زعم أن الخسوف مختص بالقمر (¬1). (على عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-)، وذلك في السنة العاشرة من الهجرة، لعشر خلون من ربيع الأول يوم موت إبراهيم -عليه السلام- ابنِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان قد تم له سنة ونصف وأيام، وكان يومًا شديد الحر. (فبعث) -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا (مناديًا ينادي: الصلاة جامعة) -بنصب الأول على الإغراء، والثاني على الحال (¬2) -، وفي "الرعاية": برفعهما، ونصبهما (¬3). وعلم منه: أنه لا يؤذن لها، وهو بالاتفاق. والحديث دل على أنه ينادى لها بالصيغة المذكورة، قال علماؤنا: أو الصلاة. قال في "الفروع": وينادى لكسوفٍ؛ لأنه في "الصحيحين"، واستسقاءٍ، وعيدٍ: الصلاة جامعة، أو الصلاة (¬4). قال في "شرح المقنع": ويسن أن ينادى لها: الصلاة الجامعة، وذكر حديث ابن عمر، [و] في "الصحيحين" (¬5)، قال: ولا يسن لها أذان ولا إقامة (¬6). ¬

_ (¬1) قاله ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام" (2/ 135). (¬2) انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 146). (¬3) حكاه ابن مفلح في "الفروع" (1/ 284). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) رواه البخاري (1503)، كتاب: الكسوف، باب: طول السجود في الكسوف، ومسلم (910)، كتاب: الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف: "الصلاة جامعة". (¬6) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 274).

قال في "الفروع": كجنازة وتراويح، ثم قال: ويكره النداء: حي على الصلاة، ذكره ابن عقيل (¬1). (فاجتمعوا) إليه -صلى اللَّه عليه وسلم-، (وتقدم) عليهم، (فكبر) تكبيرة الإحرام، (وصلى) بهم (أربع ركعات في ركعتين)، فأتى بركوعين في كل ركعة، (وأربع سجدات)، فأتى في كل ركعة بسجدتين، كما تأتي صفة صلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- الكسوفَ في الحديث الثالث. فدل هذا الحديث على: مشروعية صلاة الكسوف، وقد ذكرنا أنها آكدُ النوافل صلاةً عند علمائنا، قال في "شرح المقنع": صلاة الكسوف سنة مؤكدة؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فعلها، وأمر بها، وجمع الناس لها، مظهرًا لذلك، وهذه أمارات الاعتناء والتأكيد. قال: ولا نعلم بين أهل العلم خلافًا في مشروعيتها لكسوف الشمس، فأما خسوف القمر، فأكثر أهل العلم على أنها مشروعة له، فعله ابن عباس، وبه قال عطاء، والحسن، والنخعي، والشافعي، وإسحاق. وقال مالك: ليس لكسوف القمر سنة. وحكى عنه ابن عبد البر، وعن أبي حنيفة: أنهما قالا: يصلي الناس لخسوف القمر وحدانًا، ركعتين ركعتين، ولا يصلون جماعة؛ لأن في خروجهم إليها مشقة (¬2). ويرد هذا ما يأتي في الحديث: "إن الشمس والقمر آيتان"، وفيه: "فصلوا وادعوا" (¬3)، فأمر بالصلاة لهما أمرًا واحدًا؛ فالتفرقة بينهما في الحكم بلا دليل تعسف. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 284). (¬2) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 416). (¬3) انظر: حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- الثالث.

وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أنه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر، وقال: إنما صليت؛ لأني رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي (¬1)، ولأنه أحد الكسوفين، فأشبه كسوف الشمس (¬2). * * * ¬

_ (¬1) روه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 78)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 338). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 273).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ البَدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيتَانِ مِنْ آياتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بهِمَا عِبَادَهُ، وَإنَّهُمَا لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَإذَا رَأيتُمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَصَلُّوا وادْعُوا، حَتَّى يَنكشِفَ مَا بِكُمْ" (¬1). * * * (عن أبي مسعود عقبة) -بضم العين المهملة، وسكون القاف- (بن ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (994)، كتاب: الكسوف، باب: الصلاة في كسوف الشمس، و (1008)، باب: لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته، و (3032)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة الشمس والقمر، ومسلم (911/ 21)، كتاب: الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف: "الصلاة جامعة"، واللفظ له، والنسائي (1462)، كتاب: الكسوف، باب: الأمر بالصلاة عند كسوف القمر، وابن ماجه (1261)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الكسوف. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 353)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 549)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 200)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 137)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 722)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 147)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 528)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 67).

عمرو الأنصاريِّ البدريِّ) تقدم أنه لم يشهد بدرًا على الصحيح، وإنما نسب إلى ماء ببدر؛ لأنه نزله، فقيل له: البدري لذلك، وتقدم أنه شهد العقبة الثانية، وكان (-رضي اللَّه عنه-) أصغر من شهدها، وتقدمت ترجمته في الإمامة. (قال) أبو مسعود -رضي اللَّه عنه-: (قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن الشمس والقمر آيتان) تثنية آية، وهي: العلامة، والعبرة، والأمارة، والآية من القرآن: كلام متصل إلى انقطاعه، كما في "القاموس" (¬1). وفي "المطالع": آية القرآن سميت بذلك؛ لأنها علامة على تمام الكلام، وقيل: بل لأنها جماعة من كلمات القرآن، والآية من الناس: الجماعة (¬2). (من آيات اللَّه) -سبحانه وتعالى- (يخوف اللَّه بهما عباده)، ومن هنا قيل: إن الصلاة تشرع لكل آية توجب تخويفًا. قال في "الفروع": ولا تصلى صلاة الكسوف لغيره؛ وفاقًا لمالك، والشافعي، إلّا للزلزلة -في المنصوص-، وعنه: ولكل آية؛ وفاقًا لأبي حنيفة، وذكر شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-: إن هذا قول محققي أصحاب أحمد، وغيرهم، قال: كما دلت على ذلك السنن والآثار، ولولا أن ذلك قد يكون سببًا لشر وعذاب، لم يصح التخويف بذلك. قال: وهذه صلاة رهبة وخوف، كما أن صلاة الاستسقاء صلاة رغبة ورجاء، وقد أمر اللَّه عباده أن يدعوه خوفًا وطمعًا، قال: وفي "النصيحة": ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1628)، (مادة: آي). (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 56).

يصلون لكل آية [ما] أحبوا، ركعتين أم أكثر، كسائر الصلوات (¬1). (وإنهما)؛ أي: الشمس والقمر (لا ينكسفان لموت أحد من الناس). في هذا رد على ما كانت عليه الجاهلية، من اعتقادهم أن الشمس والقمر ينكسمفان لموت العظماء (¬2)، وردع لمن قال لما مات إبراهيمُ بنُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، واتفق أن الشمس انكسفت في ذلك اليوم، فقال الناس: إنما كسفت لموت إبراهيم -عليه السلام-، فقام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكر الحديث، زاد مسلم: "ولا لحياته" (¬3). (فإذا رأيتم) -معشر الأمة- (منها)؛ أي: الآيات التي يخوف اللَّه بها العباد (شيئًا) هذا يعم كل آية تخويف، كما قدمنا، (فصلوا) لذلك صلاة مثل صلاتي التي صليتها، أو صلوا صلاة ما، (وادعوا) اللَّه -سبحانه وتعالى-، وأنيبوا إليه؛ فإن ذهاب نور أحد النيرين (¬4) إنما نشأ عن أثر غضبه سبحانه، فاللائق بكم أن تتضرعوا بأكف الافتقار، وتبتهلوا إلى الحليم الغفار، العزيز الجبار، القدير القهار، ويستمر هذا منكم (حتى ينكشف)؛ أي: ينجلي (ما بكم) من ذهاب نور أحد النيرين، ويعود له نوره الذي أودعه اللَّه فيه مصلحة للعالم، هذا لفظ الإمام مسلم في "صحيحه"، والحديث متفق عليه من حديث أبي مسعود البدري -رضي اللَّه عنه-. وفي لفظ آخر: "إن الشمس والقمر ليس ينكسفان لموت أحد من ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 122 - 123). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 137). (¬3) تقدم تخريجه، لكن من رواية البخاري برقم (1008)، دون مسلم؛ إذ لم يخرج مسلم هذه الزيادة من حديث أبي مسعود -رضي اللَّه عنه-. (¬4) في الأصل: "النيران".

الناس، ولكنهما آيتان من آيات اللَّه، فإذا رأيتموه، فقوموا فصلوا" (¬1)، وفي رواية: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم (¬2). لم يقل البخاري في حديث أبي مسعود: "يخوف اللَّه بهما عباده"، ولا قال: "ولا لحياته" (¬3)، ولا "وادعوا حتى ينكشف ما بكم"، ولا قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، ولا قول الناس فيه، وقال: ذلك في حديث أبي بكرة (¬4)، وغيره. * * * ¬

_ (¬1) هذا لفظ مسلم، برقم (911/ 22). (¬2) وهي رواية مسلم، برقم (911/ 23). (¬3) بل قال البخاري: "ولا لحياته" في روايته المتقدمة برقم (1008)، ولم يقله مسلم، والعصمة للَّه وحده. (¬4) انظر: أطراف حديث أبي بكرة -رضي اللَّه عنه- في "صحيح البخاري": (993، 1001، 1013، 1014، 5448).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالنَّاسِ، فَأَطَالَ القِيَامَ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، ثُمَّ قَامَ فَأَطَالَ القِيَامَ، وَهُوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرّكُوعِ الأوَّلِ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ سَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ فَعَلَ في الرَّكْعَةِ الأخْرَى مِثْلَ مَا فَعَلَ في الرَّكْعَةِ الأُوْلَى، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيتانِ مِنْ آياتِ اللَّهِ، لا يَخْسِفانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، فَإذَا رَأيتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّهَ، وَكبِّرُوا، وَصَلّوا، وَتَصَدَّقُوا"، ثُمَّ قَالَ: "يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! [وَاللَّهِ] ما مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! واللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُم قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كثيرًا" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (997)، كتاب: الكسوف، باب: الصدقة في الكسوف، واللفظ له، و (4923)، كتاب: النكاح، باب: الغيرة، ومسلم (901/ 1)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف، والنسائي (1474)، كتاب: الكسوف، باب: نوع آخر من صلاة الكسوف، من طريق مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، به. ورواه مسلم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد اللَّه بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، به.

وَفِي لَفْظٍ: فَاسْتكْمَلَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (999)، كتاب: الكسوف، باب: خطبة الإمام في الكسوف، ومسلم (901/ 3)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف، واللفظ له، وأبو داود (1180)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: أربع ركعات، والنسائي (1472)، كتاب: الكسوف، باب: نوع آخر من صلاة الكسوف، وابن ماجه (1263)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الكسوف، من طريق يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، به. وحديث عائشة -رضي اللَّه عنها- رواه -أيضًا-: البخاري (1000)، كتاب: الكسوف، باب: هل يقول: كسفت الشمس أو خسفت؟ و (1002)، باب: التعوذ من عذاب القبر في الكسوف، و (1007)، باب: صلاة الكسوف في المسجد، و (1009)، باب: لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته، و (1015)، باب: الركعة الأولى في الكسوف أطول، و (1154)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: إذا انفلتت الدابة في الصلاة، و (3031)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة الشمس والقمر بحسبان. ورواه مسلم (901/ 2، 6، 7)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف، والنسائي (1466)، كتاب: الكسوف، باب: الصفوف في صلاة الكسوف، و (1470، 1471، 1475)، باب: نوع آخر من صلاة الكسوف، و (1476، 1477)، باب: نوع آخر، و (1481)، باب: نوع آخر، و (1499)، باب: القعود على المنبر بعد صلاة الكسوف، و (1500)، باب: كيف الخطبة في الكسوف، والترمذي (561)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الكسوف، و (563)، باب: ما جاء في صفة القراءة في الكسوف، من طرق وألفاظ مختلفة، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 256)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 410)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 35)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 329)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 551)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 200)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 138)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 726)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 148)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 530)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 69).

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (-رضي اللَّه عنها-، قالت: خسفت الشمس في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فصلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) صلاة الكسوف (بالناس) وصفة صلاة الكسوف: أن يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يستفتح، ويستعيذ، ويقرأ الفاتحة، وسورة طويلة نحو البقرة، وهذا معنى قول عائشة -رضي اللَّه عنها-: (فأطال القيام)؛ أي: بالقراءة، وفي رواية عنها عندهما، قالت: خسفت الشمس في حياة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فخرج إلى المسجد، فقام، وكبر، وصف الناس وراءه، فاقترأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قراءة طويلة (¬1)، فقد صرحت في بعض الروايات، بأنه قرأ بسورة البقرة (¬2)، (ثم) كبر، فـ (ركع، فأطال الركوع) لم يرد فيه تحديد. قال في "الفروع": قال جماعة: نحو مئة آية؛ وفاقًا للشافعي، وقيل: معظم القراءة، وقيل: نصفها (¬3). (ثم قام)؛ أي: رفع رأسه من الركوع، فقال: "سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، (فأطال القيام)، فاقترأ قراءة طويلة، هي أدنى من القراءة التي كانت في القيام الأول، وهي معنى قولها: (وهو)؛ أي: القيام الثاني (دون القيام الأول)؛ أي: أقل منه؛ لكون قراءته دون قراءة القيام الأول؛ بأن تكون قراءته في القيام الثاني سورة الفاتحة، وآل عمران، أو قدرها، (ثم) كبر، فـ (ركع، فأطال الركوع) بحيث إن نسبته إلى القراءة: كنسبة الأول منها، (وهو دون الركوع الأول) الذي قدرناه بقراءة مئة آية. قال في "شرح المقنع": إنه يسبح في هذا الركوع نحوًا من سبعين آية (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (999)، وعند مسلم برقم (901/ 3). (¬2) رواه أبو داود (1187)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في صلاة الكسوف. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 120). (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 275).

(ثم قام)؛ أي: رفع منه، فقال: "سمع اللَّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، ولم يطل الاعتدال هنا؛ وفاقًا، وذكره بعضهم إجماعًا، وانفرد أبو الزبير، عن جابر، مرفوعًا (¬1)؛ بإطالته، فكأنه أطاله [بقدر الذكر] (¬2) الوارد فيه، أو فعله لبيان الجواز (¬3). (ثم سجد فأطال السجود). قال في "شرح المقنع": نحوًا من الركوع (¬4)، وقال في "الفروع": ثم يسجد سجدتين، ويطيلهما في الأصح، خلافًا للشافعي (¬5). قال ابن دقيق العيد: قولها: ثم سجد فأطال السجود يقتضي طول السجود في هذه الصلاة، وظاهر مذهب مالك والشافعي: ألَّا يطول السجود فيها. قال: وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، عن [أبي عباس بن سريج] (¬6): أنه يطيل السجود، كما يطيل الركوع. ثم قال: وليس بشيء؛ لأن الشافعي لم يذكر ذلك، ولا نقل ذلك في خبر، ولو كان قد أطال، لنقل، كما نقل في القراءة والركوع. قلنا: بل نقل ذلك في أخبار؛ منها: حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- هذا، وفي حديث آخر: [أنها] قالت: "ما سجد سجودًا أطول منه"، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (904/ 9)، كتاب: الكسوف، باب: ما عرض على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار. (¬2) في المطبوع: "ليأتي بالذكر" بدل "بقدر الذكر". (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 120). (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 275). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 120). (¬6) في الأصل: "ابن عباس"، والتصويب من "شرح العمدة" لابن دقيق.

وكذلك نقل تطويله في حديث أبي موسى، وجابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهم-, انتهى. قلت: أما حديث عائشة الذي أشار إليه؛ فعند البخاري، وفيه: سجد في الأولى سجودًا طويلًا، وفي ثانيه دون السجود الأول (¬1). وأما حديث أبي موسى في "الصحيحين"، وفيه: فقام يصلي بأطول قيام، وركوع، وسجود، ما رأيته يفعله في صلاة قط (¬2). وأما حديث جابر -رضي اللَّه عنه- في "مسلم"، وكذا مثله في "البخاري"، وفيه: وركوعه نحوًا من سجوده (¬3). قلت: وفي حديث أسماء بنت الصديق -رضي اللَّه عنهما- في "الصحيحين"، وفيه: ثم سجد فأطال السجود، ثم رفع، ثم سجد فأطال السجود (¬4). (ثم فعل) -صلى اللَّه عليه وسلم- (في الركعة الأخرى)؛ أي: الثانية (مثل ما فعل في الركعة الأولى) من قراءة الفاتحة، والسورة الطويلة، والركوع الطويل، والقيام ثانيًا طويلًا، والسجود الطويل، وقد حكت أن القيام الثاني دون ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1007). (¬2) رواه البخاري (1010)، كتاب: الكسوف، باب: الذكر في الكسوف، ومسلم (912)، كتاب: الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف: "الصلاة جامعة". (¬3) رواه مسلم (904/ 10)، كتاب: الكسوف، باب: ما عرض على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار. وهو من أفراد مسلم، فلم يخرجه البخاري في "صحيحه" من حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. (¬4) رواه البخاري (712)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، واللفظ له، ومسلم (905 - 906)، كتاب: الكسوف، باب: ما عرض على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.

القيام الأول، وأن الركوع الثاني دون الركوع الأول، ومقتضى المسألة: أن يكون القيام الثاني دون القيام الأول، وأن الركوع الثاني دون الركوع الأول، ولكن هل يراد بالقيام الأول من الركعة الأولى، أو الأول من الثانية، وكذلك في الركوع، وفي السجود؟ قلت: قد صرح علماؤنا بأنه: يقرأ في القيام الأول بعد الاستفتاح والتعوذ وسورة الفاتحة نحو البقرة، ويركع فيسبح بقدر قراءة مئة آية، ويقرأ في الرفع من الركوع الأول في القيام الثاني بعد الفاتحة نحو آل عمران، ويركع فيسبح تسبيحًا نحوًا من قراءة سبعين آية، ويقرأ في قيام الثانية الأول بعد الفاتحة نحو سورة النساء، ويركع فيسبح نحوًا من خمسين آية، ويقرأ بعد الرفع وقراءة الفاتحة نحو سورة المائدة، ثم يركع فيسبح دون الذي قبله، وكذلك السجود. فيكون كل قيام دون الذي قبله، وكل ركوع دون الذي قبله، وكل سجود دون الذي قبله، وهذا ظاهر بين، وهو المعروف في نسق ركعات الصلوات، واللَّه أعلم (¬1). (ثم انصرف) -صلى اللَّه عليه وسلم- من صلاته (وقد تجلت الشمس) من خسوفها، (فخطب) -عليه الصلاة والسلام- (الناس) الحاضرين معه في مسجده، (فحمد اللَّه) -سبحانه وتعالى- بصيغة الحمد، (وأثنى عليه)، فكرر الحمد، وتعداد أوصاف المحامد، وهذا يقتضي: أنه يشرع لصلاة الكسوف خطبة. قال في "شرح المقنع": قال أصحابنا: لا خطبة لصلاة الكسوف، ولم ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 275 - 276).

يبلغنا عن الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- في ذلك شيء، وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة. وقال إسحاق، وابن المنذر: يخطب الإمام بعد الصلاة. وقال الشافعي: يخطب كخطبتي [العيد] (¬1)، وذكر حديث عائشة هذا. قال: ولنا: أن في هذا الخبر ما دل على أن الخطبة لا تشرع، لأنه -عليه السلام- أمرهم بالصلاة، والدعاء، والتكبير، والصدقة، ولم يأمرهم بخطبة، ولو كانت سنة، لأمرهم بها، وإنما خطب بعد الصلاة؛ ليعلمهم حكمها، وهذا مختص به، وليس في الخبر ما يدل على أنه خطب كخطبتي الجمعة، أو العيد، انتهى (¬2). قلت: في دعوى الخصوصية نظر لا يخفى، وقوله: وإنما خطب ليعلمهم حكمها، فيه نظر؛ لأنه قد أتى بما هو المطلوب من الخطبة؛ من الحمد، والثناء، والموعظة، ولا يبعد أن يكون ذكر الجنة والنار داخلًا في مقاصدها؛ إذ مقاصد الخطبة لا تنحصر فى شىء معين بعد الإتيان بأركانها (¬3). قال في "الفروع": ولا تشرع خطبة؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، وعنه -أي: الإمام أحمد-: بلى، بعدها خطبتان، تجلَّى الكسوف أو لا، اختاره ابن حامد؛ وفاقًا للشافعي. وأطلق غير واحد في استحباب الخطبة روايتين. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "الجمعة". (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 278 - 279). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 141).

ولم يذكر القاضي وغيره نصًا: أنه لا يخطب، إنما أخذوه من نصه: لا خطبة في الاستسقاء. وقال -أيضًا-: لم يذكر لها أحمد خطبة، وفي "النصيحة": أحب أن يخطُبَ بعدها (¬1). (ثم قال) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: أنه خطب، فقال (¬2): (إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه) -عز وجل- الباهرة، وأثر من آثار قدرة اللَّه الظاهرة (لا يخسفان لموت أحد) من الناس (ولا لحياته)، وفي حديث جابر -رضي اللَّه عنه-: "وأنهم كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلّا لموت عظيم، وإنهما آيتان من آيات اللَّه يريكموها" (¬3). (فإذا رأيتم ذلك)، أي: الخسوف في أحدهما، (فادعوا اللَّه) سبحانه، (وكبروا)؛ أي: قولوا: اللَّه أكبر، (وصلوا) صلاة الكسوف، (وتصدقوا)؛ لأنها تطفىء غضب الجبار، وتكون سببًا قويًا في محو الإثم والأوزار. قال في "شرح المقنع": يستحب ذكر اللَّه تعالى، والدعاء، والتكبير، والاستغفار، والصدقة، والعتق، والتقرب إلى اللَّه تعالى بما استطاع؛ للخبر المذكور، وفي خبر أبي موسى: "فافزعوا إلى ذكر اللَّه تعالى ودعائه، واستغفاره" (¬4)، وروي عن أسماء: أنها قالت: كنا نؤمر بالعتق في الكسوف (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 119). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1000). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (904/ 9). (¬4) تقدم تخريجه، وسيأتي أيضًا في حديث الباب الآتي. (¬5) رواه البخاري (1006)، كتاب: الكسوف، باب: من أحب العتاقة في كسوف =

قال في "الفروع": يستحب العتق في كسوفها -أي: الشمس-، نص عليه، لأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- في "الصحيحين" -يعني: في حق القادر- كما في "المستوعب" (¬1)، وغيره (¬2). (ثم قال) -صلى اللَّه عليه وسلم- (يا أمة محمد!)؛ أي: أمة إجابة دعوته؛ لأنهم المخاطبون بذلك، الممتثلون لأوامره، والمنتهون عن زواجره. وأصل الإمة -بالكسر-: الحالة، والشرعة، والدين، و-يضم-، والنعمة، والهيئة، والشان، وغَضارة العيش، والسنة، و-يضم-، والطريقة، والرجل الجامع للخير، والجماعة أرسل إليهم رسول، والجيل من كل حي، ومن هو على الحق مخالف لسائر الأديان، وغير ذلك (¬3). وفي الشرع: أمة النبي: أتباعه على دينه (¬4). ([واللَّه] ما من أحد أغيرُ من اللَّه) تعالى (أن يزني عبدُه، أو تزني أمته) إطلاق الغيرة على اللَّه -سبحانه وتعالى- جاء في عدة أحاديث، وأهل الإثبات من المحدثين، ومذهب السلف من أئمة الدين يؤمنون بكل ما جاء في الكتاب والسنة، مع اعتقادهم أن ليس كمثل اللَّه شيء، فهم يثبتون الآثار بلا تمثيل، وينزهون الباري -جل وعز- عن سمت الحوادث بلا تعطيل؛ فعندهم المشبِّهُ يعبد صنمًا، والمعطِّلُ يعبد عدمًا (¬5)، والمؤمن يعبد رب ¬

_ = الشمس. بلفظ قالت فيه -رضي اللَّه عنها-: لقد أمر النبي بالعتاقة في كسوف الشمس. وانظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 279). (¬1) انظر: "المستوعب" للسَّامُرِّي (3/ 78). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 123). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1391)، (مادة: أمم). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 319). (¬5) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (5/ 261).

الأرض والسماء، فيقولون: نؤمن كما أخبر، وكما جاء في الأثر، لا كما يخطر للبشر. وأما علماء الخلف من المؤولين، فيقولون: يراد من الغيرة: غايتها، وهو شدة المنع والحماية من الشيء؛ لأن الغائر على الشيء مانع له، وحامٍ منه؛ فالمنع والحماية من لوازم الغيرة (¬1). وأصل الغيرة: الحمية والأنفة، كما في "النهاية" (¬2)، انتهى. وهذا في جانب المخلوق، وأما في الخالق، فليس هي كذلك؛ كما أن قدرة المخلوق وإرادته ليست كقدرة الخالق وإرادته. والحاصل: أن علماء السلف يسلمون، وعلماء الخلف يؤولون، ولا ريب أن السلامة في التسليم، واللَّه أعلم. (يا أمة محمد! واللَّه!) فيه: مشروعية الحلف، ولا سيما على الأمر المهول، وإن لم يستحلف (لو تعلمون) أنتم (ما أعلم) أنا من أهوال الآخرة، والجنة، والنار، وما أعد اللَّه لأهل الجنان من النعيم، ولأهل النيران من العذاب الأليم، وتعلمون من عظمة اللَّه وجلاله، وشدة بطشه وانتقامه من أعدائه وأهل معصيته، وعظيم كرمه ورحمته وإحسانه لأوليائه وأهل طاعته، (لضحكتم قليلًا) من فظاعة أمر العذاب والانتقام، وجزالة الثواب والإنعام (ولبكيتم كثيرًا). في هذا دليل على غلبة الخوف، وترجيح التخولف في الموعظة على الإشاعة بالرخص؛ لما في ذلك من التسبب إلى تسامح النفوس؛ لما جبلت ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 141). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 401).

عليه من الإخلاد إلى الشهوات، وذلك مرضها الخطر، والطبيب الحاذق يقابل العلة بضدها، لا بما يزيدها (¬1). (وفي لفظ) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- عندهما: (فاستكمل) تعني: النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (أربع ركعات) أطلقت الركعات على عدد الركوع، وقد تقدم حديثها: فصلى أربع ركعات في ركعتين؛ أي: أربع ركوعات، (وأربع سجدات)؛ أي: في ركعتين، وهذا هو معنى الصفة التي قدمنا. قال في "شرح المقنع": الأولى عند أبي عبد اللَّه -يعني: الإمام أحمد- الصلاةُ على الصفة التي ذكرنا، واحتج: بأنه روي عن ابن عباس، وعائشة -رضي اللَّه عنهم- في صلاة الكسوف: أربع ركعات، وأربع سجدات (¬2). قال: وأما علي -رضي اللَّه عنه-، فيقول: ست؛ أي: ست ركوعات، وأربع سجدات، فذهب إلى قول ابن عباس، وعائشة. وقد روي عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أنه صلى ست ركعات وأربع سجدات (¬3)، وعن عائشة: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى ست ركعات، وأربع سجدات. رواه مسلم (¬4). وروي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه صلى أربع ركعات، وسجدتين في كل ركعة. رواه مسلم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 141 - 142). (¬2) رواه مسلم (902)، كتاب: الكسوف، باب: صلاة الكسوف. (¬3) لم أقف عليه من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، بهذا السياق، واللَّه أعلم. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (901/ 7). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (901/ 5)، وانظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 282).

تنبيهات: الأول: قد قدمنا أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة عند ذهاب ضوء أحد النيرين، أو بعضه، حضرًا وسفرًا، حتى للنساء والصبيان حضورها، ويندب الغسل لها، ونفلها جماعة في المسجد الذي تقام فيه الجمعة أفضل (¬1)؛ لما في حديث أسماء: ثم جئت فدخلت المسجد، فرأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قائمًا، فقمت معه. الحديث متفق عليه (¬2). وفي حديث عائشة: فخرجت في نسوة بين ظهري الحجر في المسجد، فأتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى انتهى إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه، فقام، وقام الناس وراءه الحديث متفق عليه -أيضًا- (¬3). وتقدم في حديث عائشة في "الصحيحين": فخرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المسجد ... ، الحديث (¬4). الثاني: يجوز فعل صلاة الكسوف على كل صفة وردت، إن شاء أتى في كل ركعة بركوعين، وهو الأفضل، وإن شاء بثلاث، أو أربع، أو خمس (¬5). ولا يزيد على خمس ركوعات في الركعة الواحدة؛ لأنه لم يرد به نص، والقياس لا يقتضيه، وأما الخمس، فقد روى أبو داود في "سننه" من حديث أبي بن كعب -رضي اللَّه عنه-، قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى بهم؛ فقرأ سورة من الطول، وركع ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 313). (¬2) تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم. (¬3) تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 314).

خمس ركعات، وسجد سجدتين، ثم قام الثانية فقرأ سورة من الطول، وركع خمس ركعات، وسجد سجدتين، وجلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها (¬1). وإن شاء فعلها كنافلة بركوع واحد (¬2). وأما السجود: فلا يزيد على سجدتين في كل ركعة؛ لأنه لم يرد. وإذا تعدد منه الركوع، ففي كل رفع منه يقرأ الفاتحة وسورة، إلّا الرفع الذي يهوي منه إلى السجود، فلا يطيله، ولا يقرأ فيه فاتحة الكتاب، ولا غيرها، بل الذكر المشروع من التسميع والتحميد، وما بعد الركوع الأول سنة لا تدرك به الركعة على معتمد المذهب؛ خلافًا لمالك (¬3). الثالث: يسن الجهر بقراءة فيها، ولو في كسوف الشمس، خلافًا للثلاثة (¬4)، وفي حديث عائشة في "الصحيحين": أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جهر في صلاة الخسوف بقراءته (¬5). قال في "تنقيح التحقيق": يسن الجهر فيها بالقراءة، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، خلافًا لأكثرهم، ثم ذكر حديث عائشة عند أبي داود، والحاكم، وقال: على شرطهما: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ قراءة طويلة يجهر بها -يعني: في صلاة الكسوف (¬6) -. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1182)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: أربع ركعات. (¬2) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 64). (¬3) المرجع السابق، (2/ 64 - 65). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 120). (¬5) تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم. (¬6) رواه أبو داود (1188)، كتاب: الصلاة، باب: القراءة في صلاة الكسوف، =

الرابع: قال أبو حنيفة: صفة صلاة الكسوف كصلاة النافلة، من غير تعدد ركوع في كل ركعة، ولا سجود، والأحاديث الصحيحة صريحة بخلاف قوله، واعتذر عن الأحاديث الثابتة المثبتة للتعدد: بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس، هل انجلت أم لا؟ فلما لم يرها انجلت، ركع، وفي هذا التأويل ضعف؛ لأن كل من وصف صلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- وصف رفعه بالطول والقراءة، وهذا يخالف التأويل المذكور (¬1). الخامس: لا تصلى في وقت نهي على معتمد المذهب، بل يدعو اللَّه ويذكره (¬2). وقال شيخ الإسلام: بل تصلى؛ لأن عنده وقت النهي لا يمنع ذات السبب (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ = والحاكم في "المستدرك" (1240)، وانظرت "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 109). (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 135). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 119)، و"الإنصاف" للمرداوي (3/ 433). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (22/ 297).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَبي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ في زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَامَ فَزِعًا يَخْشَى أن تكُونَ السَّاعَةُ حَتَّى أَتَى المَسْجِدَ، فَقَامَ، فَصَلَّى بأَطْوَلِ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ ما رَأيتُهُ يَفْعَلُهَ في صَلاةٍ قَطُّ، ثُمَّ قَالَ: "إِن هَذِهِ الآياتِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ لا تكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا، فَافْزَعُوا إلَى ذِكْرِ اللَّه وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَاره" (¬1). * * * (عن أبي موسى) عبد اللَّه بن قيس الأشعري (-رضي اللَّه عنه-) تقدمت ترجمته في باب السواك. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1010)، كتاب: الكسوف، باب: الذكر في الكسوف، ومسلم (912)، كتاب: الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف: "الصلاة جامعة"، واللفظ له، والنسائي (1503)، كتاب: الكسوف، باب: الأمر بالاستغفار في الكسوف. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح مسلم" للنووي (6/ 200)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 142)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 734)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 149)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 545)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 88).

(قال: خسفت الشمس) استعمل الخسوف في الشمس -كما تقدم- (في زمان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-)، أي: في وقت حياته، (فقام فزعًا) الفزع: الخوف (يخشى) -صلى اللَّه عليه وسلم-، أي: يخاف (أن تكون الساعة) العظمى؛ أي: القيامة، وذلك أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان لم يزل يديم المراقبة، ويخشى أن تبغته الساعة؛ لأنها تأتي بغتة؛ فإذا حصل تغير في بعض العلويات، تخوف أن يكون أمام انتقاض انتظام هذا العالم، أو من مقدمات نزول عذاب وانتقام، كل ذلك من دوام المراقبة لفعل اللَّه، وتجريد الأسباب العادية عن تأثيرها في مسبباتها؛ فينبغي الاقتداء بسنته، والنهج على طريقته من الخوف عند وقوع التغيرات العلوية. فإن قلت: قد ذكر أصحاب الحساب من المنجمين لكسوف الشمس والقمر أسبابًا عادية، حتى إنهم يخبرون: بأنه يحصل الكسوف للشمس أو القمر في الزمن الفلاني، فيقع على وفق ما أخبروا؟! وقد قال ابن هبيرة: ما يدعيه المنجمون من أنهم يعرفون ذلك -أي: الكسوف- قبل كونه، من طريق الحساب، فلا يختص بهم دون غيرهم ممن يعرف الحساب، بل هو مما إذا حسبه الحاسب عرفه، وليس مما يدل على أنهم يختصون فيه، مما يجعلونه حجة في دعواهم على الغيب مما تفرد اللَّه سبحانه بعلمه؛ فإنه لا دلالة لهم على ذلك، ولا فيما تعلقوا به من هذا الاحتجاج على ما أرهجوا به، انتهى (¬1). وإذا كان ذلك بأسباب عادية، من حيلولة كورة الأرض بين الشمس والقمر، أو بين الشمس وما يكسفها، فقد يعتقد معتقد أن ذلك ينافي قوله: يخشى أن تكون الساعة، وكذا ينافي قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يخوف بهما"؛ أي: بكسوف الشمس والقمر - "عباده". ¬

_ (¬1) نقله ابن مفلح في "الفروع" (2/ 124).

قلت: هذا اعتقاد فاسد، ووهم باطل، لأن للَّه تعالى أفعالًا على حسب الأسباب العادية، وأفعالًا خارجة عن تلك الأسباب؛ فإن قدرته تعالى حاكمة على كل سبب ومسبب، فيقتطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، ويخلفها عنها. وإذا كان كذلك، فأصحاب المراقبة للَّه تعالى ولأفعاله الذين عقدوا بصائر قلوبهم بوحدانيته، وعموم قدرته، على خرق العادة، واقتطاع المسببات عن أسبابها بعضها عن بعض، إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف؛ لقوة اعتقادهم في فعل اللَّه تعالى ما شاء، وذلك لا يمنع أن يكون ثم أسباب تجري عليها العادة، إلى أن يشاء اللَّه تعالى خرقها؛ ولهذا كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند اشتداد هبوب الريح يتغير، ويدخل ويخرج، خشية أن تكون كريح عاد، وإن كان هبوب الريح موجودًا في العادة (¬1). والمقصود: أن ما ذكره أهل الحساب؛ من أن سبب الكسوف حيلولة كورة الأرض، لا ينافي كون ذلك مخوفًا لعباد اللَّه تعالى. وفي "مختصر الفتاوى المصرية": وحديث الكسوف حيث أخبر: "أن اللَّه يخوف بهما عباده، وأنهما لا يخسفان لموت أحد، ولا لحياته"، وإن كان موت بعض الناس قد يقتضي حدوث أمر في السموات؛ كما في الصحاح: "أن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ" (¬2). قال: وأما كون الكسوف، أو غيره قد يكون سببًا لحادث في الأرض؛ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 137). (¬2) رواه البخاري (3592)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه-، ومسلم (2466)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه-، من حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-.

من عذاب يقتضي موتًا أو غيره؛ فهذا قد أثبته الحديث. قال: ولا ينافي ذلك كون الكسوف له وقت محدود، أن يكون عند أجله يجعله اللَّه سببًا لما يقتضيه من عذاب أو غيره؛ كما أن تعذيبه لمن عذبه بالريح الشديدة، كان في الوقت المناسب، وهو آخر الشتاء، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا رأى مخيلة؛ وهو السحاب الذي يخال فيه المطر، أقبل وأدبر، وتغير وجهه، فقالت له عائشة: إن الناس إذا رأوه استبشروا، فقال: "وما يؤمنِّي؟! قد رأى قوم عاد العذاب، فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (¬1)، قال اللَّه تعالى-: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24]. قال: وكذلك الأوقات التي تنزل فيها الرحمة، كالعشر الآخِر من رمضان، والأول من ذي الحجة، وجوف الليل، وغير ذلك، هي أوقات محدودة، وينزل فيها من الرحمة ما لا ينزل في غيرها، انتهى (¬2). (حتى أتى المسجد) النبوي. فيه: دليل لما قدمناه؛ بأن المندوب كون صلاة الكسوف في المسجد الذي يصلى فيه الجمعة، لا في الصحراء كصلاة العيد، (فقام) في مقامه الذي كان يصلي فيه من مسجده، (فصلى) فيه (بأطول قيام)؛ لطول القراءة فيه، (و) أطول (ركوع)؛ لطول التسبيح فيه، (و) أطول (سجود)؛ لطول التسبيح أيضًا فيه، وفيه: دليل على تطويل السجود في هذه الصلاة -كما قدمنا-، ولذا قال أبو موسى -رضي اللَّه عنه-: (ما رأيته) -صلى اللَّه عليه وسلم- (يفعله في صلاة) من الصلوات المكتوبة، ولا غيرها من النوافل (قط)؛ لما مر من ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3034)، كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48]. (¬2) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 391 - 392).

تطويل القيام بالقراءة، والركوع، والسجود، بالذكر والتسبيح. (ثم قال) -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد فراغه من صلاة الكسوف: (إن هذه الآيات التي يرسلها اللَّه) تعالى (لا تكون لـ) أجل (موت أحد) من الخلق، (ولا لحياته) كما مر، فآيات اللَّه لا يحصيها إلّا هو؛ فالمطر، والنبات، والحيوان، والليل والنهار، والبر والبحر، والجبال والشجر، وسائر المخلوقات، آياته تعالى الدالة عليه، وهي في كتابه مذكورة، فأخبر -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أن الشمس والقمر آيتان" كما تقدم، لا رَبَّان، ولا إلهان، ولا ينفعان، ولا يضران، ولا لهما تصرف في أنفسهما وذواتهما ألبتة، فضلًا عن إعطائهما كل ما في العالم؛ من خير أو شر، وصلاح وفساد (¬1)، كما يزعمه المفترون الملحدون، الذين هم لإلهية الباري -جل شأنه- جاحدون، ولباهر قدرته وظاهر جبروته منكرون. (ولكن اللَّه -عز وجل- يرسلها)؛ أي: الآيات المهولة على خلاف العادة الجادة المستمرة (يخوف بها عباده)؛ لما يظهره فيهما من انمحاق نورهما، وتغير حالهما المعهود؛ إشارة إلى غضبه تعالى بارتكاب العباد المعاصي والذنوب. (فإذا رأيتم منها)؛ أي: الآيات التي يشعر وجودها على خلاف العادة، بغضب الجبار -جل شأنه-؛ لأجل تخويف العباد (شيئًا) من الكسوف الشمسي، أو الخسوف القمري، أو غيرهما، (فافزعوا) مبادرين إلى ما أمر به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ من الالتجاء إلى اللَّه تعالى عند المخاوف، لتأمنوا من ذلك، وإنما يحصل ذلك بالالتجاء والمبادرة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (2/ 206). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 143).

(إلى ذكر اللَّه) -سبحانه وتعالى-، فإنه منجاة من العذاب، وفي حديث ابن عمر [و] عند ابن أبي الدنيا والبيهقي، مرفوعًا: "ما من شيء أنجى من عذاب اللَّه من ذكر اللَّه" (¬1). وفي حديث جابر عند الطبراني، مرفوعًا، برجال الصحيح: "ما عمل آدمي عملًا أنجى له من العذاب من ذكر اللَّه" (¬2). قال الإمام ابن القيم في كتابه "الكلم الطيب": بذكر اللَّه يسهل الصعب، وييسر العسير، ويخفف المشاق؛ فما ذكر اللَّه -عز وجل- على صعب إلّا هان، ولا عسير إلّا تيسر، ولا مشقة إلّا خفت، ولا شدة إلّا زالت، ولا كربة إلّا انفرجت؛ فذكر اللَّه هو الفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، والفرج بعد الهم والغم، وهو يذهب عن القلب مخاوفه كلها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن؛ فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفعُ من ذكر اللَّه، فإنه بحسب ذكره يجد الأمن، ويزول خوفه، حتى كأن المخاوف التي يحذرها أمان له، والغافل خائف مع أمنه، حتى كأن ما هو فيه من الأمن كله مخاوف، انتهى (¬3). (و) افزعوا إلى (دعائه) تعالى (واستغفاره) فالاستغفار والتوبة: سببان للمحو يرجى بهما زوال المخاوف (¬4)، وفي حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من لزم الاستغفار، جعل اللَّه له من ¬

_ (¬1) ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" (522). وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 254). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2296)، وفي "المعجم الصغير" (209). (¬3) انظر: "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 105). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 143).

كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب" رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد (¬1). وفي حديث أبي هريرة، عند الترمذي، والحاكم، مرفوعًا: "من سره أن يستجيب اللَّه له عند الشدائد، فليكثر من الدعاء في الرخاء" (¬2). وفي حديث سلمان الفارسي -رضي اللَّه عنه- عند الترمذي، وحسنه: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يرد القضاءَ إلّا الدعاء" (¬3). وفي حديث عائشة، عند البزار، والطبراني، والحاكم وصححه: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يغني حذر من القدر، والدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل" (¬4)، واللَّه أعلم. تنبيه: قال في "الفروع": قيل: لا يتصور كسوف الشمس إلّا في ثامن وعشرين، أو تاسع وعشرين، ولا خسوف القمر إلّا في إبداره. قال: واختاره شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية روح اللَّه روحه-. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1518)، كتاب: الصلاة، باب: في الاستغفار، والنسائي في "السنن الكبرى" (10290)، وابن ماجه (3819)، كتاب: الأدب، باب: الاستغفار، والحاكم في "المستدرك " (7677). (¬2) رواه الترمذي (3382)، كتاب: الدعوات، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، وقال: حديث غريب، والحاكم في "المستدرك" (1997). (¬3) رواه الترمذي (2139)، كتاب: القدر، باب: ما جاء: لا يرد القدر إلا الدعاء، والبزار في "مسنده" (2540)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6128)، وغيرهم. (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2498)، والحاكم في "المستدرك" (1813)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (859)، وغيرهم. وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 316).

قال: ورُدَّ بوقوعه في غيره، فذكر أبو شامة الشافعي في "تاريخه": أن القمر خسف ليلة السادس عشر من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وست مئة، وكسفت الشمس في غده، واللَّه على كل شيء قدير، قال: واتضح بذلك ما صوره الشافعي من اجتماع الكسوف والعيد، واستبعده أهل النِّجامة، انتهى كلام أبي شامة (¬1). قال في "الفروع": وكسفت الشمس يوم موت إبراهيم بن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عاشر شهر ربيع الأول، قاله غير واحد، وذكره بعض أصحابنا، اتفاقًا. قال في "الفصول": لا يختلف النقل في ذلك، نقله الواقدي، والزبيري، وأن الفقهاء فرعوا، وبنوا على ذلك: إذا اتفق عيد وكسوف. وقال غيره: لا سيما إذا اقتربت الساعة، فتطلع من مغربها، انتهى (¬2). وفي "مختصر فتاوى شيخ الإسلام المصرية": الكسوف والخسوف لهما أوقات مقدرة؛ كما لطلوع الهلال وقت مقدر، وذلك مما أجرى اللَّه سبحانه عادته بالليل والنهار، والشتاء والصيف، وسائر ما يتبع جريان الشمس والقمر، وذلك من آيات اللَّه؛ فكما أن العادة أن الهلال لا يستهل إلّا ليلة الثلاثين، وأن الشهر لا يكون إلّا ثلاثين، أو تسعة وعشرين، فكذلك أجرى اللَّه العادة أن الشمس لا تكسف إلّا وقت الاستسرار، وأن القمر لا يخسف إلّا وقت الإبدار، ومن قال من الفقهاء: إن الشمس تكسف في غير وقت الاستسرار، فقد غلط، وقال ما ليس له به علم. قال: وما روي عن الواقدي من ذكره: أن إبراهيم بن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مات يوم ¬

_ (¬1) انظر: "الذيل على الروضتين" (ص: 189). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 123).

العاشر، وهو اليوم الذي كسفت فيه الشمس، غلط، والواقدي لا يحتج بمسانيده، فكيف بمراسيله؟! وهذا فيما لم يكن به خطأ، وأما هذا، فهو خطأ قطعًا. قال: وأما ما ذكره الفقهاء من اجتماع صلاة العيد والكسوف، فذكروه في ضمن كلامهم فيما إذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها من الصلوات؛ فذكروا صلاة الوتر، والظهر، وذكروا العيد، مع عدم استحضارهم هل ذلك ممكن أم لا؟ وبكل حال المخبر بذلك قد يكون غالطًا، أو ناسيًا، واللَّه أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 382 - 383).

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء هو استفعال من السُّقيا، قال القاضي عياض: الاستسقاء: الدعاء بطلب السقيا (¬1)؛ فكأنه يقول: باب الصلاة لأجل طلب السقيا، انتهى (¬2). وهي عند الحاجة إليها سنة مؤكدة؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فعلها، وكذلك خلفاؤه؛ وهذا قول سعيد بن المسيب، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وداود، وهو مذهب جمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة: لا تسن صلاة الاستسقاء، ولا الخروج لها؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استسقى على المنبر يوم الجمعة، ولم يخرج، ولم يصل لها. وليس هذا بشيء (¬3)؛ لما سنذكره من الأحاديث الصحيحة الصريحة. وذكر الحافظ في هذا الباب حديثين. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 228). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 110). (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 283 - 284).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ المازِنِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَسْقِي، فَتَوَجَّهَ إِلَى القِبْلَةِ يَدْعُو، وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بالقِرَاءَةِ (¬1). وفي لَفْظٍ: إلى المُصَلَّى (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (978)، كتاب: الاستسقاء، باب: الجهر بالقراءة في الاستسقاء، واللفظ له، ومسلم (894/ 4)، في أول كتاب: صلاة الاستسقاء، ولم يقل فيه: جهر فيهما بالقراءة، وأبو داود (1161)، كتاب: الصلاة، باب: جماع أبواب صلاة الاستسقاء، والنسائي (1509)، كتاب: الاستسقاء، باب: تحويل الإمام ظهره إلى الناس عند الدعاء في الاستسقاء، و (1522)، باب: الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء، والترمذي (556)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء. (¬2) رواه البخاري (966)، كتاب: الاستسقاء، باب: تحويل الرداء في الاستسقاء، و (982)، باب: استقبال القبلة في الاستسقاء، و (5983)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء مستقبل القبلة، ومسلم (894/ 1 - 3)، في أول كتاب: صلاة الاستسقاء، وأبو داود (1166، 1167)، كتاب: الصلاة، باب: في أي وقت يحول رداءه إذا استسقى، والنسائي (1505)، كتاب: الاسستقاء، باب: خروج الإمام إلى المصلى للاستسقاء، وابن ماجه (1267)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء. ورواه -أيضًا-: البخاري (960)، كتاب: =

(عن) أبي محمد (عبد اللَّه بن زيد بن عاصم المازني -رضي اللَّه عنه-) وهو خال عباد بن تميم، ويعرف بابن أم عمارة، وهي نسيبة، ويقال: إنه الذي قتل مسيلمة الكذاب، تقدمت ترجمته في الوضوء. (قال: خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يستسقي)؛ أي: يطلب السقيا، ففيه: أن السنة في صلاة الاستسقاء البروز إلى المصلى (¬1). (فتوجه إلى القبلة يدعو). فيه: استحباب استقبال القبلة عند الدعاء، وفي لفظ من حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه-: فحول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو (¬2)، (وحول) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (رداءه)، فيستحب: أن ¬

_ = الاستسقاء، باب: الاستسقاء، وخروج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الاستسقاء، و (977)، باب: الدعاء في الاستسقاء قائمًا، وأبو داود (1162 - 1164)، كتاب: الصلاة، باب: جماع أبواب صلاة الاستسقاء، والنسائي (1507)، كتاب: الاستسقاء، باب: الحال التي يستحب للإمام أن يكون عليها إذا خرج، و (1510)، باب: تقليب الإمام الرداءَ عند الاستسقاء، و (1511)، باب: متى يحول الإمام رداءَه، و (1512)، باب: رفع الإمام يده، و (1519)، باب: الصلاة بعد الدعاء، و (1520)، باب: كم صلاة الاستسقاء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 253)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 425)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 30)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 312)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 538)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 188)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 145)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 737)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 283)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 498)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 24)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 80)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 29). (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 145). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (979).

يحول رداءه حال استقبال القبلة، وفي لفظ لمسلم: فحول رداءه حين استقبل القبلة (¬1)، فيستحب التحويل للإمام والمأموم، في قول أكثر أهل العلم. وحكي عن سعيد بن المسيب، وعروة، والثوري: أن التحويل مختص بالإمام، وهو قول الليث، وأبي يوسف، ومحمد؛ لأنه إنما نقل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دون أصحابه. وقال أبو حنيفة: لا يسن التحويل لهما؛ لأنه دعاء، فلا يستحب تحويل الرداء فيه كسائر الأدعية. والحديث الصحيح الصريح قد جاء بالتحويل، فلا يعدل عنه (¬2). قال في "مختصر الفتاوى المصرية": تحويل الرداء ليتحول القحط عن الناس. قال في "شرح المقنع": قد فعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما فعله ثبت في حق أصحابه، ما لم يقم دليل على اختصاصه به، كيف وقد عقل المعنى في ذلك؟! وهو التفاؤل بقلب الرداء؛ ليقلب اللَّه ما بهم من الجدب إلى الخصب، وقد جاء ذلك في بعض الأحاديث. وفي لفظ في حديث عبد اللَّه بن زيد، عند الإمام أحمد: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- تحول إلى القبلة، وحول رداءه، فقلبه ظهرًا لبطن، وتحول الناس معه (¬3)، فصفة القلب: أن يجعل ما على اليمين على اليسار، وما على اليسار على اليمين، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (894/ 1). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 293 - 294). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 41)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (9/ 361).

روي ذلك عن أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز، وهشام بن إسماعيل، وأبي بكر بن محمد بن حزم. وقال الشافعي: يجعل أعلاه أسفله، قال: لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استسقى وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يجعل أسفلها أعلاها، فلما ثقلت عليه، جعل العطاف الذي على الأيسر على عاتقه الأيمن، والذي على الأيمن على عاتقه الأيسر. رواه أبو داود (¬1). ولنا: ما في حديث عبد اللَّه بن زيد: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حول عطافه، فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن. رواه أبو داود (¬2). وفي حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن. رواه الإمام أحمد، وابن ماجه (¬3). والزيادة التي نقلوها -إن ثبتت- فهي ظن من الراوي، لا يترك لها فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد نقل التحويل جماعة لم ينقل أحد منهم أنه جعل أعلاه أسفله، ويبعد أن يكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ترك ذلك في جميع الأوقات لثقل الرداء (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (1164). (¬2) تقدم تخريجه برقم (1163). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 326)، وابن ماجه (1268)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء. (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 293 - 294).

قال في "الفروع": نقل أبو داود: بقلب الإزار تنقلب السَّنة (¬1). (ثم صلى) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالناس (ركعتين). لا خلاف بين القائلين بصلاة الاستسقاء؛ أنها ركعتان، يكبر فيها سبعًا في الأولى، وخمسًا في الثانية، كالعيد، وفاقًا للشافعي؛ وهو قول سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وداود، وحكي عن ابن عباس؛ فإنه قال في حديثه: ثم صلى ركعتين، كما يصلي في العيد. رواه أبو داود (¬2). وروى الدارقطني من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى ركعتين، كبر في الأولى سبع تكبيرات، وقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وقرأ في الثانية: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، وكبر فيها خمس تكبيرات (¬3). وقيل: يصلي ركعتين بلا تكبير زائد، وهو ظاهر الخرقي وفاقًا لمالك (¬4). (جهر) -صلى اللَّه عليه وسلم- (فيهما)؛ أي: في الركعتين (بالقراءة) فيشرع الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء، عند الثلاثة القائلين بمشروعيتها. ¬

_ (¬1) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود" (ص: 106). وانظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 128). (¬2) رواه أبو داود (1165)، كتاب: الصلاة، باب: جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، والنسائي (1521)، كتاب: الاستسقاء، باب: كيف صلاة الاستسقاء، والترمذي (558)، كتاب: العيدين، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء. (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 66)، والحاكم في "المستدرك" (1217). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 127).

(وفي لفظ) للبخاري ومسلم، من حديث عبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنه-: خرج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (إلى المصلى) فاستسقى. ولفظ البخاري: فصلى. فيشرع في صلاة الاستسقاء: البروز إلى المصلى، باتفاق القائلين بمشروعيتها، متواضعًا بيديه، متذللًا في ثيابه، متخشعًا بقلبه وعينيه، متضرعًا بلسانه، ومعه الشيوخ وأهل الدين، ويستحب خروج المميز؛ وفاقًا لمالك، والشافعي، واللَّه أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 126).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ المَسْجِدَ يَومَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ، وَرَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسولَ اللَّهِ! هَلَكَتِ الأمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادع اللَّهَ يُغِثْنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَيْهِ، تمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا"، قَالَ أَنسٌ: فَلا واللهِ! مَا نَرَى في السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلا قَزَعَةٍ، وَما بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ دَارٍ وَلا بَيتٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِه سَحَابةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ، انْتشًرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: فلا وَاللَّهِ! ما رأَينَا الشَّمْسَ سَبْتًا. ثُمَّ دَخَلَ رَجُل مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكَتِ الأمْوَالُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكامِ والظِّرَابِ وَبُطُونِ الأوْدِيَةِ وَمَنَابتِ الشَّجَرِ"، قَالَ: فَأَقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي في الشَّمْسِ، قَالَ شريكٌ: فَسَأَلْتُ أَنسَ بْنَ مالكٍ: أَهُوَ الرَّجُلُ الأول؟ قَالَ: لا أَدْرِي (¬1). الظِّراب: الجبال الصغار. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (967)، كتاب: الاستسقاء، باب: الاستسقاء في المسجد الجامع، و (890)، كتاب: الجمعة، باب: رفع اليدين في الخطبة، =

(عن) أبي حمزة (أنس بن مالك) الأنصاري (رضي اللَّه عنه) خادم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (أن رجلًا) من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (دخل المسجد) النبوي (يوم الجمعة) من (باب) [من] أبوابه، (كان) ذلك الباب (نحو دار القضاء). قال في "المطالع": وهي دار مروان بالمدينة، كانت لعمر، فبيعت في قضاء دينه بعد موته، قال: وغلط بعضهم في تفسيرها، فقال: ¬

_ = و (891)، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، و (973)، كتاب: الاستسقاء، باب: إذا استسقوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم، و (975)، باب: الدعاء إذا كثر المطر: حوالينا ولا علينا، و (983)، باب: رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، و (986)، باب: من تمطَّر في المطر، حتى يتحادر على لحيته، و (3389)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، و (5742)، كتاب: الأدب، باب: التبسم والضحك، و (5982)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء غير مستقبل القبلة. ورواه مسلم (897/ 8)، واللفظ له، و (897/ 9 - 12)، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء في الاستسقاء، وأبو داود (1174 - 1175)، كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين في الاستسقاء، والنسائي (1515)، كتاب: الاستسقاء، باب: كيف يرفع؟ و (1517 - 1518)، باب: ذكر الدعاء، و (1527)، باب: مسألة الإمام رفع المطر إذا خاف ضرره، و (1528)، باب: رفع الإمام يديه عند مسألة إمساك المطر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 319)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 542)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 191)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 147)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 742)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 296)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 151)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 551)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 38)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 80)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 40).

هي دار الإمارة، قال ابن قرقول: وهذا محتمل؛ لأنها صارت لأمير المدينة، واللَّه أعلم (¬1). والرجل الداخل للمسجد (ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قائم) على المنبر (يخطب) خطبة الجمعة، هو: مرة بن كعب، وذكر بعضهم: أنه العباس، وهو مردود منكر؛ فإن في بعض الروايات في "الصحيحين"، وغيرهما: جاء أعرابي (¬2)، وفي بعضها: أتى رجل أعرابي من أهل البدو (¬3)، والعباس لا يقال فيه ذلك، ويبعد تعدد القضية. على أن في بعض طرق البخاري: فقام الناس، فصاحوا، فقالوا: يا رسول اللَّه! ... الحديث (¬4)، وهو ظاهر في التعدد، ويمكن الجمع: بأن الرجل ابتدأ أولًا بالسؤال، ثم تابعه الناس. وفي "شرح البخاري" لابن التين: قوله: فقام الناس، إن كان محفوظًا، فقد تكلم الرجل، ثم صاحوا، ويحتمل أن يعني بالناس للرجل، لأنه متكلم عنهم، وهم حضور، أو لعلهم صاحوا وتكلم عنهم، انتهى (¬5). (فاستقبل) الرجل (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) حال كونه (قائمًا، ثم قال) ليس معنى "ثم" هنا للتراخي، بك لمجرد الترتيب: (يا رسول اللَّه! هلكت الأموال) الحيوانية، وكذا النباتية؛ من الجدب الناشىء عن قلة المطر، (وانقطعت السبل) جمع سبيل؛ أي: الطرق، لعدم السالكين فيها؛ لشدة هزال ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 265، 2/ 190). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (897)، وعند مسلم برقم (897/ 12). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (983). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (975). (¬5) وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 501 - 502).

الرواحل الناشىء عن الجدب، أو لقلة المياه التي يعتاد المسافر ورودها، أو لاشتغال الناس بشدة القحط عن الضرب في الأرض (¬1)، وأنت بين أظهرنا لا تُرد دعوتك؛ لأنك رسول اللَّه القادر على إزالة ذلك كله، بالخصب الناشىء عن المطر (فادع اللَّه) -سبحانه وتعالى-؛ فإنك إن تدعُه (يغثنا) ببركة دعائك، ويذهب عنا الجذب والقحط المضر بنا؛ إجابة لدعائك. (قال) أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-: (فرفع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يديه). فيه: دليل على استحباب رفع اليدين في سائر الأدعية؛ فمن الناس من خص رفع اليدين بدعاء الاستسقاء، وتركوا رفع اليدين في سائر الأدعية، ومنهم، من عداه إلى كل دعاء، ومنهم، من فرق بين دعاء الرغبة، ودعاء الرهبة، فقال: في دعاء الرغبة يجعل ظاهر كفيه إلى السماء، وباطنها إلى الأرض، وفي دعاء الرهبة بالعكس، وقالوا: الراغب كالمستطعم، والراهب كالمستجير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصحيح الرفعُ مطلقًا، فقد تواتر في الصحاح: أن الطفيل قال: يا رسول اللَّه! إن دوسًا قد عصت وأبت، فادع عليهم، فاستقبل القبلة، ورفع يديه، وقال: "اللهم اهد دوسًا، وأْتِ بهم" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 147). (¬2) رواه البخاري (2779)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، ومسلم (2524)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل غفار وأسلم .. ، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 243)، واللفظ له، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

وفي "الصحيح": أنه -عليهم السلام- لما دعا لأبي عامر، رفع يديه (¬1). وفي حديث عائشة: لما دعا لأهل البقيع، رفع يديه ثلاث مرات رواه مسلم (¬2)، وفيه: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رفع يديه، فقال: "أمتي أمتي"، وفي آخره: "قال اللَّه تعالى: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نَسُوءك" (¬3). وفي حديث بدر: لما رأى المشركين، مد يديه، وجعل يهتف بربه، فما زال يهتف بربه، مادًا يديه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه (¬4). وفي حديث قيس بن سعد: فرفع يديه، وهو يقول: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة" (¬5). وبعث جيشًا فيه علي -رضي اللَّه عنه-، فرفع يديه، وقال: "اللهم لا تمتني حتى تريني عليًا" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4068)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أوطاس، ومسلم (2498)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي موسى، وأبي عامر الأشعريين -رضي اللَّه عنهما-، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه مسلم (974)، كتاب: الجنائز، باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها. (¬3) رواه مسلم (202)، كتاب: الإيمان، باب: دعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأمته وبكائه شفقة عليهم، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما-. (¬4) رواه مسلم (1763)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. (¬5) رواه أبو داود (5185)، كتاب: الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان؟، والنسائي في "السنن الكبرى" (10157)، وغيرهما. (¬6) رواه الترمذي (3737)، كتاب: المناقب، باب: (21)، وقال: حسن غريب، =

وفي حديث القنوت: رفع يديه (¬1). وأما حديث أنس -رضي اللَّه عنه-: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يرفع يديه في شيء من دعائه، إلّا في الاستسقاء. متفق عليه، وفيه: فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه (¬2). قال شيخ الإسلام -رحمه اللَّه تعالى-: والجمع بين حديث أنس هذا، وسائر الأحاديث؛ ما قاله طوائف من العلماء، وهو: أن أنسًا ذكر الرفع الشديد الذي يرى فيه بياض إبطيه، وينحني فيه بدنه، وهذا الذي سماه ابن عباس الابتهال، فجعل المراتب ثلاثة: الإشارة بإصبع واحدة: كما كان يفعل يوم الجمعة على المنبر. والثانية: المسألة، وهو أن يجعل يديه حذو منكبيه، كما في أكثر الأحاديث. والثالثة: الابتهال: وهو الذي ذكره أنس، ولهذا قال: كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، وهذا الرفع إذا اشتد كان بطون يديه مما يلي وجهه والأرض، وظهورهما مما يلي السماء. قال: وقد يكون أنس أراد بالرفع على المنبر يوم الجمعة، كما في ¬

_ = والطبراني في "المعجم الكبير" (25/ 68)، وغيرهما، عن أم عطية -رضي اللَّه عنهما-. (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 137)، والطبراني في "المعجم الكبير" (3606)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 211)، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه البخاري (984)، كتاب: الاستسقاء، باب: رفع الإمام يده في الاستسقاء، ومسلم (895)، كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء.

مسلم، وغيره: أنه كان لا يزيد على أن يرفع إصبعه المسبِّحة (¬1). قال: وفي هذه المسألة قولان؛ هما وجهان في مذهب الإمام أحمد -يعني: في رفع الخطيب يديه-: قيل: يستحب، قاله ابن عقيل. وقيل: لا بل يكره، وهو أصح، قال إسحاق ابن راهويه: هو بدعة لمخاطب، إنما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يشير بإصبعه إذا دعا. قال في "الإقناع": ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة. قال المجد: هو بدعة؛ وفاقًا للمالكية، والشافعية، وغيرهم، ولا بأس بأن يشير بإصبعه فيه (¬2). وفي "الفروع": قيل: يرفع يديه -يعني: الخطيب حالة الدعاء- في خطبة الجمعة، جزم به في "الفصول"، واحتج بالعموم، وقيل: لا يستحب، قال صاحب "المحرر": بدعة؛ وفاقًا للمالكية، والشافعية، وغيرهم (¬3). ورأى عمارة بن رُؤَيْبَة بشر بن مروان رفع يديه في الخطبة، فقال: قبح اللَّه هاتين اليدين، لقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة. رواه الإمام أحمد، ومسلم، وفي لفظ الإمام أحمد: لعن اللَّه هاتين اليدين (¬4). فيكون رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما استسقى على المنبر، رفع يديه، مع عدم ¬

_ (¬1) رواه مسلم (874)، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، عن عمارة بن رؤيبة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 298)، و"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 37). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 93). (¬4) تقدم تخريجه قريبًا عند مسلم، ورواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 261).

ثبوت عدم رفع يديه على المنبر في غير الاستسقاء، فيكون أنس -رضي اللَّه عنه- أراد هذا المعنى، ولا سيما وقد كان عبد الملك أحدث رفع الأيدي على المنبر، وأنس أدرك هذا العصر، وقد أنكر ذلك على عبد الملك غضيف بن الحارث (¬1). فيكون أنس أخبر بالسنة التي أخبر بها غيره؛ من أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يرفع يديه -يعني: على المنبر- إلّا في الاستسقاء، وهذا يشعر بأن الاستسقاء مخصوص بمزيد الرفع؛ وهو الابتهال، كما تقدم، فحينئذ زال الاختلاف من بين الأحاديث، وللَّه الحمد. تنبيه: المطلوب في رفع اليدين: أن تكون بطونها إلى الأعلى. قال شيخ الإسلام؛ كما في "مختصر الفتاوى": من ظن أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قصد توجيه ظهر يديه إلى السماء، فقد أخطأ؛ فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا سألتم اللَّه، فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها" رواه أبو داود من وجوه (¬2). وأما حديث أنس: إنما هو لشدة الرفع انحنت يديه، فصار كفه مما يلي السماء لشدة الرفع، لا قصدًا لذلك، كما جاء: أنه رفعهما حذاء وجهه (¬3)، وفي الحديث عن أنس: أنه رآه يدعو بباطن كفيه، وظاهرهما (¬4)، فهذه ثلاثة أنواع في هذا الرفع الشديد: رفع الابتهال: يذكر فيه أن بطونهما مما ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 105). (¬2) رواه أبو داود (1485)، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء، وابن ماجه (3866)، كتاب: الدعاء، باب: رفع اليدين في الدعاء، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬3) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (1515). (¬4) رواه أبو داود (1487)، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء.

يلي وجهه، وهذا أشد ما يكون من الرفع، وتارة يذكر هذا وهذا. قال: فتبين بذلك أنه لم يقصد في هذا الرفع الشديد لا ظهر اليد، ولا بطنها؛ لأن الرفع إذا قوي، تبقى أصابعهما نحو السماء، مع نوع من الانحناء الذي يكون فيه هذا تارة، وهذا تارة. وأما إذا قصد توجيه بطن اليد، أو ظهرها؛ فإنما كان يوجه بطنها، وهذا في الرفع المتوسط الذي هو رفع المسألة، التي يمكن فيه القصد، ورفع ما يختار من البطن أو الظهر، بخلاف الرفع الشديد الذي يرى بياض إبطيه، فلا يمكن فيه توجيه باطنها، بل ينحني قليلًا بحسب الرفع، فبهذا تتألف الأحاديث، وتظهر السنة، انتهى (¬1). (ثم قال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) -بالهمز-؛ من الإغاثة، ويقال فيه: غاثه يغيثه، وهو قليل، وإنما هو من الغيث، لا الإغاثة، ومنه الحديث: فادع اللَّه يَغثنا (¬2) -بفتح الياء-، يقال: غاث اللَّه البلاد يَغيثها: إذا أرسل عليها المطر (¬3). (قال أنس) -رضي اللَّه عنه-: (فلا واللَّه! ما نرى) -معشر المسلمين من الصحابة- (في السماء من سحاب) جمع سحابة: الغيم، (ولا قزعة)؛ أي: قطعة من الغيم، وجمعها قَزَع، (وما)؛ أي: والحال أنه ليس (بيننا وبين سلع) وهو جبل عند المدينة (¬4) (من دار) تحجب عنا رؤية السحاب (ولا بيت) كل ذلك تأكيد لقوله: وما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة؛ لأنه ¬

_ (¬1) لم أقف على كلامه -رحمه اللَّه- في "الفتاوى المصرية الكبرى". (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (968)، وعند مسلم برقم (897/ 8). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 393). (¬4) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (3/ 236).

أخبر أن السحابة طلعت من وراء سلع، حيث (قال: فطلعت من ورائه)؛ أي: سلع (سحابة) صغيرة مستديرة (مثل الترس). قال في "المطالع": ظاهره أنها كانت بقدر الترس، وقال ثابت: ليس كذلك، إنما أراد أنها مستديرة، وهي أحمدُ السحاب (¬1)، فلو كان بينهم وبين سلع دار أو بيت، لأمكن أن تكون القزعة موجودة، لكن حال بينهم وبين رؤيتها ما بينهم وبين سلع من البناء لو كان. (فلما توسطت) تلك السحابة (السماء، انتشرت)؛ أي: امتدت، وتفرقت، واتسعت، (ثم أمطرت) هطل المطر الذي هو الماء منها، قال في "القاموس": المطر: ماء السحاب (¬2). (قال) أنس -رضي اللَّه عنه-: (فلا واللَّه! ما رأينا الشمس سبتًا)؛ أي: جمعة. وفي "البخاري" من حديث أنس: وما خرجنا من المسجد، حتى مطرنا، فما زلنا نمطر، حتى كانت الجمعة الأخرى (¬3)، وفي لفظ: لم نزل نُمْطَر إلى الجمعة التي تليها (¬4)، وفي لفظ آخر: فرفع يديه، وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده! ما [وضعهما] (¬5) حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره، حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته (¬6). (ثم دخل رجل من ذلك الباب) الذي كان دخل منه الرجل في الجمعة ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 121). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 613)، (مادة: مطر). (¬3) تقدم تخريجه عنده برقم (983). (¬4) تقدم تخريجه عنده برقم (3389)، إلا أن فيه: "الأخرى" بدل "تليها". (¬5) في الأصل: "وضعتهما". (¬6) تقدم تخريجه عنده برقم (891).

الأولى، فطلب من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الدعاء بالغيث، وفي بعض طرق البخاري: فأتى الرجل (¬1) (في الجمعة المقبلة، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قائم) على المنبر (يخطب، فاستقبله) الرجل حال كونه (قائمًا، فقال: يا رسول اللَّه! هلكت الأموال) من كثرة المطر؛ لعدم بروز الحيوانات للمرعى (وانقطعت السبل) لعدم قدرة الناس للخروج من كثرة المطر، وفي لفظ آخر عن أنس: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة، فقام الناس، فصاحوا، وقالوا: يا نبي اللَّه! قحط المطر ... الحديث، فلما قام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب -يعني: من الجمعة التي تليها-، صاحوا إليه: تهدمت البيوت، وانقطعت السبل (¬2)، (فادع اللَّه) -عز وجل- (يمسكها)، وفي لفظ: يحبسها (¬3) (عنا)، فكأنه لما سأل الرجل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجمعتين، صاح الناس وضجوا، تصديقًا لما سأله إياه من الاستسقاء والاستصحاء، وأنهم كلهم على مثل ما قال وسأل. (فرفع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يديه) مستصحيًا، (ثم قال: اللهم حوالينا)؛ أي: أنزل الغيث حوالي المدينة، حيث مواضع النبات، (ولا) تنزله (علينا) في المدينة، ولا في غيرها من المباني والمساكن، يقال: هم حوله، وحوليه، وحواليه، وحياله (¬4). فدل على مشروعية الدعاء لإمساك المطر؛ كما استحب الدعاء لنزوله عند انقطاعه؛ فإن الكل مضر، وقد صرحوا باستحباب ذلك (¬5) (اللهم على الآكام) -بفتح الهمزة الممدودة- على وزن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عنده برقم (983). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (975). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (975). (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 216)، و"المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 112). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 149).

آصال، و-بكسر الهمزة بغير مد- على جبال، فالأول: جمع أكم، ككتب، وأكم: جمع إكام كجبال، وأكام: جمع أكم، وأكم؛ واحده: أكمة (¬1). فالأكمة مفردة جمع أربع مرات (¬2)، وهو: ما غلظ من الأرض، ولم يبلغ أن يكون جبلًا، وكان أكثر ارتفاعًا مما حوله، كالتلول ونحوها، وقال مالك: هي الجبال الصغار، وقال غيره: هو ما ارتفع من التراب، أكبر من الكدى، ودون الجبال (¬3)، وقال الخليل: هي حجر واحد، وقيل: هي فوق الرابية، ودون الجبل (¬4). (والظراب) جمع ظَرِب، قال الجوهري: الظرب -بكسر الراء-: واحد الظراب، وهي: الروابي الصغار (¬5)، وقال مالك: الظرب: الجبيل [المنبسط] (¬6). وفي "القاموس": الظرب؛ ككتف: ما نتأ من الحجارة وحد طرفه، أو الجبل المنبسط أو الصغير (¬7) (وبطون الأودية، ومنابت الشجر)؛ ليحصل به النفع، من غير أن يؤثر ضررًا (¬8)، وبطن الوادي: جوفه، وهو: محل سيلان الماء منه، ومنابت الشجر: حيث نبتت من الأرض. ¬

_ (¬1) هكذا ذكره الجوهري في "الصحاح" (5/ 1862 - 1863)، (مادة: أكم). (¬2) قاله ابن أبي الفتح في "المطلع" (ص: 113). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 30). (¬4) انظر: "المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 113)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 149). (¬5) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 174)، (مادة: ظرب). (¬6) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 328)، و"المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 113). (¬7) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 142)، (مادة: ظرب). (¬8) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 149).

(قال) أنس -رضي اللَّه عنه-: (فأقلعت) -يعني: السماء-؛ أي: لما دعا -صلى اللَّه عليه وسلم- بإزاحة المطر عن المدينة المنورة، (وخرجنا) بعد حبسنا عن المشي من كثر المطر (نمشي) لقضاء حوائجنا، ببركة دعوة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، حيث دعا بالصحو، فاستجيبت دعوته (في الشمس) متعلق بـ: "نمشي"؛ أي: في شعاعها، وتسخينها. وفي لفظ: فتقشعت عن المدينة، فجعلت تمطر حواليها، وما تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة، وإنها لفي مثل الإكليل (¬1)، أراد: أن الغيم تقشع عنها، واستدار بآفاقها، وكلُّ ما احتف بشيء من جوانبه؛ فهو إكليل؛ لأنه يجعل كالحلقة، ويوضع على أعلى الرأس (¬2). وفيه من أعلام النبوة: إجابة دعائه بحصول المطر في الاستسقاء، وحصول الصحو في الاستصحاء، وتحول المطر عن المدينة إلى حواليها، حتى استدار بها من كل نواحيها إدارة الإكليل بالرأس. وفي لفظ: قال أنس: فرأيت السحاب يتمزق، كأنه المُلاءُ حين تُطوى (¬3)، الملاء -بالضم والمد-: جمع ملاءة، وهي: الإزار والرَّيْطَة، وقال بعضهم: إن الجمع: ملأ -بغير مد-، والواحد ممدود، والأول أثبت، شبه تفرق الغيم واجتماع بعضه إلى بعض في أطراف السماء بالإزار إذا جمعت أطرافه وطوي، كما في "النهاية" (¬4). (قال شريك) بن عبد اللَّه بن أبي نمر القرشي، يكنى: أبا عبد اللَّه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (897/ 12). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 197). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (897/ 12). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 352).

المدني، قال الواقدي: الليثي، من أنفسهم، سمع: أنسًا، وابن المسيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء، وعكرمة، وغيرهم. روى عنه: سعد البصري، والإمام مالك، وغيرهما. قال محمد بن سعد: توفي بعد سنة أربعين ومئة، قبل خروج محمد بن عبد اللَّه بن حسن بالمدينة، وخرج سنة خمس وأربعين ومئة. وكان شريك ثقة، كثير الحديث، أخرج له الجماعة، إلّا الترمذي (¬1). (فسألت أنسًا) -رضي اللَّه عنه-: (أهو) يعني: (الرجل) الذي سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الاستصحاء لما كثر المطر الرجل (الأول) الذي سأله -صلى اللَّه عليه وسلم- الاستسقاء فـ (قال) أنس -رضي اللَّه عنه-: (لا أدري) هو هو أو غيره. لكن في بعض طرق البخاري؛ ما يدل على أنه الأول، كما أشرنا إليه آنفًا؛ ففي حديث: أتى رجل أعرابي من البدو ... الحديث، إلى قوله: فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فأتى الرجل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وفي حديث آخر: جاء رجل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: هلكت المواشي، وتقطعت السبل، فدعا، فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، ثم جاء فقال: تهدمت البيوت (¬3). ولا ينافي هذا ما في باقي الروايات: ثم جاء رجل، أو ثم جاء ذلك الرجل، أو غيره؛ لأن تعيين الجائي الأول زيادة ثقة، يجب قبولها. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 363)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 360)، و"تهذيب الكمال" للمزي (12/ 475)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 296). (¬2) تقدم تخريجه برقم (983) عند البخاري. (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (970).

قال الحافظ -رحمه اللَّه، ورضي عنه-: (الظراب: الجبال الصغار)، وتقدم: أنه جمع ظرب -بفتح الظاء، وكسر الراء-، وقد يجمع في القلة على أظرب (¬1)، واللَّه أعلم. تنبيهات: الأول: الاستسقاء على ثلاثة أضرب: أحدها: الخروج إلى الصلاة، كما في حديث عبد اللَّه بن زيد المازني (¬2)؛ وهو أكملها وأفضلها. الثاني: استسقاء الإمام يوم الجمعة على المنبر، كما في حديث أنس هذا؛ وهذا مذهب أبي حنيفة، وأنكر صلاة الاستسقاء مع ثبوتها في الصحاح والسنن والمسانيد. ولا ينافي مشروعية الصلاة، أن يقع مجرد الدعاء في حالة أخرى، وإنما كان هذا الذي جرى في الجمعة مجرد دعاء بطلب السقيا؛ وهو مشروع إذا احتيج إليه، ولا ينافي مشروعية الصلاة في حالة أخرى، إذا اشتدت الحاجة إليها. وقد خالف أبا حنيفة أصحابُه، فوافقوا الجمهور، واللَّه أعلم. الثالث: أن يدعوا اللَّه عقيب صلاتهم، وفي خلواتهم (¬3). الثاني: معتمد المذهب: أن لصلاة الاستسقاء خطبة واحدة بعد ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 156). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 154)، و"المستوعب" للسامري (2/ 89)، و"الإنصاف" للمرداوي (2/ 460).

الصلاة، قال أبو بكر: اتفقوا عن أبي عبد اللَّه: أن في صلاة الاستسقاء خطبة، وصعودًا على المنبر، والصحيح: أنها بعد الصلاة، وبه قال مالك، والشافعي، ومحمد بن الحسن. قال ابن عبد البر: وعليه جماعة الفقهاء (¬1)؛ لقول أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: صلى ركعتين، ثم خطبنا (¬2)، ولأنها صلاة ذات تكبير، فأشبهت صلاة العيدين. قال في "شرح المقنع": والمشروع خطبة واحدة، وبهذا قال عبد الرحمن بن مهدي. وقال مالك والشافعي: يخطب خطبتين كخطبتي العيد؛ لقول ابن عباس: صنع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما صنع في العيد (¬3)، ولأنها أشبهتها في صفة الصلاة، فكذلك في صفة الخطبة. ولنا: قول ابن عباس: لم يخطب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتكبير (¬4)، وهذا يدل على أنه ما فصل بين ذلك بسكوت ¬

_ (¬1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 427). (¬2) رواه ابن ماجه (1268)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 326)، وغيرهما. (¬3) انظر: تخريج الأثر الآتي. (¬4) رواه النسائي (1521)، كتاب: الاستسقاء، باب: كيف صلاة الاستسقاء؟ والترمذي (558)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء، وابن ماجه (1266)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستسقاء، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 355)، وغيرهم، بلفظ: خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- متبذلًا، متواضعًا، متضرعًا، حتى أتى المصلى، فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين، كما كان يصلي في العيد.

ولا جلوس؛ ولأن كل من نقل الخطبة، لم ينقل خطبتين، والصحيح من حديث ابن عباس؛ أنه قال: صلى ركعتين، كما كان يصلي في العيد (¬1)، ولو كان النقل كما ذكروه، فهو محمول على الصلاة بدليل أول الحديث. وإذا صعد المنبر للخطبة: جلس، وإن شاء لم يجلس؛ لأنه لم ينقل، ولا ثم أذان يجلس لفراغه. ويكثر في الخطبة الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به، والصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، كقوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10، 11]؛ فإن الاستغفار سبب نزول الغيث، والمعاصي سبب لقطعه، والاستغفار والتوبة يمحوان المعاصي (¬2). وقد روي عن عمر -رضي اللَّه عنه-: أنه خرج يستسقي، فلم يزد على الاستغفار، وقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء (¬3)؛ أي: أنوائها، ومجدحة السماء: أنواؤها (¬4). وقال الداودي في قوله: اجدحْ لنا (¬5)؛ أي: احلب ولبِّن (¬6)، فعلى هذا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 288 - 290). (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (4902)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (29485)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 320)، والطبراني في "الدعاء" (964)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 352). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 243). (¬5) رواه البخاري (1854)، كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم؟ ومسلم (1101)، كتاب: الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، عن عبد اللَّه بن أبي أوفى -رضي اللَّه عنه-. (¬6) وقد غلطوا الداودي في ذلك، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 197).

يكون معنى "بمجاديح"؛ أي: بما تحلب به السماء من الدعاء والاستغفار. الثالث: يستحب أن يدعو بدعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ كما في حديث عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- كما عند أبي داود: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا استسقى، قال: "اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريًا غدقًا مجللًا سَحًّا عامًا طبقًا دائمًا، اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك، ما لا نشكوه إلّا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأَدِرَّ لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ادفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه عنا غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا" (¬1). وروي من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريًا مَريعًا نافعًا غير ضار عاجلًا غيرآجل" (¬2). ¬

_ (¬1) كذا عزاه الشيخ ابنُ أبي عمر المقدسي في "شرح المقنع" (2/ 291)، وعنه نقل الشارح عزوه إلى أبي داود، وهو ذهول عجيب، إذ لم يروه أبو داود في "سننه" بهذا السياق، قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/ 99): ذكره -أي: هذا السياق- الشافعيُّ في "الأم" (1/ 251) تعليقًا، فقال: وروي عن سالم، عن أبيه، فذكره. ولم نقف له على إسناد، ولا وصله البيهقي في مصنفاته، بل رواه في "المعرفة"، من طريق الشافعي. قال: ويروى عن سالم، به. ثم قال: وقد روينا بعض هذه الألفاظ، وبعض معانيها في حديث أنس بن مالك، وفي حديث جابر، وفي حديث عبد اللَّه بن جراد، وفي حديث كعب بن مرة، وفي حديث غيرهم، ثم ساقها بأسانيده، انتهى. (¬2) رواه أبو داود (1169)، كتاب: الصلاة، باب: رفع اليدين في الاستسقاء، وعبد بن حميد في "مسنده" (1125)، والحاكم في "المستدرك" (1222)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 355)، وغيرهم.

قال الخطابي: "مريعًا" يروى على وجهين: بالموحدة، والمثناة؛ فمن رواه بالمثناة: جعله من المراعة، يقال: أمرع المكان: إذا أخصب، ومن رواه بالموحدة: فمعناه: منبت للربيع (¬1). الرابع: يجوز التوسل بالصالحين، وقيل: يستحب، قال الإمام أحمد في "منسكه" الذي كتبه للمروذي: إنه يتوسل بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في دعائه، وجزم به في "المستوعب" (¬2) وغيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: التوسل بالإيمان به، وبطاعته، ومحبته، والصلاة والسلام عليه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبدعائه، وشفاعته، ونحوه مما هو من فعله، أو أفعال العباد المأمور بها في حقه: مشروع إجماعًا، وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (¬3) [المائدة: 35]، واللَّه تعالى الموفق (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 255). (¬2) انظر: "المستوعب" للسَّامري (2/ 88). (¬3) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 442). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 127).

باب صلة الخوف

باب صلة الخوف الخوف: ضد الأمن، وتأثيره في تغيير هيئات الصلاة وصفاتها، لا في تغيير عدد ركعاتها، ويشترط فيها: كون القتال مباحًا؛ كقتال الكفار، والبغاة، والمحاربين. قال الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: صَحَّت صلاة الخوف عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من ستة أوجه، أو سبعة، كلها جائزة (¬1). وذكر الحافظ -رحمه اللَّه- في هذا الباب ثلاثة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 283).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلاةَ الخَوْفِ فِي بَعْض أَيَّامِهَ، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ بِإِزَاءِ العَدُوِّ، فَصَلَّى بالَّذِينَ مَعَهَ رَكْعَةً، ثُمَّ ذَهَبُوا، وَجَاءَ الآخَرُونَ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، وَقَضَتْ الطائِفَتَانِ رَكْعَةً رَكْعَةً (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (900)، كتاب: صلاة الخوف، باب: صلاة الخوف، و (901)، باب: صلاة الخوف رجالًا وركبانًا، و (3903 - 3904)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، و (4261)، كتاب: التفسير، باب: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]، ومسلم (839/ 306)، واللفظ له، و (839/ 305)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، وأبو داود (1243)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعة ثم يسلم، فيقوم كل صف فيصلون لأنفسهم ركعة، والنسائي (1538 - 1542)، كتاب: صلاة الخوف، والترمذي (564 - 565)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الخوف، وابن ماجه (1258)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الخوف. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 270)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 403)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 42)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 218)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 468)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 124)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 151)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 749)، و"فتح الباري" لابن رجب =

(عن) أبي عبد الرحمن (عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنهما-، قال: صلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاة الخوف في بعض أيامه) ذكر البخاري: أن هذه القصه كانت في غزوة نجد، ذكره عن ابن عمر أيضًا (¬1). (فقامت طائفة) من أصحابه (معه) في الصلاة، (وطائفة) أخرى منهم (بإزاء)؛ أي: حذاء (العدو) من المشركين، (فصلى بـ) الطائفة من أصحابه، وهم (الذين) قاموا (معه) في ابتداء الصلاة (ركعة) واحدة بسجدتيها، (ثم) بعد قيامه -صلى اللَّه عليه وسلم- للركعة الثانية (ذهبوا)، فوقفوا بإزاء العدو، (وجاء) أصحابه (الآخرون) الذين كانوا في نحر العدو، وبعد ذهاب الذين كانوا معه، ووقوفهم بإزاء العدو، فأحرموا معه (فصلى بهم ركعة)، وهي التي بقيت من صلاته، وسلم -صلى اللَّه عليه وسلم- من صلاته لفراغه منها، (وقضت الطائفتان) من أصحابه، كل طائفة قضت بقية صلاتها، فقضت الطائفة الأولى (ركعة) بعد ذهاب الطائفة الثانية لإزاء العدو، ومجيء الأولى لمكان الصلاة، وسلمت ومضت تحرس بإزاء العدو، وأتت الطائفة الثانية، فقضت (ركعة)، وتمت صلاتها، وسلمت. وهذا الوجه، وإن قال علماؤنا: إن الصلاة تصح، فهو خلاف مختار الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-، وهو مختار الإمام أبي حنيفة، وهكذا قال: إنه بعد سلام الإمام، تأتي الطائفة الأولى إلى موضع الإمام، فتقضي، ثم تذهب، ثم تأتي الطائفة الثانية إلى موضع الإمام، فتقضي، ثم تذهب، وقد أنكرت عليه هذه الزيادة؛ لأنها لم ترد في حديث على ما قيل. ¬

_ = (6/ 12)، و"طرح التثريب" للعراقي (3/ 135)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 430)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 254)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 60)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 4). (¬1) تقدم تخريجه برقم (900، 3903) عنده.

قال في "الفروع": ولو صلى -كخبر ابن عمر- بطائفة ركعة ومضت، ثم بالثانية ركعة ومضت، وسلم، ثم أتت الأولى فأتمت الصلاة بقراءة، وقيل: أولا؛ لأنها مؤتمة به حكمًا، ونصه خلافه، ثم أتت الثانية فأتمت بقراءة، أجزأ؛ وفاقًا لأحد قولي الشافعي، وليست -أي: هذه الصفة المختارة- خلافًا لأبي حنيفة -كما قدمنا-: أنه الذي اختار هذه الصفة، وعنده تفعل، ولو كان العدو بجهة القبلة. قال في "الفروع": ولو قضت الثانية ركعتها وقت فارقت إمامها، وسلمت، ثم مضت، وأتت الأولى فأتمت -كخبر ابن مسعود-: صح، وهو أولى (¬1). وقال أبو يوسف: قد انقضت صلاة الخوف بموت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أخذًا من قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102]، وذلك يقتضي التخصيص بوجوده فيهم، وربما أيد هذا بأنها صلاة على خلاف المعتاد، وفيها أفعال منافية، فيجوز أن تكون المسامحة فيها بسبب فضيلة إمامة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. والجمهور: على بقاء حكمها في كل زمان، كما صلاها -عليه الصلاة والسلام- في زمانه، والدليل على مذهب الجمهور: التأسي بالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). قال في "شرح المقنع": صلاة الخوف جائزة بالكتاب والسنة: أما الكتاب: فقوله تعالى-: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} الآية [النساء: 102]. وأما السنة: فثبت أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى صلاة الخوف. قال: وحكمها باق في قول جمهور أهل العلم، وقال أبو يوسف: إنها ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 68). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 151).

كانت مختصة بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بدليل قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ}. قال: وما قاله غير صحيح؛ لأن ما ثبت في حق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثبت في حقنا، ما لم يقم دليل على اختصاصه به؛ لأنه تعالى أمرنا باتباعه، وقد غضب لقول من قال له -صلى اللَّه عليه وسلم-: لست مثلنا (¬1)، وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يحتجون بأفعاله، ويرونها معارضة لقوله، وناسخة له. وأيضًا، فقول أبي يوسف مسبوق بإجماع الصحابة -رضي اللَّه عنهم-؛ فقد صلى عليٌّ -رضي اللَّه عنه- صلاة الخوف ليلة الهرير بصفين، وصلاها أبو موسى الأشعري بأصحابه، وروي: أن سعيد بن العاص لما كان بطبرستان، سأل الصحابة: أيكم صلى مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فقدمه، فصلى بهم (¬2). ولأن المقتضي لها زمن الرسول موجود بعده، والمخالفة لمعتاد الصلاة لأجل الضرورة، وهي موجودة بعد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما هي موجودة في زمانه، ثم الضرورة تدعو إلى ألا يخرج وقت الصلاة عن آدابها، وذلك يقتضي إقامتها على خلاف المعتاد في زمن الرسول وبعده، فكيف، وقد ثبت فعلها بعده -عليه الصلاة والسلام- من غير نكير؟! واللَّه الموفق (¬3). * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1110)، كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬2) رواه أبو داود (1246)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعة، ولا يقضون، والنسائي (1529)، كتاب: صلاة الخوف، وغيرهما، عن ثعلبة بن زهدم. وانظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 125 - 126). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 151).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ صَالح بْنِ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلاةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلاةَ الخَوْفِ: أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وِجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بالَّذِينَ مَعَهُ رَكعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِم، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَصَفُّوا وِجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكعَةَ الَّتِي بقِيَتْ، ثُمَّ ثبَتَ جَالِسًا، وَأتمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3900)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (842)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، واللفظ له، وأبو داود (1238)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: إذا صلى ركعة وثبت قائمًا أتموا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا ثم انصرفوا، فكانوا وجاه العدو، والنسائى (1537)، كتاب: صلاة الخوف، والترمذي (567)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الخوف. وقد رواه البخاري (3902)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (841)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، وأبو داود (1237)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يقوم صف مع الإمام، وصف وجاه العدو، و (1239)، باب: من قال: إذا صلى ركعة وثبت قائمًا، أتموا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، ثم انصرفوا فكانوا وجاه العدو، والنسائي (1536، 1553)، كتاب: صلاة الخوف، والترمذي (565 - 566)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الخوف، وابن ماجه =

الَّذِي صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ. * * * (عن يزيد بن رومان) القرشيِّ الأسديِّ مولاهم، مولى الزبير، يعد في أهل المدينة، تابعي. سمع من الزبير، وصالح بن خوات، وأنس بن مالك، وعروة بن الزبير، وغيرهم. روى عنه: الزهري، وهشام بن عروة، وغيرهما. قال محمد بن سعد: توفي سنة ثلاثين ومئة؛ كذا قال عمرو بن علي، والواقدي، وابن نمير، وأبو عيسى، وكان عالمًا كثير الحديث ثقة، أخرج له الجماعة (¬1) (عن صالح بن خوات) -بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الواو، وبالمثناة ¬

_ = (1259)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الخوف، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، به. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 451)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 43)، و"إكمال المعلم" للقاضي (3/ 226)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 128)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 153)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 752)، و"فتح الباري" لابن رجب (6/ 37)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 154)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 422)، و"عمدة القاري" للعيني (17/ 196)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 59)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 2). (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 331)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 260)، و"الثقات" لابن حبان (7/ 615)، و"تهذيب الكمال" للمزي (32/ 122)، و"الكاشف" للذهبي (2/ 382)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 284).

فوق- (بن جبير) بن النعمان الأنصاريِّ المدنيِّ، تابعيٌّ مشهور، عزيز الحديث، سمع: أباه، وسهل بن أبي حثمة -بفتح الحاء المهملة، وسكون المثلثة-، روى عنه: يزيد بن رومان، والقاسم بن محمد. حديثه عند أهل المدينة، وهو ثقة، أخرج له: البخاري، ومسلم، وغيرهما (¬1). (عمَّن صلى مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) فسره الحافظ -رحمه اللَّه-: بأنه سهل بن أبي حثمة، كما يأتي (صلاة) غزوة (ذات الرقاع)، وكانت في السنة السابعة؛ كما جزم به الإمام ابن القيم في "الهدي" (¬2)، والشمس الشامي في "سيرته" (¬3)، وغيرهما، ومشيت على ذلك في "معارج الأنوار"، والخلاف في ذلك كثير شهير. وتسمى هذه الغزوة: ذات العجائب أيضًا، واختلفوا في تسميتها بذات الرقاع: فقيل: لأن أقدامهم نقبت، فلفوا عليها الخرق، كما في "الصحيحين" ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 259)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 276)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 399)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 372)، و"تهذيب الاسماء واللغات" للنووي (1/ 237)، و"تهذيب الكمال" للمزي (13/ 35)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (4/ 339). (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 252). (¬3) كتاب: "سيرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" للشيخ محمد بن علي بن يوسف الشامي الشافعي، المتوفى سنة (600 هـ)، ويعد كتابه هذا من أجمع كتب السيرة. انظر: "كشف الظنون" لحاجي (2/ 1012)، و"هدية العارفين" للبغدادي (1/ 500).

عن أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- (¬1) وقيل: لرقاع كانت في أجربتهم. والأصح: أنه اسم موضع؛ لقوله: حتى إذا كنا بذات الرقاع (¬2)، وكانت الأرض التي نزلوها ذات ألوان تشبه الرقاع. وقال الواقدي: سميت بجبل هناك فيه بقع من بياض وسواد وحمرة، يقال له: الرقاع، وقيل: اسم شجرة هناك بنجد من أرض غطفان. ورجح السهيلي (¬3)، والنووي السببَ الذي ذكره أبو موسى الأشعري، قال النووي: ويحتمل أنها سميت بالمجموع (¬4)، وبه جزم صاحب "تهذيب المطالع" (¬5). (صلاة الخوف) بدل من صلاة ذات الرقاع، فأخبر: (أن طائفة) من ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3899)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (1816)، كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة ذات الرقاع. (¬2) رواه البخاري (3906)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (843)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. (¬3) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (3/ 401). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (6/ 128). (¬5) كتاب: "تهذيب المَطالع لترغيب المُطالع"، في غريب الحديث، للقاضي محمود بن أحمد بن محمد الهمداني، المشهور بابن خطيب الدهشة، المتوفى سنة (834 هـ)، وهو ابن الفيومي صاحب "المصباح المنير"، وقد أودع ابنه في كتابه هذا غالب "المصباح". انظر: "هدية العارفين" للبغدادي (2/ 164). وانظر أقوال الأئمة في تسمية ذات الرقاع: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 61)، و"السيرة النبوية" لابن هشام (4/ 157)، و"الثقات" لابن حبان (1/ 258)، و"الدرر" لابن عبد البر (ص: 167)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 275)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 107)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 419).

الصحابة الكرام -رضوان اللَّه عليهم- (صفت) -بفتح الصاد المهملة، وتشديد الفاء-؛ أي: صفت أنفسها (معه)؛ أي: النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ يعني: خلفه، (و) قامت (طائفة) منهم (وِجاهَ العدو) (¬1)؛ أي: مواجهة للمشركين، (فصلى) -عليه الصلاة والسلام- (بـ) الطائفة الأولى، وهم (الذين) دخلوا (معه) في ابتداء صلاته (ركعة) تامة، ثم تفارقه في قيام الثانية، إذا استتم قائمًا. قال علماؤنا: ولا يجوز قبله؛ لأنها مفارقة بلا عذر (¬2). (ثم) إنه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد قيامه إلى الركعة الثانية، ومفارقة الذين كانوا معه (ثبت قائمًا) يقرأ، ويطيل الإمام هنا القراءة، حتى تحضر الطائفة الأخرى، (وأتموا)؛ يعني: الذين كانوا دخلوا معه من أول صلاته، بعد أن نوت مفارقة الإمام؛ لأن من ترك المتابعة، ولم ينو المفارقة، بطلت صلاته (لأنفسهم)، فهي بعد المفارقة منفردة، فلا تسجد لسهو الإمام إلّا فيما قبل المفارقة، (ثم) سلموا من صلاتهم لتمامها، و (انصرفوا، فصفوا وجاه العدو) بعد انصفافهم وجاه العدو (وجاءت الطائقة الأخرى) التي كانت تحرس، فدخلت معه في الصلاة (فصلى بهم الركعة التي بقيت) من صلاته (ثم ثبت) -عليه الصلاة والسلام- (جالسًا) للتشهد، وينبغي للإمام أن يكرره، وقاموا هم للركعة الثانية، فأتوا بها، (وأتموا) بقية صلاتهم (لأنفسهم، ثم سلم) -صلى اللَّه عليه وسلم- (بهم)؛ أي: بالطائفة الثانية. وهذه الصفة اختيار الإمام أحمد، وأصحابه، والشافعية. وزاد في "البخاري" بعد ذكره لهذا الحديث: قال مالك: وذلك أحسن ¬

_ (¬1) قوله: "وِجاه" بكسر الواو، وضمها، كما قاله القرطبي في "المفهم" (2/ 476). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 64).

ما سمعت في صلاة الخوف، ذكره في: المغازي من "صحيحه" (¬1). ونص الإمام أحمد: أنها تفعل على هذه الصفة، وإن كان العدو في جهة القبلة، وخالف القاضي وغيره. وقدمنا: أنه يطيل قراءته حال قيامه، حتى تحضر الأخرى، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يقرأ في حال الانتظار، بل يؤخر القراءة ليقرأ بالطائفة الثانية؛ لتحصل التسوية بين الطائفتين. ولنا: أن الصلاة ليس فيها حال سكوت، والقيام محل للقراءة، فينبغي أن يأتي بها فيه، كما في التشهد إذا انتظرهم؛ فإنه لا يسكت، والتسوية بينهم تحصل بانتظاره إياهم في موضعين، والأولى في موضع واحد. وقد علم أن الإمام إذا جلس للتشهد، قاموا فصلوا ركعة أخرى، وهي الباقية من صلاتهم، وأطال هو التشهد والدعاء، حتى يدركوه ويتشهدوا، ويسلم بهم. وقال الإمام مالك: يتشهدون معه، فإذا سلم الإمام، قاموا فقضوا ما فاتهم كالمسبوق. والأَوْلى: ما ذكرناه؛ لموافقة الحديث، ولأن قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] يدل على أن صلاتهم كلها معه، ولأن الطائفة الأولى أدركت معه فضيلة الإحرام، فينبغي أن يسلم بالثانية؛ ليسوي بينهم، فتكون الثانية أدركت فضيلة السلام، فيحصل التعادل (¬2). ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجه برقم (3900) عنده. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 129 - 130).

تنبيه: يشترط أن تكون كل طائفة تكفي العدو، زاد أبو المعالي من علمائنا: بحيث يحرم فرارها، ولا يشترط في الطائفة عدد، وقيل: يشترط كون كل طائفة ثلاثة فأكثر (¬1). قال في "الرعاية الكبرى": وهو أشهر، وقال القاضي: إن كانت كل طائفة أقل من ثلاثة، كرهناه. قال الإمام الموفق: والأولى عدم اشتراط هذا؛ لأن ما دون الثلاثة تصح به الجماعة، فجاز أن يكونوا طائفة كالثلاثة، واللَّه الموفق (¬2). قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى، ورضي عنه-: (الذي صلى مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: سهلُ بن أبي حثمة) كما ذكره ابن عبد البر (¬3)، وعبد الحق (¬4)، وغيرهما، قالا: وتوقف فيه ابن القطان، من حيث إن غزوة ذات الرقاع؛ إما في سنة أربع، أو خمس، على الخلاف في ذلك، ومولد سهل بن أبي حثمة إما سنة اثنتين، أو ثلاث من الهجرة، على الخلاف. قال البرماوي: سهل بن أبي حثمة -بفتح الحاء المهملة، وسكون الثاء المثلثة- كنيته: أبو محمد، وقيل: أبو يحيى، واسم والد أبي حثمة: عبد اللَّه، وقيل: عبيد اللَّه، وقيل: عامر بن ساعدة بن عامر بن عدي الأنصاري الأوسي، ولد سنة ثلاث من الهجرة، سكن الكوفة، وعداده في أهل المدينة، وبها توفي زمان مصعب بن الزبير. وأما قول أبي حاتم: إنه بايع تحت الشجرة، وشهد المشاهد كلها إلّا ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 64). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 129). (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (23/ 167). (¬4) انظر: "الأحكام الوسطى"، له (2/ 42).

بدرًا، وكان دليل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، لا يصح ما ذكره؛ لما سبق، والدليل: إنما كان أبوه عامر بن ساعدة، وهو الذي بعثه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) خارصًا، وأبو بكر، وعمر بعده (¬3). ولهذا فسره النووي في "تهذيبه": بأن الذي صلى مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خوات بن جبير، والد صالح بن خوات، قال: ويحقق هذا من "صحيح مسلم" وغيره (¬4). وأما ما في بعض طرق حديث صلاة الخوف بذات الرقاع؛ في أبي داود، والنسائي، وغيرهما رواية صالح بن خوات بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة (¬5)، فليس يدل لشيء من ذلك؛ لأنه ليس فيها أنه صلى مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، بل مجرد رواية ذلك؛ فيكون مرسل صحابي، أما أن يفسر به من صلى معه، فلا، واللَّه الموفق (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 200). (¬2) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 97)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (9150)، والدارقطني في "سننه" (2/ 134). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (10560)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 124). (¬4) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 585). (¬5) قلت: قد رواه الستة كما تقدم تخريجه من طريق صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، به. (¬6) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 304)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 97)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 200)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 169)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 661)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 570)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 227)، و"تهذيب الكمال" للمزي (12/ 177)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر =

قال الإمام أبو عبد اللَّه أحمد بن حنبل -رضي اللَّه عنه-: صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاة الخوف من خمسة أوجه، أو ستة، أو قال: ستة، أو سبعة؛ كل ذلك جائز لمن فعله. قال الأثرم: قلت لأبي عبد اللَّه: تقول بالأحاديث كلها، أو تختار واحدًا منها؟ قال: أنا أقول: من ذهب إليها كلها، فحسن، وأما حديث سهل، فأنا أختاره (¬1)، يريد -رضي اللَّه عنه-: ما رواه الجماعة عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكر مثل الصفة المتقدمة. وفي "سيرة مغلطاي" (¬2): قد رويت صلاة الخوف على ست عشرة صورة؛ كلها سائغ فعله، قال: وتفارق سائر الصلوات: بأنه لا سهو فيها على إمام، ولا مأموم، انتهى، كذا قال، وهو غريب. تتمة: لو كانت الصلاة مغربًا، صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، ولا تفسد بعكسه، نص عليهما الإمام أحمد، لكن الأولى أولى. وبه قال مالك، والأوزاعي، وسفيان، والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر: يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين؛ لأنه روي عن علي - ¬

_ = (4/ 218)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" له أيضًا (3/ 195). (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 137). وانظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود" (ص: 111). (¬2) المسماة: "الإشارة على سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفا" للشيخ الإمام الحافظ علاء الدين مغلطاي بن قليج التركي الحنفي المصري، المتوفى سنة (762 هـ)، وقد لخصه من سيره الكبير المسمى: "الزهر الباسم في سيرة المصطفى أبي القاسم". انظر: "كشف الظنون" لحاجي (2/ 958)، و"هدية العارفين" للبغدادي (2/ 191).

رضي اللَّه عنه-: أنه صلى كذلك ليلة الهرير (¬1)، ولأن الأولى أدركت معه فضيلة الإحرام والتقدم، فينبغي أن يزيد الثانية في الركعات، فيجبر نقصهم به. ولنا: أنه إذا لم يكن بد من التفضيل، فالأولى أحق به، وما فات الثانية من فضيلة الإحرام ينجبر بإدراكها السلام مع الإمام، ولأنها تصلي جميع صلاتها في حكم الائتمام، والأولى تفعل بعض صلاتها في حكم الانفراد، وكل منهما جائز. وإذا صلى بالثانية الركعة الثالثة، وجلس للتشهد، فإن الطائفة تقوم، ولا تتشهد معه؛ لأنه ليس بموضع تشهدها، بخلاف الرباعية. وإن كانت الصلاة رباعية غير مقصورة؛ صلى بكل طائفة ركعتين، وأتمت الأولى بالفاتحة في كل ركعة من باقي صلاتها، والأخرى تتم بالفاتحة وسورة، وتفارقه الأولى في الرباعية، والمغرب عند فراغ التشهد، وينتظر الإمام الطائفة الثانية جالسًا يكرره، فإذا أتت الثانية، قام، زاد أبو المعالي: تحرم معه، ثم ينهض بهم، وقيل: المفارقة والانتظار في الثالثة؛ وفاقًا لإحدى روايتي مالك، وقولي الشافعي (¬2). ¬

_ (¬1) ذكره البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 252) فقال: يذكر عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عليًا -رضي اللَّه عنه- صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير. وقال الإمام الشافعي في "الرسالة" (ص: 263): وحفظ عن علي بن أبي طالب: أنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير، كما روى خوات بن جبير، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال ابن الملقن في "خلاصة البدر المنير" (1/ 227): وليلة الهرير: حرب جرت بين علي والخوارج، وكان بعضهم يهر على بعض؛ فسميت بذلك، وقيل: هي ليلة صفين بين علي ومعاوية -رضي اللَّه عنهما-. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 133 - 134).

قال في "شرح المقنع": هذا قول مالك، والأوزاعي؛ لأنه يحتاج إلى التطويل من أجل الانتظار، والتشهد يستحب تخفيفه؛ ولهذا روي: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا جلس للتشهد، كأنه على الرضف، حتى يقوم (¬1)، ولأن ثواب القائم أكثر، ولأنه إذا انتظرهم جالسًا، وجاءت الطائفة، فإنه يقوم قبل إحرامهم، فلا يحصل اتباعهم إياه في القيام. والوجه الثاني: تفارقه في التشهد؛ لتدرك الطائفة الثانية جميع الركعة الثالثة، ولأن الجلوس أخف على الإمام، ولأنه متى انتظرهم قائمًا، احتاج إلى قراءة السورة في الركعة الثالثة، وهو خلاف السنة، ويصح أن يصلي بطائفة ركعة، وبأخرى ثلاثًا، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (995)، كتاب: الصلاة، باب: في تخفيف القعود، والنسائي (1176)، كتاب: التطبيق، باب: التخفيف في التشهد الأول، والترمذي (366)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في مقدار القعود في الركعتين الأوليين، وقال: حسن، وغيرهم، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-. والرضف: الحجارة المحماة على النار، واحدتها: رضفة. كما في "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 231). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 134 - 135).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلاةَ الخَوْفِ، فَصَفَفْنَا صَفَّيْنِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والعَدُوُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكبّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكعَ، وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ بالسُّجُودِ، وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَفُّ المُؤَخَّرُ، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ المُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بالسُّجُودِ والصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا في الرَّكْعَةِ الأولى، وَقَامَ الصَّفُّ المُؤَخَّرُ في نَحْرِ العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- السُّجُودَ والصَّفُّ الذِي يَليهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ المُؤخَّرُ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا. قَالَ جَابِرٌ: كمَا يَصْنَعُ حَرَسُكُم هَؤُلاءِ بِأُمَرَائِهِمْ. ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِه (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (840/ 307)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، والنسائي (1545 - 1548)، كتاب: صلاة الخوف.

وَذَكرَ البُخَارِيُّ طَرَفًا مِنْهُ، وأَنّهُ صَلَّى صَلاةَ الخَوْفِ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الغَزْوَةِ السابعةِ غَزْوَةِ ذاتِ الرقاعِ (¬1). * * * (عن) أبي عبد اللَّه (جابر بن عبد اللَّه الأنصاري) الخزرجي (-رضي اللَّه عنهما-، قال: شهدت مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاة الخوف، فصففنا) -بسكون الفاء الثانية، والضمير فاعل-؛ أي: صففنا أنفسنا (صفين خلف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، و) كان (العدو) من المشركين (بيننا) -معشر أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع نبيهم- (وبين) جهة (القبلة) المشرفة، ومن شرط صحة هذا الوجه، حيث لم يخف بعض المشركين، ولم يخف المسلمون كمينًا من المشركين، (فكبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) تكبيرة الإحرام، (وكبرنا) -معشر أصحابه- (جميعًا، ثم) بعدما قرأ وقرأنا، (ركع) -صلى اللَّه عليه وسلم-، (وركعنا) -معشر أصحابه- ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3898)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، إلا أن فيه: "غزوة السابعة". وقد روى حديث جابر -رضي اللَّه عنه- أيضًا: البخاري (3901)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، ومسلم (840/ 308)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، وأبو داود (2/ 16)، كتاب: الصلاة، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعة ولا يقضون، و (2/ 17)، باب: من قال: يصلي بكل طائفة ركعتين، وابن ماجه (1260)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الخوف، من طرق وألفاظ مختلفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 221)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 126)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 153)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 756)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 156)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 419)، و"عمدة القاري" للعيني (17/ 194)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 61)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 5).

(جميعًا) بركوعه، (ثم) بعد الإتيان بالذكر المشروع، (رفع) -صلى اللَّه عليه وسلم- (رأسه من الركوع، ورفعنا) نحن كذلك (جميعًا) عقب رفعه، (ثم انحدر) -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد الإتيان بالذكر المشروع (بالسجود)؛ أي: إليه، (و) انحدر معه (الصف الذي يليه) منا، فسجدوا بسجوده، (وقام الصف المؤخر في نحر)؛ أي: قبالة (العدو)، يقال: منازل بني فلان تتناحر؛ أي: تتقابل، وفي حديث علي: حتى تدعق الخيول في نواحر أرضهم (¬1). قال في "القاموس": والداران تتناحران: تتقابلان، ونحر [ت] الدار الدار؛ كمنع: استقبلـ[ـتـ]ـها، انتهى (¬2). (فلما قضى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- السجود، وقام) إلى الركعة الثانية هو و (الصف الذي يليه) من الصفين، وهو الذي كان قد سجد معه، فبعد أن استتموا قائمين (انحدر الصف المؤخر) من الصفين (بالسجود)؛ أي: فأتوا به مع أذكاره، (وقاموا) متابعين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، (ثم) بعد قيامهم جميعًا (تقدم الصف المؤخر)؛ أي: الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، (وتأخر الصف المقدم)؛ أي: الذي كان في الركعة الأولى مقدمًا، وإنما فعل ذلك -صلى اللَّه عليه وسلم- قصدًا للعدل والتسوية في فضيلة الموقف، ولقرب مواجهة العدو، وهذا هو الأولى (¬3). وإن حرس كل صف مكانه من غير تقدم أو تأخر، أو جعلهم صفًا، وحرس بعضهم، وسجد الباقون، أو حرس الأول في الأولى، والثاني في ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 26). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 618)، (مادة: نحر). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 63).

الثانية، فلا بأس؛ لحصول المقصود، وهو الحراسة، لكن الأولى أن يفعل كما فعل -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال في "الوجيز": الصحيح من المذهب: أن الأَوْلى أن الصف المؤخر هو الذي يحرس أولًا (¬1). قال في "النكت": هذا الصواب (¬2)، واختاره المجد في "شرحه"، وجزم به في "المغني" (¬3)، و"الشرح" (¬4)، و"النظم"، وقدمه في "الفروع" (¬5). والموجود من نص الشافعي: أن الصف الأول يحرس في الركعة الأولى. قال بعض أصحابه: لعله سها، أو لم يبلغه الحديث، ومشى جماعة من أصحابه من العراقيين على مقتضى الحديث، وبعض الخراسانيين من أصحابه مع نصه؛ كالغزالي في "الوسيط" (¬6)، ومنهم من ادعى: أن في الحديث رواية كذلك. قال ابن دقيق العيد: وهؤلاء مطالبون بإبراز تلك الرواية، حتى يسوغ الترجيح، انتهى (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 347). (¬2) انظر: "النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر" لابن مفلح (1/ 138). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 130 - 131). (¬4) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 128). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 63). وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 347 - 348). (¬6) انظر: "الوسيط" للغزالي (2/ 299). (¬7) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 155 - 156).

وقال به منا: القاضي وأصحابه، قال: لأنه أحوط (¬1). (ثم ركع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) قال جابر -رضي اللَّه عنه-: (وركعنا) معه (جميعًا، ثم رفع رأسه) -صلى اللَّه عليه وسلم- (من الركوع، ورفعنا) من الركوع (جميعًا) برفعه، (ثم انحدر بالسجود) هو (والصف الذي يليه)، وهو (الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر)، وهو الذي كان مقدمًا في الركعة الأولى (في نحر العدو، فلما قضى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- السجود) هو (والصف الذي يليه)، واعتدلوا جلوسًا، (انحدر)؛ أي: خر (الصف المؤخر بالسجود فسجد [وا]) سجدتيه، وأتم التشهد ([ثم] سلم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) من صلاته لتمامه، قال جابر -رضي اللَّه عنه-: (وسلمنا جميعًا) من الصفين، بسلامه -عليه الصلاة والسلام-. فدل هذا الحديث على أن الحراسة في السجود دون الركوع، وهذا هو المشهور، وحكي عن بعض الشافعية: أنه يحرس في الركوع أيضًا. والمذهب: الأول؛ لأن الركوع لا يمنع من إدراك العدو بالبصر، فالحراسة ممكنة معه، بخلاف السجود (¬2). (قال جابر) -رضي اللَّه عنه-: (كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم)؛ يعني: يكونون على غاية من اليقظة ناظرين إلى العدو، ومحدقين فيهم، لا تخفى عليهم حركتهم. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: (ذكره مسلم بتمامه، وذكر البخاري طرفًا منه). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 63). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 155).

قال الحافظ عبد الحق في "جمعه" بعد إيراده لهذا الحديث: لم يخرج البخاري هذا الحديث (¬1). قال الحافظ المصنف -رحمه اللَّه تعالى-: (وأنه)، أي: جابر -رضي اللَّه عنه- (صلى صلاة الخوف مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الغزوة السابعة؛ غزوة ذات الرقاع). قال الحافظ عبد الحق: وذكر البخاري، عن جابر، قال: خرج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ذات الرقاع من نجد، فلقينا جمعًا من غطفان، فلم يكن قتال، وأخاف الناس بعضهم بعضًا، فصلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ركعتي الخوف (¬2)، لم يصل البخاري سنده، وقال البخاري -أيضًا-: قال [أبو] الزبير، عن جابر: كنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بنجد، فصلى الخوف (¬3). وروى حديث جابر -أيضًا-: الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه (¬4). تنبيهات: الأول: لا يجوز أن يحرس صف واحد في الركعتين، فلو حرس صف واحد في الركعتين، ففي صحة صلاتهم خلاف لأصحاب الشافعي (¬5)، وقال متأخرو علمائنا: لا تصح، قالوا: لتخلفه عنه في ركوع الثانية ¬

_ (¬1) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 563 - 564)، حديث رقم (1225). (¬2) تقدم تخريجه برقم (3898)، عنده. (¬3) رواه البخاري (3906)، كتاب: المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع، إلا أن فيه: "بنخل" بدل "بنجد". (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 364)، وتقدم تخريجه عند النسائي وابن ماجه. (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 156).

وسامعًا، [. . . . .] (*) بتركهم السجودَ مع الإمام في الركعتين (¬1). الثاني: روي من حديث جابر -رضي اللَّه عنه- أيضًا، قال: كنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بذات الرقاع، وأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أربع، وللقوم ركعتان. متفق عليه (¬2). ويجوز أن يصلي المقصورة بكل طائفة ركعة، فتكون له ركعتان، ولكل طائفة من المأمومين ركعة بلا قضاء، ومنعه أكثر علمائنا (¬3). وقد رويت صلاة الخوف من وجوه متعددة -كما مر- ومختار إمامنا؛ كالمالكية والشافعية: صلاة الخوف على رواية سهل، وابن خوات، على اختلاف بينهم، نبهنا عليه. ومختار أبي حنيفة: رواية ابن عمر، كما نبهنا على ذلك، واللَّه أعلم. الثالث: إذا اشتد الخوف، صلوا رجالًا وركبانًا، للقبلة وغيرها؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]. قال ابن عمر: فإن كان الخوف أشد من ذلك، صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم، [أ] وركبانًا، مستقبلي القبلة، [أ] وغير مستقبليها. متفق عليه، زاد البخاري: قال نافع: لا أرى ابن عمر قال ذلك إلا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4)، ورواه ابن ماجه مرفوعًا (¬5). ¬

_ (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: غير واضحة بالمطبوع، وفي "مطالب أولي النهى": " لأنه ظلم بتركهم السجود مع الإمام في الركعتين" (¬1) انظر: "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" للرحيباني (1/ 742). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3906)، وعند مسلم برقم (843). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 69). (¬4) تقدم تخريجه عندهما. (¬5) تقدم تخريجه عنده برقم (1258).

ولا يلزم والحالة هذه افتتاح الصلاة إلى القبلة، ولو أمكن المصلي ذلك، بل عليهم أن يومئوا طاقتهم في ركوع وسجود، ويجعلوا السجود أخفض من الركوع؛ وكذا على معتمد المذهب حالة هرب من عدو، بشرط كونه هربًا مباحًا، أو هربًا من سيل، أو سبع، أو نار، أو غريم ظالم، أو خوف فوت وقوف بعرفة، ونحو ذلك (¬1). الرابع: يسن في صلاة الخوف حمل ما يدفع به عن نفسه، ولا يثقله؛ كسيف وسكين، وكره ما يمنع إكمالها؛ كمغفر، أو ضرَّ غيره من المصلين؛ كرمح متوسط، وجاز لحاجة حمل نجس، ولو لم يعف عنه في غيرها، ولا يعيد للعذر (¬2)، واللَّه الموفق (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 140)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 334). (¬2)، انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 288). (¬3) جاء على هامش الأصل المخطوط: "فائدة: اشتمل كتاب الصلاة على مئة حديث وثمانية أحاديث".

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز جمع جنازة -بفتح الجيم وكسرها-: اسم للميت [والسرير] (¬1)، ويقال للميت -بالفتح-، وللسرير -بالكسر-، ويقال بالعكس؛ كما في "المشارق" (¬2). قال في "المطلع": وإذا لم يكن الميت على السرير، فلا يقال له: جنازة، ولا نعش، وإنما يقال له: سرير، نص عليه الجوهري (¬3)، وقال الأزهري: لا يسمى جنازة حتى يشد الميت مكفنًا (¬4) عليه، وقال صاحب "المجمل": جنزت الشيء: سترته، ومنه اشتقاق الجنازة (¬5)، انتهى (¬6). وفي "القاموس": جنزه يجنزه: ستره وجمعه، والجِنازة: الميت، و -يفتح، أو بالكسر-: الميت، و -بالفتح-: السرير، أو عكسه، أو - ¬

_ (¬1) في الأصل: "في النعش"، والتصويب من "مشارق الأنوار" للقاضي عياض. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 156). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 870)، (مادة: جنز). (¬4) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 125). (¬5) انظر: "المجمل في اللغة" لابن فارس (1/ 200)، (مادة: جنز). (¬6) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 113 - 114).

بالكسر-: السرير مع الميت، وكل ما ثقل على قوم، واغتمُّوا به، انتهى (¬1). وذكر الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- فيه أربعة عشر حديثًا، وإنما ذكر هذا الكتاب هنا، وكان حقه أن يذكر في كتاب الفرائض؛ لاشتماله على الصلاة على الميت التي هي من أهم متعلقاته. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 650)، (مادة: جنز).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: نَعَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّجَاشِيَّ في اليَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1188)، كتاب: الجنائز، باب: الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، و (1263)، باب: الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، و (1255)، باب: الصفوف على الجنازة، و (1268)، باب: التكبير على الجنازة أربعًا، و (366، 3667)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: موت الصحابة، ومسلم (951/ 62 - 63)، كتاب: الجنائز، باب: التكبير على الجنازة، وأبو داود (3204)، كتاب: الجنائز، باب: في الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك، والنسائي (1879)، كتاب: الجنائز، باب: النعي، و (1970 - 1972)، باب: الصفوف على الجنازة، و (2041 - 2042)، باب: الأمر بالاستغفار للمؤمنين، والترمذي (1022)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في التكبير على الجنازة، وابن ماجه (1534)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على النجاشي. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 310)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 25)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 412)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 610)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 21)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 158)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 761)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 202)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 18)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 101)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 87).

(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (-رضي اللَّه عنه-، قال: نعى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- النجاشي)؛ أي: أخبر أصحابه بموته. قال في "القاموس": نعاه نَعْيًا، ونَعِيًّا، ونُعيانًا: أخبر بموته (¬1)، وفي "النهاية": نعى الميت ينعاه: أذاع موته، وأخبر به (¬2). والمكروه من النعي: إنما هو نعي الجاهلية، وهو النداء بموت الشخص، وذكر مآثره ومفاخره (¬3). قال في "النهاية": كانت العرب في الجاهلية، إذا مات منهم شريف، أو قتل، بعثوا راكبًا إلى القبائل ينعاه إليهم، يقول: نعا فلانًا، أو نعاء العرب؛ أي: هلك فلان، أو هلكت العرب بموت فلان، فنعا من نعيت؛ مثل نظارِ ودراكِ، فقوله: نعا فلانًا معناه: انع فلانًا، كما تقول: دراك فلانًا؛ أي: أدركْه (¬4). والنجاشي -بفتح النون، وتخفيف الجيم، وبالشين المعجمة على المشهور-، وزعم ابن دحية، وابن السيد أنه: -بكسر النون، وتشديد الياء؛ كياء النسب- (¬5). وقال ابن الأثير في "النهاية": وقيل: الصواب تخفيفها (¬6). وكذا قال صاحب "مجمع البحرين" (¬7): إن تخفيفها أعلى وأفصح: هو ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1726)، (مادة: نعي). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 84). (¬3) انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 162). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 85). (¬5) انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 157). (¬6) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 21). (¬7) كتاب: "مجمع البحرين في اللغة" للإمام الحسن بن محمد بن الحسن =

لقب لكل من ملك الحبشة، ويسميه المتأخرون: [عطية] (¬1)؛ نقله النووي، وابن خالويه، وغيرهما (¬2)، كما يلقب كل من ملك المسلمين: بأمير المؤمنين، وكل من ملك الروم: قيصر، والفرس: كسرى، والترك: خاقان، واليمن: تُبَّع، ولمن ملك اليونان: بطليوس، واليهود: فطون، والصابئة: النمرود، ومصر والشام: فرعون، فإن أضيف إليها الإسكندرية، سمي: العزيز، ويقال: المقوقس، ولمن ملك الفرغانة: الأخشيد، ولمن ملك البربر: جالوت، ولمن ملك العرب من قبل العجم: النعمان (¬3). واسم النجاشي الذي كان في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَصْحَمَة -بفتح الهمزة، وسكون الصاد، وفتح الحاء المهملتين-، والحبشة يقولونه: بالخاء المعجمة، ومعنى أصحمة بالعربية: عطية (¬4). وقال ابن دحية في "التنوير" (¬5): وقيل: اسمه أصمحة -بتقديم الميم على الحاء-، وقيل: صحمة -بحذف الألف-، وقيل: مصحمة -بزيادة ميم في أوله-، وقيل غير ذلك. ¬

_ = أبي العباس الصنعاني الهندي الحنفي، المتوفى سنة (650 هـ)، وفي اثني عشر مجلدًا، جمع فيه بين كتاب "تاج اللغة" و"صحاح العربية" للجوهري، وبين كتاب "الصلة" و"الذيل"، و"التكملة". انظر: "كشف الظنون" لحاجي (2/ 1599). (¬1) في الأصل: "الأمجري"، والتصويب من "شرح مسلم" للنووي. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 22). (¬3) وانظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 94). (¬4) حكاه ابن قتيبة في "أدب الكاتب" (ص: 59) عن ابن إسحاق. (¬5) كتاب: "التنوير في مولد السراج المنير" لأبي الخطاب عمر بن الحسن، المعروف بابن دحية الكلبي، المتوفى سنة (633 هـ) بإربيل وهو متوجه إلى خراسان. انظر: "كشف الظنون" لحاجي (1/ 502)، و"هدية العارفين" للبغدادي (1/ 417).

وقد هاجر إليه المسلمون مرتين، وكان يحسن إليهم، ويعظم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويتفانى في إكرام أصحابه، كما هو مشهور في السير والآثار، إلى أن أرسل إليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عمرو بن أمية الضمري بكتابين: أحدهما: يدعوه إلى الإسلام. والثاني: يطلب منه تزويجه بأم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مهاجرة عنده. فأخذ كتاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ووضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض، وأسلم، وحسن إسلامه، وكتب إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جواب كتابه بذلك، وزوجه أم حبيبة، وأصدقها عنه من ماله أربع مئة دينار، وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه أتيته. وتوفي النجاشي -رضي اللَّه عنه- سنة تسع بالحبشة، فأخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بموته (¬1). (في اليوم الذي مات فيه)، وذلك في شهر رجب، (وخرج) -صلى اللَّه عليه وسلم- (بهم)؛ أي: بأصحابه -رضي اللَّه عنهم- (إلى المصلى). وذكر السهيلي من حديث سلمة بن الأكوع: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى عليه بالبقيع (¬2)، وربما تعلق بخروجه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المصلى، ولم يصل عليه في المسجد؛ من قال: بكراهة الصلاة على الميت في المسجد، ولا حجة فيه؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 98 - 99)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1843)، و"الإعلام بفوائد الأحكام" لابن الملقن (4/ 384)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 205). (¬2) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (2/ 118). (¬3) رواه مسلم (973)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الجنائز في المسجد، =

(فصف بهم) صف هنا: لازم، والباء في (بهم) بمعنى مع؛ أي: صف معهم، ويحتمل أن يكون متعديًا، والباء زائدة للتوكيد؛ أي: صفهم؛ لأن الظاهر تقدمُ الإمام، فلا يوصف بأنه صافٌّ معهم إلا على المعنى الآخر، وليس في هذا الحديث كم صفهم صفًا، لكنه يفهم من حديث جابر: فكنت في الصف الثاني، أو الثالث (¬1): أنه صفهم ثلاثة صفوف، فصاعدًا (¬2). (وكبر) -صلى اللَّه عليه وسلم- (أربعًا). فيه: دليل على [أن] تكبيرات صلاة الجنازة أربع (¬3). قال في "شرح المقنع": التكبير على الجنازة أربع، لا يجوز النقص منها، ولا تسن الزيادة عليها؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كبر على النجاشي أربعًا. متفق عليه (¬4). فإن زاد الإمام على أربع تكبيرات؛ فمعتمد المذهب أنه يتابع إلى سبع تكئيرات، قال الإمام أحمد: هو أكثر ما جاء فيه (¬5). فقد روى مسلم، من حديث زيد بن أرقم: أنه كبر على جنازة خمسًا، وقال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يكبرها (¬6). ¬

_ = عن عائشة -رضي اللَّه عنها-. وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 160). (¬1) سيأتي تخريجه تقريبًا. (¬2) انظر: "شرح الزرقاني على الموطأ" (2/ 80). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 160). (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 345). (¬5) المرجع السابق، (2/ 350 - 351). (¬6) رواه مسلم (957)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على القبر.

وروى ابن شاهين: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كبر على حمزة سبعًا (¬1). وكبر علي -رضي اللَّه عنه- على أبي قتادة سبعًا (¬2)، وعلى سهل بن حنيف ستًا، وقال: إنه بدري (¬3). وروي: أن عمر -رضي اللَّه عنه- جمع الناس، فاستشارهم، فقال بعضهم: كبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سبعًا، وقال بعضهم: خمسًا، وقال بعضهم: أربعًا، فجمع عمر الناس على أربع تكبيرات، وقال: هو أطول الصلاة (¬4). قال في "الفروع": وعنه: يتابعه إلى أربع فقط؛ وفاقًا للثلاثة، وهو المذهب؛ قاله أبو المعالي، واختاره ابن عقيل، وغيره، قال: كما لو علم، أو ظن بدعته ورفضه؛ لإظهار شعارهم، انتهى (¬5). فإن زاد الإمام على سبع تكبيرات، لم يتابعه؛ نص عليه الإمام أحمد، وقال في رواية أبي داود: إن زاد على سبع، فينبغي للإمام أن يسبح ¬

_ (¬1) ورواه الدارقطني في "سننه" (4/ 116)، وقال: عبد العزيز بن مروان ضعيف. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (11459)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 36)، وقال: وهو غلط؛ لأن أبا قتادة -رضي اللَّه عنه- بقي بعد علي -رضي اللَّه عنه- مدة طويلة. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/ 120): وهذه علة غير قادحة؛ لأنه قد قيل: إن أبا قتادة قد مات في خلافة علي -رضي اللَّه عنه-، وهذا هو الراجح. (¬3) رواه البخاري (3782)، كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرًا، دون ذكر عدد التكبيرات. ورواه في "تاريخه الكبير" (4/ 97)، فقال: كبر عليه ستًا، وكذا رواه عبد الرزاق في "المصنف" (6399)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (11435)، وغيرهم. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"، (11445)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 37). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 191).

به (¬1)، ولا أعلم أحدًا قال بالزيادة على سبع إلا عبد اللَّه بن مسعود (¬2)، والأفضل: ألا يزيد على أربع؛ لأن فيه خروجًا من الخلاف (¬3). قال في "شرح المقنع": وأكثر أهل العلم يرون التكبير أربعًا؛ منهم: عمر، وابنه، وزيد بن ثابت، وجابر، وابن أبي أوفى، والحسن بن علي، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعقبة بن عامر، وابن الحنفية، وعطاء، والأوزاعي؛ وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والثوري، والشافعي، واللَّه أعلم (¬4). وفي الحديث: جواز الصلاة على الغائب عن البلد، ولو دون مسافة القصر، وسواء الإمام والآحاد؛ نص عليه الإمام أحمد، وسواء كان في قبلته، أو ورائه؛ وهذا مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة، ومالك: لا تجوز، وهي رواية عن الإمام أحمد. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية: عدم الجواز إن كان صُلِّي عليه، وقال: لا يُصلَّى كل يوم على كل غائب؛ لأنه لم ينقل، يؤيده قول الإمام أحمد: إن مات رجل صالح، صُلي عليه، واحتج بقصة النجاشي هذه. قال في "الفروع": فإن كان الميت خارج السور، أو ما يقدر سورًا: لم يصل عليه؛ لأنه لا بد من انفصاله عن البلد، بما يعد الذهاب إليه نوع سفر. ¬

_ (¬1) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود" (ص: 217). (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (6403)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (11450)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 37)، وغيرهم، بلفظ: "كبروا ما كبر إمامكم، لا وقت ولا عدد". (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 351 - 352). (¬4) المرجع السابق، (2/ 352).

قال شيخ الإسلام: وأقرب الحدود ما تجب فيه الجمعة؛ لأنه إذنٌ من أهل الصلاة في البلد، فلا يعد غائبًا عنها (¬1). واعتذر من لم ير الصلاة على الغائب عن الحديث بأشياء: منها: أن فرض الصلاة لم يقم على النجاشي ببلاد الحبشة، حيث مات؛ فلا بد من إقامة فرضها. ومنها: ما قيل: إنه رفع للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فرآه، فيكون ما صلَّى إلا على ميت رآه، وإن لم يره المأمومون، وهذا يحتاج إلى نقل يثبته، ولا يكتفى فيه بمجرد الاحتمال (¬2). قال في "شرح المقنع": فإن قيل: يحتمل أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زويت له الأرض، فأري له الجنازة، قلنا: لم ينقل ذلك أحد، ولو كان، لأخبر به، ولنا الاقتداء بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما لم يثبت ما يقتضي اختصاصه؛ ولأن الميت مع البعد لا تجوز الصلاة عليه، ولو كان الإنسان يراه، ولو اختصت الرؤية بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، لاختصت الصلاة به، وقد صف أصحابه، [فصلى بهم]. وأما قولهم: إنما فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك؛ لكون الحبشة لم يكن فيها من يصلي عليه. فالجواب: هذا عدول منكم عن مذهبكم؛ فإنكم لا تجيزون الصلاة على الغريق، والأسير، وإن كان لم يصل عليه، وأيضًا: يبعد من مَلِكٍ يكون على دين، ولا يوافقه عليه أحد من بطانته، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 196). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 159). (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 355).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى عَلَى النَجَاشِيِّ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَو الثَّالِثِ (¬1). * * * (عن جابر) بن عبد اللَّه الأنصاري -رضي اللَّه عنهما-: (أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى على النجاشي) أصحمة ملك الحبشة -رضي اللَّه عنه-، قال جابر: (فكنت) من المصلين عليه مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (في الصف الثاني، أو) كنت في الصف (الثالث). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1254)، كتاب: الجنائز، باب: من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة خلف الإمام، واللفظ له، و (1257)، باب: الصفوف على الجنازة، و (3664 - 3666)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: موت النجاشي، ومسلم (952/ 64 - 66)، كتاب: الجنائز، باب: في التكبير على الجنازة، والنسائي (1970، 1973، 1974)، كتاب: الجنائز، باب: الصفوف على الجنازة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 414)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 609)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 22)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 160)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 765)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 186)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 18)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 87).

قال في "الفروع": ويستحب أن يصفهم، وألا ينقصهم عن ثلاثة صفوف؛ نص على ذلك الإمام أحمد، للأخبار (¬1)، فقد روى الخلال بإسناده، عن مالك بن هبيرة -رضي اللَّه عنه-، وكانت له صحبة، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صلى عليه ثلاثة صفوف، فقد أوجب"، قال: فكان مالك بن هبيرة، إذا استقلَّ أهلَ الجنازة، جزأهم ثلاثة أجزاء. ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن، ورواه أبو داود، واللفظ له، وابن ماجه (¬2)، ومعنى أوجب؛ أي: وجبت له الجنة، ورواه الحاكم، ولفظه: "إلا غفر له" (¬3). قال الإمام أحمد: أحبُّ إذا كان فيهم قلة: أن يجعلهم ثلاثة صفوف، قيل له: فإذا كان وراءه أربعة؟ قال: يجعلهم صفين، في كل صف رجلين (¬4). فائدة: ذكر الشهاب القسطلاني، عن الزركشي؛ قال بعضهم: والثلاثة -يعني: من الصفوف- بمنزلة الصف الواحد في الأفضلية، وإنما يجعل الأول أفضل؛ محافظة على مقصود الشارع من الثلاثة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 187). (¬2) رواه أبو داود (3166)، كتاب: الجنائز، باب: في الدفن بالليل، والترمذي (1028)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت، وابن ماجه (1490)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء فيمن صلى عليه جماعة من المسلمين. (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" (1341). (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 350). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (2/ 148).

تنبيه: تستحب تسوية الصف في صلاة الجنازة؛ نص عليه الإمام أحمد. وقيل لعطاء: أخذ على الناس أن يصفوا على الجنازة؛ كما يصفون في الصلاة؟ قال: لا، قوم يدعون ويستغفرون (¬1)! قال في "شرح المقنع": كره الإمام أحمد قول عطاء هذا، وقال: يسوون صفوفهم؛ فإنها صلاة، ولأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج إلى المصلى، فصف بهم، وكبر أربعًا. متفق عليه (¬2)، وعن أبي المليح: أنه صلى على جنازة، فالتفت فقال: استووا، ولتحسن شفاعتكم (¬3)، رواه النسائي، ولفظه: عن الحكم بن فروخ، قال: صلى بنا أبو المليح على جنازة، فظننا أنه قد كبر، فأقبل علينا بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم، ولتحسن شفاعتكم، وفيه عن ميمونة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من ميت يصلي عليه أمة من الناس، إلا شفعوا فيه" فسألت أبا المليح عن الأمة، قال: أربعون (¬4). * * * ¬

_ (¬1) رواه الصنعاني في "الأمالي" (ص: 96). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 350). (¬4) رواه النسائي (1933)، كتاب: الجنائز، باب: فضل من صلَّى عليه مئة، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 334)، وغيرهما.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَمَا دُفِنَ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا" (¬1). * * * (عن) أبي العباس (عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أن ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (819)، كتاب: صفة الصلاة، باب: وضوء الصبيان، و (1190)، كتاب: الجنائز، باب: الإذن بالجنازة، و (1256)، باب: الصفوف على الجنازة، و (1258)، باب: صفوف الصبيان مع الرجال على الجنائز، و (1259)، باب: سنة الصلاة على الجنائز، و (1262)، باب: صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز، و (1271)، باب: الصلاة على القبر بعدما يدفن، و (1275)، باب: الدفن بالليل، ومسلم (954/ 68)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على القبر، واللفظ له، والنسائي (2023 - 2025)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على القبر، والترمذي (1037)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على القبر، وابن ماجه (1530)، كتاب الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على القبر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 256)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 418)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 616)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 161)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 766)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 205)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 150).

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى على قبر) وفي لفظ: مر على قبرٍ منبوذٍ (¬1) -بتنوين قبر-، ومنبوذ صفة له؛ أي: في ناحية عن القبور، ولأبي ذر: قبرِ منبوذٍ -بالإضافة-؛ أي: لقيط، كما في القسطلاني (¬2). (بعدما دفن) في "الأوسط" للطبراني، عن الشيباني: أنه صلى عليه بعدما دفن بليلتين (¬3). ورواه الدارقطني، فقال: بعد موته بثلاث (¬4). وروى الدارقطني، من طريق بشر بن آدم، عن أبي عاصم، عن سفيان الثوري، عن الشيباني، فقال: بعد شهر (¬5). قال في "الفتح": وهذه روايات [شاذة]، وسياق [الطرق] (¬6) الصحيحة يدل على أنه صلى عليه في صبيحة دفنه (¬7). (فكبر) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (عليه)؛ أي: على ذلك القبر -يعني: على الميت الذي في ذلك القبر- (أربعًا). وفي "البخاري": قال سليمان الشيباني: سمعت الشعبي عامر بن شراحيل قال: أخبرني من مر مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على قبر منبوذ، فأمهم -عليه الصلاة والسلام- وصلوا خلفه. قال الشيباني: قلت للشعبي: من حدثك بهذا يا أبا عمرو؟ قال: ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- (¬8). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (819، 1259، 1271). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (2/ 432 - 433). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (802). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 78)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 46). (¬5) والدارقطني في "سننه" (2/ 78)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 46). (¬6) في الأصل: "الطريق"، والتصويب من "الفتح". (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 205). (¬8) تقدم تخريجه برقم (1271) عنده.

وفي رواية عنه، قال: انتهينا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى قبر رطب، فصلى عليه، وصفوا خلفه، فكبر أربعًا (¬1). وقد اختلف العلماء في حكم ما دل عليه هذا الحديث من الصلاة على القبر: فمعتمد مذهب الإمام أحمد: أن من فاتته الصلاة على الجنازة؛ فله أن يصلي عليها ما لم تدفن، فإن دفنت، فله أن يصلي على القبر إلى شهر وشيء، وفسر الشيء: باليوم واليومين، فإن شك في مضي المدة، صلى حتى يعلم انتهاءها؛ وهذا قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن أبي موسى الأشعري، وابن عمر، وعائشة -رضي اللَّه عنهم-. وهو مذهب الأوزاعي، والشافعي، لكن معتمد مذهبه: جواز الصلاة عليه أبدًا، بشرط كون المصلي من أهل وجوب الصلاة يوم موته، واختاره ابن عقيل من أئمة علمائنا؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين، حديث صحيح (¬2). وقال بعضهم: يصلي عليه ما لم يبل جسده. ودليل معتمد المذهب: فعلُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: أكثر ما سمعت: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى على أم سعد بن عبادة بعد شهر. وحديث صلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- على أم سعد بعد شهر، رواه الترمذي، عن سعيد بن المسيب، مرسل، وهو صحيح (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (954/ 68). (¬2) رواه البخاري (3816)، كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد، ومسلم (2296)، كتاب: الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- وصفاته، عن عقبة بن عامر -رضي اللَّه عنه-. ولم يقل مسلم: بعد ثماني سنين. (¬3) رواه الترمذي (1038)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على القبر.

وقد روى عكرمة، عن ابن عباس، موصولًا: قيل لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لو صليت على أم سعد، فصلى عليها، وقد أتى لها شهر، وقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غائبًا (¬1)، ولأنها مدة يغلب على الظن بقاء الميت فيها، أشبهت الثلاث، أو كالغائب. وأما تجويز الصلاة على الميت مطلقًا، فباطل؛ بأن قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يصلَّى عليه الآن إجماعًا. وأما مذهب أبي حنيفة، ومالك: فلا تعاد الصلاة على الميت، إلا للولي إذا كان غائبًا، ولا يصلى على القبر إلا لذلك، قال أبو حنيفة: يصلي عليه الولي خاصة إلى ثلاث. وقال إسحاق: يصلي على الغائب إلى شهر، والحاضر إلى ثلاث. ودليل جواز الصلاة على القبر من الولي والأجنبي: ما روي من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، أو شابًا، ففقدها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسأل عنها، أو عنه، فقالوا: مات، قال: "أفلا كنتم آذنتموني؟ "، قال: فكأنهم صغروا أمرها، أو أمره، فقال: "دلوني على قبرها"، فدلوه، فصلى عليها، ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن اللَّه ينورها لهم بصلاتي عليهم" (¬2). قال الحافظ عبد الحق: الصحيح أنها كانت امرأة، رواه البخاري ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 428)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 48). (¬2) رواه البخاري (446)، كتاب: المساجد، باب: كنس المسجد، ومسلم (956)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على القبر، واللفظ له، وانظر كلام الحافظ عبد الحق الذي ساقه الشارح -رحمه اللَّه- الآتي.

ومسلم، واللفظ لمسلم، ولم يقل البخاري: "إن هذه القبور" وما بعده (¬1). قال الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: ومن يشك في الصلاة على القبر؟! يروى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من ستة أوجه، كلها حسان. وأيضًا: فغير الولي من أهل الصلاة؛ فتسوغ له الصلاة، كالولي (¬2). وأما صلاته -عليه الصلاة والسلام- على قتلى أحد بعد ثمان سنين؛ فكالمودع للأحياء والأموات، وكان قد صلى عليهم، فلذلك كان خاصًا به -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأيضًا: قتلى أحد شهداء لا صلاة عليهم، والذي يظهر: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما صلى عليهم؛ أي: دعا لهم وودعهم، عند قرب أجله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (2/ 24)، حديث رقم (1428). (¬2) انظر فيما ذكره الشارح -رحمه اللَّه- من مذهب الإمام أحمد والمذاهب الأخرى: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 353 - 354)، و"المغني" لابن قدامة (2/ 194). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 210).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُفِّنَ فِي ثَلَاثةِ أَثْوَاب يَمَانِيَةٍ بيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1205)، كتاب: الجنائز، باب: الثياب البيض للكفن، و (1212 - 1213)، باب: الكفن بغير قميص، و (1214)، باب: الكفن ولا عمامة، و (1321)، باب: موت يوم الإثنين، ومسلم (941/ 45 - 47)، كتاب: الجنائز، باب: في كفن الميت، وزاد بعد قوله: "بيض": "سحولية من كرسف". ورواه أيضًا: أبو داود (3151)، كتاب: الجنائز، باب: في الكفن، والنسائي (1897 - 1899)، كتاب: الجنائز، باب: كفن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والترمذي (996)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في كفن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وابن ماجه (1469)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في كفن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 15)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 215)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 391)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 599)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 7)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 162)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 769)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 158)، و"طرح التثريب" للعراقي (3/ 270)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 135)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 57)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 94)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 70).

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (-رضي اللَّه عنها-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كفن في ثلاثة أثواب يمانية) -بتخفيف الياء (¬1) - نسبة إلى اليمن (¬2) (بيض) زاد في لفظ في "الصحيحين": سحولية (¬3) -بفتح السين المهملة، وتشديد المثناة التحتية- نسبة إلى السحول، وهو القصار؛ لأنه يسحلها؛ أي: يغسلها، أو إلى سحول: قرية باليمن، وقيل: -بالضم-: اسم القرية أيضًا (¬4). قال في "شرح المقنع": الأفضل عند إمامنا الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: أن يكفن الرجل في ثلاث لفائف بيض، لا يزيد عليها، ولا ينقص منها. قال الترمذي: العمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وغيرهم، وهو مذهب الشافعي (¬5). ويستحب كون الكفن أبيض؛ للحديث، ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنه أطهر وأطيب، وكفنوا فيه موتاكم" رواه النسائي (¬6). وحكي عن أبي حنيفة: أن المستحب أن يكفن في إزار ورداء وقميص؛ ¬

_ (¬1) في الأصح، كما قال الزركشي في "النكت" (ص: 158). (¬2) قال الجوهري في "الصحاح" (6/ 2219)، (مادة: يمن): اليمن: بلاد العرب، والنسبة إليها يمنيٌّ، ويمانٍ -مخففة-، والألف عوض من ياء النسب، فلا يجتمعان. قال سيبويه: وبعضهم يقول: يمانيٌّ -بالتشديد-. (¬3) كما تقدم تخريجه قريبًا. (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 347). (¬5) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 322). (¬6) رواه النسائي (1896)، كتاب: الجنائز، باب: أي الكفن خير؟، عن أبي المهلب سمرة -رضي اللَّه عنه-.

لما روى عبد اللَّه بن المغفل: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كفن في قميصه (¬1)، ولأنه -عليه السلام- ألبس قميصه عبد اللَّه بن أبي. رواه النسائي (¬2). وحديث "الصحيحين" أصح حديث يروى في كفن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ ولأن عائشة أقرب إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأعرف بأحواله، ولهذا لما ذكر لها قول الناس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كفن في برد، قالت: قد أتي بالبرد، ولكنهم لم يكفنوه فيه (¬3)، فحفظت ما أغفله غيرها. وقالت أيضًا: أُدرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حلة يمنية كانت لعبد اللَّه بن أبي بكر، ثم نزعت عنه، فرفع عبد اللَّه بن أبي بكر الحلة، وقال: أكفن فيها. ثم قال: لم يكفن فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأكفن فيها؟! فتصدق بها رواه مسلم (¬4)، وفي رواية: ثم قال: لو رضيها اللَّه لنبيه، لكفنه بها، فباعها وتصدق بثمنها (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3153)، كتاب: الجنائز، باب: في الكفن، وابن ماجه (1471)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في كفن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 222)، وغيرهم، لكن عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬2) رواه النسائي (1900)، كتاب: الجنائز، باب: القميص في الكفن. عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. وقد رواه أيضًا من حديثه: البخاري (1210)، كتاب: الجنائز، باب: الكفن في القميص الذي يُكفُّ، ومسلم (2774)، في أول كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم. (¬3) رواه أبو داود (3152)، كتاب: الجنائز، باب: في الكفن، والنسائي (1899)، كتاب: الجنائز، باب: كفن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والترمذي (996)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في كفن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وابن ماجه (1469)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في غسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (941/ 46). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (941/ 45).

وأما إلباس النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عبدَ اللَّه بن أُبي قميصَه: فإنما فعل ذلك تكرمة لابنه عبد اللَّه؛ لأنه سأله ذلك؛ ليتبرك به أبوه، ويندفع عنه العذاب ببركة قميص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقيل: إنما فعل ذلك مكافأة وجزاء لعبد اللَّه بن أبي عن كسوته العباس -رضي اللَّه عنه- قميصه يوم بدر؛ لأنه كان طوالًا، فلم يجىء على قدر طول العباس إلا قميصه (¬1). (ليس فيها)؛ أي: الأكفان الثلاثة (قميص) هذا صريح في نفي ما احتج به أبو حنيفة، (ولا عمامة)، أي: ليس موجودًا أصلًا في أكفانه ذلك، بل هي الثلاثة فقط. قال النووي: وهو ما فسره به الشافعي والجمهور؛ وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث، وهو أكمل الكفن للذكر، ويحتمل أن يكون الثلاثة أثواب خارجة عن القميص والعمامة؛ فيكون ذلك خمسة، وهو تفسير الإمام مالك (¬2). وهل تكره الزيادة على الثلاثة، أو لا؟ قطع في "الإقناع" (¬3)، و"المنتهى" (¬4): بكراهة الزيادة على الثلاثة أكفان، كتعميمه لظاهر حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. والذي قدمه في "الفروع": لا تكره خمسة أثواب، وفاقًا، ولا تعميمه في أحد الوجهين فيهما، بل في سبعة أثواب، خلافًا لمالك (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 339 - 340). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 8). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 345). (¬4) انظر: "منتهى الإرادات" لابن النجار الفتوحي (1/ 403). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 178).

قلت: فيكون معتمد المذهب على ما في "الفروع": الكراهة؛ لأنه متى صدّر بقول: ثم قال في وجه، فالمقدم خلافه (¬1). ومذهب الشافعية: جواز زيادة القميص والعمامة على الثلاثة، من غير استحباب (¬2). تنبيه: الواجب: ثوب يستر العورة، يعني: يستر جميع الميت؛ بحيث لا يصف البشرة، وأن يكون من ملبوس مثله، ما لم يوص بدونه، ويكره في أعلى من ملبوس مثله. وإن كفن الميت في قميص، ومئزر، ولفافة، جاز بلا كراهة، إلا كونه في ثلاث لفائف أفضل، ويجوز التكفين في ثوبين، لما يأتي في حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. وأما المرأة: فتكفن في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين (¬3). قال ابن المنذر: أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يرى ذلك؛ منهم: الشعبي، ومحمد بن سيرين، والنخعي، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وكان عطاء يقول: تكفن في ثلاثة أثواب: درع، وثوب تحت الدرع تلف به، وثوب فوقه تلف فيه، وإنما استحب ذلك؛ لأن المرأة تزيد في حال حياتها على الرجل في الستر؛ لزيادة عورتها على عورته، فكذلك بعد ¬

_ (¬1) انظر: "تصحيح الفروع" للمرداوي (3/ 319 - 320). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 8). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 176، 177، 180).

الموت، ولما كانت تلبس المخيط في إحرامها، وهو أكمل أحوال الحي، استحب إلباسها إياه بعد موتها، بخلاف الرجل. وقد روى أبو داود، عن ليلى بنت قانف الثقفية، قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عند وفاتها، وكان أول ما أعطانا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: الحقا، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت في الثوب الآخر، قالت: ورسول اللَّه عند الباب معه كفنها يناولنا [هـ]، ثوبًا ثوبًا. ورواه الإمام أحمد (¬1). قال البخاري: قال الحسن: الخرقة الخامسة تشد بها الفخذان، والوركان تحت الدرع (¬2). وروت أم عطية: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ناولها إزارًا، ودرعًا، وخمارًا، وثوبين (¬3). قوله في الحديث: "ناولها الحقا" قال ابن نصر اللَّه في "حواشي الكافي": الحقا، بالقصر: كأنه لغة في الحقو، وكأن الواو قلبت ألفًا، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3157)، كتاب: الجنائز، باب: في كفن المرأة، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 380). وانظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 342 - 341). (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" (1/ 424)، معلقًا. ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (11087)، عن الحسن، قال: تكفن المرأة في خمسة أثواب: درع، وخمار، وحقو، ولفافتين. (¬3) قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/ 109): كذا وقع فيه أم عطية، وفيه نظر؛ لما رواه أبو داود من حديث ليلى بنت قانف الثقفية، قالت، -فذكر الحديث السابق-، ثم قال: ولم يظهر في الخبر حضور أم عطية ذلك، انتهى.

فتكون الحاء باقية على الفتح، انتهى (¬1). وفي "القاموس": الحقو: الكشح، والإزار، و-يكسر-، أو مَعْقِدُه، كالحَقْوة والحِقاء، والجمع: أَحْقٍ، وأَحْقاء (¬2). وأما الصغيرة إلى بلوغ، فتكفن في قميص ولفافتين. قال المروذي: سألت أبا عبد اللَّه: في كم تكفن الجارية إذا لم تبلغ؟ قال: في لفافتين، وقميص لا خمار فيه (¬3). وكفن ابن سيرين بنتًا له قد أعصرت -أي: قاربت المحيض- في قميص، ولفافتين (¬4). * * * ¬

_ (¬1) وانظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 417)، و"لسان العرب" لابن منظور (14/ 190)، (مادة: حقو). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1646)، (مادة: حقو). (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر المقدسي (2/ 342). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (11105)، إلا أنه قال: "في برد ولفافتين".

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ رَأيتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، واجْعَلْنَ في الأَخِيرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإذَا فَرَغْتُنَّ، فآذِنَّنِي"، فَلمَّا فَرَغنَا، آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ، فَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا بِهِ"؛ تَعْنِي: إِزَارَه (¬1). وَفي رِوَايَةٍ: "أَوْ سَبْعًا" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1195)، كتاب: الجنائز، باب: غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر، ومسلم (939/ 36)، كتاب: الجنائز، باب: في غسل الميت، وأبو داود (3142)، كتاب: الجنائز، باب: كيف غسل الميت؟ والنسائي (1881)، كتاب: الجنائز، باب: غسل الميت بالماء والسدر، و (1866)، باب: غسل الميت أكثر من خمس، و (1887)، باب: غسل الميت أكثر من سبعة، و (1893 - 1894)، باب: الإشعار، والترمذي (990)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في غسل الميت، وابن ماجه (1458)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في غسل الميت. (¬2) رواه البخاري (1196)، كتاب: الجنائز، باب: ما يستحب أن يغسل وترًا، و (1200)، باب: يجعل الكافور في آخره، ومسلم (939/ 39)، كتاب: الجنائز، باب: في غسل الميت، وأبو داود (3146)، كتاب: الجنائز، باب: كيف غسل الميت؟ والنسائي (1885)، كتاب: الجنائز، باب: غسل الميت =

وَقَالَ: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا". (¬1) وإِنَّ أُمَّ عَطِيْةَ قَالَتْ: وجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ (¬2). ¬

_ = وترًا، و (1888 - 1889)، باب: غسل الميت أكثر من سبعة، و (1890)، باب: الكافور في غسل الميت. (¬1) رواه البخاري (165)، كتاب: الوضوء، باب: التيمن في الوضوء والغسل، و (1197)، كتاب: الجنائز، باب: يبدأ بميامن الميت، و (1198)، باب: مواضع الوضوء من الميت، ومسلم (939/ 42 - 43)، كتاب: الجنائز، باب: في غسل الميت، وأبو داود (3145)، كتاب: الجنائز، باب: كيف غسل الميت؟ والنسائي (1884)، كتاب: الجنائز، باب: ميامن الميت ومواضع الوضوء منه، والترمذي (990)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في غسل الميت، وابن ماجه (1459)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في غسل الميت. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري في حديث (1196، 1200)، ورواه أيضًا: (1201)، كتاب: الجنائز، باب: نقض شعر المرأة، و (1203)، باب: هل يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون؟ ومسلم (939/ 39)، كتاب: الجنائز، باب: في غسل الميت، وأبو داود (3143 - 1344)، كتاب: الجنائز، باب: كيف غسل الميت، والنسائي (1883)، كتاب: الجنائز، باب: نقض رأس الميت، و (1890 - 1892)، كتاب: الجنائز، باب: الكافور في غسل الميت، والترمذي (990)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في غسل الميت، وابن ماجه (1459)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في غسل الميت. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 305)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 5)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 209)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 383)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 592)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 2)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 163)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 770)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 159)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 127)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 38)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 93)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 62).

(عن أم عطية) نسيبة (الأنصارية) -رضي اللَّه عنها-، تقدمت ترجمتها في العيدين، (قالت: دخل علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين توفيت ابنته)؛ يعني: زينب؛ كما قاله الخطيب، والنووي (¬1)، وغيرهما، وهي أكبر بناته، ونقله ابن بشكوال عن مسلم (¬2)، قال: وقيل: إنها أم كلثوم (¬3)، وكانت قد توفيت في التاسعة، وقد روى أبو داود بسند ليس بذاك، وكذا ابن ماجه، عن أم عطية، قالت: دخل علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونحن نغسل ابنته أم كلثوم ... ، الحديث (¬4). وبهذا قال الطحاوي، ونقله القاضي عن بعض أهل السير (¬5)، وصرح ابن عبد البر في ترجمة أم كلثوم: أنها توفيت في سنة تسع، وصلى عليها أبوها -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: وهي التي شهدت أمُّ عطية غسلَها (¬6). وأما قول الحافظ المنذري: في كونها أم كلثوم نظر؛ فإن أم كلثوم توفيت والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غائب ببدر (¬7). معترض: بأن أم كلثوم لا خلاف في أنها توفيت سنة تسع، وإنما رقية هي التي توفيت، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غائب ببدر، وتخلف عثمان عن بدر بسببها، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 3). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (939/ 40). (¬3) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 71 - 72). (¬4) أبو داود (3157)، كتاب: الجنائز، باب: في كفن المرأة، وابن ماجه (1458)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في غسل الميت. (¬5) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 388). (¬6) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1952). (¬7) انظر: "مختصر السنن" للمنذري (4/ 300)، قال: والصحيح أنها زينب زوج أبي العاص بن الربيع؛ لأن أم كلثوم توفيت ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غائب ببدر.

وجاءه زيد بن حارثة بشيرًا بأمر بدر، وهو على قبر رقية (¬1). قال البرماوي: ولا مانع من كون أم عطية روت غسل زينب، وغسل أم كلثوم، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في كلتيهما ذلك؛ ويكون جمعًا بين الأحاديث. وتقدم أن زينب توفيت سنة ثمان من الهجرة. (فقال) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (اغسلنها) وجوبًا مرة واحدة عامة لبدنها؛ أي: بعد إزالة نجس إن كان. قال في "شرح المقنع": الواجب غسل الميت غسلة واحدة؛ لأنه غسل واجب من غير نجاسة أصابته، فكان مرة واحدة كغسل الجنابة، قال عطاء: يجزيه غسلة واحدة إن أنقوه (¬2). وقد روي عن الإمام أحمد: أنه قال: لا يعجبني إن غسل واحدة؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اغسلنها (ثلاثًا) (¬3)؛ أي: ندبًا على معتمد المذهب. فالأمر للوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل، وللندب بالنسبة إلى الإيتار (¬4). نعم، يكره الاقتصار على الواحدة؛ وفاقًا للثلاثة، ولا يجب فعل الغسل، فلو ترك تحت ميزاب ونحوه، وحضر أهل لغسله، ونوى، ومضى زمن يمكن غسله فيه، صح (¬5). (أو خمسًا)، وفي رواية هشام بن حسان، عن حفصة: "اغسلنها وترًا: ¬

_ (¬1) انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 649). (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (6075). (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 322). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 164). (¬5) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 93).

ثلاثًا، أو خمسًا" (¬1)، (أو أكثر من ذلك)، وفي رواية أيوب، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية: "ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا" (¬2). قال في "الفتح": ولم أر في شيء من الروايات التعبير بأكثر من ذلك إلا في رواية لأبي داود (¬3)، وأما سواها؛ فإما "أو سبعًا" وإما "أو أكثر من ذلك" (¬4)، فيحتمل تفسير قوله: "أو أكثر من ذلك" بالسبع؛ وبه قال الإمام أحمد، فكره الزيادة على السبع. وقال الماوردي: الزيادة على السبع سرف، انتهى (¬5). قلت: تحرير مذهب الإمام أحمد على المعتمد: يسن التثليث في غسل الميت، فإن لم ينق بثلاث، زاد إلى سبع، فإن لم ينق بسبع، فالأولى غسله حتى يُنَقَّى، ويقطع على وتر من غير إعادة وضوء. وإن خرج منه شيء بعد الثلاث، أُعيد وضوءه، ووجب غسلُه كلما خرج، إلى سبع. وإن خرج منه شيء من السبيلين أو غيرهما بعد السبع، غسلت النجاسة، ووضىء، ولا غسل، لكن يُحشى بالقطن، أو يُلَجَّم به؛ كما ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (939/ 41). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1200)، وعند مسلم برقم (939/ 39). (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3146). (¬4) قلت: وهو ذهول عجيب من الحافظ -رحمه اللَّه-؛ إذ قد رواه البخاري في "صحيحه" (1200)، من حديث أيوب، عن حفصة، عن أم عطية -رضي اللَّه عنها- بلفظ قال فيه: "أغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ... "، الحديث، وهو الإسناد واللفظ نفسه الذي رواه أَبو داود، وأشار إليه الحافظ ابن حجر، والعصمة للَّه وحده. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 129).

تفعل المستحاضة، فإن لم يمسكه ذلك، حُشي بالطين الحُرِّ الذي له قوة تمسك المحل، ولا يكره حشو المحل إن لم يستمسك (¬1). قال في "الفروع": فإن لم ينق بثلاث، زاد حتى ينقي اتفاقًا؛ يعني: من الأئمة الأربعة، ويقطع على وتر، ونقل الجماعة: لا يزاد على سبع، وجزم به جماعة، انتهى (¬2). وقال الإمام أَبو حنيفة: لا يزاد على الثلاث -يعني: إن حصل بها الإنقاء-. (إن رأيتن ذلك) -بكسر الكاف-؛ لأنه خطاب لمؤنثة (¬3)؛ أي: أَدَّاكنَّ اجتهادكنَّ إلى ذلك، بحسب الحاجة إلى الإنقاء، لا التشهي، فإن حصل الإنقاء بالثلاث، لم يزد عليها، وإلا، زيد وترًا حتى يحصل الإنقاء، وهذا بخلاف طهارة الحي؛ فإنه لا يزاد على الثلاث، والفرق: أن طهارة الحي محض تعبد، وهذا لمقصود النظافة. قال في "شرح المقنع": فإن خرج من الميت نجاسة بعد الثلاث، وهو على مغتسله من قُبله أو دُبره، غسله إلى خمس، فإن خرج بعد الخمس، غسله إلى سبع، ويوضئه في الغسلة التي تلي خروج النجاسة، قال صالح: قال أبي: يوضأ الميت مرة واحدة، إلا أن يخرج منه شيء، فيعاد عليه الوضوء، وهذا قول ابن سيرين، وإسحاق. واختار أَبو الخطاب: أنه يغسل موضع النجاسة، ويوضَّى، ولا تجب إعادة غسله، وهو قول الثوري، ومالك، وأبي حنيفة؛ لأن خروج النجاسة ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 337 - 338). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 161). (¬3) انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 159)

من الحي بعد غسله لا تبطله، فكذلك الميت. وللشافعي قولان: كالمذهبين. ولنا: أن القصد من غسل الميت: أن يكون خاتمة أمره الطهارة الكاملة، ألا ترى أن الموت جرى مجرى زوال العقل (¬1). (بماء وسدر)، وتعلق بقوله: "اغسلنها"، ويقوم نحو السدر -كالخطمي- مقامه، قال القسطلاني: بل هو أولى في التنظيف، نعم السدر أولى؛ للنص عليه، ولأنه أمسك للبدن (¬2). قال في "شرح المقنع": فإن لم يوجد السدر، غسله بما يقوم مقامه، ويقرب منه الخطمي، ونحوه؛ لحصول المقصود به، وإن غسله بذلك مع وجود السدر، جاز؛ لأن الشرع ورد بهذا لمعنى معقول، وهو التنظيف، فتعدى إلى كل ما وجد فيه المعنى (¬3). تنبيه: ظاهر الحديث: أن المطلوب تكرير الغسلات به إلى أن يحصل الإنقاء. قال في "شرح المقنع": المنصوص عن الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: أنه يستحب أن يغسل ثلاثًا بماء وسدر، قال صالح: قال أبي: الميت يغسل بماء وسدر الثلاث غسلات، قلت: فيبقى عليه؛ قال: أي شيء يكون هو أنقى له. وذكر عن عطاء: أن ابن جريج قال له: إنه يبقى عليه السدر إذا غسله به كل مرة، قال عطاء: هو طهور. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 323). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (2/ 384). (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 321).

واحتج الإمام أحمد: بحديث أم عطية هذا، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- في المحرم: "اغسلوه بماء وسدر" متفق عليه (¬1). قال: وذهب كثير من أصحابنا المتأخرين إلى أنه لا يترك في الماء سدر يغيره، ثم اختلفوا؛ فقال ابن حامد: يطرح في كل المياه شيء يسير من السدر لا يغيره؛ ليجمع بين العمل بالحديث، ويكون الماء ثابتًا على إطلاقه -يعني: لم يتغير بما يسلبه الطهورية-. وقال القاضي، وأبو الخطاب: يغسل أول مرة بالسدر، ثم يغسل بعد ذلك بالماء القراح؛ فيكون الجميع غسلة واحدة، ويكون الاعتداد بالآخر دون الأول؛ لأن الإمام أحمد شبه غسله بغسل الجنابة، ولأن السدر إن غير الماء، سلبه الطهورية، وإن لم يغيره، فلا فائدة في ترك يسير -يعني: في الماء- لا يؤثر. قال في "شرح المقنع": والأول ظاهر كلام الإمام، ويكون ذلك دالًا على أن تغيير الماء بالسدر لا يخرجه عن طهوريته (¬2). قلت: الذي استقر عليه مذهبه: الثاني. قال في "الإقناع"، وغيره: ويسن ضرب سدر ونحوه، فيغسل برغوته رأسه، ولحيته فقط، وبدنه بالثُّفْل (¬3)، ويكون السدر في كل غسلة، ثم يفيض الماء القَرَاح -أي: الخالص من السدر- على جميع بدنه، فيكون ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 321). (¬3) الثُّفل -بضم الثاء-: ما استقر تحت الشيء من كدرة. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1256)، (مادة: ثفل).

ذلك غسلة واحدة، يجمع فيها بين السدر والماء القراح، يفعل ذلك ثلاثًا، إلا أن الوضوء في الأولى فقط (¬1). وأما ظاهر رواية حنبل: فإنه إنما يجعل السدر في أول غسلة، واختاره جماعة؛ وفاقًا للشافعي، ونقل حنبل أيضًا: ثلاثًا بسدر، وآخرها بماء. واختلف الحنفية: هل السدر في الثانية، أو في الثالثة (¬2)؟ ومذهب الشافعي -على ما نقله القسطلاني- كمعتمد ما استقر عليه مذهبنا (¬3). وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- لأم عطية: (واجعلْنَ في) الغسلة (الأخيرة كافورًا)، وهو الطيب المعروف من شجر بجبال الهند والصين، يظل خَلْقًا كثيرًا، وتألفه النمورة، وخشبه أبيض هش، ويوجد في أجوافه الكافور، وهو أنواع، ولونه أحمر، وإنما يتبيض بالتصعيد؛ كما في "القاموس" (¬4). وفي "تذكرة داود الأنطاكي" ما ملخصه: الكافور: اسم لِصمْغِ شجرة هندية، تكون بتخوم سرنديب وما يلي المحيط، وتعظم حتى تظل مئة فارس، خشبها سبط شديد البياض خفيف ذكي الرائحة، وليس لها زهر ولا حمل. والكافور: إما متصاعدًا منها إلى خارج، وهو الرياحي. وإما: موجود في داخل العود يتساقط إذا نشرت، وهو القيصوري -بالقاف والتحتية-، ويقال: بالفاء والنون-، ويصعد هذا فيلحق بالأول. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 337). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 162). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (2/ 386). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 606)، (مادة: كفر).

وإما: مختلط بالخشب غليظ خشن اللمس، فيه زرقة، ويسمى: الإزدار، والإذار، وهو أن يرض الخشب، ويعرى بالطبخ، ثم يصفى، وهذا هو كافور الموتى، ويسمى: أرغول (¬1). (أو) قال -عليه السلام-: "اجعلن في الغسلة الأخيرة (شيئًا من كافور) "، شكٌّ من الراوي أيَّ اللفظين قال. والأولُ محمول على الثاني؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات، فيصدق بكل شيء منه. وحكمة جعله في الأخيرة من الغسلات: للطيب، ولتقوية بدن الميت وحفظه، إذ لو كان في غير الأخيرة، أذهبه الغسل بعدها، فلا يحصل الغرض من حفظه بدنَ الميت (¬2). قال في "الفروع": ويَجعل في الأخيرة كافورًا، خلافًا لأبي حنيفة، قال: وفي مذهبه خلاف، ومن العجب أن بعض أصحابه خطَّأ من نقل عنه: لا يستحب (¬3). ويجعل مع الكافور سدرًا؛ لأن في حديث أم سلمة: "إذا كان في آخر غسلة من الثالثة، أو غيرها، فاجعلْنَ ماء فيه شيء من كافور، وشيء من سدر، ثم اجعلي ذلك في خرقة جديدة، ثم أفرغيه عليها، وابدئي برأسها، حتى يبلغ رجليها" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تذكرة أولي الألباب في الجامع للعجب العجاب" لداود بن عمر الأنطاكي (2/ 72). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 129). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 162). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (25/ 124)، و"البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 4)، لكن من حديث أم سليم -رضي اللَّه عنها-.

والذي أفصح به كلام علمائنا، وغيرهم: أن يجعل ذلك في ماء، ويصب على الميت في آخر غسلة، وهذا ظاهر ما في "الصحيحين". وقيل: إذا كمل غسله، طُيِّبَ بالكافور قبل التكفين (¬1). ويكره تركه؛ كما في "الأم" للإمام الشافعي (¬2)، وليكن بحيث لا يفحش التغير به إن لم يكن صلبًا (¬3). والحكمة فيه: التطيب للمصلين، والملائكة، مع تقوية البدن، كما تقدم آنفًا، ودفعه الهوام، وردع ما يتحلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إلى الميت، لشدة برده (¬4). (فإذا فرغتن) من غسلها، (فآذننِي) -بمد الهمزة، وكسر المعجمة، وتشديد النون الأولى المفتوحة، وكسر الثانية-؛ أي: أعلمنني (¬5). قالت أم عطية -رضي اللَّه عنها-: (فلما فرغنا) -بصيغة الماضي لجماعة المتكلمين-، وللأصيلي: فرغن -بصيغة الماضي لجمع المؤنث الغائب- (¬6). (آذناه)؛ أي: أعلمناه -صلى اللَّه عليه وسلم- بفراغنا من غسلها، (فأعطانا حَقْوه) -بفتح الحاء المهملة، وقد تكسر، وهي لغة هذيل، بعدها قاف ساكنة-؛ أي: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 132). (¬2) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 265). (¬3) انظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 334). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 129). (¬5) انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 160)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 129). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 129).

إزاره، والحقو في الأصل: معقد الإزار -كما تقدم-، فسمي به ما يشد عليه توسعًا (¬1)، (فقال: أَشْعِرْنَها)؛ أي: بقطع همزة "أشعرنها"؛ أي: ابنته زينب، أو أم كلثوم -على الخلاف الذي تقدم- (به)؛ أي: حقوه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ أي: اجعلنه شعارها؛ أي: ثوبها الذي يلي جسدها. (تعني) أم عطية بقولها: "حقوه": (إزاره) -عليه الصلاة والسلام-، وإنما فعل ذلك: لينالها بركة ثوبه، وأَخَّره، ولم يناولهن إياه أولًا؛ ليكون قريبَ العهد من جسده الشريف، حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل، لا سيما مع قرب عهده بعرقه الكريم (¬2). (وفي رواية) حفصة بنت سيرين، عن أم عطية بعد قوله: "أو خمسًا، (أو سبعًا) " بدل "أو أكثر من ذلك"؛ كما أشرنا إليه سابقًا، إذ لم تجتمع اللفظتان إلا عند أبي داود، كما مر آنفًا (¬3). (وقال) -عليه الصلاة والسلام-، في هذه الرواية: (ابدأن) في غسلها (بميامنها) جمع ميمنة؛ لأنه كان يحب التيمن في شأنه كله (¬4)، (و) ابدأن أيضًا بـ (مواضع الوضوء منها)؛ لأن الحي يبدأ بالوضوء في غسله، ولشرف هذه الأعضاء. (قالت أم عطية) -رضي اللَّه عنها-: (ومشطناها) -بالتخفيف-؛ أي: سرحنا شعرها، (وجعلنا رأسها)؛ أي: شعر رأسها (ثلاثة قرون)؛ أي: ثلاثة ضفائر بعد أن حللناه بالمشط. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 210). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 129). (¬3) بل قد اجتمع اللفظان في رواية البخاري -كما تقدم-. (¬4) تقدم تخريجه.

وفي لفظ: فضفرنا ناصيتها، وقرنيها ثلاثة قرون، وألقيناها خلفها (¬1)، وهذا مذهب الإمام أحمد، والشافعية، وقال الحنفية: يُجعل ضفيرتان على صدرها. قال في "الفروع": ويضفر شعر المرأة ثلاثة قرون، ويسدل خلفها، وقال أَبو بكر: أمامها، لا أنه يضفر ضفرتين على صدرها، خلافًا لأبي حنيفة (¬2). وذكر غير واحد من الحنفية: لا يضفر، ولكن يرسل مع خديها من بين يديها من الجانبين، ثم يرسل عليه الخمار؛ لأن ضفره يحتاج إلى تسريح، فيقطع وينتف. وما في الحديث أصح وأثبت؛ وبه قال الشافعي، وإسحاق، وابن المنذر (¬3). نعم، الإمام أحمد يكره تمشيط الشعر؛ لكونه يقطع الشعر وينتفه، وأنكر المشط، وتأول قول أم عطية: "مشطناها" على إرادة: "ضفرناها"، واللَّه أعلم (¬4). * * * ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 5). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 163). (¬3) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (2/ 327). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 173).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْا-، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بعَرَفَةَ، إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ، أو قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا" (¬1). وفي روايةٍ: "وَلَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلا رَأْسَهُ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1206)، كتاب: الجنائز، باب: الكفن في ثوبين، و (1207)، باب: الحنوط للميت، و (1742)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة، و (1751 - 1752)، باب: المحرم يموت بعرفة، و (1753)، باب: سُنَّة المحرم إذا مات، و (1754)، باب: الحج والنذور عن الميت، والرجل يحج عن المرأة، ومسلم (1206/ 93 - 97، 99 - 103)، كتاب: الجنائز، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات؟، وأبو داود (3238 - 3241)، كتاب: الجنائز، باب: المحرم يموت كيف يصنع به؟، والنسائي (1904)، كتاب: الجنائز، باب: كيف يكفن المحرم إذا مات؟، و (2853)، كتاب: مناسك الحج، باب: غسل المحرم بالسدر إذا مات؟ و (2855 - 2856)، باب: النهي عن أن يحنط المحرم إذا مات، و (2858)، باب: النهي عن تخمير رأس المحرم إذا مات، والترمذي (951)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في المحرم يموت في إحرامه. (¬2) رواه مسلم (1206/ 98)، كتاب: الجنائز، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات، والنسائي (2714)، كتاب: مناسك الحج، باب: تخمير المحرم وجهه ورأسه، =

الوَقْصُ: كَسْرُ العُنقُ. * * * (عن) حبر الأمة (عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: بينما) -بالميم-، وأصله "بين"، ثم زيد فيه الألف والميم: ظرف زمان يضاف إلى جملة (رجل) لم يعرف الحافظ ابن حجر اسمه (¬1)، وكذلك البرماوي لم يبينه في "مبهمات العمدة" (واقف بعرفة) للحج عند الصخرات، وليس المراد: خصوصَ الوقوف المقابل للقعود؛ لأنه كان راكبًا ناقته، ففيه إطلاق لفظ الواقف على الراكب (¬2) (إذ وقع عن راحلته)؛ أي: ناقته التي صلحت للرحل، والجملة جواب "بينما"، (فوقصته، أو قال: فأوقصته) شك الراوي أيَّ اللفظين قال. والمعروف عند أهل اللغة بدون الهمز، فالثاني شاذ؛ أي: كسرت عنقه، والضمير المرفوع في "فوقصته" للراحلة، والمنصوب للرجل (¬3). ¬

_ = و (2854)، كتاب: باب، في كم يكفن المحرم إذا مات؟، و (2857)، باب: النهي عن أن يخمر وجه المحرم ورأسه إذا مات، وابن ماجه (3084)، كتاب: المناسك، باب: المحرم يموت. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 175)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 221)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 126)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 166)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 774)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 160)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 136)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 48)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 92)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 75). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 136). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

قال في "القاموس": وقص عنقه؛ كوعد: كسرها، فوقصت لازم ومتعد، ووقصت به راحلته تقصه (¬1)، ونحوه في "النهاية" (¬2). (فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين) يحتمل إرادة ثوبين غير ثوبيه اللذين عليه، فربما استدل به على إبدال ثياب المحرم. قال في "الفتح": وليس بشيء؛ لأنه جاء في عدة ألفاظ في "الصحيحين"، وغيرهما: "في ثوبيه" (¬3) وللنسائي: "في ثوبيه اللذين أحرم فيهما" (¬4). وإنما لم يزده ثالثًا؛ مكرمة له، كما في الشهيد، حيث قال: "زملوهم بدمائهم" (¬5). واستدل به على جواز الاقتصار في الكفن على ثوبين. (ولا تحنطوه) -بتشديد النون المكسورة-؛ أي: لا تجعلوا في شيء من غسلاته، أو في كفنه حنوطًا. قال القاضي عياض: والحَنوط -بفتح الحاء المهملة-: ما يطيب به ¬

_ (¬1) انظر: " القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 818)، (مادة: وقص). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 213). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1753)، وعند مسلم برقم (1206/ 93، 98، 99). (¬4) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (1904). (¬5) رواه النسائي (2002)، كتاب: الجنائز، باب: مواراة الشهيد في دمه، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 431)، عن عبد اللَّه بن ثعلبة -رضي اللَّه عنه-. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 136).

الميت من طيب يخلط، وهو الحناط، والكسر أكثر (¬1). وإنما نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يحنط؛ لكونه محرمًا، وإلا، فالحنوط سنة. قال في "الفروع": يستحب تبخير الأكفان، بعد رشها بماء ورد وغيره، ليعلق ويبسط بعضها فوق بعض، ويجعل أحسنها أعلاها؛ ليظهر للناس كعادة الحي، ويذرّ بينها حنوطًا، وهو أخلاط من طيب، لا ظاهر العليا؛ اتفاقًا، ولا على الثوب الذي على النعش، نقله الجماعة؛ لكراهة السلف، ويطيب مواضع سجوده، ومغابنه، نص عليه الإمام أحمد، وإن طيب كله، فحسن، نعم يكره داخل عينيه، وفاقًا، وكره ورس وزعفران في حنوط، قال صاحب "المحرر": لأجل لونه، فربما ظهر على الكفن. وقال أَبو المعالي: لاستعماله غذاء وزينة، ولا يعتاد التطيب به، ويكره طليه بِصَبِر ليمسكه، وبغيره ما لم ينقل (¬2). (ولا تخمروا) -بالخاء المعجمة-؛ أي: لا تغطوا (رأسه)، بل أبقوا له أثر إحرامه؛ من منع ستر رأس الرجل، ومنعه المخيط، ووجه المرأة، ومنع أخذ شيء من ظفر، وشعر؛ (فإنه) الفاء تعليلية؛ أي: لأنه (يبعث يوم القيامة ملبيًا)؛ أي: بصفة الملبين، بنسكه الذي مات فيه من حج، أو عمرة، أو هما، قائلًا: "لبيك اللهم لبيك". قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على أن المحرم إذا مات يبقى في حقه حكم الإحرام (¬3). قال شمس الدين في "شرح المقنع": إذا مات المحرم، لم يبطل حكم ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 203). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 178 - 179). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 166).

إحرامه بموته، ويجنب ما يجنبه المحرم؛ من الطيب، وتغطية الرأس، ولبس المخيط، وقطع الشعر، روي ذلك عن عثمان، وعلي، وابن عباس -رضي اللَّه عنهم-، وبه قال عطاء، والثوري، والشافعي، وإسحاق. وقال مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة: يبطل إحرامه بموته، ويصنع به ما يصنع بالحلال، وروي ذلك عن: عائشة، وابن عمر -رضي اللَّه عنهم-، وروي عن طاوس؛ قالوا: لأنها عبادة شرعية بطلت بالموت (¬1)؛ لانقطاع العبادة لزوال محل التكليف، وهو الحياة، لكن اتبع من أبقى حكمه الحديث، وهو مقدم على القياس (¬2). قال ابن دقيق العيد: خالف في ذلك -أي: بقاء حكم الإحرام بعد الموت-: مالك، وأبو حنيفة، وهو مقتضى القياس، وغاية ما اعتذر به عن الحديث؛ ما قيل: إنه -صلى اللَّه عليه وسلم- علل هذا الحكم في هذا المحرم بعلة لا يعلم وجودها في غيره، وهو أنه يبعث يوم القيامة ملبيًا، وهذا الأمر لا يعلم وجوده في غير هذا المحرم لغير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والحكم إنما يعم في غير محل النص بعموم علته، وغير هؤلاء يرى أن هذه العلة إنما ثبتت لأجل الإحرام؛ فتعم كل محرم، انتهى (¬3). قال في "شرح المقنع": فإن قيل: هذا خاص له؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبيًا، قلنا: حكم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في واحد حكمه في مثله، إلا أن يرد تخصيصه؛ ولهذا ثبت حكمه في شهداء أحد في سائر الشهداء (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 332). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 166). (¬3) المرجع السابق، (2/ 166 - 167). (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 332).

(وفي رواية) لمسلم من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (ولا تخمروا وجهه، ولا رأسه) (¬1). وفي لفظ آخر: "ولا تغطوا وجهه؛ فإنه يبعث يلبي" (¬2). قال في "شرح المقنع": اختلف عن الإمام أحمد في تغطية الوجه: فعنه: لا يغطى، نقلها عنه إسماعيل بن سعيد، وعنه: لا بأس بتغطية وجهه، نقلها عنه سائر أصحابه. ¬

_ (¬1) قلت: فات الشارح -رحمه اللَّه- التنبيهُ على أمرين: أولهما: أن لفظ مسلم فيه تقديم وتأخير؛ إذ قال فيه: "ولا تخمروا رأسه ولا وجهه". ثانيهما: قال البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 393): وهو -أي: ذكر الوجه- وهمٌ من بعض رواته في الإسناد والمتن جميعًا، والصحيح: "لا تغطوا رأسه" كما أخرجه البخاري، وذكر "الوجه" فيه غريب. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 54): وفي كل ذلك نظر، فإن الحديث ظاهره الصحة، ولفظه عند مسلم من طريق إسرائيل، عن منصور وأبي الزبير كلاهما، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فذكر الحديث، قال منصور: "ولا تغطوا وجهه"، وقال أَبو الزبير: "ولا تكشفوا وجهه"، وأخرجه النسائي من طريق عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير بلفظ: "ولا تخمروا وجهه ولا رأسه". وأخرجه مسلم أيضًا من حديث شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير بلفظ: "ولا يمس طيبًا خارج رأسه". قال شعبة: ثم حدثني به بعد ذلك فقال: خارج رأسه ووجهه، انتهى. وهذه الرواية تتعلق بالتطيب، لا بالكشف والتغطية، وشعبة أحفظ من كل من روى هذا الحديث، فلعل بعض رواته انتقل ذهنه من التطيب إلى التغطية. وقال أهل الظاهر: يجوز للمحرم الحي تغطية وجهه، ولا يجوز للمحرم الذي يموت، عملًا بالظاهر في الموضعين. وقال آخرون: هي واقعة عين لا عموم فيها؛ لأنه علل ذلك بقوله: "لأنه يبعث يوم القيامة ملبيًا"، وهذا الأمر لا يتحقق وجوده في غيره، فيكون خاصًا بذلك الرجل، ولو استمر بقاؤه على إحرامه، لأمر بقضاء مناسكه ... إلى آخر كلام الحافظ -رحمه اللَّه-. (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1206/ 103).

نعم، لا يغطى وجه المحرم، واللَّه أعلم (¬1). قال الحافظ -رحمه اللَّه-: (الوقص: كسر العنق)، وقد وردت هذه اللفظة بعدة ألفاظ، تقدم منها: فوقصته، وأوقصته، وفي لفظ آخر: "فأقصعته" (¬2) -بصاد، فعين مهملتين-، وقال: "فأقعصته" (¬3) -بتقديم العين على الصاد-؛ أي: قتلته سريعًا. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 322). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1207، 1259). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1207، 1751)، وعند مسلم برقم (1206/ 94، 101).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا (¬1). (عن أم عطية) نسيبة (الأنصارية) -رضي اللَّه عنها-، (قالت: نهينا) -معشر النساء-، وهو -بضم النون، وكسر الهاء، مبنيًا لما لم يسم فاعله-، وفي بعض الروايات، كما عند الإسماعيلي، وابن شاهين، بسند صحيح: أنها قالت: نهانا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) (عن اتباع الجنائز) نهي تنزيه ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1219)، كتاب: الجنائز، باب: اتباع النساء الجنائز، ومسلم (938/ 34 - 35) كتاب: الجنائز، باب: نهي النساء عن اتباع الجنائز، وأبو داود (3167)، كتاب: الجنائز، باب: اتباع النساء الجنائز، وابن ماجه (1577)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في اتباع النساء الجنائز. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 382)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 591)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 2)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 168)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 776)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 145)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 63)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 108)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 165). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 145).

لا تحريم (¬1)؛ بدليل قولها: (ولم يعزم علينا) -بضم الياء، وفتح الزاي، مبنيًا للمفعول-؛ أي: نهيًا غير محتم، فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم، وهذا قول الجمهور (¬2). قال في "شرح المقنع": كره ذلك ابن مسعود، وابن عمر، وأبو أمامة، وعائشة، ومسروق، والحسن، والنخعي، والأوزاعي، وإسحاق (¬3). ورخص فيه مالك، وكرهه للشابة، وقال أَبو حنيفة: لا ينبغي (¬4). واستدل للجواز: بما رواه ابن أبي شيبة، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان في جنازة، فرأى عمر -رضي اللَّه عنه- امرأة، فصاح بها، فقال: دعها يا عمر. . .، الحديث، وأخرجه ابن ماجه برجال ثقات (¬5). وأما ما رواه ابن ماجه أيضًا وغيره، مما يدل على التحريم؛ فضعيف، وهو ما رواه: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج، فإذا نسوة جلوس، قال: "ما يجلسكن؟ "، قلن: ننتظر الجنازة، قال: "هل تغسلن؟ "، قلن: لا، قال: "هل تحملن؟ "، قلن: لا، قال: "هل تدلين فيمن يدلي؟ "، قلن: لا، قال: "فارجعن مأزورات غير مأجورات" (¬6). ¬

_ (¬1) قاله القرطبي في "المفهم" (2/ 591). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 145). (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 364). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 2)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 168). (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (11295)، وابن ماجه (1587)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في البكاء على الميت. (¬6) رواه ابن ماجه (1578)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في اتباع النساء الجنائز.

وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما-، قال: قبرنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم -يعني: ميتًا-، فلما فرغنا، انصرف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وانصرفنا معه، فلما حاذى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بابه، وقف، فإذا نحن بامرأة مقبلة، قال: أظنه عرفها، فلما ذهبت، إذا هي فاطمة -رضي اللَّه عنها-، فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أخرجكِ يا فاطمةُ من بيتك؟ "، قالت: أتيت يا رسول اللَّه أهل هذا البيت، فرحصت إليهم ميتهم، أو عزيتهم به، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لعلك بلغت معهم الكدى؟ "، فذكر تشديدًا في ذلك، قال: فسألت ربيعة بن سيف عن الكدى، فقال: القبور فيما أحسب. رواه أَبو داود (¬1)، والنسائي بنحوه، إلا أنه قال في آخره: فقال: "لو بلغتها معهم، ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك" (¬2). وظاهر كلام الحافظ المنذري: أن هذا الحديث حسن، قال المنذري: الكدى -بضم الكاف، وبالدال المهملة، مقصور-: هو المقابر (¬3). قال ابن دقيق العيد: الحديث الذي جاء في فاطمة -رضي اللَّه عنها-: إما أن يكون ذلك لعلو منصبها، وحديث أم عطية في عموم النساء، أو يكون الحديثان محمولين على اختلاف حالات النساء (¬4). قلت: حرم اتباع الجنائز للنساء: الآجريُّ من أئمة علمائنا، وهو رواية عن مالك في الشابة، وقال: جميع ما يفعل النساء في الجنائز محظور عند العلماء. ¬

_ (¬1) رواه أَبو داود (3123)، كتاب: الجنائز، باب: في التعزية. (¬2) رواه النسائي (1880)، كتاب: الجنائز، باب: النعي، وقال النسائي: ربيعة بن سيف ضعيف. (¬3) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (5380)، (4/ 190 - 191). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 168).

قال أَبو المعالي: يمنعن من اتباعها، وذكره بعضهم قول الجمهور من العلماء. وقال أَبو حفص: هو بدعة، ويجب طردهن، فإن رجعن، وإلا رجع الرجال بعد أن يحثوا في وجوههن التراب، قال أَبو حفص: ويحرم بلوغها المقبرة؛ للخبر في ذلك، ثم يحمل على وقت تحريم زيارتهن، ذكر ذلك علماؤنا، وهو تلخيص ما في "الفروع" (¬1). تنبيه: الذي تدل عليه الأحاديث: حرمة اتباع النساء الجنائز، وهو مخالف لحديث أم عطية، وحديث أم عطية أصح؛ فإنه متفق عليه، وما سواه لا يقاد به، فضلًا عن أن يقاومه، لا جرم وجب الأخذ بما دل عليه من الكراهة، دون التحريم، هذا إذا لم يبد منهن محظور، وإلا، حرم؛ اتفاقًا، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 202 - 204).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "أَسْرِعُوا بِالجَنَازةِ؛ فَإنْ تَكُ صَالِحَةً، فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلكَ، فَشَرٌّ تَضَعُونَه عَنْ رِقَابِكُمْ" (¬1). * * * (عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-): أنه (قال: أسرعوا) ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1252)، كتاب: الجنائز، باب: السرعة بالجنازة، واللفظ له، ومسلم (944/ 50 - 51)، كتاب: الجنائز، باب: الإسراع بالجنازة، وأبو داود (3181)، كتاب: الجنائز، باب: الإسراع بالجنازة، والنسائي (1910 - 1911)، كتاب: الجنائز، باب: السرعة بالجنازة، والترمذي (1015)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الإسراع بالجنازة، وابن ماجه (1477)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في شهود الجنائز. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 122)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 401)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 602)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 12)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 169)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 778)، و"طرح التثريب" للعراقي (3/ 288)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 183)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 113)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 105)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 114).

إسراعًا خفيفًا بين المشي المعتاد، والخبب (بالجنازة)؛ لأن ما فوق ذلك يؤدي إلى انقطاع الضعفاء، أو مشقة الحامل، فيكره، وهذا إنما يشرع إذا لم يضره الإسراع، فإن ضره، فالثاني أفضل، فإن خيف عليه تغير أو انفجار، أو انتفاخ، زيد في الإسراع (¬1)، والسرعة -بالضم-: نقيض البطء (¬2). ثم بين -صلى اللَّه عليه وسلم- علة الإسراع بقوله: (فإن تك) بحذف النون تخفيفًا؛ أي: الجنازة، يعني: الميت (صالحة) -بالنصب- خبر كان، (فخير) -بالرفع- خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهو خير (تقدمونها)؛ أي: الجنازةَ (إليه)؛ أي: إلى الخير، باعتبار الثواب، أو الإكرام الحاصل له في قبره المهيأ له فيه، فيسرع به ليلقاه قريبًا، وفي رواية: "فإن كانت صالحة، قربتموها إلى الخير" (¬3)، (وإن تك) الجنازة (سوى ذلك)؛ أي: غير صالحة، (فـ) هو (شر تضعونه عن رقابكم)، فلا مصلحة لكم في مصاحبتها؛ لأنها بعيدة من الرحمة، وما كان بعيدًا عن الرحمة، فما لعبد عنده قيمة (¬4). وفي "البخاري" من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم؛ فإن كانت صالحة، قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة، قالت لأهلها: يا ويلها! أين تذهبون بها؟! يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، لو سمعها الإنسان، لصعق" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "طرح التثريب" للعراقي (3/ 291). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 939)، (مادة: سرع). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (944/ 51). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 13). (¬5) رواه البخاري (1253)، كتاب: الجنائز، باب: قول الميت وهو على الجنازة: "قدموني".

قال في "شرح المقنع": يستحب الإسراع بالجنازة، لا نعلم فيه خلافًا بين الأئمة؛ للحديث، قال: واختلفوا في الإسراع المستحب: فقال القاضي: هو إسراع لا يخرج عن المشي المعتاد، وهو قول الشافعي. وقال أصحاب الرأي: يخب ويرمل؛ لما روي عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: كنا في جنازة عثمان بن أبي العاص، وكنا نمشي مشيًا خفيفًا، فلحقنا أَبو بكرة، فرفع سوطه فقال: لقد رأيتنا مع رسول اللَّه نرمل رملًا (¬1). ولنا: ما روى الإمام أحمد من حديث أبي سعيد: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- مر عليه بجنازة تمخض مخضًا، فقال: "عليكم بالقصد في جنائزكم" (¬2)، ولأن الإسراف في الإسراع يمخضها، ويؤذي حاملها ومتبعها، ولا يؤمن على الميت. وقال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- في جنازة ميمونة: لا تزلزلوا، وارفقوا؛ فإنها أمكم (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أَبو داود (3183)، كتاب: الجنائز، باب: الإسراع بالجنازة، والنسائي (1912)، كتاب: الجنائز، باب: السرعة بالجنازة. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 406)، لكن من حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- بلفظ قال فيه: مرت برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جنازة تمخض مخض الزق، قال: فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليكم القصد". (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 140). وقد رواه البخاري (4780)، كتاب: النكاح، باب: كثرة النساء، ومسلم (1465)، كتاب: الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها، بلفظ: هذه زوجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا رفعتم نعشها، فلا تزعزعوها، ولا تزلزلوها، وارفقوا. . .، الحديث. وانظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 359 - 360).

وفي "الفروع": يستحب الإسراع بها دون الخبب؛ وفاقًا، نص عليه الإمام أحمد، زاد ابن الجوزي: وفوق السعي، وعند القاضي: لا يخرج عن المشي المعتاد كما ذكرناه عنه آنفًا، قال: وتراعى الحاجة، نص عليه؛ وفاقًا (¬1). فوائد: الأولى: يستحب التربيع في حمل الجنازة، ومعناه: الأخذ بقوائم السرير الأربع، وهو سنة؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي، وقاله المالكية، وصفته: أن يضع قائمة النعش اليسرى المقدمة على كتفه اليمنى، ثم ينتقل إلى المؤخرة، ثم يُمنى النعش على كتفه اليسرى يبدأ بمقدمتها، نقله الجماعة؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي. وعن الإمام أحمد رواية ثانية: أنه يبدأ بالمؤخرة (¬2). ودليل استحبابه ذلك: قول ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: "إذا تبع أحدكم جنازة، فليأخذ بجوانب السرير الأربع، ثم ليتطوع بعد أو ليذر؛ فإنه من السنة" رواه سعيد في "سننه" (¬3)، وهذا يقتضي سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولا يكره حمله بين العمودين، كل واحد من العامودين على عاتقه؛ خلافًا لأبي حنيفة، وليس حمل الميت بين العمودين كل واحد على عاتق الحامل له بأفضل من التربيع؛ خلافًا للشافعي. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 202). (¬2) المرجع السابق، (2/ 201). (¬3) ورواه عبد الرزاق في "المصنف" (6517)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9597)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 19).

وعن الإمام أحمد رواية: أن التربيع، وحملَه بين العمودين سواء؛ وفاقًا لمالك (¬1). الثانية: اتباع الجنازة سنة، وفاقًا، لقول البراء بن عازب -رضي اللَّه عنهما-: أمرنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باتباع الجنائز. متفق عليه (¬2). قال في "شرح المقنع": اتباع الجنازة على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يصلي عليها، ثم ينصرف، قال زيد بن ثابت: إذا صليت فقد قضيت الذي عليك (¬3)، وقال أَبو داود: رأيت الإمام أحمد ما لا أحصي صلَّى على جنائز، ولم يتبعها إلى القبر، ولم يستأذن (¬4). الثاني: أن يتبعها إلى القبر، ثم يقف حتى تدفن، ويأتي الكلام على هذا في آخر أحاديث الباب. الثالث: أن يقف بعد الدفن، فيستغفر له، ويسأل اللَّه له التثبيت، ويدعو له بالرحمة، فإنه روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه كان إذا دفن ميتًا، وقف، فقال: "استغفروا اللَّه له، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل" رواه أَبو داود (¬5). ويستحب لمتبع الجنازة: أن يكون متخشعًا، مفكرًا في مآله، متعظًا ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 201). (¬2) رواه البخاري (1182)، كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، ومسلم (2066)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء. (¬3) ذكره البخاري في "صحيحه" (1/ 445)، معلقًا بصيغة الجزم، ورواه عبد الرزاق في "المصنف" (6526) موصولًا. (¬4) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود" (ص: 224). (¬5) رواه أبو داود (3221)، كتاب: الجنائز، باب: الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف، عن عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-.

بالموت، وبما يصير إليه الميت، لا يتحدث بأحاديث الدنيا، ولا يضحك. قال سعد بن معاذ: ما تبعت جنازة، فحدثت نفسي بغير ما هو مفعول بها (¬1). ورأى بعض السلف رجلًا يضحك، فقال: تضحك، وأنت تتبع الجنازة؟! لا كلمتك أبدًا (¬2). الثالثة: يستحب كون المشاة أمام الجنازة، نص عليه الإمام أحمد؛ وفاقًا لمالك، والشافعي (¬3). قال في "شرح المقنع": أكثر أهل العلم يرون الفضيلة للماشي أن يكون أمام الجنازة، وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وابن الزبير، وأبي قتادة، وغيرهم من الصحابة -رضوان اللَّه عليهم (¬4) -. وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم، من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: أنه رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبا بكر، وعمر يمشون أمام الجنازة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (34796)، والطبراني في "المعجم الكبير" (5321)، وفيه: "مقول لها" بدل. "مفعول بها". (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 360 - 361). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 204). (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 361). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 8)، وأبو داود (3179)، كتاب: الجنائز، باب: المشي أمام الجنازة، والنسائي (1944)، كتاب: الجنائز، باب: الماشي من الجنازة، والترمذي (1007)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في المشي أمام الجنازة، وابن ماجه (1482)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في المشي أمام الجنازة.

وروى الطبراني، عن سالم: أن ابن عمر كان يمشي بين يدي الجنازة، وقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر وعمر يمشون أمامها (¬1). قال ابن المنذر: ثبت أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة. وقال أَبو صالح: كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمشون أمام الجنازة، ولأنهم شفعاء له بدليل قوله -عليه السلام-: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه" رواه مسلم (¬2)، والشفيع يتقدم المشفوع له (¬3). وقال الأوزاعي، وأصحاب الرأي: المشي خلفها أفضل؛ لما روى ابن مسعود، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "الجنازة متبوعة، ولا تتبع، ليس منا من تقدمها" رواه الإمام أحمد (¬4)، وفي سنده يحيى الجابر، قال يحيى بن معين فيه: لا شيء، وقال مرة: ضعيف. وقال ابن حبان: يروي المناكير، لا يجوز الاحتجاج به بحال. وفيه أَبو ماجد، وهو تابعي، قال الدارقطني: مجهول. قال الحافظ ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق": حديث أبي ماجد عن ابن مسعود، رواه أَبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وقال: غريب، وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف حديث أبي ماجد هذا (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (13133)، وكذا الإمام أحمد في "المسند" (2/ 37). (¬2) رواه مسلم (947)، كتاب: الجنائز، باب: من صلى عليه مئة شفعوا فيه. (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 362). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 394). (¬5) رواه أَبو داود (3184)، كتاب: الجنائز، باب: الإسراع بالجنازة، والترمذي =

وقال البيهقي: هو حديث يحيى بن عبد اللَّه الجابر، ضعيف، وأبو ماجدة، وقيل: أَبو ماجد مجهول، وقال الدارقطني: مجهول متروك. وقال البخاري: قال الحميدي، عن ابن عيينة، قلت ليحيى الجابر: من أَبو ماجد؟ قال: طار طير علينا، فحدثنا، وهو منكر الحديث، وقال الترمذي: أَبو ماجد رجل مجهول (¬1). واحتجوا بقول علي -رضي اللَّه عنه-: فضل الماشي خلف الجنازة، على الماشي قدامها، كفضل المكتوبة على التطوع، سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، رواه الإمام أحمد (¬2)، من غير سنده إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: إنه رأي للإمام علي، لا رواية. وأما رفعه لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: فرواه ابن شاهين، عن أبي سعيد، عن علي، فقال له أبو سعيد: قلت: برأيك تقول؟ قال: بل سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غير مرة، ولا مرتين، حتى بلغ سبع مرات (¬3). قال ابن الجوزي في "تحقيق التعليق": حديث باطل، في إسناده جماعة متروكون (¬4). ويستحب كون الراكب خلف الجنازة، باتفاق. وقد روى الإمام أحمد من حديث المغيرة بن شعبة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه ¬

_ = (1011)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في المشي خلف الجنازة، وابن ماجه (1484)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في المشي أمام الجنازة. (¬1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 141). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 97). (¬3) ورواه عبد الرزاق في "المصنف" (6267). (¬4) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (2/ 13).

قال: "الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها قريبًا عن يمينها، أو عن يسارها" (¬1). وفي "البخاري": عن أنس -رضي اللَّه عنه-: أنه قال: "أنتم مشيعون، فامشوا بين يديها وخلفها، وعن يمينها، وعن شمالها" (¬2). وقال غيره -أي: غير أنس-: امش قريبًا منها، وهذا موقوف على أنس، وهو يدل لقول صاحب "الرعاية" من علمائنا: أنه يمشي حيث شاء (¬3). وفي "الكافي": حيث مشى فحسن (¬4)، وهو قول الثوري وغيره، وبه قال ابن حزم، لكنه قيده بالماشي؛ لحديث المغيرة بن شعبة المروي في السنن الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم، مرفوعًا: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها" (¬5)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3180)، كتاب: الجنائز، باب: المشي أمام الجنازة، والنسائي (1942)، كتاب: الجنائز، باب: مكان الراكب من الجنازة، والترمذي (1031)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على الأطفال، وابن ماجه (1481)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في شهود الجنائز. (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" (1/ 442)، معلقًا. ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 482)، موصولًا. وانظر: "تغليق التعليق" لابن حجر (2/ 475). (¬3) وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 541). (¬4) انظر: "الكافي" لابن قدامة (1/ 266). (¬5) تقدم تخريجه عند الأربعة، ورواه ابن حبان في "صحيحه" (3049)، والحاكم في "المستدرك" (1343). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 183).

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسْطَهَا (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (325)، كتاب: الحيض، باب: الصلاة على النفساء وسنتها، و (1266)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على النفساء إذا ماتت في نفاسها، و (1267)، باب: أين يقوم من المرأة والرجل، ومسلم (964/ 87 - 88)، كتاب: الجنائز، باب: أين يقوم الإمام من الميت للصلاة عليه، وأبو داود (3195)، كتاب: الجنائز، باب: أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه، والنسائي (393)، كتاب: الحيض والاستحاضة، باب: الصلاة على النفساء، و (1976)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الجنازة قائمًا، و (1979)، باب: اجتماع جنائز الرجال والنساء، و (1035)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة، وابن ماجه (1493)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في أين يقوم الإمام إذا صلى على الجنازة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 430)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 615)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 170)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 779)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 162)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 429، 3/ 201)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 136)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 102)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 109).

(عن) أبي سعيد (سمرة) -بفتح السين المهملة، وضم الميم- (بن جندب) -بضم الدال المهملة، وفتحها- ابن هلال بن حَريج -بفتح الحاء المهملة، وكسر الراء، وبالجيم- الفزاري -بفتح الفاء، وبالزاي، فراء بعد الألف- حليف الأنصار، نزل الكوفة، وولي البصرة، وعداده في البصريين، توفي أبوه وهو صغير، فقدمت به أمه على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة، فتزوجها أنصاري، فكان في حجره حتى كبر، قيل: أجازه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أحد (-رضي اللَّه عنه-)، وتقدمت ترجمته في آخر باب: المواقيت. (قال: صليت وراء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-)؛ أي: خلفه، وإن كان جاء بمعنى قدام؛ كما في قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79]؛ أي: أمامهم (¬1)، وهو ظرف مكان ملازم للإضافة، ونصبه على الظرفية (على امرأة) هي: أم كعب الأنصارية، نقله ابن بشكوال، عن مصنف النسائي (¬2)، وهو في "صحيح مسلم": أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى على أم كعب، ماتت أم كعب وهي نفساء (¬3)، إلا أنه لم يصرح بأنه قام وسطها (ماتت في نفاسها) "في" هنا للتعليل، كما في قوله -عليه السلام-: "أن امرأة دخلت النار في هرة" (¬4)، (فقام) -صلى اللَّه عليه وسلم- (وسطها)، وفي لفظ: فقام عليها وَسَطَها (¬5) -بفتح السين-؛ أي: محاذيًا لوسطها، ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2523)، "مادة: "وري". (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 79). وتقدم تخريج الحديث عند النسائي برقم (393). (¬3) تقدم تخريجه برقم (964/ 87) عند مسلم. (¬4) رواه البخاري (3140)، كتاب: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، ومسلم (2619)، كتاب: التوبة، باب: في سعة رحمة اللَّه تعالى وأنها سبقت غضبه، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1266، 1267)، ومسلم برقم (964/ 87).

وعلى رواية المصنف بإسقاط لفظة "عليها"؛ تسكن السين المهملة، فيكون ظرفًا، ومن فتح جعله اسمًا، والمراد على الوجهين: عجيزتها (¬1)، وكون هذه المرأة في نفاسها وصف غير معتبر، اتفاقًا، وإنما هو حكاية أمر وقع (¬2). واختلف في [وصف] كونها امرأة: فاعتبرها الإمام أحمد، والشافعي، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد: فيقف الإمام والمنفرد حذاء صدر الرجل، ووسط المرأة، وفي "الترمذي" وحسنه: أن أنسًا -رضي اللَّه عنه- صلى على رجل، فقام عند رأسه، ثم صلى على امرأة، فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قام على الجنازة؛ من المرأة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم، فلما فرغ، قال: احفظوا. ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه (¬3). ولأن المرأة تخالف الرجل في موقف الصلاة، فجاز أن تخالفه هنا، وقيام الإمام عند وسطها أستر لها، فكان أولى؛ قاله في "شرح المقنع" (¬4). وقال ابن دقيق العيد: قيل: إن سبب ذلك؛ أن النساء لم يكن يسترن في ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 295). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 170). (¬3) رواه الترمذي (1034)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على الميت في المسجد، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 118)، وأبو داود (3194)، كتاب: الجنائز، باب: أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه، وابن ماجه (1494)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في أين يقوم الإمام إذا صلى على الجنازة. (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 344).

ذلك الوقت بما يسترن به اليوم، فقيام الإمام عند عجيزتها يكون كالسترة لها من خلفه، انتهى (¬1). ومشهور مذهب أبي حنيفة: أن يقوم الإمام والمنفرد من الرجل والمرأة حذاء الصدر. وقال مالك: يقف عند وسط الرجل؛ لأن ذلك يروى عن ابن مسعود، ويقف عند منكب المرأة؛ لأن الوقوف عند أعاليها أمثل وأسلم (¬2). قال في "الفروع": ويستحب وقوف الإمام عند صدر الرجل، ووسط المرأة، نقله واختاره الأكثر؛ وفاقًا للشافعي، والخنثى بينهما. وعنه -أي: الإمام أحمد-: يقف عند رأس الرجل، وعنه: عند صدريهما؛ وفاقًا لأبي حنيفة؛ لا عند وسطه ومنكبها؛ خلافًا لمالك (¬3). تتمة: جمعُ الموتى في الصلاة عليهم أولى من الصلاة على كل واحد على حدته، ويجعل وسط المرأة حذاء صدر الرجل، والخنثى بينهما. وإذا كانوا رجالًا فقط، أو نساء فقط، أو خناثى فقط: سوى بين رؤوسهم، ويقدم إلى الإمام من كل نوع أفضلهم، فإن تساووا، فسابق، فإن تساووا: فقرعة، ويقدم الفاضل أمام المفضولين في المسير. وعند الشافعية: إن جاءت الجنائز دفعة واحدة: قدم إلى الإمام الأفضل، لكن لا مزية للحر على الرقيق؛ لانقطاع الرق بالموت. وإن جاؤوا واحدًا بعد واحد: قدم أسبق كل نوع؛ فإن كانوا رجالًا: قدم ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 170). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 198). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 187).

إليه أسبقهم، وإن كانوا رجالًا، وصبيانًا، وخناثى، ونساءً: قدم الرجل على المرأة، وإن جاء بعدها، وكذلك الصبي يقدم على الخنثى، والخنثى على الأنثى، واللَّه سبحانه أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 343 - 345).

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بَرِىءَ مِنَ الصَّالِقَةِ والحَالِقَةِ والشَّافَّةِ (¬1). [الصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة]. * * * (عن أبي موسى عبد اللَّه بن قيس) الأشعري (-رضي اللَّه عنه-) تقدمت ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1234)، كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى من الحلق عند المصيبة، معلقًا، ومسلم (104/ 167)، كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، وأبو داود (3130)، كتاب: الجنائز، باب: في النوح، والنسائي (1863)، كتاب: الجنائز، باب: الحلق، و (1865 - 1867)، باب: شق الجيوب، وابن ماجه (1586)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 376)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 110)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 171)، و"العدة في شرح لعمدة" لابن العطار (2/ 781)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 165)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 92)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 155).

ترجمته في باب: السواك: (أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برىء) -بفتح الموحدة، وكسر الراء، وبالهمز- (من الصالقة) -بالصاد المهملة، والقاف-: الرافعة صوتها في المصيبة، قال ابن دقيق العيد: والأصل: السالقة -بالسين-، وهو: رفع الصوت بالعويل والندب، وقريب منه قوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19]، والصاد قد تبدل من السين، انتهى (¬1). وفي "النهاية": الصلق: الصوت الشديد، والمراد: رفعه في المصائب، وعند الفجيعة بالموت، ويدخل فيه النوح، ويقال بالسين (¬2)، (و) من (الحالقة) التي تحلق شعرها للمصيبة، (و) من (الشاقة) لثوبها لأجل المصيبة. وسبب إيراد أبي موسى لهذا الحديث: ما في "الصحيحين": أنه وجع وجعًا شديدًا، فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله -أي: حضنها، وهو - بتثليث الحاء المهملة-. زاد مسلم: فصاحت. وله من وجه آخر: أغمي على أبي موسى، فأقبلت امرأته أم عبد اللَّه تصيح برنة" (¬3). وفي "النسائي": هي أم عبد اللَّه بنت أبي دومة (¬4). وفي "تاريخ البصرة" لعمر بن شَبَّة: أن اسمها صفية بنت دمون، وأن ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 171). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 48). (¬3) وتقدم تخريجه عندهما في حديث الباب. (¬4) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (1866)، ولم يزد النسائي على قوله: "عن أم عبد اللَّه امرأة أبي موسى". وقد سماها الطبراني في "المعجم الأوسط" (1310).

ذلك وقع حين كان أَبو موسى أميرًا على البصرة، من قبل عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، فلم يستطع أَبو موسى أن يرد عليها شيئًا، فلما أفاق، قال: أنا، وفي لفظ: إني بريء ممن برىء منه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برىء من الصالقة، فذكره (¬1). قال القاضي: برىء من فعلهن، أو مما يستوجبن من العقوبة، أو من عهدة ما لزمني بيانه، وأصل البراءة: الانفصال، وليس المراد التبري من الدين، والخروج منه (¬2). قال النووي: ويحتمل أن يراد به ظاهره؛ وهو البراءة من فاعل هذه الأمور (¬3). وفي حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، مرفوعًا: "ثلاثة من الكفر باللَّه: شق الجيب، والنياحة، والطعن في النسب" رواه ابن حبان في "صحيحه" والحاكم، وقال: صحيح الإسناد (¬4)، وفي رواية لابن حبان: "ثلاث هي الكفر" (¬5). وفي "ابن ماجه"، و"صحيح ابن حبان"، عن أبي أمامة -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 165). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 377). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 111). (¬4) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1465)، والحاكم في "المستدرك" (1415). (¬5) رواه ابن حبان في "صحيحه" (3161). (¬6) رواه ابن ماجه (1585)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب، وابن حبان في "صحيحه" (3156).

وفي "سنن أبي داود" عن أسيد بن أبي أسيد التابعي، عن امرأة من المبايعات، قالت: كان فيما أخذ علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المعروف الذي أخذ علينا: ألا نخمش وجهًا، ولا ندعو ويلًا، ولا نشق جيبًا، ولا ننشر شعرًا (¬1). تنبيه: معتمد المذهب: عدم جواز الندب، والنياحة، وشق الثياب، ولطم الخدود، وما أشبه ذلك من الصراخ، وخمش الوجه، ونتف الشعر ونشره وحلقه. وفي "الفصول" للإمام ابن عقيل: يحرم النحيب، والتعداد، وإظهار الجزع؛ لأن ذلك يشبه التظلم من الظالم، وهو عدل من اللَّه تعالى. نعم، يباح يسير الندبة الصدق، إذا لم يخرج مخرج النوح، ولا قصد نظمه (¬2)؛ كقول سيدة نساء العالمين: يا أبتاه! أجاب ربًا دعاه (¬3)، ونحو ذلك. قال في "شرح المقنع": وقال بعض أصحابنا: هو مكروه، ونقل حرب عن الإمام أحمد كلامًا يحتمل إباحة النوح والندب، واختاره الخلال وصاحبه؛ لأن واثلة بن الأسقع، وأبا وائل: كانا يستمعان النوح ويبكيان. وقال الإمام أحمد: إذا ذكرت المرأة مثل ما حكي عن فاطمة، في مثل الدعاء، لا يكون مثل النوح، يعني: لا بأس به، وحكى ما روي عنها؛ من قولها: يا أبتاه! من ربه ما أدناه، إلى جبريل أنعاه، يا أبتاه! أجاب ربًا ¬

_ (¬1) رواه أَبو داود (3131)، كتاب: الجنائز، باب: في النوح. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 226 - 227). (¬3) رواه البخاري (4193)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-.

دعاه (¬1). قال: وروي عن علي، عن فاطمة -رضي اللَّه عنهما-: أنها أخذت قبضة من تراب قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فوضعتها على عينيها، ثم قالت: [من الكامل] ماذا على مَنْ شَمَّ تربةَ أحمدٍ ... ألا يشمَّ مدى الزمانِ غَواليا صُبَّتْ عليَّ مصائبٌ لو أَنَّها ... صُبت على الأيام صِرْنَ لياليا (¬2) والمذهب: التحريم؛ للأحاديث الصحيحة الصريحة (¬3). وفي "الفروع": يحرم الندب والنياحة -نص عليهما، والصراخ، وخمش الوجه، ونتف الشعر ونشره، وشق الثوب، ولطم الخدود، ونحوه؛ اتفاقًا، زاد جماعة: والتحفي، وذكره ابن عبد البر في النياحة إجماعًا (¬4)، ويأتي له تتمة في الثالث عشر، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه آنفًا. (¬2) قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (2/ 134): ومما ينسب إلى فاطمة -رضي اللَّه عنها-، ولا يصح، فذكر هذين البيتين. (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (2/ 430). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 226).

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر عَنْ عائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها-، قاَلتْ: لَمَّا اشْتكَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ذَكَرَ بَعْضُ نِسائِهِ كَنيسَةً رَأَيْنَها بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، يُقالُ لَها مارِيةَ، وكانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبيبَةَ أَتَتا أَرْضَ الحَبَشَةِ، فَذَكَرَتا مِنْ حُسْنِها وَتَصاويرَ فيها، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "أُولئكَ إذا ماتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، بَنَوا على قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّه" (¬1). ¬

_ (¬1) * تخريج الأحاديث: رواه البخاري (417)، كتاب: المساجد، باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية، ويتخذ مكانها مساجد، و (424)، باب: الصلاة في البيعة، و (1276)، كتاب: الجنائز، باب: بناء المسجد على القبور، واللفظ له، و (3660)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: هجرة الحبشة، ومسلم (528/ 16 - 18)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور، والنسائي (704)، كتاب: المساجد، باب: النهي عن اتخاذ القبور مساجد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 450)، و"المفهم للقرطبي" (2/ 127)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 11)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 171)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 783)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 404، 438)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 532)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 173)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 153).

(عن عائشة) الصديقة أم المؤمنين (-رضي اللَّه عنها-، قالت: لما اشتكى) من الشكاة، وهي: المرض (النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) -بالرفع- فاعل اشتكى، يعني: لما مرض مرضه الذي مات فيه، (ذكر بعض نسائه) -صلى اللَّه عليه وسلم- (كنيسة) -بفتح الكاف-، وهي: متعبد اليهود، أو النصارى، والكفار (رأينها بأرض الحبشة) لما كُنَّ مهاجرات من مكة إليها (يقال لها)؛ أي: لتلك الكنيسة: (مارية) -بكسر الراء، وتخفيف المثناة التحتية-: علم للكنيسة، (وكانت أم سلمة) -بفتح اللام- أم المؤمنين، واسمها: هند بنت أبي أمية المخزومية، (وأم حبيبة) -بفتح الحاء- أم المؤمنين أيضًا، اسمها: رملة بنت أبي سفيان -رضي اللَّه عنهما- (أتتا أرض الحبشة) مع زوجيهما اللذين كانتا معهما، وهما: أَبو سلمة، وعبد اللَّه بن جحش. وكان عبد اللَّه بن جحش، قد أسلم، وهاجر بزوجته أم حبيبة -رضي اللَّه عنها- إلى أرض الحبشة، ثم تنصر، ومات هناك على النصرانية، فتزوجها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما مر في قصة النجاشي. روى عنها: أخواها: معاوية، وعنبسه ابنا أبي سفيان، وغيرهما، روي لها عن رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسة وستون حديثًا، اتفقا على حديثين، ولمسلم مثلهما، روى لها الجماعة. توفيت سنة أربع وأربعين، وقيل: قبل معاوية بسنة، ومعاوية إنما مات في رجب سنة ستين. وأما أم سلمة: فهي هند بنت أبي أمية، واسمه: سهيل بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم المخزومية أم المؤمنين، ويقال: إن أم سلمة أول ظعينة دخلت المدينه مهاجرة. وكانت هي وزوجها أَبو سلمة أول من هاجر إلى أرض الحبشة، فولدت

له بها زينب، وولدت له بعد ذلك: سلمة، وعمر، ودرة، ومات أَبو سلمة -رضي اللَّه عنه- سنة أربع، أو ثلاث، فتزوجها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في ليال بقين من شوال من تلك السنة. وماتت سنة سبع وخمسين، وقيل: اثنتين وستين، وصلى عليها أَبو هريرة، وقيل: سعيد بن زيد، ورد: بأن وفاته كانت سنة إحدى وخمسين، ودفنت بالبقيع، وكان عمرها أربعًا وثمانين سنة، وهي آخر زوجات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- موتًا، وقيل: بل ميمونة. روي لها عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاث مئة حديث، وثمانية وسبعون حديثًا، اتفقا على ثلاثة عشر حديثًا، ولمسلم مثلها، وللبخاري ثلاثة (¬1). (فذكرتا)؛ أي: أم سلمة، وأم حبيبة (من حسنها)؛ أي: الكنيسة المسماة بمارية (وتصاوير) مصورةٍ (فيها، فرفع) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (رأسه) الشريف (فقال: أولئك) -بكسر الكاف، ويجوز فتحها- (إذا مات) منهم، وفي بعض نسخ البخاري: (فيهم)، ولفظ "جمع الصحيحين" للحافظ عبد الحق: "إن أولئك إذا كان فيهم" (¬2) (الرجل الصالح) فمات، (بنوا على قبره مسجدًا، ثم صوروا فيه)؛ أي: في ذلك المسجد (تلك الصور) جمع صورة. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 96)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1843)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (69/ 130)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 116)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 175)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 218)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 651)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 448). (¬2) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 357 - 358)، حديث رقم (735).

قال القرطبي: إنما صور أوائلهم الصور؛ ليتأنسوا بها، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون اللَّه عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها، فحذر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مثل ذلك؛ سدًا للذريعة المؤدية [إلى ذلك] (¬1). وفي لفظ: "صوروا تلك الصورة" (¬2) -بالإفراد-، يعني: التي مات صاحبها، فنفَّرَ -عليه الصلاة والسلام- عن مثل فعلهم، بقوله: (أولئك) -بفتح الكاف وكسرها- (شرار الخلق عند اللَّه)، ومحل القصد من حديث المنع من اتخاذ قبور الأنبياء والصلحاء وغيرهم مساجد، ومقتضى الذم والتنفير: التحريم، لا سيما وقد ثبت اللعن عليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى المصرية": بناء المساجد على القبور محرم، باتفاق الأئمة، ولو بنى عليه غير مسجد، نهي عنه أيضًا باتفاق العلماء، وإنما تنازعوا في تطيينه: فرخص فيه الإمام أحمد، والشافعي، وكرهه أَبو حنيفة، كالتجصيص، قال: والبناء على القبور من المساجد والترب محدث في الإسلام من قريب، انتهى (¬3). وقال ابن دقيق العيد في شرح حديث عائشة هذا: فيه دليل على تحريم مثل هذا الفعل، وقد تظاهرت دلائل الشريعة على المنع من التصوير، ولقد أبعد غاية البعد من قال: إن ذلك محمول على الكراهة، وأن هذا التشديد كان في ذلك الزمان؛ لقرب عهد الناس بعبادة الأوثان، وهذا الزمان حيث ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 127 - 128). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1276). (¬3) وانظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (27/ 160).

انتشر الإسلام، وتمهدت قواعده، لا يساويه في هذا المعنى، ولا يساويه في هذا التشديد. قال: وهذا باطل قطعًا؛ لأنه ورد في الأحاديث الإخبار عن أمر الآخرة بعذاب المصورين، وأنه يقال لهم: "أحيوا ما خلقتم"، وهذه علة مخالفة لما قاله مدعي الكراهة، وقد صرح بذلك في قوله -عليه السلام- "المشبهون بخلق اللَّه" (¬1)، وهذه علة عامة مستقلة مناسبة، لا تخص زمانًا دون زمان. قال: وليس لنا أن نتصرف في النصوص المتظاهرة المتظافرة، بمعنى خيالي يمكن ألا يكون هو المراد، مع اقتضاء اللفظ للتعليل بغيره؛ وهو التشبيه بخلق اللَّه، وقوله -عليه السلام-: "بنوا على قبره مسجدًا" إشارة إلى المنع من ذلك، وقد صرح به في الحديث الآخر؛ حيث لعن اليهود والنصارى؛ لكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (¬2). * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5610)، كتاب: اللباس، باب: ما وطىء من التصاوير، ومسلم (2107)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 171 - 172).

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر عنها: قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ: "لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ والنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، قَالَتْ: وَلَوْلَا ذَاكَ، أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا (¬1). * * * ¬

_ (¬1) * تخريج الأحاديث: رواه البخاري (425)، كتاب: المساجد، باب: الصلاة في البيعة، و (1265)، كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، و (1324)، باب: ما جاء في قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وعمر -رضي اللَّه عنهما-، و (3267)، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، و (4177 - 4179)، كتاب: المغازي، باب: مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته، و (5478)، كتاب: اللباس، باب: الأكسية والخمائص، ومسلم (529)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور، واللفظ له، والنسائي (703)، كتاب: المساجد، باب: النهي عن اتخاذ القبور مساجد، و (2046)، كتاب: الجنائز، باب: اتخاذ القبور مساجد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 451)، و"المفهم للقرطبي" (2/ 128)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 12)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 173)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 787)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 440)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 532)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 193).

(عنها) -أي: عن أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق -رضي اللَّه عنها، وعن أبيها- (قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مرضه الذي لم يقم منه)، وفي لفظ: في مرضه الذي مات فيه (¬1): (لعن اللَّه اليهود والنصارى)؛ أي: أبعدهم من رحمته، وطردهم عن دار كرامته (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وفي لفظ: "مسجدًا" (¬2) -بالإفراد- على إرادة الجنس. (قالت) عائشة -رضي اللَّه عنها-: (ولولا ذلك)؛ أي: خشية أن يتخذ قبره مسجدًا، (أبرز قبره) -عليه الصلاة والسلام-؛ أي: كشف وظهر، وفي لفظ: لأبرزوا قبره (¬3) -بلفظ الجمع- لكن لم يبرزوه؛ أي: لم يكشفوه، بل بنوا عليه حائلًا؛ لوجود خوف الاتخاذ، فامتنع الإبراز؛ لأن (لولا) امتناع لوجود (غير أنه خشي) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: غير أني أخشى (¬4) (أن يتخذ) قبره الشريف (مسجدًا). وهذا قالته عائشة -رضي اللَّه عنها- قبل أن يوسع المسجد، ولذا لما وسع، جعلت الحجرة الشريفة مثلثة الشكل محدودة، حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر المقدس مع استقبال القبلة (¬5). قال في "الفروع": يحرم اتخاذ المسجد على القبور، وبينها، ذكره بعضهم وفاقًا، قال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-: يتعين إزالتها، لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين، قال: ولا تصح الصلاة فيها على ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1265). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1265). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1265). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1265). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 200).

ظاهر المذهب؛ للنهي واللعن، وليس فيها خلاف؛ لكون المدفون فيها واحدًا، وإنما اختلف أصحابنا في المقبرة المجردة عن مسجد؛ هل حدها ثلاثة أقبر، أو ينهى عن الصلاة عند القبر الفذ؟ على وجهين (¬1). وفي "الهدي" للإمام ابن القيم: لو وضع المسجد والقبر معًا، لم يجز، ولا يصح الوقف، ولا الصلاة (¬2). قال العلامة الشيخ مرعي في كتابه "زيارة المشاهد والقبور": واختلف الفقهاء في علة النهي: فذهبت طائفة: إلى أنه تعبدي. وذهب آخرون: إلى أن سبب كراهة الصلاة في المقبرة، ليس إلا كونها مظنة للنجاسة؛ لما يختلط بالتراب من صديد الموتى، وبنى على هذا الفرق بين المقبرة الجديدة، والقديمة، وبين أن يكون بينه وبين التراب حائل، أو لا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المقصود الأكبر بالنهي عن الصلاة عند القبور، ليس هو هذا؛ فإنه -عليه السلام- قد بين: أن اليهود والنصارى كانوا "إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا" (¬3)، فلعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعل ذلك، يحذر أمته ويخوفهم من فعل مثل ذلك، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" (¬4)، فهذا يبين: أن ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 213 - 214). (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 601). (¬3) تقدم تخريجه قريبًا. (¬4) رواه الترمذي (317)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، وقال: فيه اضطراب، وابن ماجه (745)، كتاب: المساجد =

سبب النهي ليس هو مظنة النجاسة، وإنما هو مظنة اتخاذها أوثانًا، ولئلا تتخذ ذريعة إلى نوع من الشرك؛ بالعكوف عليها، وتعلق القلوب بها رغبة ورهبة، ولما في ذلك من مشابهة الكفار بالصلاة عند القبور. وقد قال الإمام الشافعي: أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدًا؛ مخافة الفتنة عليه، وعلى من بعده من الناس، ولا سيما وقد نبه -عليه الصلاة والسلام- على العلة بقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد" (¬1). وسبب عبادة اللات: قبر رجل صالح كان هناك يلت السويق بالسمن، ويطعم الحاج، ولذا قرىء: اللاتّ -بتشديد التاء-. وذكروا أن وَدًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا: أسماء قوم صالحين، كانوا بين آدم، ونوح -عليهما السلام-، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم، كانوا أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون، وسوس لهم الشيطان، وقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر، فعبدوهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالعكوف على القبور، والتمسح بها، وتقبيلها، والدعاء عندها، ونحو ذلك؛ هو أصل الشرك وعبادة الأوثان. ¬

_ = والجماعات، باب: المواضع التي تكره فيها الصلاة، عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 172)، ومن طريقه: ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 240 - 241)، عن عطاء بن يسار مرسلًا. ورواه الحميدي في "مسنده" (1025)، والديملي في "مسند الفردوس" (2010)، وغيرهما، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

وقال قتادة وغيره: كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح، ثم اتخذها العرب بعد ذلك، فالسلف لم ينهوا عن الصلاة عند القبور، واتخاذها مساجد، إلا لما يخاف عليهم من الفتنة، وهذا بين ظاهر، واللَّه أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (27/ 332 - 333).

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "لَيْسَ مِنَّا ضَرَبَ الخَدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، ودَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَةِ" (¬1). * * * (عن) أبي عبد الرحمن (عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-، عن ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1232)، كتاب: الجنائز، باب: ليس منا من شق الجيوب، و (1235)، باب: ليس منا من ضرب الخدود، و (1236)، باب: ما ينهى من الويل ودعوى الجاهلية عند المصيبة، و (3331)، كتاب: المناقب، باب: ما ينهى من دعوى الجاهلية، ومسلم (103/ 165 - 166)، كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، والنسائي (1860)، كتاب: الجنائز، باب: دعوى الجاهلية، و (1862)، باب: ضرب الخدود، و (1864)، باب: شق الجيوب، والترمذي (999)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب عند المصيبة، وابن ماجه (1584)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 376)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 174)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 789)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 163)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 87)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 155).

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: ليس منا)؛ أي: من أهل سنتنا، ولا من المهتدين بهدينا، وليس المراد خروجه عن الدين؛ لأن المعاصي لا يكفر بها عند أهل السنة، نعم يكفر باعتقاد حلها. وعن سفيان: أنه كره الخوض في تأويله، وقال: ينبغي أن يمسك عنه؛ ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر (¬1). (من ضرب الخدود)، وفي لفظ: "لطم" (¬2)، وفي آخر: "لكم" (¬3)، والخدود: جمع خد. قال في "العدة": وإنما جمع، وإن كان ليس للإنسان إلا خدان فقط: باعتبار إرادة الجمع؛ ليكون من مقابلة الجمع بالجمع، أو على حد قوله تعالى: {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه: 130]، وقول العرب: شابت مفارقه، وليس إلا مفرق واحد، وإنما خص الخدود بذلك؛ لكونه الغالب في ذلك، وإلا فضرب بقية البدن داخل في ذلك. (وشق الجيوب) -بضم الجيم- جمع جيب، وإنما جمعه، وليس للإنسان إلا جيب واحد؛ لما تقدم في الخدود، والجيب مشتق من جابه؛ أي: قطعه، قال تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر: 9]، وهو ما يفتح من الثوب لتدخل فيه الرأس للبسه، والمراد بشقه: فتحه إلى آخره، وهو من علامات التسخط (¬4). (ودعا بدعوى الجاهلية)، وفي رواية مسلم: "ضرب الخدود، أو شق ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (8/ 87). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1232). (¬3) لم أقف عليه بهذا اللفظ، واللَّه أعلم. (¬4) وانظر: "فيض القدير" للمناوي (5/ 387).

الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية" (¬1)، وهي زمان الفترة قبل الإسلام؛ بأن قال في بكائه ما كانوا يقولونه من النياحة والندبة، نحو: واجبلا! واعضداه! وكذا الدعاء بالويل والثبور (¬2)؛ لدلالة ذلك على عدم الرضا والتسليم للقضاء. وهذا يدل على تحريم ما ذكر من شق الجيب، وغيره، فإن وقع التصريح باستحلاله مع العلم بتحريم التسخط مثلًا بما وقع، فلا مانع من حمل النفي حينئذ على الإخراج من الدين (¬3). والحاصل: أن التبري يقع بكل واحد من الثلاثة، فلا يشترط وقوعها معًا، لا سيما، ورواية مسلم مصرحة بالعطف بـ "أو" -كما ذكرنا- واللَّه أعلم (¬4). تنبيهان: الأول: جاء في عدة أحاديث صحيحة، وأخبار صريحة: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ففي "الصحيحين" عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الميت يعذب في قبره بما نيح عليه" (¬5)، وفي لفظ: "يعذب بما نيح عليه" (¬6) ولم يذكر: "في قبره". ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (103/ 165). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 164)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 88). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 164). (¬4) المرجع السابق، (3/ 163). (¬5) رواه البخاري (1230)، كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت، ومسلم (927)، كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه. (¬6) رواه ابن ماجه (1593)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الميت يعذب بما نيح عليه.

وفيهما عن المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه-، قال: "بعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: إنه من ينح عليه يعذب بما نيح عليه" (¬1)، وعنه: قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار"، سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: من نيح عليه يعذب بما نيح عليه" رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم (¬2). وفي "مسند الإمام أحمد" عن أسيد بن أبي أسيد، عن موسى بن أبي موسى: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه! واناصراه! واكاسياه! جذب الميت، وقيل له: أنت عضدها؟! أنت ناصرها؟! أنمط كاسيها؟! "، فقلت: سبحان اللَّه! يقول اللَّه تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]، فقال: أحدثك عن أبي موسى، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتقول هذا، فأينا كذب؟! فواللَّه! ما كذب علي أبي موسى، ولا كذب أَبو موسى على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). وفي "البخاري": عن النعمان بن بشير، قال: أغمي على عبد اللَّه بن رواحة، فجعلت أخته عَمْرَةُ تبكي، وتقول: واجبلاه! واكذا واكذا! تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئًا إلا وقد قيل لي: أنت كذلك؟! فلما مات، لم تبك عليه (¬4)، إلى غير ذلك من الأخبار والآثار. الثاني: اختلف السلف والخلف في ذلك: ¬

_ (¬1) انظر: تخريج الحديث الآتي. (¬2) رواه البخاري (1229)، كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت، ومسلم (933)، كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 414). (¬4) رواه البخاري (4019 - 4020)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة.

فقالت طائفة: اللَّه يتصرف في خلقه بما يشاء، وأفعال اللَّه لا تعلل، ولا فرق بين التعذيب بالنوح عليه، والتعذيب بما هو منسوب إليه؛ لأن اللَّه تعالى خالق الجميع، واللَّه تعالى يؤلم الأطفال، والبهائم، والمجانين؛ بغير عمل عملوه. وقالت أخرى: هذه الأحاديث غير صحيحة، وقد أنكرتها عائشة -رضي اللَّه عنها-، واحتجت بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 5]، وفي "الصحيحين" عن عروة، قال: ذكر عند عائشة؛ أن [ابن] عمر -رضي اللَّه عنهم- يرفع إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله"، فقالت: وَهِلَ -أي: ذهب وهمه إلى ذلك-، إنما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنه ليعذب بخطيئته، أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن" (¬1). وفيهما عن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكة، قال: توفيت بنت لعثمان بمكة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر، وابن عباس -رضي اللَّه عنهم-، وإني لجالس بينهما، أو جلست إلى أحدهما، ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي. زاد مسلم: فإذا صوت من الدار. وعند الحميدي من رواية عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة: فبكى النساء، فقال عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟! فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"؟ فقال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قد كان عمر -رضي اللَّه عنه- يقول بعض ذلك، ثم حدث -أي: ابن عباس-، قال: صدرت مع عمر -رضي اللَّه عنه- من مكة، حتى إذا كنا بالبيداء، إذا هو بركب تحت ظل ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3759)، كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل، ومسلم (932)، كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

شجرة، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ قال: فنظرت، فإذا صهيب، فأخبرته، فقال: ادعه لي، فرجعت إلى صهيب، فقلت: ارتحل فالحقْ بأمير المؤمنين، فلما أُصيب عمر، دخل صهيب يقول: واأخاه! واصاحباه! فقال عمر -رضي اللَّه عنه-: يا صهيب! أتبكي عليَّ، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه"؟! قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: فلما مات عمر -رضي اللَّه عنه-، ذكرت ذلك لعائشة -رضي اللَّه عنها- فقالت: يرحم اللَّه عمر، واللَّه! ما حدث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أن اللَّه ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، لكن -وفي رواية بزيادة الواو- رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]. قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- عند ذلك: واللَّه هو أضحك وأبكى؛ تقريرًا لما ذهبت إليه عائشة قال ابن أبي مليكة: واللَّه ما قال ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- شيئًا (¬1). قال ابن المنير: سكوت ابن عمر لا يدل على الإذعان، فكأنه كره المجادلة، إذ المجلس إذ ذاك لا يقبل المماراة (¬2). قال الخطابي: الرواية إذا ثبتت، لم يكن في دفعها سبيل بالظن، وقد رواه عمر، وابنه، وكذلك المغيرة بن شعبة، وليس فيما حكت عائشة -رضي اللَّه عنها- ما يدفع الرواية بجواز صحة الخبرين، إذ لا منافاة بينهما (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1226)، كتاب: الجنائز، باب: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه" إذا كان النوح من سنته، ومسلم (928)، كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، والحميدي في "مسنده" (220). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 160). (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 303).

وقد حملت طائفة ذلك على من أوصى به، أو كانت عادتهم ذلك، ولم ينههم، يعني: يوصي قبل موته ألَّا يحدثوا قولًا ولا فعلًا منكرًا، وهذا كان مشهورًا عند العرب، وهو كثير في أشعارهم، كقول طرفة: [من الطويل] إذا مِتُّ فانْعِيْني بما أنا أَهْلُه ... وشُقِّي عليَّ الجَيْبَ يا بنةَ مَعْبَدِ (¬1) وصحح هذا القول طوائف، منهم: أَبو البركات ابن تيمية؛ لأنه إذا غلب على ظنه فعلهم له، ولم يوصهم بتركه، فقد وصى به، وصار كمن ترك النهي عن المنكر مع القدرة عليه، فأما إذا أوصاهم بتركه، فخالفوه؛ فاللَّه أكرم من أن يعذبه بذلك. قال الإمام ابن القيم: وقد حصل بهذا القول إجراء الخبر على عمومه في أكثر الموارد، قال: وإنكار عائشة -رضي اللَّه عنها- لذلك بعد رواية الثقات لا يعول عليه؛ فإنهم قد يحضرون ما لا تحضره، ويشهدون ما تغيب عنه، واحتمال السهو والغلط بعيد جدًا، خصوصًا في حق خمسة من أكابر الصحابة، وهم: عمر، وابنه، وأبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة، والنعمان بن بشير في قصة عبد اللَّه بن رواحة -رضوان اللَّه عليهم أجمعين-. ثم إن عائشة -رضي اللَّه عنها- محجوجة بروايتها عنه: أنه قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن اللَّه يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه" (¬2)، فإذا لم تمتنع زيادة الكافر عذابًا بفعل غيره، مع كونه مخالفًا لظاهر الآية، لم يمتنع ذلك في حق المسلم؛ فإن اللَّه تعالى كما لا يظلم عبده المسلم؛ لا يظلم الكافر، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "ديوانه" (ص: 46)، (ق 1/ 93). ووقع في الديوان: "فإن مت". (¬2) تقدم تخريجه قريبًا.

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس اللَّه روحه- مذهبًا حسنًا، وملخصه: بأن هذه الأحاديث لا تحتاج إلى شيء من هذه التعسفات، وليس فيها -بحمد اللَّه- إشكال، ولا مخالفة لظاهر القرآن، ولا لقاعدة من قواعد الشرع، ولا تتضمن عقوبة الإنسان بذنب غيره؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يقل: إن الميت ليعاقب ببكاء أهله عليه، أو بنوح أهله عليه، وإنما قال: إنه ليعذب بذلك. ولا ريب أن ذلك يؤلمه ويعذبه، والعذاب هو الألم الذي يحصل له، وهو أعم من العقاب، والأعم لا يستلزم الأخص، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قطعة من العذاب" (¬1)، وهذا العذاب يحصل للمؤمن والكافر، ويحصل للميت الألم في قبره بمجاورة أهل البدع والفسق والعصيان، ويتأذى بذلك كما يتأذى الإنسان بما يشاهده من عقوبة جاره، ونص الإمام أحمد على أن الموتى يتأذون بفعل المعصية عندهم، فإذا بكى أهل الميت عليه البكاء المحرم؛ من لطم الخدود، وتمزيق الثياب، وخمش الوجوه، وتسويدها، وقطع الشعر ونتفه، ودعاء بدعوى الجاهلية، وكل هذا موجود في غالب جهال أهل زماننا، فإذا وجدت هذه الأفعال والأقوال على هذا الوجه، حصل للميت الألم في قبره بذلك، فهذا التألم هو عذابه بالبكاء عليه، انتهى (¬2). ومثل هذا ما حكاه القبب القسطلاني بأن تعذيبه توبيخ الملائكة له بما ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1710)، كتاب: العمرة، باب: السفر قطعة من العذاب، ومسلم (1927)، كتاب: الإمارة، باب: السفر قطعة من العذاب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "عدة الصابرين" لابن القيم (ص: 86 - 88).

يندبه به أهله، وذكر حديث أبي موسى عند الإمام أحمد مرفوعًا: "الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة: واعضداه! واناصراه! واكاسياه! جبذ الميت، وقيل له: أنت عضدها؟! ... " الحديث (¬1)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. وأنظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (2/ 404).

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر عَن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ شَهِدَ الجَنَازةَ حَتَّى يُصَلِّي عَلَيْهَا، فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ، فَلَهُ قِيرَاطَان"، قِيلَ: وَمَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: "مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ" (¬1). ولِمسلمٍ: "أَصْغَرُهُما مِثْلُ أُحُدٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (47)، كتاب: الإيمان، باب: اتباع الجنائز من الإيمان، و (1260)، كتاب: الجنائز، باب: فضل اتباع الجنائز، و (1261)، باب: من انتظر حتى تدفن، ومسلم (945/ 52)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، والنسائي (1994 - 1995)، كتاب: الجنائز، باب: ثواب من صلى على جنازة، وابن ماجه (1539)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في ثواب من صلى على جنازة وانتظر دفنها. (¬2) رواه مسلم (945/ 53)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، وأبو داود (3168)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة وتشييعها، والترمذي (1040)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في فضل الصلاة على الجنازة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" (4/ 261)، "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 403)، و"المفهم للقرطبي" (2/ 603)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 13)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 175)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 791)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: =

(عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر (-رضي اللَّه عنه-، قال) أَبو هريرة: (قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: من شهد الجنازة) في رواية لمسلم من حديث خباب: "من خرج مع جنازة من بيتها" (¬1)، وللإمام أحمد من حديث أبي سعيد: "فمشى معها من أهلها" (¬2) (حتى يصلِّي) -بكسر اللام-، وفي رواية الأكثر -بفتحها-، وهي محمولة عليها؛ فإن حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة من الذي يشهد (¬3) (عليها)؛ أي: على الجنازة، وفي رواية الكشميهني من نسخ البخاري: "عليه"؛ أي: الميت (¬4) (فله)؛ أي: لمن شهدها حتى صلى عليها من الأجر (قيراط)، فلو تعددت الجنائز، واتحدت الصلاة عليها دفعة واحدة، هل تتعدد القراريط بتعددها، أو لا تتعدد؛ نظرًا لاتحاد الظاهر الصلاة؟! الظاهر: التعدد، ونص عليه غير واحد، واستظهره الأذرعي من الشافعية، ومقتضى التقييد في رواية الإمام أحمد وغيرها بقوله: "فمشى معها من أهلها" (¬5): أن القيراط يختص بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة، لكن ظاهر حديث البزار من طريق ابن عجلان، عن أبيه، عن ¬

_ = 165)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 108، 3/ 192)، و"عمدة القاري" للعيني (1/ 270)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 106)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 92). (¬1) رواه مسلم (945/ 56)، كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 27). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 196 - 197). (¬4) المرجع السابق، (3/ 196). (¬5) تقدم تخريجه قريبًا.

أبي هريرة، بلفظ: "فإن انتظرها حتى تدفن، فله قيراط" (¬1) حصوله لمن صلى فقط، لكن يكون قيراطه دون قيراط من شيع مثلًا وصلى، ويؤيد ذلك رواية مسلم عن أبي هريرة حيث قال: "أصغرهما مثل أحد"، ففيه دلالة على أن القراريط تتفاوت، وفي مسلم -أيضًا-: "من صلى على جنازة ولم يتبعها، فله قيراط" (¬2)، فظاهره: حصول القيراط وإن لم يقع اتباع، لكن يمكن حمل الاتباع هنا على ما بعد الصلاة، لا سيما وحديث البزار ضعيف (¬3). (ومن شهدها)؛ أي: الجنازة (حتى تدفن)؛ أي: يفرغ من دفنها بأن يُهال عليها بالتراب، وعلى ذلك تحمل رواية مسلم: "حتى توضع في اللحد" (¬4)، (فله)، وفي لفظ: "كان له" (¬5) (قيراطان) من الأجر المذكور، وهل يحصل ذلك بقيراط الصلاة، أو بدونه، فتكون ثلاثة قراريط؟ المعتمد الأول (¬6). قال الإمام ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد": سئل أَبو نصر بن الصباغ عن القيراطين هل هما غير الأول، أو به؟، فقال: بل القيراطان: الأول، وآخر معه؛ بدليل قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1]. قال ابن القيم: قلت: ونظير هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صلى العشاء في جماعة، فكأنما أقام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة، فكأنما أقام ¬

_ (¬1) رواه البزار في "مسنده" (3/ 30 - "مجمع الزوائد" للهيثمي). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (945/ 53). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 194). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (945/ 52). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1261)، ومسلم برقم (954/ 56). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 109).

الليل كله" (¬1)، ونظيره قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 9 - 10]، فهي أربعة باليومين الأولين، ولولا ذلك لكانت أيام التخليق ثمانية (¬2). وهل يحصل قيراط الدفن وإن لم يحصل اتباع؟ فيه بحث. لكن مقتضى رواية البخاري في كتاب: الإيمان من "صحيحه" حيث قال: "وكان معها حتى يصلي عليها، ويفرغ من دفنها" (¬3): أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والاتباع في جميع الطريق وحضور الدفن، فإن صلى مثلًا وذهب إلى القبر وحده، فحضر الدفن، لم يحصل له إلا قيراط واحد، صرح به النووي في "المجموع"، (¬4) وغيره. نعم، له أجر في الجملة، ومقتضى جميع الأحاديث: أن من اقتصر على التشييع، فلم يصل، ولم يشهد الدفن، فلا قيراط له، إلا على ما يفهم من كلام الإمام ابن عقيل فيما يأتي (¬5). (قيل)، وعند أبي عوانة: قال أَبو هريرة: قلت: يا رسول اللَّه (¬6)! (وما القيراطان؟ قال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: هما (مثل الجبلين العظيمين). (و) أخص من ذلك ما في رواية (لمسلم) من تمثيل (أصغرهما)؛ أي: القيراطين بأنه (مثل) جبل (أحد). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 656). (¬3) تقدم تخريجه برقم (47). (¬4) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (5/ 232). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 197). (¬6) وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (2/ 134).

قال الطيبي: "قوله: مثل أحد": تفسير للمقصود من الكلام، لا للفظ القيراط، والمراد: أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر. وقال الزين بن المنير: أراد تعظيم الثواب، فمثَّله للعيان بأعظم الجباب خلقًا، وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حبًا؛ لأنه الذي قال -صلى اللَّه عليه وسلم- في حقه "جبل يحبنا ونحبه" (¬1). والقيراط -بكسر القاف-، قال الجوهري: نصف دانق (¬2)، والدانق سدس درهم، فعلى هذا يكون القيراط جزءًا من اثني عشر جزءًا من الدرهم. وقال الإمام ابن عقيل: نصف سدس درهم، أو نصف عشر دينار. وقال ابن الأثير: هو نصف عشر الدينار في أكثر البلاد، وفي الشام جزء من أربع وعشرين جزءًا (¬3). وقال القاضي أَبو بكر بن العربي: الذرة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزءًا من حبة، والحبة ثلث القيراط، والذرة تُخرج من النار، فكيف بالقيراط (¬4)؟. فائدة: قال الإمام ابن القيم في كتابه "البدائع": لم أزل حريصًا على معرفة المراد بالقيراط في هذا الحديث، وإلى أي شيء نسبته، حتى رأيت ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2732)، كتاب: الجهاد والسير، فضل الخدمة في الغزو، ومسلم (1365)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 195). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1151)، (مادة: قرط). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 42). (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي المالكي (4/ 261 - 262).

لابن عقيل فيه كلامًا، قال: القيراط نصف سدس درهم مثلًا، أو نصف عشر دينار، ولا يجوز أن يكون المراد هنا جنس الأجر؛ لأن ذلك يدخل فيه ثواب الإيمان بأعماله؛ كالصلاة والحج وغيره، وليس في صلاة الجنازة ما يبلغ هذا، [فـ]ـلم يبق إلا أن يرجع إلى المعهود، وهو الأجر العائد إلى الميت، ويتعلق بالميت، صبر على المصاب فيه وبه، وتجهيزه، وغسله، ودفنه، والتعزية به، وحمل الطعام إلى أهله، وتسليتهم، وهذا مجموع الأجر الذي يتعلق بالميت، فكان للمصلي والجالس إلى أن يقبر سدس ذلك، أو نصف سدسه إن صلى وانصرف. قال ابن القيم: قلت: كأن مجموع الأجر الحاصل على تجهيز الميت من حين الفراق إلى وضعه في لحده، وقضاء حق أهله وأولاده وجبرهم دينار مثلًا، فللمصلّي عليه فقط من هذا الدينار قيراط، والذي يتعارفه النّاس من القيراط أنّه نصف سدس، فإن صلّى عليه وتبعه، كان له قيراطان منه، وهما سدسه، وعلى هذا فيكون نسبة القيراط إلى الأجر الكامل بحسب عظم ذلك الأجر الكامل في نفسه، فكلما كان أعظم، كان القيراط منه بحسبه، فهذا بين هاهنا. وأمّا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنِ اقتنى كلبًا إلَّا كَلْبَ ماشيةٍ أو زرعٍ، نقصَ من أجرِه أو من عمله كُل يوم قيراطٌ" (¬1)، فيحتمل أن يراد به هذا المعنى أيضًا بعينه، وهو نصفُ سدسِ أجر عمله ذلك اليوم، ويكون صغرُ هذا القيراط وكبرُهُ بحسب قلة عمله وكثرته، فإذا كانت له أربعة وعشرون ألفَ حسنةٍ مثلًا، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3146)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ومسلم (1575)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

نقص منها كلَّ يوم ألفا حسنة، وعلى هذا الحساب، واللَّه أعلم بمراد رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا مبلغ العلم في فهم هذا الحديث، انتهى (¬1). قلت: الذي ينبغي: اعتبارُ قيراط المصلّي، أو قيراطي المصلّي والمشيِّع إلى أن يدفن الميت بأكمل حالات المصاب، وإلا فقد يكون عاريًا عن الثواب، أو محتملًا للذنوب؛ لعدم الصبر والتسخط، فيعرى المصلّي عن الثواب، ولا قائل به، وبه أجبت من عارض ما قدمنا، وكذلك ينبغي اعتبار مقتني الكلب في الجملة، وهذا ظاهر، واللَّه الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 655 - 666).

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة قال ابن قتيبة: الزكاةُ من الزَّكاء، وهو النَّماء والزيادة، سميت بذلك؛ لأنّها تُثَمِّرُ المالَ، وتنمِّيه، يقال: زَكا الزرع: إذا بورك فيه (¬1). وقال الأزهرِي: سميت بذلك؛ لأنّها تزكي الفقراء؛ أي: تنميهم. قال: وقوله تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]؛ أي: تطهر المخرجين، وتزكي الفقراء (¬2). وهي في الشرع: اسمٌ لمالٍ مخرَجٍ مخصوصٍ بأوصاف مخصوصة، من مال مخصوص، لطائفة مخصوصة (¬3). وسمي هذا المال المخرج بها؛ لأنّه يطهر المال من الخبث، ويقيه من الآفات، والنفسَ من رذيلة البخل، ويثمر لها فضيلة الكرم، ويستجلب به البركة في المال، ومدح المخرج عنه. وهي أحدُ أركان الإسلام، يكفرُ جاحدُها، ويقاتَل الممتنعون من ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 184)، وعنده: "يقال: زكا الزرع: إذا كثر ريعه، وزكت النفقة: إذا بورك فيها". (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (10/ 320)، (مادة: زكا). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 122).

أدائها، وتؤخذ منهم، وإن لم يقاتلوا قهرًا؛ كما فعل الصدّيق الأعظم -رضي اللَّه عنه-. واختلف العلماء -رضي اللَّه عنهم- هل فرضت بمكة أم بالمدينة؟. ذكر صاحب "المغني"، و"المحرر"، وشيخ الإسلام ابن تيمية: أنها مدنية، ويؤيد ذلك رواية الوالبي عن ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما- في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} [الفتح: 4]، قال: الرحمة، إنَّ اللَّه بعث نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- بشهادة أنْ لا إله إلا اللَّه، فلما صدَّقوا به، زادهم الصّلاة، فلما صدَّقوا به، زادهم الصّيام، فلما صدَّقوا به، زادهم الزكاة، فلما صدَّقوا به، زادهم الحج، فلما صدَّقوا به، زادهم الجهاد، ثمَّ أكملَ دينهم، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1) [المائدة: 3]. وكذا ذكر ابن عقيل في "الواضح" في مسألة النسخ: أن الزكاة بعد الصّوم (¬2). ثمَّ إنَّ المصنف -رحمه اللَّه تعالى- ذكر في هذا الباب ستة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (26/ 72)، والطبراني في "المعجم الكبير" (13028)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (ص: 353). (¬2) انظر: "الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل (1/ 221 - 222). وانظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 247 - 248).

[باب]

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: "إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُم، فَادْعُهُم إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلهَ إلَّا اللَّهُ، وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطاعُوا لَكَ بذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُم أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْمِ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُم أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُم أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِم، فَتُرَدُّ عَلَىَ فُقَرَائِهِم، فَإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجابٌ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1331)، كتاب: الزكاة، باب: وجوه الزكاة، و (1389)، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، و (1425)، باب: أخذ الصدقة من الأغنياء، وترد في الفقراء حيث كانوا، و (2316)، كتاب: المظالم، باب: الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم، و (4090)، كتاب: المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل -رضي اللَّه عنهما- إلى اليمن قبل حجة الوداع، و (6937)، كتاب: التوحيد، باب: ما جاء في دعوة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمته إلى توحيد اللَّه -تبارك وتعالى-، ومسلم (19/ 29 - 31)، كتاب: الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، وأبو داود (1584)، كتاب: الزكاة، باب: في زكاة السائمة، والنسائي (2522)، كتاب: الزكاة، باب: إخراج الزكاة من بلد إلى بلد، والترمذي (625)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء =

(عن عبدِ اللَّه بنِ عبّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمعاذِ بنِ جَبَلٍ) -رضي اللَّه عنه- (حين)؛ أي: وقت (بعثَهُ) -عليه الصّلاة والسّلام- (إلى اليمن) سنة عشرٍ قبل حجة الوداع؛ كما في أواخر المغازي من "صحيح البخاري" (¬1). وقيل: في آخر سنة تسع عند منصَرَفِه من غزوة تبوك، رواه الواقدي، وابن سعد في "الطبقات" (¬2)، يعلِّمهم القرآنَ وشرائع الإسلام، ويقضي بينهم، ويقبضُ الصدقات من عمال أهل اليمن. واليمن -محركة-: مما عن يمين القبلة من بلاد الغَوْر، والنسبة إليها: يَمَنِيٌّ، ويَمَانِيٌّ، ويَمانٍ، وهي بلاد واسعة من عُمان إلى نجران، وتسمى: الخضراء؛ لكثرة أشجارها وزرعها (¬3). ¬

_ = في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة، و (2014)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في دعوة المظلوم، وابن ماجه (1783)، كتاب: الزكاة، باب: فرض الزكاة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (37/ 2)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 117)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 238)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 181)، و"شرح مسلم" للنووي (1/ 196)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 183)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 795)، وفتح الباري "لابن حجر" (3/ 358)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 234)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 120)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 170). (¬1) تقدم تخريجه برقم (4090) عنده. (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 584). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 358). (¬3) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (5/ 447).

وأهلُها أرقُّ النّاس قلوبًا، وأعرفُهم للحق، سماهم اللَّه: النّاس حيث قال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] في قول. (إنك) يا معاذُ (ستأتي قومًا أهلَ كتابٍ) لعلَّ هذا منه -صلى اللَّه عليه وسلم- كالتمهيد والتوطئة للوصية باستجماع همته في الدّعاء لهم؛ فإنّ أهلَ الكتاب أهلُ علم، ومخاطبتُهم لا تكون كمخاطبة جُهَّال المشركين وعَبَدَةِ الأوثان في العناية بها (¬1). (فإذا جِئْتَهم فادْعُهم) أوّلًا (إلى) شيئين: أحدهما: (أن يشهدوا أَنْ لا إله إلا اللَّه). (و) الثّاني: أن يشهدوا (أنَّ محمدًا رسولُ اللَّه)، والبداءةُ في المطالبة بالشهادتين؛ لأنَّ ذلك أصل الدين الذي لا يصحُّ شيء من فروعه إلا به، فمن كان منهم غيرَ موحد على التحقيق؛ كالنصارى، فالمطالبة متوجهةٌ إليه بكل واحدة من الشهادتين عينًا. ومن كان موحِّدًا؛ كاليهود، فالمطالبة له بالجمع بين ما أقرَّ به من التّوحيد، وبين الإقرار بالرسالة، فإن كان هؤلاء اليهود الذين كانوا باليمن عندَهم ما يقتضي الإشراكَ، ولو باللزوم، تكون مطالبتُهم بالتّوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم. وقد ذكر الفقهاء أن مَنْ كان كافرًا بشيء، ومؤمنًا بغيره، لم يدخل في الإسلام إلا بالإيمان بما كفر به (¬2). (فإنْ هم أطاعوا لك بذلك)؛ أي: انقادوا بما أمرتهم به، ودعوتهم إليه؛ بأن تلفَّظوا بالشهادتين، (فأخبرهم) -بفتح الهمزة-؛ من الإخبار. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 183). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

وفي لفظ عندهما: "فأعلمهم" (¬1) -بقطع الهمزة-؛ من الإعلام (أَنَّ اللَّه) -بفتح الهمزة-؛ لأنها في محل نصب مفعولٌ ثانٍ للإعلام أو الإخبار (-عزَّ وجلَّ-) نعتان للَّه تعالى (قد فرضَ)، وفي لفظ: "قد افترض" (¬2)، وفي آخر: "افترض" (¬3) بإسقاط "قد" (عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يوم وليلة)، فخرج الوتر، (فإن هم أطاعوا)؛ أي: امتثلوا وأذعنوا (لك بذلك)؛ أي: بوجوبها، أو بادروا إلى فعلها، ولو لم يتلفظوا بالإقرار بالوجوب، فالشرطُ عدمُ الإنكار، والإذعان للوجوب، لا التلفظ بالإقرار (¬4). (فأخبرهم)، وفي لفظ: "فأعلمهم" (¬5) (أنَّ اللَّه) تعالى (قد فرضَ)، وفي لفظ: "افترض" (¬6) (عليهم صدقةً)؛ أي: زكاة في أموالهم (تؤخَذُ) -بضم أوله مبنيًا للمفعول- (من) مال (أغنيائِهم) المكلَّفين وغيرِهم، (فترَدُّ)، وفي رواية: "وترد" (¬7) -بالواو- (على فقرائِهم)، وبدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب؛ لأنّه لو طالبهم بالجميع في أول الأمر، لنفرت نفوسُهم من كثرتها. واقتصارُه على الفقراء من غير ذكر بقيةِ أصناف أهل الزكاة مشعرٌ بجواز إخراجها إلى صنف واحد. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1331)، وعند مسلم برقم (19/ 29). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1331). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (19/ 29). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 184)، وفتح الباري "لابن حجر" (3/ 359). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1331)، ومسلم برقم (19/ 29). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1331)، ومسلم برقم (19/ 29). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1331) و (1389).

وخصَّ الفقراء بالذكر؛ لأنهم الأغلبُ والأهم، وتفيد الإضافة في قوله: "فقرائهم" منعَ صرف الزكاة للكافر. وقد يستدلّ به على منع نقل الزكاة عن بلد المال؛ لأنّ الضمير في قوله: "فقرائهم" يعود على أهل اليمن، وعورض بأن الضمير يرجع إلى فقراء المسلمين، وهم أعم من أن يكونوا فقراءَ أهل تلك البلد أو غيرهم (¬1). قال ابن دقيق العيد: قد استدلّ به على عدم جواز النقل للزكاة عن بلد المال، وفيه ضعف؛ لأنّ الأقرب أنّ المراد: تؤخذ من أغنيائهم من حيث إنّهم مسلمون، لا من حيث إنّهم أهل اليمن، وكذلك الرد على فقرائهم، وإن لم يكن هذا هو الأظهر، فهو محتمل احتمالًا قويًا، ويقويه: أن أعيانَ الأشخاص المخاطبين في قواعد الشرع الكلية لا تعتبر، ولولا وجودُ مناسبة في باب الزكاة، لقطع بأن ذلك غير معتبر، وقد وردت صيغة الأمر بخطابهم في الصّلاة، فلا يختص بهم قطعًا -أعني: الحكم-، وإن اختص بهم خطاب المواجهة، انتهى (¬2). (فإن هم أطاعوا لك بذلك)، أي: أذعنوا بفريضة ذلك ومشروعيته، أو بادروا فأخرجوا الزكاة، ولم يجحدوا وجوبها، فقد أسلموا، فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، فإذا بذلوا لك الواجب في أموالهم، (فإياك وكَرائِمَ أموالهم). وفي رواية: "وتَوَقَّ -أي: احذر- كرائمَ أموالهم" (¬3) جمع كريمة، وهي ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 3). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 184). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1389، 6937)، وعند مسلم برقم (19/ 31).

العزيزة عند ربِّ المال، النفيسةُ من ماله، إما باعتبار كونها أكولة؛ أي: مُسَمَّنة للأكل، أو رُبَّى -بضم الراء وتشديد الموحدة-؛ أي: قريبة العهد بولادة. وقال الأزهري: إلى خمسة عشر يومًا من ولادتها؛ لأنَّ الزكاة شُرعت لمواساة الفقراء، فلا يناسب الإجحاف بمال الأغنياء، إلا إن رضوا بذلك (¬1). تنبيهات: الأوّل: معتمد المذهب: جوازُ نقل الزكاة إلى دون مسافة قصر، نص عليه الإمام أحمد؛ لأنّه في حكم بلد واحد؛ بدليل أحكام رخص السفر. وللشّافعيّة وجهان: معتمد مذهبهم: المنعُ، وأمّا نقلُها إلى مسافة القصر، فلا يجوز، ولو لرحِمٍ، وشدةِ حاجةٍ، أو لاستيعابِ الأصناف، فإن خالف وفعل، أجزأ. وقال أَبو حنيفة والشّافعي: بعدم الإجزاء، وكذا عند مالك في قول. وقال: يجوز مع رجحان الحاجة، وكرهه أَبو حنيفة إلا لقرابة أو رجحان حاجة. واختار الآجريُّ جوازَه لقرابة. واتفقوا على أنّه إذا استغنى أهل بلد عنها، جاز نقلها (¬2). الثّاني: اتفق الأئمة الثلاثة على أنّه يجوز وضعُ الزكاة في صنف واحد من الأصناف الثمانية، وقال الشّافعي: بوجوب استيعابها، ولا بد من كل ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (2/ 48). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 425).

صنف أقلُّ الجمع، وهو ثلاثة، إلا ما استثني (¬1). الثالث: يجب إخراج زكاةٍ على الفور، ولا يجوز تأخيره عن وقت وجوبها مع إمكانه، إلا إن خاف ضررًا؛ كرجوع ساعٍ، أو خوفِه على نفسه، أو ماله، ونحوه، أو أخرها لمن حاجتُه أشدُّ، أو لقريب، أو جار، أو لتعذر إخراجِها من النصاب، لغيبته، أو غيرها. فإن جحد وجوبها، فإن كان جهلًا -ومثلُه يجهلُه-؛ كقريب عهد بالإسلام، أو نشوئه ببادية بعيدة يخفى عليه، عُرِّفُ ذلك، ونُهي عن المعاودة، فإن أصرَّ، أو كان عالمًا بوجوبها، كفر، وأُخذت منه إن كانت وجبت، واستُتيب ثلاثة أيام وجوبًا، فإن لم يتب، قُتل كفرًا وجوبًا. ومن منعها بخلًا بها، [أ] وتهاونًا، أخذت منه، وعزَّره إمام عدل فيها، أو عامل زكاة، إلا أن يكون المانعُ جاهلًا. فإن كان المنع لكون الإمام لايعدل فيها؛ بأن كان يضعها في غير مواضعها، لم يعزَّر. وإن غَيَّبَ مالَه، أو كتمَه، وأمكن أخذُها، أُخذت منه من غير زيادة، وإن لم يمكن أخذُها، استُتيب ثلاثة أيام وجوبًا، فإن تاب وأَخرجَ، وإلا قُتل حدًّا، وأُخذت من تركته، واللَّه تعالى الموفق (¬2). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (واتَّقِ) يا معاذُ (دعوةَ) الشخصِ (المظلوم) من ذكر وأنثى؛ (فإنه)؛ أي: الشأن والأمر، والفاء للتعليل؛ أي: لأنّه (ليسَ بينها)؛ أي: دعوة المظلوم (وبين اللَّه) -عزَّ وجلَّ- (حجابٌ) يحجبها عنٍ الوصول إليه -جلَّ شأنه-، وهو يجيبها ولا بد، بعد النهي عن أخذ كرائم الأموال، إشعارٌ ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 281). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 455 - 456).

بأنَّ أخذها ظلم (¬1)؛ أي: اجعل بينك وبين دعوة المظلوم العدل والإنصاف وقايةً تقيك من شدةِ الانتقام، وحلولِ الغضب ممن لا يظلم مثقالَ ذرة. وفي حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتُهم: الصائمُ حتّى يُفطرَ، والإمامُ العادلُ، ودعوةُ المظلومِ يرفعُها اللَّه فوقَ الغَمام، وتُفتح لها أبوابُ السماء، ويقولُ الربُّ: وعِزِّتي وجَلالي! لأنصرنَّكِ ولو بَعْدَ حينٍ" رواه الإمام أحمد، والتّرمذي، وحسَّنه، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حِبّانَ في "صحيحيهما" (¬2). وفي رواية للتّرمذي، وحسَّنه: "ثَلاثُ دَعَواتٍ لا شَكَّ في إجابتهِنَّ: دعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافرِ، ودعوةُ الوالدِ على الولدِ"، ورواه أَبو داود بتقديم وتأخير (¬3). وفي حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اتَّقُوا دعوةَ المظلومِ؛ فإنَّها تصعَدُ إلى السماء كأنَّها شرارةٌ" رواه الحاكم، وقال: رواته متفقٌ على الاحتجاج بهم، إلا عاصمَ بنَ كليب، فاحتج به مسلمٌ وحده (¬4). وفي حديث عقبةَ بنِ عامرٍ الجهنيِّ -رضي اللَّه عنه-، عن النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 185). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 304)، والترمذي (3598)، كتاب: الدعوات، باب: في العفو والعافية، وابن ماجه (1752)، كتاب: الصيام، باب: في الصائم لا ترد دعوته، وابن خزيمة في "صحيحه" (1901)، وابن حبان في "صحيحه" (874). (¬3) رواه الترمذي (3448)، كتاب: الدعوات، باب: (48)، وأبو داود (1536)، كتاب: الصلاة، باب: الدعاء بظهر الغيب. (¬4) رواه الحاكم في "المستدرك" (81).

قال: "ثلاثةٌ تُستجابُ دعوتُهم"، فذكر منهم: المظلومَ. رواه الطبراني بإسناد صحيح (¬1). وفي "مسند الإمام أحمد" بإسناد حسن من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دعوةُ المظلومِ مستجابَةٌ وإنْ كانَ فاجرًا، ففجورُه على نفسِه" (¬2). وفي "المسند" أيضًا من حديث أنسٍ مرفوعًا: "دعوةُ المظلومِ ولو كانَ كافرًا ليسَ دونَها حجابٌ" (¬3). وفي "أوسط الطبراني"، و"الصغير" من حديث علي مرفوعًا: "يقول اللَّه -عزَّ وجلَّ-: اشتدَّ غَضَبِي على مَنْ ظلمَ مَنْ لا يجدُ له ناصِرًا غَيري" (¬4). وفي "صحيح ابن حبان"، "ومستدرك الحاكم" من حديث أبي ذر الغفاري -رضي اللَّه عنه-، قال: قلت: يا رسول اللَّه! ما كانت صحفُ إبراهيم؟ قال: "كانَتْ أَمثالًا كُلُّها: أَيُّها الملِكُ المسلَّطُ المبتلَى المغرورُ! إنّي لم أبتعثك لتجمعَ الدنيا بعضَها على بعض، ولكني بعثْتُكَ لتردَّ عني دعوةَ المظلومِ؛ فإنّي لا أردُّها وإنْ كانَتْ من كافرٍ" الحديث بطوله (¬5). قال الطيبي: في قوله: "فإنّه ليس بينَها وبينَ اللَّه حجابٌ": هذا تعليل ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 340). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 367)، والطيالسي في "مسنده" (2330)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (29374)، والطبراني في "الدعاء" (1318)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (315). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 153). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2207)، وفي "المعجم الصغير" (71)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1452). (¬5) رواه ابن حبان في "صحيحه" (361)، والحاكم في "المستدرك" (4166).

للاتِّقاء، وتمثيلٌ للدعاء؛ كمن يقصد دارَ السلطان متظلِّمًا فلا يُحْجَبُ (¬1). قال ابن العربي: إلا أنّه -وإن كان مطلقًا- فهو مقيد بالحديث الآخر: أن الداعي على ثلاث مراتب: إما أن يُعَجَّل له ما طلبَ، وإما أن يُدَّخَر له أفضلُ منه، وإما أن يُدفع عنه من السوء مثلُه (¬2). وفي الحديث: دليل على تعظيم أمر الظلم. وفي "صحيح مسلم" وغيره من حديث جابرِ بنِ عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-: أنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة، واتَّقُوا الشُّحَّ؛ فإن الشحَّ أهلكَ مَنْ كانَ قبلَكُم، حَمَلَهُم على أَنْ سَفَكوا دماءَهُمْ، واستَحَلُّوا مَحارِمَهُم" (¬3). وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الظلم ظلمات يوم القيامة" (¬4). وحقيقةُ الظلم لغةً: وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعهِ (¬5). وشرعًا: التصرُّفُ في غير ملكٍ، أو في ملك الغير، وهو مأمور باجتنابه شرعًا وعقلًا. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 360). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 18)، والبخاري في "الأدب المفرد" (710)، وغيرهما، عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. وانظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 120). (¬3) رواه مسلم (2578)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم. (¬4) رواه البخاري (2315)، كتاب: المظالم، باب: الظلم ظلمات يوم القيامة، ومسلم (2579)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم. (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأباي (ص: 1464)، (مادة: ظلم).

ولا يصلح العالَم إلا بالإقامة على سنن العدل والاستقامة. وفي وصية عمرِو بنِ العاص لابنه عبدِ اللَّه -رضي اللَّه عنهما-: يا بني! احفظْ عني ما أُوصيك به: إمامٌ عدلٌ خيرٌ من مطرٍ وَبْل، وأسدٌ خطومٌ خيرٌ من إمامٍ ظَلُوم، وإمامٌ ظلومٌ غشومٌ خيرٌ من فتنةٍ تدومُ (¬1). والظلم من حيث هو يتنوَّع أنواعًا كثيرة: فأعظمُه: الشركُ باللَّه؛ كما قال -عزَّ وجل-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. والكذبُ على اللَّه تعالى، ويدخل في هذا أمناءُ اللَّه على شريعته، المتوسطون بينه وبين خليقته؛ كما أشار -جلَّ شأنه- إلى هذا في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} الآية [الأنعام: 93]. وكذا وُلاة الأمور من الخلفاء والسلاطين والأمراء، وكل ذي ولاية، حتّى على أهل بيته. وفي خبر: "أشدُّ النّاس عذابًا يومَ القيامة مَنْ أشركَهُ اللَّهُ في حُكمه، فأدخلَ عليه الجَوْرَ في عدله" (¬2)؛ يعني: من جعله حاكمًا على خلقه، فساسهم بالسياسة الظالمة، والعوائد الفاسدة الآثمة، والقوانين الباطلة، ووضعِ المكوسِ، وظلمِ الرعايا، والاستئثار بالغيِّ والكبر، والفخر والعجب والخيلاء. ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 184). (¬2) رواه أَبو نعيم في "حلية الأولياء" (4/ 15)، عن طاوس -رحمه اللَّه- من قوله.

قال يزيد بن حاتم: ما هبتُ شيئًا هيبةَ رجلٍ ظلمتُه وأنا أعلمُ أنْ لا ناصرَ له إلا اللَّه (¬1). ويروى أنَّ بعض الملوك رقم على بساطه هذين البيتين: [من البسيط] لَا تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا ... فَالظُّلْمُ مَصْدَرُهُ يُفْضي إِلَى النَّدَمِ تَنَامُ عَيْنَاك وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ ... يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ (¬2) وقال بعضهم وأحسنَ: [من الوافر] أَتَهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيهِ ... وَمَا تَدْرِي بِمَا صَنَعَ الدُّعَاءُ سِهَامُ اللَّيْلِ نَافِذَةٌ وَلَكِنْ ... لَهَا أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ انْقِضَاءُ (¬3) ووجد تحت فراش يحيى بنِ خالدٍ البرمكيِّ رقعةٌ فيها مكتوب: [من الوافر] وَحَقِّ اللَّهِ إنَّ الظُّلْمَ لُومُ ... وَإِنَّ الظُّلْم مَرْتَعُهُ وَخِيمُ إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ العَرْضِ نَمْضِي ... وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ وقال بعضهم وأحسنَ: [من الطويل] إِذَا ظَالِمٌ استَحْسَنَ الظُّلْمَ مَذْهَبًا ... وَزَادَ عُتُوًّا فِي قَبِيحِ اكْتِسَابِهِ فَكِلْهُ إِلَى صَرْفِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ ... سَيُبْدِي لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا ظَالِمًا مُتَجَبِّرًا ... يَرَى النَّجْمَ تِيهًا تَحْتَ ظِلِّ رِكَابِهِ فَلَمَّا تَمَادَى وَاسْتَطَالَ بِظُلْمِهِ ... أَنَاخَتْ صُرُوفُ الحَادِثَاتِ بِبَابِهِ وَعُوقِبَ بِالذَّنْبِ الَّذِي كَانَ قَدْ جَنَى ... وَصَبَّ عَلَيْهِ اللَّهُ سَوْطَ عَذَابِهِ (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "الكبائر للذهبي" (ص: 107). (¬2) والبيتان منسوبان إلى علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، كما في "ديوانه". (¬3) انظر البيتين في: "ربيع الأبرار" للزمخشري (1/ 184). (¬4) والأبيات منسوبة للإمام الشافعي، كما في "ديوانه".

وفي "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "مَنْ كانتْ عندَهُ مَظْلَمَةٌ لأخيه من عِرْضٍ أو شيء، فَلْيتحلَّلْهُ منهُ اليومَ من قبلِ أَلَّا يكونَ له دينارٌ ولا درهمٌ، إنْ كان له عملٌ صالح، أُخذ منه بقدرِ مظلمتِهِ، وإن لم يكنْ له حسناتٌ، أُخِذَ من سيئاتِ صاحبهِ فَحُمِلَ عليه" (¬1). ورواه التّرمذي أيضًا، وقال في آخره: "رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا كانتْ له عندَ أخيهِ مظلمةٌ في عرضٍ أو مالٍ" (¬2). وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أَتَدْرونَ مَنِ الُمْفِلسُ؟ "، قالوا: المفلسُ فينا مَنْ لا درهمَ له ولا مَتاعَ، فقال: "إنَّ المفلسَ مِنْ أُمَّتي مَنْ يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتمَ هذا، وقذفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيُعْطى هذا من حسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فنيت حسناتُه قبلَ أن يقضيَ ما عليه، أُخِذَ من خطاياهُم، فطُرحَتْ عليه، ثُمَّ طُرح في النّار". ورواه التّرمذي أيضًا (¬3). * * * ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2317)، كتاب: المظالم، باب: من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له، هل يبين مظلمته. (¬2) رواه الترمذي (2419)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص. (¬3) رواه مسلم (2581)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، والترمذي (2418)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1340)، كتاب: الزكاة، باب: ما أدي زكاته فليس بكنز، و (1378)، باب: زكاة الورق، و (1390)، باب: ليس فيما دون خمس ذود صدقة، و (1413)، باب: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ومسلم (979/ 1 - 5)، في أول كتاب: الزكاة، وأبو داود (1558 - 1559)، كتاب: الزكاة، باب: ما تجب فيه الزكاة، والنسائي (2445 - 2446)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الإبل، و (2473 - 2476)، باب: زكاة الورق، و (2483)، باب: زكاة التمر، و (2484)، باب: زكاة الحنطة، و (2485)، باب: زكاة الحبوب، و (2486 - 2487)، باب: القدر الذي تجب فيه الصدقة، والترمذي (626)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في صدقة الزرع والتمر والحبوب، وابن ماجه (1793)، كتاب: الزكاة، باب: ما تجب فيه الزكاة من الأموال، و (1799)، باب: صدقة الإبل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 13)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 124)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 120)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 457)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 10)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 49)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 186)، =

(عن أبي سعيدٍ) سعدِ بنِ مالكِ بنِ سِنان (الخدريِّ -رضي اللَّه عنه-، قالَ: قالَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ليسَ فيما دُونَ خمسٍ أواقٍ) -بالتنوين؛ كجوارٍ -، ويقال: أَواقي -بالتشديد والتخفيف- (¬1)، ويقال: أُوقِيَّة -بضم الهمزة وتشديد الياء-، ووقية، وأنكرها بعضهم. والأوقيةُ أربعون درهمًا بالاتفاق، فالنصابُ مئتا درهم (¬2)، فليس فيما دونها من الفضة (صدقةٌ). ولا شيءَ في المغشوش حتّى يبلغ خالصُه نصابًا، فإن شكَّ هل فيه نصابٌ خالصٌ؟ خُيِّرَ بين سبكهِ وإخراجِ زكاةِ نقدِه إن بلغ نصابًا، وبينَ استظهارِه وإخراجِ قدرِ زكاته بيقين (¬3). والاعتبارُ بالدرهم الإسلامي الذي زِنَتُه ستةُ دَوانِقَ، والعشرةُ دراهمَ سبعةُ مثاقيلَ، فالدرهمُ نصفُ مثقال، وخُمُسه، فيكون خمسين حبةَ شعير، وخُمسَ حبة. وكانت الدراهم في صدر الإسلام صنفين: سوداء وهي البغلية: نسبةً إلى ملك يقال له: رأسُ البغل، الدرهمُ منها ثمانيةُ دوانقَ. ¬

_ = و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 802)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 167)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 310)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 256)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 11)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 131)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 199). (¬1) يقال في كل جمع إذا كان مفرده مشددًا: إنه يجوز في جمعه الوجهان -يعني: التشديد والتخفيف-. قاله ابن السِّكيت في "إصلاح المنطق" (ص: 178). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 186). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 344)، و"الإقناع" للحجاوي (1/ 434).

والطبريةُ: نسبةً إلى طبرية الشام، الدرهمُ أربعة دوانق. فجمعتهما بنو أمية، وجعلوهما درهمين متساويين، كلُّ درهم ستة دوانق، فيردُّ نصابُ زكاة النقدين إلى المثقال والدرهمِ الإسلامي (¬1). وملكُ النصاب شرطٌ لوجوب الزكاة، ففي أثمانٍ وعروضٍ تقريبٌ، ولا يضرُّ نقصُ حبة أو حبتين؛ خلافًا لأبي حنيفة والشَّافعي. وقال الإمام مالك: إن نقص نقصًا يسيرًا يجوز جواز الوازنة، وجبت الزكاة؛ لأنّها تقوم مقام الوازنة، وإن لم تجز، أثر نقصُ درهم، وكذا إن لم تكن مضروبة (¬2). وفي الذهب ثلثُ مثقال. وفي ثمر وزرع: تحديدٌ، وقيل: تقريب، فلا يؤثر نحو رِطلين ومُدَّين، ويؤثران على الأول، وعليهما، فلا اعتبارَ بنقصٍ يتداخل في المكاييل؛ كالأوقية. وتجب الزكاةُ فيما زاد على النصاب؛ وفاقًا، وقاله أَبو يوسف، ومحمد، ولو لم يبلغ نقدًا أربعين درهمًا، أو أربعة دنانير؛ خلافًا لأبي حنيفة، إلا السائمةَ، فلا زكاة في وَقْصها (¬3). وأمّا نصابُ الذهب، فعشرون مثقالًا؛ لحديث علي -رضي اللَّه عنه-، عن النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليسَ في أقلَّ من عشرينَ دينارًا شيءٌ، وفي عشرينَ نصفُ دينارٍ" رواه أَبو داود بإسناد صحيح (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 433 - 434). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 317 - 318). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 250). (¬4) رواه أَبو داود (1573)، كتاب: الزكاة، باب: في زكاة السائمة.

والمثقال: درهمٌ، وثلاثة أسباع درهم، ولم يتغير المثقال في جاهلية ولا إسلام، وهو ثنتان وسبعون حبةَ شعيرٍ متوسطةً. وقيل: ثنتان وثمانون حبة، وثلاثةُ أعشار حبة من الشعير المطلق، ولا تنافي بينهما. وزِنَةُ العشرين مثقالًا بالدراهم ثمانيةٌ وعشرون درهمًا، وأربعةُ أسباع درهم، وبدينار الوقت الآن، الذي زنتهُ درهمٌ وثمنُ درهم، خمسةٌ وعشرون دينارًا، وسُبعا دينار وتُسْعُه (¬1). ويُضم أحدُ النقدين إلى الآخر في تكميل النصاب؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك؛ لاتفاق مقاصدِهما، وزكاتهما، فهما كنوعي الجنس. وعن الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- رواية ثانية؛ أنّه لا يُضم أحد النقدين إلى الآخر في تكميل النصاب. قال صاحب "المحرر": يروى أنَّ الإمام أحمد رجع إليها أخيرًا، واختارها أَبو بكر، وقدمها في "الكافي" (¬2)، و"الرعاية"، وابن تميم؛ وفاقًا للشّافعي؛ للعموم، والمذهبُ الأوّلُ (¬3). ويكون الضمُّ بالأجزاء لا بالقيمة، فعشرةُ مثاقيل ذهبًا نصفُ نصاب، ومئةُ درهمٍ نصفٌ، فإذا ضُمَّا، كمل النصاب، وإذا بلغ أحدُهما [نصابًا] (¬4)، ضم إليه ما نقص عن الآخر (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 433). (¬2) انظر: "الكافي" لابن قدامة (1/ 309). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 346). (¬4) في الأصل: "نصيبًا". (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 438).

(ولا فيما دونَ خمسِ ذَوْدٍ) من الإبل (صدقةٌ) مفروضة. وأنكر ابنُ قتيبة أن يقال: خمس ذود، كما لا يقال: خمس ثوب (¬1)، وكأنّه يرى أن الذودَ ينطلق على الواحد، وغلط في ذلك، لشيوع هذا اللفظ في الحديث الصحيح، وسماعه من العرب؛ كما صرح بذلك أهل اللغة (¬2). قال في "المطالع": الذَّوْدُ: من الثلاثِ إلى التسع في الإبل، وإن ذلك يختص بالإناث، قاله أَبو عبيد، وقال الأصمعي: ما بين الثلاث إلى العشرة، وقال غيره: واحد (¬3). ومقتضى لفظ الأحاديث انطلاقُه على الواحد، وليس فيه دليلٌ على ما قالوه، وإنما هو لفظ للجميع؛ كما قالوا: ثلاثة رهط، ونسوة، ونفرٍ، وفسروه، ولم يقولوه لواحد منها. وذكر ابن عبد البر: أن بعض الشيوخ رواه: في خمسٍ ذودٍ، على البدل، لا على الإضافة (¬4). وهذا إن تصور له هنا، فلا يتصور في قوله: أعطانا خمسَ ذود (¬5). قال القسطلاني في "شرح البخاري": الذودُ يقع على المذكر والمؤنث، والجمع والمفرد، فلذا أضاف خمس إليه (¬6). قال في "الفروع": أقلُّ نصاب الإبل خمسٌ؛ إجماعًا، فتجب فيها شاةٌ؛ ¬

_ (¬1) انظر: "المسائل والأجوبة" لابن قتيبة (ص: 247). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 50)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 323). (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 271). (¬4) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 126). (¬5) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 271). (¬6) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 11)، نقلًا عن ابن المنير.

إجماعًا، ويعتبر كون الشاة بصفة الإبل، لا بغالب غنم البلد؛ خلافًا لمالك، ثمَّ في كل خمسٍ شاةٌ إلى خمس وعشرين، ففيها بنتُ مخاضٍ لها سنةُ، وفي ستٍّ وثلاثين بنتُ لبون لها سنتان، وفي ستٍّ وأربعين حُقَّةٌ لها ثلاثُ سنين، وفي إحدى وستين جَذَعَةٌ لها أربعُ سنين، وفي ستٍّ وسبعين بِنْتا لَبون، وفي إحدى وتسعين حُقَّتان، وفي إحدى وعشرين ومئةٍ ثلاثُ بناتِ لَبون، ثمَّ تستقر الفريضة، ففي كل أربعينَ بنتُ لَبون، وفي كل خمسين حُقَّةٌ (¬1). (وليسَ فيما دونَ خمسةِ أَوْسُقٍ) والوَسْقُ ستون صاعًا، والصاعُ خمسةُ أرطال، وثلثٌ بالعراقي، فيكون النصاب ألفًا وست مئة رطل عراقي، ومئتان وسبعة وخمسون رطلًا،، وسُبعْ رِطْلٍ بالقدسي، وما وافقه (¬2). والوسقُ والصاعُ والمدُّ مكاييلُ ضُبطت بالوزن؛ لتحفظ، والمرادُ بالأوسق: من المكيلِ المدَّخَرِ من قوتٍ وغيره، نقله أَبو طالب عن الإمام أحمد. وكذا نقل صالحٌ، وعبدُ اللَّه: ما كان يُكال ويُدَّخر، ويقع فيه القفيزُ، ففيه العُشْر. وعند الشّافعيّة: المقتاتُ في حال الاختيار، وهو من الثمار: الرُّطَبُ والعنبُ، ومن الحَبِّ: الحنطةُ، والشعيرُ، والذرة، واللوبيا، والماشُ، والسُّلْتُ، والأرز، والعدس، والحِمِّصُ، والباقِلاء، والدُّخْنُ، والجُلْبانُ، ونحوها، وكذا مذهب الإمام مالك، إلا أنّه زاد: السمسمَ والترمس. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 277 - 278). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 184)، و"الفروع" لابن مفلح (2/ 315)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 129).

وعند أبي حنيفة: تجب في الفواكه، والخضر، والبقول. وعند أبي يوسف، ومحمد: إنّما تجب في كل ما يبس وبقي من زرعٍ وثمرةٍ، وإن لم يكن مَكيلًا؛ كالتين ونحوه، لا في الخضراوات وبذورها (¬1). (صدقةٌ) واجبة؛ لعدم بلوغه النصاب، وفي لفظ: "ليسَ فيما دونَ خمسةِ أوساقٍ من تمرٍ، ولا حَبٍّ صدقةٌ" (¬2)، وفي لفظ: "ليسَ في حَبٍّ ولا تَمرٍ صدقةٌ حتّى يبلغَ خمسةَ أوسق" (¬3)، وفي بعض ألفاظ البخاري: "ليس في أقلَّ من خمسةِ أوسقٍ، ولا في أقلَّ من خمسةٍ من الإبلِ الذودِ صدقةٌ، ولا في أقلَّ من خمسةِ أواقٍ [من الوَرِق] صدقة" (¬4)، وفي لفظ آخر: وأشار النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بكفه بخمسِ أصابعه (¬5). وكل هذه ألفاظ حديث أبي سعيد في "الصّحيحين"، أو أحدهما، واللَّه أعلم. تنبيه: أجمع العلماء على وجوب الزكاة في أربعة أصناف: المواشي، وجنس الأثمان، وعُروض التجارة، والمكيلِ المدَّخَر من الثمار والزروع بصفات مخصوصة. فأما المواشي، وجنس المقتات، وعروض التجارة المتفق على وجوب ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 311). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (979/ 4). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (979/ 5). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1413). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (979/ 2).

الزكاة فيها، فالإبل، والبقر، والغنم، بشرط كونها سائمة. ولا بدَّ من كمال النصاب، واستقرار الملك، وكمال الحول، وكون المالكِ حرًا مسلمًا. ومعتمد مذهب الإمام أحمد: وجوبُها حتّى في بقر الوحش وغنمِه؛ لشمول اسمِ البقر والغنم لهما؛ خلافًا للإمام الموفق، وجمعٍ، وصحح الشارح عدمَ الوجوب؛ لمفارقتها الأهليةَ صورةً وحكمًا، والإيجاب من الشارع، ولم يرد عنه نصٌّ، ولا يصحُّ القياس لوجود الفارق، والقولُ بوجوب الزكاة فيهما، وفي المتولد بين ذلك وغيره من المفردات. وتجب في الخارج من الأرض وما في حكمه من العسل، والأثمان، وعروض التجارة، واللَّه الموفق (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 387 - 388)، و"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 167).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ:"لَيْسَ عَلَى المُسْلِمِ في عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ" (¬1). وَفي لَفْظٍ: "إلا زَكَاةَ الفِطْرِ في الرَّقِيقِ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1394)، كتاب: الزكاة، باب: ليس على المسلم في فرسه صدقة، و (1395)، باب: ليس على المسلم في عبده صدقة، ومسلم (982/ 8 - 9)، كتاب: الزكاة، باب: لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه، وأبو داود (1595)، كتاب: الزكاة، باب: صدقة الرقيق، والنسائي (2467 - 2470)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الخيل، و (2471 - 2472)، باب: زكاة الرقيق، والترمذي (628)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء: "ليس في الخيل والرقيق صدقة"، وابن ماجه (1812)، كتاب: الزكاة، باب: صدقة الخيل والرقيق. (¬2) رواه مسلم (982/ 10)، كتاب: الزكاة، باب: لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه، بلفظ: "ليس في العبد صدقة، إلا صدقة الفطر"، وأبو داود (1594)، كتاب: الزكاة، باب: صدقة الرقيق، باللفظ الذي ساقه المصنف -رحمه اللَّه-. قال ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام" (2/ 189): هذه الزيادة ليست متفقًا عليها، وإنما هي عند مسلم فيما أعلم. وكذا قال ابن العطار في "العدة في شرح العمدة" (2/ 809)، والزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 168)، وابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (5/ 53). وسيأتي تنبيه الشارح =

(عن أبي هريرةَ) عبدِ الرحمنِ بن صخرٍ (-رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ليس على المسلم في عبدِه)، وفي لفظ: " [و] غُلامِه صدقةٌ" (¬1) ما لم يكنْ للتجارةِ، ففي ثمنه زكاةٌ. (ولا)؛ أي: وليس على المسلم في (فَرَسِه) الشاملِ للذكر والأنثى، والجمعُ أفراس (¬2). قال في "حياة الحيوان": الفرسُ واحدُ الخيل، الذكرُ والأنثى فيه سواء، وأصلُه التأنيث، وحكى ابنُ جني والفراء: فَرَسَةٌ، وتصغيرُ الفرس فُرَيْس، وإن أردتَ الأنثى خاصة، لم تكن إلا فُرَيْسة -بالهاء-، ولفظها مشتقة من الافتراس، لكونها تفترس الأرض بسرعة مشيها (¬3). (صدقة) ما لم تكن للتجارة، فإن كانت كذلك، ففي قيمتها الزكاة إذا بلغت نصابًا. وهذا مذهب الأئمة الثلاثة. ¬

_ = -رحمه اللَّه- عليه من كلام الحافظ عبد الحق الإشبيلي. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 236)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 469)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 14)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 55)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 188)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 809)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 327)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 35)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 52)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 126)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 196). (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1394). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 52). (¬3) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 664).

وقال أَبو حنيفة: إذا كانت سائمة الخيل ذكورًا وإناثًا، ففيها الزكاة، وإذا كانت ذكورًا منفردة، أو إناثًا منفردة، فعنه في ذلك روايتان؛ من حيث إنّ النماء بالنسل لا يحصل إلا باجتماع الذكور والإناث، وحيث وجبت الزكاة، فهو مخير بين أن يُخرج عن كل فرس دينارًا، أو يُقَوَّم ويُخرج عن كل مئتي درهم خمسةَ دراهم (¬1). وأمّا البغالُ والحميرُ، فلا زكاة فيها اتفاقًا، ما لم تكن معدة للتجارة، فحكمُها حكم التجارات، واللَّه أعلم. (وفي لفظ) من حديث أبي هريرة عند مسلم: (إلا) أنّها تجب (زكاةُ الفطرِ في الرقيق). قال الحافظ عبدُ الحق الإشبيلي في "الجمع بين الصّحيحين": ولم يقل البخاري: "إلا صدقة الفطر"، نعم، صح فيهما من حديث ابن عمر وغيره -رضي اللَّه عنهم-: أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فرضَ زكاةَ الفطرِ من رمضانَ على النّاس صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين، ويأتي في زكاة الفطر. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 188).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ:"العَجْمَاءَ جُبَارٌ، والبِئْرُ جُبَارٌ، والمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفي الرِّكَازِ الخُمُسُ" (¬1). الجبار: الهَدَرُ الذي لا شيء فيه، والعجماء: الدابَّة. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1428)، كتاب: الزكاة، باب: في الركاز الخمس، و (2228)، كتاب: المساقاة، باب: من قال: إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى، و (6514)، كتاب: الديات، باب: المعدن جبار والبئر جبار، و (6515)، باب: العجماء جبار، ومسلم (1710/ 45 - 46)، كتاب: الحدود، باب: جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، وأبو داود (4593)، كتاب: الديات، باب: العجماء والمعدن والبئر جبار، والنسائي (2495 - 2498)، كتاب الزكاة، باب: المعدن، والترمذي (642)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء أن العجماء جرحها جبار، وفي الركاز الخمس، و (1377)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في العجماء جرحها جبار، وابن ماجه (2673)، كتاب: الديات، باب: الجبار. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 39)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 147)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 145)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 552)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 143)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 225)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 189)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 811)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 365)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 101)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 82)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 136)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 210).

(عن أبي هريرةَ -رضي اللَّه عنه-: أنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: العَجْماءُ) -بفتح العين المهملة وسكون الجيم والمد-؛ أي: البهيمة، سميت بذلك؛ لأنّها لا تتكلم، ويقال أيضًا لكل حيوان غير الإنسان، ويقال أيضًا لمن لا يُفصح، والمراد هنا: الأوّل (¬1). (جُبَار) -بضم الجيم وتخفيف الموحدة-؛ أي: هدر غير مضمون (¬2). وفي لفظ لمسلم: "جرحُها جبارٌ" (¬3)، ولا بُدَّ في رواية البخاري من تقدير؛ إذ لا معنى لكون العجماء نفسها هدرًا، وقد دلت رواية مسلم على أن ذلك المقدَّر هو الجرح، فوجب المصير إليه، لكن الحكم غير مختص به، بل هو مثال نبه به على غيره، والمراد: أنَّ إتلافات العجماء هدرٌ لا شيء فيه، وإنّما عبر بالجرح؛ لأنّه الأغلبُ، فإذا انفلتت دابةٌ، فصدمت إنسانًا، فأتلفته، أو أتلفت مالًا، فلا غرم على مالكها، أمّا إذا كان معها، فعليه ضمانُ ما أتلفته، سواء أتلفت ليلًا أو نهارًا، وسواء كان سائقَها أو راكبَهَا أو قائدَها، وسواء كان مالكَها، أو أجيرَه، أو مستأجرًا أو غاصبًا، أو موصًى له بنفعها، وسواءٌ أتلفَتْ بيدها، أو عضِّها، أو وَطْئها برجلِها، لا ما نفحت جيادًا لم يكبحها؛ أي: يجذبها بنحو لجام زيادة على العادة، أو يضربها في وجهها، ولو لمصلحة، ولا يضمن ما جنت بذنبها، وإن جنت على راكبها ونحوه، فهدر، وإن ركبها اثنان، ضمن الأوّل منهما، إلا أن يكون صغيرًا، أو مريضًا، ونحوهما، والثّاني متولٍّ تدبيرها، فعليه ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 68)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 255). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 189). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1710/ 45 - 46)، وكذا هي في رواية البخاري المتقدم تخريجها برقم (6514).

الضمانُ، وإن اشتركا في التصرف، اشتركا في الضمان، وكذا لو كان معها سائق وقائد، وإن كان معهما، أو مع أحدهما راكب، شاركهما. والإبل المقطَّرة، وكذا البغال، كالواحدة، على قائدها الضمان، وإن كان معه سائق، شاركه في ضمان الأخير فقط إن كان في آخرها، وإن كان في أولها، شارك في الكل، وإن كان فيما عدا الأول، شارك في ضمان ما باشر سوقَه، وفيما بعده، دون ما قبله. وأمّا إذا كانت البهيمة لا يدَ لأحد عليها، فأتلفت شيئًا، ولو صيدَ حرم، فلا ضمان على صاحبها ما لم تكن ضارية. وعند الشّافعية: يضمن القائد والسائق والراكب حتى ما أتلفت برجلها وذنبها. وقال مالكٌ: القائدُ والراكبُ والسائقُ كلُّهم ضامنون لما أصابتِ الدابةُ، إلا أن ترمح الدابة من غير أن يُفعل بها شيء ترمح له. وقال أَبو حنيفة: إنَّ الراكب والقائد لا يضمنان ما نفحت الدابة برجلها أو ذنبها، إلا إن أوقفها في الطريق. واختلفوا في السائق، فقال القدوري وآخرون: إنّه ضامن لما أصابت بيدها ورجلها؛ لأن النفحة بمرأى عينه، فأمكنه الاحتراز عنها. وقال أكثرهم: لا يضمن النفحةَ أيضًا، وإن كان يراها؛ إذ ليس على رجلها ما يمنعها به، فلا يمكنه التحرُّزُ عنه؛ بخلاف الكدم؛ لإمكانه كبحها بلجامها، وصححه صاحب "الهداية" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 82).

(والبئرُ) يحفرها الرجلُ في ملكه، فيسقط فيها رجلٌ، أو دابة، فيهلك (جُبارٌ) لا ضمانَ عليه. أمّا إذا حفرها في طريق المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذن مالك، فتلف فيها إنسانٌ، وجب ضمانُهُ على عاقلةِ حافرٍ، وعليه -أي: الحافر- الكفارةُ، وإن تلف بها غيرُ آدمي، فعلى الحافر (¬1). وأمّا إذا حفر بئرًا محرمًا في فِنائه، أو فِناء غيره، أو في طريق لغير مصلحة المسلمين، أو في ملك غيره بغير إذنه، ضمن، وإن حفرها بملكه، أو وضع فيها حجرًا أو حديدة وسترها، فمن دخل بإذنه، وتلف بها، فالقودُ، وإلا فلا، كمكشوفة بحيث يراها إن كان بصيرًا، أو دخل بغير إذنه (¬2). وإن حفرها في سابلة واسعة لنفع المسلمين بلا ضرر بالمارة، لا لنفع نفسه، ولو بغير إذن الإمام، لم يضمن ما تلف بها؛ كبناء جسر، وكذا لو حفرها في مَواتٍ لتُمْلَك، أو ارتفاق، أو انتفاع عام، وإن فعله فيها لنفع نفسه، أو كان يضر بالمارة، أو في طريق ضيق، ضمن، سواء فعله لمصلحة عامة، أو لا، بإذن الإمام، أو لا؛ لأنّه ليس له أن يأذن فيه (¬3). (والمَعْدِنُ): مأخوذ من العدن، وهو الإقامة، والمعدن مركزُ كل شيء، والجمع معادن، وهي المواضع التي يُستخرج منها جواهر الأرض؛ كالذهب؛ والفضة؛ والنحاس، وغير ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 139 - 140). (¬3) المرجع السابق، (2/ 596). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 192).

فإذا حفر الإنسان في ملكه، أو موات أيضًا لاستخراج ما فيه، فتلف به شيء (جبار) لا ضمانَ فيه؛ لعدم تعديه (¬1). (و) يجب (في الرِّكاز)، وهو الكنز من دفْنِ الجاهلية، وعند أهل العراق: هي المعادن؛ لأنّها ركزت في الأرض؛ أي: ثبتت (¬2). (الخمسُ) في الحال اتفاقًا؛ أيَّ نوع كان من المال، ولو غيرَ نقد، قَلَّ أو كثر، ويجوز إخراج الخمس من غيره، ويُصرف مصرِفَ الفيء المطلق للمصالح كلها (¬3). وفي عطف الركاز على المعدن دلالةٌ على تغايرهما، واختصاص الخمس بالركاز دون المعدن. واتفق الأئمة الأربعة على وجوب الخمس، سواء كان في دار الإسلام، أو دار الحرب؛ خلافًا للحسن؛ حيث فَرَّقَ بين كونه في دار الحرب، ففيه الخمس، أو دار الإسلام، فهو كالمعدن. وعند الشّافعيّة مَنْ شرطَ وجوب الخمس في الركاز بلوغَ النصاب، وكونَه من النقدين، وهو مذهب مالك أيضًا. وقال أَبو حنيفة: إن وجده في صحراء دار الحرب، فلا خُمس فيه، وهو لواجده (¬4). واتفقوا على أنّه يجب فيه الخمس، كَتَمَهُ واجدُه أو أظهرَه، إلا ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 82 - 83). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 289). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 369). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 83).

أبا حنيفة، فإنّه قال: إن كتمه واجده، فلا شيء فيه، ومعتمدُ مذهبنا كالحنفية: أنَّ مصرف خُمس الركاز مصرفُ الفيء. وقال الشّافعيّ: مصرفه مصرفُ الصدقات. وقال مالك: هو والغنائم والجزية، وما أخذ من تجار أهل الذمة، وما صولح عليه الكفار، ووظائف الأرضين، كل ذلك يجتهد الإمام في مصارفه على قدر ما يراه من المصلحة (¬1). قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: (الجبار) -بضم الجيم وتخفيف الموحدة فألف ساكنة فراء-: (الهدرُ الذي لا شيء فيه)، لا طلبَ فيه، ولا قَوَدَ، ولا دِيَةَ، وأصلُه: أنَّ العرب تسمي السّيلَ جُبارًا لهذا المعنى؛ كما في "المطالع" (¬2). (والعجماءُ: الدابَّةُ)، وتقدّم أن كلَّ من لا يقدر على الكلام فهو أعجمُ، ومنه حديث: "بعدد كلِّ فصيحٍ وأعجم" (¬3)، قيل: أراد: بعدد كلِّ آدمي وبهيمة (¬4)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 329 - 330)، و"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 226). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 137). (¬3) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 91)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/ 181)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (565)، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 187).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: بَعَثَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقِيلَ: مَنَعَ ابنُ جَمِيلٍ، وخَالِدُ بْنُ الوليدِ، والْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وأمّا خالِدٌ، فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، وَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وأَعْتَادَهُ في سَبِيل اللَّهِ، وأَمَّا العَبَّاسُ، فَهِيَ عَلَيَّ وِمثْلُها"، ثُمَّ قَالَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا عُمَرُ! أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟ " (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1399)، كتاب: الزكاة، باب: قول اللَّه تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} إلى قوله {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]، ومسلم (983)، كتاب: الزكاة، باب: في تقديم الزكاة ومنعها، واللفظ له، وأبو داود (1623)، كتاب: الزكاة، باب: في تعجيل الزكاة، والنسائي (2464)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء السيد المال بغير اختيار المصدق، والترمذي (3761)، كتاب: المناقب، باب: مناقب العباس بن عبد المطلب -رضي اللَّه عنه- مختصرًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 53)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 471)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 15)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 56)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 191)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 814)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 169)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 332)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 5)، =

(عن أبي هريرةَ) أيضًا (-رضي اللَّه عنه-، قال: بعثَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) الإمامَ (عمرَ) بنَ الخطّاب (-رضي اللَّه عنه-) عاملًا (على الصدقة)، وهذا لفظ مسلم. وفي رواية له أيضًا: بعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عمرَ ساعيًا على الصدقة (¬1)، وأما لفظ البخاري، فقال: أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالصدقة. فزعم بعضُهم أنها صدقةُ تطوُّع، ورجَّحه بعض المحققين؛ تحسينًا للظن بالصّحابة؛ إذ لا يظن بهم منعُ الواجب، وعلى هذا، فعذرُ خالدٍ واضح؛ لأنّه أخرج ماله في سبيل اللَّه، فما بقي له مال يحتمل المواساة، وتُعقب بأنّهم ما منعوه جحدًا ولا عنادًا، فالظاهر أنّها الصدقة الواجبة؛ لتعريف الصدقة باللام العهدية. وقال الإمام النّووي: إنّه الصحيح المشهور (¬2). ويؤيده رواية مسلم المذكورة؛ فإنّها مُشعرة بأنّها صدقةُ الفرض؛ لأنَّ صدقة التطوع لا تُبعث عليها السعاة (¬3). ¬

_ = و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 57)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 65)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 212). (¬1) قلت: كذا نقله الشارح -رحمه اللَّه- عن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/ 332): أن مسلمًا رواه بهذا اللفظ من طريق ورقاء، عن أبي الزناد، به. وليس هذا اللفظ الذي ذكره الحافظ من رواية مسلم، إنما لفظه فيه ما قد ساقه المصنف -رحمه اللَّه- هنا وهو: "بعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر ساعيًا على الصدقة". نعم رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2330)، والدارقطني في "سننه" (2/ 123)، وغيرهما من طريق ورقاء، عن أبي الزناد، باللفظ الذي ذكره الحافظ، وعنه نقله الشارح -رحمه اللَّه-. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 57). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 57 - 58).

(فقيل) القائل عمر -رضي اللَّه عنه-؛ لأنّه المرسَل: (منعَ ابنُ جميل) أن يعطي الزكاةَ؛ كما في رواية أبي عبيد في آخر الحديث: أن يعطوا (¬1)، وهو مقدر، ولا بد؛ لأنَّ "منع" يستدعي مفعولًا، وقوله في الرواية: "أن يعطوا" في محل نصب على المفعولية، وكلمة "أن" مصدرية، أي: منع هؤلاء الإعطاء (¬2). وابن جميل:-بفتح الجيم وكسر الميم-. قال ابن مندَهْ: لم يُعرف اسمُه، ومنهم من سماه: حميدًا، وقيل: عبد اللَّه، وذكره الذهبي فيمن عُرف بأبيه ولم يُسَمَّ (¬3). وقال ابن الجوزي: في الصّحابة جماعةٌ لا يعرفون إلا بآبائهم، منهم ابنُ جميل (¬4). وفي كتاب "رجال العمدة" لعبد القادر من المتأخرين: أنّه رأى في كتاب "شرح الأمثال" لأبي عبيد البكري: أنَّـ[ـه]، أَبو جهم بن جميل، وشكَّ هل رأى: أَبو جهم، أو أَبو جهيم (¬5)؟ وقد قيل: إنّه كان منافقًا، ثمَّ تاب بعد؛ كما حكاه المهلَّب، قيل: وفيه نزل قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا} الآية في قوله: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة: 74]، فقال: استتابني اللَّه، فتاب، وصلح حاله، والمشهور في ¬

_ (¬1) رواه أَبو عبيد في "الأموال" (ص: 705)، ووقع عنده: "يتصدقوا". بدل "يعطوا". (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 58). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "تلقيح فهوم أهل الأثر" لابن الجوزي (ص: 283). (¬5) وانظر: "عمدة القاري" للعيني (9/ 46).

الآية أنّها نزلت في غير ذلك، كما في "شرح الزهر البسام" للبرماوي (¬1). (و) منع (خالدُ بنُ الوليدِ) بنِ المغيرة بنِ عبدِ اللَّه بنِ عمرَ بنِ مخزومِ بنِ يقظةَ بنِ مرةَ بنِ كعبِ بنِ لؤيٍّ، القرشيُّ المخزوميُّ، يكنى: أبا سليمان، وأمّه لُبابةُ الصغرى -بضم اللام وتخفيف الموحدة بعدها ألف ثمَّ موحدة-، وأمّا أختها لبابة الكبرى، فامرأةُ العبّاس أمُّ عبدِ اللَّه بنِ عبّاس وإخوته، وكلاهما بنتُ الحارثِ، أختُ ميمونةَ بنتِ الحارث زوجِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كما تقدّم-. وخالدٌ أحدُ أشراف قريش، قال الزبير: كانت له العقبةُ، وأعِنَّةُ الخيل، أمّا العقبة، فكانوا يضربونها يجمعون فيها ما يجهزون به الجيش، وأمّا الأعنة، فإنه كان يكون المقدَّمَ على خيول قريش في الحرب، ولم يزل يولِّيه النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعِنَّةَ الخيل، فيكون في مقدَّمها في محاربة العرب، هاجر بعد الحديبية، وكانت في ذي العقدة سنة ست، والمشهور أنّه إنّما هاجر سنة ثمان مع عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، وأبلى في الإسلام بلاءً حسنًا، وسماه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة مؤتة: سيفَ اللَّه، ولا يصحُّ له مشهدٌ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل فتح مكة، ولمّا عزله عمر -رضي اللَّه عنه- عن حِمْصَ، لم يُر مرابطًا بها إلى أن مات -رضي اللَّه عنه- سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين، وقبره مشهور هناك على نحو ميل من حمص -رضي اللَّه تعالى عنه-. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثمانية عشر حديثًا، اتفقا منها على حديث واحد، واللَّه أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) قلت: في "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 193): منع أَبو جهم وخالد بن الوليد والعباس عم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 170): وقد يؤخذ من ذلك: أن كنيته ابن جميل، واسمه أَبو جهم. (¬2) انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 394)، و"التاريخ الكبير" =

(و) منع (العبّاسُ) بنُ عبدِ المطلبِ بنِ هاشم -رضي اللَّه عنه- (عَمُّ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-)، كنيتهُ: أَبو الفضل، وكان أَسَنَّ من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بسنتين، وقيل: بثلاث، وأمُّه امرأةٌ من النَّمِرِ بنِ قاسطٍ، اسمها نُتَيْلَة -بضم النون وفتح المثناة فوق-، وهي أوّل عربية ألبست الكعبةَ الحريرَ والديباجَ وأصنافَ الكسوة، وذلك أنَّ العبّاس ضلّ وهو صبيٌّ، فنذرت إن وجدته، لتكسوَنَّ البيتَ الحرام، فوجدته، ففعلت ذلك. وكان العبّاس رئيسًا في الجاهلية، وإليه كانت عِمارةُ المسجد الحرام وسقايتُه، وحضر بيعةَ العقبة يسدِّدُ العقدَ مع الأنصار للنَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يكن أسلم حينئذ، وكان أنصرَ النّاس لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد أبي طالب، وكان جوادًا، وَصولًا للرحم، وكان النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يكرمه، ويُجِلُّه، وكان له من الولد: الفضلُ، وعبد اللَّه، وعبيد اللَّه، وعبد الرحمن، وقُثَم، ومَعْبَد، وكلهم من أُمِّ الفضل، وفيهم يقولُ الشاعر (¬1): [من الرجز] مَا وَلَدَتْ نَجِيبَةٌ مِنْ فَحْلِ ... كَسِتَّةٍ مِنْ بَطْنِ أُمِّ الفَضْلِ أَكْرِمْ بِهَا مِنْ كَهْلَةٍ وَكَهْلِ ¬

_ = للبخاري (3/ 136)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 356)، والثقات "لابن حبان" (3/ 101)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 336)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1453)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (16/ 216)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 140)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 174)، و"تهذيب الكمال" للمزي (8/ 187)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 366)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (2/ 251)، و"تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (3/ 107). (¬1) هو عبد اللَّه بن يزيد الهلالي، كما في "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 277 - 278)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 384)، وغيرهما.

وله منها بنت يقال لها: أم حبيبة، ومن غيرها جماعة؛ كما أشار إلى ذلك ابن الجوزي في "منتخب المنتخب". ولد قبل سنة الفيل، ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من رجب سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، ودفن بالبقيع، وعليه القبةُ الكبيرةُ الشهيرة، وصلّى عليه عثمانُ بن عفان. وكان العبّاس -رضي اللَّه عنه- أسلمَ قديمًا، وكتمَ إسلامه، وخرج مع المشركين يومَ بدر مُكْرَهًا، فقال النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ لَقِيَ العَبَّاسَ، فَلَا يَقْتُلْهُ؛ فإنَّه خرجَ مُكْرَهًا" (¬1)، فأسره أَبو اليَسَر -بفتح المثناة تحت وفتح السين المهملة- كعبُ بنُ عمرو، ففادى نفسه، ورجع إلى مكة، ثمَّ أقبل إلى المدينة مهاجرًا. رُوي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خمسة وثلاثون حديثًا، اتفقا على حديث، ولمسلم ثلاثة أحاديثَ، وللبخاري حديثٌ، ومناقبُه ومآثره كثيرة جدًا -رضي اللَّه عنه، وعن بنيه الطاهرين- (¬2). (فقال النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-) بيان لوجه الامتناع، ومن ثمَّ عبر بالفاء: (ما يَنْقِمُ ابنُ ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (347)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 10) عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 5)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 2)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 288)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 210)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 358)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 810)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (26/ 273)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 163)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 78)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 631).

جميل) -بكسر القاف مضارع نَقَم بالفتح-؛ أي: ما يكره، وَيُنْكِرُ (¬1). وفي "النهاية": أي: ما ينقم شيئًا من منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة (¬2)، ومن ثمَّ قال: (إلا أنّه)؛ أي: ابن جميل (كان فقيرًا، فأغناه اللَّه)، زاد في رواية البخاري: "ورسوله"؛ أي: من فضله بما أفاء اللَّه على رسوله، وأباح لأمته من الغنائم ببركته -عليه الصّلاة والسّلام-، والاستثناء مفرغ، فمحلُّ "أن" وصلتها نصبٌ على المفعول به، أو على أنّه مفعولٌ لأجله، والمفعولُ به حينئذ محذوف، ومعنى الحديث كما قاله غير واحد: أنه ليس ثَمَّ شيء ينقم ابنُ جميل، فلا موجبَ للمنع، وهذا مما يقصد العرب في مثله تأكيدَ النفي والمبالغةَ فيه بإثبات شيء، وذلك الشيء لا يقتضي إثباته، فهو منتف أبدًا، ويسمى مثل ذلك عند البيانيين: تأكيدَ المدح بما يشبه الذم، وبالعكس: فمن الأوّل: قول الشاعر (¬3): [من الطويل] وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِراعِ الكَتَائِبِ ومن الثّاني: هذا الحديثُ وشبهُه؛ أي: ما ينبغي لابن جميل أن ينقم شيئًا إلا هذا، وهذا لا يوجب له أن ينقم شيئًا، فليس له ثَمَّ شيء ينقمه، فينبغي أن يعطي مما أعطاه اللَّه، ولا يكفر بأنعمه، فكأن غناه أدّاه إلى كفر نعمة اللَّه تعالى (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 58). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 110). (¬3) هو النابغة الذبياني، كما في "ديوانه" (ص: 60)، (ق 4: 19). وقد جاء في الأصل المخطوط: "قروع" بدل "قراع"، والصواب ما أثبت. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 58).

(وأمّا خالدٌ، فإنَّكُم تظلمونَ خالدًا) عبر بالظاهر دون أن يقول: تظلمونه، مع أنّ المقام إضمارُه؛ تفخيمًا لشأنه، وتعظيمًا لأمره؛ نحو: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 3]، ونظائره، والمعنى: تظلمونه بطلبكم منه زكاةَ ما عندَه (¬1)، (و) الحال أنّه (قدِ احتبسَ)؛ أي: وقفَ قبل الحول (أدراعَه) جمعُ دِرْع -بكسر الدال المهملة وسكون الراء فعين مؤنثة، وقد تذكَّر-: الزردية من الحديد (¬2). (وأعتاده)، وفي رواية: "وأَعْتُدَهُ" (¬3)، وهو جمع قلة للعتاد، وهو ما أعدَّه الرّجل من السلاح والدوابِّ وآلة الحرب (¬4) (في سبيل اللَّه)، فلا زكاة عليه فيها، وتاء "أَعْتُدَهُ " مضمومة، جمع عَتَد -بفتحتين-. قال الدارقطني: قال الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: قال علي بن حفص: "وأعتاده"، وأخطأ فيه وصَحَّفَ، وإنّما هو: "وأعتده" (¬5). ورواه بعض رواة البخاري: "وأعبده" -بالموحدة- جمع عبد، حكاه عياض وغيرُه (¬6)، وهو موافق لراوية: "واحتبس رقيقه" (¬7). قال في "النهاية": وفي معنى هذا الحديث قولان: أحدهما: أنّه كان طولب بالزكاة عن أثمان الدروع والأعتُد على معنى: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 114). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1399). (¬4) قاله الأزهري في "تهذيب اللغة" (2/ 195)، (مادة: عتد). (¬5) انظر: "تصحيفات المحدثين" للعسكري (ص: 138)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 176). (¬6) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 471). (¬7) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 59).

أنّها كانت عنده للتجارة، فأخبرهم النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه لا زكاة عليه فيها، وأنّه قد جعلها حبسًا في سبيل اللَّه. والثّاني: أنّه اعتذار لخالد، ودفعٌ عنه، يقول: إذا كان خالدٌ قد جعل أدراعه وأعتُده في سبيل اللَّه تبرعًا وتقربًا إلى اللَّه، وهو غير واجب عليه، فكيف يستجيز منعَ الصدقةِ الواجبةِ عليه (¬1)؟! (وأمّا العبّاسُ) زاد البخاري: بنُ عبدِ المطلب عمُّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فصرَّحَ بوصفه بأنّه عمُّه، تنبيه على تفخيمه واستحقاق إكرامه، ودخول اللام على عبّاس مع كونه علمًا؛ للَمْحِ الصفة (¬2)، (فهي)؛ أي: الصدقة المطلوبة منه (عليَّ ومثلُها) معها. في معنى ذلك وجهان: أحدهما: أن تكون هذه اللفظة صيغة إنشاء لالتزام ما لزم العبّاس، ويؤيد ذلك قوله: (ثمَّ قال)؛ يعني: (النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا عمرُ! أما شعرتَ)؛ أي: علمتَ وفطنتَ (أنَّ عمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبيه)، وفي رواية: "العبّاسُ صِنْوُ أبي" (¬3)، والصنوُ -بالفتح، ويضم-: المِثْل، وأصلُه أن يطلع نخلتان من عِرْقٍ واحدٍ، يريد -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنّ أصلَ العبّاس وأصلي واحدٌ، وهو مثلُ أبي، أو مثلي، وجمعُه صِنْوانٌ (¬4)؛ فإنّ هذه اللفظة تُشعر بما ذكر؛ فإنّ كونَه صنوَ أبيه يناسب تحمُّلَ ما عليه. الثّاني: أن يكون إخبارًا عن أمر وقع ومضى، وهو تسلُّفُ صدقةِ عامين ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 177). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 59). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 27)، عن أبي مجلز. (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 57).

من العبّاس، وقد ورد ذلك صريحًا من حديث علي -رضى اللَّه عنه- عند التّرمذي (¬1)، ومن حديث ابن عبّاس عند الدارقطني، وفي إسنادهما ضعف، ولفظه: بعثَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عمرَ ساعيًا، فأتى العبَّاسَ، فأغلظَ له، فأخبر النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "إنَّ العبَّاس قد أسلفَنا زكاةَ مالِه العامَ والعامَ المقبلَ" (¬2)، هذا على رواية مسلم، وأمّا لفظ البخاري: "فهي عليه صدقةٌ ومثلُها معَها"، ويحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أنّها عليه ثابتة سيتصدق بها، ومثلها معها يضيفه إليها كرمًا منه، فيكون النّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ألزمَه بتضعيف صدقته؛ ليكون ذلك أرفعَ لقدره، وأنبهَ لذكره، وأنفى للذبِّ عنه. الثّاني: أنّها مِنَّا عليه صدقة؛ أي: إن زكاة ماله كالصدقة عليه؛ لأنّه استدان في مفاداة نفسه وعقيل يومَ بدر، فصار من الغارمين الذين لا تلزمهم الزكاةُ. وهذا التأويل استبعده البيهقي (¬3)؛ لأنَّ العباس من بني هاشم، فتحرم عليهم الصدقة. وحمله بعضُهم على أن ذلك كان قبل تحريم الصدقة على بني هاشم. وما اعتمده الحافظ من الراوية أدلُّ على المطلوب، وأبعدُ عن هذه التكلفات، واللَّه أعلم (¬4). * * * ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (678)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في تعجيل الزكاة. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 124)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 111). وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 194). (¬3) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 111). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (9/ 47)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 59).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، قَالَ: لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ حُنَيْنٍ، قَسَمَ فِي النَّاسِ، وَفي المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا، فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسُ، فَخَطَبَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ، فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: "مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُجِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ "، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ، قَالَ: "لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُم: جِئْتَنَا كَذَا وكَذَا، أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعِيرِ، وَتَذْهَبُونَ بالنَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَو سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4075)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف، واللفظ له، ومسلم (1061)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة فلوبهم على الإسلام، وتصبُّر من قوي إيمانه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 600)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 106)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 157)، و"شرح =

(عن) أبي محمدٍ (عبدِ اللَّه بنِ زيدِ بن عاصمٍ) المازنيِّ -رضي اللَّه عنه- تقدّمت ترجمته في الوضوء. (قال: لمّا أفاء اللَّه) -سبحانه وتعالى- (على رسوله) محمد (-صلى اللَّه عليه وسلم-). قد تكرر ذكرُ الفيء في الأحاديث على اختلاف تصرفه، وهو مما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد. وأصل الفيء: الرجوعُ، يقال: فاء يَفيء فَيْئَةً وفَيْئًا، كأنّه كان في الأصل لهم، فرجع إليهم، ومنه قيل للظل الذي يكون بعد الزوال: فيء؛ لأنّه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق (¬1). (يوم)؛ أي: زمن غزوة (حنين)، وذلك عام ثمان في شوال بعد فتح مكة المشرفة. وحنين: اسم موضع بين مكة والطائف، فسميت الغزوة باسم مكانها، وتسمى أيضًا: غزوةَ هَوازِن؛ لأنّهم الذين أتوا لقتال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). قال في "الهدي": وتسمى أيضًا: غزوة أوطاس (¬3)، وأوطاسُ: اسم موضع بين مكة والطائف أيضًا، فسميت الغزوة باسم مكانها تارة، وباسم المقاتلين للمسلمين تارة. وانتهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الجعرانة بعد قُفوله من غزوة الطائف ليلة ¬

_ = عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 195)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 823)، و"فتح الباري" لابن حجر (8/ 47)، و"عمدة القاري" للعيني (17/ 307)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (6/ 411). (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 482). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 27). (¬3) انظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (3/ 465).

الخميس لخمس ليال خَلَوْنَ من ذي العقدة، فأقام بها ثلاثةَ عشرَ يومًا لقسمِ ما قسم، والجعرانة: ما بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، واعتمر في ذي العقدة من الجعرانة، فدخل مكة، فطاف وسعى ماشيًا، وحلق، ورجع إلى الجعرانة من ليلته، كأنّه كان بائتًا بها -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، ولمّا انصرف من الطائف إلى الجعرانة (قسم) -صلى اللَّه عليه وسلم- (في النّاس) من الأعراب، و (في المؤلَّفة قلوبهم) من أهل مكة من صناديد قريش، فأوّلُ مَنْ أَعطى -صلى اللَّه عليه وسلم- من المؤلَّفة [أَبو] (¬2) سفيان بن حرب، أعطاه أربعين أوقية، ومئة من الإبل، فقال: ابني يزيد؟ ويقال له: يزيد الخير، فأعطاه كذلك، فقال: ابني معاوية؟ فأعطاه كذلك، فأخذ أَبو سفيان وابناه ثلاث مئة من الإبل، ومئة وعشرين أوقية من الفضة، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه! لأنتَ كريمٌ في الحرب وفي السلم، لقد حاربتُك فَنِعْمَ المحاربُ كنتَ، ثم سالمتُك فنعمَ المسالم أنت، هذا غايةُ الكرم، جزاك اللَّه خيرًا (¬3). وأعطى حكيم بن حزام مئة من الإبل، ثمَّ سأله مئة أخرى، فأعطاه إياها، ثمَّ سأله مئة أخرى، فأعطاه، وقال له: "يا حَكيمُ! هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوة، مَنْ أخذَهُ بسخاوة نفس، بوركَ له فيه، ومن أخذَهُ بإشرافِ نفسٍ، لم يُبارَكْ له فيه، وكانَ كالذي يأكلُ ولا يشبعُ، واليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى"، فأخذ حكيم المئة الأولى، وترك ما عداها، وقال: يا رسول اللَّه! والذي بعثك بالحق! لا أَرْزَأُ -أي: أنقصُ- أحدًا بعدك شيئًا -أي: من ماله- حتّى أفارق الدنيا، فكان أَبو بكر يدعو حكيمًا ليعطيه العطايا، فيأبى أن ¬

_ (¬1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 154). (¬2) في الأصل المخطوط: "أبا" والصواب ما أثبت. (¬3) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 714)، و"تاريخ دمشق" (23/ 462).

يقبل منه شيئًا، وكذلك عمر، فأبى أن يقبل، فقال عمر: يا معشر المسلمين! إني أعرض عليه حقّه الذي قسم اللَّه له من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه (¬1). وأعطى -صلى اللَّه عليه وسلم- جُبير بنَ مطعم، والأخنس بن شريق، والحارثَ بنَ هشامِ بنِ المغيرة المخزوميَّ، وهو أخو أَبو جهل، وأعطى حاطبَ بنَ عبد العزى القرشيَّ العامريَّ، وسهيلَ بن عمرو بن عبد شمس العامريَّ، وأعطى الأقرعَ بنَ حابس التميميَّ، وعُيَيْنَةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ، والعبّاسَ بنَ مِرْداسٍ (¬2). وفي "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح مسلم"، والبيهقي، عن رافع بن خديج -رضي اللَّه عنه-: أنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعطى المؤلفة قلوبهم من سبي حنين كل رجل منهم مئة من الإبل، فذكر الحديث، وفيه: وأعطى العبّاسَ بنَ مرداس دون المئة (¬3). وفي "الهدي": أنّها خمسون (¬4)، فأنشأ العبّاسُ بنُ مرداس يقول: [من المتقارب] أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْـ ... ـدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ في المَجْمَعِ وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِىءٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ اليَوْمَ لَمْ يُرْفَعِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1403)، كتاب: الزكاة، باب: الاستعفاف عن المسألة، ومسلم (1035)، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 48). (¬3) رواه مسلم (1060)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وتصبُّر من قوي إيمانه، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 17). ولم أقف عليه في "مسند الإمام أحمد"، واللَّه أعلم. (¬4) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 473).

فبلغ ذلك رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فدعاه، وقال: "أنتَ القائلُ: أصبحَ نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟ "، فقال أَبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-: بأبي أنتَ وأمي! واللَّهِ ما كنتَ شاعرًا، ولا ينبغي لك، وما أنت براوية، قال: "فكيف؟ "، فأنشده أَبو بكر، فقال النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقْطَعُوا عَنِّي لسانَهُ"، ففزع منها عبّاس، وقالوا: أمر بالعباس بن مرداس أن يمثل به، وإنّما أراد -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يقطعوه بالعطية (¬1). قال في "الهدي": فأكملوا له المئة (¬2). وأعطى -صلى اللَّه عليه وسلم- عِكْرِمَةَ بنَ أبي جهلٍ، وصَفْوانَ بنَ أُميةَ، والنُّضَيْرَ -بالضّاد المعجمة والتصغير- بنَ الحارث مئة مئة. وفي "الصّحيح" عن صفوان -رضي اللَّه عنه-، قال: ما زال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطيني من غنائم حنين وهو أبغضُ الخلق إليَّ حتى ما خلقَ اللَّه تعالى شيئًا أحبَّ إليَّ منه (¬3). وفي "صحيح مسلم": أنّه أعطاه مئة من النعم، ثمَّ مئة، ثمَّ مئة (¬4). وأعطى -صلى اللَّه عليه وسلم- جماعةً غيرَ مَنْ ذكرنا، وتركَ خيار النّاس من المسلمين، لم يعطهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَلَهم إلى حُسْن إسلامهم، (ولم يعط الأنصار) أوسيَّهم وخزرجيَّهم يومئذ من ذلك النفل (شيئًا)، لا كثيرًا، ولا قليلًا، (فكأنّهم)؛ ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 273)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (26/ 414). (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 473). (¬3) رواه مسلم (2313)، كتاب: الفضائل، باب: ما سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا قط فقال لا، وكثرة عطائه. (¬4) انظر: تخريج الحديث المتقدم.

أي: الأنصار (وَجَدوا) في أنفسهم، أي: غضبوا. وفي حديث: "إنّي أسألك فلا تجد عليَّ" (¬1)، أي: لا تغضب. يقال: وَجَدَ عليه يَجِدُ وَجْدًا ومَوْجَدَةً (¬2). (إذ) تعليلية؛ أي: لأنّه (لم يصبهم) من قسم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (ما أصاب النّاس) من العطاء. وفي رواية في "المسند"، و"الصّحيحين" من حديث أنس، وعبد اللَّه بن زيد -رضي اللَّه عنهما-: أنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمّا أصاب غنائمَ حنين، وقسم للمؤلَّفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وجد هذا الحيُّ من الأنصار في أنفسهم حتّى كثرت فيهم القالَةُ، حتّى قال قائلهم: يغفرُ اللَّه لرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، إنّ هذا لهو العجب، يعطي قريشًا -وفي لفظ: الطلقاء والمهاجرين-، وتركنا وسيوفُنا تقطر من دمائهم! إذا كانت شديدة، فنحن ندعى، ويعطي الغنيمة غيرنا، ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا، فإن كان من أمر اللَّه، صبرنا، وإن كان من رأي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، استعتبناه (¬3). وفي حديث أبي سعيد عند الإمام أحمد، وابن إسحاق: فقال رجل من ¬

_ (¬1) رواه البخاري (63)، كتاب: العلم، باب: ما جاء في العلم، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 154). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 165)، والبخاري (2978)، كتاب: أبواب الخمس، باب: ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ومسلم (1059)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوي إيمانه، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- بلفظ نحوه.

الأنصار لأصحابه: لقد كنت أحدثكم أن لو استقامتِ الأمور، لقد آثرَ عليكم غيرَكم، فردُّوا عليه ردًا عنيفًا (¬1). قال أنس كما في "المسند"، و"الصّحيحين" وغيرها: فحُدِّثَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمقالتهم. وقال أَبو سعيد: فمشى سعدُ بنُ عبادة إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا رسول اللَّه! إنّ هذا الحيَّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، قال: "فيم؟ "، قال: فيما كان من قَسْمك هذه الغنائم، قال: "فأينَ أنتَ من ذلكَ يا سعدُ؟ "، قال: ما أنا إلا امرؤٌ من قومي، قال: "فاجْمَعْ لي قومَكَ في هذه القضية، فإذا اجتمعوا، فأَعْلِمْني"، فخرج سعدٌ يصرخُ فيهم حتّى جمعهم. وقال أنس: فأرسل -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أَدَم وهي -بفتح الهمزة المقصورة والدال المهملة فميم-: جلدٌ بلا دبغ، ولم يدع غيرهم، فجاء رجل من المهاجرين، فأذن له فيهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، حتّى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له، أتاه، فقال: يا رسول اللَّه! قد اجتمع لك هذا الحيُّ من الأنصار حيثُ أمرتني بأن أجمعهم، فخرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إليهم، فقال: "هل فيكم أحدٌ من غيركم؟ "، قالوا: لا يا رسول اللَّه، إلا ابن أختنا، قال: "ابنُ أخْتِ القومِ مِنْهم" (¬2)، فقام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (فخطبَهُمْ)، فحمد اللَّه وأثني عليه. بما هو أهله، (ثمَّ قال: يا معشرَ الأنصار!). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 89). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 76)، وتقدم تخريجه عند البخاري ومسلم، وهذا لفظ أحمد.

قال في "القاموس": المعشر؛ [كمسكن] (¬1): الجماعةُ، وأهلُ الرّجل (¬2). والأنصارُ جمعُ ناصر؛ كأصحاب وصاحب، أو جمع نصير؛ كأشراف وشريف، واللام للعهد، وهم الأوس والخزرج، صار ذلك عليهم عَلَمًا، وقد سماهم اللَّه ورسوله بذلك، وكانوا قبلَ ذلك يعرفون [ببني] (¬3) قَيْلَة: اسم امرأة -بقاف مفتوحة وياء تحتانية ساكنة-، وهي الأم التي تجمع القبيلتين -رضوان اللَّه عليهم- (¬4). (ألم أجدْكم ضُلَّالًا) المراد به هنا: ضلالُ الشرك والكفر. وفي الحديث: دليل على إقامة الحجة عند الحاجة إليها على الخصم (¬5). (فهداكم اللَّه بي) هداية تامة موصلَة إلى سعادَتَي المعاش والمعاد، وهي هداية الإيمان، ولا شك أنّ نعمة الإيمان أعظمُ النعم، فلا يوازيها شيء من أمر الدنيا، فلهذا قدَّمها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على غيرها، ثمَّ أتبع ذلك بذكر نعمة الألفة، فقال: (وكنتم) يا معشرَ الأنصار (متفرقين) على غاية من التباعُد والتقاطُع والتنافُر حتّى جرت بينهم حروبٌ قبل البعثة، وبعدَها قبل إسلامهم، منها يومُ بعاث الذي قُتل فيه مالكٌ والد أنسِ بنِ مالك (¬6)، ¬

_ (¬1) في الأصل: "كمشكر"، والتصويب من "القاموس". (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 566)، (مادة: عشر). (¬3) في الأصل: "با بني". (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 63). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 195). (¬6) المرجع السابق، الموضع نفسه.

(فألفكم اللَّه بي) بعدَ تلك المقاطعة والفرقة، فصرتم تتعاطفون وتتواصلون، يعطف بعضكم على بعض، ويرحم بعضُكم بعضًا، ويصل بعضكم بعضًا، (و) كنتم يا معشر الأنصار (عالَةً) جمعُ عائل، وهو الفقير؛ أي: كنتم فقراء، (فأغناكم اللَّه بي)، أتبع -صلى اللَّه عليه وسلم- تعداد نعمة الألفة بتعداد نعمة المال؛ لأنّ نعمة الألفة أعظمُ؛ إذ تُبذل الأموالُ في تحصيل الألفة واتحاد الكلمة، فختم -صلى اللَّه عليه وسلم- بتعداد نعمة الغنى والمال، وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- (كلما قال) لهم (شيئًا) مما عدَّده عليهم من النعم، (قالوا) مجيبين بالاعتراف: (اللَّه ورسوله أَمَنُّ)؛ أي: أكثر مَنًّا وأعظمُ إحسانًا، وفي أسمائه تعالى المنَّانُ، وهو المنعِمُ المعطي؛ من المن، وهو العطاء، لا من المِنَّة، وكثيرًا ما يرد المنُّ في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء عليه، والمنَّانُ من أبنية المبالغة، كالسَّفّاك والوهَّاب. وفي الحديث: أنّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَينا من ابنِ أَبِي قُحافَة" (¬1)؛ أي: ما أحدٌ أجودَ بماله وذاتِ يده من الصدِّيقِ الأعظمِ أبي بكر -رضوان اللَّه عليه- (¬2). وفي جوابهم -رضوان اللَّه عليهم- بما أجابوا استعمالُ الأدب، والاعترافُ بالحق (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 478)، بهذا اللفظ، من حديث أبي المعلى -رضي اللَّه عنه-. ورواه البخاري (455)، كتاب: أبواب المساجد، باب: الخوخة والممر في المسجد، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. ورواه مسلم (2382)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، من حديث أبي سعيد -رضي اللَّه عنه- بلفظ نحوه. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 365). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 195).

ثمَّ إنّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (قال) لهم: (ما يمنعُكم أن تُجيبوا رسولَ اللَّه؟) أيُّ شيء يمنعكم من إجابته -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ (قالوا) -رضوان اللَّه عليهم-: (اللَّه ورسوله أَمَنُّ). وفي رواية: قالوا: وما نقول يا رسول اللَّه؟ وبماذا نجيبك؟ المنُّ للَّه تعالى ولرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). (قال) -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم: (لو شئتُم لقلتُم: جئْتَنا كذا وكذا)، وفي لفظ: أنه قال: "واللَّهِ! لو شئتمُ لقلتُمْ فصدقْتُمْ وصُدِّقتُمْ، جئتَنا طريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناكَ، وخائفًا فآمناكَ، ومخذولًا فنصرناك، ومكذَّبًا فصدَّقْناك" (¬2)، وهو الذي كنى عنه الراوي بكذا وكذا؛ تأدبًا، وفي ذلك جبرٌ للأنصار، وتواضعٌ وحسنُ مخاطبة ومعاشرة منه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، فقولهم: المنُّ للَّه ورسوله تمامُ الأدب -رضوان اللَّه عليهم-. ثمَّ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما حديثٌ بَلَغَني عنكم؟ "، فقال فقهاءُ الأنصار: أمّا رؤساؤنا، فلم يقولوا شيئًا، وأمّا أناسٌ مِنَّا حَديثةٌ أسنانُهم، قالوا: يغفرُ اللَّه تعالى لرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، يعطي قريشًا ويتركُنا وسيوفُنا تقطُرُ من دمائهم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنّي لأُعطي رجالًا حَديثي عهدٍ بكفرٍ فأُؤَلفهم" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 76)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (¬2) تقدم بعضه في الحديث السابق، من رواية أبي سعيد -رضي اللَّه عنه-، ورواه أيضًا: الإمام أحمد في "المسند" (3/ 104، 253)، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 196). (¬4) رواه البخاري (4076)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف، ومسلم (1059/ 132) كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوي إيمانه، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-.

وفي رواية: "إنَّ قريشًا حديثو عهدٍ بجاهليةٍ ومُصيبةٍ، وإنّي أردتُ أن أجبرَهُم وأتَأَلَّفَهُمْ" (¬1)، "أَوَجَدْتُم يا معشرَ الأنصار في نفوسِكم في لُعَاعة"، وهي -بضم اللام وبعينين مهملتين-: بقْلةٌ خضراء ناعمة شُبهت بها زهرةُ الدنيا ونعيمُها؛ في قلة بقائِها من الدنيا (¬2) "تألَّفْتُ بها قومًا ليسلموا، ووَكَلْتُكُم إلى ما قَسَمَ اللَّه لكم من الإسلام؟! " (¬3)، (ألا) وفي لفظ: "أفلا" (¬4) -بزيادة الفاء- (ترضون) يا معشرَ الأنصار (أن يذهبَ النّاسُ بالشاةِ والبعيرِ، وتذهبون بالنَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟). وفي رواية: "يذهب النّاس بالشاة والبعير إلى رحالهم" (¬5). وفي لفظ: "بالدنيا، وتذهبون برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (إلى رحالكم) تحوزونه إلى بيوتكم؟ فواللَّهِ! لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به" (¬6)، (لولا الهجرة) وفضيلتُها، (لكنت امرأً من الأنصار)؛ أي: في الأحكام والأعداد، ولا يجوز أن يكون المراد النسب قطعًا (¬7)، (ولو سلكَ النّاسُ) غيرُ الأنصار ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4079)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف، ومسلم (1059/ 133)، كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، وتصبر من قوي إيمانه، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 306). (¬3) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1059/ 132). (¬5) لم أقف على هذه الرواية. (¬6) رواه البخاري (2978)، كتاب: الخمس، باب: ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (1059/ 132)، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬7) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 196).

(واديًا)، وهو مفرجٌ بين جبال أو تلال أوآكام، والجمع أَوداءٌ وأودية (¬1)، (وشِعْبًا) -بكسر الشين المعجمة-: الطريق في الجبل، ومسيل الماء في بطن أرض، أو ما انفرج بين الجبلين (¬2)، ومن ثم في بعض الروايات في "الصحيحين" الاقتصار على ذكر الشِّعب، وفي بعضها الاقتصارُ على ذكر الوادي، وفي بعضها الجمعُ بينهما، والعطف بأو، وفي بعضها العطف بالواو كما ذكر المصنف -رحمه اللَّه تعالى-، (لسلكتُ واديَ الأنصار وشِعْبَها) الذي سلكَتْه دون وادي غيرها وشعبها، (الأنصارُ)، وفي رواية: "أنتم" (¬3) (شعار)، وهو -بكسر الشين المعجمة-: الثوب الذي يلي الجسد (¬4)، (والناسُ) غيرُكم (دِثار) -بكسر الدال المهملة والثاء المثلثة المفتوحة-، وهو الثوب الذي فوق الشعار (¬5)، واستعمال اللفظتين مجاز عن قربهم منه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واختصاصهم به، وتمييزهم عن غيرهم في ذلك (¬6)، يعني: أنَّ الأنصار بطانته -صلى اللَّه عليه وسلم- وخاصَّتُه، وأنّهم أحقُّ به وأقربُ إليه من غيرهم، وهو تشبيه بليغ (¬7). ثمَّ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأنصارُ كرشي وعيبتي" (¬8)، قال في "النهاية": أراد أنّهم ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1729)، (ما دة: ودي). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 130)، (مادة: شعب). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (32352)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1720)، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 255). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 480). (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 196). (¬7) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (6/ 412). (¬8) رواه البخاري (3588)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم"، ومسلم (2510)، كتاب: فضائل =

بطانتُه وموضعُ سره وأمانته، والذين يعقد عليهم في أموره، واستعار الكرش والعَيْبَة: لذلك؛ لأنَّ المجترَّ يجمع علفَه في كرشه، والرجل يضع ثيابه في عَيْبته. وقيل: أراد بالكرش: الجماعة؛ أي: جماعتي وصحابتي، يقال: عليه كرش من النّاس؛ أي: جماعة (¬1)، قال: والعربُ تكني عن القلوب والصدور بالعِياب؛ لأنّها مستودَعُ السرائر؛ كما أنّ العِيابَ مستودعُ الثياب (¬2)، والعَيْبَة: -بفتح العين المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة فهاء تأنيث-. ثمَّ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهمَّ ارْحَمِ الأنصارَ، وأبناءَ الأنصارِ، وأبناءَ أبناءِ الأنصار"، فبكى القوم حتّى أَخْضلوا لِحاهُم؛ أي: بَلُّوها، وقالوا: رضينا باللَّه ورسوله حَظًّا وقسمًا (¬3). وذكر محمد بن عمر الواقديُّ: أنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أراد حينئذْ دعاهم أن يكتب بالبحرين لهم خاصة بعدَه دون النّاس، وهي يومئذ أفضلُ ما فُتح عليه من الأرض، فأبوا، وقالوا: لا حاجة لنا بالدنيا بعدَك (¬4). قلت: وهو عند البخاري من حديث أنس بغير تقييده بيومئذ، ففي "صحيح البخاري" عن أنس -رضي اللَّه عنه-، قال: دعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الأنصار ليكتبَ لهم بالبحرين، فقالوا: لا واللَّهِ حتّى تكتبَ لإخواننا من ¬

_ = الصحابة، باب: من فضائل الأنصار -رضي اللَّه عنهم-، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 163 - 164). (¬2) المرجع السابق، (3/ 327). (¬3) تقدم تخريجه من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- عند الإمام أحمد. (¬4) وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (6/ 413).

قريش بمثلِها، فقال: "ذلك لهم ما شاء اللَّه"، كل ذلك يقولون له (¬1)، فقال لهم -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إنكم ستلقَوْنَ بعدي أَثَرَةً). وفي رواية: "سَتَجدونَ بعدي أثرةً شديدةً" (¬2)، وهي -بفتح الهمزة والثاء المثلثة وبضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتحتين، ويجوز كسرُ أوّله مع إسكان ثانيه-؛ أي: يُستأثر عليكم بما لَكُم فيه اشتراكٌ في الاستحقاق (¬3). (فاصبروا) على ذلك، ولا تجزعُنَّ، ولا تَنازعوا (حتّى تلقوني) يوم الحشر والنشور في الموقف بين يدي اللَّه -عزَّ وجلَّ- (على الحوض) المورود؛ يعني: الكوثر الذي وعده اللَّه به، فتشربون منه والنّاسُ عطاشٌ. وفي إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك عَلَم من أعلام النبوة، ودلائل رسالته؛ إذ هو خبر عن مستقبل وقع على وَفْق ما أخبر به -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). وفي الحديث دلالة على فضائل الأنصار، ومزاياهم على غيرهم، وهم جديرون بكل فضيلة، وحَرِيُّون بكل مَنْقَبة. وفي "البخاري": أنّ غيلانَ بنَ جرير قال: قلتُ لأنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-: أرأيتم اسمَ الأنصار أكنتم تُسمون به، أم سماكم اللَّه -تعالى وتبارك- به؟ قال: بل سمانا اللَّه -عزَّ وجلَّ- (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2992)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: ما أقطع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من البحرين، وما وعد من مال البحرين والجزية، ولمن يقسم الفيء والجزية. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 165)، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 18). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 196). (¬5) رواه البخاري (3565)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الأنصار.

وفي "البخاري" أيضًا عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: قال أَبو القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو أَنَّ الأنصارَ سلكوا واديًا أو شِعْبًا، لَسلكْتُ واديَ الأنصار، ولولا الهجرةُ، لكنتُ امرأً منَ الأنصارِ"، فقال أَبو هريرة: ما ظلم بأبي وأمي، آووه ونصروه، وكلمة أخرى (¬1). وأخرج البخاري، ومسلم، والتّرمذي، وغيرهم عن البراء بن عازب -رضي اللَّه عنهما-: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في الأنصار: "لا يُحِبُّهم إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافقٌ، فمَنْ أحبَّهم، أَحَبَّه اللَّه، ومن أبغضهم، أبغضه اللَّه" (¬2). وروى البخاري، ومسلم، والنّسائيّ، وغيرهم من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "آيةُ الإيمانِ حُبُّ الأنصار، وآيةُ النفاقِ بغضُ الأنصار" (¬3). وفي رواية: "آيةُ المنافقِ بغضُ الأنصار، وآيةُ المؤمن حُبُّ الأنصار" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3568)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبى -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار". (¬2) رواه البخاري (3572)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: حب الأنصار من الإيمان، ومسلم (75)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي -رضي اللَّه عنه- من الإيمان، والترمذي (3900)، كتاب: المناقب، باب: في فضل الأنصار وقريش. (¬3) رواه البخاري (17)، كتاب: الإيمان، باب: علامة الإيمان حب الأنصار، ومسلم (74)، (1/ 85)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي -رضي اللَّه عنه- من الإيمان، والنسائي (5019)، كتاب: الإيمان، باب: علامة الإيمان. (¬4) رواه مسلم (74)، (1/ 85)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن حب =

وأخرج التّرمذي من حديث ابن عبّاس: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يُبغضُ الأنصارَ أحدٌ يؤمن باللَّه واليومِ الآخر"، وقال: حديث حسن صحيح (¬1). ورواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، ومن حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنهما- (¬2). وفي "الصحيحين" وغيرِهما من حديث أنس، واللفظ للبخاري: مرّ أَبو بكر الصديقُ، والعبّاسُ -رضي اللَّه عنهما- بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقالوا: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- منا، فدخل على النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخبره، قال: فخرج النّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد عصبَ على رأسه حاشيةَ بُرْد، قال: فصعِد -صلى اللَّه عليه وسلم- المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمِدَ اللَّه وأثنى عليه، ثمَّ قال: "أُوصيكُم بالأنصار؛ فإنّهم كرشي وعَيْبَتي، وقد قَضَوُا الذي عليهم، وبقيَ الذي لهم، فاقبلوا من محسنِهم، وتجاوزوا عن مُسيئِهم" (¬3). ومناقبهم -رضي اللَّه تعالى عنهم- كثيرة، ومآثرهم غزيرة، كيف لا وهم كتيبةُ الإسلام، وأنصار النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟! تنبيهات: * الأوّل: ليس في هذا الحديث تعلُّق بكتاب الزكاة، وغايةُ ما فيه ¬

_ = الأنصار وعلي -رضي اللَّه عنه- من الإيمان. (¬1) رواه الترمذي (3906)، كتاب: المناقب، باب: في فضل الأنصار وقريش. (¬2) رواه مسلم (76 - 77)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن حب الأنصار وعلي -رضي اللَّه عنه- من الإيمان. (¬3) تقدم تخريجه.

أنّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعطى المؤلَّفة قلوبُهم من الغنائم، فلا مدخلَ لذلك في الزكاة، إلا أن يُقاس إعطاؤهم من الزكاة على إعطائهم من الفيء والخُمس (¬1). * الثّاني: المؤلَّفة قلوبُهم: هم رؤساء قومهم ممن يُرجى إسلامه، أو كَفُّ شَرِّه، ومسلمٌ يرجى بعطيته قوةُ إيمانه، أو إسلامُ نظيره، أو نصحُه في الجهاد، أو ذَبُّه عن الدين، أو قوة أخذ الزكاة من مانعها، أو كَفُّ شره، ويقبل قوله في ضعف إسلامه، لا أنه مطاع، إلا ببينة، ويعطى الغنيُّ منهم والفقير ما يرى الإمام، والأصح: ما يحصل به التأليف؛ لأنّه المقصود، ولا يزاد على ذلك لعدم الحاجة. ومعتمد المذهب: بقاءُ حكم المؤلَّفة قلوبهم إلى الآن. وعنه: أنّ حكمهم قد نُسخ، وهو مذهب أبي حنيفة (¬2). وقال الشّافعيّ: هم ضربان: كفار، ومسلمون، فمؤلَّف الكفار ضربان: ضربٌ يرجى خيره، وضرب يكف شره (¬3). وكان النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطيهم، فهل يعطون بعده؟ على قولين: أحدهما: يعطون، ولكن من غير الزكاة. والآخر: لا يعطون من الزكاة، ولا من غيرها. فعلى القول الذي يعطون، من أين يعطون؟ إنّما يعطون من سهم المصالح، لا من الزكاة. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 195). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 462 - 463)، و"الإقناع" للحجاوي (1/ 471). (¬3) انظر: "المهذب" للشيرازي (1/ 172).

ومؤلفة الإسلام على أربعة أضرب: قوم مسلمون شرفاء يُعطون ليرغب نظراؤهم في الإسلام. وآخرون نيتهم ضعيفة في الإسلام يُعطون لتقوى نياتهم في الإسلام. وكان النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطيهم، وهل يعطون بعده؟ فيه قولان: أحدهما: يعطون من الزكاة. والثّاني: من خمس الخمس. والثالث: قوم مسلمون بينهم قوم من الكفار إن أُعطوا، قاتلوهم. والرابع: قوم مسلمون بينهم قوم من أهل الصدقات، فإن أُعطوا، جَبَوا الصدقاتِ منهم، ففي هؤلاء أربعة أقوال: أحدها: يعطون من سهم المصالح. الثّاني: من الزكاة. الثالث: من سهم الغزاة من الزكاة. الرابع: وهو الذي عليه أصحابهُ: أنّهم يُعطون من سهم الغزاة، وسهم المؤلفة قلوبهم. وقال الإمام مالك: ليس للمؤلفة سهمٌ؛ لغناء المسلمين عنهم، وهذا المشهور عنه. وعنه رواية أخرى: أنّهم إن احتاج إليهم بلد من البلدان، أو ثغر من الثغور، يتألفهم الإمام لوجود القلة، قال ذلك أَبو المظفر صدرُ الوزراء ابنُ هبيرة في "اختلاف الأئمة" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 225).

وفي "الفروع": عدُّ المؤلفةِ من أصناف أهل الزكاة هو الأصحُّ للمالكية؛ يعني: كمذهبنا (¬1). قال في "الفروع": وهل يحلُّ للمؤلَّف ما يأخذه؟ يتوجه: إن أعطى المسلم ليكفَّ ظلمه، لم يحل؛ كقولنا في الهدية للعامل ليكف ظلمه، وإلا حل، انتهى (¬2). * الثالث: قال الحافظ ابنُ سيد النّاس في "عيون الأثر": ما أعطاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- للمؤلفين من الخمس، فهو أثبت الأقاويل عندنا، انتهى (¬3). وفي "سيرة الحلبي": أنّه من خُمس الخُمس الذي هو سهمُه، لا من أربعة أخماس الغنيمة، وإلا، لاستأذن الغانمين في ذلك؛ لأنّهم ملكوها بحوزهم لها، انتهى (¬4). ولا يخفى أن خُمس الخُمس دونَ ما أعطاه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بكثير، كيف وقد قالوا: إنَّ الإبل أربعة وعشرون ألفًا، فخمسُها أربعة آلاف وثمان مئة، وخمسُ خمِسها تسع مئة وستون، والواقع أن الذي أعطاه أضعاف ذلك. وظاهر كلام الشّمس الشامي: أن إعطاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- من نفس الغنيمة، لا من الخمس؛ فإنّه قال: اقتضت حكمة اللَّه تعالى أنّ غنائم الكفار لما حصلت، قُسمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه؛ لما بقي من الطبع البشري من محبة المال، فقسمه فيهم لتطمئنَّ قلوبهم، وتجتمع على محبّته؛ لأنّها جُبلت على حُبِّ مَنْ أحسنَ إليها، ومنعَ أهلَ الجهاد من أكابر المهاجرين ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 462). (¬2) المرجع السابق، (2/ 463). (¬3) انظر: "عيون الأثر" لابن سيد الناس (2/ 260). (¬4) انظر: "السيرة الحلبية" للحلبي (3/ 94).

ورؤساء الأنضار مع ظهور استحقاقهم لجميعها؛ لأنّه لو قسم ذلك فيهم، لكان مقصورًا عليهم، بخلاف قسمه على المؤلفة؛ لأنّ فيه استجلابَ قلوبِ أتباعهم الذين كانوا يرضَوْن إذا رضي رئيسُهم، ويغضبون إذا غضب، فلما كان ذلك العطاء سببًا لدخولهم في الإسلام، ولتقوية قلب مَنْ دخل إليه قبل، تبعهم من دونهم في الدخول، فكان ذلك مصلحة عظيمة، انتهى. وهو مأخوذ من كلام صاحب "الهدي" (¬1). قلت: وهذا يؤيد ما ذهب إليه مالك من أنّ خمس الركاز والغنائم والجزية، وما أُخذ من تجار أهل الذمة، وما صولح عليه الكفار، ووظائف الأرضين، كل ذلك يجتهد الإمام في مصارفه على قدر ما يراه من المصلحة (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 484). (¬2) انظر: "المدونة الكبرى" لابن القاسم (2/ 300).

باب صدقة الفطر

باب صدقة الفطر أي: فرض صدقة الفطر من رمضان، وإضافتها إلى الفطر؛ لكونها تجب بالفطر منه (¬1). قال في "المطلع": الفطرُ: اسم مصدر من قولك: أفطر الصائم إفطارًا، قال: والفِطْرَةُ -بالكسر-: الخلقة، قاله الجوهري (¬2). وقال الإمام الموفق في "المغني": وأضيفت هذه الزكاة إلى الفطر؛ لأنّها تجب بالفطر من رمضان (¬3). قال ابن قتيبة: وقيل لها فطرة؛ لأنّ الفِطْرة: الخلقة، قال اللَّه تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]؛ أي: جِبِلَّته التي جبل النّاس عليها (¬4)، انتهى (¬5). وقال الإمام عبد اللطيف بن يوسف البغدادي في كتاب "ذيل الفصيح وما يلحن فيه العامة" في باب: ما يغير العامة لفظه بحرف أو حركة: صدقة ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 198). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 781)، (مادة: فطر). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (2/ 351). (¬4) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 184). (¬5) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 137).

الفطر، هذا كلام العرب، فأمّا الفُطرة، فمولَّدة، والقياس لا يدفعه؛ لأنّه كالغُرفة والبُغية؛ لمقدار ما يؤخذ من الشيء، فهذا ما وجدته في اللفظة بعد بحث كثير، قاله في "المطلع"، قال: وسألت أبا عبد اللَّه بن مالك، فلم ينقل فيها شيئًا، انتهى (¬1). قال في "الكفاية": ويقال: المُخْرَج في زكاة الفطر فُطْرَة -بضم الفاء- (¬2). والذي في "شرح المهذب" وغيره كسر الفاء لا غير، قال: وهي مولدة، لا عربية، ولا معربة، بل اصطلاحية للفقهاء، انتهى (¬3). قال القسطلاني في "شرح البخاري": فتكون حقيقة شرعية على المختار؛ كالصّلاة (¬4). قال ابن العربي: هو اسمها على لسان صاحب الشرع (¬5). وكان فرض زكاة الفطر في السنة الثّانية من الهجرة في شهر رمضان قبل العيد بيومين (¬6). وذكر الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الباب حديثين. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 137). (¬2) وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 84). (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (6/ 85). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 84). (¬5) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 178 - 179). (¬6) انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 88)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 84).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضيَ اللَّهُ عَنْهمَا-، قَالَ: فَرَضَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَدَقَةَ الفِطْرِ -أَوْ قَالَ: رَمَضَانَ- عَلَى الذَّكَرِ والأُنْثَى، والحُرِّ وَالمَمْلُوكِ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، قَالَ: فَعَدَلَ النَّاسُ بهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ عَلَى الصَّغِيرِ والْكَبِيرِ (¬1). وفي لفظ: أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1440)، كتاب: صدقة الفطر، باب: صدقة الفطر على الحر والمملوك، واللفظ له، ومسلم (984/ 14)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، وأبو داود (1615)، كتاب: الزكاة، باب: كم يؤدى في صدقة الفطر، والنسائي (2500)، كتاب: الزكاة، باب: فرض زكاة رمضان، و (2501)، باب: فرض زكاة رمضان على المملوك، والترمذي (675)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في صدقة الفطر، من طريق أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، به. (¬2) رواه البخاري (1432)، كتاب: صدقة الفطر، باب: فرض صدقة الفطر، و (1438)، باب: الصدقة قبل العيد، ومسلم (986/ 22 - 23)، كتاب: الزكاة، باب: الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة، وأبو داود (1610)، كتاب: الزكاة، باب: متى تؤدى، (1612)، باب: كم يؤدى في صدقة الفطر، والنسائي (2504)، كتاب: الزكاة، باب: فرض زكاة رمضان على المسلمين دون المعاهدين، و (2521)، باب: الوقت الذي يستحب أن تؤدى صدقة الفطر فيه، =

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ اللَّه بنِ عمرَ -رضي اللَّه عنهما-، قال: فرض النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-)؛ أي: أوجبَ بأمر اللَّه تعالى، وما كان ينطق عن الهوى، فقد صرّح بفريضة صدقة الفطر، وهو مذهبنا؛ كالشّافعية والجمهور، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماعَ على ذلك، لكنه معارض بأنّ الحنفية يقولون بالوجوب دون الفرض، وهو مقتضى قاعدتهم في أنّ الواجب ما ثبتَ بدليل ظني (¬1). ¬

_ = من طريق عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، به. ومن طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، به. ورواه البخاري (1433)، كتاب: صدقة الفطر، باب: صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين، و (1436)، باب: صدقة الفطر صاعًا من تمر، و (1441)، باب: صدقة الفطر على الصغير والكبير، ومسلم (984/ 12 - 13، 15 - 16)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، وأبو داود (1611، 1613 - 1614)، كتاب: الزكاة، باب: كم يؤدى في صدقة الفطر، والنسائي (2502)، كتاب: الزكاة، باب: فرض زكاة رمضان على الصغير، و (2503)، باب: فرض زكاة رمضان على المسلمين دون المعاهدين، و (2505)، باب: كم فرض، والترمذي (676)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في صدقة الفطر، وابن ماجه (1825 - 1826)، كتاب: الزكاة، باب: صدقة الفطر، من طرق وألفاظ مختلفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 48)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 264)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربىِ (3/ 178)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 476)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 19)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 57)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 197)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 829)، و"طرح التثريب" للعراقي (43/ 4)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 368)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 108)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 85)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 137)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 249). (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 84).

قال الإمام خاتمة محققي مذهبنا القاضي علاء الديّن المرداوي في "تنقيحه": هي واجبة، وتسمى أيضًا: فرضًا -نصًا-؛ يعني: نصَّ الإمام أحمد على تسميتها فرضًا (¬1). قال في "الفروع": زكاة الفطر واجبة اتفاقًا؛ خلافًا للأصم، وابن عُلَيَّة، وبعض المالكية، وبعض الشّافعية، وداود، ولا حجة لهم في خبر قيس بن سعد، قال: أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة، لم يأمرنا، ولم ينهنا، ونحن نفعله. رواه الإمام أحمد، والنّسائيّ، وابن ماجه، وغيرُهم بإسناد جيد (¬2)؛ لأنّه يجب استصحابُ الأمر السابق مع عدم المعارض، ثمَّ قد فرضها الشارع، وأمر بها في "الصّحيحين"، وغيرهما. قال: وهل تسمى فرضًا؛ كقول جمهور الصحابة وغيرهم؟ قاله صاحب "المحرر"، قلت: وهو معتمد المذهب أم لا؟ وفاقًا لأبي حنيفة، [فيه] روايتا المضمضة (¬3). أقول: قد علمت أن معتمد المذهب في زكاة الفطر وفي المضمضة والاستنشاق أنّها تسمى فروضًا. (صدقةَ الفطر) من (رمضان)، ويقال لها: زكاة الفطر، وزكاة رمضان، وزكاة الصوم، وصدقة الرؤوس، وزكاة الأبدان (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 6)، والنسائي (2507)، كتاب: الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة، وابن ماجه (1828)، كتاب: الزكاة، باب: صدقة الفطر. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 391). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 84).

(أو قال): صدقة (رمضان)، شكَّ الراوي في المقول منهما، وكلاهما صحيح؛ لتعلُّق الصدقة بهما (¬1). وفي رواية في "الصّحيحين" الجمعُ بينهما (¬2). (على الذَّكَرِ والأُنثى)، والخنثى، (والحر والمملوك)، وفي لفظ: "العبد والحر" (¬3)، وظاهره: أنّ العبد يُخرج عن نفسه، وهو قول داود الظاهري منفردًا به، ويردُّه قوله -عليه الصّلاة والسّلام-: "ليسَ على المسلمِ في عَبْدِهِ صدقةٌ إلا صدقةُ الفِطْرِ" (¬4)، وتقدّم، وذلك يقتضي أنّها ليست عليه، بل على سيده (¬5)، نعم تجب زكاة الفطر على المكاتَب؛ خلافًا للثلاثة، لا على سيده؛ خلافًا لمالك في رواية (¬6)، ويكون قدرُ المُخْرَج عن كل واحد (صاعًا من تَمْرٍ)، وهو خمسةُ أرطال وثلثٌ بالبغدادي، وهذا مذهب الإمام أحمد؛ كمالك، والشّافعي، وعلماء الحجاز، وهو مئة وثمانية وعشرون درهمًا، وأربعة أسباع درهم، وقيل: هو مئة وثلاثون درهمًا، وقال جماعة من العلماء: الصاعُ: أربعُ حَفَنات بكفَّي رجلٍ معتدلِ الكفين، حكاه النّووي في "الروضة" (¬7)، وغيره. وذهب أَبو حنيفة ومحمد: إلى أنّه ثمانية أرطال بالرطل المذكور. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 86). (¬2) وهي قوله: "فرض زكاة الفطر من رمضان"، وقد رواها مسلم فقط دون البخاري، كما تقدم تخريجه عنده برقم (984/ 12). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1432). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 85). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 391). (¬7) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (2/ 302).

وكان أَبو يوسف يقول كقولهما، ثمَّ رجع إلى قول الجمهور، لمّا تناظرَ مع الإمام مالك بالمدينة، فأراه الصيعان التي توارثها أهلُ المدينة عن أسلافهم من زمن النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). (أو صاعًا من شعيرِ) ظاهرُه: أنّه يخرج من أيهما شاء صاعًا، ويأتي في الحديث الثّاني زيادة: الطعام، والزبيب، والأَقِط. (قال) عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-: (فعدل النّاسُ به)؛ أي: صاع الشعير إلى (نصفِ صاعٍ من بُرٍّ). قال في "القاموس": العَدْل؛ أي: -بالفتح-: المثلُ والنظير؛ كالعِدْلِ -بالكسر-، والعَديلِ، والجمعُ أَعْدال وعُدَلاء (¬2). وظاهر هذا: أنّهم فعلوا ذلك بالاجتهاد بناءً على أنّ قيمَ ما عدا الحنطةَ متساويةٌ، وكانت الحنطة إذ ذاك غاليةَ الثمن، ولاسيما بالحجاز، ويُستدرك على هذا اعتبارُ القيمة في كل زمن، فيختلف الحال، ولا ينضبط الغرض (¬3)؛ إذ صاعُ التمر في بلادنا المقدسة يعدل ثمنُه عدةَ آصُعٍ من الحنطة، ومعتمدُ مذهبنا؛ كالشّافعيّة، والمالكية: خلافهُ. قال في "الفروع": ولا يجزىء نصف صاع من بر، نص عليه؛ وفاقًا لمالك، والشّافعيّ؛ لخبر أبي هريرة، وفيه: "أوصاع من قمح" رواه الدارقطني، وغيره (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 85). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1332)، (مادة: عدل). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 88). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 144)، وقال: بكر بن الأسود ليس بالقوي. وانظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 236).

(على الصغير) وإن كان يتيمًا؛ خلافًا لمحمد بن الحسِن، وزفر (¬1)، (والكبير) من المسلمين. قال في "الفروع": ولو في مال صغير، نص عليه الإمام أحمد؛ وفاقًا للثلاثة. وقيل: لا تجب على غير مخاطَب بصوم، ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة (¬2). (وفي لفظ) في "الصحيحين" من حديث ابن عمر -رضى اللَّه عنهما-: وأمر بزكاة الفطر (¬3). ولفظ البخاري: وأمر بها (أن تؤدَّى قبل خروج النّاس إلى الصّلاة)؛ أي: صلاة العيد. واعلم: أنَّ وقت وجوبها غروبُ الشّمس ليلةَ العيد؛ لإضافتها إلى الفطر، وهذا مذهب أحمد، والشّافعيّ، وإحدى الروايتين عن مالك. وقال أَبو حنيفة: طلوع الفجر يومَ العيد، وهو قول الشّافعيّ في القديم (¬4). قال في "الفروع": ولا تجب إلا بغروب الشّمس ليلة الفطر، فلو أسلم بعدَ الغروب، أو تزوج، أو ولد له ولد، أو ملك عبدًا، فلا فطرة عليه، نقل ذلك الجماعة، وهو المذهب؛ وفاقًا للشّافعيّ، ومالك، وفي رواية عنه: ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 85). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 391). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (986). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 58).

يمتد وقت الوجوب إلى طلوع الفجر الثّاني من يوم الفطر، واختاره الآجري، وعنه: تجب بطلوع الفجر؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك في رواية، وقول للشّافعيّ. والأفضلُ إخراجها قبل صلاة العيد، أو قدرها؛ وفاقًا (¬1). واتفقوا على جواز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين، واختلفوا فيما زاد على ذلك، فقال أَبو حنيفة: يجوز تقديمها على رمضان. وقال الشّافعيّ: يجوز تقديمها من أوّل رمضان. ومذهب مالك كمذهبنا منعُ التقديم عن اليومين؛ لقول ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين. رواه البخاري (¬2). وحاصل المذهب: لإخراج الفطرة وقتُ جواز، وهو قبل العيد بيومين، ويجب بغروب شمس آخر رمضان، ومن قبل الخروج إلى صلاة العيد، ويكره تأخير الإخراج عن الصّلاة، ويحرم عن يوم العيد، وتقضى، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 396). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1440). وانظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 404 - 405)

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زبِيبٍ، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَةُ، وَجَاءَتْ السَّمْرَاءُ، قَالَ: أَرَى مُدًّا مِنْ هَذَا يَعْدِلُ مُدَّيْنِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا أَنَا، فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1437)، كتاب: صدقة الفطر، باب: صاع من زبيب، واللفظ له، و (1434)، باب: صدقة الفطر صاع من شعير، و (1435)، باب: صدقة الفطر صاع من طعام، و (1439)، باب: الصدقة قبل العيد، ومسلم (985/ 17 - 21)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، وأبو داود (1616 - 1618)، كتاب: الزكاة، باب: كم يؤدَّى في صدقة الفطر، والنسائي (2511)، كتاب: الزكاة، باب: التمر في زكاة الفطر، و (2512 - 2513)، باب: الزبيب، و (2514)، باب: الدقيق، و (2517)، باب: الشعير، و (2518)، باب: الأقط، والترمذي (673)، كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في صدقة الفطر، وابن ماجه (1829)، كتاب: الزكاة، باب: صدقة الفطر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 50)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 264)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 178)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 480)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 22)، و"شرح =

(عن أبي سعيد) سعد بنِ مالكٍ (الخدريِّ -رضي اللَّه عنه-، قال: كنا) معشرَ الصّحابة (نُعطيها)، أي: صدقة الفطر، وفي لفظ: كنا نُطعم الصدقة (¬1)؛ يعني: زكاة الفطر، وفي لفظ: كنا نخرج زكاةَ الفطر (¬2) (في زمان النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-)، وفي لفظ: رسول اللَّه (¬3)، هذا له حكمُ الرفع؛ لإضافته إلى الزمن النّبوي (صاعًا من طعام)، وهو البر؛ لقوله: (أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير). قال التوربشتي: والبر أعلى ما كانوا يقتاتونه في الحضر والسفر، فلولا أنّه أراد بالطعام البر، لذكره عند التفصيل. وحكى المنذري في "حواشي السنن" عن بعضهم: اتفاق العلماء على أنّه المراد هنا. وقال بعضهم: كانت لفظة الطعام تستعمل في الحنطة عند الإطلاق، حتّى إذا قيل: اذهب إلى سوق الطعام، فُهم منه سوقُ القمح، وإذا غلب العرف، نزل اللفظ عليه؛ لأن ما غلب استعمالُ اللفظ فيه كان خطورُه عند الإطلاق أقربَ. وتعقبه ابنُ المنذر بما في حديث أبي سعيد: فلما جاء معاوية، وجاءت ¬

_ = مسلم" للنووي (7/ 62)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 199)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 836)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 173)، و"طرح التثريب" للعراقي (4/ 46)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 373)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 112)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 87)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 139)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 249). (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1434). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1435)، ومسلم برقم (985/ 17، 19 - 20). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1439).

السمراء؛ يعني: الحنطة، فإنّه يدلّ على أنّها لم تكن قوتًا لهم قبل هذا. ثمَّ قال: ولا نعرف في القمح خبرًا ثابتًا عن النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نعتمد عليه، ولم يكن البُرُّ يومئذ بالمدينة إلا الشيء اليسير منه، فكيف يتوهم أنّهم أخرجوا ما لم يكن موجودًا؟! قال: وأمّا ما أخرجه ابنُ خزيمة، والحاكم في "صحيحيهما": أنّ أبا سعيد -رضي اللَّه عنه- قال: لا أُخرج إلا ما كنت أُخرج في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: صاع تمر، أو صاع حنطة، أو صاع شعير، الحديث، فقال له رجل: أو مُدَّين من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمةُ معاويةَ، لا أقبلها، ولا أعمل بها، فقال ابن خزيمة بعد أن ذكره: ذكرُه الحنطةَ في خبر أبي سعيد غيرُ محفوظ، ولا أدري ممن الوهم، وقوله: فقال رجل ... إلى آخره دالٌّ على أنّ ذكر الحنطة من أوّل القصة خطأ؛ إذ لو كان أَبو سعيد أخبر أنّهم كانوا يخرجون منها على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صاعًا، لما كان الرجل يقول له: أو مُدَّين من قمح (¬1). وقد أشار أَبو داود إلى هذه الرواية، وقال: إنّ ذكر الحنطة فيها غير محفوظ (¬2). وتقدم حديث أبي هريرة: "أو صاع من قمح"، وفي حديث ابن صُعَير عن أبيه مرفوعًا: "أدوا صاعًا مِنْ بُرٍّ عَنْ كُلِّ إنسانٍ صغيرٍ أو كبيرٍ، حُرٍّ أو مملوكٍ، غنيٍّ أو فقيرٍ، ذكرٍ أو أنثى" رواه الدارقطني (¬3)، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، وقالا: "صاعًا من بُرٍّ عن كلِّ اثنين" (¬4)، وفيه النعمان ¬

_ (¬1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2417)، والحاكم في "المستدرك" (1495). (¬2) انظر: "سنن أبي داود" (2/ 113). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 87). (¬3) رواه الدارقطني في "السنن" (2/ 148). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 432)، وأبو داود (1619)، كتاب: الزكاة، =

ضعيفٌ عندهم. قال الإمام أحمد: ليس بصحيح، إنّما هو مرسل (¬1). واختار شيخ الإسلام ابن تيمية -رَوَّحَ اللَّه روحه-: أنّه يجزىء نصفُ صاع من بر، وقال: هو قياس المذهب في الكفارة (¬2)، وإنّه يقتضيه ما نقله الأثرم وفاقًا لأبي حنيفة. قال في "الفروع": كذا قال، قال: مع أنّ القاضي قال عن الصاع: نص عليه في رواية الأثرم، فقال: صاع من كل شيء (¬3). قال في "الفروع": وقد ذكر الجوزجاني، وابن المنذر، وغيرهما: أنّ أخبار نصف صاع لا تثبت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). (أو)؛ أي: وكنا نعطيها -يعني: زكاة الفطر- في زمان النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (صاعًا من أَقِط). قال في "المطلع": إنّ ابن سيدَهْ ذكر في "محكمه" (¬5): أنّ في الأقط أربعَ لغات: سكون القاف مع فتح الهمزة وضمها وكسرها، وكسر القاف مع فتح الهمزة. قال: وهو شيء يعمل من اللبن المخيض. وقال ابن [الأعرابي] (¬6): يعمل من ألبان الإبل خاصة (¬7). ¬

_ = باب: من روى نصف صاع من قمح. (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 406). (¬2) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 103). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 406 - 407). (¬4) المرجع السابق، (2/ 407). (¬5) انظر: "المحكم" لابن سيده (6/ 467). (¬6) في الأصل: "العربي" والصواب ما أثبت. (¬7) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 139).

وفي "شرح البخاري" للقسطلاني: الأقط: لبنٌ جامد فيه زُبْدُه، فإن أفسد الملح جوهره، لم يُجْزِ، وإن ظهر عليه ولم يفسده، وجب بلوغُ خالصه صاغًا، انتهى (¬1). قال في "الفروع": ويجزىء أَقِطٌ، نقله الجماعة، وهو الأصح للشّافعية، وعنه: يجزىء لمن يقتاته، اختاره الخرقي؛ وفاقًا لمالك، والشّافعيّ، وعنه: لا يجزىء، اختاره أَبو بكر؛ وفاقًا لقول الشّافعيّ في القديم. فعلى الأوّل في اللبن غير المخيض والجبن أوجه: الثالث: يجزىء اللبن لا الجبن. والرابع: يجزىء ذلك عند عدمِ الأقط، انتهى ملخصًا (¬2). (أو) كنا نعطيها -يعني: زكاة الفطر- في الزمن النّبوي (صاعًا من زبيب)، وهو ذاوي العنب. فهذه أُصول زكاة الفطر والكفارة ونحوهما، فلا يجزىء إخراجُ الفطرة من غيرها مع قدرته على تحصيل شيء منها؛ وفاقًا من الأئمة الأربعة، وكذا لا يجزىء الخبز، نصّ عليه؛ وفاقًا، وقال: أكرهه. وعند ابن عقيل: يجزىء، وقاله الشّافعية إن جاز الأقط. ولا تجزىء القيمة، نص الإمام أحمد على ذلك، وعنه رواية مخرجة: تجزىء؛ وفاقًا لأبي حنيفة. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنّه يجزىء قوتُ بلده مثل الأرز وغيره، ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 87). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 408 - 409).

وذكره رواية عن الإمام أحمد، وأنّه قول أكثر العلماء، واحتج بقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، وجزم به ابن رزين؛ وقاله مالك، والشّافعيّ في كلّ حبٍّ يجب فيه العشر. ومعتمد المذهب: أنّه يُخرج مع عدم الأصناف الخمسة من كلّ حَبٍّ يُقتات، واللَّه أعلم (¬1). قال أَبو سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-: (فلما جاء معاوية) بنُ أبي سفيانَ خالُ المؤمنين وأميرُهم، الأمويُّ -بضم الهمزة- الصّحابيُّ بنُ الصحابيِّ، كان من مُسلمة الفتح، ومن المؤلَّفة قلوبهم، ثمَّ حَسُنَ إسلامه كأبيه وأمه هند بنت عتبة، يكنى: أبا عبد الرحمن، وهو أحد كتاب النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقيل: إنّما كان يكتب الكتبَ لا الوحيَ. وفي التّرمذي: أنّ النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لمعاوية: "اللهمَّ اجعلْهُ هادِيًا مَهْدِيًا" (¬2). تولى الشّامَ بعد أخيه يزيد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يزيد بن أبي سفيان خيرٌ من أخيه معاويةَ، وأفضلُ (¬3). توفي يزيدُ هذا زمن عمر -رضي اللَّه عنهما-. ولم يزل معاويةُ في الشّام متوليًا حاكمًا إلى أن مات، وذلك أربعون ¬

_ (¬1) المرحع السابق، (2/ 409 - 410). (¬2) رواه الترمذي (3842)، كتاب: المناقب، باب: مناقب لمعاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنه-، وقال: حسن غريب، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 216)، من حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة -رضي اللَّه عنه-. (¬3) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 259).

سنةً، منها نحو أربعة في أيام عمر، ومدةُ خلافة عثمان، وخلافة علي وابنه الحسن -رضي اللَّه عنهم-، وذلك تمام عشرين سنة، ثمَّ خلص لمعاوية الأمرُ بتسليم الحسن بن علي -رضي اللَّه عنهما- له سنة إحدى وأربعين، وكان له عشرون سنة أو نحوها، ومات سنة ستين في رجب بدمشق وله ثمان وسبعون، وقيل: ست وثمانون سنة، وقيل: اثنتان وثمانون سنة، ورجحه النّووي. وكان عنده من آثار النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إزار وقميص وشيءٌ من من شعرِه -عليه الصّلاة والسلام-، وأظفارِه، فقال: كَفِّنوني في قميصه، وأَدرجوني في إزاره، واحْشُوا منخري وشدقيَّ ومواضعَ السّجود مني بشعره وأظفاره، وخَلُّوا بيني وبين أرحم الراحمين (¬1) -رحمه اللَّه، ورضي عنه-. وهو من الموصوفين بالدهاء والحلم، وهو أوّل من بلغ درجات المنبر خمس عشرة مرقاة، وكان يقول: أنا أوّل الملوك (¬2)، ولمّا دخل سيدنا عمر بن الخطّاب -رضي اللَّه عنه- الشّام، ورآه، قال: هذا كسرى العرب (¬3). روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئةُ حديث، وثلاثة وستون حديثًا، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة. قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في "منتخب المنتخب": قال معاوية -رضي اللَّه عنه- عند موته: ليتني كنت رجلًا من قريش بذي طوى، ولم ألِ من هذا الأمر شيئًا، واللَّه الموفق (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (59/ 61). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (35891)، عن شيخ من أهل المدينة. (¬3) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (59/ 114). (¬4) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 406)، و"التاريخ الكبير" =

وكان مجيء معاوية -رضي اللَّه عنه- إلى الحجاز للحج. وزاد مسلم في رواية: قال أَبو سعيد -رضي اللَّه عنه-: فلم نزل نخرجه حتّى قدم معاوية حاجًا أو معتمرًا، فكلم النّاسَ على المنبر (¬1). وزاد ابن خزيمة: وهو يومئذ خليفة (¬2). (وجاءت السمراء)؛ أي: كثرت الحنطة الشّامية، ورخصت. (قال) معاوية: (أُرى) -بضم الهمزة-؛ أي: أظن، وفي لفظ:-بفتح الهمزة (¬3) (مُدًّا، واحدًا (من هذا) الحبِّ أو القمح (يعدلُ مُدَّين) من سائر الحبوب، وبهذا ونحوه تمسك أَبو حنيفة -رحمه اللَّه تعالى-. وأجيب عن هذا: بأنّه قال في أوّل الحديث: "صاعًا من طعام"، وهو في الحجاز: الحنطةُ، فهو صريح في أنّ الواجب منها صاعٌ، وقد عدّد الأقوات، فذكر أفضلَها قوتًا عندهم، وهو البُرُّ، ولاسيما وعطفت بأو الفاصلة، فالنظر في ذواتها لا قيمتها، ومعاوية صرّح بأنّه رأيه، فلا يكون حجةً على غيره (¬4). ¬

_ = للبخاري (7/ 326)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1416)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (59/ 57)، و"تلقيح فهوم أهل الأثر" لابن الجوزي (ص: 112)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 406)، و"تهذيب الكمال" للمزي (28/ 176)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 119)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 151). (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (985/ 18). (¬2) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2408). (¬3) هو لفظ لأبي ذر، كما ذكر القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 88). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 88).

وقد زاد مسلم: (قال أَبو سعيد: أمّا أنا، فلا أَزالُ أُخْرِجُه كما كنتُ أُخرجُه) (¬1). وفي لفظ: ما أزال أخرجه أبدًا ما عشتُ (¬2). وله من طريق ابن عجلان: فأنكر ذلك أَبو سعيد، وقال: لا أخرجُ إلا ما كنتُ أخرجُ في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). وتقدم أنّه قال له رجلٌ: مدين من قمح؟ فقال: تلك قيمةُ معاوية، لا أقبلها، ولا أعمل بها، فدلّ على أنّه لم يوافق على ذلك، وحينئذ فليس في المسألة إجماع سكوتي (¬4). قال النّووي: وكيف يكون ذلك، وقد خالفه أَبو سعيد وغيره ممن هو أطولُ صحبة وأعلم بأحوال النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)؟ فائدة: من أخرج فوقَ الصاع، فأجرُه أكثر، وحكى الإمام أحمدُ عن خالد بن خِداشٍ، قال: سمعت الإمامَ مالكًا يقول: لا يزيد فيه؛ لأنّه ليس له أن يصلّي الظهر خمسًا، فغضب الإمام أحمد، واستبعد ذلك، واللَّه الموفق (¬6). تنبيه: لا يحلّ ولا يسوغ التّحيُّل على إسقاط الزكاة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (985/ 18). (¬2) هو من لفظ الرواية المتقدمة آنفًا. (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (985/ 21). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 88). (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 61). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 408).

قال الإمام ابن القيم في "أعلام الموقعين": الحيل دائرة بين الكفر والفسق، لا يجوز أن تُنسب إلى أحد من الأئمة، ومن نسبها إلى أحد منهم، فهو جاهل بأصولهم ومقاديرهم، ومنزلتهم من الإسلام، وإن كان بعضُها قد ينفذ على أصول إمام، بحيث إذا فعلها المتحيل، نفذ حكمها عنده، ولكن هذا غير الإذن فيها وإباحتها وتعليمها. ثمَّ قال: والذي ندينُ اللَّه به: تحريمُها، وإبطالُها، وعدمُ تنفيذها، ومقابلةُ أربابها بنقض تصورهم لموافقة شرع اللَّه وحكمته. ثمَّ قال: والمقصود: أنّ هذه الحيل لا يجوز أن تُنسب إلى إمام؛ فإنّ ذلك قدحٌ في إمامته، ويلزم منه القدحُ في الأمّة؛ حيث ائتمَّت بمن لا يصلح للإمامة، وهذا غير جائز، ولو فرض أنّه حكي عن واحد من الأئمة بعضُ هذه الحيل المجمَع على تحريمها، فإمّا أن تكون الحكاية باطلة، أو يكون الحاكي لم يضبط لفظَه، فاشتبه عليه، ولو فرض وقوعُها منه في وقت ما، فلا بد أن يكون قد رجع عن ذلك، وإن لم يحمل على ذلك، لزم القدحُ في الإمام، وفي جماعة المسلمين المؤتمين به، وكلاهما غير جائز. قال الإمام أحمد: عجيبٌ مما يقول به أربابُ الحيل في الحيل، وذكر أصحاب الحيل، فقال: يحتالون لنقض سُنَن النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، عمدوا إلى السنن، واحتالوا لنقضها. قال ابن القيم: فإذا احتال العبد على تحليل ما حرم اللَّه، وإسقاطِ ما فرض، وتعطيلِ ما شرع اللَّه، كان ساعيًا في دين اللَّه بالفساد من وجوه: أحدها: إبطالُ ما في الأمر المحتال عليه من حكمة الشارع، ونقض حكمه، ومناقضته له. وذكر عدة وجوه، ثمَّ قال: ولو أنّ النّاس كلهم تحيلوا لترك الحج والزكاة، لبطلت فائدةُ هذين الفرضين العظيمين، وارتفع

من الأرض حكمُهما بالكلية، ولم يكن السّلف الصالح يرون الحيل في شيء من الديّن، ويعاقبون أربابها. والحاصل: أنّ الحيل لإسقاط فرائض اللَّه المحتومة، وأركانِ دينه المعلومة، تدور بين الفسق والكفر، واللَّه الموفق (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "أعلام الموقعين" لابن القيم (3/ 178 - 185).

كتاب الصيام

كتاب الصيام الصّيام والصّوم: مصدرُ صام، والصّيام -بكسر الصاد المهملة والياء بدل الواو- ربعُ الإيمان؛ لقوله -عليه الصّلاة والسّلام-: "الصَّومُ نصفُ الصبر" (¬1)، وقوله: "الصبرُ نصفُ الإيمان" (¬2). وهو لغةً: الإمساكُ. قال تعالى-: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26]؛ أي: إمساكًا وسكوتًا، ويقال: صامتِ الخيلُ: إذا أمسكتْ عن السير، قال النابغة (¬3): [من البسيط] خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُما ويقال: صامت الريح: إذا أمسكت عن الهبوب. قال أَبو عبيدة: كلُّ ممسكٍ عن طعامٍ أو كلامٍ أو سيرٍ فهو صائم. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3519)، كتاب: الدعوات، باب: (87)، وقال: حسن، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 260)، عن رجل من بني سليم. (¬2) رواه تمام الرازي في "فوائده" (1083)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (9716)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (158)،، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-. قال البيهقي: والمحفوظ عن ابن مسعود من قوله غير مرفوع. (¬3) انظر: "ديوانه" (ص: 112)، (ق 13/ 25).

وشرعًا: إمساكٌ عن أشياءَ مخصوصةٍ، في زمنٍ مخصوصٍ، من شخصٍ مخصوصٍ، بنيةٍ مخصوصة (¬1). وفرض في السنة الثّانية من الهجرة إجماعًا، فصام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تسع رمضانات إجماعًا (¬2). وذكر الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في الباب الذي هو صدر كتاب الصّيام سبعةَ أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 145). (¬2) انظر: "العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 839).

[باب]

الحديث الأول عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَومِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلًا كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1815)، كتاب: الصوم، باب: لا يتقدمن رمضان بصوم يوم ولا يومين، ومسلم (1082)، كتاب: الصيام، باب: لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، واللفظ له، وأبو داود (2335)، كتاب: الصيام، باب: فيمن يصل شعبان برمضان، والنسائي (2172)، كتاب: الصيام، باب: التقدم قبل شهر رمضان، و (2173)، باب: ذكر الاختلاف على يحيى بن أبي كثير ومحمد بن عمرو على أبي سلمة فيه، والترمذي (684)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء: لا تقدموا الشهر بصوم، وابن ماجه (1650)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في النهي أن يتقدم رمضان بصوم إلا من صام صومًا فوافقه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 200)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 13)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 146)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 194)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 204)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 839)، وفتح الباري "لابن حجر" (4/ 128)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 287)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 359)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 150).

(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمن بنِ صخرٍ (-رضي اللَّه عنه-، قال: قالَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا تَقَدَّمُوا رمضانَ). قال البيضاوي (¬1) كالزمخشري: رمضان: مصدرُ رَمِضَ: إذا احترق، فأُضيف إليه الشهر، وجُعل عَلَمًا (¬2)، فجعلا مجموع المضاف والمضاف إليه هو العلم، وهذا الحديث حجة عليهما. قال الإمام العلامة ابن مفلح في "فروعه": قيل: سمي رمضان؛ لحرِّ جوفِ الصائم فيه، ورمضه، والرمضاء: شدةُ الحر، وقيل: لمّا نقلوا الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهرُ أيامَ شدةِ الحر ورمضِه، وقيل: لأنّه يحرقُ الذنوب، وقيل: موضوع لغير معنى؛ كسائر الشهور، كذا قيل، وجمعُه رمضانات، وأرمضة، ورماضين، وأرمض، ورماض، ورماضي، وأراميض. قال: والمستحبُّ قول: شهر رمضان، كما قال اللَّه تعالى، ولا يكره قول: رمضان؛ بإسقاط الشهر؛ وفاقًا لأبي حنيفة، وأكثر العلماء. وذكر الشيخ -يعني: الموفق-: يكره إلا مع قرينة الشهر؛ وفاقًا لأكثر الشّافعيّة. قال: وذكر شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى- وجهًا: يكره؛ وفاقًا للمالكية (¬3). وفي القسطلاني: وقول الأكثر -يعني: من الشّافعيّة-: يُكره أن يقال: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البيضاوي" (1/ 463). (¬2) انظر: "الكشاف" للزمخشري (1/ 226). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 3).

رمضان بدون شهر، رده النّووي في "المجموع" (¬1) بأنّ الصواب خلافه؛ كما ذهب إليه المحققون؛ لعدم ثبوت نهي فيه، انتهى (¬2). وكأنّه يشير إلى ما رواه ابن عدي، والبيهقي، وغيرهما من رواية أبي معشر، وهو ضعيف عندهم، عن المقبري، عن أبي هريرة، مرفوعًا: "لا تَقُولوا رَمَضان؛ فإنه اسمٌ من أسماء اللَّه، ولكن قولوا: شهرُ رمضان" (¬3)، قال الإمام الحافظ ابن الجوزي: موضوع، ولم يذكره أحد من أسمائه تعالى، ولا يجوز أن يسمى به إجماعًا، انتهى (¬4). والأحاديث صحت عن سيد العالم من وجوه متعددة بإسقاط شهر، منها: "مَنْ قامَ رمضانَ إيمانًا واحْتِسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه" (¬5)، و"مَنْ صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّمَ من ذنبه" متفق عليه (¬6). ورواه الإمام أحمد، وزاد: "وما تأخر" من حديث أبي هريرة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (6/ 245 - 246). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 349 - 350). (¬3) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (7/ 53)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 201). (¬4) انظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (2/ 187). (¬5) رواه البخاري (37)، كتاب: الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان، ومسلم (759)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬6) رواه البخاري (38)، كتاب: الإيمان، باب: صوم رمضان احتسابًا من الإيمان، ومسلم (760)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬7) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 385).

وعنه مرفوعًا: "إذا جاءَ رمضانُ، فتحتْ أبوابُ الجنّة، وغُلِّقَتْ أبوابُ النّار، وصُفِّدَتِ الشياطينُ" (¬1). وفي لفظ: "فُتحت أبوابُ الرحمة، وغلقتْ أبوابُ جهنم، وسُلْسِلَتِ الشياطينُ" متفق عليه (¬2). وعنه مرفوعًا: "أُعطيتْ أُمتي خمسَ خصالٍ في رمضان لم تُعْطَه أمّةٌ قبلَهم: خلوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عند اللَّه من ريح المسك، وتستغفرُ له الملائكة حتّى يفطر، ويزين اللَّه كل يوم جنته، ثمَّ يقول: يوشكُ عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنةَ والأذى، ويصيروا إليكِ، وتُصَفَّدُ فيه مَرَدَةُ الشياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة"، قيل: يا رسول اللَّه! أهي ليلة القدر؟ قال: "لا، ولكن العامل إنّما يُوَفَّى أجرَه إذا قضى عملَه" رواه الإمام أحمد، وغيره (¬3). قال الحافظ ابن ناصر: حديث حسن، إسناده عدول (¬4). والحاصل: معتمد المذهب؛ كالحنفية: عدمُ كراهةِ قولِ رمضان بدون شهر؛ خلافًا لأكثر الشّافعيّة، والمالكية، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1799)، كتاب: الصوم، باب: هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان؟، ومسلم (1079/ 1)، كتاب: الصيام، باب: فضل شهر رمضان، واللفظ له. (¬2) رواه البخاري (1800)، كتاب: الصوم، باب: هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان؟، ومسلم (1079/ 2)، كتاب: الصيام، باب: فضل شهر رمضان، واللفظ له. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 292)، والحارث بن أبى أسامة في "مسنده" (319)، وابن عبد البر في "التمهيد" (16/ 153)، وغيرهم. (¬4) نقله ابن مفلح في "الفروع" (3/ 4).

وقوله: "لا تَقَدَّموا" -بفتح التاء والدال-، أصله: تتقدموا، فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا؛ أي: لا تتقدموا الشهر بصوم تعدُّونه منه احتياطًا حيث لم تكن في السماء علةٌ من غيم أو قتر؛ خلافًا للروافض الذين يرون تقديمَ الصوم على الرؤية (¬1). ولكراهة التقدم معان: أحدها: خوفًا من أن يُزاد في رمضان ما ليس منه، كما نُهي عن صيام يوم العيد لذلك؛ حذرًا مما وقع فيه أهلُ الكتاب في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم. وخرج الطبراني عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: أنّ ناسًا كانوا يتقدمون الشهرَ، فيصومون قبل النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأنزل اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬2) [الحجرات: 1]. الثّاني: الفصلُ بين صيام الفرض والنفل؛ فإن جنس الفصل بين الفرائض والنوافل مشروع، ولذا نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يوصل صلاة مفروضة بصلاة حتّى يفصل بينهما بسلام، أو كلام، خصوصًا سنة الفجر. الثالث: أنّه للتقوي على صيام رمضان؛ فإن مواصلة الصّيام تُضعف عن صيام الفرض، فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين، كان أقرب إلى التقوِّي على صيام رمضان، وفيه نظر؛ لعدم الكراهة بالتقدم أكثرَ من ذلك، وبصيام الشهر كله، وهو أبلغ في معنى الضعف، نعم الفطرُ بنية التقوي على صيام رمضان حسنٌ لمن أضعَفَته مواصلةُ الصّيام، ومن هذا قولُ بعض الصّحابة: ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 204). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2713)، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (2/ 325).

إنّي أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي (¬1)، وفي الحديث المرفوع: "الطاعِمُ الشاكرُ كالصائمِ الصابرِ" خرَّجه التّرمذي، وغيره (¬2)، وأشار إلى ذلك الحافظ ابن رجب في "لطائفه" (¬3). (بصوم يوم) واحد، (ولا) بصوم (يومين). قال الحافظ ابن رجب: صيامُ آخرِ شعبانَ له ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصوم بنية الرمضانية احتياطًا لرمضان، فهذا منهيٌّ عنه، وقد فعله بعضُ الصّحابة، وكأنّهم لم يبلغهم النهيُ عنه، وفرق ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- بين الغيمِ والصحو في يوم الثلاثين من شعبان، وتبعه الإمام أحمد. الثّاني: أن يُصام بنية النذر، أو قضاء عن رمضان، أو عن كفارة، ونحو ذلك، فجوزه الجمهور، ونهى عنه مَنْ أمرَ بالفصل بين شعبان ورمضان بفطرِ يومٍ مطلَق، وهم طائفةٌ من السلف، وحكي كراهته أيضًا عن أبي حنيفة، والشّافعيّ، وفيه نظر. الثالث: أن يُصام بنية التطوُّع المطلق، فكرهه مَنْ أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر، منهم: الحسن، وإن وافق صومًا كان يصومه، ¬

_ (¬1) رواه البخاري في حديث (4086)، كتاب: المغازي، باب: بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل -رضي اللَّه عنهما- إلى اليمن قبل حجة الوداع، ومسلم (1733)، كتاب: الإمارة، باب: النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، عن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه- من قوله. (¬2) رواه الترمذي (2486)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: (43)، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (1764)، كتاب: الصيام، باب: فيمن قال الطاعم الشاكر كالصائم الصابر، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬3) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 273 - 276).

ورخص فيه مالكٌ ومَنْ وافقه، وفرق الشّافعيّ والأوزاعي والإمام أحمد وغيرهم بين أن يوافق عادة، أو لا، وكذلك يفرق بين من تقدم صيامه بأكثر من يومين (¬1)، ووصله برمضان، فلا يكره؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إلا رجلًا)؛ أي: شخصًا من رجل وامرأة (كان يصوم صومًا) معتادًا؛ كأن اعتاد صومَ الدهر، أو صومَ يومٍ وفطرَ يوم، أو يوم مخصوص؛ كالاثنين والخميس، (فليصمه) على حسب عادته؛ فإنه مأذون له فيه، فمفهوم الحديث الجواز إذا كان التقدُّم بأكثرَ من يومين (¬2). قال في "الفروع": يكره استقبالُ رمضان بيوم أو يومين، ذكره التّرمذي عن أهل العلم، وجزم به الأصحاب، مع ذكرهم في يوم الشّك ما يأتي، ولا يكره التقديم بأكثرَ من يومين، نص عليه؛ لظاهر هذا الحديث، وقيل: يكره بعد نصف شعبان، وحرمه الشّافعيّة؛ لحديث أبي هريرة: "إذا انتصفَ شعبانُ، فلا تصوموا" رواه الخمسة (¬3)، وقد ضعفه الإمام أحمدُ وغيرُه من الأئمة (¬4). وقد صَحَّحه التّرمذيُّ وغيرُه، وقال عبد الرحمن بن مهدي: إنّه حديث منكر، وكذا الإمام أحمد، وأبو زرعة الرازي، والأثرم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 273). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 360). (¬3) رواه أَبو داود (2337)، كتاب: الصوم، باب: في كراهية ذلك، والنسائي في "السنن الكبرى" (2911)، والترمذي (738)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان، وابن ماجه (1651)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في النهي أن يتقدم رمضان بصوم إلا من صام صومًا فوافقه، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 442). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 87).

قال الإمام أحمد: لم يرو العلاء حديثًا أنكرَ منه، ورده بحديث: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين"؛ فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين. وقال الطحاوي: هو منسوخ، وحكى الإجماع على ترك العمل به، وأكثر العلماء أنّه لا يُعمل به، وقد أخذ به الشّافعيّ وأصحابه، فنهوا عن ابتداء التطوع بالصّيام بعد نصف شعبان لمن ليس له عادة، وقد وافقهم بعضُ متأخري أصحابنا كما في "اللطائف" (¬1). ومعتمد المذهب: عدمُ الكراهة أن تقدم رمضان بصيام ثلاثة أيام فصاعدًا، وكذا إن وافق عادةً، ولو كان التقدم بصوم يوم أو يومين؛ لمنطوق هذا الحديث ومفهومه، واللَّه تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 260).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "إذَا رَأَيْتُمُوهُ، فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ، فَاقْدُرُوا لَهُ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1801)، كتاب: الصوم، باب: هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان؟، و (1807 - 1809)، باب: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا"، ومسلم (1080/ 3 - 9)، كتاب: الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال، وأبو داود (2320)، كتاب: الصوم، باب: الشهر يكون تسعًا وعشرين، والنسائي (2120 - 2121)، كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على الزهري في هذا الحديث، و (2122)، باب: ذكر الاختلاف على عبيد اللَّه بن عمر في هذا الحديث، وابن ماجه (1654)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 94)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 275)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 7)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 137)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 186)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 205)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 842)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 175)، و"طرح التثريب" للعراقي (4/ 105)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 120)، و"عمدة القاري" =

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ اللَّه بنِ عمرَ -رضي اللَّه عنهما-، قال سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: إذا رأيتُموه) -يعني: هلال رمضان-، وفي لفظ عندهما: قال ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر رمضان، فقال: "لا تصوموا حتّى تروا الهلال" (¬1)؛ يعني: إذا لم يكمل شعبان ثلاثين، ولم يكن في السّماء علة من غيم ونحوه، (فصوموا) لرؤيته، (وإذا رأيتموه)؛ يعني: هلال شوال، (فأفطروا). وفي لفظ عندهما: "ولا تُفطروا حتّى تَرَوه" (¬2)؛ أي: الهلال، وليس المرادُ رؤيةَ جميع النّاس بحيث يحتاج كلُّ فرد فرد إلى رؤيته، بل المعتبر رؤيةُ بعضهم، وهو العدد الذي تثبتُ به الحقوق، وهو عَدْلان، إلا أنّه يكتفى في ثبوت هلال رمضان بعدلٍ واحد (¬3). قال في "الفروع": ويُقبل في هلال رمضان قولُ عدلٍ واحد، نص عليه؛ وفاقًا للشّافعيّ، وحكاه التّرمذي عن أكثر العلماء (¬4)؛ لحديثي ابنِ عمر وابنِ عبّاس، ولأنه خبر ديني، وهو أحوط، ولا تهمة فيه؛ بخلاف آخر الشهر. ومعتمد المذهب: هو خبر، فتقبل المرأةُ والعبد، ولا يختص بحاكم، فيلزم الصّوم من سمعه من عدل، ولا يعتبر لفظ الشهادة. والأصح للشّافعيّة: أنّه شهادة لا إخبار. ¬

_ = للعيني (10/ 271)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 351)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 151)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 262). (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1807)، وعند مسلم برقم (1080/ 3). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1807)، ومسلم برقم (1080/ 3، 6، 9). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 356). (¬4) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 74).

ومذهب أبي حنيفة: يُقبل واحد في غيم، أو رآه خارجه، أو أعلى مكان منه؛ كالمنارة، ومع الصحو التواتر. ومذهب مالك: يعتبر عدلان، وكذا قولُ الشّافعيّ في القديم (¬1). (فإن غُمَّ عليكم) -بضم الغين المعجمة وتشديد الميم-؛ أي: إن حال بينكم وبين الهلال غيمٌ في صومكم أو فطركم (¬2)، (فاقْدُروا له) -بهمزة وصل وضم الدال- (¬3). قال العلامة الشيخ مرعي الحنبلي في كتابه "تحقيق الرجحان": للعلماء في قوله: "فاقْدُروا له" قولان: أحدهما: قدروا الهلال زمانًا يمكن أن يطلع فيه، وذلك ليلة الثلاثين، فأمّا الليلة التي بعدها، فلا تحتاج إلى تقدير، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7]؛ أي: ضُيِّق. الثّاني: أنّ معنى "اقدُروا": احكموا بطلوعه من جهة الظاهر، مأخوذ من قوله تعالى: {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل: 57]؛ أي: حكمنا بذلك، هذا قول علمائنا. وقال المخالف: هذه الزيادة تأكيد لقوله: "لا تصوموا حتّى تَرَوا الهلالَ"؛ إذ المقصود حاصل منه، ولا يخفى أنّ التأسيس أولى من التأكيد، وتفسيرهم لهذه الزيادة يعني: قدروا له تمامَ العدِّ ثلاثين يومًا؛ أي: انظروا ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 10 - 11). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 135)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 388). (¬3) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (5/ 77)، (مادة: قدر)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 356).

في أوّل الشهر وآخره، واحسبوه ثلاثين يومًا تحصيل للحاصل، هذا، وراوي الحديث عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- أعلم بتفسيره. قال نافع: كان عبدُ اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- إذا مضى من شعبان تسعٌ وعشرون يبعث مَنْ ينظر، فإن رأى، فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحابٌ ولا قَتَرٌ، أصبح مفطرًا، وإن حال دون منظره سحابٌ أو قتر، أصبح صائمًا. رواه أَبو داود، وغيره (¬1)، وكذا كان عمر بن الخطّاب -رضي اللَّه عنه- يصوم إذا كانت السّماء في تلك الليلة متغيمة، وليس هذا بالتقدير، ولكنه للتحري. وقد روى الربيع عن الشّافعيّ: أنّ عليَّ بنَ أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، قال: لأَنْ أصومَ يومًا من شعبانَ أحبُّ إليَّ من أن أُفطر يومًا من رمضان (¬2). وروى الإمام أحمد بسنده: أنّ أبا هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: لأَنْ أتعجَّلَ في صوم رمضانَ بيومٍ أحبُّ إليَّ من أن أتأخَّر؛ لأنّي إذا تعجَّلْتُ، لم يَفُتْني، وإذا تأخرت، فاتني. وكذا روى الإمام أحمد بسنده عن معاوية، وعمرو بن العاص. وروى مثله سعيد بن منصور عن عائشة وأسماء ابنتي الصدِّيق -رضوان اللَّه عليهم أجمعين-. وفي هذا الحديث: دليل على عدم تعليق الحكم بالحساب (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أَبو داود (2320)، كتاب: الصوم، باب: الشهر يكون تسعًا وعشرين، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 5). (¬2) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 103)، وفي "الأم" (2/ 94)، والدارقطني في "سننه" (2/ 170)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 212)، عن فاطمة بنت الحسين. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 205).

وفي "الصحيحين" وغيرهما: أنّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في خطبته في حجة الوداع: "إنَّ الزمانَ قدِ استدارَ كهيئته يومَ خلقَ اللَّهُ السمواتِ والأرضَ، السنةُ اثنا عشرَ شهرًا، منها أربعةٌ حُرُمٌ، ثلاثةٌ متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب" الحديث (¬1). وأنزل اللَّه تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36]، فأخبر سبحانه أنّ هذا هو الدين القيّم، لا ما عداه، فظهر بهذا عودُ المواقيت إلى الأهلّة، لا إلى العدد والحساب. قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -قدّس اللَّه روحه-: وقد ذهب قوم منتسبة إلى الشّيعة من الإسماعيليةِ وغيرِهم يقولون بالعدد دون الرؤية، ومبدأُ خروج هذه البدعة من الكوفة، فمنهم من يعتمد على جدول يزعمون أنّ جعفرًا الصادق دفعه إليهم، وهذا كذب مختلَق على جعفرٍ، اختلقه عليه عبدُ اللَّه بنُ معاوية، وقد ثبت بالنقل المرضي عن جعفر وعامة أئمة أهل البيت ما عليه جماعة المسلمين، ومنهم من يعتمد على أنّ رابع رجب أوّل رمضان، أو على أن خامس رمضان الماضي أوّل رمضان الحاضر، ومنهم من يروي عن النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا لا يُعرف في شيء من كتب الإسلام، ولا رواه عالم قط: أنّه قال: "يومُ صومِكم يومُ نحرِكم"، وغالب هؤلاء يوجبون أن يكون رمضان تامًا، ويمنعون أن يكون تسعة وعشرين يومًا. قال شيخ الإسلام: لا خلافَ بين المسلمين أنّه إذا كان مبدأ الحكم في الهلال، حسبت الشهور كلها هلالية؛ مثل أن يصوم الكفارة في هلال المحرم، أو يتوفى زوج المرأة في هلال المحرم، أو يؤلي من امرأته في ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

هلال المحرم مثلًا، أو يبيعه في الهلال إلى شهرين أو ثلاثة، فإن جميع الشهور تحتسب بالأهلة، وإن كان بعضها أو جميعها ناقصًا، وأمّا إن وقع مبدأ الحكم في أثناء الشهر، فقيل: تحسب الشهور كلُّها بالعدد، وقيل: بل يكمل شهر بالعدد، والباقي بالأهلة، وهذان القولان روايتان عن الإمام أحمد، أصحُّهما الثّاني، وهو الصواب الذي عليه عملُ المسلمين قديمًا وحديثًا، فإن كان الشهر الأوّل كاملًا، كمل ثلاثين يومًا، وإن كان ناقصًا، جعل تسعة وعشرين يومًا، فإذا تقرر هذا، فالشهر قد ينقص، وقد لا ينقص (¬1). تنبيه: قد اختلف الأئمةُ الأربعة في ليلة الثلاثين من شعبان حيث كان في السّماء علةٌ من غيم أو قتر أو غيرِهما، فمذهبُ الحنفية: صومُ يومِ الشّك يقع على وجوه: أحدها: أن ينوي صومَ رمضان، وهو مكروه، تمَّ ظهر أنّ اليوم من رمضان، أجزأه، وإن ظهر أنّه من شعبان، وقع تطوُّعًا. ثانيها: أن ينويه عن واجب آخر، وهو مكروه أيضًا، إلا أنّه دون الأوّل في الكراهة، ثمَّ إن ظهر أنّه من رمضان، أجزأه، وإن ظهر أنّه من شعبان، فقيل: يقع تطوعًا، وقيل: عما نواه، وهو الأصح. ثالثها: أن ينوي التّطوع، وهو غيرُ مكروه، ثمَّ إن ظهر أنّه من رمضان، وقع عنه؛ لأن رمضان معيار لا يسع غيره. ورابعها: أن يتردَّدَ في أصل النية؛ بأن ينوي أن يصوم غدًا إن كان من ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (25/ 178 - 179).

رمضان، ولا يصوم إن كان من شعبان، وفي هذا الوجه لا يكون صائمًا؛ لعدم الجزم في العزيمة. خامسها: أن يتردَّدَ في وصف النية؛ بأن ينوي: إن كان غدًا من رمضان، فعنه، وإلا، فعن واجبٍ آخرَ، وهذا مكروه، ثمَّ إن ظهر من رمضان، أجزأه، وإن ظهر من شعبان، لم يجزه عن الواجب؛ للتردد في وصف النية، ويقع تطوعًا. ومذهب المالكية: يجوز صومُ يوم الشّك إن كان تطوعًا، أو عادة، ويجب إن كان قضاء، أو نذرًا، ويحرم على أحد القولين إن صامه احتياطًا، ولا يجزىء في الجميع إن ظهر من رمضان (¬1). ومذهب الشّافعيّة: يحرم على الصحيح عندهم صومُ يوم الشّك، ولا يصح، سواء نواه من رمضان، أو نفلًا؛ لقول عمار بن ياسر -رضي اللَّه عنه-: من صامَ يومَ الشّك، فقد عصى أبا القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم-. رواه التّرمذي، وغيره، وصحَّحوه موقوفًا، وعلّقه البخاري (¬2). فلو نذر صومه، لم يصح عندهم؛ لخبر مسلم: "لا نذرَ في معصيةِ اللَّه" (¬3)، ويصح صومُه عن نذرٍ وكفارة، ونفلٍ يوافق عادة؛ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (25/ 143 - 144). (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" (2/ 674) معلقًا بصيغة الجزم، ورواه الترمذي (686)، كتاب: الصوم، باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك، وأبو داود (2334)، كتاب: الصوم، باب كراهية صوم يوم الشك، والنسائي (2188)، كتاب: الصيام، باب صيام يوم الشك، وابن ماجه (1645)، كتاب: الصيام، باب ما جاء في صيام يوم الشك. (¬3) رواه مسلم (1641)، كتاب: النذر، باب: لا وفاء لنذر في معصية اللَّه، ولا فيما لا يملك العبد، عن عمران بن حصين -رضي اللَّه عنه-.

للحديث، ومعتمد مذهبهم: حرمةُ الصوم من بعد نصف شعبان. ومذهب الحنابلة: أنه إذا حال دون مطلع الهلال غيمٌ أو قترٌ ليلةَ الثلاثينَ من شعبان، ففي صوم صَبيحة ذلك اليوم ثلاثُ روايات عن الإمام أحمد: أصحُّها: أنّه يجب صومُه بنية رمضان احتياطًا، ويجزئه صومه عن رمضانَ إن ظهر منه، ويجب على معتمد المذهب أن يجزم أنّه من رمضان، وإن لم يتحقق كما في اليوم الأخير، وليس هذا شكًا في النية، بل في المنوي؛ كما قاله الحافظ ابن الجوزي. قال أَبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد اللَّه أحمدَ بنَ حنبل يقول: إذا كان في السّماء سحابٌ، أو علّة، أصبح صائمًا، فإن لم يكن في السماء علة، أصبح مفطرًا، ثم قال: كان ابن عمر إذا رأى في السماء سحابًا، أصبح صائمًا، قلت لأبي عبد اللَّه: فيعتد به؟ قال: كان ابن عمر يعتد به، فإذا أصبح عازمًا على الصوم، اعتدَّ به، ويجزيه، قلت: فإن أصبح متلومًا يقول: إن قالوا: هو من رمضان، صمتُ، وإن قالوا: ليس من رمضان، أفطرتُ؟ قال: هذا لا يعجبني، يتمُّ صومه، ويقضيه؛ لأنّه لم يعزم، وهذه الرواية نقلها عن الإمام أحمد ابناه صالح وعبدُ اللَّه، وأبو داود (¬1)، وأبو بكر الأثرم، والمروذي، والفضل بن زياد، وهي اختيار عامة علمائنا، منهم: أَبو بكر الخلال، وصاحبه عبد العزيز، وأبو بكر النجاد، وأبو علي النجاد، وأبو القاسم الخرقي، وأبو إسحاق بن شاقلا، وأبو الحسن التميمي، وأبو عبد اللَّه بن حامد، والقاضيان أَبو علي بن أبي موسى، وأبو يعلى بن أبي الفراء. وهو مروي عن عمر بن الخطّاب، وابنه، وعلي بن أبي طالب، ¬

_ (¬1) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود" (ص: 107).

وأنس بن مالك، وأبي هريرة، ومعاوية، وعمرو بن العاص، والحكم بن أيوب الغفاري، وعائشة، وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق -رضوان اللَّه عليهم أجمعين-. وقال به من كبراء التابعين: سالمُ بنُ عبد اللَّه بنِ عمر، ومجاهدٌ، وطاوس، وأبو عثمانَ النهديُّ، ومُطَرِّفُ بنُ عبد اللَّه، وميمونُ بن مهرانَ، وبكر بن عبد اللَّه المزنيُّ، وغيرهم -رحمهم اللَّه تعالى-. والرواية الثّانية عن الإمام أحمد: لا يجبُ الصوم، بل يجوز في حالَيئذٍ، اختاره شيخُ الإسلام ابن تيمية، قال: لأنّ الصّحابة -رضوان اللَّه عليهم- كان يصبحُ منهم الصائمُ والمفطر، فلا الصائمُ يَعيب على المفطر، ولا المفطرُ يعيبُ على الصائم (¬1). والرواية الثالثة: النّاس تبعٌ للإمام، فإن صام، وجب الصوم، وإلا، فلا، فيتحرى في كثرة كمال الشهور قبله ونقصها (¬2). ومعتمدُ المذهب الذي استقر عليه: وجوبُ الصوم ليلة الثلاثين من شعبان بشرط كون في السّماء علّة، واللَّه تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (25/ 124). (¬2) انظر: هذه الروايات الثلاث في: "كتاب التمام لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام" للقاضي أبي الحسين الفراء (1/ 288)، و"المغني" لابن قدامة (4/ 330)، و"شرح الزركشي على الخرقي" (2/ 553)، و"الفروع" لابن مفلح (3/ 6)، وغيرها.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ في السُّحُورِ بَرَكَةً" (¬1). (عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالكٍ -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: تَسَحَّروا) وهو تفعُّل من السَّحَر، وهو قُبيل الصبح. قال علماؤنا كالشّافعيّة: يدخل وقتُه بنصف اللّيل، وفيه نظر؛ لأنّ السّحر لغةً قُبيلَ الفجر، ومن ثمَّ خصّه بعضُهم بالسدُس الأخير، والمراد: ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1823)، كتاب: الصوم، باب: بركة السحور، ومسلم (1095)، كتاب: الصيام، باب: فضائل السحور وتأكيد استحبابه، والنسائي (2146)، كتاب: الصيام، باب: الحث على السحور، والترمذي (708)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في فضل السحور، وابن ماجه (1692)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في السحور. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 32)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 155)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 206)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 208)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 845)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 139)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 301)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 365)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 154)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 302).

الأكلُ في ذلك الوقت، وذلك لأنّ معنى التفعُّل هنا في الزمن المصوغ من لفظه؛ فإنه من معاني تفعَّلَ؛ كتغدى، وتعشَّى (¬1). وتحصل فضيلةُ السُّحور بأكلٍ أو شربٍ؛ لحديث أبي سعيد: "ولو أن يجرعَ أحدُكم جرعةً من ماء"، وفيه عبد الرحمن بنُ زيدِ بنِ أسلم، ضعيف، رواه الإمام أحمد، وغيره (¬2). وروى الإمام أَحمد من حديث جابر -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "من أَرادَ أَنْ يَصومَ، فليتسَحَّرْ ولو بشيء" (¬3). وكمال فضيلة السّحور تحصل بالأكل؛ لحديث عمرو بن العاص: أنّ [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال]: "فصلُ ما بينَ صيامِنا وصيامِ أهلِ الكتابِ أكلةُ السّحر" رواه الإمام أحمد، ومسلم، وغيرهما (¬4)، والأمرُ به للندب. قال في "الفروع": ولا يجب السّحور، حكاه ابن المنذر وغيره إجماعًا (¬5). ويدل على كون الأمر في الحديث للندب قوله: (فإن في السّحور) -بفتح السين المهملة-: اسم لما يُتَسَحَّر به، و-بالضم-: الفعلُ (بركةً) اسم إن (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 365). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 12). وانظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 53). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 367)، وأبو يعلى في "مسنده" (1930). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 197)، ومسلم (1096)، كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه. (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 53). (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 208).

قال ابن دقيق العيد: وهذه البركة يجوز أن تعود إلى الأمور الأخروية؛ فإنّ إقامة السّنة، توجب الأجرَ وزيادته، ويحتمل أن تعود إلى الأمور الدنيوية؛ كقوة البدن على الصّوم، وتيسيرِه من غير إجحافٍ به، والبركةُ محتملة لأن تضاف إلى كل واحد من الفعلِ والمتسحَّرِ به معًا، وليس ذلك من باب حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين، بل من باب استعمال المجاز في لفظة "في"، وعلى هذا يجوز أن يقال: "فإنّ في السّحور بركةً" -بفتح السين-، وهو الأكثر، و-بضمها- (¬1). قال القسطلَّاني: ومن وجوه البركة في السّحور: أن يبارك في اليسير منه، بحيث تحصل به الإعانةُ على الصوم، ومن ثمَّ جاء في الحديث: "ولو بشربةِ ماءٍ" (¬2). وعند الطبراني عن أبي أمامة مرفوعًا: "ولو بتمرة، ولو بحباتِ زبيب" (¬3)، ويكون ذلك بالخاصية، كما بورك في الثريد، والاجتماع على الطعام، أو المراد بالبركة: نفي التبعة. وفي حديث أبي هريرة؛ كما في "الفردوس": "ثلاثةٌ لا يُحاسب عليها العبدُ: أكلةُ السَّحَر، وما أفطرَ عليه، وما أكلَ مع الإخوان". أو المراد بها: التقوي على الصّيام وغيره من أعمال النهار. وفي حديث جابر عند ابن ماجه، والحاكم مرفوعًا: "استعينوا بطعامِ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 357)، عن علي -رضي اللَّه عنه-. (¬3) رواه الطبراني في "مسند الشاميين" (16)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 246)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (6/ 56 - 57).

السَّحَرِ على صيامِ النَّهارِ، وبِالقَيْلولَةِ على قِيامِ اللّيل" (¬1)، ويحصلُ به النشاطُ، ومدافَعَةُ سوءِ الخلُق الذي يثيره الجوع (¬2). وقال القاضي عياض: قد تكون هذه البركة ما يتفق للمتسَحِّر من ذكر أو صلاة أو استغفار، وغير ذلك من زيادات الأعمال التي لولا القيامُ للسحور، لكان الإنسانُ نائمًا عنها، وتاركًا لها (¬3). تنبيه: إن قلنا: المراد بالبركة: التقويةُ على الصيام ونحوه، فالسَّحور -بالفتح-، وإن قلنا: المراد بها: ما يحصل من الأجر والثواب -فبالضم-؛ لأنّه مصدر بمعنى التسحُّر، واللَّه تعالى الموفق (¬4). * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (1693)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في السحور، والحاكم في "المستدرك" (1551)، لكن من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 365). (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 32). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 365).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَاِبتٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ أَنَسٌ: قُلْتُ لِزَيْدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً (¬1). * * * (عن أنس بن مالك) خادمِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المتقدِّمِ ذكرُه، (عن زيد بن ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (550)، كمَاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت الفجر، و (1821)، كتاب: الصوم، باب: قدر كم بين السحور وصلاة الفجر، واللفظ له، ومسلم (1097)، كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه، والنسائي (2155)، كتاب: الصيام، باب: قدر ما بين السحور وبين صلاة الصبح، و (2156 - 2157)، باب: ذكر اختلاف هشام وسعيد على قتادة فيه، والترمذي (703)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في تأخير السحور، وابن ماجه (1694)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في تأخير السحور. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (3 - 221)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 156)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 207)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 209)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 846)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 128)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 298)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 364)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 422).

ثابت) بنِ الضحَّاكِ بنِ لَوذانَ -بفتح اللام والذال المعجمة- الأنصاريِّ النجاريِّ، كان أحدَ كتاب النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يكتب له الوحي، وكذا المراسلات، ولمّا قدم -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة، كان زيدٌ ابن إحدى عشرة سنة، وكان عمره يوم بعاث ست سنين، وفيها قتل أبوه. استصغرهُ النّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ بدر مع مَنِ استصغرهم، فلم يشهدْها، ثمَّ شهد أُحدًا وما بعدها، وقيل: أوّل مشاهده الخندقُ، وأعطاه النّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ تبوكَ راية بني النجار، وقال: "بالقرآن تقدم" (¬1). وكان زيد أعلمَ الصّحابة بالفرائض، حتّى قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفْرَضُكُم زيدٌ" (¬2)، وأحدَ من جمعَ القرآن، وكتبه في خلافة أبي بكر، ونقله من الصُّحف إلى المصحف في زمن عثمان. مات بالمدينة سنة خمس وأربعين، وله ستٌّ وخمسون سنة. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- اثنان وسبعون حديثًا، اتفقا على خمسة، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بحديث (-رضي اللَّه عنه-) (¬3). (قال) زيد بن ثابت، ويكنى بأبي سعيد، وقيل: بأبي خارجة -بفتح الخاء المعجمة والجيم-: (تَسَحَّرنا) المراد: أنا والنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كما ترشد إليه رواية النّسائيّ وابن حبان فيما يأتي (مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم) بعدَ سحورنا (قام) -عليه الصّلاة والسّلام- (إلى الصّلاة)؛ أي: صلاة الفجر، (قال أنس) بنُ مالك -رضي اللَّه عنه-: (قلت لزيد) بن ثابت -رضي اللَّه عنه-: ¬

_ (¬1) ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 537) بلفظ: "القرآن مقدم". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) قلت: قد تقدمت ترجمة الشارح -رحمه اللَّه- لزيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه-.

(كم كانَ بين السّحورِ والأذان؟ قال) زيد: هو (قدر) قراءةِ (خمسينَ آيةً) من القرآن. قال في "الفتح": والمدة التي بين الفراغ من السّحور والدخول في الصّلاة، وهي قراءة الخمسين آية أو نحوها، قدرُ ثلث خمس ساعة، ولعلها مقدارُ ما يتوضأ، فأشعر ذلك بتأخير السّحور (¬1). وفي "النّسائيّ" و"ابن حبان" عن أنس -رضي اللَّه عنه-، قال: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أنسُ! إنّي أريدُ الصّيامَ، أَطْعِمْني شيئاَّ"، فجئته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعد ما أذن بلال، قال: "يا أنس! انظرْ رجلًا يأكل معي"، فدعوت زيدَ بنَ ثابت، فجاء فتسحَّر معه، ثمَّ قام فصلّى ركعتين، ثمَّ خرج إلى الصلاة (¬2). فعلى هذا فالمراد بقوله: كم كان بين الأذانِ والسّحور؟ أي: أذان ابنِ أمِّ مكتوم؛ لأنّ بلالًا كان يؤذن قبل الفجر، والآخر يؤذن إذا طلع (¬3)، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم- كما في "الصّحيحين" وغيرهما من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- إنّ بلالًا كان يؤذن بليل، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كلوا واشربوا حتى يؤذِّنَ ابنُ أمِّ مكتوم؛ فإنه لا يؤذِّنُ حتّى يطلُع الفجرُ" (¬4). قال في "الفروع": يُسن تأخيرُ السّحور إجماعًا ما لم يخشَ طلوع ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 55). (¬2) رواه النسائي (2167)، كتاب: الصيام، باب: السحور بالسويق والتمر، ولم أقف عليه عند ابن حبان، واللَّه أعلم. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 54). (¬4) تقدم تخريجه.

الفجر؛ اتفاقًا، ذكره أَبو الخطّاب، والأصحاب، للأخبار، ولأنه أقوى على الصوم، وللتحفظ من الخطأ، والخروج من الخلاف (¬1)؛ فإنّ في "الإقناع": ويُكره تأخيرُ الجماعِ مع الشّك في طلوع الفجر، لا الأكلُ والشربُ (¬2). قال الإمام أحمد: إذا شَكَّ في الفجر، يأكلُ حتي يستيقن طلوعَه، وإنه قول ابن عباس، وعطاء، والأوزاعي. قال الإمام أحمد: يقول اللَّه تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} الآية [البقرة: 187]. وذكر ابن عقيل في "الفصول": إذا خاف طلوعَ الفجر، وجبَ عليه أن يُمسك جزءًا من الليل؛ ليتحقق له صومُ جميع اليوم، وجعله أصلًا لوجوب صوم ليلة الغيم، وقطع جماعة بوجوب إمساك جزء من اللّيل في أوله وآخره في أصول الفقه وفروعه، وأنّه مما لا يتم الواجب إلا به، وذكره في "الفنون"، وأبو يعلى الصغير. ويُسَنُّ تعجيلُ الإفطار إذا تحقق غروب الشّمس إجماعًا، وله الفطر بالظن وفاقًا، ويُقبل فيه قولُ الواحد؛ كالوقت والقبلة، وإذا غاب حاجب الشّمس الأعلى، أفطر الصائم حكمًا، وإن لم يطعم، ذكره في "المستوعب" (¬3)، وغيره (¬4). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أقبلَ اللَّيلُ من هاهنا، وأَدْبَرَ النهارُ من هاهنا، وغَرَبَتِ ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 50). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 504). (¬3) انظر: "المستوعب" للسامري (3/ 445 - 446). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 50 - 53).

الشَّمْسُ، فقدْ أفطرَ الصائمُ" (¬1)؛ أي: أفطر شرعًا، فلا يثاب على الوصال، والفطرُ قبل الصّلاة أفضلُ وفاقًا؛ لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وكان عمرُ وعثمانُ -رضي اللَّه عنهما- لا يُفطران حتّى يُصليا المغرب، وينظرا إلى اللّيل الأسود. رواه مالك (¬3). وفي "الصّحيحين" عن سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه-: أنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يزالُ النّاسُ بخيرٍ ما عَجَّلُوا الفطرَ" (¬4). وروى الإمام أحمد، والتّرمذي، وحسَّنه، وابنُ خزيمةَ، وابن حبان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قال اللَّه -عزَّ وجلَّ-: إنَّ أَحَبَّ عبادي إليَّ أعجلُهم فِطْرًا" (¬5). قال ابن دقيق العيد: وللمتصوفة وأرباب الباطن في هذا المعنى كلامٌ تشوفوا فيه إلى اعتبار معنى الصّوم وحكمته، وهو كسرُ شهوة البطن والفرج، قالوا: وإن لم تتغير عليه عادته في مقدار أكله، لا يحصل له المقصود من الصّوم، وهو كسر الشهوتين. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 53). (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 289)، ومن طريقه: الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 104). (¬4) رواه البخاري (1856)، كتاب: الصوم، باب: تعجيل الإفطار، ومسلم (1098)، كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه. (¬5) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 237)، والترمذي (700)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في تعجيل الفطر، وابن خزيمة في "صحيحه" (2062)، وابن حبان في "صحيحه" (3507).

قال: والصواب -إن شاء اللَّه تعالى-: أن ما زاد في المقدار حتّى تعدم هذه الحكمة بالكلية، لا يستحب؛ كعادة المترفين في التأنُّق في المأكل، وكثرة الاستعداد لها، وما لا ينتهي إلى ذلك، فهو مستحبٌّ على وجه الإطلاق، وقد تختلف مراتب هذا الاستحباب باختلاف مقاصد النّاس وأحوالهم، واختلاف مقدار ما يستعملونه، انتهى (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 209 - 210).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ (¬1). (عن عائشةَ) الصدِّيقةِ (وأُمِّ سلمةَ) هندٍ بنتِ أبي أُمية، واسمه سهلُ بنُ المغيرة المخزوميُّ، أُمَّي المؤمنين (-رضي اللَّه عنهما-: أنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يدركه الفجر) الثّاني (وهو جنب من) جماع (أهله)؛ إزالةً لاحتمال دعوى كونِ جنابته من احتلامٍ، فيكون رخصةً لصحةِ صومِ مَنْ طلع الفجر [عليه] وهو جنب من ذلك للعذر لإمكان عدم تقدم العلم بالجنابة (¬2)، (ثم) كان -صلى اللَّه عليه وسلم- (يغتسل) بعد طلوع الفجر، (ويصوم) بقية يومه. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1825)، كتاب: الصوم، باب: الصائم يصبح جنبًا، واللفظ له، و (1830)، باب: اغتسال الصائم، ومسلم (1109/ 75، 78)، كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، والترمذي (779)، كتاب: الصيام، باب: في الجنب يدركه الفجر وهو يريد الصوم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 210)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 847)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 143)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 2)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 366). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 210 - 211).

وفي رواية عن عائشة: كان يدركه الفجرُ في رمضان من غير حلم (¬1). وللنّسائي عنها: من غير احتلام (¬2). وفي لفظ له: كانُ يصبح جنبًا مِنِّي (¬3). وإنّما فعل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك، وإن كان الأفضلُ الغسلَ قبل الفجر؛ بيانًا للجواز. والاحتلام يطلق على الإنزال، وقد يقع الإنزال من غير رؤية شيء في المنام. وأرادت عائشة، وأم سلمة -رضي اللَّه عنهما- بالتقييد "من أهله"، وبالجماع من غير احتلام: المبالغةَ في الردِّ على مَنْ زعم أن فاعل ذلك عمدًا مفطرٌ، وهو أَبو هريرة -رضي اللَّه عنه-؛ فإنّه كان يرى أن من أصبحَ جنبًا من جماع، لا يصحُّ صومهُ؛ لحديث الفضل بن عبّاس -رضي اللَّه عنهما- في "مسلم"، وحديث أسامة -رضي اللَّه عنه- في "النّسائيّ"، عن النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أدركَهُ الفجرُ جُنُبًا، فلا يَصُمْ" (¬4). وفي النّسائيّ عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أنّه قال: لا وربِّ هذا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1829) كتاب: الصوم، باب: اغتسال الصائم، ومسلم (1109/ 76)، كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب. (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (2941). وقد رواه مسلم (1109/ 80)، كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، عن أم سلمة -رضي اللَّه عنها-. (¬3) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (3006). (¬4) رواه مسلم (1109/ 75)، كما تقدم تخريجه قريبًا.

البيت! ما أنا قلتُ: مَنْ أدركه الصبحُ وهو جنبٌ فلا يصمْ، محمدٌ وربِّ الكعبةِ قاله (¬1). وإنما حلف أَبو هريرة، مع أنّه لم يسند سماعه من النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما أسنده للفضل وأسامة؛ لشدة وثوقه بخبرهما (¬2)، ثمَّ إن أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- رجع عن مقالته، وقال: هما -يعني: عائشة، وأم سلمة- أعلمُ، وتركَ حديثَ الفضلِ وأسامةَ، ورآه منسوخًا؛ فإن حديث عائشة وأم سلمة يرجَّحُ على غيره؛ لأنّهما رأتا ذلك عن مشاهدة؛ بخلاف غيرهما، ولأنّ حديثهما أقوى إسنادًا من حديث الرجحان؛ لأنّه جاء عنهما من طرق كثيرة جدًا بمعنى واحد، حتّى قال ابن عبد البر: إنّه صح، وتواتر، وأمّا أَبو هريرة، فأكثرُ الروايات عنه أنّه كان يفتي به، ولم يسمع ذلك من النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما سمعه عنه بواسطة الفضل وأسامة بن زيد -رضي اللَّه عنهما- (¬3)، وقد اتفق الفقهاء على العمل بهذا الحديث، وصار ذلك إجماعًا، أو كالإجماع، كما قال ابن دقيق العيد (¬4). وفي "الفروع" للعلامة ابن مفلح: ومن أصبح جنبًا، ثمَّ اغتسل، صحَّ صومُه؛ وفاقًا، مع أنّه يُسن قبلَ الفجر، وعليه يُحمل نهيُه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو أنّه منسوخ؛ لأنّ اللَّه تعالى أباح الجماع وغيرَه إلى طلوع الفجر، احتج به ربيعةُ، والشّافعيّ، وجماعة، ولفعله -صلى اللَّه عليه وسلم-، متفق عليه. وكذا إن أخره يومًا، صحَّ، وأثمَ؛ وِفاقًا. ¬

_ (¬1) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (2924). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 144)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 367). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 146). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 367). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 210).

وفي "المستوعب": يجيء على الرواية التي تقول: يكفر بترك الصّلاة إذا تضايق وقت التي بعدها، وكذا الحائض تؤخِّرُ الغسلَ؛ يعني: يصح صومها (¬1). قال ابن دقيق العيد -بعدَ ذكر مسألة الجنابة-: ولم يقع خلافٌ بين الفقهاء المشهورين في مثل هذا إلا في الحائض إذا طهرت، وطلع عليها الفجرُ قبل أن تغتسل، ففي مذهب مالك في ذلك قولان؛ أعني: في وجوب القضاء (¬2). قلت: ومثله رواية مرجوحة في مذهبنا، فقد نقل صالح في الحائض تؤخره بعد الفجر: تقضي، ومعتمد المذهب: لا (¬3)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 42). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 211). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 43).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ" (¬1) * * * (عن أبي هريرة) عبدِ الرحمنِ بنِ صخرٍ (-رضي اللَّه عنه-، عن النّبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-): أنّه (قال: مَنْ)؛ أي: أي شخصٍ، ذكرٍ أو أنثى (نسي، وهو)؛ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1831)، كتاب: الصوم، باب: الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، و (6292)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (1155)، كتاب: الصيام، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، وأبو داود (2398)، كتاب: الصوم، باب: من أكل ناسيًا، والترمذي (721)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسيًا، وابن ماجه (1673)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء فيمن أفطر ناسيًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 120)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 246)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 119)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 221)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 35)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 211)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 850)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 156)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 17)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 371)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 160)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 283).

أي: والحال أنّه (صائم)، سواء كان الصّوم فرضًا أو نفلًا، (فأكل أو شرب)، سواء كان الأكل أو الشرب قليلًا أو كثيرًا. وقد روى عبد الرزاق، عن عمرو بنِ دينار: أنّ إنسانًا جاء إلى أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، فقال: أصبحتُ صائمًا، فنسيتُ فطعمتُ، فقال: لا بأس، قال: ثمَّ دخلتُ على إنسان، فنسيت فطعمت وشربت، فقال: لا بأس، اللَّه أطعمك وسقاك، قال: ثم دخلت على آخر فنسيت فطعمت، فقال أَبو هريرة: أنت إنسانٌ لم تتعوَّدِ الصّيام (¬1). قال في "الفروع": وإنما يُفطر إذا فعل شيئًا من المفطرات عامدًا ذاكرًا لصومه، مختارًا، فلا يفطر ناسٍ؛ خلافًا لمالك، نقله الجماعة، ونقله ابن عقيل في مقدمات الجماع، وذكره الخرقي في الإمناء بقبلة أو تكرار نظر، وأنه يفطر بوطئه دون الفرج ناسيًا (¬2). (فليتم) -بفتح الميم، ويجوز كسرها على التقاء الساكنين- (صومَه) مفعول "يتم"، فسماه -صلى اللَّه عليه وسلم- صومًا، والظاهر: حملُهُ على الحقيقة الشرعية، وإذا كان صومًا، وقع مجزيًا، ويلزم من ذلك عدم وجوب القضاء (¬3). ورواه الدارقطني، بمعناه، وزاد: "ولا قضاءَ عليه" (¬4)، وفي لفظ: "من أفطرَ يومًا من رمضان ناسيًا، فلا قضاءَ عليه ولا كفارةَ" رواه الدارقطني. وقال: تفرد به ابنُ مرزوق، وهو ثقة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (7378). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 39). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 372). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 179). (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 178).

وللحاكم، وقال: على شرط مسلم: "من أكلَ في رمضان ناسيًا، فلا قضاءَ عليه ولا كفارةَ" (¬1). وعند مالك: يبطل الصّوم بالأكل ونحوه، ولو ناسيًا، ويجب القضاء، والحديث صريح في رده. وقول ابن دقيق العيد: قولُ مالك بوجوب القضاء هو القياس؛ فإن الصّوم قد فات ركنُه، وهو من باب المأمورات، والقاعدة تقتضي أنّ النسيان لا يؤثر في باب المأمورات (¬2)، منظور فيه؛ لأنّه قياس في مقابلة نص، فوجب طرحه؛ إذ من شرط المصير إلى القياس عدمُ مخالفة النص، وهنا النص صرح بإتمام الصّوم، وفي الحديث الآخر بعدم القضاء، فما بقي للقياس هنا مدخل (¬3). ثمَّ علل -صلى اللَّه عليه وسلم- كونَ النّاسي لا يفطر بقوله: (فإنما أطعمه اللَّه) -سبحانه وتعالى-، (وسقاه)، ليس له فيه قصد. قال الطيبي: "إنما" للحصر؛ أي: ما أطعمه أحدٌ، ولا سقاه إلا اللَّه، فدلّ على أن هذا النسيان من اللَّه تعالى، ومن لطفه في حق عباده؛ تيسيرًا عليهم، ودفعًا للحرج (¬4). وقال الخطابي: النسيانُ ضرورةٌ، والأفعال الضرورية غيرُ مضافة في ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (1569). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 211). (¬3) قاله البرماوي في "شرح العمدة"، كما نقله القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 372)، وهو كذلك عند الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 156 - 157). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 372).

الحكم إلى فاعلها، ولا يؤاخَذ فيها، واللَّه أعلم (¬1). تنبيه: اختلف العلماء في جماع الناسي، هل يوجبُ فسادَ الصّوم، ويوجب الكفارة، أم لا؟ فمعتمد المذهب: أنّ الناسي كالعامد، نقله الجماعة، واختاره الأصحاب؛ وفاقًا لمالك، والظاهرية. وعنه: لا يُكَفِّر، اختاره ابنُ بطة؛ وفاقًا لمالك في رواية. وعنه: لا يقضي، اختاره الآجري، وأبو محمد الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشّافعي. وذكر في "شرح مسلم" (¬2) أنّه قول جمهور العلماء (¬3). قال ابن دقيق العيد: ومن أراد إلحاق الجماع بالمنصوص عليه -أي: من الأكل والشرب-، فإنما طريقه القياس، والقياسُ مع الفارق متعذِّر، إلا إذا بيَّن القائسُ أَنّ الوصفَ الفارقَ مُلْغى؛ فإنّ نسيانَ الجماع نادرٌ بالنسبة إليه (¬4). ويأتي الكلام على جماع الصائم في الحديث الآتي، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 120). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 225). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 57). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 212).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يا رَسولَ اللَّهِ! هَلَكْتُ، قَالَ: "مَا لَكَ؟ "، قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، وفي رواية: أَصَبْتُ أَهْلِي في رَمَضَانَ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُها؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَينِ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ "، قَالَ: لَا، فَمَكَثَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، والعَرَقُ: المِكْتَلُ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيْنَ السَّائِلُ؟ "، قَالَ: أَنَا، قَالَ: "خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ"، فَقَالَ الرَّجُلُ: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسولَ اللَّهِ؟! فَوَ اللَّهِ! مَا بَيْنَ لَابَتَيْها -يُرِيدُ: الحَرَّتَينِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى بَدَتْ أَنْيابُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ" (¬1). الحرَّةُ: أرضٌ تركبُها حجارةٌ سُودٌ. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1834)، كتاب: الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء، فتصدق عليه ليكفر، واللفظ له، و (1835)، باب: المجامع في رمضان، هل يطعم أهله إذا كانوا محاويج؟ و (2460)، كتاب: الهبة، باب: إذا وهب هبة فقبضها الآخر ولم يقل قبلت، و (5053)، كتاب: النفقات، باب: نفقة المعسر على أهله، و (5737)، كتاب: الأدب، باب: =

(عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: بينما) -بالميم-، وتضاف إلى الجملة الاسمية والفعلية، وتحتاج إلى جواب يتمُّ به المعنى، والأفصح في جوابها ألَّا يكون فيه "إذ"، و"إذا"، ولكن كثير مجيئها كذلك، ومنه هذا الحديث (¬1) (نحن جلوسٌ عند)، وفي لفظ (¬2): مَعَ (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذ جاءه)؛ أي: النّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (رجل) هو سلمة بنُ صخر بن سلمان الخزرجيُّ ¬

_ = التبسم والضحك، و (5812)، باب: ما جاء في قول الرجل: ويلك، و (6331)، كتاب: كفارات الأيمان، باب: متى تجب الكفارة على الغني والفقير، و (6332)، باب: من أعان المعسر في الكفارة، و (6333)، باب: يعطي في الكفارة عشرة مساكين، قريبًا كان أو بعيدًا، و (6435)، كتاب: المحاربين، باب: من أصاب ذنبًا دون الحد، فأخبر الإمام، فلا عقوبة عليه بعد التوبة إذا جاء مستفتيًا، ومسلم (1111/ 81 - 84)، كتاب: الصيام، باب: تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، وأبو داود (2390 - 2393)، كتاب: الصوم، باب: كفارة من أتى أهله في رمضان، والترمذي (724)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كفارة الفطر في رمضان، وابن ماجه (1671)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في كفارة من أفطر يومًا من رمضان. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 116)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 310)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 250)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 52)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 169)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 225)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 213)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 851)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 178)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 163)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 29)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 377)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 163)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 293). (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 377). (¬2) كذا في رواية الكشميهني، كما في "الفتح" (4/ 164). ولأبي الوقت، كما في "إرشاد الساري" (3/ 377).

الأنصاريُّ البياضيُّ -بفتح الموحدة- نسبة إلى بياضة بن عامر بن زريق من الخزرج، وقيل: اسمه سلمان بن صخر. قال البرماوي: والأوّل أصحُّ وأشهر، حتى قال ابن عبد البر: سلمان وهمٌ، وليس في الصّحابة سلمان إلا الفارسي، وأبو عامر الضَّبيُّ (¬1)، ولكن في الحصر نظر، فقد ذكر صاحب "التجريد" (¬2): سلمانَ بنَ ثمامةَ بنِ شراحيل الجعفيَّ، وسلمانَ بنَ خالدٍ الخزاعيَّ، إذا علم ذلك، فسلمة بن صخر هذا هو المظاهِرُ من امرأته أَلَّا يطأها في رمضان حتّى ينسلخ، فوطئها فيه، ذكره الحافظ عبد الغني بن سعيد، فيكون له القصتان في كفارة الظهار، وجماع رمضان، والظاهر: اختلافُ الواقعتين؛ لأنّ هذه نهارًا، وقضية الظهار كانت ليلًا؛ كما في بعض طرق حديثه: أنّه رأى خَلْخالها في ضوء القمر؛ كما في التّرمذي، وغيره (¬3)، وقد يُجمع بينهما: أنّه كان الابتداء ليلًا، وتمادى إلى النهار، وذلك أنّه كان امرأً يصيب من النساء ما لا يُصيب غيرُهُ، فلمّا دخل رمضان، حلف أَلَّا يطأها حتى ينسلخَ رمضانُ، فبينا هي تحدثه ذات ليلة، انكشف له منها شيء، فما لبث أن نزا عليها، فلما أصبح، غدا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكر له ذلك الحديث بطوله؛ كما في "أبي داود" وغيره (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 321). (¬2) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (1/ 229). (¬3) رواه الترمذي (1199)، كتاب: الطلاق واللعان، باب: ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفِّر، وقال: حسن صحيح، والنسائي (3457)، كتاب: الطلاق، باب: الظهار، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬4) رواه أَبو داود (2213)، كتاب: الطلاق، باب: في الظهار، عن سلمة بن صخر -رضي اللَّه عنه-.

(فقال: يا رسول اللَّه! هلكتُ)، وفي بعض طرق هذا الحديث: هلكتُ وأهلكتُ (¬1)؛ أي: فعلتُ ما هو سبب لهلاكي وهلاكِ غيري، وهو زوجته التي وطئها (¬2). (قال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (مالَكَ؟) -بفتح اللام-، و"ما" استفهامية، محلُّها رفعٌ بالابتداء؛ أي؛ أَيُّ شيء كائنٌ لك، أو حاصل لك (¬3). وعند الإمام أحمد: "وما الذي أهلكك؟ " (¬4). وعند ابن خزيمة: "وَيْحَكَ! ما شَأْنُكَ؟ " (¬5). (قال: وقعتُ على امرأتي)، وفي حديث عائشة في "الصحيحين": وَطِئْتُ امرأتي (¬6) (وأنا صائم)، الواو للحال. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": يؤخذ منه أنه لا يُشترط في إطلاق اسم المشتق بقاء المعنى المشتق منه حقيقة؛ لاستحالة كونه صائمًا مجامِعًا في حالة واحدة، فعلى هذا قوله: وطئت؛ أي: شرعتُ في الوطء، أو أراد: جامعتُ بعد إذ أنا صائم (¬7). ¬

_ = قلت: وبعض كلام البرماوي في "فتح الباري" لابن حجر (4/ 164). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 376). (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 209)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 227)، وبين ضعف هذه الزيادة. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 377). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 297)، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬5) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1949). (¬6) سيأتي تخريجه قريبًا، وهذا لفظ مسلم برقم (1112/ 85). (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 165).

(وفي رواية) في "الصحيحين" من حديث عائشة -رضي اللَّه عنهما-: (أصبتُ أهلي) (¬1)، وكذا عند البزار من حديث أبي هريرة (¬2)، (في رمضان). وفي لفظ من حديث عائشة: وطئتُ امرأتي في رمضان نهارًا (¬3)، (فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل تجد رقبةً تُعتقها؟)؛ أي: تقدر على ذلك؟ فالمراد: الوجود الشرعيُّ ليدخل فيه القدرة بالشراء ونحوه، ويخرج عنه مالكُ الرقبةِ المحتاج إليها بطريق معتبر شرعًا (¬4). وفي لفظ عند الإمام أحمد: "أتستطيعُ أن تعتقَ رقبةً؟ " (¬5). (قال) الرجل: (لا) أجدُ رقبة. وفي رواية عند الطحاوي: فقال: لا، واللَّهِ يا رسولَ اللَّه (¬6). وفي حديث ابن عمر: فقال: والذي بعثك بالحق! ما ملكتُ رقبةً قَطُّ (¬7). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1833)، كتاب: الصوم، باب: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء"، ومسلم (1112/ 87)، كتاب: الصيام، باب: تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم. (¬2) لم أقف عليه في المطبوع من "مسند البزار". وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 377). (¬3) تقدم تخريجه قريبًا عند مسلم برقم (1112/ 85). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 377). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 516). وقد تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6331) دون همزة الاستفهام في قوله: "أتستطيع". (¬6) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 60). (¬7) رواه أَبو يعلى في "مسنده" (5725)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (8184).

(قال) -عليه الصلاة والسلام-: (فهل تستطيعُ أن تصومَ شهرينِ متتابعين؟ قال: لا). وفي حديث سعد: قال: لا أقدر (¬1). وفي رواية عند البزار: وهل لقيتُ ما لقيتُ إلا من الصيام؟ (¬2) وفي بعض الألفاظ: وهل أُتيتُ إلا من الصوم؟ (¬3) واعلم أنه لا إشكال في الانتقال من الصوم إلى الإطعام، إلا أن قوله -كما في بعض الروايات-: وهل أُتيت إلا من الصوم يقتضي أن عدم استطاعته للصوم بسبب شدة الشبق، وعدم الصبر في الصوم عن الوقاع، فنشأ من هذا خلاف من أن هذا هل يكون عذرًا مرخصًا في الانتقال من الصيام إلى الإطعام في حق من هو كذلك -أعني: شديد الشبق-؟ الظاهر (¬4): نعم. (قال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا). والمسكينُ مأخوذٌ من السُّكون؛ لأن المُعدم ساكنُ الحال عن أمور الدنيا، والمراد به هنا: يشمل الفقير، وإن كان معتمد المذهب (¬5): أن الفقيرَ أشدُّ حاجةً من المسكين؛ لأنه لم يجد نصفَ الكفاية، والمسكينُ مَنْ ¬

_ (¬1) رواه البزار في "مسنده" (1107)، عن سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (2/ 207)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 377). وقد رواه أَبو داود (2213)، كما تقدم من حديث سلمة بن صخر، من طريق ابن اسحاق أيضًا بلفظ: "وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام". (¬3) هذا اللفظ لا يعرف، كما قاله ابن الصلاح، انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (2/ 207)، وانظر: ما تقدم من اللفظين السابقين. (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 216). (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 324).

وجدَ أكثرَ كفايته، إلا أنهما إذا اجتمعا، افترقا، وإذا افترقا، اجتمعا، فكل واحد من الفقير والمسكين حيث أُفرد يشمل الآخر، وإنما يفترقان عند اجتماعهما؛ نحو قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (¬1) [التوبة: 60]. قال ابن دقيق العيد: دلَّ قولُه: "إطعام ستين مسكينًا" على وجوب إطعام هذا العدد؛ لأنه أضاف الإطعام الذي هو مصدرُ أطعمَ إلى ستين، فلا يكون ذلك موجودًا في حقِّ مَنْ أطعمَ عشرين مسكينًا ثلاثة أيام مثلًا، ومن أجاز ذلك، فكأنه استنبط من النص معنىً يعود عليه بالإبطال (¬2). والمشهورُ عن الحنفية: الإجزاء، حتى لو أطعم الجميعَ مسكينًا واحدًا في ستين يومًا، كفى، انتهى (¬3). ومعتمد مذهبنا: أن الذي عليه الكفارةُ؛ لو ردَّها على مسكين واحد ستين يومًا، لم يجزئه، إلَّا أَلَّا يجدَ غيره، فيجزيه (¬4). وفي رواية عند الإمام أحمد: "أفتستطيعُ أن تطعمَ ستين مسكينًا؟ " (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 377). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 217). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 166)، وما نقله الشارح -رحمه اللَّه هنا- عن ابن دقيق العيد، فإنما ساقه عن القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 377 - 378) الذي نقل عن الحافظ ابن حجر قول ابن دقيق العيد، والذي انتهى عند قوله: يعود عليه بالإبطال، ثم أتبع ابن حجر كلام ابن دقيق العيد بقوله: "والمشهور عن الحنفية ... "، فظنه القسطلاني من كلام ابن دقيق، وتبعه الشارح -رحمه اللَّه- على ذلك، والصواب ما بيناه، وباللَّه التوفيق. (¬4) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 386). (¬5) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد برقم (2/ 516).

وفي حديث ابن عمر: قال: والذي بعثك بالحق! ما أُشبع أهلي (¬1). وحكمةُ ترتيب هذه الكفارة على ما ذكر؛ لأن مَن انتهك حرمة الصوم بالجماع، فقد أهلكَ نفسه بالمعصية، فناسب أن يعتق رقبةً فيفدي نفسَه، وقد صح: "مَنْ أعتقَ رقبةً، أعتقَ اللَّهُ بكلِّ عضوٍ منها عُضْوًا منه من النار" (¬2)، وأما الصيام؛ فإنه كالمقاصَّة بجنس الجناية، وكونه شهرين؛ لأنه أمر بمصابرة النفس في حفظ كل يوم من شهر [رمضان] على الولاء، فلما أفسد منه يومًا، فكأنه أفسد الشهر. كلَّه من حيث إنه عبادة واحدة بالنوع، وكلف بشهرين مضاعفةً على سبيل المقابلة لنقيض قصده. وأما الإطعام، فمناسبته ظاهرة؛ لأنه مقابلة كل يوم بإطعام مسكين (¬3). وإذا ثبتت هذه الخصال الثلاث في هذه الكفارة، فهل هي على الترتيب، أو التخيير؟ قال في "الفروع": والكفارة على الترتيب؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي. وقيل: إنها على التخيير بين العتق والصيام والإطعام، فبأيها كَفَّرَ، أجزأه، وهذه رواية مرجوحة عندنا؛ وفاقًا لمالك في رواية عنه (¬4). ومعتمد المذهب؛ كالحنفية والشافعية: اعتبارُ الترتيب. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا عند أبي يعلى والطبراني. (¬2) رواه البخاري (6337)، كتاب: كفارات الأيمان، باب: قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، ومسلم (1509)، كتاب: العتق، باب: فضل العتق، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 166). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 64).

(قال) أَبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: (فمَكُثَ) -بضم الكاف وفتحها- (النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-)، وفي رواية ابن عيينة: فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اجلس" (¬1)، قيل: وإنما أمره بالجلوس لانتظار الوحي في حقه، أو كان عَرَفَ أنه سيؤتى بشيء يُعينه به (¬2). (فبينا) -بغير ميم- (نحن على ذلك)، وجوابُ "بينا" قولُه: (أُتي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) -بضم الهمزة مبنيًا للمفعول-، ولم يُسَمَّ الآتي، ولكن عند البخاري في الكفارات: فجاء رجل من الأنصار (¬3) (بعَرَق) -بفتح العين والراء- متعلق بأُتي (فيه)؛ أي: ذلك العَرَقِ (تمر)، ولأبي ذر من ألفاظ البخاري: "فيها" بالتأنيث على معنى القفة (¬4). قال القاضي عياض: المِكْتل والقُفَّةُ والزنبيلُ سواء (¬5). وزاد ابن أبي حفصة عند الإمام أحمد: فيه خمسة عشر صاعًا (¬6). وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة: فأتي بعرق فيه عشرون صاعًا (¬7)، وفي حديثها عند الشيخين، قالت: أتى رجلٌ إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المسجد في ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6331). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 378). (¬3) تقدم تخريجه برقم (6332)، وكذا برقم (2460). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 378). (¬5) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 335). (¬6) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد برقم (2/ 516). (¬7) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1947). قال ابن خزيمة: إن ثبتت هذه اللفظة: "بعرق فيه عشرون صاعًا"، فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر هذا المجامع أن يطعم كل مسكين ثلث صاع من تمر؛ لأن عشرين صاعًا إذا قسم بين ستين مسكينًا، كان لكل مسكين ثلث صاع، ولست أحسب هذه اللفظة ثابتة.

رمضان، فقال يا رسول اللَّه! احترقتُ احترقتُ، إلى أن قال: "اجلس"، فجلس، فبينما هو على ذلك، أقبل رجلٌ يسوق حمارًا عليه طعام (¬1). قال أَبو هريرةَ، أو الزهريُّ، أو غيره: (والعَرَقُ: المِكْتَل) -بكسر الميم وفتح الفوقية-: الزنبيلُ الكبير، يسع خمسةَ عشرَ صاعًا، ويقال: زبيل -بإسقاط النون- (¬2). وفي "النهاية": أُتي بعَرقَ من تمر، هو زنبيل منسوج من نسائج الخوص، وكل شيء مضفور فهو عَرَق، وعَرَقة -بفتح الراء فيهما- (¬3). وفي "المطالع": الزنبيل: القفةُ الكبيرةُ، وعندي أنه خُرْج من سَعَف، أو حَلْفَاءَ يُحمل على الدابة، وهو العَرَق، انتهى (¬4). وعند مسدد: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر له ببعضه (¬5)، وهو يجمع بين الروايات، فمن قال: يسع عشرين، أراد: أصل ما كان فيه، ومن قال: خمسة عشر، أراد: قدر ما تقع به الكفارة (¬6). (قال -صلى اللَّه عليه وسلم-)، وفي لفظ: بزيادة الفاء (¬7): (أين السائل؟)، زاد في بعض الروايات: "آنِفًا" (¬8)، وسماه سائلًا؛ لأن كلامه متضمن للسؤال؛ فإن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 76)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 378). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 219). (¬4) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 309). (¬5) رواه مسدد في "مسنده" (6/ 80 - "المطالب العالية" لابن حجر). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 169). (¬7) هو في رواية ابن عساكر، كما ذكر القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 378). (¬8) تقدم تخريجه عند الطحاوي برقم (2/ 60)، من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.

مراده: هلكتُ، فما ينجِّيني، وما يخلصني مثلًا (¬1)؟ (قال) الرجل: (أنا)، وفي، حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- عندهما: فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أينَ المحترقُ آنِفًا؟ " (¬2)، فقام الرجل، (قال) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (خُذْ هذا فتصدَّقْ به)، وفي لفظ: "خذها فتصدَّقْ" (¬3)، وفي حديث عائشة: "تصدَّقْ بهذا" (¬4)، (فقال الرجل): أتصدق به (على) شخصٍ (أفقر مني يا رسول اللَّه؟!) بالاستفهام التعجبي، وحذف الفعل، لدلالة "تصدق به" عليه، وفي حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: فقال: يا رسول اللَّه! أغيرنا؟ فواللَّه إنا لَجِياعٌ ما لنا شيء (¬5). وفي رواية: على أفقرَ من أهلي؟ (¬6) (فواللَّه! ما بين لابَتَيْها) -بغير همز-: تثنية لابَة. قال بعض رواته: (يريد) باللابتين: (الحرتين) -بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء-: أرض ذات حجارة سود؛ كما يأتي في كلام الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-، والضمير راجع إلى المدينة المنورة -على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام-؛ فإنها بين حرتين (أهلُ بيتٍ أفقرُ من أهل بيتي) برفع "أهل" اسم ما، ونصب "أفقر" خبرها إن جُعلت ما حجازية، وبالرفع إن جعلت تميمية، قاله الزركشي وغيره. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 378). (¬2) تقدم تخريجه عند الشيخين، وهذا لفظ مسلم. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 378)، وهي إحدى روايات البخاري. (¬4) وتقدم تخريجه. (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1112). (¬6) رواه ابن حبان في "صحيحه" (3526)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (2246)، والدارقطني في "سننه" (2/ 190)، والبيهقي في "السنن الكبرى" 4/ 224)، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-.

وقال البدرُ الدماميني (¬1): وكذا إن جعلناها حجازية ملغاة من عمل النصب؛ بناءً على أن قوله: "ما بين لابتيها" خبرٌ مقدم، وأهلُ بيتٍ مبتدأ، وأفقرُ صفة له (¬2). وفي رواية: ما أحدٌ أحقَّ به من أهلي، ما أحدٌ أحوجَ إليه مني يا رسول اللَّه (¬3)، (فضحك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى بدت أنيابه) تعجُّبًا من حال الرجل في كونه جاء أولًا هالكًا محترقًا خائفًا على نفسه، راغبًا في فدائها مهما أمكنه، فلما وجد الرخصة، طمع أن ياكل ما أُعطيه في الكفارة (¬4). والأنياب: جمعُ ناب، وهي الأسنان الملاصقة للرَّباعِيات، وهي أربعة، والضحكُ غيرُ التبسُّم، وقد ورد أن ضحكه -صلى اللَّه عليه وسلم-[كان] تبسمًا (¬5)؛ أي: في غالب أحواله (¬6). ¬

_ (¬1) هو الشيخ الإمام العالم محمد بن أبي بكر بن عمر القرشي الإسكندري المالكي، المعروف بابن الدماميني، اشتغل ببلده على فضلاء وقته، فمهر في العربية والآداب، وشارك في الفقه وغيره؛ لسرعة إدراكه وقوة حافظته، وعين لقضاء المالكية بمصر، وكان أحد الكملة في فنون الأدب، معروفًا بالإتقان مع حسن الخط والمودة، وكان غير واحد من فضلاء تلامذته يتنتصر للبدر وشرح البخاري، توفي سنة (827 هـ). انظر: "الضوء اللامع" للسخاوي (7/ 185). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 378). (¬3) تقدم تخريجه من رواية عقيل كما أشار إليه الشارح -رحمه اللَّه-. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 171). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 217)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 378). (¬5) رواه الترمذي (3645)، كتاب: المناقب، باب: في صفة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 97)، وغيرهما، عن جابر بن سمرة -رضي اللَّه عنه-. (¬6) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 378).

وفي بعض ألفاظ الحديث: جُلُّ ضحكه التبسُّم (¬1). وقيل: إن ضحكهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- من رحمة اللَّه تعالى الأعرابي، وتوسعته عليه، وإطعامه له هذا الطعام، وإحلاله له بعد أن كُلِّف إخراجَه (¬2)، (ثم) بعد فراغه -صلى اللَّه عليه وسلم- من ضحكه، (قال) له: (أطعمه)؛ أي: ما في المِكتَل من التمر (أَهْلَكَ) مِمَّن تلزمُك نفقتُه، أو زوجتك، أو مطلق أقاربك. ولابن عيينة في الكفارات من "صحيح البخاري": "أطعمه عيالك" (¬3). وفي رواية: فقال: "كُلْه" (¬4)، وفي رواية: "خُذْها وكُلْها وأنفقْها على عيالك" (¬5). وفي الحديث عند أبي داود بإسناد جيد من حديث هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "وصم يومًا مكانه" (¬6). تنبيهات: الأول: قال جمهور الأمة بإيجاب الكفارة بإفطار المجامع عامدًا (¬7). ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 422)، والترمذي في "الشمائل المحمدية" (226)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 155)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 1430)، عن هند بن أبي هالة التميمي -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 217). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6331). (¬4) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2217). (¬5) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2378)، والحاكم في "المستدرك" (2815)، وغيرهما بلفظ: "فأطعم منها وسقًا ستين مسكينًا، واستعن بسائرها على عيالك". وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 171). (¬6) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2393)، وقال فيه: "كله أنت وأهل بيتك، وصم يومك، واستغفر اللَّه". (¬7) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 214).

ومعتمد مذهبنا: وجوبها على مَنْ جامع في صوم رمضان في حالة يلزمه فيها الإمساكُ، وعليه القضاء بلا عذر؛ وفاقًا للأئمة الثلاثة، والمراد؛ بذَكَرٍ أصليٍّ في فرج أصليٍّ، أنزلَ أم لا، سواء كان الفرج قُبلًا أو دُبرًا، من آدمي أو غيره، حي أو ميت، وسواء كان عامدًا أو ساهيًا أو جاهلًا أو مخطئًا، مختارًا كان أو مكرَهًا، على معتمد المذهب، نصًا، سواء أُكره على فعله، أو أولجَتْ ذكرَه فيها مثلًا وهو نائم. وتقدم ذكرُ اختلاف الأئمة في الناسي. ومن جامعَ يعتقده ليلًا، فبان نهارًا، وجب عليه القضاء، وكذا الكفارةُ عندنا، وعند الثلاثة: لا كفارةٌ. وأما المكرَهُ، فعليه الكفارةُ عندنا؛ كالحنفية والمالكية، لكن نقل ابن القاسم من المالكية: كلُّ أمر غُلب عليه الصائمُ، فليس عليه قضاءٌ ولا كفارةٌ. قال الأصحاب: وهذا يدل على إسقاط القضاء مع الإكراه والنسيان، انتهى (¬1). ويختص وجوب الكفارة برمضان؛ وفاقًا بين الأئمة؛ لأن غيره لا يساويه؛ خلافًا لقتادة في إيجابه لهما في جماعه في قضائه. ومعتمد مذهبنا: لا كفارةَ بغير جماع؛ وفاقًا للشافعية، نعم الإنزال بالمساحقة ألحقه في "المنتهى" بالجماع (¬2)، لكن عند الشافعية: لا كفارة، إلا أن يفطر بنفس الجماع، ومذهب مالك، وأبي حنيفة: يكفِّرُ من أكل وشرب. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 56 - 57). (¬2) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 26).

قال في "الفروع": مذهب مالك: يكفِّر من أكل وشرب، وحُكي عنه أيضًا: في القيء، وبلعِ الحصاةِ: التكفيرُ وعدمُه، ومذهبه: أن الكفر يمنع وجوب الكفارة والقضاء، ومذهب أبي حنيفة: يكفِّر للأكل والشرب إن كان مما يُتغذى به، أو يُتداوى به، واللَّه أعلم (¬1). الثاني: المرأة المطاوِعَةُ يفسد صومُها، وتكفِّرُ؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، ولأحد قولي الشافعي؛ كالرجل، وعنه: لا كفارة عليها؛ وفاقًا لمعتمد قول الشافعي، وهو الذي استقر عليه مذهبه؛ لعدم أمر الشارع لها بها (¬2). ويفسد صومُ المكرَه على الوطء، نص عليه، ولو أكره زوجته على الوطء في رمضان، دفعَتْهُ بالأسهل فالأسهل، ولو أفضى إلى [ذهاب] نفسه؛ كالمارِّ بين يدي المصلي؛ كما في "الفنون" لابن عقيل، وجزم به في "الإقناع" (¬3)، كـ "الفروع" (¬4). الثالث: وقع في كتاب "المدونة" من قول ابن القاسم من المالكية: ولا يعرف مالك غير الإطعام (¬5). قال ابن دقيق العيد: وهي معضلة لا يهتدى إلى توجيهها، مع مصادمتها للحديث، غير أن بعض المحققين من أصحابه حمل هذا اللفظ وتأوله على الاستحباب في تقديم الإطعام على غيره من الخصال، وذكروا لذلك ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 41). (¬2) المرجع السابق، (3/ 58). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 501). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 58). (¬5) انظر: "المدونة الكبرى" لابن القاسم (1/ 218).

وجوهًا لا تقاوم ما دلَّ عليه الحديثُ من البداءة بالعتق، ثم بالصوم، ثم بالإطعام، فلا أقلَّ من دلالته على الاستحباب، مع أن دلالته للوجوب أظهرُ، واللَّه أعلم (¬1). الرابع: تباينت المذاهب في مفهوم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- للأعرابي: "أطعِمْهُ أهلَكَ"، فمن قائل: هو دليل على إسقاط الكفارة عنه؛ لعدم إمكان صرفِ كفارته إلى أهله ونفسه، وإذا تعذر أن تقع كفارته، ولم يبين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له استقرارَ الكفارة في ذمته إلى حين اليسار، لزم من مجموع ذلك سقوطُ الكفارة بالإعسار المقارن (¬2). قال علماؤنا، منهم صاحب "الفروع": وتسقط هذه الكفارة بالعجز في ظاهر المذهب، نص عليه؛ وفاقًا للقديم من قولي الشافعي، وعن الإمام أحمد رواية: لا تسقط؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي على معتمد مذهبه؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بها الأعرابي لما جاءه العَرَق بعد ما أخبره بعسرته. قال بعضهم: فلو كَفَّرَ عنه غيرُه بإذنه، وقيل: أو دونه، فله أخذها، وعنه: لا يأخذها، وأطلق ابن أبي موسى مِنَّا: هل يجوز له أكلُها، أم كان خاصًا بذلك الأعرابي؟ على روايتين (¬3). قلت: الذي استقرَّ عليه المذهبُ: أنه إن كَفَّر عنه غيره بإذنه، فله أكلُها، وكذا لو مَلَّكه ما يكفِّر به، جاز له أكلُه مع أهليته، اعتمده في "الإقناع" (¬4)، وغيره، واستوجه في "الفروع" احتمال أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رخَّص ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 215). (¬2) المرجع السابق، (2/ 214). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 65). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 502).

للأعرابي فيه لحاجته، ولم تكن كفارة، ولا تسقط غير هذه الكفارة بالعجز، وكذا كفارة الوطء في الحيض على معتمد المذهب. وقال مالك: لا تسقط الكفارة بالإعسار المقارن (¬1). والحاصل: أن معتمد مذاهب الأئمة الثلاثة: عدمُ سقوطها، ومعتمد مذهبنا: أنها تسقط، واللَّه أعلم. (قال) الحافظ المصنف (-رحمه اللَّه) ورضي عنه-: (الحَرَّةُ): واحدةُ الحرتين في قوله: (يريد يعني بلابتيها: الحرتين). (هي أرض تركبها حجارةٌ سودٌ)؛ لشدة حرّها، ووهج الشمس فيها، وجمعها حِرارٌ، وَحَرَّات (¬2). وفي "النهاية": اللابة: الحَرَّةُ، وهي الأرض ذاتُ الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها، وجمعها لاباتٌ، فإذا كثرت، فهي اللَّابُ، واللُّوبُ، مثل: قارة وقار وقور، وألفها منقلبة عن واو، والمدينة بين حرتين عظيمتين (¬3)، واللَّه تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 65 - 66). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 187). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 274).

[كتاب] الصوم في السفر وغيره

[كتاب] الصوم في السفر وغيره أي: غير الصوم في السفر؛ من قضاء رمضان، والنذر، وتعجيل الفطر، والنهي عن الوصال، ونحو ذلك. اعلم: أن أكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي، وأحمد، وغيرهم جعلوا السفرَ نوعين: نوعًا يختصُّ بالسفر الطويل؛ كقصر الصلاة، والفطر في رمضان، والمسح على الخفين ثلاثةَ أيام، والجمع بين الصلاتين، وحدُّوا السفر الطويل بيومين معتدلين بسير الأثقال ودبيب الأقدام (¬1)؛ كما تقدم في كتاب: الصلاة في القصر. وذكر الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الباب أحد عشر حديثًا. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 274).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ للنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَصُومُ في السَّفرِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيامِ، قَالَ: "إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وإنْ شِئْتَ فَأَفْطِر" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1841)، كتاب: الصوم، باب: الصوم في السفر والإفطار، واللفظ له، ومسلم (1121/ 103 - 106)، كتاب: الصيام، باب: التخيير في الصوم والفطر في السفر، وأبو داود (2402)، كتاب: الصوم، باب: الصوم في السفر، والنسائي (2304 - 2308)، كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على هشام بن عروة فيه، والترمذي (711)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في الرخصة في السفر، وابن ماجه (1662)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الصوم في السفر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 123)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 299)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 232)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 73)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 178)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 237)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 223)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 861)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 179)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 45)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 384)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 303).

(عن عائشةَ) الصدِّيقةِ أُمِّ المؤمنين (-رضي اللَّه عنها-: أن حمزةَ بنَ عمرِو) بنِ عُويمر بنِ الحارثِ (الأسلميَّ) نسبة إلى أحد أجداده، وهو أسلمُ بنُ أَفصى (-رضي اللَّه عنه-) روى عنه ابنه محمد، وعائشة، وعروة بنُ الزبير، وغيرُهم، مات سنة إحدى وستين وله ثمانون سنة، وهو معدود في أهل الحجاز، روي له تسعة أحاديث، لمسلم منها حديث: أنه كان يصوم الدهر (¬1). (قال) حمزةُ الأسلميُّ (للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-): إني (أصومُ في السفر)، وفي لفظ: سألَ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصيام في السفر (¬2)، (وكان) حمزةُ هذا (كثيرَ الصيام). وفي لفظ آخر عنها: أن حمزة بنَ عمرو الأسلميَّ سأل النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا رسول اللَّه! إني رجل أَسْرُدُ الصومَ، أفأصومُ في السفر (¬3)؟ (قال) -صلى اللَّه عليه وسلم- مجيبًا له: (إن شئتَ فصم، وإن شئتَ فأَفْطِر) -بهمزة قطع-، وعند مسلم من رواية أبي مُراوح، عن حمزة بن عمرو الأسلمي -رضي اللَّه عنه-، قال: يا رسول اللَّه! أجدُ لي قوةً على الصيام في السفر، فهل عليَّ جُناحٌ؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هي رخصةٌ من اللَّه، فمن أخذَ بها، فحَسَنٌ، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا عند مسلم. وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 315)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 46)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 212)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 7)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 375)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (15/ 213)، و"تهذيب الكمال" للمزي (7/ 333)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 123). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1121/ 103). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1121/ 104).

ومن أحبَّ أن يصومَ، فلا جُناحٌ عليه" (¬1)، وهذا ربما أشعرَ بأنه سأل عن صيام الفريضة؛ لأن الرخصة إنما تُطْلَق في مقابلة الواجب (¬2)، وأصرَحُ من هذا ما رواه أَبو داود، والحاكم من طريق محمد بن حمزة بن عمرو، عن أبيه: أنه قال: يا رسول اللَّه! إني صاحبُ ظهر أعالجه أسافر عليه، [وأكريه] (¬3)، وإنه ربما صادفني هذا الشهرُ -يعني: رمضان-، وأنا أجدُ القوة، وأجدني أن أصوم أهون عليَّ من أن أؤخره فيكونَ دَينًا عليّ، فقال: "أيَّ ذلك شِئْتَ يا حمزةُ" (¬4). وبهذا تعلم ما في كلام ابن دقيق العيد من القُصور (¬5)؛ حيث قال: وربما استدل به من يُجيز صومَ رمضان في السفر، فمنعوا الدلالة من حيث ما ذكرنا؛ يعني: من عدم التصريح بأنه صومُ رمضان من عدم دلالته على كونه صومَ رمضان؛ لأن الحديث بعضُه يفسر بعضًا، وباجتماع طرقه تعلم الدلالة منه (¬6)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1121/ 107)، كتاب: الصيام، باب: التخيير في الصوم والفطر في السفر. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 384)، نقلًا عن "فتح الباري" لابن حجر (4/ 180). (¬3) في الأصل: "وألزمه"، والصواب ما أثبت. (¬4) رواه أَبو داود (2403)، كتاب: الصوم، باب: الصوم في السفر، والحاكم في "المستدرك" (1581). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 180). (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 223).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ (¬1). (عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالك -رضي اللَّه عنه-، قال: كنا نسافر مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) في غزواته وحجِّه وعُمَرِه، (فلم يعبِ الصائمُ) من أصحابه الكرام (على المفطِرِ) منهم، (ولا) كان يعيب (المفطرُ على الصائم) منهم، فهذا أصرح في الدلالة على جواز صوم رمضان في السفر من حيث إنه جعل الصوم في السفر عرضة لأن يعاب حتى نفى ذلك بقوله: فلم يعب الصائم ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1845)، كتاب: الصوم، باب: لم يعب أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعضهم بعضًا في الصوم والإفطار، واللفظ له، ومسلم (1118/ 98 - 99)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، وأبو داود (2405)، كتاب: الصوم، باب: الصوم في السفر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 299)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 69)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 223)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 865)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 186)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 49)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 386).

على المفطر. . . إلخ. وذلك إنما يتأتى في الصوم الواجب، وأما النفلُ، فلا يحسن أن يُعاب على تركه (¬1). وفيه رد على مَنْ أبطلَ صوم المسافر؛ فإن ترك الصحابة -رضي اللَّه عنهم- الإنكارَ على الصائم يُشعر بأنه من المتعارَف عندهم. وفي حديث أبي سعيد -رضي اللَّه عنه- عند مسلم: كنا نغزو مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلا يجدُ الصائمُ على المفطِر، ولا المفطِرُ على الصائم (¬2)، يرون من وجدَ قوةً فصامَ، فإن ذلك حسن، ومَن وجد ضَعْفًا فأفطر: أن ذلك حسن، وهذا التفصيل هو المعتمد، وهو رافعٌ للنزاع، قامعٌ للدفاع (¬3). وأصرح من هذين الحديثين في الدلالة على جواز الفطر والصوم: * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 224). (¬2) رواه مسلم (1116)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 186).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في شَهْرِ رَمَضَانَ، في حَرٍّ شَديدٍ، حَتَّى إنْ كَانَ أَحَدُنا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، وَمَا فينا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَة (¬1). * * * (عن أبي الدَّرْداء) -بفتح الدال المهملة وسكون الراء ثم دال مهملة-، اسمه عُويمر بن عامر، ويقال: ابن قيس بن زيد، من بني كعب ابن الخزرج، الأنصاريِّ الخزرجيِّ، اشتهر بكنيته، والدرداءُ ابنته. تأخر إسلامُه عن أول الهجرة، فكان آخرَ أهلِ داره إسلامًا، وحَسُنَ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1843)، كتاب: الصوم، باب: إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر، ومسلم (1122/ 108 - 109)، كتاب: الصيام، باب: التخيير في الصوم والفطر في السفر، وأبو داود (2409)، كتاب: الصوم، باب: فيمن اختار الصيام، وابن ماجه (1663)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الصوم في السفر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 225)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 866)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 183)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 46)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 385)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 303).

إسلامُه، وكان فقيهًا عالمًا حكيمًا، اختُلف في شهوده أُحدًا، وشهد ما بعدَها، وسكن الشام، وولي قضاء دمشق في خلافة عثمان، ولاه معاويةُ إذ كان أميرًا بها على الأصح والأشهر عند أهل الحديث؛ كما قاله ابن عبد البر، وكان القاضي هو الذي يكون خليفة الأمير إذا غاب. وقيل: إن عمر هو الذي ولاه، وقيل: عثمان، والأميرُ يومئذ معاوية. ومات أَبو الدرداء بها سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: إحدى، وقيل: أربع، وقيل: مات بعد صفين، ودفن هو وزوجته أم الدرداء الصغرى، وهي التابعيةُ التي لها روايةٌ في "الصحيحين"، واشتهارٌ بالعلم والعفة والعقل، واسمها هُجيمة -بضم الهاء وفتح الجيم فياء مثناة تحت ساكنة فميم-، ويقال: جهيم بنت حيي، وقيل: حي، ولما مات، خطبها معاوية، فقالت: لا أتزوجُ زوجًا في الدنيا حتى أتزوج أبا الدرداء في الجنة -إن شاء اللَّه تعالى-. وله قبر مشهور داخل قلعة دمشق، يزار ويتبرك به. وأما زوجته أم الدرداء الكبرى، فهي الصحابية التي كانت عنده قبل الصغرى، واسمها خَيْرَةُ -بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة تحت-، قاله الإمام الحافظ ابن الجوزي، بنتُ أبي حدرد الأسلميةُ. قال الحميدي في آخر "الجمع بين الصحيحين" عن هذه: ليس لها في "الصحيحين" حديث. رُوي لأبي الدرداء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مئة وتسعة وسبعون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثمانية (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 391)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 76)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 26)، =

(-رضي اللَّه) تعالى (عنه-، قال) أَبو الدرداء المذكور: (خرجْنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) في بعض أسفاره، زاد مسلم من طريق سعيد بن عبد العزيز: (في شهر رمضان)، وليس ذلك في غزوة الفتح؛ لأن عبد اللَّه بن رواحةَ المذكورَ في هذا الحديث أنه كان صائمًا استُشهد بمؤتةَ قبل غزوة الفتح بلا خلاف، ولا في غزوة بدر؛ لأن أبا الدرداء لم يكن حينئذ أسلمَ (¬1). (في حَرٍّ شديد)، ولفظ البخاري: في يوم حارٍّ (حتى إن كان) "إن" مخففة عن الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: حتى إنه كان (أحدُنا ليضعُ) معشرَ الصحابة الكائنين معه حينئذٍ، وفي لفظ البخاري: حتى يضع الرجل (يده على رأسه من شدة الحرِّ) الحاصل حينئذ، (وما فينا)، أي: والحال أنه لم يكن فينا حينئذٍ (صائمٌ إلا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعبدُ اللَّه بن رواحة)، أي: عبد اللَّه، وهذا يُعيِّن كونَ تلك السفرة غيرَ غزوة الفتح؛ لأن الذين استمروا على الصيام من الصحابة في الفتح كانوا جماعة، وفي هذه ابن رواحة وحده، ولأن ابن رواحة لم يكن يوم الفتح؛ لأنه استُشهد قبلُ؛ كما أشرنا إليه آنفًا (¬2). ¬

_ = و"المستدرك" للحاكم (3/ 380)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1646)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (47/ 93)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 627)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 306)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 511)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 747)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 335)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 747). (¬1) انظر: "فتح الباري لابن حجر (4/ 182). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة؛ إذ لو لم يكن الصوم والفطر كلٌّ منهما جائزًا مباحًا في السفر، لما صام رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وابنُ رواحة، وأفطرَ الصحابةُ (¬1). قال العلامة ابن مفلح في "فروعه": للمسافر الفطرُ إجماعًا، وهو مَنْ له القصرُ وفاقًا، وإن صامه، أجزأه، نقله الجماعة؛ وفاقًا، وقيل: لا؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليسَ مِنَ البِرِّ الصِّيامُ في السَّفَرِ" (¬2)، وعمرُ وأبو هريرةَ يأمرانِه بالإعادة، وقاله الظاهرية، ويروى عن ابن عوف، وابن عمر، وابن عباس -رضي اللَّه عنهم-، والسنة الصحيحة تردُّ هذا القول. وسأل إسحاقُ بنُ إبراهيمَ الإمامَ أحمدَ عن الصوم في السفر لمن قويَ، فقال: لا يصوم. وحكاه صاحب "المحرر" عن الأصحاب، قال: وعندي: لا يكره إذا قوي عليه، واختاره الآجري. وظاهر كلام ابن عقيل في "مفرداته"، وغيره: لا يُكره الصوم، بل تركُه أفضل. ومعتمد المذهب: يُسن للمسافر الفطرُ، ويكره له الصوم، ولو لم يجد له مشقة، ويجزيه. وليس للمسافر -وكذا المريض- أن يصوم في رمضان عن غيره؛ وفاقًا لمالك، والشافعي؛ كالمقيم الصحيح؛ وفاقًا، فيقع صومُ المسافر، وكذا المريض في رمضان عن غيره باطلًا؛ وفاقًا لمالك، والشافعي. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (11/ 46). (¬2) سيأتي تخريجه قريبًا.

ومذهب أبي حنيفة: يجوز عن واجبٍ للمسافر، ولأصحابه خلاف في المريض؛ لأنه لا يخير، بل إن تضرر، لزمه الفطر، وإلا، لزمه الصوم. والأصحُّ عن أبي حنيفة: لا يصح النفل. ومن نوى الصوم في سفره، فله الفطر، وفاقًا، فعلى هذا: لا كفارة بالجماع؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي. وعن مالك رواية: عليه الكفارة. نعم، له الجماع بعد فطره بغيره؛ كفطره بسبب مباح، مع أن مذهبه أن الأكل والشرب كالجماع. ومن نوى الصوم، ثم سافر في أثناء اليوم طوعًا أو كرهًا، فالأفضلُ عدمُ الفطر، وله الفطرُ، لظاهر الآية، والأخبار الصريحة، وعنه: لا يجوز، وهو مذهب الثلاثة، ووافق المدنيون من أصحاب مالك إمامَنا على جواز الفطر، واللَّه تعالى الموفق (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 23 - 25).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ "، قَالُوا: صَائِمٌ، فَقَالَ: "لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ" (¬1). وَلِمُسْلِمٍ: "عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1844)، كتاب: الصوم، باب: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن ظلل عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، واللفظ له، ومسلم (1115/ 92)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير رمضان، وأبو داود (2407)، كتاب: الصوم، باب: اختيار الفطر، والنسائي (2257)، كتاب: الصيام، باب: العلة التي من أجلها قيل ذلك، و (2261)، باب: ذكر الاختلاف على علي بن المبارك، و (2262)، باب: ذكر اسم الرجل. (¬2) ذكره مسلم في "صحيحه" (1115)، (2/ 786). قال الإمام مسلم: "وحدثناه أحمد بن عثمان النوفلي، حدثنا أَبو داود، حدثنا شعبة بهذا الإسناد، نحوه. وزاد: قال شعبة: وكان يبلغني عن يحيى بن أبي كثير أنه كان يزيد في هذا الحديث. وفي هذا الإسناد أنه قال: "عليكم برخصة اللَّه. . " قال: فلما سألته، لم يحفظه. وقد نبَّه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 186) أن كلام صاحب "العمدة" أوهم أن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليكم برخصة اللَّه" مما أخرجه مسلم بشرطه، وليس كذلك، وإنما هو بقية في الحديث لم يوصل إسنادها -كما تقدم بيانه-، =

(عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّه -رضيَ اللَّه عنهما-، قال: كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في سفر) من أسفاره، وهو غزوة الفتح كما في الترمذي (¬1)، وكانت في رمضان في الثامنة، أو غزوة تبوك كما رواه الشافعي (¬2)، (فرأى) -عليه السلام- (زحامًا) -بكسر الزاي-: اسمٌ للزحمة، والمراد هنا: الوصف المحذوف؛ أي: فرأى قومًا مزدحمين (¬3)، (و) رأى (رجلًا) قيل: هو أَبو إسرائيل العامريُّ، واسمه قيس، كذا في "القسطلاني شرح البخاري" (¬4)، وحاشية العلقمي على "الجامع الصغير". وقال البرماوي في "شرح الزهر البسام": قال بعضهم: هذا أَبو إسرائيل رجل من الأنصار. قال الخطيب، وابن الأثير: قيل: اسم أبي اسرائيل يُسَيْر -بضم المثناة ¬

_ = نعم وقعت عند النسائي موصولة في حديث يحيى بن أبي كثير بسنده، وعند الطبراني من حديث كعب بن عاصم الأشعري، انتهى. وقد رواه النسائي (2258)، كتاب: الصيام، باب: العلة التي لأجلها قيل ذلك، و (2260)، باب: ذكر الاختلاف على علي بن المبارك. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 124)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 66)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 181)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 233)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 225)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 870)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 183)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 47)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 385). (¬1) رواه الترمذي (710)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية الصوم في السفر. (¬2) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 157). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 385). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

تحت وفتح السين المهملة ثم مثناة تحت وآخره راء-. وقال الحافظُ عبد الغني بن سعيد: اسمه قيصر -بفتح القاف وسكون المثناة تحت وفتح الصاد المهملة ثم راء-. قال: وليس في الصحابة من يشاركه في كنيته ولا في اسمه. قال البرماوي: كأن من فسر الرجل هنا بأبي إسرائيل أخذه مما ذكروه في حديث: أن رجلًا نذر ألَّا يتكلم، وأن يقف للشمس، وأَلَّا يستظلَّ، الحديث (¬1)، من أن هذا الرجل هو أَبو إسرائيل كما قاله الخطيب، وابن عبد البر، وابن الأثير، وغيرهم هناك. وقال عبد الغني: لا يعرف إلا في هذا الحديث. وقال ابن بشكوال: هو أَبو إسرائيل الفهري، واسمه يسير (¬2)، كذا في "المنتقى" لابن الجارود (¬3). وقال أَبو عمر: أسير، انتهى. وكأن هذا الذي نقله عن أبي عمر في غير "الاستيعاب"، وأما فى "الاستيعاب"، فلم يزد على أن قال: قيل: اسمه يسير (¬4). وبالجملة: فظنَّ مَنْ فَسَّرَ مَنْ ظُلِّلَ عليه في السفر بأبي إسرائيل أن الواقعتين واحدة، والظاهر أنهما قضيتان، لا تعلُّق لإحداهما بالأخرى؛ لأن مدار الحديث على جابر، وساقه في الصوم في السفر، وقد روي أن ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 239). (¬3) رواه ابن الجارود في "المنتقى" (938)، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬4) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1597).

قضية جابر كانت في الفتح على ما في الترمذي، أو في تبوك كما رواه الشافعي، وكانت بعدما أضحى النهار، والحديث الثاني رواه مرفوعًا على ابن عباس، ومرسَلًا على حُميدِ بن قيس المكي الأعرج، وثورِ بن زيدٍ الديليِّ المدنيِّ. فأما حديث ابن عباس، ففي البخاري، وأبي داود: بينما رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أَبو إسرائيل نذرَ أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ويصومَ ولا يفطر، ولا يستظل ولا يتكلم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مُروهُ فَلْيَسْتَظِلَّ، ولْيَقْعُدْ، ولْيَتَكَلَّمْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ" (¬1). وأما حديثُ حُميد، وثورٍ، فأخرجه مالك في "الموطأ": رأى رجلًا قائمًا في الشمس، الحديث (¬2). فالظاهر من سياق ذلك أنه كان في الحضَر؛ بدليل قوله: وهو يخطب، وأيضًا ساقه في نذر ما لا يجوز، ومع تمام التأمل تعرف المغايرة بين الحديثين من عدة أوجه، واللَّه تعالى أعلم. (قد ظُلِّلَ عليه)؛ أي: فجُعل عليه شيءٌ يظله من الشمس لما حصل له؛ يعني: جُعل عليه شيء من شدة العطش وحرارة الصوم، وقوله: ظُلِّلَ -بضم الظاء مبنيًا للمفعول-، والجملة حالية (¬3)، (فقال) -عليه الصلاة والسلام-: (ما هذا؟)، وللنسائي: "ما بالُ صاحِبِكُم هذا؟ " (¬4)، فـ (قالوا)؛ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6326)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذر فيما لا يملك وفي معصية، وأبو داود (3300)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 475). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 385). (¬4) تقدم تخريجه برقم (2258) عند النسائي.

أي: مَن حضرَ من الصحابة، ولابن عساكر: قالوا -بإسقاط الفاء- (¬1): (صائمٌ) خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا، أو هو صائم، (فقال) -عليه السلام-: (ليسَ مِنَ البِرِّ) -بكسر الباء-؛ أي: ليس من الطاعة والعبادة (الصَّومُ في السَّفَر) إذا بلغ بالصائم هذا المبلغ من المشقة، ولا حجة فيه لبعض الظاهرية القائلين بعدم انعقاد الصوم في السفر؛ لأنه عام خرج على سبب، فإن قيل بخصوصه، فلا حجة فيه، وإلا، حمل على مَنْ حالُه مثلُ حال الرجل، وبلغَ به ذلك المبلغَ (¬2). وحديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ الكَدِيدَ؛ أي: -بفتح الكاف وكسر الدال الأولى-: موضعٌ بينه وبين المدينة سبع مراحِل أو نحوها، وبينه وبين مكة نحو مرحلتين (¬3)، أفطرَ، فأفطر الناسُ، متفق عليه (¬4). وفي "البخاري" عنه: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج في رمضان من المدينة، ومعه عشرةُ آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصفٍ من مقدَمِهِ المدينةَ، فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة، يصوم ويصومون حتى بلغ كديد، وهو ماء بين عسفان وقديد، أفطر، وأفطروا (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 385). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه، نقلًا عن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 184). (¬3) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (4/ 442). (¬4) رواه البخاري (1842)، كتاب: الصوم، باب: إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر، ومسلم (1113)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية. (¬5) رواه البخاري (4027)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان.

وفي "الصحيحين" عنه -رضي اللَّه عنه-، قال: فصام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، [وأفطر، فمن شاء صام] (¬1)، ومَنْ شاء أفطر (¬2). وفيهما عنه، قال: لا تَعِبْ على من صام، ولا على من أفطر، قد صام رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأفطر (¬3). فائدة: قال الزركشي، وتبعه صاحب "جمع العدة لفهم العمدة" (¬4): "من" في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- "ليسَ منَ البِرِّ" زائدة لتأكيد النفي، وقيل: للتبعيض، وليس بشيء، وتعقبه البدر الدماميني، فقال: هذا عجيب؛ لأنه أجاز ما المانعُ منه قائمٌ، ومنعَ ما لا مانع منه، وذلك أن من شروط زيادة "من" أن يكون مجرورها نكرة، وهو في الحديث معرفة، وهذا هو المذهبُ المعوَّلُ عليه، وهو مذهب البصريين؛ خلافًا للأخفش والكوفيين، وأما كونها للتبعيض، فلا يظهر لمنعه وجهٌ؛ إذ المعنى: أن الصوم في السفر ليس معدودًا من أنواع البر، وأما رواية: "ليسَ من امْبِرِّ امْصيام في امسفر" -بإبدال اللام ميمًا في لغة أهل اليمن-، فهي في "مسند الإمام أحمد" (¬5). قال السخاوي في "شرح المفصل" في هذا الحديث: يجوز أن يكون ¬

_ (¬1) في الأصل: "وصام من شاء"، والصواب ما أثبت. (¬2) رواه البخاري (1846)، كتاب: الصوم، باب: من أفطر في السفر ليراه الناس، ومسلم (1113)، (2/ 785)، كتاب: الصيام، باب: جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية. (¬3) رواه مسلم فقط دون البخاري بهذا اللفظ (1113/ 89). (¬4) هو الإمام البرماوي، وقد تقدم التعريف به وبكتابه هذا. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 434)، عن كعب بن عاصم الأشعري -رضي اللَّه عنه-. وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 385 - 386).

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تكلم بذلك لمن هذه لغته، أو تكون هذه لغة الراوي التي لا ينطق بغيرها؛ لا أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبدلَ اللام ميمًا. قال الأزهري: والوجه أَلَّا تثبت الألف في الكتابة؛ لأنها ميم جعلت كالألف واللام (¬1). (ولـ) لإمام (مسلم) في "صحيحه" في هذا الحديث: قال شعبة: وكان يبلغني من يحيى بن أبي كثير: أنه كان يزيد: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (عليكم برُخْصة اللَّهِ التي رخص لكم). تقدم تعريف الرخصة، وأنها ما ثبتَ على خلافِ دليلٍ شرعي لمعارضٍ راجح، وفي هذا دليل على استحباب التمسك بالرخصة إذا دعت الحاجة إليها، ولا يمشي مع النفس على وجه التشديد والتنطع والتعمق (¬2)، فربما كان ذلك من دسائسها الخفية، وآفاتها المخفية، واللَّه الموفق. * * * ¬

_ (¬1) نقله رضي الدين الاستراباذي في "شرح شافية ابن الحاجب" (4/ 454). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 225).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي السَّفَر، فَمِنَّا الصَّائِمُ، ومنَّا المُفْطِرُ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَأَكْثَرُنَا ظِلًّا صَاحِبُ الكِسَاءِ، فَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بيَدِهِ، قَالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وقَامَ المُفْطِرُونَ، فَضَرَبُوا الأَبْنِيَةَ، وَسَقَوُا الرِّكَابَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ" (¬1). * * * (عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالك) الأنصاريِّ (-رضي اللَّه عنه-، قال: كنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في السفر) دون الحضر، يحتمل أنه في غزوة تبوك، أو ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2733)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الخدمة في الغزو، ومسلم (1119/ 100) واللفظ له، و (1119/ 101)، كتاب: الصيام، باب: أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، والنسائي (2283)، كتاب: الصيام، باب: فضل الإفطار في السفر على الصيام. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 71)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 182)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 236)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 226)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 872)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 84)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 174)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 88).

الفتح، (فمنا) معشرَ أصحابه (الصائمُ، ومنا المفطرُ). (قال) أنس -رضي اللَّه عنه-: (فنزلنا منزلًا) من منازل ذلك السفر (في يوم حار)؛ أي: شديد الحر، (وأكثرُنا ظِلًّا) يومئذ (صاحبُ الكساء) الجملة حالية، والكساء -بالكسر-: إزار غليظ، وهو الخميصة، وقال أَبو عبيد: الخميصة: كساء مربَّع له عَلَمان، قيل: [و] كساء رقيق من أي لون كان، وقيل: لا تسمى خميصة حتى تكون سوداء معلمة، والجمع أكسية (¬1)، (فمنا)، وفي ثسخة: "ومنا" (¬2) (من يتقي الشمسَ بيده)؛ لعدم ما يتقي حرَّها به سوى يديه. وفيه دليل: على جواز فطر المسافر وصومه -كما مر-. فيه: إشعارٌ بما كانوا عليه من الضيق، وعدمِ التوسُّع في الملابس. (قال) أنس -رضي اللَّه عنه-: (فسقط الصُّوَّامُ) جمع صائم؛ لشدة ما بلغهم من حر الشمس وحرارة الصوم، (وقام المفطرون)؛ لفضل قُوَّتهم، (فضربوا الأبنية) من الخيام والقباب (وسقوا الركاب) من الإبل وغيرها. (فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ذهب المفطِرون اليومَ بالأجر) العظيمِ؛ لما قاموا به من الخدمة والعمل المتعدي نفعُه. وفيه دليل على أنه إذا تعارضت المصالح، قُدِّم أولاها وأقواها. قال ابن دقيق العيد: قوله -عليه السلام-: "ذهب المفطِرون اليومَ بالأجر" فيه وجهان: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 279). وقد تقدم عند الشارح -رحمه اللَّه- التعريف بالخميصة. (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1119/ 100).

أحدهما: أن يراد أجرُ تلك الأفعال التي فعلوها، والمصالحِ التي جرت على أيديهم، ولا يراد مطلقُ الأجر على سبيل العموم. والثاني: أن يكون أجرهم بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوام مبلغًا ينغمر فيه أجرُ الصوم، فتحصل المبالغةُ بسبب ذلك، ويجعل كأن الأجر كله للمفطر، وهذا قريب مما يقوله بعض الناس في إحباط الأعمال الصالحة ببعض الكبائر من أن ثواب ذلك العمل يكون مغمورًا جدًا بالنسبة إلى ما يحصل من عقاب الكبيرة، فكأنه كالمعدوم المحبط، وإن كان الصوم هاهنا ليس من المحبَطات، غير أن المقصود إنما هو التشبيهُ في أن ما قَلَّ جدًا قد يُجعل كالمعدوم مبالغةً، ونظير هذا في الحسيات ما يحصل من الألم بمعاطاة الأدوية الكريهة لإزالة الأمراض العظيمة؛ فإن ألم الدواء يقع مغمورًا بما ينشأ عنه من صحة الجسد، ودفعِ تلك الأمراض الوخيمة، واللَّه أعلم (¬1). ولفظ البخاري عن أنس -رضي اللَّه عنه-: كنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أكثرُنا ظلًّا الذي يستظل بكسائه، فأما الذين صاموا، فلم يعملوا شيئًا، وأما الذين أفطروا، فبعثوا الركاب، وامتهنوا وعالجوا، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذهب المفطرون"، فذكره، وليس المراد نقصَ أجر الصوام، بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجرُ عملهم، ومثلُ أجر الصوام بتعاطيهم أشغالَهم وأشغالَ الصوام، فلذلك قال: بالأجر كله؛ لوجود الصفات المقتضية لتحصيل الأجر منهم. قال ابن أبي صفرة: أجر الخدمة في الغزو أعظمُ من أجر الصيام (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 227). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 84).

وقال القرطبي: يعني: أنهم لما قاموا بوظائف ذلك الوقت، وما يحتاج إليه [فيه]، كان أجرهم على ذلك أكثر من أجر من صام ذلك اليوم، ولم يقم بتلك الوظائف (¬1). وفيه: الحضُّ على المعاونة في الجهاد، وعلى أن الفطر في السفر أولى من الصيام؛ كما قدمنا. وفيه: أن الصيام في السفر جائز؛ خلافًا لمن زعم أنه لا ينعقد (¬2)، وتقدم ذلك، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 182). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 84).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ (¬1). * * * (عن) أمِّ المؤمنينَ (عائشةَ) الصديقةِ (-رضي اللَّه عنها-، قالت: كان ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1849)، كتاب: الصوم، باب: متى يقضى قضاء رمضان، ومسلم (1146/ 151 - 152)، كتاب: الصيام، باب: قضاء رمضان في شعبان، وأبو داود (2399)، كتاب: الصوم، باب: تأخير قضاء رمضان، والنسائي (2178)، كتاب: الصيام، باب: الاختلاف على محمد بن إبراهيم فيه، و (2319)، باب: وضع الصيام عن الحائض، والترمذي (783)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في تأخير قضاء رمضان، وابن ماجه (1669)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في قضاء رمضان. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 121)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 311)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 101)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 205)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 21)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 227)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 874)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 190)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 55)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 389)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 317).

يكونُ عَليَّ الصوم من رمضان)، وكررت الكون؛ لتحقيق القضية وتعظيمها، والتقدير: كان الشأن يكون كذا، والتعبير بلفظ الماضي في الأول، والمضارع في الثاني؛ لإرادة الاستمرارِ، وتكررِ ذلك الفعل منها -رضي اللَّه عنها- (¬1)، (فما أستطيع أن أقضي) ما فاتني من رمضان بسبب الحيض، أو غيره من الأعذار المبيحة للفطر (إلا في شعبان). زاد في رواية: الشُّغْلُ من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). قال شراح "البخاري"، وغيرُهم: الشغلُ -بالرفع-: فاعلٌ لفعل محذوف؛ أي: قالت عائشة: يمنعني الشغلُ؛ أي: أوجبَ ذلك الشغلُ، أو يكون مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: الشغلُ هو المانع لها من أجل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو بالنبي -عليه الصلاة والسلام- (¬3). وفي "البخاري": قال يحيى بن سعيد الأنصاري: الشغل من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو بالنبي (¬4)؛ لأنها كانت مهيئة نفسَها له -صلى اللَّه عليه وسلم-، مترصدة لاستمتاعه في جميع. أوقاتها إن أراد ذلك، وأما في شعبان، فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصومه، فتتفرغ عائشةُ فيه لقضاء صومها (¬5). وفي لفظ مسلم: فما تقدر أن تقضيه مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، فهو نص في كونه من قولها. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 389). (¬2) هذه رواية مسلم المتقدم تخريجها برقم (1146/ 151)، ووقع عند البخاري: "الشغل من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 191). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 389)، نقلًا عن "شرح مسلم" للنووي (8/ 22). (¬6) تقدم تخريجه برقم (1146/ 152).

وصرح البخاري بأنْه مدرَجٌ من قول يحيى؛ كما أشرنا إليه. واعترض بعضهم على كونه نصًا: بأن ليس فيه تصريح بأنه من قولها، فالاحتمالُ باقٍ. وقد كان -عليه الصلاة والسلام- له تسعُ نسوة يقسم لهنَّ، ويعدل، فما تأتي نوبةُ الواحدة إلا بعد ثمانية أيام، فكان يمكنها أن تقضي في تلك الأيام. وأجيب عن هذا: بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن القسم واجبًا عليه، فهن يتوقعن حاجته في كل الأوقات (¬1)، مع أن ظاهر كلام علمائنا: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في وجوب القسم كغيره، وهو الصحيح عند الشافعية. وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي: لا يجب عليه، مستدلًا بقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية [الأحزاب: 51]. قال: فإنها نزلت مبيحةً لترك ذلك، وعلى المعتمد: فيحتمل أن يجاب بأنها كانت لا تصوم إلا بإذنه، ولم يكن يأذنُ؛ لاحتمال احتياجه إليها، فإذا ضاق الوقت، أذن لها (¬2). وفي هذا الحديث: جوازُ تأخير قضاء رمضان، وأنه موسَّع الوقت، وقد يؤخذ منه أنه لا يؤخَّر عن شعبان حتى يدخل رمضانُ ثانٍ (¬3). فإن أخره بلا عذر إلى رمضان ثانٍ، حرم عليه؛ وفاقًا، نص عليه الإمام أحمد، واحتج بهذا الحديث، وعليه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا؛ وفاقًا ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 389)، نقلًا عن "المفهم" للقرطبي (3/ 207 - 208). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 191). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 227).

لمالك، والشافعي، ورواه سعيد بإسناد جيد عن ابن عباس، ورواه الدارقطني عن أبي هريرة، وقال: إسنادٌ صحيح (¬1)، ورواه مرفوعًا بإسناد ضعيف (¬2)، وذكره غيرُه عن جماعة من الصحابة (¬3). وفي "البخاري": ويذكر عن أبي هريرة مرسلًا، وعن ابن عباس: أنه يطعم (¬4). قال الماوردي: قد أفتى بالإطعام ستةُ من الصحابة لا مخالفَ لهم، انتهى. فمنهم: أَبو هريرة، وابن عباس؛ كما مر، وعمر بن الخطاب، ذكره عبد الرزاق. وإن أَخَّر القضاء بعدَ رمضان ثانٍ، فأكثرَ، لم يلزمه لكل سنة فديةٌ؛ لأنه إنما لزمه لتأخيره عن وقته، ولقول الصحابة في ذلك وفعلِهم. وللشافعية وجهان (¬5). قلت: أصحُّهما عندهم: يلزمه. والحاصل: جوازُ تأخير قضاء رمضان ما لم يدركه رمضان ثانٍ، لكن عند أكثر الشافعية: إن أفطر بسبب محرم، حرم التأخير. وأوجب داود الظاهري المبادرةَ في أول يومٍ بعد العيد. وهل يجب العزم على فعله؟ ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 196). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 197). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 69). (¬4) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 688). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 69).

قال ابن عقيل في "الفصول" في الصلاة: لا ينتفي إلا بشرط العزم على الفعل في ثاني الوقت، قال: وكذا كل عبادة متراخية (¬1). وقال في "شرح مسلم": الصحيح عند محققي الفقهاء، وأهل الأصول فيه وفي كل واجب موسَّع: إنما يجوز تأخيره بشرط العزم على فعله (¬2)، وجزمَ بهذا خاتمةُ المحققين الشيخ مرعي في "غايته" (¬3). وعن علي، وابن عمر، والحسن، والشعبي: يجبُ التتابع في قضاء رمضان، وكذا قال داود، والظاهرية: يجب، ولا يشترط للصحة؛ كأدائه. وقال الطحاوي: لا فضلَ للتتابع على التفريق (¬4)، والمعتمد: يندب التتابع كالفورية، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 68). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 23). (¬3) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (2/ 208). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 68).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ مَاتَ وعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" (¬1). وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: هَذَا فِي النَّذْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (¬2). * * * (عن عائشة) أم المؤمنين (-رضي اللَّه عنها-: أن رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: من مات) قال في "الفتح": عام في المكلفين؛ لقرينة (وعليه صيام) الواو ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1851)، كتاب: الصوم، باب: من مات وعليه صوم، ومسلم (1147)، كتاب: الصوم، باب: قضاء الصيام عن الميت. (¬2) رواه أَبو داود (2400)، كتاب: الصوم، باب: فيمن مات وعليه صيام. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 122)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 104)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 208)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 23)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 228)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 876)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 181)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 193)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 58)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 390)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 165)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 319).

للحال، (صامَ عنه وليُّه) خبر بمعنى الأمر، تقديره: فليصمْ عنه وليُّه (¬1)، ولو بغير إذنه، أو أجنبيٌّ بالإذن عن الميت قبل موته، أو من القريب، بأجرة أو دونها، وهذا قول الشافعي في القديم، ومال إليه من علمائنا صاحبُ "النظم"، فقال: لو قيل: لم أُبْعِدْ، وهو قول طاوس، وقتادة، ورواية عن الحسن، والزهري، ومذهب أبي ثور، وداود؛ لهذا الحديث (¬2)، ولم ير ذلك الجمهور، وبالغ إمامُ الحرمين من الشافعية ومن تبعه، فادعوا الإجماعَ على ذلك، مع أنها مسألة مختلَف فيها، حتى إن الإمام الشافعي ذهب إليه في القديم. وأجاز الصيامَ عن الميت أصحابُ الحديث. وقال البيهقي في "الخلافيات": هذه السنة ثابتة، لا أعلم بينَ أهل الحديث في صحتها خلافًا، فوجب العملُ بها. ومذهبُ الشافعي في الجديد كمالك وأبي حنيفة: لا يُصام عن الميت. وقال الإمام أحمد، والليث، وإسحاق، وأبو عبيد: لا يُصامُ عنه إلا النذرُ (¬3)، ولهذا قال الحافظ المصنف: (وأخرجه)؛ أي: حديثَ عائشةَ هذا (أَبو داود) وغيره؛ يعني: مع كونه من متفق الشيخين، فقول ابن دقيق العيد: ليس هذا الحديث مما اتفق الشيخان على إخراجه (¬4)، ذهولٌ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 193). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 71). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 193). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 228). (¬5) فقد أخرجه البخاري ومسلم معًا، كما تقدم تخريجه عندهما، وذكره الحافظ عبد الحق الإشبيلي في "الجمع بين الصحيحين" (2/ 163). قال الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 182): ولعل الواقع في نسخ "شرح العمدة" -يعني: =

(وقال) أَبو داود بعد إخراجه لهذا الحديث: (هذا)؛ أي: صوم الولي عن الميت مختصٌّ وجوبُه عليه، وجوازه منه (في) صوم (النذر)، فمعتمد المذهب: أن من مات وعليه صوم منذور في الذمة، ولم يصم منه شيئًا مع إمكانه، ففُعِلَ عنه، أجزأ عنه، فإن لم يخلف تركةً، لم يلزم الوليّ شيءٌ، لكن يُسن له فعله عنه بنفسه؛ لتفرغ ذمته؛ كقضاء دينه، وإن خلف تركة، وجب، فيفعله الولي بنفسه استحبابًا، فإن لم يفعل، وجب أن يدفع من تركته إلى من يصوم عنه عن كل يوم طعامَ مسكين، ويجزىء فعلُ غيره عنه بإذنه وبدونه، وإن مات وقد أمكنه صومُ بعضِ ما نذره، قضى عنه ما أمكنه صومُه فقط، ويجزىء صومُ جماعة عنه في يوم واحد عن عدتهم من الأيام. وأما لو نذرَ صومَ شهر بعينه، فمات قبل دخوله، لم يُصَم، ولم يُقْضَ عنه. قال المجد: وهو مذهب سائر الأئمة، ولا أعلم فيه خلافًا. وإن مات في أثنائه، سقط باقيه، هذا تحرير المذهب (¬1). ¬

_ = لابن دقيق- تحريف، وكأنه إنما قال: هذا الحديث مما اتفق على إخراجه؛ لأن المصمنف لما قال: وأخرجه أَبو داود، أراد الشيخ أن يبين أنه في "الصحيحين" كما هو شرط المصنف، ولو كانت ثابتة في الأصل، لقال: بل خرجه مسلم، انتهى. قلت: لكن يشكل عليه قول تلميذه ابن العطار في "العدة في شرح العمدة" (2/ 876) وهو ينقل في شرحه هذا عن شيخه ابن دقيق كل صغيرة وكبيرة؛ حيث قال: ذكر شيخنا أَبو الفتح بن دقيق العيد -رحمه اللَّه-: أن هذا الحديث ليس مما اتفقا عليه. وذكر أَبو محمد عبد العظيم المنذري: أن البخاري ومسلمًا أخرجاه، وهو موافق لما ذكره المصنف؛ يعني: الشيخ عبد الغني صاحب "العمدة". (¬1) وقد نقله الشارح -رحمه اللَّه- بحرفه من "الإقناع" للحجاوي (1/ 506 - 507).

قال أَبو داود -رضي اللَّه عنه-: (وهو)؛ أي: حمل حديث عائشة في وجوب الصوم عن الميت على المنذور (قولُ) سيدِنا الإمام (أحمدَ) بن محمد (بنِ حنبلٍ) -رضي اللَّه عنه-، وكذا هو مذهب مَنْ وافقه من الأئمة؛ كالليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه -رضي اللَّه عنهما-، فحملوا العمومَ الذي في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- كما يأتي في الحديث الآتي، يؤيد هذا: أن عائشة -رضي اللَّه عنها- سُئلت عن القضاء عمن مات وعليه من رمضان صيام، أيقضى عنه؟ قالت: لا، بل يطعم. رواه سعيد بإسناد جيد، وكذا قال ابن عباس، وأنه إن نذر، قضى عنه وليه، فالراوي أعلم بما روى (¬1). قال في "الفروع" فيمن عليه قضاء رمضان: إن أخر القضاء حتى مات، فإن كان لعذر، فلا شيء عليه، نص عليه؛ وفاقًا، ولغير عذر، فمات، ولو قبل أن يدركه رمضان آخر، أُطعم عنه لكل يوم مسكين، ولا يُصام عنه؛ لأن الصوم الواجب بأصل الشرع لا يُقضى عنه (¬2). تتمة: أَبو داود هو صاحب "السنن"، اسمه سليمانُ بنُ الأشعث بنِ إسحقَ بنِ بَشير -بفتح الموحدة-، الأزديُّ السجستانيُّ؛ نسبةً إلى إقليم من خراسان، وهو إقليم لبلاد الهند، ووهم ابن خلكان فقال: سجستان قريةٌ من قرى البصرة، انتهى. وهو -بكسر السين المهملة-، وربما ينسب إليها: سِجْزِيّ، على غير قياس، أو لأن الإقليم يسمى سجزًا، على الخلاف في ذلك، قاله البرماوي. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 69 - 70). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

وأبو داود أحدُ الأئمة الأعلام، وحفاظ الأنام، ومصنف أحد الكتب الستة المشهورة في الإسلام، مناقبه كثيرة، وأخباره شهيرة. ولد سنة اثنتين ومئتين، وقدم بغداد مرارًا، ثم نزل إلى البصرة وسكنها. قال ابن خلكان: كان أَبو داود في الدرجة العالية من النُّسك والصلاح، طاف البلاد، وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين، وجمع كتابَ "السنن" قديمًا، وعرضه على الإمام أحمد بن حنبل -رضي اللَّه عنه-، فاستجادَه، واستحسنه. قال: وعدَّه الشيخ أَبو إسحاق الشيرازي في "طبقات الفقهاء" من جملة أصحاب الإمام أحمد بن حنبل. قلت: هو أحدُ نَقَلَة مذهب الإمام أحمد، بل من أَجَلِّ نقلته؛ كحرب الكرماني، وأبي بكر المروذي، والأثرم، وغيرهم من الأئمة. وقال إبراهيم الحربي: لما صنف أَبو داود كتاب "السنن": أُلين لأبي داود الحديثُ كما أُلين لداودَ الحديدُ. وكان أَبو داود يقول: كتبت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خمس مئة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب -يعني: "السنن"-، جمعت فيه أربعة آلاف وثمان مئة حديث، ذكرت الصحيحَ وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسانَ لدينه من ذلك أربعةُ أحاديث: أحدها: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأعمالُ بالنيات" (¬1). والثاني: قوله: "مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ تَرْكُه ما لا يَعْنيه" (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه الترمذي (3317)، كتاب: الزهد، باب: (11)، وابن ماجه (3976)، كتاب: الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنهما-. =

والثالث: قوله: "لا يَكونُ المؤمنُ مؤمنًا حتى يَرْضى لأخيهِ ما يرضاهُ لنفسِه" (¬1). والرابع: قوله: "الحلال بيّن والحرام بيّن"، الحديث (¬2). وجاءه سهلُ بنُ عبدِ اللَّه التُّسْتَرِيُّ -رحمه اللَّه- زائرًا، فرحب به، وأجلسه، فقال: يا أبا داود! لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: حتى تقولَ: قضيتُها، قال: قضيتُها مع الإمكان، قال: أخرجْ لي لسانَك الذي حدثتَ به عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى أُقَبِّلَه، قال: فأخرجَ لسانَه فَقَبَّلَه (¬3). وذكر الحافظُ ابنُ حجر في كتابه "الفتح": أن ابنَ عبدِ البر أخرج بسند جيد عن أبي داود هذا -رضي اللَّه عنه-: أنه كان في سفينة، فسمع عاطسًا على الشط حَمِدَ، فاكترى قاربًا بدرهم حتى جاء إلى العاطس، فَشَمَّته، ثم رجع، فسئل عن ذلك، فقال: لعله يكون مُجابَ الدعوة، فلما رقدوا، سمعوا قائلًا يقول: يا أهل السفينة! إن أبا داود اشترى الجنةَ من اللَّه بدرهم (¬4). قال النووي -رحمه اللَّه تعالى-: اتفق العلماء على وصف أبي داود بالحفظ والإتقان، والورع والعفاف، ومعرفتِه بعللِ الحديث. ¬

_ = وفي الباب: عن غير واحد من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. (¬1) رواه البخاري (13)، كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم (45)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- بلفظ: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه ابن نقطة في "التقييد" (ص: 282). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 610).

وقال أَبو العلاء الحسن الداودي: رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام، فقال: "من أرادَ أن يستمسكَ بالسنن، فليقرأ كتابَ أبي داود". ومناقبُه لا تحصر -رضي اللَّه عنه-. توفي بالبصرة يوم الجمعة منتصفَ شوال سنة خمس وسبعين ومئتين، وعمره ثلاث وسبعون سنة (¬1)، وكان ولده أَبو بكر عبدُ اللَّه بنُ أبي داود من أكابر الحفاظ، وفحولِ علماء المذهب، عالمًا متقنًا، متفقًا عليه، إمامًا، وله كتاب "المصابيح"، وشارك أباه في أكثر شيوخه بمصر والشام، وسمع ببغداد وخراسان وأصبهان وشيراز، وتوفي سنة ست عشرة وثلاث مئة -رحمه اللَّه، ورضي عنه- (¬2). * * * ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 101)، و"الثقات" لابن حبان (8/ 282)، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي (ص: 172)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (9/ 55)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (22/ 191)، و"الأنساب" للسمعاني (3/ 225)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (4/ 69)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 508)، و"تهذيب الكمال" للمزي (11/ 355)، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (2/ 293)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (13/ 203)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (2/ 591) و"البداية والنهاية" لابن كثير (11/ 54)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/ 404)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (15/ 218)، و "شذرات الذهب" لابن العماد (2/ 167). (¬2) وانظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" للخطيب (9/ 464)، و"طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (2/ 51)، و"الأنساب" للسمعاني (3/ 225)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (13/ 222)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (2/ 767)، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (3/ 307)، و"المقصد الأرشد" لابن مفلح (2/ 34).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا-، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي ماتَتْ، وَعَلَيها صَوْمُ شَهْرٍ، أَفأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: "لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ، أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟! "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟، فَقَالَ: "أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي عَنْهَا؟! "، قالتْ: نَعَمْ، قال: "فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1852)، كتاب: الصوم، باب: من مات وعليه صوم، و (6321)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من مات وعليه نذر، ومسلم (1148/ 155)، كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت، واللفظ له. (¬2) رواه مسلم (1148/ 156، 154)، كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت، وأبو داود (3310)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: ما جاء فيمن مات وعليه صيام، صام عنه وليه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 60)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 163)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 105)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 210)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 24)، و"شرح عمدة الأحكام" =

(عن) ترجمان القرآن الحبر المفخم (عبدِ اللَّه بنِ عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: جاء رجل) قال القسطلاني في "شرح البخاري": لم يسم الرجل (¬1)، وقال البرماوي في "شرح الزهر": حديث ابن عباس: جاء رجل (إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا رسول اللَّه! إن أمي ماتت وعليها صومُ شهرٍ) بالإضافة (أفأقضيه عنها؟)، الحديث. السائل هو سعدُ بنُ عُبادةَ كما قد يُفهم ذلك عن رواية ذكرها المصنف -يعني: الحافظ عبد الغني- في باب: النذر من كتابه هذا، وذلك أنها من رواية ابن عباس، فالظاهر أن القضية واحدة، نعم، أشار ابن دقيق العيد إلى أن الحديث يحتمل أن يكون في صوم نذر، وأن يكون خلافه (¬2). قال البرماوي: والظاهر الأولى؛ لما ذكرناه، ولكون اللفظ متقاربًا. وأمُّ سعد هي عَمْرَةُ بنتُ مسعودِ بنِ قيسِ بن عمرِو بنِ زيدِ بنِ مناة -رضي اللَّه عنهما-. (فقال) -عليه الصلاة والسلام-: (أرأيت لو كان على أمك دين) من ديون الآدميين، (أكنتَ قاضِيَه عنها؟) لتبرأ ذمَّتُها منه، (قال: نعم) كنتُ أفعلُ ذلك، (قال) -عليه السلام-: (فَديْنُ اللَّه أحقُّ أن يُقْضى)؛ أي: كما أن حق العبد يُقضى، فحقُّ اللَّه أحقُّ. وهذا الحديث أخرجه البخاري في الصوم، وكذا مسلم، وأخرجه ¬

_ = لابن دقيق (2/ 230)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 879)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 585)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 61)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 391)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 113). (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 391). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 230).

أَبو داود في الأيمان والنذور، والترمذي في الصوم، وكذا النسائي، وابن ماجه (¬1). (وفي رواية) عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: (جاءت امرأةٌ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالت: يا رسول اللَّه! إن أمي ماتت). قال البرماوي في "المبهمات من شرح الزهر البسام": اسم المرأة السائلة غاثية -بالغين المعجمة والثاء المثلثة فمثناة تحتية فهاء تأنيث-، أو: غايثة -بتقديم المثناة تحت على المثلثة-، على خلاف في ذلك، وذكره الذهبي في "التجريد" من مرسلات عطاء الخراساني (¬2)، (وعليها)؛ أي: أمي (صومُ نذر) بالإضافة، والواو للحال، وقد بين أَبو بشر في رواية عند الإمام أحمد سببَ النذر، ولفظه: أن امرأة ركبت البحر، فنذرت أن تصوم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم وأبي داود. وقد رواه النسائي (3816)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من نذر أن يصوم ثم مات قبل أن يصوم، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- بلفظ: ركبت امرأة البحر، فنذرت أن تصوم شهرًا، فماتت قبل أن تصوم، فأتت أختها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذكرت ذلك له، فأمرها أن تصوم عنها. ورواه الترمذي (716)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في الصوم عن الميت، بلفظ: جاءت امرأة إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: إن أختي ماتت وعليها صوم شهرين متتابعين، قال: "أرأيت لو كان على أختك دين، أكنت تقضينه؟ "، قالت: نعم، قال: "فحق اللَّه أحق". ورواه ابن ماجه (1758)، كتاب: الصيام، باب: من مات وعليه صيام من نذر، بنحو لفظ الترمذي. فعلم من هذا أن رواية البخاري ومسلم وأبي داود مخالفة لرواية النسائي والترمذي وابن ماجه، إذ أن رواية الأولين أن المقضي عنها هي الأم، وليس فيه أيضًا تحديد مقدار الصيام الذي نذرته، بخلاف رواية الآخرين. وقد نقل الشارح -رحمه اللَّه- تخريجه هذا عن القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 391). (¬2) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (2/ 292).

شهرًا، فماتت قبل أن تصوم (¬1)، وهذا صريح في أنه غير رمضان (¬2)، (أفأصومُ عنها) نذرَها الذي ماتت ولم تؤد؟ (فقال) -عليه الصلاة والسلام- لها: (أرأيتِ لو كان على أُمِّكِ دَين) لآدمي ([فـ] قَضَيْتيهِ عنها) بدفعه لمن هو له، (أكان) استفهام تقرير (ذلك) القضاءُ لدَيْنِها الصادرِ منكِ (يؤدِّي عنها)، وتبرأ به ذمتها، ولا يسوغ لربِّ الدين بعد ذلك مطالبتُها بشيء منه؟ (قالت: نعم) يؤدِّي ذلك عنها، (قال) -عليه الصلاة والسلام-: (فصومي عن أُمِّك)، فعلَّل -صلى اللَّه عليه وسلم- قضاءَ الصوم بعلَّة عامة للنذر وغيره، لكنْ للنذر وصفٌ لا يُلغى، فيسوغ اعتبارُه في الحديث، وهذا ظاهر لا غبار عليه. وفي قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كان على أُمِّكِ دينٌ ... إلخ" دليلٌ على جواز القياس في الشريعة؛ من حيث إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قاسَ وجوبَ حقِّ اللَّه تعالى على وجوب أداء حقِّ العباد، وجعله من طريق الأحق، فيجوز لغيره القياسُ؛ لقوله تعالى: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]، ولاسيما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أرأيت إرشادًا وتنبيهًا على العلة التي هي كشيء مستقر في نفس المخاطب. وفي قوله -عليه والسلام-: "فدينُ اللَّه أحق بالقضاء" دلالة على المسائل التي اختلف الفقهاء فيها عند تزاحم حق اللَّه تعالى وحق العباد؛ كما إذا مات وعليه دينُ آدمي، ودينُ الزكاة مثلًا، وضاقت التركَةُ عن الوفاء بكل واحد منهما (¬3)، ومعتمد مذهب الإمام أحمد: التسوية بينهما، واللَّه تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في المسند" (1/ 338). وتقدم تخريجه قريبًا عند النسائي أيضًا. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 391). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 230 - 231).

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ" (¬1). * * * (عن) أبي العباس (سهلِ بنِ سعدِ) بنِ مالكٍ (الساعديِّ) الخزرجيِّ الأنصاريِّ (-رضي اللَّه عنه-)، كان اسمه حَزنًا، فسماه النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سهلًا، مات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وله خمسَ عشرةَ سنة، ومات سهلٌ بالمدينة سنة إحدى ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1856)، كتاب: الصوم، باب: تعجيل الإفطار، ومسلم (1098)، كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، والترمذي (699)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في تعجيل الفطر، وابن ماجه (1697)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في تعجيل الإفطار. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 287)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 217)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 33)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 157)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 208)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 232)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 882)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 199)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 67)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 393)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 154)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 299).

وتسعين، وقيل: سنة ثمان وثمانين، وهو آخرُ من مات من الصحابة بالمدينة. قال ابن سعد: بلا خلاف، وكان عمره يومئذ ستًا وتسعين سنة، وقيل: مئة سنة. روي له عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئة حديث، وثمانية وثمانون حديثًا، اتفقا على ثمانية وعشرين، وانفرد البخاري بأحد عشر (¬1). قال سهل بن سعد الساعدي -رضي اللَّه عنه-: (أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) من الصوم بعد تحقُّق الغروب بالرؤية، أو بإخبار عدل فصاعدًا، فـ"ما" ظرفية؛ أي: مدة فِعْلهم ذلك امتثالًا للسنة، واقفين عند حدودها، غيرَ متنطعين ولامتعاطين بعقولهم ما يغير قواعدها (¬2). وروي من حديث أبي هريرة أيضًا، وزاد فيه: "لأن اليهود والنصارى يؤخرون" أخرجه أَبو داود، وابن خزيمة، وغيرهما (¬3). وتأخيرُ أهل الكتاب له أمدٌ، وهو ظهور النجم (¬4). ¬

_ (¬1) قلت: قد تقدم للشارح -رحمه اللَّه- في أول كتاب: الجمعة، الحديث الثاني، ترجمته للصحابي سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه-، فلعله قد سها -رحمه اللَّه- عن ترجمته المتقدمة، والعصمة للَّه وحده. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 393)، نقلًا عن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 199). (¬3) رواه أَبو داود (2353)، كتاب: الصوم، باب: ما يستحب من تعجيل الفطر، وابن خزيمة في "صحيحه" (2060)، وكذا الإمام أحمد في "المسند" (2/ 450). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 199).

وقد روى ابنُ حبان، والحاكمُ من حديث سهلٍ أيضًا: "لا تزالُ أُمتي على سُنَّتي ما لم تنتظرْ بفطرِها النجومَ" (¬1). فيكره للصائم أن يؤخر الفطر إن قصد ذلك، ورأى أن فيه فضيلة (¬2). وروى الإمام أحمد، والترمذي من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "يقول اللَّه -عز وجل-: أَحَبُّ عبادي إليَّ أَعْجَلُهم فِطْرًا" (¬3). قال في "الفروع": يُسن تعجيلُ الإفطار إذا تحقَّق غروب الشمس إجماعًا، قال: والفطرُ قبل الصلاة أفضلُ اتفاقًا؛ لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإذا غاب حاجب الشمس الأعلى، أفطر الصائم حكمًا، وإن لم يطعم، واستدل بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الآتي: "إذا أقبل الليلُ من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، أفطر الصائم" (¬4)؛ أي: أفطر شرعًا، فلا يثاب على الوصال كما هو ظاهر "المستوعب" (¬5)، انتهى (¬6). وفي "صحيح مسلم" عن أبي عطية مالك بن عامر، قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة -رضي اللَّه عنها-، فقال لها مسروق: رجلان من ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (3510)، والحاكم في "المستدرك" (1584)، وكذا ابن خزيمة في "صحيحه" (2061). (¬2) قاله النووي في "المجموع" (6/ 379)، وعنه نقله القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 393)، وعنه أخذ الشارح. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 237)، والترمذي (700)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في تعجيل الفطر، وقال: حسن غريب. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "المستوعب" للسامري (3/ 445 - 446). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 50، 53).

أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- كلاهما لا يألو عن الخير، أحدُهما يعجِّل المغرب والإفطار، والآخرُ يؤخر المغربَ والإفطار، فقالت: مَنْ يعجِّلُ المغربَ والإفطار؟ قال: عبد اللَّه، فقالت: هكذا كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصنع (¬1). عبد اللَّه هو ابن مسعود، والرجل الآخر هو أَبو موسى الأشعري -رضي اللَّه عنهما-. وفي هذا الحديث: ردٌّ على الشيعة الذين يؤخرون الفطور إلى ظهور النجوم (¬2). ومعتمد مذهبنا: كراهةُ الوصال، لا تأخير الفطور إلى السحر، ولا يلزم من كون الشيء مستحبًا أن يكون نقيضُه مكروهًا مطلقًا (¬3)، وخرج بقولنا: تحقق الغروب: ما إذا ظنه، فلا يُسن له تعجيلُ الفطر، وأمّا إذا شك هل غربت الشمس أو لا؟ فيحرم الفطر به (¬4). نعم، له الفطر بالظن اتفاقًا؛ لأن الناس أفطروا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم طلعت الشمس، وكذا أفطر عمر -رضي اللَّه عنه-، والناس في عهده كذلك، ولأن ما عليه أمارة يدخله التحري، ويقبل فيه قول واحد؛ كالوقت والقِبلة، وكان عمر وعثمان -رضي اللَّه عنهما- لا يفطران حتى يصليا المغرب (¬5). ويُسن أن يُفطر على الرُّطَب، فإن لم يجد، فعلى التمر، فإن لم يجد، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1099)، كتاب: الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 232). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 199). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 393). (¬5) تقدم تخريجه.

فعلى الماء؛ لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم-. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وحسنه من حديث أنس (¬1). ورووا أيضًا، وصححه الترمذي من حديث سلمان الضَّبيُّ: "إذا أفطر أحدُكم، فليفطرْ على تمر، فإن لم يجد، فعلى ماء، فإنه طهور" (¬2). ويسن أن يدعو عند فطره، فقد روى ابن ماجه، والترمذي، وحَسَّنه من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دعوتُهم: الإمامُ العادلُ، والصائمُ حينَ يُفطر، ودعوةُ المظلوم" (¬3). ولابن ماجه من حديث ابن عمرو -رضي اللَّه عنهما- مرفوعًا: "للصائم عندَ فطرِه دعوةٌ لا تُرَدُّ" (¬4). واقتصر جماعة على قول: "اللهمَّ إني لكَ صمتُ، وعلى رزقِكَ أفطرتُ، سبحانَكَ وبحمدِكَ، اللهمَّ تقبلْ مني إنَّك أنت السميع العليم" رواه الدارقطني من حديث أنس، ومن حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهم- مرفوعًا، وفيهما: "تقبل منّا" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 164)، وأبو داود (2356)، كتاب: الصوم، باب: ما يفطر عليه، والترمذي (696)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء ما يستحب عليه الإفطار. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 17)، وأبو داود (2355)، كتاب: الصوم، باب: ما يفطر عليه، والترمذي (695)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء ما يستحب عليه الإفطار. (¬3) رواه الترمذي (2526)، كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة الجنة ونعيمها، وابن ماجه (1752)، كتاب: الصيام، باب: في الصائم لا ترد دعوته. (¬4) رواه ابن ماجه (1753)، كتاب: الصيام، باب: في الصائم لا ترد دعوته. (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 185)، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه =

وذكر بعضهم فيها قولَ ابن عمر: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول إذا أفطر: "ذهبَ الظمأ وابتلت العروقُ وثبتَ الأجرُ إن شاء اللَّه تعالى" رواه النسائي، والدارقطني، وقال: إسناده حسن، ورواه الحاكم، وقال: على شرط البخاري (¬1). والعمل بهذا الخبر أولى، كما في "الفروع" (¬2)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ = عنهما-. ولم أقف عليه من حديث أنس -رضي اللَّه عنه- عنده. (¬1) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (3329)، والدارقطني في "سننه" (2/ 185)، والحاكم في "المستدرك" (1536). وكذا رواه أَبو داود (2357)، كتاب: الصوم، باب: القول عند الإفطار. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 52 - 55).

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ" (¬1). (عن) أمير المؤمنين أبي حفص (عمرَ بنِ الخطاب -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إذا أقبلَ الليلُ من هاهنا، وأدبرَ النهارُ من هاهنا)؛ أي من المغرب، ولا ريبَ أن إقبال الليل وإدبار النهار متلازمان، وإن كان قد يكون أحدُهما أظهر للعين في بعض المواضع من الآخر، فيستدل ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1853)، كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم، واللفظ له، وعنده زيادة: "وغربت الشمس" بعد قوله: "وأدبر النهار من هاهنا"، ومسلم (1100)، كتاب: الصيام، باب: بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار، وأبو داود (2351)، كتاب: الصوم، باب: وقت فطر الصائم، والترمذي (698)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء: "إذا أقبل الليل وأدبر النهار فقد أفطر الصائم". * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 106)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 218)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 35)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 158)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 209)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 232)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 883)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 196)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 64)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 392).

بالظاهر على الخافي؛ كما لو كان في جهة المغرب ما يستر البصر عن إدراك الغروب، وكان المشرق ظاهرًا بارزًا، فيستدل بطلوع الليل على غروب الشمس (¬1). والذي في "الصحيحين" -كما رأيته- زيادة: "وغربت الشمس" (¬2). وفي لفظ عندهما عن [ابن] عمر -رضي اللَّه عنهما-: سمعت رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا أقبلَ الليلُ، وأدبرَ النهارُ، وغابتِ الشمسُ" (¬3) (فقد أفطر الصائم)؛ أي: حكمًا. قال في "الفروع": فلا يثاب على الوصال؛ كما هو ظاهر "المستوعب". قال: ويحتمل أنه يجوز له الفطر، قال: والعلامات الثلاث متلازمة، ذكره في "شرح مسلم" (¬4) عن العلماء، وإنما جمع بينها؛ لئلا يشاهد غروب الشمس، فيعتمد على غيرها، كذا قال العلامة ابن مفلح في "الفروع". ورأيت بعض أصحابنا يتوقف في هذا، ويقول: يقبل الليل مع بقاء الشمس، ولعله ظاهر "المستوعب" (¬5)، انتهى (¬6). وإنما قيد بالغروب إشارة إلى اعتبار تحقق الإقبال والإدبار والعلامات بواسطة الغروب، لا لسبب آخر، فالأمور الثلاثة، وإن كانت متلازمة في ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 232). (¬2) هذا لفظ البخاري دون مسلم. (¬3) هذا لفظ مسلم دون البخاري. (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 209). (¬5) انظر: "المستوعب" للسامري (3/ 445 - 446). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 53).

الأصل، فقد يتخلف التلازم ظاهرًا، فيظن إقبال الليل من المشرق، وليس به حقيقة، بل لوجود شيء يغطي الشمس، وكذلك إدبار النهار، فلذا قيد بالغروب (¬1). قال ابن دقيق العيد: قوله: "فقد أفطر الصائم" يجوز أن يكون المراد به: فقد حَلَّ له الفطر، ويجوز أن يكون المراد به: فقد دخل في الفطر، وتكون الفائدة فيه: أن الليل غير قابل للصوم، وأنه بنفس دخوله خرج الصائم من الصوم، فيمتنع الوصال بمعنى الصوم الشرعي، وإن وجد الإمساك الحسي، فهو وإن أمسك حسًا، فهو مفطر شرعًا، وفي ضمنه إبطالُ فائدة الوصال شرعًا، إذ لا يحصل به ثواب الصوم (¬2)، كما قدمناه. وفي رواية شعبة: "فقد حل الإفطار" (¬3)، وهي تؤيد كونَ المراد: أنه دخل وقتُ فطره، ورجَّحه ابن خزيمة، وقال: قوله: "فقد أفطر الصائم" خبر، ومعناه الإنشاء؛ أي: فليفطرِ الصائمُ، قال: ولو كان المراد: فقد صار مفطرًا، كان فطر جميع الصوام واحدًا، ولم يكن للترغيب في تعجيل الإفطار معنى (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 392). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 233). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 382)، من حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى -رضي اللَّه عنه-. (¬4) انظر: "صحيح ابن خزيمة" (3/ 273). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 392)، نقلًا عن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 197).

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الوِصَالِ، قَالُوا: إِنَّكَ تُواصِلُ، فَقَالَ: "إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى" رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1822)، كتاب: الصوم، باب؛ بركة السحور من غير إيجاب، و (1861)، باب: الوصال، ومسلم (1102/ 55 - 56)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، وأبو داود (2360)، كتاب: الصوم، باب: في الوصال، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. ورواه البخاري (1864 - 1865)، كتاب: الصوم، باب: التنكيل لمن أكثر الوصال، و (6459)، كتاب: المحاربين، باب: كم التعزير والأدب، و (6815)، كتاب: التمني، باب: ما يجوز من اللَّو، و (6869)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من التعمق والتنازع في العلم، والغلو في الدين والبدع، ومسلم (1103/ 57 - 58)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. ورواه البخاري (1863)، كتاب: الصوم، باب: الوصال، ومسلم (1105)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-. ورواه البخاري (1860)، كتاب: الصوم، باب: الوصال، و (6814)، كتاب: التمني، باب: ما يجوز من اللَّو، ومسلم (1104/ 59 - 60)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم، والترمذي (778)، كتاب: الصوم، باب: =

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيد الخدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "فَأَيُكُمْ أَرادَ أَنْ يُواصِلَ، فَلْيُواصِلْ إِلَى السَّحَرِ" (¬1). (عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ اللَّه بنِ) الإمام (عمرَ) بنِ الخطاب أميرِ المؤمنين (-رضي اللَّه عنهما-، قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوصال) في الصوم، وهو أن يصوم -فرضًا أو نفلًا- يومين فأكثر من غير تناوله بالليل مطعومًا عمدًا بلا عذر، أو مشروبًا (¬2). قال في "الفروع": يكره الوصال، وهو أَلَّا يفطر بين اليومين؛ لأن النهي وقع رفقًا ورحمة، ولهذا واصل -صلى اللَّه عليه وسلم- بهم، وواصلوا بعده. ¬

_ = ما جاء في كراهية الوصال للصائم، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬1) رواه البخاري (1862)، كتاب: الصوم، باب: الوصال، و (1866)، باب: الوصال إلى السحر، وأبو داود (2361)، كتاب: الصوم، باب: في الوصال. قلت: وقد وهم المصنف -رحمه اللَّه- في عزوه الحديث لمسلم؛ فإن الحديث من أفراد البخاري، ولعله سبق قلم منه -رحمه اللَّه- كما قال الزركشي في "النكت" (ص: 184). وسيأتي تنبيه الشارح -رحمه اللَّه- على ذلك. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للقاضي عياض (2/ 107)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 334)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 306)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 38)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 160)، و"شرح مسلم" للنووي (7/ 211)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 233)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 885)، و"النكت" للزركشي (ص: 183)، و"طرح التثريب" للعراقي (4/ 127)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 202)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 70)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 395)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 155)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 297). (¬2) قاله النووي في "المجموع شرح المهذب" (6/ 374)، وعنه نقله القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 395).

قال صاحب "المحرر" المجدُ بنُ تيمية: لا خلاف في أن الوصال لا يُبطل الصوم؛ لأن النهي ما تناول وقت العبادة، ولأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يأمر الذين واصلوا بالقضاء (¬1). قال في "الفروع": وتزول الكراهة بأكل تمرة ونحوها؛ لأن الأكل مَظِنَّة القوة، وكذا بمجرد الشرب؛ على ظاهر ما رواه المرُّوذي عن الإمام أحمد: أنه كان إذا واصل، شربَ شربةَ ماء؛ خلافًا للشافعية (¬2). وقضية كلامه كغيره: أن نحو الجماع والاستقاءة وغيرهما من المفطرات لا يخرجه عن الوصال، وصرَّحَ به الشافعية، وهو ظاهرٌ من جهة المعنى؛ لأن النهي عن الوصال للضعف، ونحو الجماع لا يمنع حصوله، لكن قال الروياني من الشافعية: هو -يعني: المواصل- أن يستديم جميع أوصاف جميع الصائمين. وقال الجرجاني في "الشافي": أن يترك ما أُبيح له من غير إفطار (¬3). وفي "الإقناع": وهو أَلَّا يفطر بين اليومين (¬4). وفي "الفروع": وقيل: يحرم -يعني: الوصال-، واختاره ابن البنَّاء، وحكاه ابن عبد البر عن الأئمة الثلاثة وغيرهم، وللشافعية وجهان. قال الإمام أحمد: لا يعجبني -يعني: الوصال-، وأومأ إلى إباحته لمن يطيقه. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 86). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 395). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 511).

وروي عن عبد اللَّه بن الزبير -رضي اللَّه عنهما- (¬1)، وعن ابنه عامر، وغيرهما. ونقل حنبل عن الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: أنه واصل بعسكر المتوكل ثمانيةَ أيام حتى كلّمه في ذلك، فشرب سويقًا. قال أَبو بكر: يحتمل أن الإمام أحمد فعله -يعني: الفطر- حيث لا يراه حنبل؛ لأنه لا يخالف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال في "الفروع": كذا قال، فكأنه لم يرتض بما قاله (¬2). ولا يكره الوصال إلى السحر، نص عليه الإمام أحمد، وقاله إسحاق؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث أبي سعيد: "فَأَيُّكُمْ أَرادَ أَنْ يُواصِلَ، فَلْيُواصِلْ إلى السحر" رواه البخاري، لكن ترك الأولى؛ [لتعجيل] (¬3) الفطر. وذكر القاضي عياض المالكي: أن أكثر العلماء كرهه (¬4). وفي "شرح البخاري" للقسطلاني في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لأصحابه: "لا تواصلوا" نهي يقتضي الكراهة، وهل هي للتنزيه، أو للتحريم؟ والأصح عند الشافعية: التحريم. قال الرافعي: وهو ظاهر نص الشافعي، وكرهه مالك، قال الأُبي: ولو ¬

_ (¬1) وقد روي في ذلك أنه كان يواصل سبعة أيام، حتى تتبين أمعاؤه، فإذا كان اليوم السابع أُتي بسمن وصبر، فيتحسَّاه، انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 22)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (28/ 17). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 86). (¬3) في الأصل: "لتأخير"، والصواب ما أثبت. (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 38). وانظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 86).

إلى السحر، واختار اللخمي جوازه إلى السحر؛ لحديث: "مَنْ واصلَ، [فليواصل] إلى السحر"، وقول أشهب: من واصل أساء، ظاهره التحريم (¬1). وقال علماؤنا، منهم الإمام الموفق في "المغني": يكره للتنزيه لا لِلتحريم (¬2). (قالوا) -يعني: الصحابة؛ يعني: قال بعضهم-: (إنك) يا رسول اللَّه (تواصل)، وفي حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: فقال رجل من المسلمين (¬3)، ولم يسم، فكأن القائل واحدٌ، ونسب إلى الجميع؛ لرضاهم به. وفيه دليل: على استواء المكلفين في الأحكام، وأن كل حكم ثبت في حقه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثبت في حق أمته، إلا ما استثني، فطلب الصحابة -رضي اللَّه عنهم- الجمعَ بين قوله في النهي، وبين فعله للوصال الدالِّ على الإباحة؛ فأجابهم باختصاصه به (¬4)، (فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنِّي لستُ مثلكم)، وفي لفظ: "إني لست كهيئتكم" (¬5)، وفي آخر: "لستُ كأحدِكم" (¬6)، وفي آخر: "كأحد منكم" (¬7)، (فإني أُطْعَم وأُسْقَى) -بضم الهمزة فيهما-، وفي رواية: "إني أَبيت أُطعم وأُسقى" (¬8) حقيقة، فيؤتى بطعام وشراب من عند اللَّه كرامةً له ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 396). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 56). (¬3) تقدم تخريجه من رواية مسلم برقم (1103/ 57). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 396). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1822)، وعند مسلم برقم (1102/ 55). (¬6) هي من رواية الكشميهني، كما في "الفتح" (4/ 203). (¬7) هي من رواية ابن عساكر، كما في "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 396). (¬8) تقدم تخريجه عند البخاري (1860) من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-.

في ليالي صومه، كذا قيل، ورُدَّ بأنه لو كان كذلك، لم يكن مُواصلًا، والجمهورُ على أنه مجازٌ عن لازم الطعام والشراب [وهو القوة]، أو أن اللَّه تعالى يخلُق فيه من الشبع والريِّ ما يُغنيه عن الطعام والشراب، فلا يحسُّ بجوع ولا عطش. والفرقُ بينه وبين الأول: أنه على الأول يُعطى القوة من غير شبع ولا ري، [بل] مع الجوع والظمأ، وعلى الثاني: يُعطى القوة مع الشبع والري. ورجَّح قوم الأولَ؛ لأنه يفوتُ بالثاني مقصودُ الصوم والوصال؛ فإن الجوع والظمأ روحُ هذه العبادة بخصوصها (¬1). قال الإمام ابن القيم في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني أُطعم وأُسقى": يحتمل أن يكون المراد: ما يغذِّيه اللَّه به من معارفه، وما يفيضه على قلبه من لذة مناجاته، وقرة عينه بقربه، ونعيمه بحبه، قال: ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناءَ الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني، ولاسيما الفرحان الظافر بمطلوبه، الذي قرت عينه بمحبوبه (¬2). (ورواه)؛ أي: هذا الحديث جماعةٌ من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، منهم: (أَبو هريرة) كما في "الصحيحين"، ولفظه: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوصال، فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول اللَّه تواصل، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لستُمْ مثلي، إني أَبيتُ يُطْعمني ربي ويَسقيني"، فلما أَبَوا أَن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يومًا، ثم يومًا، ثم رأوا الهلال، فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 396). (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (2/ 32 - 33).

"لو تأخَّرَ الهلالُ، لزدتُكُم" كالمنكِّلِ لهم حين أَبوا أن ينتهوا (¬1). وفي بعض ألفاظ البخاري: كالمنكر لهم -بالراء- (¬2). وفيهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إياكم والوصالَ"، قالوا: فإنك تواصلُ يا رسول اللَّه، قال: "إنكم لستُمْ في ذلك مثلي، إني أَبيتُ يُطعمني ربي ويَسقيني، فاكْلَفوا من الأعمال ما تُطيقون"، ولفظ البخاري: "إياكم والوصالَ، إياكم والوصال" (¬3). (و) منهم: (عائشةُ) الصديقةُ -رضي اللَّه عنها-، ولفظه كما في "الصحيحين": قالت: نهاهم النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوصال رحمةً لهم، قالوا: إنك تواصل، قال: "إني لَسْتُ كهيئتِكُم، إني أَبيتُ يُطعمني ربي ويسقيني"، لم يقل البخاري في حديث عائشة: "أبيت" (¬4). (و) منهم (أنسُ بنُ مالك) -رضي اللَّه عنه-، ولفظه في آخر الحديث، قال: فأخذ يواصل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذلك في آخر الشهر، فأخذ رجالٌ من أصحابه يواصلون، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بالُ رجالٍ يُواصلون؟! إنكم لستُمْ مثلي، أما واللَّه! لو تمادَّ لي الشهرُ، لواصلتُ وصالًا يدع المتعَمِّقون تعمُّقهم، إنكم لستُمْ مثلي"، أو قال: "إني لستُ مثلَكم، إني أظلُّ يُطعمني ربي ويَسقيني" (¬5)، وفي بعض طرق البخاري من حديث أنس مرفوعًا: "لا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في حديث الباب. (¬2) هي من رواية المستملي، كما في "الفتح" (4/ 206). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم.

تواصلوا"، قالوا: إنك تواصل، قال: "لستُ كأحدكم" الحديث (¬1). قال الحافظ المصنف -رحمه اللَّه تعالى-: (ولمسلم) -يعني: دون البخاري-، والصواب عكسُه، وهو للبخاري دون مسلم (عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-): أنه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا تواصلوا، (فأيكم أراد)، وفي لفظ: "فأيكم إذا أراد" (¬2) (أن يواصل، فليواصل إلى السحر)، وفي لفظ: "حتى السحر" (¬3)، قالوا: فإنك تواصل يا رسول اللَّه، قال: "إني لستُ كهيئتكم إني أَبيتُ لي مُطْعِم يُطِعُمني، وساقٍ يَسْقيني". وأخرجه أَبو داود، ولم يخرجه مسلم، ونبه على انفراد البخاري به الحافظُ عبدُ الحق في "جمعه بين الصحيحين" (¬4)، والضياء المقدسي في "المختارة" (¬5)، ولم ينبه عليه ابنُ دقيق العيد، وكان عليه ذلك. قال القسطلاني في "شرح البخاري" تبعًا للحافظ ابن حجر: والحافظ عبد الغني عزا ذلك للبخاري فقط في "عمدته الكبرى"، فلعله وقع له في "عمدته الصغرى" سبق قلم (¬6). تنبيه: مما يؤيد القولَ بعدم التحريم في الوصال، وأنه الكراهة فقط أشياءُ منها: قوله في حديث عائشة: رحمةً لهم؛ أي: لأجل الرحمة، فهو كنهيه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1862). (¬3) تقدم تخريجه برقم (1862) عنده. (¬4) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (2/ 140)، حديث رقم (1685). (¬5) وقع في "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 184): الضياء في "أحكامه"، وهو الصواب. (¬6) انظر:"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 397).

لهم عن قيام الليل خشيةَ أن يُفْرض عليهم، يؤيد ذلك ما روى أَبو داود بإسناد صحيح، عن رجل من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، قال: نهى النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الحِجامة والمواصلة، ولم يحرمها؛ إبقاءً على أصحابه (¬1). وما في البخاري من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-؛ فقد روى أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واصل، فواصل الناس، فشق عليهم، فنهاهم (¬2). ومنها: فعلُ أصحابه الكرام -رضي اللَّه عنهم-، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن عبد اللَّه بن الزبير -رضي اللَّه عنهما-: أنه كان يواصل خمسةَ عشرَ يومًا (¬3)، مع ما ثبت في "الصحيحين": أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- واصل بأصحابه بعد النهي (¬4)، فلو كان للتحريم، لما أقرهم عليه، فعُلم أنه أراد بالنهي: الرحمةَ لهم، والتخفيفَ عنهم كما صرحت به عائشةُ (¬5). ومنها: أنه تركُ الأكل والشرب المباح، فلم يكن محرمًا؛ كما لو تركه في حال الفطر. فإن قيل: فصومُ يوم العيد محرَّم مع كونه تركًا للأكل والشرب المباح. قلنا: ما حرم ترك الأكل والشرب بنفسه، وإنما يحرم بنية الصوم، ولهذا لو تركه من غير نية الصوم، لم يكن محرمًا، والليل لا صوم فيه، ¬

_ (¬1) رواه أَبو داود (2374)، كتاب: الصوم، باب: في الرخصة في ذلك، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 314). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1822)، وعند مسلم برقم (1102). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (9599). (¬4) تقدم تخريجه عندهما من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 202)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 397).

فظهر عدمُ التحريم، ونحن نعلم أن الصحابة لم يفهموا من نهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- التحريمَ، ولو فهموه، ما فعلوه (¬1). وأيضًا لو كان محرمًا، ما أقرهم على ذلك، ولبين لهم [حرمته] (¬2)، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة غير جائز، وهذا ظاهر لمن تأمله مع خلع رِبْقَة التقليد من عنقه، واللَّه الموفق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 56). (¬2) في الأصل: "رحمته"، والصواب ما أثبت.

باب أفضل الصيام

باب أفضل الصيام وغيرِه؛ أي: غيرِ أفضل الصيام؛ من صيام ثلاثةِ أيام من كل شهر، والنهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم، وتحريم صيام العيدين، والترغيب في صيام يوم في سبيل اللَّه. وذكر الحافظ في هذا الباب ثمانية أحاديث. * * *

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنِّي أَقُولُ: واللَّهِ! لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، ولأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عِشْتُ، فقلتُ لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ: "فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ الحَسَنَةَ بَعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ"، فَقُلْتُ: إنِّي أُطِيقُ أَفْضلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ"، قُلْتُ: إِنَّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيامُ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلامُ-، وَهُوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ"، فَقُلْتُ: إِنَّي أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1875)، كتاب: الصوم، باب: صوم الدهر، واللفظ له، و (1102)، باب: ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه، و (1878)، كتاب: الصوم، باب: صوم داود -عليه السلام-، و (1873)، باب: حق الضيف في الصوم، و (1874)، باب: حق الجسم في الصوم، و (1876)، باب: حق الأهل في الصوم، و (1877)، باب: صوم يوم وإفطار يوم، و (3236 - 3237)، كتاب: الأنبياء، باب: قول اللَّه تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء: 63]، و (4765)، كتاب: فضائل القرآن، باب: في كم يقرأ القرآن، و (4903)، كتاب: النكاح، باب: "لزوجك عليك حق"، و (5783)، كتاب: الأدب، باب: حق الضيف. ورواه مسلم (1159/ 181 - 188، 192 - 193)، كتاب: الصوم، باب: النهي عن صوم =

وفي رواية قال: "لا صَومَ فَوقَ صَومِ دَاودَ -شَطْرُ الدَّهْرِ- صُمْ يومًا، وأَفطِرْ يَومًا" (¬1). (عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ اللَّه بنِ عمرِو بنِ العاص) السهميِّ القرشيِّ (-رضي اللَّه عنهما- قال) عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-: (أُخبر) -بضم الهمزة وسكون الخاء المعجمة وكسر الموحدة مبنيًا للمفعول- (رسولُ اللَّه) -بالرفع- نائب الفاعل (أَني أقولُ)؛ أي: أُخبر من قولي: (واللَّه! لأَصومَنَّ النهارَ، ولأَقومَنَّ الليلَ ما عِشْتُ)؛ أي: مدة حياتي، (فقلت له) في هذا ¬

_ = الدهر لمن تضرر به، أو فوَّت به حقًا، وأبو داود (2427)، كتاب: الصوم، باب: في صوم الدهر تطوعًا، والنسائي (1630)، كتاب: قيام الليل، باب: ذكر صلاة نبي اللَّه داود -عليه السلام- بالليل، و (2388 - 2393)، كتاب: الصوم، باب: صوم يوم وإفطار يوم، و (2394 - 2396)، باب: ذكر الزيادة في الصوم والنقصان، و (2397 - 2401)، باب: صوم عشرة أيام من الشهر، و (2403)، باب: صيام أربعة أيام من الشهر، والترمذي (770)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في سرد الصوم، وابن ماجه (1712)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صيام داود -عليه السلام-. (¬1) رواه البخاري (1879)، كتاب: الصوم، باب: صوم داود -عليه السلام-، و (5921)، كتاب: الاستئذان، باب: من ألقي له وسادة، ومسلم (1159/ 191)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، أو فوَّت به حقًا، والنسائي (2402)، كتاب: الصيام، باب: صيام خمسة أيام من الشهر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 129)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (3/ 297)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 123)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 224)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 40)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 236)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 890)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 220)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 90)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 405)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 172)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 342).

طَيٌّ تقديره: فقال لي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنت الذي تقول: واللَّهِ لأصومنَّ النهار" إلخ (¬1)؟ ولمسلم: "آنت الذي تقولُ ذلك؟ " (¬2)، فقلت له: (قد قلتُه بأبي أنت وأمي)؛ أي: أفديك بهما، (قال: فإنَّكَ لا تستطيعُ ذلك) الذي قلتهَ من صيام النهار وقيام الليل؛ لحصول المشقة، وإن لم يتعذر الفعل، أو إنك تبلغ من العمر ما يتعذر معه ذلك، وعلِمه -صلى اللَّه عليه وسلم- بطريق ما، أو أن المراد: لا تستطيع ذلك مع القيام ببقية الحقوق والمصالح الشرعية شرعًا (¬3)، (فصم وأفطر) -بهمزة قطع- أمرُ إرشاد، (ونم) من الليل، (وقم) منه، ثم بين ما أجمل، فقال: (وصُمْ من الشهر) الهلالي (ثلاثةَ أيام)، لم يعينها، ثم علل وجه كونها ثلاثة بقوله: (فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك)؛ أي: حيث كانت الحسنة بعشر أمثالها (مثلُ صيام الدهر)؛ أي: مثلُ صيام الدهر من غير تضعيف الحسنات؛ فإن ذلك التضعيف مرتب على الفعل الحسي الواقع في الخارج، والحامل على هذا التأويل: أن القواعد تقتضي أن المقدَّر لا يكون كالمحقَّق، وأن الأجور تتفاوت بحسب تفاوت المصالح، أو المشقة في الفعل، فكيف يستوي مَنْ فعلَ الشيء بمن قدر فعله له؟ فلأجل ذلك قيل: إن المراد: أصلُ الفعل في التقدير، لا الفعلُ المرتَّب عليه التضعيفُ في التحقيق، وهذا لا يختص بهذا الفعل، بل بغيره، بل هو أنه أخذ صيام بعض الأيام المفضلة، وقيام بعض الليالي مما جاء: "من صامَ يومَ كذا، كان كمن صام شهرًا، ومن قام ليلة كذا، فكأنه قام سنة"، أو نحو ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 405). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1159/ 181). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 405)، نقلًا عن "شرح العمدة" لابن دقيق (2/ 238). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 238).

تنبيه: ربما استُدل بظاهر هذا الحديث على كراهة صيام الدهر، وربما استُدل [به] على عدم الكراهة، ومعتمد المذهب: جوازه، ولم يكره إذا لم يترك به حقًا، ولا خاف منه ضررًا، ولم يصم الأيامَ المنهيَّ عن صيامها؛ يعني: العيدين، وأيام التشريق، فإن أدخل فيه يومي العيدين، وأيام التشريق، أو يومًا منها، حَرُم، وإن أفطر أيام النهي، جاز؛ خلافًا للظاهرية. نقل حنبل عن الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: إذا أفطر أيامَ النهي، فليس ذلك صومَ الدهر. ونقل صالح: إذا أفطرها، رجوتُ أن لا بأس به، وهذا اختيار القاضي وأصحابه، وصاحب "المحرر"، والأكثر؛ وفاقًا لمالك، والشافعي. وذكر الإمام مالك: أنه سمع أهل العلم يقولونه؛ لقول حمزة بن عمرو: يا رسول اللَّه! إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: "إنْ شئتَ فصمْ" متفق عليه، وتقدم (¬1)، ولأن أبا طلحة وغيره من الصحابة وغيرهم فعلوه، وأجابوا عن حديث عبد اللَّه بن عمرو، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا صامَ مَنْ صامَ الدهرَ" رواه البخاري (¬2)؛ بأنه خشيَ عليه ما سبق. وقال صاحب "المغني" من أئمة علمائنا: يكره صيام الدهر (¬3)، وهو ظاهر رواية الأثرم عن الإمام أحمد، وللحنفية قولان (¬4). ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه برقم (1878) عند البخاري. (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 56). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 85 - 86).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب قولُ من جعله تركًا للأَوْلى، أو كرهَه، وفصَّل بعضهم بأنه إن خاف ضررًا، أو فواتَ حق، إن كان الحقُّ الذي يفوت به واجبًا، حَرُم، وإن كان مندوبًا أولى من الصيام، كُرِه، وإن كان يقوم مقامه، فلا كراهة، وحيث جاز بلا كراهة، فصومُ يومٍ وفطرُ يومٍ أفضلُ منه؛ خلافًا لطائفة من الفقهاء والعباد، ذكره شيخ الإسلام (¬1)، وهو ظاهرُ حال من سرده، ومنهم أَبو بكر النجَّاد أحد أعلام علمائنا؛ حملًا لخبر عبد اللَّه بن عمرو عليه، وعلى من في معناه؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يرشد حمزةَ بنَ عمرو إلى يوم ويوم. قال الإمام أحمد: ويعجبني أن يفطر منه أيامًا؛ يعني: أنه أولى؛ للخروج من الخلاف، وجزم به جماعة، وقاله إسحاق، وليس المراد كراهة، فلا تعارض، واللَّه أعلم (¬2). قال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما-: (فقلت): يا رسول اللَّه! (إني أُطيق أفضلَ من ذلك)؛ أي: أكثر من صوم ثلاثة أيام من كل شهر، (قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: فصم يومًا، وأفطر يومين) -بالإفراد في الأول، والتثنية في الآخر-، وفي رواية حسين المعلم في: الأدب من "الصحيح": "فصم من كل جمعة ثلاثة أيام" (¬3). وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمرو: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "صمْ يومًا، ولك أجرُ ما بقي"، قال: إني أطيق أكثرَ من ذلك، قال: "فصم يومين، ولك أجر ما بقي"، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: "صُم ثلاثةَ ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (22/ 302، 305). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 86). (¬3) تقدم تخريجه برقم (5783).

أيام ولك أجرُ ما بقي"، قال: إني أطيق أكثر من ذلك (¬1)، قال: "صمْ أربعةَ أيام، ولك أجرُ ما بقي"، قال: إني أطيقُ أكثر من ذلك. وفي رواية: "أما يكفيك من كل شهر ثلاثةُ أيام؟ "، قال: قلت: يا رسول اللَّه! قال: "خمسًا"، قلت: يا رسول اللَّه! قال: "سبعًا"، قلت: يا رسول اللَّه! قال: "تسعًا"، قلت: يا رسول اللَّه! قال: "إحدى عشرة" (¬2)، (قلت: إني أطيق أفضل)؛ أي: أكثر (من ذلك، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: فصمْ يومًا وأفطِرْ يومًا، فذلك صيامُ داودَ -عليه السلامُ-). ولفظ داودَ أعجميُّ، قال ابنُ عباس وغيره: عبراني، ومعناه: القصيرُ العمر، وهو داود بن إيشا -بكسر الهمزة وسكون الياء المثناة تحت وبالشين المعجمة- من سبط يهوذا -بفتح المثناة تحت وضم الهاء وبالذال المعجمة- بنِ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بن إبراهيم -عليهم الصلاة والسلام-، وهو أَبو سليمان النبيِّ -عليه السلام-، جمعَ اللَّه له بين النبوة والملك، وقد كان راعيًا، فآتاه اللَّه الملك بعد قتله جالوتَ بسبع سنين، وذلك لما استُشهد طالوتُ، أعطى بنو إسرائيل داودَ خزائنَ طالوت، وملَّكوه على أنفسهم، ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك إلا على داود، وفضلُ داود ومعجزاته وكراماته مشهورة في الكتاب والسنة، ذكرها اللَّه تعالى في القرآن العظيم في اثني عشر موضعًا من كتابه العزيز (¬3). وفي "البخاري" عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "خُفِّفَ على داودَ القرآنُ -يعني: الزبور-، فهو يأمر بدابته تُسْرَج، فيقرؤه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (1/ 169).

قبل أن تُسْرَج، وكان لا يأكل إلا من عمل يده" (¬1). وفي الترمذي: "كان من دعاء داود -عليه السلام-: اللهمَّ إني أسألُكَ حُبَّكَ، وحُبَّ مَنْ يحبُّكَ، والعملَ الذي يُبلغني حُبَّكَ، اللهمَّ اجعلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إليّ من نفسي وأهلي ومنَ الماءِ البارد". وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كان داودُ أعبدَ البشر" (¬2). وأوصى ابنَه سليمانَ -عليه السلام-. ففي "حلية الأولياء" لأبي نعيم عن الفضيل، قال: قال داود: إلهي! كُنْ لابني سليمانَ كما كُنْتَ لي، فأوحى اللَّه تعالى إليه: يا داودُ! قل لابنك سليمانَ يكنْ لي كما كنتَ لي حتى أكونَ له كما كنتُ لكَ (¬3). قال كعبُ الأحبار، ووهبُ بن منبه -رحمهما اللَّه تعالى-: كان داود -عليه السلام- أحمرَ الوجه، أبيضَ الجسم، طويلَ اللحية فيها جُعودة، حسنَ الصوت والخلق، طاهرَ القلب، بينه وبين موسى خمس مئة وسبعٌ وسبعون سنة. ويزعم أهل الكتاب أن عمره تسع وتسعون سنة، ومدة ملكه أربعون سنة. قال كعب: والنصارى تزعم أن قبره في الكنيسة الحسمانية ببيت القدس ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3235)، كتاب: الأنبياء، باب: قول اللَّه تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء: 163]. (¬2) رواه الترمذي (3490)، كتاب: الدعوات، باب: (73)، عن أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه-. (¬3) لم أقف عليه في "حلية الأولياء". وقد رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (22/ 238).

- صلوات اللَّه وسلامه على نبينا وعليه، وعلى سائر أنبياء اللَّه ووسله أجمعين (¬1). (وهو)؛ أي: صيامُ داود -عليه السلام- (أفضلُ الصيام). وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمرو -رضي اللَّه عنهما-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن أحبَّ الصيامِ إلى اللَّه صيامُ داودَ" (¬2)، وهذا يدل على أفضلية هذا الصيام على صوم الدهر، ويترجَّح من حيث المعنى بأن صيام الدهر قد يفوِّتُ بعضَ الحقوق، وبأن من اعتاده لا يكاد يشقُّ عليه، بل تضعف شهوتُه عن الأكل، وتقلُّ حاجته إلى الطعام والشراب نهارًا، ويألف تناوله في الليل؛ بحيث يتجدد له طبع زائد، بخلاف من يصوم يومًا؛ ويفطر يومًا؛ فإنه لا يزال ينتقل من فطر إلى صوم، ومن صوم إلى فطر. وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم: أنه أشقُّ الصوم (¬3)، ويأمن مع ذلك من تفويت الحقوق (¬4). وفي "فتاوى ابن عبد السلام" من الشافعية: أن صوم الدهر أفضلُ من صيام داود -يعني: صوم يوم؛ وفطر يوم-؛ لأنه أكثر عملًا، فيكون أكثر ثوابًا (¬5)، وبذلك جزم الغزالي منهم، بشرط أَلَّا يصوم الأيام المنهيَّ عنها، وأَلَّا يرغب عن السنة بأن يجعل الصوم حجرًا على نفسه (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 180 - 181). (¬2) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬3) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 140). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 223). (¬5) لم أقف على كلامه هذا -رحمه اللَّه- فيما طبع من "فتاواه". (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 223)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 406).

قال عبد اللَّه: (فقلت: إني أطيقُ أكثرَ من ذلك) يا رسول اللَّه، (فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا أفضلَ من ذلك). قال في "الفروع": أفضل صوم التطوع (¬1)، نص الإمام أحمد عليه؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن عمرو: "صمْ يومًا وأفطرْ يوما، فذلك صيامُ داود -عليه السلام-، وهو أفضل الصيام" (¬2). فأجراه الإمام أحمد على ظاهره، وأيده بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا أفضل من ذلك"، ومن فضل صيام الدهر حُمِلَ قوله -عليه السلام-: "لا أفضل من ذلك"؛ أي: بالنسبة إلى مَنْ حالُه مثلُ حالك؛ يعني: من يتعذر عليه الجمعُ بين الصوم الأكثرِ والقيامِ بالحقوق (¬3). قال ابن دقيق العيد: والأقرب: أن يجري على ظاهر الحديث في تفضيل صيام داود -عليه السلام-؛ لأن الأفعال متعارضة المصالح والمفاسد، وليس كل ذلك معلومًا لنا، ولا مستحضرًا، وإذا تعارضت المصالح والمفاسد، فمقدار تأثير كل واحدة منهما في الحث أو المنع غيرُ متحقق لنا، فالطريق حينئذ أن يفوَّضَ الحكمُ إلى صاحب الشرع، ويُجرى على ما دل عليه ظاهر اللفظ، مع قول الظاهر هاهنا، وأما زيادة العمل، واقتضاء القاعدة لزيادة الأجر بسببه، فيعارضه اقتضاء العادة والجبلة للتقصير في حقوق يعارضها الصوم الدائم، ومقادير ذلك الفائت مع مقادير ذلك الحاصل من الصوم غير معلومة لنا، انتهى (¬4). (وفي رواية) في "الصحيحين" من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص - ¬

_ (¬1) يعني: إن صيام داود -عليه السلام- هو من أفضل صوم التطوع. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 79). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 239). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

رضي اللَّه عنهما-، (قال): إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذُكر له صومي، فدخل عليَّ، فألقيت له وسادة من أَدَم حشوُها ليفٌ، فجلس على الأرض، وصارت الوسادةُ بيني وبينه، فقال: "وما يكفيكَ من كلِّ شهرٍ ثلاثةُ أيام؟ "، وذكر الحديث الذي ذكرناه سابقًا إلى أحدَ عشرَ يومًا، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصوم؛ أي: لا فضل و (لا) كمال في (صوم) التطوع (فوق صوم داود) -عليه السلام-، فهذا يؤيد كونَه أفضلَ من صيام الدهر، ومن أَبى ذلك، حَمَلَه على [مَنْ] حاله كمثلِ حال ابن عمرو ممن يضعفه عن الفرائض والحقوق. (شطر الدهر)؛ أي: نصفه، وهو بالرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو شطر الدهر، ويجوز بالجر بدل من قوله: "صومِ داود"، وهذان الوجهان رواية أبي ذرّ، وروي بالنصب على أنه مفعول فعل مقدر؛ أي: هاكَ، أو خُذ، ونحوه (¬1) (صم يومًا وأفطر يومًا)، وفي رواية: "صيام يوم وإفطار يوم" (¬2)، وفيه الثلاثة أوجه السابقة، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 409). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5921)، وعند مسلم برقم (1159/ 191).

الحديث الثاني

الحديث الثاني وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وأَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ؛ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا، ويُفْطِرُ يَوْمًا" (¬1). * * * (وعنه)، أي: عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما-، ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1079)، كتاب: التهجد، باب: من نام عند السحر، و (3238)، كتاب: الأنبياء، باب: أحب الصلاة إلى اللَّه صلاة داود، ومسلم (1159/ 189 - 190)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، أو فوت به حقًا، وأبو داود (2448)، كتاب: الصوم، باب: في صوم يوم وفطر يوم، والنسائي (1630)، كتاب: قيام الليل، باب: ذكر صلاة نبي اللَّه داود -عليه السلام- بالليل، و (2344)، كتاب: الصيام، باب: صوم نبي اللَّه داود -عليه السلام-، و (2400)، باب: صوم عشرة أيام من الشهر، وابن ماجه (1712)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في صيام داود -عليه السلام-. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح مسلم" للنووي (8/ 45)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 240)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 897)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 455)، و"عمدة القاري" للعيني (16/ 8)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (2/ 314)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 71).

(قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن أحبَّ الصيامِ إلى اللَّه) -عز وجل- (صيامُ داود) نبيِّ اللَّه -عليه السلام-؛ أي: أكثر ما يكون محبوبًا، واستعمال "أحب" بمعنى: محبوب، قليل؛ لأن الأكثر في أفعل التفضيل أن يكون بمعنى الفاعل؛ كما في القسطلاني، قال: ونسبة المحبة في ذلك إلى اللَّه تعالى على معنى: إرادة الخير لفاعله (¬1). (وأحبَّ الصلاة)؛ أي: أكثر ما يكون محبوبًا (إلى اللَّه) -عز وجل- (صلاةُ داودَ) -عليه السلام-، ثم بين ما أجمل من ذلك، فقال: (كان) داود -عليه السلام- (ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه) في الوقت الذي ينادي فيه الربُّ تعالى: هل من سائلٍ؟ هل [من] مستغفر؟ (وينام سدسَه) ليستريح من نَصبِ القيام في بقية الليل، وإنما كان هذا أحبَّ إلى اللَّه تعالى؛ لأنه أخذ بالرفق على النفوس التي يخشى منها السآمة التي هي سببٌ إلى ترك العبادة، واللَّه تعالى يحب أن يوالي فضله، ويُديم إحسانه. قاله الكرماني. وإنما كان ذلك أرفقَ؛ لأن النوم بعد القيام يُريح البدن، ويُذهب ضرر السهر، وذبولَ الجسم؛ بخلاف السهر إلى الصباح، وفيه من المصلحة أيضًا استقبالُ صلاةِ الصبح وأذكارِ النهار بنشاط وإقبال، وإنه أقرب إلى عدم الرياء؛ لأن من نام السدس الأخير، أصبح ظاهر اللون، سليم القوى، فهو أقرب إلى أن يخفي عمله الماضي على من يراه، أشار إليه ابن دقيق العيد (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (2/ 315). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 240)، وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (2/ 315).

(وكان) داود -عليه السلام- (يصوم يومًا ويفطر يومًا). قال الزين بن المنير: كان داود -عليه السلام- يقسم ليله ونهاره لحقِّ ربه، وحق نفسه، فأما الليلُ، فاستقام له فيه ذلك في كل ليلة، وأما النهار، فلما تعذَّر عليه أن يجزئِّه بالصيام؛ لأنه لا يتبعَّض، جعل عوضًا من ذلك أن يصوم يومًا، [ويفطر يومًا]، فيتنزل ذلك منزلة التجزئة في شخص اليوم (¬1). والمقصود من هذا الحديث: ثبوتُ أفضليةِ صومِ يومٍ وفطرِ يومٍ على بقية صيام التطوع المطلق، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (2/ 315).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: أَوْصَاني خَلِيلِي -صلى اللَّه عليه وسلم- بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ورَكْعَتَي الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ (¬1). * * * (عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: أوصاني) أوصى ووصَّى بمعنى (خليلي) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي تخلَّلَتْ محبتهُ قلبي، فصارت في خلاله؛ أي: باطنه. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1124)، كتاب: التطوع، باب: صلاة الضحى في الحضر، و (1180)، كتاب: الصوم، باب: صيام أيام البيض، ومسلم (721)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى، وأبو داود (1432)، كتاب: الصلاة، باب: في الوتر قبل النوم، والنسائي (1677 - 1678)، كتاب: قيام الليل، باب: الحث على الوتر قبل النوم، والترمذي (760)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "المفهم" للقرطبي (2/ 359)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 234)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 241)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 899)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 57، 4/ 227)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 242)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 409)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (3/ 73).

ولا يعارض هذا قولَه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنتُ مُتَّخذًا خليلًا غيرَ رَبِّي، لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ" (¬1)؛ لأن الممتنعَ أن يتخذ هو غيره تعالى خليلًا، لا أن غيره يتخذُه هو (¬2) (بثلاث) متعلق بـ "أوصى"، زاد في رواية: "لا أدعُهن" (¬3) -بضم العين-؛ أي: لا أتركهن حتى أموت (صيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كل شهر) بجرِّ "صيام" بدلًا من "ثلاث"، ولم يعين الأيام، بل أطلقها (¬4). وقد روى النسائي، وصحَّحه ابنُ حبان عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنهما-، قال: جاء أعرابي إلى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأرنب قد شواها، فأمرهم أن يأكلوا، وأمسك الأعرابي، فقال: "ما منعكَ أنْ تأكل؟ "، قال: إني أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، قال: "إن كُنْتَ صائمًا، فَصُمِ الغُرَّ" (¬5)؛ أي: البِيضَ. وفي لفظ عند النسائي: "إن كنْتَ صائمًا، فَصُم البِيضَ: ثلاثَ عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" (¬6). وفي لفظ غيره من حديث جرير بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "صيامُ ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهرٍ صيامُ الدَّهر، وأيام البيض: ثلاثَ عشرةَ، وأربعَ عشرةَ، وخمسَ عشرةَ"، وإسناده صحيح (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 57). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1124). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 410). (¬5) رواه النسائي (2421)، كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة في الخبر في صيام ثلاثة أيام من الشهر، وابن حبان في "صحيحه" (3650). (¬6) رواه النسائي (2427)، كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة في الخبر في صيام ثلاثة أيام من الشهر. (¬7) رواه النسائي (2420)، كتاب: الصيام، باب: يصوم ثلاثة أيام من كل شهر.

وفي رواية: "أيام البيض" -بغير واو- (¬1). ففي هذا الحديث: استحبابُ صيام ثلاثة أيام من كل شهر. وفي "مسلم" عن معاذة العدوية: أنها سألت عائشةَ -رضي اللَّه عنها- زوجَ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أكان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم (¬2). قال في "الفروع": يستحب صومُ ثلاثة أيام من كل شهر، وأيامُ البيض أفضلُ؛ وفاقًا للشافعي، نص على ذلك الإمام أحمد؛ للأخبار الصحيحة في ذلك، وأنه صومُ الدهر، وفي بعضها: كصوم الدهر (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره: مراده: أن من فعل هذا، حصل له أجرُ صيام الدهر بتضعيف الأجر من غير حصول المفسدة (¬4)، وهذا أولى مما قدمناه في شرح حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. والأيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة. قال في "الفروع": سميت بذلك؛ لبياض ليلها، وذكر أَبو الحسن التميمي (¬5): ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (2499)، وفي "المعجم الأوسط" (7550)، وفي "المعجم الصغير" (913). (¬2) رواه مسلم (1160)، كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 79). (¬4) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (22/ 303). (¬5) هو عبد العزيز بن الحارث بن أسد أَبو الحسن التميمي، حدث عن أبي بكر النيسابوري، ونفطويه، والمحاملي، وغيرهم، وصحب أبا القاسم الخرقي، وصنف كتاب: "البيان على من خالف القرآن، وما جاء فيه من صفات الرحمن، =

أن اللَّه تاب على آدم فيها، وبَيَّضَ صحيفتَه (¬1). وفي "الفتح": أن اليوم الكامل هو النهار بليلته، وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام؛ لأن ليلَها أبيضُ، ونهارها أبيض (¬2)، تُعُقِّبَ (¬3): بأن اليوم الكامل في اللغة: من طلوع الشمس إلى غروبها، وفي الشرع: من طلوع الفجر الصادق، وليس للَّيلة دخلٌ في حدِّ النهار (¬4). وعن مالك: يكره صومُ أيام البيض، قال: ما كان ببلدنا. ويروى عنه: أنه كان يصومها، وكتب إلى الرشيد يحضُّه على صومها (¬5). والذي في "الفروع": أنه كره صومها (¬6)، قال ابن رشد من المالكية: وإنما كرهها؛ لسرعة أخذ الناس بمذهبه، فيظن الجاهل وجوبَها، والمشهورُ من مذهبه استحبابُ صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وكراهةُ كونها البيضَ؛ لأنه كان يفرُّ من التحديد. واستحبَّ بعض العلماء صيام أيام السود: الثامن والعشرين، وتالييه. وخُصت البيضُ والسود بذلك، لـ[ـتـ]ـعميم البيض بالنور، والسود بالظلمة، فناسب صوم الأولى شكرًا، والثانية لطلب كشف الظلمة، ولأن ¬

_ = وقامت عليه أدلة البرهان"، توفى سنة (379 هـ). انظر: "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى الفراء (2/ 139). (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 79). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 226). (¬3) المتعقِّب لكلام الحافظ: هو العيني في "عمدة القاري" (11/ 95). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 409). (¬5) المرجع السابق، (3/ 411). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 79).

الشهر ضيفٌ قد أشرف على الرحيل، فناسب تزويدُه بذلك، ولأن الأمور بخواتيمها. والحاصل من ذلك كله أقوال: أحدها: استحبابُ ثلاثة أيام من الشهر غير معينة. الثاني: استحباب الثالث عشر وتالييه، وهو مذهب الشافعي؛ كأحمد، وأحد رأيي أبي حنيفة، وأصحابهم، وابن حبيب من المالكية. الثالث: استحباب ثلاثة أيام من أول الشهر. الرابع: السبت والأحد والاثنين من أول كل شهر، ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس من أول الشهر الذي يليه. الخامس: استحبابها من آخر الشهر. السادس: صوم يوم من أول كل عشرة. وثم أقوال أُخر أضربنا عنها (¬1). ومعتمد المذهب: استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر، والأفضل كونها الأيام البيض، واللَّه تعالى الموفق. (وركعتي الضحى) عطفٌ على السابق؛ أي: قال أَبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: وأوصاني خليلي -عليه الصلاة والسلام- بصلاة ركعتي الضحى. وفي لفظ: وصلاة الضحى في كل يوم؛ كما زاده الإمام أحمد (¬2). والركعتان أقلُّ صلاة الضحى، ويجزئان عن الصدقة التي تُصبح على مفاصل الإنسان في كل يوم، وهي ثلاث مئة وستون مفصلًا كما في حديث ¬

_ (¬1) انظر فيما قاله الشارح -رحمه اللَّه-: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 411). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 311). وعنده: "بركعتي الضحى كل يوم".

مسلم عن أبي ذر، قال فيه: "ويجزىء من ذلك ركعتا الضحى" (¬1). (وَأن أوتر)؛ أي: أوصاني بالوتر (قبل أن أنام)، وليست الوصيةُ خاصة بأبي هريرة؛ فقد وردت وصيته -صلى اللَّه عليه وسلم- بالثلاث أيضًا لأبي ذر؛ كما عند النسائي (¬2)، ولأبي الدرداء؛ كما عند مسلم (¬3)، وقد قيل في تخصيص الثلاثة بالثلاثة؛ لكونهم فقراء لا مال لهم، فوصاهم بما يليق بهم، وهو الصوم والصلاة، وهما من أشرف العبادات البدنية (¬4). وفي لفظ: "ونومٍ" أي: أوصاني بنومٍ "على وترٍ" (¬5)؛ ليتمرَّن على جنس الصلاة في الضحى؛ كالوتر قبل النوم في المواظبة؛ إذ الليلُ وقتُ الغفلةِ والكسل، فتطلبُ النفسُ فيه الراحة. وقد روي: أن أبا هريرة كان يختار درسَ الحديث بالليل على التهجُّد، فأمره بالضحى بدلًا من قيام الليل، ولهذا أمره -صلى اللَّه عليه وسلم- ألا ينام إلا على وتر، ولم يأمر ذلك أبا بكر، ولا عمر، ولا غيرهما من الصحابة، سوى من قدمنا ذكرَهما، وتقدم الكلام على الوتر. تنبيه: صلاة الضحى سنة، وأقلها ركعتان؛ اتفاقًا. ووقتُها من خروج وقت النهي إلى الزوال، والمراد: قبيل الزوال؛ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (720)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى. (¬2) رواه النسائي (2404)، كتاب: الصيام، باب: صيام ثلاثة أيام من الشهر. (¬3) رواه مسلم (722)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 411). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1124).

للنهي، والأفضلُ: إذا اشتد الحر، وأكثرُها ثمان؛ لأن أم هانىء روت: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى ثمان ركعات يومَ الفتح ضُحًى (¬1). واختار الإمام ابنُ القيم: أن الصلاة التي روتها أم هانىء صلاةٌ بسبب الفتح؛ شكرًا للَّه، وأن الأمراء كانوا يصلونها إذا فتح اللَّه عليهم (¬2). وقيل: أكثر صلاة الضحى اثنتا عشرة ركعة، جزم به سيدنا الشيخُ عبدُ القادر في "الغنية"، وقال: له فعلُها بعد الزوال، وقال: وإن أخرها حتى صلى الظهر، قضاها ندبًا. ونص الإمام أحمد: تُفعل غِبًّا. واستحبَّ الآجريُّ، وأبو الخطاب، وابن عقيل، وابن الجوزي، وصاحب "المحرر"، وغيرُهم المداومةَ، ونقله موسى بن هارون؛ وفاقًا للشافعي، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية لمن لم يقم في ليله (¬3)، وهو ظاهر حديث أبي هريرة. وفي الترمذي، والنسائي، وابن خزيمة عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أوصاني خليلي بثلاثٍ لَسْتُ بتاركِهِنَّ: أَلَّا أنام إلا على وتر، وأَلَّا أدع ركعتي الضحى؛ فإنها صلاة الأوابين، وصيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كل شهر (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1052)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات وقبلها، ومسلم (336)، كتاب: الحيض، باب: تستر المغتسل بثوب ونحوه. (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 354). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 506). (¬4) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1223)، واللفظ له، وتقدم تخريجه عند النسائي والترمذي.

وفي ابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا: "من حافظَ على شُفْعَةِ الضُّحى، غُفِرَتْ ذنوبُهُ وإنْ كانَتْ مثلَ زَبَدِ البحرِ"، ورواه الترمذي (¬1). وفي ابن ماجه، والترمذي، وقال: غريب، عن أنس مرفوعًا: "مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَة ركعة، بَنَى اللَّه له قَصْرًا في الجنةِ من ذَهَبٍ" (¬2). وعن عُقبةَ بن عامرٍ الجهنيِّ -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنَّ اللَّه -عز وجل- يقول: يا بنَ آدم! اكْفني أولَ النَّهارِ بأربعِ رَكَعاتٍ، أَكْفِكَ بِهِنَّ آخِرَ يَوْمِكَ" رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى (¬3)، ورجال أحدهما رجال الصحيح (¬4). وعن أبي أمامة -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من خرجَ من بيته مُتَطَهِّرًا إلى صلاةٍ مكتوبةٍ، فأَجْرُهُ كأَجْرِ الحاجِّ المُحْرِمِ، ومن خرجَ إلى تسبيحِ الضُّحى، لا ينصبُهُ إلا إياه، فأجرُهُ كأجرِ المعتمِرِ، وصلاةٌ على إثرِ صلاةٍ لا لغوَ بينهما كتابٌ في عِلِّيين" رواه أَبو داود (¬5). وعن أبي الدرادء -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صَلَّى الضُّحى ركعتين، لم يُكْتب من الغافلين، ومن صلَّى أربعًا، كُتِبَ من العابدين، ومن صَلَّى سِتًا، كُفِيَ ذلكَ اليومَ، ومَنْ صَلَّى ثمانيًا، كتبه اللَّهُ من ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (476)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى، وابن ماجة (1382)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى. (¬2) رواه الترمذي (473)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى، وابن ماجه (1380)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 153)، وأبو يعلى في "مسنده" (1757). (¬4) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 265). (¬5) رواه أَبو داود (558)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة.

القانتين، ومن صلى ثِنْتَيْ عَشْرَة ركعةً، بنى اللَّهُ له بيتًا في الجنة" الحديث رواه الطبراني في "الكبير"، ورواتُه ثِقات، إلا أن من رواته موسى بن يعقوب الزمعي، فيه خلاف (¬1)، واللَّه الموفق. * * * ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" كما نسبه المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 266)، وعنه نقل الشارح -رحمه اللَّه-، والهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 237).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَهَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَة؟ قَالَ: نَعَمْ. زاد مسلم: وَرَبِّ الكَعْبةِ (¬1)!. * * * (عن محمد بنِ عَبّاد) -بفتح العين المهملة وتشديد الموحدة- (بنِ جعفرٍ) المخزوميِّ القرشيِّ المكيِّ التابعيِّ، في الطبقة الثانية، ثقة، سمع أبا ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1883)، كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، ومسلم (1143)، كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، إلا أنه قال: "نعم، ورب هذا البيت! "، قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 233): وعزاها -أي: زيادة مسلم- صاحب "العمدة" لمسلم، فوهم. ورواه أيضًا: ابن ماجه (1724)، كتاب: الصيام، باب: في صيام يوم الجمعة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 97)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 18)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 242)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 900)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 232)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 103)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 414)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 336).

هريرة، وجابرًا، وابن عمر، وابن عباس (-رضي اللَّه عنهم-)، سمع منه ابن جريج، وعمرو بن عبد المجيد بن جبير، وزياد بن إسماعيل، روى له الجماعة. قال ابن سعد: ثقة، قليل الحديث (¬1). (قال: سألتُ جابرَ بنَ عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-: أَنَهى) -بهمزة الاستفهام-، وفي لفظ: -بتركها-، وحينئذ تكون مقدرة (¬2) (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صوم يوم الجمعة؟ قال)؛ أي: جابر -رضي اللَّه عنه-: (نعم)؛ أي: نهى عن ذلك. قال الحافظ -رحمه اللَّه تعالى-: (زاد مسلم) على البخاري: (ورَبِّ الكعبة!)، وهذه الزيادة بهذا اللفظ للنسائي (¬3)، وأما زيادة مسلم: "وربِّ هذا البيت! "، فإما أن يكون قد وهم، أو نقله بالمعنى (¬4). قال البخاري في "صحيحه" (¬5): زاد غيرُ أبي عاصم النبيل من الشيوخ، وهو يحيى بن سعيد القطان فيما جزم به البيهقي (¬6): "أن ينفرد"؛ أي: يوم ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 475)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 175)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 13)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 356)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 101)، و"تهذيب الكمال" للمزي (25/ 433)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 216). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 414). (¬3) في "السنن الكبرى" (2747). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 414). (¬5) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 700). (¬6) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 301).

الجمعة بصوم، وفي لفظ: يعني: أن ينفرد بصومه (¬1). والحكمة في كراهة إفراد الجمعة بالصوم خوف أن يضعف المرء إذا صامه عن الوظائف المطلوبة منه فيه، ومن ثم خصصه البيهقي والماوردي وابن الصائغ والعمراني نقلًا عن مذهب الشافعي بمن يضعُفُ به عن الوظائف (¬2). وظاهر كلام علمائنا: أن علة الكراهة: تخصيصُ الجمعة بالتعظيم من بين الأيام (¬3)، ولئلا يتشبه باليهود في إفرادهم صومَ يومِ الاجتماع في معبدهم (¬4)، ويرشد إلى الأول ما رواه مسلم، والنسائي عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "لا تَخُصُّوا ليلةَ الجمعةِ بقيامٍ من بينِ الليالي، ولا تَخُصُّوا يومَ الجمعةِ بصيامٍ من بين الأيام، إلا أن يكونَ في صومٍ يصومُه أحدُكم" (¬5). وفي "صحيح ابن خزيمة" عنه مرفوعًا: "إن يومَ الجمعة يومُ عيد، فلا تجعلوا يومَ عيدِكم يومَ صيامِكم، إلا أن تصوموا قبلَه أو بعدَه" (¬6). وعن أم المؤمنين جُويرية بنتِ الحارث -رضي اللَّه عنها-: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 233). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 414). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 91). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 414). (¬5) رواه مسلم (1144/ 148)، كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، والنسائي في "السنن الكبرى" (2751). (¬6) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2161)، وكذا الإمام أحمد في "المسند" (2/ 303).

دخلَ عليها يومَ الجمعة وهي صائمةٌ، فقالَ: "أَصُمْتِ أَمْسِ؟ "، قالت: لا، قال: "أَتُريدينَ أَن تصومي غدًا؟ "، قالت: لا، قال: "فأفطري" رواه البخاري، وأبو داود (¬1). وعن ابن سيرين، قال: كان أَبو الدرداء يُحيي ليلةَ الجمعة، ويصومُ يومَها، فأتاه سلمانُ، وكان النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- آخى بينهما، ونام عنده، فأراد أَبو الدرداء أن يقوم ليلته، فقام إليه سلمان، فلم يدعه حتى نام، وأفطر، فجاء أَبو الدرداء إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخبره، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عُوَيْمِرُ! سَلْمانُ أعلمُ منكَ، لا تخصَّ ليلةَ الجمعةِ بصلاةٍ، ولا يومَها بصيام" رواه الطبراني في "الكبير" بإسناد جيد (¬2). قال علماؤنا: يكره أن يتعمد إفراد يوم الجمعة بصوم، نص عليه الإمام أحمد في رواية الأثرم، قال: قيل لأبي عبد اللَّه: صيام يوم الجمعة؟ فذكر حديثَ النهي أن يُفرد، ثم قال: "إلا أن يكون في صيامٍ كانَ يصومُه". وقال أَبو حنيفة، ومالك: لا يكره إفرادُ يوم الجمعة بالصوم؛ لأنه يوم، فأشبه سائرَ الأيام. والأحاديث المارة وغيرُها صريحة في النهي، فلا أقلَّ من الكراهة. قال الداودي المالكي: لم يبلغِ الإمامَ مالكًا الحديثُ؛ يعني: الذي نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه عن إفراد يوم الجمعة بالصوم (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1885)، كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، وأبو داود (2422)، كتاب: الصوم، باب: الرخصة في ذلك. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (6056). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 91).

قال في "شرح مسلم": فيه النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة، وهو متفق على كراهته، انتهى (¬1). قال في "الفروع": ويحمل ما روي من صومه، والترغيب فيه، على صومه مع غيره، فلا تعارضَ (¬2). قلت: كأنه يشير إلى حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ صامَ يومَ الجمعةِ، كتبَ اللَّه له عشرة أيام عددهن من أيام أخر، لا تشاكِلُهن أيامُ الدنيا" رواه البيهقي عن رجل من جُشم، عن أبي هريرة، وعن رجل من أشجع، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- (¬3)، ولم يسم الرجلين، وهذا الحديث -على تقدير وجوده- محمولٌ على ما إذا صام يومَ الخميس قبلَه، أو عزمَ على صومِ السبتِ بعده. تتمة: يُكره إفرادُ يوم السبت بالصوم عندَ علمائنا؛ خلافًا لمالك؛ لحديث عبد اللَّه بن بُسر، عن أخته، واسمها الصماء، مرفوعًا: "لا تَصوموا يومَ السبتِ إلا فيما افترضَ عليكم" رواه الإمام أحمد بإسناد جيد، وأبو داود، والترمذي، وحسنه، والنسائي، وقال: هذه أحاديث منسوخة، وقال أَبو داود: هذا حديث منسوخ، وقال مالك: هذا كذب. وقال الحاكم: هو صحيح على شرط البخاري (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 20). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 92). (¬3) رواهما البيهقي في "شعب الإيمان" (3862 - 3863). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 189)، وأبو داود (2421)، كتاب: الصوم، باب: النهي أن يخص يوم السبت بصوم، والنسائي في "السنن الكبرى" =

قال في "شرح مسلم": صححه الأئمة (¬1). قال في "الفروع": ولأنه يومٌ تعظمه اليهود، ففي إفراده تشبهٌ بهم. قال الأثرم: قال أَبو عبد اللَّه: قد جاء فيه حديثُ الصماء، وكان يحيى بن سعيد يَتَّقيه، وأبى أن يحدثني به. وذكر الإمام أحمد حديثَ أم سلمة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصوم السبتَ والأحدَ، ويقول: "هما عيدانِ للمشركين، فأنا أُحِبُّ أَنْ أُخالفَهم" رواه الإمام أحمد، والنسائي، وصححه جماعة، وإسناده جيد (¬2). واختار شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه لا يكره، وأنه قول أكثر العلماء، وأنه الذي فهمه الأثرم من روايته، وأنه لو أُريد إفراده، لما دخل الصوم المفروض ليستثنى، فالحديث شاذ، أو منسوخ؛ فإن هذه طريقة قدماء أصحاب الإمام أحمد الذين صحبوه؛ كالأثرم، وأبي داود، وقال: وإن أكثر أصحاب الإمام أحمد الأخذ بالحديث، ولم يذكر الآجري غيرَ صوم يوم الجمعة، فظاهره: لا يكره غيره، انتهى (¬3). ¬

_ = (2759)، والترمذي (744)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم السبت، وابن ماجه (1726)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في صيام يوم السبت، والحاكم في "المستدرك" (1592). (¬1) لم أقف عليه في "شرح مسلم"، وقد ذكره النووي في "المجموع شرح المهذب" (6/ 451)، وعنه نقل ابن مفلح في "الفروع"، فقال: قال صاحب "شرح مسلم"، وعن "الفروع" نقل الشارح -رحمه اللَّه-، فلعله ظن أن كلام النووي في "شرح مسلم"، والعصمة للَّه وحده. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 323)، والنسائي في "السنن الكبرى" (2775). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 92).

فائدة: لو جمع بين الجمعة والسبت في الصوم، زالت الكراهة، ويلغز بذلك، فيقال: أيُّ موضع إذا ضممتَ به بين مكروهين، زالت الكراهة؟ فيقال: هنا؛ فإنَّ إفرادَ كلِّ واحد من يوم الجمعة والسبت مكروه، فبضمهما زالت الكراهة، ولكنه لم يبق إفراد، واللَّه أعلم. تنبيه: قال علماؤنا: وكذا يُكره إفرادُ يوم النيروز، والمهرجان، وهما عيدان للكفار، وكذا لكل عيد لهم، أو يوم يُفردونه بتعظيم، إلا أن يوافقَ عادةً له؛ لما في صيامه من موافقة الكفار في تعظيمه. واختار صاحب "المحرر" عدمَ الكراهة؛ لأنهم لم يعظموه بالصوم، ولحديث أم سلمة، وهو مذهب الثلاثة، واللَّه أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 93).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كَشْفُ اللِّثَامِ شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1428 هـ - 2007 م رَقم الْإِيدَاع بمَكتَب الشؤون الفَنيَّة 22/ 2007 م قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة الكويت - الرقعي - شَارِع مُحَمَّد بني الْقَاسِم بدالة: 4892785 - داخلي: (404) فاكس: 5378447 موقعنا على الإنترنت www.islam.gov.kw قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة قَامَت بعمليات التنضيد الضوئي والتصحيح العلمي والإخراج الفني والطباعة دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) - فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ" (¬1). (عن أبي هريرة) عبدِ الرحمنِ بن صخرٍ (-رضي اللَّه عنه-، قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: لا يصومَنَّ) نهيٌ مؤكَّد بالنون الثقيلة. وفي "الفتح" للحافظ ابن حجر ما نصه: للأكثر -يعني: من الرواة-: "لا يصومُ" بلفظ النفي، والمراد به: النهيُ. وللكشميهني بلفظ النهي المؤكد (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1884)، كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة، ومسلم (1144/ 147)، كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفردًا، وأبو داود (2420)، كتاب: الصوم، باب: النهي أن يخص يوم الجمعة بصوم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 97)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 200)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 18)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 243)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 904)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 233)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 105)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 414). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 233).

(أحدُكم) معشرَ الأمة (يومَ الجمعة، إلا أن يصومَ يومًا قبلَه)، وهو يوم الخميس، (أو) يصومَ (يومًا بعده)، وهو يوم السبت. وعند ابن أبي شيبة بإسنادٍ حَسنٍ، عن عليٍّ -رضي اللَّه عنه-: "من كان منكم متطوعًا من الشهر، فليصم يومَ الخميس، ولا يصم يوم الجمعة؛ فإنه يومُ طعامٍ وشرابٍ وذكرٍ" (¬1). وعند ابن حزم (¬2): يحرم صيامُ يومِ الجمعة، إلا لمن صام قبلَه، أو بعدَه، أو وافقَ عادتَه؛ لظواهر الأحاديث (¬3). * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (9243)، وكذا عبد الرزاق في "المصنف" (7813). (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 21). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 414).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابنِ أَزْهَرَ، واسمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخطَّاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ صِيَامِهِمَا؛ يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، واليَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1889)، كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الفطر، و (5251)، كتاب: الأضاحي، باب: ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يُتزود منها، ومسلم (1137)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، وأبو داود (2416)، كتاب: الصوم، باب: في صوم العيدين، وابن ماجه (1722)، كتاب: الصيام، باب: في النهي عن صيام يوم الفطر والأضحى. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 127)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 380)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 92)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 198)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 15)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 244)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 905)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 187)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 239)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 110)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 416).

(عن أبي عُبيد مَوْلَى بنِ أزهرَ)، واسم ابن أزهر: عبد الرحمن بن الأزهر، ويقال: ابن أزهر عوفُ بنُ عبدِ عوفِ بنِ الحارثِ بنِ زُهرةَ -بضم الزاي- القرشيِّ الزهريِّ المدنيِّ، وهو ابنُ أختِ عبد الرحمن بنِ عوف، قال ابن عبد البر وغيره: وقد غلط فيه من جعلَه ابنَ عمه. مات قبلَ وقعة الحَرَّةِ، وكانت الوقعةُ سنةَ ثلاث وستين. ولم يخرج له أحدٌ من أصحاب الكتب الستة غير أبي داود. (واسمه) في "غريب أبي عبيد" (سعدُ بنُ عبيد)، ويقال: إنه مولى عبد الرحمن بن عوف. روى عن عمر، وعلي، وعنه: الزهريُّ، وسعدُ بن خالد، روى له الجماعة (¬1). (قال) أَبو عُبيد مولى ابنِ أزهر: (شهدتُ العيدَ) زاد يونسُ، عن الزهري في روايته في الأضاحي: يومَ الأضحى (¬2) (مع عمرَ بنِ الخطاب) أميرِ المؤمنين (-رضي اللَّه عنه-، فقال) عمر -رضي اللَّه عنه-: (هذان يومانِ نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صيامِهِما)، أحدُهما (يومُ فطرِكم من صيامكم)؛ يعني: من فراغ رمضان، وهو أول يوم من شوال، (واليوم الآخَرُ) -بفتح الخاء المعجمة- (تأكلون فيه) خبرٌ لليوم (من نُسُكِكُم) -بضم السين المهملة، ويجوز سكونها-، أو أضحيتكم. قال الحافظ: ابنُ حجر في "الفتح": وفائدةُ وصف اليومين الإشارةُ إلى ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 60)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 90)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 295)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 288)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 414). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5251).

العلَّة في وجوب فطرهما، وهي الفصل من الصوم، وإظهار تمامه وحده بفطر ما بعده، والآخر لأجل النُّسُك المتقرَّبِ بذبحه؛ ليؤكل منه، ولو شُرع صومه، لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى، فعبر عن علة التحريم بالأكل من النسك؛ لأنه يستلزم النحرَ (¬1). وقوله: هذان، فيه التغليبُ، وذلك الحاضر يشار إليه بهذا، والغائب بذاك، فلما أن جمعهما اللفظ، قال: هذان؛ تغليبًا للحاضر على الغائب (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 239). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ: الفِطْرِ والنَّحْرِ، وعن الصَّمَّاءِ، وأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وعَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ والعَصْرِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِهِ (¬1)، وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ الصَّوْمَ فَقَطْ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (827/ 140 - 141)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، مقتصرًا على ذكر النهي عن صيام يوم الفطر والأضحى فقط. قلت: ولم أر التنبيه على قول المصنف: "أخرجه مسلم بتمامه"، مع اقتصار مسلم على ذكر الصوم فقط، عند الشارح -رحمه اللَّه-، أو عند غيره من شراح "العمدة". نعم، نبه الزركشي في "النكت" (ص: 188) على قول المصنف: "وأخرج البخاري الصوم فقط"، وترك التنبيه على رواية مسلم. (¬2) رواه البخاري (1890)، كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الفطر، بتمامه. قلت: واستغرب الزركشي في "النكت" (ص: 188) قول المصنف -رحمه اللَّه-: "أخرجه مسلم بتمامه، وأخرج البخاري الصوم فقط"، فقال: قد أخرجه البخاري بتمامه في هذا الباب من "صحيحه"، وترجم عليه: "باب: صوم يوم الفطر"، ثم قال عقيبه: "باب الصوم يوم النحر" وذكره أيضًا، لكن بدون "الصماء" و"الاحتباء"، وكأن المصنف لم ينظر هذا، وإنما نظر في باب ستر العورة، فإنه ذكر طرقًا منه دون الصوم والصلاة، انتهى. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قلت: إلا أنه يستدرك على استدراك الزركشي -رحمه اللَّه- قوله الأخير: "وإنما نظر -يعني: المصنف- في باب ستر العورة، فإنه ذكر طرفًا منه دون الصوم والصلاة". قلت: هو كذلك، إلا أنه لا يأتي مع قول المصنف -رحمه اللَّه-: "وأخرج البخاري الصوم فقط"؛ لأن الزركشي قصد الرواية التي فيها ذكر اشتمال الصماء والاحتباء دون الصوم والصلاة، والمصنف -رحمه اللَّه- قصد الرواية التي فيهما الصوم فقط. قلت: والذي يظهر لي: أن عبارة المصنف -رحمه اللَّه- فيها قلب واضح؛ كأنه أراد أن يقول: أخرجه البخاري بتمامه، وأخرج مسلم الصوم فقط، فلعل ذلك كان سبق قلم، أو سهوًا منه -رحمه اللَّه-، والعصمة للَّه وحده. والحديث رواه البخاري أيضًا (360)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: ما يستر من العورة، و (5484)، كتاب: اللباس، باب: الاحتباء في ثوب واحد، و (5927)، كتاب: الاستئذان، باب: الجلوس كيفما تيسر، وأبو داود (2417)، كتاب: الصوم، باب: في صوم العيدين، والنسائي (5340)؛ كتاب: الزينة، باب: النهي عن اشتمال الصماء، والترمذي (1758)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في النهي عن اشتمال الصماء والاحتباء في الثوب الواحد، وابن ماجه (3559)، كتاب: اللباس، باب: ما نهي عنه من اللباس. قلت: ورواية البخاري التي ذكرها المصنف -رحمه اللَّه- هي أتم الروايات من بين أصحاب الكتب الستة، وكذا رواية أبي داود. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 261)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 199)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 244)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 908)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 180)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 188)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 477، 4/ 240)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 75)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 417).

(عن أبي سعيد الخدريِّ -رضي اللَّه عنه-، قال: نهى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) نهيَ تحريم (عن صوم يومينِ: الفطرِ و) يومِ (النحرِ). قال في "الفروع": يحرم صوم يومَي العيدين إجماعًا؛ للنهي المتفق عليه، ولا يصح فرضًا؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي، ولا نفلًا؛ وفاقًا لمالك، والشافعي. وقيل: يصح فرضًا، نقله مهنا في قضاء رمضان؛ لأنه إنما نهى عنه؛ لأن الناس أضيافُ اللَّه، وقد دعاهم، فالصومُ تركُ إجابة الداعي، ومثل هذا لا يمنع الصحة، ولم يصح النفل؛ لأن الغرض به الثواب، فنافته المعصية. ومذهب أبي حنيفة وصاحبيه: لا يصح صومُ العيدين عن واجب في الذمة، ويصحُّ عن نذره المعين، والتطوع به، مع التحريم، ولا يلزم بالشروع، ولا يقضي عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف: يلزم، ويقضي، وعند محمد: كقولهما. وذكر عندنا في "الواضح" رواية: أنه يصح عن نذره المعين. وجهُ انعقادهِ: أن النهيَ لا يرجع إلى ذات المنهي عنه. ووجهُ عدمِ الانعقاد: النهيُ المقتضي الفساد. وفي "مسلم" من حديث أبي سعيد: لا يصلح الصيام في يومين (¬1)، "والبخاري": لا صوم في يومين (¬2). والنهيُ دليلُ التصور حِسًّا؛ كما في عقود الربا، ونكاح المحارم، وهو متحقق هنا؛ فإنَّ من أمسكَ فيه مع النية عامدًا إجماعًا، وبأنه لو نذر صوم يوم عيد بعينه، فقضاه في يوم عيدٍ آخر، لم يصح، ولا نُسلِّم أن النهي لم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (827/ 140). (¬2) رواه البخاري (1139)، كتاب: التطوع، باب: مسجد بيت المقدس.

يرجع إلى عين المنهي عنه؛ لأن النص إضافة إلى صوم هذا اليوم كإضافته النهي إلى الصلاة من حائض ومحدِثٍ (¬1). قال الإمام النووي: أجمع العلماء على تحريم صوم هذين اليومين بكل حال، سواء صامهما عن نذر، أو تطوع، أو كفارة، أو غير ذلك، ولو نذر صومهما متعمدًا لعينهما؛ فعند الشافعي والجمهور: لا ينعقد نذرُه، ولا يلزمه قضاؤهما. وقال أَبو حنيفة: ينعقد، ويلزمه قضاؤهما، قال: وإن صامهما، أجزأه، وخالف الناسَ كلَّهم في ذلك، انتهى (¬2). قلت: دعوى مخالفته للناس كلِّهم مجردة، وهي غير ناهضة، فمعتمد مذهبنا: أن من نذر صوم يوم العيد ونحوه، لا يجوز الوفاء به، ويقضي الصوم، ويُكَفِّر، فإن وفى به، أثم، ولا كفارة. قال في "الفروع": وإن نذر صومَ يوم عيد، قضاه؛ وفاقًا لأبي حنيفة، نصره القاضي وأصحابه، وعنه: لا؛ وفاقًا لمالك، والشافعي، وعليهما: يكفِّر، على الأصح من المذهب؛ خلافًا للثلاثة. قال ابن شهاب: ينعقد، ولا يصومه، ويقضي، وصح منه القربة، ولغا منه تعيينه؛ لكونه معصية، واللَّه أعلم (¬3). (و) نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (عن الصَّمَّاءِ) -بفتح الصاد المهملة وتشديد الميم والمد-، قال الفقهاء: أن يَشتمل بثوب واحد ليس عليه غيرُه، ثم يرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبـ[ـيـ]ـه، فالنهي عنه لكونه يؤدِّي ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 94 - 95). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 15). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 360).

إلى انكشاف العورة، قاله غير واحد من أهل اللغة. وقال الأصمعي: هو أن يشتمل بالثوب الواحد يسترُ به جميعَ جسده؛ بحيث لا يتركُ فرجةً يُخرج منها يده، وهذا مطابق للفظ الصماء (¬1). وحكمة النهي لأحد وجهين: أحدهما: أنه إذا تخلل به، لا يتمكن من الاحتراز والاحتراس إن أصابه شيء، أو نابه مؤذٍ، ولا يمكنه أن يتقيه بيديه؛ لإدخاله إياهما تحت الثوب الذي اشتمل به. أو: أنه يخاف منه أن يدفع إلى حالة سادَّة لمتنفسه، فيهلك فيها حتمًا إذا لم يكن فيه فرجة (¬2). (و) نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (أن يحتبيَ الرجلُ في ثوبٍ واحد). زاد الإسماعيلي: لا يواري فرجَه بشيء. قال في "الفتح": الاحتباء: أن يقعد على أليتيه، وينصب ساقيه، ويلفَّ عليه ثوبًا، ويقال له: الحبوة، وكانت من شأن العرب (¬3). قال في "الفروع": "ولما نهى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصمَّاء، لم يقيده بالصلاة، وقرنه بالاحتباء، فظاهر ذلك لا يختص بالصلاة، قال: ويجوز ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 246). وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 46)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 54)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 477)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 417). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 246). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 477)

الاحتباء، وعن الإمام أحمد: يكره، وعنه: المنع، ويحرم مع كشف عورته، انتهى (¬1). (و) نهى -صلى اللَّه عليه وسلم- (عن الصلاة بعد الصبح)، (و) بعدَ (العصر)، وتقدم الكلام على هذه الأحكام في محالها من الصلاة. (أخرجه) أي: حديثَ أبي سعيد هذا- الإمامُ (مسلم) بنُ الحجاج في "صحيحه" (بتمامه) على هذا النسق، (وأخرج) الإمام محمد بن إسماعيل (البخاريُّ) في "صحيحه" منه (الصوم فقط) من غير ذكر الصماء والاحتباء وما بعدهما (¬2)، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 300 - 301). (¬2) قلت: قد ذهل الشارح -رحمه اللَّه- عن تخريج المصنف -رحمه اللَّه-، وقد بيَّنا في صدر الحديث سهو المصنف، أو سبق قلمه فيما قاله، فانظره في موضعه.

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا" (¬1). * * * (عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2685)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الصوم في سبيل اللَّه، ومسلم (1153)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام في سبيل اللَّه لمن يطيقه بلا ضرر، ولا تفويت حق، والنسائي (2245، 2247 - 2250)، كتاب: الصيام، باب: ثواب من صام يومًا في سبيل اللَّه -عز وجل-، و (2251 - 2253)، باب: ذكر الاختلاف على سفيان الثوري فيه، والترمذي (1623)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الصوم في سبيل اللَّه، وابن ماجه (1717)، كتاب: الصيام، باب: في صيام يوم في سبيل اللَّه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 123)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 115)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 217)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 33)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 247)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 910)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 48)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 134)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 64)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 345).

من صام يومًا) من الأيام؛ من صيف أو شتاء (في سبيل اللَّه)، وفي لفظ: "ما مِنْ عبدٍ يصوم يومًا في سبيل اللَّه" (¬1). قال: النووي: فيه فضيلة الصيام في سبيل اللَّه، وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوِّتُ به حقًا، ولا يختل به قتاله، ولا غيرُه من مهمات غزوه (¬2)، فحمل قوله: "في سبيل اللَّه" على حالة الغزو. قال ابن دقيق العيد: الأكثرُ فيه استعمالُه في الجهاد، فإذا حُمل عليه، كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين؛ أعني: عبادة الصوم، والجهاد، ويحتمل أن يراد بسبيل اللَّه: طاعة اللَّه كيف كانت، ويعبر بذلك عن صحة القصد والنية فيه، قال: والأولُ أقربُ إلى العرف، وقد ورد في بعض الأحاديث جعل الحج أو سفره في سبيل اللَّه؛ يعني: في طاعة اللَّه، فهو استعمال وضعي (¬3). قلت: الذي يظهر -واللَّه أعلم-: أن المراد بقوله: "في سبيل اللَّه" يعني: في طاعة اللَّه ابتغاءً لوجهه. وفي حديث حذيفة -رضي اللَّه عنه-، قال: أسندت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى صدري، فقال: "من قالَ: لا إلهَ إلا اللَّهُ، خُتم له بها، دخلَ الجنةَ، ومن صام يومًا ابتغاءَ وجهِ اللَّه، ختم له به، دخلَ الجنةَ، ومن تصدَّقَ بصدقةٍ ابتغاءَ وجهِ اللَّه، خُتِم له بها، دخلَ الجنةَ" رواه الإمام أحمد بإسناد لا بأس به (¬4)، ورواه الأصبهاني، ولفظه: "يا حذيفة! من خُتم له بصيامِ يومٍ يريد به ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 33). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 247). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 391).

وجهَ اللَّه -عز وجل-، أدخله اللَّه الجنة" (¬1). وقوله: (بَعَّدَ اللَّهُ وجهَه) يريد: ذاته، وإنما خص الوجه؛ لكونه أشرفَ الأعضاء، ولاشتماله على السمع والبصر والشم والذوق، ويريد بالمباعدة من النار: المعافاة منها (¬2)، وفي اللفظ الآخر: "إلا بعَّدَ اللَّهُ بذلك اليوم وجهه" (¬3) (عن النار) المعهودة، وهي نار جهنم (سبعين خريفًا) الخريفُ: السنة، يريد: سبعين سنة (¬4)، وإنما عبر بالخريف عن السنة؛ لأن السنة ليس فيها إلا خريف واحد، فإذا مرّ الخريف، فقد مضت السنة كلُّها، ومثله لو عبر بفصل آخر غير الخريف -من الشتاء والربيع والصيف- عن العام، كان سائغًا لهذا المعنى؛ إذ ليس في السنة إلا ربيع واحد، وصيف واحد. قال بعضهم: ولكن الخريف أولى بذلك؛ لأنه الفصلُ الذي تحصل به نهايةُ ما بدأ في سائر الفصول، لأن الأزهار تبدو في الربيع، والثمار تتشكل صورها في الصيف، وفيه يبدو نضجُها، ووقتُ الانتفاع بها أكلًا وتحصيلًا وادخارًا في الخريف، وهو المقصود منها، فكان فصلُ الخريف أولى بهذا الاعتبار أن يعبر به عن السنة من غيره من سائر الفصول (¬5). وفي "أوسط الطبراني"، و"الصغير" بإسناد حسن (¬6)، من حديث أبي الدرداء -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صام يومًا في ¬

_ (¬1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 51). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 33). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم، إلا أنه قال فيه: "باعد"، والنسائي برقم (2248). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 33). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 247). (¬6) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 52).

سبيل اللَّه، جعلَ اللَّهُ بينه وبينَ النار خَنْدَقًا كما بينَ السماءِ والأرضِ" (¬1). وفي "الكبير"، و"الأوسط" بإسناد لا بأس به، عن عمرو بن عَبَسَةَ -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "من صام يومًا في سبيل اللَّه، جعل بينه وبين النار مسيرة مئة عام" (¬2). وفي حديث معاذ بن أنس -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "من صامَ يومًا في سبيل اللَّه في غير رمضان، بُعِّدَ من النار مئة عام بسيرِ الجوادِ المُضَمَّرِ" رواه أَبو يعلى (¬3). وروى النسائي بإسناد حسن، والترمذي من رواية ابن لهيعة، وابن ماجه من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "من صام يومًا في سبيل اللَّه، زحزحَ اللَّهُ وجهَه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفًا" (¬4). قال الحافظ المنذري: ذهب طوائفُ من العلماء إلى أن هذه الأحاديث جاءت في فضل الصوم في الجهاد، وبوَّبَ على هذا الترمذي (¬5) وغيره، ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (3574)، وفي "المعجم الصغير" (449). وقد رواه الترمذي (1624)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الصوم في سبيل اللَّه، من حديث أبي أمامة -رضي اللَّه عنه-، وقال: حديث غريب. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (3249). (¬3) رواه أَبو يعلى في "مسنده" (1486). (¬4) رواه النسائي (2244)، كتاب: الصيام، باب: ثواب من صام يومًا في سبيل اللَّه، والترمذي (1622)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الصوم في سبيل اللَّه، وقال: غريب، وابن ماجة (1718)، كتاب: الصيام، باب: في صيام يوم في سبيل اللَّه. (¬5) انظر: "سنن الترمذي" (4/ 166).

وذهبت طائفة إلى أن كلَّ الصوم في سبيل اللَّه إذا كان خالصًا لوجه اللَّه تعالى (¬1). تتمة في ذكرِ بعضِ فضائل الصيام غير ما تقدم: روى البخاري، ومسلم، وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قال اللَّه -عزَّ وجلَّ-: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ لَهُ، الحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سبع مئة ضعفٍ، قال اللَّه -عز وجل-: إلا الصيامَ، فإنه لي، وأنا أجزي به، إنه تركَ شهوتَه وطعامَه وشرابهَ من أجلي، للصائم فرحتان: فرحةٌ عندَ فطرِه، وفرحةٌ عندَ لقاءِ ربه، ولخلوف فمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللَّه من ريح المسكِ" (¬2). وفي رواية: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له، إلا الصيامَ، فإنه لي" (¬3). وفي رواية البخاري: "لكلِّ عملٍ كفارة، والصومُ لي، وأنا أجزي به" (¬4). وخرجه به الإمام أحمد من هذا الوجه، ولفظه: "كلُّ عملِ ابنِ آدم كفارة، إلا الصوم، والصومُ لي، وأنا أجزي به" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 53). (¬2) رواه البخاري (1805)، كتاب: الصوم: باب: هل يقول: إني صائم إذا شتم؟، ومسلم (1151/ 164)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام. (¬3) تقدم تخريحه في الحديث السابق من رواية البخاري، ورواه مسلم برقم (1151/ 163). (¬4) رواه البخاري (7100)، كتاب: التوحيد، باب: ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وروايته عن ربه. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 467)، وفي الأصل المخطوط: "بكفارة"، بدل "كفارة"، والصواب ما أثبت.

فعلى الرواية الأولى يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال كلها تُضاعف بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، إلا الصيام، فإنه لا ينحصر تضعيفُه في هذا العدد، بل يضاعفه اللَّه أضعافًا كثيرة بغير حصر عددٍ؛ فإن الصيام من الصبر، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، ولهذا ورد عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه سمى شهرَ رمضانَ: شهرَ الصبر (¬1)، وفي رواية عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الصومُ نصفُ الصبر" خرجه الترمذي (¬2). والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة اللَّه، وصبرٌ عن محارم اللَّه، وصبرٌ على أقدار اللَّه المؤلمة، وتجتمع الثلاثة كلها في الصوم؛ فإن فيه صبرًا على طاعة اللَّه، وصبرًا عما حرم اللَّه على الصائم من الشهوات، وصبرًا على ما يحصل للصائم [فيه] من ألم الجوع والعطش، وضعفِ النفس والبدن (¬3). قال الحافظ ابن رجب في كتابه "لطائف المعارف": ومن أحسن ما قيل على الرواية الثالثة (¬4)؛ من كون الاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال: ما قاله سفيان بن عيينة -رحمه اللَّه تعالى-؛ حيث قال: إن هذا من أجود الأحاديث وأحكمها، فإذا كان يومُ القيامة، يحاسبُ اللَّه عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصومُ، فيتحمل اللَّه - ¬

_ (¬1) رواه أَبو داود (2428)، كتاب: الصوم، باب: في صوم أشهر الحرم، وابن ماجه (1741)، كتاب: الصيام، باب: صيام أشهر الحرم، من حديث مجيبة الباهلية، عن أبيها أو عمها. (¬2) تقدم تخريجه في أول كتاب الصيام. (¬3) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 283 - 284). (¬4) أي: رواية: "كل عمل ابن آدم كفارة، إلا الصوم".

عز وجل- ما بقي عليه من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة. خرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (¬1)، وغيره، وذكره الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" عن سفيان بن عيينة، قال: وهو غريب (¬2)، انتهى. قال الحافظ ابن رجب: وعلى هذا، فيكون المعنى: أن الصيام للَّه -عز وجل-، فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصائم، بل أجرُه يُدَّخر لصاحبه عند اللَّه -عز وجل-، وحينئذ فقد يقال: إن سائر الأعمال قد يُكَفَّر بها ذنوبُ صاحبها، فلا يبقى لها أجر؛ فإنه روي أنه يوازَن يوم القيامة بين الحسنات والسيئات، ويقتص بعضها من بعض، فإن بقي من الحسنات حسنة، دخل بها صاحبها الجنة، قاله سعيدُ بنُ جبير، وغيرُه. وفي ذلك حديث مرفوع خرجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعًا (¬3). قال ابن رجب: فيحتمل أن يقال في الصوم: إنه لا يسقط ثوابه بمقاصَّة ولا غيرها، بل يُوفَّر أجرُه لصاحبه حتى يدخل الجنة، فيوفى أجره فيها. وأما قوله: "فإنه لي"، فإن اللَّه -جلّ شأنه- خَصَّ الصيام بإضافته إلى نفسه دونَ سائر الأعمال، وقد كثير القولُ في معنى ذلك من الفقهاء والصوفية وغيرهم، وذكروا فيه وجوهًا كثيرة، ومن أحسنها وجهان: ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (3582)، وفي "السنن الكبرى" (4/ 274). (¬2) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 48 - 49). (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" (7641)، وكذا عبد بن حميد في "مسنده" (661)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6920)، بلفظ: "قال الرب -عز وجل-: يؤتى بحسنات العبد وسيئاته، فيقص بعضها ببعض، فإن بقيت حسنة، وسَّع اللَّه له في الجنة".

أحدهما: أن الصيام مجردُ تركِ حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جُبلت على الميل إليها للَّه -عز وجل-، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام، نعم يوجد في الصلاة، إلا أن مدتها لا تطول، فإذا اشتد توقانُ النفس إلى ما تشتهيه، مع قدرتها عليه، ثم تركته للَّه -عز وجل- في موضع لا يطلع عليه إلا اللَّهُ، كان ذلك دليلًا على صحة الإيمان؛ فإن الصائم يعلم أن له ربًا يطَّلع عليه في خلوته، وقد حَرَّم عليه أن يتناول شهواته المجبولَ على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه، وامتثل أمره، واجتنب نهيه؛ خوفًا من غضب اللَّه وعقابه، ورغبة فيما عند اللَّه من أجره وثوابه، فشكر اللَّه له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله، ولهذا قال بعد ذلك: "إنه ترك شهوتَه وطعامَه وشرابه من أجلي". الوجه الثاني: أن الصيام سر بين العبد وربه، لا يَطَّلع عليه غيرُه؛ لأنه مركَّبٌ من نية باطنية لا يطلع عليها إلا اللَّه، وتركٍ لتناول الشهوات التي يُستخفى تناولُها في العادة، ولذا قيل: إنه لا تكتبه الحَفَظَة، وقيل: إنه لا رياء فيه. وهذا الوجه اختيار أبي عبيد، وغيرِه، وقد يرجع إلى الأول؛ فإن من تركَ ما تدعوه نفسُه إليه للَّه -عز وجل-؛ حيث لا يطلع عليه غيرُ مَنْ أمره ونهاه، دلَّ على صحة إيمانه، واللَّه -سبحانه وتعالى- يحبُّ من عباده أن يعاملوه سرًا بينهم وبينه؛ بحيث لا يطلع على تلك المعاملة سواه، حتى ودَّ بعضُ العارفين لو تمكَّن من عبادةٍ لا تشعر بها الملائكةُ، فضلًا عن بني آدم (¬1). ¬

_ (¬1) انتهى كلام الحافظ ابن رجب في "لطائف المعارف" (ص: 286 - 290)، باختصار حسن.

وفي "البخاري"، و"مسلم"، و"النسائي" من حديث سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "إن في الجنَّةِ بابًا يقال له: الريَّانُ، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرُهم، فإذا دخلوا، أُغلق فلم يدخل منه أحدٌ" (¬1). ورواه الترمذي، وزاد: "من دخلَه لم يظمأ أبدًا" (¬2). ورواه ابنُ خزيمة في "صحيحه"، إلا أنه قال: "فإذا دخلَ آخرهم، أُغلق، ومن دخلَ، شربَ، ومن شربَ، لم يظمأ أبدًا" (¬3). وروى الإمام أحمد، والبزار من حديث أبي هريرة، وأبو يعلى، والبيهقي عن سلمة بن قيصر، ورواه الطبراني عنه، إلا أنه سماه: سلامة -بزيادة ألف- مرفوعًا: "من صامَ يومًا ابتغاءَ وجهِ اللَّه، باعدَهُ اللَّهُ عن جهنمَ كبُعْدِ غرابٍ طار وهو فرخٌ حتى مات هَرمًا" (¬4). وروى أَبو يعلى، والطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لو أن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1797)، كتاب: الصوم، باب: الريان للصائمين، ومسلم (1152)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، والنسائي (2236)، كتاب: الصيام، باب: الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم. (¬2) رواه الترمذي (765)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في فضل الصوم. (¬3) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (1902). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 526)، والبزار في "مسنده" (3/ 181 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. ورواه أَبو يعلى في "مسنده" (921)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6365)، وفي "المعجم الأوسط" (3118)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3590)، عن سلمة أو سلامة بن قيصر -رضي اللَّه عنه-.

رجلًا صامَ يومًا تطوُّعًا، ثم أعطي ملءَ الأرض ذهبًا، لم يستوفِ ثوابهَ دون يوم الحساب" (¬1). وفي "سنن ابن ماجه" عن أبي هريرة مرفوعًا: "لكلِّ شيء زكاةٌ، وزكاةُ الجسدِ الصومُ، والصيامُ نصفُ الصبر" (¬2)، واللَّه تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) رواه أَبو يعلى في "مسنده" (6130)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (4869). (¬2) رواه ابن ماجه (1745)، كتاب: الصيام، باب: في الصوم زكاة الجسد.

باب ليلة القدر

باب ليلة القدر أي؛ تعيينها، وفضلها، وطلبها، وهي -بفتح القاف وإسكان الدال-، سميت بذلك؛ لعظم قدرها؛ أي: ذات القدر العظيم" لنزول القرآن فيها، ووصفها بأنها خيرٌ من ألف شهر، أو لما يحصل لمحييها بالعبادة من القدر الجسيم، أو لأن الأشياء تقدَّر فيها، وتقضَى؛ لقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، وتقدير اللَّه سابق، فهي ليلةُ إظهارِ اللَّه تعالى ذلك التقدير للملائكة (¬1). ويجوز -فتح الدال- على أنه مصدر قدرَ اللَّهُ الشيءَ قَدْرًا وقَدَرًا، لغتان؛ كالنَّهْر والنَّهَر (¬2). قال في "الفروع": سُميت ليلةَ القدر، لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنةِ، وروي عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- (¬3). قال صاحب "المحرر": وهو قولُ أكثر المفسرين لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3 - 4]، ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 173). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 429). (¬3) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 568).

فإن المراد بذلك: ليلة القدر عند ابن عباس. قال الحافظ ابن الجوزي: وعليه المفسرون؛ لقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1]، وما روي عن عِكْرِمَةَ وغيره: أنها ليلة النصف من شعبان، ضعيف (¬1). وقيل: سميت ليلة القدر؛ لعظم قدرها عند اللَّه. وقيل: القدر بمعنى الضيق؛ لضيق الأرض عن الملائكة التي تنزل فيها، فروى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعًا: "أن الملائكةَ تلكَ الليلةَ أكثرُ من عددِ الحصى" (¬2). قال في "الفروع": ليلةُ القدر شريفة معظَّمة. زاد في "المستوعب" وغيرهِ: والدعاءُ فيها مستجاب (¬3). قيل: سورتُها مكية. قال الماوردي: هو قول الأكثرين، وقيل: مدنية. قال الثعلبي: هو قول الأكثرين. قال: ولم ترفع، وفاقًا؛ للأخبار بطلبها وقيامها. وعن بعض العلماء: أنها وقعت، وحكي رواية عن أبي حنيفة (¬4). وذكر الحافظ في هذا الباب ثلاثة أحاديث: * * * ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (7/ 336 - 337). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 519)، والطيالسي في "مسنده" (2545)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2194). (¬3) انظر: "المستوعب" للسامري (3/ 447). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 104 - 105).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رِجالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فقالَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ" (¬1). * * * (عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ اللَّه بنِ عمرَ) بنِ الخطاب (-رضي اللَّه ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1105)، كتاب: التهجد، باب: فضل من تعارَّ من الليل فصلى، و (1911)، كتاب: صلاة التراويح، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، و (6590)، كتاب: التعبير، باب: التواطؤ على الرؤيا، ومسلم (1165/ 205 - 206)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، وأبو داود (1385)، كتاب: الصلاة، باب: من روى في السبع الأواخر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 415)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 141)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 250)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 58)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 248)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 913)، و"طرح التثريب" للعراقي (4/ 147)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 256)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 131)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 431)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 175)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 371).

عنهما-: أَنَّ رجالًا من أصحاب النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-)، قال القسطلاني في "شرح البخاري": لم يُسم أحدٌ منهم (¬1) (أُروا) -بضم الهمزة- مبنيًا للمفعول تنصب مفعولين، أحدُهما: النائب عن الفاعل، والآخر: قوله: (ليلةَ القدر)؛ أي: أراهم اللَّه ليلةَ القدر (¬2) (في المنام في) ليالي (السبعِ الأواخِرِ) جمع -بكسر الخاء المعجمة-، قال في "المصابيح": ولا يجوز أُخر؛ لأنه جمع الأخرى، وهي لا دلالة لها على التأخير في الوجود، وإنما تقتضي المغايرة، تقول: مررتُ بامرأة حسنة، وامرأة أُخرى مغايرة لها، ويصح هذا التركيب، سواء كان المرور بهذه المرأة المغايرة سابقًا، أو لاحقًا، وهذا عكس العشر الأول، فإنه يصح؛ لأنه جمع أُولى، ولا يصح الأوائل جمع أَوَّل للمذكر، وواحد العشر ليلة، وهي مؤنثة، فلا يوصف بمذكر. ومفهوم الحديث: أن رؤياهم كانت قبل دخول السبع الأواخر؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فليتحرَّها في السبع الأواخر" كما يأتي. ثم يحتمل أنهم رأوا ليلة القدر وعظمَها وأنوارَها ونزولَ الملائكة فيها، وأن ذلك كان في ليلة من السبع الأواخر. ويحتمل أن قائلًا قال لهم: هي في كذا، وعين ليلةً من السبع الأواخر، ونُسيت، أو قال: إن ليلةَ القدر في السبع، أو إن رؤياهم تباينت في السبع الأواخر بحسب الليلة المعينة، وتواطأت على كونها في السبع، احتمالات (¬3). (فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَرَى) -بفتح الهمزة والراء-؛ أي: أَعلم ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 431). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

(رؤياكم) -بالإفراد-، والمراد: الجمع، والمراد: رُؤَاكم، جمع رُؤْيا، وقول بعضهم (¬1): إن المحدَّثين يروونه بالتوحيد، وهو جائز، وأفصح منه رُؤاكم جمع رؤيا؛ لتكون جمعًا في مقابلة جمع، أصحُّ، نظر فيه بعضهم؛ لأنه بإضافته إلى ضمير الجمع، علم منه التعدد، وانتفى اللَّبْس بالضرورة، وإنما عبر بأَرى؛ لتجانس "رؤياكم"، ومفعول "أرى" الأول "رؤياكم"، والثاني: قولُه: (قد تواطأت) -بالهمز- (¬2). قال الإمام النووي: ولا بد من قراءته مهموزًا، قال تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (¬3) [التوبة: 37]. وقال في "شرح التقريب": وروي "تَواطَتْ" -بترك الهمزة-، وفي "المصابيح": يجوز تركه؛ أي: الهمز؛ أي: توافقت (¬4). وفي "النهاية" لابن الأثير: "تواطت"، قال: هكذا رُوي بترك الهمزة، وهو من المواطأة: الموافقة، وحقيقته: أن كلًا منهما وطىء ما وَطِئه الآخر (¬5)، انتهى. (في السبع الأواخر)؛ أي: رؤية ليلة القدر، (فمن كان متحرِّيَهَا)؛ أي: طالبَها وقاصدَها، (فليتحَرَّها في) ليالي (السبعِ الأواخرِ) من شهر رمضان من غير تعيين، وهي التي تلي آخره. وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أن ¬

_ (¬1) هو القاضي عياض، كما في "مشارق الأنوار" (1/ 277). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 431)، وهو مأخوذ من كلام الحافظ في "الفتح" (4/ 257). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 58). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 431). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 201).

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "التَمِسوها في العشرِ الأواخرِ، فإن ضعُفَ أحدُكم، أو عَجَزَ، فلا يُغْلَبَنَّ عن السبعِ البواقي" (¬1). وفي "مسند الإمام أحمد" عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-: أن عبدَ اللَّه بنَ أنيس -رضي اللَّه عنه- سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ليلة القدر، وقد خلت اثنتان وعشرون ليلة، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "التَمِسوها في هذه السبعِ الأواخرِ التي بَقِينَ من الشَّهر" (¬2). وفيه: عن عبد اللَّه بن أنيس -رضي اللَّه عنه-: أنهم سألوا النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ليلة القدر، وذلك مساء ليلة ثلاث وعشرين، فقال: "التمسوها هذهِ الليلةَ"، فقال رجلٌ من القوم: فهي إذًا يا رسول اللَّه أولى ثمان، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنها ليست بأولى ثمانٍ، ولكنها أولى سبعٍ، إن الشهرَ لا يتم" (¬3). تنبيه: في هذا الحديث دليلٌ على عِظَم الرؤيا، والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجوديات على ما لا يخالف القواعدَ الكليةَ من غيرها. قال ابن دقيق العيد: وقد تكلم الفقهاء فيما لو رأى النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام، وأمرَه بأمر، هل يلزمه ذلك؟ قيل فيه: إن ذلك إما أن يكون مخالفًا لما ثبتَ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحكام في اليقظة، أم لا، فإن كان مخالفًا، عمل بما ثبت في ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1165/ 209)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، لكن من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 336). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 495)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2186)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 85).

اليقظة؛ لأنا -وإن قلنا: بأن من رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الوجه المنقول من صفته فرؤياه حق-، فهذا من قَبيل تعارُض الدليلين، والعمل بأرجحهما، وما ثبت في اليقظة، فهو أرجح. وإن كان غيرَ مخالف لما ثبتَ في اليقظة، ففيه خلاف، والاستناد إلى الرؤيا هنا في أمر ثبت استحبابه مطلقًا، وهو طلبُ ليلة القدر، وإنما يرجح السبعُ الأواخر بسبب المرائي الدالة على كونها في السبع الأواخر، وهو استدلال على أمر وجودي لزمه استحبابٌ شرعيٌّ مخصوصٌ بالتأكيد بالنسبة إلى هذه الليالي، مع كونه غيرَ منافٍ للقاعدة الكلية الثابتة من استحباب طلبِ ليلة القدر، وقد قالوا: يستحب في جميع الشهر، واللَّه أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 248 - 249).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في لَيَالِي الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1913)، كتاب: صلاة التراويح، باب: تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، واللفظ له، و (1915 - 1916)، ومسلم (1169)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، إلا أنه لم يقل: "في الوتر"، ولذا قال الزركشي في "النكت" (ص: 189): هي من أفراد البخاري، ولم يخرجها مسلم من حديث عائشة. قلت: صنيع الإمام المجد ابن تيمية في "المنتقى" (2/ 105) كان أدق في سياق هذه الرواية؛ إذ قال: وعن عائشة: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" رواه مسلم، والبخاري، وقال: "في الوتر من العشر الأواخر"، انتهى. وقد فات الشارح -رحمه اللَّه- التنبيه عليه، فإن هذه الزيادة هامة؛ لما ينبني عليها؛ فإن التماس الوتر من العشر الأواخر -كما في حديث عائشة- رضي اللَّه عنها هذا، غير التماس الوتر من السبع الأواخر -كما في حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- الماضي، وعلى هذا أتبع المصنف -رحمه اللَّه- حديثَ ابن عمر السابق بحديث عائشة هذا -رضي اللَّه عنهم أجمعين-. وقد روى الحديث أيضًا دون زيادة الوتر فيه: الترمذي (792)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في ليلة القدر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 6)، و"إكمال =

(عن) أُمِّ المؤمنين (عائشةَ) الصدِّيقة (-رضي اللَّه عنها-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: تَحَرَّوا) -بفتح المثناة الفوقية والحاء المهملة والراء وإسكان الواو-؛ من التحري؛ أي: اطلبوا بالاجتهاد (¬1) (ليلةَ القدر في) ليالي (الوترِ من العشرِ الأواخر) من رمضان، فهذا الحديث، وإن كان أعمَّ من الذي قبلَه من جهة كونِ الطلبِ في ليالي العشر، وهي أكثر من السبع، إلا أنه خُصَّ من جهة كونِ الطلب مختصًا بالأوتار منها (¬2). قال في "الفروع" في ليلة القدر: هي في رمضان؛ خلافًا لرواية لأبي حنيفة، لا في كل السنة؛ خلافًا لابن مسعود -رضي اللَّه عنه-. وعن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد: كقوله، وجزم به ابن هبيرة عن أبي حنيفة. وذكر صاحب "المحرر": أن الأول -أعني: كونها مختصة برمضان- أشهرُ عنه وعن أصحابه. قال في "الفروع": وهي مختصة بالعشر الأخير منه عند الإمام أحمد، وأكثرِ العلماء من الصحابة وغيرِهم؛ وفاقًا لمالك، والشافعي. قال: وليالي وتره آكد، وأرجاها ليلةُ سبع وعشرين، نص عليه الإمام أحمد، لا ليلة إحدى وعشرين؛ خلافًا للشافعي، واختار صاحب ¬

_ = المعلم" للقاضي عياض (4/ 143)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 250)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 918)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 189)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 260)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 134)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 433)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 371). (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 433). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 250).

"المحرر": كل العشر سواء؛ وفاقًا لمالك، ومذهب مالك: أرجاها في تسع بقين، أو سبع، أو خمس. وقال أَبو يوسف، ومحمد: هي في النصف الثاني من رمضان. وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي في "تفسيره": قال الجمهور: تختص برمضان. وقال الجمهور منهم: تختص بالعشر الأخير منه؛ وأكثر الأحاديث الصحاح تدل عليه (¬1)، كذا قال في "الفروع". والمذهب: لا تختص -يعني: بأوتار العشر الأخير-، بل المذهب: أنها آكد وأبلغ من ليالي الشفع، وعلى اختيار صاحب "المحرر": كلُّها سواء. وقال في "المغني" (¬2)، و"الكافي" (¬3): تُطلب في جميع رمضان. قال في "الكافي": وأرجاها الوتر من ليالي العشر الأخير، قال: وتتنقل في ليالي الوتر من العشر الأخير (¬4). وقال غيره: تنتقل ليلة القدر في العشر الأخير، قاله أَبو قلابة التابعي (¬5)، وحكاه ابنُ عبد البر (¬6) عن مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وقاله أَبو حنيفة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المسير" لابن الجوزي (9/ 183). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 60). (¬3) انظر: "الكافي" لابن قدامة (1/ 365). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) رواه الترمذي في "سننه" (3/ 159). (¬6) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 414). (¬7) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 105). قال الحافظ ابن رجب في "اللطائف" =

وفي "مسند الإمام أحمد"، والنسائي، عن أبي ذر -رضي اللَّه عنه-، قال: كنتُ أسأل عنها -يعني: ليلة القدر-، فقلت: يا رسول اللَّه! أخبرني عن ليلة القدر، أفي رمضانَ هي، أو في غيره؟ قال: "بل هي في رمضان"، قلت: أتكونُ مع الأنبياء ما كانوا، فإذا قُبضوا، رُفعت، أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: "بل هي إلى يوم القيامة"، قلت: في أيِّ رمضان هي؟ قال: "التَمِسوها في العشرِ الأولِ والعشرِ الأواخر"، قلت: في أيِّ العَشْرين؟ قال: "هي في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدَها"، ثم حدَّث رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم اهتبلتُ غفلته، فقلت: يا رسول اللَّه! أقسمتُ عليكَ بحقي لَمَا أخبرتَني في أيِّ العشر هي؟ فغضبَ عليّ غضبًا لم يغضبْ مثلَه منذُ صحبتُه، وقال: "التَمِسوها في السبع الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها"، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم (¬1). وفي رواية لهما: أنه قال: "ألم أنهكَ أَنْ تسألَني عَنْها؟! إنَّ اللَّه لو أَذِنَ لي أَنْ أُخبرَكم بها، لأخبرتكم، لا آمن أن تكون في السبع الأواخر" (¬2). ففي هذه الرواية أنَّ بيان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في ليلة القدر انتهى إلى أنها في السبع الأواخر، ولم يزد على ذلك شيئًا، وهذا مما يستدِلُّ به مَنْ رجَّح ليلةَ ثلاثٍ وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين على ليلة إحدى وعشرين؛ لأنها ليست من السبع الأواخر بلا تردد. ¬

_ = (ص: 360): وفي صحة ذلك عنهم بُعدٌ؛ وإنما قول هؤلاء: إنها في العشر، وتطلب في لياليه كله. (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 171)، والنسائي في "السنن الكبرى" (3427)، وابن حبان في "صحيحه" (3683)، والحاكم في "المستدرك" (1596)، وهذا لفظ أحمد. (¬2) تقدم تخريجه عند ابن حبان والحاكم في الحديث السابق.

وقد رُوي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجوه أُخر: أنه بَيَّنَ أنها ليلةُ سبعٍ وعشرين، وقد كان يحلف على ذلك أُبَيُّ بنُ كعب -رضي اللَّه عنه-، ولا يستثني (¬1). وقد رُوي عن حبان بن عبد اللَّه السهمي، قال: سألت زِرَّ بن حُبيش عن ليلة القدر، فقال: كان عمرُ وحذيفةُ، وناس من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يشكُّون أنها ليلةُ سبع وعشرين. خرجه ابن أبي شيبة (¬2). قال في "اللطائف": استدل من رجح كونَها ليلةَ سبع وعشرين بأن أُبي بن كعب كان يحلف على ذلك، ويقول بالآية أو بالعلامة التي أخبرنا بها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها. خرجه مسلم (¬3). وخرج أيضًا بلفظ آخر عن أُبي بن كعب -رضي اللَّه عنه-، قال: واللَّه! إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقيامها، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين (¬4). وفي "مسند الإمام أحمد" عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أن رجلًا قال: يا رسول اللَّه! إني شيخ كبير عليل، يشقُّ عليَّ القيامُ، فمرْني بليلةٍ يُوَفِّقني اللَّه فيها لليلة القدر، قال: "عليك بالسابعة"، وإسناده على شرط البخاري (¬5). ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8667). (¬3) رواه مسلم (762)، (2/ 828)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر. (¬4) رواه مسلم (762)، (1/ 525)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 240)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11836)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 312).

وروى الإمام أحمد أيضًا من حديث يزيد بن هارون، ثنا شعبة، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ كان منكم مُتَحَرِّيَها، فليتحرَّها ليلةَ سبعٍ وعشرين"؛ يعني: ليلة القدر، أو قال: "تَحَرَّوها ليلةَ سبعٍ وعشرين"؛ يعني: ليلة القدر (¬1). ورواه شبابة، ووهب بن جرير، عن شعبة، مثله، [ورواه أسود بن عامر، عن شعبة، مثله]، وزاد: "في السبع البواقي". قال شعبةُ: وأخبرني رجلٌ ثقةٌ عن سفيان: أنه إنما قال: "في السبع البواقي"، لم يقل: "سبع وعشرين". قال الإمام أحمد في رواية ابنه صالح: الثقةُ هو يحيى بنُ سعيد. قال شعبة: فلا أدري أيهما قال (¬2). والحاصل: أن أكثر الروايات دالَّة على ترجيح كونِ ليلةَ القدر ليلة سبع وعشرين، وممَّا يدل على ذلك: ما استشهد به ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- بمحضر عمر، والصحابة معه -رضي اللَّه عنهم-، واستحسنه عمر، وقد روي من وجوه متعددة، فروى عبد الرزاق في "كتابه" عن معمر، عن قتادة وعاصم: أنهما سمعا عكرمةَ يقول: قال ابنُ عباس: دَعَا عمرُ بنُ الخطاب -رضي اللَّه عنه- أصحابَ محمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- , فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر. قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- لعمر -رضي اللَّه عنه-: إني لأعلم أو إني لأظن أيَّ ليلة هي، قال عمر: وأي ليلة هي؟ قلت: سابعة تمضي، أو سابعة تبقى من العشر، فقال عمر: و [من] أين علمت ذلك؟ قال: فقلت: ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 27). وتقدم تخريجه عند البخاري ومسلم من طريق أخرى. (¬2) انظر: "مسند الإمام أحمد" (2/ 157).

إن اللَّه تعالى خلق سبع سماوات، وسبع أرضين، وسبعة أيام، وإن الدهر يدور على سبع، وخُلق الإنسان من سَبعْ، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطوافُ بالبيت سبع، ورميُ الحجارة سبع؛ لأشياء ذكرها، فقال عمر: لقد فَطِنْتَ لأمرٍ ما فَطِنَّا له (¬1). وروى ابن عبد البر بإسناد صحيح من طريق سعيد بن جبير، قال: كان ناس من المهاجرين وجدوا على عمر في إدنائه ابنَ عباس -رضي اللَّه عنهما-، فجمعهم، ثم سألهم عن ليلة القدر، فأكثروا فيها، وفيه: فقال عمر: يا بن عباس! تكلم، فقال: اللَّه أعلم. فقال عمر: قد نعلم أن اللَّه يعلم، وإنما نسألك عن [علمك] (¬2)، فقال ابن عباس: إن اللَّه وِتْرٌ يحبُّ الوترَ، خلق من خلقه سبعَ سماوات، وخلق الأرض سبعًا، وذكر نحو ما تقدم، وفيه: وخلق الإنسان من سبع، وجعل رزقه من سبع. فقال عمر: هذا أمر ما فهمتُه، فقال: إن اللَّه تعالى يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] حتى بلغ آخر الآيات، وقرأ: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 25 - 32]، ثم قال: الأبُّ للدّواب (¬3). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (7679)، ومن طريقه: الطبراني في "المعجم الكبير" (10618)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 313)، وفي "شعب الإيمان" (3687). (¬2) في الأصل المخطوط: "عملك"، والصواب ما أثبت. (¬3) رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 210). والأَبُّ: الكلأ أو المرعى، أو ما أنبتت الأرض.

زاد في رواية: فقال عمر: أعجزتم أن تقولوا مثلَ ما قال هذا الغلام الذي لم تستو شؤوون رأسه؟! خرجه الإسماعيلي في مسند عمر، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد (¬1). زاد في رواية: قال ابن عباس: وأُعطي من المثاني سبعًا، ونُهي في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع، وقُسم الميراث في كتابه على سبع، ونَقَعُ في السجود من أجسادنا على سبع (¬2). وقد استنبط طائفةٌ من المتأخرين من القرآن أنها ليلةُ سبع وعشرين من موضعين: أحدهما: أن اللَّه تعالى كرر ليلةَ القدر في سورة القدر في ثلاث مواضع منها، وليلة القدر حروفُها تسع حروف، والتسع إذا ضُربت في ثلاث، فهي سبع وعشرون. والثاني: أنه قال: {سَلَامٌ هِيَ} [القدر: 5]، فكلمة {هِيَ} هي الكلمة السابعة والعشرون في السورة؛ فإن كلماتها كلها ثلاثون كلمة. قال ابن عطية: هذا من مُلَح التفسير، لا من متين العلم. قال الحافظ ابن رجب في "لطائفه": وهو كما قال. وزاد الحافظ ابن رجب: ومما استدل به من رَجَّح ليلةَ سبع وعشرين بالآيات والعلامات التي رُويت فيها قديمًا وحديثًا، وبما وقع فيها من إجابة الدعوات، وذكر من ذلك أشياء كثيرة: ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (1597). وكذا ابن خزيمة في "صحيحه" (2172)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 313). (¬2) رواه أَبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 317).

فمنها: ما روى أَبو موسى المديني بإسناده عن حماد بن شعيب، عن رجل منهم، قال: كنت بالسواد، فلما كان بالعشر الأواخر، جعلت انظر بالليل، فقال لي رجل منهم: إلى أي شيء تنظر؟ قلت: إلى ليلة القدر، قال: فنم، فإني سأخبرك، فلما كانت ليلة سبع وعشرين، جاء فأخذ بيدي، فذهب بي إلى النخل، فإذا النخلُ واضعٌ سعفَه بالأرض، فقال: لسنا نرى هذا في السنة كلِّها إلا في هذه الليلة. ومنها: ما ذكر أَبو موسى بأسانيده: أن رجلًا مقعَدًا سأل اللَّه ليلةَ سبع وعشرين، فأطلقه. وعن امرأة مقعدة كذلك. وعن رجل بالبصرة كان أخرس ثلاثين سنة، فدعا اللَّه ليلةَ سبع وعشرين، فأطلق لسانه، فتكلم. وذكر الوزير عون الدين أَبو المظفر بنُ هبيرة: أنه رأى ليلة سبع وعشرين -وكانت ليلةَ جمعة- بابًا في السماء مفتوحًا شاميَّ الكعبة، قال: فظننته حيالَ الحجرة النبوية المقدسة، ولم يزل كذلك إلى أن التفتُّ إلى المشرق لأنظر طلوع الفجر، ثم التفتُّ إليه، فوجدته قد غاب. قال ابن هبيرة: وإن وقع في ليلةٍ من أوتار العشر ليلةُ جمعة، فهي أرجى من غيرها، واللَّه الموفق (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر فيما نقله الشارح -رحمه اللَّه- عن ابن رجب: "لطائف المعارف" (ص: 352 - 367)، وقد أجاد الشارح -رحمه اللَّه- في اختصاره لكلام الحافظ ابن رجب -رحمه اللَّه-.

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَعْتكِفُ فِي العَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتكفَ عَامًا، حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِي اللَّيْلَةُ التي يخرُجُ من صَبيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: "مَنِ اعْتكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتَكِفِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، فَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِها، فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ"، فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَ المَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ، فَوَكَفَ المَسْجِدُ، فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ المَاءِ وَالطِّينِ في صُبْحِ إِحْدَى وعِشريِن (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1923)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر، واللفظ له، و (638)، كتاب: الجماعة والإمامة، باب: هل يصلي الإمام بمن حضر، و (780)، كتاب: صفة الصلاة، باب: السجود على الأنف، والسجود على الطين، و (801)، باب: من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى، و (1912)، كتاب: صلاة التراويح، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، و (1914)، باب: تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، و (1931)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف، وخروج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صبيحة عشرين، و (1935)، باب: من خرج من اعتكافه عند الصبح. ورواه مسلم (1167/ 213 - 217)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر، وأبو داود =

(عن أبي سعيدٍ الخدريِّ -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يعتكفُ في العشر الأوسطِ من رمضان) ذكر الأوسط، وكان حقه يقول: الوسطى -بالتأنيث-، إما باعتبار لفظ العشر من غير نظر إلى مفرداته، ولفظه مذكر، فيصح وصفه بالأوسط، وإما باعتبار الوقت أو الزمان؛ أي: ليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر (¬1). وقال ابن دقيق العيد: الأقوى فيه أن يقال: الوُسُط؛ أو الوَسَط -بضم [السين] (¬2) وفتحها-، وأما الأوسط، فكأنه تسمية لمجموع تلك الليالي والأيام، وإنما رجح الأول؛ لأن العشر اسم الليالي، فيكون وصفها جمعًا لائقًا بها (¬3). وفي بعض ألفاظ حديث أبي سعيد -رضي اللَّه عنه-: كان رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر (¬4). ¬

_ = (1382 - 1383)، كتاب: الصيام، باب: فيمن قال: ليلة إحدى وعشرين، والنسائي (1356)، كتاب: السهو، باب: ترك مسح الجبهة بعد التسليم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 404)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 143)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 240)، وشرح مسلم" للنووي (8/ 60)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 250)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 918)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 190)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 260)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 143)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 439)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 368). (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 61). (¬2) في الأصل: "الواو"، والصواب ما أثبت. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 251 - 252). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1914)، ومسلم برقم (1167/ 214).

وقد ورد في بعض الروايات ما يدل على أن الصحيح: أن اعتكافه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذلك العشر كان لطلبه ليلةَ القدر قبلَ أن يعلم أنها في العشر الأواخر (¬1)، فلما أُعلم بذلك، كان يعتكف العشرَ الأواخرَ من رمضان حتى توفاه اللَّه؛ كما في "الصحيحين" من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- (¬2). (فاعتكف عامًا) مصدر عامَ: إذا سَبَحَ؛ يقال: عامَ يعومُ عَوْمًا وعامًا، فالإنسان يعوم في دنياه على الأرض طول حياته حتى يأتيه الموت يغرقُ فيها؛ أي: اعتكف في شهر رمضان في عام (¬3)، (حتى إذا كان ليلةَ إحدى وعشرين) -بنصب ليلة-، وضبطه بعضهم -بالرفع- فاعلًا بكان التامة؛ بمعنى: ثبت، أو نحوه، والمراد: حتى إذا كان استقبال ليلة إحدى وعشرين؛ لأن المعتكف العشرَ الأوسط إنما يخرج قبلَ دخول ليلة الحادي والعشرين؛ لأنها من العشر الأخير، وقد صرح به في رواية هشام في الصحيح (¬4)، (وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها)، وفي لفظ بإسقاط (من اعتكافه) (¬5)، فكان على خروجه -صلى اللَّه عليه وسلم- صبيحة عشرين؛ كما في "الصحيحين" من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: تذاكَرْنا ليلةَ القدر، فأتيت أبا سعيد الخدريَّ، وكان لي صديقًا، فقلت: ألا تخرجُ بنا إلى النخل؟ فخرج وعليه خميصة، فقلت: سمعتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، اعتكفنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العشرَ الوسطى من ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 252). (¬2) سيأتي تخريجه في أول باب الاعتكاف. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 439). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1912). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 439). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 439).

رمضان، فخرجنا صبيحةَ عشرين، فخطبنا، الحديث (¬1). وفيهما من حديثه، قال: اعتكف رسولُ اللَّه العشرَ الأوسط من رمضان يلتمسُ ليلةَ القدر قبل أن تبان له، الحديث (¬2). (قال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (من اعتكفَ)، وفي رواية من حديث أبي سعيد -رضي اللَّه عنه-، قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُجاورُ في العشر الذي في وسط الشهر، فإذا كان من حين تمضي عشرون ليلة، وتُستقبل إحدى وعشرون، رجع إلى مسكنه، ورجع مَنْ كان يُجاور معه، ثم إنه أقام في شهر جاور فيه، الحديث، وفيه: فخطب الناس، فأمرهم بما شاء اللَّه، ثم قال: "إني كنتُ أُجاورُ هذه العشرَ، ثم بدا لي أَنْ أُجاور هذهِ العشرَ الأواخرَ، فمن كانَ اعتكفَ (¬3) (معي)؛ أي: في العشر الأوسط، (فليعتكفِ العشرَ الأواخر) ". وفي لفظ: "فَلْيَثْبُتْ في مُعْتَكَفِه" (¬4). وفي رواية في "الصحيحين": فأتاه جبريل -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: إن الذي تطلُبُ أَمامَكَ -يعني: ليلة القدر-، فقام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فخطبَ صبيحةَ عشرين، وذكر الحديث بمعناه (¬5). (فقد) وفي لفظ: -بالواو بدل الفاء- (¬6) (أُريت) -بضم الهمزة وكسر الراء مبنيًا للمجهول- (هذهِ الليلةَ) -بالنصب- مفعولٌ به، لا ظرف؛ أي: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1912)، وعند مسلم برقم (1167/ 213)، واللفظ له. (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (217/ 1167). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1914)، ومسلم برقم (1167/ 214). (¬4) تقدم تخريجه عندهما، وهما من الرواية السابق ذكرها. (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (780). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1914، 1923).

رأيتُ ليلةَ القدر، (ثم أُنسيتُها) -بضم الهمزة-، أي: أنساه غيرُهُ إياها. وفي لفظ: "نُسِّيتُها"-بضم النون وتشديد السين المهملة-، وهو الذي في اليونينية وغيرها، وفي بعضها -بالفتح والتخفيف-؛ أي: نسيها هو من غير واسطة، والشك من الراوي، والمراد: أنه أُنسي علم تعيينها في تلك السنة، لا رفع وجودها، خلافًا للرافضة؛ لأنه أمر بالتماسها (¬1). قال القفال في "العدة" فيما حكاه الطبري: ليس معناه أنه رأى الليلة عيانًا، والأنوار عيانًا، ثم نسي أيَّ ليلة رأى ذلك؛ لأن مثل هذا قلَّ أَنْ يُنْسى، وإنما رأى أنه قيل له: ليلة القدر ليلة كذا وكذا، ثم نسي كيف قيل له (¬2). (وقد رَأَيْتُني) -بضم التاء-، أي: رأيت نفسي (أسجدُ في ماءٍ وطين من صَبيحتها) يحتمل أن تكون "من" بمعنى "في" كما في قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]، أي في يوم الجمعة، أو هي لابتداء الغاية الزمانية (¬3). (فالتمسوها)؛ أي: ليلةَ القدر؛ يعني: اطلبوها، واقصدوها (في العشر الأواخر) من رمضان، (والتمسوها في كل وترٍ) منه. قال أَبو سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-: (فمَطَرَتِ السماءُ) -بفتح الميم والطاء- (تلك الليلةَ)، يقال في الليلة الماضية: الليلة إلى أن تزول الشمس، فيقال حينئذ: البارحة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 432). (¬2) المرجع السابق، (3/ 440). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

(وكان المسجدُ) النبويُّ (على عريشٍ)؛ أي: مُظَلَّلًا بجريدٍ ونحوه مما يستظَلُّ به، يريد: أنه لم يكن له سقفٌ يكنُّ من المطر (¬1). (فوكفَ المسجدُ)؛ أي: سَال ماء المطر من سقف المسجد؛ لكونه عريشًا. قال أَبو سعيد: (فَبَصُرَتْ عيناي) -بضم الصاد المهملة- (رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على جبهته) الشريفةِ (أثرُ الماءِ والطين) من السجود ذلك (في [صُبح]) ليلة (إحدى وعشرين) من رمضان؛ تصديقًا لرؤياه التي رآها في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُريتُ ليلةَ القدر"؛ من الرؤيا؛ أي علمت بها، أو من الرؤية؛ أي: أبصرتها، إنما أُري -صلى اللَّه عليه وسلم- علامتَها، وهو السجودُ في الماء والطين (¬2)، وهذا كونه ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين أرجاها عند الإمام الشافعي، وعبارته كما نقلها البيهقي في "المعرفة": وتُطلب ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، قال: وكأني رأيت -واللَّه أعلم- أقوى الأحاديث فيه ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين (¬3). ونقله الحافظ ابن رجب في "لطائفه" عن الإمام الشافعي في القديم. قال ابن رجب: وقولُ أهل المدينة: إن أرجاها ليلةُ ثلاث وعشرين، وحكاه سفيان الثوري عن أهل مكة والمدينة، ورجَّحَ الحسنُ وأهل البصرة كونَها ليلةَ أربع وعشرين (¬4). والحاصل: أنها تختصُّ بالعشر الأواخر من رمضان، وأرجاها أوتارُهُ - ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 77). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 258). (¬3) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (2748). (¬4) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 358).

على ما تقدم-، وفي كونها تنتقل فيه ما يجمع بين الأقوال المتقدمة، وقد استحسنه ابنُ دقيق العيد وغيرُه؛ لأن فيه جمعًا بين الأحاديث، وحثًا على إحياء جميع تلك الليالي (¬1)، واللَّه أعلم. تتمة في فضل العمل في ليلة القدر: ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "من قامَ ليلةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ" رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه مختصرًا من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- (¬2)، وفي رواية للنسائي: "وما تأخر" (¬3). قال الحافظ المنذري: انفرد بهذه الزيادة قتيبةُ بن سعيد، عن سفيان، وهو ثقة ثبت، وإسناده على شرط الصحيح، ورواه الإمام أحمد بالزيادة بعد ذكر الصوم (¬4). قال الخطابي: قوله: "إيمانًا واحتسابًا"، أي: نيةً وعزيمةً، وهو أن يقومها على التصديق والرغبة في ثوابها، طيبةً بذلك نفسُه غيرَ كارهٍ. وقال الحافظ المنذري: قوله: "احتسابًا"، أي: طالبًا لوجه اللَّه وثوابه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 250 - 251). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريحه. (¬4) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 54). وقد تقدم تخريج هذه الزيادة عند الإمام أحمد. (¬5) المرجع السابق، (2/ 55)، إلا أن فيه: قال البغوي: قوله: "احتسابًا"، أي: طالبًا لوجه اللَّه.

قال الحافظ ابن رجب: وقيامُها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها، والصلاة، وقد أمر -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشةَ بالدعاء فيها أيضًا (¬1). قال سفيان الثوري: الدعاءُ في تلك الليلة أحبُّ إليَّ من الصلاة. قال: وكان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى اللَّه تعالى في الدعاء والمسألة، لعله يوافق. قال الحافظ ابن رجب: ومراده: أن كثرة الدعاء أفضلُ من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ، ودعا، كان حسنًا. وقال الشعبي في ليلة القدر: نهارها كليلها (¬2). وقال الشافعي في القديم: أستحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها، وهذا يقتضي استحباب الاجتهاد في جميع العشر الأواخر ليلهِ ونهارِه، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) روى الترمذي (3513)، كتاب: الدعوات، باب: (85)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (3850)، كتاب: الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 171)، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: يا رسول اللَّه! أرأيت إن علمتُ أيَّ ليلة ليلةَ القدر، ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني". (¬2) في "اللطائف": ليلها كنهارها. (¬3) انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 367 - 368).

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف وهو لغةً: اللبثُ والحبسُ والملازمةُ على الشيء، والإقبالُ عليه، خيرًا كان أو شرًا، قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وقال: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (¬1) [الأعراف: 138]. وشرعًا: لزومُ مسجدٍ لطاعة اللَّه تعالى (¬2). قال ابن سيدَهْ: يقال: عكَفَ يعكُف، وعَكِف؛ كعلم، عَكْفًا وعُكوفًا، واعتكف: لزم المكانَ، والعُكوفُ: الإقامةُ في المسجد (¬3)، ولا يسمى خلوة، بل يسمى جِوارًا؛ لقول عائشةَ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: هو مجاور في المسجد. متفق عليه (¬4). وهو سنةٌ إجماعًا؛ لما في "أوسط الطبراني"، والبيهقي، واللفظ له، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 438). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 160). (¬3) انظر: "المحكم" لابن سيده (1/ 169)، (مادة: عكف). (¬4) تقدم تخريجه قريبًا.

مرفوعًا: "من اعتكفَ يومًا ابتغاءَ وجهِ اللَّه تعالى، جعلَ اللَّهُ بينهَ وبينَ النار ثلاثَ خنادق أبعدَ ما بينَ الخافقين" (¬1). وفي البيهقي عنه مرفوعًا: "من اعتكفَ عَشْرًا في رمضان، كان كحجتينِ، وعُمرتين" (¬2). ويجب الاعتكافُ بالنذر إجماعًا. وأورد الحافظ -رحمه اللَّه- في هذا الباب أربعة أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط (7326)، والحاكم في "المستدرك" (7706)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3965). (¬2) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (3966)، والطبراني في "المعجم الكبير" (2888)، لكن من حديث علي بن الحسين، عن أبيه -رضي اللَّه عنهما-.

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ (¬1). وَفِي لَفْظٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ، فَإِذَا صَلَّى الغَدَاةَ، جَاءَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1922)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأواخر، ومسلم (1172/ 5)، كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، وأبو داود (2462)، كتاب: الصوم، باب: الاعتكاف، والترمذي (790)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في الاعتكاف. (¬2) رواه البخاري (1936)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في شوال. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 138)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 2)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 150)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 248)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 67)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 254)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 922)، و"طرح التثريب" للعراقي (4/ 165)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 272)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 143)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 446)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 174)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 354).

(عن) أُمِّ المؤمنين (عائشةَ) الصدِّيقةِ (-رضي اللَّه عنها-)، قالت: (إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يعتكفُ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ حتى تَوَفَّاه اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-). في هذا الحديث: دليلٌ على استحباب الاعتكاف، وأنه لم يُنسخ، ولا سيما في رمضان، وخصوصًا في العشر الأواخر. وفيه: تأكيدُ الاستحباب بما أشعر به اللفظُ من المداومة، وبما صرَّحَ به في الرواية الأخرى من قولها: في كل رمضان. وبما دل عليه من عمل أزواجه من بعده: قولها: (ثم اعتكف أزواجُه) -صلى اللَّه عليه وسلم- (من بعده) (¬1). وقد روى أَبو الشيخُ بنُ حيان من حديث الحسينِ بنِ عليٍّ -رضي اللَّه عنهما- مرفوعًا: "اعتكافُ عشرٍ في رمضانَ بحجتين وعُمرتين"، وهو ضعيف (¬2). وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أَذِنَ لأزواجه في الاعتكاف، وأما إنكارُه عليهنَّ الاعتكاف بعدَ الإذن؛ كما في الصحيح (¬3)، فلمعنى آخر؛ قيل: خاف أن يَكُنَّ غير مخلصات في الاعتكاف، بل أردنَ القربَ منه؛ لغيرتهنَّ عليه، أو ذهابَ المقصود من الاعتكاف بكونهنَّ معه في المعتَكَف، أو لتضييقهنَّ المسجدَ بأبنيتهنَّ. وعند الإمام أبي حنيفة: إنما يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، وهو الموضع المهيأ في بيتها لصلاتها (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 254). (¬2) وتقدم تخريجه عند البيهقي قريبًا. (¬3) رواه البخاري (1928)، كتاب: الاعتكاف، باب: اعتكاف النساء، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 439).

(وفي لفظ) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- في "الصحيحين": (كانَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعتكفُ في كلِّ) شهر (رمضانٍ) -بالتنوين-؛ لأنه نكرة قد زالت العلمية منه، فصرف (¬1)، (فإذا)، وفي لفظ: "وإذا" -بالواو- (¬2) (صلَّى الغداةَ)؛ أي: الصبح، (جاء)، وفي لفظ: دخل، وفي آخر: حَلَّ (مكانه) من الحلول (الذي اعتكف فيه)، وهو موضع خيمته (¬3). وتمام الحديث: فاستأذنتهُ عائشة -رضي اللَّه عنها- أن تعتكفَ، فأَذِنَ لها، فضربَتْ فيه -أي: في المسجد- قبة؛ فسمعت بها حفصةُ، فضربت قبةً -أي: بعد أن استأذنته- كما في رواية في الصحيح، وسمعت زينبُ بهما، فضربت قبة أخرى، فلما انصرفَ -صلى اللَّه عليه وسلم- من الغد، أبصر أربعَ قِبابٍ، فقال: "ما هذا؟ "، فأُخبر خبرَهُنَّ، فقال: "ما حملَهُنَّ على هذا البِرُّ، انزِعوها فلا أراها"، فنزعت، فلم يعتكف -صلى اللَّه عليه وسلم- في رمضان؛ أي: تلاه السنة حتى اعتكف في آخر العشر من شوال (¬4). وفي رواية هي رواية عند مسلم وأبي داود: اعتكف في الأول من شوال (¬5)، وفي رواية: عشرًا من شوال (¬6). وفي "البخاري" من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، قال: كان ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 446). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) تقدم تخريجه قريبًا عند البخاري برقم (1936). (¬5) رواه مسلم (1173)، كتاب: الاعتكاف، باب: متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه، وأبو داود (2464)، كتاب: الصوم، باب: الاعتكاف. (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1928).

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعتكف في كلِّ رمضان عشرةَ أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه، اعتكف عشرين يومًا (¬1). ففي هذا الحديث استواءُ الرجل والمرأة في الاعتكاف. وفي قول عائشة: فإذا صلى الغداة، جاء مكانه، الجمهور على أنه إذا أراد الإنسان الاعتكاف العشر، دخل معتكفه قبل غروب شمس ليلة أوله. وهذا الحديث قد يقتضي الدخولَ في أول النهار (¬2). قال في "الفروع": وإن نذر اعتكافَ شهر بعينِه، دخلَ معتكفَه قبلَ غروب الشمس من أول ليلة منه، وخرج بعدَ غروبِ الشمسِ من آخره. نص عليه الإمام أحمد؛ وفاقًا، وعنه: أن يدخل قبل فجرها الثاني. روي عن الليث، وأبي يوسف، وزفر. وإن نذر عشرًا متعينًا، دخل قبل ليلته الأولى؛ وفاقًا، وعنه: أو قبل فجرها الثاني، وعنه: أو بعد صلاته. قال: ومن أراد أن يعتكف العشرَ الأخير تطوُّعًا، دخل قبل ليلته الأولى؛ نص عليه -يعني: الإمام أحمد-؛ لرؤياه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة القدر ليلةَ إحدى وعشرين في حديث أبي سعيد (¬3)، وحض أصحابه -رضي اللَّه عنهم- على اعتكاف العشر، وليلته الأولى كغيرها، وهو عدد مؤنث. وعنه: بعد صلاة الفجر أولَ يوم منه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1939)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 254). (¬3) وقد تقدم تخريجه.

وقاله الأوزاعي، والليث، وإسحاق، وابن المنذر؛ لحديث عائشة هذا. وحمله صاحب "المحرر" على الجواز. وقال القاضي: يحتمل أنه كان يفعل ذلك في يوم العشرين؛ ليستظهر ببياض يوم زيادةً قبل دخول العشر، قال: ونقل هذا عنه؛ يعني: عن الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-، ثم ذكره من حديث عمرةَ عن عائشة -رضي اللَّه عنها-. قال في "الفروع": ولم أجده في الكتب المشهورة (¬1). وأُوِّلَ حديثُ عائشة -رضي اللَّه عنها- بأن الاعتكاف كان موجودًا، وأن دخوله في هذا الوقت لمعتكفه للانفراد عن الناس بعد الاجتماع بهم في الصلاة، لا أنه كان ابتداء دخول المعتكف. والمراد بالمُعْتَكَفِ هنا: الموضعُ الذي خصَّه بهذا، أو أَعَدَّه له؛ كما جاء أنه اعتكفَ في قُبة، وأن أزواجه ضرَبْنَ أَخْبيَةً، ويشعر بذلك رواية: دخل مكانهَ الذي اعتكفَ فيه، بلفظ الماضي، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 126 - 127). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 255).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهِيَ حَائِضٌ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي المَسْجِدِ، وَهِيَ فِي الحُجْرَةِ، يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ لا يَدْخُلُ البَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الإِنْسَان (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كُنْتُ لأَدْخُلُ البَيْتَ لِلْحَاجَةِ، وَفِيهِ المَرِيضُ، فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلَّا وَأَنَّا مَارَّةٌ (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1941)، كتاب: الاعتكاف، باب: المعتكف يدخل رأسه البيت للغسل، واللفظ له، والنسائي (386)، كتاب: الحيض والاستحاضة، باب: ترجيل الحائض رأس زوجها وهو معتكف في المسجد، من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، به. (¬2) رواه مسلم (297/ 6)، كتاب: الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، واللفظ له، وأبو داود (2467)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف يدخل البيت لحاجته، والترمذي (804)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف يخرج لحاجته أم لا؟، من طريق مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة، به. (¬3) رواه البخاري (1925)، كتاب: الاعتكاف، باب: لا يدخل البيت إلا لحاجة، ومسلم (297/ 7)، كتاب: الحيض، باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، واللفظ له، وأبو داود (2468)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف يدخل البيت لحاجته، والترمذي (805)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف =

(عن عائشة) أُمِّ المؤمنين الصدِّيقة (-رضي اللَّه عنها-: أنها كانت تُرَجِّلُ)؛ أي: تمشِّطُ وتسرِّحُ شعرَ رأسِ (النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-)، وتنظِّفه، وتحسِّنه (¬1)، (وهي)؛ أي: والحال أنها (حائض)، فيه دليل على طهارة بدن الحائض (¬2). وفي رواية عنها، قالت: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يباشرني -أي: يمسُّ بشرتي- من غير جماع، وأنا حائضٌ، وكان يُخرج رأسَه من المسجد، (وهو معتكف)، فأغسله وأنا حائض (¬3)، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- معتكفٌ (في المسجد) الشريف النبوي، (وهي)؛ أي: عائشةُ -رضي اللَّه عنها- (في حجرتها)؛ أي: بيتها، والجمع حُجَر، وهي البيوت، وكل موضعٍ حُجر عليه بحجارة فهو حُجْرة، والحجار: الحائط (¬4)، (يناولُها)؛ أي: يناول النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشةَ الصديقةَ -رضي اللَّه عنها- (رأسَه) الشريفَ لترجِّلَه. ¬

_ = يخرج لحاجته أم لا، وابن ماجه (1776)، كتاب: الصيام، باب: في المعتكف يعود المريض ويشهد الجنائز، من طريق الليث، عن الزهري، عن عروة وعمرة، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-، به. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 329)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 129)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 256)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 925)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 410)، و"طرح التثريب" للعراقي (4/ 172)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 273)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 265)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 448)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 356). (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 440). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 256). (¬3) رواه البخاري (1926)، كتاب: الاعتكاف، باب: غسل المعتكف. (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (18/ 141).

وفي لفظ، قالت: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصْغي -بضم المثناة تحت وسكون الصاد المهملة وكسر الغين المعجمة-؛ أي: يدني، ويميل إليَّ رأسَهُ -منصوبٌ بيصغي- وهو مجاورٌ، أي: معتكفٌ في المسجد (¬1)، والجملة حالية (¬2). وعند الإمام أحمد: كان يأتيني وهو معتكفٌ في المسجد، فيتكىء على باب حجرتي، فأغسلُ رأسَه وسائرُه في المسجد (¬3). وفيه: أن إخراج البعض لا يجري مجرى الكُل، وينبني عليه: ما لو حلف لا يدخل بيتًا، فأدخل بعض أعضائه؛ كرأسه، لم يحنث (¬4). قال في "الفروع": وإن أخرج -يعني: المعتكف- بعضَ جسده، لم يبطل في المنصوص؛ وفاقًا. واستدل بحديث عائشة هذا، وإن أخرج جميعَه مختارًا عمدًا، بطل، وإن قَلَّ؛ وفاقًا. وأبطله أَبو يوسف، ومحمدُ بأكثرَ من نصفِ يومٍ فقط. وأبطله الثوريُّ والحسنُ بنُ صالح إن دخل تحتَ سقفٍ ليس ممرُّه فيه (¬5). (وفي رواية) عنها في "الصحيحين": (وكان) -صلى اللَّه عليه وسلم- (لا يدخلُ البيتَ إلا لحاجة الإنسان). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1924)، كتاب: الاعتكاف، باب: الحائض ترجل المعتكف. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 440). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 86). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 440). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 140).

فَسَّرها الزهريُّ راويه بالبولِ والغائطِ، والتحقيقُ استثناؤهما (¬1)؛ كسائر ما لابدَّ له من الخروج إليه. وفيه: دليل على عدم بطلانه بدخوله لحاجته تحت سقف؛ خلافًا للثوري ومَنْ وافقه (¬2). وإن قال المعتكف: متى مرضت، أو عرض لي عارض، خرجْتُ، فله شرطُه (¬3). وله السؤال عن المريض في طريقه إذا خرجَ لما لا بدَّ منه، ما لم يعرِّجْ أو يقفْ لمسألةٍ (¬4)، (و) عليه يحمل ما (في رواية) في "الصحيحين": (أن عائشة) -رضي اللَّه عنها- (قالت: إني كنتُ لأدخلُ البيتَ للحاجة) التي خرجتُ لها، (وفيه) -الواو للحال-؛ أي: في البيت (المريضُ، فما أسأل عنه)؛ أي: المريضِ (إلا وأنا مارَّةٌ) من غير وقوف عندَه للمسألة. وروى أَبو داود من حديث عائشة -رضى اللَّه عنها-: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان لا يُعرِّج يسأل عن المريض (¬5). قال في "الفروع": لا يجوز خروجُ المعتكفِ إلا لما لا بدَّ منه، فلا يخرج لكل قُربة لا تتعين؛ كعيادة مريض، وزيارة، وشهودِ جنازةٍ، وتحمُّلِ شهادةٍ وأدائِها، وتغسيلِ ميتٍ. نص عليه الإمام أحمد، واختاره الأصحاب؛ وفاقًا للأئمة الثلاثة، انتهى (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 440). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 133). (¬3) المرجع السابق، (3/ 138). (¬4) المرجع السابق، (3/ 148). (¬5) رواه أَبو داود (2472)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف يعود المريض. (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 137).

فلا يخرج لشيء من ذلك إلا بشرط، أو وجوب. قال في "الفروع": كانوا يُحبون للمعتكِفِ أن يشترطَ هذهِ الخصالَ (¬1). قال في "الإقناع": وإن شرطَ ما لَهُ منه بُدٌّ، وليس بقربة؛ كالعَشاء في منزله، والمبيتِ فيه، جاز له فعله؛ لا إن شرط الوطء، أو الفرجة، أو النزهة، أو الخروج للبيع والشراء، أو لتكسب في الصناعة في المسجد، انتهى (¬2). تنبيه: إن خرجَ لِما لا بدَّ منه، فسأل عن المريض أو غيره، ولم يعرِّجْ، جاز له وفاقًا؛ لما سبق، وكبيعه وشرائه، ولم يقف لذلك، فأما إن وقف لمسألته، بطل اعتكافُه؛ وفاقًا، وللشافعية وجهٌ: لا بأس بقدر صلاة الجنازة. وعن مالك: إن خرج لحاجة الإنسان، فلقيه ولدُه، أو شرب ماءً وهو قائم، أرجو أن لا بأس. والمعتمدُ في الخروج لِما لا بدَّ منه لا يجوز معه ما يزدادُ به زمانُه مما منه بُدٌّ؛ لأنه يفوت به جزءًا مستحقًا من اللبث بلا عذر؛ كما لو خرج له، ويجوز معه ما لا يزداد به زمانُه غير المباشرة؛ لأنه لا يفوت به حقًا، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 521). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 139).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ ليْلَةً، وَفِي رِوَايةٍ: يَوْمًا فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ: "فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1927)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف ليلًا، و (1937)، باب: من لم ير عليه صومًا إذا اعتكف، و (1938)، باب: إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم، و (2975)، كتاب: الخمس، باب: ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، و (4065)، كتاب: المغازي، باب: قول اللَّه تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أعْجَبَتْكُمْ} [التوبة: 25]، و (6319)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا نذر أو حلف ألَّا يكلم إنسانًا في الجاهلية ثم أسلم، ومسلم (1656/ 27 - 28)، كتاب: الأيمان، باب: نذر الكافر، وما يفعل فيه إذا أسلم، وأبو داود (3325)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من نذر في الجاهلية ثم أدرك الإسلام، والترمذي (1539)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في وفاء النذر، وابن ماجه (2129)، كتاب: الكفارات، باب: الوفاء بالنذر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 424)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 644)، و"شرح مسلم" للنووي (1/ 124)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 258)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 927)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 274)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 146)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 440)، و"سبل السلام" =

وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْضُ الرُّوَاةِ: "يَوْمًا"، وَلا "لَيْلَةً". (عن) أميرِ المؤمنين أبي حفصٍ (عمرَ بنِ الخطاب -رضي اللَّه عنه-، قال: قلتُ: يا رسول اللَّه!) وكان سؤاله -رضي اللَّه عنه- له -صلى اللَّه عليه وسلم- بالجِعْرَانة لما رجعوا من حنين -أي: ومن محاصرة الطائف- (إني كنت نذرتُ في الجاهلية أن أعتكفَ ليلةً) في المسجد الحرام؛ أي: حول الكعبة. ولم يكن في عهده -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أبي بكر -رضي اللَّه عنه- جدار، بل الدورُ حول البيت، وبينها أبوابٌ لدخول الناس، فوسَّعه -رضي اللَّه عنه- بدورٍ اشتراها، وذلك سنة خمس عشرة من الهجرة، ومن أبى البيع، هدم داره، وترك ثمنَها لأربابها في خزانة الكعبة، واتخذها للمسجد جدارًا قصيرًا دونَ القامة، ثم تتابع الناس على عمارته وتوسيعه (¬1)، منهم سيدُنا عثمانُ بن عفان -رضي اللَّه عنه-، فعلَ كعمرَ في سنة ستٍّ وعشرين من الهجرة، ثم وسَّعَ عبدُ اللَّه بن الزبير -رضي اللَّه عنهما- من جانبه الشرقي واليماني. ثم وسَّعَ المنصورُ ثاني خلفاء بني العباس من جهة الشمالي والغربي، وكان ما زاده مثل ما كان من قبل. وابتدأ في العمل في المحرم سنة سبع وثلاثين ومئة، وفرغ في ذي الحجة سنة أربعين ومئة. ثم إن الخليفة المهديَّ -وهو أبو عبد اللَّه محمدُ بنُ أبي جعفرٍ المنصورِ العباسيِّ- حجَّ في سنة ستين ومئة، وجرد الكعبة، وطلى جدرانها بالمسك والعنبر من أعلاها إلى أسفلها، ووسّعَ المسجدَ من جانبه اليماني والغربي، ¬

_ = للصنعاني (4/ 115)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 359). (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 441).

حتى صار ما هو عليه اليوم، خلا الزيادتين؛ فإنهما أُحدثا بعده، وكانت الكعبة في جانب المسجد، ولم تكن متوسطة، فهدم حيطان المسجد، واشترى الدور والمنازل، وأحضر المهندسين، وصَيَّرَ الكعبةَ في الوسط، وكانت توسعتُه الأولى في أول سنة إحدى وستين، والثانية في سنة سبع وستين ومئة، وهي السنة التي عمر فيها مسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فليس لأحد من الملوك في عِمارة المسجد الحرام مثلُ ما للمهدي. وأما عبدُ الملك بنُ مروانَ، فإنما رفعَ جدرانه، وسَقَفَه بالسَّاج، وعمره ابنُه الوليد، وسقَفَهُ بالساج المزخرَف، وجعل من داخله الرخامَ. وزيد فيه بعد المهدي زيادة دار الندوة بالباب الشامي، والزيادة المعروفة بزيادة باب إبراهيم بالجانب الغربي. وكان إنشاء زيادة دار الندوة في زمن المعتضد العباسي، وابتدأ الكتابة إليه في سنة إحدى وثمانين ومئتين. وكان عملُ الزيادة التي بباب إبراهيم في سنة ست وسبعين وثلاث مئة، كما ذكر ذلك أهلُ التاريخ، ومن اعتنى بأمور مكة ومسجدها الشريف، واللَّه الموفق (¬1). (وفي رواية): أن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: كنتُ نذرتُ في الجاهلية أن أعتكفَ (يومًا) بدلَ ليلةً (في المسجد الحرام) المكي -زاده اللَّه تشريفًا وتعظيمًا-. (قال) -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمر -رضي اللَّه عنه-: (فَأَوْفِ بنذرِكَ) الذي نذرتَهُ، ولو كان نذرُك له من مدة الجاهلية. ¬

_ (¬1) انظر: "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" لأبي الطيب الفاسي (1/ 359) وما بعدها.

واستدل بقوله: أن أعتكف ليلةً على عدم اعتبار الصوم في الاعتكافِ؛ لأن الليل ليس ظرفًا للصوم، فلو كان الصوم شرطًا، لأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- به، نعم، عند "مسلم": يومًا، بدل: ليلة؛ كما ذكره الحافظ. وجمع ابن حبان (¬1) وغيرُه بين الروايتين: بأنه نذرَ اعتكافَ يومٍ وليلةٍ، فمن أطلق ليلة، أراد: بيومها، ومن أطلق يومًا، أراد: بليلته (¬2). قال الحافظ المصنف -طيب اللَّه روحه-: (ولم يذكر بعضُ الرواة) لهذا الحديث (يومًا ولا ليلة)، بل قال نافع عن عمر -رضي اللَّه عنهما-: إن عمر -رضي اللَّه عنه- نذرَ في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام. قال عبيد أحدُ رواة هذا الحديث، وهو شيخ البخاري، أو القائلُ البخاري نفسُه: أُراه -بضم الهمزة-؛ أي: أظنه ليلة (¬3). زاد البخاري في رواية: فاعتكف ليلة (¬4). قال في "الفروع": ويصحُّ -يعني: الاعتكاف- بغير صوم، هذا المذهب؛ وفاقًا للشافعي. واستدل بحديث قصة عمر هذه، وبحديث ابن عباس: "ليسَ على المعتكِفِ صيامٌ إلا أن يجعلَهُ على نفِسه" رواه الدارقطني، وقال: رفعه أبو بكر السوسي، وغيرهُ لا يرفعه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح ابن حبان" (10/ 226). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 441). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1938). (¬4) تقدم تخريجه برقم (1937) عنده. (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 199)، والحاكم في "المستدرك" (1603)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 318)، وقد رجح وقفه.

قال صاحب "المحرر": هو ثقة، فُيقبل رفعُه وزيادته، ولأنه لا دليلَ على اعتبار الصوم في الاعتكاف. وأما حديث: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لعمر: "اعتكفْ وصُمْ"، فتفرد به عبدُ اللَّه بن بديل، وله مناكير، ورواه أبو داود، وضغَفه، وضعَّفَ هذه الزيادة أبو بكر النيسابوري، والدارقطني، وغيرُه (¬1). ثم على فرض ثبوت ذلك، فالأمر به استحبابًا، أو يكون عمر -رضي اللَّه عنه- نذر الصومَ مع الاعتكاف؛ بدليل قوله: إنه نذر أن يعتكف في الشرك ويصومَ. قال الدارقطني: إسنادهُ حسن، تفرد به سعيدُ بن بشير (¬2). وأقوال الصحابة مختلفة. وعن الإمام أحمد: أنه لا يصح الاعتكاف بغير صوم؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، فعلى هذا: لا يصح ليلة مفردة (¬3). ولا يخفى أن صنيع الحافظ عدمُ اشتراط الصوم، وهو المذهب المعتمد. وفي الحديث: دليلٌ على صحة النذر من الكافر، وجزم به علماؤنا. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2474)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف يعود المريض، والدارقطني في "سننه" (2/ 200)، والحاكم في "المستدرك" (1604)، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 201)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 317). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 117 - 118).

قال في "الفروع" في النذر: ولا يصح إلا من مكلَّف -ولو كافرًا- بعبادة، نص عليه -يعني: الإمام أحمد- (¬1). قال ابن دقيق العيد: يَستدل به من يرى صحةَ النذر من الكافر، قال: وهو قولٌ، أو وجهٌ في مذهب الشافعي. والأشهر -يعني: عند الشافعية-: أنه لا يصح؛ لأن النذر قُربة، والكافر ليس من أهل القُرَب. ومن يقول بهذا يحتاج إلى أن يؤول الحديث: بأنه أمر بأن يأتي باعتكاف يوم شبيه بما نذر؛ لئلا يخل بعبادةٍ نوى فعلَها، فأطلق عليه أنه منذور؛ لشبهه بالمنذور، وقيامِه مقامه في فعل ما نواه من الطاعة. وعليه: إما أن يكون قوله: "أوف بنذرك" من مجاز الحذف، أو مجاز التشبيه، وظاهر الحديث خلافُه؛ لعدم الملجئ إلى مثل هذا التأويل (¬2). وأجاب بعض من لا يرى انعقادَ النذر من الكافر: بأن المرادَ: أنه نذرَ بعدَ إسلامه في زمن لا يقدر أن يفي بنذره فيه؛ لمنع الجاهلية للمسلمين من دخول مكة، ومن الوصول إلى الحرم. وهذا مردود بما أخرجه الدارقطني من طريق سعيد بن بشير، عن عبيد اللَّه، بلفظ: نذر عمرُ أن يعتكفَ في الشركِ (¬3)، فهو صريح في أن نذره كان قبلَ إسلامه في الجاهلية، كما في القسطلاني (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (6/ 353). (¬2) أنظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 258). (¬3) تقدم تخريجه قريبًا. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 441).

تنبيه: الذي جزم علماؤنا في باب الاعتكاف إلى اعتبار كونه مسلمًا عاقلًا مميِّزًا طاهرًا مما يوجب غُسلًا. قال في "الفروع": ولا يصحُّ من كافر، ومجنون، وطفل؛ كصلاة وصوم. قال صاحب "المحرر": لا أعلم فيه خلافًا، وكذا ذكر غيرُه، لخروجه بالجنون عن كونه من أهل المسجد، ثم قال: ويأتي في النذر نذرُ الكافر، انتهى (¬1). وحاصل المذهب: انعقاد نذر الاعتكاف من الكافر، إلا أنه لا يتأتَّى صحته منه إلا بعد إسلامه، واللَّه أعلم. وفي الحديث: دليلٌ على لزوم نذرِ القُربة. وربما استَدل بعمومه: مَنْ يرى وجوبَ الوفاء بكلِّ منذور (¬2)، ويأتي الكلام عليه في بابه -إن شاء اللَّه تعالى-. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 110). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 258).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ صَفِيَّةَ بنْتِ حُيَيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَاَلتْ: كانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُعْتكِفًا، فَأتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ، فَقَامَ مَعِيَ لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَان مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَسْرَعَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَلَىَ رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بنْتُ حُيَيٍّ"، فَقَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ يا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا"، أَوْ قَالَ: "شَيْئًا" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ فِي اعْتِكافِهِ فِي المَسْجِدِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3107)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، واللفظ له، ومسلم (2175/ 24)، كتاب: السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئي خاليًا بامرأة، وكانت زوجة أو محرمًا له، أن يقول: هذه فلانة؛ ليدفع ظن السوء به، وأبو داود (2470)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف يدخل البيت لحاجته، و (4994)، كتاب: الأدب، باب: في حسن الظن، وابن ماجه (1779)، كتاب: الصيام، باب: في المعتكف يزوره أهله في المسجد، من طريق معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن صفية -رضي اللَّه عنها-، به.

حَتَّى إذَا بَلَغَتْ بَابَ المَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ (¬1). * * * (عن) أُمِّ المؤمنينَ (صَفِيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ) -بضم الحاء وفتح المثناة تحت بعد مثلها مشددة- تصغير حَيٍّ، ويجوز -كسرُ الحاء- أيضًا، بنِ أَخْطَبَ -بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة- بنِ سَعْيَة -بفتح السين وسكون العين المهملتين وفتح المثناة تحت- من بني إسرائيل، من سبط هارون بنِ عمرانَ -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-. كانت صفية (-رضي اللَّه عنها-) عند سلامِ بنِ مِشْكَم، وكان شاعرًا، فقُتل يومَ خيبر، كذا نقله البرماوي، والذي في "السيرة": أنها كانت عند سلامٍ المذكورِ، ثم عندَ كِنانةَ بنِ الربيع، فقتلَ يومَ خيبر، وأُمُّها بَرَّةُ بنتُ سموأل أختُ رفاعة بنِ سموأل القرظيِّ، فتزوجها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد أن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1930)، كتاب: الاعتكاف، باب: هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد؟ و (5865)، كتاب: الأدب، باب: التكبير والتسبيح عند التعجب، ومسلم (2175/ 25)، كتاب: السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئي خاليًا بامرأة، وكانت زوجة أو محرمًا له أن يقول: هذه فلانة؛ ليدفع ظن السوء به، وأبو داود (2471)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف يدخل البيت لحاجته، من طريق شعيب، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن صفية -رضي اللَّه عنها-، به. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 141)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 63)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 503)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 156)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 260)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 929)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 194)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 278)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 154)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 442).

أعتقها، وجعل عتقها صداقها، وذلك سنةَ سبعٍ من الهجرة. وفي "سنن الترمذي" عنها -رضي اللَّه عنها-: دخل عليَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد بلغني كلامٌ عن حفصةَ وعائشةَ، فذكرتُ ذلك له، فقال: "أَلا قلتِ: كيفَ تكونانِ خيرًا مني، وزوجي محمدٌ، وأبي هارونُ، وعمي موسى؟! " (¬1). وكان الذي قالتا: نحن على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أكرمُ منها، وقالوا: نحن أزواج النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وبناتُ عمه. وفي أخرى: دخل عليَّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنا أبكي، وكانت حفصةُ قالت: يا بنتَ يهود! فأخبرتُهُ، فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا تتقين اللَّهَ يا حفصةُ؟! إنها لابنةُ نَبِيٍّ، وإن عَمَّها لنبيٌّ، وإنها لتحتَ نبيٍّ، فبم تفتخر عليك؟ " (¬2). وفي الترمذي، والنسائي: بلغ صفيةَ أن حفصةَ قالت: يا بنتَ يهودي! فبكت، الحديث، وفيه: "إنَّكِ لابنةُ نبيٍّ، وإن عَمَّكِ لنبيٌّ، وإنك لتحتَ نبيٍّ، فبمَ تفتخر عليك؟ "، ثم قال: "اتَّقي اللَّهَ يا حفصة". قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (¬3). وكانت -رضي اللَّه عنها- حليمةً عاقلةً فاضلةً. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3892)، كتاب: المناقب، باب: فضل أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: غريب، والطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 75)، وفي "المعجم الأوسط" (8503)، والحاكم في "المستدرك" (6790). (¬2) انظر: تخريج الحديث الآتي. (¬3) رواه الترمذي (3894)، كتاب: المناقب، باب: فضل أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والنسائي في "السنن الكبرى" (8919).

روي: أن جاريةً لها أتت عمرَ بنَ الخطاب -رضي اللَّه عنه-، فقالت له: إن صفيةَ تحبُّ السبتَ، وتَصِلُ اليهودَ، فبعث إليها عمرُ، فسألها، فقالت: أما السبتُ، فإني لم أُحِبَّهُ منذُ أبدلني اللَّه يومَ الجمعة، وأما اليهودُ، فإن لي منهم رحمًا، فأنا أَصِلُها، ثم قالت للجارية: ما حَمَلَكِ على ما صنعت؟ قالت: الشيطانُ، قالت: اذهبي فأنتِ حرةٌ. توفيت -رضي اللَّه عنها- في رمضان في زمن معاويةَ سنة خمسين، وقيل: اثنتين وخمسين، واتفقوا على أنها دُفنت بالبقيع. رُوي لها عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عشرةُ أحاديث، اتفقا على حديث واحد، وهو الذي نحن بصدد شرحه -رضي اللَّه عنها- (¬1). (قالت) أُم المؤمنين صفيةُ بنتُ حُيَيِّ بنِ أخطبَ: (كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- معتكفًا) في مسجده الشريف، (فأتيته أَزورُه ليلًا)، زاد في رواية صحيحة: وأزواجُه -صلى اللَّه عليه وسلم- عنده، فرحن إلى منازلهن، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم- لصفية بنت حُيي: "لا تَعْجَلي حتى أَنصرفَ معكِ" (¬2). قالت: (فحدَّثْتُه). وفي لفظ: فتحدثت عنده ساعة (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 120)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (5/ 440)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 197)، و"المستدرك" للحاكم (4/ 30)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1871)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 51)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 168)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 614)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 210)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 231)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 738). (¬2) رواه البخاري (1933)، كتاب: الاعتكاف، باب: زيارة المرأة زوجها في اعتكافه. (¬3) تقدم تخريجه آنفًا عند البخاري برقم (1933)، وعند مسلم برقم (2175/ 25).

زاد البخاري في "الأدب": من العشاء (¬1)، وكان مجيئها تأخَّر عن رفقتها، فأمرها بالتأخُّر ليحصلَ التساوي في مدة جلوسهنَّ عنده، أو أن بيوتَ رفقتها كانت أقربَ، فخشيَ عليها، وكان مشغولًا، فأمرها بالتأخير؛ ليفرغ، ويشيعها (¬2). (ثم قمتُ لأنقلبَ). وفي لفظ: ثم قامت -أي: صفية- تنقلب (¬3)؛ أي: ترد إلى منزلها. (فقام) صلى اللَّه عليه وسلم (معي ليقلبني)؛ أي: يردني إلى مسكني، (وكان مسكنُها في دار أسامة)؛ أي: الدار التي صارت بعد ذلك لأسامة (بنِ زيدٍ) -رضي اللَّه عنهما-؛ لأن أسامة إذ ذاك لم يكن له دار مستقلة بحيث تسكنُ فيها صفية. وتأتي ترجمته في باب: فسخ الحج إلى العمرة -إن شاء اللَّه تعالى- (¬4). (فمرَّ رجلانِ من الأنصار). قال البرماوي: قال ابنُ العطار في "شرح العمدة": هما أُسيد بن حُضير، وعباد بن بشر (¬5)، وأنكر بعضهم عليه ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5865) من كتاب: الأدب في "صحيحه". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 278). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1930، 2934، 5865)، وعند مسلم برقم (2175/ 25). (¬4) انظر ترجمته (ص: 395) من هذا الجزء، الحديث الرابع من باب فسخ الحج إلى العمرة. (¬5) انظر: "العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 931)، وقال عنهما: صاحبا المصباحين. (¬6) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 279): ولم يذكرا لذلك مستندًا.

وقال: إنما هذا من حديث أنس: خرج رجلان من عند النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ليلة مظلمة، ومعهما مثل المصباحين، الحديث (¬1). قال ابن بشكوال (¬2): هما أُسيد بن حضير، وعباد بن بشر، كذا في النسائي، و"مسند الطيالسي" (¬3)، وغيرهما، فهذا هو المعروف. وأما أن يفسر بهما الرجلان في حديث صفية، فلا يساعد عليه نقل. وأُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ -بضم أولهما-، وعَبَّادٌ -بفتح العين والتشديد-، (فلما رأيا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أسرعا) في مشيهما، وفي رواية: فنظرا إلى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم أجازا (¬4). وفي رواية: فنظر، فلما رأياه، استحييا، فرجعا (¬5). وفي رواية: فسلَّما على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، (فقال) لهما (النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: على رِسْلِكِما) -بكسر الراء وسكون السين المهملة-؛ أي: على هينتكما، فليس شيء تكرهانه (¬7). (إنها)، وفي لفظ: إنما هي (¬8) (صفيةُ بنتُ حُيي) بنِ أخطبَ، (فقالا)؛ أي: الرجلان: (سبحان اللَّه يا رسول اللَّه!)؛ أي: تنزه اللَّه عن أن يكون ¬

_ (¬1) رواه البخاري (453)، كتاب: القبلة، باب: إدخال البعير في المسجد للعلة. (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 74). (¬3) رواه الطيالسي في "مسنده" (2035)، والنسائي في "السنن الكبرى" (8245). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1933). (¬5) رواه أبو يعلى في "مسنده" (7121)، وابن حبان في "صحيحه" (4496). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1930، 2934، 5865). (¬7) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 443). (¬8) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1930، 5865، 6750).

[رسوله متهمًا بما لا ينبغي، أو كناية عن التعجب] من هذا القول، [وفي رواية]: وكبر عليهما (¬1)؛ أي: عظم وشق ما قال -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وفي رواية هشيم: فقالا: يا رسول اللَّه! وهل نظنُّ بكَ إلا خيرًا؟ (¬3) (فقال) النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إنَّ الشيطانَ يجري من ابن آدمَ) من ذكرٍ وأنثى (مجرى الدم) من الجسد، ووجه الشبه: شدةُ الاتصال، وعدم المفارقة (¬4)، وهو كناية عن الوسوسة (¬5)، (وإني خشيت أن يقذف) الشيطانُ (في قلوبكما شرًّا). كذا لمسلم، وأبي داود: (أو قال: شيئًا) كما في البخاري: ولم يقل: شرًا، ولم يكن -صلى اللَّه عليه وسلم- نسبهما أنهما يظنان به سوءًا لما تقرر عنده من صدق إيمانهما، ولكن خشي عليهما أن يوسوس لهما الشيطان ذلك، لأنهما غيرُ معصومين، فقد يُفضي بهما ذلك إلى الهلاك، فبادر إلى إعلامهما؛ حسمًا للمادة، وتعليمًا لمن بعده إذا وقع له مثلُ ذلك (¬6). وقد روى الحاكم: أن الشافعي كان في مجلس ابن عيينة، فسأل عن هذا الحديث، فقال الشافعي: إنما قال لهما ذلك؛ لأنه خاف عليهما الكفر إن ظنا به التهمة، فبادر إلى إعلامهما، نصيحة لهما قبل أن يقذف الشيطان في نفوسهما شيئًا يهلكان به (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1930، 2934، 5865). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 443). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 279). (¬4) المرجع السابق، (4/ 280). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 443). (¬6) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 280).

وفي "طبقات العبادي" (¬1): أن الشافعي سئل عن خبر صفية، فقال: إنه على التعليم، عَلَّمَنا إذا حدثنا محارمنا أو نساءنا على الطريق أن نقول: هي محرمي؛ حتى لا نتهم (¬2). وقال ابن دقيق العيد: فيه دليل على التحرز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إليه مما لا ينبغي، وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يُقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلًا يوجب ظنَّ السوء بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم. وقد قالوا: إنه ينبغي للحاكم أن يبين وجهَ الحكم للمحكوم عليه إذا خفي عنه، وهو من باب نفي التهمة بالنسبة إلى الجور في الحكم. وفي الحديث: دليلٌ على هجوم خواطر الشيطان على النفس، وما كان من ذلك غيرَ مقدور على دفعه لا يؤاخذ به؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. ولقوله -عليه السلام- في الوسوسة التي يتعاظم الإنسان أن يتكلم بها: "ذلك مَحْضُ الإيمان" (¬3). ¬

_ (¬1) هو كتاب: "طبقات الشافعية" للإمام الكبير أبي عاصم محمد بن أحمد العبادي، المتوفى سنة (458 هـ)، أتى فيه بالغرائب والفوائد، إلا أنه اختصر في التراجم جدًا، وربما ذكر اسم الرجل أو موضع الشهرة منه، ولم يزد على ذلك. انظر: "كشف الظنون" (2/ 1099). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 443). (¬3) رواه مسلم (132 - 133)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الوسوسة في الإيمان، وما يقوله من وجدها، عن أبي هريرة وابن مسعود -رضي اللَّه عنهما-.

وقد فسروه بأن التعاظم لذلك محضُ الإيمان، لا الوسوسةُ، لكن كيفما كان، ففيه دليل على عدم المؤاخَذَة به (¬1). (وفي رواية) في "الصحيحين": (أنها)؛ أي: صفيةُ بنتُ حُيي -رضي اللَّه عنها- (جاءت تزوره) -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو (في اعتكافه في المسجد) النبويِّ، وكان ذلك (في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة)، زاد البخاري في "الأدب": من العشاء (¬2)، (ثم قامت) صفيةُ (تنقلب)؛ أي: ترد وترجع من عنده إلى منزلها، (فقام النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- معها يَقْلِبُها) -بفتح الياء وسكون القاف وكسر اللام-؛ أي: يردها إلى منزلها (حتى إذا بلغتْ)؛ يعني: صفية -رضي اللَّه عنها- (بابَ المسجدِ عندَ بابِ أم سلمةَ) زوج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، (وذكره بمعناه) الذي تقدم في الرواية التي ساقها المصنف -رحمه اللَّه-. وظاهره: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج من باب المسجد، وإلا، فلا فائدة في قوله لها: "لا تَعْجَلي حتى أنصرفَ معك"، ولا فائدة لقلبها لباب المسجد فقط؛ لأن قلبَها إنما كان لبعدِ بيتها، يؤيد ذلك ما في رواية عبد الرزاق من طريق مروان بن سعيد بن المعلى: فذهبَ معها حتى أدخلها بيتها (¬3). ومن ثم ذكره البخاري في باب: هل يخرج المعتكفُ لحوائجِه إلى باب المسجد؟ (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 261). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5865)، في كتاب: الأدب من "صحيحه". (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (8066). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 443). (¬4) وقد تقدم تخريجه برقم (1930).

وفي "الصحيحين" عن علي بن الحسين، قال: كان النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في المسجد، وعنده أزواجهُ، فَرُحْنَ، فقال لصفيةَ بنتِ حُيي: "لا تعجلي حتى أنصرفَ معكِ" (¬1). وفي بعض ألفاظ البخاري: فأبصره رجلٌ من الأنصار (¬2)، وجعل القصةَ لواحد، كذا في "شرح البخاري" للقسطلاني، ويحمل حينئذ على الحاجة، وهي خوفه عليها (¬3). وظاهر ما في "الصحيحين": أنه لم يخرج إلا قوله لها: "لا تعجلي حتى أنصرفَ معك"، فربما أشعر بذلك لبعد بيتها. تنبيهات: أحدها: المعتاد للمعتكف من الأعذار حاجةُ الإنسان إجماعًا، وطهارةُ الحدث إجماعًا، والطعامُ والشرابُ إجماعًا، والجمعةُ إذا اعتكف في مسجد لا يُجَمَّعُ فيه، فيخرج إليها، ويخرج لمرضٍ يتعذر معه القيامُ فيه، أو لا يمكنه إلا بمشقة شديدة؛ بأن يحتاج إلى خدمةٍ وفراش؛ وفاقًا. وأما إن كان خفيفًا؛ كالصداع والحمَّى الخفيفة، لم يجز؛ وفاقًا، إلا أن يُباح به الفطر. وتخرج المرأة، وإلى نفاس. فلا يجوز للمعتكف أن يخرج لشهادة إلا أن يتعين عليه أداؤها، فيلزمه الخروجُ؛ خلافًا لمالك؛ لظاهر الآيات، وكالخروج إلى الجمعة، ولا يبطل اعتكافه؛ خلافًا لمالك، ولو لم يتعين عليه التحمُّل؛ خلافًا للشافعي. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (1934)، كتاب: الاعتكاف، باب: هل يدرأ المعتكف عن نفسه. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 445).

ويلزم المرأةَ أن تخرجَ لعدَّة الوفاة في منزلها؛ خلافًا لمالك؛ لوجوبه شرعًا؛ كالجمعة، وهو حق للَّه ولآدمي، لا يُستدرك إذا تُرك، ولا يبطل الاعتكاف. ويلزمه الخروجُ إن احتاج إليه لجهاد متعين، ولا يبطل به اعتكافه، وإنقاذِ غريق ونحوه، ولا يبطل اعتكافه؛ لأنه عذر في ترك الجمعة، فكذا هنا بالأولى (¬1). الثاني: لا يصح الاعتكاف من رجل تلزمه الصلاةُ جماعة في مدة اعتكافه إلا في مسجد تُقام فيه الجماعة؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ولو من رجلين معتكفين، وإلا تلزمْه الجماعة، صحَّ منه في مسجد غيره. ودليلُه: ما رواه سعيدُ بن منصور عن حذيفة: أنه قال لابن مسعود -رضي اللَّه عنهما-: لقد علمت أن رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة"، أو قال: "إلا في مسجد جماعة" حديث صحيح (¬2). وفي أبي داود من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: "ولا اعتكاف إلا في مسجدٍ جامعٍ"، ورواه الدارقطني بإسناد جيد (¬3). ولأن الجماعة واجبة، فيحرم تركُها، ويفسد الاعتكاف بتكرار الخروج، وعند مالك، والشافعي: يصح في كل مسجد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 131 - 132). (¬2) ورواه عبد الرزاق في "المصنف" (8014)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (9669)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9509 - 9510)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 316). (¬3) رواه أبو داود (2473)، كتاب: الصوم، باب: المعتكف يعود المريض، والدارقطني في "سننه" (2/ 201). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 113).

الثالث: لا يصح الاعتكاف إلا في مسجد، حكاه ابن عبد البر إجماعًا (¬1)، وجوزه بعضُ المالكية، وبعض الشافعية في مسجد بيته، وظَهْر المسجد، ورَحْبته المحوطة، والمنارة التي هي أو بابها فيه من المسجد، واللَّه أعلم (¬2). الرابع: أقلُّ الاعتكاف ساعة، والمراد بها: ما يقع عليه الاسم إذا وجد، فلو نذر اعتكافًا، وأطلق، أجزأته، ولا يكفي عبورُه (¬3). ويستحبُّ أَلَّا يَنْقُصَ عن يوم وليلة؛ للخروج من خلاف أبي حنيفة؛ فإن مذهبه: أقلُّ الاعتكاف يوم من أوله إلى منتهاه يمنعه (¬4). وتقدم عدم اعتبار الصوم في الاعتكاف، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 385). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 113 - 114). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 515). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 118).

كتاب الحج

كتاب الحج - بفتح الحاء المهملة لا بكسرها- في الأشهَر، وعكسُه شهر الحِجَّة، قاله في "الفروع" (¬1)، وفي "المطلع": -فتح الحاء وكسرها-: لغتان مشهورتان. والحج لغةً: عبارة عن القصد. وحكي عن الخليل: أنه كثرةُ القصدِ إلى من تُعظمه. قال الجوهري: ثم تُعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك (¬2). وفي "مغني" الإمام ابن قدامه: هو في الشرع: اسمٌ لأفعالٍ مخصوصة (¬3). والحجُّ فرض على كل مسلم مكلَّفٍ حُرٍّ مستطيعٍ في العمر مرةً واحدةً؛ إجماعًا، وهو فرض كفاية كل عام، وهو والعمرة أحد أركان الإسلام. وفُرض سنةَ تسعٍ في قول أكثر العلماء، وقيل: سنة عشر. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 151). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 303)، (مادة: حجج). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 85)، وانظر: "المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 156).

وقال بعض العلماء: سنة ست، وبعضهم: سنة خمس. ولم يحج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد هجرته سوى حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر، وكان قارنًا، نص عليه الإمام أحمد (¬1). قال الحافظ ابن الجوزي في كتابه "مُثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن": إنما حجَّ نبيُّنا -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد هجرته إلى المدينة مرةً واحدة، وإنما سُميت حجةَ الوداع؛ لأنه خطب الناس وودَّعَهم، فقالوا: هذه حجةُ الوداع. قال: فأما قبلَ الهجرة، فإنه قد حجَّ بعدَ النبوة، وقبلَها حجاتٍ لا يُعرف عددُها. ومجاهد يقول: حجَّ حجتين قبل أن يهاجرَ، ولعله يشيرُ إلى ما بعدَ النبوة، واللَّه أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 151). (¬2) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 210).

باب المواقيت

باب المواقيت جمعُ ميقات، وهو الزمان والمكان المضروبُ للفعل (¬1) وذكر الحافظ -رحمه اللَّه- في هذا الباب حديثين: * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 164).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسوُلَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَّتَ لِأَهلِ المَدِينَةِ: ذَا الحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ: الجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ المَنَازِلَ، وَلِأَهْلِ اليَمَنِ: يَلَمْلمَ، هُنَّ لهَنُ وَلمِنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرهِنَّ، مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ والعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1452)، كتاب: الحج، باب: مُهلّ أهل مكة للحج والعمرة، و (1454)، باب: مهل أهل الشام، و (1456)، باب: مهل من كان دون المواقيت، و (1457)، باب: مهل أهل اليمن، و (1748)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: دخول الحرم ومكة بغير إحرام، ومسلم (1181/ 11 - 12)، كتاب: الحج، باب: مواقيت الحج والعمرة، وأبو داود (1737)، كتاب: المناسك، باب: في المواقيت، والنسائي (2657 - 2658)، كتاب: المناسك، باب: من كان أهله دون الميقات. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 147)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 169)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 262)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 81)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 2)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 3)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 195)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 385)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 139)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 99)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 185)، =

(عن) أبي العباسِ (عيدِ اللَّه بنِ عباسٍ -رضي اللَّه عنْهما-: أَنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَّتَ)، أي: حدد المواضعَ الآتيةَ للإحرام، وجعلها ميقاتًا، وإن كان مأخوذًا من الوقت، إلا أنَّ (¬1) العرف يستعمله في مطلَق التحديد؛ اتساعًا، ويحتمل أن يريد به تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشرط المعتبر. وقد يكون بمعنى: أوجب، كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬2) [النساء: 103]. ويؤيده روايةُ ابن عمر عند البخاري: أنه أتاه زيدُ بنُ جُبير في منزله، وله فُسطاط، فسأله: من أين يجوز أن أعتمر؟ قال: فرضها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) (لأهلِ المدينةِ) النبوية لسكانها ومَنْ سلكَ طريقَهم فمرَّ على ميقاتهم (¬4) (ذَا الحُلَيْفَةِ) -بضم الحاء المهملة وفتح اللام مصغرًا-: موضع عن المدينة ستة أميال، وقيل: سبعة، نقله في "المطلع" (¬5) عن القاضي عياض (¬6)، وغيرِه، وذكر الرافعي من الشافعية: أنه بينه وبين المدينة ميلٌ (¬7)، والذي في "القاموس": ستةُ أميال (¬8). ¬

_ = و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 21). (¬1) في الأصل: "لأن"، والصواب ما أثبت. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 99). (¬3) سيأتي تخريجه في الحديث الثاني من هذا الباب. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 99). (¬5) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 164). (¬6) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 221). (¬7) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 98). (¬8) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1036)، (مادة: حلف).

وفي "المهمات": الصوابُ المعروفُ بالمشاهدة: أنها على ثلاثة أميال، أو تزيد قليلًا، كذا قال (¬1). والذي جزم به فقهاؤنا: أن بين ذي الحليفة والمدينة ستة أميال، وتعرف الآن بأبيار علي (¬2)؛ لأنهم يزعمون أن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب قاتلَ الجنَّ فيها، وهو كذبٌ لا أصلَ له (¬3)، وهو ماءٌ لبني جشم. والحَلَفُ -محركةً-: نبت معروف، الواحدة حَلِفَة؛ كَفَرِحَةٍ وخَشبةٍ، وصَحْراةٍ، كما في "القاموس" (¬4)، وهي قرية خَرِبةٌ، وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب، قاله القسطلاني (¬5)، وقول من قال؛ كابن الصباغ في "الشامل"، والروياني في "البحر": إنه على ميل من المدينة وَهْم يردُّه الحسُّ (¬6). (و) وَقَّتَ- صلى اللَّه عليه وسلم- (لأهل الشام)، زاد النسائي في حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: ومصر (¬7)، زاد الشافعي في روايته: والمغرب (¬8) (الجُحْفَةَ) -بضم الجيم وإسكان الحاء المهملة وفتح الفاء-: قرية على ستة أميال من البحر، ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 98). (¬2) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 400). (¬3) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 370). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1036)، (مادة: حلف). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 99). (¬6) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬7) رواه النسائي (2653)، كتاب: المناسك، باب: ميقات أهل مصر. (¬8) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 114)، من حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-.

وثمان مراحل من المدينة، ومن مكة خمس مراحل، أو ست، أو ثلاث، كذا في القسطلاني (¬1). وفي "المطالع" لابن قرقول: الجُحْفَةُ: قريةٌ جامعة بمنير على طريق المدينة من مكة وهي مَهْيَعَة، وسميت الجحفةَ؛ لأن السيل اجتحفها وحمل أهلَها، وهي على ستة أميال من البحر، وثمان مراحل، وقيل: نحو سبعة مراحل من المدينة، وثلاث من مكة (¬2). وفي "الإقناع": هي قرية كبيرة خربة بقرب رابغ (¬3) الذي يحرم منه الناس على يسار الذاهب إلى مكة، ومن أحْرم من رابغ، فقد أحرم قبل محاذاة الجحفة بيسير، بينها (¬4) وبين مكة ثلاث مراحل، وقيل: أكثر، انتهى (¬5). قلت: والذي شاهدناه عيانًا أن ما بين رابغ والمدينة خمس مراحل، وما بين مكة ورابغ خمسة، نَعَمْ، مَراحلُ ما بين مكة ورابغ قصيرةٌ بالنسبة إلى الأولى، واللَّه أعلم. قال ابن الكلبي: كان العماليق يسكنون يثرب، فوقع بينهم وبين عَبِيل -المهملة وكسر الموحدة-، وهم إخوة عاد، حربٌ، فأخرجوهم من يثرب، فنزلوا مَهْيَعَةَ، فجاء سيلٌ فاجتحفهم؛ أي: استأصلهم، فسميت ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 98). (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 168). (¬3) رابغ: واد عند الجحفة، يقطعه طريق الحاج، وله ذكر في المغازي وأيام العرب. انظر: "معجم البلدان" لياقوت (3/ 11). (¬4) في الأصل: "بينهما"، والصواب ما أثبت. (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 551).

الجحفة (¬1)، وهي الآن خربة لا يصل إليها أحد؛ لوخمها، وإنما يحرم الناس الآن من رابغ؛ لكونها محاذية لها (¬2). (و) وَقَّتَ (لأهلِ نجدٍ)؛ أي: ساكنيها، ومن سلك طريقَ سفرهم، فمرَّ على ميقاتهم. ونجد -بفتح النون وسكون الجيم آخره دال مهملة-: ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق، قاله في "الصحاح" (¬3). وقال في "المشارق": ما بين جرش إلى سواد الكوفة، وحَدُّه مما يلي الغرب الحجاز، وعن يسار الكعبة اليمن، قال: ونجدٌ كلُّها من عمل اليَمامة (¬4). وقال في "النهاية": النجدُ: ما ارتفع من الأرض، وهو اسم خاص لما دون الحجاز مما يلي العراق (¬5). وفي "القاموس": النجد: ما أشرفَ من الأرض، وما خالفَ الغَوْرَ -أي: تهامة-، وتُضم جيمُه، مذكر، أعلاه تهامة، واليمن، وأسفله العراق والشام، وأوله من جهة الحجاز ذاتُ عِرْق (¬6). (قَرْنَ المنازل) -بسكون الراء بلا خلاف-، ويسمى: قرنَ الثعالب (¬7)، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 385). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 98). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 542)، (مادة: نجد). (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 34). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 18). (¬6) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 410)، (مادة: نجد). (¬7) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 54).

سمي بذلك؛ لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب (¬1). وحكى الروياني من الشافعية عن بعض قدماء علمائهم: أنهما موضعان: أحدُهما في هبوط، وهو الذي يقال له: قرن المنازل، والآخرُ في صعود، وهو الذي يقال له: قرن الثعالب، والمعروف أنه موضع واحد (¬2). لكن في "أخبار مكة" للفاكهي: أن قرن الثعالب جبلٌ مشرف على أسفل منى، بينه وبين منى ألف وخمس مئة ذراع (¬3)، فظهر على هذا أن قرن الثعالب ليس من المواقيت (¬4). قال في "المطلع": وقرن المنازل على يوم وليلة من مكة (¬5). وقال النووي: على نحو مرحلتين من مكة (¬6). وغُلِّط الجوهريُّ في تحريكه (¬7)، وفي نسبة أويس القرني إليه؛ لأنه منسوب إلى قَرَنِ بنِ ردمان بنِ ناجية بنِ مرادٍ أحدِ أجداده. انتهى (¬8). وفي "القاموس": قرية عند الطائف، أو اسم الوادي كله. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 385). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلانى (3/ 99)، نقلًا عن "فتح الباري" لابن حجر (3/ 385). (¬3) انظر: "أخبار مكة" للفاكهي (4/ 282). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 100). (¬5) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 166). (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 155). (¬7) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2181)، (مادة: قرن). (¬8) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1578 - 1579)، (مادة: قرن).

وثبت في مسلم نحوه (¬1)، لكن قال القابسي: من سَكَّن، أرادَ الجبلَ، ومن فتحَ، أراد الطريق الذي بقرب منه (¬2). قال في "المطلع": قَرَن بفتح الراء: قبيلةٌ من اليمن، قال: وقد غلط غيره -يعني: الجوهريَّ- من العلماء مِمَّن ذكره بفتح الراء، وزعم أن أويسًا منه، إنما هو من قَرَن -بفتح الراء-: بطن من مراد، انتهى (¬3). (و) وَقَّتَ -صلى اللَّه عليه وسلم- (لأهل اليمن) إذا مروا بطريق تهامةَ، ومن سلكَ طريقَ سفرِهم، ومرَّ على ميقاتهم (¬4) (يلَمْلَمَ) -بفتح الياء واللامين وسكون الميم الأولى بين اللامين غير منصرف-: جبل من جبال تهامة، ويقال فيه: أَلملم -بهمزة بدل الياء- على مرحلتين من مكة (¬5). قال في "المطلع"، و"المطالع": أَلملم، ويقال: يَلَمْلَم: من جبال تهامة، على ليلتين من مكة، والياء فيه بدل من الهمزة، وليست بمزيدة. وحكى اللغتين فيه الجوهريُّ (¬6) وغيره (¬7). واليمن: كلُّ ما كان عن يمين الكعبة من بلاد الغور (¬8). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2542)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أويس القرني -رضي اللَّه عنه-. (¬2) حكاه القاضي عياض في "مشارق الأنوار" (2/ 199). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 166). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلانى (3/ 100). (¬5) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬6) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 2033)، (مادة: لمم). (¬7) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 166). (¬8) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 306).

قال الجوهري: اليمنُ بلاد العرب (¬1). وفي "القاموس": اليمن -محركة-: ما عن يمين القبلة من بلاد الغور، والنسبة إليها: يَمَنِيٌّ، [ويمانيٌّ]، ويَمانٍ (¬2) -مخففة-، والألف عوض عن ياء النسبة، فلا تجتمعان. قال سيبويه: وبعضُهم يقول: يمانيٌّ -بالتشديد- (¬3). قال أُميةُ بنُ خَلَف: [من الوافر] يَمَانِيًّا يَظَلُّ يَشُدُّ كِيرًا ... ويَنْفُخُ دَائِمًا لَهَبَ الشُّوَاظِ (¬4) والمراد في هذا الحديث: أن "يلملم" ميقات أهل تهامة من أهل اليمن خاصة، أو ومَنْ مَرَّ في طريقهم نجد اليمن، فميقاتُ أهلها ميقاتُ نجد الحجاز، بدليل أن ميقاتَ أهل نجد قَرْن -كما تقدم-، فأُطلق اليمن، وأُريد بعضُه، وهو تهامةُ منه خاصة، (هُنَّ)؛ أي: المواقيت المذكورة (¬5) (لهنَّ) -بضمير المؤنثات-، وكان مقتضى الظاهر أن يقول: لهم -بضمير المذكرين-. وأجاب عن ذلك ابنُ مالك: بأنه عدلَ إلى ضمير المؤنثات لقصدِ ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2219)، (مادة: يمن). وانظر: "المطلع" لابن أبي الفتح (ص: 165). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1602)، (مادة: يمن). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 165). (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2220)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 464)، (مادة: يمن). (¬5) وقد جمعت في نظم لطيف ساقه العيني في "عمدة القاري" (9/ 140): قرنٌ يلملمُ ذو الحليفة جحفةٌ ... قل ذاتُ عرق كلُّها ميقاتُ نجدٌ تهامةُ والمدينةُ مغربٌ ... شرقٌ وهن إلى الهدى مِرقاةُ =

التشاكل، فكأنه يقول: ناب ضميرٌ عن ضمير بالقرينة لطلب التشاكل (¬1). وأجاب غيره: بأن ذلك على حذف مضاف؛ أي: هؤلاء لأهلهن؛ أي: هذه المواقيت لأهلِ هذه البلدان، بدليل قوله في حديث آخر: "هن لهنَّ (ولمن أتى عليهنَّ) من غيرِ أهلهن" (¬2)، فصرح بالأهل ثانيًا (¬3). ولأبي ذر من رواية البخاري: "هن لهم" بضمير المذكرين (¬4). وأما لفظ هذا الحديث: (من غيرهن)؛ أي: من غير أهل البلاد المذكورة، فلو مر الشاميُّ على ذي الحُلَيفة كما يفعل الآن، لزمَهم الإحرامُ منها، وليس له مجاوزتُها؛ أي: الجحفةَ التي هي ميقاتُه، فإن أخر، أساء، ولزمه دمٌ عند الجمهور. وأطلق الإمام النووي الاتفاق، ونفي الخلاف في شرحه "لمسلم والمهذب" (¬5) في هذه المسألة، فإن أراد نفي خلاف مذهبه، فمسلم، وإلا، فلا؛ لأن مذهبَ مالك له مجاوزةُ ذي (¬6) الحليفة إلى الجحفة إن كان من أهل الشام أو مصر، وإن كان الأفضل خلافه، وبه قال الحنفية، وابن المنذر من الشافعية (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "شواهد التوضيح والتصحيح" (ص: 73). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1454)، وعند مسلم برقم (1181). (¬3) انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 195)، وعنه نقل القسطلاني في "إرشاده" (3/ 100)، وعن الأخير نقل الشارح -رحمه اللَّه-. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 100). (¬5) انظر: "شرح مسلم" (8/ 82)، و"المجموع شرح المهذب"، كلاهما للنووي (7/ 174). (¬6) في الأصل: "ذا"، والصواب ما أثبت. (¬7) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 100).

قال العلامة ابن مفلح في "فروعه": وهن مواقيتُ لمن مرَّ عليها من غير أهلها؛ كالشامي يمرُّ بذي الحليفة يُحِرْم منها، نص عليه -يعني: الإمام أحمد-. قال النووي: بلا خلاف (¬1)، كذا قال. ومذهب عطاء، والمالكية، وأبي ثور: له أن يحرم من الجحفة، قال: يتوجه لنا مثلُه؛ فإن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث ابن عباس: "هن لهن ولمن يمر عليهن من غير أهلهن"، (ممن أواد الحجَّ والعمرةَ، ومن كانَ دونَ ذلك، فمِنْ حيثُ أنشأَ، حتى أهلُ مكةَ من مكةَ) متفق عليه، يَعُمُّ مَنْ ميقاتهُ بينَ هذه المواقيت التي مرَّ بها، وكقوله: "لأهل الشام الجحفة" يعمُّ من يمرُّ بميقات آخر أولًا، والأصلُ عدم الوجوب. وعند داود: لا حجَّ له. وعند الحنفية: يُحرم أهل المدينة ومَنْ مر بها من شاميٍّ وغيره من ذي الحليفة، ولهم أن يحرموا من الجُحْفَة، ولا شيء عليهم. وعن أبي حنيفة: عليه دمٌ. وللشافعي: أنبأنا ابنُ عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب: أن عائشة -رضي اللَّه عنها- اعتمرت في سنة مرتين: مرةً من ذي الحليفة، ومرة من الجحفة (¬2). وذكر بعض الحنفية ما ذكره ابنُ المنذر وغيرُه عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: كانت إذا أرادت الحج، أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أرادت العمرةَ، من الجحفة. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 82). (¬2) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 113)، وفي "الأم" (2/ 135).

قال: ولو لم تكن الجُحْفَةُ ميقاتًا لذلك، لما جاز تأخير إحرام العمرة؛ لأنه لا فرق للآفاقي (¬1). قال في "الفروع": وصوابه: أَفَقي، قيل: بفتحتين، وقيل: بضمتين، نسبةً إلى المفرد، والآفاقُ الجمع، وأما إن مرَّ الشامي أو المدني من غير طريق ذي الحليفة، فميقاتُه الجحفة؛ للخبر، ومن عَرَّجَ عن الميقات، أحرمَ إذا علم أنه حاذى أقربَها منه، ويستحب له الاحتياط، فإن تساويا في القرب إليه، فمِنْ أبعدِهما عن مكة. قال في "الفروع": قال في "الرعاية" -يعني: ابنَ حمدان من علمائنا-، والشافعيةُ: ومن لم يحاذِ ميقاتًا، أحرمَ عن مكة بقدر مرحلتين. وذكر الحنفية مثلَه إن تعذر معرفةُ المحاذاة، وهذا متجه (¬2) (ممن)؛ أي: من ذكر أو أنثى (أراد)؛ أي: قصدَ الحجَّ والعمرةَ معًا؛ بأن يقرنَ بينهما، أو الواو بمعنى أو. وفيه دلالة على جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد حجًا ولا عمرة. وفي عموم هذا المفهوم نظر، على أنه ورد التصريح بالمنع (¬3). قال في "الفروع": إذا أراد حُرٌّ مسلم مكلَّفٌ نسكًا، أو مكةَ، نص عليه -يعني: الإمام أحمد-، أو الحرمَ، لزمه إحرامٌ من ميقاته؛ وفاقًا لأبي حنيفةَ، ومالك، إلا أن أبا حنيفة لا يجوِّزُ لمن منزلُه دونَ الميقات أو داخلَه من أُفُقي وغيره دخولَ الحرم ومكة إلا أن يريد نسكًا. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 203 - 204). (¬2) المرجع السابق، (3/ 204). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 6).

قال في "الفروع": ولا وجهَ للتفرقة. وظاهر مذهب الشافعي: يجوز مطلقًا، إلا أن يريد نسكًا. وعن الإمام أحمد مثلُه. ذكرها القاضي، وجماعة، وصححها ابن عقيل (¬1). قال صاحب "الفروع": وهي أظهر؛ للخبر؛ يعني: مفهوم هذا الحديث، قال: وينبني على عموم المفهوم، والأصل عدمُ الوجوب، ووجه الأول: ما روى حربٌ وغيره عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: لا يدخلُ إنسان مكةَ إلا محرِمًا، إلا الحمالين والحطابين وأصحابَ منافعها (¬2). احتج به الإمام أحمد، قال: وكان ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- يقول: يدخل بغير إحرام. وعن ابن عباس مرفوعًا: "لا يدخلُ مكةَ أحدٌ إلا بإحرام، من أهلِها، أو غيرِهم"، ذكره في "الفروع"، وقال: فيه حجاج، ضعيف مدلِّس، ومحمدُ بنُ خالدِ بنِ عبدِ اللَّه، ضعفه الإمام أحمد، وابنُ معين، وابنُ عدي، وغيرُهم. وقال: لا أعرفه مسندًا إلا به من هذا الوجه. واحتج القاضي، وابن العربي المالكي، وغيرُهما بتحريم اللَّه ورسوله لمكةَ، وذا في القتال. قال في "الانتصار": ومعناه في الخلاف: الإحرامُ شرطُ إباحة دخوله، ولا توجيه لدخوله؛ لئلًا يقال: لا ينوبُ عنه إحرامٌ بحجة أو عمرة كما لم ينب عن منذوره (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 207). (¬2) ورواه الفاكهي في "أخبار مكة" (1/ 413). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 207 - 208).

ومعتمد المذهب: لا يجوز لمن أرادَ دخولَ مكةَ أو الحرمَ أو نُسكًا تجاوزُ الميقات بغير إحرام إن كان حُرًّا مكلفًا إلا لقتال مباح، أو خوف، أو معالجة متكررة؛ كحطاب، وفَيْج (¬1)، وناقل الميرة، والصيد، واحتشاش، أو نحو ذلك، وتردُّد والمكي إلى قريته بالحل، ثم إن بدا له النسك، أو لمن يرد الحرم، أحرم من موضعه، ومن تجاوز الميقات بلا إحرام، لم يلزمه قضاءُ الإحرام (¬2)، ذكره القاضي في "المجرد"، وجزم به الموفق وغيره؛ وفاقًا لمالك، والشافعي؛ كتحية المسجد راتبة لا تقضى (¬3). وحيث لزم الإحرام من الميقات لدخول مكة، لا لنسك، طاف، وسعى، وحلق أو قصر، وحلَّ (¬4). ومَنْ كان منزلُه دون ذلك؛ أي: بين الميقات ومكة، (فَمِنْ)؛ أي: فميقاته (حيث أنشأ) الإحرامَ أو السفرَ من مكانه إلى مكة، فإن كان له منزلان، جاز أن يحرم من أقربهما إلى مكة، والأَوْلى: من الأبعد (¬5)، حتى إن ميقات أهل مكة المشرفة من مكة. قال في "الفروع": وميقاتُ مَنْ حجَّ من مكة، مكيٌّ أولا، منها، وظاهره: لا ترجيح. وأظهر قولي الشافعي: من باب داره، ويأتي المسجد محرمًا (¬6). ¬

_ (¬1) الفيج: رسول السلطان كما في "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 403). (¬2) انظر:" الإقناع" للحجاوي (1/ 455). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 208). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 554). (¬5) المرجع السابق، (1/ 552). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 205).

ومعتمد مذهب الإمام أحمد: له الإحرام من حيثُ شاء من مكة، ونصه: من المسجد. وفي "الإيضاح"، و"المبهج": من تحت الميزاب، ويجوز من سائر الحرم، ومن الحِلِّ؛ كالعمرة، ولا دمَ عليهم. وإن أراد مَنْ بمكة -من أهلها أو غيرِهم، وكذا مَنْ بالحرِم- العمرةَ، فيُحرم بها من الحلِّ، ومن التنعيم أفضلُ، وهو أدنى الحل إلى مكة، فإن أحرموا من مكة، أو من الحرم، انعقد، وفيه دم، ثم إن خرج إلى الحل قبل إتمامها، ولو بعد الطواف، أجزأته عمرتُه، وكذا إن لم يخرج، قدمه في "المغني" (¬1). قال شيخ الإسلام، والزركشي: هو المشهور؛ إذ فواتُ الإحرام من الميقات لا يقتضي البطلان (¬2). ولنا، وللشافعي قول: لا تجزيه؛ وفاقًا لمالك؛ لأنه نسك، فاعتبر فيه الجمعُ بين الحل والحرم، وحيث وجب عليه دم لمجاوزته الميقات بلا إحرام، لا يسقط بخروجه، والمراد: على الراجح؛ خلافًا للشافعي، وللحنفية الخلاف (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 179). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 552 - 553). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 207).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينةِ؛ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ مِنْ الجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مُهَلُّ أَهْلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (133)، كتاب: العلم، باب: ذكر العلم والفتيا في المسجد، و (1450)، كتاب: الحج، باب: فرض مواقيت الحج والعمرة، و (1453)، باب: ميقات أهل المدينة، و (1455)، باب: مهل أهل نجد، و (6912)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وحض على اتفاق أهل العلم، ومسلم (1182/ 13 - 15)، كتاب: الحج، باب: مواقيت الحج والعمرة، وأبو داود (1737)، كتاب: المناسك، باب: في المواقيت، والنسائي (2651)، كتاب: المناسك، باب: ميقات أهل المدينة، و (2652)، باب: ميقات أهل الشام، و (2655)، باب: ميقات أهل نجد، والترمذي (831)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في مواقيت الإحرام لأهل الآفاق، وابن ماجه (2914)، كتاب: المناسك، باب: مواقيت أهل الآفاق. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 35)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 49)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 171)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 81)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 8)، =

(عن) أبي عبدِ الرحمنِ (عبدِ اللَّه بنِ) أميرِ المؤمنين (عمرَ) الفاروقِ (-رضي اللَّه عنهما-: أَنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ: يَهلُّ أهلُ المدينة) النبويةِ، ومَنْ سلكَ طريقَهم في سفره (من ذي الحليفة). قال في "المطالع": هي من مياه جشم، بينهم وبين خفاجة العقلين (¬1). (و) يُهِلُّ (أهلُ الشام) حيثُ لم يأتوا على المدينة. وأما الآن، فميقاتهم ذو الحليفة؛ لأنهم يأتون المدينةَ النبويةَ، فعليهم أن يُهلوا من ميقاته، وأما في الزمن السابق، فكانوا لا يجتازون على المدينة، [فكانوا] (¬2) يهلون (من الجحفة) كما هو الآن ميقات أهل مصر والمغرب، إلا أنهم إنما يهلون من رابغ؛ لكونها محاذيةً لها، أو قبيلها بيسير. (و) يهل (أهلُ نجد) الحجاز أو اليمن، ومَنْ سلك طريقهم في السفر (مِنْ قَرْنٍ). (قال) أبو عبد الرحمن (عبدُ اللَّه) بن عمر -رضي اللَّه عنهما-: (وبلغني: أن رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال)، وفي رواية ابنه عنه: زعموا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال، ولم أسمعه (¬3): (مُهَلُّ) -بضم الميم وفتح الهاء-؛ أي: موضعُ إهلال (أهلِ اليمنِ) تهامة دونَ نجد، و (مَنْ) مرَّ بطريقهم (يَلَمْلَمُ) - ¬

_ = و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 944)، و"طرح التثريب" للعراقي (5/ 2)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 383)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 217)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 151)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 21). (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 221). (¬2) في الأصل: "فكان". (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1182/ 14).

بالرفع- خبر المبتدأ الذي هو "مُهل" كذا في النسخ. والذي رأيته في هذا الحديث في "البخاري"، "ومسلم"، و"الجمع بينهما" للحافظ عبد الحق: "ويهل أهلُ اليمن" -بالياء-. هذا حديث مالك عن نافع عن ابن عمر (¬1). وأما حديث ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، فلفظه: "مهل أهل المدينة"، هذا وما بعده، إلى أن قال: زعموا أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال، ولم أسمعه: "ومُهَلُّ أهلِ اليمنِ يلملمُ" (¬2) قال ابن الأثير في "النهاية": المُهَلُّ -بضم الميم-: موضعُ الإهلال، وهو الميقات الذي يُحرِمون منه، ويقع على الزمانِ والمصدرِ، ومنه: إهلالُ الهلال، والاستهلال؛ أي: رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته، انتهى مختصرًا (¬3). قال ابن عبد البر: اتفقوا على أن ابن عمر لم يسمع من النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله: "ويهل أهل اليمن من يلملم"، ولا خلاف بين العلماء أن مرسَل الصحابي صحيحٌ حجةٌ (¬4). نعم، خالف في ذلك الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، فذهب إلى أنه ليس بحجة. وقد ورد ميقاتُ اليمن مرفوعًا من غير إرسال من حديث ابن عباس في ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1453)، ومسلم برقم (1182/ 13)، من طريق الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 330). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1455)، ومسلم (1182/ 14). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 270). (¬4) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 36).

"الصحيحين" -كما قدمنا قبل هذا-، ومن حديث جابر في "مسلم"، إلا أنه قال: أحسبُه رفعَه (¬1)، ومن حديث عائشة عند النسائي (¬2)، ومن حديث الحارث بن عمرو عند أبي داود، والنسائي (¬3). تنبيه: لم يذكر الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في المواقيت ذاتَ عِرْق، مع أنه ميقاتٌ لأهل العراقِ وخراسانَ والشرقِ، وكأنه لكونه لم يثبت بالنصّ عند قوم. وقد قدم في "الفروع": أنه ثبتَ بالنص، قال: وعندَ بعض العلماء، واختاره بعض الشافعية، وقاله الشافعي في "الأم" (¬4)، وأومأَ إليه الإمام أحمد: أن ذاتَ عرقٍ إنما ثبت بالاجتهاد من أمير المؤمنين عمر -رضي اللَّه عنه- (¬5). قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن": الخامس: ذاتُ عِرْق، وهو ميقات أهل العراق وخراسان والمشرق (¬6). وفي "أفراد البخاري" من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: لما فُتح هذان المصران -يعني: البصرة والكوفة-، أتوا عمرَ بنَ الخطاب، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1183/ 18)، كتاب: الحج، باب: مواقيت الحج والعمرة. (¬2) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (2653). (¬3) رواه أبو داود (1742)، كتاب: المناسك، باب: في المواقيت، ولم أره عند النسائي في "سننه الكبرى" أو "المجتبى" من حديث الحارث بن عمرو -رضي اللَّه عنه-. وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 100 - 101). (¬4) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 137). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 203). (¬6) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 76).

فقالوا: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حدَّ لأهل نجدٍ قرنًا، وإنه جَوْر عن طريقنا، وهو -بفتح الجيم وسكون الواو ثم راء-، أي: مائل عنها، فإذا أردنا أن نأتي قرنًا، شقَّ علينا، قال: "فانظروا حَذْوَها مِنْ طريقِكم"، فحد لهم ذاتَ عرق (¬1)، وهو الجبلُ الصغير، وقيل: العرق من الأرض السبخة تنبت الطرفاء، وبينها وبين مكة اثنان وأربعون ميلًا (¬2)، فكان تحديده لهم باجتهاده. ويؤيده روايةُ الشافعيِّ من طريق أبي الشعثاء، قال: لم يوقِّتْ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأهلِ المشرق شيئًا، فاتخذ بحيالِ قرن ذاتُ عرق، انتهى (¬3). قال ابن الجوزي: هذا يدل على أن عمر هو الذي حدَّ ذاتَ عرقٍ، وإنما حدَّها لهم؛ لأنها حَذْوُ قرنٍ، أي: مُحاذِيَتُها. قال: فإن قيل: روى أبو داود، والنسائي من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَّتَ لأهل العراقِ ذاتَ عرقٍ (¬4). فالجواب: أنه إسناد ضعيف. وقد روي عن أبي داود: أنه قال: الصحيحُ أن عمرَ وَقَّتَ لأهل العراق بعدَ أن فُتحت، ويدل على صحة هذا ما روى البخاري، ومسلم من حديث ابن عمر، وابن عباس -رضي اللَّه عنهم-، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه ذكر المواقيت الأربعة، ولم يذكر ذات عرق، انتهى (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1458)، كتاب: الحج، باب: ذات عرق لأهل العراق. (¬2) انظر: "معجم البلدان" لياقوت الحموي (4/ 107). (¬3) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 115)، وفي "الأم" (2/ 138). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 102). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 76).

قال في "الفروع": والظاهر أنه خفي النص؛ يعني: على سيدنا عمر -رضي اللَّه عنه-، فوافقه، فإنه موفق للصواب، انتهى (¬1). قال ابن عبد البر: ذاتُ عرقٍ ميقاتُهم؛ أي: أهل العراق بإجماع (¬2). وفي "صحيح مسلم" عن أبي الزبير: أنه سمع جابرَ بنَ عبدِ اللَّه -رضي اللَّه عنهما- يسأل عن المُهَلِّ، فقال: سمعتُ -أحسبهُ رفعَ الحديث إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذكر الحديث، وفيه: "ومُهَلُّ أهلِ العراقِ ذاتُ عِرْقٍ" (¬3)، لكن قال النووي في "شرح مسلم": إنه غير ثابت؛ لعدم جزمه برفعه (¬4)، وأجيب بأن قوله: أحسبه، مبناه: أظنه، والظنُّ في باب الرواية ينزل منزلةَ اليقين، وليس ذلك قادحًا في رفعه. وأيضًا، فلو لم يصرح برفعه لا يقينًا ولا ظنًا، فهو منزل منزلةَ المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي، وإنما يؤخذ توقيفًا من الشارع، ولاسيما وقد ضمه جابر -رضي اللَّه عنه- إلى المواقيت المنصوص عليها يقينًا باتفاق. وقد أخرجه الإمام أحمد من رواية ابن لهيعة (¬5)، وابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد (¬6)، كلاهما عن أبي الزبير، فلم يشكا في رفعه. وقد صحح النووي حديثَ عائشة الذي رواه أبو داود، والنسائي (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 253). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 143). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 81). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 336). (¬6) رواه ابن ماجه (2915)، كتاب: المناسك، باب: مواقيت أهل الآفاق. (¬7) تقدم تخريجه، وانظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (7/ 169).

نعم، كان ينكر الإمامُ أحمدُ على أفلحَ بنِ حميدٍ هذا الحديث (¬1). وقال ابنُ عدي: قد حدَّثَ عنه ثقاتُ الناس، وهو عندي صالح، وأحاديثهُ مستقيمة كلُّها (¬2)، وصححه الذهبي، قال العراقي: إن إسناده جيد (¬3). وروى الإمام أحمد، والدارقطني من حديث الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: وَقَّتَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكر الحديث، وفيه: وقال: لأهل العراق ذات عرق (¬4). فهذه الأحاديث بمجموعها لا تقصر عن درجة الاحتجاج به (¬5). وأما ما أخرجه أبو داود، والترمذي عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَّتَ لأهل المشرقِ العقيقَ (¬6)، فقد تفرَّدَ به يزيدُ بن أبي زياد، وهو ضعيف باتفاق المحدثين. وكذا حديث الطبراني في "الكبير" عن أنس -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَّتَ لأهل المدائن العقيقَ، ولأهل البصرة ذاتَ عرق، الحديث (¬7)، وفيه أبو ظلال هلالُ بنُ يزيد، وثقه ابنُ حبان، وضعفه الجمهور. ¬

_ (¬1) قاله ابن صاعد، كما ذكر الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1/ 440). (¬2) انظر: "الكامل في الضعفاء" لابن عدي (1/ 417). (¬3) انظر: "طرح التثريب" للعراقي (5/ 12 - 13). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 102). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 181)، والدارقطني في "سننه" (2/ 236). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 102). (¬6) رواه أبو داود (1740)، كتاب: المناسك، باب: في المواقيت، والترمذي (832)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في مواقيت الإحرام لأهل الآفاق. (¬7) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (721)، وكذا الطحاوي في "شرح معاني =

والعقيق: وادٍ فوقَ ذاتِ عرق، بينه وبين مكة [مرحلتان] (¬1)، فمن أحرم منه، فقد أحرم قبل أن يصل إلى ذات عرق، فعلى تقدير ثبوته، يكون ميقاتَ جواز واستحباب، وميقاتُ ذات عرقٍ لزوم وإيجاب، واللَّه الموفق للصواب (¬2). * * * ¬

_ = الآثار" (2/ 119)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (7/ 117 - 118). (¬1) في الأصل: "مرحلتين"، والصواب ما أثبت. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 102 - 103).

باب ما يلبس المحرم من الثياب

باب ما يلبس المحرم من الثياب قال ابن دقيق العيد: لفظُ المحرِم يتناولُ مَنْ أحرمَ بالحج والعمرة معًا، والإحرام: الدخولُ في أحد النسكين، والتشاغلُ بأَعمالهما. قال: وقد كان شيخنا العلامة ابنُ عبد السلام يستشكل معرفةَ حقيقة الإحرام، ويبحث فيه كثيرًا، وإذا قيل: إنه النيةُ، اعترض عليها بأن النيةَ شرطٌ في الحج الذي الإحرامُ ركنُه، وشرطُ الشيء غيرُهُ، ويعترض على أنه التلبية بأنها ليست بركن، والإحرامُ ركن، وكان يحوم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء، انتهى (¬1). وأجيب: بأن المُحْرِمَ اسمُ فاعل من أحرمَ إحرامًا؛ بمعنى: دخل في الحرمة؛ أي: أدخل نفسَه وصَيَّرَها متلبسةً بالسبب المقتضي للحرمة؛ لأنه دخل في عبادة الحج، أو العمرة، أو هما معًا، فحرم عليه الأنواع السبعة: لبسُ المخيط، والطيبُ، ودهنُ الرأس واللحية، وإزالةُ الشعر والظفر، والجماعُ ومقدماته، والصيدُ، [وعقدُ النكاح] (¬2). وقد عُلم من هذا أن النيةَ مغايرةٌ له؛ لشمولها له ولغيره؛ لأنها قصدُ فعلِ الشيء تقربًا إلى اللَّه تعالى، فأركانُ الحج مثلًا: الإحرامُ، والوقوفُ، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 12). (¬2) ما بين معكوفين سقط من المطبوع من "إرشاد الساري".

والطواف، والسعيُ، والنيةُ فعلُ كلٍّ من الأربعة تقربًا إلى اللَّه تعالى بها، وبهذا التقرير يزول الإشكال، وكأنه الذي كان يحوم عليه ابن عبد السلام، قاله القسطلاني (¬1). وذكر الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الباب أربعةَ أحاديث. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 108).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَلْبَسُ القُمُصَ، وَلَا العَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا البَرَانِسَ وَلَا الخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ، وَلَا يَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (134)، كتاب: العلم، باب: من أجاب السائل بأكثر مما سأله، و (359)، كتاب: الصلاة في الثياب، باب: الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء، و (1468)، كتاب: الحج، باب: ما لا يلبس المحرم من الثياب، و (1745)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين، و (5458)، كتاب: اللباس، باب لبس القميص، و (5466)، باب: البرانس، و (5468)، باب: السراويل، و (5469)، باب: العمائم، و (5509)، باب: الثوب المزعفر، و (5514)، باب: النعال السبتية وغيرها، ومسلم (1177/ 1 - 3)، كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، وأبو داود (1823 - 1824)، كتاب: المناسك، باب: ما يلبس المحرم، والنسائي (2666 - 2667)، كتاب: الحج، باب: النهي عن الثياب المصبوغة بالورس والزعفران في الإحرام، و (2669)، باب: النهي عن لبس القميص للمحرم، و (2670)، باب: النهي عن لبس السراويل في الإحرام، و (2674)، باب: النهي عن لبس البرانس في =

وللبخاريِّ: "وَلَا تَنْتَقِبُ المَرْأَةُ، وَلَا تَلْبَسُ القُفَّازَيْنِ" (¬1). (عن عبدِ اللَّه بنِ عمرَ) بنِ الخطاب (-رضي اللَّه عنهما-: أن رجلًا)، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه (¬2)، ولم يذكره البرماوي في "المبهمات"؛ لعدم وقوفه على تسميته. (قال: يا رسول اللَّه! ما يلبسُ) الرجلُ (المحرم؟) قارِنًا، أو مفرِدًا، أو متمتِّعًا (من الثياب؟). وعند البيهقي: أن ذلك وقع والنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب في مقدم مسجد المدينة (¬3). ¬

_ = الإحرام، وابن ماجه (2929)، كتاب: المناسك، باب: ما يلبس المحرم من الثياب. (¬1) رواه البخاري (1741)، كتاب: الحج، باب: ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة، وأبو داود (1825 - 1826)، كتاب: المناسك، باب: ما يلبس المحرم، والنسائي (2673)، كتاب: الحج، باب: النهي عن أن تنتقب المرأة، و (2681)، باب: النهي عن أن تلبس المحرمة القفازين، والترمذي (833)، كتاب: الحج، باب: ما جاء فيما لا يجوز للمحرم لبسه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 176)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 13)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 53)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 160)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 255)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 73)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 10)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 946)، و"طرح التثريب" للعراقي (5/ 40)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 401)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 74)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 108)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 190)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 66). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 401). (¬3) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 49).

وفي حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- عند البخاري، ومسلم: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- خطب بذلك في عرفات (¬1)، فيُحمل على التعدد (¬2). (قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) مجيبًا له: (لا يلبس) القميص بالإفراد. وفي لفظ البخاري: (القُمُص) -بضم القاف والميم (¬3) -: جمع قميص. ويلبسُ -بالرفع- وهو الأشهر على الخبر عن حكم اللَّه؛ إذ هو جواب السؤال، أو خبر بمعنى النهي، و-بالجزم- على النهي، وكسرَ لالتقاء الساكنين. فإن قيل: السؤالُ وقع عما يجوزُ لبسُه للمحرم، والجوابُ وقع عما لا يجوزُ، فما الحكمةُ فيه؟ أجيب: بأن الجواب بما لا يجوز لبسُه أَحْصَرُ وأَخْصَرُ مما يجوز، فذكرُه أولى؛ إذ هو قليل، ويفهم منه ما يباح، فتحصل المطابقة بين السؤال والجواب بالمفهوم. وقيل: كان الأليقُ السؤالَ عن الذي لا يُباح؛ إذ الإباحةُ الأصلُ، ولذا أجابَ بذلك؛ تنبيهًا للسائل على الأليق. ويسمى مثلُ ذلك: الأسلوبَ الحكيمَ؛ كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} الآية [البقرة: 189]. فإنهم سألوا عن حكمة اختلاف القمر؛ حيث قالوا: ما بالُ الهلالِ يبدو دقيقًا، ثم يزيدُ، ثم ينقص؟ ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في حديث الباب الآتي. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 109). (¬3) تقدم تخريجه برقم (1468) عنده.

فأجابهم: بأن الحكمةَ الظاهرةَ في ذلك أن تكونَ معالمَ للناس يُوَقِّتون [بها] أمورَهم، ومعالمَ للعبادات الموقتة تُعرف بها أوقاتُها، وخصوصًا الحجُّ، فبين فسادَ سؤالهم، وهو أنه كان ينبغي أن يسألوا عما ينفعهم في دينهم، ولا يسألوا عما لا حاجةَ لهم في السؤال عنه. وكذا قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الآية [البقرة: 215]. سألوا عما ينفقونه، فأجابهم عن الجهات التي ينبغي أن تكون المنفعةُ فيها. نعم، المطابقةُ واقعةٌ بين السؤال والجواب على إحدى الروايتين. فقد رواه أبو عوانة من طريق ابن جريج، عن نافع بلفظ؛ ما يتركُ المحرمُ؟ وهي شاذة، والاختلاف فيها على ابن جريج، لا على نافع (¬1). ورواه سالم عن أبيه عند الإمام أحمد، وابن خزيمة، وأبي عوانة في "صحيحيهما" بلفظ: أن رجلًا قال: ما يجتنبُ المحرمُ من الثياب؟ (¬2) وأخرجه الإمام أحمد عن ابن عيينة عن الزهري، فقال مرةً: ما يترك؟ ومرة: ما يلبس؟ (¬3) وأخرجه البخاري في أواخر الحج من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري بلفظ نافع؛ يعني: ما يلبس المحرم؟ (¬4) فالاختلاف فيه على ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 402). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 34)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2601). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 8). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1745).

الزهري يُشعر بأن بعضهم رواه بالمعنى، فاستقامت رواية نافع؛ لعدم الاختلاف عليه فيها. واتجه البحث المتقدم فيها، كما في "الفتح" (¬1). (ولا العمائمَ) جمعُ عِمامة، سميت بذلك؛ لأنها تعمُّ جميعَ الرأس بالتغطية (¬2). (ولا) يلبسُ المحرمُ (السراويلاتِ) جمعُ سِرْوال، فارسيٌّ معرَّبٌ، والسراوين -بالنون- لغةٌ، والشِّروال -بالشين- لغةٌ (¬3). (ولا البرانِسَ) جمعُ بُرْنسُ -بضم النون-. قال في "القاموس": البرنسُ: قَلَنْسُوَةٌ طويلةٌ، أو كلُّ ثوب رأسُه منه، دُرَّاعةً كانَ أو جبةً، انتهى (¬4). وفي "الفتح": البرانسُ: جمعُ بُرْنُس -بضم الموحدة والنون بينهما راء ساكنة وآخره مهملة- (¬5). قال ابن دقيق العيد: قيل: إنها قلانسُ طِوالٌ كان يلبسُها الزهَّاد في الزمان الأول (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 402). وقد نقل الشارح -رحمه اللَّه- هنا كلام القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 109). (¬2) انظر: "العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 946)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 109). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 109). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 685)، (مادة: برنس). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 272). (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 10).

وفي "المطالع": البرنسُ: كلُّ ثوب رأسُه ملتزقٌ به، دُرَّاعَةً كان أو جُبَّةً (¬1). (ولا) يلبس المحرمُ (الخِفاف) -بكسر الخاء المعجمة-: جمع خف. فنبه بالقميص، والسراويل: على تحريم لبس المَخِيط المُحِيط بالبدن، وما يساويه من المنسوج، وبالعمائمِ والبرانس: على كلِّ ما يغطى به الرأس، مَخيطًا كانَ، أو غيرَه (¬2). فيحرُم على الرجل سترُ رأسه، أو بعضِه؛ كالبياضِ الذي وراءَ الأذن، ولو بعصابة؛ لصداعٍ ونحوه، ولو بسيرٍ وطينٍ، من كلِّ ملاصقٍ معتاد أو لا؛ كخرقة، وقرطاس فيه دواءٌ أو غيرُه، أو لا دواءَ فيه؛ كما لو طلاه بحناء، أو غيره، ولو بنورة، لعذرٍ أو غيره (¬3). وكذا لو استظلَّ بنحوِ هَوْدَجٍ؛ خلافًا للشافعية، والحنفية. قال في "الفروع": وإن استظلَّ في محملٍ، أو ثوب، أو نحوه، نازلًا أو راكبًا، قاله القاضي وجماعة، حَرُمَ، ولزمته الفديةُ. وفي رواية: اختاره أكثرُ الأصحاب؛ وفاقًا لمالك. رُوي عن ابن عمر من طرق النهيُ عنه. واحتج به الإمام أحمد، ولأنه قصده بما يقصد به التَّرَفُّهُ؛ كتغطيته، وعنه: لا فدية، وعنه: بلى إن طال، وعنه: يكره. وقال الشيخ الموفق: هي الظاهرُ عنه. ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 85). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 10). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 109).

وعنه: يجوز؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي؛ لأن أسامةَ أو بلالًا رفع ثوبه يسترُ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من الحرِّ حتى رمى جمرةَ العقبة. رواه مسلم (¬1). وأجاب الإمام أحمد عنه: بأنه يسيرٌ لَا يُراد للاستدامةِ. زاد بن عقيل: أو كان بعدَ [رمي] جمرة العقبة، أو به عذر، وفَدى، أو لم يعلم النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- به. ويجوز الاستظلالُ بخيمة، ونصبِ ثوبٍ، ونحوِهما؛ لأن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضُربت له قبة بنَمِرَةَ، فنزلها. رواه مسلم من حديث جابر -رضي اللَّه عنه- (¬2)، ولأنه لا يقصد به الترفُّه في البدن عادةً، بل جمع الرجال. ونظر فيه في "الفروع" (¬3). ويجوز تغطيةُ الوجه في رواية اختارها الأكثرُ؛ وفاقًا للشافعي، فعله عثمانُ -رضي اللَّه عنه-، رواه مالك (¬4). ورواه أبو بكر النجار عنه، وعن زيد، وابن الزبير، وأنه قاله ابن عباس، وسعدُ بن أبي وقاص، وجابرٌ، وعن ابن عمر روايتان، روى النهيَ عنه مالكٌ، (¬5) وعند الإمام أحمد: لا يجوز، نقلها الأكثر، فيكون كالرأس؛ وفاقًا لأبي حنيفة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1298)، كتاب: الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، عن أم الحصين -رضي اللَّه عنها-. (¬2) رواه مسلم (1218)، كتاب: الحج، باب: حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، من حديث جابر -رضي اللَّه عنه- الطويل. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 269 - 270). (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 327). (¬5) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 327).

وقال الإمام مالك: لا يفعله، فإن فعله، فلا فدية. وقال بعض أصحابه: فيه روايتان؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في المحرِمِ الذي وَقَصَتْه راحلتُه: "لا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ" (¬1)، وفي لفظ: "لا تُغَطُّوا رأسَه" (¬2) انفرد بهما مسلم. والذي في "الصحيحين": "ولا تخمروا رأسَهُ". وروي في الخبر: "وخمروا وجهَهُ، ولا تخمِّروا رأسَهُ" (¬3). قال في "الفروع": ولا تتجه صحته (¬4). ومعتمد المذهب: يجوز للرجل المحرِمِ أن يغطي وجهَه، واللَّه الموفق. ونبه في الحديث بالخفاف على كل ما يستر الرِّجْلَ مما يُلبس عليه من مَداس وجَوْرَبٍ (¬5)، ومثلُهما القُفَّازانِ لليدين. وقال القاضي وغيره: ولو كانَ غيرَ معتاد؛ كجوربٍ في كف، وخف في رأس، فعليه الفديةُ، انتهى (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم بلفظ: "تخمروا رأسه" بدل "تخمروا وجهه"، وسيأتي تنبيه ابن مفلح عليه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 357)، وفي "الأم" (1/ 270)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 393)، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 271 - 272). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 109). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 273).

(إلا أحدٌ لا يجدُ نعلين) -في موضع رفع- صفة لأحد، ويستفاد منه -كما قال ابن المنير- جوازُ استعمال "أَحَد" في الإثبات؛ خلافًا لمن خصَّه بضرورةِ الشعر؛ كقوله (¬1): [من البسيط] وَقَد ظَهَرْتَ فَمَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ... إِلَّا عَلَى أَحَدٍ لا يَعْرِفُ القَمَرَا قال: والذي يظهر لي بالاستقراء أن "أحدًا" لا يُستعمل في الإثبات، إلا أن تعقب النفيَ، وكان الإثباتُ حينئذ في سياق النفي. ونظيرُ هذا زيادةُ الباء؛ فإنها لا تكون إلا في النفي، ثم رأيناها زيدت في الإثبات الذي هو في سياق النفي؛ كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33]. انتهى (¬2). والمستثنى منه محذوف، ذكره معمر في روايته عن الزهري عن سالم باللفظ: "وليحرمْ أحدُكم في إزارٍ ورداءٍ ونعلينٍ، فإن لم يجد نعلين، (فليلبس الخفين) (¬3). وفي لفظ: "خفين" (¬4) بلا تعريف، (وليقْطَعْهما)؛ أي: شرطَ أن يقطعهما (أسفلَ من الكعبينِ)، ولا فدية عليه إذن، فإنها لو وجبت، لبينها النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا موضعُ بيانها (¬5). ¬

_ (¬1) هو ذو الرُّمَّة، كما في "ديوانه" (2/ 1163)، (ق 37/ 41). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 109 - 110)، نقلًا عن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/ 402). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 34)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2601)، وغيرهما. (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1468، 5466، 5514). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 110).

قال متأخرو علمائنا: وإن عدم نعلين، أو لم يمكن لبسُهما، لبسَ خُفين أو نحوهما من رَانٍ (¬1) وغيره بلا فدية، ويحرم قطعهما. وعن الإمام أحمد: يقطعهما حتى يكونا أسفلَ من الكعبين. وجَوَّزه جمعٌ. قال الإمام الموفق وغيره: الأولى خَلْعُهما؛ عملًا بالحديث الصحيح (¬2). قال في "الفروع ": وإن عدم نعلين، لبس خفين بلا فدية. نقله الجماعة، ولا يقطع خفيه. قال الإمام أحمد: هو فساد. واحتج الموفق وغيره لهذه الرواية بالنهي عن إضاعة المال، وجوزه أبو الخطاب وغيرُهُ، وقاله القاضي، وابنُ عقيل، وأن فائدة التخصيص كراهته؛ أي: القطعِ لغير إحرام؛ لخبر ابن عباس الآتي. وطاف عبد الرحمن بخفين، فقال له عمر: والخفان مع القباء؟! فقال: لبستُهما مع مَنْ هو خير منكَ؛ يعني: النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، رواه أبو حفص العكبري، ورواه أبو بكر النجاد (¬3). وروي أيضًا عن عمر -رضي اللَّه عنه-: الخفان نعلانِ لمن لا نعلَ له (¬4). ¬

_ (¬1) الران: كالخف إلا أنه لا قدم له، وهو أطول من الخف. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (مادة: رين). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 572). (¬3) ورواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 192). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (15778).

ومن رواية الحارث عن علي (¬1)، وعن ابن عباس (¬2). وإن المسور بن مخرمة لبسهما وهو محرم، وقال: أمرتنا به عائشةُ -رضي اللَّه عنها وعنهم أجمعين- (¬3). ويأتي الكلام عليه فيما بعده. (ولا يَلْبَس) -بفتح أوله وثالثه- المحرم (من الثياب شيئًا مَسَّهُ زعفرانٌ). وفي لفظ: "الزعفران" بالتعريف (¬4). وعلى الرواية التي ذكرها المصنف، فهو بالتنوين كما قاله الزركشي؛ لأنه ليس فيه إلا الألف والنون فقط، وهو لا يمنع الصرف، فلو سميت به، امتنع، انتهى (¬5). (أو وَرْسٌ) -بفتح الواو وسكون الراء بعدها سين مهملة-: نبتٌ أصفر مثل نبات السمسم، طيبُ الريح، يُصبغ به، بين الحمرة والصفرة، أشهر طيب في بلاد اليمن (¬6). لكن قال ابن العربي: الورسُ -وإن لم يكن طيبًا-، فله رائحةٌ طيبة، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (15779). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (15780). (¬3) لم أقف على أثر المسور بن مخرمة هذا، وانظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 274). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (134، 359، 1468، 5466)، ومسلم برقم (1177/ 1). (¬5) انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 197). وقد نقله الشارح -رحمه اللَّه- عن "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 110). (¬6) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 110).

فأراد النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن ينبه على اجتناب الطيب وما يشبهه في ملاءمة الشم (¬1). وهذا الحكم يشترك فيه النساء مع الرجال؛ بخلاف ما قبله؛ فإنه خاصٌّ بالرجال (¬2). قال في "الإقناع": يحرم عليه بعدَ إحرامه لبسُ ما صُبغ بزعفرانٍ أو ورسٍ، أو غُمسَ في ماءِ وردٍ، أو بُخِّرَ بعودٍ ونحوه، والجلوسُ والنومُ عليه، فإن فَرَشَ فوقَ الطيب ثوبًا صفيقًا يمنع الرائحة والمباشرة غيرَ ثياب بدنه، فلا فدية بالنوم عليه (¬3). (ولـ) ـلإمام (البخاري) زيادة على مسلم في هذا الحديث: (ولا تتنقبِ) بالجزم على النهي، والكسر لالتقاء الساكنين؛ أي: تَتَخَمَّر (المرأةُ) المحرمةُ؛ لأن إحرامها في وجهها، فيحرم عليها تغطيته ببرقُع أو نِقابٍ أو غيرِه؛ وفاقًا. قال ابن المنذر: كراهيةُ البرقعِ ثابتة عن سعيد، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، ولا نعلم أحدًا خالفَ فيه. وعن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: إحرامُ المرأة في وَجْهِها، وإحرامُ الرجلِ في رأسه. رواه الدارقطني بإسناد جيد (¬4). وروي أيضًا عن ابن عمر مرفوعًا: "ليسَ على المرأةِ حرمٌ إلا في وجهها" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 54). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 110). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 574). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 294)، ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 47)، موقوفا على ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6122)، والبيهقي في "السنن الكبرى" =

وقال أبو الفرج في "الإيضاح": وكَفَّيْها. وقال في "المبهج": وفي الكفين روايتان، ودليله روايةُ البخاري (¬1). (ولا تَلْبَس) المرأةُ المحرمةُ (القفازين) تثنية قُفَّاز -بالضم والتشديد-: شيءٌ تلبسه نساءُ العرب في أيديهن يغطِّي الأصابعَ والكفَّ والساعدَ من البرد، ويكون فيه قطنٌ محشوٌّ (¬2)، ويُزَرَّرُ بأزرارٍ، فنبه بمنع المرأة من النقاب والقفازين على كل ما يُحيط بالعضو الخاصِّ إحاطةَ مثلِه في العادة (¬3). والنقاب: هو الخِمار الذي تشدُّه المرأة على الأنف، أو تحتَ المحاجِر، وإن قرب من العين حتى لا تبدوَ جفونُها، فهو الوَصْوَاصُ -بفتح الواو وسكون الصاد المهملة الأولى-، فإن نزل إلى طرف الأنف، فهو اللِّفام -بكسر اللام وبالفاء-، فإن نزل إلى الفم، ولم يكن على الأرنبة منه شيء، فهو اللثام -بالمثلثة- (¬4). نعم، للمرأة أن تُسدل على وجهها وهي محرمة للحاجة؛ وفاقًا لقول عائشة -رضي اللَّه عنها-: كان الركبانُ يمرون بنا، ونحن مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- محرماتٌ، فإذا [حاذوا بنا] (¬5)، سَدَلَتْ إحدانا جِلْبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا، كشفناه. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، ¬

_ = (5/ 47). وقال: والمحفوظ موقوف. (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 332). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 90). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 10). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 312). (¬5) في الأصل: "حاذونا" والصواب ما أثبت.

وابن ماجه، والدارقطني، (¬1) ورواه أيضًا عن أم سلمة (¬2). قال الإمام أحمد: إنما لها أن تُسدل على وجهها من فوقُ، وليس لها أن ترفعَ الثوبَ من أسفل، ومعناه عن ابن عباس رواه الشافعي (¬3). قال الإمام الموفق عن قول الإمام أحمد: كأنه يقول: إن النقاب من أسفل على وجهها. وذكر القاضي: تُسدل، ولا تُصيب البشرةَ، فإن أصابتها فلم ترفعه مع القدرة، فدتْ؛ لاستدامة الستر. قال الموفق: ليس هذا الشرط عن أحمد، ولا في الخبر، والظاهرُ خلافه؛ فإن المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان شرطًا، لبين (¬4). قال في "الفروع": وما قاله -يعني: الموفق- صحيح. ولا يمكن أن المرأة تغطي جميع الرأس إلا بجزء من الوجه، ولا أن تكشف جميعَ الوجه إلا بجزء من الرأس، فسترُ الرأسِ كلِّه أَوْلى؛ لأنه آكدُ؛ لأنه عورة لا يختص بالإحرام. وحكم المرأة كالرجل فيما يحرم إلا لبسُ المخيط، وتظليلٌ بنحو محمل، واللَّه أعلم (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 30)، وأبو داود (1833)، كتاب: المناسك، باب: في المحرمة تغطي وجهها، وابن ماجه (2935)، كتاب: المناسك، باب: المحرمة تسدل الثوب على وجهها، والدارقطني في "سننه" (2/ 295). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 295). (¬3) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 149). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 154). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 333).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَباسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ بعَرَفَاتٍ: "مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا، فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1744)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين، واللفظ له، و (1746)، باب: إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل، و (5467)، كتاب: اللباس، باب: السراويل، و (5515)، باب: النعال السبتية وغيرها، ومسلم (1178)، كتاب الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح، وأبو داود (1829)، كتاب: المناسك، باب: ما يلبس المحرم، والنسائي (2671 - 2672)، كتاب: الحج، باب: الرخصة في لبس السراويل لمن لا يجد الإزار، و (2679)، باب: الرخصة في لبس الخفين في الإحرام لمن لا يجد نعلين، و (5325)، كتاب: الزينة، باب: لبس السراويل، والترمذي (834)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في لبس السراويل والخفين للمحرم إذا لم يجد الإزار والنعلين، وابن ماجه (2931)، كتاب: المناسك، باب: السراويل والخفين للمحرم إذا لم يجد إزارًا أو نعلين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 177)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 53)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 162)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 258)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 75)، و"شرح =

(عن) حبر الأمةِ وترجمانِ القرآن (عبدِ اللَّه بنِ عباسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قال: سمعتُ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطبُ بعرفاتٍ) في حجة الوداع: (مَنْ لم يجدْ نعلينِ). وفي لفظ: "النعلين" بالتعريف، (¬1) (فليلبسِ الخفينِ). وبهذا الحديث احتجَّ الإمام أحمد على عدم القطع. قال في "الفروع": وإن عدم -يعني: المحرم- نعلين، لبس خفين بلا فدية، نقله الجماعة، ولا يقطع خفيه. قال الإمام أحمد: هو فساد. وذكر ما قدمناه عن الموفق من النهي عن إضاعة المال، وذكر حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- هذا، قال أبو الشعثاء لابن عباس: لم يقل: ليقطعهما؟ قال: لا. رواه الإمام أحمد عن يحيى، عن ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، عنه (¬2)، صحيح. وذكر ما قدمناه من الآثار عن الصحابة (¬3). وفي "صحيح مسلم" عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من لم يجدْ نعلين، فليلبسْ خُفَّين، ومن لم يجد إزارًا، فليلبسْ سراويلَ" (¬4)، قال: ولأن في قطعه ضررًا كالسراويل، فإنه يمكنه ¬

_ = عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 14)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 952)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 57)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 203)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 314). (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1744، 1746)، ومسلم برقم (1178/ 4). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 228). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 273). (¬4) رواه مسلم (1179)، كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، وما لا يباح.

فتقُهُ، ويسترُ عورته، ولا يلبسه على هيئته. وعن الإمام أحمد رواية: إن لم يقطعهما دونَ الكعبين، فدى؛ وفاقًا للأئمة الثلاثة؛ لخبر ابن عمر المار. والجواب على معتمد المذهب: أن زيادة القطع لم يذكرها جماعةٌ ممن روى الخبر عن نافع. ورواها عُبيد اللَّه بنُ عمر عن نافع، عن ابن عمر من قوله. ورواها أبو القاسم بن بشران في "أماليه" بإسناد صحيح من قول نافع، ورواها مالك، وأيوب، وجماعة من الأئمة، فرفعوها. فقد اختلف فيها، فإن صحت، فهي بالمدينة؛ لرواية الإمام أحمد عن ابن عمر: سمعتُ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول على هذا المنبر، وذكره، (¬1) والدارقطني: أن رجلًا نادى في المسجد: ما يتركُ المحرِمُ من الثياب؟ قال الدارقطني: سمعت أبا بكر النيسابوريَّ يقول: هو في حديث ابن جريج، وليث بن سعد، وجويرية بن أسماء، عن نافع، عنه (¬2). وخبرُ ابن عباس بعرفاتٍ، فلو كان القطعُ واجبًا، لبينه للجمع العظيم الذي لم يحضر أكثرُهم أو كثير منهم كلامَهُ بالمسجد في موضع البيان ووقتِ الحاجة. لا يقال: اكتفى بما سبق؛ لأنه يقال: فلمَ ذكرَ لبسَهما، والمفهومُ من إطلاقه لبسُهما بلا قطع؟ ثم يحمل على الجواز؛ كما سبق في كلام القاضي، وأجاب عن قولهم: المقيدُ يقضي على المطلَق بالمنع في رواية. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 32). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 230).

ثم إذا لم يمكن تأويله، وعن قولهم فيه زيادة لفظ بأن خبرنا فيه زيادةُ حكمِ جوازِ اللبس بلا قطع؛ يعني: وهذا الحكمُ لم يشرع بالمدينة، وقاله شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أولى من دعوى النسخ كما قاله صاحب "المغني" (¬1)، و"المحرر" (¬2). وفي "شرح البخاري" للقسطلاني (¬3)، قال الخطابي: العجبُ من الإمام أحمدَ في هذا -يعني: في قوله بعدم القطع-؛ فإنه لا يكاد يخَالف سنةً تبلغُه (¬4). قال الزركشيُّ الحنبليُّ: العجبُ كل العجب من الخطابي في توهُّمه عن الإمام أحمد مخالفةَ السنةِ، أو خفاءها، وقد قال المروذي: احتججتُ على أبي عبد اللَّه بقول ابن عمر عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وليقطع أسفلَ الكعبين"، فقال: هذا حديث، وذاك حديث، فقد اطلع على السنَّة، وإنما نظر نظرًا لا ينظره إلا الفقهاء المتبصرون، وهذا يدل على غاية الفقه والنظر، انتهى (¬5). قال في "الفروع": وإن لبس المحرم مقطوعًا دونهما -يعني: الكعبين-، مع وجود نعل، لم يجز، وفدى، نص عليه الإمام أحمد؛ وفاقًا لأبي حنيفة؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- شرطَ لجواز لبسهما عدمَ النعلين، وأجازه؛ لأنه ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 139). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (273 - 275). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 314). (¬4) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 176 - 177). (¬5) انظر: "شرح الزركشي على الخرقي" (3/ 115). قال ابن العربي في "العارضة" (4/ 55 - 56)، وأما أحمد فعلى صراط مستقيم، وهذه المقولة لا أراها صحيحة، فإن حمل المطلق على المقيد أصل أحمد، انتهى.

يقارب النعلين، ولم يجزه؛ لإسقاط الفدية، ولأنه مخيط لعضو بقدره كغيره. وذكر القاضي في المسألة الأولى جوازه، وابن عقيل في "مفرداته"، وصاحب "المحرر"، وحفيده شيخ الإسلام؛ لأنه ليس بخف، وإنما أمرهم بالقطع أولًا؛ لأن رخصةَ البدل لم تكن شُرعت؛ لأن المقطوع يصير كنعل، فإباحته أصلية، وإنما المباح بطريق البدل الخفُّ المطلَق، وإنما شُرط عدم النعل؛ لأن القطع مع وجوده إفساد، وللشافعي قولان (¬1). (ومن لم يجد إزارًا) وهو ما يُشدُّ في الوسط، (فليلبس السراويل)، وفي لفظ: "سراويل" (¬2) بلا تعريف. (للمحرم) بلام البيان كهي في قوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]، وفي نحو سقيًا لكَ؛ أي: هذا الحكم للمحرم (¬3). وفي لفظ: يعني: "المحرم" (¬4). قال في "الفروع": وإن عدم -يعني: المحرم- إزارًا، لبس سراويلَ، نص عليه الإمام أحمد، وفاقًا للشافعي؛ لهذا الحديث، فأجاز الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- لبسَ السراويل مطلقًا لعدمِ الإزار، فلو اعتبر فتقه، لم يعتبر عدمُه، ولم يشتبه على أحد، ولم يوجب فدية، وحملها أولى من جواز اللبس، ولأنه جعله بدلًا، وهو يقوم مقام المبدل عنه. ومتى وجد إزارًا، خلعَ السراويل. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 275). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1744، 5467). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 314). (¬4) كذا في رواية الكشميهني كما نقله القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 314).

وعند أبي حنيفة، ومالك: إن لبسَ سراويل، فدى. قال الطحاوي: لا يجوز لبسُه حتى يفتقه، ومعناه في "الموطأ"، وأنه لم يسمع بلبسه؛ لأنه لم يَرِدِ الخبر فيه (¬1). قلت: ولفظ الإمام مالك في "الموطأ" بعدَ ذكرِ حديثِ ابنِ عمرَ المارِّ: قال يحيى: وسُئل مالكٌ عَمَّا ذُكر عن النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنه قال: "مَنْ لم يجدْ إزارًا، فليلبسْ سراويل"، فقال: لم أسمعْ بهذا، ولا أرى أن يلبس المحرمُ سراويل؛ لأن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن لبس السراويلات فيما نهى عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها، ولم يستثن فيها كما استثنى في الخفين (¬2). انتهى. وجَوَّزه أصحابهُ، والرازي بلا فتق، ويفدي، وفى "الانتصار" احتمال يلبس سراويل للعورة فقط (¬3). تنبيهان: الأول: الكعبان هما العظمان الناتئان عند ملتقى الساق والقدم، وهذا قول الأئمة. وذهب متأخرو الحنفية إلى التفرقة في غسل القدمين في الوضوء بين [الكعب في غسل القدمين في الوضوء، و] الكعب المذكور في قطع الخفين للمحرم، وأن المرادَ بالكعب هنا المفصلُ الذي في القدم عند معقد الشِّراكَ دون [الناتيء] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 273). (¬2) انظر: "الموطأ" للإمام مالك (1/ 325). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 273). (¬4) في الأصل: "الثاني".

وأنكره الأصمعي، وقال الحافظ العراقي: إنه -يعني: قول متأخري الحنفية- أقربُ إلى عدم الإحاطة على القدم (¬1). ولا يحتاج القول به إلى مخالفة اللغة، بل يوجد ذلك في بعض ألفاظ حديث ابن عمر، ففي رواية الليث عن نافع، عنه: "فليلبسِ الخفَّين ما أسفل من الكعبين" (¬2)، فقوله: "ما أسفل" بدل من "الخفين"، فيكون اللبسُ لهما أسفلَ من الكعبين، والقطعُ من الكعبين فما فوق. وفي رواية مالك عن نافع، عنه: "وليقطَعْهما أسفلَ من الكعبين" (¬3)، فليس فيه ما يدل على كون القطع مقتصرًا على ما دون الكعبين، بل يزاد مع الأسفل ما يخرج القدم عن كونه مستورًا بإحاطة الخف عليه، ولا حاجة حينئذ إلى مخالفة ما جزم به أهل اللغة، انتهى. وإذا لبسَه والحالةُ هذه، تلزمُه الفديةُ عند الحنفية (¬4)، واللَّه أعلم. الثاني: السرُّ في تحريم لبسِ المَخِيط وغيرِه مما ذُكر للمحرم مخالفةُ العادة، والخروجُ عن المألوف؛ لإشعار النفس بأمرين: الخروجِ عن الدنيا، والتذكرِ للبسِ الأكفانِ عند نزع المخيط، وتنبيهًا على التلبس بهذه العبادة العظيمة بالخروج عن معتادها، وذلك موجبٌ للإقبال عليها، والمحافظةِ على قوانينها وأركانها وشرائطها وآدابها، واللَّه أعلم (¬5). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "طرح التثريب" للعراقي (5/ 53). (¬2) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (2673). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1468، 5466)، ومسلم برقم (1177). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 314). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 13).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لا شَرِيْكَ لَكَ". قَالَ: وَكَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ بِيَدَيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالعَمَلُ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1474)، كتاب: الحج، باب: التلبية، و (5571)، كتاب: اللباس، باب: التلبية، ومسلم (1184/ 19 - 21)، كتاب: الحج، باب: التلبية وصفتها ووقتها، واللفظ له، وأبو داود (1812 - 1813)، كتاب: المناسك، باب: كيف التلبية، والنسائي (2747 - 2750)، كتاب: الحج، باب: كيف التلبية، والترمذي (825 - 826)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في التلبية، وابن ماجه (2918)، كتاب: المناسك، باب: التلبية. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 173)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 43)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 41)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 176)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 266)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 88)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 15)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 925)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 198)، و"طرح التثريب" للعراقي (5/ 88)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 409)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 172)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني =

(عن) أبي عبدِ الرحمنِ (عبدِ اللَّه بنِ) أميرِ المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (-رضي اللَّه عنهما-)، قال: (إن تلبية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-). اعلم أن التليبةَ مصدر لَبَّى تلبيةً؛ كزكَّى تزكيةً، وهو بغير همز على الأصل. ولَبَّأ -بالهمز- لغة، والتلبيةُ: قولك لمن دعاك: لَبَّيْكَ، وفي الحج قولك: (لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ)، وهو اسم مثنى عند سيبويه وجماعة (¬1)؛ بقلب ألفه ياء مع المظهر، وليست تثنية حقيقة، بل هو من المثناة لفظًا، ومعناها التكثيرُ والمبالغة؛ كما في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]؛ أي: نعمتاه عند من أَوَّلَ اليدَ بالنعمة؛ إذ نعمه تعالى لا تحصى. وقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4]؛ أي: كَرَّاتٍ كثيرةً. وقال يونس بن حبيب النحويُّ: ليس بمثنى، إنما هو اسم مفرد، وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير؛ كَلَدَيَّ وعَلَيَّ (¬2)، نقول عند اتصالها بالضمير: لَدَيْكَ، وعَلَيْكَ. انتهى. وهو منصوب على المصدر بعامل مضمَرٍ؛ أي: أجيبُ إجابة بعدَ إجابة إلى ما لا نهايةَ له (¬3). وقال في "المطلع": حكى أبو عُبيد عن الخليل: أن أصل التلبية: ¬

_ = (3/ 114)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 52). (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 168). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114)، نقلًا عن "طرح الثثريب" للعراقي (5/ 89 - 90). (¬3) انظر: "طرح التثريب" للعراقي (5/ 90)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 409).

الإقامةُ بالمكان، يقال: ألبيت ولبيت به: إذا أقمت به، أي: إقامةً على إجابتك بعدَ إقامة (¬1). والكاف للإضافة، وقيل: ليس هنا إضافة، والكافُ حرفُ خطاب، (¬2) ومعناه كما في "القاموس"، أي: أنا مقيم على طاعتك إلبابًا بعدَ إلباب، وإجابة بعدَ إجابة، أو معناه: اتجاهي وقصدي لك؛ من: داري تَلُبُّ داره؛ أي: تواجهها، أو معناه: محبتي لك؛ من قولهم: امرأة لَبَّةٌ: مُحِبَّةٌ لزوجِها (¬3). وقال ابن عبد البر: معنى التلبية: إجابة للَّه فيما فرض عليهم من حَجِّ بيته، والإقامةِ على طاعته، فالمحرمُ بتلبيته مستجيبٌ لدعاء اللَّه إياه في إيجاب الحجِّ عليه. قيل: هي إجابة لقوله تعالى للخليل إبراهيم -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]؛ أي: بدعوة الحج، والأمر به (¬4). قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن": أصلُ التلبية: الإجابةُ لنداء الخليل -عليه السلام-، ثم ذكر بسنده عن مجاهد، قال: لما قيل لإبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، قال: يا رب! كيف أقول؟ [قال:] قل: يا أيها الناس! أجيبوا ربكم، فصعِد الجبل، فنادى: يا أيها الناس! أجيبوا ربكم، فأجابوه: لبيك اللهمَّ لبيك، فكان هذا أولَ التلبية (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 169). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 170)، (مادة: لبب). (¬4) انظر: "الاستذكار" (4/ 45)، و"التمهيد" كلاهما لابن عبد البر (15/ 130). (¬5) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 81 - 82).

وفي "صحيح مسلم": أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا استوَتْ به راحلتهُ قائمةً عند مسجدِ ذي الحليفة، أَهَلَّ، فقالَ: "لبيكَ اللهمَّ لبيكَ" (¬1)؛ أي: يا اللَّه! أجبناك فيما دعوتنا. وروى ابنُ أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، قال: لما فرغَ إبراهيمُ من بناء البيت، قيل له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، قال: يا ربِّ! وما يبلغ صوتي؟ قال: أَذِّنْ، ومِنِّي البلاغ، قال: فنادى إبراهيم -عليه السلام-: يا أيها الناس! كتب اللَّهُ عليكم الحجَّ إلى البيت العتيق، فسمعَه ما بينَ السماءِ والأرض، ألا ترونَ الناسَ يجيئون من أقصى الأرض يُلَبُّون؟ (¬2) ومن طريق ابنِ جريجٍ، عن عطاء، عن ابن عباس، وفيه: فأجابوه بالتلبية من أصلابِ الرجال، وأرحامِ النساء. وأولُ مَنْ أجابه أهلُ اليمن، فليسَ حاجٌّ يحجُّ من يومِئِذٍ إلى أن تقومَ الساعةُ إلا من كان أجابَ إبراهيم -عليه السلام- يومئذٍ (¬3). زاد غيره: فمن لَبَّى مرةً، حجَّ مرةً، ومن لبى مرتين، حَجَّ مرتين، ومن لبى أكثر، بقدر تلبيته (¬4). وقد وقع في حديث مرفوع تكريرُ لفظة: "لبيك" ثلاثَ مرات. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1184/ 20). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (14711). وكذا ابن أبي شيبة في "المصنف" (31818)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (17/ 144)، والحاكم في "المستدرك" (3464)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 176). (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (14712). (¬4) رَواه الديلمي في "مسند الفردوس" (5303)، من حديث علي -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا بسند واه كما قال السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 33).

وكذا في الموقوف، إلا أن في المرفوع الفصل بين الأولى والثانية بقوله: "اللهم"، وقد نقل اتفاق الأدباء على أن التكرير اللفظي لا يُزاد على ثلاث مرات (¬1). (لَبَّيْكَ لا شريكَ لك لبيك إن الحمدَ) -بكسر الهمزة على الاستئناف-، كأنه لما قال: لبيكَ، استأنف كلامًا آخر، فقال: إن الحمدَ، و-بالفتح- على التعليل، كأنه قال: أجبتك لأن الحمد (والنعمةَ لكَ)، (¬2) والكسر هو منصوص الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-، وهو أجود عند الجمهور، وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة (¬3)، والموفق عن الإمام أحمد (¬4)، وابن عبد البر عن اختيار أهل العربية (¬5). وفي "المطلع": قال ثعلب من قال: "أنَّ" -بفتحها-، فقد خص، ومن قال: بكسر الألف، فقد عمَّ؛ يعني: أن من كسر، جعل الحمدَ للَّه على كلِّ حال، ومن فتحَ، فمعناه: لبيكَ لأن الحمدَ لك؛ أي: لهذا السبب، انتهى (¬6). "والنعمة لك" -بكسر النون-: الإحسانُ والمِنَّةُ مطلقًا (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114)، نقلًا عن طرح التثريب للعراقي (5/ 91). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114). (¬3) انظر: "الكشاف" للزمخشري (4/ 29). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 130)، وقال: والفتح جائز، إلا أن الكسر أجود. (¬5) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 127)، وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114)، نقلًا عن "طرح التثريب" للعراقي (5/ 91). (¬6) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 169). (¬7) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 114).

ويجوز في "النعمة" النصبُ، وهو الأشهر؛ عطفًا على الحمد، والرفعُ على الابتداء، والخبر محذوف؛ لدلالة خبر إن، تقديره: إن الحمدَ لك، والنعمةُ مستقرةٌ لذلك. وجَوَّزَ ابنُ الأنباري أن يكون الموجودُ خبرَ المبتدأ، وخبر إن هو المحذوف (¬1). (والمُلكَ) لك -بضم الميم والنصب- عطفًا على اسم إن، وبالرفع على الابتداء، والخبر محذوف؛ لدلالة الخبر المتقدم. ويحتمل أن يكون تقديره: والملكُ كذلك (¬2). (لا شريكَ لك) في ملكك. قال الطحاوي، (¬3) والقرطبي: (¬4) أَجمعَ العلماءُ على هذه التلبية (¬5). قال في "الفروع": ولا تُستحب الزيادةُ عليها؛ خلافًا لأبي حنيفة. ولا تكره -يعني: الزيادة-، نص عليه -يعني: الإمام أحمد-؛ وفاقًا للشافعي؛ لقول ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: إن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان لا يزيد على ذلك. وفي "الإفصاح" لابن هبيرة: تُكره الزيادةُ. وقيل: له الزيادةُ بعدها؛ يعني: التلبية، لا فيها (¬6). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه، نقلًا عن "طرح التثريب" للعراقي (5/ 91). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه، نقلًا عن المرجع نفسه. (¬3) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (2/ 125). (¬4) انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 269). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 410). (¬6) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 268).

وللبخاري التلبيةُ من حديث عائشة: كابن عمر -رضي اللَّه عنهم-، وليس فيه: "والملك لا شريك لك" (¬1). وقد نقل المروذيُّ: كان في حديث ابن عمر: "والملك لا شريك لك"، فتركه؛ لأن الناس تركوه، وليس في حديث عائشة (¬2). (قال) -يعني: نافعًا-: (وكان عبدُ اللَّه بنُ) أمير المؤمنين (عمرَ) -رضي اللَّه عنهما- (يزيدُ فيها)؛ أي: في دُبُر التلبيةِ على تلبية رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المتقدمةِ لبيك: (لبيك لبيك) ثلاثة متوالية. وفي "الفروع": مرتين، وعزاه "للصحيحين"، ثم قال: وفي "الموطأ"، وأبي داود في زيادته لبيك ثلاث مرات، (¬3) ثم قال: وزاد عمر -رضي اللَّه عنه- ما زاده ابنه، متفق عليه، كذا قال (¬4). (وسعديك) هو من باب لبيك، فيأتي فيه ما سبق من التثنية والإفراد، ومعناه: أسعدني إسعادًا بعدَ إسعاد، فالمصدر فيه مضاف للفاعل، وإن كان الأصل في معناه: أسعدك بالإجابة إسعادًا بعد إسعاد، على أن المصدر فيه مضاف للمفعول؛ لاستحالة ذلك هنا. وقيل: المعنى: مساعدة على طاعتك بعد مساعدة، فيكون من المضاف ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1475)، كتاب: الحج، باب: التلبية. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 251 - 252). (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 331)، وتقدم تخريجه عند أبي داود برقم (1812). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 251). وما ذكره العلامة ابن مفلح: أن عمر -رضي اللَّه عنه- زاد في التلبية ما زاده ابنه، وعدّ ذلك من متفق الشيخين، فليس مسلّمًا؛ إذ انفرد مسلم برواية هذه الزيادة عن البخاري، وقد تقدم تخريجها برقم (1184/ 21).

للمنصوب، (¬1) (والخيرُ) كلُّه بأنواعه الدينية والدنيوية؛ من خيري الدنيا والآخرة على كثرة تنوعه (بيديكَ) لا يصلُ منه شيء لأحد إلا بإعطائك، فلا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما منعتَ. (والرَّغْباءُ) -بفتح الراء والمد، وبضمها مع القصر-؛ كالعَلاء، والعُلا، و-بالفتح مع القصر (¬2) - (إليكَ) لا إلى غيرك. ومعناه: الطلب والمسألة؛ يعني: أنه تعالى هو المسؤول منه، فبيدِه جميعُ الأمور (والعملُ)، أي: إليك القصدُ به، والانتهاء به إليك؛ أي: لتجازي عليه (¬3). تنبيهات: الأول: زيادةُ ابنِ عمر -رضي اللَّه عنهما- ليس من المتفق عليه؛ خلافًا لما تُوهمه عبارةُ المصنف، و"الفروع"، (¬4) ولما توهمه عبارة "جامع الأصول" لابن الأثير (¬5)، والحافظ المنذري في "مختصر السنن" (¬6)، والنووي في "شرح المهذب" (¬7)، والمجد ابن تيمية في "المنتقى" (¬8)، وغيرهم. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 115)، نقلًا عن "طرح التثريب" للعراقي (5/ 91). (¬2) قاله المازري فيما نقله عنه القاضي عياض في "إكمال المعلم" (4/ 78). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 115)، وعنه نقل الشارح -رحمه اللَّه-. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 115)، نقلًا عن "شرح مسلم" للنووي (8/ 88). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 251). (¬5) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (3/ 88 - 90). (¬6) انظر: "مختصر السنن" للمنذري (2/ 335 - 337). (¬7) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (7/ 217). (¬8) انظر: "المنتقى في الأحكام" للمجد ابن تيمية (2/ 132 - 133).

وفي "مسلم": كان ابن عمر يقول: كان عمرُ بنُ الخطاب يُهلُّ بإهلالِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذكر الزيادة من قول عمر -رضي اللَّه عنه- (¬1). قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي في "جمعه بين الصحيحين": لم يذكر البخاريُّ زيادة عمر، ولا ابنِ عمر (¬2). وقال [القسطلاني] في "شرح البخاري": لم يذكر البخاريُّ هذه الزيادة، فهي من أفراد مسلم (¬3). ولم ينبه ابنُ دقيق العيد على ذلك (¬4). الثاني: التلبيةُ سنةٌ عند الإمام أحمد، والشافعي. قال في "الفروع": لأن الحجَّ عبادةٌ بدنية، ليس في آخرها نطقٌ واجب، فكذا أولها؛ كصوم؛ بخلاف الصلاة. قال: ويتوجَّهُ احتمالٌ: تجبُ التلبية، والاعتبار بما نواه، لا بما سبق لسانه [إليه] (¬5). وعند الشافعي: أنها واجبةٌ في وجه حكاه الماوردي عن ابن خيران، وابن أبي هريرة، وأنه يجب بتركها دمٌ. وقال الحنفية: إذا اقتصر على النية، ولم يُلَبِّ، لا يفقد إحرامه؛ لأن الحج تضمن أمورًا مختلفة فعلًا وتركًا، فأشبهَ الصلاة، فلا يحصل إلا بالذكر في أوله. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1184/ 21). (¬2) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (2/ 199)، حديث رقم (1838). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 115). (¬4) في "شرح عمدة الأحكام" (3/ 15). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 217).

وقال المالكية: ولا ينعقد إلا بنية مقرونة بقول أو فعل متعلقينِ به؛ كالتلبية، والتوجُّه إلى الطريق، فلا ينعقد بمجرد النية، وقيل: ينعقد، قاله سند، وهو مروي عن مالك (¬1). قال في "الفروع": الإحرام لا ينعقد إلا بنية، وللشافعي قولٌ ضعيف: ينعقد بالتلبيةِ، ونيةُ النسك كافية، نص عليه -يعني: الإمام أحمد-؛ وفاقًا لمالك، والشافعي. وفي "الانتصار" رواية: مع تلبية، أو سوق هدي؛ وفاقًا لأبي حنيفة، قال: واختارها شيخنا؛ يعني: شيخَ الإسلام ابنَ تيمية، وقاله جماعة من المالكية، وحكي قولًا للشافعي، وبعضهم حكى قولًا: يجب، وحكي عن مالك وجماعة من الشافعية: يعتبر مع النيةِ التلبيةُ (¬2). والمعتمد: أن التلبيةَ سنةٌ لا تجب، ويُسن ابتداؤها عقبَ إحرامه، وذكرُ نسكه فيها، وذكرُ العمرة قبل الحج للقارن، فيقول: "لبيك عمرةً وحجًا"، والإكثارُ منها، ورفعُ الصوت بها. ولكن لا يجهد نفسَه في رفعه زيادة على الطاقة، ولا يُندب إظهارُها في مساجد الحِلِّ وأمصارِه، ولا في طواف قدوم وسعي بعده، ويكرهُ رفعُ الصوت بها حول البيت؛ لئلا يشغلَ الطائفين عن طوافهم وأذكارهم، ويُسن الدعاءُ بعدها، فيسألُ اللَّه الجنةَ، ويعوذ به من النار؛ لما يأتي من الأخبار، ويدعو بما أحبَّ، والصلاة على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). وتتأكد التلبية إذا علا نشزًا، أو هبطَ واديًا، أو لقي رفقة، أو سمع ملبيًا، ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 113). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 217). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 565 - 566).

وعقبَ مكتوبة، أو أتى محظورًا ناسيًا، وأولَ الليل والنهار، أو ركب، زاد في "الرعاية": أو نزل، وقاله الشافعية، ولم يقيدوا الصلاة بمكتوبة. وفي "المستوعب": يستحب عند تنقل الأحوال به (¬1). الثالث: تقدَّمَ أن معتمدَ المذهب: جوازُ الزيادةِ على تلبيةِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من غيرِ استحبابٍ ولا كراهةٍ. لكن ينبغي أن يُفرد ما روي عنها، ثم يقرن الموقوف على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع. قال الإمام الشافعي فيما حكاه عنه البيهقي في "المعرفة": ولا ضيقَ على أحد في مثل ما قال ابن عمر ولا غيره من تعظيم اللَّه ودعائه مع التلبية، غير أن الاختيار عندي أن يُفرد ما روي عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من التلبية (¬2). إذا علمت ذلك، فقد روى الأثرم، وابن المنذر، وابن أبي شيبة: أنّه كانَ من تلبية عمر -رضي اللَّه عنه-: لبيك ذا النّعماء والفضل الحسن، لبيك مرغوبًا ومرهوبًا إليك (¬3). ولمسلم، وأبي داود من حديث جابر كخبر ابن عمر: والنّاس ذا المعارج، ونحوه من الكلام، والنبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يسمع، فلا يقول لهم شيئًا، ولزم تلبيته (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المستوعب" للسامري (4/ 72)، وانظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 252). (¬2) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (2922). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13472). (¬4) رواه مسلم (1218)، كتاب: الحج، باب: حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتقدم تخريجه عند أبي داود برقم (1813).

وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: أنّ النّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في تلبيته: "لبيكَ إلهَ الحقِّ لبيكَ"، رواه الإمام أحمد، والنّسائي، وابن ماجه، وصححه ابنُ حبّان والحاكم (¬1). واستحبَّ الشّافعيّةُ إذا رأى ما يعجبه [أن يقول]: لبيك إنّ العيشَ عيشُ الآخرة؛ لرواية الإمام الشّافعي عن مجاهد مرسلًا تلبيةَ ابن عمر: حتّى إذا كان ذات يومٍ، والنّاسُ يصرفون عنه، كأنه أعجبه ما هو فيه، فزاد فيه ذلك (¬2). وكذا ذكر الآجريُّ منّا: إذا رأى ما يُعجبه، قال: اللهمَّ لا عيشَ إلّا عيشُ الآخرة (¬3). ويستحبُّ رفعُ صوته بالتّلبية؛ لخبر السّائبِ بنِ خلّاد: "أتاني جبريلُ، فأمرني أن آمرَ أصحابي أن يرفعوا أصواتَهم بالإهلال والتّلبية" أسانيده جيدة، رواه الخمسة، وصحّحه التّرمذي (¬4). وللإمام أحمد من رواية ابن إسحاق: أنّ جبريل قال له: كُنْ عَجَّاجًا ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 341)، والنسائي (2752)، كتاب: الحج، باب: كيف التلبية، وابن ماجه (2920)، كتاب: المناسك، باب: التلبية، وابن حبان في "صحيحه" (3800)، والحاكم في "المستدرك" (1650). (¬2) رواه الإمام الشافعي في "مسنده " (ص: 122)، وفي "الأم" (2/ 156). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 252). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 55)، وأبو داود (1814)، كتاب: المناسك، باب: كيف التلبية، والنسائي (2753)، كتاب: الحج، باب: رفع الصوت بالإهلال، والترمذي (829)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في رفع الصوت بالتلبية، وابن ماجه (2922)، كتاب: المناسك، باب: رفع الصوت بالتلبية.

ثَجَّاجًا. والعجُّ: التّلبيةُ. والثَّجُّ: نحرُ البُدْنِ (¬1). وفي حديث الصّدِّيقِ الأعظمِ -رضوانُ اللَّه عليه-: أنّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئل: أَيُّ الحجِّ أفضلُ؟ قال: "العَجُّ والثَّجُّ" (¬2). قال الإمام أحمدُ في رواية مهنّا، وابن معين: أصلُ الحديث معروف (¬3). وحديث خزيمة: أنه كان يسأل اللَّه رضوانَه والجنّةَ، ويستعيذ برحمته من النّار، إسناده ضعيف، رواه الإمام الشّافعي، والدّارقطني (¬4). والصّلاةُ على النّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعدَ التّلبية مستحبّةٌ؛ كما قدّمنا؛ خلافًا للإمام مالك؛ لقول القاسم بن محمد: كان يستحبُّ فيه ذلك صالحُ بنُ محمدِ بنِ زائدة، قوّاه الإمام أحمد، وضعّفه الجماعة، رواه الدّارقطني (¬5). وكانت تلبيةُ يونُسَ بنِ مَتَّى -عليه السّلام-: لبيكَ تفريج الكروب. وتلبية موسى: لبيك أنا عبدُك لديكَ لبيكَ. وتلبيةُ عيسى: أنا عبدُك وابنُ أَمَتِكَ بنتِ عبديك (¬6). الرابع: يقطع المتمتّعُ والمعتمرُ التّلبيةَ إذا شرعَ في الطّواف؛ فقد روى أبو داود عن عطاء، عن ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما- مرفوعًا: أنّه كان ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 56)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6638)، وغيرهما. (¬2) رواه الترمذي (827)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في فضل التلبية والنحر، وابن ماجه (2924)، كتاب: المناسك، باب: رفع الصوت بالتلبية. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 253). (¬4) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 123)، والدارقطني في "سننه" (2/ 238). (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 238). (¬6) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 115).

يمسك التّلبية في العمرة إذا استلمَ الحجرَ؛ (¬1) وفاقًا لأبي حنيفةَ، والشّافعيِّ. ويقطعُها المفرِدُ أو القارِنُ إذا رمى جمرةَ العقبةَ؛ فقد روى الجماعةُ عن الفضل بنِ عبّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قال: كنتُ رديفَ النّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من جَمْعٍ إلى مِنًى، فلم يزل يُلبّي حتّى رمى جمرةَ العقبة (¬2). قال علماؤنا: يقطع التّلبيةَ بأوّل حَصاةٍ. قال الإمام أحمد: يُلبّي حتّى يرميَ جمرةَ العقبة، يقطعُ عندَ أوّل حصاة؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشّافعي؛ لحديث الفضلِ في "الصّحيحين"، وغيرهما، وفي النّسائي: فلمّا رمى، قطع التّلبية (¬3). ورواه حنبل: قطعَ عندَ أوّلِ حصاةٍ. وكان ابن عبّاس بعرفةَ، فقال: مالي لا أسمع النّاس يلبّون؟ فقال سعيد بن جبير: يخافون من معاويةَ، فخرج ابنُ عبّاس من فُسطاطه، فقال: لَبَّيْكَ؛ فإنَّهم تركوا السنَّةَ من بغض علي، رواه النّسائي بإسناد جيد (¬4). * * * ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1817)، كتاب: المناسك، باب: متى يقطع المعتمر التلبية، والترمذي (919)، كتاب: الحج، باب: ما جاء متى تقطع التلبية في العمرة. (¬2) رواه البخاري (1601)، كتاب: الحج، باب: التلبية والتكبير غداة النحر حين يرمي الجمرة، ومسلم (1281)، كتاب: الحج، باب: استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر، عن ابن عباس: أن الفضل بن عباس أخبره. .، الحديث. (¬3) رواه النسائي (3080)، كتاب: المناسك، باب: قطع المحرم التلبية إذا رمى جمرة العقبة. (¬4) رواه النسائي (3006)، كتاب: المناسك، باب: التلبية بعرفة. وانظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 256).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَحِل لِامْرَأَةٍ تُؤْمنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا حُرْمَةٌ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ لِلبُخَارِيِّ: "أَنْ تُسَافِرَ مَسِيَرةَ يَوْمٍ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1038)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: في كم يقصر الصلاة، واللفظ له، ومسلم (1339/ 419 - 421)، كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، وأبو داود (1723 - 1725)، كتاب: المناسك، باب: في المرأة تحج بغير محرم، والترمذي (1170)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في كراهية أن تسافر المرأة وحدها، وابن ماجه (2899)، كتاب: المناسك، باب: المرأة تحج بغير ولي. (¬2) لم أره في "صحيح البخاري" بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. وقد رواه مسلم (1339/ 420) -كما تقدم- بهذا اللفظ. قلت: والعجب من الزركشي -رحمه اللَّه- كيف عقّب على هذا الحديث في "النكت" (ص: 200) بقوله: يوهم انفراد البخاري به، وليس كذلك، فقد أخرجه مسلم أيضًا، انتهى. وتبعه على ذلك ابن الملقن في "الإعلام" (6/ 73)، وزاد عليه: فلو حذف العزو، واقتصر على قوله: وفي لفظ، كان أولى، والعصمة للَّه وحده. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 531)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 117)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض =

(عن أبي هريرة) عبدِ الرّحمنِ بنِ صخرٍ (-رضي اللَّه عنه-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا يحلّ لامرأة) شابَّة أو عجوز أن تسافرَ سفرًا قليلًا أو كثيرًا، للحجّ أو غيره. قال في "الفروع": ويُشترط للمرأة مَحْرَمٌ، نقله الجماعة. وأنّه قال: المحرمُ من السّبيل. وصرّح في رواية الميموني وحرب: بالتسوية بين الشّابة والعجوز؛ اتفاقًا. وأنكر الإمام أحمد في رواية الميموني التّفرقةَ، فقال: من فرّق بينَ الشّابة والعجوز؟ -يعني: منكِرًا على من فرّق-؛ لحديث ابن عبّاس: "لا تسافر امرأةٌ إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجلٌ إلّا ومعها محرم"، فقال رجل: يا رسول اللَّه! إنّي أريد أن أخرجَ في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال: "اخرجْ معها". عزاه بعضهم إلى "الصّحيحين"، والظّاهر أنّه لفظ أحمد (¬1). وفيهما: إنَّ امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبتُ في غزوة كذا، قال: "انطلق فحُجَّ معها" (¬2). ¬

_ = (4/ 448)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 102)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 18)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 956)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 568)، و"عمدة القاري" للعيني (7/ 127)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (7/ 127)، و"نيل الأوطار"، للشوكاني (5/ 15). (¬1) رواه البخاري (1763)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: حج النساء، ومسلم (1341)، كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 346)، وهذا لفظ البخاري. (¬2) هذا لفظ مسلم المتقدم تخريجه قريبًا. وانظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 175).

قلت: بل اللفظ الأوّل في "صحيح البخاريّ"، وكذا في "مسلم". إلّا أن قوله: "ولا يدخل عليها رجلٌ إلّا ومعها محرم" في البخاري دون مسلم. فالحديث متّفقٌ عليه، وعزو من عزاه صحيح، فلا وجه لتبرئة صاحب "الفروع" من ذلك، واللَّه أعلم. قال ابن دقيق العيد: لفظُ المرأة عامٌ بالنسبة إلى سائر النّساء. وقال بعض المالكيّة: هذا عندي في الشّابة، وأمّا الكبيرةُ غيرُ المشتَهاة، فتسافر كيف شاءت في كل الأسفار بلا زوجٍ ولا محرم. وخالفه بعضُ المتأخّرين من الشّافعية من حيث إنّ المرأة مظنّة الطمع فيها، ومظنّة الشهوة، ولو كانت كبيرة، وقد قالوا: لكلّ ساقطةٍ لاقِطَةٌ. قال: والذي قاله المالكي تخصيصُ العموم بالنّظر إلى المعنى، وقد اختار هذا الشّافعي، أنّ المرأة تسافر في الأمن، ولا تحتاج إلى أحدٍ، بل تسير وحدَها في جملة القافلة، وتكون آمنة. وهذا مخالفٌ لظاهر الحديث، انتهى (¬1). وقد علمت إنكار الإمام أحمد على من فرّق بين الشّابة والعجوز. ونقل صاحب "الفروع" الاتفاقَ على عدم التّفرقة، واللَّه أعلم (¬2). (تؤمنُ باللَّه واليومِ الآخِرِ)؛ يعني: مسلمة تؤمن بالبعث، وأنّ اللَّه تعالى يحاسب العباد على الذّنوب، ويؤاخذهم بها. (أن تسافر مسيرة يومٍ وليلة إلّا ومعها محرم) هذا لفظ البخاري. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 19). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 175).

وفي لفظ لمسلم: "إلّا ومعها ذو محرمٍ منها" (¬1). وفي لفظٍ له: "إلّا ومعها رجل ذو حرمةٍ منها" (¬2). وفي أخرى: "إلا (¬3) مع ذي محرم عليها" (¬4). وفي لفظٍ للبخاري: "أن تسافر مسيرة يومٍ إلّا مع ذي محرم". وفي رواية لمسلم: "تسافر مسيرة ليلة" (¬5). ولأبي داود: نحوه، إلا أنّه قال: "بريدًا" (¬6). وصححه الحاكم، والبيهقي (¬7). ولمسلمٍ أيضًا: "ثلاثًا" (¬8). وله أيضًا من حديث أبي سعيد: "يومين" (¬9). وله أيضًا: "أكثر من ثلاث" (¬10). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1339/ 422). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1339/ 419). (¬3) في الأصل: "أي"، والصواب ما أثبت. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1339/ 421). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1339/ 419). (¬6) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (1725). (¬7) رواه الحاكم في "المستدرك" (1616)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 139). (¬8) رواه مسلم (1338/ 417)، كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (¬9) رواه مسلم (1338/ 416)، كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره. (¬10) رواه مسلم (1338/ 418)، كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره.

والظّاهر: اختلاف الرّوايات، لاختلاف السّائلين وسؤالهم، فخرجت جوابًا، وإلّا، فالحكم متعلّق بأقلِّ ما يقع عليه اسمُ السّفر -على ما قدّمنا- (¬1). وروى الدّارقطنيُّ من حديث ابن عبّاسٍ -رضي اللَّه عنهما- مرفوعًا: "لا تَحُجَّنَّ امرأةٌ إلّا ومعَها ذو محرمٍ" (¬2). استظهر في "الفروع" تحسينَه (¬3). قال في "الفروع": وكالسّفر لحجِّ التّطوُّع والزيارة؛ وفاقًا (¬4). قال متأخّرو علمائنا: يُشترط لوجوب الحج على المرأة -شابّة كانت أو عجوزًا، مسافةَ قصرٍ، ودونَها- وجودُ محرم، وكذا يعتبر لكلِّ سفر يحتاج فيه إلى محرم، لا في أطراف البلد مع عدم الخوف، وهو معتبر لمن لعورتها حكم، وهي بنتُ سبعِ سنينَ فأكثرَ. قال شيخ الإسلام: وأمّا المرأة يُسافِرْنَ معها، ولا يفتقرنَ إلى محرم؛ لأنّه لا محرمَ لهنّ في العادة الغالبة، انتهى (¬5). ويتوجه في عتقائها من الإماء مثلُه على ما قال، قاله في "الفروع". وقال: وظاهر كلامهم اعتبارُ المحرم للكلِّ، وعدمُه كعدم المحرم للحرّة (¬6). وقيل: لا يشترط المحرم في الحجِّ الواجب. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 19 - 20). (¬2) رواه الدارقطني في "السنن" (2/ 222). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 176). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 465). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 178). وانظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 546).

قال الإمام أحمد: لأنّها تخرج مع النّساء، ومع كلِّ مَنْ أمنته. وقال ابن سيرين: مع مسلمٍ لا بأس به. وقال الأوزاعي: مع قومٍ عدول. وقال الإمام مالك: مع جماعة من النّساء. وقال الإمام الشّافعي: مع حرّة مسلمة ثقة. وقال بعض أصحابه: وحدَها مع الأمن. والصّحيح عندهم: يلزمها مع نسوةٍ ثقاتٍ، ويجوز لها مع واحدة؛ لتفسيره -صلى اللَّه عليه وسلم- السّبيلَ: بالزّاد والرّاحلة. وقوله لعديِّ بن حاتم: "إنَّ الظَّعينةَ ترتحلُ من الحيرةِ حتّى تطوفَ بالكعبة لا تخافُ إلّا اللَّه" متّفق عليه (¬1)، وإنّما هو خبر عن الواقع. واحتجّ ابنُ حزم بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تمنعوا إماءَ اللَّه مساجدَ اللَّه" متفقٌ عليه (¬2). وقوله: "إذا استأذَنكم نساؤُكُمْ إلى المساجد، فَأْذَنُوا لَهُنَّ" (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة: تحج كلُّ امرأة مسلمة مع عدم المحرم، وقال: إن هذا يتوجه في سفر كل طاعة (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3400)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، ومسلم (1016)، كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، وهذا لفظ البخاري. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 465).

ونقل مثلَه الكرابيسيُّ عن الشّافعيِّ في حجة التطوُّع. وقال بعض أصحابه: فيه وفي كلّ سفر غير واجب، كزيارة وتجارة. وقال الباجيّ المالكي في كبيرةٍ غيرِ مشتهاة، وفي مسلمة: لا يعتبر المحرم إلّا في مسافة القصر؛ وفاقًا للإمام أبي حنيفة. ولا يعتبر في أطراف البلد مع عدم الخوف؛ وفاقًا (¬1). والمحرم للمرأة: زوجُها، أو مَنْ تحرم عليه على التّأبيد بنسبٍ أو سبب مباح لحرمتها، لكن يستثنى من السّبب المباح نساءُ النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ كرضاع، ومصاهرة، ووطء مباح بنكاحٍ أو غيره، ورابّها، وهو زوج أمها، وربيبها، وهو: ابنُ زوجها، نصّ عليها الإمام أحمد؛ وفاقًا. إلّا أنّ الإمام مالكًا خالف في ابن زوجها. ونقل الأثرم في أم امرأته يكون محرمًا لها في حجّ الفرض فقط (¬2). وخرج بقولنا: لحرمتها: الملاعنةُ؛ فإنّ تحريمها عليه عقوبةٌ وتغليظٌ، لا لحرمتها. ولا بُدَّ في المحرم أن يكون ذكرًا بالغًا عاقلًا مسلمًا، ولو عبدًا، ونفقتُه عليها، ولو كان زوجَها، فيعتبر أن تملك زادًا وراحلة لهما. ولو بذلت النّفقة، لم يلزمْه السفرُ معها، وكانت كمن لا محرمَ لها. وليس العبدُ محرمًا لسيدته، نصّ عليه الإمام أحمد. ولو جاز له النّظرُ إليها (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 177 - 178). (¬2) المرجع السابق، (3/ 178). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 547).

وقد روى سعيدٌ عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- مرفوعًا: "سفرُ المرأةِ مع عبدِها ضيعة" (¬1). وقيل: هو محرم. ونقله القاضي: أنّه مذهب الإمام أحمد؛ وفاقًا للشّافعي. فإن حجت المرأة بلا محرم، حَرُمَ، وأجزأ؛ وفاقًا، واللَّه تعالى أعلم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6639). وفي إسناد حديث سعيد بن منصور ضعف كما ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 77). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 179 - 180).

باب الفدية

باب الفدية قال الجوهري: فداه، وفاداه: إذا أعطاه فِداءَهُ، فأنقذه، وفداه بنفسه، وفَدَّاه: إذا قال له: جُعِلْتُ فِداكَ. والفِدْية والفِداء -بكسر الفاء-، والفَدى -بفتحها-: كلها بمعنى، فإذا كُسر أوّله، يُمَدُّ ويُقصر، وإذا فُتح أوّله، قُصر (¬1). وحكى صاحب "المطالع" عن يعقوب: فداءك ممدودًا مهموزًا، مثلث الفاء (¬2). وذكر الحافظ في هذا الباب حديثًا واحدًا، وهو: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: جَلَسْتُ إلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الفِدْيَةِ، فَقَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ خاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً: حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالقَمْلُ يَتنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: "مَا كُنْتُ أُرَى الوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى"، أوْ: "مَا كُنْتُ أُرَى الجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ مَا أَرَى، أَتَجِدُ شاةً؟ "، ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2453)، (مادة: فدى). (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 149)، وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 177)، وعنه نقل الشارح -رحمه اللَّه-.

فَقُلْتُ: لَا، قال: "فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يُهْدِيَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1721)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: الإطعام في الفدية نصف صاع، واللفظ له، و (4245)، كتاب: التفسير، باب: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196]، ومسلم (1201/ 85 - 86)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، والترمذي (5/ 212) عَقِبَ حديث (2973)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البقرة، وابن ماجه (3079)، كتاب: المناسك، باب: فدية المحصر، من طريق عبد اللَّه بن معقل، عن كعب بن عجرة، به. (¬2) رواه البخاري (1722)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: النسك شاة، واللفظ له، و (1719)، باب: قول اللَّه تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} إلى قوله: {فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196]، و (3927)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، و (3954 - 3955)، باب: غزوة الحديبية، و (5341)، كتاب: المرضى، باب: ما رخص للمريض أن يقول، و (5376)، كتاب: الطب، باب: الحلق من الأذى، و (6330)، في أول كتاب: كفارات الأيمان، ومسلم (1201/ 80 - 83)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، والنسائي (2851)، كتاب: الحج، باب: في المحرم يؤذيه القمل في رأسه، والترمذي (953)، كتاب: المناسك، باب: ما جاء في المحرم يحلق رأسه في إحرامه ما عليه، و (2973 - 2974)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة البقرة، من طريق مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، به. وقد رواه مسلم أيضًا (1201/ 84)، كتاب: الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، وأبو داود (1856)، كتاب: المناسك، باب: في الفدية، من طريق أبي قلابة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، به. =

(عن عبدِ اللَّه بنِ مَعْقِل) -بفتح الميم وسكون العين وكسر القاف-، يكنى: أبا الوليد. ومعقلٌ هو: ابنُ مُقَرِّنٍ -بضم الميم وفتح القاف وكسر الرّاء المشدّدة- المدنيُّ ثمّ الكوفيُّ الرّبعيُّ التّابعيُّ، سمع: ابنَ مسعود، وثابتَ بنَ الضّحاك، وكعبَ بنَ عُجْرَة، وعديَّ بنَ حاتم، وعليَّ بن أبي طالب، وغيرهم. روى عنه: عبدُ اللَّه بن السّائب، وأبو إسحاق الشّيباني، وزياد بن أبي مريم، وغيرهم. أخرج له الجماعة (¬1). (قال: جلستُ إلى كعبِ بنِ عُجْرَةَ) -بضم العين المهملة وسكون الجيم وبالرّاء-، تقدّمت ترجمته في باب التشهد من كتاب الصّلاة -رضي اللَّه عنه-؛ أي: انتهى جلوسي إليه. ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 187)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 212)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 287)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 118)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 21)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 962)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 201)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 13)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 155)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 288)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 196)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 77). (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 175)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 195)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 169)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 35)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 169)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 212).

وفي رواية مسلم من طريق غُنْدَرٍ عن شعبةَ: وهو في المسجد (¬1). وفي رواية الإمام أحمد عن بَهْزٍ: قعدتُ إلى كعبِ بنِ عُجرةَ في هذا المسجد (¬2). وزاد في رواية سليمان بن قرم، [عن ابن الأصبهاني] (¬3): يعني: مسجد الكوفة (¬4). (فسألتُه عن الفديةِ) المذكورة في قوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196]. (فقال: نزلت)؛ أي: الآيةُ المرخِّصَةُ لحلقِ الرّأس (فِيَّ) -بكسر الفاء وتشديد الياء- (خاصَّةً، وهي)؛ أي: الفدية (لكم) معشرَ المسلمين (عامّةً). فيه دليلٌ على أنّ العامَّ إذا وردَ على سببٍ خاصٍّ، فهو على عمومه، فالعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوصِ السّبب. لكن لا يسوّغ إخراج ما نزلت بخصوصه بالتّخصيص؛ ولهذا قال: نزلت فيَّ خاصّة (¬5). ثمّ بيّنَ كعبٌ -رضي اللَّه عنه- سببَ النزول، فقال: (حُمِلْتُ) -بضم الحاء المهملة وكسر الميم المخفّفة، مبنيًّا للمفعول- (إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1201/ 85). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 242). (¬3) في الأصل: "الأعرابي"، والصواب ما أثبت. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 243). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 17). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 288).

والقملُ) جمع قَمْلَة، وقد قَمِلَ رأسُه -بالكسر- قملًا (¬1)، وكنية القملة: أُمُّ عُقبة، وأُمُّ طلحة. والقمل المعروف يتولّد من العرق والوسخ. قال الجاحظ: وربّما كان الإنسان قَمِلَ الطّباع، وإن تنظَّفَ وتعطَّر وبدَّل الثيابَ؛ كما عرض لعبدِ الرحمن بنِ عوف، والزّبير بنِ العوّام -رضي اللَّه عنهما- حينَ استأذنا رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في لبس الحرير، فأذن لهما فيه (¬2)، إذ لولا الضّرورةُ، ما أذنَ لهما في ذلك؛ لما جاء في لبسِه من الوعيد الشّديد (¬3). (يتناثر) من رأسي (على وجهي) جملة حاليّة، (فقال) -صلى اللَّه عليه وسلم- لما رآني على تلك الحالة: (ما كنتُ أُرى) -بضم الهمزة-؛ أي: ما كنت أظنّ (الوجعَ بلغَ بك ما أَرى) -بفتح الهمزة-، أي: أُبصر بعيني. (أو) قال: (ما كنتُ أرى) -بضم الهمزة-؛ أي: أظنّ (الجَهْدَ) -بفتح الجيم-؛ أي: المشقّة. قال النّووي؛ (¬4) كالقاضي عياض (¬5) عن أبي بكر بن دريد: ضَمُّ الجيم لغةٌ من المشقّة أيضًا. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 282). (¬2) رواه البخاري (2762)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الحرير في الحرب، ومسلم (2076)، كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها، عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬3) انظر: "الحيوان" للجاحظ (5/ 372). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 199). (¬5) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 161).

وقال صاحب "العين": -بالضم-: الطّاقة، -وبالفتح-: المشقّة (¬1). (بلغَ بكَ ما أَرى) -بالفتح-. والشّكُّ من الرّاوي: هل قال: الوجع، أو الجهد؟ وفي رواية: "يبلغ" -بصيغة المضارع- (¬2). ثمّ قال -صلى اللَّه عليه وسلم- لكعب: (أتجدُ)؛ أي: هل تجد (شاة؟)، وهي الواحدةُ من الغنم، تقع على الذكر والأنثى من الضّأن والمعز (¬3)، قال كعب: (فقلتُ: لا) أجدُها، (قال). وفي لفظٍ: فقال -بفاء قبل القاف- (¬4)؛ يعني: النّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: (فصمْ ثلاثةَ أيّام) بيانٌ لقوله: {مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196]، (أو أَطْعِم ستة مساكين) -بكسر عين أطعِم-، وهو بيان لقوله تعالى: {أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة: 196] (لكل مسكين) من السّتة (نصفَ صاع) بنصب نصف. زاد مسلم: نصفَ صاع، كرّرها مرّتين (¬5). والصّاع: أربعةُ أمداد. والمدُّ: رطلٌ وثلثٌ. (وفي رواية) في "الصّحيحين": عن كعب بن عجرة -رضي اللَّه عنه-: ¬

_ (¬1) انظر: "العين" للخليل (3/ 386)، (مادة: جهد). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 288). (¬2) هي رواية الحموي والمستملي، كما ذكر القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 288). (¬3) وقد تقدم التعريف بها فيما سبق. (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) كذا نقله الشارح -رحمه اللَّه- عن القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 288). ولم أقف عليه مكررًا في "صحيح مسلم"، واللَّه أعلم.

أنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رآه ورأسُه يتهافَتُ قملًا، فقال: "أيؤذيك هوامك؟ "، قال: نعم، فأمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يحلق رأسه وهو بالحديبية. ولم يتبيّنْ لهم أنّهم يحلُّون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل اللَّه الفدية (¬1)، (فأمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يطعم فَرَقًا) -بفتح الرّاء-، والمحدّثون يسكنونها، وهو ستة عشر رطلًا، وهو ثلاثة آصُعٍ (¬2) (بين ستّة) مساكين. (أو يُهْدِيَ شاةً) -بضم أوّله منصوبًا- عطفًا على: أن يطعم، (أو يصومَ ثلاثةَ أيام). وفي هذا الحديث: أنّ السّنة مبيِّنة لمجمَلِ القرآن، لإطلاق الفدية فيه، وتقييدها بالسّنة. وتحريمُ حلقِ الرّأس على المحرم، والرّخصةُ له في [حلقه] (¬3) إذا آذاه القملُ، أو غيره من الأوجاع. واستنبط منه بعضُ المالكيّة: إيجابَ الفدية على من تعمَّدَ حلقَ رأسه بغير عذر؛ فإنّ إيجابها على المعذور من التّنبيه بالأدنى على الأعلى، لكن لا يلزمُ من ذلك التّسويةُ بين المعذور وغيره (¬4). قلت: معتمد المذهب: التخييرُ بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستّة مساكين، لكلِّ مسكينٍ مُدُّ بُرٍّ، أو نصفُ صاعِ تمرٍ أو زبيبٍ أو شعير، أو ذبحُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عندهما، وهذا لفظ البخاري. (¬2) قاله الأزهري في "تهذيب اللغة" (9/ 108)، (مادة: فرق). (¬3) في الأصل: "حلقها"، وكذا في "إرشاد الساري" (3/ 290)، والصواب ما أثبت. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 290).

شاةٍ لمن حلق ثلاثَ شعراتٍ فأكثرَ، أو قلّم ثلاثة أظفارٍ فصاعدًا، أو غطّى رأسه، أو لبس المَخِيطَ، أو تعمّد شَمَّ الطّيبِ. ولا فرقَ بين كونه حلقَ رأسه، ونحوه، لعذرٍ أو غيره -يعني: إلّا في الإثم- (¬1). وقال الشّافعي: لا يتخيَّرُ العامدُ، بل يلزمُه الدّم، كذا نقله القسطلاني عن الشّافعي (¬2). قال في "الفروع": وغيرُ المعذور مثلُه في التخيير. نقل جعفر وغيره: كلُّ ما في القرآن (أو) فهو مخيّر، ذكره الشّيخ -يعني: الموفّق- (¬3). ظاهرُ المذهب: وفاقًا لمالك والشّافعي، لأنّه تبع للمعذور، ولا يخالف أصله؛ لأنّ كلَّ كفارة خُيِّرَ فيها لعذر، خُيّر بدونه؛ كجزاء الصّيد. ولم يخيّر اللَّه بشرط العذر، بل الشّرط لجواز الحلق. وعن الإمام أحمد رواية مرجوحة: من غير عذر يتعيّن الدّم، فإن عدمه، أطعمَ، فإن تعذّر، صام، جزم به القاضي أبو يعلى وأصحابُه في كتب الخلاف؛ وفاقًا لأبي حنيفة، لأنّه دم يتعلق بمحظور يختص الإحرام كدم يجب بتركه رمي ومجاوزة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 569). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 290). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 275). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 259).

تنبيهات: الأوّل: معتمد المذهب: أنّ قدر إطعام المسكين مُدُّ بُرٍّ، أو نصفُ صاعٍ من غيره، هذا المشهور في المذهب. وفي رواية: نصفُ صاعٍ من البر؛ وفاقًا لمالك والشّافعي؛ كغير البر؛ لأنّه ليس بمنصوص عليه، فيعتبر بالتّمر والزبيب المنصوص عليهما؛ كالشّعير. وعند الحنفية: من البر نصفُ صاع، ومن غيره صاع. واختار شيخ الإسلام ابن تيميّة: يجزىء خبزٌ رِطلانِ عراقيّةٌ. وينبغي أن يكونَ بأُدمٍ، وإن مما يأكله، أفضل من برٍّ وشعير (¬1). الثّاني: استشكل قولُه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتجدُ شاة؟ "، فقلت: لا، فقال: "فصم ثلاثة أيّام"؛ لأنّ ظاهر ذلك يدلّ على التّرتيب، مع ورود الآية الشّريفة للتّخيير. والجواب عن الحديث: بأنّ التّخييرَ هو المعمولُ به، والمعولُ عليه، والسؤالُ محمول على أنّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سأل عن النُّسك، فإن وجده، أخبره بأنّه مخيّر بين الثلاث، وإن عدمه، فهو مخيّر بين الاثنين (¬2). وتقدّم أنّ مذهب أبي حنيفة: أنّه بلا عذر يتعيّن الدّم، فإن عدمه، أطعم، فإن تعذّر، صام؛ وأنّه جزم بذلك القاضي وأصحابه في كتب الخلاف من أئمة مذهبنا، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 289)، نقلًا عن "شرح مسلم" للنووي (8/ 121).

الثالث: معتمد المذهب: تعلُّقُ كونِ الفدية دمًا ثلاثُ شعرات فصاعدًا؛ وفاقًا للشافعي؛ لأنّ الثّلاث جمع، واعتبرت في مواضع، كمحل الوفاق؛ بخلاف ربع الرّأس وما يماط به الأذى. وعن الإمام أحمد: تعلّق ذلك بأربع، نقلها جماعة. اختاره الخرقي؛ لأنّ الأربع كثير. وذكر ابن أبي موسى رواية: في خمس، اختارها أبو بكر في "التّنبيه". قال في "الفروع": ولا وجهَ لها. وعند أبي حنيفة: في ربع الرّأس دمٌ، وكذا في الرّقبة كلِّها، أو الإبطِ الواحدِ، أو العانة؛ لأنّه مقصود. وقال صاحباه: إذا حلق عضوًا، لزمه دمٌ، وإن كان أقلَّ، فطعامٌ -أي: الصّدر والسّاق، وشبهه-، وإن أخذَ من شاربه، نُسب، فيجب في ربعه قيمةُ ربعِ دمٍ. وإن حلقَ موضعَ المحاجم، لزمه دمٌ عنده، وقالا: صدقةٌ. وعند مالك: فيما يماط به الأذى دمٌ. قال في "الفروع": ويتوجّه بمثله احتمال، ولم يعتبر مالكٌ العددَ، إلّا أنّه قال: إن حلق موضعَ المحاجمِ من رقبته، فعليه دمٌ؛ كمذهب أبي حنيفة. وفي مذهب أبي حنيفة: عليه فيما دون ربع الرّأس صدقةٌ (¬1). الرابع: له تقديمُ الكفّارة على الحلق؛ ككفارة اليمين قبلَ الحنث؛ (¬2) لوجود أحد سببي ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 258 - 259). (¬2) المرجع السابق، (3/ 259).

وإن كرر المحظور في الإحرام؛ بأن حلق مرارًا، ونحوه، فكفارةٌ واحدة ما لم يكفّر عن الأولى. وقال أبو حنيفة: عليه كفّارة واحدة ما دامَ في المجلس، فإن كان في مجالسَ، فكفّاراتٌ. وقال مالك: يتداخل الوطْءُ، وما عداه لا يتداخل. وجديدُ قولَي الشّافعي: لا تداخُل، وفي القديم: تتداخل. وله قوله: عليه للوطْء الثّاني شاة؛ كقول أبي حنيفة. قال في "الفروع": من كرّر محظورًا من جنسٍ؛ مثل: أن حلق، ثمّ حلقَ، أو قلّم، ثمّ قلّم، أو لبس، ثمّ لبس، ولو بمخيطٍ في رأسه، أو بدواء مطيّب فيه، أو تطيّب، ثم تطيب، أو وطىء، ثمّ وطئها، أو غيرها، ولم يكفّر عن الأوّل، فكفّارة واحدة، نصّ عليه الإمام أحمد، وعليه الأصحاب، تابعه أو فرقه. فظاهره: لو قلّم خمسةَ أظفار في خمسة أوقات، لزمه دم، وإن كفّر للأوّل، فعليه للثّاني كفّارة (¬1). فائدة: شعر الرّأس والبدن واحد في وجوب الفدية؛ لأنّه جنس واحد كسائر البدن، وكلبسه قميصًا وسراويل، وشعر البدن كالرّأس في الفدية؛ خلافًا لداود؛ لحصول التّرفُّه به، بل أولى؛ لأنّ الحاجة تدعو إليه. وفي كل شعرة إطعامُ مسكين، نصّ عليه الإمام أحمد، وهو المذهب المعتمد عند الأصحاب. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 338).

وبعضُ شعرةٍ كهي؛ لأنّه غيرُ مقدَّر بمساحة، بل كموضحة يستوي صغيرها وكبيرها. وعند الشّافعي: في نحو الشّعرة ثلاثة أقوال: أحدُها: ثلثُ دم. الثّاني: إطعامُ مسكين؛ كقولنا. الثّالث: عليه درهمٌ. قال في "الفروع": ويتوجّه تخريجُ -يعني: لنا- كقوله الأوّل؛ لأنّ ما ضُمنت به الجملةُ، ضُمِنَ بعضُه بنسبته كصيد، واللَّه أعلم (¬1). * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 260).

باب حرمة مكة

باب حرمة مكة قال ابن الجوزي: قال الزجّاج: مَكَّةُ لا ينصرف؛ لأنّها مؤنّثة، وهي معرّفة، يصلح أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بَكَّةَ؛ لأن الميم تبدَل. يقال: ضَرْبةُ لازِمٍ، ولازِبٍ، ويصلح أن يكون من قولهم: امتكَّ الفصيلُ ما في ضرع النّاقة: إذا مصَّ مصًّا شديدًا حتّى لا يُبقي فيه شيئًا، فسُميت بذلك؛ لشدّة ازدحام النّاس فيها (¬1). وقال ابن فارس: تمكَّكْتُ العَظْمَ: إذا أخرجتُ مُخَّهُ، والتَّمَكُّكُ: الاستقصاء (¬2). وفي الحديث: "لا تُمَكِّكُوا على غُرَمائِكُم" (¬3)؛ أي: لا تُلحُّوا عليهم. وفي تسميتها بهذا الاسم أربعةُ أقوال: أحدها: أنّها مثابة يؤمُّها النّاسُ من كل فَجٍّ، فكأنّها التي تجذبهم، من قول العرب: مَكَّ الفصيلُ ما في ضَرْع النّاقة. الثاني: أنها من قولهم: مككتُ الرّجلَ: إذا رددت نخوته، فكأنّها تَمُكُّ من ظَلَمَ فيها؛ أي: تهلكه، وأنشدوا: [من الرجز] ¬

_ (¬1) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 130). (¬2) انظر "مجمل اللغة" لابن فارس (3/ 816)،) (مادة: مكَّ). (¬3) كذا ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث" (3/ 122)، وتبعه ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" (4/ 349). ولم أقف عليه في كتب الحديث المشهورة، واللَّه أعلم.

يا مَكَّةُ الفَاجِرَ مُكِّي مَكَّا ... وَلا تَمُكَي مَذْحِجًا وَعَكَّا (¬1) الثالث: أنّها سُميت بذلك؛ لجهد أهلها. الرّابع: لقلة الماء فيها -يعني: بحسب ما كان-. وقد اتّفق العلماء أنّ مكّة اسمٌ لجميع البلدة. وأما بَكَّة -بالباء-، فقيل اسمٌ لبقعة الكعبة، وقيل: هو ما حول البيت، ومكةُ ما دون ذلك، وقيل: بكةُ: المسجدُ والبيتُ، ومكةُ: اسم للحرم كلّه، قاله الزهري (¬2). وقيل: بكّة هي مكّة، كما قاله الضّحاك (¬3). واشتقاق بكّة: من البَكِّ، وهو الدّفعُ، يقال: بكّ النّاسُ بعضُهم بعضًا: أي دفع، وسمّيت بذلك؛ لأنّها تبكُّ أعناقَ الجبابرة؛ أي: تَدُقُّها، فما قصدَها جبّارٌ إلّا وفضحه اللَّه، قاله ابن الزّبير (¬4). وقيل: لأنّها تضع من نخوة المتكبرين (¬5). والمراد من حرمتها: تحريمها، على ما يأتي. وذكر الحافظ -روح اللَّه روحه- في هذا الباب حديثين. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (9/ 468)، (مادة: مكك)، و"أساس البلاغة" للزمخشري (ص: 601)، و"أخبار مكة" للفاكهي (2/ 282)، و"معجم البلدان" لياقوت (5/ 182)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 491)، (مادة: مكك). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (4/ 10). (¬3) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (4/ 10). (¬4) انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (1/ 89). (¬5) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 130 - 131).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، خُوَيْلِدِ بْنِ عَمرٍو الخُزَاعيِّ العَدَوِيِّ: أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ بْنِ العَاصِ، وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ايذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، فسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وقد عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ؛ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، فلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ"، فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لك؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ! إِنَّ الحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (104)، كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، و (1735)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: لا يعضد شجر الحرم، و (4044)، كتاب: المغازي، باب: منزل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الفتح، ومسلم (1354)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، والنسائي (2876)، كتاب: الحج، باب: تحريم القتال فيه، والترمذي (809)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في حرمة مكة. =

الخَرْبَةُ -بِالخَاء المُعْجَمَةِ، وَالرَّاءِ المُهْمَلَةِ- قِيلَ: التَّهَمَةُ، وَقِيلَ: البَلِيَّةُ، وَقِيلَ: الخِيانَةُ، وَأَصْلُها فِي سَرِقَةِ الإِبِلِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَالخَارِبُ اللِّصُّ يُحِبُّ الخَارِبَا. * * * (عن أبي شُرَيْحٍ) -بضم الشين المعجمة وفتح الرّاء وبالحاء المهملة- (خُوَيْلِدِ) -بالتّصغير- (بنِ عمرِو) بنِ صخرِ بنِ عبدِ العزى، وقيل: اسم أبي شريح: عمرُو بنُ خويلد، وقيل: كعبُ بن عمرو. وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: هانىء بن عمرو. والأوّل الذي ذكره الحافظ أصحُّ وأكثر. (الخزاعيِّ) الكعبيِّ نسبةً إلى خُزاعة -بضم الخاء المعجمة وتخفيف الزاي-، وهم أولاد عمرو بن ربيعة (العدويِّ). ليس أبو شريح هذا من بني عَدِيٍّ، لا عديِّ قريشٍ، ولا عديِّ مضر، فيحتمل أن يكون حليفًا لبني عديِّ بن كعب. وقيل: في خزاعة بطنٌ يقال لهم: بنو عدي. اشتُهر أبو شريح بكنيته، وهو صحابيّ أسلمَ قبلَ الفتح، كما في "جامع الأصول" لابن الأثير (¬1). ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 470)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 473)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 127)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 23)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 967)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 198، 4/ 42)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 139)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (1/ 198، 3/ 304)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 191). (¬1) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 511 - قسم التراجم).

وقال المِزِّيُّ في "الكُنى": أسلم يوم الفتح، فهو صحابي (-رضي اللَّه عنه-). مات بالمدينة سنة ثمان وستين، وعِدادُه في أهل الحجاز. روي له: عشرون حديثًا، اتّفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديث (¬1). (أنّه)؛ أي: أبا شريح -رضي اللَّه عنه- (قال لعمرِو بن سعيدِ بنِ العاص) القرشيِّ، المعروفِ بالأشدَقِ، لأنّه صعِدَ المنبرَ، فبالغَ في شتم علي -رضي اللَّه عنه-، فأصابته لَقْوة، وكان يزيدُ بنُ معاوية ولّاه المدينة. قال الطّبري: كان قدومُه واليًا على المدينة من قبل يزيد في السّنة التي ولّي فيها يزيد الخلافة سنة ستين. وكان سعيدٌ والدُ عمرِو بنِ سعيد يومَ الفتح غلامًا، قاله ابن الأثير (¬2). ولد عام الهجرة، فيكون ابنَ ثمان سنين، فكساه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جُبَّةً. قال ابن قتيبة في "المعارف": فبها سُميت الثيابُ السعديةُ (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 295)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 224)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 398)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 110)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1688)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 160)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 524)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 400)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 204). (¬2) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 441 - قسم التراجم). (¬3) انظر: "المعارف" لابن قتيبة (ص: 296).

فالأشدق هو: عمرو بنُ سعيدِ بنِ العاص بنِ سعيدِ بنِ العاصِ بنِ أميّةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ. وكان لسعيد بن العاص بنِ أمية ابنٌ اسمه عمرُو بن سعيد قد هاجر الهجرتين إلى الحبشة في المرة الثّانية، ثمّ إلى المدينة، وقدم مع سفينة سيدنا جعفر بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- سنة خيبر. وخالدُ بنُ سعيد بنِ العاص بنِ أميّة أسلمَ قديمًا. يقال: إنّه أسلمَ بعدَ أبي بكر الصّديق، فكان خامسًا، أو رابعًا، فهو من السّابقين الأوّلين. وأسلم أخوه عمرٌو، وهاجرا معًا إلى الحبشة، وأقام بها بضعَ عشرةَ سنةً، وولد بها ابنُه سعيدٌ، وبنتهُ أمُّ خالد. وقدم على النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة خيبر، فشهد معه ما بعدها من المشاهد، وبعثه -صلى اللَّه عليه وسلم- على صدقات اليمن، فتوفي النّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو باليمن. وأمّا العاص جدُّ عمرٍو الأشدقِ، فُقتل مشركًا يَومَ بدر، والقاتلُ له عليٌّ -رضوان اللَّه عليه-. واستُشهد كُلٌّ من خالدِ بنِ سعيد، وعمرِو بنِ سعيد يومَ وقعة مَرْجِ الصُّفَّرِ بالشّام، سنة أربعَ عشرةَ في صدر خلافة عمر. وقيل: قُتل خالد يومَ أجنادين، سنةَ ثلاثَ عشرةَ في خلافة الصّدِّيق قبلَ وفاتِه بأربعٍ وعشرين ليلةً، وهو ابنُ خمسين سنة، وكذلك عمرٌو استُشهد يومَ أجنادين. وقيل: يوم مَرْج الصُّفَّرِ. وأمّا سعيدٌ والدُ عمرٍو الأشدقِ، فمات سنة تسع وخمسين.

وأمّا عمرُو بنُ سعيدٍ الأشدقُ، فقتله عبدُ الملك بن مروان. ولمّا ماتَ سعيدٌ والدُ عمرٍو، دخل عمرو على معاويةَ، فاستنطقه معاويةُ، فقال عمرو: إنّ أوّل مركبٍ صعب، وإنّ مع اليوم غدًا، فقال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال: إنّ أبي أوصاني، ولم يوص بي، فقال: فأيّ شيءٍ أوصاك؟ قال: أَلَّا يفقد منه أصحابُه غيرَ شخصه. قال البرماوي: لمّا قُتل الحسينُ بنُ عليٍّ -رضوان اللَّه عليهما-، كان عمرٌو واليًا على المدينة، فبعث إليه يزيدُ برأس الحسين، فكفنَه، ودفنه بالبقيع بجنب قبرِ أمّه -عليهما السّلام-. وكان عمرٌو هذا أحبَّ الناسِ إلى أهل الشّام، وكانوا يسمعون له، ويطيعون. فلمّا وُلي عبدُ الملك بنُ مروان الخلافة، خافه، وقد كان عمرو غالطه، وتحصّن بدمشق، ثمّ فتحها له، وبايعه بالخلافة، فلم يزل عبد الملك رصدًا له لا يأمنه حتّى بعث إليه يومًا خاليًا، فعاتبه على أشياء قد عفاها عنه، ثمّ وثب عليه فقتله، في قصّة مطوّلة. وكان عمرٌو جبّارًا شديدَ البأس، وكان يسمى: لطيمَ الشّيطان. وهو الذي خطب على منبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فرعفَ حتّى سالَ الدّم إلى أسفله، فعرف لأجل ذلك معنى حديث النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي يروى عنه: "كأنّي بجبارٍ من بني أميّة يَرْعَفُ على منبري حتّى يسيلَ الدَّمُ إلى أسفله"، أو كما قال -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في المسند (2/ 522)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (617)، وغيرهما عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- بلفظ: "ليرعفنَّ على منبري جبار من جبابرة بني أمية يسيل رعافه".

وكان قتلُ عبدِ الملك بن مروان لعمرٍو هذا: سنة اثنتين وسبعين. وملك عبد الملك بعد قتله أربعَ عشرةَ سنةً (¬1). وإنّما أَطَلْتُ هذه التّرجمة؛ لأنّي رأيتها في عدّة نسخ على خلاف الصّواب، وكان ذلك من النّساخ لعدم معرفتهم، وكثرةِ وجود الجهل بالتّاريخ وبالأنساب، واللَّه الملهم للصّواب. فقال أبو شريح لعمرو الأشدق: (وهو يبعث البعوث إلى مكّة) -جملة حالية-. والبعوث: جمعُ بَعْث، وهو الجيش، يعني: مبعوث، وهو من تسمية المفعول بالمصدر (¬2). والمراد به: الجيشُ المجهّز لقتال عبد اللَّه بن الزّبير -رضي اللَّه عنهما-؛ لأنّه لمّا امتنع من بيعة يزيد، وأقام بمكة، كتب يزيدُ إلى عمرِو بنِ سعيد أن يوجّه إلى ابن الزّبير جيشًا، فجهّز إليه جيشًا، وأَمَّر عليهم عمرَو بنَ الزّبير أخا عبدِ اللَّه، وكان معادِيًا لأخيه. فجاء مروانُ إلى عمرِو بن سعيد، فنهاه عن ذلك، فامتنع (¬3). وجاءه أبو شريح، فقال له: (ايذن لي) أصله: ائْذَنْ -بهمزتين-، فقلبت الثّانية [ياء] لسكونها وانكسار ما قبلها (أيها الأميرُ أحدّثْكَ) -بالجزم في جواب الأمر- (قولًا قام به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) جملة في موضع نصب صفة ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 388)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 236)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 35)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 249)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 33). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 42). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 304).

"قولًا" المنصوب على المفعوليّة (الغد) -بالنّصب على الظرفيّة-؛ أي: اليوم الثّاني (من يوم الفتح) بمكة. وفي رواية: "للغد" بلام الجر (¬1). (فسمعَتْه أُذناي) منه -صلى اللَّه عليه وسلم- من غير واسطة، (ووعاه قلبي)؛ أي: حفظه، ولم يضيّعه؛ إشارة إلى تحقيقه وتثبيته فيه، (وأبصرَتْه عيناي) زيادة في مبالغة التّأكيد لتحقيقه (حين تكلّم به)؛ أي: بالقول المذكور، وأشار بذلك أنّ سماعه منه لم يكن مقتصرًا على مجرّد الصوت، بل كان مع المشاهدة والتّحقيق لما قاله (¬2). (إنّه) -صلى اللَّه عليه وسلم- (حَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه) بيان لقوله: تكلّم، وهمزة "إنّه" مكسورة، (ثمّ قال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إنّ مكَّةَ حَرَّمها اللَّه)؛ أيْ حَكَم بتحريمها، وقَضَى به. وهل المراد مطلقُ التّحريم، فيتناول كلَّ محرّماتها، أو خصوصُ ما ذكره بعدُ من سفك الدّم وقطع الشّجر؟ (ولم يُحَرِّمْها النّاس) نفي لما كان تعتقده الجاهلية، وغيرُهم من أنّهم حرّموا وحلّلوا من قبل أنفسهم. ولا منافاة بين هذا وبين حديثِ جابرٍ في "صحيح مسلم": "إنّ إبراهيم حَرَّمَ مَكَّةَ، وإنّي حَرَّمْتُ المدينةَ، لا يُقْطَع عِضَاهُها، ولا يُصادُ صَيْدُها" (¬3). وما في "الصّحيحين" عن عبّاد بن تميم، عن عمّه: أنّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1735). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305). (¬3) رواه مسلم (1362)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، ودعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها بالبركة.

قال: "إنَّ إبراهيمَ حرَّمَ مَكَّةَ ودَعا لها، وإنّي حَرَّمْتُ المدينةَ كما حَرَّمَ إبراهيمُ مَكَّةَ" (¬1). وفيهما من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-: أنّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أشرفَ على المدينة، فقال: "اللهمَّ إِنّي أُحَرِّمُ ما بينَ جَبَلَيْها كما حَرَّمَ إبراهيمُ مَكَّةَ"، الحديث (¬2). وما في نحو ذلك من الأحاديث. لأنّ إضافة التّحريم إلى إبراهيم -عليه الصّلاة والسّلام- من حيثُ إنّه ضيافة، فإنّ الحاكم بالشّرائع والأحكام كلّها هو اللَّه تعالى، والأنبياء -عليهم الصّلاة والسّلام- يبلغونها. ثمّ إنّها كما تضاف إلى اللَّه تعالى من حيث إنّه الحاكمُ بها، فتُضاف إلى الرسل؛ لأنّها تُسمع منهم، وتظهر على ألسنتهم. فلعلّه لمّا ارتفعَ البيتُ المعمور إلى السّماء وقت الطّوفان، اندرسَتْ حرمتُها، وصارت شريعةً متروكةً مَنْسِيَّةً إلى أن أحياها إبراهيم -عليه الصّلاة والسّلام-، فرفعَ قواعدَ البيت، ودعا النّاسَ إلى حجّه، وحدّد الحرمَ، وبيَّنَ حرمتَه، (¬3) ثمّ بينَ التّحريم بقوله: (فلا يحلُّ لامرىءٍ يؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخر). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2022)، كتاب: البيوع، باب: بركة صاع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومدهم، ومسلم (1360)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، ودعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها بالبركة. (¬2) رواه البخاري (5109)، كتاب: الأطعمة، باب: الحيس، ومسلم (1365)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، ودعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها بالبركة. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305).

قال ابن دقيق العيد: هذا الكلام من باب خطاب التَّهييج، وإنَّ مقتضاه: أن استحلال هذا المنهي عنه لا يليقُ بمن يؤمن باللَّه واليوم الآخر، بل ينافيه، فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف، لا أنّ الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشّريعة. ولو قيل: لا يحلّ لأحدٍ مطلقًا، لم يحصل به الغرض، وخطابُ التّهييج مفهوم عند علماء البيان. ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، إلى غير ذلك (¬1). (أن يَسْفِكَ فيها) -بكسر الفاء، ويجوز ضمها-؛ أي: أن يصيب بمكة (دمًا) بالقتل. (ولا يَعْضُد) -بضم الضاد-. وفي رواية: -بكسرها-؛ أي: يقطع بالمِعْضَد، وهو آلة كالفأس (¬2). (بها)؛ أي: مكة (شجرةً). وفي رواية: "ولا يَخْضِدَ" -بالخاء المعجمة بدل العين المهملة-، وهو يرجع إلى معنى العضد؛ لأنّ الخضد -بالكسر- يستعمل في القطع (¬3). ولفظة "لا" في "ولا يعضد" زائدة لتأكيد النّفي، كما في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} الآية [الأنعام: 151]. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 27). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198). (¬3) المرجع السابق، (4/ 44).

وفي قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]. كما نبّه عليه القسطلاني (¬1)، وفيه نظر. بل الظّاهر عدمُ الزيادة، والتقدير: ولا يحل لامرىءٍ يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يعضد بها شجرة. يؤيد هذا عدمُ تنبيه الحافظ ابن حجر في كتاب "العلم" على زيادة "لا" (¬2)، واللَّه أعلم. ويؤخذ من هذا الحديث: حرمةُ قطع شجر الحرم الرَّطْب غيرِ المؤذي، مباحًا أو مملوكًا، حتّى ما يستنبت منه، وإذا حرم القطع، فالقلعُ أولى (¬3). ومعتمد مذهبنا: حرمةُ قطع شجر الحرم، حتّى ما فيه مضرّة؛ كشوكٍ وعَوْسَج وحشيشٍ، حتى شوكٌ وورقٌ؛ خلافًا للشافعي، وسواكٍ ونحوِه، ويضمنه، لا اليابس. وما زال بغير فعلِ آدميٍّ، أو انكسرَ ولم يَبِنْ، والإذخرُ والكمأةُ والفَقْعُ والثمرةُ، وما زرعه آدميٌّ من بقلةٍ، وريحانٍ وزرعٍ وشجرٍ غُرس من غير شجرِ الحرم، فيباح أخذُه، والانتفاعُ به، وبما انكسر من الأغصان، وانقلع من الشّجر بغير فعل آدمي، وكذا الورق الساقط. ويجوز رعيُ حشيشٍ، لا الاحتشاش للبهائم. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305).

وإذا قطع ما يحرم قطعه، حرم انتفاعُه وانتفاعُ غيره به (¬1). وعند الشّافعية: ما أنبتَ الآدميُّ من شجرٍ في الحرم، ولو كان الغراس من غير الحرم، ثمّ قطعه، أو قلعه، حرم عليه، وعليه الجزاء. وعندهم: ما فيه مضرّةٌ من شوكٍ وعَوْسَج لا يحرمُ قطعه (¬2). (فإن أحد تَرَخَّصَ) بوزن تَفَعَّل من الرّخصة. و"أحدٌ" مرفوع بفعل مضمر يفسّره ما بعدَه؛ أي: فإن ترخّص أحدٌ (¬3) (لقتالِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) متعلّق بترخَّصَ؛ أي: لأجلِ قتالِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ يعني: مستدلًا به، (فقولوا) له؛ أي: لذلك المترخّص؛ يعني: الذي يريد القتالَ ونحوَه، مستندًا لفعل النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إنّ اللَّه) -عزَّ وجلَّ- (أَذِنَ لرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-) خصوصية له، (ولم يأذن لكم، وإنّما أذن [لي]) اللَّه -سبحانه وتعالى- بالقتال فيها (ساعةً من نهار). ويروى: بضم همزة أُذِنَ (¬4). وفي قوله: لي، التفاتٌ؛ لأنّ نسق الكلام: وإنّما أذن له -أي: لرسوله-. والسّاعةُ: مقدارٌ من الزمان، والمراد به: يوم الفتح (¬5). وفي "مسند الإمام أحمد" من طريق عمرِو بنِ شعيب عن أبيه، عن ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 606). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 352). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 44). (¬5) المرجع السابق، (1/ 198).

جدّه: أنّ ذلك كان من طلوع الشّمس إلى العصر (¬1). قال في "الهدي" للإمام ابن القيّم؛ كغيره من أهل السِّيَر والمغازي: وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- قد حكم لخزاعةَ أن يبذلوا سيوفهم في بني بكر إلى صلاة العصر من يوم الفتح، ثمّ قال لهم: "يا معشرَ خُزاعَةَ! ارفعوا أيديَكُم عن القتلِ" (¬2). والقصّة صحيحةٌ ثابتة، وأصلُها في "الصّحيحين"، (¬3) وغيرهما، فكانت مكّةُ المشرَّفَةُ في حقِّه وحقِّ مَنْ يقطنُ بمزدلفةَ من بني خزاعة في بني بكر في تلك السّاعة بمنزلة الحِل (¬4). (وقد عادت حُرْمَتُها اليومَ)، وهو في يوم الفتح (كحرمتها بالأمسِ)؛ يعني: اليومَ الذي قبلَ يومِ الفتح؛ أي: عاد تحريمها كما كانت بالأمس قبل أن أحلّها اللَّه لنبيّه. زاد في حديث ابن عبّاس الآتي: "إلى يوم القيامة"، (¬5) (فليبلِّغِ الشّاهدُ)؛ أي: الحاضرُ في المجلس (الغائبَ) بالنّصب على المفعوليّة-، وهو على صيغة الأمر. وظاهرُ الأمر: الوجوبُ، فعلم منه أنّ التّبليغ واجبٌ. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 179). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 32)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 185). وانظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 68). (¬3) رواه البخاري (112)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، ومسلم (1355)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 305). (¬5) سيأتي تخريجه قريبًا.

والمراد هنا: تبليغُ حرمةِ مكّة، وعدمِ إباحة القتال فيها، ويشمل بعمومه تبليغَ الأحكام الشّرعية. والظاهر: أنّ لفظة "إلى" مقدّرة؛ أي: فليبلّغ الشّاهد إلى الغائب ما شرعه اللَّه على لسان نبيّه. وفيه من الفقه: أنّ العالم واجب عليه تبليغُ العلم بلسانه، أو بقلمه بالكتابة لمن لم يبلغه، وتفهيمه من لا يفهمه، وحفظُ الكتاب والسّنة من التّحريف والتّصحيف، واستنباطُ الأحكام الشّرعية لمن بلغه، وإظهارُهُ لمن لا يدركه (¬1). (فقيل لأبي شريح) المذكورِ: (ما قالَ لكَ) عمرو المذكور، وهو أنّ مكّة حرّمها اللَّه إلى آخره في الجواب؟ فقال: (قال) عمرو الأشدق: (أنا أعلمُ بذلك)؛ يعني: بحرمة مكّة وتحريمها (منك يا أبا شريح)؛ يعني: إنك والٍ صحَّ سماعُك، وعلمت محبتك، فلم تفهم المراد من الحديث (إنّ الحرمَ لا يُعيذُ) -بضم المثنّاة تحت وبالذال المعجمة-؛ أي: لا يجير (عاصيًا) يشير إلى عبد اللَّه بن الزّبير -رضي اللَّه عنهما-؛ لأنّ عمرَو بنَ سعيد الأشدق كان يعتقد أنّه عاصٍ بامتناعه عن امتثال أمرِ يزيد؛ لأنّه كان يرى وجوبَ طاعته، لكنها دعوى من عمرٍو مجردّة عن الدّليل؛ لأنَّ ابنَ الزّبير -رضي اللَّه عنه- لم يفعلْ ما يوجبُ استحلالَ دمه، وذلك أنّ ابنَ الزّبير -رضي اللَّه عنهما- امتنعَ من مبايعة يزيدَ بنِ معاوية، واعتصمَ بالحرم. وكان عمرو واليَ يزيدَ على المدينة -كما تقدّم-. والقصة مشهورة، وملخَّصُها كما في "الفتح": أَنّ معاويةَ عهدَ بالخلافة ¬

_ (¬1) انظر: "فيض القدير" للمناوي (5/ 349).

بعدَه ليزيدَ ابنِه، فبايعه النّاسُ إلا سيدَنا الحسينَ بنَ علي، وابنَ الزّبير، وعبدَ الرّحمن بنَ أبي بكر، وعبدَ اللَّه بنَ عمرَ -رضوان اللَّه عليهم-. فأمّا ابنُ أبي بكرٍ، فمات قبل موتِ معاوية. وأمّا ابنُ عمر: فبايع ليزيدَ عقبَ موتِ أبيه. وأمّا الحسينُ بنُ علي -رضوان اللَّه عليهما-، فسار إلى الكوفة؛ لاستدعائهم إيّاه ليبايعوه، فكان ذلك سبب قتله. وأمّا ابنُ الزّبير، فاعتصمَ بالحرم، وتَسَمَّى: عائذَ البيت، وغلب على أمر أهل مكّة، فكان يزيد بن معاوية يأمر أمراءه على المدينة أن يجهّزوا إليه الجيوش. فكان آخر ذلك أنّ أهل المدينة أجمعوا على خلع يزيد من الخلافة (¬1). قال عمرٌو الأشدق: (ولا) يعيِذُ الحرمُ (فارًّا) -بالفاء-؛ من الفرار؛ أي: ولا هاربًا (بدمٍ، ولا فارًا بخُرْبةٍ) -بضم الخاء المعجمة وفتحها، وسكون الرّاء وفتح الموحدة-؛ أي: بسبب خربة. ثمّ قال الحافظ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-: (الخربة بـ) بفتح (الخاء المعجمة) (و) إسكان (الرّاء المهملة) وموحدة (قيل:) هي (التُّهمة). (وقيل): هي (البليّة). (وقيل): هي (الخيانة). وفي بعض نسخ البخاري: قال أبو عبد اللَّه -يعني: نفسه-: خربة: بليّة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198). (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 651)، عقب حديث (1735).

وفي "الفتح": الخربة: السّرقة، كذا ثبت تفسيرها في رواية المستملي. قال ابن بطّال: الخُربة -بالضّم-: الفساد، و-بالفتح-: السّرقة (¬1). قال الحافظ المصنّف -رحمه اللَّه، ورضي عنه-: (وأصلها) يعني: هذه اللفظة التي هي الخربة (في سرقة الإبل، قال الشّاعر: والخاربُ اللِّصُّ يحبُّ الخاربا)، (¬2) انتهى. وفي "المطالع": قوله: ولا فارًا بخربة -بضم الخاء- ضبطه الأصيلي، وضبطه غيره -بالفتح-، وكذا قيدناه في "صحيح مسلم" بلا خلاف. وصوّب بعضُهم الفتح. وفي كتاب: الحج من "البخاري": الخربة: البليّة، ومثله في رواية الهمداني. وفي رواية المستملي: يعني: السّرقة. وفي روايته في كتاب "المغازي": البليّة. وقال الخليل: الخربةُ -بالضّم-: الفساد في الدّين (¬3)، وهو من الخارب، وهو اللصُّ المفسد في الأرض، ولا يكاد يُستعمل إلّا في سارق الإبل. وقال غيره: الخَربة -بالفتح-: السرقة، وقيل: العيب. وأمّا الخِرابة -بخاء معجمة-: فهي سرقةُ الإبل خاصة، وبالحاء ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198). (¬2) ذكره الخطابي في "غريب الحديث" (2/ 266)، والمبرد في "الكامل" (2/ 937). (¬3) انظر: "العين" للخليل (4/ 256)، (مادة: خرب).

المهملة: في كل شيء، انتهى (¬1). واللَّه تعالى الموفّق. قال في "الفتح": وقد تصرّف عمرٌو في الجواب، وأتى بكلامٍ ظاهرُه حقٌّ، لكن أراد به الباطلَ؛ فإنَّ الصَّحابيَّ أنكرَ عليه نصب الحرب على مكّة، فأجابه: بأنّها لا تمنع من إقامة القصاص، مع أنّ ابن الزّبير لم يرتكب أمرًا يجب عليه فيه شيءٌ من ذلك، انتهى (¬2). وفي رواية الإمام أحمد في آخر هذا الحديث: قال أبو شريح: فقلت لعمرٍو: قد كنتُ شاهدًا، وكنتَ غائبًا، وقد أُمرنا أن يبلِّغَ شاهدُنا غائبنا، وقد بلغتك (¬3). وهو يشعر بأنّه لم يوافقه، فيندفع قول ابن بطّال: إنّ سكوتَ أبي شريحٍ عن جواب عمرٍو دليلٌ على أنّه رجع إليه في التّفصيل المذكور، بل إنّما ترك أبو شريح مشاققته؛ لعجزه عنه؛ لما كان فيه من قوّة الشّوكة (¬4). وليس كلام عمرٍو الأشدقِ لطيمِ الشّيطان بحديثٍ يحتجُّ به. قال في "الفتح" في عمرو الأشدق: وليست له صحبة، ولا كان من التّابعين بإحسان، انتهى (¬5). أي: بل هو من سيىء التّابعين، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 231). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198 - 199). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 32). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 306). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 198).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إِنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا"، فَقَالَ العَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا الإِذْخِرَ؛ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، قَالَ: "إِلَّا الإِذْخِرَ" (¬1). القَيْنُ: الحَدَّادُ. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1284)، كتاب: الجنائز، باب: الإذخر والحشيش في القبر، و (1736)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: لا ينفر صيد الحرم، و (1984)، كتاب: البيوع، باب: ما قيل في الصواغ، و (2301)، كتاب: اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة، و (4059)، كتاب: المغازي، باب: من شهد الفتح، ومسلم (1353)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلا لمنشد على الدوام، وأبو داود (2017)، كتاب: المناسك، باب: تحريم حرم مكة، والنسائي (2874)، كتاب: الحج، باب: حرمة مكة، و (2875)، باب: تحريم القتال فيه، و (2892)، باب: النهي أن ينفر صيد الحرم، وابن ماجه (3108)، كتاب: =

(عن) أبي العبّاسِ (عبدِ اللَّه بنِ عبّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قال) ابن عبّاس: (قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-). قال الحافظ ابن حجر: كذا رواه منصورُ بنُ المعتمِر، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عبّاسٍ مرفوعًا، وخالفه الأعمش، فرواه عن مجاهد، عن النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسَلًا، أخرجه سعيدُ بنُ منصور عن أبي معاوية، عنه، وأخرجه أيضًا عن سفيان، عن داود بن سابور مرسَلًا، ومنصور: ثقة حافظٌ، فالحكمُ لوصلِه، انتهى (¬1). ولهذا جزم بوصله في "الصّحيحين"، وغيرهما. (يومَ فتحِ مكة) سنة ثمان من الهجرة، و"يومَ" -بالنّصب- ظرفٌ لقال، ومقولٌ. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: (لا هجرةَ) وافيةً من مكّةَ المشرّفةِ إلى المدينةِ المنوّرة بعدَ الفتح؛ لأنها صارت دار إسلام. زاد في كتاب: الجهاد: والهجرةُ من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة (¬2). ¬

_ = المناسك، باب: فضل مكة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 221)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 468)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 468)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 123)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 29)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 977)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 205)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 214)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 161)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 306)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 93). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 47). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 307).

قال في "الفتح": قال الخطّابي (¬1) وغيرُه: كانت الهجرةُ فرضًا في أوّل الإسلام على مَنْ أسلمَ؛ لقلّةِ المسلمين، وحاجتِهم إلى الدفاع، فلمّا فتح اللَّه مكّة، ودخل النّاسُ في دين اللَّه أفواجًا، سقط فرضُ الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد، انتهى (¬2). وكان من الحكمة أيضًا في وجوب الهجرة على مَنْ أسلمَ: أن يسلم من الأذى من أعداء الدّين، وما يلقاه من المشركين؛ فإنّهم كانوا يعذّبون المسلمين، ويؤذون المستوطنين؛ ليرجعوا عن الدّين المتين، إلى الشّرك وعبادةِ الأوثان والشّياطين. ولكن عليكم جهادٌ في سبيل اللَّه؛ لإعلاء كلمة اللَّه، وقتالِ الكفّار من عبدة الأوثان والأحجار، ونيّة صالحة في الخير تحصّلون بهما الفضائل التي في معنى الهجرة التي كانت مفروضة؛ لمفارقة الفريق الباطل، فلا يكثر سوادهم، ولا يعانون على مرادهم. قال أبو عبد اللَّه الأُبِّي: اختُلف في أصول الفقه في مثل هذا التّركيب يعني: قوله: لا هجرة بعد الفتح (ولكن جهادٌ ونيّة)، هل هو لنفي الحقيقة، أو لنفي صفةٍ من صفاتها؛ كالوجوب وغيره؟ فإن كان لنفي الوجوب، فهو يدلّ على وجوب الجهاد على الأعيان؛ لأنّ المستدرك هو المنفي، والمنفي وجوبُ الهجرة على الأعيان، فيكون المستدركُ وجوبَ الجهاد على الأعيان. وإن كان المنفي في هذا التركيب الحقيقة، فالمعنى: أنّ الهجرة بعدَ ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 235). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 38).

الفتح ليستْ بهجرة، وإنّما المطلوبُ الجهاد، والطّلب أعمُّ من كونه على الأعيان، أو على الكفاية. قال: والمذهب: أنّ الجهادَ اليومَ فرضُ كفاية، إلّا أن يعيّن الإمامُ طائفةً، فيكون عليها فرضَ عين، انتهى (¬1). وقوله: "جهاد" بالرّفع مبتدأ، خبره محذوف مقدّمًا تقديره: لكم، أو عليكم جهادٌ. وقال الطّيبي في "شرح مشكاته": قوله: "ولكن جهاد ونيّة" عطف على محل مدخول "لا". والمعنى: أنّ الهجرةَ من الأوطان، إمّا هجرة إلى المدينة للفرار من الكفّار، ونصرةِ الرّسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإمّا إلى الجهاد في سبيل اللَّه، وإمّا إلى غير ذلك من تحصيل الفضائل؛ كطلب العلم، فانقطعت الأولى، وبقيت الأخريان، فاغتنموهما، ولا تقاعدوا (¬2)، (وإذا استنفِرْتُم) -بضم التّاء وكسر الفاء-؛ أي: طُلبتم للجهاد، (فانْفِروا) -بهمزة وصل مع كسر الفاء-؛ يعني: إن دعاكم الإمام إلى الخروج إلى الغزو، فاخرجوا إليه، ومثلُ الإمام نائبُه. ونقل المروذي -يعني: عن الإمام أحمد-: يجب الجهادُ بلا إمام إذا صاحوا النفير. وسأله أبو داود: بلادٌ غلب عليها رجلٌ، فنزل البلاد يغزو بأهلها، نغزو معهم؟ قال: نعم، قلت: نشتري [من] سَبْيه، قال: دع هذه المسألة، الغزو ¬

_ (¬1) نقله القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 308)، وعنه نقل الشارح -رحمه اللَّه-. (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

ليس مثلَ شراء السبي، الغزو دفعٌ عن المسلمين، لا يترك لشيء (¬1)، ذكره في "الفروع" (¬2). وذكر أنّ مَنْ حضر بلدًا، أو هو عدو، أو استنفره من له استنفاره، تعيّن عليه، ولو لم يكن أهلًا؛ لوجوبه. وفي "البلغة": يتعيّن في موضعين: إذا التقيا، والثّاني: إذا نزلوا بلده، إلا لحاجة حفظ أهل أو مال (¬3). وقال ابن دقيق العيد: ولا شكّ بأنّه قد تتعيّن الإجابة والمبادرة إلى الجهاد في بعض الصّور. فأمّا إذا عيّن الإمامُ بعضَ النّاس لفرض الكفاية، فهل يتعيّن عليه؟ اختلفوا فيه، قالوا: ولعلّه يؤخذ من لفظ الحديث الوجوبُ في حقِّ من عيّن للجهاد، ويؤخذ غيره بالقياس، انتهى (¬4). (وقال) -صلى اللَّه عليه وسلم- في خطبةٍ (يومَ فتحِ مكّة) المشرّفة: (إنّ هذا البلدَ قد حرّمه اللَّه) -عزَّ وجلَّ-، وفي لفظٍ: "حرّم اللَّه" -بإسقاط الهاء- (¬5) (يومَ خلق السموات والأرض). فتحريمُه أمرٌ قديمٌ، وشريعةٌ سالفة مستمرة، وحكمه تعالى قديمٌ لا يتقيّد بزمان، فهو تمثيلٌ في تحريمه بأقرب متَصَوَّر لعموم البشر؛ إذ ليس كلهم يفهم معنى تحريمه في الأزل، وليس تحريمه مما أحدث النّاس. ¬

_ (¬1) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود" (ص: 316). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 180). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 30). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1284).

والخليل -عليه الصّلاة والسّلام- إنّما أظهره مبلّغًا عن اللَّه لمّا رفع البيت إلى السّماء زمنَ الطوفان. وقيل: إنّه كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السّموات والأرض: أنّ الخليل -عليه السّلام- سيحرّم مكّة بأمر اللَّه (¬1). قال ابن دقيق العيد: ظاهر هذا الحديث: أنّ إبراهيم -عليه السّلام- أظهرَ حرمتَها بعدما نُسيت، والحرمة ثابتةٌ من يوم خلق السّموات والأرض. وقيل: إنّ التّحريم في زمن إبراهيم، وحرمتُها يومَ خلق السّموات والأرض: كتابتُها في اللّوح المحفوظ أو غيره حرامًا، وأمّا الظّهور للنّاس، ففي زمن إبراهيم -عليه السّلام- (¬2). (فهو)؛ أي: البلد الحرام (حرام)، وفي لفظ: "وهو" -بواو العطف بدل الفاء- (¬3). (بحرمةِ اللَّه) تعالى؛ أي: بسبب حرمة اللَّه، ومتعلق الباء محذوف؛ أي: متلبّسًا، ونحو ذلك، وهو تأكيد للتّحريم (¬4) (إلى يوم القيامة). (و) يُعلم من هذا: (أنّه لم يحلَّ القتالُ فيه لأحدٍ قبلي) بلم الجازمة، والهاء ضمير الشّأن. وفي لفظ: وأنّه لا يحل، والأوّل أنسب؛ لقوله: "قبلي" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 308). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 30). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1737). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 308). (¬5) المرجع السابق، الموضع نفسه.

(ولم يحلَّ لي) القتالُ فيه (إلّا ساعةً من نهار)، وتقدّم أنّها من طلوع الشّمس إلى صلاة العصر، خصوصيّة له -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولمن أطلق سيفه يومئذٍ من خزاعة في بني بكر. وفيه إشعار أنّ مكّة فُتحت عَنْوَةً؛ كما في غيره من الأحاديث. وانتصر له في "الهدي" (¬1) بما لا مزيد عليه، (فهو)؛ أي: البلد (حرامٌ بحرمة اللَّه) تعالى (إلى يوم القيامة)، أي: بتحريمه. والفاء في "فهو" جزاءُ لشرط محذوف، تقديره: إذا كان اللَّه كتب في اللّوح المحفوظ تحريمَهُ، ثمّ أمر خليلهُ بتبليغه أو إنهائه، فأنا أيضًا أبلّغ ذلك وأنهيه إليكم، وأقول: فهو حرام بحرمة اللَّه (¬2). (لا يُعْضَدُ)؛ أي: يُقطع (شَوْكُه)؛ أي: ولا شجره بطريق الأولى، فدلّ بمنطوقه على امتناع قطع الشّوك كغيره، وهو مذهب الجمهور؛ خلافًا للشّافعي. قال ابن دقيق العيد: قوله: "لا يُعْضدُ شوكُه" دليلٌ على أنّ قطع الشوك يمتنع كغيره، وذهب إليه بعضُ مصنّفي الشّافعية، والحديثُ معه، وإباحة غيره من حيث إنّ الشّوك مؤذ، انتهى (¬3). قلت: لا احتياج إلى القياس مع وجود النّص صريحًا، واللَّه أعلم. (ولا يُنفَّرُ صيدُه)، فإن نفّرهُ، عصى، سواء تَلِفَ، أم لا (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 430). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 308 - 309). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 30). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 309).

وفيه دليلٌ على طريق فحوى الخطاب: أنّ قتلَه محرّم، فإنّه إذا حُرِّم تنفيرُه بأن يزعَج من مكانه، فقتلُه أولى (¬1). (ولا تلتقط لقَطته) -بفتح القاف من الرّواية-، وهو الذي يقوله المحدّثون (¬2). قال القرطبي: وهو غلط عند أهل اللّسان؛ لأنّه -بالسكون-: ما يُلْتَقَط، -وبالفتح-: الأخذ (¬3). وفي "القاموس": واللَّقَط -محركة-، وكحُزْمَة، وهُمَزَة، وثُمَامة: ما التُقِط (¬4). وقال النّووي: اللغةُ المشهورة فتحُها (¬5). وفي "المطلع": اللقطة: اسمٌ لما يُلتقط، وفيها أربعُ لغات نقلَها شيخُنا أبو عبد اللَّه بنُ مالك، فقال: [من الرجز] لُقَاطَةٌ وَلُقْطَةٌ ولُقَطَهْ ... ولَقَطٌ مَا لَاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ فالثلاثُ الأُول: بضم اللام، والرّابع: بفتح اللّام والقاف (¬6). وروي عن الخليل: اللُّقَطة -بضم اللّام وفتح القاف-: الكثيرُ الالتقاط، و-بسكون القاف-: ما يُلتقط (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 31). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 306). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 471). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 886)، (مادة: لقط). (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 127). (¬6) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 282). (¬7) انظر: "العين" للخليل (5/ 100)، (مادة: لقط).

قال أبو منصور: وهو قياس اللغة؛ لأنّ فُعَلَة -بفتح العين- أكثرُ ما جاء فاعل، و-بسكونها- مفعول؛ كضُحَكَة: لكثير الضّحك، وضُحْكَة: لمن ضُحك منه، انتهى (¬1). أي: لا يجوز أن تلتقط لقطة الحرم (إلّا من عرّفها) التّعريف الشّرعي، فإن التقطها وعرفها التّعريفَ الشّرعيَّ، ملكها كسائر اللقط، وهذا معتمدُ مذهبنا؛ كالحنفيّة والمالكيّة، فلا خصوصيّة للقطة الحرم. وقال الشّافعيّة: لا يملكها، وعليه أن يعرّفها أبدًا، فلا تُلتقط لقطة الحرم إلّا لمجرد التّعريف، مستدلّين بهذا الحديث (¬2). قالوا: لأنّ الكلام ورد موردَ الفضائل المختصّة بها؛ كتحريم صيدها، وقطع شجرها. وإذا سوّينا بينَ لقطةِ الحرم ولقطةِ غيره من البلاد، بقي ذكرُ اللقطة في هذا الحديث خاليًا عن الفائدة، وهذا رواية عن إمامنا الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيميّة، وجماعة من متأخري علمائنا (¬3). (ولا يُخْتَلى خَلاها)؛ أي: ولا يُقطع الرّطبُ بَآلة، والخلا -بفتح الخاء المعجمة، والقصر-: الحشيشُ إذا كان رطبًا، واختلاؤه: قطُعُه (¬4). قال الزمخشري في "الفائق" وحقُّ خَلاها أن يكتب بالياء، وتثنيته خليان، انتهى (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 264). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 31). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 430). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 75). (¬5) انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (1/ 391).

أي: لأنّه من خليت -بالياء-، أما النبات اليابس، فيسمى حشيشًا (¬1). لكن حكى البطليوسي عن أبي حاتم: أنّه سأل أبا عبيدةَ عن الحشيش، فقال: يكون في الرّطب واليابس، وحكاه الأزهري أيضًا (¬2)، ويقوّيه: أنّ في بعض طرق حديث أبي هريرة في هذا الباب: "ولا يُحْتَشُّ حَشيشُها" (¬3). وقد سأل الفضلُ بنُ زياد الإمامَ أحمد عن معنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ولا يُخْتَلَى خَلاها"، فقال: لا يحتش من حشيش الحرم، ولا يعضد شجره (¬4). قال في "الفروع": يحرم قلعُ شجرِ الحرم إجماعًا، ونباته، حتّى الشّوك والورق، خلافًا للشّافعي، إلّا اليابس؛ لأنّه كميتٍ. ولا بأس بالانتفاع بما زال بغير فعل، نصّ عليه. قال الإمام الموفّق: لا نعلم فيه خلافًا؛ لأنّ الخبر في القطع (¬5). ويجوز رعيُ حشيش الحرم، لا الاحتشاشُ، على معتمد المذهب؛ وفاقًا للشّافعي، وأبي يوسف؛ لأنّ الهدايا كانت تدخل الحرم، فتكثر فيه، فلم يُنقل سدُّ أفواهها. وللحاجة إليه كالإذخر. وقيل: لا يجوز رعيُ حشيشه؛ وفاقًا لأبي حنيفةَ، ومالك؛ لأنّ ما حرم ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 309). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (3/ 394)، (مادة: حشش). (¬3) كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 48)، ولم أقف عليه من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 353). (¬5) انظر: "الكافي" لابن قدامة (1/ 426).

إتلافهُ بنفسهِ، حرم أن يرسل إليه ما يتلفُه؛ كالصّيد (¬1). (فقال العبّاس) بنُ عبدِ المطلب -رضي اللَّه عنه- لما قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما قال: (يا رسول اللَّه! إلّا الِإذْخِرَ) -بالنّصب-، (¬2) ويجوز -الرّفع- على البدليّة، وهو -بالهمزة المكسورة والذّال السّاكنة والخاء المكسورة المعجمتين-: نبت معروف طيّب الرائحة، الواحدة: إِذْخِرَةٌ (¬3) قال القسطلاني في "شرح البخاري": وهو حَلْفاءُ مكةَ؛ (¬4) (فإنّه)؛ أي: الإذخر (لِقَيْنِهم) -بفتح القاف وسكون التحتيّة وياء فنون-: حَدَّادِهم، أو القين: كلُّ صاحب صناعة يعالجها بنفسه (¬5)، ومعناه: يحتاج إليه القَيْنُ في وقد النّار، (و) لـ (بيوتهم) في سقوفها، يُجعل فوقَ الخشب، أو للوقود؛ كالحلفاء (¬6). وفي رواية من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: فقال رجل من قريش: إلّا الإذخرَ؛ فإنّا نجعله في بيوتنا وقبورنا (¬7). ولفظ ابن عبد المطّلب: إلّا الإذخرَ يا رسولَ اللَّه، فإنّه لابدَّ منه للقَيْنِ والبيوت، فسكتَ، ثمّ قال، (¬8) وفي هذه الرّواية: (فقال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إلّا الإذخرَ) ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 351، 353). (¬2) وهو المختار، كما قاله ابن مالك. انظر: "شواهد التوضيح والتصحيح" (ص: 94). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (2/ 164). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 306). (¬5) قاله الطبري، كما في "تهذيب الآثار" (1/ 47). (¬6) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 309). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (112)، ومسلم برقم (1355). (¬8) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4059).

استثناءُ بعضٍ من كُلٍّ لدخول الإذخر في عموم ما يُخْتَلى. استدل بهذا الحديث: على جواز اجتهاد النّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو تفويض الحكم إليه. ويجوز أن يكون قولُه ذلك بوحيٍ بواسطة جبريل -عليه السّلام- نزل بذلك في طرفة عين (¬1). واعتقادُ أنَّ نزول جبريلَ يحتاج إلى أمدٍ متَّسع وَهْمٌ وزَلَلٌ، أو أَنَّ اللَّه نفثَ في رُوعه، وبه يندفع ما قاله المهلَّب: إنّ ما ذُكر في الحديث من تحريمه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنّه لو كان من تحريم اللَّه، ما استُبيح منه إذخر ولا غيرُه. ولا ريبَ أنّ كلَّ تحريم وتحليل فإلى اللَّه تعالى حقيقةً، والنّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا ينطِقُ عن الهوى، فلا فرقَ بينَ إضافة التّحريم إلى اللَّه، وإضافتهِ إلى رسوله؛ لأنّه المبلِّغ عنه. فالتّحريمُ إلى اللَّه حتمًا، وإلى الرّسول بلاغًا (¬2). قال الحافظ المصنّف -رحمه اللَّه تعالى-: (القينُ: الحدَّاد)، وجمعه: قِيان، وقُيون (¬3). وفي "النّهاية": القين: الحداد، والصّائِغُ، (¬4) وتقدم. تنبيهات: الأوّل: من خصائص الحرم المكّي: أَلَّا يحارَب أهلُه، ولا يُسفكَ في مكّةَ وحرمِها دمٌ. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 31). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 306 - 307). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1582)، (مادة: قين). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 135).

قال القفّال من الشّافعية في "شرح التّلخيص" في ذكر الخصائص: لا يجوز القتال بمكّة، حتّى قالوا: لو تحصّن جماعة من الكفّار فيها، لم يجزْ لنا قتالُهم فيها (¬1). وحكى الماوردي أيضًا: أنّ من خصائص الحرم: أَلَّا يُحارَبُ أهلُه إن بغوا على أهل العدل (¬2). قال علماؤنا -رحمهم اللَّه تعالى-: من قَتَلَ، أو قطعَ طرفًا، أو أتى حَدًّا خارج مكّة، ثمّ لجأ إليه، أو لجأ إليه حربيٌّ، أو مرتدّ، لم يُستوفَ منه فيه (¬3). قال في "الفروع": من فعل ذلك خارجَ الحرم، ثمّ لجأ إليه، أو لجأَ إليه حربيٌّ، أو مرتدٌّ، لم يجز أخذُه به فيه؛ كحيوان صائل مأكول، ذكره الشّيخ -يعني: الموفّق- (¬4) لكن لا يُبايَع ولا يُشارى، ولا يُطعم ولا يُسقى، ولا يؤاكَل ولا يُشارَب، ولا يجالَسُ ولا يؤوَى، ويُهْجَرُ، فلا يكلِّمه أحد حتّى يخرج، لكن يقال له: اتَّقِ اللَّه، واخرجْ إلى الحلّ ليستَوْفَى منك الحقُّ الذي قِبَلَك، فإذا خرج، أُقيم عليه الحدُّ (¬5). وفي "الهدي" للإمام ابن القيّم: أن الطّائفة الممتنعة بالحرم من مبايعة الإمام، لا تُقاتلَ، لاسيّما إن كان لها تأويلٌ؛ كما امتنع أهلُ مكّةَ من بيعة ¬

_ (¬1) نقله النووي في "شرح مسلم" (9/ 125)، وغلطه في ذلك. (¬2) انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص: 260)، وفيه: فلو بغى أهله على أهل العدل، فإن أمكن ردهم عن البغي بغير قتال، لم يجز قتالهم، وإن لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال، فقال جمهور الفقهاء: يقاتلون. . . إلخ. (¬3) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 88). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 69). (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 91).

يزيدَ، وبايعوا ابنَ الزُّبير، فلم يكن قتالُهم ونصبُ المنجنيق عليهم، وإحلالُ حرم اللَّه جائزًا بالنّص والإجماع، وإنّما خالف في ذلك عمرُو بنُ سعيد بنِ العاص -يعني: الأشدق وشيعته-، وعارض نصَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برأيه وهواه، فقال: إنّ الحرمَ لا يُعيذُ عاصيًا. قال: والخبرُ صريحٌ في أنّ الدّم الحلالَ في غيرها، حرامٌ فيها، عدا تلكَ السّاعةَ، انتهى (¬1). وفي "الأحكام السّلطانيّة" -يعني: للقاضي أبي يعلى-: تُقاتَلُ البغاةُ إذا لم يندفعْ بغيُهم إلّا به؛ لأنّه من حقوق اللَّه، وحفظُها في حَرَمِه أولى من إضاعتها. وذكره الماوردي من الشّافعيّة عن جمهور الفقهاء، (¬2) ونصّ عليه الشّافعي، وحمل الخبرَ على ما يعم إتلافُه؛ كالمنجنيق، إذا أمكن إصلاحٌ بدون ذلك (¬3). قال في "الفروع": فيقال: وغيرُ مكّة كذلك. واحتجّ في "الخلاف"، "وعيون المسائل"، وغيرهما: على أنّه لا يجوز دخولُ مكّةَ لحاجة لا تتكرر إلا بإحرام، للخبر: "وإنّما أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهار". قالوا: فلمّا اتّفق الجميع على جواز القتال فيها متى عرض مثلُ تلك الحال، علمنا أنّ التّخصيص وقعَ لدخولها بغير إحرام، كذا قالوا. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 443، 446). (¬2) انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص: 260). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 125).

قال في "الفروع": ولمّا كان هذا ضعيفًا، فإن الأكثر حكمًا واستنباطًا لم يعرّجوا عليه، وذُكر منهم أبو بكر ابن العربي في "العارضة"، وقال: لو تغلّب فيها كفّار أو بُغاةٌ، وجبَ قتالُهم فيها بالإجماع (¬1). وقال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيميّة-: إن تعدَّى أهلُ مكّة أو غيرُهم على الرَّكْب، دفع الرَّكْب كما يدفع الصّائل، وللإنسان أن يدفع مع الرّكب، بل يجب إن احتيج إليه (¬2). قال ابن الجوزي في "مثير العزم السّاكن": قال اللَّه -عزَّ وجلَّ-: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]. لفظُ هذه الآية لفظُ الخبر، ومعناها الأمرُ. والتّقدير: من دخله، فَأَمِّنوه، وهو لفظ عام فيمن جَنَى قبل دخوله، أو بعدَ دخوله؛ إلّا أنّ الإجماع انعقد على أنّ من جنى فيه، لا يؤمَّنُ؛ لأنه هتكَ حرمةَ الحرم، وردَّ الأمانَ، فبقي حكمُ الآية فيمن جنى خارجًا منه، ثمّ لجأ إليه. قال: وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال الإمام أحمد في رواية المَرُّوذي: إذا قَتل، أو قَطع يدًا، أو أتى حدًّا في غير الحرم، ثمّ دخله، لم يُقَم عليه الحدُّ، ولم يُقتصَّ منه، ولكن لا يُبايع، ولا يُشارى، ولا يؤاكَل حتّى يخرج. وقال في رواية حنبل: إذا قتل، ثمّ لجأ إلى الحرم، لم يُقتل، وإن كانت ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 25). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 70).

الجنايةُ فيما دون النّفس، (¬1) فإنّه يُقام عليه الحدّ، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك، والشّافعيّ: يُقام عليه الحدُّ في النَّفْس وفيما دون النَّفْس؛ فالحرمُ عندهما كغيره، فيقام فيه الحدُّ، ويستوفى فيه القصاصُ، سواءً كانت الجناية في الحرم، أو في الحلّ، ثمّ لجأ إلى الحرم؛ لأنّ العاصي هتكَ حرمةَ نفسِه، فأبطلَ ما جعل اللَّه له من الأمن (¬2). قال ابن الجوزي: وفي الآية دليلٌ على صحّة مذهبنا (¬3). قلت: والأحاديث صحيحةٌ صريحةٌ بالتّفرقة بين الحرم وغيره -كما ترى-. قال ابن الجوزيّ: وقد ألهم اللَّه -عزَّ وجلَّ- الحيوانَ البهيمَ تعظيمَ الحرم؛ فإنَّ الظَّبي يجتمع مع الكلب في الحرم، فإذا خرجا منه، تنافرا، وإنّ الطيرَ لا يعلو على البيت، إلّا أن يستشفي مريضها به، انتهى (¬4). الثّاني: الحرمُ: ما أحاطَ بمكّة المشرّفةِ، وأطاف بها من جوانبها، جعل اللَّه له حكمَها في الحرمة؛ تشريفًا لها. وسُمِّي حَرَمًا؛ لتحريم اللَّه تعالى [فيه] كثيرًا ممّا ليس بمحرّمٍ في غيره من المواضع. وحَدُّه من طريق المدينة عندَ التّنعيم على ثلاثة أميال من مكّة. قال ابن الجوزي: حدودُ الحَرَمِ من طريق المدينةِ دونَ التّنعيم عندَ بيوتِ غفار على ثلاثة أميال. ¬

_ (¬1) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 75). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 308). (¬3) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 75). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

وفي القسطلاني: وقيل: أربعة. ومن طريق اليمن: طرفُ أَضَاة لِبْن -بفتح الهمزة والضاد المعجمة-، ولِبْن -بكسر اللام وسكون الموحّدة-: على سبعة أميال من مكّة. وقيل: ستَّة، وقدَّمه القسطلاني. ومن طريق الجعرانة: على تِسْعة أميال -بتقديم المثنّاة الفوقيّة على السّين-، في شِعْبٍ يُنسب إلى عبدِ اللَّه بنِ خالدِ بنِ أسيد. ومن طريق الطّائف إلى عرفات، من بطن نَمِرَةَ: سبعة أميال، عند طرف عرفة. وقال الأزرقي: على أحدَ عشرَ ميلًا (¬1). وقيل: ثمانيةُ أميال. والأصحُّ: الأوّل. ومن طريق جدّة: عشرةُ أميال عند منقطع الأعشاش. ومن طريق العراق: على سبعة أميال على ثنية رجل، وهو جبل بالمنقطع. ونظمَ بعضُهم ذلك، فقال: [من الطويل] ولِلْحَرَمِ التَّحْدِيدُ مِنْ أَرْضِ طَيْبَةٍ ... ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ إِذَا رُمْتَ إِتْقَانَهْ وَسَبْعَةُ أَمْيَالٍ عِرَاقٌ وَطَائِفٌ ... وَجَدَّةُ عَشْر ثُمَّ تِسْعٌ جِعِرَّانَهْ وزاد أبو الفضل البربري هنا بيتين، فقال: [من الطويل] وَمِنْ يَمَنٍ سَبْعٌ بِتَقْدِيمِ سِينِهَا ... فَسَلْ رَبَّكَ الْوَهَّابَ يَرْزُقْكَ غُفْرَانَهْ ¬

_ (¬1) انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (1/ 130).

وَقَالُوا: وَفي حَدٍّ لطائِفِ أَرْبَعٌ ... وَلَمْ يَرْضَ جُمْهُورٌ لِذَا القَوْلِ رُجْحَانَهْ وقال ابن سراقة في كتاب "الأعداد" (¬1): والحرمُ في الأرض موضعٌ واحد، وهو مَكَّةُ وما حولها. ومساحةُ ذلك: ستّةَ عشرَ ميلًا في مثلِها، وذلك بريد واحد، وثلثٌ في بريدٍ واحد، وثلث على التّرتيب. والسّبب في بُعْد بعضِ الحدود وقربِ بعضها؛ ما قيل: إنّ اللَّه تعالى لمّا أهبطَ على آدم بيتًا من ياقوتة، أضاءَ له ما بينَ المشرق والمغرب، فنفرت الجنّ والشّياطين ليقربوا منها، فاستعاذ منهم باللَّه، وخافَ على نفسِه منهم، فبعث اللَّه تعالى ملائكةً، فحفّوا بمكّة، فوقفوا مكان الحرم. قال القسطلاني في "شرح البخاري": وذكر بعضُ أهل الكشف والمشاهَدات: أنّهم يشاهدون تلك الأنوارَ واصلةً إلى حدود الحرم، فحدودُ الحرم موضعُ وقوف الملائكة، انتهى (¬2). قال ابن الجوزي في "مثير العزم السَّاكن": إن قيل: ما الحكمةُ في أنّ بعضَ حدود الحرم يقرب من مكّة، وبعضَها يبعد، ولو لم تُجعل على قانونٍ واحد؟. فعنه: أربعة أجوبة: * أحدُها: ما رواه سعيدُ بنُ جبير عن ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما-، قال: لمّا هبطَ آدمُ، خَرَّ ساجدًا يعتذرُ، فأرسل اللَّه تعالى إليه جبريلَ بعد ¬

_ (¬1) كتاب: "الأعداد والحساب" لمحمد بن محمد الأنصاري أبي بكر الشاطبي المالكي الأندلسي، المعروف بابن سراقة، توفي سنة (662 هـ) بمصر. انظر: "هدية العارفين" للبغدادي (2/ 12). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 150 - 151).

أربعين سنة، فقال: ارفعْ رأسَكَ، فقد قبلتُ توبتَك، فقال: يا رب! إنّما أتَلَهَّفُ على ما فاتني من الطَّواف بعرشِكَ مع ملائكتِكَ، فأوحى اللَّه تعالى إليه: أنّي سأُنزلُ إليك بيتًا أجعلُه قبلةً، فأهبطَ إليه البيتَ، وكان ياقوتةً حمراءَ تلتهب التهابًا، وله بابان: شرقيٌّ وغربيٌّ، وقد نُظِمتْ حيطانُه بكواكبَ بِيضٍ من ياقوتِ الجنّة، فلمّا استقرَّ البيتُ في الأرض، أضاء نورُه ما بينَ المشرق والمغرب، فنفرت لذلك الجنُّ والشّياطين، وفزعوا، فارتَقَوا في الجو ينظرون من أين ذلك النّورُ، فلمّا رأوه من مكّة، أقبلوا يريدون الاقترابَ إليه، فأرسل اللَّه تعالى ملائكةً، فقاموا حولَ الحرم في مكان الأعلام اليوم، فمنعَتْهم، فمن ثمّ ابتدىء اسم الحرم. * الثّاني: ما رواه وهبُ بنُ منبه: أنّ آدم -عليه السّلام- لمّا نزلَ إلى الأرض، اشتدَّ بكاؤه، فوضع اللَّه تعالى له خيمةً بمكّةَ موضعَ الكعبة قبل الكعبة، فكانت الخيمة ياقوتةً حمراءَ من الجنّة، وفيها ثلاثُ قناديل فيها نورٌ يلتهب من الجنّة، فكان ضوء نوره ينتهي إلى مواضع الحرم، وحرسَ اللَّه تعالى تلك الخيمةَ بملائكة، فكانوا يقفون على مواضع أنصاب الحرم يحرسونه، ويذودون عنه سكانَ الأرض من الجنِّ، فلمّا قبضَ اللَّه تعالى آدمَ، رفعها إليه. * والثّالث: أنّ إبراهيمَ الخليلَ -عليه السلام- لما بنى البيتَ، قال لإسماعيل: أبغني حجرًا أجعلُه للنّاس آيةً، فذهب إسماعيلُ ورجعَ ولم يأتِه بشيء، ووجدَ الرُّكْنَ عندَهُ، فقال: من أين لك هذا؟ قال: جاء به مَنْ لم يَكِلْني إلى حَجَرِك، جاء به جبريلُ، فوضعه إبراهيمُ في موضعه هذا، فأنار شرقًا وغربًا، ويمينًا وشمالًا، فحرّم اللَّه الحرم حيث انتهى نورُ الرُّكن وإشراقُه من كُلِّ جانب.

* الرّابع: أنّ آدمَ -عليه السّلام- لمّا أُهبط إلى الأرض، خاف على نفسه من الشّياطين، فاستعاذ باللَّه تعالى، فأرسل اللَّه تعالى ملائكةً حَفُّوا بمكّةَ من كُلِّ جانب، ووقفوا حَوالَيْها، فحرّم اللَّه تعالى الحرمَ من حيثُ كانتِ الملائكة وقفت. قال عبدُ اللَّه بنُ عمر [و]-رضي اللَّه عنهما-: الحرمُ حرامٌ إلى السّماء السّابعة (¬1). الثّالث: تحريمُ صيدِ المدينة، نقلَه الجماعةُ، وشجرِها وحشيشِها؛ خلافًا لأبي حنيفة، لما صحّ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في البخاري، ومسلم، وغيرِهما: أنّه حَرَّمَ ما بَيْنَ لابَتَيْها (¬2). وحَدُّ حَرَمِها: ما بينَ ثورٍ إلى عَيْرٍ، (¬3) وقدرُه بريدٌ في بريدٍ نصًّا (¬4). وثورٌ وعَيْرٌ: جبلان بالمدينة، فثور: جبلٌ صغيرٌ إلى الحُمرة بتدوير، خلفَ أُحد من جهة الشّمال. وعَيْرٌ: مشهور بها (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الفاكهي في "أخبار مكة" (2/ 276 - 277). وانظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 74). (¬2) رواه البخاري (3187)، كتاب: الأنبياء، باب: قول اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، ومسلم (1365)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬3) رواه البخاري (6374)، كتاب: الفرائض، باب: إثم من تبرأ من مواليه، ومسلم (1370)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، من حديث علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-. (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 358، 362). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 83)، و"الإقناع" للحجاوي (1/ 611).

فلو صاد من صيدها، وذبح، صَحَّتْ ذبيحتُه، ويجوز أخذُ ما تدعو الحاجة إليه من شجرها ومن حشيشها للعلف. ومن أدخلَ إليها صيدًا، فله إمساكُه وذبحُه، ولا جزاءَ في صيدها وحشيشِها، ونحوه، (¬1) واللَّه سبحانه الموفّق. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 609).

باب ما يجوز قتله من الحيوان وهو محرم

باب ما يجوز قتله من الحيوان وهو محرم وذكر فيه حديثًا واحدًا، وهو ما ذكره: عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ" (¬1) وَلِمُسْلِمٍ: "تُقْتَلُ خَمْسٌ فَوَاسِقُ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1732)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: ما يقتل المحرم من الدواب، واللفظ له، و (3136)، كتاب: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، ومسلم (1198/ 68 - 71)، كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، والنسائي (2829)، كتاب: الحج، باب: قتل الحية، و (2888)، باب: قتل الفأرة في الحرم، و (2891)، باب: قتل الغراب في الحرم، والترمذي (837)، كتاب: الحج، باب: ما يقتل المحرم من الدواب. (¬2) رواه مسلم (1198/ 67)، كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، بلفظ: "خمس فواسق يقتلن"، والنسائي (2881)، كتاب: الحج، باب: ما يقتل في الحرم من الدواب، و (2882)، باب: قتل الحية في الحرم، و (2887)، باب: قتل العقرب، و (2890)، باب: قتل الحدأة في الحرم، وابن ماجه (3087)، كتاب: المناسك، باب: ما يقتل المحرم. =

(عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصّدِّيقةِ (-رضي اللَّه عنها)، وعن أبيها-: (أنّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: خمسٌ من الدَّوَابِّ). قال ابن دقيق العيد: المشهورُ في الرّواية: خمسٌ -بالتّنوين- (¬1) "فواسِقُ". قال: ويجوز: "خمسُ فواسقَ" -بالإضافة من غير تنوين- (¬2). قلت: عنى حديثَ: "خمسُ فواسقَ"، وهو بهذا اللفظ في "الصّحيحين" حديث ابن عمر (¬3)، وعائشة (¬4)، وحفصةَ (¬5) -رضي اللَّه عنهم-. ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 184)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 150)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 62)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 204)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 284)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 113)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 32)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 982)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 206)، و"طرح التثريب" للعراقي (5/ 55)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 36)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 182)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 302)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 194)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 95). (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 32). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) رواه البخاري (1730)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: ما يقتل المحرم من الدواب، ومسلم (1199)، كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، بلفظ: "خمس من الدواب". (¬4) كما تقدم تخريجه قريبًا. (¬5) رواه البخاري (1731)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: ما يقتل المحرم من الدواب، ومسلم (1200)، كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، بلفظ: "خمس من الدواب".

وأمّا الرّواية الأولى التي ذكرها المصنّف -رحمه اللَّه-، فليس لفظُها مما يحتمل ما ذكره ابن دقيق العيد كما لا يخفى، واللَّه أعلم. والدّوابُّ: جمع دابَّة، وأصلُها: دابِبَة، فأُدغمت إحدى الباءين في الأخرى، وهو اسم لكلّ حيوانٍ، لأنّه يدبُّ على وجه الأرض، والهاء: للمبالغة، ثمّ نقله العرفُ العامُّ إلى ذاتِ القوائم الأربع؛ من الخيلِ والبغالِ والحمير، ويسمَّى هذا: منقولًا عرفيًا (¬1). (كلُّهن فاسقٌ يُقْتَلْنَ) -بضم أوّله وفتح ثالثه وسكون رابعه، من غير هاء-. وفي لفظٍ: "يقتلهن" (¬2)؛ أي: المرءُ (في الحرم) المكي. وقوله: "فاسق"، قال القسطلاني: صفة لكل مذكَّر، و"يقتلن": فيه ضميرٌ راجع إلى معنى كُلّ، وهو جمع، وهو تأكيد "خمس"، قاله في "التنقيح" (¬3). قال: وتعقّبه في "المصابيح": بأنّ الصّوابَ أن يقال: خمسٌ مبتدأ، وسوّغ الابتداءُ به مع كونه نكرةً وصفُه، و"من الدّواب" في محل رفع على أنّه صفة لخمس. وقولُه: "كلهنّ فاسق" جملة اسمية في محل رفع أيضًا على أنّه صفة أُخرى لخمس. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 301)، نقلًا عن "عمدة القاري" للعيني (10/ 178). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 302). (¬3) انظر: "التنقيح" للزركشي (2/ 294).

وقوله: "يقتلن" جملة فعليّة في محل رفع على أنها خبر المبتدأ الذي هو خمس. وأمّا جعلُ "كلُّهنَّ" تأكيدًا لخمس، فمما يأباه البصريون، وجعلُ "فاسقٌ" صفة لـ"كلُّ" خطأٌ ظاهر. والضمير في "يقتلن" عائد على "خمس"، لا على "كل"؛ إذ هو خبرُه، ولو جُعل خبرَ "كل"، امتنع الإتيان بضمير الجمع؛ لأنّه لا يعود عليها الضّمير من خبرها إلّا مفردًا مذكّرًا على لفظها، على ما صرّح به ابن هشام في "المغني"، (¬1) انتهى. وعبر بقوله: "فاسق" بالإفراد. وفي مسلم كما يأتي "فواسق" بالجمع، وذلك أنّ "كلّ" اسمٌ موضوع لاستغراق أفراد المنكَّر؛ نحو: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35]. والمعرف المجموع؛ نحو: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} [مريم: 95]. وأجزاء المفرد المعرف؛ نحو: كُلُّ زيدٍ حسنٌ، فإذا قلت: أكلتُ كلَّ رغيفٍ لزيدٍ، كانت لعموم الأفراد، فإن أضفتَ الرّغيفَ لزيد، كانت لعموم أجزاء فرد (¬2). وسمّى المذكورات في هذا الحديث فواسقَ؛ لخروجها من حكمِ غيرها بالإيذاء والإفساد وعدم الانتفاع (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 263). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 302). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 37).

وأصلُ الفسقِ في كلام العرب: الخروجُ، وسمّي الرّجلُ الفاسقُ فاسقًا؛ لخروجه عن أمر اللَّه تعالى (¬1). قال في "حياة الحيوان": أصلُ الفسق: الخروجُ عن الاستقامة، والجَوْرُ، وبه سمّي العاصي فاسقًا. وإنّما سمّيت هذه الحيوانات فواسقَ على الاستعارة؛ لخبثهنّ. وقيل: لخروجهنّ عن الحرمة في الحلّ والحرم؛ أي: لا حرمةَ لهنَّ بحالٍ. وقيل: إنّ الفأرة إنّما سمّيت فُوَيْسِقةَ؛ لأنّها عمدَتْ إلى حبال سفينةِ نوح -عليه السّلام-، فقطعتها (¬2). وروى الطحاوي في "أحكام القرآن" بإسناده عن يزيد بن أبي نعيم: أنّه سأل أبا سعيدٍ الخدريَّ -رضي اللَّه عنه-: لمَ سُميت الفأرةُ الفُوَيْسقة؟ قال: استيقظَ النّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذاتَ ليلة، وقد أخذتْ فأرة فتيلةً لتحرقَ على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- البيتَ، فقام إليها، وقتلَها، وأحلّ قتلها للحلالِ والمحرمِ (¬3). (الغرابُ): -بضم الغين المعجمة وفتح الرّاء فألف فموحدّة-، سمّي بذلك؛ لسواده، ومنه قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27]، وهما لفظتان بمعنى واحد. وفي حديمث رشد [ين] بن سعد: أنّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنّ اللَّه يُبغض الشّيخَ الغِرْبيبَ". ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 302). (¬2) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 653). (¬3) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 166 - 167)، وابن عبد البر في "التمهيد" (12/ 175).

فسّره رشد [ين]: بالذي يَخْضِبُ بالسّواد (¬1). وفي "النّهاية": أراد: الذي لا يشيب. وقيل: الذي يسوّد شعرَه، انتهى (¬2). وجمعه: غِربانٌ، وأَغْرِبَةٌ، وغَرابِيبُ، وغُرْبٌ (¬3). وقد جمعها ابنُ مالك في قوله: [من البسيط] بالغُرُبِ اجمع غِرْبانًا [ثم] أَغْرِبَةً ... وَأَغْرُب وَغَرَابِيبٌ وَغِرْبَانُ (¬4) ومن فسقِ الغرابِ وخروجِه عن حدّ الاستقامة، وأذاه: أنه ينقر ظهر البعير، وينزع عينه، ويختلس. وزاد في رواية سعيد بن المسيّب عن عائشة: "الأبقع" (¬5)، وهو الذي في ظهره وبطنه بياضٌ (¬6). وقيل: إنّه سمّي غرابًا؛ لأنّه نأَى واغتربَ لمّا فقدَه نوح -عليه السّلام- ليستخبرَ أمرَ الطُّوفان (¬7). ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 156)، والديلمي في "مسند الفردوس" (560)، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 352). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 153)، (مادة: غرب). (¬4) انظر: "العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 984)، وفي الأصل: "و" بدل "ثم"، والصواب ما أثبت. (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1198/ 67). (¬6) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 158)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 114). (¬7) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 302).

والعربُ تتشاءم به، ولذلك اشتقوا من اسمه: الغُرْبَة، والاغترابَ، والغريب (¬1). وغُراب البَيْنِ: [هو] الأبقع. قال الجوهري: هو الذي فيه سوادٌ وبياض (¬2). وقال صاحب "المجالسة": سمّي غرابَ البين؛ لأنّه بانَ عن نوح -عليه السلام- لمّا وجهه لينظر الماءَ، فذهبَ ولم يرجعْ، فلذلك العربُ تشاءموا به (¬3). وذكر ابنُ قتيبة: أنّه سمّي فاسقًا -فيما أرى-؛ لتخلُّفه حينَ أرسلَه نوحٌ -عليه السّلام- ليأتيَهُ بخبر الأرض، فترك أمرَه، ووقع على جيفةٍ (¬4). تنبيه: المراد بالغراب في الحديث: الغرابُ الأبقعُ الفاسقُ الحرامُ الأكل، وأمّا غُرابُ الزَّرْعِ، فأكلُه حلال؛ كالزّاغ، فلا يحلُّ قتلُهما في الحرم، ولا للمحرم (¬5). وفي "سنن ابن ماجه"، والبيهقى من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: "الغُرابُ فاسق" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الحيوان" للجاحظ (3/ 437). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (5/ 2084)، (مادة: بين). (¬3) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 626). (¬4) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 326 - 327). وانظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 626). (¬5) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 631). (¬6) رواه ابن ماجه (3249)، كتاب: الصيد، باب: الغراب، والبيهقي في "السنن =

وفي "سنن ابن ماجه" أيضًا: قيل لابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: أيؤكلُ الغراب؟ قال: ومن يقول بعدَ قولِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنّه فاسق؟ (¬1) (والحِدَأَةُ): -بكسر الحاء وفتح الدّال المهملتين-. وفي القسطلاني: أنّ في فرع اليونينية -بسكون الدّال-، انتهى (¬2). وفي "المطالع": الحِدأة لا يُقال إلا بكسر الحاء. وقد جاء: الحِداءُ، وهو جمعُ حِدَأَة، أو مُذَكَّرُها. وجاء: الحُدَيَّا؛ على وزن الثُّرَيَّا، والحُمَيَّا (¬3). قال في "حياة الحيوان": هي أخسُّ الطَّير، وكنيتهُ: أبو الخطّاف، وأبو الطيّب، وجمعها: حَدَأٌ -بفتح الحاء-، [و] حِدْآن. قال الجوهري: مثلُ عِنَبَة وعِنَب (¬4). قال الخطّابي: أرادَ بفسق الحدأة: تحريمَ أكلها (¬5)، انتهى (¬6). أو لأنّها تؤذي النّاس بخَطْف طعامهم، ففي كتاب "المجالسة" للدّينوري عن عثمان بن عفّان -رضي اللَّه عنه-، قال: كان سعدُ بنُ أبي وقّاص -رضي اللَّه عنه- بين يديه لحمٌ، فجاءت حِدَأة فأخذته، فدعا ¬

_ = الكبرى" (9/ 316)، وكذا الإمام أحمد في "المسند" (6/ 209). (¬1) رواه ابن ماجه (3248)، كتاب: الصيد، باب: الغراب. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 303). (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 184). (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 43)، (مادة: حدأ)، ووقع عنده: "مثل: قصبة وقصب". (¬5) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/ 603). (¬6) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 266).

عليها سعد، فاعترض عظمٌ في حلقِها، فوقعت ميتةً (¬1). (والعقربُ): واحدُ العقارب، وهي مؤنّث، والأنثى عقربةٌ، وعقرباءُ -ممدودةٌ غير مصروفةٍ-، ولها ثمانيةُ أرجُل، وعيناها في ظهرِها. ومن عجائب أمرِها أنّها لا تضربُ الميتَ ولا النّائم حتّى يتحركَ شيءٌ من بدنِه، فعندَ ذلك تضربه، تلدغ، وتؤلم إيلامًا شديدًا، وربَّما لسعت الأفعى فتموت. ومنه قول الشّاعر: [من الطويل] تَمُوتُ الأَفَاعِي مِنْ سُمُومِ العَقَارِبِ وتأوي إلى الخنافس، وتسالمها، ومن شأنها أنّها إذا لدغت الإنسانَ، فَرَّتْ فرارَ مسيءٍ يخشى العقابَ. وفي ابن ماجه عن عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: لدغت النّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عقرب وهو في الصّلاة، فلمّا فرغَ، قالَ: "لعنَ اللَّهُ العقربَ، ما تَدَعُ مُصَلِّيًا ولا غَيْرَهُ، اقْتُلُوها في الحِلِّ والحَرَمِ" (¬2). والعقاربُ القاتلة تكون في موضعين؛ بشهرزور، وبعسكر مكرم، تلسع فتقتل، وربّما تناثر لحمُ من لَسَعَتْه، أو بعضُ لحمه، واسترخى، حتّى إنّه لا يدنو منه أحدٌ إلّا وهو يمسك أنفه مخافةَ إعدائه. ومن عجيب أمرها: أنّها مع صغرها تقتلُ الفيلَ والبعيرَ بلسعتها. وبنَصيبين عقاربُ قتّالةٌ، يقال: إنّ أصلَها من شَهْرَزور، وإنّ بعضَ ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (20/ 350). (¬2) رواه ابن ماجه (1246)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة.

الملوك حاصرَ نصيبينَ، فأتى بالعقاربِ من شهرزور، وجعلها في كيزانِ المنجنيق. وذكر الجاحظ: أنّه كان في دار نصرِ بنِ حجّاجٍ السّلميِّ عقاربُ إذا لسعَتْ قتلتْ، فدبَّ ضيف لهم على بعضِ أهل الدّار، فضرب العقربُ في مذاكيره، فقال نصر يعرّض به: [من المتقارب] وَدَارٍ إِذَا نَامَ سُكَّانُهَا ... أَقَامَ الْحَدُودَ بِهَا الْعَقْرَبُ إِذَا غَفَلَ النَّاسُ عَنْ ذَنْبِهِمْ ... فَإِنَّ عَقَارِبَهَا تَضْرِبُ قال: فدخل إلى الدّار، فقال: هذه عقاربُ تُسقى من أسودَ سالخ، ونظر إلى موضع في الدّار، فقال: احفروا، فوجدوا أسودين ذكرًا وأنثى (¬1). (والفَأرةُ) -بهمزة ساكنة-، والمراد: فأرةُ البيت، وهي الفُوَيْسِقة. وكنية الفأرة: أُمُّ خرابٍ؛ لأنّه ليس في الحيوان أفسدُ من الفأر، ما يُبقي على خطيرٍ ولا جليلٍ إلّا أهلكه وأتلَفَه. ولا يخفى ما بينَ الهرّ والفأر من العداوة، وسببُ ذلك: ما رواه ابنُ أبي حاتم عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن أبيه: أنّ النّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: لمّا حملَ نوح في السّفينةِ مِنْ كُلٍّ زوجينِ اثنينِ، قالَ أصحابُه: كيفَ نطمئنُّ أو تطمئنُّ المواشي، ومعنا: الأسدُ، فسلَّطَ اللَّه عليه الحُمَّى، فكانَتْ أَوَّلَ حُمَّى نزلَتْ في الأرض، فهو لا يزالُ محمومًا، ثمّ تَشَكَّوا الفأرةَ، فقالوا: الفويسقة تفسدُ علينا طعامَنا ومتاعَنا، فأوحى اللَّهُ إلى الأسدِ، فعطسَ، فخرجتِ الهرَّةُ ¬

_ (¬1) انظر: "الحيوان" للجاحظ (4/ 217 - 218). وانظر فيما ذكره الشارح -رحمه اللَّه- عن العقرب: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 584) وما بعدها.

منه، فتخبّأتِ الفأرةُ منها (¬1). وهذا حديثٌ مرسلٌ. وفي "سنن أبي داود": وعن ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما-، قال: جاءت فأرة، فأخذَتْ تجرُّ الفَتيلة، فجاءت بها، فألقَتْها بينَ يَدَيْ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الخُمْرَةِ التي كانَ قاعِدًا عليها، فأحرقَتْ منها قدرَ موضِع درهمٍ (¬2). الخمرةُ: السّجادةُ الّتي يسجد عليها المصَلِّي، سمّيت بذلك؛ لأنّها تُخَمَّر الوجهَ؛ أي: تغطّيه. ورواه الحاكم عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: جاءت فأرةٌ، فأخذت تجرُّ الفتيلةَ، فذهبت الجاريةُ تزجُرُها، فقال النّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعيها"، فجاءت بها، فألقتها بين يدي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الخُمْرَة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقَتْ منها موضعَ درهم، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا نِمْتُمْ، فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ؛ فإنَّ الشّيطانَ يدلُّ مثلَ هذهِ على هذا، فتحْرِقُكم"، ثمّ قال: صحيحُ الإسناد (¬3). وفي "صحيح مسلم"، وغيره: أنّ النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بإطفاء النّار عند النّوم (¬4). وعلّل ذلك أَنَّ الفويسقة تُضرم على أهل البيتِ بيتَهم (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (6/ 2031). (¬2) رواه أبو داود (5247)، كتاب: الأدب، باب: في إطفاء النار بالليل. (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" (7766). (¬4) رواه مسلم (2012)، كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء، وإيكاء السقاء، وإغلاق الأبواب، وذكر اسم اللَّه عليها، وإطفاء السراج والنار عند النوم، عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. (¬5) انظر ما نقله الشارح -رحمه اللَّه- هنا: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 653).

(والكلبُ العَقُور): الجارحُ المعروفُ. وفي "النّهاية": المرادُ به كلُّ سَبُعٍ يَعْقِر؛ [أي]: (¬1) يجرح ويقتل ويفترس؛ كالأسد والنمر والذئب، سمّاها كلبًا؛ لاشتراكها في السَّبُعيّة. والعقورُ من أبنية المبالغة (¬2). وقال السرقسطي في "غريبه": الكلبُ العقور يقال لكل عاقر، حتّى اللصّ المقاتل، كذا قال (¬3). قال علماؤنا: يحرمُ اقتناءُ الكلبِ الأسودِ البهيم، وهو ما لا لونَ فيه غيرُ السّواد، ولا يخرجه عن كونه بهيمًا بياض ما بين عينيه، جزم به في "المغني" (¬4)، واختاره المجد (¬5). وفي "الغاية" (¬6): يخرجُه ذلك عن كونه أسودَ بهيمًا؛ خلافًا "للإقناع" (¬7)، انتهى. وذكر جماعةٌ الأمرَ بقتله، فدلَّ على وجوبه، ذكره الشّيخ الموفّق. وذكر الأكثر: إباحةَ قتله. قال في "الفروع": ويؤخذ من كلام أبي الخطّاب وغيره: أنّ العقورَ مثلُ الأسود البهيم، إلّا في قطع الصّلاة. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أو"، والصواب ما أثبت. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 275). (¬3) نقله العيني في "عمدة القاري" (10/ 181 - 182)، وعنه نقله القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 303)، وعنه نقل الشارح -رحمه اللَّه-. (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 173). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 293). (¬6) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي الحنبلي (6/ 349). (¬7) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 330).

قال: وهو مُتَّجه، وأولى؛ لقتلِه في الحرم. قال سيدنا الشّيخُ عبدُ القادر في "الغُنية": يحرم تركُه، قولًا واحدًا، ويجب قتلُه؛ ليدفع شرّه عن النّاس. ودعوى نسخ القتل مطلقًا إلّا المؤذي؛ كقول الشّافعيّة، دعوى بلا برهان. ويقابله قتلُ الكَلِب، كما قال مالك، انتهى (¬1). مراد سيدنا الشّيخ عبد القادر -روّح اللَّه روحه-: أنّ النّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرَ بقتل الكلاب، كما في "صحيح مسلم" من حديث عبد اللَّه بن مغفل -رضي اللَّه عنه-، ثمّ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بالهم وبال الكلب؟ "، ثمّ رخّص في كلبِ الصّيد، وكلبِ الغنم (¬2)، فحمل الشّافعيّةُ الأمر بقتِلها على الكَلْب الكَلِب، والكلبِ العقور، وما عدا ما لا ضررَ فيه من الكلاب لا يجوز قتله، وقالوا: الأمر بقتل الكلاب منسوخٌ (¬3). واقتصر الرّافعيُّ على الكراهة، وتبعه في "الروضة"، وزاد: أنّها كراهة تنزيه (¬4). قال الدّميري: لكن قال الشّافعي في "الأم" في باب: الخلاف في ثمن الكلب: واقتلِ الكلابَ التي لا نفعَ فيها حيثُ وجدتَها (¬5) وهذا هو الرّاجح ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 293). (¬2) رواه مسلم (280)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب. (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (7/ 285). (¬4) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 147). (¬5) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (3/ 12).

في "المهمّات"، فلا يجوز اقتناءُ الكلب الذي لا منفعَة فيه، وذلك لما في اقتنائها من مفاسد التّرويع والعقر للمار (¬1). وفي "القسطلاني": اختلف كلامُ النّووي، فقال في البيع من "شرح المهذّب": لا خلاف بين أصحابنا في أنّه محترم لا يجوز قتلُه، وقال في التيّمم والغصب: إنَّه غير محترم، وقال في الحج: يكره قتله كراهيةَ تنزيه (¬2)، وتقدّم كلام الرّافعي، و"الرّوضة". وعند الإمام مالك: يجوز قتلُ كل كلب حتَّى كلب صيد. (و) في رواية (لمسلم) في "صحيحه": (تُقتل) -بضم التّاء المثنّاة فوق وسكون القاف، مبنيًا للمجهول- (خمسٌ فواسقُ)؛ أي: يقتلهن الحلال والمحرم (في الحِلِّ والحَرَمِ). المشهور في الرّواية: تنوينُ "خمس"، ويجوز بالإضافة من غير تنوين. وبينَ التّنوين والإضافة في هذا فرقٌ دقيق في المعنى، كما قال ابن دقيق العيد، وذلك أنّ الإضافة تقتضي الحكمَ على خمسٍ من الفواسق بالقتل، وربما أشعرَ التّخصيصُ بخلاف الحكم في غيرها بطريق المفهوم. وأمّا مع التّنوين، فإنّه يقتضي وصفَ الخمس بالفسق من جهة المعنى، وقد يُشعر بأنّ الحكم المرتَّبَ على ذلك، وهو القتلُ، معلَّلٌ بما جُعل وصفًا، وهو الفسق، فيقتضي ذلك التّعميمَ لكلّ فاسقٍ من الدّوابِّ، وهو ضدُّ ما اقتضاه الأوّلُ من المفهوم، وهو التّخصيص (¬3)، وهذا مقتضى كلام علمائنا. ¬

_ (¬1) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 770). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 303). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 32 - 33).

قال في "الفروع": يُستحبُّ قتلُ كل مؤذٍ من حيوان وطير، جزم به في "المستوعب"، وغيره، وهو مراد من أباحه. نقل حنبل؛ يعني: عن الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: يقتل المحرِمُ الكلبَ العقورَ، والذئبَ، والسّبعَ، وكلَّ ما عداه من السّباع. ونقل أبو الحارث: يقتل السّبع، عدا عليه، أو لم يَعْدُ؛ وفاقًا لمالك، والشّافعي. وقال الإمام أبو حنيفة: يقتل ما في الخبر، والذئب، وإلا، فعليه الجزاء. وعن أبي حنيفة: العقورُ وغيرُ العقور، والمستأنس والمستوحش منهما سواءٌ؛ لأنّ المعتبر في ذلك الجنس، وكذا الفأرة الأهلية والوحشيّة سواءٌ. قال أصحابه: ولا شيء في بَعوضٍ وبراغيثَ وقُرادٍ؛ لأنّها ليست بصيدٍ، ولا متولّدَةٍ من البدن، ومؤذيةٌ بطبعها، وكذا النَّمل المؤذي، وإلّا لم يحلّ قتله، لكن لا جزاء؛ للعلة الأولى. ولنا: أنّ اللَّه علّق تحريم صيد البّر بالإحرام، وأراد به المصيد؛ لقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} [المائدة: 95]، وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]، ولأنه أضاف الصّيد إلى البّر، وليس المحرّم صيدًا حقيقةً؛ (¬1) ولهذا قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الضَّبُعُ صَيْدٌ، وفيه كَبْشٌ مُسِنٌّ" رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وذكره ابن السّكن في "صحاحه" من حديث جابر (¬2). وعن عبد الرّحمن بنِ أبي عمَّارٍ، قال: سألت جابرَ بنَ عبد اللَّه ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 323). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (1663).

-رضي اللَّه عنهما- عن الضَّبع: أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قلت: أتؤكل؟ قال: نعم، قلت: أقاله رسول اللَّه؟ قال: نعم. أخرجه الترمذي وغيره، وقال: حسنٌ صحيح (¬1)، وقال: سألت البخاري عنه، فقال: إنّه حديث صحيح. وفي النسائي، وابن ماجه من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: "خمسٌ يقتلهنّ المحرُم"، فذكر فيهنّ الحيةَ (¬2). وللدارقطني: "يقتل المحرمُ الذئبَ" (¬3). وفي "مسلم" عن إحدى نسوة النّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنّه كان يأمر بقتل الكلب العقور، وفيه: والحيّة (¬4). ولمسلم من حديث ابن مسعود: أن النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرَ بقتل حَيَّةٍ بمنًى (¬5). قلت: وهو أيضًا في "البخاري"، ولفظه: عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-، قال: بينما نحن مع النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في غارٍ بمنًى، إذ نزل عليه: {وَالْمُرْسَلَاتِ}، وإنّه ليتلوها، وإنّي لأتلقّاها من فيه، وإنّ فاه لرطب بها، إذ وثبتْ علينا حيّة، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقتلوها"، فابتدرناها، فذهبت، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَما وُقِيتمُ شَرَّها" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الترمذىِ (1791)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في أكل الضبع. (¬2) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (2829)، وابن ماجه برقم (3087)، واللفظ للنسائي، ولفظ ابن ماجه: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم. .". (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 232)، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬4) رواه مسلم (1200/ 74)، كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬5) رواه مسلم (2235)، كتاب: السلام، باب: قتل الحيات وغيرها. (¬6) رواه البخاري (1723)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: ما يقتل المحرم من الدواب.

قال أبو عبد اللَّه البخاري: إنّما أردنا بهذا أنّ منًى من الحرم، وأنّهم لم يروا بقتل الحيّة بأسًا (¬1). قال في "الفروع" بعد ذكر الخمس الفواسق: فنصّ من كل جنس على أدناه تنبيهًا، والتّنبيهُ مقدَّم على المفهوم إن كان؛ فإنّ اختلاف الألفاظ يدلّ على عدم القصد، والمخالف لا يقول بالمفهوم، والأسدُ كلبٌ كما في دعائه -صلى اللَّه عليه وسلم- على عُتبةَ بنِ أبي لهب، (¬2) ولأنّ ما لا يُضْمَنُ بقيمته ولا مثلِه، لا يضمن بشيء؛ كالحشرات؛ فإنّ عندهم لا يجاوز بقيمته شاة؛ لأنه محاربٌ مؤذ، قلنا: فلهذا لا جزاء فيه. وعند زفر: تجبُ قيمتُه بالغةً ما بلغتْ، وهو أقيسُ على أصلهم (¬3). والحاصل: أنّ المعتمدَ عدمُ اختصاص المذكورات بإباحة القتل في الحرم والإحرام، بل كل مؤذٍ فحكمه كذلك، والعددُ لا مفهوم له عند الأكثر. والتّنبيهُ بما ذكر يدلّ على جواز قتل البازي، والصقر، والشاهين، والعقاب، والفهد، والباشق، والذّباب، والبقّ، والبعوض، والبرغوث والنَّسر. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 41). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (3984)، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن أبيه قال: كان ابن أبي لهب يسب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم سلط عليه كلبك"، فخرج في قافلة يريد الشام، فنزل منزلًا فقال: إني أخاف دعوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، قالوا له: كلا، فحطوا متاعهم حوله، وقعدوا يحرسونه، فجاء الأسد فانتزعه فذهب به. قال الحاكم: صحيح الإسناد. وحسنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 39). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 324).

فقد نقل أبو داود عن الإمام أحمد: يَقتل كلَّ ما يؤذيه، انتهى (¬1). ويقتلُ الوَزَغَ؛ لما في "الصّحيحين"، والنّسائي، وابن ماجه، عن أم شريك: أنّها استأمرتِ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في قتل الوَزَغِ، فأمرها بذلك (¬2). وفي "الصحيحين" أيضًا: أنّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أمرَ بقتل الوزغِ، وسمّاه فويسقًا، وكان ينفخ النّار على إبراهيم. وكذلك رواه الإمام أحمد في "مسنده" (¬3). وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة: أن النّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً في أَوَّلِ ضَرْبَةٍ، فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً، ومَنْ قتلَهُا في الثانيةِ، فلهُ كَذا وكَذا حَسَنَةً، لدُونِ الأَوَّلِى، [وإن قتلها في الضربة الثالثة، فله كذا وكذا حسنة، لدون الثانية] " (¬4). وفيه أيضًا: "من قتلَها في الضَّربةِ الأولى، فله مِئَةُ حسنةٍ، ومَنْ قتلَهُا في ¬

_ (¬1) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود" (ص: 176). وانظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 324 - 325). (¬2) رواه البخاري (3180)، كتاب: الأنبياء، باب: قول اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، ومسلم (2237)، كتاب: السلام، باب: استحباب قتل الوزغ، والنسائي (2885)، كتاب: الحج، باب: قتل الوزغ، وابن ماجه (3228)، كتاب: الصيد، باب: قتل الوزغ. (¬3) رواه مسلم (2238)، كتاب: السلام، باب: استحباب قتل الوزغ، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 176)، من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- بلفظ: "أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتل الوزغ، وسماه فويسقًا". أما قوله: "وكان ينفخ النار على إبراهيم" فهو من حديث أم شريك السالف ذكره. ولم يروه البخاري من حديث سعد -رضي اللَّه عنه-، وإنما رواه من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- (3130) وفيه: وزعم سعد بن أبي وقاص أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بقتله. (¬4) رواه مسلم (2240/ 146)، كتاب: السلام، باب: استحباب قتل الوزغ.

الضَّربةِ الثانيةِ، فلهُ دونَ ذلكَ، وفي الثالثةِ دونَ ذلكَ" (¬1). وفي الطبراني عن ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما-: أنّ النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "اقْتُلُوا الوَزَغ وَلَوْ في جَوْفِ الكَعْبَةِ" (¬2). وفي "مسند الإمام أحمد"، "وسنن ابن ماجه": عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: أنّه كان في بيتها رمحٌ موضوع، فقيل لها: ما تصنعين بهذا؟ فقالت: نقتلُ به الوزغَ؛ فإنَّ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبرنا أنّ إبراهيم -عليه السلام- لمّا أُلقي في النّار، لم يكن في الأرض دابّةٌ إلّا أطفأتْ عنه النارَ، غير الوزغِ؛ فإنّها كانت تنفخُ عليه، فأمر -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتلها (¬3). والوزغ -بالتحريك- معروفة، وهي وسام أبرص جنس، فسام أبرص [هو] كبارُه (¬4). واتّفق العلماء على أنّ الوزغ من الحشرات المؤذية. وقال ابن دقيق العيد: من عَلَّلَ بالأذى يقول: إنّما خُصَّتْ هذه الأشياءُ بالذّكر؛ ليتنبّه بها على ما في معناها، وأنواعُ الأذى مختلفةٌ فيها، فيكونُ ذكرُ كلِّ نوعٍ منها منبهًا على جواز قتل ما فيه ذلك النّوع، فنبّه بالحية والعقرب على ما يُشاركهما في الأذى باللسع؛ كالبرغوث مثلًا. ونبّه بالفأرة على ما أذاه بالنّقب والقرض؛ كابن عِرْس. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2240/ 147)، كتاب: السلام، باب: استحباب قتل الوزغ. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11495)، وفي "المعجم الأوسط" (6301). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 83)، وابن ماجه (3231)، كتاب: الصيد، باب: قتل الوزغ. (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 236).

ونبّه بالغراب والحِدأَة على ما أذاه بالاختطاف؛ كالصقر والبازي. ونبّه بالكلب العقور على كل عادٍ بالعقر والافتراس بطبعه؛ كالأسد والفهد والنّمر (¬1). والحاصل: أنّه لا تأثيرَ لحرمٍ ولا إحرامٍ في تحريم حيوان إنسيٍّ؛ كبهيمة الأنعام، ولا في محرّم الأكل غيرِ المتولّد بين مأكولٍ وغيره، فإنّه يفدى، وإن حرم أكله، تغليبًا لجانب الحظر. فيستحب قتلُ الفواسقِ، وقتلُ كلِّ ما كان طبعُه الأذى، وإن لم يوجد منه أذًى. نعم، يحرم على محرِم لا على حلال، ولو في الحرمِ قتلُ قملٍ وصِئْبانه (¬2) من رأسه وبدنه، ولو بزئبق ونحوه، وكذا رميه، ولا جزاء فيه، واللَّه تعالى الموفق (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 34). (¬2) الصئبان: واحدها صُؤَابة، وهي بيضة القمل والبرغوث. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 133). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 582 - 583).

باب دخول مكة المشرفة

باب دخول مكة المشرفة وغيرِه من دخول البيت، والصّلاةِ فيه، واستلامِ الحجرِ الأسود، وتقبيلهِ، وطوافِ القدوم، والرَّمَلِ فيه، وغيرِ ذلك مما ننبّه عليه -إن شاء اللَّه تعالى-. وذكر الحافظ -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الباب ثمانية أحاديث: * * *

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دخَلَ مَكَّةَ عَامَ الفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ، جَاءَ رَجُل فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبةِ، فقَالَ: "اقتُلُوهُ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1749)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: دخول الحرم ومكة بغير إحرام، و (2879)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل الأسير وقتل الصبر، و (4035)، كتاب: المغازي، باب: أين ركز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح؟ و (5471)، كتاب: اللباس، باب: المغفر، ومسلم (1357)، كتاب: الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام، وأبو داود (2685)، كتاب: الجهاد، باب: قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، والنسائي (2867 - 2868)، كتاب: الحج، باب: دخول مكة بغير إحرام، والترمذي (1639)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في المغفر، وابن ماجه (2805)، كتاب: الجهاد، باب: السلاح. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 288)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 403)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 477)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 131)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 37)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 990)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 208)، و"طرح التثريب" للعراقي (5/ 129)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 60)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 205)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 316)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 54)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 27).

(عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالكٍ) الأنصاريِّ ثمّ النجَّارِيِّ (-رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل مكّة) المشرّفة (عامَ الفتح) في الثامنةِ من الهجرة، (وعلى رأسهِ) -صلى اللَّه عليه وسلم- (المِغْفَر) -بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء-: زَرَدٌ يُنسج من الدروع على قَدْرِ الرّأس، أو رفرف البيضة، أو ما غطى الرّأسَ من السّلاح؛ كالبَيْضة (¬1). ولا تَعارُضَ بينه وبين رواية مسلم من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-: أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل مكة يومَ الفتحِ وعليه عِمامةٌ سوداءُ. وكذا الإمام أحمد، والأربعة؛ (¬2) لاحتمال كونِ المغفرِ فوقَ العِمامة السّوداء وقايةً لرأسه المكرّم من صدأ الحديد، أو هي فوق المغفر (¬3). وفي حديث عمرِو بنِ حُريث -رضي اللَّه عنه-، قال: كأنّي أنظرُ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم فتح مكة وعليه عِمامةٌ سوداءُ خَرْقانِيَّةٌ، قد أرخى طرفيها بينَ كتفيه، رواه مسلم (¬4). والعمامة الخَرْقانية -بفتح الخاء المعجمة وضمّها وسكون الرّاء وبالقاف وكسر النّون وتشديد التحتيّة-. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 60)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 316). (¬2) رواه مسلم (1358)، كتاب: الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 363)، وأبو داود (4076)، كتاب: اللباس، باب: في العمائم، والنسائي (2869)، كتاب: الحج، باب: دخول مكة بغير إحرام، والترمذي (1735)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في العمامة السوداء، وابن ماجه (2822)، كتاب: الجهاد، باب: لبس العمائم في الحرب. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 316). (¬4) رواه مسلم (1359)، كتاب: الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام، دون قوله: "خرقانية".

قال في "النّهاية": كأنّه لواها، ثم كوّرها كأهل الرّساتيق، ورويت -بالحاء المهملة-، انتهى (¬1). وفي "القاموس": عِمامةٌ حَرَقانِيَّة -بالحاء المهملة محرّكة-: على لونِ ما أحرقته النّار (¬2). وفي حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: دخل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مكةَ وعليه عمامةٌ سوداءُ، ورايتُه سوداءُ، ولواؤهُ أسودُ، حتّى وقف بذي طُوى، وتوسَّطَ الناس، وإنّ عُثنونَه ليمسُّ واسطةَ رحلهِ، أو يقرب منها؛ تواضعًا للَّه -عزَّ وجلَّ- حين رأى ما رأى من فتح اللَّه تعالى، وكثرة المسلمين، ثمّ قال: "اللهم إنَّ العيشَ عَيْشُ الآخِرَة". قال: وجعلت الخيل تجمع بذي طوى في كل وجه، ثمّ ثابَتْ وسكنت حين توسّطهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ذكره أهلُ السِّيَرِ. العُثْنون -بضم العين المهملة والنّون بينهما ثاء مثلثة ساكنة-: اللِّحية، وواسطةُ الرَّحْل: مقدّمته. وقوله: ثابَتْ -بثاء مثلثة فألف فموحّدة ففوقيّة-؛ أي: رجعت. وأراد أنس -رضي اللَّه عنه- بذكر المِغْفَر: كونَهُ دخلَ متأهِّبًا للحرب. وأراد جابر -رضي اللَّه عنه- بذكر العِمامة: كونَه غيرَ محرِم، أو كان -صلى اللَّه عليه وسلم- أوّل دخوله على رأسه المغفر، ثمّ أزاله، ولبس العِمامةَ بعد ذلك، فحكى كلٌّ منهما ما رآه. وسترُ الرّأس يدلُّ على أنّه دخلَ غيرَ محرِم، وقد صرَّحَ بذلك جابر، فلا التفات لمن زعم خلافَ ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 27). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1128)، (مادة: حرق). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 62).

واستشكل بعضُ الشّافعية ذلك على أصِلهم من كونِ مكّةَ فُتحت صُلْحًا. وعند جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثّلاثة: أنّها فتحت عَنْوَةً. قال الإمام المحقّق ابن القيّم في "الهدي": ولا يعرف في كون مكّة فُتحت عنوةً خلاف، إلّا عن الإمام الشافعي، وعن الإمام أحمد -رضي اللَّه عنهما- في أحد قوليه. وإن كان معتمد مذهب الإمام أحمد: أنّها فُتحت عنوةً. قال: وسياق القصّة أوضح شاهد -لمن تأمّله- لقول الجمهور. واستدلّ ابن القيّم لذلك بأدلة قطعية، وأطنبَ في الاحتجاج لذلك (¬1). وحاصله: الاعتمادُ على أنّها فُتحت عنوة. (فلما نزعَهُ)، أي نزع رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المغفرَ عن رأسه، (جاء) -صلى اللَّه عليه وسلم- (رجلٌ) هو: أبو برزة، واسمه: نضلة بن عُبيد الأسلميُّ، كما جزم به الفاكهاني في "شرح العمدة"، والكرماني في "شرح البخاري". قال البرماوي: وكذا ذكره ابنُ طاهر، (¬2) وغيره (¬3). (فقال): يا رسول اللَّه! (ابنُ خَطَل). وفي لفظ: إنَّ ابنَ خَطَل، وهو -بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة، بعدها لام-، كان اسمُه عبدَ العُزَّى، ورجَّحه النّووي في "تهذيبه" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 429). (¬2) انظر: "إيضاح الإشكال فيما لم يسم من رواة الحديث" لابن طاهر المقدسي (ص: 85). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 317). (¬4) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 569).

وقيل: غالبُ بنُ عبدِ اللَّه بنِ عبدِ مناف، قاله ابن الكلبي. وقيل: اسمهُ هلال، ذكره الدارقطني في "سننه" (¬1). وقيل: اسمه عبد اللَّه، وهذا سماه به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما أسلمَ قبل رِدَّته. واسم خَطَل: عبدُ مناف، وخَطَلٌ لقبٌ له؛ لأنّ أحدَ لَحْيَيْهِ كان أنقصَ من الآخر، فظهر أنّه مصروف، وهو من بني تميم بنِ فهرِ بنِ غالبٍ (¬2). ومقول قولِ الرّجل: (مُتَعَلِّقٌ بأستارِ الكعبةِ) المشرَّفةِ، وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أمر بقتلِه، وقال: "مَنْ قَتَلَ ابنَ خَطَلٍ، فهو في الجنةِ" (¬3). فلما دخل المسلمون مكّة، تعلَّقَ بأستار الكعبة المشرَّفة مستعيذًا بها من القتل، (فقال) -صلى اللَّه عليه وسلم-: (اقْتُلُوه)؛ أي: ولو كان متعلقًا بأستار الكعبة، فقتله أبو برزةَ، وشاركه في قتله سعيدُ بنُ حريث. وقيل: القاتلُ له سعيدُ بن ذؤيب. وقيل: الزّبيرُ بنُ العوّام (¬4). وقد روى ابنُ أبي شيبةَ من طريق أبي عثمانَ النّهديِّ: أن أبا برزةَ ¬

_ (¬1) انظر: "السنن" للدارقطني (2/ 301). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 317)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 60). (¬3) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (1/ 405 - 406)، عن علي -رضي اللَّه عنه-، قال ابن عدي: لا أعرفه إلا من حديث أصرم، والعباس بن الحسن البلخي الراوي عن أصرم، وهو في عداد الضعفاء الذين يسرقون الحديث، وأصرم بن حوشب عامة رواياته غير محفوظة، وهو بيِّن الضعف. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 317).

الأسلميَّ قتلَ ابنَ خطل، وهو متعلّق بأستارِ الكعبة (¬1). إسنادُه صحيح مع إرساله. وله شاهدٌ عن الإمام ابن المبارك في كتاب "البِرِّ والصِّلَة" من حديث أبي برزةَ نفِسه (¬2). ورواه الإمامُ أحمدُ من وجه آخر (¬3). قال الحافظ ابنُ حجر: وهو أصحُّ ما ورد في تفسيرِ قاتلِه، وبه جزم البلاذري، وغيرُه من أهل العلم بالأخبار. وتُحمل بقيةُ الروايات على أنهم ابتدروا قتلَه، فكان المباشرَ له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيرُه شاركه فيه (¬4). وكان قتلُه بين المقامِ وزمزم. واختُلف في سبب قتله، فقيل: إنّه كان يكتب لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا نزل قوله تعالى: غفورٌ رحيمٌ، كتب: رحيمٌ غفورٌ، وسميعٌ عليمٌ، يكتبُ: عليمٌ سميعٌ، فعلم النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك، فقال: "غفورٌ رحيمٌ ورحيمٌ غفورٌ واحدٌ"، ثمّ قال: أنا ما كنت أكتبُ إلّا ما أريد، ثمّ كفر ولحقَ بمكّة (¬5). وقال البغوي وغيره: أمّا أمرُ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتله، لأنّه كان مسلمًا، فبعثه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ساعيًا على الصدقات، وكان له مولًى يخدمه، وكان مسلمًا، فنزل منزلًا، وأمر المولى أن يصنع له طعامًا، فاستيقظ ولم يصنع له شيئًا، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (36915). (¬2) رواه ابن المبارك في "البر والصلة" (ص: 139 - 140). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 423). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 61). (¬5) المرجع السابق، الموضع نفسه.

فعدا عليه فقتله، ثمّ ارتدَّ مشركًا، وكانت له قَيْنَتان، وكان يقول الشّعرَ يهجو به رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويأمر قينتيه، وكانتا فاسقتين يتغنيان بهجاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأمر -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتلهما معه (¬1)، وهما: فُرْتَنى -بضم الفاء وسكون الرّاء وفتح المثنّاة فوق، بعدها نون ثمّ ألف مقصورة-، وقَريبة -ضد بعيدة-. وقُتلت إحداهما، وهربت الأخرى حتّى استُؤْمن لها من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأمَّنَها. قال السّهيلي: التي أسلمت فُرْتَنى (¬2). وكلُّ مَنْ قُتل بمكّة إنّما قُتل بالخصوصية للمصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- في السّاعة التي أحلَّ اللَّهُ له مكة (¬3) -كما تقدم-. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (4/ 540)، عند تفسير قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]. (¬2) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (4/ 170). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 37).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَن رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، مِنَ الثَنِيَّةِ العُلْيَا الَّتِي بِالبَطْحَاءِ، وَخَرَجَ مِنَ الثَّنِيةِ السُّفْلَى (¬1). * * * (عن) أبي عبدِ الرحمنِ (عبدِ اللَّه بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطّاب (-رضي اللَّه عنهما-: أَن رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دخلَ مكّةَ) المشرّفةَ (من كَدَاءٍ) -بفتح الكاف والدّال المهملة ممدودًا منونًا، على إرادة الموضع-. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1500)، كتاب: الحج، باب: من أين يدخل مكة؟ و (1501)، باب: من أين يخرج من مكة؟ ومسلم (1257)، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنية العليا، والخروج منها من الثنية السفلى، وأبو داود (1866)، كتاب: المناسك، باب: دخول مكة، والنسائي (2865)، كتاب: الحج، باب: من أين يدخل مكة؟ وابن ماجه (2940)، كتاب: المناسك، باب: دخول مكة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 190)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 335)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 3)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 39)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 993)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 436)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 208)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 139)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 107).

وقال أبو عبيد: لا يصرف؛ أي: على إرادة البقعة؛ للعلَمية والتأنيث (¬1). (من الثَّنِيةِ العُلْيا التي) ينزل منها إلى المُعَلَّى ومقابر مكة بجنب المحصَّب. والثنيّةُ -بفتح المثلثة وكسر النُّون وتشديد المثنّاة التحتيّة-: كلُّ عَقَبةٍ في جبلٍ أو طريقٍ عاليةٍ فيه، وهذه الثنيةُ كانت صعبةَ المرتقى، فسهَّلها معاويةُ، ثم عبدُ الملك، ثمّ المهديُّ (¬2)، ثمّ سُهّل منها سنة إحدى عشرة وثمان مئة موضعٌ، ثمّ سُهِّلت كلُّها في زمن سلطانِ مصرَ الملكِ المؤيَّد في حدود العشرين وثمان مئة (¬3). التي هي (بالبَطْحاء) -بفتح الموحّدة-. قال الجوهري: الأَبْطَحُ: مَسِيلٌ واسعٌ فيه دِقاق الحصى (¬4). والعُلْيا -بضم العين-: تأنيث الأعلى. وهذه الثنيّة يُنزل منها إلى الحَجُون -بفتح الحاء المهملة وضم الجيم- التي هي مقبرة مكّة (¬5). (وخرجَ) من مكّةَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ خرجَ (من الثنيةِ السُّفْلَى) -بضم السّين المهملة، تأنيث الأسفل-، وهي التي بقرب شعب الشافعيين من ناحية جبل قُعَيْقعان، بأسفل مكة عند باب شبيكة. ¬

_ (¬1) انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 149). (¬2) انظر: "أخبار مكة" للفاكهي (4/ 178). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 437). (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 356)، (مادة: بطح). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 437).

وكان بناء هذا الباب عليها في القرن السّابع (¬1). ويقال لها: كُدًّى -بضم الكاف وتنوين الدّال المهملة- عند ذي طوى. وأمّا كُدَيّ -مصغّرًا-، فإناخةٌ لمن خرج من مكّة إلى المدينة. وليس من هذين الطّريقين في شيء، نقله في "المطلع" عن ابن حزم (¬2). وغيرُ ابنِ حزم يقول: كُدَيّ -مصغَّر-: الثنيّةُ السُّفلى، ويدلّ عليه شعرُ عُبيدِ اللَّه بنِ قيس (¬3): [من الخفيف] أَقْفَرَتْ بَعْدَ عَبْدِ شَمْس كَدَاءُ ... فَكُدَيٌّ فالرُّكْنُ فَالْبَطْحَاءُ فَمِنًى فَالْجِمَارُ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ ... مُقْفِرَات فَبَلْدَحٌ فَحِرَاءُ بلدح: وادٍ قبل مكَّة، أو جبل، حِراءٌ: جبلٌ معروف. والمعنى في كون الدُّخول من الثنية العليا، والخروجِ من السّفلى: الذّهابُ من طريق، والإياب من أخرى؛ كالعيد؛ لتشهد له الطّريقان. وخُصت العليا بالدّخول: مناسبة للمكان العالي الذي قصده، والسُّفلى للخروج، مناسبة للمكان الذي يذهب إليه؛ لأنَّ إبراهيم الخليل -عليه السلام- حين قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، كان على العُلْيا، كما روي عن ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما-، قاله السّهيلي (¬4). تتمّة: ويستحبُّ دخولُ المسجد الحرام من باب بني شيبة. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 140). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 187). (¬3) البيتان في "ديوانه" (ص: 87). (¬4) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (4/ 162).

وفي "أسباب الهداية": ليقلْ حينَ دخوله: باسم اللَّه، وباللَّه، وإلى اللَّه، اللهمَّ افتحْ لي أبوابَ فضلِك. ذكره في "الفروع" (¬1). فإذا رأى البيتَ: رفع يديه، نصّ عليه الإمام أحمد (¬2). وقال: اللهمَّ أنتَ السّلامُ ومنكَ السّلام فَحَيِّنا ربَّنا بالسَّلام، اللهمَّ زِدْ هذا البيتَ تعظيمًا وتكريمًا وتشريفًا ومهابةً وبِرًّا، وزِدْ مَنْ عَظَّمَهُ وشَرَّفَه مِمَّنْ حَجَّهُ واعتمرَهُ تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابة وبِرًّا، الحمدُ للَّه ربِّ العالمين كثيرًا كما هو أهله، وكما ينبغي لكرَمِ وجهِه وعِزِّ جلالِه، والحمدُ للَّهِ الذي بَلَّغني بيتَه، ورآني لذلك أهلًا، والحمدُ للَّه على كلّ حالٍ. اللهمَّ إنّك دعوتَ إلى حجّ بيتِكَ الحرامِ، وقد جئتُك لذلك، اللهمَّ تقبَّلْ مِنِّي، واعفُ عَنّي، وأَصْلحْ لي شأني كُلَّه، لا إلهَ إلّا أنت (¬3). يرفع بذلك صوته إن كان رجلًا، وينظر إلى الكعبة المشرّفة، فقد روى ابن الجوزي في "مثير العزم السّاكن": أنّ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يُنْزِلُ اللَّه -عَزَّ وجَلَّ- على هذا البيتِ عشرينَ ومِئَةَ رحمةٍ، عِشْرونَ للنَّاظِرينَ" (¬4). وروى جعفرٌ الصادقُ بنُ محمدٍ الباقرِ عن أبيه، عن جدّه، عن النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "النَّظَرُ إلى البيتِ الحرامِ عِبادةٌ" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 367). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 153). (¬4) ذكره ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" (ص: 153) دون إسناد، وقد رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11475)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 278)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 321)، والأزرقي في "أخبار مكة" (2/ 8)، وغيرهم من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬5) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 153).

وروى ابنُ الجوزي بسنده عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أنّه قال: "النَّظَرُ إِلى الكَعْبَةِ مَحْضُ الإيمانِ" (¬1). وقال ابنُ المسيّب: من نظرَ إلى الكعبة إيمانًا وتصديقًا، خرج من الخطايا كيومَ ولدتْه أُمُّه. وقال عطاء: الناظرُ إلى البيت كمنزلة الصّائمِ القائمِ الدّائمِ المخبِتِ المجاهدِ في سبيل اللَّه. كلُّه من "العزم السّاكن" (¬2). واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" (ص: 153)، من طريق الأزرقي في "أخبار مكة" (2/ 9). (¬2) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 153 - 154).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عنهما-، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- البَيْتَ، وَأسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَبِلَال، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ البَابَ، فَلَمَّا فَتَحُوا، كنتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بلَالًا، فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ العَمُودَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ (¬1). * * * (عن) أبي عبدِ الرّحمنِ (عبدِ اللَّه بنِ) أميرِ المؤمنين (عمرَ) الفاروقِ (-رضي اللَّه عنهما-، قال: دخلَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- البيتَ) الحرامَ عامَ الفتح هو ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1521)، كتاب: الحج، باب: إغلاق البيت، ويصلي في أي نواحي البيت شاء، واللفظ له، و (482)، كتاب: سترة المصلي، باب: الصلاة بين السواري في غير جماعة، ومسلم (1329/ 393)، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والنسائي (692)، كتاب: المساجد، باب: الصلاة في الكعبة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 420)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 429)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 82)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 40)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 994)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 464)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 243)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 162)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 145).

(وأسامةُ بنُ زيد) بنِ حارثةَ الحِبِّ بنِ الحِبِّ، (وبلالُ) بنُ حمامةَ المؤذنُ -رضي اللَّه عنهم- (وعثمانُ بنُ طلحةَ) بنِ أبي طلحةَ عبدِ اللَّه بنِ عبدِ العزّى بنِ تميم بنِ عبدِ الدّارِ بنِ قُصَيٍّ الجُمَحِيِّ. هاجر إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هدنة الحُدَيبية مع خالدِ بن الوليد، فلقيا عمرَو بنَ العاص منصرفًا من عند النجاشي يريدُ الهجرة، فاصطحبوا جميعًا حتّى قَدموا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال حين رآهم: "رَمَتْكُمْ مَكَّةُ بِأَفْلاذِ كَبِدِها" (¬1)، يقول: إنّهم وُجوهُ أهلِ مكّة، فأسلموا، ثمّ شهد عثمانُ بنُ طَلحةَ -رضي اللَّه عنه- فتحَ مكّة، فدفع له رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مفتاحَ الكعبة، فقال: "خُذُوهَا يا بَنِي طَلْحَةَ خَالِدَةً تَالِدَةً لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظالِمٌ" (¬2). وكان أبو طلحة قُتل كافرًا يومَ أحد، قتله سيدُنا عليُّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، ثمّ نزلَ عثمانُ بنُ طلحةَ المدينةَ، فأقام بها حتى وفاةِ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثمّ تحوّل إلى مكّةَ، فمات بها في أوّل خلافةِ معاويةَ، سنة اثنتين وأربعين. وقيل: استُشهد يومَ أَجنادَين -بفتح الدّال على مثال تثنية أجناد-. وقيل: -بالكسر-، كما في البرماوي (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/ 219). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11234)، وفي "المعجم الأوسط" (488)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (4/ 137)، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 448)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 260)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 485)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1034)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (38/ 376)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 572)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 395)، و"سير أعلام =

(فأغلقوا عليهم البابَ) من داخل؛ كما عند أبي عوانة (¬1). وزاد النّسائي: أنّ فيهم الفضلَ بنَ العبّاس، (¬2) فيكونون أربعة. زاد يونس: فمكثَ نهارًا طويلًا. وفي رواية فليح: "زمانًا"، (¬3) بدلَ "نهارًا". ولمسلمٍ: فمكث فيه مليًّا (¬4). وفي رواية له أيضًا: فمكثَ فيها ساعةً (¬5). قال ابن الجوزي في "مثير العزم السّاكن": قد صحّ عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنّه دخل البيتَ، وصلَّى فيه. فيُستحبُّ للإنسانِ دخولُه حافيًا. قال: وأوّلُ من خلعَ نعليه عندَ دخولِ الكعبةِ في الجاهلية: الوليدُ بنُ المغيرة، فخلعَ النّاس نِعالهم في الإسلام (¬6). قال ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: (فلمّا فتحوا) البابَ (كنتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ) -بفتح الواو واللَّام-؛ أي: دخل، (فلقِيتُ) -بكسر القاف- (بلالًا). زاد في رواية مجاهد في "الصّحيح": عن ابن عمر: وأجد بلالًا قائمًا ¬

_ = النبلاء" للذهبي (3/ 10)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 450). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 464). (¬2) رواه النسائي (2906)، كتاب: المناسك، باب: دخول البيت. (¬3) رواه البخاري (4139)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع. (¬4) رواه مسلم (1329/ 392)، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره. (¬5) رواه مسلم (1329/ 389)، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره. (¬6) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 171 - 172).

بين البابين؛ (¬1) أي: المصراعين؛ كما في "الفتح"، (¬2)، (فسألتُه)؛ أي: بلالًا: (هل صلّى فيه)؛ أي: البيتِ (رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال) بلال: (نعم) صلّى فيه (بينَ العمودين اليمانِيَيْنِ) -بتخفيف الياء-؛ لأنهم جعلوا الألف بدل إحدى ياءي النّسبة، وجوَّزَ سيبويهِ التشديدَ (¬3). وفي رواية مالك عن نافع: جعل عمودًا عن يمينه، وعمودًا عن يساره (¬4). وفي رواية فليح: صلّى بين ذَيْنِكَ العمودين المقدَّمين، وكان البيتُ على ستّةِ أعمدة، سطرين، صلّى بين العمودَين من السَّطر المقدَّم، وجعلَ بابَ البيت خلفَ ظهره. وقال في آخر روايته: وعندَ المكان الذي صلّى فيه مَرْمَرَةٌ حمراءُ (¬5). وكلّ هذا إخبار عما كان عليه البيتُ قبل أن يُهدم ويبنى في زمن ابن الزّبير -رضي اللَّه عنهما-. فأمّا الآن، فقد بيّن موسى بنُ عقبة في روايته عن نافع: أنَّ بينَ موقفه -صلى اللَّه عليه وسلم- وبين الجدار الذي استقبله قريبًا من ثلاثة أذرع. وقد جزم برفعها مالك عن نافعٍ فيما أخرجه أبو داود، والدّارقطني في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (388)، كتاب: القبلة، باب: قول اللَّه تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 500). (¬3) المرجع السابق، (3/ 473). (¬4) رواه البخاري (483)، كتاب: سترة المصلي، باب: الصلاة بين السواري في غير جماعة، ومسلم (1329/ 388)، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره. (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4139).

"الغرائب"، وأبو عوانة، (¬1) فينبغي لمن أراد الاتباعَ في ذلك أن يجعل بينَه وبين الجدار ثلاثةَ أذرع، فتقع قدماه في مكان قدميه -صلى اللَّه عليه وسلم- إن كانت ثلاثة أذرع سواء، أو تقع ركبتاه أو يداه أو جبهته، إن كان أقلّ من ذلك (¬2). تنبيه: اختلف الفقهاء في جواز الصّلاة في الكعبة المشرّفة، فإمامنا -رضي اللَّه عنه- فرّق بين الفرض والنّفل، فاستحبّ النّفلَ فيها. نقل الأثرم عنه: يصلّي فيه إذا دخلَه وجاهه، كذا فعل النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ونقل أبو طالب عنه: يقوم كما قام النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين الأسطوانتين (¬3). قال ابن الجوزي في "مثير العزم السّاكن": يستحبّ أن يصلّي فيه النّوافل بينَ العمودين المقدَّمين، كما صلّى النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال: وقال مجاهد: دخولُ الكعبة دخولٌ في حسنة، وخروجٌ منها خروج من سيئة (¬4). ومعتمد المذهب: عدمُ صحةِ الفريضةِ في الكعبة، وعلى ظهرها، إلّا إذا وقف على منتهاها بحيث لم يبقَ وراءه شيء منها، أو صلّى خارجَها وسجدَ فيها (¬5). وقال ابن دقيق العيد: ومالكٌ فرّق بين الفرض والنّفل، فكره الفرضَ، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2024)، كتاب: المناسك، باب: في دخول الكعبة. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 465). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 334). (¬4) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 172). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 151).

أو منعه، وخفّف في النّفل؛ لأنَّه مظنّةُ التخفيف في الشروط، كذا قال (¬1). وفي "اختلاف الأئمة" لأبي المظفر عونِ الدّين بنِ هبيرة: وأجمعوا على أنّ صلاة النّفل في الكعبة تصح. واختلفوا في صلاة الفريضة في جوف الكعبة، أو على ظهرها، فقال أبو حنيفة: إذا كان بين يدي المصلّي شيء من سمتها، جازَ. وقال الشّافعي: لا تصحُّ الصّلاةُ على ظهرها، إلّا أن يستقبل سترةً مبنيّةً بجصٍّ أو طين، فإن كان لَبِنًا أو آجُرًّا على ظهرها بعضُه فوقَ بعض، لم يجز. وإن غرز خشبة، فعلى وجهين عند أصحابه، وإن صلّى في جوفها مقابلًا البابَ، لم يجز إلّا أن يكون بين يديه عتبة شاخصة متّصلة بالبناء. وقال: وعن مالك روايتان: المشهورةُ كمذهبِ أحمد. وفي رواية أصبغ: قال عبد الوهّاب، وهو المشهور عند المحققّين لأهل مذهبنا. والرواية الأخرى: أنّها تجوز مع الكراهة، انتهى (¬2). قلت: وظاهر نقل "الفروج" عن الأئمة الثّلاثة: صحةُ الفرض فيها، وعليها، واختاره الآجري من علمائنا. نعم، لابدّ من شاخص متصل بها عند الشّافعي، واللَّه أعلم (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 40). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 116 - 117). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 334).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أنهُ جَاءَ إلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ، فَقَبَّلَهُ وَقَالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ أَنّكَ حَجَر لَا تَضُر وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قبلْتُكَ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1520)، كتاب: الحج، باب: ما ذكر في الحجر الأسود، و (1528)، باب: الرمل في الحج والعمرة، و (1532)، باب: تقبيل الحجر، ومسلم (1270/ 248 - 251)، كتاب: الحج، باب: استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، وأبو داود (1873)، كتاب: المناسك، باب: في تقبيل الحجر، والنسائي (2937)، كتاب: الحج، باب: تقبيل الحجر، والترمذي (860)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في تقبيل الحجر، وابن ماجه (2943)، كتاب: المناسك، باب: استلام الحجر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (1/ 191)، و"الاستذكار" (4/ 200)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 91)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 345)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 378)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 16)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 42)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1000)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 462)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 239)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 162)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 205)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 113).

(عن) أميرِ المؤمنينَ (عمر) بنِ الخطّاب (-رضي اللَّه عنه-: أنه جاء إلى الحجر الأسودِ، فقبَّلَه). فيسنّ تقبيلُه بوضع الشَّفتين عليه من غير إظهار صوت ولا طنينٍ للقبلة؛ كما قاله الشّافعي (¬1). وروى الفاكهي من طريق سعيدِ بنِ جبير، قال: إذا قبّلت الحجرَ، فلا ترفعْ بها صوتك كقبلةِ النّساء (¬2). (وقال) سيدنا عمرُ بعدَ تقبيله: (إنّي لأعلمُ أَنَّك حجرٌ) يخاطب الحجر الأسود (لا تضرُّ ولا تنفعُ). إنما قال ذلك؛ ليبيِّنَ به أنه فعلَ ذلك اتباعًا، وليزيل بذلك الوهمَ الذي كان ترتّب في أذهان الناس من أيام الجاهلية، ويحقق عدم الانتفاع بالأحجار من حيث هي هي كما كانت الجاهلية تعتقد في الأصنام (¬3). (ولولا أنّي رأيتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقبّلُكَ ما قبلتك)، ولكن متابعتَه -صلى اللَّه عليه وسلم- مشروعة لا مندوحَةَ عنها، وإن لم يُعقل معناها، ويشعر ذلك: بتعظيم الحجر والتّبرك به. وفيه: الاختبار والابتلاء للعقل؛ ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيه بقصّة إبليس حيث أُمر بالسّجود لآدم؛ كذا قال في القسطلاني (¬4). قال شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في "الفتاوى المصرية": وزاد ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 169). (¬2) رواه الفاكهي في "أخبار مكة" (1/ 158 - 159). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 42). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 169).

بعضهم: أنّ أبا بكر -رضي اللَّه عنه- قال؛ يعني: لمّا قال عمر -رضي اللَّه عنه- ما قال: بل ينفعُ ويشفعُ، وقال: هذه الزّيادة كذبٌ. قال: وروى الأزرقيُّ عن عليٍّ في ذلك أثرًا، لكن إسناده ضعيف (¬1). قلت: يشير إلى ما رواه الحاكم أيضًا زيادة عمّا في "الصّحيحين": فقال علي بن أبي طالب: بلى يا أمير المؤمنين، يضرُّ وينفعُ، ولو علمتَ تأويلَ ذلك من كتاب اللَّه تعالى، لقلت: إنّه كما أقول، قال اللَّه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. فلمّا أقرّوا أنّه الرّب -عزّ وجل-، وأنّهم العبيد، كتبَ ميثاقهم في رَقٍّ، وألقمه هذا الحجرَ، وإنّه يُبعث يوم القيامة وله عينانِ ولسانٌ وشفتانِ يشهد لمن وافى بالموافاة، فهو أمين اللَّه في هذا الكتاب. فقال له عمر: لا أبقاني اللَّهُ بأرضٍ لستَ بها يا أبا الحسن. قال الحاكم: ليس هذا -يعني: زيادة ما عن علي- على شرط الشّيخين؛ فإنهما لم يحتجّا بأبي هارون العبدي. قال الذهبي في "مختصره" عن العبدي: إنّه ساقط (¬2). وقال ابن الجوزي في "مثير العزم السّاكن": في حديث عمر من الفقه: أنّ عمر -رضي اللَّه عنه- نبّه على مخالفة الجاهلية من تعظيم الأحجار، وأخبرَ: أَنّي إنّما فعلتُ ذلك للسنة، لا لعادة الجاهلية. ¬

_ (¬1) رواه الأزرقي في "أخبار مكة" (1/ 324). ولم أقف على كلام شيخ الإسلام -رحمه اللَّه- في "الفتاوى المصرية". (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (1682)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4040).

وفيه: متابعةُ السنن، وإن لم يوقَفْ لها على علل. قال: على أنّه قد ذُكرت علتان في تقبيل الحجر ولمسه: إحداهما: أنّه قد رُوي في الحديث: "الحجرُ الأسودُ يمينُ اللَّهِ في الأرض" (¬1). وكان ذلك في ضرب المثل كمصافحة الملوك للبيعة، وتقبيل المملوك يد المالك. ثمّ روى بسنده عن ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما-: أنّه قال: الحجرُ الأسودُ يمينُ اللَّه في الأرض، فمن لم يدركْ بيعةَ رسولِ اللَّه، فمسحَ الحجرَ، فقد بايعَ اللَّهَ ورسولَه (¬2). وروي عن ابن عبّاس في لفظ آخر، قال: الرُّكْنُ الأسودُ يمينُ اللَّه يصافحُ بها عباده، كما يصافح أحدُكم أخاه (¬3). العلة الثانية: أن اللَّه -عزّ وجل- لمّا أخذ الميثاقَ، كتب كتابًا على الذريّة، فألقمه الحجر، فهو يشهدُ للمؤمن بالوفاء، وعلى الكافر بالجحود. قال ابن الجوزي: وهذا مروي عن علي بن أبي طالب -رضوان اللَّه عليه-. قال العلماء: ولهذه العلة يقول لامِسُه: إيمانًا بكَ، ووفاء بعهدك. ¬

_ (¬1) انظر: تخريج الحديث الآتي. (¬2) رواه ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" (ص: 147)، والأزرقي في "أخبار مكة" (1/ 325). (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (8920)، والأزرقي في "أخبار مكة" (1/ 324).

وروى ابن الجوزي بسنده من حديث ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيُبْعَثَنَّ هَذَا الحَجَرُ يَوْمَ القِيامَةِ لَهْ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، ولِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ" (¬1). قلت: ورواه الطبراني في "الأوسط" من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، ورواته ثقات، إلّا الوليدَ بنَ عبّاد، مجهول، ولفظه: قالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَشْهِدُوا هَذَا الحَجَرَ خَيْرًا؛ فإنَّهُ يومَ القيامةِ شافِع يشفَعُ، له لِسان وشَفَتانِ يشهدُ لِمَنِ اسْتَلَمَهُ" (¬2). وعن عبدِ اللَّه بنِ عمروِ بنِ العاص -رضي اللَّه عنهما-، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَأْتي الرُّكْنُ الأَسْوَدُ يومَ القِيامةِ أَعْظَمَ مِنْ أَبي قُبَيْسٍ، لَهُ لِسانٌ وشَفَتانِ" رواه الإمام أحمد بإسناد حسن، (¬3) والطبراني في "الأوسط"، وزاد: "يشهد لمن استلمه بالحقّ، وهو يمين اللَّه -عزَّ وجلَّ- يصافح بها خلقه" (¬4). وابنُ خزيمة في "صحيحه"، وزاد: "يتكلم عَمَّنِ استلمه بالنَّيةِ، وهو يمينُ اللَّهِ التي يصافحُ بها خَلْقَهُ" (¬5). * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" (ص: 148)، ورواه الترمذي (961)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في الحجر الأسود، وقال: حسن، وابن ماجه (2944)، كتاب: المناسك، باب: استلام الحجر، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 247). وانظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 147 - 148). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2971). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 211). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (563). (¬5) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2737).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكنَيْنِ، وَلَم يَمْنَعْهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا، إِلَّا الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ (¬1). * * * (عن) أبي العبّاسِ حبرِ هذهِ الأمةِ (عبدِ اللَّه بنِ عبّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قال: قدمَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) هو (وأصحابهُ) مكّةَ في عُمرة القضيّة ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1525)، كتاب: الحج، باب: كيف كان بدء الرمل؟ و (4009)، كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء، ومسلم (1266/ 240 - 241)، كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف والعمرة، وأبو داود (1886)، كتاب: المناسك، باب: في الرمل، والنسائي (2945)، كتاب: الحج، باب: العلة التي من أجلها سعى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالبيت. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 342)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 376)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 12)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 44)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1001)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 470)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 248)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 165)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 205)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 111).

سنة سبع، (فقال المشركون) من قريش: (إنّه)؛ أي: النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (يقدَم) -بفتح الدّال مضارع قَدِم بكسرها-؛ أي: يَرِدُ (عليكم)، (و) الحال أنّه (قد) -بالقاف- (وَهَنَتْهُم). وفي لفظ: قد -بحذف حرف العطف، وفتح هاء وَهَنهم من غير فوقيّة-؛ أي: أضعفتهم، يعنون: الصّحابة -رضي اللَّه عنهم- (¬1). (حُمَّى يثربَ) -بفتح الموحدة غيرُ منصرف-: اسمُ المدينة النبويّة في الجاهليّة. وفي رواية: يقدم عليكم وَفْدٌ -بالفاء، والرّفع- فاعل يقدم؛ أي: جماعة، وحينئذ يكون قولُه: "وَهَنَهم حُمَّى يثربَ" في موضع رفع صفة لوفد، وضمير "إنّه" ضمير الشّأن (¬2). (فأمرهم النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَرْمُلُوا) -بضم الميم مضارع رَمَل بفتحها-، والرَّمَلُ -بفتح الرّاء والميم-: هو سرعةُ المشي مع تقارُب الخطا دونَ العَدْوِ والوثوبِ، فيما قاله الشّافعي (¬3). قال الجوهري: الرَّمَلُ -بالتّحريك-: الهرولة، رَمَلْتُ بينَ الصّفا والمروةِ رَمَلًا ورَمَلانًا (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 165). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. قال القاضي عياض في "مشارق الأنوار" (2/ 292): قوله: "يقدم عليكم وفد وهنتهم" هذا الصواب بالفاء، ورواه ابن السكن: "وقد" بفتح القاف، والأول أوجه. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 175)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 164). (¬4) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1713)، (مادة: رمل).

وذكر الحنفيّة: الرَّمَلُ هو: أن يَهُزَّ كتفيه في مشيهِ كالمتبخترِ بينَ الصّفين (¬1). والذي جزم به علماؤنا: هو أن يسرعَ في المشي مع تقارُب الخطا؛ كما قال الشّافعي. وإنّه أولى من الدُّنُوِّ إلى البيت. قال في "الفروع"، وفي "الفصول": العدوُ في المسجد على مثل هذا الوجه -يعني: غير الرّمل- مكروهٌ جدًّا، كذا قال. قال في "الفروع": يتوجّه: تركُ الأَوْلى، انتهى (¬2). (الأشواطَ الثّلاثةَ) ليُرِيَ المشركين قوّتهم بهذا الفعل؛ لأنّه أفظعُ في تكذيبهم، وأبلغُ في نِكايتهم (¬3). وكذا قالوا، كما في "مسلم": هؤلاء الذين زعمتم أنّ الحمّى [قد] وهنتهم، هؤلاء أجلدُ من كذا وكذا (¬4). وفي رواية: ما يرضَوْنَ بالمشي، أَما إنّهم لينقُزون نقزَ الظّباء (¬5). وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- يكايدهم بكلّ مُستطاع. قوله: ينقزون: هو -بالقاف والزّاي-؛ أي: يَثِبون وَثْبًا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 164). (¬2) انظر: "الفروع": لابن مفلح (3/ 368 - 369). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 165). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1266/ 240). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 305). (¬6) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 104).

والأشواط: جمع شَوْط -بفتح الشّين المعجمة-، والمراد به هنا: الطَّوْفَةُ حولَ الكعبة -زادها اللَّه شرفًا- (¬1). (و) أمرهم -صلى اللَّه عليه وسلم- (أن يمشوا ما بينَ الرُّكنين) اليمانيين؛ حيث لا يراهم المشركون؛ لأنّهم كانوا ممّا يلي الحجر من قِبَلِ قُعيقعان، وهذا منسوخٌ بالحديث الذي يأتي بعده -إن شاء اللَّه تعالى- (¬2). قال ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما-: (ولم يمنعْهم) -صلى اللَّه عليه وسلم- (أن يرمُلوا)؛ أي: من أن يرملوا، فحذف الجار لعدم اللّبس. وفي لفظ: ولم يمنعْه أن يأمرهم أن يرمُلوا (الأشواطَ كلَّها)؛ أي: بأن يرملوها؛ يعني: لم يمنعه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يأمرهم بالرَّمل في الطّوفات كلّها (إلّا الإبقاءُ عليهم) -بكسر الهمزة وسكون الموحدة وبالقاف ممدودًا- مصدرُ أَبقى عليه: إذا رفقَ به، وهو مرفوع فاعل "لم يمنعه"، لكن الإبقاء لا يناسب أن يكون هو الذي منعَهم من ذلك؛ إذ الإبقاءُ معناه الرّفق؛ كما في "الصحاح" (¬3)، فلابدّ من تأويله بأداة ونحوها؛ أي: لم يمنعهم من الرّمل في الأربعةِ إلّا إرادتُه -صلى اللَّه عليه وسلم- الإبقاءَ عليهم، فلم يأمرهم به، وهم لا يفعلون شيئًا إلّا بأمره. وقول الزّركشي في "شرح البخاري"، وتبعه البدر العيني، (¬4) كالحافظ ابن حجر في "الفتح": (¬5) يجوز النّصبُ على أنّه مفعول لأجله، ويكون في ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 470). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 165). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2283)، (مادة: بقي). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (17/ 266). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 509).

"يمنعهم" ضميرٌ عائد إلى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هو فاعله. تعقّبه في "المصابيح": بأنّ تجويز النّصب مبني على أن يكون في لفظ حديث البخاري: لم يمنعهم، وليس كذلك، وإنّما فيه: لم يمنعْهُ، فرفعُ "الإبقاء" متعينٌ؛ لأنّه الفاعل. وهذا الذي قاله الزّركشي وقع للقرطبي في "شرح مسلم" (¬1). وفي الحديث: ولم يمنعهم، فجوّز فيه الوجهين، وهو ظاهر، لكن نقله إلى ما في البخاري غيرُ متأتٍّ، ذكره القسطلاني (¬2). قلت: وسائر نسخ "العمدة" التي وقفنا عليها: ولم يمنعهم -بميم الجمع-. ولم يذكره مسلم في كتاب الحج، ولا البخاري فيما رأيت، إنّما ذكرا: ولم يمنعه، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفهم" للقرطبي (3/ 376). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 165).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: رَأيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ يقدمُ مَكَّةَ، إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ، أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ (¬1). * * * (عن) أبي عبدِ الرحمنِ (عبدِ اللَّه بنِ) أميرِ المؤمنين (عمر -رضي اللَّه ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1526)، كتاب: الحج، باب: استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف، ويرمل ثلاثًا، و (1527)، باب: الرمل في الحج والعمرة، و (1537 - 1538)، باب: من طاف بالبيت إذا قدم مكة، و (1562)، باب: ما جاء في السعي بين الصفا والمروة، ومسلم (1261/ 230 - 232)، كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف والعمرة، وفي الطواف الأول، والنسائي (2942)، كتاب: المناسك، باب: الخبب في الثلاثة من السبع، و (2943)، باب: الرمل في الحج والعمرة، وابن ماجه، (2950)، كتاب: المناسك، باب: الرمل حول البيت. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 340)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 374)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 8)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 46)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1005)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 471)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 249)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 165)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 205).

عنهما-، قال: رأيت رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين يقدم مكّةَ) المشرّفة (إذا استلمَ الرُّكنَ الأسودَ أوّلَ ما يطوفُ) ظرف مضاف إلى "ما" المصدرية. (يَخُبُّ) -بفتح المثنّاة التحتيّة وضم الخاء المعجمة وتشديد الموّحدة-؛ من الخَبَبِ: ضربٌ من العدو، أي: يَرْمُلُ (¬1) (ثلاثةَ أشواطٍ). ولفظ البخاري، ومسلم: ثلاثةَ أطوافٍ من السَّبْعِ (¬2). وفي لفظ لمسلم من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، قال: كان -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا طافَ بالبيت الطّوافَ الأوّل، خَبَّ ثلاثًا، ومشى أربعًا (¬3). وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر أيضًا، واللفظ لمسلم: كان -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا طافَ في الحجّ والعمرة أوّل ما يقدَمُ، فإنّه يسعى ثلاثةَ أطوافٍ بالبيت، ثمّ يمشي أربعًا، ثمّ يصلّي سجدتين، ثمّ يطوفُ بين الصَّفا والمروةِ (¬4). ولفظ البخاري: سعى النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثةَ أشواط، ومشى أربعةً في الحجّ والعمرةِ (¬5). وفي مسلم، وكذا البخاري من حديث ابن عمر أيضًا: رملَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الحَجَر إلى الحَجَر ثلاثًا، ومشى أربعًا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 228)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 166). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1526)، ورواه مسلم (1227)، كتاب: الحج، باب: وجوب الدم على المتمتع. (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1261/ 230). وكذا عند البخاري برقم (1562). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1261/ 231). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1527). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1562)، وعند مسلم برقم (1262/ 233).

وفي لفظ من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-، قال: رأيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رملَ من الحَجَر الأسودِ حتَّى انتهى إليه ثلاثةَ أطواف، انفردَ به مسلمٌ (¬1). تنبيهات: الأوّل: الرّملُ في طواف القدوم في أوّل طوافِه بالبيت سنّةٌ في الأشواط الثّلاثة الأُوَل في حقّ الماشي، لا الرّاكبِ، ولا حاملِ معذورٍ، ولا نساء، ومحرم من مكّة، أو من قربها، ولا في غير الطّواف الأوّل، وهو أولى من الدّنو من البيت بدونه، وإن كان لا يتمكّن من الرّمل أيضًا، أو يختلط بالنّساء، فالدنوُّ أولى، ويطوف كيفَما أمكنه، فإذا وجد فُرْجَةً، رملَ فيها، وتأخيرُ الطّوافِ له ولادّنو، أو لأحدهما، أَوْلى (¬2). وقد استقرَّتْ سُنته -صلى اللَّه عليه وسلم- على استيعاب كلِّ طَوْفَة من الطَّوفات الثّلاث من الطَّواف الأول جميع البيت بالرّمل من الحَجَر إلى الحجر؛ لأنّه المتأخرُ من فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). وقد صرّح غيرُ واحد من الأئمة بنسخ عدم الرّمل فيما بين الرُّكنين؛ لثبوت رَمَلِه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الحَجَر إلى الحَجَر. وذكر أنّه كان في الحج، فيكون متأخرًا، فيقدَّم على المتقدِّم. قال ابن دقيق العيد: والأكثرُ على استحباب الرَّمَل في طواف القدوم في زمن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وبعدَه، وإن زالتِ العلّةُ التي ذكرها ابنُ عبّاس -رضي اللَّه ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1263)، كتاب: الحج، باب: استحباب الرمل في الطواف والعمرة. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 8 - 9). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 166).

عنهما-، فاستحبابُه في ذلك الوقت لتلك العلّة، وفيما بعدَ ذلك تأسِّيًا واقتداءً بما فعل في زمانه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي ذلك من الحكمة: تذكُّرُ الوقائع الماضية للسَّلَف الكرام، وفي طَيِّ تذكُّرها مصالحُ دينيّةٌ، إذ تتبيّن في أشياءَ كثيرةٍ، منها: ما كانوا عليه من امتثال أمر اللَّه تعالى، والمبادرة إليه، وبذلِ الأنفس في ذلك. وبهذه النكتة يظهرُ أَنّ كثيرًا من الأعمال الواقعةِ في الحج، ويقال فيها: إنّها تعبُّد، ليست كما قيل، ألا ترى أنّا إذا فعلناها، وتذكَّرنا أسبابَها، حصل لنا من ذلك تعظيمُ الأَوَّلين، وما كانوا عليه من احتمال المشاقِّ في امتثالِ أمر اللَّه تعالى، وكان هذا التّذكُّر باعثًا لنا على مثلِ ذلك، ومقرِّرًا في أنفسنا تعظيمَ الأوّلين؟ وذلك معنًى معقول، مثاله: السّعيُ بينَ الصّفا والمروة؛ فإنّا نتذكّر بفعله قصةَ هاجرَ مع ابنِها إسماعيل -عليه السّلام-، وترك الخليل لهما في ذلك المكان الموحِش منفردَيْنِ منقطِعَي أسبابِ الحياةِ بالكليّة، مع ما أظهره اللَّه تعالى من الكرامة والآيةِ في إخراجِ الماء لهما، فيظهر لنا من ذلك مصالحُ عظيمة معقولة. وكذلك رميُ الجِمار، إذا فعلناه، تذكّرنا أَنَّ سببه رميُ إبليسَ بالجِمار في هذه المواضع، عند إرادةِ الخليلِ ذبحَ ولده إسماعيلَ، فيحصل لنا من ذلك مصالحُ عظيمةُ النّفع في الدّين (¬1). وفي "الصّحيحين": أنّ سيّدنا عمرَ -رضي اللَّه عنه-، قال: فما لَنا والرَّمَلَ؟ إنّما كنّا راءَينا به المشركين، وقد أهلكهم اللَّه. ثمّ قال -أي: بعد أن رجع عَمَّا همَّ به-: هو شيءٌ صنعه النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلا نحبُّ أن نتركه، ثم رَمَلَ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 46). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1528) فقط دون مسلم.

الثّاني: يستحبُّ في طواف القدوم مع الرمل اضْطِباعٌ. ففي حديث يَعْلى بنِ أميةَ -رضي اللَّه عنه-: أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- طاف مُضْطَبعًا، وعليه بُرْدَةٌ. رواه ابن ماجه، والتّرمذي، وصحَّحه، وأبو داود، وقال: ببردٍ له أخضرَ (¬1). ورواه الإمام أحمد، ولفظُه: ولمّا قدمَ مكَّةَ، طاف بالبيت وهو مضطبعٌ ببرد له حَضْرَمِيٍّ (¬2). وأخرج الإمام أحمد أيضًا، وأبو داود من حديث ابن عبّاس -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابَه اعتمروا من جعرانة، فرملوا بالبيتِ، وجعلوا أرديتَهم تحتَ آباطِهم، ثم قذفوها على عَواتِقهم اليسرى (¬3). قال في "الفروع": ثمّ يضطبع بردائِه في طوافه، نصّ عليه -يعني: الإمام أحمد-. وفي "الترغيب": روايةٌ في رمله. وقال الأثرم: يجعل وسطَه تحتَ كتفِه الأيمنِ، وطرفيه فوق الأيسر. وقال: لا يسنُّ رملٌ ولا اضطباع لامرأةٍ، أو مُحْرِمٍ من مكَّة، أو حاملِ معذورٍ، نصّ عليه. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1883)، كتاب: المناسك، باب: الاضطباع في الطواف، والترمذي (859)، كتاب: الحج، باب: ما جاء أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- طاف مضطبعًا، وابن ماجه (2954)، كتاب: المناسك، باب: الاضطباع. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 223). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 306)، وأبو داود (1884)، كتاب: المناسك، باب: الاضطباع في الطواف.

ولا في غيره -يعني: غير الطّواف الأوّل- (¬1). قال في "المطلع": قوله: هو أن يَضْطَبِعَ: وزنُه يَفْتَعِلُ؛ من الضَّبْع، وهو العَضُدُ؛ لأنّه لمّا وقعت تاءُ الافتعال بعدَ حرف الإطباق، وجبَ قلبُها طاء؛ لأنّ التّاء من حروف الهمس، والطّاء من حروف الاستعلاء، فأبدل من التّاء حرف استعلاء من مخرجها، وسمّي هذا اضطباعًا؛ لإبداء الضَّبْعَيْنِ (¬2). وفي "النهاية": قولُه: "طافَ مضطبعًا وعليه بُرْدٌ أخضرُ": هو أن يأخذَ الإزارَ أو البُرْدَ، فيجعلَ وسطَه تحت إبطِه الأيمنِ، ويلقيَ طرفيه على كتفه الأيسرِ من جهتي صدرِه وظهرِه، وسمّي بذلك؛ لإبداء الضَّبْعَيْن، ويقال للإبط: الضَّبعْ؛ للمجاورة، انتهى (¬3). الثّالث: قال ابن دقيق العيد: فيه -يعني: حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- دليلٌ على الاستلام للرُّكن. قال: وذكر بعضُ مصنّفي الشّافعية المتأخّرين: أنّ استلام الرُّكن يُستحب مع استلام الحجر أيضًا، قال: وله متمسَّكٌ بهذا الحديث، وإن كان يحتمل أن يكون معنى قوله: استلم الرُّكن: استلم الحجر؛ لأنّ الحجر بعضُ الرُّكن، كما إذا قال: استلم الرُّكن إنّما يريدُ بعضَه، انتهى (¬4). قلت: قوله في الحديث: الرّكن الأسود يعني: إرادة الحجر كما لا يخفى، ويأتي الكلام عليه فيما يليه، واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 367، 369). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 63). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 73). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 46 - 47).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضي اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: طَافَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1530)، كتاب: الحج، باب: استلام الركن بالمحجن، و (1534)، باب: من أشار إلى الركن إذا أتى عليه، و (1535)، باب: التكبير عند الركن، و (1551)، باب: المريض يطوف راكبًا، و (4987)، كتاب: الطلاق، باب: الإشارة في الطلاق والأمور، ومسلم (1272)، كتاب: الحج، باب: جواز الطواف على بعير وغيره، واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب، وأبو داود (1877، 1881)، كتاب: المناسك، باب: الطواف الواجب، والنسائي (713)، كتاب: المساجد، باب: إدخال البعير إلى المسجد، و (2928)، كتاب: المناسك، باب: الطواف بالبيت على الراحلة، و (2954)، باب: استلام الركن بالمحجن، و (2955)، باب: الإشارة إلى الركن، والترمذي (865)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في الطواف راكبًا، وابن ماجه (2948)، كتاب: المناسك، باب: من استلم الركن بمحجنه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 192)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 347)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 279)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 18)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 47)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1007)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 473)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 252)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 167)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 114).

المِحْجَنُ: عَصًا مَحْنِيَّةُ الرَّأْسِ. * * * (عن ابن عبّاسٍ -رضي اللَّه عنهما-، قال: طافَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-). الطّوافُ: مأخوذ من قولهم: طافَ به؛ أي: أَلَمَّ. يقال: طافَ يطوفُ طَوْفًا وطوفانًا، وتطوَّفَ، واستطاف، كلُّه بمعنى (¬1). (في حجةِ الوداعِ) متعلقّ بطاف، وإنّما سميّت حجة الوداع؛ لأنّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خطبَ النّاس وودَّعهم، فقالوا: هذه حجةُ الوداع (¬2). (على بعيرٍ) متعلّق بطاف أيضًا. وفيه: جوازُ الطَّوافِ راكبًا، (¬3) وعندَ الإمام أحمد -على معتمد مذهبه-: إنّما يجزىء الطّواف راكبًا لعذر، نقله الجماعة، وعنه: ولغيره، اختاره أبو بكر، وابن حامد. وقال الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: إنّما طاف النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- راكبًا؛ ليراه الناس. قال جماعة: فيجيء من هذا: أنّه لا بأسَ به للإمام الأعظم ليري الجهّال (¬4). قال ابن دقيق العيد: إنّما طاف -صلى اللَّه عليه وسلم- راكبًا؛ لتظهرَ أفعالُه؛ ليقتدَى بها، وهذا يؤخَذ منه أصلٌ كبير، وهو: أنّ الشيء قد يكون راجحًا بالنظر إلى محله من حيث هو هو، فإذا عارضه أمر آخر أَرجحُ منه، قُدّم على الأوّل من غير أن تزول تلك الفضيلة الأولى، حتّى إذا زال ذاك المعارضُ الرّاجحُ، ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1077)، (مادة: طوف). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 56). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 47). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 369).

عاد ترجيحُ الأوّل من حيث هو هو، انتهى (¬1). (يستلم) -صلى اللَّه عليه وسلم- (الرُّكْنَ)، والاستلام: افتعال من السِّلام -بكسر السّين المهملة-، وهي الحجارة، قاله ابن قتيبة (¬2). فلمّا كان لمسًا للحجر، قيل له: استلام، أو من السَّلام -بفتحها-، وهو التحية، قاله الأزهري؛ (¬3) لأنّ ذلك الفعلَ سلامٌ على الحجر، وأهلُ اليمن يُسمُّون الرُّكنَ الأسودَ: المحيّا، أو هو اسئلام -مهموزًا-؛ من الملاءمة، وهي الاجتماع، أو استفعال من اللأْمة، وهي الدّرع؛ لأنّه إذا لمس الحجرَ، تحصّن بحصنٍ من العذاب، كما يتحصّن باللأْمة من الأعداء. ويكون خفّف بنقل حركة الهمزة إلى اللَّام السّاكنة، ثمّ حُذفت الهمزة ساكنة، كما في "المصابيح" (¬4). (بمحجن) قال الحافظ المصنّف -رحمه اللَّه-: (المِحْجَن) -بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم- (عَصًا مَحْنِيَّةُ الرّأسِ). وفي "المطالع": مفتوحةُ الرّأس كالمخطف؛ يعني: كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يرمي بالمحجن إلى الرُّكن الأسود حتّى يُصيبَه (¬5). زاد مسلم من حديث أبي الطّفيل: ويُقَبِّلُ المحجنَ. ولفظه عن أبي الطّفيل: رأيتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يطوف بالبيت، ويستلمُ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 47 - 48). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 221). (¬3) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 174). (¬4) وانظر: "عمدة القاري" للعيني (9/ 249). (¬5) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 182).

الرُّكن بمحجن معه، ويقبّل المحجنَ (¬1). وفي حديث جابرِ بنِ عبدِ اللَّه -رضي اللَّه عنهما-، قال: طاف رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالبيت في حجة الوداع على راحلته، يستلمُ الحجرَ بمِحْجَنه؛ لأن يراه النّاس، وليشرفَ، ويسألوه، فإنّ النّاس غَشُوه. رواه مسلم، (¬2) وكذا البخاري، إلّا أنّه لم يقل: لأن يراه النّاس. . . إلخ (¬3). قال في "الفروع": الطّائفُ يُحاذي الحجرَ الأسودَ أو بعضَه، وهو جهة المشرق بجميع بدنه، فيستلمه بيده اليمنى؛ يعني: يمسحه بها، ويقبّله من غير صوتٍ للقُبلة. ونصّ الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: ويسجُدُ عليه. وأن ابن عمر وابن عبّاس -رضي اللَّه عنهم- فعلاه. وإن شَقَّ، قَبَّلَ يدَه، فإن شَق، استلمه بشىء، وقَبَّلَه، وهكذا مذهب الشّافعي -رضي اللَّه عنه- (¬4). وعند الحنفية: يضع يديه عليه، ويُقَبّلهما عندَ عدمِ إمكانِ التّقبيل، فإن لم يُمكنه، وضع عليه شيئًا؛ كعَصًا، فإن لم يتمكّن من ذلك، رفع يديه إلى أذنيه، وجعل باطنهما نحو الحَجَر مشيرًا إليه، كأنه واضعٌ يديه عليه، وظهورُهما نحوَ وجهه، ويُقَبِّلهما (¬5). وعند المالكية: إن زوحم، لَمَسَهُ بيده، أو بِعُودٍ، ثمّ وضعَه على فيه من ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1275)، كتاب: الحج، باب: جواز الطواف على بعير وغيره. (¬2) رواه مسلم (1273)، كتاب: الحج، باب: جواز الطواف على بعير وغيره. (¬3) لم أره عند البخاري من حديث جابر -رضي اللَّه عنه- بالسياق الذي ذكره أولًا. (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 367). (¬5) انظر: "البحر الرائق" لابن نجيم (2/ 351).

غير تقبيل، فإن لم يصل، كَبَّرَ إذا حاذاه، ومضى، ولا يشير بيده (¬1). ومذهبنا: إن لم يقدر على لمسِه بيده، أو بشيء، فإنّه يشير إليه بيده، أو بشيء، ويستقبل الحجرَ بوجهه، ولا يُقَبّل المشارَ به، ولا يزاحم فيؤذي أحدًا؛ (¬2) لما روى الإمام أحمد من حديث عمر -رضي اللَّه عنه-: أن النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "إِنَّكَ رجلٌ قويٌّ، لا تُزاحِمْ على الحجرِ فتؤذيَ الضَّعيفَ، إِنْ وجدْتَ خلوةً، فاستلِمْهُ، وإلَّا، فاستقْبِلْهُ، وهَلِّلْ وكبِّرْ" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر: "مواهب الجليل" للحطاب (3/ 108). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 167)، وعنه نقل الشارح -رحمه اللَّه-. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 7). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 28)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 80).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-، قَالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ إِلا الرُّكنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ (¬1). . * * * (عن) أبي عبدِ الرحمنِ (عبدِ اللَّه بنِ) أمير المؤمنينَ (عمرَ -رضي اللَّه عنهما-، قال: لم أرَ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يستلِمُ من البيتِ) الحرامِ في طوافِه (إلّا الرُّكنينِ اليمانِيَيْنِ) -مخفّفة على المشهور-؛ لأنّ الألف فيه عوضٌ عن ياء ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1529)، كتاب: الحج، باب: الرمل في الحج والعمرة، و (1531)، باب: من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، و (1533)، باب: تقبيل الحجر، ومسلم (1267/ 242 - 244)، كتاب: الحج، باب: استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف، دون الركنين الآخرين، وأبو داود (1874)، كتاب: المناسك، باب: استلام الأركان، والنسائي (2947 - 2948)، كتاب: المناسك، باب: استلام الركنين في كل طواف، و (2949)، باب: مسح الركنين اليمانيين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 343)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 377)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 13)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 49)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1008)، و"فتح الباري" لابن حجر، (3/ 471)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 253)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 166).

النّسبة، فلو شُدّدت، لزم الجمعُ بين العِوَض والمعوَّضِ (¬1)، اللَّذَين هما: الرّكنُ الذي فيه الحجرُ الأسود؛ لأنَّ فيه فَضيلتين: كونه فيه الحجر الأسود، وكونه على قواعد إبراهيم، وفي الرّكن اليماني الفضيلةُ الثّانية فقط، ومن ثمّ خصّ الأوّل بمزيد تقبيله دونَ الثّاني؛ بخلاف الرُّكنين الشّاميين؛ لأنهما لم يتمّا على قواعدِ إبراهيمَ، فليسا بركنين أصليين (¬2). وفي "صحيح البخاري": سأل رجلٌ ابنَ عمر -رضي اللَّه عنهما- عن استلام الحجر الأسود، فقال: رأيتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يستلمُه ويُقَبِّلُه (¬3). وفي "مسند الإمام أحمد"، و"سنن أبي داود": عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: أنَّ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان لا يدَعُ أن يستلمَ الحجرَ والرّكنَ اليمانيَ في كل طوافه (¬4). وفي الطّبراني: الحجرُ الأسودُ يمينُ اللَّه -عزَّ وجلَّ- يصافحُ بها خَلْقَه (¬5). ورواه ابنُ خزيمة في "صحيحه"، وزاد: يتكلّم عَمَّن استلمه بالنيّة، وهو يمين اللَّه -عزَّ وجلَّ- يصافحُ بها خَلْقَه (¬6). قال الإمام الحافظ ابنُ الجوزيِّ: وكان ذلك في ضرب المثل؛ ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 167). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 49). (¬3) رواه البخاري (1533)، كتاب: الحج، باب: تقبيل الحجر. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 18)، وأبو داود (1876)، كتاب: المناسك، باب: استلام الأركان. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) تقدم تخريجه.

كمصافحةِ الملوكِ للبيعة، [وتقبيل] (¬1) المملوكِ يدَ المالك (¬2). وتقدَّم الكلامُ على ذلك في الحديث الرّابع. وأما حديث ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما-: أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبّل الرُّكن اليمانيَ، ووضع خَدَّه عليه، رواه جماعة، منهم: ابنُ المنذر، والحاكم، وصحّحَه، فضعَّفه الحذّاقُ من حُفّاظ المحدّثين (¬3). فائدة: عن حُميدِ بنِ أبي سوية، قال: سمعتُ ابنَ هشامٍ يسأل عطاءَ بنَ أبي رَباح عن الرُّكن اليماني وهو يطوفُ بالبيت، فقال عطاء: حدّثني أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: أنَّ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وُكِّل بِهِ سبعونَ مَلَكًا، فَمَنْ قالَ: اللهمَّ إِنّي أسألُكَ العَفْوَ والعافيةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ، رَبَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النّار، قالوا: آمين". فلمّا بلغَ الرُّكْنَ الأسودَ، قال: يا أبا محمد! ما بلغك في هذا الرُّكن الأسودِ؟ فقال عَطاء: حَدَّثني أبو هريرةَ -رضي اللَّه عنه-: أنه سمعَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مَنْ فَاوضَه فإنما يفاوضُ يدَ الرَّحْمَنِ". قال له ابن هشام: يا أبا محمد! فالطّواف؟ قال عطاء: حدّثني أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: أنّه سمعَ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالَ: "مَنْ طَافَ بِالبيتِ سَبْعًا، ولا يتكلَّمُ إلّا بسبحانَ اللَّهِ والحمدُ للَّهِ ولا إلهَ إلّا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلّا باللَّه، مُحِيَتْ عنهُ عشرُ سيئات، وكتبَ له عشرُ حَسناتٍ، ورُفِعَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ويقبل" والصواب ما أثبت. (¬2) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 147). (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" (1675)، وكذا ابن خزيمة في "صحيحه" (2727)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 398)، وغيرهم.

له بها عَشْرُ درجاتٍ، ومَنْ طافَ فتكلّمَ وهو في تِلْكَ المقالَةِ، خاضَ في الرَّحْمَةِ بِرِجْلَيْهِ كخائِض الماءِ بِرِجْلَيْهِ". ورواه ابن ماجه عن إسماعيلَ بنِ عيّاش: حدّثني حميدُ بن أبي سوية (¬1). قال الحافظ المنذريُّ: حسّنه بعض مشايخنا (¬2). تنبيه: المعروفُ عند أهل العلم استحبابُ استلامِ الرُّكن اليماني من غير تقبيلٍ. والحديثُ المارُّ: أنّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبَّله، ووضعَ خدَّه عليه، (¬3) وحديثُ: أنّه استلمَ الحجرَ فقبَّله، واستلم الرُّكنَ اليمانيَ فقبَّلَ يده، (¬4) ضعيفان. وعلى تقدير ثبوتِ حديث ابن عبّاس المارِّ، فمحمول على الحجر الأسود؛ لأنَّ المعروفَ أنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استلم الرُّكن اليمانيَ فقط. قال الحافظ ابن الجوزي في "مثير العزم السّاكن": استلام الرُّكن اليماني مسنونٌ عند مالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ. وقال أبو حنيفة: لا يُسَنُّ. قال: والحديثُ حُجّة عليه (¬5). * * * ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2957)، كتاب: المناسك، باب: فضل الطواف. (¬2) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 123). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 76)، من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-، قال: البيهقي: عمر بن قيس المكي ضعيف، وقد روي في تقبيله خبر لا يثبت مثله. (¬5) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 149).

باب التمتع

باب التمتع هو تفعُّلٌ من المتاع، وهو المنفعة، وما تمتّعت به. يقال: تمتّعتُ بكذا، واستمتعت به، بمعنى. والاسمُ منه: المُتْعَةُ، وهي: أن يُحْرِمَ بالعُمْرة في أشهر الحجِّ، ويفرُغَ منها، ثمّ يحرمُ بالحجِّ من مكّةَ، أو قريبٍ منها. وسمّي تمتعًا؛ لتمتُّع صاحبه بمحظورات الإحرام بين المنسكين (¬1). واعلمْ: أنَّ الحاجَّ مخيَّرٌ بين التمتّعُ، والإفراد، والقِران؛ وفاقًا. وفي "الفروع": ذكره جماعة إجماعًا، (¬2). وجزم به ابنُ هبيرة في "اختلاف الأئمة" (¬3). نعم، أبو حنيفةَ استثنى المكّيَّ، فقال: لا يصحُّ في حقِّه التمتُّع والقِران، ويكره له فعلها، فإن فعلها، لزمه دم. وأفضلُها عند الإمام أحمدَ: التَّمتُّع، ثمّ الإفرادُ، ثمّ القِرانُ. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 126 - 127). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 221). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 262).

قال الإمام أحمد في رواية صالح وعبد اللَّه: المذهب المختارُ: المتعةُ؛ لأنّه آخرُ ما أمر به النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) وهو يعمل لكلّ واحد منهما على حِدَة (¬2). وقال أبو داود: سمعتُه يقول: نرى التَّمتُّع أفضلَ (¬3)، وسمعتُه قال لرجل يريد أن يحجّ عن أُمّه: تمتّعْ أحبُّ إليَّ. وقال إسحاقُ بنُ إبراهيم: كان اختيارُ أبي عبد اللَّه الدُّخولَ بعُمْرَة؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لو استقبلْتُ من أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ، ما سُقْتُ الهَدْيَ، وَلأَحْلَلْتُ مَعَكُمْ" (¬4)، كما يأتي في باب: نسخ الحجّ إلى العمرة. قال: سمعتُه يقول: العمرةُ كانت آخرَ الأمرين من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لِما يأتي: أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أصحابه لمّا طافوا وسَعَوْا أن يجعلوها عُمرةً، إلّا من ساقَ هَدْيًا، وثبتَ على إحرامِه، لسوقِ الهديِ، وتأسَّفَ كما سبقَ، ولا ينقلُهم إلّا إلى الأفضلِ، ولا يتأسَّفُ إلّا عليه. فإن قيل: لَمْ يأمرْهم -صلى اللَّه عليه وسلم- بالفسخ لفضل التَّمتع، بل لاعتقادهم عدمَ جوازِ العُمرة في أشهرِ الحجّ. قلنا: هذا مردود؛ لأنّهم لم يعتقدوه، ثمّ لو فُرض ذلك، لم يكن -صلى اللَّه عليه وسلم- في اختصاصه بذلك مَنْ لم يَسُقِ الهديَ كبيرُ فائدة؛ لأنّهم سواء في الاعتقاد. ثمّ لو كان، لم يتأسف لاعتقاده جوازها فيها، وجعل العلّة فيه سوق ¬

_ (¬1) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية ابنه عبد اللَّه" (ص: 201). (¬2) المرجع السابق، (ص: 202). (¬3) انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية أبي داود" (ص: 172). (¬4) سيأتي تخريجه.

الهدي، ولأن التمتع في الكتاب العظيم؛ بخلاف غيره. قال عمران: نزلت آية المتعة في كتاب اللَّه تعالى، الحديث (¬1)؛ كما يأتي في الباب، وقد صحّ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنّه ما خُيِّرَ بينَ أمرين، إلّا اختارَ أيسرهما (¬2). وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ هَذا الدِّينَ يُسْر" (¬3)، و"بُعِثْتُ بالحِنيفِيَّةِ السَّمْحَةِ" (¬4). وعند الحنفيّة: القِرانُ أفضلُ. وعند المالكية، والشّافعيّة: الإفرادُ أفضلُ (¬5). وصفة الإفراد: أن يحجُّ؛ أي: يحرم بالحج مفردًا، فإذا فرغ منه، اعتمر عُمرةَ الإسلام، إن كانت باقية عليه. وصفةُ القِران: أن يُحرم بالحج والعُمرة معًا، أو يُحرم بالعُمرة، ثمّ يُدخل عليها الحجَّ قبلَ الشُّروع في طوافها، إلّا لمن معه الهديُ، فيصحُّ، ولو بعدَ السّعي، ويصير قارنًا. ولا يعتبر لصحة إدخال الحجّ على العمرة الإحرامُ به في أَشْهُره. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) رواه البخاري (6404)، كتاب: الحدود، باب: إقامة الحدود والانتقام لحرمات اللَّه، ومسلم (2327)، كتاب: الفضائل، باب: مباعدته -صلى اللَّه عليه وسلم- للآثام، واختياره من المباح أسهله، عن عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬3) رواه البخاري (39)، كتاب: الإيمان، باب: الدين يسر، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- وعلقه البخاري في "صحيحه" (1/ 23). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 266)، عن أبي أمامة -رضي اللَّه عنه-. (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 222 - 223).

وأمّا إن أحرم بالحجِّ، ثمّ أدخلَ العمرةَ عليه، لم يصحَّ إحرامُه بها، فلم يصرْ قارِنًا (¬1). وذكر الحافظ المصنّف في هذا الباب أربعةَ أحاديث: * * * ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 127).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- عَنِ المُتْعَةِ، فَأَمَرَني بِهَا، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الهَدْيِ، فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ، أَوْ بقَرَةٌ، أَوْ شَاةٌ، أو شِرْكٌ في دَمٍ، قَالَ: وَكَأنَّ ناسًا كرِهُوهَا، فَرَأيْتُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ إنْسَانًا يُنَادِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ، وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عبَّاسٍ فَحَدثْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! سُنَّةُ أَبِي القَاسِمِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * * * (عن أبي جَمْرَةَ) -بفتح الجيم وسكون الميم وبالرّاء-، واسمه: (نَصْر بن عِمرانَ) بنِ عصامٍ (الضُّبَعِيِّ) -بضم الضّاد المعجمة وفتح الموحّدة وبالعين المهملة- نسبة إلى ضُبيعةَ بنِ قيسِ بنِ ثعلبةَ. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1603)، كتاب: الحج، باب: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، واللفظ له، و (1492)، باب: التمتع والإقران والإفرَاد بالحج، ومسلم (1242)، كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 50)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1011)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص 211)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 430، 534)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 202)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 212).

من ثقاتِ التّابعين بالبصرة، اتّفقوا على توثيقه. سمعَ ابنَ عبّاس -رضي اللَّه عنهما-. وفي مسلمٍ، وغيرِه: في حديث وَفْدِ عبدِ قيس عنه: أنّه قال: كنت أترجمُ بينَ يدي ابنِ عبّاس وبين النّاس (¬1). وسمع أيضًا: ابنَ عمرَ، وجاريةَ -بالجيم- بنَ قُدامة، وهلالَ بنَ جعفرٍ، وغيرَهم. روى عنه: سعيدٌ، وحمّادُ بنُ زيد، وحمّادُ بن سلمة، وقتادةُ، وخلق، وأخرجَ له الجماعةُ. قال مسلم: كان مقيمًا بنيسابورَ، ثمّ انصرف إلى مَرْو، ثمّ إلى سَرَخْسَ. وقال أيضًا في كتاب: الجنائز، وصحّحه: إنّه توفي بسَرَخْسَ (¬2). قال الترمذي، وغيرُه: توفي سنة ثمان وعشرين ومئة، وليس في الرّواة أبو جمرة -بالجيم- غيرُه (¬3). وكان عمرانُ والدُه جليلًا، قاضيَ البصرة. روى عنه: ابنُه، وغيرُهُ، ذكره ابنُ عبد البر، وابن مَنْدَهْ، وأبو نُعيم في الصّحابة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (17)، كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان باللَّه تعالى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) انظر: "صحيح مسلم" (2/ 665). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 235)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 104)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 476)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 491)، و"تهذيب الكمال" للمزي (29/ 362)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 243)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 385). =

قالوا: واختُلف في أنَّه صحابي، أو تابعي؟ سمعَ عمرانَ بنَ حُصَين (¬1). (قال) أبو جمرة: (سألتُ) عبدَ اللَّه (ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما- عن المتعة)؛ يعني: مشروعيتها واستحبابها بأن يُحرم بالعُمرة في أشهر الحجّ، ويفرغ منها، ثمّ يحجّ من عامه، (¬2) (فأمرني) ابنُ عبّاس -رضي اللَّه عنهما- (بها). وفي رواية في "الصّحيحين": قال أبو جمرة: تمتَّعْتُ، فنهاني ناسٌ (¬3). قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على أسمائهم، وكان ذلك في زمن عبد اللَّه بن الزبير -رضي اللَّه عنهما-؛ فإنّه كان ينهى عن المتعة؛ كما رواه مسلم (¬4). قال أبو جمرةَ: (وسألته)؛ يعني: ابنَ عبّاس -رضي اللَّه عنهما- (عن الهَدْي)؛ أي: عن أحكام الهديِ الواجبِ فيها؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، (فقال) ابنُ عبّاس: (فيها جَزُور) -بفتح الجيم وضم الزّاي، على وزن فَعُول-، من الجَزْرِ، وهو القطع من الإبل، تقع على الذّكر والأنثى، (¬5) (أو بقرةٌ، أو شاةٌ): واحدة ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1209)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 706). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 50). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1429)، وعند مسلم برقم (1242). (¬4) رواه مسلم (1238/ 194)، كتاب: الحج، باب: في متعة الحج. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 430). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 534).

الغنم، يُطلق على الذّكر والأنثى من الضّأن والمعز (¬1)، (أو شِرْك) -بكسر الشّين المعجمة وسكون الرّاء-؛ أي: النّصيب الحاصل للشريك من الشّركة (¬2) (في) إراقةِ (دَمٍ). والمراد به هنا على الوجه المصرّح به في حديث أبي داود، قال النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "البقرةُ عن سَبْعَةٍ، والجزورُ عن سبعةٍ" (¬3)، فهو من المجمَل والمبيَّن. فإذا شارك غيره في سُبْع بقرة، أو جزور، أَجْزَأَ عنه (¬4). (قال) أبو جمرة: (وكأنَّ ناسًا)؛ يعني: كعمرَ بنِ الخطّاب، وعثمانَ بنِ عفان -رضي اللَّه عنهما-، وغيرهما ممّن نُقل عنه الخلافُ في ذلك (كرهوها)؛ أي: المتعة. قال: (فنمتُ، فرأيتُ في المنام كَأنَّ إنسانًا). ولابن عساكر: كأَنَّ المناديَ (¬5) (ينادي: حَجٌّ مبرورٌ)؛ أي: مقبولٌ، فهو صفة لحجّ. ولابن عساكر: حجّة مبرورة -بالتأنيث فيهما-، (¬6) (ومتعةٌ مُتَقَبَّلَةٌ). قال: (فأتيتُ) عبدَ اللَّه (بنَ عبّاس) -رضي اللَّه عنهما-، (فحدثتُه). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 212). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) رواه أبو داود (2807 - 2808)، كتاب: الضحايا، باب: في البقرة والجزور، عن كم تجزىء؟ من حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 212). (¬5) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬6) المرجع السابق، (3/ 134).

وفي لفظ: فأخبرتُ ابنَ عبّاس (¬1). بما رأيتُ في المنام من قولِ المنادي: حجٌّ مبرورٌ ومتعةٌ. وفي لفظ: وعُمرةٌ متقبلة (¬2). (فقال) ابنُ عبّاس -رضي اللَّه عنهما- ([اللَّهُ أَكْبَرُ]) متعجِّبًا من الرؤيا، ومُعْجَبًا بها؛ لموافقتها للسنَّة. وقوله: هذه (سنة أبي القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم-)؛ أي: طريقته، واستأنس بالرؤيا لما قام به الدّليل الشّرعي؛ فإنّ الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، كما في "الصحيح" (¬3). ويجوز نصب "سنّة"، وهي رواية غير أبي ذر من رواة البخاري. قال بعض الشّراح: بتقدير: وافقتَ، أو أتيتَ. قال الزركشي: على الاختصاص، (¬4) واعترضه الدّماميني بأنّه لا وجهَ لجعل هذا من الاختصاص (¬5). وفي لفظ لمسلم: عن أبي جمرة الضّبعي، قال: تمتّعت، فنهاني ناسٌ عن ذلك، فأتيت ابنَ عبّاس، فسألته عن ذلك، فأمرني بها. قال: ثمّ انطلقتُ إلى البيتِ فنمتُ، فأتاني آتٍ في منامي، فقال: عمرةٌ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1492). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1492). (¬3) رواه البخاري (6582)، كتاب: التعبير، باب: رؤيا الصالحين، ومسلم (2264)، في أول كتاب: الرؤيا، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 22). (¬4) انظر: "التنقيح" للزركشي (1/ 281). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 134).

مُتَقَبَّلَةٌ وحجٌّ مبرورٌ، فأتيت ابنَ عبّاس، فأخبرته بالذي رأيت، فقال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، سنّة أبي القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). زاد البخاري فقال: أقمْ عندي وأجعل لك سهمًا من مالي. قال شعبة: فقلت: لم؟ قال: للرؤيا التي رأيت (¬2). واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1242). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1492).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ، وَأَهْدَى، فَسَاقَ مَعَهُ الهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَهَلَّ بِالعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، فَسَاقَ الهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ لِلنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ من شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ، وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالحَجِّ، وَلْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ". وطَافَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَيْءٍ، ثُمَّ خَبَّ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، وَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ وانْصَرَفَ، فَأَتَى الصَّفَا، فَطَافَ بِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَفَاضَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الهَدْيَ مِنَ النَّاسِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1606)، كتاب: الحج، باب: من ساق البدن معه، ومسلم (1227)، كتاب: الحج، باب: وجوب الدم على المتمتع، =

(عن) أبي عبدِ الرّحمنِ (عبدِ اللَّه بنِ) أميرِ المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطّاب (-رضي اللَّه عنهما-، قال: تمتع رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حجّة الوداع بالعمرة إلى الحجّ)، التّمتُّع بلغةِ القرآنِ الكريم، وعُرفِ الصّحابة أعمُّ من القِران، كما ذكر غيرُ واحد. وإذا كان أعمَّ منه، احتمل أن يُراد به: الفردُ المسمَّى بالقِران في الاصطلاح الحادث، وأن يراد به: المخصوصُ باسم التّمتُّع في ذلك الاصطلاح. لكن يبقى النظر في أنَّه أعمُّ في عُرْفِ الصّحابة [أم لا] (¬1). قال في "مختصر الفتاوى المصرية": من روى عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنَّه تمتَّعَ؛ فإنه فَسَّرَ التَّمتُّع بأنّه قرنَ بينَ الحجّ والعُمرة، وهو تمتُّع يجبُ فيه هَدْيُ التَّمتُّع. ومن روى: أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أفردَ الحجَّ، فإنّه فسّره بأنّه لم يعملْ غيرَ أعمالِ الحجّ، ولم يحلَّ من إحرامِه كما يحلُّ المتمتّعُ (¬2). ¬

_ = وأبو داود (1805)، كتاب: المناسك، باب: في الإقران، والنسائي (2732)، كتاب: الحج، باب: التمتع. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 302)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 352)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 208)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 52)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1016)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 539)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 31)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 214)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 42). (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 214). (¬2) وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 492).

وقال في "الفروع ": أمّا حجّةُ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فاختُلف فيها بحسب المذاهب، حتّى اختلف كلام القاضي وغيره -يعني: من علمائنا- هل حلّ من عمرته؟ وفيه وجهان؛ والأظهر: قولُ سيدِنا الإمامِ أحمدَ -رضي اللَّه عنه-: لا أشكُّ أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان قارِنًا، والمتعةُ أحبُّ إليَّ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وعليهِ متقدّمو أصحابه، وهو باتفاق علماء الحديث (¬1). وفي "الصّحيحين": عن سعيد بن المسيب، قال: اجتمع عليٌّ، وعثمانُ -رضي اللَّه عنهما- بعُسفانَ، فكان عثمانُ ينهى عن المتعة، فقال عليٌّ -رضي اللَّه عنه-: ما تريدُ إلى أمر فعلَه النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تنهى عنه؟! فقال عثمان: دَعْنا منكَ، فقال: إنّي لا أستطيعُ أن أدعَكَ، فلمّا رأى عليٌّ ذلك، أَهَلَّ بهما جميعًا (¬2). فهذا ممّا يبيِّنُ أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان قارِنًا. ويفيد أيضًا: أنَّ الجمعَ بينَهما تمتُّع؛ فإنّ عثمانَ -رضي اللَّه عنه- كان ينهى عن المتعة، وقصدَ عليٌّ -رضي اللَّه عنه- إظهارَ مخالفتِه؛ تقريرًا لما فعلَه النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقرنَ، وإنّما تكون مخالفة إذا كانت المتعة التي نهى عنها عثمان. وتضمَّنَ قولُ عليٍّ وعثمان على اتّفاقهما أنَّ القران من مُسمَّى التّمتّع، ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 224). (¬2) رواه البخاري (1494)، كتاب: الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج، ومسلم (1223)، كتاب: الحج، باب: جواز التمتع، واللفظ له.

وحينئذ، فيُحمل قولُ ابنِ عمرَ -رضي اللَّه عنهما-: تمتَّعَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: على التَّمتُّع الذي نُسميه قِرانًا؛ بدليل ما في مسلم: عن ابن عمرَ -رضي اللَّه عنهما-: أنَّه قرنَ الحجَّ مع العُمرة، فطاف لهما طوافًا واحدًا، ثمّ قال: هكذا فعلَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). فظهر أنَّ مرادَه بلفظ المتعة في هذا الحديث: القِرانُ (¬2). (وأهدى) -صلى اللَّه عليه وسلم- للبيت تعظيمًا له، (فساق معه الهديَ)، وكان أربعًا وستين بَدَنَةً (من ذي الحُلَيْفَة) ميقاتِ أهلِ المدينة، (وبدأ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأهلَّ)؛ أي: رفع صوته في أثناء الإحرام (بالعُمرة) أوّلًا، (ثمّ أهلّ)؛ أي: لَبَّى (بالحجِّ)، وهذا نصٌّ في الإهلال بهما. وقدّم لفظ الإهلال بالعمرة على لفظ الإحرام بالحج. (فتمتع النّاس) في آخر الأمر (مع النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعُمرة إلى الحجّ). قال ابن دقيق العيد: حمل على التَّمتُّعِ اللغويِّ، فإنّهم لم يكونوا متمتِّعين بمعنى التَّمتُّع المشهور؛ فإنهم لم يُحرِموا بالعُمرة ابتداء، وإنما تمتَّعوا بفسخ الحجّ إلى العمرة، على ما جاء في الأحاديث، (¬3). كما يأتي تقريره -إن شاء اللَّه تعالى-. (فكان من النّاس من أهدى، فساق معه الهديَ من ذي الحليفة، ومنهم من لم يُهْدِ، فلمّا قدم النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-) مكّةَ المشرفةَ، (قال للناس). وفي رواية عائشة -رضي اللَّه عنها- ما يقتضي أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لهم ذلك بعدَ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1230)، كتاب: الحج، باب: بيان جواز التحلل بالإحصار وجواز القران. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 214 - 215). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 54).

أن أهلُّوا بذي الحليفة، لكن الذي تدلّ عليه الأحاديث في "الصّحيحين"، وغيرِهما، من رواية عائشةَ وجابرٍ، وغيرِهما: أنَّه إنّما قال ذلك لهم في منتهى سفرِهم ودُنُوِّهم من مكّة، وهم بِسَرِف؛ كما في حديث عائشة (¬1). أو بعد طوافه؛ كما في حديث جابر (¬2). ويحتمل تكرارُ الأمر بذلك في الموضعين، وأنّ العزيمة كانت أخيرًا حينَ أمرَهم بفسخ الحجّ إلى العمرة (¬3). (مَنْ كان منكُم أَهدى، فإنّه لا يحلُّ من شيء)، وفي لفظ: "لشيء" (¬4) باللام بدل "من". (حَرُمَ منهُ)؛ أي: من أفعاله، وهو -بفتح الحاء المهملة وضمّ الرّاء-؛ أي: امتنعَ منه بإحرامه (حتّى يقضيَ حَجَّهُ) إن كان حاجًّا، فإن كان معتمرًا، فكذلك، ويُدخِلُ الحجَّ على العمرة، لما في الحديث: "ومن أحرمَ بعمرةٍ، وأَهْدَى، فلا يحلّ حتّى ينحرَ هَدْيَه" (¬5)، (ومن لم يكنْ منكم أهدَى، فلْيَطُفْ بالبيتِ) سبعًا، (و) لْيَسعَ (بالصّفا)؛ أي: ما بين الصفا (والمروة) سبعًا، (وليقصّر) من جميع شعر رأسه. وإنّما لم يقلْ: وليحلقْ -وإن كانَ أفضل-، لأنّ التّقصيرَ هنا أفضلُ؛ ليوفِّرَ شعرَهُ، فيحلقَه في الحجّ؛ فإنَّ الحلقَ في التحلُّل من الحجّ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1485)، كتاب: الحج، باب: قول اللَّه تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، ومسلم (1211)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. (¬2) سيأتي تخريجه في أول باب: فسخ الحج إلى العمرة. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 215). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1606). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1211) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.

أفضلُ (¬1)، (ولْيَحْلِلْ) -بتسكين اللام الأولى والثالثة وكسر ما قبل الأخيرة وفتح التحتيّة-: أمر معناه الخبرُ؛ أي: صار حلالًا، فله فعلُ ما كان محظورًا عليه في الإحرام. ويحتمل أن يكون إذنًا؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، والمراد: فسخُ الحجّ عمرةً، وإتمامُها حتّى يحلّ منها. وفيه دليل: على أن الحلقَ أو التقصيرَ نسكٌ، وهو الصحيح (¬2). (ثُمَّ لْيُهِلَّ بالحجِّ)؛ أي: وقتَ خروجه إلى عرفات، لا أنَّه يهلُّ عقبَ تحليلِ العمرة، ولذا قال: "ثمّ ليهلّ"، فعبّر بـ"ثمّ" المقتضية للتّراخي والمُهْلَة (¬3). (وَلْيُهْدِ) هَدْيًا، وهو دم المتعة، وهو دم نسك عند الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-. ومن ثمّ سمّاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هَدْيًا، وهو ممّا وَسَّعَ اللَّهُ به على المسلمين، فأباح لهم التحلُّلَ في أثناء الإحرام والهدي؛ لما في استمرار الإحرامِ من المشقة، فهو بمنزلة القَصْرِ في السفر، والفطر، والمسح، فهو أفضل. ولأجل ذلك سُنَّ له الأكلُ منه -كما يأتي-. (فَمَنْ لم يجدْ هَدْيًا) بأنْ عدم وجوده، أو ثمنه، أو زاد على ثمن المثل، أو كان صاحبه لا يريد بيعَه (¬4)، (فليصمْ ثلاثةَ أيامٍ في الحجّ)، والأَوْلى: بعدَ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 54). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 215). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الإحرام به، وأن يكون آخرُها يومَ عرفة؛ وفاقًا لأبي حنيفة. وعنه: يوم التّروية؛ وفاقًا لمالكٍ، والشافعيِّ (¬1). وله تقديمُ الصّيام قبلَ إحرامه بالحجّ بعدَ أن يُحرم بالعمرة، لا قبلَه، فإن لم يصم الثلاثة أيام قبل يوم النحر، صام أيامَ مِنًى، ولا دمَ عليه، فإن لم يصمها فيها -ولو لعذر-، صامَ بعدَ ذلك عشرةَ أيام، وعليه دمٌ. وكذا إن أَخَّرَ الهديَ عن أيام النحر لغير عذر؛ كما في "الإقناع" (¬2)، وغيره. (وسبعةً إذا رجعَ إلى أهله)؛ يعني: إذا فَرَغَ من أعمال الحجّ، فلا يصحُّ صومُها بعد إحرامه بالحج قبلَ فراغه، ولا في أيام مِنًى؛ لبقاء أعمالٍ من الحجّ، ولا بعدَها قبلَ طوافِ الزيارة، فأمّا بعده، فيصح؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك. لكن الاختيار: إذا رجعَ إلى أهله ببلده، أو بمكانٍ يستوطنه. وعند الشّافعية: لا يصحُّ صومُها قبلَ رجوعه إلى بلده، أو مكانٍ يستوطن به؛ كمكّة، فلا يجوز صومُها في توجُّهه إلى أهله. قالوا: لأنه أداء للعبادة البدنية على وقتها (¬3). ولا يجب تتابعٌ، ولا تفريق في صوم الثلاثة، ولا السبعة، ولا بين ذلك (¬4). (وطاف رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-) طوافَ القدوم (حين قَدِمَ مكّةَ) المشرفةَ، ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 236 - 237). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 592 - 593). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 238). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 593).

(واستلمَ)، أي: مسح (الركنَ) الأسودَ حالَ كونه (أولَ شيء)؛ أي: مبدوءًا به. (ثمّ) بعد استلامه للحجر الأسود (خَبّ) -بفتح الخاء المعجمة وتشديد الموحّدة-، أي: رَمَلَ (ثلاثةَ أطوافٍ من السَّبْعِ، ومشى أربعةً). وفي لفظ: أربعًا؛ أي: من الطّوفات (¬1). (وركع) -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ أي: صلّى (حينَ قضى)؛ أي: بعدَ أن فرغَ من تأدية (طوافه بالبيت) العتيق سبعًا (عندَ المقام) متعلّق بـ"ركع"؛ يعني: مقام إبراهيم -عليه السلام- (ركعتين) للطَّواف. قال الإمام الحافظ ابن الجوزيّ: إذا قضى الطّائفُ طوافَه، صَلَّى ركعتين، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، والثانية بعدها بالإخلاص، والأفضلُ أن تكون خلفَ المقام. قال سعيد بن جبير: مقام إبراهيم: الحجر (¬2). وفي سبب وقوفه عليه قولان: أحدهما: أنَّه جاء يطلب ابنَه إسماعيلَ، فلم يجدْه، فقالت له زوجتُه: انزل، فأبى، فقالت: فدعني أغسل رأسَكَ، فأتته بحَجَر، فوضع رِجْلَه عليه وهو راكبٌ، فغسلَتْ شِقَّهُ، ثمّ رفعته وقد غابتْ رجلُه فيه، فوضعته تحت الشّق الآخرِ، وغسلته، فغابت رجلُه فيه، فجعله اللَّه تعالى من الشّعائر. هذا مرويٌّ عن ابن مسعود، وابن عبّاسٍ -رضي اللَّه عنهم- (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 215). (¬2) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 226). (¬3) وانظر: "تفسير الطبري" (1/ 537).

والثّاني: أنَّه أقامَ على ذلك الحجر لبناء البيت، وكان إسماعيلُ يُناوله الحجارةَ، قاله سعيد بن جبير. وفي "الصحيحين" من حديث عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: أنَّه قال: قلتُ: يا رسول اللَّه! لو اتَّخَذْنا من مقامِ إبراهيم مُصَلًّى، فنزلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬1) [البقرة: 125]. قال ابن الجوزي -رحمه اللَّه تعالى-: قال محمدُ بنُ سعد عن أشياخ له: إن عمرَ بنَ الخطاب أَخَّر المَقامَ إلى موضعِه اليوم، وكان مُلْصَقًا بالبيت. وقال بعضُ سَدَنةِ البيت: ذهبنا نرفعُ المقام في خلافة المهديّ، فانثلم، وهو من حجر رخو، فخشينا أن يتفتَّتَ، فكتبنا في ذلك إلى المهديّ، فبعث إلينا بألفِ دينار، فضَبَّبْنا بها المقامَ أسفلَه وأعلاه، ثمّ أمر المتوكّلُ أن يجعل عليه ذهب، أحسن من ذلك العمل، ففعلوا ذلك (¬2). وقدرُ المقام ذراعٌ، والقدمانِ داخلان فيه سبعَ أصابعَ (¬3). فائدة: ذكر الحافظ ابنُ الجوزي في "مثير العزم السّاكن" عن عبد العزيز بن أبي رواد: أنَّه كان خلفَ المقام جالسًا، فسمع داعيًا دعا بأربع كلمات؛ فعجبَ منهنَّ، وحَفِظَهنَّ، فالتفت، فما رأى أحدًا: اللهمَّ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (393)، كتاب: القبلة، باب: ما جاء في القبلة، من حديث أنس بن مالك، عن عمر -رضي اللَّه عنهما-، واللفظ له. ورواه مسلم (2399)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر -رضي اللَّه عنه-، من حديث ابن عمر، عن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬2) انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (2/ 36). (¬3) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 172 - 173).

فَرِّغْني لما خَلَقْتني له، ولا تَشْغَلْني بما تكفَّلْتَ لي به، ولا تحرِمْني وأنا أسألُكَ، ولا تعذّبني وأنا أَستغفرُك (¬1). (ثمَّ سلَّمَ) رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الرّكعتين، (وانصرف) من هنالك، (فأتى) عقبَ ذلك (الصّفا) -بالقصر-، وهو في الأصل: الحجارةُ الصُّلبة، واحدتُها صَفاةٌ؛ كحَصاة وحَصًى (¬2)، وهو هنا اسمُ المكان المعروف عند باب المسجد الحرام. وذكر الحافظ ابن الجوزي في "مثير العزم السّاكن" عن ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما-: أن رجلًا سأله عن الصفا والمروة: لم سُمِّيَا بذلك؟ فقال: لأن آدمَ لمّا حجَّ، رقِيَ على الصَّفا رافعًا يديه إلى اللَّه تعالى ليقبلَ توبتَه، وقد أصفاها، وقامت امرأتُه حوّاءُ على المروة ليقبلَ توبتها (¬3). (فطاف) النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ أي: سعى مبتدئًا (بالصَّفا، و) خاتمًا بـ (المروةِ)، وهي بالأصل: الحجارةُ الليِّنَة (¬4). قال الجوهري: المَرْوَةُ: الحجارةُ البيضُ البرّاقةُ، تُقدح منها النار، وبها سميّت المروة بمكّة (¬5)، وهي المكان الذي في طواف المسعى. وقال أبو عبيد البكريّ: المروةُ: جبل لمكّةَ معروف، والصّفا: جبلٌ آخرُ بإزائه، وبينهما قديد ينحرف عنهما شيئًا، والمُشَكَّل: هو الجبل الذي ¬

_ (¬1) رواه ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" (ص: 173)، من طريق ابن أبي الدنيا في "الهواتف" (ص: 55). (¬2) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 174). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه، و"غريب الحديث" لابن الجوزي أيضًا (2/ 353). (¬5) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2491)، (مادة: مرا).

ينحدر منه إلى قُديد، وعلى المُشكَّل كانت [مناة] (¬1). وفي "النّهاية": مروةُ: المسعى التي تُذْكَر مع الصّفا، وهي أحد رأسيه اللذين ينتهي السّعي إليهما (¬2). (سبعةَ أطواف) يحتسب بالذّهاب سعيةً، وبالرّجوع سعيةً، فإن بدأ بالمروة، لم يحتسب بذلك الشوط. ولابدّ من استيعاب ما بينهما، وذلك إذا ألصقَ عقبَ رِجْليه بأسفلِ الصَّفا، وأصابعَهما بأسفلِ المروة (¬3). (ثمّ لم يَحْلِلْ) -صلى اللَّه عليه وسلم- (من شيء حَرُم منه حتّى قضى حجّه) بالوقوف بعرفاتٍ ورَمْيِ الجمرات. وإنّما لم يقل: وعمرتَه؛ لأنها اندرجت في الحجّ، فدخلت أفعالها مندرجة في أفعاله؛ كالطهارة الصغرى مع الطهارة الكبرى. (و) حتى (نحرَ هديَه) الذي ساقه معه من المدينة (يومَ النَّحْر، وأفاض)؛ أي: دفع نفسَه أو راحلته بعد الإتيان بما ذُكر إلى المسجد الحرام؛ لقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. (فطاف) النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (بالبيت، ثمّ حل) -صلى اللَّه عليه وسلم- (من كل شيء حَرمَ منه)؛ أي: حصلَ له الحِلُّ. قال ابنُ عمرَ -رضي اللَّه عنهما-: (وفعل مثلما فعلَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-)؛ ¬

_ (¬1) في الأصل: "نائلة". وانظر: "معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (4/ 1217). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 343). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 15).

أي: مثلَ ما فعلَه، فـ"ما" مصدريّة، وفاعل فعلَ قولُه: (مَنْ أَهْدَى)؛ أي: ممن كان معه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (فساقَ الهديَ مِنَ النّاسِ)، و"من" للتبعيض؛ لأنّ مَنْ كان معه الهديُ بعضُهم، لا كلُّهم (¬1). وفي "البخاري": وعن عروة -يعني: ابنَ الزّبير-: أنّ عائشةَ -رضي اللَّه عنها- أخبرته عن النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في تمتُّعه بالعمرة إلى الحجّ لتمتُّع النّاس معه، بمثل الذي أخبرني سالم؛ يعني: ابنَ عبدِ اللَّه بنِ عمر، عن ابنِ عمرَ -رضي اللَّه عنهم-، عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). تنبيهات: الأول: اختلف العلماء في إحرام النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، هل كان مفردًا، أو قارنًا، أو متمتّعًا، أو أحرم مطلقًا؟ واضطربت عليهم الأحاديث: قال في "مختصر الفتاوى المصريّة": وهي -يعني: الأحاديث- بحمد اللَّه تعالى متّفقة لمن فهم مرادهم. قال: والمنصوصُ عن الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: أنّه كان -صلى اللَّه عليه وسلم- قارِنًا -كما قدّمنا-، وهو قول إسحاقَ بنِ راهويه وغيرِه من حُذَّاقِ أئمةِ الحديث. قال ابن تيمية -قدس اللَّه روحه-: وهو الصواب. قال: وأوّلُ منِ ادّعى أنَّه كان متمتّعًا التَّمتُّعَ الخاصَّ: القاضي أبو يعلى، وهو أحد أركان علماء مذهب الإمام أحمد. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 216). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1606). وكذا هو عند مسلم برقم (1228/ 175)، كتاب: الحج، باب: وجوب الدم على المتمتع.

قال ابن تيمية: ثمّ الذين قالوا: إنّه كان متمتّعًا، على قولين: أضعفهما: أنّه حلَّ من إحرامه مع سَوْقه الهديَ، وحملوا أن المتعة كانت لهم خاصة؛ لأنّهم حلّوا من الإحرام مع سوقهم الهديَ، وهذه طريقة القاضي. قال: وهي منكرة عند الجماهير. والقول الثاني: أنّ تمتَّع؛ بمعنى: أحرمَ بالعمرة، ولم يحلَّ؛ لسوقه الهدي، وأحرم بالحجّ بعد أن طاف وسعى للعمرة، وهي طريقة الشيخ أبي محمّد -يعني: الإمام الموفّق-، وقد يسمون هذا: قارنًا. وأمّا الإمام الشّافعي -رضي اللَّه عنه-، فقال تارة: إنَّه أفردَ، وتارةً: تمتّع، وأخرى: إنَّه أحرم مطلقًا، وأخذ بقول من نوى الإفراد، كعائشة؛ لكونها أحفظَ، وجابر، هكذا قال، وظن أن الأحاديث فيها ما يخالف بعضها بعضًا. قال الشّافعي: فإن قال قائل: فمن أين أثبت حديث عائشة وجابر وابن عمر دون ما قررت؟ قيل: لتقدُّم صحبة جابرٍ، وحسنِ سياقه، ولفضلِ حفظِ عائشة، ولقربِ ابنِ عمرَ منه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قلت: والصوابُ: أن الأحاديث متّفقة إلا شيئًا يسيرًا يقع مثلُه في غير ذلك، فقد كان عثمانُ ينهى عن المتعة، وكان عليّ يأمر بها، فقال عليّ: لقد علمتَ أننا تمتَّعنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: أجل، ولكنّا كنّا خائفين (¬1). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري، ومسلم، وهذا لفظ مسلم.

فقد اتفق عثمانُ وعليٌّ -رضي اللَّه عنهما- على أنّهم تمتَّعوا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو في "الصّحيح"، وقول عثمان: كنّا خائفين، فإنما كانوا خائفين في عُمرة القضية، وكانوا قد اعتمروا في أشهر الحجّ مطلقًا؛ ففي "الصّحيح": أن سيّدنا سعدَ بنَ أبي وقاص، لمّا بلغه أنَّ معاويةَ نهى عن المتعة، فقال: فعلناها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا كافرٌ بالعرش -يعني: معاوية-، (¬1) ومعلوم أنَّ معاويةَ كان مسلمًا في حجة الوداع، بل وفي عمرة الجعرانةِ عامَ الفتح، ولكن في عمرة القضيّة كان كافرًا بعرش مكّة، فقد سمّى سعدٌ عمرةَ القضيّة عمرةَ الجعرانة، وكانوا خائفين أيضًا عامَ الفتح، أمّا عامَ حجّة الوداع، فكانوا آمِنين؛ ولهذا قالوا: صلّينا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمنًى آمنَ ما كان النّاس ركعتين (¬2)، فلعلّه قد اشتبهَ حالُهم هذا العام، فاشتبه على مَنْ روى بأنه نهى عن متعة النساء في حجّة الوداع، وإنّما كان النّهيُ في عام الفتح، وكما يظنّ بعضُهم أن النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل الكعبةَ في حجّة أو عمرة، وإنّما دخلَ عامَ الفتح، ولم ينقل أحدٌ أنّه دخلَها في حجّةٍ ولا عمرةٍ. أو يكون مرادُ عثمان: أنّ غالبَ الأرض كانوا كفارًا مخالفين لنا، والآنَ قد فُتحت الأرض، فيتمكّن الإنسانُ أن يذهبَ إلى مِصرِه ثمّ يرجعَ بعمرة، وهذا لم يكن هكذا في حجّة الوداع لمن كان بها مجاورَ العدو بالشام والعراق ومصر. وفي "الصّحيحين": عن مُطَرِّفِ بنِ الشِّخِّير، قال: قال عِمرانُ بنُ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1225)، كتاب: الحج، باب: جواز التمتع. (¬2) رواه البخاري (1033)، كتاب: تقصير الصلاة، باب: الصلاة بمنى، ومسلم (696)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: قصر الصلاة بمنى، عن حارثهَ بن وهب -رضي اللَّه عنه-.

حُصين: أُحدثك حديثًا لعلَّ اللَّهَ أن ينفعكَ به: إنَّ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جمع بين حجه وعمرته، ثمّ إنّه لم ينهَ عنه حتّى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرِّمه (¬1). وفي رواية: تمتَّعَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتمتَّعنا معه (¬2). فهذا عمرانُ من أَجَلِّ السّابقين الأوّلين، أخبرَ أنّه تمتَّع، وأنّه جمع. وفي "مسلم" عن [غنيم] (¬3) بن قيس، قال: سألتُ سعدَ بنَ أبي وقاص عن المتعة في الحجّ، فقال: فعلناها، وهذا كافر بالعرش -يعني: معاوية- (¬4)، وهو إنّما كان كافرًا في عُمرة القضية. وكان الشّاميون ينهَوْنَ عن الاعتمار في أشهر الحجّ، فصار الصَّحابة يروون السّنة في ذلك ردًّا على مَنْ نهى عن ذلك، فالقارِنُ عندهم مُتمتّعٌ؛ ولهذا وجبَ عليه الهديُ، ودخل في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]. وفي "البخاري"، وغيرِه: عن عمرَ بنِ الخطاب، قال: سمعتُ النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بوادي العقيق يقولُ: "أتاني الليلةَ آتٍ من ربّي -عزّ وجل-، فقال: صَلِّ في هذا الوادي المبارَكِ، وقُلْ: عُمْرَة في حَجَّةٍ" (¬5)، وفي رواية: "وقل: عُمرةٌ وحَجَّةٌ" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4246)، كتاب: التفسير، باب: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، ومسلم (1226/ 167)، كتاب: الحج، باب: جواز التمتع. (¬2) رواه مسلم (1226/ 171)، كتاب: الحج، باب: جواز التمتع. (¬3) في الأصل: "عثمان"، والصواب ما أثبت. (¬4) تقدم تخريجه قريبًا. (¬5) رواه البخاري (1461)، كتاب: الحج، باب: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "العقيق واد مبارك". (¬6) رواه البخاري (6911)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما ذكر =

وفي "الصّحيحين": عن أنس -رضي اللَّه عنه-، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُلَبِّي بالحجِّ والعمرةِ. قال بكر: فحدّثتُ ابنَ عمر، فقال: لَبَّى بالحجِّ وحدَه، فلقيتُ أنسًا، فحدّثُته، فقال أنس: ما يَعُدُّونا إلّا صِبيانًا، سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يلبّي بالحجّ والعمرةِ جميعًا (¬1). وقد روى سالم، وهو من أوثق الناس، وثقاتِ أصحابِ ابن عمر: أن ابن عمر قال: تمتّع رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعمرة والحجِّ، وهم أثبتُ عن ابنِ عمرَ من بكرٍ، وغلطُ بكرٍ أولى من غلطِ سالمٍ ابنهِ عنه. قال ابن تيمية عن حديث ابنِ عمر الذي تقدّم: أنّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تمتَّع في حجَّةِ الوداع بالعمرة إلى الحجّ: هذا من أصحِّ حديث على وجه الأرض. وثبت عن عائشة -رضي اللَّه عنها- في "الصحيحين"، وغيرهما: أنّه -صلى اللَّه عليه وسلم- اعتمرَ أربَع عُمَرٍ: عمرةَ الحديبية، وعمرةَ القضَّية، وعمرة الجعرانة، [و] الرّابعة مع حجّه (¬2). ولم يعتمرْ بعدَ حجّه باتّفاق المسلمين؛ فتعيّن أن يكون تمتُّعَ قِرانٍ. وأمّا الذين نقلوا أنّه أفردَ، فثلاثةٌ: عائشةُ، وابنُ عمر، وجابر -رضي اللَّه عنهم-، والثّلاثة نُقل عنهم التّمتُّع. ¬

_ = النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وحضَّ على اتفاق أهل العلم. (¬1) رواه مسلم (1232)، كتاب: الحج، باب: في الإفراد والقران بالحج والعمرة. والحديث من أفراد مسلم عن البخاري. (¬2) رواه البخاري (1685)، كتاب: العمرة، باب: كم اعتمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ومسلم (1255)، كتاب: الحج، باب: بيان عدد عُمَر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وزمانهن.

وحديث عائشةَ، وابنِ عمر: أنه تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، أصحُّ من حديثهما: أنَّه أفردَ، وما صحَّ من ذلك عنهما، فمعناه: إفرادُ أعمالِ الحجّ. وفي "الصّحيحين": أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرَ أزواجَه أن يَحْلِلْنَ عامَ حجةِ الوداع. قالت حفصة: فما يمنعُكَ أن تحلّ؟ قال: "إنّي لَبَّدْتُ رَأْسي، وَقلَّدْت هَدْيي، فَلا أَحِلُّ حَتَى أَنْحَرَ" (¬1). وفي حديث عائشةَ وابن عمرَ المتقدّمِ: فطافَ بالصّفا والمروة، ثمّ لم يَحْلِلْ من شيء حَرُمَ منه حتّى قَضَى حَجَّهُ، ونَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْر، وأفاضَ فطافَ بالبيتِ، ثمّ حَلَّ من كلِّ شيء، فكلّ هذا يدلّ على أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان معتمرًا، وليس فيه: أنَّه لم يكنْ مع العمرةِ حاجًّا. فقد تبيّن أن الرواياتِ الكثيرةَ الثّابتةَ عن ابن عمرَ وعائشةَ توافق ما فعله سائر الصَّحابة -رضي اللَّه عنهم-: أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان متمتِّعًا التّمتُّعَ العام، وأما ما جاء: أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحرم مطلقًا، فاحتجّ بحديث مرسَل، فلا يعارِضُ هذه الأحاديثَ الثّابتةَ، فظهر؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أن من قال: أفرد الحجّ، وأراد أنَّه اعتمر بعدَ حجّه؛ كما يظنّ بعض المتفقهة، فهو مخطىء، وأما [من] (¬2) قال: أفرد الحجَّ بمعنى: أنه لم يأتِ مع حجة بعمرة، فقد اعتقده بعض العلماء، وهو غلط؛ لاتفاقهم أنَّه اعتمر أربعَ عمر، الرابعة مع حجّه. ومن قال: إنَّه تمتّع؛ بمعنى: أنَّه لم يحرم بالحج حتّى طافَ وسعَى، فقوله أيضًا غلطٌ. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في حديث الباب هذا. (¬2) في الأصل: "إن"، والصواب ما أثبت.

ومن قال: تمتّع بأنه حلّ من إحرامه، فهو مخطىء باتفاق العلماء العارفين بالأحاديث. ومن قال: إنَّه قَرَنَ؛ بمعنى: أنَّه طافَ طَوافين، وسعى سَعْيين، فقد غلط، ولم ينقل ذلك أحدٌ من الصَّحابة عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكأنّ هذا وقع ممّن دون الصّحابة ممّن لم يفهم كلامَهم، وأمّا الصَّحابةُ، فَنُقولُهم متفقة (¬1). الثاني: اختلف الفقهاء في القارن، هل يطوفُ طوافين، ويسعى سَعْيين، أم يكفيه طوافٌ واحدٌ وسعيٌ واحد؟ فمذهب الثلاثة: يكفيه طوافٌ واحد وسعيٌ واحد، وعملُ العمرة دخل في الحجّ كما يدخل الوضوء في الغسل. ومذهب أبي حنيفة: أنَّه يطوف طوافين، ويسعى سعيين، يطوف ويسعى للعمرة أولًا، ثمّ يطوف ويسعى للحج ثانيًا، وإذا فعل محظورًا، فعليه فديتان. وقد روي مثل هذا عن علي، وابن مسعود -رضي اللَّه عنهما-. والأحاديثُ الصّحيحة تبيّن أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يطف ولم يسعَ إلّا طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا، كما في "الصحيحين" عن عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: خرجنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "مَنْ كانَ مَعَهُ هَدْي، فَلْيُهِلَّ بالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ، ثمّ لا يحلُّ [حتى يحلَّ] مِنْهُما جَميعًا". وقالت فيه: فطاف الذين كانوا أَهَلُّوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، [ثم حلُّوا]، ثمّ طافوا طوافًا آخر بعدَ أن رجعوا من مِنًى لحجّهم، ¬

_ (¬1) وانظر: فيما نقله الشارح -رحمه اللَّه- من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-: "مجموع الفتاوى" (26/ 62 - 75).

وأمّا الذين جمعوا الحجَّ والعمرةَ، فإنما طافوا طوافًا واحدًا (¬1). وفي "مسلم" عنها: أنَّه قال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَسَعُكِ طَوافُك لحجّكِ وعُمْرَتكِ"، فأبت، فبعثها مع عبد الرحمن -يعني: أخاها- إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحجّ (¬2). وفي "الصّحيحين"، و"السّنن": أنَّه قال -صلى اللَّه عليه وسلم- لها: "يَسَعُكِ لَحِجِّكِ وعُمْرَتِكِ"، (¬3) "يَكفيكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وعُمْرَتِكِ"، (¬4) و"قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وعُمْرَتكِ جَميعًا"، قالت: يا رسول اللَّه! إنّي أجدُ في نفسي أنّي لم أطف بالبيت حين حججتُ، قال: "فاذهبْ بها يا عبدَ الرَّحْمَنِ فأَعْمِرْها مِنَ التَّنْعِيمِ" (¬5). فقد أخبرت أنَّ الذين قَرَنوا لم يطوفوا بالبيت وبين الصّفا والمروة إلّا الطوافَ الأوّلَ الذي طافَه المتمتِّعون أولًا، وقال لها: "يسعكِ طوافُكِ لحجّكِ وعُمْرَتِكِ"، فدلّ أنها كانت قارنة، وأنه يجزئها طواف واحدٌ وسعيٌ واحد؛ كالمفرِد، لاسيما وهي لم تطفْ أوّلًا طوافَ قدوم، بل لم تطفْ إلّا بعد التعريف، وسعت مع ذلك. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1481)، كتاب: الحج، باب: كيف تهل الحائض والنفساء؟ ومسلم (1211/ 111)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. (¬2) رواه مسلم (1211/ 132)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. (¬3) رواه أبو داود (1897)، كتاب: المناسك، باب: طواف القارن. (¬4) رواه البخاري (1446)، كتاب: الحج، باب: الحج على الرحل، ومسلم (1213)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، وأبو داود (1785)، كتاب: المناسك، باب: في إفراد الحج. (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1218)، من حديث جابر -رضي اللَّه عنه- بلفظ: "دخلت العمرة في الحج" مرتين "لا، بل لأبد أبد".

فإذا كان طوافُ الإفاضة والسّعيُ بعدَه يكفي القارنَ، فلا يكفيه طوافُ القدوم مع طواف الإفاضة، وسعى واحدٌ مع أحدهما بالأولى. وقد صحّ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إِلى يومِ القيامَةِ"، فإذا دخلت، لم تحتج إلى عملٍ زائد (¬1). الثّالث: يلزم المتمتعَ دم بالإجماع، وهو دم نُسك لا جُبرانٍ. قال الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: إذا دخلَ بعمرة، يكون قد جمع اللَّه له عمرةً وحجةً ودمًا. قال في "الفروع": هو دمُ نسكٍ لا جُبرانٍ، وإلا، لَما أُبيح له التّمتُّع بلا عذر؛ لعدمِ جواز إحرامٍ ناقصٍ يحتاج أن يجبره بدم. فإن قيل: لو كان دمَ نسك، لم يدخله الصّومُ؛ كالهدي والأضحية، ولاستوى فيه جميعُ المناسك؟ قيل: دخول الصّوم لا يخرجه عن كونه نسكًا، ولأن الصّوم بدلٌ، والقُرَبُ يدخلُها الإبدال، واختصاصه لا يمنع من كونه نسكًا؛ كالقِران نسك، ويقتصر على طوافٍ وسعي، ولأن سبب التّمتّع من جهته كمن نذر حجة يُهدي فيها هديًا، ثمّ إنما اختصّ؛ لوجود سببه، وهو الترفُّهُ بأحد السفرين. فإن قيل: نسكٌ لا دمَ فيه أفضلُ، كالإفراد لا دم فيه. فالجواب: يردُّ عليك: تمتُّعُ المكّيِّ لا دمَ فيه، وتمتُّع غيره الذي فيه الدَّم سواء عندك، وإنّما يفضل ما لا دمَ فيه على ما فيه دم إذا كان سببُ الدمِ ¬

_ (¬1) انظر ما ذكره الشارح -رحمه اللَّه- في التنبيه الثاني: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- (26/ 76 - 78).

الجنايةَ، ولهذا إفرادٌ فيه دمُ تطُوّعٍ أفضلُ من إفرادٍ لا دمَ فيه. فإن قيل: القِرانُ مسارَعَةٌ إلى فعلِ العبادتين، فكانَ ينبغي أن يكون أفضلَ من التّمتُّع؛ للآية، وكالصّلاة أوّل وقتها. فالجواب: العبرة بمسارَعَةٍ شرعية، ولهذا تختلف الصّلاةُ أوّلَ وقتِها وآخرَه، وتؤخَّرُ لطلب الماء، ولجماعةٍ. وقد نقل المروذيُّ عن الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: أنَّ [الحجي] (¬1) إن ساقَ الهديَ، فالقِرانُ أفضلُ، ثمّ التّمتُّعُ، اختاره شيخُ الإسلام ابنُ تيمية، قال: وإن اعتمرَ وحجَّ في سفرتين، أو اعتمرَ قبلَ أشهرِ الحجّ، فالإفرادُ أفضلُ باتّفاقِ الأئمةِ الأربعة، (¬2) نصّ عليه الإمامُ أحمد في الصّورة الأولى، وذكره في "الخلاف" وغيره، وهي أفضل من الثّانية (¬3). وإنّما يلزم المتمتّعَ الدَّمُ بشروط سبعة: * أحدها: أَلَّا يكون من حاضري المسجد الحرام؛ إجماعًا، وهم أهلُ مكّة والحرَمِ، ومَنْ كان من الحرم دونَ مسافة قَصْر. فمَنْ له منزلان متأهّلٌ بهما، أحدُهما دونَ مسافة قصر، والآخرُ فوقَها، أو مثلها، لم يلزمه دمٌ (¬4). وكونُ مَنْ منزلُه دونَ مسافةِ قصرٍ من الحرمِ لم يلزمْهُ دمٌ، هو مذهبُ أحمدَ، والشافعيِّ. وقال مالك: هم أهلُ مكّة. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وليست في شيء من نسخ "الفروع" التي وقفت عليها. (¬2) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 466). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 223 - 224). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 561).

وقال أبو حنيفة: هم أهلُ المواقيت ومَنْ دونَهم إلى مكّة (¬1). وإن استوطن مَكَّةَ أفقيٌّ، فحاضِر، لا دمَ عليه، فإن دخلَها متمتِّعًا ناويًا الإقامةَ بها بعدَ فراغ نسكه، أو نواها بعدَ فراغِه منه، أو استوطن مكّيّ بلدًا بعيدًا، ثمّ عادَ إلى مكّة مُقيمًا متمتّعًا، لزمه دمٌ؛ اتفاقًا. * الثّاني: أن يعتمرَ في أشهر الحجّ، والاعتبارُ بالشّهر الذي أحرمَ فيه، لا بالذي حَلَّ فيه؛ فلو أحرم بالعمرة في رمضان، ثمّ حلّ في شوال، لم يكن متمتّعًا. وإن أحرمَ الأفقيُّ بعمرةٍ في غير أشهر الحجّ، ثمّ أقام بمكةَ، واعتمرَ من التّنعيم في أشهُرِ الحجّ، وحجَّ من عامه، فمتمتِّعٌ، نصًا، وعليه دم (¬2). * الثّالث: أن يحجَّ من عامِه؛ وفاقًا للمالكية، والشّافعية؛ لأنّ ظاهر الآية الموالاةُ، [و] لأنه أولى بعدم وجوبِ الدم عليه ممّن يعتمرُ في غير أشهُرِه، ثمّ يحجُّ من عامِه؛ لكثرة التّباعُد. * الرّابع: أَلَّا يسافر بينَ الحجّ والعمرة مسافةَ قَصْر فأكثر، فإن فعل، فأحرم، فلا دمَ، نصّ عليه الإمام أحمد. روي عن عمر -رضي اللَّه عنه-: من رجعَ، فليس بمتمتّعٍ، (¬3) وهو عامٌّ، ولأنه بالسّفر لم يترفَّهْ بتركِ أحدِ السَّفرين كمحلِّ الوفاق، ولا يلزم المفرد. وفي "الفصول"، و"المذهب"، و"المحررّ": إن أحرمَ به من الميقات، فلا دمَ. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 232). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 561). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13006).

ونصّ عليه الإمام أحمدُ؛ وفاقًا للشّافعي. وحمله القاضي على أنَّ بينه وبين مكّة مسافَةَ قصر. وقال ابن عقيل: بل هو رواية كمذهب الشّافعي. وقال أبو حينفة: إن رجع إلى أهله، فلا دم. وروي عن ابن عمر. وقال مالك: إن رجعَ إلى بلده، أو بقدره، فلا دمَ (¬1). * الخامس: أن يحلّ من العمرة قبلَ إحرامه بالحجّ، فإن أحرمَ به قبل حلّه منها، صار قارنًا. * السادس: أن يُحرم بالعمرة من الميقات، أو من مسافة قصر فأكثرَ من مكّة. ونصُّ الإمام أحمد، واختاره الموفّقُ وغيرُه: [أنَّ] هذا ليس بشرط، وهو الصّحيح؛ لأنَّا نسمّي المكّي متمتّعًا، ولو لم يسافر (¬2). وقال ابن المنذر، وابن عبد البرّ: أجمع العلماءُ على أن مَنْ أحرم بعمرة في أشهُره، وحلّ منها، وليس من حاضري المسجد الحرام، ثمّ أقام بمكة حلالًا، ثمّ حجّ من عامه: أنّه متمتّعٌ عليه دمٌ. * السابع: أن ينوي التّمتُّعَ في ابتداء العمرة، أو أثنائِها. ذكره القاضي، وتبعه الأكثر. واختار الموفّق: عدمَ اعتبار ذلك، وهو الأصحُّ للشّافعية؛ لظاهر الآية، وحصول التَّرفُّه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 232). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 562). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 233).

ولا يعتبر وقوع النُّسكين عن واحد؛ فلو اعتمر لنفسه، وحجَّ عن غيره، أو عكسه، أو فعل ذلك عن اثنين، كان عليه دمُ المتمتّعِ. ولا تُعتبر هذه الشروط في كونه متمتّعًا؛ لأنَّ المتعة تصحُّ من المكّيِّ كغيره، واللَّه أعلم (¬1). الرابع: يلزم القارنَ أيضًا دمُ نسكٍ إذا لم يكنْ من حاضري المسجد الحرام. ويلزم دمُ تمتُّع وقِرانٍ بطلوعِ فجرِ يومِ النحر، ولا يسقطان بفسادِ نسكِهما؛ وفاقًا لمالك، والشافعي، ولا بفواتِه. وإذا قضى القارن قارنًا، لزمه دَمَان؛ دمٌ لقِرانِه الأوّلِ، ودمٌ للثّاني. وإن قضى مفردًا، لم يلزمه شيء. وجزم غير واحد: بل يلزمه دمٌ لقرانه الأول؛ وفاقًا للشافعي. فإذا فرغ، أحرمَ بالعمرة من الأبعد من الميقاتين اللذين أحرمَ من أحدهما بالقِران، ومن الآخرِ بالحج؛ كمن أفسدَ حجَّه، وإلّا لزمَه دمٌ. وإن قضى متمتِّعًا، فإن تحلّلَ من العمرة، أحرمَ بالحج من أبعدِ الموضعين: الميقات الأصل، والموضع الذي أحرم منه الإحرامَ الأوّل، واللَّه أعلم (¬2). الخامس: الطّوافُ بالبيت أحدُ أركانِ الحجّ، بل هو المقصودُ بالذّات. ثمّ إن الطّواف المؤقت أربعة: طواف القدوم، وهو سنّة. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 562). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 234)، و"الإقناع" للحجاوي (1/ 562 - 563).

وطواف الوداع: وهو واجب. وطواف الإفاضة، ويسمى: طواف الصَّدَر، وطواف الزيّارة، وهو ركنُ الحجّ الأعظمُ. وطواف العمرة: وهو ركنها الأعظم. قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في "مثير العزم السّاكن": الأصل في الطّواف من حيث النّقل ما سُئل عنه عليُّ بنُ الحسين عن ابتدائه، فقال: لما قال اللَّه تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، و {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}، و {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، ظنّت الملائكة أنَّ ما قالوا ردٌّ على ربهم، فلاذُوا بالعرش، وطافوا به؛ إشفاقًا من الغضب عليهم، فوضع لهم البيت المعمور، فطافوا به، ثمّ بعث ملائكة، فقال: ابنوا لي بيتًا في الأرض بمثاله، وأمر اللَّه تعالى خلقَه أن يطوفوا به كما [يطوف] (¬1) أهلُ السماء بالبيت المعمور. وأمّا من حيث المعنى: فهو لياذ بالمخدوم، وخدمة له (¬2). السادس: السعيُ أحدُ أركانِ الحجّ، وسببُ مشروعيته سعيُ هاجرَ أُمِّ إسماعيلَ بين الصّفا والمروة، ويأتي الكلام عليه في الحديث العاشر من باب: فسخ الحجّ إلى العمرة -إن شاء اللَّه تعالى-. فأركانُ الحجّ: الإحرامُ، والوقوف، والطّواف، والسّعي. وواجباته سبعة: الإحرامُ من الميقات، والجمعُ بين الليل والنَّهار في الوقوف بعرفة لمن وقفَ نهارًا، والمبيتُ بمزدلفة إلى ما بعدَ نصف اللّيل، ¬

_ (¬1) في الأصل: "يطوفوا" والصواب ما أثبت. (¬2) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 155).

والمبيتُ بمنًى، والرَّميُ مرتَّبًا، والحلقُ أو التقصير، وطواف الوداع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: طوافُ الوداع ليسَ من الحجّ، وإنّما هو لكلِّ من أرادَ الخروج من مكّة (¬1). وأركانُ العمرة ثلاثة: الإحرام، والطواف، والسّعي. وواجباتها: الإحرام من الحلّ، والحلقُ أو التّقصير. وما عدا ذلك، فسنن. فمن ترك ركنًا، لم يتمَّ نسكُه؛ للآية، لكن لا ينعقدُ نسكُه بلا إحرام. ومن ترك واجبًا، ولو سهوًا، فعليه دمٌ، وإن عدمه، فكصوم المتعة ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع، والإطعام عنه -على ما تقدّم-. ومن ترك سنة، فلا شيء عليه (¬2). السّابع: يُشترط لصحّة الطواف ثلاثةَ عشرَ شرطًا: الإسلامُ، والعقلُ، والنيّةُ المعينةُ، وسترُ العورة، وطهارةُ الحدث -لا لطفل دون التّمييز-، وطهارةُ الخبث، وتكميلُ السّبع، وجعلُ البيت عن يساره، والطّوافُ بجميع البيت، وأن يطوفَ ماشيًا مع القدرة، وأن يوالي بينه، وأَلَّا يخرجَ من المسجد -يعني: بأن يطوف خارجَ المسجد-، وأن يبتدىء من الحجر الأسود فيحاذيه. وسننه عشر: استلامُ الرّكن، وتقبيلُه أو ما يقومُ مقامَه من الإشارة، واستلامُ الرُّكن ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (26/ 215). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 35).

اليماني، والاضطباعُ، والرَّمَلُ، والمشيُ في مواضعه، والذِّكرُ، والدّعاءُ، والدُّنُوُّ من البيت، وركعتا الطّواف. وإذا فرغ من ركعتي الطّواف، وأراد السّعيَ، سُنَّ عوده إلى الحَجر، فيستلمه، ثمّ يخرج إلى الصّفا من بابه (¬1). وشروط صحّة سعي تسع: الإسلامُ، وعقلٌ، ونية معيّنةٌ، ومُوالاةٌ، ومشيٌ لقادر، وتكميلُ السَّبع، واستيعابُ ما بين الصّفا والمروة، وكونُه بعدَ طوافٍ صحيح -ولو مسنونًا-؛ يعني: بأن يكون طوافَ نسكٍ مثلَ طوافِ القدوم، وبدءُ أوتار من الصفا وأشفاعٍ من المروة. وسننه: طهارةُ حدثٍ وخبث، وسترُ عورة، وذِكْرٌ، ودعاءٌ، وإسراعٌ، ومشيٌ في مواضع كُلٍّ منهما، ورقي، وموالاة بينَه وبينَ طواف، فإن طاف بيوم، وسعى في آخر، فلا بأسَ، ولا يُسن عقبَ السعي صلاة، (¬2). واللَّه تعالى الموفق. * * * ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 12 - 13). (¬2) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي الحنبلي (2/ 408 - 409).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا مِنَ العُمْرَةِ وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فقَالَ: "إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِ، فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1491)، كتاب: الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج، و (1610)، باب: فتل القلائد للبدن والبقر، و (1638)، باب: من لبد رأسه عند الإحرام وحلق، و (4137)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، و (5572)، كتاب: اللباس، باب: التلبيد، ومسلم (1229/ 176 - 179)، كتاب: الحج، باب: بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد، وأبو داود (1806)، كتاب: المناسك، باب: في الإقران، والنسائي (2682)، كتاب: الحج، باب: التلبيد عند الإحرام، و (2781)، باب: تقليد الهدي، وابن ماجه (3046)، كتاب: المناسك، باب: من لبد رأسه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 169)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 301)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 304)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 354)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 211)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 56)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1026)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 213)، و"طرح التثريب" للعراقي (5/ 35)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 430)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 201)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 132)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 42).

(عن) أم المؤمنين (حفصةَ) بنتِ أميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب -رضي اللَّه تعالى عنهما- (زوج النَبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-)، العدويَّةِ، القريشيَّةِ، هاجرت مع بَعْلِها الذي كان قبلَ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو خُنَيس -بضم الخاء وفتح النون فمثناة تحتية وسين مهملة-، شهدَ بدرًا، ثمّ تُوفي عنها بالمدينة مقدَمَ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من بدرٍ؛ كما قاله أبو داود، وذكرها -عمرُ -رضي اللَّه عنه- على أبي بكر، وعثمانَ -رضي اللَّه عنهما-، فلم يجبه واحدٌ منهما إلى التزوُّج بها، أما الصدِّيقُ، [فـ]ـلسماعه النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يذكرها، وأما عثمانُ، فلطمعه في بنتِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمِّ كُلثومٍ بعدَ وفاة رُقيَّةَ -رضي اللَّه عنهما-، فزوَّجه النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إياها، فخطب المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- حفصةَ من عمرَ -رضي اللَّه عنهما-، فأنكحه إياها في سنة ثلاثٍ، وقيل: في الثانية، قاله أبو عُبيدة، والأول أكثرُ، وبه قال ابنُ المسيب، والواقدي، وخليفة، وغيرهم. ثم طلقها -صلى اللَّه عليه وسلم- تطليقةً واحدةً، ثمّ راجعها بأمر جبريل -عليه السلام-، وقال: "إنها صوَّامة قَوَّامةٌ، وهي زوجتُك في الجنة"، (¬1) وذكر هذا الحافظُ المصنفُ في "مختصر السيرة"، ولفظه: أن النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- طلقها، فأتاه جبريلُ، فقال: "إن اللَّه يأمرُك أن تراجعَ حفصة؛ فإنها صوَّامة قَوَّامةٌ، وإنها زوجُتك في الجنة"، وفي رواية: "صَووم قَووم، وهي من نسائِك في الجنة" (¬2). وفي الطبراني في "المعجم الكبير": عن عقبةَ بنِ عامرٍ -رضي اللَّه عنه-: أن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- طلق حفصةَ، فبلغ ذلك عمرَ بنَ الخطاب -رضي اللَّه عنه-، فوضع الترابَ على رأسه، وقال: ما يَعْبَأُ اللَّهُ بابنِ الخطابِ بعدَ هذا، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه.

فنزل جبريلُ على النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "إن اللَّه يأمُركَ أن تراجعَ حفصةَ رحمةً لعمر -رضي اللَّه عنه-" (¬1). تُوفيت حفصةُ -رضي اللَّه عنها- في شعبان سنة خمس وأربعين، وقيل: إحدى وأربعين، وهي بنتُ ستين. وقال ابن قتيبة في "المعارف": توفيت في خلافة عثمان (¬2). قال ابن سعد: صلى عليها مروانُ بن الحَكَم، وحملَ بينَ عمودي سريرِها من عندِ دارها إلى حريمِ دارِ المغيرة بنِ شعبة، وحمله أبو هريرةَ من دارِ المغيرة إلى قبرها (¬3). ورُوي لها عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ستون حديثًا، اتفقا على ثلاثة، وتفرد مسلم بستة (¬4). (أنها قالت) -يعني: حفصة بنت الفاروقِ-: (يا رسولَ اللَّه! ما شأنُ النّاس حَلُّوا من العُمرة)، وفي لفظ في "البخاري": حلوا بعمرة؛ (¬5) أي: حلوا من الحجّ بعمل عمرة؛ لأنهم فسخوا الحجّ إلى العمرة، فكان إحرامُهم بالعمرة سببًا لسرعةِ حلهم، (¬6) (ولم تَحِلَّ) -بفتح أوله وكسر ثالثه- (أنت من عمرتك؟)؛ أي: المضمومة إلى الحجّ، فيكون قارنًا كما هو في ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "المعارف" لابن قتيبة (ص: 135). (¬3) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 86). (¬4) قلت: قد تقدمت ترجمة حفصة -رضي اللَّه عنها- للمؤلف في باب: فضل الجماعة ووجوبها. ولعلَّ الشارح -رحمه اللَّه- غفل عن هذا، والعصمة للَّه وحده. (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1491، 1638، 5572). (¬6) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 132).

أكثر الأحاديث، وأنه الأصح -كما تقدم-، وحينئذ فلا تمسَّكَ به لمن قال: إنه كان -عليه السلام- متمتِّعًا؛ لكونه أقرَّ على أنَّه كان محرمًا بعمرة؛ لأن اللفظَ محتملٌ للتَّمَتُّع والقِران (¬1) -كما مَرَّ-، ومر قولُ الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: لا أشكُّ أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان قارِنًا، والمتعةُ أحبُّ إليَّ (¬2). (فقال) النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: (إني لَبَّدْتُ رأسي) -بفتح اللام والموحدة المشددة-؛ من التلبيد، وهو أن يجعل المحرِمُ [على] رأسه شيئًا من نحو صمغ ليجتمعَ الشعرُ ولا يدخلَ فيه قملٌ، (¬3) (وقَلَّدْتُ هَدْيي)، والتقليدُ: هو تعليقُ شيء في عُنُق الهدي ليُعلم، (فلا أَحِلُّ) من إحرامي (حتّى أنحرَ) الهديَ، وهذا قول إمامنا؛ كأبي حنيفة -رضي اللَّه عنهما-؛ فإنَّه -عليه السلام- جعل العلة في بقائه على إحرامه الهديَ، وأخبرَ أنه لا يحلُّ حتّى ينحر. وقالت المالكية، والشافعية: ليس العلةُ في ذلك سوقَ الهدي، بل السببُ إدخال العمرة على الحجّ، واستدلوا بقوله في رواية عبيد اللَّه بن عمرَ بنِ حفصِ بنِ عاصمِ بنِ الخطاب العمريِّ المدنيِّ، قال: أخبرني نافع مولى ابن عمرَ، عن ابن عمرَ، عن حفصةَ، وفيه: "فلا أَحِلُّ حتّى أَحِلَّ من الحجّ" (¬4)، فلم يجعل العلة في ذلك سوقَ الهدي وتقليدَه، بل إدخال الحجّ على العمرة (¬5). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 224). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 134). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1610)، ومسلم برقم (1229/ 177). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 134).

قلت: ورواية: "حتّى أنحرَ" أصحُّ وأثبتُ؛ لأنها من رواية مالكٍ عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة، ومالك أثبتُ من عبيد اللَّه، بلا خلاف، فما ذهبَ إليه إمامنا؛ كأبي حنيفة، أصحُّ وأثبتُ كما لا يخفى (¬1). وفي "الصحيحين" عن عمرَ -رضي اللَّه عنه- في قصة أبي موسى الأشعري، واعتراضه على عمرَ، قال عمرُ: وإن نأخذْ بسنةِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يحلَّ حتّى نحر الهدي، (¬2) واللَّه أعلم. * * * ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/ 427): رواية عبيد اللَّه بن عمر عند الشيخين: "فلا أحل حتى أحل من الحج" لا تنافي رواية مالك: "حتى أنحر"؛ لأن القارن لا يحل من العمرة ولا من الحج حتى ينحر، فلا حجة فيه لمن تمسك بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان متمتعًا. (¬2) رواه البخاري (1484)، كتاب: الحج، باب: من أهل في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كإهلال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومسلم (1221)، كتاب: الحج، باب: في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام، من حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: نَزَلَتْ آيةُ المُتْعَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَفَعَلْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ يُنْزَلْ قُرْآن يُحَرِّمُهُ، وَلَمْ يَنْهَ عنها حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيهِ مَا شَاءَ (¬1). قَالَ البُخَارِيُّ: يُقَالُ: إِنَّهُ عُمَرُ (¬2). ولِمُسْلِمٍ: نَزَلَتْ آيَةُ المُتْعَةِ -يَعْني: مُتْعَةَ الحَجِّ-، وَأَمَرَنَا بهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتعَةِ الحَجِّ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ (¬3). وَلَهُمَا: بِمَعْنَاهُ (¬4). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4246)، كتاب: التفسير، باب: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]. (¬2) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 433): حكى الحميدي: أنه وقع في البخاري في رواية أبي رجاء، عن عمران، قال البخاري: يقال: إنه عمر؛ أي: الرجل الذي عناه عمران بن حصين. ولم أر هذا في شيء من الطرق التي اتصلت لنا من البخاري، لكن نقله الإسماعيلي عن البخاري كذلك. فهو عمدة الحميدي في ذلك، وبهذا جزم القرطبي والنووي وغيرهما. (¬3) رواه مسلم (1226/ 172)، كتاب: الحج، باب: في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام. (¬4) رواه البخاري (1496)، كتاب: الحج، باب: التمتع، ومسلم (1226/ 170)، =

(عن) أبي نُجيدٍ (عِمرانَ بنِ حُصينٍ) الخزاعيِّ، الكعبيِّ (-رضي اللَّه عنه-، قال: نزلَتْ آيةُ المتعةِ)، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] (في كتاب اللَّه) -عزَّ وجل- المنزلِ على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، (ففعلناها) معشرَ الصَّحابة (مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-). قال ابن عبّاس -رضي اللَّه عنهما- لما سُئل عن متعة الحجّ، فقال مجيبًا عن ذلك: أَهَلَّ المهاجرون والأنصارُ وأزواجُ النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في حجة الوداع، وأَهْلَلْنَا، فلما قدمْنا مكّةَ، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اجْعَلُوا إهلالَكُم بالحجِّ عمرةً، إلّا من قلَّدَ الهَدْيَ"، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساءَ، ولبسنا الثياب، الحديث (¬1). ¬

_ = كتاب: الحج، باب: في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام، من طريق همام، عن قتادة، عن مطرف، عن عمران، به، بلفظ: تمتعنا على عهد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنزل القرآن، قال رجل برأيه ما شاء. والحديث رواه أيضًا مسلم (1226/ 165 - 169، 171، 173)، كتاب: الحج، باب: في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام، والنسائي (2727)، كتاب: الحج، باب: القران، وابن ماجه (2978)، كتاب: المناسك، باب: التمتع بالعمرة إلى الحج، من طرق وألفاظ مختلفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 299)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 350)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 250)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 58)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1028)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 214)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 432)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 204)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 136). (¬1) رواه البخاري (1497)، كتاب: الحج، باب: قول اللَّه تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196].

قال عمرانُ بن حصين -رضي اللَّه عنه-: (ولم ينزلْ قرآنٌ يحرِّمُه)؛ يعني: التّمتّع. وفي لفظ: "تمتعنا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونزل القرآنُ" (¬1) بجوازه، قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} الآية [البقرة: 196]. واعلم أن قوله: ولم ينزلْ قرآنٌ يحرمه، من زيادة مسلم على البخاري كما في "القسطلاني"، (¬2). وظاهر "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق: أنها من المتفق عليه، (¬3) (ولم ينهَ عنها)؛ أي: المتعة رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (حتّى مات) النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ أي: فلا نسخَ. وفي لفظ: فلم تنزل آية تنسخُ ذلك، ولم ينهَ عنه حتّى مضى لوجهه (¬4). وفي لفظ: ثم لم تنزل آيةٌ تنسخُ آية متعةِ الحجّ، ولم ينه عنها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتّى ماتَ (¬5). (قال رجل برأيه ما شاء، قال البخاري: يقال: إنه عمر) بنُ الخطاب -رضي اللَّه عنه-، لا عثمانُ بنُ عفان؛ لأن عمرَ أولُ من نهى عنها، فكان مَنْ بعده تابعًا له في ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري (1496). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 136). (¬3) وهو الصواب، خلافًا لما يوهمه كلام القسطلاني، على أنه قد مرَّ في "شرحه" (7/ 30) على شرح حديث البخاري برقم (4246) في كتاب: التفسير، المشتمل على قوله: "ولم ينزل قرآن يحرمه" دون أن يذكر أن مسلمًا زاد على البخاري في لفظه أو لا. والعصمة للَّه وحده. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1226/ 165). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1226/ 172). (¬6) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 136)، نقلًا عن الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 433).

(و) في رواية (لمسلمٍ: نزلت آية المتعة) في كتاب اللَّه (يعني: متعة الحج، وأمرنا بها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثمّ لم تنزل) بعد ذلك (آية) من كتاب اللَّه (تنسخ آيةَ متعةِ الحجّ)، يعني: قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، (ولم ينه عنها) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (حتّى مات). وحيثُ ثبتت متعةُ الحجّ بالنص القرآني، ولا ناسخَ لها من كتاب ولا سنة، فلا التفاتَ لمن زعم عدمَ الجواز. قال الحافظ المصنف -رحمه اللَّه-: (ولهما)؛ أي: البخاري ومسلم رواية (بمعناه) من حديث عمران بن حصين، وهذا صريح في ردِّ قول من زعم أن جواز التّمتّع منسوخ، مثل قول يزيد بن أبي مالك في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، قال: منسوخة، نسخها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬1) [البقرة: 197]، فهذا القائل بالنسخ فسر المتعة بالتمتع في أشهر الحجّ مخصوصة بالحج، لا يجوز فيها الاعتمار، فانتسخت المتعة في أشهر الحجّ. وفي مسلم عن أبي ذر -رضي اللَّه عنه-، قال: كانت متعةُ الحجّ لأصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خاصة (¬2). قال الحافظ ابنُ رجب في كتابه الذي على قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]: القول بإنكار التّمتّع في أشهر الحجّ هو قولُ ابن الزبير، وطائفةٍ من بني أمية، وروي النهيُ عنه عن عمرَ، وعثمانَ، ومعاويةَ، وغيرِهم. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 341). (¬2) رواه مسلم (1224)، كتاب: الحج، باب: جواز التمتع.

قال: والقولُ بأن التّمتُّع في أشهر الحجّ لا يجوز قولٌ باطلٌ، مخالفٌ للكتاب والسنة المتواترة؛ فإن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بالتمتع في حجة الوداع، وكان هو متمتعًا تمتّعَ قِرانٍ، ولما سئل - صلى الله عليه وسلم -: أَمُتْعَتُنا هذه لعامِنا هذا أو للأبد؟ قال: "لا، بل للأبد، دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة" (¬1). وهذا يرد قولَ من قال: كانت متعةُ الحجّ لهم خاصةً، وقولَ من قال: إن آية التّمتّع منسوخةٌ. وفي "مسند الإمام أحمد" عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: العمرةُ في أشهر الحجّ تامةٌ، عمل بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل بها كتاب الله -عزَّ وجلَّ- (¬2). وأما حديث معاوية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يقرن بين حج وعمرة، وفي لفظ: نهى عن جمعٍ بين حج وعمرة، فهو حديث مضطربٌ إسنادًا ومتنًا، ولفظه تارةً ينهى عن القِران، وتارة عن المتعة -يعني: متعة الحجّ-، وهو في "المسند" بهذا اللفظ (¬3)، وفيه مَنْ لم يشتهر بالعلم والضبط. قال الحافظ ابن رجب: فلعل لفظَ الحديث: نهى عن المتعة، والمراد بها: متعةُ النساء، ففسرها بعض الرواة بمتعة الحجّ. وكذلك الحديث الذي رواه أبو داود عن سعيد بن المسيب: أن رجلًا من أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أتى عمرَ بنَ الخطاب - رضي الله عنه -، فشهد أنَّه سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي قُبض فيه نهى عن العمرة قبل ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 151). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 92، 99).

الحجّ، (¬1) فهذا الإسنادُ لا يثبت مثلُه، لجهالة بعض من فيه، قاله الحافظ ابن رجب. قال: وتردُّه الأحاديث الثابتةُ المتواترة عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا لم يلتفت علماء الأمة وأئمتها إلى هذه الروايات الشاذة المنكرة، ولم يعولوا عليها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ما ملخصه: لما نهى عمر - رضي الله عنه - عن الاعتمار في أشهر الحجّ، قصد أمرهم بالأفضل؛ لأنهم تركوا الاعتمار في مفرده غير أشهر الحجّ، ويتركون سائر الأشهر، فصار البيتُ يعرى عن العِمارة من أهل الأمصار في سائر الحول، فكان عمر - رضي الله عنه - من شفقته على رعيته اختار الأفضل، لإعراضهم عنه، كالأب الشفيق يأمر ولده بما هو الأصلحُ له، وهذا كان موضع اجتهاده لرعيته، فألزمهم بذلك، وخالفه عليٌّ - رضي الله عنه -، وعمرانُ بنُ حصين، وغيرُهما من الصَّحابة، ولم يروا أن يلزم النّاس، بل يُتركون، من أحبَّ شيئًا، عملَه قبل أشهر الحجّ، وفيها، وقوي النزاع في ذلك في خلافة عثمان - رضي الله عنه - حتّى ثبت أنَّه كان ينهى عن المتعة، فلما رآه عليٌّ - رضي الله عنه -، أهل بهما، وقال: لم أكن أدعُ سنةَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أحدٍ، (¬2) ثمّ كانت بنو أمية ينهون عن المتعة، ويعاقبون عليها، ولا يمكِّنون أحدًا من العمرة في أشهُر الحجّ، وكان ذلك ظلمًا وجهلًا، فلما رأى ذلك الصَّحابةُ، كابن عبّاس، وابن عمر، وغيرِهما، جعلوا يُنكرون ذلك، ويأمرون بالمتعة، اتباعًا للسنة، فكان بعضُ النّاس يقول لابن عمر: إن أباك كان ينهى عنها، فيقول: إن أبي لم يُرد ذلك، ولا كان يضربُ النّاس عليها، وبين لهم أن قصد عمر ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1793)، كتاب: المناسك، باب: في إفراد الحج. (¬2) كما تقدم تخريجه.

كان الأفضل، يعني: عنده، لا تحريمَ المتعة، وكانوا ينازعونه، فيقول لهم: قدروا أن عمر نهى عن ذلك، تتبعونه، أم النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؟ وكذلك ابنُ عبّاس لما كانوا يعارضونه بما توهموه على أبي بكر وعمر، يقول لهم: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقولُ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: قال أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-؟! (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (26/ 280 - 281).

باب الهدي

باب الهدي وهو ما يُهدى إلى الحرم من النَّعَم وغيرِها. قال في "المطلع": قال الأزهري: أصلُه التشديد، من هَديت [الهدي أهديه] (¬1)، وكلامُ العرب: أهديت الهديَ إهداء، (¬2). وهما لغتان نقلهما القاضي عياض (¬3)، وغيرُه، وكذا يقال: هديتُ الهدية، وأهديتُها، وهديتُ العروس، وأهديتُها، وهداه اللهُ من الضلال لا غير (¬4). وفي "النهاية" في حديث طَهْفَة: "هلكَ الهَدِيُّ، وماتَ الوَدِيُّ" (¬5)، الهَديُّ -بالتشديد-: كالهَدْيِ -بالتخفيف-: ما يُهدى إلى البيت الحرام من النعم لتُنحر، وأُطلق على جميع الإبل، وإن لم تكن هديًا، تسمية للشيء ببعضه، يقال: كم هديُ بني فلان؟ أي: كم إبلُهم؟ أراد: هلكت الإبل، ويَبِسَتِ النخيل، قال: فأهلُ الحجاز وبنو أسد يخففون الهدي، وبنو تميم ¬

_ (¬1) في الأصل: "الهدية" بدل "الهدي أهديه" والتصويب من "المطلع". (¬2) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 186). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 267). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 204). (¬5) رواه أبو زيد النميري في "أخبار المدينة" (1/ 300 - 301)، عن طهفة بن زهير النهدي.

وسُفْلَى قيسٍ يُثقِّلون، وقد قرىء بهما (¬1). وذكر الحافظ في هذا الباب خمسة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 254).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عنها -، قَالَتْ: فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا، أَوْ قَلَّدْتُهَا، ثُمَّ بَعَثَ بهَا إِلَى البَيْتِ، وَأَقَامَ بالمَدِينَةِ، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْء كَانَ لَهُ حِلًّا (¬1). * * * (عن) أم المؤمنين (عائشة) الصدِّيقة (- رضي الله عنها -، قالت: فَتَلْتُ) من فتلَه يفتِلُه: إذا لواه، كَفَتَّلَهُ، فهو فتيل ومفتول، وقد انفتلَ، وتَفَتَّلَ، ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1609)، كتاب: الحج، باب: من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم، و (1612)، باب: إشعار البدن، ومسلم (1321/ 362)، كتاب: الحج، باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه، وأبو داود (1757)، كتاب: المناسك، باب: من بعث بهديه وأقام، والنسائي (2783)، كتاب: الحج، باب: تقليد الإبل، من طريق أفلح، عن القاسم، عن عائشة - رضي الله عنها -، به. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 155)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 70)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 60)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1030)، و"طرح التثريب" للعراقي (5/ 149)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 544)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 39)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 218)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 183).

والفَتيلُ: حبلٌ دقيقٌ من لِيفٍ ونحوه، كما في "القاموس" (¬1). وفي "النهاية": الفتلةُ: واحدةُ الفتل، وهو ما كان مفتولًا من ورق الشجر كورق الطرفاء، والأثل، ونحوِهما (¬2). (قلائدَ) جمعُ قِلادة، وهو مَا يُعلق في أعناق (هديِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -) الذي أهداه، (ثمّ أشعرَها) - صلى الله عليه وسلم -، الإشعار -بكسر الهمزة-، وهو لغةً: الإعلامُ، وشرعًا: بأن يُطعن في شق سنامه الأيمن، وكذا محل السنام من غير الإبل (¬3). وقال مالك: في الأيسر، وهو الذي في "الموطأ" (¬4). نعم، روى البيهقي عن ابن جريج، عن نافع: عن ابن عمر: أنَّه كان لا يُبالي في أي الشقين أشعرَ، في الأيسر أو في الأيمن (¬5). وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد، (¬6) كما في "الفروع"، والمعتمد: الأيمن (¬7). ولا يُشْعَر غيرُ الإبل والبقر، ولا يُشعر الغنم، لضعفها. ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1345)، (مادة: فتل). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 410). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 217). (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 379)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬5) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 232)، من طريق الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 370). (¬6) انظر: "كتاب التمام لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام" لأبي الحسين الفراء (1/ 326). (¬7) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 401).

وفي الحديث عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما -: أشعرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشقِّ الأيمن. ففي "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود"، و"النسائي" عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى الظهر بذي الحليفة، ثمّ دعا ناقته، فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسَلَتَ الدمَ عنها، وقَلَّدَها نعلين، ثمّ ركب راحلَته، فلما استوت به على البيداء، أهلَّ بالحج (¬1). وفي "البخاري": كان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا أهدى من المدينة، قلده، وأشعره بذي الحليفة، يطعن في شقِّ سنامه الأيمن بالشفرة، ووجهها قِبَلَ القبلة باركةً، (¬2) ويلطخها بالدم، لتعرَفَ إذا ضَلَّت، وتتميز إذا اختلطت بغيرها. ونقل حنبلٌ عن الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أنَّه قال: لا ينبغي أن يسوقه -يعني: الهدي- حتّى يشعر، ويقلده نعلًا، أو علاقة قربة، سنة النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - (¬3). وكون الإشعار سنةً هو مذهبنا، كالشافعية. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 347)، ومسلم (1243)، كتاب: الحج، باب: تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام، وأبو داود (1752)، كتاب: المناسك، باب: في الإشعار، والنسائي (2774)، كتاب: الحج، باب: سلت الدم عن البدن. (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" (2/ 608) معلقًا بصيغة الجزم. ورواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 379) موصولًا. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 402).

وهو ظاهر "المدونة" (¬1). وفي "كتاب محمد بن الحسن": لا تشعر البقر؛ لأنه تعذيب، فيقتصر به على الوارد. وقال أبو حنيفة: الإشعار مكروه، وخالفه صاحباه، فقالا: إنه سنة، واحتج لأبي حنيفة أنَّه مُثْلَة، وهي منهيٌّ عنها، وعن تعذيبِ الحيوان. والجواب: بأن أخبار النهي عن المثلة وعن تعذيب الحيوان عامة، وأخبار الإشعار خاصة، فقُدمت. وقال الخطابي: أشعر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - هديه آخرَ حياته، ونهيُه عن المثلة كان أولَ مقَدمِه المدينةَ، مع أن الإشعار لا نسلم أنَّه من المثلة، بل من باب آخر، انتهى ملخصًا (¬2). بل هو كالختانِ والفَصْدِ، وشقِّ أذن الحيوان ليكونَ علامة. وقد كثر تشنيعُ المتقدمين على أبي حنيفة - رحمه الله ورضي عنه - في إطلاقه كراهةَ الإشعار، فقال ابن حزم في "المحلَّى": هذه طامَّة من طوامِّ العالم أن يكون مثلةً شيءٌ فعلَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أُفٍّ لكل عقل يتعقب حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه قولة لأبي حنيفة لا يُعلم له فيها متقدمٌ من السلف، ولا موافقٌ من فقهاء عصره إلّا من قلده، انتهى (¬3). وقد ذكر الترمذي عن أبي السائب، قال: كنا عند وكيع، فقال له رجل: رو [ي] عن إبراهيم النخعي أنَّه قال: الإشعار مثلة، فقال له وكيع: أقول ¬

_ (¬1) انظر: "المدونة الكبرى" لابن القاسم (2/ 374). (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 153 - 154). (¬3) انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 111 - 112).

لك: أشعرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: قال إبراهيم؟! ما أحقَّك أن تُحبس! انتهى (¬1). قال القسطلاني: وهذا فيه ردٌّ على ابن حزم؛ حيثُ زعم أنَّه ليس لأبي حنيفة سَلَف في ذلك. وقد أجاب الطحاويُّ منتصرًا لأبي حنيفة، فقال: لم يكره أبو حنيفة أصلَ الإشعار، بل ما يُفعل على وجه يُخاف منه هلاكُ البدن، كسراية الجرح، لاسيما مع الطعن بالشفرة، فأراد سدَّ الباب عن العامة؛ لأنهم لا يراعون الحدَّ في ذلك، وأما من كان عارفًا بالسنة في ذلك، فلا. وقد ثبت عن عائشة - رضي الله عنها -، وابنِ عبّاس: التخييرُ في الإشعار وتركِه، فدلَّ على أنَّه ليس بنسك، انتهى (¬2). (وقلدها) هو - عليه السلام -، (أو قلدتُها) بالشكِّ من الراوي، وعليه: يجوزُ الاستنابة في التقليد، (ثمّ بعث) - صلى الله عليه وسلم - (بها)، أي: البُدْنِ مع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لما حج بالناس سنة تسع (إلى البيت) الحرام، (وأقام) - عليه الصلاة والسلام - (بالمدينة) المنوَّرة حَلالًا، (فما حَرُمَ عليه شيء) من محظورات الإحرام (كانَ له) - عليه الصلاة والسلام - (حِلًّا) -بالنصب-: خبر كان، واسمها ضمير يعود على "شيء"، وفي "القسطلاني": -بالرفع-، قال: والجملة في موضع رفع صفة لقوله: "شيء"، وهو؛ أي: شيء رفع بقوله: فما حَرُم -بضم الراء-، والوجه: نصبُ "حلًّا"، (¬3) والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 250). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 217). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 219).

وسبب هذا الحديث ما في "الصحيحين" عن عمرة بنتِ عبد الرحمن الأنصارية: أن زياد بن أبي سفيان، وهو الذي استلحقه معاوية، وإنما كان يقال له: زياد بن أبيه، أو ابن عبيد؛ لأن أمه سمية مولاة الحارث بن كَلَدَة ولدته على فراش عُبيد، فلما كان في خلافة معاوية، شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأن زيادًا ولدُهُ، فاستلحقه معاويةُ لذلك، وأَمَّره على العراقَين (¬1). وقدم ابنُ قتيبة في "المعارف": أن أم زياد أسماءُ بنتُ الأعور من بني عبد شمس بن سعد، هذا قول أبي اليقظان، ثمّ قال: وقال غيره: أمه سميَّة أم أبي بَكْرة نُفيعِ بنِ الحارثِ بنِ كلدة طبيبِ العرب، قال: وسميّة من أهل زندورة، وكان كسرى وهبها لأبي الخير -ملكٍ من الملوك- في وفادة له عليه، فلما رجع إلى اليمن، مرض بالطائف، فداواه الحارث، فوهبها له. ووُلد زيادٌ عامَ الفتح بالطائف، وكان كاتِبَ المغيرةِ بنِ شعبة، ثمّ كتب لأبي موسى، ثمّ كتب لابن عبّاس - رضي الله عنهم -، وكان زياد مع عليٍّ -رضوان الله عليه-، فولاه فارس، فكتب إليه معاويةُ يتهدده، فكتب إليه زياد: أتوعدني وبيني وبينك ابنُ أبي طالب؟ أما والله! لئن وصلتَ إليَّ، لتجدَنِّي ضَرَّابًا بالسيف، ثمّ لما استلحقه معاوية، ولاه البصرة، فلما مات المغيرةُ بن شعبة، جمع له العراقين، فكان أولَ مَنْ جمعهما. ومات بالكوفة سنة ثلاث وخمسين، (¬2) ففي ولايته على العراقين كتب إلى عائشة - رضي الله عنها - كما في "الصّحيحين": إن عبد الله بن عبّاس ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "المعارف" لابن قتيبة (ص: 346).

- رضي الله عنهما - بكسر همزة إن، وفي رواية بفتحها، (¬1) قال: من أهدى هديًا، حرم عليه ما يحرم على الحاج -يعني: من محظورات الإحرام- حتّى ينحر هَدْيه، قالت عمرة: فقالت عائشة - رضي الله عنها -: ليس كما قال ابن عبّاس - رضي الله عنهما -، أنا فتلت قلائدَ هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرته (¬2). وقد وافق ابنَ عبّاس - رضي الله عنهما - جماعةٌ من الصَّحابة، منهم: ابنُ عمر، رواه سعيدُ بن منصور. وقال ابن المنذر: قال عمر، وعلي، وقيس بن سعد، وابن عمر، وابن عبّاس، والنخعي، وعطاء، وابن سيرين، وآخرون: من أرسلَ الهديَ، وأقامَ، حرم عليه ما يحرُم على المحرِم، وقال ابنُ مسعود، وعائشة، وأنس، وابن الزبير، وآخرون: لا يصير بذلك محرمًا، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 219). (¬2) رواه البخاري (1613)، كتاب: الحج، باب: من قلد القلائد بيده، ومسلم (1321/ 369)، كتاب: الحج، باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 220).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: أَهْدَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّةً غَنَمًا (¬1). * * * (عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصدِّيقةِ بنتِ الصديق (- رضي الله عنها -)، وَعن أبيها، (قالت: أَهْدَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً)، أي: بعث إلى مكّة مرةً واحدةً ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1614 - 1616)، كتاب: الحج، باب: تقليد الغنم، ومسلم (1321/ 365، 367)، كتاب: الحج، باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه، وأبو داود (1755)، كتاب: المناسك، باب: في الإشعار، والنسائي (2779)، كتاب: المناسك، باب: فتل القلائد، و (2785 - 2790)، باب: تقليد الغنم، و (2797)، باب: هل يوجب تقليد الهدي إحرامًا، والترمذي (909)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في تقليد الغنم، وابن ماجه (3096)، كتاب: المناسك، باب: تقليد الغنم، من طريق الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها -، به. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 407)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 365)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 72)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 60)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1031)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 547)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 42)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 220)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 183).

(غنمًا)، وقالت في حديث آخر في "الصحيحين" قالت: كنت أفتلُ قلائدَ للنَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فيبعث بها -يعني: إلى مكّة-، ثمّ يمكُثُ يعني: النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حلالًا (¬1). واحتج بهذا الإمام أحمد، والشافعي، والجمهور: على أن الغنم تقلد، خلافًا لمالك، وأبي حنيفة، حيث منعاه؛ لأنها تضعف عن التقليد (¬2). قال القاضي عياض: المعروفُ من مقتضى الرواية: أنَّه كان - صلى الله عليه وسلم - يُهدي البُدْنَ، كقوله في بعض الروايات: قَلَّدَ وأشعرَ، وفي بعضها: فلم يَحْرُمْ عليه شيءٌ حتّى نحرَ الهديَ، ولأن ذلك إنما يكون في البُدْن، وإنما الغنمُ في رواية الأسود بن يزيد هذه، ولانفراده بها، نزلت على حذف مضاف، أي: من صوف الغنم، كما قال في أخرى: "من عِهْن"، (¬3) والعِهْنُ: الصوفُ، لكن جاء في بعض الروايات حديث الأسود هذا: كنا نقلِّدُ الشَّاة، فهذا يدفع التأويل، انتهى (¬4). قلت: لفظ هذا الحديث كما في "مسلم": عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: كنَّا نقلِّدُ الشاء، فيرسل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الحديث (¬5). وقال الحافظ المنذري: والإعلال بتفرد الأسود عن عائشة ليس بعلة، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1616)، ومسلم برقم (1321/ 365). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 220). (¬3) رواه البخاري (1618)، كتاب: الحج، باب: القلائد من العهن، ومسلم (1321/ 364)، كتاب: الحج، باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه. (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 407). (¬5) رواه مسلم (1321/ 368)، كتاب: الحج، باب: استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه.

لأنه ثقة حافظ لا يضره التفرُّد، وقد وقع الاتفاق على أن الغنم لا تُشعر، لضعفها، ولأن الإشعار لا يظهر فيها، لكثرة شعرها وصوفها، فتقلَّد بما لا يُضعفها، كالخيوط المفتولة، ونحوها (¬1). قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: البُدْنُ تُشْعَر، والغنم تُقَلَّد (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 228)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 545). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 402).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ نَبِي اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رأَى رَجُلًا يَسوقُ بَدَنَةَ، قَالَ: "اِرْكبْهَا"، قَالَ: إنَّهَا بَدَنةَ، قَالَ: "اِرْكبْهَا"، قال: فَرَأَيْتُهُ رَاكبَهَا يُسَايِرُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وَفِي لَفْظٍ: قَالَ فِي الثَانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَة: "اِرْكبْهَا، وَيْلَكَ، أَوْ وَيْحَكَ! " (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1619)، كتاب: الحج، باب: تقليد النَّعل، واللفظ له، من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن أبي هريرة، به، متفردًا به عن سائر الستة. (¬2) رواه البخاري (1604)، كتاب: الحج، باب: ركوب البدن، و (2604)، كتاب: الوصايا، باب: هل ينتفع الواقف بوقفه، و (5808)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في قول الرجل: ويلك، ومسلم (1322/ 371)، كتاب: الحج، باب: جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها، وأبو داود (1760)، كتاب: المناسك، باب: في ركوب البدن، والنسائي (2799)، كتاب: الحج، باب: ركوب البدنة، وابن ماجه (3103)، كتاب: الحج، باب: ركوب البدن، من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، به. قلت: ولم تقع كلمة: "أو ويحك" في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وإنما وقعت من حديث أنس - رضي الله عنه - كما رواه البخاري (2603)، كتاب: الوصايا، باب: هل ينتفع الواقف بوقفه، والترمذي (911)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في ركوب البدنة. وقد فات الشارح -رحمه الله- ومن قبله ابن دقيق =

(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمن بن صخرٍ (- رضي الله عنه -: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا). قال الحافظ في "الفتح": لم أقف على تسميته (¬1)، ولم يتعرض له البرماوي في "المبهمات". (يسوق بدنة)، زاد مسلم: مقلَّدَةً، (¬2) والبدنة تقع على الجمل، والناقة، والبقرة، وهي بالإبل أشبهُ، وكثر استعمالها فيما كان هديًا (¬3). وفي "المطلع": قال كثير من أهل اللغة: البَدَنَةُ تطلَق على البعير والبقرة (¬4). وقال الأزهري: تكون من الإبل والبقر والغنم (¬5). ¬

_ = العيد، وابن العطار، وغيرهم التنبيه عليه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 155)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 240)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 139)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 410)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 423)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 73)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 63)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1032)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 537)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 28)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 221)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 188). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 537). (¬2) رواه مسلم (1322/ 372)، كتاب: الحج، باب: جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها، من طريق معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، به. (¬3) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 185). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 175). (¬5) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 185).

وقال صاحب "المطالع" وغيرُه: البدنةُ والبُدْنُ هذا الاسم يختص بالإبل، لعظم أجسامِها (¬1). وللمفسرين في قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ} [الحج: 36] ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الإبل، وهو قول الجمهور. الثاني: أنها الإبل والبقر، قاله جابر، وعطاء. الثالث: أنها الإبل والبقر والغنم. فالبدنة حيث أُطلقت في كتب الفقه، فالمراد بها: البعير، ذكرًا كان أو أنثى، فإن نذر بدنةً، وأطلقَ، فهل تجزئه البقرة؟ على روايتين عن الإمام أحمد - رضي الله عنه -، ذكرهما ابن عقيل (¬2). قلت: معتمد المذهب: أنه إن نذر بدنةً، أجزأته بقرة إن أطلق، وإلا، لزمه ما نواه (¬3). ويعتبر في البدنة في جزاء الصيد ونحوه: أن تكون قد دخلت في السنة السادسة، وأن تكون بصفة ما يجزىء في الأضحية (¬4). (قال) له - صلى الله عليه وسلم -، وفي لفظ: فقال -بزيادة الفاء- (¬5): (اركبْها)، لتخالفَ بذلك الجاهليةَ في ترك الانتفاع بالسائبة والوصيلة والحام، وأوجب بعضُهم ركوبَها لهذا المعنى، عملًا بظاهر الأمر، وحمله الجمهور على الإرشاد ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 80). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 176). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 347). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 176). (¬5) كذا في رواية أبي ذر، كما نقل القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 221).

لمصلحة دنيوية، واستدلوا بأنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى ولم يركبْ، ولم يأمرْ جميعَ النّاس بركوب الهدايا (¬1). وجزم علماؤنا أن له الركوب لحاجة فقط بلا ضرر، ويضمن نقصَها إن نقصت. قال في "الفروع": وله ركوبه -أي: الهدي- لحاجة، وعنه: مطلقًا، قطع به في "المستوعب"، (¬2) و"الترغيب" وغيرِهما بلا ضرر، ويضمن نقصه. قال: وظاهر "الفصول" وغيره: إن ركبه بعد الضرورة ونقص، انتهى (¬3). وجزم النووي في "الروضة" كأصلها في الضحايا، (¬4). ونقل في "المجموع" عن القفال، والماوردي جوازَ الركوب مطلقًا، ونقل فيه عن أبي حامد، والبندنيجي وغيرهما: تقييدَه بالحاجة، (¬5) كمعتمد مذهبنا. وفي "شرح مسلم" عن عروة بن الزبير، ومالك في رواية عنه، وكذا في رواية عن الإمام أحمد مرجوحة، وإسحاق بن راهويه: له ركوبُها من غير حاجة، بحيث لا يضرُّها (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 63). (¬2) انظر: "المستوعب" للسَّامري (4/ 349). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 403). (¬4) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 226). (¬5) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (8/ 260). (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 74). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 213)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-.

ولنا على المعتمد: رواية جابر - رضي الله عنه - عند مسلم: "اركبها بالمعروف إذا أُلْجِئْتَ إليها حَتَّى تجدَ ظهرًا"، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، (¬1) فإنَّه مقيد، والمقيد يقضي على المطلق، ولأنه شيء خرج عنه للهِ، فلا يرجع فيه، ولو أُبيح النفع لغير ضرورة، أُبيح استئجاره، ولا يجوز ذلك بالاتفاق (¬2). وفي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يسوق بدنةً، فقال: "اركبها"، (قال)، وفي لفظ: فقال الرجل: (إنها بدنة)؛ أي: هَدْيٌ، (قال)، وفي لفظ: فقال -بزيادة الفاء-: (اركبها). زاد في حديث أنس تكرير ذلك ثلاثًا (¬3). (قال) أبو هريرة - رضي الله عنه -: (فـ) لقد (رأيتُه)؛ أي: ذلك الرجل (راكبَها)؛ أي: البدنة، يجوز أن يكون راكبها بدلًا من ضمير المفعول، ويجوز أن يكون حالًا، وإنما انتصب على الحال؛ لأن إضافته لفظية، فهو نكرة (¬4) (يساير النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -)، والنعلُ في عنقها. (وفي لفظ: قال) النَّبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل (في) المرة (الثانية، أو) المرة (الثالثة) من قوله - صلى الله عليه وسلم - له: "اركبها"، وقول الرجل: إنها بدنة: "اركبْها وَيْلَكَ" نصب ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1324)، كتاب: الحج، باب: جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 317)، وأبو داود (1761)، كتاب: المناسك، باب: في ركوب البدن، والنسائي (2802)، كتاب: الحج، باب: ركوب البدنة بالمعروف. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 213). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري والترمذي. ورواه مسلم (1323)، كتاب: الحج، باب: جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 221).

أبدًا على الفعل المطلق بفعل من معناه محذوف وجوبًا؛ أي: ألزمه الله ويلًا، وهي كلمة تقال لمن وقع في الهلاك، أو لمن يستحقه، أو هي بمعنى الهلاك، أو المشقة من العذاب، أو الحزن، أو وادٍ في جهنم، أو بئر فيها، أو باب لها، فيحتمل إجراؤها على هذا المعنى، لتأخر المخاطب عن امتثال أمره - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وَالشَّكِّ في كونه قال له ذلك في الثانية أو الثالثة من الراوي. قال القرطبي وغيره: قالها -أي: ويلك- تأديبًا للرجل لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه، ويحتمل أَلَّا يُراد بها موضوعُها الأصلي، ويكون مما يجري على لسان العرب في المخاطبة من غير قصد لموضوعه، كما في: تربت يداك، ونحوِه. وقيل: إن الرجل كان قد أشرف على الهلاك من الجهد. وويل: كلمة تقال لمن أشرف على الهلاك، أو وقع في هلكة -كما مر-، فالمعنى: أشرفتَ على الهلاك فاركبْ (¬2)، فعلى هذا، فهي إخبار (¬3). وفي حديث أنس - رضي الله عنه - عند الإمام أحمد، والنسائي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يسوق بدنةً وقد جهدَه المشيُ، فقال: "اركبها"، قال: إنها بَدَنَةٌ، قال: "اركبها"، قال: إنها بدنة (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 214). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 423). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 214). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 106)، والنسائي (2801)، كتاب: الحج، باب: ركوب البدنة لمن جهده المشي.

(أو) قال - صلى الله عليه وسلم - بدل كلمة "ويلك": (وَيْحَكَ!)، وهي كلمة ترحُّم وتوجُّع، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقُّها، أو قد تقال بمعنى المدح والتعجُّب، وهي منصوبة على المصدرية، وقد ترفع، وتضاف، ولا تضاف، يقال ويحَ زيدٍ، وويحًا له، وويح له، ومنه حديث علي -رضوان الله عليه-: ويح ابن أمّ عبّاس! (¬1) كأنه أعجب بقوله. ومثل ويح: وَيْس، ومن ذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم - لعمار بن ياسر - رضي الله عنه -: "وَيْسَ ابنِ سُمَيَّة"، وفي لفظ: "يا وَيْسَ ابنِ سُمَيَّة" (¬2)، وهي كلمة تقال لمن يرحم ويرفق به، مثل ويح، وحكمهما واحد، وقد يراد بكلمة "ويل" التعجُّب أيضًا، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير: "وَيْلُ امِّهِ! مِسْعَرَ حَرْبٍ" (¬3)؛ تعجبًا من شجاعته وجرأته وإقدامه، ومنه حديث علي: وَيْلُ امِّهِ كيلًا بغير ثمن! لو أن له وعاءً (¬4)؛ أي: يكيل العلوم الجمة بلا عوض، إلّا أنَّه لا يصادف واعيًا. وقيل: "وَيْ" كلمةٌ مفردة، و"لأمه" مفردة، وهي كلمة تفجُّع وتعجُّب، وحُذفت الهمزة من أمه تخفيفًا، وألقيت حركتها على اللام، وينصب ما بعدها على التمييز (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 217). (¬2) رواهما مسلم (2915)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيتمنى أن يكون مكان الميت، من البلاء، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (2581)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط، عن المسور بن مخرمة، ومروان، في حديث طويل. (¬4) لم أقف عليه. (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 234 - 235).

وفي رواية: فقال له - صلى الله عليه وسلم - في الثالثة أو الرابعة: "اركَبْها ويحَك، أَوْ وَيْلَكَ" رواها الترمذي، (¬1) وهو في "البخاري" في باب: هل ينتفع الواقف بوقفه؟ كذلك، (¬2) والله أعلم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في أول شرح هذا الحديث، من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم تخريجه في أول شرح هذا الحديث، من حديث أنس - رضي الله عنه -.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: أَمَرَني رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَقُومَ عَلَى بدْنِهِ، وَأنْ أَتَصَدَّقَ بلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا، وَأَجِلَّتِهَا، وَأَلا أُعْطِيَ الجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِندِنَا (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1621)، كتاب: الحج، باب: الجلال للبدن، و (1629)، باب: لا يعطى الجزار من الهدي شيئًا، و (1630)، باب: يتصدق بجلود الهدي، و (1631)، باب: يتصدق بجلال البدن، و (2177)، كتاب: الوكالة، باب: وكالة الشريك في القسمة وغيرها، ومسلم (1317/ 348)، واللفظ له، و (1317/ 349)، كتاب: الحج، باب: في الصدقة بلحوم الهدي وجلودها وجلالها، وأبو داود (1769)، كتاب: المناسك، باب: كيف تنحر البدن، وابن ماجه (3157)، كتاب: الأضاحي، باب: جلود الأضاحي. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 158)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 398)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 413)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 64)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 65)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1034)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 556)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 52)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 226)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 220).

(عن) أميرِ المؤمنين أبي الحسنينِ (عليِّ بنِ أبي طالبٍ) الأنزعِ البطينِ (- رضي الله عنه -، قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقومَ على بُدْنِه)، وكانت مئة. وفي حديث جابر الطويل عند مسلم: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نحر منها ثلاثًا وستين بدنةً، ثمّ أعطى عليًا فنحر ما غَبَرَ، وأشركه في هديه (¬1)، (وأن أتصدقَ) على المساكين (بلحمها). وفي رواية عن علي عند البخاري: أهدى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مئةَ بدنةٍ، فأمرني بلحومها، فقسمتها (¬2)؛ أي: على المساكين، وربما أشعرَ بالتصدق بجميع لحمها. قال ابن دقيق العيد: ولا شك أنَّه أفضلُ مطلقًا، انتهى (¬3). قلت: بل يُستحب أن يأكل من هَدْيه التطوُّعِ، ويهديَ، ويتصدقَ أثلاثًا؛ كالأضحية. وفي "صحيح مسلم" من حديث جابر في وَصْفِهِ حجَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ثمّ انصرفَ إلى المَنْحَر، فنحر - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا وستين بدنةً بيده، ثمّ أعطى عليًا، فنحر ما غبرَ، وأشركه في هديه، ثمّ أمر من كل بدنة بِبَضْعَةٍ، فجُعلت في قِدْرٍ، فطُبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، رواه الإمام أحمد في "المسند" (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1631). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 65 - 66). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم. ورواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 320).

وروى نحوه الترمذيُّ وابن ماجه (¬1). (و) أن أتصدق بـ (جلودها)؛ أي: البُدْنِ المهداةِ، (وأجلتها): جمع جِلال -بالكسر-، وجلال جمع جُلّ -بالضم-، وهو ما تُجلل به الدابة. وفي "القاموس": الجُلُّ -بالضم وبالفتح-: ما تلبسه الدابةُ لتُصان به، انتهى (¬2). زاد ابن خزيمة في رواية: على المساكين (¬3). (و) أمرني - صلى الله عليه وسلم - (أَلَّا أُعطي الجزارَ)، وهو الذي ينحر الجزائرَ والجُزُرَ، والجزور: البعير، أو خاصٌّ بالناقة المجزورة، وما يذبح من الشاء، ويقال للجزار: جِزِّير؛ كسِكِّيت (¬4)، (منها)؛ أي: البُدْنِ المهداة (شيئًا) في أجرة جِزارتها -بكسر الجيم-: اسمٌ للفعل، يعني: على عمل الجزار، نعم يجوز إعطاؤه منها صدقة إذا كان فقيرًا، واستوفى أجرته كاملة، وكذلك إعطاؤه منها هديةً، ولو غنيًا (¬5). قال علماؤنا: وله أن ينتفع بجلدها وجُلِّها، أو يتصدَّق بهما، ويحرُمُ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (815)، كتاب: الحج، باب: ما جاء كم حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن ماجه (3074)، كتاب: المناسك، باب: حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكذا أبو داود (1905)، كتاب: المناسك، باب: صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1264)، (مادة: جلل). (¬3) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2920)، إلا أنه قال: "للمساكين". ووقع في رواية مسلم (1317/ 349): "في المساكين". (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 465)، (مادة: جزر). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 227).

بيعُهما وبيعُ شيء منها، ولو كانت تطوعًا؛ لأنها تعينت بالذبح، وكذا الأضحية (¬1). وكذا قال النووي في "شرح مسلم": إن مذهبهم عدمُ جواز بيع جلد الهدي والأضحية، أو أيِّ شيء من أجزائهما، سواء كان تطوعًا، أو واجبًا، قال: لكن إن كان تطوعًا، فله الانتفاعُ بالجلد وغيرهِ باللبسِ وغيره (¬2)، فقصر الجوازَ على التطوع. والمعتمد عندنا: التطوعُ والواجبُ في جواز الانتفاع بنحو جلد سواء (¬3). (و) قال علي - رضي الله عنه -: (قال) النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (نحن نعطيه)؛ أي: الجزار أجرتَه (من عندنا)، لا من الهدي، وهذه انفرد بها مسلم عن البخاري. قال الحافظ عبدُ الحقِّ الإشبيلي في "الجمع بين الصحيحين": لم يقل البخاري: "نحن نعطيه من عندنا"، وقد عزاه في "منتقى الأحكام" بالزيادة للصحيحين (¬4)، وكأنه اعتبار لأصل الحديث، والله أعلم. تنبيهان: الأول: صرّح هذا الحديث بجواز الاستنابة في القيام على الهدي وذبحهِ والتصدقِ به، نعم، الأَفضلُ تولِّيه ذلك بنفسه، لكن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فعل كُلا من المباشرة للذبح، والاستنابة فيه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 406). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 65). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 406). (¬4) انظر: "المنتقى" للمجد ابن تيمية (2/ 226)، حديث رقم (2135). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 65).

ومعتمد المذهب: ولو كان النائب كتابيًا، والمسلمُ أولى. الثاني: اختلف العلماء - رضي الله عنهم - فيما يؤكل منه، وما لا يؤكل من الهدي ودم التّمتّع والقران والدماء الواجبة: فقال أبو حنيفة، وأحمد -على معتمد مذهبه-: يأكل من دم التّمتّع والقِرانِ، وهديِ التطوعِ إذا بلغ محلَّه. وقال مالك: يأكل من الهدي كلِّه، إلّا من جزاء الصيد، وفدية الأذى، والنذر، ونذر المساكين، وهو في التطوع إذا عطب قبل أن يبلغ محله. وقال الشّافعي: لا يأكل إلّا من التطوع. وفي رواية عن الإمام أحمد: لا يأكل من النذر، ولا من جزاء الصيد، ويأكل مما سوى ذلك. قال في "الفروع": ولا يأكل من واجب، إلّا هدي متعة وقِران، نص عليه، اختاره الأكثر، وظاهر كلام الخرقي: لا من قران. وقال الآجري: ولا من متعة. وقدم في "الروضة": وعنه: يأكل، إلّا من نذر، وجزاء صيد، وزاد ابن أبي موسى: وكفارة، واختار أبو بكر، والقاضي، والشيخ -يعني: الموفق-: جوازَ الأكل من أضحية النذر؛ كالأضحية على رواية، وجزم بها على الأصح (¬1). قلت: وهذا المذهب، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 406 - 407).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أتى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ فَنَحَرَهَا، فَقَالَ: ابعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةَ مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * * * (عن زياد بن جُبير) -بضم الجيم وفتح الموحدة- بنِ حَيَّة -بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة تحت- الثقفيِّ، البصريِّ: تابعيّ جليل، يروي عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وغيرهما. روى عنه: يونسُ بنُ عبيد، وأبو عون. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1627)، كتاب: الحج، باب: نحر الإبل مقيدة، ومسلم (1320)، كتاب: الحج، باب: نحر البدن قيامًا مقيدة، وأبو داود (1768)، كتاب: المناسك، باب: كيف تنحر البدن. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 405)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 420)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 69)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 67)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1036)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 553)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 50)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 225)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 213).

أخرج له الجماعةُ غير النسائي، وفي "الكاشف" علّم له علامة الجماعة (¬1). (قال) زياد بن جبير -رحمه الله تعالى-: (رأيت) عبدَ الله (بنَ عمرَ) بنِ الخطاب - رضي الله عنهما - (أتى على رجل) لم يُسَمَّ (قد أناخ بَدَنته)؛ أي: بَرَّكَها، (فنحرها). ولفظ البخاري: ينحرها (¬2). ولفظ مسلم كما رأيته في هذا المحل من "صحيحه"، وفي "الجمع بين الصحيحين": عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّه أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركةً، (فقال)؛ أي: ابن عمر - رضي الله عنهما -: (ابْعَثْها)؛ أي: أَثِرْها حال كونها (قيامًا) مصدر بمعنى: قائمةً؛ أي: معقولة اليسرى، رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم (¬3). وانتصابه على الحال، قال التوربشتي: لا يصح أن يجعل العامل في "قيامًا" ابعثْها؛ لأن البعث إنما يكون قبل القيام، واجتماع الأمرين في حالة واحدة غيرُ ممكن، انتهى. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 347)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 526)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 253)، و"تهذيب الكمال" للمزي (9/ 441)، و"الكاشف" (1/ 409)، و"سير أعلام النبلاء" كلاهما للذهبي (4/ 515)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 308). (¬2) كما تقدم تخريجه قريبًا. قلت: واللفظ الذي ذكره المصنف -رحمه الله- ليس من رواية البخاري ومسلم، فرواية البخاري: "ينحرها"، ورواية مسلم: "ينحر بدنته باركة". (¬3) وتقدم تخريجه.

وأجاب الطيبي باحتمال أن تكون حالًا مقدرة، فيجوز تأخيره عن العامل، كما في التنزيل: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112]، أي: ابعثها مقدّرًا قيامُها، ثمّ انحرْها، وقيل: معنى ابعثها: أقمها، فعلى هذا انتصاب "قيامًا" على المصدرية (مقيدةً) بالنصب على الحال، من الأحوال المترادفة أو المتداخلة (¬1). (سنةَ): منصوب بعامل مضمر على أنَّه مفعول به، والتقدير: فاعلًا بها، أو مقتفيًا، أو متبعًا سنة (محمد - صلى الله عليه وسلم -). ويجوز الرفع بتقدير: هو سنة محمد. وقول الصحابي: من السنَّةِ كذا مرفوع عند الشيخين، لاحتجاجهما بهذا الحديث في "صحيحيهما" (¬2). قال في "الفروع": يُستحب ذبح غيرِ الإبل، ونحرُها -أي: الإبل- قائمةً معقولةَ اليدِ اليسرى، ونقل حنبل عن الإمام أحمد: كيف شاء، باركة وقائمة، في الوهدة بين أصل العنق والصدر، ويسمي ويكبر. قال الإمام أحمد: حين يحرك يده بالذبح، ويقول: اللهمَّ هذا منك ولكَ، ولا بأس بقوله: اللهم تقبلْ من فلان، نصَّ عليه. ونقل بعضهم: يقول: اللهم تقبلْ مني كما تقبلتَ من إبراهيم خليلِكَ. قال: وقاله شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-، وأنَّه إذا ذبح، قال: "وَجَّهْت وجهي" إلى قوله: "وأنا من المسلمين"، انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 225). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 400).

وفي "سنن أبي داود" عن عبد الرحمن بن سابط: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا ينحرون البُدْنَ معقولةَ اليسرى قائمةً على ما بقي من قوائِمها، رواه أبو داود (¬1)، وهو مرسل، ويشير إلى معناه قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]؛ أي: سقطت، وهو يشعر بأنها كانت قائمة (¬2). وفي "الصحيح": قال ابن عبّاس - رضي الله عنهما -: صوافَّ؛ أي: قيامًا. وفي "مستدرك الحاكم" من وجه آخر: عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما -في قوله: {صَوَافِنَ} بكسر الفاء بعدها نون-، أي: قيامًا على ثلاثة قوائمَ معقولة، (¬3) وهي قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه -، وهي جمع صافنة، وهي التي رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب (¬4). تنبيه: معتمد مذهب الحنابلة: والأضحية من الإبل تنحر قائمةً على ثلاثٍ من قوائمها معقولةَ اليد اليسرى. وقال الحنفية: تُنحر باركةً وقائمة (¬5). واتفق الأربعةُ على أن السنةَ نحرُ الإبل، وذبحُ ما عداها. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1767)، كتاب: المناسك، باب: كيف تنحر البدن؟ (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 67). (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" (7571). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 554). (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 221).

فإن ذُبح ما يُنحر، أو نُحر ما يُذبح، فقال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد: يُباح، إلّا أن أبا حنيفة مع الإباحة كرهه. وقال الإمام مالك: إن نحر شاة، أو ذبح بعيرًا من غير ضرورة، لم يؤكل لحمُها، وحمله على الكراهة من أصحابه عبدُ العزيز بن أبي سلمة (¬1)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (9/ 318).

باب الغسل للمحرم

باب الغسل للمحرم أي: جوازه، أو وجوبه. أما إذا كان جنبًا، أو كانت حائضًا، فجَمْعٌ على جوازه، بمعنى: أنَّه يجب على المحرم كغيره، لاعتبار الطهارة للصلوات المكتوبة، وهي فرض، وكذا سائر الأغسال الواجبة، وأما إذا كان الغُسل للتبريد ونحوه، فاختلف فيه: قال في "الفروع": وله -أي: المحرم- حكُّ رأسه وبدنه برفق، نص عليه الإمام أحمد، ما لم يقطع شعرًا، وقيل: غيرُ الجنب لا يخللهما بيده، ولا يحكهما بمشط أو ظفر. قال: وله غسلُه في حمام وغيره بلا تسريح، روي عن عمر، وعلي، وابن عمر، وجابر، وغيرهم - رضي الله عنهم -، وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل رأسه وهو محرمٌ، حرك رأسه بيديه (¬1)، كما يأتي. وذكر الحافظ في هذا الباب حديثًا واحدًا، وهو: ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 262).

عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ حُنَيْنٍ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَالمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، اخْتَلَفَا في الأَبْوَاءِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ المُحْرِمُ رَأْسَهُ، وقَالَ المِسْوَرُ: لا يَغْسِلُ المُحْرِمُ رَأْسَهُ، قَالَ: فَأَرْسَلَني ابنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي أيوبَ الأَنْصَارِيِّ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ القَرْنَيْنِ، وَهُوَ يُسْتَرُ بثَوْبِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ حُنَيْنٍ، أَرْسَلَنيَ إلَيْكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، يَسْألكَ كَيْفَ كانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِم؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ، فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ، ثُمَّ قَالَ لِإنْسَانٍ يَصُبُّ عَلَيْهِ المَاءَ: اُصْبُبْ، فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأيتُهُ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ المِسْوَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَا أُمَارِيكَ أَبَدًا (¬2). القَرْنَانِ: العَمُودَانِ اللَّذَانِ تُشَدُّ فِيهِمَا الخَشَبَةُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَيْهَا البَكَرَةُ. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1743)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد باب: الاغتسال للمحرم، ومسلم (1205/ 91)، كتاب: الحج، باب: جواز غسل المحرم بدنه ورأسه، وأبو داود (1840)، كتاب: المناسك، باب: المحرم يغتسل، والنسائي (2665)، كتاب: الحج، باب: غسل المحرم، وابن ماجه (2934)، كتاب: المناسك، باب: المحرم يغسل رأسه. (¬2) رواه مسلم (1205/ 92)، كتاب: الحج، باب: جواز غسل المحرم بدنه ورأسه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 181)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 6)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 219)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 291)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 125)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 68)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1039)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 56)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 201)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 313)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 79).

(عن عبدِ الله بنِ حُنينٍ) -بضم الحاء المهملة وفتح النون، على التصغير- الهاشميِّ، مولى العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ. قال ابن سعد: ويقال: إنه مولى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وقيل غيرُ ذلك. سمع ابنَ عبّاس، وعليًا، والمِسْوَرَ، وأبا أيوبَ. روى عنه: محمدُ بن المنكدر، وشريكُ بن عبد الله بن نمر، وأبو بكر بن حفص. قال أسامة بن زيد الليثي: دخلت على عبد الله بن حنين لياليَ استُخلف يزيدُ بن عبد الملك، وكان موته قربَ ذلك، وكان قليل الحديث. أخرج له الجماعة (¬1). (أَنَّ عبدَ الله بنَ عبّاس) حبرَ الأمة - رضي الله عنهما -، (والمِسْوَرَ) -بكسر الميم وسكون السين المهملة-، فهو أبو عبد الرحمن (بنَ مَخْرَمَةَ) -بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء-، له ولأبيه مخرمةَ صحبةٌ، فإن مخرمةَ كان من مُسلمة الفتح من المؤلَّفة قلوبُهم، ثمّ حَسُنَ إسلامه، وشهد حُنينًا، وتُوفي بالمدينة، توفي سنة أربع وخمسين، وعمره مئة سنة وخمس عشرة سنة، وعمي في آخر عُمُرهِ (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 286)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 439)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (5/ 169). (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 15)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1380)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (57/ 147)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 119)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 392)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 542)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 50).

وأما أبو عبد الرحمن المسورُ، فهو ابنُ مخرمةَ بنِ نوفل بنِ أُهيب -بضم الهمزة-، ويقال: وهيب بنِ عبدِ مناف بنِ زهرةَ بنِ كلابٍ، الزهريُّ، القرشيُّ، ابنُ أختِ عبدِ الرحمن بن عوف الشفاءِ بنتِ عوفٍ، لها هجرة، وهي -بكسر الشين المعجمة وبالفاء والمد-، فهو وأبوه وأمه من الصَّحابة - رضي الله عنهم -، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، وقدم به المدينة في ذي الحجة سنة ثمان، وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، وقُبض النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو ابنُ ثمان سنين، وسمع منه، وحفظ عنه، وحَدَّث عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، وكان فقيهًا من أهل الفضل، ولم يزل بالمدينة إلى أن قُتل عثمان، فانتقل إلى مكّة، فلم يزل بها إلى أن مات معاويةُ، وكره بيعةَ يزيد، فلم يزل مقيمًا بمكة إلى أن بعث يزيدُ عسكَره، وحاصر مكّة، وبها ابنُ الزبير، فأصابَ المسورَ حجر من حجارة المنجنيق وهو يصلي بالحِجر، فقتله، وذلك في مستهلِّ ربيع الأول سنة أربع وستين، وعمره اثنتان، وقيل: ثلاث وستون سنة. روى عنه: عروة بن الزبير، وعلي بن الحسين زينُ العابدين، وعبدُ الله بن حنين، وغيرهم (¬1). (اختلفا) -يعني: ابنَ عبّاس، والمسورَ بن مخرمة - رضي الله عنهم --، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 410)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 297)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 394)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1399)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 772)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 170)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 399)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 390)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 119).

وهم (في الأبواء) -بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد-: موضع معينٌ بين مكّة والمدينة. وفي "المطالع": الأبواء: قرية من عمل الفرع، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا. قال بعضهم: سُميت بذلك، لما فيها من الوباء، ولو كان كما قال، لقيل: الأوباء، أو يكون مقلوبًا منه، وبه توفيت أمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصحيحُ أنها سميت بذلك لتبوُّء السيول بها، قاله ثابت، انتهى (¬1). وفي رواية ابن عيينة: أنهما اختلفا وهما بالعَرْج (¬2)، وهو -بفتح أوله وإسكان ثانيه-: قرية جامعة قريبة من الأبواء (¬3). قال في "النهاية": من عمل الفرع على أيام من المدينة (¬4). (فقال ابن عبّاس) - رضي الله عنهما -: (يغسل المحرمُ رأسَه)؛ أي: له ذلك بلا حرج عليه فيه، (وقال المسور) بنُ مخرمة - رضي الله عنهما -: (لا يغسلُ المحرِمُ رأسه)، وهذا الحديث دليل على جواز التناظر في مسائل الاجتهاد والاختلاف فيها إذا غلب على ظن المختلفين فيها حكم (¬5). (قال) عبدُ الله بن حنين: (فأرسلني) عبدُ الله (بنُ عبّاس) - رضي الله عنهما - (إلى أبي أيوبَ) خالدِ بنِ زيدٍ (الأنصاريِّ) - رضي الله عنه -. وفيه دليل على الرجوع إلى من يُظن به أن عنده علمًا فيما اختلف فيه. ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 57). (¬2) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2650). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 56). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 204). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 68).

وفيه دليل على قَبول خبر الواحد، وأن العمل به سائغٌ شائعٌ بين الصَّحابة؛ لأن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أرسلَ ابنَ حُنين ليستعلم له علمَ المسألة، ومن ضرورة ذلك قبولُ خبره عن أبي أيوب فيما أُرسل فيه (¬1). قال عبد الله بن حنين: (فوجدتُه)؛ أي: أبا أيوب، وفي الكلام طَيٌّ، تقديره: فأرسلني إليه، فذهبت إلى أبي أيوب، فوجدته (يغتسلُ) في حال إحرامِه، وهو واقف (بين القرنين)؛ أي: قرني البئر، وهما جانبا البناء الذي على رأس البئر، يُجعل عليهما خشبة تعلق بها البكرة (¬2). (وهو) -يعني: أبا أيوب- (يُسْتَر) -بضم المثناة تحت على صيغة ما لم يسمّ فاعله-؛ أي: يستره مَنْ عنده (بثوب) من أعين الناظرين، وهذا من الاتفاقات الغريبة أن يرسل إليه ليستعلم عن الغسل، فيوجد متلبسًا بما يراد أن يستعلم عنه. قال عبد الله بن حنين: (فسلمت عليه، فقال: من هذا؟)؛ أي: بعد أن ردَّ السلام. فيه دليل على جواز السلام على المتطهر في حال طهارته؛ بخلاف من هو على الحدث. وفيه جواز الكلام في أثناء الطهارة، وعلى التستر عند الغسل (¬3). قال عبد الله بن حنين: فـ (قلت: أنا عبدُ الله بنُ حنين، أرسلني إليك) عبدُ الله (بنُ عبّاس) - رضي الله عنهما - (يسألك: كيفَ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يغسلُ رأسَه وهو محرِمٌ؟)، هذا يُشعر بأن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - كان ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 313). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 68).

عنده علم بأصل الغسل؛ فإن السؤال عن كيفية الشيء إنما يكون بعد العلم بأصله. وفيه دليل على أن غسل البدن كان عنده متقرر الجواز، إذ لم يسأل عنه، وإنما سأل عن كيفية غسل الرأس، ويحتمل اختصاص السؤال عن غسل الرأس، لكونه موضعَ الإشكال في المسألة، أو الحرص عليه، ويخشى بتحريكه باليد من نتف الشعر (¬1). (فوضع أبو أيوب) الأنصاريُّ - رضي الله عنه - (يده على الثوب) الذي يُستر به، (فطأطأه)؛ أي: خفض الثوب، وأزاله من إزاء رأسه (¬2) (حتّى بدا لي) -بغير همز-؛ أي: ظهر لي (رأسه). (ثمّ قال لإنسانٍ) لم يسم ذلك الإنسان (يصبُّ عليه الماءَ) ليغتسلَ به: (اصْبُبْ) (فصبَّ) الإنسان الماء (على رأسه) -أي: أبي أيوب-. فيه دليل على جواز الاستعانة في الطهارة، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة، وورد في تركها شيء لا يقابلها في الصحة (¬3). (ثمّ حَرَّكَ) أبو أيوبَ (رأسَه بيديه) -بالتثنية- (فأقبل بهما وأدبر). فيه جواز دَلْك شعر المحرم بيده إذا أمن تناثره. (ثم قال) أبو أيوب - رضي الله عنه -: (هكذا رأيتُه - صلى الله عليه وسلم - يفعل). فيه الجوابُ والبيانُ بالفعل، وهو أبلغُ من القول، وإنما عدلَ عبدُ الله بنُ حنين بالسؤال عن الكيفية عن السؤال عن الغسل، حيث لم يقل: هل كان يغسل رأسه؟ ليوافق اختلافهما؛ لأنه لما رآه يغتسل وهو محرم، فهمَ من ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 69). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 313). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 68).

ذلك الجوابَ، ثمّ أحبَّ أَلَّا يرجع إلّا بفائدة أخرى، فسأل عن الكيفية، قاله في "الفتح"، انتهى (¬1). هذا إن كان ابن عبّاس لم يقل له: سلْ أبا أيوبَ عن كيفية غسل النَّبي - صلى الله عليه وسلم - رأسَه، بل الظاهر هذا، وأن ابن عبّاس كان عنده علمٌ بأصل الغسل -كما قدمنا-. (وفي رواية) عن ابن عيينة في "صحيح مسلم": قال عبدُ الله بن حنين: فرجعتُ إليهما، فأخبرتهما، (فقال المسورُ) بنُ مخرمة (لـ) عبدِ الله (بنِ عبّاس) - رضي الله عنهم -: (لا أُماريك)؛ أي: لا أُجادلك بعدَها؛ أي: بعدَ هذه النوبة (أبدًا)؛ لشدة فهمِك، وجودة ذكائك، وغزارة علمك. وفيه وجوبُ الإذعان للحق إذا ظهر، والخبر النبوي إذا ثبت واشتهر، وهي زبدة المناظرة، وثمرة المجادلة والمحاورة. ومحلُّ الدليل من الحديث ظاهر، وهو جواز غسل المحرِمِ رأسَه وبدنه. قال في "الفروع": بدنه كسره حديث أبي أيوب، واغتسل عمر - رضي الله عنه -، وقال: لا يزيدُ الماء الشعرَ إِلَّا شعثًا، في رواية مالك، والشافعي (¬2). وعن ابن عبّاس - رضي الله عنهما -، قال لي عمر ونحن محرمون بالجحفة: تعالَ أُباقيك أينا أطول نَفَسًا في الماء، رواه سعيد (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 56). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 313). (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 323)، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 117). (¬3) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 117)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن =

وكره مالك للمحرم غطسَه في الماء، وتغييب رأسه فيه (¬1). قال في "الفروع": والكراهةُ تفتقر إلى دليل، وتوجَّه قوله: تركُه أولى، أو الجزم به؛ لأن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان لا يغسل رأسه إلّا من احتلام، رواه مالك (¬2). وفي البخاري: قال ابن عبّاس - رضي الله عنهما -: يدخل المحرم الحمام (¬3). ولم ير ابن عمر وعائشة بالدخول بأسًا. وفي "الفروع": أن ابن عبّاس دخل حمامًا في الجحفة، رواه الشّافعي، وقال ابن عبّاس: ما يعبأ الله بأوساخنا (¬4). قال في "الفروع": ويحمل هذا وما سبق على الحاجة، أو أنَّه لا يكره، وإلا، فالجزم بأنه لا بأس به مع أنه مزيل للشعث والغبار، مع الجزم بالنهي عن النظر في المرآة لإزالة شعثٍ وغبار، فيه نظر ظاهر، مع أن الحجة: "انظروا إلى عبادي أَتَوني شُعْثًا غُبْرًا" (¬5)، وهي هنا، فيتوجه من عدم النهي ¬

_ = الكبرى" (5/ 63). (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 262). (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 324). (¬3) ذكره البخاري في "صحيحه" (2/ 653)، معلقًا بصيغة الجزم. (¬4) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 365)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 63). (¬5) رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2840)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4068)، من حديث جابر - رضي الله عنه -. ورواه الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 224)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. ورواه أيضًا (2/ 305)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

هنا، عدمُه هناك بطريق الأولى، لزوال الغسل من الشعث والغبار ما لا يزيل النظر في المرآة، واحتماله إزالة الشعر. ومعتمد مذهبنا: له حكُّ بدنه أو رأسه برفق ما لم يقطعْ شعرًا، أو له غسلُه في حمام وغيره بلا تسريح، وغسلُه بسِدْرٍ وخَطْمِي ونحوهما. قال في "الفروع"، وفاقًا للشافعي، قال: وذكر جماعة: يُكره، وجزم به في "المستوعب"، (¬1) والشيخ الموفق، وحكاه عن الثلاثة، لتعرضه لقطع الشعر، واحتج القاضي لمعتمد المذهب: بأن القصد منه النظافةُ وإزالةُ الوسخ، كالأشنان والماء، ولا نسلم أنَّه يستلذ رائحته، ثمّ يبطل بالفاكهة، وفيه رواية مرجوحة: أنَّه يحرم ذلك، ويفدي، وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، وقال أبو يوسف، ومحمد: عليه صدقة (¬2). وذكر ابن دقيق العيد: أن على غاسل رأسه بالخطمي ونحوه الفديةَ عند أبي حنيفة، ومالك (¬3). والله تعالى أعلم. قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (القَرْنان) في قول عبدِ الله بنِ حنين: فوجدته يغتسل بين القرنين، هما (العمودان اللذان تُشد فيهما الخشبةُ التي تُعلق عليها)؛ أي على تلك الخشبة المشدودة في العمودين (البَكَرَةُ) التي يستقي عليها -تفتح كافها وتسكن- كما في "المطالع" (¬4)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "المستوعب" للسامري (4/ 95). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 262 - 263). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 69). (¬4) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 179).

باب فسخ الحج إلى العمرة

باب فسخ الحج إلى العمرة قال شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في "مختصر الفتاوى المصرية": لم يختلف النقل، ولا أحد من أهل العلم أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بفسخ الحجّ إلى العمرة، وأنهم إذا طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، أن يحلوا من إحرامهم، فهو مما تواترت فيه الأحاديث الصحيحة (¬1). ومعنى فسخ الحجّ إلى العمرة؛ أي: قلب إحرامه بالحج عمرةً، ثمّ يتحلَّلُ من إحرامه بعملِ عُمرة، فيصير متمتِّعًا، وهذا مذهب الإمام أحمد، فإنَّه يجوِّزُ ذلك، بل جزم جماعةٌ باستحبابه، ومعناه عن الإمام أحمد، وعبر القاضي وأصحابه، وصاحب "المحرر"، وغيرهم بالجواز. قال في "الفروع": وإنما أرادوا فرض المسألة مع المخالف، ولهذا ذكر القاضي استحبابه في بحث المسألة. قال ابن عقيل: هو مستحبٌّ عند أصحابنا للمفرِد والقارِنِ أن يفسخا نِيَّتَهما بالحج (¬2). قال في "الإقناع": يُسن لمن كان قارِنا أو مفرِدًا فسخُ نيتهما بالحج، وينويان عمرةً مفردةً، فإذا فرغا منها، وأَحَلَّا، أحرما بالحج ليصيرا ¬

_ (¬1) وانظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (26/ 61). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 242).

متمتعين، ما لم يكونا ساقا هديًا، أو وقفا بعرفةَ (¬1). ويأتي بحث الخلاف في ذلك في أثناء شرح الحديث -إن شاء الله تعالى-. وذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- في هذا الباب أحد عشر حديثًا: ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 563).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدَ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: أَهَلَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَاُبهُ بالحَجَّ، وَليْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَطَلْحَةَ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بمَا أَهَلَّ بهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَيطُوفُوا ثُمَّ يُقَصرُوا وَيَحِلُّوا، إلا مَنْ كَانَ مَعَهُ الهَدْيُ، فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إِلى مِنَى، وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ؟! فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "لَو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الهَدْيَ، لأَحْلَلْتُ"، وَأَنَّ عائِشَةَ حَاضَتْ، فَنَسَكَتِ المَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنَّها لَمْ تَطُفْ بِالبَيْتِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ، طَافَتْ بِالبَيْتِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! تَنْطَلِقُونَ بعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ؟! فَأَمَرَ عَبْدَ الرِّحمنِ بْنَ أَبي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الحَجِّ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1568)، كتاب: الحج، باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، واللفظ له، و (1693)، كتاب: العمرة، باب: عمرة التنعيم، و (2371)، كتاب: الشركة، باب: الاشتراك في الهدي والبدن، و (6803)، كتاب: التمني، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت"، و (6933)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - على التحريم إلا ما تعرف إباحته، ومسلم (1216)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام، وأبو داود (1789)، كتاب: المناسك، =

(عن) أبي عبدِ الله (جابرِ بنِ عبدِ الله) الأنصاريِّ (- رضي الله عنهما -، قال: أَهَلَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: أحرم هو (وأصحابُه) - رضي الله عنهم - (بالحجِّ)، تمسَّكَ بظاهره من قال: إنه - صلى الله عليه وسلم - حجَّ مفرِدًا، والصحيح أنَّه كان قارنًا، والذين قالوا: إنه حج مفرِدًا: عائشةُ، وابن عمر، وجابر - رضي الله عنهم -، لكن في حديث عائشةَ وابنِ عمر: أنَّه تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، وهو أصح من حديثهما: أنَّه أفردَ الحجّ، وما صحَّ من ذلك، فمعناه: إفرادُ أعمالِ الحجّ. وفي الحديث المار المتفق عليه: أنَّه أمر أزواجه أن يحللْنَ عام حجة الوداع، قالت حفصة: فما يمنعُكَ أن تحلَّ؟ قال: "إني لَبَّدْتُ رَأْسي، وَقَلَّدْتُ هَدْيي، فلا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ" (¬1). وفي حديث عائشة، وابن عمر: فطاف بالصفا والمروة، ثمّ لم يحللْ من شيء حَرُمَ منه حتّى قضى حجَّه، ونحر هديه يومَ النحر، وأفاضَ فطاف بالبيت، ثمّ حل من كل شيء. ¬

_ = باب: في إفراد الحج، والنسائي (2805)، كتاب: الحج، باب: إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي، وابن ماجه (2980)، كتاب: المناسك، باب: فسخ الحج. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 162)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 246)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 320)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 163)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 70)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1044)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 218)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 608)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 293)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 191). (¬1) تقدم تخريجه.

(وليس مع أحد منهم هدي غير النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وطلحةَ) بنِ عُبيد الله بنِ عثمانَ بنِ عمرِو بنِ كعبِ بنِ سعدِ بنِ تيمِ بنِ مُرَّةَ بنِ كعبِ بنِ لُؤَيٍّ، القرشيِّ، التيميِّ، يكنى: أبا محمد، سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلحةَ الجود، وطلحةَ الخير، وطلحةَ الفياض. وأمه الصعبةُ بنتُ عبدِ الله الحضرميِّ، أسلمت وهاجرت، وهي أخت العلاءِ بنِ الحضرميِّ. قدم طلحة - رضي الله عنه - بعد خروج النَّبي - صلى الله عليه وسلم - من بدر، فلم يشهدها، فسأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سهمَه وأجرَه، فقال: "لكَ سهمُك، ولكَ أجرُك" (¬1)، وشهد أُحدًا وما بعدها، وأبلى بأحد بلاء حسنًا، وقى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، واتقى عنه بيده حتّى شَلَّتْ أصابعُهُ، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - إذا ذكرَ أُحُدًا يقول: ذلك يومٌ كلُّه كانَ لطلحة. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، والثمانية الذين سبقوا للإسلام، والخمسةِ الذين أسلموا على يد الصدِّيق، والستة أصحاب الشورى الذين تُوفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض. قتل يوم الجمعة لعشرٍ خَلَوْنَ من جُمادى الأولى سنة ست وثلاثين يومَ الجمل، وهو ابنُ أربعٍ وستين سنة، وقيل: ثمان وخمسين، وقبرُه بالبصرة مشهور يُزار ويُتبرك به. روى عنه بنوه: موسى، وعيسى، ويحيى، وعامر بنو طلحة، وخلائقُ غيرهم. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (225)، والحاكم في "المستدرك" (5585)، عن ابن شهاب، مرسلًا.

روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثون حديثًا، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة (¬1). (وقدم عليٌّ) -رضوان الله عليه- (من اليمن)، ومعه الهديُ. وفي رواية: وقدم عليٌّ من سِعايته (¬2) -بكسر السين المهملة-؛ أي: من عمله في السعي في الصدقات، لكن قال بعضهم: إنما بعثه أميرًا، إذ لا يجوز استعمالُ بني هاشم على الصدقات، وأُجيب بأنَّ سِعايته لا تتعين للصدقة، فإن مطلق الولاية يسمى سعاية، سَلَّمنا، لكن يجوز أن يكون ولاه الصدقاتِ محتسبًا، أو بعمالةٍ من غير الصدقة (¬3). وفي "البخاري ": ومعه هديٌ (¬4) -كما قدمنا-، وهي جملة حالية. وفي رواية أنس - رضي الله عنه - في "الصحيحين"، وغيرهما، قال: قدم عليٌّ - رضي الله عنه - على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من اليمن، فقال -عليه السلام-: "بِما أَهْلَلْتَ" (¬5)؛ أي: أحرمت -بإثبات ألف "ما" الاستفهامية، مع دخول الجار عليها، وهو قليل-، ولأبي ذر: "بِمَ" بحذفها على الكثير الشائع، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 214)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 344)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 87)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 764)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (25/ 54)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 84)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 239)، و"تهذيب الكمال" للمزي (13/ 412)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 23)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 529). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1216/ 141). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 191). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1568). (¬5) سيأتي تخريجه قريبًا.

نحو: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1]. (فقال) عليٌّ - رضي الله عنه -: (أهللتُ بما أهلَّ به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -)، ولم يذكر في هذا الحديث جوابَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حينَ قال له ذلك. وفي رواية أنس: فقال -أي النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن مَعي الهديَ، لأَحْلَلْتُ -أي: من الإحرامِ-، وتمتعْتُ"؛ لأن صاحب الهدي لا يتحلل حتّى ينحرَ هديه. زاد محمد بن بكر عن ابن جريج: قال: "فامكثْ حَرامًا كما أَنْتَ" (¬1)، وهذا غيرُ ما أجاب به أبا موسى؛ فإنَّه قال له كما في "الصحيحين": "بما أهللت؟ "، قال: بإهلال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "هل سُقْتَ الهديَ؟ "، قال: لا، قال: "فَطُفْ بالبيتِ وبالصَّفا والمروة، ثمّ أَحِلَّ" الحديث، وإنما أجابه بذلك؛ لأنه ليس معه هديٌ، فهو من المأمورين بفسخ الحجّ إلى العمرة، بخلاف عليٍّ - رضي الله عنه -، فإن معه هديًا. وفي الحديث صحةُ الإحرام المعلَّق على ما أحرمَ به فلانٌ، وينعقدُ، ويصيرُ محرِمًا بما أحرم به فلان إن علمَه (¬2). فإن كان فلان أحرمَ مطلقًا، فللثاني صرفُه لما شاء، ولا يتعين صرفُه إلى ما يصرفه الأول، ولو جهل إحرام الأول؟ فكمن أحرم بنسكٍ ونسيه. فإن كان قبلَ الطواف، جعله عمرةً استحبابًا، ويجوز صرفُه إلى غيرها. وإن شكَّ هل أحرم الأول، فكمن لم يحرم، فيكون إحرامُه مطلقًا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1483)، كتاب: الحج، باب: من أهل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1250)، كتاب: الحج، باب: إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه، وهذا لفظ البخاري. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 191).

يصرفه إلى ما شاء، فإن صرفه قبلَ طوافه، وقع طوافُه عمَّا صرفه إليه، وإن طاف قبلَ صرفِه، لم يعتدَّ بطوافه، وإن كان إحرامُ الأول فاسدًا، فينعقد إحرامه، ويأتي بحجة صحيحة (¬1). وقال الشّافعي: إذا أحرم بما أحرم به فلان، انعقد إحرامه، وصار محرمًا بما أحرمَ به فلانٌ، وإن لم يعلم بإحرامه، وإن أحرم مطلقًا، فإن نوى نفسَ الإحرام، ولم يعين نسكًا، صحَّ اتفاقًا، ويجعله ما شاء، نص عليه الإمام أحمد، وفاقًا لأبي حنيفة، ومالكٍ (¬2). قلت: وهو مذهب الشّافعي أيضًا. قال الحافظ ابن حجر: أجاز الشّافعيُّ الإهلال بالنية المبهَمَة، ثمّ له أن ينقلَها إلى ما شاء من حج أو عمرة، انتهى (¬3). قال في "الفروع": ولا يجزئه -يعني: من نوى الإحرامَ مطلقًا- العملُ قبل النية، كابتداء الإحرام. وقال الحنفية: فإن طاف شوطًا، كان للعمرة؛ لأنه ركن فيه، فهو أهم، وكذا لو أُحصر، أو جامع، لا؛ لأنه أقل، ولو وقف بعرفة، كان للحج، كذا قالوا، انتهى (¬4). (فأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابه) ممن ليس معه هديٌ (أن يجعلوها)؛ أي: الحجةَ التي أهلّوا بها (عمرةً)، وهو معنى فسخِ الحجّ إلى العمرة. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 564). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 246). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 416). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 191). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 246).

(فيطوفوا): هو من عطف المفصَّل على المجمَل، مثل: توضَّأَ وغسلَ وجهَه، والمراد بالطواف هنا: ما هو أعم من الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، قال تعالى-: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، أو اقتصر على الطواف بالبيت، لاستلزامه السعيَ بعده، والتقدير: فيطوفوا ويسعوا، فحذف اكتفاء، على أنَّه قد جاء في رواية التصريحُ بهما، (¬1) (ثمّ يُقَصِّروا)، وهو هنا أفضلُ من الحلق، ليوفروا الشعر ليحلق عند التحلل من الحجّ. (ويَحِلوا) -بفتح أوله وكسر الحاء المهملة-؛ أي: يصيروا حلالًا، (إلّا من كان معه الهديُ) استثناء من قوله: فأمرَ أصحابه، (فقالوا)؛ أي: المأمورون بالفسخ. وفي لفظ: "قالوا" -بإسقاط الفاء-: (ننطلقُ)؛ أي: أننطلقُ؟ فحذف همزة الاستفهام التعجبي (¬2) (إلى مِنَى) -بالقصر-: الموضعُ المعروف، وهو مذكر، وقد يصرف. وقال صاحب "المطالع": سمي بذلك، لما يُمنى فيه من الدماء، وقيل: لأن آدم تمنى فيه الجنة (¬3). وقال ابن فارس: سمي بذلك من قولك: منى الله الشيءَ: إذا قدره، فقدر الله أن جعلَه مَشْعرًا من المشاعر (¬4). ويأتي بقية الكلام عليه في الحديث السادس -إن شاء الله تعالى-. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 191). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 393 - 394). (¬4) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (3/ 817)، (مادة: منى).

(وذَكَرُ أَحَدِنا يَقْطُرُ) منيًّا، هو من باب المبالغة؛ أي يفضي بنا إلى مجامعة النساء، ثمّ نحرم بالحج عقبَ ذلك، فنخرج وذكرُ أحدِنا، لقربه من الجماع، يقطر منيًا، وحالةُ الحجّ تنافي الترفُّهَ، وتناسبُ الشعث، فكيف يكون ذلك؟! (¬1). (فبلغ ذلك) ليس في اليونينية لفظةُ "ذلك"؛ أي: بلغ قولُهم (النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -) بنصب "النَّبي" على المفعولية، (¬2) وفي رواية: فما ندري، أشيء بلغه من السماء، أم شيء من قبل النّاس؟ (¬3) (فقال) - صلى الله عليه وسلم -، زاد مسلم: "قد علمتُم أَنِّي أتقاكُم لله -عَزَّ وجَلَّ-، وأَصْدَقُكمْ وأبَرُّكُمْ (¬4) " "لو استقبلْتُ من أَمْرِي ما استدْبَرْتُ"، يجوز أن تكون "ما" موصولة؛ أي: الذي، أو نكرة موصوفة؛ أي: شيئًا، وأيًا ما كان، فالعائدُ محذوف؛ أي: استدبرته (¬5)؛ أي: لو كنتُ الآنَ مستقبلًا زمنَ الأمر الذي استدبرته؛ أي: خَلَّفته ومضيتُ عنه خلفي، لفواتي إياه، ومُضيي عنه، (ما أهديت)؛ أي: ما سقتُ الهديَ، (ولولا أن معي الهديَ، لأحللت) من إحرامي؛ لأن وجوده مانع من فسخ الحجّ إلى العمرة والتحلل منها. والأمرُ الذي استدبره - صلى الله عليه وسلم - هو ما حصل لأصحابه من مشقة انفرادهم عنه بالفسخ، حتّى إنهم توقفوا وتردَّدوا وراجعوه. أو المعنى: لو أن الذي رأيت في الآخر، وأمرتُكم به من الفسخ عَنَّ لي في أول الأمر، ما سقتُ الهديَ؛ لأن سوقه يمنع من فسخ الحجّ إلى ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 191). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1216/ 142). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1216/ 141). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 191).

العمرة، والتحلل منها؛ لأنه لا يُنحر إلّا بعد بلوغه محلَّه يومَ النحر (¬1). وهذا الحديث دلَّ على أن التَّمتُّع أفضلُ الأنساك الثلاثة، وبه احتجَّ الإمامُ أحمد - رضي الله عنه -. قال إسحاق بنُ إبراهيم: كان اختيارُ أبي عبد الله - رضي الله عنه - الدخولَ بعمرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو استقبلْتُ من أمري ما استدبَرْتُ، ما سُقْتَ الهَدْيَ، ولأحْلَلْتُ مَعَكُمْ"، قال: وسمعتهُ يقول: العمرةُ كانتْ آخرَ الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن في "الصحيحين" وغيرهما من طرق: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أمرَ أصحابه لما طافوا وسعَوْا أن يجعلوها عُمرةً، إلّا من ساقَ هديًا، وثبتَ على إحرامه، لسوقه الهديَ، وتأسَّف بقوله: "لو استقبلْتُ من أمري ما استدبرتُ" الحديث، ولا يقرُّهم إلّا إلى الأفضل، ولا يتأسَّفُ إلّا عليه (¬2). فإن قيل: إنما أراد - صلى الله عليه وسلم - تطييبَ قلوب أصحابه؛ لأنه كان يشقُّ عليهم أن يحلُّوا وهو محرِم، ولم يعجبْهم أن يذهبوا بأنفسِهم ويتركوا الاقتداءَ به، فقال لهم ذلك، لئلا يجدوا في أنفسهم، وليعلموا أن الأفضلَ في حقهم ما دعاهم إليه، فالتأسُّف إنما هو لأجل تأليفِ قلوبهم، ليفعلوا ما أُمروا به مع الانشراح (¬3). فالجواب: هذا عدولٌ عن الظاهر، مع العلم بتمام نصح النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يأمر أُمَّته إلّا بخير ما أمر به، ثمّ إنكم حيث سلمتم أنَّه الأفضلُ في حقهم، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 222). (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 162)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 10).

ثبتَ أنَّه الأفضلُ في حقِّ مَنْ بعدَهم، إلّا أنَّه فقدوا خصوصيتهم بذلك، والثابتُ خلافه. قال الإمام أحمد في رواية ابنيه: نختار المتعةَ؛ لأنه آخر ما أَمر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو يعمل لكل واحد منهما على حدة (¬1). وقال أبو داود: سمعته يقول: نرى التمتعَ أفضل. قال: وسمعته يقول لرجل يريدُ أن يحج عن أمه: تمتَّعْ أَحَبُّ إليَّ (¬2). فإن قيل: لم يأمرهم بالفسخ لفضل التَّمتُّع، بل لاعتقادهم عدمَ جواز العمرة في أشهر الحجّ، فإن الجاهلية كانت تعتبر العمرة في أشهر الحجّ من أفجرِ الفجور، فأمرهم بذلك، حسمًا لمادة ما كان مركوزًا في نفوسهم. فالجواب: إن ذلك مردود؛ لأن أصحابه لم يكونوا يعتقدون ذلك، وهم لا يرون رأيَ الجاهلية وما كانت عليه شيئًا، ثمّ لو كان الأمر كما زعمتم، لم يخص به من لم يسق الهدي؛ لأنهم سواء في الاعتقاد، ثمّ لو كان، لم يتأسف لاعتقاده جوازها فيها، وجعل العلة فيه سوقَ الهدي، مع أن التَّمتُّع في الكتاب دون غيره. قال عِمرانُ بنُ حُصين - رضي الله عنه -: نزلت آيةُ المتعة في كتاب الله، وأمرَنا بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ لم تنزل آيةٌ تنسخ آيةَ متعةِ الحجّ، ولم ينهَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حتّى مات (¬3). والمتمتِّع يأتي بأفعال الحجّ والعمرة كاملة على وجه اليسر، وصحَّ ¬

_ (¬1) تقدم ذكره وتخريجه. (¬2) تقدم ذكره وتخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ما خُيِّرَ بينَ أمرين إلّا اختارَ أيسرَهما، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا الدين يُسرٌ" (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ بالحنيفية السَّمْحَةِ" (¬2). وقال الإمام أحمد - رضي الله عنه - في رواية أبي طالب: إذا دخل بعمرة، يكون قد جمع الله له حجةً وعمرةً ودمًا (¬3). تنبيهات: * الأول: اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في جواز فسخ الحجّ إلى العمرة، فذهب إمامنا إلى أنَّه مستحبٌّ للمفرِدِ والقارِن أن يفسخا نيتهما بالحج. زاد الشيخُ الموفق: إذا طافا وسعيا، فنويا بإحرامهما ذلك عمرة مفردة، فإذا فرغا من عملهما، وحَلَّا منها، أحرما بالحج ليصيرا متمتِّعين. وفي "الانتصار"، و"عيون المسائل": لو ادعى مُدَّعٍ وجوبَ الفسخ، لم يبعدْ. قال في "الفروع": واختار ابنُ حزم وجوبَه، وقال: هو قولُ ابن عبّاس، وعطاء، ومجاهد، وإسحاق. وفي "مسلم": عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما -: أن من طاف، حَلَّ، وقالَ: سنةُ نبيكم - صلى الله عليه وسلم - (¬4). قال ابن عبّاس: إنما رُوي التخيير أول الأمرِ بالحل، والتخييرُ كان ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 223). (¬4) رواه مسلم (1244)، كتاب: الحج، باب: تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام.

أولًا، ثمّ حتمه عليهم آخرًا لما امتنعوا، فعلَّةُ الحتمِ زالت (¬1). ففي "الصحيحين" عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: نزلنا بِسَرِف، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لم يَكُنْ معه هَدْي، فأحبَّ أن يجعلَها عُمرةً، فليفعلْ، ومن كانَ معه هَدْيٌ، فلا" (¬2). وفيهما أيضًا عنها: حتّى إذا دَنَوْنا من مكّة، أمرَ من لم يكن معه هديٌ إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل (¬3). وفيهما: عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما -: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قدم لأربع مَضَيْنَ من ذي الحجة، فصلى الصبحَ بالبطحاء، وقال لما صلَّى الصبح: "مَنْ شاءَ منكم أن يجعلَها عُمْرَةً، فَلْيَجْعَلْها" (¬4). وفي "مسلم": أن ابنَ جريج قال لعطاء: من أين يقول ذلك؟ -يعني: ابن عبّاس-، قال: من قول الله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]، قلت: فإن ذلك بعدَ الُمَعَّرفِ، فقال: كان ابن عبّاس يقول: هو بعد المعرَّفِ وقبلَه (¬5). قال الحافظ ابن رجب في "كتابه" على قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ما نصه: والناس في الفسخ على ثلاثة أقوال: ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 242، 244). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه مسلم (1240)، كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج. ولم أقف عليه عند البخاري، والله أعلم. (¬5) رواه مسلم (1245)، كتاب: الحج، باب: تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام، وكذا البخاري (4135)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع.

منهم مَنْ يوجِبُه، كابن عبّاس - رضي الله عنهما -، ومن وافقه من أهل الظاهر، والشيعة، وغيرهم. ومنهم مَنْ يحرِّمه، ككثير من الفقهاء. ومنهم مَنْ يُبيحه، بل يستحبُّه، وهو قولُ الحسن، ومجاهد، وعبيد الله بن الحسن، والإمام أحمد، وطائفة من أهل الحديث، وغيرهم. قال الحافظ ابن رجب: وهو الصواب، فمن أوجبه، قال: إن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ثبتَ عنه، بل تواتر: أنَّه أمر أصحابه كلَّهم في حجة الوداع أن يفسخوا، إلّا مَنْ كان معه هَدْيٌ، فلما رأى منهم توقُّفًا، غضبَ، واشتدَّ غضبُه، وأعاد عليهم الأمرَ، وهذا يقتضي الوجوب. وقال الشيخ تقي الدين: يجبُ على من اعتقدَ عدمَ مساغه، يعني: يكون في حقه واجبًا، لقمع ما في نفسه، لثبوت السنة. ولذا قال بعض علماء المذهب: نحن نشُهد الله أنا لو أحرمنا بحجٍّ، لرأينا فرضًا فسخَه إلى عمرة، تفاديًا من غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قال الإمام أحمد في رواية خطاب بن بشر: رواه عشرةٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي أخبار صحاح. وقال في رواية إبراهيم الحربي: فيه ثمانيةَ عشرَ حديثًا صحاحٌ جيادٌ. وقال سلمة بن شبيب للإمام أحمد - رضي الله عنه -: كلُّ أمرك عندي حسن، إلّا خلةً واحدة، قال: وما هي؟ قال: تقول بفسخ الحجّ إلى العمرة، فقال: يا سلمة! كنت أرى لك عقلا، عندي في ذلك أحدَ عشرَ ¬

_ (¬1) قاله الإمام ابن القيم في "زاد المعاد" (2/ 182).

حديثًا صحاحًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أتركها لقولك؟! انتهى (¬1). قالى في "الإنصاف": فسخُ القارِنِ والمفرِدِ حَجَّهما إلى العمرة مستحَبٌّ بشرطه، نص عليه الإمام أحمد، وعليه الأصحاب قاطبة، قال: وهو من مفردات المذهب، لكن المصنف -يعني: الإمام الموفق- ذكرَ الفسخَ بعدَ الطواف والسعي، وقطع به الخرقي، وقال به الزركشي، وقال: هذا ظاهر الأحاديث. وعن ابن عقيل: الطوافُ بنية العمرة هو الفسخُ، وبه حصلَ رفضُ الإحرام لا غير، قال: فهذا تحقيقُ فسخِ الحجّ وما ينفسخ به (¬2). وقال الموفق في "الكافي": يُسن لهما إذا لمْ يكن معهما هدي أن يفسخا نيتهما بالحج، وينويا عمرة مفردة، ويحلا من إحرامهما بطواف وسعي وتقصير، ليصيرا متمتعين (¬3). وقال أبو حنيفة، ومالكٌ، والشافعي، وجماهيرُ العلماء من السلف والخلف: بمنع جواز فسخ الحجّ إلى العمرة، وحملوا الأحاديث الواردةَ الثابتةَ عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر أصحابِه - صلى الله عليه وسلم - أن يفسخوا حجَّهم إلى عمرة يتحللوا منها بعدَ الطواف والسعي والتقصير، ما لم يكنْ ساقَ أحدُهم الهديَ، فإنَّه يثبتُ على إحرامه، على أنَّه مختصٌّ بهم تلكَ السنةَ، لا يجوزُ بعدَها، ليخالفوا ما كانت عليه الجاهليةُ من تحريم العمرةِ في أشهرِ الحجّ (¬4). وفي "مسلم" من حديث أبي ذر: كانتِ المتعةُ في الحجّ لأصحابِ ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (2/ 183). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 446). (¬3) انظر: "الكافي" لابن قدامة (1/ 396). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 478).

محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً -يعني: فسخَ الحجّ إلى العمرة (¬1) -. وعند النسائي: عن الحارث بن بلال، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله! فسخُ الحجّ لنا خاصةً، أم للناس عامةً؟ فقال: "بلْ لنا خاصَّةً" (¬2). قالوا: فسببُ الأمر بالفسخ ما كان إلّا لتقرير مشروعية العمرة في أشهر الحجّ، ما لم يكن مانع من سوقِ الهدي، وذلك أنَّه كان مستعظَمًا عندَهم، حتّى كانوا يعدونها في أشهر الحجّ من أفجرِ الفجور، فكسرَ سَوْرَةَ ما استحكَمَ في نفوسهم من الجاهلية من المكاره بحملِهم على فعلِه بأنفسهم. * الثاني: اعتقد كثير من العلماء -كما ذكرنا-: أن فسخ الحجّ إلى العمرة مختص بالصحابة الكرام في ذلك العام، واستدلوا بحديث أبي ذر، وحديث بلالِ بن الحارث، وهذا شيء لا ينهض به دليل. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: ليس يصحٌّ حديثٌ في أن الفسخ كان لهم خاصة. وقال في رواية الأثرم عن قول أبي ذر: من يقول هذا، والمتعة في كتاب الله، وأجمع النّاس عليها؟! وقال: لا يثبت حديثُ بلال، ولا يُعرف الحارثُ، ولم يروه إلّا الدَّراورديُّ. وقال الدارقطني: تفرَّدَ به ربيعةُ، وتفرَّدَ به الدراورديُّ عنه، ولم أجد من ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1224)، كتاب: الحج، باب: جواز التمتع. (¬2) رواه النسائي (2808)، كتاب: المناسك، باب: إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي.

وَثَّق أبا عيسى سوى ابنِ حِبان، ولا يخفى تساهلُه (¬1). وقال الحافظ ابن رجب: قال الإمام أحمد: روى هذا الحديثَ الحارثُ بنُ بلالِ بنِ الحارثِ، يعني: أنَّه مجهول، قال: وحديثُ أبي ذر رواه مرقع الأسدي، فمن مرقع الأسدي؟ شاعر من أهل الكوفة لم يلق أبا ذر (¬2). وقال في رواية خطاب بن بشر: الذي جاء أنَّه كان لهم خاصةً، ليس بصحيح. وقال في رواية ابن مشيش، وذكر حديثَ أبي ذر، فقال: رواه يحيى عن المرقع، قال: لا أدري من المرقع، قلت له: أليس هو المرقع بن صيفي؟ قال: لا، ليس هذا المرقع بن صيفي. وقد ثبت في "الصحيحين": أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالفسخ، وأطاعوا، فقال له سُراقةُ بنُ مالك - رضي الله عنه -: مُتْعَتُنا هذه لعامِنا هذا، أم للأبد؟ قال: "للأبد" (¬3)، وقوله: متعتُنا هذه، إشارةٌ إلى المتعة التي فعلوها، وهي متعةُ فسخ الحجّ إلى العمرة. ولفظ البخاري من حديث ابن عبّاس، وجابر - رضي الله عنهم -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالإحلال، فتوقفوا، فقال: "واللهِ لأنا أَبَرُّ وأَتْقَى لله مِنْهُمْ، ولو أَنِّي استقبلْتُ من أمري ما استَدْبَرْتُ، ما أهديتُ، ولولا أن مَعِي الهديَ لأحللتُ"، فقام سراقةُ بنُ جُعْشُم، فقال: يا رسول الله! هي لنا أو للأبد؟ فقال: "بل للأبد" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 227 - 228). (¬2) وانظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 201). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه.

وقد روي من حديث طاوس: أن عليًا - رضي الله عنه - سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الفسخ: لمدتِنا هذه، أم للأبد؟ رواه ابنُ بطةَ مرسلًا من وجه، ومسنَدًا من آخر (¬1). وقد قيل: إن الفسخ كان على الذين أمرهم النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - واجبًا، فإنَّه في أثناء الطريق خَيَّرَهم بين أن يفسخوا، أو يجعلوها عمرةً، وبين أَلَّا يفسخوا، فلما قدم مكّة، ألزمهم به؛ لئلا تفوتَ المصلحةُ بتركه، فإن الفسخ حصل لهم به أفضلُ أنواع النسك، وحصلت به العمرةُ لمن كان مفرِدًا، ولأنهم استعظموه، فلو لم يُلْزمهم به، لما فعلهَ منهم أحدٌ، فإن ثبت الحديثُ المرفوع في اختصاصهم به، فإنما كانوا مختصين بوجوبه ولزومه، لا بجوازه، فأما قولُ أبي ذر، فلو ثبت، لم يكن حجةً؛ لأنه من رأيه، وقول من قال: كان المقصود منه جوازَ بيان العمرة في أشهر الحجّ باطلٌ لوجوه (¬2): أحدها: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمر قبلَ ذلك ثلاثَ عُمَرٍ، واعتمرَ معه أصحابهُ، وكلُّها كانت في أشهر الحجّ. الثاني: أن جواز العمرة في أشهر الحجّ قد بَيَّنه لهم عندَ الإحرام بقوله: "مَنْ شاءَ منكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، فَلْيَفْعَلْ، ومَنْ شاءَ منكمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ، فَلْيَفْعَلْ"، وقد أهلَّ بعضُهم حينئذ بعمرة، وبعضُهم بحج وعمرة، كما قالت عائشة - رضي الله عنها -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارِنًا أهلَّ بعمرةٍ وحجٍّ، كما قال ابن عمر، وأنس، وغيرهما. ¬

_ (¬1) وانظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 508). (¬2) انظر هذه الوجوه مفصلة في: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (26/ 55) وما بعدها، و"زاد المعاد" لابن القيم (2/ 213) وما بعدها.

الثالث: أنَّه أمر بالفسخ من لم يسق الهديَ، ونهى مَنْ ساقَ الهديَ عنه، ولو كان الفسخ في الأصل محرمًا، وإنما أبيح لهم في ذلك العام، ليبين جواز الاعتمار في أشهر الحجّ، لاستوى مَنْ ساق الهدي ومن لم يَسُقه. الرابع: أن جواز الاعتمار في أشهر الحجّ كان يحصل بمجرد قوله، وبفعل بعضهم، لا يحتاج إلى أمرِهم كلِّهم، والغضبِ على من لا يفعلُه، فلما ألزمَهم كلَّهم به، دلَّ على أن الفسخ هو المقصود. وإذا قيل بجواز الفسخ أيضًا، كان بعلمِ مَنْ أمرهم به، وفعلِ بعضهم. فالجواب: كان في الفسخ مقصدان: * أحدهما: مشروعيته للأمة. * والثاني: تحصيل أفضل أنواع الجمع بين الحجّ والعمرة في سفرة واحدة لأصحابه، وهذا لم يكن يحصل بدون إلزامهم به. الخامس: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالفسخ كلَّ من لم يكن معه هديٌ، وقد كان فيهم مَنْ هو قارن قد أهلَّ بحج وعمرةٍ، وهو - صلى الله عليه وسلم - كان قارِنًا، وقد تأسَّف على فوات الفسخ، فلو كان المقصود بيانَ جواز الاعتمار في أشهر الحجّ، فاعتمارُهُ يظَهر للناس؛ لأنه يُهل بالعمرة والحجِّ جميعًا. السادس: أن الفسخ لو قدر أنَّه شُرع لبيان مخالفة ما كان عليه المشركون، فإنَّه يصير شرعًا لأمته دائما، فإنَّ كل ما خالف فيه المشركين في أمر الحجّ، فهو إما واجب، كالوقوف بعرفة، والإفاضة منها بعد الغروب، وإما مستحبٌّ، كالإفاضة من جَمْعٍ قبل طلوع الشمس، ولهذا قال: "خالفَ هَدْيُنا هَدْيَ المشركينَ" (¬1). ¬

_ (¬1) لم أقف عليه، والله أعلم.

ولما شرعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته الرَّمَلَ، وفعلَه، ليرى المشركون قوةَ المؤمنين وجَلَدَهم، فكأَن المقصودَ به نوع من أنواع الجهاد، ثمّ صار سنةً في الحجّ بعدَ ذهاب المشركين، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - رَمَلَ في حجة الوداع بعدَ الفتح، ورَمَلَ بعده الخلفاءُ الراشدون، ولهذا قال عمر: ففيمَ الرملان والكشفُ عن المناكب، وقد نفى الله الشركَ وأهلَه؟ ثمّ قال: لن ندعَ شيئًا فعلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وأما قولهم: إن الخلفاء الراشدين لم يفسخوا، ولم يأمروا النّاس بالفسخ. فالجواب: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حجَّ بالناس حجةً واحدة، وقال لهم: "خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكُمْ، فَلَعَلِّي لا أَلْقاكُمْ بعدَ عامي هَذا" (¬2)، فلهذا اختار لهم في تلك الحجة أفضلَ أنواع الجمع بين النسكين في سفرة واحدة، ليحصل لهم معه الحجُّ على أكمل الوجوه الممكنة، ويأخذوا مناسكهم عنه، وأما الخلفاء الراشدون، فكانت أيامُهم ممتدةً، فكانوا يأمرون النّاس بأفضلِ أنواع الحجّ والعمرةِ مطلقًا، وهو إفرادُ كلٍّ منهما بسفرة، والاعتمار في غير أشهُرِ الحجّ، فإنَّ ذلك أفضلُ أنواع الحجّ والعمرة مطلقًا، كما نص على ذلك الأئمة، وذكره بعضُهم اتفاقًا، وحينئذ فعمرُ وعثمانُ وغيرُهما اقتدوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر النّاس بأفضل أنواع النسك، وإلزامِهم لهم بذلك، لا لأنهم خالفوه في أمره بالتمتُّع كما يظن مَنْ لا يفهم حالهم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1887)، كتاب: المناسك، باب: في الرمل، وابن ماجه (2952)، كتاب: المناسك، باب: الرمل حول البيت، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 45). (¬2) تقدم تخريجه.

والحاصل: أن السنة الصحيحة، والأخبار الصريحة مفصحةٌ ومصرِّحَةٌ بما ذهب إليه الإمام أحمد، ولا ينهض لمعارضته دليلٌ يعتمد عليه، ولولا الإطالةُ، لذكرنا أدلتهم وما فيها من القدح، والله تعالى أعلم. * الثالث: في الحديث دليلٌ على جواز استعمال لفظة "لو" في بعض المواضع، وإن كان قد ورد فيها ما يقتضي خلافَ ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ" (¬1)، وفي لفظ: "تفتحُ بابَ الشِّركِ" (¬2)، فالنهي عنها في استعمالها في التلهُّف على أمور الدنيا، إما طلبًا، كما يقال: لو فعلتُ كذا حصلَ كذا، وإما هَرَبًا، كقوله: لو كان كذا وكذا، لما وقع لي كذا وكذا، لما في ذلك من صورة عدم التوكُّل في نسبة الأفعال إلى القضاء والقدر، وأما إذا استُعملت في تمني القُرُبات، كما جاء في هذا الحديث، فلا كراهة في مثل هذا، والله أعلم (¬3). قال جابر - رضي الله عنه - في حديثه: (وأن) -بفتح الهمزة- (عائشة) أم المؤمنين - رضي الله عنها - (حاضت) بسَرِف قبلَ دخولهم مكّة. وفي "الصحيحين" من حديث عائشة - رضي الله عنها -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أشهُرِ الحجّ وليالي الحج وحرم الحجّ، فنزلنا بِسَرف؛ أي: وهو اسم موضع على عشرة أميال من مكّة، به قبرُ أم المؤمنين ميمونةَ - رضي الله عنها -. قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: فخرجَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه، فقال: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2664)، كتاب: القدر، باب: في الأمر بالقوة، وترك العجز، والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 72).

"منْ لم يكنْ منكمْ معه هديٌ، فَأَحَبَّ أن يجعلَها عُمرةً، فليفعلْ، ومَنْ كانَ مَعَهُ الهديُ، فلا"، قالت: فالآخذ بها والتاركُ لها من أصحابه، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجالٌ من أصحابه، فكانوا أهل قوة، وكان معهم الهديُ، فلم يقدروا على العمرة. قالت: فدخلَ عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: "ما يُبْكِيكِ يا هَنْتاهْ؟ " -أي: بفتح الهاء - وسكون الهاء الأخيرة-، كذا ضبط، وفي رواية: -بفتح النون وضمِّ الهاء الأخيرة-، والسكون فيها هو الأصل؛ لأنها للسكت؛ لأنهم شبهوها بالضمائر، وأثبتوها في الوصل، وضموها. ويقال في التثنية: هَنْتَانِ، وفي الجمع: هَنَاتٌ، وهنواتُ، وفي المذكر: هَنٌ، وهَنان، وهَنونَ، ولكَ أن تلحقها الهاءَ لبيان الحركة، فتقول: يا هَنَهْ، وأن تُشبع الحركةَ فتصيرَ ألفًا، فتقول: يا هَناه (¬1). قال الخليل: إذا دعوتَ امرأةً، فكنيتَ عن اسمها، قلت: يا هَنَهْ، فإذا وصلتَها بالألف والهاء، وقفتَ عندَها في النداء، فقلت: يا هَنْتاهْ، ولا يُقال إلّا في النداء (¬2). قيل: ومعنى يا هنتاه: يا بلهاء، كأنها نُسبت إلى قلة المعرفة بمكائد النساء وشرورهن، أو المعنى: يا هذه (¬3). قالت عائشة - رضي الله عنها -: سمعتُ قولَكَ لأصحابك، فمنعتَ العمرةَ، قال: "وما شَأْنُكُ؟ "، قالت: لا أُصلي، قال: "لا يَضيرُكَ، إنما ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 278 - 279). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 271). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" (5/ 279)، و"شرح مسلم" للنووي (17/ 107).

أنتِ امرأةٌ من بنات آدَمَ، كتبَ اللهُ عليكَ ما كَتَبَ عليهِنَّ، فكوني في حَجَّتِكِ، فعسى اللهُ أن يَرْزُقَكِيها" الحديث (¬1). (فنسكت) عائشةُ - رضي الله عنها - (المناسِكَ) المتعلقة بالحج (كلَّها)، مع كونها حائضًا، (غيرَ أنها لم تَطُفْ) للعمرةِ، لمانعِ الحيض (بالبيتِ) العتيقِ، ولم تسعَ بين الصفا والمروة، وحذفه؛ لأن السعي لابدَّ أن يتقدمه طوافُ نسك، فيلزم من نفيِ الطوافِ نفيُ السعي (¬2). وفي "الصحيحين" من حديث عائشة - رضي الله عنها -: فلما قدمْنا، فطَوَّفْنا بالبيت -تعني: النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه غيرَها-، فأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لم يكن ساقَ الهدي أن يحلَّ، فحل من لم يكن ساقَ الهدي، ونساؤه لم يَسُقْنَ، فأحلَلْنَ، قالت عائشة - رضي الله عنها -: فحِضْتُ، فلم أطفْ بالبيت، (¬3) تعني: طوافَ العمرةِ، لمانع الحيض. قال جابر - رضي الله عنه -: (فلما طَهُرَتْ) بعرفةَ، كما في "مسلم" (¬4). وفي رواية له: صبيحةَ ليلةِ عرفةَ حين قدموا مِنَى (¬5)، وصحَّ أنها طهرت في مِنَى، وجُمع بأنها رأت الطهرَ بعرفةَ، ولم يتهيأ لها الاغتسالُ إلّا في منى. وفي "الصحيحين" من حديثها: حتّى قدمنا منى، فطَهُرت (¬6) -بالطاء ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه، وهذا لفظ البخاري. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 192). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه مسلم (1211/ 133)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1211/ 123). (¬6) تقدم تخريجه.

المهملة وفتح الهاء وضمها-؛ أي: وذلك يوم السبت، وهو يوم النحر في حجة الوداع، وكان ابتداء حيضها يوم السبت أيضًا لثلاثٍ خَلَوْنَ من ذي الحجة، و (طافَتْ بالبيتِ) طوافَ الإفاضة يومَ النحر، وسعت بينَ الصفا والمروة، قالت -كما في "الصحيحين"-: ثمّ خرجتُ من منى، فأفضتُ بالبيت؛ أي: طفتُ به طواف الإفاضة، قالت: ثمّ خرجتُ معه في النفر الآخر حتّى نزل -عليه السلام- المُحَصَّب -بضم الميم وفتح الحاء والصاد المشددتين المهملتين، آخره موحدة-: موضع متسع بين مكّة ومنى، وسُمي به، لاجتماع الحصباء فيه بحمل السيلِ، لانهباطه، وهو الأبطحُ، والبطحاءُ، وخَيْفُ بني كنانة، وهو ما بين الجبلين إلى المقابر، وليست المقابرُ منه. وفرق المحبُّ الطبري بين الأبطح والبطحاء من حيث التذكير والتأنيث، لا من حيث المكان، فقال: والأبطح: مكان مسيل واسع فيه دِقاق الحصى، فإذا أردت الوادي، قلت: الأبطح، وإذا أردت البقعة، قلت: البطحاء (¬1). قال في حديث جابر: (قالت) عائشة: (يا رسولَ الله! أتنطلقون بعمرة) منفردةٍ عن حجة (وحجة) منفردة عن عمرة، تريد - رضي الله عنها -: العمرةَ التي فسخوا الحجَّ إليها، والحجَّ الذي أنشؤوه من مكّة (¬2)، (وأَنطلِقُ) أنا بالـ (ـحجِّ) من غير عمرةٍ منفردةٍ؟! وفي "مسلم" عنها - رضي الله عنها -: أنَّه قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) وانظر: "عمدة القاري" للعيني (4/ 271). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 192).

"يَسَعُكِ طوافُكِ لِحَجِّكِ وعُمْرَتِكِ"، فأبت (¬1). وفي "الصحيحين"، و"السنن": أنَّه قال: "يَسَعُكِ لِحَجِّكِ وعُمْرَتِكِ"؛ أي: يكفيك لحجك وعمرتك، قد حللتِ من حجِّك وعمرتك جميعًا. قالت: يا رسول الله! إني أجدُ في نفسي أَنِّي لم أطفْ بالبيت حين حججتُ، (فأمر) النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (عبدَ الرحمن بنَ أبي بكرٍ) الصديقِ - رضي الله عنهما - (أن يخرجَ معها)؛ أي: مع أخته عائشة الصدِّيقة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "فاذهبْ بها يا عبدَ الرحمن، فَأَعْمِرْها من التَّنعيم". تقدمت ترجمةُ عبدِ الرحمن في باب السواك. وذلك؛ أي: أمرُه - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الرحمن - رضي الله عنه - بالخروج مع عائشة - رضي الله عنها - (إلى التنعيم) ليلة الحَصبة (¬2) -بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين-؛ أي: ليلة المبيت بالمحصَّب. والتنعيم: تفعيل -بفتح المثناة الفوقية وسكون النون وكسر العين المهملة-: موضع على ثلاثة أميال أو أربعة من مكّة، أقرب أطراف الحِلِّ إلى البيت، سُمي به؛ لأن على يمينه جبل نعيم، وعلى يساره جبل ناعم، والوادي اسمه نعمان، قاله في "القاموس" (¬3). قلت: وهو غير نُعمان الأراك الذي بإزاء عرفة. قال المحبُّ الطبريُّ في "تحصيل المرام": هو أمامَ أدنى الحل، وليس ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1211/ 132). (¬2) تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم برقم (1213/ 136). (¬3) انظر: "القاموس المحيط"، للفيروزأبادي (ص: 1502)، (مادة: نعم).

بطرف الحل، ومن فسره بذلك، فقد تجوَّزَ، وأطلق اسمَ الشيء على ما قَرُبَ منه، انتهى (¬1). وروى الأزرقي من طريق ابن جريج، قال: رأيت عطاءً يصف الموضعَ الذي اعتمرتْ منه عائشةُ، قال: فأشار إلى الموضع الذي ابتنى فيه محمدُ بنُ عليِّ بنِ شافعٍ المسجدَ الذي وراء الأكمة، وهو المسجد الخرب (¬2)، وهو أفضلُ مواقيت العُمرة بعد الجِعرانة عند الأربعة، إلّا أبا حنيفة. قلت: بل هو أفضلُ مطلقًا عند علمائنا. (فاعتمرَتْ) عائشة - رضي الله عنها - (بعدَ الحجّ). وفي حديث عائشة في "الصحيحين": فدعا عبدَ الرحمن بنَ أبي بكرٍ الصدِّيقِ - رضي الله عنهما -، فقال: "اخرجْ بأختِكَ من الحرمِ"؛ أي: إلى أدنى الحِلِّ؛ لتجمع في النسك بين أرضِ الحلِّ والحرم، كما يجمعُ الحاجُّ بينهما، "فلتهلَّ بعمرة"؛ أي: مكان العمرة التي كانت تريد حصولها منفردة غيرَ مندرجة، فمنعها الحيضُ منها، "ثمّ افرغا من العُمرةِ"، وظاهرُ هذا: أن عبد الرحمن اعتمرَ مع أخته، "ثمّ ائتيا هاهنا"؛ أي: المحصب، "فإني أنتظركما حتّى تأتياني". قالت عائشة: فخرجنا إلى التنعيم، فأحرَمْنا بالعمرة، حتّى إذا فرغْتُ؛ أي: منها، وفرغتُ من الطواف، ثمّ جئته بسحر، فقال: "هل فَرَغْتُم؟ "، فقلت: نعم، فأذن بالرحيل في أصحابه، فارتحل النّاس، فمر متوجهًا إلى المدينة (¬3). ¬

_ (¬1) نقله عنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 607). (¬2) رواه الأزرقي في "أخبار مكة" (2/ 208 - 209). (¬3) تقدم تخريجه عندهما، وهذا لفظ البخاري.

تنبيهات: الأول: دل هذا الحديث على امتناع الطواف من الحائض، واختلف فيه، فقيل: الامتناعُ لنفسه؛ لأن الطواف تعتبر له الطهارةُ كالصلاة. قال في "الفروع": وتشترط الطهارةُ من حدث. قال القاضي وغيرُهُ: الطوافُ كالصلاة في جميع الأحكام، إلّا في إباحة الكلام، وعنه -يعني الإمام أحمد - رضي الله عنه -: يصحُّ من معذورٍ، وكذا حائض، وهو ظاهر كلام القاضي وجماعة. قال: واختاره شيخُنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-، وأنَّه لا دمَ لعذرٍ (¬1). قلت: ووقفتُ له في ذلك على مصنفين جزم بصحة طواف الحائض للعذر، ولاسيما في هذه الأزمنة التي لا ينتظر أميرُ الحاج فيها مَنْ حاضت ولا غيرَها، ونصُّ كلامه -رحمه الله تعالى- في أحد المصنفين له: مسألة: تقع في الحجّ في كل عام، ويُبتلى بها كثير من نساء العلماء والعوام، وهي: أن المرأة المحرِمَةَ تَحيض قبلَ طواف الركن، وهو طواف الإفاضة، ويرحل الركبُ قبل طوافِها، ولا يمكنها المقام. قال: وفي سنة سبع وسبع مئة جرى ذلك لكثير من نساء الأعيان وغيرِهم، فمنهن من انقطع دمُها يومًا أو أكثرَ باستعمال دواءٍ لذلك، وظنت أن الدمَ لا يعود، فاغتسلت وطافت، ثمّ عاد الدم في أيام العادة، ومنهن من انقطع دمها يومًا أو أكثر بلا دواء، فاغتسلت وطافت، ثمّ عاد الدم في أيام العادة، ومنهن من طافت قبل انقطاع الدم والاغتسال، ومنهن من سافرت ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 371).

مع الركب قبل الطواف، وكانت قد طافت طوافَ القدوم، وسعت بعده. فهؤلاء أربعةُ أصناف، فلما اشتدَّ الأمر بهنَّ، وخفن أن يحرم تزويجهن، ووطء المزوجة منهن، ويرجعن بلا حج، وقد أتين من البلاد البعيدة، وقاسين المشاقَّ الشديدة، وفارقن الأولاد والرحال، وخاطرن بالأنفس، وأنفقن الأموال، كثر منهنَّ السؤال، وقد قاربت عقولُهن الزوال، هل من مخرج عن هذا الحرج، وهل مع الشدة من فرج؟ قال: فسألت الله التوفيق والإرشاد، إلى ما فيه التيسيرُ على العباد، من مذاهب العلماء الأئمة، الذين جُعل اختلافُهم رحمةَ الأمة، فظهر لي الجواب، والله أعلمُ بالصواب: أنَّه يجوز تقليدُ كلِّ واحد من الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم -، ويجوز لكل أحدٍ أن يقلِّد واحدًا منهم في مسألة، ويقلد إمامًا آخر منهم في مسألة أخرى، ولا يتعين عليه تقليدُ واحدٍ بعينه في كل المسائل، إذا عرف هذا، فيصح حجُّ كلِّ واحدة من الأصناف المذكورة على قولٍ لبعض الأئمة. أما الصنف الأول والثاني، فيصحُّ طوافُهن في مذهب الشّافعي على أحد القولين فيما إذا انقطعَ دمُ الحائض يومًا ويومًا، فإنَّ يومَ النقاء طهر على هذا القول، ويُعرف بقول التلفيق، وصححه من الشافعية أبو حامد، والمحامليُّ في كتبه، وسليم، والشيخ نصر المقدسي، والرّوياني، واختاره أبو إسحاق المروزي، وقطع به الدارمي. وأما على مذهب أبي حنيفة، فيصحُّ طوافُهن؛ لأنه لا يُشترط عنده في الطواف طهارةُ الحدث ولا النجس، فيصحُّ عندَه طوافُ الحائض والجنب. وأما على مذهب الإمام مالك، فيصح طوافُهن؛ لأن مذهبه أن النقاءَ في أيام التقطُع طهر.

وأما على مذهب الإمام أحمد، فيصحُّ طوافُهن؛ لأن مذهبه في النقاء كمذهبِ مالك. قال -رحمه الله-: ومذهب الإمام أحمد في اشتراط طهارة الحدث والجنب كمذهب أبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه. قلت: إلّا أن معتمد مذهبه: اعتبارُ الطهارة من الحدث والخبث. قال: وأما الصنف الثالث: فيصح طوافُهن على مذهب الإمام أبي حنيفة، وفي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، لكن يلزمها ذبحُ بَدَنة، وتأثَمُ بدخولها المسجدَ وهي حائض، فيقال لها: لا يَحِلُّ لكِ دخولُ المسجد وأنتِ حائض، لكن إن دخلتِ وطُفت، أثمتِ، وصح طوافُك، وأجزأك عن الفرض. وأما الصنف الرابع، وهي التي سافرت من مكّة -شرَّفها الله تعالى- قبلَ الطواف، فقد نقل المصريون عن الإمام مالك: أن من طافَ طوافَ القدوم، وسعَى، ورجع إلى بلده قبلَ طواف الإفاضة جاهلا أَو ناسيًا، أجزأه عن طواف الإفاضة. ونقل البغداديون عن مالك خلافه. حكى الروايتين عن مذهب مالك القاضي أبو عبد الله محمدُ بنُ أحمدَ المالكيُّ في كتاب "المنهاج في مناسك الحاج"، قال: وهو كتاب جليل مشهور عند المالكية. قال الشيخ -رحمه الله تعالى، ورضي عنه-: ويتخرَّج على رواية المصريين عن مالك سقوطُ طواف الإفاضة عن الحائض التي تعذَّرَ عليها الطوافُ والإفاضة، فإنَّ عذرَها أظهرُ من عذر الجاهل والناسي، فإن لم

يعمل بهذه الرواية، أو لم يصحَّ التخريجُ المذكور، وأرادت الخروج من محظور الإحرام، فعلى قياس أصول مذهب الشّافعي وغيره تصبر حتّى تجاوزَ مكّة بيوم أو يومين، بحيث لا يمكنها الرجوعُ إلى مكّة خوفًا على نفسها أو مالها، فتصير حينئذ كالمُحْصَر؛ لأنها لا تتيقن الإحصارَ لو رجعت إلى مكّة، وتيقُّنُ الإحصارِ كوجود الإحصار، كما أن تَيَقُّنَ الضربِ لو خالف الأمر كوجود الضرب في حصول الإكراه، حتى لو أمره بالطلاق سلطانٌ علم من عادته أن يعاقب إذا خولف، فطلق، لم يقع طلاقه، إذا تقرر هذا، وأرادت الخروج من الإحرام، فتتحلل كما يتحلل للحج، بأن تنوي الخروج من الحج حيث عجزت عن الرجوع، وتذبح هنالك شاة تجزىء في الأضحية، وتتصدق بها، وتقصِّر شعرَ رأسها، فتصير حلالًا، ويحل لها جميعُ ما حَرُمَ بالإحرام، لكن يبقى في ذمتها الحجُّ الواجب، انتهى. ففي هذا اقتصر على حكي مذاهب الأئمة، وما يتخرج منها. أما في الكتاب الثاني، فانتصر للقول بسقوط شرط الطهارة في الطواف للعذر انتصارًا لا مزيد عليه، وأن الطهارة كسائر الشروط، مثل الستارة وغيرها، وإذا تعذر الإتيانُ بالشرط، فلا تسقط العبادة، بل شرطُها هو الذي يسقط، فإن الأصول متفقةٌ: أنه متى دار الأمرُ بين الإخلال بوقتِ العبادةِ، والإخلالِ ببعضِ شروطها وأركانها، يعني: كان الإخلال بذلك أولى، كالصلاة، فإن المصلي لو أمكنه أن يصلي قبل الوقت بطهارة وستارة مستقبلَ القبلة مجتنبَ النجاسة، ولم يمكنه ذلك في الوقت، فإنه يفعلُه في الوقت على الوجه الممكن، ولا يفعله قبلَه بالكتاب والسنة والإجماع (¬1). وقال في محل آخر: أصول الشريعة أن العبادات المشروعة إيجابًا أو ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (26/ 232).

استحبابًا إذا عجزَ عن بعض ما يجب فيها، لم يسقط عنه المقدورُ لأجل العجز، بل قد قال النّبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتُكُمٍ بأمرٍ، فَأْتُوا منهُ ما استَطَعْتُمْ" (¬1)، وذلك مطابق لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ومعلوم أن الصلاة وغيرَها من العبادات التي هي أعظمُ من الطواف لا تسقطُ بالعجز عن بعض شروطها وأركانها، فكيف بالحج يسقط بالعجز عن بعض شروط الطواف أو أركانه؟ ومثل هذا القول أن يقال: يسقط عنها طواف الإفاضة، فإن هذا خلافُ الأصول، إذ الحج عبارة عن الوقوف والطواف، والطواف أفضلُ الركنين وأجلُّهما (¬2). وقال في موضع آخر من الكتاب المذكور: غايةُ ما في الطهارة: أنها شرطٌ في الطواف، ومعلوم أن كونها شرطًا في الصلاة أوكدُ منها في الطواف، وكذا سائر الشروط، من الستارة، واجتناب النجاسة، هي في الصلاة أوكد، فإن غاية الطواف أن يشبه بالصلاة. إلى أن قال: فالمصلي يصلي عريانًا، ومع الحدثِ والنجاسة في صورة المستحاضة وغيرها، وتصلي مع الجنابة أو حدث الحيض مع التيمم، وبدون التيمم عند الأكثرين إذا عجزت عن الماء والتراب، لكن الحائض لا تصلي؛ لأنها ليست محتاجةً إلى الصلاة مع الحيض، فإنها تسقط عنها إلى غير بدل (¬3). والحاصل: أنه انتصر لصحة طواف الحائض، وأقام عليه أدلةً واضحة، فإنه لا دم عليها. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (26/ 230). (¬3) المرجع السابق، (26/ 234 - 235).

ثم قال في آخر "مصنفه": هذا هو الذي يتوجه عندي في هذه المسألة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولضرورة الناس واحتياجهم إليها علمًا وعملًا تجشَّمْتُ الكلامَ فيها، فإني لم أجدْ فيها كلامًا لغيري، والاجتهادُ عندَ الضرورة مما أمر الله به، فإن يكنْ ما قلتُهُ صوابًا، فهو حكم الله تعالى ورسوله، والحمد لله تعالى، وإن يكن خطأ، فمني ومن الشيطان، والله تعالى ورسولُه بريئان من الخطأ، انتهى (¬1). الثاني: حمل بعضُ الناس على ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما -: "اذهبْ بها -أي: عائشة - رضي الله عنها --، فأعمرها من التنعيم". فشرطَ الخروجَ إلى التنعيم بعينه، ولم يكتفِ بالخروج إلى مطلَقِ الحِلِّ، وليس الأمرُ كما زعم؛ لأن القصدَ الجمعُ بين الحلِّ والحَرَمِ في العمرة كما وقع ذلك في الحج، فإنه جمعَ فيه بين الحل والحرم، فإن عرفةَ من أركان الحج، وهو من الحل. قال في "الفروع": ثم يُحْرِم بها -أي: العمرة- من أدنى الحِلِّ. وفي "فصول ابن عقيل": الإفرادُ: أن يحرم بالحج في أشهُره، فإذا تحلل منه، أحرم بالعمرة من أدنى الحل (¬2). وفي "الإقناع": مَنْ كان في الحرم من مكيٍّ وغيرِه، خرج إلى الحل، فأحرم من أدناه، ومن التنعيم أفضلُ، ثم من الجعرانة، ثم من الحديبية، ثم ما بعد، ومن كان خارجَ الحرم دونَ الميقات، فمن دُويرة أهله، ومن كان ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (26/ 241). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 228 - 229).

في قرية، فمن الجانب الأقرب من البيت، ومن الأبعد أفضلُ (¬1). الثالث: قد عُلم من النص عدمُ اعتبارِ الطهارة لسائر المناسك، سوى الطواف، من الوقوف، والسعي، ورمي الجمار، وغيرها؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - فعلتْ جميعَ أفعال الحج وهي حائض، إلا الطوافَ، فدلَّ ذلك على عدم اشتراطِ الطهارة في بقية أعمال الحج. وفي الحديث دلالة: على جواز الخلوة بالمحارم، ولا خلاف في ذلك (¬2)، والله -سبحانه وتعالى- أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 34). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 74).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ونَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بالحَجِّ، فَأمَرَنا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَة (¬1). * * * (عن جابرِ) بنِ عبدِ الله أيضًا -رضي الله عنه وعن أبيه-، (قال: قَدِمْنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -) في حجة الوداع، (ونحن نقولُ: لبيكَ بالحجِّ). وفي لفظ: لبيكَ اللهمَّ لبيكَ بالحجِّ (¬2). يدل على أنهم أحرموا بالحج مفرَدًا، لكنه محمول على بعضهم، لما في حديث عائشة - رضي الله عنها - في "الصّحيحين"، قالت: خرجنا مع ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1495)، كتاب: الحج، باب: من لبَّى بالحج وسماه، ومسلم (1216/ 146)، كتاب: الحج، باب: في المتعة بالحج والعمرة، واللفظ له. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 75)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1053)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 432)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 204)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 136). (¬2) هو لفظ البخاري، كما تقدم تخريجه عنه.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موافين لذي الحجة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أَحَبَّ أن يُهِلَّ بعمرةٍ، فَلْيِهُلَّ، ومَنْ أحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحجَّةٍ، فليهلَّ، ولولا أني أَهديتُ، لأهلَلْت بعمرةٍ"، فمنهم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بحجة؛ أي: ومنهم: من قرن. قالت عائشة - رضي الله عنها -: وكنتُ مِمَّنْ أهلَّ بعمرة (¬1). لكن الذي رواه الأكثرون عنها: أنها أحرمت أولًا بالحج، فتُحمل هذه الرواية على آخر أمرِها، لكونها فسخت الحج إلى العمرة لما عزم النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه بذلك، بدليل قول جابر - رضي الله عنه -: (فأمرَنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فجعلناها عمرةً)، ثم لما تعذَّر عليها إتمامُ العمرة، لحيضِها، ولم يمكنها التحلُّلُ منها، وإدراكُ الإحرام بالحج، أمرَها - صلى الله عليه وسلم - بإدخال الحجِّ على العمرة، فصارت حينئذٍ قارِنةً. وفي الحديث: أنهم بعدَ إحرامهم بالحج رَدُّوه إلى العمرة، وهو المطلوب، وقد عُلم مما مر الخلافُ في ذلك، وأن معتمدَ مذهب الإمام أحمد استحبابُه لمن كان مفرِدًا أو قارِنًا، ولم يسقِ الهديَ، وأوجبته الشيعةُ والظاهرية مطلقًا (¬2). والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1691)، كتاب: العمرة، باب: العمرة ليلة الحصبة وغيرها، ومسلم (1211/ 114)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 75).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما -، قَالَ: قَدِمَ رَسَولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابعَةٍ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الحِلِّ؟ قَالَ: "الحِلُّ كلُّهُ" (¬1). * * * (عن عبدِ الله بنِ عباس - رضي الله عنهما-، قال: قدمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -) هو (وأصحابه) الذين خرجوا معه في حجة الوداع - رضي الله عنهم - (صبيحة) ليلةِ (رابعةٍ) من ذي الحجة، ففي حديث عائشة - رضي الله ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1489)، كتاب: الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج، و (3620)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: أيام الجاهلية، ومسلم (1240/ 198)، كتاب: الحج، باب: جواز العمرة في أشهر الحج، والنسائي (2813)، كتاب: المناسك، باب: إباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 318)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 75)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1054)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 426)، و"عمدة القاري" للعيني (16/ 289)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 130)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 59).

عنها -، قالت: خرجْنا مع النّبي - صلى الله عليه وسلم - لخمسٍ بقين من ذي القعدة، (¬1) فدخلوا مكة المشرفة في الرابع من ذي الحجة يوم الأحد حالَ كونهم مُهِلِّين بالحجِّ مفرَدًا، ومنهم من كان قارِنًا، (فأمرهم) النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (أن يجعلوها)؛ أي: أن يقلبوا الحجةَ (عمرةً)، ويتحللوا بعملها، فيصيروا متمتعين، (فقالوا يا رسول الله)؛ أي: فقال له أصحابه المأمورون بفسخ الحج إلى العمرة والتحلل بعملها، فيصيرون حلالا: (أيُّ الحِلِّ؟) يحصُل لنا؛ أي: هل هو الحلُّ العام لكل ما حَرُمَ بالإحرام حتى الجماعُ، أو حِلٌّ خاصٌّ؛ لأنهم كانوا محرمين بالحج، ومنهم من هو قارن، وكأنهم كانوا يعرفون أن له تحلُّلين. (قال) - صلى الله عليه وسلم -: (الحِلُّ كلُّهُ)؛ أي: هو حلٌّ يحلُّ فيه كلُّ ما يحرُمُ على المحرم، حتى غِشْيانُ النساء؛ لأن العمرةَ ليس لها إلا تحلل واحد. وعند الطحاوي: أَيُّ الحلَّ يحلُّ؟ قال: "الحلُّ كُلُّهُ" (¬2). ومقصود الحافظ بتكرار هذه الأحاديث تقويةُ جانبِ جوازِ فسخ الحج [إلى] العمرة، وعدم الالتفات لمن خالفَ في ذلك، وزعمَ أنه كان مختصًا بهم، ثم نُسخ؛ كما تقدمت الإشارة إلى ذلك. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1623)، كتاب: الحج، باب: ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن، ومسلم (1211/ 125)، كتاب: الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. (¬2) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 158)، إلا أن فيه: أيَّ الحل نحل. وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 131 - 132).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عُروَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سُئِلَ أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ وَأَنَا جَالِسٌ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسِيرُ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِير العَنَقَ، فإذَا وَجَدَ فَجْوَةً، نَصَّ (¬1). العَنَقُ: انْبِسَاطُ السَّيْرِ، والنَّصُّ: فَوْقَ ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1583)، كتاب: الحج، باب: السير إذا دفع من عرفة، و (2837)، كتاب: الجهاد والسير، باب: السرعة في السير، و (4151)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، ومسلم (1286/ 283)، كتاب: الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، وأبو داود (1923)، كتاب: المناسك، باب: الدفع من عرفة، والنسائي (3023)، كتاب: الحج، باب: كيف السير من عرفة، وابن ماجه (3017)، كتاب: المناسك، باب: الدفع من عرفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 203)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 296)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 362)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 392)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 34)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 76)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1055)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 220)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 518)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 6)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 201)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 140).

(عن عُرْوَةَ بنِ الزبيرِ) بنِ العوَّام: هو أبو عبد الله، القرشيُّ، الأسديُّ، سمع أباه وأمَّه أسماءَ بنتَ أبي بكر الصديقِ، وخالتهَ عائشةَ أُمَّ المؤمنين - رضي الله عنهم -، وسمع العبادلَةَ، وغيرَهم من كبار الصحابة - رضي الله عنهم -، وروى عنه: ابنُه هشام، والزهري، وعمرُ بنُ عبد العزيز، وغيرهم. ولد سنة اثنتين وعشرين، ومات سنة أربع وتسعين، قاله الجمهور. وقال البخاري: سنة تسع وسبعين. وهو من كبار التابعين، وأحدُ الفقهاء السبعة من أهل المدينة. قال ابن شهاب: كان عروةُ بحرًا لا تكدِّره الدلاء (¬1). وأما أبوه الزبير: فهو -بضم الزاي- ابنُ العَوَّامِ بنِ خُويلدِ بنِ أسدِ بنِ عبدِ العُزَّى بنِ قُصَيٍّ، القرشيُّ، الأسديُّ، أمه صفيةُ بنتُ عبد المطلب عمةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أسلمت وهاجرت إلى المدينة، وقد أسلم الزبير قديمًا، وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: سنة عشر، وقيل: وهو ابن ثمان سنين، ¬

_ (¬1) رواه يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 255)، وابن عبد البر في "التمهيد" (8/ 6)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (40/ 251). وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 178)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 31)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 395)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 194)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 176)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (40/ 237)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 85)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 305)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 11)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 421)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 62)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (7/ 163).

وقيل: اثنتي عشرة سنة، وكان إسلامه بعد إسلام الصديق بقليل، قيل: كان رابعًا أو خامسًا. وهو أحدُ العشرة المشهودِ لهم بالجنة، هاجر - رضي الله عنه - للحبشة، ثم للمدينة، وهو أولُ من سلَّ سيفًا في سبيل الله، شهدَ المشاهدَ كلَّها، وشهدَ اليرموكَ وفَتْحَ مصر. وقال النّبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه: "لِكُلِّ نِبَيٍّ حَوَارِيُّ، وحَوارِيَّ الزُّبَيْرُ" (¬1). وكنيته: أبو عبد الله، وكان - رضي الله عنه - يوم الجمل قد ترك القتال وانصرف، فلحقه جماعة منهم: ابن جرموز، فقتله بوادي السباع بناحية البصرة، وقبره هناك مشهور، وذلك في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وكان عمره يومئذٍ سبعًا وستين سنة، وقيل: ستًا وستين -رضوان الله عليه- (¬2). (قال) عروة بن الزبير -رحمه الله تعالى، ورضي عن آبائه-: (سُئِل) -بضم السين المهملة مبنيًا لما لم يسم فاعله- (أسامة) -بالرفع نائب الفاعل-، وهو أسامة -بضم الهمزة- (بنُ زيد) بنِ حارثةَ حِبُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وابنُ حِبِّهِ، يُكنى: أبا محمد، وحارثة -بالحاء المهملة والثاء المثلثة-، القضاعيُّ، الأسلميُّ؛ لأنه من ولد أَسْلُم -بضم اللام- بنِ الحافِ -بالحاء المهملة وكسر الفاء- بنِ قضاعةَ -بضم القاف والضاد المعجمة-. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6833)، كتاب التمني، باب: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبير طليعة وحده، ومسلم (2415)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير - رضي الله عنهما -، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 100)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 41)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 553).

وأم أسامةَ: هي أمُّ أَيْمَنَ بَرَكَةُ، حاضنةُ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانت حبشيةً مولاةً لأبيه عبدِ الله بنِ عبدِ المطلبِ، فهو مولى النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وابنُ مولاته، وابنُ مولاه أيضًا؛ لأن زيدًا مولى النّبي - صلى الله عليه وسلم -. وأيمنُ الذي كُنيت به أُمُّ أسامةَ هو أيمنُ بنُ عبيدِ بنِ عمرِو بنِ بلالٍ، الأنصاريُّ الخزرجيُّ، استشهد يوم حنين، وهو أخو أسامةَ لأمه. وكان أسامة - رضي الله عنه - أفطسَ أسودَ كالليل. قال ابنُ سعدٍ: وكان زيدٌ أبيضَ أشقرَ، فلهذا كانت الجاهلية تقدَحُ في نسب أسامة، فلما دخل القائف، ورأى أقدامَهما بارزةً، قال: إن هذهِ الأقدامَ بعضُها من بعض، ففرح النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك، (¬1) وسُرَّ بقول مُجَزِّز: إن هذه الأقدامَ بعضُها من بعض. وكان يقال له: الحِبُّ بنُ الحِبِّ. والحِبُّ -بكسر الحاء-: المحبوبُ. وفي "الصّحيحين": أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في حقِّ زيدِ بنِ حارثةَ والدِ أسامة: "وايمُ اللهِ! إنْ كانَ لَخليقًا بالإمارةِ، وإنْ كانَ لَمِنْ أَحَبِّ الناسِ إليَّ، وإنَّ هذا -يعني: أسامةَ- لَمِنْ أَحَبِّ الناسِ إليَّ بَعْدَهُ" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3525)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب زيد بن حارثة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1459)، كتاب: الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف الولد، من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رواه البخاري (3524)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب زيد بن حارثة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2426)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد - رضي الله عنهما -، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.

وفي الترمذي: عن ابن عمر: أن عمر - رضي الله عنهما - فرض لأسامةَ بنِ زيدٍ ثلاثةَ آلافٍ وخمس مئة، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف، فقال عبد الله لأبيه: لِمَ فَضَّلْتَ أسامةَ عليَّ، فوالله! ما سبقني إلى مشهد؟ فقال عمرُ: لأن زيدًا كانَ أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبيكَ، وكان أسامة أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، فآثرتُ حِبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حِبَّي (¬1). ويروى أنه فرض لأسامة خمسة آلاف، ولابنه ثلاثة آلاف. والأحاديثُ في نحو ذلك كثيرة. وقد استعمله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثماني عشرة سنة، وقُبض النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن عشرين سنة. توفي - رضي الله عنه - بوادي القرى بعد قتلِ عثمان، وقيل: مات في آخر أيام معاوية. وصحح ابن عبدِ البر: أنه مات سنة أربع وخمسين. واعتزل الفتنة - رضي الله عنه -. روي له عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - مئةٌ وثمانية وعشرون حديثًا، كما قاله ابن حزم. اتفق "الصحيحان" منها على خمسةَ عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بحديثين. ودفن في البقيع من المدينة المنورة، ويأتي لذكره تتمة في ترجمة والده زيد - رضي الله عنه - بعد -إن شاء الله تعالى- (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3813)، كتاب: المناقب، باب: مناقب زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، وقال: حسن غريب. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 61)، و"التاريخ الكبير" =

قال عروةُ: سُئل أسامةُ (وأنا جالس) معه، أو عنده، والواو للحال: (كيفَ كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسير) في حجة الوداع (حينَ دفعَ؟)؛ أي: انصرف من عرفة إلى المزدلفة، وسُمي دفعًا، لازدحامهم إذا انصرفوا، فيدفع بعضهم بعضًا (¬1). (قال) أسامة - رضي الله عنه -: (كان) - صلى الله عليه وسلم - (يسيرُ العَنَقَ) العَنَقَ -بفتح العين والنون- منصوبٌ على المصدرية انتصابَ القَهْقَرى في قولهم: رجعَ القهقرى، أو التقدير: يسير السير العنق، وهو السيرُ بينَ الإبطاء والإسراع، (¬2) يقال: أَعْنَقَ يُعْنِقُ إِعناقًا -بكسر الهمزة-، فهو مُعْنِق، والاسمُ: العَنَق -بالتحريك- (¬3)، (فإذا وَجَدَ) - صلى الله عليه وسلم - (فَجوةً) -بفتح الفاء وسكون الجيم-؛ أي: متسعًا. وفي البخاري: قال أبو عبد الله -يعني: نفسه-: فجوة: متسع، يريد: المكان الخالي عن المارة، والجمعُ فَجَوات، وفِجاء -بكسر الفاء والمد-، وكذلك رَكوة -بفتح الراء-، ورِكاء -بكسرها مع المد- (¬4). ¬

_ = للبخاري (2/ 20)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 283)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 2)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 688)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 75)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (8/ 46)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 521)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 194)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 125)، و"تهذيب الكمال" للمزي (2/ 338)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 496)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 39). (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 201). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 310). (¬4) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 600)، عقب حديث (1583) المتقدم تخريجه.

(نَصَّ) -بفتح النون والصاد المهملة المشددة-، أي: سار سيرًا شديدًا، يبلُغ به الغايةَ. قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (العَنَقُ) -بفتح العين والنون-: (انبساطُ السيرِ)، وهو اتساعه، ومنه: بسط له من الدنيا ما بسط؛ أي: وسع (¬1)، (والنصُّ: فوقَ ذلك)، فهما ضربان من السير، والنصُّ أرفعُهُما (¬2)، فإن في "النهاية": النَّص: التحريك حتى يستقصي أقصى سير الناقة، وأصلُ النصِّ: أقصى المشي وغايتُه، ثم سُمي به ضرب من السير سريع، انتهى (¬3). وفي الحديث دليل على أنه عند الازدحام كان يستعمل السير الأخف، وعند وجود الفجوة -وهو المكان المنفسح- يستعمل السيرَ الأشدَّ، وذلك باقتصاد، كما جاء في الحديث الآخر: "عَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ" (¬4) كما قاله ابن دقيق العيد (¬5). وهذا الحديث وما بعده ليس مما يتعلق بفسخ الحج إلى العمرة، فكأَن الترجمة باب: فسخ الحج إلى العمرة وغيره، على عادته، فسقطت لفظة "غيره" من بعض النساخ، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 101). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 76). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 63)، وعنده: "حتى يَستخرجَ" بدل "حتى يستقصي". (¬4) رواه البخاري (866)، كتاب: الجمعة، باب: المشي إلى الجمعة، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 76).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ [عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو]- رَضِيَ اللهُ عَنْهُما -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لم أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: "اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ"، وَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: "ارْمِ وَلَا حَرَجَ"، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْء قُدِّمَ وَلَا أخِّرَ إلا قَالَ: "افْعَلْ وَلَا حَرَج" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (83)، كتاب: العلم، باب: الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، و (124)، باب: السؤال والفتيا عند رمي الجمار، و (1649 - 1651)، كتاب: الحج، باب: الفتيا على الدابة عند الجمرة، و (6288)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (1306/ 327 - 333)، كتاب: الحج، باب: من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي، وأبو داود (2014)، كتاب: المناسك، باب: فيمن قدم شيئًا قبل شيء في حجه، والترمذي (916)، كتاب: الحج، باب: ما جاء فيمن حلق قبل أن يذبح، أو نحر قبل أن يرمي، وابن ماجه (3051)، كمَاب: المناسك، باب: من قدم نسكًا قبل نسك. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 216)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 393)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 387)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 408)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 54)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 77)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار =

(عن) أبي عبدِ الرحمنِ (عبدِ الله بنِ) أميرِ المؤمنينَ (عمرَ) بنِ الخطاب - رضي الله عنهما - (¬1): (أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف)؛ أي: على ناقته في يوم النحر عند الجمرة، كما في بعض روايات "الصّحيحين" (¬2) (في حجة الوداع)، ورد في كتاب: العلم من "البخاري": بمنى للناس (¬3)، (فجعلوا يسألونه، فقال رجل) قال الحافظ: ابن حجر في "الفتح": لم يعرف اسم هذا الرجل، ولا الذي بعده في قوله: فجاء آخر. قال: والظاهر أن الصحابي لم يسمِّ أحدًا، لكثرة من سأل إذ ذاك (¬4). (لم أشعر)؛ أي: ثم فطن، وهو أعم من الجهل والنسيان (¬5)، وأصل الشعور من المشاعر، وهي الحواس، فكأنه يستند إلى الحواس (¬6). ¬

_ = (2/ 1057)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 570)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 88)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 237)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 211)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 151). (¬1) قلت: هكذا جعل الشارح -رحمه الله- هذا الحديث من طريق عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - تبعًا لما وقع في كثير من نسخ "العمدة"، والصواب أنه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. قال الزركشي في "النكت" (ص: 221): هذا الحديث ثابت في "الصحيحين" كما قال، وذكره الشيخ -يعني: ابن دقيق- في "شرحه" من طريق عبد الله بن عمر، وهو سهو. ونبه على ذلك الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (3/ 569)، فقال: بخلاف ما وقع في "العمدة"، وشرح عليه ابن دقيق العيد ومن تبعه على أنه ابن عمر -بضم العين- أي: ابن الخطاب. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1651)، ومسلم برقم (1306/ 333). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (83)، ومسلم برقم (1306/ 327). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 181). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 237). (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 77).

ولم يفصح في هذه الرواية بمتعلق الشعور، وقد بيَّنه في رواية عند مسلم، ولفظه: لم أشعر أن النحر قبل الحلق (¬1)، (فحلقت) شعر رأسي، والفاء سببية، جعل الحلق مسببًا عن عدم شعوره، كأنه يعتذر لتقصيره (قبل أن أذبح) هديي (¬2). (قال) -عليه الصلاة والسلام-: (اذبح) هديك، (ولا حرج) عليك، (وجاء) رجل (آخر، فقال:) يا رسول الله! (لم أشعر)؛ أي: أن الرمي قبل النحر، (فنحرت) هديي (قبل أن أرمي) الجمرة. وتقدم أن النحر ما يكون في اللبّة، والذبح ما يكون في الحلق (¬3). (فقال) -عليه الصّلاة والسّلام-: (ارم) الجمرة، (ولا حرج) عليك. قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: (فما سُئل) النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -بضم السين المهملة مبنيًا لما لم يسمَ فاعله- (يومئذ عن شيء) من الرمي والحلق والنحر والطواف (قُدِّمَ ولا أُخِّرَ) -بضم القاف والهمزة فيهما-؛ أي: لا قدم، فحذف لفظة "لا"، والفصيح تكرارها في الماضي، قال تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} (¬4) [الأحقاف: 9]. ولمسلم: فما سئل عن شيء قُدِّمَ أو أُخِّرَ (¬5) (إلا قال) - صلى الله عليه وسلم -: (افعل) ذلك التقديم والتأخير متى شئت، (ولا حرج) عليك مطلقًا، لا في الترتيب، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1306/ 328). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 238). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 77). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 238). (¬5) لم أقف عليه في روايات مسلم التي أخرجها في "صحيحه". وقد تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2014).

ولا في ترك الفدية، وهذا مذهبنا كالشافعية (¬1). قال ابن دقيق العيد: وظائف يوم النحر أربعة: الرمي، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة. هذا هو الترتيب المشروع فيها، ولم يختلفوا في طلبية هذا الترتيب وجوازه على هذا الوجه (¬2). قال علماؤنا: السنة تقديم رمي، فنحر، فحلق، فطواف. وقال في "الفروع": فإن حلق قبل نحره ورميه، أو نحر، أو زار قبل رميه، فلا دم، نص عليه، وقيل: يلزم عالمًا عامدًا، اختاره أبو بكر وغيره، وأطلقها ابن عقيل. وظاهر نقل المروذي: يلزمه صدقة (¬3). ومعتمد المذهب: لا يجب شيء. وقال أبو حنيفة، ومالك: الترتيبُ واجب، يُجبر بدم. قال ابن دقيق العيد: ومالك، وأبو حنيفة يمنعان تقديم الحلق على الرمي؛ لأنه حينئذٍ يكون حلقًا قبل وجود التحللين. قال: وللشافعي قولٌ مثله. قال: وقد بُني القولان له على أن الحلق نسك، أو استباحة محظور، فإن قلنا: إنه نسك، جاز تقديمه على الرمي؛ لأنه يكون من أسباب التحلل، وإن قلنا: إنه استباحة محظور، لم يجز؛ لما ذكرنا من وقوع الحلق قبل ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 238). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 77). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 246).

التحللين، ثم نظر في هذا المأخذ بأنه لا يلزم من كون الشيء نسكًا أن يكون من أسباب التحلل. قال: ومالكٌ يرى أن الحلق نسك، ويرى مع ذلك أنه لا يقدم على الرمي، إذ معنى كون الشيء نسكًا: أنه مطلوب مثاب عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون سببًا للتحلل. قال: ونقل عن أحمد: أنه إن قدم بعض هذه الأشياء على بعض، فلا شيء عليه إن كان جاهلًا، وإن كان عالمًا، ففي وجوب الدم روايتان. قال: وهذا القول في سقوط الدم عن الجاهل والناسي دون العامد قويٌّ من جهة أن الدليل دلَّ على وجوب اتباع أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحج بقوله: "خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكُمْ" (¬1)، وهذه الأحاديث المرخِّصة في التقديم لما وقع السؤال عنه إنما قرنت بقول السائل: لم أشعر، فيختص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب اتباع الرسول في أعمال الحج، وحينئذ يحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَرَجَ" على نفي الإثم في التقديم مع النسيان، ولا يلزم من نفيِ الإثم نفيُ وجوب الدم، لكن يشكل على هذه أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، والحاجة تدعو إلى بيان هذا الحكم، فلا يؤخر عنها بيانه، ولم يأت أنه - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ مَنْ سأله بدم. فإن قيل: لا يلزم من تركه لذكره في الرواية تركُ ذكره في نفس الأمر. قلنا: على مدعي ذلك الإثبات، وأنَّى له به (¬2)؟ وأما مجرد الدعوى، فلا التفات إليها، فكل حد يقدر على مثل ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 79 - 80).

تنبيهان: الأول: قال في "الفروع": والحلق أو التقصير نسك فيه دم، وعنه: إطلاق من محظور لا شيء فيه، ونقل مهنّا في معتمرٍ تَرَكَهُ، ثم أحرمَ بعمرة: الدم كثير، عليه أقل من الدم (¬1). الثاني: يحصل التحللُ الأول باثنين من رميٍ وحلقٍ وطوافٍ، ويحصل التحلل الثاني بما بقي، مع سعي لمن لم يكن سعى، فالتحلل الأول يحلل له كل شيء ما عدا النساء، من وطء، وقبلة، ولمس بشهوة، وعقد نكاح، والتحلل الثاني يُحل له ذلك (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 380). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّخَعِيِّ: أَنّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسعُودٍ، فَرآهُ يَرْمِي الجَمْرَةَ الكُبْرَى بسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَجَعَلَ البَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنَى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ البقَرَةِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1660)، كتاب: الحج، باب: رمي الجمار من بطن الوادي، و (1661)، باب: رمي الجمار بسبع حصيات، و (1662)، باب: من رمى جمرة العقبة فجعل البيت عن يساره، و (1663)، باب: يكبر مع كل حصاة، ومسلم (1296/ 305 - 309)، كتاب: الحج، باب: رمي جمرة العقبة من بطن الوادي، وأبو داود (1974)، كتاب: المناسك، باب: في رمي الجمار، والنسائي (3070 - 3073)، كتاب: الحج، باب: رمي الرعاة، والترمذي (901)، كتاب: الحج، باب: ما جاء كيف ترمى الجمار، وابن ماجه (3030)، كتاب: المناسك، باب: من أين ترمى جمرة العقبة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 371)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 398)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 42)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 81)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1060)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 581)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 88)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 247)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 210)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 143).

(عن عبدِ الرحمنِ) بنِ يزيدَ بن قيس، يكنى: أبا بكر، أخو الأسود (النَّخَعِيِّ)، يعدُّ في الطبقة الأولى من تابعي الكوفيين. روى عن ابن مسعود، وسمع عثمان بن عفان - رضي الله عنهما -. وروى عنه: إبراهيم بن مهاجر، وابن إسحاق. حديثه في الكوفيين، ومات في الجماجم، وهي سنة ثلاث وثمانين على الأرجح -رحمه الله تعالى- (¬1). (أنَّه)؛ أي: عبدُ الرحمن بن يزيد النخعي: (حجَّ مع) عبد الله (بنِ مسعود) - رضي الله عنه -، (فرآه)؛ أي: رأى عبدُ الرحمن بنُ يزيدَ عبدَ الله بن مسعود (يرمي الجمرة الكبرى)، وهي جمرة العقبة. والجمرة في الأصل: النارُ المتقدة، والحصاة، وواحدة جمرات المناسك (¬2). قال القرافي من المالكية: الجِمار: اسمٌ للحصى، لا المكان، والجمرةُ: اسم للحصاة، وإنما سمي الموضع جمرة باسم ما جاوره، وهو اجتماع الحصى فيه (¬3). (بسبع حصيات)، فلا يجزىء بخمس، ولا بستٍّ، وهذا قول ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 121)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 363)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 299)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 111)، و"تهذيب الكمال" للمزي (18/ 12)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 78)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 267). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 469)، (مادة: جمر). (¬3) ونقله الزرقاني في "شرح الموطأ" (2/ 490).

الجمهور، خلافًا لعطاء في الإجزاء بالخمس، ومجاهد بالست (¬1)، وقال به الإمام أحمد في رواية مرجوحة. قال في "الإنصاف": في عدد الحصى روايتان: إحداهما: سبعٌ، وهي المذهب، وعليها الأصحاب (¬2). قلت: وقطع في "الإقناع" (¬3)، و"المنتهى" (¬4) بذلك، وهو المذهب الذي لا يعدل عنه، حتى قال في "الإقناع": فإن أخلَّ بحصاة من الأولى، لم يصحَّ رميُ الثانية، وإن جهل محلَّها، بنى على اليقين (¬5). واستدل لقول عطاء ومجاهد، ومرجوح روايتي الإمام أحمد بحديث النسائي عن سعد بن مالك، قال: رجعنا في الحجة مع النّبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعضُنا يقول: رميت بسبع، وبعضُنا يقول: رميتُ بستٍّ، فلم يعبْ بعضهم على بعض، (¬6) وحديث أبي داود، والنسائي أيضًا عن أبي مجلز، قال: سألتُ ابنَ عباس - رضي الله عنهما - عن شيء من رمي الجمار، قال: ما أدري رماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بستٍّ أو سبع (¬7). وأجيب: بأن حديث سعد ليس بمسند، وحديث ابن عباس ورد على ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 248). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 46). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 27). (¬4) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 166). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 27). (¬6) رواه النسائي (3077)، كتاب: المناسك، باب: عدد الحصى التي يرمي بها الجمار. (¬7) رواه أبو داود (1977)، كتاب: المناسك، باب: في رمي الجمار، والنسائي (3078)، كتاب: المناسك، باب: عدد الحصى التي يرمي بها الجمار.

الشك، وشكُّ الشاكِّ لا يقدح في جزم الجازم (¬1). (فجعل) عبدُ الله بن مسعود - رضي الله عنه - (البيتَ) الحرام (عن يساره، و) جعل (منى)، وهي ما بين وادي مُحَسِّر وجمرة العقبة (عن يمينه)، فرماها من بطن الوادي مستقبلَ الجمرة. وفي لفظ الترمذي: لما أتى عبدُ الله جمرةَ العقبة، استبطنَ الوادي (¬2)، فقال عبدُ الرحمن بن يزيد لابن مسعود - رضي الله عنه -: يا أبا عبد الرحمن! إن ناسًا يرمونها -أي: جمرةَ العقبة- يومَ النحر من فوقها، فقال (¬3)، وفي رواية في "الصّحيحين": (ثم قال)، وفي لفظ: وقال (¬4): (هذا مقامُ الذي أُنزلَتْ عليه سورة البقرة)؛ أي: النّبي (- صلى الله عليه وسلم -). وفي لفظ: هذا رمي الذي أنزلت عليه سورة البقرة - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وفي لفظ: فقال ابن مسعود: والذي لا إله غيرُهُ! هذا مَقامُ الذي أنزلت عليه سورة البقرة - صلى الله عليه وسلم - (¬6) -بفتح ميم مَقام-: اسمُ مكان من قام يقوم؛ أي: هذا موضعُ قيامِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وخصَّ سورة البقرة، لمناسبتها للحال؛ لأن معظم المناسك مذكور فيها، خصوصًا ما يتعلق بوقت الرمي، وهو قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]، وهو من باب التلميح، فكأنه قال: من هنا رمى مَنْ أُنزلت عليه أمور المناسك، وأُخذ عنه ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 248). (¬2) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (901). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1660). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1296/ 307). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1661) إلا أنه قال: "هكذا رمى" بدل "هذا رمي". (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1660)، ومسلم برقم (1296/ 305).

أحكامها، فهو أولى وأحق بالاتباع ممن رمى الجمرة من فوقها (¬1). تنبيهات: أحدها: يأخذ الحاج حصى الجمار من مُزْدَلفة، أو من طريقه قبل أن يصل إلى منى، ومِنْ حيثُ أخذه جازَ، ويُكره من منى، ويكره تكسيره، ويكون أكبرَ من حِمِّص، ودونَ البندق، كحصى الخذف، فلا يجزىء صغير جدًا، ولا كبير، ويجزىء مع الكراهة نجس، فإن غسله، زالت الكراهةُ، وعدده سبعون حصاة على معتمد المذهب، وعليه أئمة علمائنا. فإذا وصل إلى منى، بدأ بجمرة العقبة راكبًا إن كان، وإلا ماشيًا؛ لأنها تحيةُ منى، فيرجمها بسبع حصيات، واحدة بعد واحدة، وذلك بعد طلوع الشمس ندبًا، فإن رمى بعد نصف ليلة النحر، أجزأ، وفاقا للشافعي، وإن غربت الشمس، فبعد الزوال من الغد، فإن رماها دفعة واحدة، لم تجزئه إلا عن حصاة واحدة، ويؤدَّب، نص عليه الإمام أحمد. ويشترط العلمُ بحصول الحصاة في المرمى في سائر الجمرات، ولا يجزىء وضعها، بل طرحها، ويكبر مع كل حصاة، ويقول: اللهم اجعَلْه حَجًا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وعملًا مشكورًا، ويرفع الرامي يُمناه حتى يُرى بياضُ إبطه، ويرميها على حاجبه الأيمن، وله رميها من فوقها، ولا يقف عندها، ويقطع التلبية مع أول حصاة (¬2). ونقل النووي في "شرح مسلم" عن الإمام أحمد: أنه لا يقطع التلبية حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 247). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 22 - 23). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 27).

الثاني: قال القرافي: الأُولى من الجمرات هي التي تسمى: الجمرة الأولى، وهي التي تلي مسجد الخَيْف، ومن بابه الكبير إليها ألفُ ذراع، ومئتا ذراع، وأربعة وخمسون ذراعًا، وسدس ذراع، ومنها إلى الجمرة الوسطى مئتا ذراع، وخمسة وسبعون ذراعًا، ومن الوسطى إلى جمرة العقبة مئتا ذراع، وثمانية أذرع، كل ذلك بذراع الحديد، انتهى (¬1). وقد امتازت جمرة العقبة عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر، وأنها لا يوقف عندها، وترمى ضحًى، ومن أسفلها استحبابا (¬2). وقد اتفقوا على أنه من حيث رماها جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه أو يساره، أو من فوقها أو من أسفلها، وإنما الاختلاف في الأفضل (¬3). الثالث: رميُ الجمرات الثلاث في أيام منى، وهي أيام التشريق، كلَّ يوم بعدَ الزوال، إلا السقاة والرعاة، فلهم الرميُ ليلًا ونهارًا كما يأتي. فإن رمى غيرُهم قبلَ الزوال، لم يجزئه، فيعيده. وآخرُ وقتِ رمي كلِّ يوم إلى المغرب، ويستحب قبل صلاة الظهر، وأَلَّا يدع الصلاة مع الإمام في مسجد منى، وهو مسجد الخَيف، فيرمي كل جمرة بسبع حصيات، واحدة بعد واحدة، فيبدأ بالجمرة الأولى، فيجعلها عن يساره ويرميها، ثم يتقدم قليلًا لئلا يصيبه الحصى، فيقف فيدعو الله ¬

_ (¬1) نقله القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 246)، والزرقاني في "شرح الموطأ" (2/ 490). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 580). (¬3) المرجع السابق، (3/ 582).

رافعًا يديه، ويطيل، ثم يأتي الوسطى فيجعلها عن يمينه، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها، ويستقبل القبلة في الجمرات. وترتيبُها شرط، بأن يرمي الأولى التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم العقبة، فإن نَكَسه، لم يجزئه، وإن أخلَّ بحصاة من الأولى، لم يصح رميُ الثانية، ثم يرمي في اليوم الثاني والثالث كذلك. وإذا أخر الرمي كلَّه مع رمي يوم النحر، فرماه آخرَ أيام التشريق، أجزأه أداءً؛ لأن أيامَ الرمي كلَّها بمثابة اليوم الواحد، وكان تاركًا الأفضل، ويجب ترتيبه بنية، وكذا لو أخر رمي يوم أو يومين. وإن أخره كله، أو جمرة واحدة عن أيام التشريق، أو تركَ المبيت بمنى ليلة أو أكثرَ، فعليه دم، ولا يأتي به كالبيتونة. وفي ترك حصاة ما في شَعْرة، وفي حصاتين ما في شَعْرتين، وثلاثٍ دمٌ. ولكل حاج -ولو أراد الإقامة بمكة- التعجيلُ إن أحبَّ، إلا الإمامَ المقيمَ للمناسك، فليس له التعجيلُ، لأجل من يتأخر، فإن أحبَّ أن يتعجَّل في ثاني التشريق، وهو النفرُ الأول، خرج قبل غروب الشمس، ولا يضر رجوعه، وليس عليه في اليوم الثالث رمي. قال علماؤنا: ويدفن بقية الحصى في المرمى (¬1). قال في "الفروع": ويدفن بقية الحصى في الأشهر، زاد بعضهم: في المرمى. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 27 - 29).

وفي "منسك ابن الزاغوني" (¬1) أحدِ أئمة المذهب: أو يرمي بهن، كفعله في اللواتي قبلهن (¬2). وقال علماء الشافعية: فإن نفرَ في اليوم الثاني قبلَ الغروب، سقطَ رميُ اليوم الثالث، وهو إحدى وعشرون حصاة، ولا دمَ عليه ولا إثمَ، فيطرحها. قالوا: وما يفعله الناس من دفنها لا أصلَ له. قال القسطلاني: وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وعليه أصحاب أحمد (¬3). وفي قولهم في دفن الحصى: لا أصل له، فيه ما تقدم. فإن غربت الشمس وهو بمنى، لزمه المبيت والرمي من الغد بعد الزوال، ثم ينفر، وهو النفر الثاني. ويُسن إذا نفر من منى نزولُه بالأبطح، وهو المحصَّب، وحدُّه ما بين الجبلين إلى المقبرة، فيصلي به الظهرين والعشاءين، ويَهْجَع يسيرًا، ثم يدخل مكة -شرفها الله تعالى- (¬4). الرابع: حدُّ منى من جمرة العقبة إلى وادي مُحَسِّر. ¬

_ (¬1) هو كتاب: "مناسك الحج" للإمام الفقيه المحدث أبي الحسن علي بن عبيد الله بن نصر الزاغوني، المتوفى سنة (527 هـ)، أحد أعيان المذهب الحنبلي. انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (1/ 180)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 974). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 383). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 248). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 29).

وذكر الحافظ ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن": روى سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رجلًا سأله: لمَ سُميت منى؟ فقال: لِما يقع فيها من دماء الذبائح وشعورِ الناس، تقرُّبًا إلى الله تعالى، وتمنيًا للأمان من عذابه. وقال ابنُ فارس اللغويُّ: مِنَى: من قولك: منى الشيءَ وقدَّره؛ أي: قدَّر فيها النحر (¬1). وفي "المطلع": مِنَى -بكسر الميم وفتح النون مخففة بوزن رِبَا-. قال أبو عبيد البكري: تُذكر وتؤنث، فمن أنث، لم يُجْرِهِ؛ أي: لم يصرفه. وقال الفَرَّاء: الأغلبُ عليه التذكير، وقال العرجي في تأنيثه: [من البسيط] لَيَوْمُنَا بِمَنًى إِذْ نَحْنُ نَنْزِلُهَا ... أَشَدُّ مِنْ يَوْمِنا بالعَرْجِ أَوْ مِلْك وقال أبو دَهْبَل في تذكيره: [من البسيط] سَقَى مِنًى ثُمَّ رَوَّاهُ وَسَاكِنَهُ ... وَمَا ثَوى فِيهِ وَاهِي الوَدْقِ مُنْبَعِقُ (¬2) وقال الحازمي في "أسماء الأماكن": مِنَّى -بكسر الميم وتشديد النون-: الصُّقْعُ قربَ مكة. قال صاحب "المطلع": ولم أرَ هذا لغيره، والصوابُ الأول، انتهى (¬3). وفي "القاموس": ومِنَى؛ كإلى: قريةٌ بمكة، ويُصرف، سُميت بمنى: لِما يُمْنى بها من الدماء. ¬

_ (¬1) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 115). (¬2) انظر: "معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (4/ 1263). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 194 - 195).

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنها سميت بمنى؛ لأن جبريل -عليه السّلام- لما أراد أن يفارق آدمَ، قال له: تَمَنَّ، قال: أتمنى الجنة، فسميت منى لأمنية آدم -عليه السّلام- (¬1). وتقدم في الحديث الأول من هذا الباب لها ذكر، والله أعلم. الخامس: في أصل رمي الجمار. قال ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن": قال أبو مجلز: لما فرغ إبراهيم -عليه السّلام- من البيت، أتاه جبريل، فأراه الطوافَ، ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطانُ، فأخذ جبريلُ سبعَ حَصيات، وأعطى إبراهيمَ سبعًا، وقال له: ارم وكَبِّرْ، فرميا وكَبَّرا مع كل رمية حتى غابَ الشيطانُ، ثم أتى به الجمرةَ القصْوى، ففعلا كذلك. قال ابن الجوزي: هذا الأصلُ في شروع الرمي، كما أن الأصل في شروع السعي سعيُ هاجرَ بين الصفا والمروة، وذكرَ أصلَ الرمل، ثم قال: ثم زالت تلك الأشياء، وبقيت آثارها وأحكامها. قال: وربما أشكلت هذه الأمور على من يرى صورها ولا يعرف أسبابها، فيقول: هذا لا معنى له. قال: فقد بينتُ لكَ الأسباب من حيث النقل. قال: وها أنا أُمهد لك من المعنى قاعدةً تُمِرُّ عليها ما جاءك من هذا: اعلم أن أصل العبادة معقول، وهو ذل العبد لمولاه بطاعته، فإن الصلاة فيها من التواضع والذل ما يفهم منه التعبُّد، وفي الزكاة إرفاقٌ ومواساةٌ يفهم ¬

_ (¬1) رواه الأزرقي في "أخبار مكة" (2/ 180). وانظر: "القاموس المحيط" للفيروز أبادي (ص: 1721)، (مادة: مني).

معناه، وفي الصوم: كسرُ شهوة النفس، لتنقاد طائعةً إلى مخدومها، وفي تشريف البيت، ونصبه مقصدًا، وجعلِ ما حواليه حرمًا تفخيمًا له، وإقبالِ الخلق شعثًا غبرًا كإقبال العبد إلى مولاه ذليلًا معتذرًا أمر مفهوم، والنفس تأنس من التعبد بما تفهمه، فيكون ميلُ الطبع إليه مُعينًا على فعله، وباعثًا، فوظفت لها وظائف لا تفهمها ليتم انقيادها، كالسعي والرمي، فإنه لا حظَّ للنفس في ذلك، ولا أنسَ فيه للطبع، ولا يهتدي العقل إلى معناه، فلا يكون الباعث إلى امتثال الأمر فيه سوى مجردِ الأمر، والانقيادِ المحض، وبهذا الإيضاح تعرف أسرار العبادات الغامضة، انتهى (¬1). وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في رمي الجمار: فالشيطانَ ترجمون، وملةَ أبيكم تتبعون، رواه البيهقي (¬2). فائدة: قال ابن الجوزي: ربما قال قائل: نحن نعلم أن الحاج خلق كثير، ويحتاج كلُّ واحد منهم أن يرمي سبعين حصاة، وهذا من زمن إبراهيم -عليه السّلام-، والمرمى مكان صغيرٍ، ثم لا يجوز أن يرمي بحصاة قد رُمي بها، وترى الحصى في المرمى قليلًا، فما وجه ذلك؟ فالجواب: ما روي عن سعيد بن جبير: أنه قال: الحصى قُربان، فما قُبل منه، رُفع، وما لم يُقبل، بقي (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 117 - 118). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 153). وكذا الحاكم في "المستدرك" (1713)، وغيرهما. (¬3) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 118 - 119). والأثر: رواه الأزرقي في "أخبار مكة" (2/ 177). وكذا ابن الجوزي في: "التحقيق في أحاديث الخلاف" (2/ 153).

وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا: أنَّ راميَ الجِمار لا يدري أحدٌ مالَهُ حتى يُوفَّاه يومَ القيامة، رواه ابن حبان في حديث طويل (¬1). وفي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أنه كان قاعدًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد الخيف، وأن رجلًا من الأنصار سأله عن مخرجه من بيته يؤُمُّ البيتَ الحرام، وعَدَّ المشاعرَ، فأجابه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وقال: "إنه يُغفر له بكلِّ حصاةٍ رماها كبيرةً من الكبائرِ الموبقاتِ" رواه سعيد بن منصور (¬2). ورواه ابن الجوزي عن عطاء الخراساني، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا (¬3). وروى الطبراني عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رمي الجمار، وما له فيه، فسمعتُه يقول: "تجدُ ذلكَ عندَ ربك أحوجَ ما تكونُ إليه" (¬4)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1887). (¬2) ورواه مسدد في "مسنده" (6/ 262 - "المطالب العالية" لابن حجر). (¬3) رواه ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" (ص: 118). وكذا الفاكهي في "أخبار مكة" (4/ 295). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (13479)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 28).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَم المُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: وَالمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلَقِينَ"، قَالُوا: يَا رسُولَ اللهِ! وَالمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: "وَالمُقَصرِينَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1640، 1642)، كتاب: الحج، باب: الحلق والتقصير عند الإحلال، و (4148 - 4149)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، ومسلم (1301/ 316 - 319)، كتاب: الحج، باب: تفضيل الحلق على التقصير، وجواز التقصير، وأبو داود (1979 - 1980)، كتاب: المناسك، باب: الحلق والتقصير، وابن ماجه (3044)، كتاب: المناسك، باب: الحلق. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 213)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 312)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 145)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 382)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 403)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 49)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 83)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1063)، و"طرح التثريب" للعراقي (5/ 110)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 562)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 64)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 233)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 210).

(عن) أبي عبدِ الرحمنِ (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (- رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) في حجة الوداع، أو في الحديبية، أو في الموضعين، جَمعًا بين الأحاديث (¬1): (اللهمَّ ارْحَمِ المحلِّقين، قالوا)؛ أي: الصحابة - رضي الله عنهم -. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد، انتهى (¬2). وفي رواية ابن سعد في "الطبقات" في غزوة الحديبية: أن عثمان وأبا قتادةَ هما اللذان قَصَّرا ولم يحلِقا في عام الحديبية (¬3). قال الجلال البلقيني: فيحتمل أن يكونا هما اللذان قالا: (والمقصرين)؛ (¬4) أي: قل: وارحم المقصرين (يا رسولَ الله!). وفي حديث ابن عمر في رواية أخرى في "الصّحيحين"، قال: حلق النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وطائفةٌ من أصحابه، وقَصَّرَ بعضهم (¬5). قال البلقيني: بين في رواية ابن سعد في "الطبقات" في غزوة الحديبية البعض الذي قَصَّر، ولفظه: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى أصحابه حلقوا رؤوسهم عامَ الحديبية غيرَ عثمانَ وأبي قتادةَ، فاستغفرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين ثلاثَ مرات، وللمقصرين مرة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 233). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 562). (¬3) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬4) نقله القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 234). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1642)، ومسلم برقم (1301/ 316). (¬6) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 104). =

قال صاحب "المصابيح": إن ثبت أن ما أورده البخاري ومسلم في هذا الباب كان في عام الحديبية، حَسُنَ التفسيرُ بذلك، وإلا، فلا، إذ لا يلزم من كون عثمانَ وأبي قتادة قصرا في عام الحديبية أن يكونا قَصَّرا في غيره (¬1). (قال) - صلى الله عليه وسلم - ثانيًا: (اللهمَّ ارحمِ المحلِّقين، قالوا: يا رسول الله!) قل: (و) ارحم (المقصرين)، فـ (قال: و) ارحم (المقصرين) بالعطف على محذوف، ومثلُه يسمى بالعطف التلقيني (¬2)، كقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124]. قال الزمخشري في "كشَّافه": ومن ذريتي عطفٌ على الكاف، كأنه قال: وجاعلٌ بعضَ ذريتي، كما يقال: سأكرمك، فتقول: وزيدًا، انتهى (¬3). وتعقبه أبو حيان: بأنه لا يصحُّ العطف على الكاف؛ لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار، ولم يُعَدْ؛ لأن "من" لا يمكن تقديرُ الجار مضافًا إليها؛ لأنها حرف، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى يقدر "جاعل" مضافًا إليها لا يصح، ثم قال: والذي يقتضيه المعنى أن يكون {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} متعلقًا بمحذوف، والتقدير: واجعل من ذريتي إمامًا؛ لأن إبراهيم -عليه السّلام- فهم من قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] ¬

_ = قلت: وهو في "مسند الإمام أحمد" (3/ 89) من حديث أبي سعيد الخدري أيضًا، فالعزو إليه أولى. (¬1) نقله القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 235). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 234)، نقلًا عن "الفتح" للحافظ ابن حجر (3/ 562). (¬3) انظر: "الكشاف" للزمخشري (1/ 184).

الاختصاص، فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إمامًا، انتهى (¬1). وفي رواية في "الصّحيحين": قال في الرابعة: "والمُقَصِّرين" (¬2). وفي حديث أبي هريرة في "الصّحيحين": قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ اغفرْ للمُحَلِّقين"، قالوا: وللمقصِّرين، قال: "اللهمَّ اغفرْ للمُحَلِّقين"، قالوا: وللمقصِّرين -قالها ثلاثًا: "اغفر للمحلقين"-، قالوا: وللمقصرين قالها ثلاثًا؛ أي: اغفر للمحلقين ثلاث مرات، وفي الرابعة قال: "وللمقصرين" (¬3). ففيه تفضيلُ الحلق للرجال على التقصير الذي هو أخذُ أطرافِ الشعر، لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]، إذ العربُ تبدأ بالأهم والأفضل، (¬4) نعم، إن أحرم متمتِّعًا، فالتقصير له أفضلُ، ليوفِّرَ شعره ليحلقه عند التحلل من حجه. فيحلق رأسه، ويبدأ بأيمنه، ويستقبل القبلة فيه، ويكبر وقتَ الحلق، والأولى أَلَّا يشارط الحلاقَ على أجرة، وإن قصر، فمن جميع شعر رأسه، لا من كل شعرة بعينها. والمرأة تقصر من شعرها على أي صفة كان، من ضَفْر وعَقْصٍ وغيرِهما قدرَ أنملةٍ فأقلَّ من رؤوس الضفائر. ¬

_ (¬1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (1/ 376 - 377). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1640)، ومسلم برقم (1301/ 319). (¬3) رواه البخاري (1641)، كتاب: الحج، باب: الحلق والتقصير عند الإحلال، ومسلم (1302)، كتاب: الحج، باب: تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير. (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 234).

وكذا عبدٌ، ولا يحلق إلا بإذن سيده؛ لأن الحلق يُنقص قيمته. ويسن أخذُ أظفاره وشاربه ونحوه، ومن عدم الشعر، استحب أن يُمِرَّ الموسى على رأسه (¬1). وفي "مثير العزم الساكن": روي عن النّبي - صلى الله عليه وسلم -: أن رجلًا من الأنصار سأله عن الحج، فذكر الحديث، إلى أن قال: "وأَمَّا حَلْقُ رأسِكَ، فإن لكَ بكلِّ شعرةٍ نورًا" (¬2). وفي لفظ: "فإذا حَلَقْتَ رأسَكَ، تناثَرَتِ الذنوبُ كما يتناثرُ الشعرُ، بكلِّ شعرةٍ ذنبٌ" (¬3). قلت: رواه الطبراني في "الكبير"، والبزار، قال: وقد روي هذا الحديث من وجوه (¬4). قال الحافظ المنذري: رواته موثقون، ورواه ابن حبان في "صحيحه" (¬5). فائدة: ذكر الحافظُ ابنُ الجوزيِّ في "مثير العزم الساكن" بسنده إلى وكيع، قال: قال لي أبو حنيفةَ النعمانُ بنُ ثابتٍ الإمامُ: الحلقُ فيه خمسة أبواب من المناسك، فعلَّمنيها حَجَّامٌ، وذلك أني حين أردت أن أحلق رأسي، وقفت على حجام، فقلت له: بكم تحلقُ رأسي؟ فقال: أعراقيٌّ ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 24). (¬2) ورواه بهذا اللفظ عبد الرزاق في "المصنف" (8828)، عن كعب الأحبار. (¬3) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 127). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (13566)، والبزار في "مسنده" (3/ 274 "مجمع الزوائد" للهيثمي)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬5) تقدم تخريجه عند ابن حبان. وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 111).

أنت؟ قلت: نعم، قال: النسكُ لا يُشارَط عليه، اجلس، فجلست منحرفًا عن القبلة، فقال لي: حَوِّلْ وجهَكَ إلى القبلة، فحوَّلته، وأردت أن أحلق رأسي من الجانب الأيسر، فقال: أَدِرِ الشقَّ الأيمنَ من رأسك، فأدرتُه، وجعل يحلق وأنا ساكتٌ، فقال لي: كَبِّرْ، فجعلتُ أكبر حتى قمتُ لأذهبَ، فقال لي: أين تريد؟ قلت: رحلي، قال: صلِّ ركعتين، ثم امضِ، فقلت: ما ينبغي أن يكون ما رأيت من عقل هذا الحجام، فقلت له: من أين لكَ ما أمرتني به؟ فقال لي: رأيتُ عطاءَ بنَ أبي رباحٍ يفعل ذلك (¬1). تنبيهات: الأول: حديثُ أبي هريرة يدلُّ على أن دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين بالمغفرة كان في حجة الوداع؛ لأنه لم يكن قدم على النّبي - صلى الله عليه وسلم - عامَ الحديبية؛ لأن الحديبية في السادسة، وهو إنما قَدِمَ على النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في السابعة، لكنْ لم يصرح أبو هريرة بسماعه من النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فاحتمل الأمرين، لإمكان سماعه مِمَّنْ حضرَ الحديبية، وحذفه له، ولو صرح بالسماع، لتعين كونه في حجة الوداع (¬2). الثاني: تقدم أن الحلق أو التقصير نسكٌ، لا استباحةُ محظور، ويرشد لهذا الدعاءُ لفاعله بالرحمة، والدعاءُ ثواب، والثوابُ إنما يكون على العبادات، لا على المباحات، ولتفضيله أيضًا على التقصير، إذ المباحات لا تتفاضل، ولا تحلُّلَ للحج والعمرة بدونه كسائر أركانها إلا لمن لا شعر برأسه، فيتحلل منهما بدونه، فلا يؤمر به بعد نبات شعره. وهو عندنا كالحنفية واجبٌ، وعند الشافعية من الفروض، وأقلُّ ¬

_ (¬1) انظر: "مثير العزم السكن" لابن الجوزي (ص: 127). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 563).

ما يجزىء عند الشافعية: ثلاثُ شعرات، وعند أبي حنيفة: ربعُ الرأس، وعند أبي يوسف: النصف، وعند الإمام أحمد والمالكية: الجميع، كما أشرنا إليه سابقًا. قال العلامةُ الكمالُ بنُ الهمام: اتفق الأئمةُ الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: أن قال كل منهم بأنه يجزىء في الحلق القدرُ الذي قال: إنه يجزىء في الوضوء. قال: ولا يصح أن يكون هذا منهم بطريقة القياس؛ لأنه لا يكون قياسًا بلا جامع يظهر أثره، وذلك لأن حكم الأصل على تقدير القياس وجوبُ المسح، ومحله المسح، وحكمُ الفرع وجوبُ الحلق، ومحله الحلق للتحلل، ولا يظن أن محل الحكم الرأس، إذ لا يتحد الأصل والفرع، وذلك أن الأصل والفرع هما محلا الحكم المشبه به والمشبه، والحكم هو الوجوب مثلًا، ولا قياس يُتصور عند اتحاد محله، إذ لا اثنينية، وحينئذٍ فحكم الأصل، [و] هو وجوبُ المسح ليس فيه معنى يوجب جواز قَصْره على الربع، وإنما فيه نفسُ النص الوارد فيه، وهو قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]،، بناء، إما على الإجمال والتحاق حديث المغيرة بيانًا، أو على عدمه، والمفاد بسبب الباء إلصاقُ اليد كلِّها بالرأس؛ لأن الفعل حينئذ يصير متعديًا إلى الآلة بنفسه، فيشملها، وتمام اليد يستوعب الربع عادة، فتعين قدرُه، لا أنَّ فيه معنًى ظهر أثرُه من الاكتفاء بالربع، أو بالنقص مطلقًا، أو تعين الكل، وهو متحقق في وجوب حلقها عند التحلل من الإحرام، ليتعدى الاكتفاء بالربع من المسح إلى الحلق، وكذا الآخران، وإذا انتفت صحةُ القياس، فالمرجعُ في كل من المسح وحلق التحلل ما يفيده نصه الواردُ فيه، والواردُ في المسح دخلت فيه الباء على الرأس التي

هي المحل، فأوجب عند الشافعي التبعيض، وعند غيره الإلصاق، غير أن الحنفية لاحظوا تعدِّيَ الفعل للآلة، فيجب قدرُها من الرأس، ولم يلاحظها مالكٌ، ولا أحمدُ -رحمهما الله تعالى-، فاستوعبا الكلَّ، أو جعلاها صلة، كما في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] في آية التيمم، فاقتضى وجوب استيعاب المسح. وأما الوارد في الحلق، فمن الكتاب قولُه تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] من غير باء، ففيها إشارة إلى تحليق الرؤوس أو تقصيرها، وليس فيها ما هو الموجب لطريق التبعيض على اختلافه عند الحنفية والشافعية، وهو دخول الباء على المحل. ومن السنة: فعلُه - صلى الله عليه وسلم -، وهو الاستيعاب كما هو قول مالك، وكذا أحمد. قال ابن الهمام: وهو -يعني: القول بوجوب استيعاب الحلق أو التقصير- هو الذي أدين الله به، والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) نقله الشارح -رحمه الله- عن القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 233)، الذي نقله عن الكمال بن الهمام في "فتح القدير" (2/ 490 - 491).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَفَضْنا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ما يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّها حَائِضٌ، قَالَ: "أَحَابسَتنا هِيَ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، قال: "اخْرُجُوا" (¬1). وَفِي لَفْظٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَقْرَى حَلْقَى، أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ "، قِيلَ: نَعَمْ، قال: "فَانْفِرِي" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (322)، كتاب: الحيض، باب: المرأة تحيض بعد الإفاضة، و (1646)، كتاب: الحج، باب: الزيارة يوم النحر، و (1670)، باب: إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت، و (4140)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، ومسلم (1211/ 382 - 386)، (2/ 964 - 965)، كتاب: الحج، باب: وجوب طواف الوداع، وسقوطه عن الحائض، وأبو داود (2003)، كتاب: المناسك، باب: الحائض تخرج بعد الإفاضة، والنسائي (391)، كتاب: الحيض والاستحاضة، باب: المرأة تحيض بعد الإفاضة، والترمذي (943)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في المرأة تحيض بعد الإفاضة، وابن ماجه (3072)، كتاب: المناسك، باب: الحائض تنفر قبل أن تودع. (¬2) رواه البخاري (1673)، كتاب: الحج، باب: إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت، و (1682)، باب: الإدلاج من المحصَّب، و (5019)، كتاب: الطلاق، باب: قول الله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، =

(عن) أُمِّ المؤمنينَ (عائشةَ) الصدِّيقةِ (- رضي الله عنها -، قالت: حَجَجْنا مع النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -) حجة الوداع، (فأفَضْنا يومَ النحر)؛ أي: طفنا طوافَ الإفاضة، (فحاضت) أمُّ المؤمنين (صفيةُ) بنتُ حُيَيٍّ - رضي الله عنها - بعدما أفاضت، (فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - منها) قبيل وقت النفر (ما يريدُ الرجل من أهله)، وكانت حاضت ليلة النفر، فقالت: ما أُراني -بضم الهمزة-؛ أي: ما أظنُّ نفسي إلا حابستَهم؛ أي: القومَ عن المسير إلى المدينة؛ لأني حضتُ، ولم أطف؛ أي: طوافَ الوداع، فلعلهم بسببي يتوقفون إلى زمان طوافي بعدَ الطهارة، وكذلك كانت حفصة - رضي الله عنها - قد حاضت أيضًا ليلةَ النفر، قالت عائشة - رضي الله عنها -: (فقلت) للنّبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد من صفية ما أراد: (يا رسولَ الله! إنها حائض، قال) - صلى الله عليه وسلم -: (أحابستُنا) -بهمزة الاستفهام- (هيَ؟)؛ يعني: صفيةَ بسببِ حيضِها عن السفر حتى تطوف طواف الإفاضة، (قالوا: يا رسول الله!) إنها (أفاضَتْ يومَ النحر) قبلَ أن تحيض. ¬

_ = و (5805)، كتاب: الأدب، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تربت يمينك"، و"عقرى حلقى"، ومسلم (1211/ 387)، (2/ 965)، كتاب: الحج، باب: وجوب طواف الوداع، وسقوطه عن الحائض، وابن ماجه (3073)، كتاب: المناسك، باب: الحائض تنفر قبل أن تودع. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 215)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 370)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 417)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 153)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 85)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1066)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 222)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 568)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 96)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 253)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 171).

واستُشكل إرادتُه - صلى الله عليه وسلم - منها الوِقاعَ مع عدم تحققه لحلها من الإحرام، كما أشعر بذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحابستنا هي؟ "، وأجيب بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم إفاضة نسائه، فظن أن صفية أفاضت معهن، فلما قيل له: إنها حائض، خشي أن يكون الحيضُ تقدَّم على الإفاضة، فلم تطفْ، فقال: "أحابستُنا هي؟ "، فلما قيل له: إنها طافت قبل أن تحيض، (قال: اخرجوا)؛ أي: ارحلوا، ورخَّص لها في ترك طواف الوداع (¬1)، مع كونه واجبًا، كما سيأتي التنبيه عليه. (وفي لفظ) من حديث عائشة في "الصّحيحين" وغيرِهما: قالت صفية: ما أُراني إلا حابستَكُم (¬2). وفي لفظ: لما أراد النّبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينفر، إذا صفيةُ على باب خِبائها كئيبةً حزينةً، (قال)، وفي لفظ: فقال -بزيادة الفاء- (¬3). (النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: عَقْرَى حَلْقَى) -بفتح الأول وسكون الثاني فيهما، وألفهما مقصورة للتأنيث، فلا ينونان، ويكتبان بالألف-، هكذا يرويه المحدِّثون حتى لا يكاد يُعرف غيره، وفيه خمسةُ أوجه: أولها: أنهما وصفان لمؤنَّث بوزن فَعْلى؛ أي: عقرَها الله في جسدها وحَلْقِها؛ أي: أصابها وجع في حلقها، أو حلقِ شعرها، فهي معقورة محلوقة، وهما مرفوعان خبر مبتدأ؛ أي: هي. ثانيها: كذلك، إلا أنها بمعنى فاعل؛ أي: أنها تعقرُ قومَها وتحلِقُهم ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 236). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1682). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5019، 5805)، ومسلم برقم (1211/ 387).

بشؤمها؛ أي: تستأصِلُهم، فكأنه وصفٌ من فعلٍ متعدٍّ، وهما مرفوعان أيضًا بتقدير هي، وبه قال الزمخشري. ثالثها: كذلك، إلا أنه جمعٌ، كجريح وجَرْحى؛ أي: ويكون وصف المفرد بذلك مبالغة. رابعها: أنه وصف فاعل، لكن بمعنى: لا تلد، كعاقر، وحلقى؛ أي: مشؤومة، قال الأصمعي: يقال: أصبحت أمه حالقًا؛ أي: ثاكلًا. خامسها: أنهما مصدران، كدعوى، والمعنى: عقرَها اللهُ وحلَقَها؛ أي: حلق شعرها، أو أصابها بوجع في حلقِها -كما سبق-، قاله في "المحكم" (¬1)، فيكون منصوبًا بحركة مقدرة على قاعدة المقصور، وليس بوصف. وقال [أبو عبيد] (¬2): الصوابُ عَقْرًا حَلْقًا -بالتنوين فيهما-، قيل له: لمَ لا يجوز فَعْلَى؟ قال: لأن فعلى يجيء نعتًا، ولم يجىء في الدعاء، وهذا دعاء (¬3). وقال في "القاموس": عَقْرى وحَلْقى، وينونان (¬4). وفي "الصحاح": وربما قالوا: عَقْرى وحَلْقى بلا تنوين (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (1/ 105)، (مادة: عقر). (¬2) في الأصل: "أبو عبيدة"، والصواب ما أثبت. (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 94). وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 197)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 428)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 212). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 569)، (مادة: عقر). (¬5) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 753)، (مادة: عقر).

وحاصله: جوازُ الوجهين، فالتنوينُ على أنه مصدرٌ منصوبٌ، كسقيًا، وتركه، إما: على أنه مصدر، كما في "المحكم"، أو وصف على بابه، فيكون مرفوعًا -كما مر-، فالجملة على هذا خبرية، وعلى ما قبله دعائية. وفي "القاموس" (¬1)، و"المحكم" إطلاقُ العَقْرى على الحائض، وكأن العقر بمعنى الجرح، لما كان فيه سيلانُ دم، سُمي سيلانُ الدم بذلك. وعلى كل حال، فليس المراد حقيقةَ ذلك، لا في الدعاء، ولا في الوصف، بل هي كلمة اتسعت فيها العربُ، فتطلقها، ولا تريد حقيقة معناها، فهي كتَرِبَتْ يداه، ورَغِمَ أَنْفُه، ونحوهما، كما في القسطلاني (¬2). وفي "النهاية": ظاهرُه الدعاء عليها، وليس بدعاء في الحقيقة، وهو في مذهبهم معروف، انتهى (¬3). وفي "المطالع": عَقْرى حَلْقى: مقصور غيرُ منون، ومنهم من ينونهما، وهو الذي صَوَّبه أبو عُبيد، وهو على هذا مصدر؛ أي: عقرها الله وحلَقها؛ أي: أهلَكها وأصابها بوجع في حلقها. قال ابن الأنباري: لفظُه الدعاء، ومعناه غيرُ الدعاء. وقال غير أبي عبيد: إنما هو على وزن غضبى؛ أي: جعلها الله كذلك. وقال الأصمعي: هي كلمةٌ تُقال للأمر عند التعجب منه: عَقْرى حَلْقى خَمْشى؛ أي: يعقر النساء منه خدودهن بالخمش، ويحلقن رؤوسهن للتسلب على أزواجهن لمصائبهن. ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 569)، (مادة: عقر). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 255). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 428).

قال في "المطالع": وقيل: هي كلمة تقولها اليهود للحائض. وفي "البخاري": إنها لغة لقريش (¬1). وقال الداودي: معناه: أنت طويلة اللسان لما كلَّمته بما يكره، مأخوذ من الحلق الذي يخرج منه الكلام، وعَقْرى: العقيرة، وهو الصوت، قال: وهذا لا يساوي سماعه، انتهى (¬2). ثم قال النّبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفية - رضي الله عنها -: (أفاضت) هي (يوم النحر؟) قبل أن تحيض، (قيل: نعم)؛ أي: قد أفاضت يوم النحر قبل أن تحيض. وفي رواية في "الصّحيحين": أنه - صلى الله عليه وسلم - (قال) لها: "أَوَ ما طُفْتِ يَوْمَ النَّحْر؟ "؛ أي: طواف الإفاضة، قالت صفية: قلت: بلى؛ أي: طفت، قال - صلى الله عليه وسلم -: لا بأسَ (فَانفِري) (¬3) -بكسر الفاء-؛ أي: اذهبي؛ إذ طواف الوداع ساقط عن الحائض. تنبيهات: الأول: طوافُ الوداع، ويسمى: طوافَ الصَّدَر -بفتح الدال المهملة- واجبٌ على كل خارج من مكة المشرفة، من حَجِّيٍّ وغيره، غيرَ حائض لم تَطْهُر قبل مفارقة البنيان. قال في "الفروع": ثم يطوف للوداع إن لم يُقم. قال القاضي والأصحاب: إنما يستحق عليه عند العزم على الخروج، ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح البخاري" (5/ 2280)، عند حديث (5805) المتقدم تخريجه. (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 197). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1673).

قال: واحتج به شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية على أنه ليس من الحج، وفاقًا للشافعي، وكذا في "التعليق": أنه ليس منه، ولا يتعلق به، فإن أقام بعد الوداع لغير شَدِّ رَحْلٍ، نص عليه الإمام أحمد، وقال ابن عقيل، وابن الجوزي: أو شراءِ حاجةٍ بطريقه، وقال الشيخ الموفق: أو قضى بها حاجة، أعاد (¬1). وفي "الإقناع" وغيرِه: وإذا أراد الخروجَ من مكة، لم يخرج حتى يودِّعَ البيتَ بالطواف إذا فرغ من جميع أموره، ومن كان خارجَه، فعليه الوداع، وهو على كل خارج من مكة، ثم يصلي ركعتين خلفَ المقام، ويأتي الحطيمَ، وهو تحت الميزاب، فيدعو، ثم يأتي زمزم، فيشرب منها، ثم يستلم الحجر، فيقَبِّلهُ، ويدعو في الملتزَم، فإن خرج قبلَ الوداع، فعليه الرجوعُ إليه لفعله إن كان قريبًا، ولم يخف على نفسٍ أو مالٍ أو فواتِ رفقة، أو غيرِ ذلك، ولا شيء عليه إذا رجعَ، فإن لم يمكنه، أو أمكنه ولم يرجع، أو بعدَ مسافة قصر، فعليه دم، ولو رجع، وسواء تركه عمدًا أو خطأ أو نسيانًا، ومتى رجع مع القرب، لم يلزمه إحرام، ويلزمُه مع البعد الإحرامُ بعُمرة يأتي بها، ثم يطوف للوداع، وإن أخر طواف الزيارة أو القدوم، فطاف عند الخروج، كفاه عنهما، ولا وداعَ على حائض ونفساءَ ولا فديةَ إلا أن تطهرَ قبل مفارقة البنيان، فترجع وتغتسل وتودِّع، فإن لم تفعل، ولو لعذرٍ، فعليها دم (¬2). الثاني: اختلف الأئمةُ في طواف الوداع، فعند أبي حنيفة، وأحمد، ومنصورِ قولَي الشافعي: أنه واجب، وفي تركه دمٌ، وقال مالك: ليس ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 384). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 29 - 30).

بواجب ولا مسنون، وإنما هو مستحب، ولا يجب فيه دم؛ لأن الدمَ إنما يجب عنده في ترك الواجب والمسنون؛ كما في "اختلاف الأئمة" لعون الدين بن هبيرة (¬1). قال القسطلاني في "شرح البخاري": طواف الوداع غيرُ واجب عند المالكية، بل مندوب إليه، ولا دم في تركه، انتهى (¬2). الثالث: قال ابن الجوزي وغيرُه: إذا فرغ من طواف الوداع، فليقفْ في الملتزم، وهو اسم لما بين الركن والباب، وهو مقدار أربعة أذرع، وليدْعُ، قال مجاهدٌ: لا يقوم عبدٌ ثَمَّ فيدعو الله -عزَّ وجلَّ- بشيء، إلا استجاب له (¬3)، قال: وليكن دعاؤه عند الملتزم أن يقول: "اللهمَّ هذا بيتُك، وأنا عبدُكَ وابنُ عبدِكَ وابنُ أَمَتِك، حَمَلْتَني على ما سَخَّرْتَ لي من خَلْقِك، وسَيَّرْتَني في بلادكَ حَتَّى بَلَّغْتَني بنعمتِكَ إلى بيتِكَ، وأَعَنْتَني على أداءِ نُسُكي، فإن كنتَ رضيتَ عني، فازدَدْ عَنِّي رِضًا، وإلا فَمُنَّ الآن قبلَ أن تنأَى عن بيتِكَ داري، فهذا أَوانُ انصرافي إن أَذِنْتَ لي غيرَ مستبدِلٍ بكَ ولا ببيتِكَ، ولا راغب عنكَ ولا عن بيتِك، اللهمَّ فأَصحِبْني العافيةَ في بدني، والصِّحَّةَ في جِسْمي، والعِصمةَ في ديني، وأَحْسِنْ مُنْقَلَبي، وارزقْني طاعتَكَ أبدًا ما أَبْقَيْتَني، واجمعْ لي بين خَيْرَيِ الدنيا والآخرةِ، فإنَّكَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ" (¬4). وإذا أحبَّ، دعا بغير ذلك، ويصلِّي على النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا خرج، ولَّى ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 276). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 236 - 237). (¬3) رواه الأزرقي في "أخبار مكة" (1/ 347). (¬4) انظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 193).

الكعبةَ ظهره، ولا يلتفت، فإن فعل، أعادَ الوداعَ استحبابًا. هذا، وقد قال مجاهد: إذا كدت تخرجُ من المسجد، فالتفتْ، ثم انظرْ إلى الكعبة فقلْ: "اللهمَّ لا تجعلْه آخرَ العهد"، والحائضُ تقفُ على باب المسجد وتدعو بذلك (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 240).

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِم بِالبَيْتِ، إِلا أَنهُ خُفِّفَ عَنِ المَرْأَةِ الحَائِضِ (¬1). * * * (عن) حبر الأمة وأبي الأئمة (عبدِ الله بنِ عباس - رضي الله عنهما -، قال: أُمِر) -بضم الهمزة وكسر الميم مبنيًا لما لم يسمَّ فاعله- (الناسُ) -بالرفع-: نائبُ فاعل؛ أي: أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ وجوبٍ عند الأئمة الثلاثة، وعند مالك أمرَ ندب (أن يكون آخر عهدهم) طواف الوداع (بالبيت). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (323)، كتاب: الحيض، باب: المرأة تحيض بعد الإفاضة، و (1668)، كتاب: الحج، باب: طواف الوداع، ومسلم (1327 - 1328/ 379 - 381)، كتاب: الحج، باب: وجوب طواف الوداع، وسقوطه عن الحائض، وأبو داود (2002)، كتاب: المناسك، باب: الوداع، وابن ماجه (3070)، كتاب: المناسك، باب: طواف الوداع. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 215)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 416)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 427)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 79)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 87)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1067)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 585)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 94)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 252)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 215)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 171).

وصرح مسلم في رواية له عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بالرفع فيه، ولفظه: كان الناسُ ينصرفون في كلِّ وجه، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْفِرَنَّ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكونَ آخرُ عَهْدِه بالبيتِ" (¬1)؛ أي: الطواف به، كما رواه أبو داود (¬2)، (إلا أنه خُفِّفَ عن [المرأة] الحائض)، فلم يجب عليها، واستفيد الوجوب على غيرها من الأمر المؤكَّد، والتعبير في حق الحائض بالتخفيف، والتخفيف لا يكون إلا لأمر مؤكد (¬3). قال في "فتح القدير": لا يقال أمر ندب بقرينة المعنى، وهو أن المقصود الوداع؛ لأنا نقول: ليس هذا يصلح صارفًا عن الوجوب، لجواز أن يطلب حتمًا، لما في عدمه من شائبة عدم التأسف على الفراق، وعدمِ المبالاة به، على أن معنى الوداع ليس مذكورًا في النصوص، بل أن يجعل آخر عهدهم بالطواف، فيجوز أن يكون معلولًا بغيره مما لم نقف عليه، ولو سلم، فإنما تعتبر دلالة القرينة إذا لم يقم منها خلاف ما يقتضي مقتضاها، وهنا كذلك، فإن لفظ الترخيص يفيد أنه حتم في حق من لم يرخص له؛ لأن معنى عدم الترخيص في الشيء، هو تحتيمُ طلبه، إذ الترخيص فيه هو إطلاق تركه، فعدمه عدمُ إطلاق تركه (¬4). تنبيه: ظاهر كلام علمائنا: عدمُ وجوب طواف الوداع على الخارج من غير مكة، كمنى. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1327/ 379). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 252). (¬4) نقله الشارح -رحمه الله- عن القسطلاني في "إرشاد الساري" (3/ 252)، الذي نقله عن "فتح القدير" للكمال ابن الهمام (2/ 504).

وفي "الفروع": وإن ودع، ثم أقام بمنى، ولم يدخل مكة، فيتوجَّهُ جوازُه (¬1). ونقل في محل آخرَ فيه: من الواجبات طوافُ الوداع في الأصح، وهو الصَّدَر، وقيل: الصَّدَرُ: طوافُ الزيارة، قال: وظاهرُ قولهم: ولو لم يكن بمكة. قال الآجري: يطوفه متى ما أراد الخروجَ من مكة، أو منى، أو من نفر آخر (¬2). وصرح علماء الشافعية بوجوبه على من أراد الرجوعَ إلى بلده من منى، قالوا: فإن عاد بعد خروجه من مكة أو من منى بلا وداع قبلَ مسافة قصر، فطاف للوداع، فلا دم عليه، وإلا يعد، أو عادَ بعدَ مسافة قصر، فعليه دم (¬3). والله سبحانه الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 384). (¬2) المرجع السابق، (3/ 388). (¬3) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (8/ 184). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 253).

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: استَأذَنَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيالِيَ مِنَى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ (¬1). * * * (عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) الفاروقِ (- رضي الله عنهما -، قال: استأذن العباسُ بنُ عبدِ المطلب) - رضي الله عنه - (رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: طلب منه الإذن بأن يرخِّصَ له في تركِ المبيتِ بمنى ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1553)، كتاب: الحج، باب: سقاية الحاج، و (1656 - 1658)، باب: هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالي منى، ومسلم (1315)، كتاب: الحج، باب: وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، والترخيص في تركه لأهل السقاية، وأبو داود (1959)، كتاب: المناسك، باب: يبيت بمكة ليالي منى، وابن ماجه (3065)، كتاب: المناسك، باب: البيتوتة بمكة ليالي منى. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 209)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 396)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 414)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 62)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 88)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1068)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 578)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 274)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 179)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 213)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 160).

لياليها (ليبيتَ بمكةَ) المشرفة (لياليَ مِنَى) الثلاثةَ (من أجل سِقايته) المعروفةِ بالمسجد الحرام، (فأذنَ له) - صلى الله عليه وسلم -. ففي هذا الحديث دليل على وجوب المبيت ليالي التشريق بمنى؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - رخَّصَ للعباس عَمِّه في تركِ المبيت لأجل سقايته، فدل على أنه: لا يجوزُ لغيره؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة (¬1). ففي حديث ابن عمر في "الصّحيحين": رخص النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للعباس أن يبيت بمكة أيامَ منى من أجل سقايته (¬2)، وفي لفظٍ آخر: أذن (¬3). وعند الإمام أحمد في "المسند": أذنَ للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية (¬4). فدل على أن الإذن إنما وقع للعلة المذكورة، فإذا لم توجد العلة المذكورة، أو ما في معناها، لم يحصل الإذنُ (¬5)، وهذا مذهبنا كالشافعية. واتجه العلامة الشيخ مرعي في "غايته": أن المراد من البيتوتة بمنى لياليها معظم الليل (¬6). وفي "شرح المنتهى" للشيخ منصور: ولعل المراد: لا يجب استيعابُ الليلة بالمبيت، بل كمزدلفة (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 579). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1553، 1658)، ومسلم برقم (1315). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1657). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 88). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 579). (¬6) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (2/ 430). (¬7) انظر: "شرح المنتهى" للشيخ منصور البهوتي (1/ 590).

وفي "شرحه على الإقناع" عند قوله: أو ترك المبيت بمنى ليلة أو أكثر، علم منه: أنه لو ترك دونَ ليلة، فلا شيء عليه، وظاهرُه: ولو أكثرها (¬1)، وبين كلاميه في الشرحين مدافعة (¬2). وفي "الفروع" في عدة واجبات الحج: والمبيت بمزدلفة على الأصح، ولو غلبه نوم بعرفة، نقله المروذي. وفي "الواضح" فيه: وفي مبيت منى ولا عذر إلى بعد النصف، كذا هو في نسخة صحيحة (¬3). وصرح الشافعية كما في "شرح البخاري" للقسطلاني بأن المراد: مبيتُ معظمِ الليل، قالوا: كما لو حلف لا يبيتُ بمكان لا يحنث إلا بمبيته معظمَ الليل، كذا قال (¬4). تنبيهات: أحدها: المبيتُ بمزدلفة إلى ما بعدَ نصفِ الليل لمن وافاها قبلَ النصف واجبٌ، وله الدفعُ بعد النصف، ولو قبلَ الإمام، وليس له الدفعُ قبل النصف، ويُباح بعدَه، ولا شيء عليه، كما لو وافاها بعده، فإن جاء بعد الفجر، فعليه دم؛ كما لو دفع قبلَ النصف، غيرَ رعاةٍ وسقاة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "حاشية العلامة النجدي على منتهى الإرادات" (2/ 167)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- كلام البهوتي. (¬2) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (2/ 510). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 388). (¬4) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 245). (¬5) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 31).

الثاني: اختلف الأئمة في المبيت بمزدلفة جزءًا من الليل وليالي منى: هل يجب عليه دم؟ فقال أبو حنيفة: لا شيء عليه، ولو تركه، مع كونه واجبًا عنده، يعني: المبيت بمزدلفة، وأما المبيت بمنى، فعنده سنة لا شيء في تركه. وقال مالك: يجب في تركها الدمُ مع كونها سنةً عنده. وقال الشافعي في أظهر قوليه، وأحمد: يجب في تركها الدمُ، مع كونها واجبةً عندهما. وأجمعوا على أن المبيت بمنى لياليها مشروع إلا في حق السقاية والرعاء، لكن أبو حنيفة ومالكٌ يقولان: هو من سنن الحج، وفي تركه عند مالك دمٌ، وليس عنده بواجب، وقد تقدم أن عند الإمام مالك في ترك المسنون دمًا (¬1). الثالث: قال الحافظ ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" في شرح السقاية والرفادة، قال: كان أصلَ السقاية حياضٌ من أَدَمٍ توضع على عهد قُصَيٍّ بفِناء الكعبة، ويستقى فيها الماء للحاج. والرفادة: خَرجٌ كانت قريشٌ تخرجه من أموالها إلى قُصَيٍّ يصنع به طعامًا للحاج يأكله مَنْ ليس له سَعَة، وسبب ذلك أن قصيَّ بنَ كلاب استولى على الحرم، وجمعَ إليه بني كنانة، وقال: أرى أن تجتمعوا في الحرم، ولا تتفرقوا في الشعاب والأودية، وكان من عادتهم إذا جاء الليل، خرجوا عن الحرم، لا يستحلون أن يبيتوا فيه، فقالوا: هذا عظيم، فقال: والله! لا أخرج منه، فثبت فيه مع قريش، فلما جاء الموسم، قام خطيبًا، ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 245 - 246).

فقال: يا معشر قريش! إنكم جيرانُ الله، وأهلُ حَرَمه، وإن الحجاج زوارُ الله وأضيافُه، فترافدوا، واجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيامَ الحج حتى يَصْدُروا، ولو كان مالي يسعُ ذلك، لقمتُ به، ففرض عليهم فرضًا تخرجه قريش من أموالها، فجمع ذلك، ونحر على كل طريق من طرق مكة جزورًا، ونحر بمكة جُزُرًا كثيرة، وأطعم الناسَ، وسقى اللبنَ المحضَ، والماءَ والزبيبَ، وكان قصي يحمل راجل الحاج، ويكسو عاريَهم، وما زال ذلك الأمر حتى قام به هاشمٌ، ثم أخوه المطلب، ثم عبد المطلب، ثم قام به العباس - رضي الله عنه -. قال ابن الجوزي: أولُ مَنْ أطعم الحاجَّ الفالوذجَ بمكةَ عبدُ الله بن جُدْعان. قال أبو عبيدة: وفد ابنُ جدعانَ على كسرى، فأكل عنده الفالوذَجَ، قال: فسأل عنه، فقالوا: لُبابُ البُرِّ مع العَسَل، فقال: أبغوني غلامًا يصنعه، فأتوه بغلام، فابتاعه، وقدم به مكةَ، وأمره فصنعه للحاج، ووضع الموائد من الأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أرادَ الفالوذجَ، فليحضرْ، فحضر الناسُ. قال: وما زال إطعامُ الحاجِّ في الجاهلية وفي الإسلام، وكانت الخلفاء تُقيمه، ولا يكلفون أحدًا من مالِهِ شيئًا، وكان معاويةُ قد اشترى دارًا بمكة، وسماها: "دار المراجل"، وجعل فيها قُدورًا، ورسم لها من ماله، فكانت الجزر والغنم تُنحر، ويطبخ فيها، ويطعم الحاج أيام الموسم، ثم يفعل ذلك في شهر رمضان. وقد أتى النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زمزمَ وإن آلَ العباس يسقون ويعملون فيها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اعملوا، فإنَّكم على عملٍ صالحٍ"، ثم قال: "لولا أن تُغْلَبُوا،

لنزلْتُ حتى أَضَع الحَبْلَ على هَذِه" -يعني: عاتقه-. رواه البخاري من حديث ابن عباس (¬1). وفي أفراد مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بني عبدِ المطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: "انْزِعوا بَني عبدِ المطلبِ، فلولا أنْ يَغْلِبَكُمُ الناسُ على سِقايتِكم، لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ" (¬2). الرابع: المرادُ بسقاية العباس - رضي الله عنه - في الحديث المذكور: زمزم، فإنهم كانوا ينبذون الزبيبَ في ماء زمزم، ويسقونه الحجاج، وكان الذي وليَ ذلك العباس بن عبد المطلب بعد أبيه في الجاهلية، فأقرها النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - له في الإسلام، فهي حقٌّ لآلِ العباس أبدًا (¬3). تتمة: في الكلام على زمزم، وفيها مقاصد: الأول: زمزم -بفتح الزايين وسكون الميم الأولى-، سميت بذلك لكثرة مائها، والماء الزمزمُ: هو الكثير، وقيل: لزمِّ هاجرَ ماءها حين انفجرت، وقيل: لزمزمةِ جبريلِ، وكلامِه (¬4). قال ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن": سميت بزمزم؛ لأن الماء لمَّا فاضَ، زَمَّتْهُ هاجر، قال ابن فارس اللغوي: وزمزم من قولك: زممتُ الناقةَ: إذا جعلتَ لها زمامًا تحبسها به، انتهى (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1554)، كتاب: الحج، باب: سقاية الحاج. (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1218)، في حديث جابر - رضي الله عنه - الطويل. وانظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 179 - 180). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 179). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 194). (¬5) انظر: "مثير العزم السكن" لابن الجوزي (ص: 177).

وقال العلامة الشيخ مرعي في كتابه "تشويق الأنام في الحج إلى بيت الله الحرام" (¬1): قال الحربي: سميت زمزم، لزمه الماء، وهي صونه، وقال المسعودي: لأن الفُرسَ كانت تحجُّ إليها في الزمن الأول، فتزمزم عندها، والزمزمةُ: صوتٌ تخرجه الفرس من خياشيمها عند شرب الماء. الثاني: في بدو شأنها: قد ثبت في الصحاح من البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: جاء إبراهيمُ بأم إسماعيل وابنِها إسماعيلَ وهي تُرضعه حتى وضعَها عند دَوْحَةٍ فوقَ زمزم، وليس بمكة أحدٌ، وليس بها ماء، ووضع عندهما جِرابًا فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم قَفَّى منطلقًا، فتبعته أمُّ إسماعيل، فقالت: أين تذهبُ وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفتُ إليها، فقالت له: اللهُ أمركَ بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يُضيعنا اللهُ، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عندَ الثنية حيث لا يرونه، استقبلَ بوجهه البيتَ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} حتى بلغ: {يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]. وجعلت أم إسماعيل تُرضع إسماعيلَ وتشربُ من ذلك الماء، حتى إذا نَفِدَ، عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظرُ إليه يتلوَّى، أو قال: يَتَلَبَّطُ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقربَ جبلٍ في الأرض يَليها، فقامت عليه، فاستقبلت الواديَ تنظر هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الواديَ، رفعتْ طرفَ ذراعها، ثم سعت سعيَ ¬

_ (¬1) له نسخة خطية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، تحت رقم (9018 / خ)، وتقع في (41) ورقة.

الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتمت المروةَ، فقامت عليها ونظرت، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبعَ مرات، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ولذلك سَعَى الناسُ بيْنَهما"، فلما أشرفت على المروة، سمعت صوتًا، فقالت: صَهْ -تريد نفسها-، ثم تسمَّعَتْ فسمعت، فقالت: قد أسمعتَ إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملَكِ عندَ موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النّبي - صلى الله عليه وسلم -: "يرحمُ اللهُ أُمَّ إسماعيلَ، لو تركَتْ زَمزمَ"، أو قال: "لو لم تغرفْ من الماء، لكانت زمزمُ عينًا معينًا"، فشربت وأرضعت ابنها، فقال لها الملَكُ: لا تخافوا الضيعة، فإن ها هنا بيتًا لله -عزَّ وجلَّ- يبنيه هذا الغلام وأبوه، فإن الله لا يضيع أهله (¬1). قال العلامة الشيخ مرعي في "تشويق الأنام": واستمرت زمزم على ذلك إلى أن سكن الحرمَ قوم عصوا الله، وتهاونوا بحرمة الكعبة، فأخذ الله ماء زمزم منهم، ونضب ماؤها وانقطع، فلم يزل موضعها يدرُس، وتمر عليه السيول عصرًا بعد عصر إلى زمن عبد المطلب جدِّ سيدِ العالم رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قام عبدُ المطلب، فولي سقاية البيت ورفادتَه، أُتي في منامه، فقيل له: احفرْ طيبة، فقال: وما طَيْبَةُ؟ فأتي من الغد فقيل له: احفرْ بَرَّةَ، قال: وما بَرَّةُ؟ فأتي من الغد، فقيل له: احفرِ المضنونةَ، فقال: وما المضنونةُ؟ فأُتي فقيل: احفر زمزم، قال: وما زمزم؟ قال: لا تنزح ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3184)، كتاب: الأنبياء، باب: "يزفون" ولم أقف عليه في "صحيح مسلم"، والله أعلم.

ولا تُذَمّ، تسقي الحجيجَ الأعظم، وهي بين الفَرْثِ والدم، عندَ نُقْرَةِ الغرابِ الأعصم، وكان غرابٌ أعصمُ لا يبرح عند الذبائح مكان الفرث والدم، فغدا عبدُ المطلب بمعوله ومِسْحاته، معه ابنُه الحارث، وليس له يومئذ ولدٌ غيره، فجعل يحفر ثلاثةَ أيام حتى بدا له الطَّوِيُّ، فكبَّرَ وقال: هذا طويُّ إسماعيل، فقالت له قريش: أَشْرِكْنا فيه، قال: ما أنا بفاعل، شيءٌ خُصصت به دونكم، فاجعلوا بيني وبينكم مَنْ شئتم أحاكمْكُم إليه، فقالوا: كاهنةُ بني سعد، فخرجوا إليها، فعطشوا في الطريق حتى أيقنوا بالموت، فقال عبد المطلب: والله! لا يلقانا بأيدينا هكذا، العجزُ ألا نضرب في الأرض، فعسى الله أن يرزقنا ماء، فارتحلوا، وقام عبدُ المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به، انفجرت تحت خفها عينُ ماء عذبٍ، فكَبَّرَ عبدُ المطلب، وكَبَّرَ أصحابُه، وشربوا جميعًا، وقالوا له: قد قَضَى لكَ علينا الذي سقاك، فوالله! لا نخاصمك فيها أبدًا، فرجعوا، وخلوا بينه وبين زمزم (¬1). ولم تزل ظاهرة إلى الآن. الثالث: في فضائلها والشرب منها: قال في "الفروع": ثم يشرب -يعني: الحاجَّ- من ماء زمزم لِما أحبَّ، ويتضَلَّع. وفي "التبصرة": ويرشُّ على بدنه وثوبه. وفي "الصّحيحين": قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: "إنها مباركةٌ، إنها طعام ¬

_ (¬1) وانظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 83)، و"نوادر الأصول" للحكيم الترمذي (3/ 270)، و"أخبار مكة" للأزرقي (2/ 44).

طعم" (¬1)؛ أي: تشبع شاربَها كالطعام (¬2). قال ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن": يُستحب لمن شربَ من ماء زمزم أن يُكثر منه، فقد روى ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النّبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "التَّضَلُّعُ من ماءِ زمزمَ براءةٌ من النفاقِ" (¬3). وفي "تشويق الأنام": عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل، فقال: من أين جئتَ؟ فقال: من زمزم، قال: فشربتَ منها كما ينبغي؟ قال: فكيف؟ قال: إذا شربتَ منها، فاستقبل القبلةَ، واذكرِ اسمَ الله تعالى، وتنفس ثلاثًا، وتَضَلَّعْ منها، فإذا فرغتَ، فاحْمَدِ الله -عزَّ وجلَّ-، فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ آيةَ ما بيننا وبينَ المنافقين: لا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ زمزمَ" رواه ابن ماجه، وهذا لفظه، والدارقطني، والحاكم في "المستدرك"، وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين (¬4). قال الطبري: والتَّضَلُّع: الامتلاءُ حتى تمتدَّ الأضلاعُ. والمرادُ من النفس ثلاثًا: أن يفصلَ فاه عن الإناء ثلاثَ مرات، يبتدىء كل مرة باسم الله، ويختم بالحمد لله، وهكذا جاء مفسرًا في بعض الطرق. فعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كنا مع النّبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2473)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي ذر - رضي الله عنه -. ولم أقف عليه في "صحيح البخاري"، والله أعلم. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 382). (¬3) رواه الأزرقي في "أخبار مكة" (2/ 52). وانظر: "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (ص: 178). (¬4) رواه ابن ماجه (3061)، كتاب: المناسك، باب: الشرب من زمزم، والدارقطني في "سننه" (2/ 288)، والحاكم في "المستدرك" (1738).

زمزم، فأمرَ بدلوٍ، فنزعت له من البئر، فوضعها على شفة البئر، ثم وضع يده من تحت عراقي الدلو، ثم قال: "باسم الله"، ثم كرع فيها (¬1). مع النّبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة وغيرهم صلَّوا بصلاته قصرًا وجمعًا، ثم لم يفعلوا خلاف ذلك، ولم ينقل أحد قط عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال، لا بعرفة ولا مزدلفة ولا منى: يا أهل مكة! أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر، وإنما نقل أنه قال ذلك في نفس مكة، كما رواه أهل السنن، وقول ذلك داخل مكة دون عرفة ومزدلفة، وقيل على الفرق، انتهى ملخصًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) هنا خرم واضح في الأصل المخطوط بمقدار ورقة كاملة، فيها تتمة أثر ابن عباس - رضي الله عنهما -، كما رواه الأزرقي في "أخبار مكة" (2/ 57)، وهو بعد قوله: "ثم كرع فيها": "فأطال، ثم أطال، فرفع رأسه فقال: الحمد لله، ثم عاد فقال: باسم الله، ثم كرع فيها فأطال، وهو دون الأول، ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله، ثم كرع فيها فقال: باسم الله، فأطال، وهو دون الثاني، ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله، ثم قال: "علامة ما بيننا وبين المنافقين لم يشربوا منها قط حتى يتضلعوا". وفي الورقة المفقودة أيضًا شرح آخر حديث من أحاديث باب: فسخ الحج إلى العمرة، وهو الحديث الحادي عشر، وهو: ما رواه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، قال: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجمع، لكل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما، ولا على إثر واحدة منهما.

باب المحرم يأكل من صيد الحلال

باب المحرم يأكل من صيد الحلال اعلم أن من محظورات الإحرام قتلَ صيد البر المأكول واصطيادَه، وهذا بالإجماع، لقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، ويحرم، ويُفدى ما تولَّد منه مع أهليٍّ، أو غير مأكول، وتحرم الدلالةُ عليه، والإشارةُ، والإعانة، ولو بإعارة سلاح ليقتلَه به، وسواء كان معه ما يقتلُه به، أو لا، وبمناولته سلاحَه، أو سوطه، أو أمره باصطياده (¬1). وذكر الحافظ -رحمه الله- في هذا الباب حديثين: ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 297 - 298).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ حَاجًّا، فَخَرَجُوا مَعَهُ، فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ، فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، وقَالَ: "خُذُوا سَاحِلَ البَحْر حَتَّى نَلْتَقِيَ"، فَأَخَذُوا سَاحِلِ البَحْرِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا، أَحْرَمُوا كلُّهُمْ إِلَّا أَبُو قَتَادَة لَمْ يُحْرِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ، إِذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ، فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الحُمُرِ، فَعَقَرَ مِنْهَا أتانًا، فَنَزَلْنَا فَأكلْنَا مِنْ لَحْمِهَا، ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟! فَحَمَلْنَا مَا بقِيَ مِنْ لَحْمِهَا، فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إِلَيْهَا؟ "، قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَكُلُوا مَا بقِيَ مِنْ لَحْمِهَا" (¬1). . ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1725)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد أكله، و (1726)، باب: إذا رأى المحرمون صيدًا فضحكوا، ففطن الحلال، و (1727)، باب: لا يعين المحرم الحلال في قتل الصيد، و (1728)، باب: لا يشير المحرم إلى الصيد لكي يصطاده الحلال، و (3918)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، ومسلم (1196/ 56 - 62)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، وأبو داود (1852)، كتاب: المناسك، باب: لحم الصيد للمحرم، والنسائي (2824 - 2825)، كتاب: الحج، باب: إذا ضحك المحرم ففطن الحلال للصيد فقتله، أيأكله أم لا؟ و (2826)، باب: إذ أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، =

وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: "هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ مِنْ شَيْءٍ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَنَاوَلْتُهُ العَضُدَ، فَأَكلَهَا (¬1). * * * (عن أبي قتادةَ) الحارثِ بنِ ربعيٍّ (الأنصاري - رضي الله عنه -)، وهو فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تقدمت ترجمته في باب الاستطابة. قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجًا)؛ أي: معتمرًا، فهو من المجاز السائغ؛ لأن ذلك إنما كان في عمرة الحديبية كما جزم به يحيى بن أبي كثير، وهو المعتمد، وأيضًا فالحجُّ لغةً: القصد، وهو هنا قصدُ البيت، فكأنه قال: خرجَ قاصدًا للبيت، ولذا يقال للعمرة: الحجُّ الأصغر (¬2). ¬

_ = والترمذي (847 - 848)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في أكل الصيد للمحرم، وابن ماجه (3093)، كتاب: المناسك، باب: الرخصة في ذلك إذا لم يصد له. (¬1) رواه البخاري (2431)، كتاب: الهبة، باب: من استوهب من أصحابه شيئًا، و (2699)، كتاب: الجهاد، باب: اسم الفرس والحمار، و (2757)، باب: ما قيل في الرماح، و (5090 - 5091)، كتاب: الأطعمة، باب: تعرق العضد، و (5172)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: ما جاء في التصيد، و (5173)، باب: التصيد على الجبال، ومسلم (1196/ 63)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 121)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (4/ 74)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 198)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 280)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 107)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 93)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1073)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 22)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 166)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 296)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 193)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 90). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 296).

وفي "الصّحيحين": عن عبد الله بن أبي قتادة، قال: انطلق أبي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، فأحرم أصحابه، ولم يحرم (¬1). وعن أبي قتادة، قال: غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديبية، فأهلوا بعمرة، غيري. رواه الشيخان (¬2). (فخرجوا معه) حتى بلغوا الرَّوحاء، وهي من ذي الحليفة على [أربعة و] ثلاثين ميلًا، فأخبروه أن عدوًا من المشركين بوادي غيقة يخشى منهم أن يقصدوا غزوه (¬3). قال في "النهاية": غَيْقَة -بفتح الغين المعجمة وسكون الياء المثناة تحت-: موضع بين مكة والمدينة من بلاد غِفار، وقيل: حوماء لبني ثعلبة، انتهى (¬4). (فصرف) - صلى الله عليه وسلم - (طائفة منهم) -بنصب طائفة- مفعولٌ به، والطائفة من الشيء: القطعة منه، قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: الواحد فما فوقه، (¬5) وقال جماعة من العلماء في قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]: الفرقة: تطلق على ثلاثة، والطائفةُ إما واحدٌ أو اثنان، واستشكل بعضُهم إطلاقَ الطائفة على الواحد، لبعده عن الذهن (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1725)، ومسلم برقم (1196/ 59). (¬2) هو لفظ مسلم فقط كما تقدم تخريجه عنه برقم (1196/ 62). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 297). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 402). (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2520). (¬6) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 297).

وفي "القاموس": الطائفةُ من الشيء: القطعةُ منه، أو الواحد فصاعدًا، أو إلى الألف، أو أقلها رجلان، أو رجل، فيكون بمعنى النفس، انتهى (¬1). (فيهم)؛ أي: في الذين صرفهم - صلى الله عليه وسلم - (أبو قتادة)، الأصل كان أن يقول: وأنا فيهم، فهو من باب التجريد، لا يقال: إنه من قول عبد الله بن أبي قتادة؛ لأنه حينئذ يكون الحديث مرسلًا (¬2). (وقال)، وفي لفظ: بزيادة الفاء: (¬3) (خُذُوا ساحلَ البحر)؛ أي: شاطئه. قال في "القاموس": مقلوب؛ لأن الماء سحله، وكان القياس مسحولًا، أو معناه: ذو ساحل من الماء: إذا ارتفع المد، ثم جزر، فجرف ما عليه (¬4) (حتى نلتقي، فأخذوا)؛ أي: الذين صرفهم - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه (ساحلَ البحر) لكشف أمر العدو، (فلما انصرفوا) من الساحل بعد أن أمنوا من العدو، وكانوا قد (أحرموا كلهم) من الميقات. فإن قلت: ظاهر ما في "الصّحيحين" من حديث أبي قتادة في رواية من قوله: حتى إذا كنا بالقاحة، ومنا المحرم، ومنا غير المحرم (¬5) يخالف ما هنا من انحصار عدم الإحرام فيه. فالجواب: لا مخالفة، لإمكان إرادته بقوله: ومنا غيرُ المحرم: نفسَه ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1077)، (مادة: طوف). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 297)، نقلًا عن "فتح الباري" لابن حجر (4/ 30). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1728)، وعند مسلم برقم (1196/ 60). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1310)، (مادة: سحل). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1727)، ومسلم برقم (1196/ 56).

فقط، بدليل الأحاديث الدالة على الانحصار، ومنها: هذا. (إلا أبو قتادة): -بالرفع-: مبتدأ، خبره: (لم يحرم)، و"إلا" بمعنى: لكن، وهي من الجمل التي لا محل لها من الإعراب، وهي المستثناة، نحو: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} [الغاشية: 22 - 24]، قال ابن خروف: "مَنْ" مبتدأ، و"يعذبه الله" الخبر، والجملة في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. قال في "التوضيح": وهذا مما أغفلوه، ولا يعرف أكثرُ المتأخرين من البصريين في هذا النوع، وهو المستثنى بإلا من كلام تام موجب إلا النصبَ. قال: وللكوفيين في مثله مذهبٌ آخر، وهو أن "إلا" حرف عطف، وما بعدها معطوف على ما قبلها (¬1). وفي رواية عن أبي قتادة: أنه قال: غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديبية، قال: فأهلُّوا بعمرة، غيري (¬2). وقد استشكل العلماء عدمَ إحرام أبي قتادة، مع كونهم خرجوا للنسك، ومروا بالميقات، ومن كان كذلك، وجب عليه الإحرامُ من الميقات. وأجيب بوجوه: منها: ما دل عليه الحديث من أنه أرسل إلى جهة أخرى لكشفها، وكان الالتقاء معه - صلى الله عليه وسلم - بعد مضي مكان الميقات، ولا يخفى ما فيه، وإن سكت عنه ابن دقيق العيد. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 297). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1196/ 62).

ومنها: وهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد: أنه لم يكن مريدًا للنسك (¬1). قلت: وهذا قال به الشافعية، فإنهم قالوا: لم يحرم أبو قتادة للقول: إنه لم يقصد نسكًا، إذ يجوزُ دخولُ الحرم بغير إحرام لمن لم يرَ حَجًّا ولا عمرة كما هو مذهب الشافعية. وأما على مذاهب الأئمة الثلاثة القائلين بوجوب الإحرام، فاحتجوا له بأن أبا قتادة إنما لم يحرم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أرسله إلى جهة أخرى ليكشفَ أمرَ عدو في طائفة من الصحابة، ولا يخفى -كما في الحديث- أن خبر العدو أتاهم حين بلوغهم الروحاء على أربعة وثلاثين ميلًا من ذي الحليفة ميقاتِ إحرامهم، ومنها؛ أي: الروحاء وجَّههم النّبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا صريح في أن خبر العدو أتاهم بعد مجاوزة الميقات (¬2). قلت: والأولى ما ذكره الأثرم صاحب الإمام أحمد: إنما جاز لأبي قتادة ذلك؛ لأنه لم يخرج يريد مكة، قال: لأني وجدت في رواية من حديث أبي سعيد فيها: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأحرمنا، فلما كنا بمكان كذا، إذا نحن بأبي قتادة، وكان النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعثه في وجه، الحديث، انتهى. وفي حديث أبي سعيد عند ابن حبان في "صحيحه"، ورواه البزار، والطحاوي، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا قتادة على الصدقة، وخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -[و] أصحابه وهم محرمون حتى نزلوا بعسفان، فإذا هم بحمار وحش، قال: وجاء أبو قتادة وهو حِلٌّ، الحديث (¬3)، فهذا بظاهره ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 93). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 292). (¬3) رواه ابن حبان في "صحيحه" (3976)، والبزار في "مسنده" (3/ 230 - "مجمع =

يخالف ما في الصحيح، ولكن يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - (¬1) [ومن معه لحقوا أبا قتادة في بعض الطريق قبل الروحاء، فلما بلغوها، وأتاهم خبر العدو، وجهه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جماعة لكشف الخبر]. [ولا تحرم دلالةٌ على طيبٍ ولباسٍ، ولا دَلالةُ حلال محرمًا على صيد، ويضمنُه المحرمُ، إلا أن يكون في الحرم، فيشتركان في الجزاء كالمحرمَيْن. فإن اشترك في قتل صيدٍ حلالٌ ومحرمٌ، أو سَبُعٌ ومحرمٌ، في الحلِّ، فعلى المحرم الجزاءُ جميعُهُ، ثم إن كان جَرْحُ أحدهما قبل صاحبه، والسَّابق حلالٌ] (¬2). أو السبع، فعلى المحرم جزاؤه مجروحًا، وإن سبقه المحرم، وقتله أحدهما، فعلى المحرم أَرْشُ جرحه، وإن كان جرحهما في حالة واحدة، أو جرحاه، ومات منهما، فالجزاء كله على المحرم، وإذا دل محرم محرمًا، أو دل الثاني ثالثًا، وَهَلُمَّ جَرًّا، فقتله العاشر مثلًا، فالجزاء على جميعهم، وإن دل حلالٌ حلالًا على صيد في الحرم، فكدلالة محرمٍ محرمًا عليه (¬3). والله أعلم. ¬

_ = الزوائد" للهيثمي)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 173). (¬1) هنا سقط واضح في الأصل المخطوط بمقدار ورقة كاملة، وفيها تتمة كلام الشارح على حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما -، وقد أكملته من "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 292)، وعنه كان ينقل الشارح -رحمه الله- في هذا الموضع. وفي هذه الورقهَ أيضًا بقية الكلام على حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -. (¬2) ما بين معكوفين زيادة من "الإقناع" للحجاوي (1/ 578 - 579)، إذ الشارح -رحمه الله- نقل عنه عباراته هذه، وسقناه، لبيان الفائدة وتتميمها، بسبب الخرم الذي أشرنا إليه آنفًا. (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 579).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثيِّ: أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّه عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَىَ مَا فِي وَجْهِهِ، قَالَ: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ علَيكَ إِلَّا أنَّا حُرُم" (¬1). وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِم: رِجْلَ حِمَارٍ (¬2). وَفِي لَفْظٍ: شِقَّ حِمَارِ (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1729)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًا حيًا لم يقبل، و (2434)، كتاب: الهبة، باب: قبول هدية الصيد، و (2456)، باب: من لم يقبل الهدية لعلة، ومسلم (1193/ 50 - 52)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، والنسائي (2819 - 2820)، كتاب: المناسك، باب: ما لا يجوز للمحرم أكله من الصيد، والترمذي (849)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في كراهية لحم الصيد للمحرم، وابن ماجه (3090)، كتاب: المناسك، باب: ما ينهى عنه المحرم من الصيد. (¬2) رواه مسلم (1194/ 54)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد، والنسائي (2822)، كتاب: المناسك، باب: ما لا يجوز للمحرم أكله من الصيد، من رواية منصور، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن الصعب، به. (¬3) رواه مسلم (1194/ 54)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، من رواية شعبة، عن حبيب.

وَفِي لَفْظٍ: عَجُزَ حِمَارٍ (¬1). وَجْهُ هَذَا الحَدِيثِ: أَنَّه ظَنَّ أَنّهُ صِيدَ لِأَجْلِهِ، وَالمُحْرِمُ لا يَأْكُلُ ما صِيدَ لِأَجْلِهِ. * * * (عن الصَّعْبِ) -بفتح الصاد وسكون العين المهملتين ثم موحدة- (بنِ جَثَّامَةَ) -بفتح الجيم وتشديد المثلثة-، اسمه يزيد بن قيسِ بنِ عبدِ الله بنِ وهبِ بنِ يعمرَ بنِ عوفِ بنِ كعبِ بن عامرٍ (الليثيِّ)، من بني ليث بن مالك. كان الصعب - رضي الله عنه - ينزل وَدَّانَ والأبواءَ من أرض الحجاز، حديثه في الحجازيين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستةَ عشرَ حديثًا، اتفقا منها على هذا الحديث، وقد تفرق هذا الحديث في ثلاثة أحاديث. روى عنه ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال ابن الأثير في "جامع الأصول": مات في خلافة الصديق - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1194/ 45)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم، من رواية شعبة، عن الحكم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (4/ 135)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 194)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 277)، و"شرح مسلم" للنووي (8/ 103)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 95)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1076)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 225)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 31)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 174)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 299)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 193)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 86).

كان الصعب حليفًا لقريش، وأمه أختُ أبي سفيان بن حرب، واسمها فاخِتَةُ، وقيل: زينب. وقيل: إن الصعبَ إنما مات في آخر خلافة عمر، قاله ابن حِبان، ويقال: مات في خلافة عثمان (¬1). (أنه)؛ أي: الصعب (أهدى للنّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حمارًا وحشيًا)، وفي لفظ فيهما: لرسول الله (¬2). والأصل في أهدى أن يتعدى بإلى، وقد يتعدى باللام، ويكون بمعناه. ولم تختلف الرواة عن مالك في قوله: حمارًا، وممن رواه عن الزهري كما رواه مالك: معمر، وابنُ جريج، وعبد الرحمن بن الحارث، وصالح بن كيسان، والليث بن سعد، وابن أبي ذؤيب، وشعيب بن أبي حمزة، ويونس، ومحمد بن عمرو بن علقمة، كلهم قال فيه: أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمار وحش كما قال مالك (¬3). (وهو)؛ أي: والحال أنه - صلى الله عليه وسلم - (بالأبواء) -بفتح الهمزة وسكون الموحدة ممدودًا-: جبل من عمل الفُرْع -بضم الفاء وسكون الراء- بينه وبين ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في "الثقات" لابن حبان (3/ 195)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 739)، و"أسد الغابة" (3/ 19)، و"جامع الأصول" كلاهما لابن الأثير (14/ 521 - قسم التراجم)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 237)، و"تهذيب الكمال" للمزي (13/ 166)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 426). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1729، 2434، 2456)، ومسلم برقم (1193/ 50). (¬3) وقد رواه مالك في "الموطأ" (1/ 353)، وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 299).

الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا، سمي بذلك، لما فيه الوباء، قاله في "المطالع"، ولو كان كما قيل، لقيل: الأوباء، [أ] وهو مقلوب منه، والأقرب أنه سمي به، لتبوء السيول به -كما تقدم- (¬1). (أو) وهو (بوَدَّانَ) -بفتح الواو وتشديد الدال المهملة آخره نون-: موضع بقرب الجحفة، أو قرية جامعة من ناحية الفرع، ووَدَّانُ أقرب إلى الجحفة من الأبواء، فإن من الأبواء إلى الجحفة للآتي من المدينة ما ذكرناه، ومن ودان إلى الجحفة ثمانية أميال (¬2). والشكُّ من الراوي، لكن جزم ابن إسحاق، وصالحُ بنُ كيسانَ عن الزهري: بودان، وجزم معمر، وعبد الرحمن، ومحمد بن عمرو: بالأبواء (¬3)، (فَرَدَّه) - صلى الله عليه وسلم - (عليه)، ولم يقبله منه، وقد اتفقت الروايات كلُّها على أنه -عليه السلام- ردَّه عليه، إلا ما يأتي ذكره -إن شاء الله تعالى-. (فلما رأى) - صلى الله عليه وسلم - (ما في وجهه)؛ أي: وجه الصعب من الكراهة، لما حصل له من الكسر في ردِّ هديته، (قال) - صلى الله عليه وسلم -: تطييبًا لقلبه: (إنَّا) -بكسر الهمزة لوقوعها في الابتداء- (لم نردَّه) -بفتح الدال كما في اليونينية، وهو رواية المحدثين، وذكره ثعلب في "الفصيح"، لكن قال المحققون من النحاة: إنه غلط، والصواب ضمُّ الدال كآخر المضاعف من كل مضاعف مجزوم اتصل به ضمير المذكر، مراعاةً للواو التي توجبها ضمةُ الهاء بعدَها، لخفاء الهاء، فكأن ما قبلها وليَ الواو، ولا يكون ما قبلَ الواوِ إلا ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 57). (¬2) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (5/ 365)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 302). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 33).

مضمومًا، كما فتحوها مع هاء المؤنث، نحو: نردَّها، مراعاة للألف، ولم يحفظ سيبويهِ في نحوِ هذا إلا الضمَّ، كما أفاده السمين، وصرح جماعة منهم ابنُ الحاجب بأنه مذهبُ البصريين، وجوز الكسر أيضًا، وهو أضعفها، فصار فيها ثلاثة أوجه (¬1). وفي لفظ: "لم نردُدْه" -بفك الإدغام- (¬2) (عليك) لعلَّةٍ من العلل (إلا أَنَّا حُرُم) -بفتح الهمزة وضم الحاء المهملة والراء-؛ أي: إلا لأنا محرمون، زاد في رواية صالح بن كيسان عند النسائي: "لا نأكل الصيد" (¬3)، وفي رواية شعبة عن ابن عباس: "لولا أنا محرمون، لقبلناه منك" (¬4). وهذا يقتضي تحريم أكل المحرمِ لحمَ الصيد مطلقًا، سواء صِيدَ لأجله، أو بأمره، أولا، وهو مذهب نقل عن جماعة من السلف، منهم: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، لكن الذي عليه أكثرُ علماء الصحابة والتابعين التفرقةُ بين ما صاده، أو صِيدَ لأجله من حَلال، وبين ما صاده حلالٌ لا لأجل المحرم، فأباحوا الأخيرَ -كما تقدم-، وكما يأتي في كلام المصنف تأويله (¬5). قال الحافظ -رحمه الله، ورضي عنه-: (وفي لفظ لمسلم): أهدى ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 96)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 33). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 300)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬2) كما في رواية الكشميهني، كما في "الفتح" (4/ 33). (¬3) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (2820). (¬4) رواه مسلم (1194/ 53)، كتاب: الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم. (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 300 - 301).

الصعبُ بنُ جثامة للنّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (رِجْلَ حمارٍ)، ذكره من رواية منصور عن الحكم. (وفي لفظ) لمسلم من رواية شعبة عن حبيب: أهدى؛ أي: الصعب (شِقَّ حمارِ) وحشٍ، فردَّه. (وفي لفظ) لمسلم أيضًا من رواية شعبة عن الحكم: أهدى الصعبُ بنُ جثامة للنّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (عَجُزَ حمارِ) وحشٍ يقطرُ دمًا. وأخرج مسلم أيضًا من حديث ابن عيينة عن الزهري، فقال: لَحْمَ حمارِ وحشٍ (¬1). وفي لفظ: من لحمِ حمارِ وحش (¬2). وهذه الروايات والطرق التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح، وأنه إنما أهدي بعض لحم صيد، لا كله كما قاله النووي (¬3)، ولا معارضة بين قوله: رجلَ حمار، وعجزه، وشقه، إذ يندفع بإرادة رجلٍ معها الفخذُ وبعض جانب الذبيحة، فوجب حملُ رواية: أهدى حمارا: على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض، ويمتنع العكس، إذ إطلاق الرجل على كل الحيوان غير معهود؛ لأنه لا يطلق على زيد إصبع ونحوه؛ لأنه غير جائز، لما عرف من أن شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم، كالرقبة على الإنسان، والرأس، فإنه لا إنسان بدونهما، بخلاف نحو الرجل والظفر. ¬

_ (¬1) قلت: لفظ مسلم، "من لحم حمار وحش"، كما تقدم تخريجه برقم (1193/ 52). ورواه دون قوله: "من": الإمام أحمد في "المسند" (4/ 71)، وابن حبان في "صحيحه" (136)، وغيرهما. (¬2) انظر: التعليق السابق. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 104).

وأما إطلاق العين على [الرقيب] (¬1)، فليس من حيث هو إنسان، بل من حيث هو رقيب، وهو من هذه الحيثية لا يتحقق بلا عين على ما عرف في التحقيقات، أو هو أحد معاني المشترك اللفظي، كما عدَّه الأكثر منها (¬2). قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (وجه هذا الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - ظن أنه)؛ أي: حمارَ الوحش (صِيد) -بكسر الصاد المهملة مبنيًا لما لم يسمَّ فاعله-؛ أي: صاده الصعبُ بنُ جثامة (لأجله) - صلى الله عليه وسلم -، (والمحرم لا يأكل ما)؛ أي: صيدًا (صِيد لأجله) -كما قدمنا الكلام عليه-. قال الشافعي: إن كان الصعب أهدى حمارًا حيًا، فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حي، وإن كان أهدى له لحمًا، فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيده. ونقل الترمذي عن الشافعي: أنه ردَّه لظنه أنه صِيدَ من أجله، فتركه على وجه التنزه. وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صيدُ البرِّ لكم حلال وأنتم حُرُم ما لم تَصيدوه، أو يُصَدْ لكم" (¬3). قال الإمام الشافعي: هذا أحسنُ حديث رُوي في هذا الباب، وأَقْيَسُ (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "الرقبة"، والصواب ما أثبت. (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 299). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 362)، وأبو داود (1851)، كتاب: المناسك، باب: لحم الصيد للمحرم، والنسائي (2827)، كتاب: الحج، باب: إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، والترمذي (846)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في أكل الصيد للمحرم. (¬4) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 203). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 300).

تنبيه: وقد اتفقت الروايات كلها على أنه - صلى الله عليه وسلم - ردَّ حمارَ الوحش على الصعب بنِ جثامة، ولم يقبله منه، إلا ما رواه ابنُ وهبٍ، والبيهقيُّ من طريقه بإسناد حسنٍ من طريق عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنّبي - صلى الله عليه وسلم - عجزَ حمارِ وحش، وهو بالجحفة، فأكل منه، وأكل القوم. قال البيهقي: إن كان هذا محفوظًا، فلعله ردَّ الحيَّ، وقبلَ اللحم (¬1). قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا الجمع نظر، قال: [إن] كانت الطرق كلها محفوظة، فلعله رده حيًا، لكونه صِيدَ لأجله، وردَّ اللحمَ تارةً بذلك، وقبله تارةً أخرى حيث علم أنه لم يُصد لأجله، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقتْ آخرَ، وهو حالَ رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من مكة، ويؤيده أنه جازم فيه بوقوع ذلك في الجحفة (¬2). وقال القرطبي في الجمع بين كونه أهدى حمارًا، أو بين كونه أهدى عجز حمار، أو رجل حمار -على ما مر-: يمكن أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحًا، ثم قطع منه عضوًا بحضرة النّبي - صلى الله عليه وسلم -، فقدمه له، فرده، فمن قال: أهدى حمارًا، أراد: بتمامه مذبوحًا لا حيًا، ومن قال: لحم حمار، أراد: ما قدمه للنّبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). تتمة: الحمارُ الوحشي يسمَّى: الفَرَأ، ويقال: حمار وحش، وحمار وحشي، وهو العَيْر، وربما أطلق العير عليه وعلى الأهلي أيضًا، وحمارُ الوحش شديدُ الغيرة، ولذلك يحمي عانته الدهرَ كلَّه، ومن عجيب أمره: ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 193). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 32). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 279 - 280). وانظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 300)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- هذا التنبيه.

أن الأنثى إذا ولدت ذكرًا، كَدَمَ الفحلُ خصيتيه، ولذلك تعمل الحيلة في الهرب منه حتى يسلم، وربما كسرت رجله كيلا يسعى، ولا تزال ترضعه حتى يكبر، فيسلم من أبيه. ويقال: إن الحمار الوحشي يُعَمَّر أكثر من مئتي سنة. وذكر ابن خلكان: أن حمارًا وحشيًا عاش أكثر من ثمان مئة سنة (¬1). ولا خلاف في إباحة الحمر الوحشية، إلا ما رُوي عن مطرف: أنه قال: إذا أنس، واعتلف، صار كالأهلي، وأهلُ العلم على خلافه (¬2)، والله تعالى الموفق. قال شارحه الشيخُ الهمامُ الفهامةُ الحاجُّ محمد السَّفَّارينيُّ: نجز الجزءُ الأول من "العمدة" لستٍّ خلت من شعبان سنة ألف ومئة وخمس وستين من الهجرة النبوية. وقد كان الفراغ من كتابة هذا الجزء في اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة سبع وستين ومئة وألف على يد كاتبه العبد الفقير الراجي العفوَ من ربه القدير حسن بن السيد هاشم بن السيد عثمان بن السيد سليمان بن السيد حسن الحنبلي الجعفري الحسني -عفا الله تعالى عنه بمنه وكرمه-، وقد نقلت هذه النسخة من مسودة المؤلف -فسح الله تعالى في مدته، ونفع المسلمين بعلومه-، آمين، اللهم آمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم. ¬

_ (¬1) ذكره ابن خلكان في "وفيات الأعيان" (6/ 354) في ترجمة يزيد بن زياد. (¬2) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 293 - 294)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- هذه التتمة.

كتاب البيوع

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين كتاب البيوع جمع بَيعْ، وكأنه عبر بالجمع، لاختلاف أنواعه (¬1)، والبيع مصدر بعت، يُقال: باع، ويبيعُ بمعنى: مَلَكَ، وبمعنى: اشترى، وكذلك شرى يكون للمعنيين. وحكى الزجّاج وغيره: باع وأباع بمعنى واحد، وقال غير واحد من الفقهاء: اشتقاقه من الباع (¬2)، وهو قدر مدّ اليدين، كالبوع، ويضم، والجمع أبواع، كما في "القاموس" (¬3)؛ لأنَّ كل واحد من المتعاقدين يمد باعه للأخذ والإعطاء. قال في "المطلع": وهو ضعيف لوجهين: أحدهما: أنه مصدر، والصحيح أنَّ المصادر غير مشتقة. والثاني: أنَّ الباع عينه واو، والبيع عينه ياء، وشرط صحة الاشتقاق الاتفاقُ في الأصلِ والفرعِ في جميع الأصول. قالى في "المطلع": قال صاحب "المستوعب": ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 2). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 227). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 910)، (مادة: بيع).

البيع لغةً: عبارة عن الإيجاب والقبول، إذا تناولَ عينين أو عينًا بثمن، ولهذا لم يُسمَّ عقدُ النكاح والإجارة بيعًا (¬1). واصطلاحًا -كما قاله المتأخرون-: مبادلة عين مالية أو منفعة مباحة بإحداهما، أو بمال في الذِّمَّة للملك على التأبيد غير ربًا وقرض (¬2). وأركانه: متعاقدان، ومعقودٌ عليه، وصيغة. وذكر المصنِّف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب حديثين: ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 227). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 260).

[باب]

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: [أَنَّهُ] قَالَ: "إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بالخِيارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكانَا جَمِيعًا، أو يُخَيِّرْ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ وَجَبَ البَيعُ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2001)، كتاب: البيوع، باب: كم يجوز البيع، و (2003)، باب: إذا لم يوقت في الخيار، هل يجوز البيع، و (2005)، باب: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، و (2006)، باب: إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع، و (2007)، باب: إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع، ومسلم (1531/ 43 - 46)، كتاب: البيوع، باب: ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، وأبو داود (3454 - 3455)، كتاب: الإجارة، باب: في خيار المتبايعين، والنسائي (4465 - 4474)، كتاب: البيوع، باب: ذكر الاختلاف على نافع في لفظ حديثه، و (4475 - 4480)، باب: ذكر الاختلاف على عبد الله بن دينار في لفظ هذا الحديث، والترمذي (1245)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، وابن ماجه (2181)، كتاب: التجارات، باب: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 118) و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 471)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 157)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 381)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 174)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 102)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1082)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 146)، و"فتح الباري" لابن حجر =

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ) أميرِ المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (- رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [أنَّه] قال: إذا تبايعَ الرجلانِ)؛ أي: الشخصان من رجلين أو امرأتين، أو رجل وامرأة (فكل واحد منهما) مستقل (بالخيار)؛ أي: خيار الفسخ. والخيار -بكسر الخاء المعجمة-: اسم من الخيار أو التخيير، قال في "المطلع": اسم مصدر من اختار يختار اختيارًا، وهو طلب خير الأمرين، من إمضاء البيع، وفسخه (¬1). ويستمر ذلك لكل واحد منهما (ما لم يتفرقا) من مجلس العقد بأبدانهما التفرقَ المُسقِط للخيار، وهو تفرقهما بحيث لو كلَّم أحدهما صاحبه الكلام المعتاد، لم يسمعه، كذا في "المطلع" (¬2). ومعتمد المذهب إناطة التفرق بالعرف، ولابد أَنْ يكون التفرق بأبدانهما عرفًا من مجلس العقد اختيارًا، ولو بهرب أحدهما من صاحبه، لا مع إكراه، أو فزع من مخوف، أو إلجاء بسيل، أو حمْلٍ، وهما على خيارهما حتى يتفرقا من مجلس زال فيه ذلك (¬3)، (و) يبقى لهما خيار المجلس ما (كانا)؛ أي: المتعاقدان (جميعًا). فإن مات أحدهما، انقطع الخيار، لا إن جُنَّ، وهو على خياره إذا أفاق، ولا يثبت لوليه. ¬

_ = (4/ 327)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 227)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 42)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 289). (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 234). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 200).

(أو يخيرْ أحدُهما)؛ أي: المتبايعان (الآخرَ)، وهذا معطوف على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لم يتفرقا"؛ أي: وما لم يخير أحدهما الآخرَ. (فتبايعا على ذلك)؛ أي: على خيار شرط، وجب، وإلا، بأن يتبايعا على أن لا خيارَ بينهما، أو قال البائعِ: بعتُك على أنْ لا خيار بيننا، فقال المشتري: قبلتُ، ولم يزد على ذلك، أو أسقط الخيار بعدَ العقد، مثلَ أنْ يقول كلُّ واحد منهما بعده: اخترت إمضاء العقد، أو التزامه (¬1). (فقد وجب البيع)، وسقط خيار المجلس، وإنْ أسقط أحدهما خياره، أو عقد على أن لا خيارَ للبائع مثلًا، أو قال أحدهما لصاحبه: اخترْ، سقط خياره دونَ صاحبه، كلُّ هذا ما لم يشترط أحدهما خيارًا إلى مدَّة معلومة، وهو خيار الشرطَ، فإنْ شرطا، أو أحدهما في العقد، أو زمن الخيارين مدّة معلومة، ثبت (¬2) -كما يأتي التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى- قريبًا. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 199). (¬2) المرجع السابق، (2/ 200).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَّرَقَا"، أَوْ قَالَ: "حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا، وَبَيَّنَا، بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإنْ كتَمَا وَكَذَبَا، مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1973)، كتاب: البيوع، باب: إذا بيَّن البيعان ولم يكتما ونصحا، و (1976)، باب: ما يمحق الكذب والكتمان في البيع، و (2002)، باب: كم يجوز الخيار، و (2004)، باب: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، و (2008)، باب: إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع، ومسلم (1532)، كتاب: البيوع، باب: الصدق في البيع والبيان، وأبو داود (3459)، كتاب: الإجارة، باب: في خيار المتبايعين، والنسائي (4457)، كتاب: البيوع، باب: ما يجب على التجار من التوقية في مبايعتهم، و (4464)، باب: وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما، والترمذي (1246)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "المفهم" للقرطبي (4/ 384)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 176)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1089)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 329)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 194)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 24)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 289). وانظر: مصادر الشرح السابقة.

(عن) أبي خالد (حَكيم) -بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف- (بن حِزام) -بكسر الحاء المهملة وبالزاي- ابنِ خُويلد بنِ أسدِ بنِ عبدِ العُزَّى بن قُصَيٍّ، القرشيِّ، الأسديِّ، المكيِّ، وهو ابن أخ خديجةَ بنتِ خويلدٍ أمِّ المؤمنين - رضي الله عنهما -. ولد حكيم بن حزام (- رضي الله عنه -) في جوف الكعبة، ولا يُعرفُ أحدٌ وُلِدَ فيها غيرُهُ، وما قيل: إنَّ عليًّا وُلِدَ بها أيضًا، فضعيف (¬1). وكان ميلادُ حكيم قبل الفيل بثلاث عشرةَ سنةً، وهو من أشراف قريش ووجوهها في الجاهلية والإسلام، وهو من مُسلمة الفتح، هو وبنوه: عبد الله، وخالد، ويحيى، وهشام، وكلهم صحابة، وكان حكيم عاقلًا سريًا فاضلًا نقيًا، حَسُنَ إسلامه بعد أن كانَ من المؤلفة قلوبُهم، أعتق في الجاهلية مئة رقبة، وحمل على مئة بعير، وكان مع المشركين يوم بدر، فنجا من القتل، فكان إذا حلف بعد أن أسلم، قال: لا والذي نجاني يوم بدر (¬2)! قال ابن الجوزي في "منتخب المنتخب": وأعتق مئة رقبة في الإسلام أيضًا، وكذا ذكر أبو نعيم في "الحلية"، ومات بالمدينة في داره سنة أربع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين، وله مئة وعشرون سنة، ستون في الجاهلية، وستون في الإسلام. روى عنه: عروةُ بنُ الزبير، وسعيدُ بنُ المسيَّب، وموسى بنُ طلحة. وقال حكيم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! أرأيت أشياءَ كنتُ أفعلها في ¬

_ (¬1) وممن نصَّ على ضعفه: ابن الجوزي في "مثير العزم الساكن" (ص: 293). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (3071)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (15/ 128).

الجاهلية أتحنَّثُ بها، أَلي فيها أجر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسلمْتَ على ما أسلفت من خير" (¬1). ومناقبه كثيرة، وكان قد عَمِيَ قبل موته. رُوِيَ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثًا، اتفقا منها على أربعة (¬2). * فائدة: من كان عمره مثل حكيم بن حزام في الجاهلية والإسلام سُمِّيَ مُخَضْرَمًا، وقد شاركه في ذلك حسانُ بنُ ثابت، ونوفلُ بنُ معاوية، وحُويطبُ بنُ عبدِ العزى، وحِمْيَرُ بنُ عوفِ بنِ عبدِ عوفٍ، وسعيدُ بنُ يربوع، والنابغةُ الجعديُّ، وأميةُ بنُ ربيعةَ، وأوسُ بنُ معنٍ السَّعديُّ، واللجلاجُ، والربيعُ بنُ صبيح الفزاريُّ، ولكنه عاش وكبر وذلك على الخلاف ستون في الإسلام، يعني: من حين ظهوره واشتهاره، لا من ابتداء إسلامه (¬3)، والله أعلم. قال حكيم: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البَيِّعَانِ) إطلاقُ البائع على المشتري ¬

_ (¬1) رواه مسلم (123)، كتاب: الإيمان، باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده. (¬2) وانظر ترجمته في: "الثقات" لابن حبان (3/ 70)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (1/ 419)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 202)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 549)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 362)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (15/ 93)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 58)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 169)، و"تهذيب الكمال" للمزي (7/ 170)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 44)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 112)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (2/ 384). (¬3) انظر: "جزء من عاش مئة وعشرين سنة من الصحابة" لابن منده، و"جزء فيه أهل المئة" للذهبي.

إما على سبيل التغليب، أو أن كلًا منهما بايع (بالخيار) -بكسر الخاء المعجمة-، والمراد به: خيار المجلس (ما لم يتفرَّقا)، وفي رواية النسائي: "يفترقا" -بتقديم الفاء (¬1) -، ونقل ثعلب عن المفضل بن سلمة: افترقا بالكلام، وتفرقا بالأبدان، وردَّه ابن العربي، لقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4]، فإنه ظاهر في التفرق بالكلام، إلا أنه بالاعتقاد، وأجيب بأنه من لازمه في الغالب؛ لأنه من خالف آخر عقيدته، كان مستدعيًا لمفارقته إياه ببدنه، ولا يخفى ضعف هذا الجواب. والحق حملُ كلام المفضل على الاستعمال بالحقيقة، وإنما استعمل أحدهما في موضع الآخر اتساعًا (¬2). وإذا تفرقا، لزم البيع، والمراد: التفرق بالأبدان -كما تقدم-. وهل له حدٌّ ينتهي إليه؟ المشهور الراجح من مذاهب العلماء في ذلك: أنه موكول إلى العرف، فكل ما عُدَّ في العرف تفرقًا، حُكم به، وما لا، فلا (¬3)، (أو قال - صلى الله عليه وسلم -: حَتّى يتفرقا) من مجلس العقد الذي عقدا به البيع، (فإن صدقا وبيَّنا)؛ أي: صدق البائع في إخبار الشاري مثلًا، وبيَّن العَيبَ إن كان في السلعة، وصدق المشتري في قدر الثمن مثلًا، وبيَّن العيب إن كان في الثمن، ويحتمل أن يكون الصدق والبيان بمعنى واحد، وذكر أحدهما تأكيدًا للآخر (¬4) (بُورك لهما في بيعهما)؛ أي: بارك الله لكل واحد منهما في صفقته، فالبائع يُبارك له في الثمن، والمشتري يبارك له في السلعة. ¬

_ (¬1) كما تقدم تخريجه عنه قريبًا. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 327). (¬3) المرجع السابق: (4/ 329). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

والبركة: هي الزيادةُ والنماءُ والكثرةُ والاتساعُ (¬1)؛ أي: تحصل البركة لكل واحد من المتبايعين، والنماء والزيادة بما آل إليه، وقبضه مع الصدق والبيان (وإن كتما)؛ أي: كتم كل واحد منهما ما في الذي دفعه لصاحبه من عيب، (وكَذَبا)؛ أي: كذب كل واحد منهما في قدر الثمن والمثمَّن الذي في الإخبار بذلك، (مُحقتْ بركةُ بيعِهما) المحق: النقص والمحو والإبطال (¬2)، وفي الحديث: "الحَلِفُ مَنْفَقَة للسلعةِ، مَمْحَقَة للبركةِ" (¬3)، وفي الحديث: "ما محقَ الإسلامَ شيءٌ ما محقَ الشحُّ" (¬4)، فيحتمل أن يكون معنى هذا الحديث على ظاهره، وأن شؤم التدليس والكذب وقع في ذلك العقد لمحق بركته، وإن كان الصادق مأجورًا والكاذب مأزورًا، ويحتمل أن يكون ذلك مختصًا بمن وقع منه التدليس والعيب دون الآخر، ورجَّحه ابن أبي جمرة. وفي الحديث: فضلُ الصدق، والحت عليه، وذمُّ الكذب، والحثُّ على اجتنابه، وأنه سبب لذهاب البركة، وأن عمل الآخرة يحصِّل خير الدنيا والآخرة بملازمة الصدق واتباعه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 71). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 303). (¬3) رواه البخاري (1981)، كتاب: البيوع، باب: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276]، ومسلم (1606)، كتاب: المساقاة، باب: النهي عن الحلف في البيع، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) رواه أبو يعلى في "مسنده" (3488)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 202)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (3/ 175)، من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 329).

تنبيهات: * الأول: اختلف الفقهاء - رضي الله عنهم - في مضمون ما دلَّ عليه حديث ابن عمر، وحديث حكيم بن حزام، من ثبوت خيار المجلس في البيع، فقال إمامنا الإمام أحمد، والإمام الشافعي، وفقهاء أصحاب الحديث بمضمونه، فأثبتوه في عقود المعاوضات اللازمة التي لا يقصد فيها العوض، كالنكاح والخلع والكتابة. ونفاه الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك - رضي الله عنهم أجمعين -. وهذان الحديثان يدلان على إثبات خيار المجلس دلالة ظاهرة. وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر كما في "الصحيحين": "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر"، وربما قال: "أو يكون بيع الخيار" (¬1). وفي لفظ: "كلُّ بيعين لا بيعَ بينهما حتى يتفرقا، إلا بيع الخيار" متفق عليه أيضًا (¬2). وفي لفظ: "المتبايعان كلُّ واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيعَ الخيار" (¬3). وفي لفظ: "إذا تبايع المتبايعان بالبيع، فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان بيعهما عن خيار، فقد وجب البيع". ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2003). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2007)، ومسلم برقم (1531/ 46). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2005)، ومسلم برقم (1531/ 43).

قال نافع: كان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا بايع رجلًا، فأراد أَلَّا يقيله، قام فمشى هنية، ثم رجع، متفق على ذلك أيضًا (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحلُّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله"، ورواه الدارقطني أيضًا (¬2). وفي لفظ: "حتى يتفرقا من مكانهما" (¬3). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: بعتُ أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - مالًا بالوادي بمال له بخيبر، فلما تبايعنا، رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادَّني البيع، وكانت السنَّة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا رواه البخاري (¬4). فهذه الأحاديث تدل دلالة ظاهرة على ثبوت خيار المجلس في البيع، ووافق ابن حبيب من أصحاب مالك من أثبته، والذين نفوه اختلفوا في وجه العذر عن الأحاديث الدالة عليه، فقيل: لكونه حديثًا خالفه راويه -وهو ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم برقم (1531/ 45). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 183)، وأبو داود (3456)، كتاب: الإجارة، باب: في خيار المتبايعين، والنسائي (4483)، كتاب: البيوع، باب: وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما بأبدانهما، والترمذي (1247)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، وقال: حسن، والدارقطني في "سننه" (3/ 50). (¬3) تقدم تخريجه قريبًا من رواية الدارقطني. (¬4) رواه البخاري (2010)، كتاب: البيوع، باب: إذا اشترى شيئًا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا.

مالك-؛ فإنه رواه ولم يقل به، وكل ما كان كذلك لم يعمل به؛ لأن الراوي إذا خالف، فإما أن يكون مع علمه بالصحة فيكون فاسقًا، فلا تُقبل روايته، وإما أن يكون لا مع علمه بالصحة، وهو أعلم بعلل ما روى، فيتبع في ذلك. والجواب: منع المقدمة الثانية، وهو أن الراوي إذا خالف ما رواه، لم يعمل بروايته، وقولهم: إن كان مع علمه بالصحة، كان فاسقًا، ممنوع، لجواز أن يعلم بالصحة، ويخالف لمعارضٍ راجح عنده، ولا يلزم تقليده فيه، وقولهم: إن كان لا معَ علمه بالصحة، وهو أعلم بروايته، فيتبع في ذلك، ممنوع أيضًا؛ لأنه إذا ثبت الحديث، وجب العمل به ظاهرًا، فلا يترك لمجرد الوهم والاحتمال. وأيضًا: هذا الحديث مرويٌّ من عدة طرق، فإن تعذر الاستدلال به من جهة رواية مالك، لم يتعذر من جهة أخرى، وإنما ربما يستأنس لما زعموا عند التفرُّق، والواقع خلافه. وقيل في العذر عن العمل بمضمون الأحاديث: إنها آحاد فيما تعمُّ به البلوى، وخبر الواحد في ذلك غير مقبول، فإن البياعات مما تكرر مرات لا تحصى، ومثل هذا تعمُّ البلوى بمعرفة حكمه، وما عمَّت به البلوى، يكون معلومًا عند الكافة عادة، فانفراد واحد به خلاف العادة. والجواب عن ذلك: بمنع المقدمتين معًا: أما الأولى: فالذي تعمُّ به البلوى: البيع دون الفسخ الذي دلَّ عليه الحديث، فإنَّ الظاهر من الإقدام على البيع الرغبةُ من المتعاقدين فيما صارا إليه، فالحاجة في معرفة حكم الفسخ لا تكون عامَّة. وأما الثانية: فالمعوَّل عليه في الرواية عدالةُ الراوي، وجزمه بالرواية،

وقد وجد ذلك، وعدم نقل غيره لا يكون معارضًا، لجواز عدم سماعه للحكم، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يُبَلِّغ الأحكام للآحاد والجماعة، ولا يلزم تبليغ كل حكم لجميع المكلفين. وعلى تقدير السماع، فمن الجائز أن يعرض مانع من النقل -أعني: نقل غير هذا الراوي-، فإنما يكون ما ذكر إذا اقتضت العادة أن لا يخفى الشيء عن أهل التواتر، وليست الأحكام الجزئية من هذا القبيل، وقد علمت أنَّ الحديث صحَّ عن ابن عمر، وحكيم بن حزام، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم -. وقيل في العذر: إنَّ هذا مخالف للقياس الجلي، وللأصول القياسية المقطوع بها، وما كان كذلك، لا يعمل به. والجواب: أولًا: عدمُ التسليم في مخالفة القياس الجلي والأصول القياسية. وثانيًا: لا نسلم أن الحديث المخالف للأصول يُردـ، فإن الأصول تثبت بالنصوص، والنصوصُ ثابتة في الفروع المعينة، وغاية ما في الباب أن يكون الشرع أخرج بعض الجزئيات عن الكليات لمصلحة تخصها، أو تعبُّدًا، فيجب اتباعه. وقيل في العذر: إنَّ هذا حديث معارض لإجماع أهل المدينة وعملهم، وما كان كذلك، يقدم عليه العمل، وقد قال مالك عقيب روايته: وليس لهذا عندنا حدٌّ معلوم، ولا أمر معمول به فيه، انتهى. وإنما كان إجماع أهل المدينة مقدمًا على مثل هذا، لما اختصوا به من سكناهم في مهبط الوحي، ووفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم، ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ، فمخالفتهم لبعض الأخبار تقتضي علمهم بما أوجب

ترك العمل به من ناسخ، أو دليل راجح، ولا تهمة تلحقهم، فتعيَّنَ اتباعُهم، وكان ذلك أرجح من خبر الآحاد المخالف لعملهم. والجواب: أولًا: منعُ كونِ ذلك من إجماع أهل المدينة، فإن الإمام مالكًا لم يصرِّح بأنَّ المسألة من إجماع أهل المدينة، وأيضًا هذا الإجماع إما أن يراد به إجماع سابق، أو لاحق، والأول باطل؛ لأن ابن عمر رأس المفتين بالمدينة في وقته، وقد كان يرى خيار المجلس، وكذا نافع من التابعين، وكذا اللاحق، فإن ابن أبي ذئب من أقران مالك ومعاصريه، وقد أغلظ على مالك لما بلغه مخالفته للحديث. وثانيًا: منعُ كونِ إجماع أهل المدينة وعملهم مقدمًا على خبر الواحد مطلقًا، فإن الحق الذي لا شك فيه أن عملهم وإجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر؛ لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم، ولا مستند للعصمة سواه (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المسألة المالكية بعد أن فصل إجماع أهل المدينة ونوَّعه إلى أربعة أنواع، فقال: المرتبة الرابعة: العمل المتأخر من أهل المدينة هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس: أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك؛ ¬

_ (¬1) انظر ما أورده الشارح -رحمه الله- في وجوه العذر عن العمل بالحديث، والجواب عنها: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 102 - 106).

كما ذكر ذلك القاضي عبد الوهاب (¬1) في كتابه "الملخص في أصول الفقه" وغيره، وذكر أنَّ هذا ليس إجماعًا ولا حجةً عند المحققين من أصحاب مالك، وإنما يجعله حجةً بعضُ أهل المغرب من أصحابه، وليس هؤلاء من أئمة النظر والدليل، وإنما هم أهل التقليد، انتهى كلام القاضي عبد الوهاب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولم أرَ في كلام مالك ما يوجب جعلَ هذا حجة، وهو في "الموطأ" إنما ذكر الأمر المجمع عليه عندهم، فهو يحكي مذهبهم، وتارةً يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا، يشير إلى الإجماع القديم، وأطال الكلام في ذلك، وحاصله عدمُ اعتبار كونه حجة، والله أعلم. وقيل في العذر: ما في بعض الروايات: "ولا يحل له أن يفارقه خشيةَ أن يستقيله" (¬2)، فاستدلوا بهذه الزيادة على عدم ثبوت خيار المجلس؛ لأنه لولا أن العقد لازم، لما احتاج إلى الاستقالة، ولا طلب الفرار من الاستقالة. والجواب: بأن المراد من الاستقالة: فسخُ البيع بحكم الخيار، ولا يخفى ما في هذا العذر من الغرر، والله أعلم. ¬

_ (¬1) هو الإمام الفقيه القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصير، المعروف بابن طوق التغلبي، البغدادي المالكي، كان فقيهًا أديبًا شاعرًا، صنف في مذهبه كتاب: "التلقين"، وهو مع صغر حجمه من خيار الكتب، وأكثرها فائدة، وغير ذلك من التصانيف، توفي سنة (422 هـ). انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 219). (¬2) تقدم تخريجه.

وقيل في العذر: بحمل المتبايعين على المتساومين. قلت: ويعلم رَدُّ هذا من جوهر الحديث، ومن فعلِ ابن عمر مع عثمان كما ذكرناه أولًا. وقيل غير ذلك، وكلها واهية ساقطة مصادمة للنص، فلا التفات إليها، ولا تعويل عليها (¬1)، والله الموفق. * الثاني: اختلف فيما قبضُه شرطٌ لصحته، كصرف وسَلَم، وبيعِ مال الربا بجنسه. فقال أبو حنيفة، ومالك: ليس بثابت في ذلك، ولا في عقد من العقود، وأثبته الإمام الشافعي، وهو معتمد الروايتين عن الإمام أحمد (¬2). * الثالث: اتفق الأئمة على جواز خيار الشرط وصحته للمتعاقدين معًا، ولأحدهما بانفراده إذا شرطه، ثم اختلفوا في مدته، فقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، وقال مالك: يجوز بقدر الحاجة، وقال الإمام أحمد: يجوز إلى مدة معلومة وإن طالت. قال العلامة الشيخ مرعي في "غايته": ويتجه لا، كألف سنة، ومئة سنة، لإفضائه للمنع من التصرف المنافي للعقد (¬3). ولابد أن يشترطاه، أو أحدهما في العقد، أو في زمن الخيار، لا بعد لزومه، فلو كان المبيع لا يبقى إلى مضي المدة، كطعام رطب، بيع، وحُفظ ثمنه، وإن شرط الخيارَ بائعٌ ليربح فيما أقرضه، حَرُمَ نصًا، ولم يصح البيع، ويثبت فيما ثبت فيه خيار مجلس، لا فيما قبضه شرطًا لصحته، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 107)، وقد أورد الإمام ابن دقيق عشرة وجوه ممن اعتذر عن العمل بالحديث. (¬2) انظر "الفروع" لابن مفلح (4/ 61). (¬3) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (3/ 89).

كصرف وسلم، ولو قبض (¬1)، والله أعلم. وأما بقية أقسام الخيار، كخيار غبن، وتدليس، وعيب، وتخيير بثمن، واختلاف المتبايعين، أو لخلف في صفة، ولفقد شرط، فمحل تفصيلها كتب الفقه، إذ لم يُشر الحديث الذي شرحناه لغير ما ذكرنا. * الرابع: لو تلف المبيع في مدَّة الخيار، فمعتمد مذهبنا: أنه يبطل الخيار بتلف المبيع، ولو قبل قبضه؛ خلافًا "للمنتهى" (¬2)، أو احتاج لحق توفية، كما لو أتلفه مشترٍ. وقال الإمام مالك، والشافعي: إذا تلفت السلعة المبيعة بالخيار في مدة الخيار، فضمانها من بائعها دون مشتريها، إذا كانت في يده، أو لم تكن في يد واحد منهما، وإن قبضها المبتاع، ثم تلفت في يده، وكانت مما يغاب عنه، فضمانها منه، إلا أن تقوم له بينة على تلفها، فيسقط عنه ضمانها، وإن كانت مما لا يغاب عنه، فضمانها على كل حال من بائعها. وقال الإمام أبو حنيفة: إذا تلف المبيع في مدة الخيار إن كان قبل القبض، انتقض المبيع، سواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما، وصار كأن لم ينعقد، فأما إن كان تلفه في يد المشتري، وكان له الخيار، فقد تمَّ البيع، ولزم، وإن كان الخيار للبائع، انتقض البيع، ولزم المشتري قيمة المبيع، لا الثمنُ المسمَّى في العقد (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 200). (¬2) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 304). (¬3) وانظر: "تحفة الفقهاء" للسمرقندي (2/ 73)، و"مواهب الجليل" للحطاب (4/ 296).

باب ما نهي عنه من البيوع

باب ما نهي عنه من البيوع من بيع المنابذة، والملامسة، وبيع النجش، والمصرَّاة، وبيع حَبَل الحَبَلة، وبيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، وغير ذلك. وذكر الحافظ في هذا الباب عشرة أحاديث:

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ المُنَابَذَةِ، وَهِيَ: طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالبَيعْ إلَى الرَّجُلٍ -قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ-، وَنَهَى عَنِ المُلَامَسَةِ، وَالمُلَامَسَةُ: لَمْسُ الثَّوْبِ لا ينظُرُ إِلَيْهِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2307)، كتاب: البيوع، باب: بيع الملامسة، واللفظ له، و (2040)، باب: بيع المنابذة، و (5482)، كتاب: اللباس، باب: اشتمال الصماء، و (5927)، باب: الجلوس كيفما تيسر، ومسلم (1512)، كتاب: البيوع، باب: إبطال بيع الملامسة والمنابذة، وأبو داود (3377 - 3378)، كتاب: البيوع، باب: في بيع الغرر، والنسائي (4510)، كتاب: البيوع، باب: تفسير ذلك، و (4511 - 4512)، باب: بيع المنابذة، و (4514 - 4515)، باب: تفسير ذلك، وابن ماجه (2170)، كتاب: التجارات، باب: ما جاء في النهي عن المنابذة والملامسة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 459)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 126)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 360)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 154)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 110)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1092)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 98)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 359)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 267)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 64).

(عن أبي سعيدٍ) سعدِ بنِ مالكٍ (الخدريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى) نهيَ تحريم (عن) بيع (المنابذة): مفاعلة من نبذَ الشيءَ ينبذه: إذا ألقاه (¬1)؛ أي: أن يجعل النبذ بيعًا، وفسَّر المنابذة بقوله: (وهي طرحُ الرجلِ)؛ أي: الشخص (ثوبَه بالبيعِ إلى الرجلِ قبلَ أنْ يُقَلِّبَهُ)؛ أي: الثوبَ، (أو) قبل أن (ينظرَ إليه). وفي "النهاية": هي أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إليَّ الثوبَ، أو أنبذه إليك ليجبَ البيعُ. وقيل: هو أن يقول: إذا نُبذت إليك الحصاةُ، فقد وجب البيع (¬2). قال علماؤنا: فلا يصح بيع المنابذة، للجهالة، أو التعليق، وكذا بيع الحصاة، كارمها، فعلى أي ثوب وقعت، فهو لك بكذا، أو بعتُك من هذه الأرض قدرَ ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا، أو بعتك هذا بكذا على أني متى رميت هذه الحصاةَ، فقد وجب البيع، فلا يصح كل ذلك، لما فيه من الغررِ، والجهالةِ، وتعليقِ البيع (¬3). وفي "مسلم" عن أبي هريرة مرفوعًا: نهى عن بيع الحصاة (¬4). (ونهى) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن) بيع (الملامسة، والملامسة) المنهيُّ عن البيع بها في هذا الحديث مفاعلة من (لمس) يلمس، ويلمس: إذا أجرى يده على الشيء (¬5)، وهي أن يشتري الشخص (الثوب) ونحوه باللمس ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 231). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 5). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 170). (¬4) رواه مسلم (1513)، كتاب: البيوع، باب: بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر. (¬5) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 231).

باليد، و (لا ينظر إليه) نظرًا يزيل الجهالة، وكقوله: بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته، فهو عليك بكذا، أو على أنك إن لمستَه، فعليك بكذا؛ لأنه بيع معلق، ولا يصح تعليقه، أو: أي ثوب لمستَهُ، فهو عليك بكذا، لورود البيع على غير معلوم (¬1). وفي "النهاية": نهى عن بيع الملامسة، وهي أن يقول: إذا لمستَ ثوبي، أو لمستُ ثوبك، فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يلمس المتاع من وراء ثوب، ولا ينظر إليه، ليوقع البيع عليه، نهى عنه؛ لأنه غرر، أو لأنه تعليق، أو عدول عن الصيغة الشرعية، وقيل: معناه: أن يجعل اللمس باليد قاطعًا للخيار، ويرجع ذلك إلى تعليق اللزوم، وهو غير نافذ، انتهى (¬2). وقال ابن دقيق العيد: اتفق الناس على منع بيع المنابذة والملامسة، واختلفوا في تفسير الملامسة -وذكرَ نحو ما قدمناه-، وأما لفظ الحديث الذي ذكره المصنف، فإنه يقتضي أن جهة الفساد عدمُ النظر والتقليب، وقد يستدل به من يمنع بيعَ الأعيان الغائبة عملًا بالعلة، ومن يشترط الصفةَ في بيع الأعيان الغائبة لا يكون الحديث دليلًا عليه؛ لأنه ها هنا لم يذكر وصفًا، انتهى. والفرق بين هذين البيعين وبين بيع المعاطاة: عدم الجهالة في بيع المعاطاة ووجودها، أو التعليق فيهما (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 19)، و"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 166). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 269 - 270). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 110 - 111).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ الله عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبعْ حَاضِر لِبَادٍ، وَلَا تُصَرُّوا الغَنَمَ، وَمَنِ ابْتَاعَهَا، فَهُوَ بخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يحْلُبُهَا، إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وإنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ: "وَهُوَ بِالخِيارِ ثَلَاثًا" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2033)، كتاب: البيوع، باب: لا يبيع على بيع أخيه، و (2043)، باب: النهي للبائع أَلَّا يُحفِّل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة، و (2052)، باب: لا يبيع حاضر لبادٍ بالسمسرة، و (2054)، باب: النهي عن تلقي الركبان، و (2574)، كتاب: الشروط، باب: ما لا يجوز من الشروط في النكاح، و (2577)، باب: الشروط في الطلاق، ومسلم (1515/ 9 - 12)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، وأبو داود (3443)، كتاب: الإجارة، باب: من اشترى مصراة فكرهها، والنسائي (4487)، كتاب: البيوع، باب: النهي عن المصراة، و (4496)، باب: بيع الحاضر للبادي. (¬2) رواه البخاري (2041)، كتاب: البيوع، باب: النهي للبائع ألا يُحفّل الإبل والبقر والغنم وكل محفلة، ومسلم (1524/ 24 - 25)، كتاب: البيوع، باب: حكم بيع المصراة، وأبو داود (3444)، كتاب: الإجارة، باب: من اشترى مصراة فكرهها، والنسائي (4489)، كتاب البيوع، باب: النهي عن المصراة، =

(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمنِ بنِ صخرٍ (- رضي الله عنه -) أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تلقوا) -بحذف إحدى التاءين-: نهي تحريم (الركبانَ)، جمع راكب، فهو من البيوع المنهي عنها، لما يتعلق به من الضرر، وهو أن يتلقى طائفة يحملون متاعًا، فيشتريه منهم قبل أن يقدموا البلد فيعرفوا الأسعار، والكلام عليه في ثلاثة مواضع: أحدها: التحريم، فإن كان عالمًا بالنهي، قاصدًا للتلقي، فهو حرام، وإن خرج لشغل آخر، فرآهم مقبلين، فاشترى، ففي إثمه وجهان، الأظهر: التأثيم. الثاني: صحة البيع أو فساده، وهو عندنا كالشافعية صحيح، وإن كان آثمًا؛ لأن النهي يعود إلى خارج، وعند كثير من العلماء، يبطل، ومستنده: أنَّ النهي للفساد، ومستندنا كالشافعية: أنَّ النهي لا يرجع إلى نفس العقد، ولا يُخِلُّ هذا الفعل بشيء من أركانه وشرائطه، وإنما هو لأجل الإضرار ¬

_ = والترمذي (1221)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في كراهية تلقي البيوع، وابن ماجه (2178)، كتاب: التجارات، باب: النهي عن تلقي الجلبان، باب: بيع المصراة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 111)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 523)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 229)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 137)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 373)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 158)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 111)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1094)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 228)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 63)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 362)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 269)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 65)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 26)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 327).

بالركبان، وذلك لا يقدح في نفس البيع. الثالث: إثبات الخيار المزيل للضرر الحاصل للركبان (¬1)، ومعتمد المذهب: إثباته. قال في "الفروع": وإن تلقى الركبان، والمنصوص: ولو لم يقصد، فاشترى منهم، وغبنوا. وعنه: أولا، أو باعهم، فلهم الخيار. وعنه: يبطل، اختاره أبو بكر (¬2). قال في "المنتهى وشرحه": ويثبت خيار الغبن لركبان، جمع راكب، والمراد هنا: القادم من سفر، وإن كان ماشيًا، تُلُقُّوا -بالبناء للمفعول-؛ أي: تلقاهم الحاضر حين قربوا من البلد، فاشترى أو باع منهم قبل أن يعرفوا السعر، ولو كان التلقي بلا قصد، نصًا؛ لأن مشروعية الخيار لهم إنما ثبتت لإزالة الإضرار بالغبن، وقد يوجد مع عدم القصد (¬3). وفي "صحيح مسلم" عنه -عليه السلام-: "لا تلقوا الجَلَب، فمن تلقاه، فاشترى منه، فإذا أتى [سيدُه] السوق، فهو بالخيار" (¬4)، فلما أمكن استدراك الخديعة الحاصلة بالخيار، صحَّ البيع. وعنه -أي: الإمام أحمد-: لا يصح العقد. وعنه: يصح، ولا يثبت فيه خيار (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 111 - 112). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 72). (¬3) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 306)، و"شرح المنتهى" للبهوتي (2/ 41). (¬4) رواه مسلم (1519/ 17)، كتاب: البيوع، باب: تحريم تلقي الجلب. (¬5) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 394).

تنبيهان: الأول: المعوَّل عليه في خيار الغبن: خروجُه عن العادة، وحدَّهُ بعضُهم بالخمس، وحدَّهُ الإمامُ مالك بالثلث، ولم يقل به أبو حنيفة والشافعي، فقالا: لا يثبت به الفسخ بحال. وقال زين الدين أبو البركات بن المنجا في "شرح المقنع": وحدَّه أبو بكر في "تنبيهه"، وابن أبى موسى في "إرشاده" بالثلث، وقيل: هو مقدر بالسدس، انتهى (¬1). الثاني: خيار الغبن على التراخي كخيار العيب؛ لأنه ثبت لرفع ضرر متحقق، فلم يسقط بالتأخير بلا رضا، كالقصاص، والله أعلم (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يبع بعضُكم) معشرَ المسلمين (على بَيْع بعض) بصيغة النهي، ويروى: "لا يبيع" بصورة النفي (¬3)، وقال ابن قرقول: كلاهما صحيح (¬4)، وقال ابن الأثير في روايات هذا الحديث: "لا يبيع" -بإثبات التحتية، والفعل غير مجزوم-، وذلك لحنٌ، قال: وإن صحت الرواية فتكون "لا" نافية، وقد أعطاها معنى النهي؛ لأنه: إذا نفى هذا البيع، فكأنه قد استمر عدمه، والمراد من النهي عن الفعل: إنما هو طلب إعدامه، أو استبقاء عدمه (¬5)، فيحرم ذلك؛ كقوله لمشتر شيئًا بعشرة: أنا أعطيك مثله بتسعة. ¬

_ (¬1) وانظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 73). (¬2) انظر: "المبدع" لابن مفلح (4/ 97)، و"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 224). (¬3) كما تقدم تخريجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - برقم (2033) عند البخاري. (¬4) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 107). (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (11/ 258 - 259).

وكذا شراء على شراء مسلم، كقوله لبائع شيئًا بتسعة: عندي فيه عشرة، زمن الخيارين، يعني: خيار الشرط، وخيار المجلس، ليفسخ البيع، ويعقد معه؛ لأن الشراء في معنى البيع، ولأن الشراء يسمى بيعًا، وذلك لما فيهما من الإضرار بالمسلم، والإفساد عليه. وكذا يحرم سومٌ على سوم المسلم مع الرضا من البائع صريحًا (¬1)، لما روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَسُمِ الرجلُ على سَوْم أخيه" (¬2)، وأما السوم على السوم، مع عدم رضا البائع، لا يحرم، لما روى أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رجلًا من الأنصار شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشدة والجهد، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما بقيَ لك شيء؟ "، قال: بلى، قَدَح وحِلْس، قال: "فأتني بهما"، فأتاه بهما، فقال: "من يبتاعهما منه؟ " رواه الترمذي، وحسَّنه (¬3). وهذا إجماع، فإنَّ المسلمين لم يزالوا يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة (¬4)، ولا يحرم بيع ولا شراء ولا سوم بعد ردّ السلعة المبتاعة، أو ردّ السائم في مسألة السوم؛ لأن العقد أو الرضا بعد الرد غير موجود، ولا يحرم بذل بأكثرَ مما اشترى، كأن يقول لمن اشترى شيئا بعشرة: ¬

_ (¬1) انظر: "دليل الطالب" للشيخ مرعي (ص: 107). (¬2) رواه مسلم (1413)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك. (¬3) رواه الترمذي (1218)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في بيع مَنْ يزيد، بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باع حلسًا وقدحًا، وقال: "من يشتري هذا الحلس والقدح؟ " فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يزيد على درهم، من يزيد على درهم؟ "، فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه. (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 149).

أعطيك مثلَه بإحدى عشر؛ لأن الطبع يأبى إجابته، وكذا قوله لبائع شيء بعشرة: عندي فيه تسعة، ويصح العقد على السوم فقط؛ لأنَّ المنهي عنه السوم لا البيع، وأما البيع على بيعه، والشراءُ على شرائه، فلا يصحان، للنهي عن ذلك، وهو يقتضي الفساد، ومثل البيع إجارة (¬1). وللتحريم عند الشافعي شرطان: أحدهما: استقرار الثمن، فأما ما يباع بثمن يزيد، فللطالب أن يزيد على الطالب، ويدخل عليه. الثاني: أن يحصل التراضي بين المتساومين صريحًا، فإن وجد ما يدل على الرضا من غير تصريح، فوجهان (¬2). وقد بينا لك معتمد مذهبنا: أنه لابد في السوم من الرضا صريحًا، وفي البيع لابد من كونه زمن الخيارين -على ما مرَّ-. وذكر الشيخ يوسف في "حاشية المنتهى": قال ابن نصر الله في "حاشية الرعاية": وظاهر هذا: لا يحرم شراؤه وبيعه على شراء ذمي وبيعه، وقد صرحوا بذلك في الخطبة، وهذا مثله. وجزم بذلك في "حاشية الكافي" في مسألة البيع، وقال فيها أيضًا: وهل يتعدى الحكم إلى الذمي مع الذمي؟ يحتمل وجهين، أظهرهما: عدم التعدي، انتهى. تنبيه: قال في "النكت": وإن رضي البائع أن يبيع على بيعه، وأذن له في ¬

_ (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 159). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 113).

ذلك، فإطلاق كلامهم يقتضي المنع، والتعليل يقتضي الجواز، وهو أولى؛ لأن صورة الإذن مستثناة في "الصحيحين" (¬1)، ولفظه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبعْ بعضُكم على بيع بعض" (¬2)، وفي لفظ آخر: "لا يبيع الرجلُ على بيع أخيه، ولا يخطبُ على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له" (¬3)، والله أعلم. قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تَنَاجَشُوا). والنجشُ: أن يزيد في ثمن سلعة تُباع ليغرَّ غيره، وهو غير راغب فيها. قال في "المطلع": النجش أصلُه: الاستخراج والاستثارة (¬4). قال ابن سيده: نجش الصيدَ وكلَّ مستور ينجشه نجشًا: إذا استخرجه، والناجش: المستخرجُ للصيد (¬5)، وفي حديث ابن المسيب: "لا تطلع الشمسُ حتى ينجشُها ثلاث مئة وستون ملكًا" (¬6)؛ أي: يستثيرها (¬7). وقال ابن قتيبة: النجش: الختل، ومنه قيل للصائد: ناجش؛ لأنه يختل الصيد (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر" لابن مفلح (1/ 282). (¬2) رواه البخاري (2032)، كتاب: البيوع، باب: لا يبيع على بيع أخيه، ومسلم (1412/ 49)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه. (¬3) رواه البخاري (4848)، كتاب: النكاح، باب: لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، ومسلم (1412/ 50)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه. (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 235). (¬5) انظر "المخصص" لابن سيده (2/ 8 / 87 - 88). (¬6) رواه أبو الشيخ الأصبهاني في "العظمة" (4/ 1150). (¬7) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 20). (¬8) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 199).

وقال أبو السعادات: النجش: أن يمدح السلعة، أو يزيد في ثمنها، لينفِّقها ويروِّجها، وهو لا يريد شراءها، ليقع غيره فيها (¬1). قال في "المنتهى وشرحه": ويثبت الخيار في النجش، ثم فسَّر صورة النجش بقوله: بأن يزايده، أي: يزايد المشتري السلعة من لا يريد شراءً. قال: وظاهره: أنه لابد أن يكون المزايد عالمًا بالقيمة، والمشتري جاهلًا بها. قال: ويثبت له الخيار، ولو بلا مواطأة مع البائع، للعلة المتقدمة، وهي إزالة الضرر الحاصل للمشتري بالتغرير الواقع منه، فقد يوجد الضرر من غير قصد. قال: ومن النجش قول بائع: أُعطيت في هذه السلعة كذا، وهو كاذب. ويحرم النجش، لتغريره المشتري، ولهذا يحرم على بائع سومُ مشترٍ كثيرًا ليبذل قريبًا منه، ذكره الشيخ تقي الدين بن تيمية -قدس الله روحه-. وإذا أخبره أنه اشتراها بكذا، وكانت زائدًا عما اشتراها به، لم يبطل البيع، وكان له الخيار. صححه في "الإنصاف" (¬2). تنبيه: الذي اعتمده علماؤنا: صحةُ البيع في النجش، وثبوت الخيار، ولو بلا مواطأة. وعن الإمام أحمد رواية: يبطل البيع، اختارها أبو بكر. وعنه: يقع لازمًا، فلا فسخ من غير رضا، ذكرها في "الانتصار" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 20). (¬2) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 306)، و"شرح المنتهى" للبهوتي (3/ 197)، و"الإنصاف" للمرداوي (4/ 396). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 72).

وقال الشافعية: البيع صحيح، ولا يثبت الخيار للمشتري الذي غرَّ بالنجش، إن لم يكن عن مواطأة من البائع (¬1)، وحيث قلنا بثبوت الخيار لمن غبن بالنجش، فليس له الأرش مع إمساك المبيع؛ لأن الشرع لم يجعله له، ولم يفُتْ عليه جزء من مبيع يأخذ الأرش في مقابلته (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يبعْ حاضرٌ لبادٍ) فبيعُ الحاضر للبادي من البيوع المنهيِّ عنها، لأجل الضرر (¬3)، فلا يصح البيع على معتمد مذهب الإمام أحمد، ويأتي الكلام عليه في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وهو سادس أحاديث الباب. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تُصَرُّوا) الإبلَ و (الغنمَ) -بضم التاء وفتح الصاد المهملة وتشديد الراء المضمومة، على وزن: لا تُزَكُّوا-، هذا هو المشهور، ومنهم من رواه -بفتح التاء وضم الصاد (¬4) -. قال في "النهاية": إن كان من الصَّرِّ، فهو -بفتح التاء وضم الصاد-، وإن كان من الصَّرْي، فهو -بضم التاء- (¬5). قال في "المطلع": التصرية: مصدرُ صَرَّى، كعلَّى تعليةً، وسوَّى تسوية، ويقال: صَرَى يصري، كرمى يرمي، كلاهما بمعنى: جمع. قال: والأكثرون على أن التصرية مصدر صرى يصري -معتل اللام-، وذكر الأزهري عن الشافعي: أن المصراة: التي تصر أحلابها، ولا تحلب أيامًا ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 112). (¬2) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 197). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 114). (¬4) المرجع السابق، (3/ 116). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 27).

حتى يجتمع اللبن في ضرعها، فإذا حلبها المشتري، استغزرها، فجائز أن يكون من الصر (¬1)، إلا أنه لما اجتمع في الكلمة ثلاث راءات، قلبت الثالثة ياءً، كما قالوا: تقضَّى في تقضَّض، وتصرَّى في تصرَّرَ، كراهيةً لاجتماع الأمثال (¬2). واستشهدوا لهذا بقول مالك بن نُويرة حين جمع بنو يربوع صدقاتهم ليوجهوا بها إلى الصدِّيق الأعظم أبي بكر - رضي الله عنه -، فمنعهم من ذلك، وقال: [من الطويل] وَقُلْتُ خُذُوهَا هَذِهِ صَدَقَاتُكُمْ ... مُصَرَّرَةً أَحْلابُها لَمْ تُجَرَّدِ سَأَجْعَلُ نَفْسِي دُونَ ما تَجِدُونَهُ ... وَأَرْهَنُكُمْ يَوْمًا بِما قُلْتُهُ يَدِي (¬3) واعلم: أنه لا خلاف بين العلماء أن التصرية حرام، لأجل الغش والخديعة التي فيها للمشتري، والنهي يدل عليه مع علم تحريم الخديعة قطعًا (¬4). ومعتمد مذهبنا: يثبت لمشترٍ بالتدليس الردُّ، ولو حصل التدليس في البيع بلا قصد من أحد؛ لأن عدم القصد لا أثر له في إزالة الضرر الحاصل للمشتري، وفيه وجه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 206 - 207). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 236). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 240 - 242)، و"معالم السنن" للخطابي (5/ 84 - 85)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 43)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 27)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 160 - 161)، و"تهذيب الأسماء واللغات" له أيضًا (3/ 166). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 116). (¬5) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 200).

قال: (ومَنِ ابتاعَها)؛ أي: المصراةَ، (فهو بخيرِ النظرين)؛ أي الردِّ أو الإمساكِ، وذلك (بعد أن يحلبها). وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين مرفوعًا: "من اشترى شاةً مُصَرَّاةً، فلينقلب بها فَلْيَحْلُبْهَا، فإن رضي حِلابَها، أمسكَها، وإلا، ردَّها ومعها صاعٌ من تمر" (¬1)، وفي لفظ: "من ابتاعَ شاةً مصراةً، فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردَّها [وَرَدَّ معها صاعًا من تمر] " (¬2)، فقد صرَّح في الحديث المتفق عليه بالثلاثة أيام، فهو مبين لما أبهمه هنا (إن رضيها) بعد حلبها ثلاثة أيام (أمسكها) ومضى البيع، (وإن سخطها)، لقلة لبنها بعد الثلاثة أيام (ردَّها و) ردَّ معها (صاعًا من تَمْرٍ). ثم قال الحافظ -رحمه الله تعالى- مشيرًا لرواية أبي هريرة التي ذكرناها، وهي في "الصحيحين": (وفي لفظ: وهو بالخيار ثلاثًا)، وفي لفظ آخر: "من اشترى شاةً مصراةً، فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردَّها، ردَّ معها صاعًا من طعام لا سمراءَ" (¬3). قال في "المنتهى وشرحه": ومتى علم المشتري التصرية، خُيِّر ثلاثةَ أيام منذُ علم، وقيل: بعدها على الفور، وقيل: يخيَّر مطلقًا ما لم يرض، كبقية التدليس (¬4). والمذهب: الأول؛ لأن التصرية إنما تتحقق بثلاث حلبات، إذ في اليوم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عندهما، وهذا لفظ مسلم برقم (1524/ 23). (¬2) تقدم تخريجه عندهما، وهذا لفظ مسلم برقم (1524/ 24). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1524/ 25). (¬4) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 308)، و"شرح المنتهى" للبهوتي (3/ 200).

الأول لبنُها لبنُ التصرية، وفي اليوم الثاني والثالث يجوزُ أن يكون نقص، لاختلاف العلف وتغير المكان، فإذا مضت الثلاثة، تحققت التصرية غالبًا، فثبت إذًا الخيار على الفور، ومعتمد المذهب: أنَّ له الخيار في الثلاثة أيام إلى انقضائها، وأن ابتداء الثلاث منذ تبينت التصرية. وكذا لو رُدَّت مصراةٌ بعيب غير التصرية قياسًا عليها، ويتعدد الصاع بتعداد المصراة، وله ردُّها بعد رضاه بالتصرية بعيبٍ غيرِها، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها" ربما فُهِمَ منه اختصاص ثبوت الخيار بعد الحلب، والحال أنَّ الخيار ثابت قبل الحلب إذا عُلِمتْ التصرية. وجوابه: أنه يثبت الخيار في هذين الأمرين المعينين، أعني: الإمساكَ، والردَّ مع الصاع، وهذا إنما يكون بعد الحلب، لتوقف هذين المعنيين على الحلب؛ لأن الصاع عوضٌ عن اللبن الذي نقص، ومن ضرورة ذلك الحلب، ويقبل ردَّ اللبن المحلوب من المصراة إن كان بحاله لم يتغير كردها قبل الحلب، وقد أقرَّ البائع له بالتصرية، أو ثبتت بينةٌ، فإن صار لبنها عادة، فلا خيار له، لزوال العيب الذي لأجله ثبت له الرد (¬1). تنبيهات: * الأول: ظاهرُ الحديث: تعيينُ كون المردود مع المصراة صاعَ تمر، ويتعين كونُه سليمًا، ولو زاد صاع التمر على المصراة قيمة، نصَّ عليه الإمام أحمد، لظاهر الخبر، ولا فرق بين قلة اللبن وكثرته. قال في "المنتهى وشرحه": فإن عدم التمر حين ردَّ المصراة بمحل الردِّ، فقيمته؛ لأنها بدل عنه عند إعوازه، والمعتبر قيمته موضع عقد؛ لأنه ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 118 - 119).

بمنزلة عين أتلفها، فيجب عليه [قيمتها] (¬1)، ومن العلماء من عَدَّاه إلى سائر الأقوات، ومنهم من خصه بغالب قوت البلد، وأما حديث: "فإن ردَّها، ردَّ معها مثلَ -أو مثلي- لبنها قمحًا" رواه أبو داود (¬2)، فلا يقاوم اختصاص كون المردود تمرًا. قال الشيرازي -من علمائنا-: الواجبُ أحدُ شيئين: صاع من تمر، أو من قمح. قال الزركشي في "شرح الخرقي": وهو مصادم للنص، يعني: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سمراء"؛ لأنها القمح، فالصواب الاقتصار على الوارد، وهو مذهب الشافعي أيضًا (¬3). * الثاني: لم يقل أبو حنيفة بهذا الحديث، وكذا روي عن مالك القول بعدم مقتضاه، وقال: لأنه حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة، لوجوه، منها: - الأول: أن المعلوم من الأصول أن ضمان المثليات بالمثل، وضمان المتقومات بالقيمة من النقدين، وهنا مع كون اللبن مثليًا وقع مضمونًا بالتمر، فهو خارج عن الأصلين جميعًا. - الثاني: أنَّ القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون بقدر التالف، ¬

_ (¬1) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 308)، و"شرح المنتهى" للبهوتي (3/ 200 - 201). (¬2) رواه أبو داود (3446)، كتاب: الإجارة، باب: من اشترى مصراة فكرهها، وابن ماجه (2240)، كتاب: التجارات، باب: بيع المصراة، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬3) انظر "شرح الزركشي على الخرقي" (3/ 562).

وذلك مختلف، وهنا قدِّر بمقدار واحد، وهو الصاع مطلقًا، فخرج عن القياس الكلي في اختلاف ضمان المتلفات باختلاف قدرها وصفتها. - الثالث: اللبن التالف إن كان موجودًا عند العقد، فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة، وذلك مانع من الرد، كما لو ذهب بعض أعضاء المبيع، ثم ظهر على عيب، فإنه يمتنع الرد، وإن كان هذا اللبن حادثًا بعد الشراء، فقد حدث على ملك المشتري، فلا يضمنه، وإن كان مختلطًا، فما كان منه موجودًا عند العقد، منع عن الرد، وما كان حادثًا، لم يجب ضمانه. - الرابع: الخيار ثلاثًا من غير شرط مخالف للأصول، فإن الخيارات الثابتة بأصل الشرع من غير شرط لا تتقدر بالثلاث، كخيار العيب، وخيار الرؤية عند من يثبته، وخيار المجلس -عند من يقول به-. - الخامس: يلزم من القول بظاهره: الجمعُ بين المثمَّن للبائع في بعض الصور، وهو ما إذا كانت قيمة الشاة صاعًا من تمر، فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها. - السادس: أنَّه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور، وهو ما إذا اشترى شاة بصاع، وإذا استردَّ معها صاعًا من تمر، فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن، فيكون قد باع صاعًا وشاة بصاع، وذلك خلاف قاعدة الشرع في الربا عندكم، فإنكم تمنعون مثل ذلك. - السابع: إذا كان اللبن باقيًا، لم يكلف رده عندكم، فإذا أمسكه، فالحكم كما لو تلف، فيرد الصاع، وفي ذلك ضمان الأعيان مع بقائها، وهي إنما تضمن بالبدل مع فواتها، كالمغصوب وسائر المضمونات. * الثالث: الذي قال بمقتضى هذا الحديث، وهم: مالك على معتمد

مذهبه، والشافعي، وأحمد طعنوا في قول من زعم أنه مخالف للأصول، وفي أنه إذا خالف الأصول، لم يجب العمل به. أما الأول: وهو زعمهم أنه مخالف للأصول، فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول، ومخالفة قياس الأصول، وخص الرد بخبر الواحد بالمخالفة في الأصول، لا بمخالفة قياس الأصول، وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول. وقد تصدى جماعة من المحققين إلى ردِّ جميع هذه الإرادات: فقال عن الأول: لا نسلم أنَّ جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما ذكرتموه، فإن الحرَّ يضمن بالإبل، وليس بمثل له، ولا قيمة، والجنين يضمن بالغرة، وليست بمثل له، ولا قيمة، وأيضًا: فقد يضمن المثلي بالقيمة إذا تعذرت المماثلة، وهاهنا تعذرت، فمن أتلف شاة لبونًا، كان عليه قيمتها مع اللبن، ولا يجعل بإزاء لبنها لبن آخر، لتعذر المماثلة. وأما قولكم: القواعد الكلية تقتضي أن يكون الضمان بقدر التالف، ينتقض عليكم بمثل المُوضِحَة؛ فإن أَرْشَها مع قدر، مع اختلافها بالكبر والصغر، والجنين أرشُه مقدَّر، فلا يختلف بذكورة ولا أنوثة، واختلافِ الصفات، والحرُّ ديتُه مقدرة، وإن اختلف بالصغر والكبر وسائر الصفات، والحكمة فيه: بأن ما يقع فيه التنازعُ والتشاجرُ يُقصد قطعُ النزاع فيه بتقديره بشيء معين، وتقدَّم هذه المصلحةُ في مثل هذا المكان على تلك القاعدة. وأما قولكم: إن كان اللبن موجودًا عند العقد. . . . إلخ. فالجواب: إنما يمتنع الرد إذا كان النقص لا لاستعلام العيب، وهذا النقص للاستعلام، على أننا نلتزم أن يكونَ كونُ اللبن التالف كان موجودًا،

ونلتزم أن حدوث عيب في السلعة عند المشتري لا يمنع الرد، فإن مذهبنا لو تعيَّبَ المبيعُ -أيضًا- عند المشتري، فإن الحاكم يفسخ البيع، ويرد البائع الثمن، ويطالب المشتري بقيمة المبيع؛ لأنه لا يمكن إهمال العيب بلا رضا، ولا أخذ أرش (¬1). وفي "الإفصاح" لابن هبيرة: اتفقوا على أن للمشتري الردَّ بالعيب الذي لم يعلم به حال العقد ما لم يحدث عنده عيبٌ آخر، وأن له إمساكه إن شاء بعد عثوره عليه، ثم اختلفوا فيه إذا أراد الإمساك، هل له المطالبة بالأرش؟ فقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: متى أراد الإمساك، ليس له المطالبة بالأرش، مع الإمساك، إلا الإمام أحمد، فإنه قال: له ذلك (¬2). والحاصل: أنَّ صاحب الشريعة شرَّع لنا هذا ومهده، وقد صحَّ من عدة طرق، فمخالفته غير سائغة بعد ثبوته في "الصحيحين"، و"السنن"، و"المسانيد"، وغيرها، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر هذه الإيرادات والجواب عنها في: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 119 - 123)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 345).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْع حَبَلِ الحَبَلَةِ، وَكانَ بَيْعًا يَتَبَايعُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ، كانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الجَزُورَ إلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2036)، كتاب: البيوع، باب: بيع الغرر وحبل الحبلة، و (2137)، كتاب: السلم، باب: السلم إلى أن تنتج الناقة، و (3630)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: أيام الجاهلية، ومسلم (1514/ 5 - 6)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع حبل الحبلة، وأبو داود (3380 - 3381)، كتاب: البيوع، باب: في بيع الغرر، والنسائي (4623 - 4624)، كتاب: البيوع، باب: بيع حبل الحبلة، و (4625)، باب: تفسير ذلك، والترمذي (1229)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في بيع حبل الحبلة، وابن ماجه (2197)، كتاب: التجارات، باب: النهي عن شراء ما في بطون الأنعام وضروعها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 420)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 236)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 136)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 363)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 157)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 125)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1110)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 231)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 58)، و"فتح الباري" لابن حجر =

قِيلَ: إِنَّهُ كانَ يَبيعُ الشَّارِفَ -وَهِيَ الكَبِيرَةُ المُسِنةُ- بِنِتَاجِ الْجَنِينِ الَّذِي فِي بَطْنِ نَاقَتِهِ. * * * (عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (- رضي الله عنهما -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى) نهيَ تحريم (عن بيع حَبَلِ الحَبَلَةِ). في تفسيره وجهان: أحدهما: أن يبيع إلى أن تحمل الناقة وتضع، ثم تحمل هذا البطن الثاني، وهذا باطل؛ لأنه بيع إلى أجل مجهول. الثاني: أن يبيع نتاج النتاج، وهو باطل -أيضًا-؛ لأنه بيع معدوم (¬1). قال النووي: هو -بفتح الحاء المهملة، والباء الموحدة- في حَبَل وحَبَلَة (¬2). وقال القاضي: رواه بعضهم -بإسكان الباء- في الأول، وهو قوله: حَبْل، وهو غلط، والصواب ما قال أهل اللغة، والحَبَلَةُ هنا جمعُ: حابل، كظالم وظَلَمة، وفاجر وفَجَرة، وكاتب وكَتَبَة. قال الأخفش: يقال: حبلت المرأةُ فهي حابل، والجمع نسوة حَبَلَة. وقال ابن الأنباري: الهاء في الحبلة للمبالغة، ووافقه بعضهم، واتفق ¬

_ = (4/ 356)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 71)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 63)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 14)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 243). (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 125). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 157).

أهل اللغة على أن الحبل مختص بالآدميات، وفي غيرهن يقال: الحمل، يقال: حبلت المرأة بولد، وحملت ولدًا، وحملت الشاة سخلة، ولا يقال: حبلت. قال أبو عبيد: لا يقال لشيء من الحيوان: حبل، إلا ما جاء في هذا الحديث (¬1). قال علماؤنا: ولا يصح بيعُ حبل الحبلة، ومعناه: نتاج النتاج، وهذا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى، وصاحبِه أبي عبيد القاسم بن سَلَّام، وآخرين من أهل اللغة، وبه قال الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وهو أقرب إلى اللغة من قول من قال: إنه البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدُها. وقد ذكر مسلم في هذا الحديث هذا التفسير، وبه قال مالك، والشافعي، ومن تابعهما، والذي ذكره مسلم هو ما قاله (¬2). قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة: أن تُنتج الناقةُ، ثم تحمل التي نُتجت، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا (¬3). ولفظ البخاري ما ذكره المصنف: (وكان) -أي: بيع حبل الحبلة- ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 208)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض، (1/ 175)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 344)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" (ص: 177)، "تهذيب الأسماء واللغات" (3/ 58)، و"شرح مسلم" ثلاثتها للنووي (10/ 157). (¬2) قاله النووي في "شرح مسلم" (10/ 158). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3630).

(بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية) قبل الإسلام، (كان الرجل يبتاع الجزور) إلى مدة غير معلومة، وهي: (إلى أن تنتج الناقة، ثم) إذا ولدت، يستمر الأجل ممتدًا إلى أن (تنتج) النتاج (التي) كانـ[ـت] (في بطنها). قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (قيل: إنه كان يبيع الشارف)، (وهي) الناقة (الكبيرة المسِنَّة) -أي: الطاعنة في السن- (بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته)، والسرُّ في النهي عنه؛ لأنه قد يفضي إلى أكل المال بالباطل، أو إلى التشاجر والتنازع المنافي للمصلحة الكلية (¬1). والحاصل: أن البيع على كلا التفسيرين باطل، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 125).

الحديث الرابع

الحديث الرابع وَعَنْه: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى البَائِعَ وَالمُشْتَرِي (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1415)، كتاب: الزكاة، باب: من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه، و (2072)، كتاب: البيوع، باب: بيع المزابنة، و (2082)، باب: بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، و (2087)، باب: إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ومسلم (1534)، كتاب: البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، وأبو داود (3367)، كتاب: البيوع، باب: في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، والنسائي (4519 - 4520، 4522)، كتاب: البيوع، باب: بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وابن ماجه (2214)، كتاب: التجارات، باب: النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. قلت: لفظ البخاري ومسلم: "نهى البائع والمبتاع" بدل "البائع والمشتري"، وقد رواه مسلم (1535)، كتاب: البيوع، باب: النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، بلفظ: "نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض، ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري". وقد رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، بلفظ: "نهى البائع والمشتري"، كما تقدم تخريجه عنهم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 303)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 167)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 387)، و"شرح =

(وعنه)؛ أي: عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: (أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن بيع الثمرة) من النخل، والكرم، وغيرهما، ويستمر ذلك مصحوبًا بالنهي، (حتى)؛ أي: إلى أن (يبدو)، أي: يظهر ويبين (صلاحُها)، بأن تصير على الصفة التي تطلب منه، بخلاف بيعه قبل ذلك، فإنه لا يجوز إلا بشرط القطع، لاحتمال عُروض آفة، وفي ذلك إجراء الحكم على الغالب، إذ تطرقُ التلف إلى ما بعد صلاحه، وعدمُ تطرقه إلى ما لم يبد صلاحه ممكن، فأنيط الحكم بالغالب في الحالين (¬1)، (نهى) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (البائعَ والمشتريَ) عن ذلك، تأكيدًا لما فيه من بيان أن المنع، وإن كان لمصلحة الإنسان، فليس له أن يرتكب النهي فيه قائلًا: أسقطت حقي من اعتبار المصلحة، ألا ترى أنَّ هذا المنع لأجل مصلحة المشتري؟ فإنَّ الثمار قبل بدوِّ صلاحها عرضة للعاهات، فإذا حصل منها شيء، أجحف بالمشتري في الثمن الذي بذله، ومع هذا، فقد منعه الشرع، ونهى المشتري، كما نهى البائع، قطعًا للنزاع والتخاصم، وأكثر علماء الأمة على أنَّ هذا النهي نهيُ تحريم، إلا أنهم أخرجوا من هذا العموم بيعها بشرط القطع (¬2). ¬

_ = مسلم" للنووي (10/ 178)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 126)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1112)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 232)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 124)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 352)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 82)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 90)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 46)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 275). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 399). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 126 - 127).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قِيلَ: وَمَا تُزْهِي؟ قَالَ: "تَحْمَرُّ أَوْ تَصْفَرُّ"، قَالَ: "أَرَأيتَ إِذَا مَنَعَ اللهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟ " (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1417)، كتاب: الزكاة، باب: من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه، و (2083)، كتاب: البيوع، باب: بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، و (2085)، باب: بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها، و (2086)، باب: إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ثم أصابته عاهة، فهو من البائع، و (2094)، باب: بيع المخاضرة، ومسلم (1555/ 15 - 16)، كتاب: المساقاة، باب: وضع الجوائح، والنسائي (4526)، كتاب: البيوع، باب: شراء الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وابن ماجه (2217)، كتاب: التجارات، باب: النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 303)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 218)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 387)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 216)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 127)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1113)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 234)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 397)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 84)، و"إرشاد الساري"، للقسطلاني (4/ 90)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 275).

(عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالك - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن بيع الثمار حتى تُزْهيَ) -بضم التاء، وبالياء-، وفي لفظ: تَزْهو -بفتح التاء، وبالواو (¬1) -، ويقال: زها يزهو: طال واكتمل، وأزهى يُزهي: إذا احمرَّ أو اصفرَّ، (¬2) ومن ثمَّ قال: (قيل: وما تزهي؟ قال: تحمرُّ أو تصفرُّ)، وهذا التفسير من قول سعيد بن ميناء، كما بينه الإمام أحمد - رضي الله عنه - (¬3)، والمراد من الاحمرار والاصفرار: الحمرة والصفرة، لكنهم إذا أرادوا اللون من غير تمكن، قالوا: حَمُر -بفتح الحاء وضم الميم-، وصَفُر كذلك، فإذا تمكن، قالوا: احمرَّ واصفرَّ، فإذا زاد في التمكن، قالوا: احمارَّ واصفارَّ؛ لأن الزيادة تدل على التكثير والمبالغة (¬4). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن بيع العنب حتى يسودَّ، وعن بيع الحبِّ حتى يشتدَّ (¬5). قال في "المنتهى وشرحه": وصلاحُ بعضِ ثمرةِ شجرةٍ صلاحٌ لجميع ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2083)، ومسلم برقم (1555/ 15). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 398)، وانظر: "معالم السنن" للخطابي (5/ 41)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 312). (¬3) رواه الإمام أحمد في "مسنده" (3/ 361)، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 397). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 221)، وأبو داود (3371)، كتاب: البيوع، باب: في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، والترمذي (1228)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وابن ماجه (2217)، كتاب: التجارات، باب: النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها.

أشجار نوعها الذي بالبستان الواحد؛ لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشقُّ (¬1). وفي "الفروع": وإذا بدا صلاح بعض نوع. ونقل حنبل عن الإمام أحمد: غلب. وقاله القاضي وغيره في شجرة: بيع جميعه، وعلى الأصح: وبستان، وعنه: ما قاربه، وفاقًا لمالك، وعنه: الجنس كالنوع. قال: واختار شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-: وبقية الأجناس التي تباع حكمه عادة، كان أفرد بالبيع ما لم يصلح منه، لم يصح، انتهى (¬2). قال ابن هبيرة: اتفقوا على أنه إذا اشترى ثمرة لم يبدُ صلاحها بشرط قطعها: أنَّ البيع جائز (¬3). قال في "الإقناع": لا يصح بيعُ الثمرة قبل بدوِّ صلاحها، ولا الزرع قبل اشتداد حبِّهِ، إلا بشرط القطع في الحال إن كان منتفَعًا به حينئذٍ، ولم يكن مشاعًا، فلا يصح شرط القطع؛ لأنه لا يمكنه قطعه إلا بقطع ما لا بملكه، وليس له ذلك، إلا أن يبيعه مع الأصل، بأن يبيع الثمرة مع الشجر، أو الزرعَ مع الأرض، أو يبيع الثمرة لمالك الأصل، والزرعَ لمالك الأرض، فيجوز (¬4)، ونقل ابن هبيرة الاتفاق على صحة ذلك. قال ابن هبيرة: ثم اختلفوا فيما إذا اشتراها -يعني: قبل بدوِّ ¬

_ (¬1) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 376)، و"شرح المنتهى" للبهوتي (3/ 287). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 57). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 339). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 24).

صلاحها-، ولم يشترط قطعها، فقال مالك، والشافعي، وأحمد: البيع باطل، وقال أبو حنيفة: صحيح، ويؤمر بقطعها، وفائدة الخلاف في المسألة في محلين: أحدهما: البيع فاسد عندهم، وعنده صحيح. والثاني: إطلاق البيع وترك الاشتراط فيه يقتضي التبقية عندهم، وعنده يقتضي القطع. قال: واتفقوا على أن بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها بشرط التبقية لا يصح، واختلفوا فيما إذا باعها بعد بدوِّ صلاحها بشرط التبقية إلى الجذاذ، فقال الثلاثة: يصح. وقال أبو حنيفة: إذا اشترط ذلك، بطل البيع، فإذا اشترها قبل بدوِّ صلاحها بشرط القطع، فلم يقطعها حتى بدا صلاحها، وأتى عليها أوانُ جذاذها، فقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: العقد صحيح، والثمرة بزيادتها للمشتري، ومعتمد مذهب الإمام أحمد: يبطل البيع بزيادته، نعم يُعفى عن يسيرها (¬1). (قال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيتَ إذا منعَ اللهُ الثمرةَ) أن تطيبَ ويبدوَ صلاحُها (بمَ) بحذف ألف (ما) الاستفهامية على الأفصح، لدخول حرف الجر عليها (¬2) أي: بأي شيء (يستحلُّ أحدُكم)؛ أي: يعتقده حلالًا (مالَ أخيه؟)، وفيه من التعطف والرأفة مالا يخفى. وفي حديث جابر - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: وضع الجوائح، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي (¬3)، وفي لفظ عند مسلم: أمرَ ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 339 - 340). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 90). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 309)، وأبو داود (3374)، كتاب: البيوع، =

بوضع الجوائح (¬1)، وفي لفظ: قال: "إن بعتَ من أخيك ثمرًا، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذُ مالَ أخيك بغير حق؟ " رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه (¬2). والجوائح: جمع جائحة، وهي الآفة التي تُهلك الثمار والأموال، وتستأصلها مصيبةٌ عظيمة، وفتنة مبيرة. وجاح اللهُ المال وأجاحه: أهلكه، كما في "المطلع" (¬3). وفي "المطالع": أصابته جائحة؛ أي: مصيبة اجـ[ـــتـ] احت ماله؛ أي: استأصلته، ومنه: جائحةُ الثمار، ومنه: قوله: اجتاح أصلها؛ أي: استأصله الهلاك، ومنه: فأَهلكهم واجتاحهم؛ أي: استأصلهم (¬4). قال في "المنتهى وشرحه": وما تلف من ثمر على أصوله قبل أوان جذاذه، سوى يسير منه لا ينضبط لقلته بجائحة، وهي مالا صنعَ لآدميٍّ فيها، كالريح والحر والبرد والعطش، ولو كان التلف بعد قبض بالتخلية، فضمانه على بائع، لما ذكرنا من الأحاديث، ولأن التخلية في ذلك ليس بقبض تام؛ لأن على البائع المؤنة إلى تتمة صلاحه، فوجب كونه في ضمان ¬

_ = باب: في بيع السنين، والنسائي (4529)، كتاب: البيوع، باب: وضع الجوائح، واللفظ له. (¬1) رواه مسلم (1554/ 14)، كتاب: المساقاة، باب: وضع الجوائح. (¬2) رواه مسلم (1554/ 17)، كتاب: المساقاة، باب: وضع الجوائح، وأبو داود (3470)، كتاب: الإجارة، باب: في وضع الجائحة، والنسائي (4527)، كتاب: البيوع، باب: وضع الجوائح، وابن ماجه (2219)، كتاب: التجارات، باب: بيع الثمار سنين والجائحة. (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 244). (¬4) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 164).

بائع، كما لو لم يُقبض، ولأن الثمر على الشجر كالمنافع في الإجارة تؤخذ شيئًا فشيئًا، ثم لو تلفت المنافع قبل استيفائها، كانت من ضمان المؤجر، كذا هنا، ومحل كونها من ضمان البائع ما لم تُبع مع أصلها، لحصول القبض التام وانقطاع علق البائع عنه، أو ما لم يؤخر المشتري أخذها عن عادته، لتفريطه (¬1). ومذهب أبي حنيفة، وأظهر قولي الشافعي: أن جميع ذلك من ضمان المشتري، فلا يوضع له شيء منها. وقال مالك: يوضع للجائحة إذا أتت على ثلث الثمرة فأكثر، فهو من ضمان البائع، فيوضع عن المشتري، وإن كان دون ذلك، فهو من ضمان المشتري، وهي رواية عن أحمد، ومعتمد مذهبه: أنها من ضمان بائع، قلَّ أو كثر (¬2). ومالك: يشترط في جواز وضع الجائحة عن المشتري إذا اشترى ثمرة، واحتاجت إلى التبقية على رؤوس النخل، فإنها إذا كانت غير محتاجة إلى التبقية، لا تكون عنده من ضمان بائع، كان تلف كله (¬3). قلت: وما ذكرنا من الأحاديث تؤيد ما ذهب إليه الإمام أحمد، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 378)، و"شرح المنتهى" للبهوتي (3/ 292). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 58). (¬3) انظر: "المدونة" لابن القاسم (12/ 26).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: نهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تُتَلَقَّى الرُّكبَانُ، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، قَالَ: فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟ قَالَ: لاَ يَكُونُ لَهُ سِمسَارًا (¬1). * * * (عن) حبر الأمة وأبي الأئمة (عبدِ الله بنِ عباس - رضي الله عنهما -، ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2055)، كتاب: البيوع، باب: هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟ وهل يعينه أو ينصحه؟ و (2055)، باب: النهي عن تلقي الركبان، و (2154)، كتاب: الإجارة، باب: أجر السمسرة، ومسلم (1521)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الحاضر للبادي، وأبو داود (3439)، كتاب الإجارة، باب: في النهي أن يبيع حاضر لباد، والنسائي (4500)، كتاب: البيوع، باب: التلقي، وابن ماجه (2177)، كتاب: التجارات، باب: النهي أن يبيع حاضر لباد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 110)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 367)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 164)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 129)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1115)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 370)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 282)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 71)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 21)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 264).

قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) نهيَ تحريم -كما تقدم- (أن تُتَلَقَّى) -بضم التاء الأولى مبنيًا لما لم يسم فاعله- (الركبانُ) -بالرفع- نائبُ فاعل، وتقدم في حديث أبي هريرة -ثاني أحاديث الباب-. (و) نهى - صلى الله عليه وسلم - (أن يبيعَ حاضر) بالبلد عارفٌ بالسعر (لبادٍ)؛ أي: قادم على بلد من غير أهلها-، سواء كان من أهل البادية، أو من أهل القرى؛ لأن العلة واحدة. (قال) طاوس: (فقلت لابن عباس) - رضي الله عنهما -: (ما قوله) - صلى الله عليه وسلم -: (حاضر لباد)؟ (قال) ابن عباس- رضي الله عنهما -: (لا يكونُ) الحاضرُ (له)؛ أي: للبادي (سمسارًا). قال في "القاموس": السمسار -بالكسر-: المتوسط بين البائع والمشتري، والجمع: سماسرة، والسمسار -أيضًا-: مالكُ الشيء وقَيِّمُه، والسفير بين المحبين، وسمسار الأرض: العالم بها، وهي بهاء، والمصدر: السمسرة، انتهى (¬1). والمراد هنا: الأول. قال في "المنتهى وشرحه": كان حضر بادٍ -أي: قدم على بلد إنسانٌ من غير أهلها-، لبيع سلعة بسعر يومها، أَو جهل السعرَ، وقصده -أي: قصدَ القادمَ- لبيع سلعته حاضرٌ بالبلد عارفٌ بالسعر، وكان بالناس إلى السلعة التي حضر القادم بها ليبيعها حاجةٌ، حرمت مباشرة الحاضرِ القاصدِ القادمَ لبيع سلعته للبيع له -أي: للقادم بالسلعة-، وبطل البيع على الأصح، سواء رضي أهل البلد بذلك، أو لا، وفي الأصح: فإن فقد شيء مما ذكر، بأن قدم لا لبيع سلعته، أو لبيعها، ولكن لا يجهل السعر، أو جهله، ولكن لم يقصده الحاضرُ العارف بالسعر، أو قصده، وكان غيرَ عارف بالسعر، أو ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 526)، (مادة: سمر).

كان كذلك، ولكن لم يكن بالناس حاجةٌ إلى السلعة، صح البيع، كشراء الحاضر للبادي، كان وجدت هذه الشروط كلها، بطل البيع على الأصح، نص عليه الإمام أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، وكذا في مذهب مالك على إحدى الروايتين عنه، وقال مالك في رواية أخرى: يفسخ العقد عقوبةً، وروي عنه: لا يفسخ، وكرهه أبو حنيفة، والشافعي، مع صحته عندهما، ولا يخفى قوة القول ببطلانه، لظاهر الحديث (¬1). وفي حديث ابن عمر- رضي الله عنهما -: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد. رواه البخاري، والنسائي (¬2). وفي حديث جابر - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزقُ الله بعضُهم من بعض" رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬3). وفي حديث أنس - رضي الله عنه -: نُهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه لأبيه وأمه. متفق عليه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "منتهى الإرادات مع شرحه" للفتوحي والبهوتي (3/ 160). (¬2) رواه البخاري (2051)، كتاب: البيوع، باب: من كره أن يبيع حاضر لباد بأجر، والنسائي (4497)، كتاب: البيوع، باب: بيع الحاضر للبادي. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 307)، ومسلم (1522)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الحاضر للبادي، وأبو داود (3442)، كتاب: الإجارة، باب: في النهي أن يبيع حاضر لباد، والنسائي (4495)، كتاب: البيوع، باب: بيع الحاضر للبادي، والترمذي (1223)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء: لا يبيع حاضر لباد، وابن ماجه (2176)، كتاب: التجارات، باب: النهي أن يبيع حاضر لباد. (¬4) روى البخاري (2053)، كتاب: البيوع، باب: لا يبيع حاضر لباد بالسمسرة، ومسلم (1523/ 21)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الحاضر للبادي، =

ولأبي داود والنسائي: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أباه أو أخاه (¬1). فهذه الأحاديث -مع تنوع مخارجها واتحاد معانيها- تدل دلالة ظاهرة على ما ذهب إليه الإمام أحمد؛ لأن النهي فيها وارد على نفس البيع، فلا جرم قلنا ببطلانه حيث وجدت فيه الشروط التي ذكرناها. قال علماؤنا وغيرهم: والمعنى في ذلك: أن البادي إذا تُرك يبيع سلعته، ربما باعها برخص، وهو الغالب، فتحصل التوسعةُ على الناس، بخلاف ما إذا تولى الحاضر، فإنه لا يبيع إلا بسعر البلد، وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: "دعوا الناس يرزق اللهُ بعضَهم من بعض" (¬2). قال في "الفروع": وإن أشار حاضر على باد، ولم يباشر له بيعًا، لم يكره، خلافًا لما لك. قال: ويتوجه: إن استشاره، وهو جاهل بالسعر، لزم بيانه، لوجوب النصح، كان لم يستشره، ففي وجوب إعلامه -إن اعتقد جهلَه به- نظرٌ، بناء على أنه هل يتوقف وجوب النصح على استنصاحه؟ ويتوجه: وجوبه. وكلام الأصحاب لا يخالف هذا، انتهى (¬3). ¬

_ = واللفظ له، لكنه قال: "وإن كان أخاه وأباه". (¬1) رواه أبو داود (3440)، كتاب: الإجارة، باب: في النهي أن يبيع حاضر لباد، والنسائي (4492)، كتاب: البيوع، باب: بيع الحاضر للبادي، لكن بلفظ الشيخين سواء. ورواه بلفظ: "وإن كان أخاه لأبيه وأمه": ابن أبي شيبة في "المصنف" (20905). (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. وانظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 150)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 160). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 35).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: نهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُزَابَنَةِ، والمُزَابَنهُ: أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إنْ كَانَ نَخْلًا بتَمرٍ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ كَرمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبيبٍ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2063 - 2064)، كتاب: البيوع، باب: بيع الزبيب بالزبيب، والطعام بالطعام، و (2072 - 2073)، باب: بيع المزابنة، و (2091)، باب: بيع الزرع بالطعام كيلًا، ومسلم (1542/ 72 - 76)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالثمر إلا في العرايا، وأبو داود (3361)، كتاب: البيوع، باب: في المزابنة، والنسائي (4533)، كتاب: البيوع، باب بيع الشمر بالثمر، و (4549)، باب: بيع الزرع بالطعام، وابن ماجه (2265)، كتاب: التجارات، باب: المزابنة والمحاقلة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 332)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 194)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 390)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 188)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 130)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1116)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 130)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 384)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 290)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 82)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 44)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 307)

(عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) الفاروقِ (- رضي الله عنهما -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة). قال: (والمزابنة): مفاعلة من الزَّبْن، وهو الدفع، وحقيقتها: بيعُ معلوم بمجهول من جنسه (¬1)، وفسرها في الحديث: بـ (أن يبيعَ) الشخصُ (ثمرَ حائطِه)، أي: بستانه (إن كان) حائطُه (نخلًا بتمرٍ كيلًا، وإن كان) حائطُه (كرمًا أن يبيعَه بزبيبٍ)، وهو ذاوي العنب. قال القاضي عياض في "المشارق" في النهي عن بيع الكرم بالزبيب: وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يقال للعنب: الكرم (¬2)، فيكون هذا الحديث قبل النهي عن تسميته كرمًا، وسمت العرب العنب كرمًا، لكرم ثمرته، وامتداد ظلها، وكثرة حملها، وطيبهِ، وتذلله للقطف، ليست بذي شوك ولا ساق، ويؤكل غضًا وطريًا، وزبيبًا يابسًا، ويدخر للقوت، ويتخذ شرابًا، وأصل الكرم: الكثرة والجمع للخير، وبه سمي الرجل كريمًا، لكثرة خصال الخير فيه، ونخلة كريمة، لكثرة حملها، فكان المؤمن أليق باسم الكرم، وأعلقَ به، لكثرة خيره ونفعه، واجتماع الخصال المحمودة فيه، من السخاء وغيره (¬3). (كيلًا) لإفضائه إلى الربا؛ لأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، (وإن كان) المبتاع (زرعًا)، نهى -عليه الصلاة والسلام- (أن يبيعه بكيلِ طعامٍ) بالإضافة، والمراد به: ما تجري فيه علة الربا من نوعه، كأن يبيعه زرعَ البُرِّ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 130). (¬2) رواه البخاري (2528)، كتاب: الأدب، باب: لا تسبوا الدهر، ومسلم (2247)، كساب: الألفاظ من الأدب، وغيرها، باب: كراهة تسمية العنب كرمًا، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 338 - 339).

ببرٍّ، وزرعَ الشعيرِ بشعيرٍ، ونحو ذلك، وتسمى هذه: المحاقلة -كما تأتي قريبًا-. (نهى) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن ذلك كلِّه)، وسميت هذه البيوع مزابنة، من الزبن الذي هو الدفع، كأن كل واحد منهما يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه (¬1). قال صاحب "المطالع": المزابنة والزبن: بيعُ معلوم بمجهول من جنسه، [أو بيع مجهول بمجهول من جنسه (¬2)] مأخوذ من الزبن، وهو الدفع، لما يقع من الاختلاف بين المتبايعين، فكل واحد يدفع صاحبه عما يرومه منه، انتهى (¬3). وفسرها بعضهم ببيع الزرع بالحنطة، وبكل ثمر يخرصه (¬4). وقال في "المنتهى وشرحه"، كغيره من علمائنا: ولا يصح بيعُ المزابنة، وهي بيع الرطب على النخل بالتمر (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 294). (¬2) ما بين معكوفين ساقط من "ب". وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 309). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 130). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 240). (¬5) انظر. "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 253).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: نَهى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُخَابَرَةِ، والمُحَاقَلَةِ، وعَنِ المُزَابَنَةِ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُها، وَأَلَّا تُبَاعَ إِلَّا بِالدِّينَارِ وَالدّرهمِ، إِلَّا العَرَايَا (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1416)، كتاب: الزكاة، باب: من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه، و (2077)، كتاب: البيوع، باب: بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة، و (2252)، كتاب: المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، ومسلم (1536/ 81 - 85)، كتاب: البيوع، باب: النهي عن المحاقلة والمزابنة، وأبو داود (3373)، كتاب: البيوع، باب: في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، والنسائي (388، 3883، 3920)، كتاب: المزارعة، باب: ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عند كراء الأرض بالثلث والربع، والترمذي (1290)، البيوع، باب: ما جاء في النهي عن الثنيا، و (1313)، باب: ما جاء في المخابرة والمعاومة، وابن ماجه (2266)، كتاب: التجارات، باب: المزابنة والمحاقلة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 97)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 401)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 192)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 131)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1117)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 11)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 224)، و"إرشاد الساري) للقسطلاني (4/ 84)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 19).

المُحَاقَلة: بَيْعُ الحِنْطةِ فِي سُنْبِلَها بِحِنْطَةٍ. * * * تقدَّم الكلام على بيع المحاقلة والمزابنة والثمرة قبل بُدوِّ صلاحها. (عن) أبي عبد الله (جابرِ بن عبدِ الله - رضي الله عنهما -، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عن المخابرة)، وهي المزارعة بجزء -ويأتي ما فيها في الحديث التاسع والعاشر من باب الرهن وغيره إن شاء الله تعالى-. (والمحاقلة)، ويأتي في كلام المصنف تفسيرها، (وعن المزابنة) -المتقدم ذكرها-، (و) نهى (عن بيع الثمرة) من النخل والكرم وغيرهما (حتى يبدوَ صلاحُها، وأَلَّا تباعَ) الثمرةُ مما يجري فيه علة الربا بما يجري فيه علة الربا، فلا يباع التمر بالحنطة إلا يدًا بيد، كان جاز التفاضل، ولا الزبيب بنحو الشعير إلا كذلك، يعني: بشرط القبض قبل التفرق من مجلس العقد (إلا بالدينار والدرهم) المضروبَيْن، فإنهما وإن جرت فيهما علة الربا، لم يمتنع أن يشتري بهما المكيلات والموزونات؛ لأَنهما قيم الأشياء. نعم، يجوز أن يشتري الثمرة بعد بدوِّ صلاحها بمال متقوم لا تجري فيه علة الربا من نحو مواشي وأواني وكراع وغيرها، وقوله: (إلا العرايا) استثناءٌ من النهي عن بيع المزابنة -ويأتي قريبًا-. قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (المحاقلة): مفاعلة من الحقل، وهو الزرع إذا تشعَّب قبل أن يغلظ سوقه، وقبل: الحقل: الأرض التي تزرع كما في "المطلع" (¬1). وفي "المطالع": المحاقلة: كراء الأرض بالحنطة، أو كراؤها بجزء مما ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 240).

يخرج منها، وقيل: بيع الزرع قبل طيبه، انتهى (¬1). والمعتمد: ما قاله المصنف: إنه: (بيعُ الحنطةِ في لسُنبلها)، والسنبلة: -بالضم-: واحدة سنابل الزرع (بحنطة). قال في "المنتهى وشرحه": ولا يصح بيع المحاقلة، وهي بيع الحب المشتد في سنبله، من بر أو شعير بجنسه؛ لأن التساوي مجهول، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، ويصح بيعه بحبِّ غيرِ جنسه، كما لو كان أحدهما برًا، والآخر شعيرًا؛ لأن اشتراط التساوي منتفٍ مع الجنسين (¬2). قال في "الفروع": وتحرم المحاقلة، وهي بيع الحب المشتد -ولم يقيده جماعة بمشتد- في سنبله بجنسه، قال: وفي بيعه بمكيل غير جنسه وجهان، ويصح بغير مكيل، وخص الشيخ الموفق وغيره الخلافَ بالحب، انتهى (¬3). ومعتمد المذهب: يصح بغير جنسه، مكيلًا كان أو غيره، والله أعلم. ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 209) (¬2) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 252). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 118).

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عَنْ ثمن الكَلْبِ، وَعَنْ مَهْرِ البَغِيِّ، وحُلْوَانِ الكَاهِنِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2122)، كتاب: البيوع، باب: ثمن الكلب، و (2162)، باب: كسب البغي والإماء، و (5531)، كتاب: الطلاق، باب: مهر البغي والنكاح الفاسد، و (5428)، كتاب: الطب، باب: الكهانة، ومسلم (1567)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب، وحلوان الكاهن، ومهر البغي، وأبو داود (3428)، كتاب: الإجارة، باب: في حلوان الكاهن، و (3481)، باب: في أثمان الكلاب، والنسائي (4292)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: النهي عن ثمن الكلب، و (4666)، باب: بيع الكلب، والترمذي (1133)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في كراهية مهر البغي، و (1275)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في ثمن الكلب، و (2071)، كتاب: الطب، باب: ما جاء في أجر الكاهن، وابن ماجه (2159)، كتاب: التجارات، باب: النهي عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 104)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 428)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 67)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 239)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 443)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 231)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 134)، =

(عن أبي مسعود) عقبةَ بنِ عمرٍ و (الأنصاريِّ) النَّجَّاريِّ (- رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نهى عن ثمنِ الكلبِ)، قد اختلف العلماء في بيع الكلب المعلَّم، فمنع صحةَ بيعه مطلقًا الإمامُ أحمد. قال في "الفروع": لا يصح بيعُ كلبٍ، وخمرٍ (¬1). قال في "الإقناع": ولا كلب، ولو مباح الاقتناء، ومن قتله وهو معلَّم، أساء؛ لأنه فعل محرمًا، ولا غُزمَ عليه؛ لأن الكلب لا يملك، ويحرم اقتناؤه، كخنزير، ولو لحفظ البيوت ونحوها، إلا كلبَ ماشية وصيد وحرث إن لم يكن أسود بهيمًا، أو عقورًا- وتقدم (¬2)، وكذا منع صحة بيع الكلب مطلقًا الإمامُ الشافعي، وعند أبي حنيفة: يصح بيع المعلم، وعن مالك: كالمذهبين. وقال الحارثي من علمائنا (¬3) عند قول "المقنع": ولا يصح وقف الكلب: والصحيح اختصاصُ النهي عن البيع بما عدا كلبَ الصيد، بدليل ¬

_ = و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1118)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 426)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 56)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 114)، و"سبل السلام " للصنعاني (3/ 7)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 238). (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 6). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 158 - 159). (¬3) هو الحافظ الفقيه المحدث مسعود بن زيد الحارثي أبو محمد البغدادي المصري، المتوفى سنة (711 هـ)، قال ابن رجب: شرح قطعة من كتاب "المقنع" في الفقه من العارية إلى آخر الوصايا. انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 363). وقد ذكر الشيخ أبو بكر أبو زيد في "المدخل المفصل" (2/ 726): أنه له نسخة خطية بدار الكتب المصرية.

رواية حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر- رضي الله عنه-، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب، والسنور، إلا كلبَ صيد، والإسناد جيد (¬1)، قال: فيصح وقفً المعلَّم؛ لأَن بيعه جائز، انتهى (¬2). وفي "حياة الحيوان": ولا يصح بيع جميع الكلاب عندنا -يعني: الشافعية-، خلافًا لمالك، فإنه أباح بيعها. قال سحنون: ويحج بثمنها. قال أبو حنيفة: يجوز بيع غير العقور، انتهى (¬3). (و) نهى - صلى الله عليه وسلم - (عن مهر البَغِيِّ)، وهو ما تأخذه على زناها، سماه مهرًا مجازًا، واستعمالًا للوضع اللغوي، ويجوز أن يكون من مجاز التشبيه إن لم يكن المهر في الأصل ما يقابل بِه النكاح (¬4). (و) نهى عن (حُلوان الكاهن): وهو ما يُعطاه عن كهانته، والإجماع قائم على تحريم هذين، لما في ذلك من بذل الأعراض فيما لا يجوز مقابلته بالعوض. ¬

_ (¬1) رواه النسائي (4668)، كتاب: البيوع، باب: ما استثني، وقال: هذا منكر -أي: الاستثناء-، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 58)، والدارقطني في "سننه" (3/ 73)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 6)، وقال: والأحاديث الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن ثمن الكلب خالية عن هذا الاستثناء، وإنما الاستثناء في الأحاديث الصحاح في النهي عن الاقتناء، ولعله شبه على من ذكر في حديث النهي عن ثمنه من هؤلاء الرواة الذين هم دون الصحابة والتابعين، والله أعلم. (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 280). (¬3) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 772). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 135).

أما الزنا: فظاهر. وأما الكهانة: فبطلانها، وأخذُ العوض عنها من باب أكل المال بالباطل، وفي معناها كل ما يمنع منه الشرع (¬1). قال في "النهاية": الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، وقد كان في العرب كهنة، كشِقٍّ، وسَطيحٍ، وغيرهما، فمنهم من كان يزعم أن له تابعًا من الجن وربيبًا يلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل كما على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم العرَّاف، كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق، ومكان الضالة ونحوهما، وجمع الكاهن: كَهنة، وكُهَّان (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 214 - 215).

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنْ رَافع بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "ثَمَنُ الكَلْبِ خَبِيث، وَمَهْرُ البَغِيِّ خَبِيث، وكَسْبُ الحَجَّامِ خَبِيث" (¬1). ¬

_ (¬1) * في تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (1568/ 40 - 41)، كتاب: المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب، وحلوان الكاهن، ومهر البغي، وأبو داود (3421)، كتاب: الإجارة، باب: في كسب الحجام، والنسائي (4294)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: النهي عن ثمن الكلب، والترمذي (1275)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في ثمن الكلب. قلت: لم يخرجه البخاري في "صحيحه" من رواية رافع بن خديج - رضي الله عنه -، وإنما هو من أفراد مسلم، كما نبه عليه الحافظ عبد الحق الإشبيلي في "الجمع بين الصحيحين" (2/ 519)، حديث رقم: (2655)، وقد فات الشارح -رحمه الله- التنبيه عليه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 102)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 275)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 239)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 445)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 231)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 135)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1112)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 235)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 80)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 22).

(عن) أبي عبد الله (رافعِ بنِ خَديجٍ) -بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة، وبالجيم- ابنِ رافعِ بنِ عديِّ بنِ زيدِ بنِ عمرِو بنِ يَزِيدَ -بفتح المثناة تحت وكسر الزاي- بنِ جُشَمَ -بضم الجيم وفتح الشين المعجمة ابنِ حارثةَ بنِ الحارثِ بنِ الخزرجِ، الحارثيِّ، الأنصاريِّ، الأوسيِّ، من أهل المدينة، لم يشهد بدرًا، لصغره، وشهد أُحدًا، والخندق، وأَكثر المشاهد، وأصابه سهم يوم أُحد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أشهد لك يوم القيامة"، ثم انتقضت جراحته في زمن عبد الملك بن مروان، فمات سنة ثلاث وسبعين، وقيل: أربع وسبعين بالمدينة، وله ست وثمانون سنة، وقيل: مات في زمن معاوية. روى عنه: ابنه عبد الرحمن، وابن عمر، ومحمود بن لبيد، والسائب بن يزيد، وحنظلة بن قيس، وعطاء بن صهيب -مولاه-، والشعبي، ومجاهد. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وسبعون حديثًا، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة (- رضي الله عنه -) (¬1). (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثمن الكلب خبيث). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 299)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 479)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 121)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 479)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 232)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 186)، و"تهذيب الكمال" للمزي (9/ 22)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 181)، وقال: وكان - رضي الله عنه - صحراويًا عالمًا بالمزارعة والمساقاة، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 436)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 198).

قال النووي: في الحديث الآخر: "شرُّ الكسب مهرُ البغي، وثمنُ الكلب، وكسبُ الحجَّام" (¬1). قال النووي: وأما النهي عن ثمن الكلب، وكونه شرَّ المكاسب، وكونه خبيثًا، فيدل على تحريم بيعه، وأنه لا يصح بيعه، ولا يحل ثمنه، ولا قيمة على متلفه، سواء كان معلمًا، أم لا، وسواء كان مما يجوز اقتناؤه، أم لا، وبهذا قال جماهير العلماء، منهم: أبو هريرة، والحسن البصري، وربيعة، والأوزاعي، والحكم، وحماد، والشافعي، وأحمد، وداود، وابن المنذر. وقال أبو حنيفة: يصح بيع الكلاب التي فيها منفعة، وتجب القيمة على متلفها. وحكى ابن المنذر عن جابر، وعطاء، والنخعي جواز بيع كلب الصيد دون غيره، وعن مالك رويتان: إحداهما: لا يجوز بيعه، ولكن تجب القيمة على متلفه. والثانية: يصح بيعه، وتجب القيمة، وقيل عنه: لا يصح، ولا تجب القيمة على متلفه. ودليل الجمهور ما ذكرنا من الأحاديث، وأما الأحاديث الواردة في النهي عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد (¬2)، وفي رواية: إلا كلبًا [ضاريًا] (¬3)، وأن عثمان - رضي الله عنه - غرم إنسانًا ثمن كلب قتله عشرين بعيرًا (¬4)، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1568/ 40). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في الأصل: "صائدًا" والصواب ما أثبت، وقد رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (8703)، والدارقطني في "سننه" (3/ 73)، وغيرهما من حديث أبي هريرة. (¬4) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (3/ 12)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 7).

وعن ابن عمرو بن العاص التغريم في إتلافه، فكلها ضعيفة باتفاق أئمة الحديث (¬1). (ومهرُ البَغِيِّ خبيثٌ)؛ لأنَّه عوضٌ عن محرَّم، فلا يطيب، ولا يحلُّ- كما تقدم. (وكسب الحجَّام خبيثٌ)، قال الأكثرون من السَّلف والخلف: لا يحرم كسب الحجَّام، ولا يحرم أكله، لا على الحرِّ، ولا على العبدِ، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وفي رواية عنه قال بها فقهاء المحدثين: يحرم على الحرِّ دون العبدِ (¬2). قال ابن دقيق العيد: والخبيث من حيث هو لا يدل على الحرمة صريحًا، ولذا جاء في كسب الحجَّام أنَّه خبيث، ولم يحمل على التحريم، لدليل خارجي، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتجم، وأعطى الحجَّام أجره، وهو في "الصحيحين" من حديت ابن عباس - رضي الله عنهما -، ولو كان حرامًا، لم يعطه (¬3). وحملوا هذه الأحاديث التي فيها النهي على التنزيه، والارتفاع عن دنيء الاكتساب، والحث على مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، ولو كان حرامًا، لم يفرِّق فيه بين الحرِّ والعبدِ، فإنه لا يجوز للرجل أن يطعم عبدَه ما لا يحلُّ (¬4). قال في "النهاية": قال الخطابي: قد يجمع الكلام بين القرائن في ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 232 - 233). (¬2) المرجع السابق، (10/ 233). (¬3) رواه البخاري (2158 - 2159)، كتاب: الإجارة، باب: خراج الحجام، ومسلم (1202)، كتاب: المساقاة، باب: حل أجرة الحجامة، وأنظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 135 - 136). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 233).

اللفظ، ويفرَّق بينها في المعنى، ويعرف ذلك من الأغراض والمقاصد، فأما مهر البغي، وثمن الكلب، فيريد بالخبيث فيهما: الحرام؛ لأن الكلب نجس، والزنا حرام، وبذل العوض عليه وأخذه حرام، وأما كسب الحجَّام، فيريد بالخبيث: الكراهة؛ لأن الحِجَامة مباحة، وقد يكون الكلام في الفعل الواحد بعضه على الوجوب، وبعضه على الندب، وبعضه على الحقيقة، وبعضه على المجاز، ويفرق بدلائل الأصول واعتبار معانيها. انتهى (¬1). على أن دلالة الاقتران ضعيفة. وذكر الإمام المحقِّق ابن القيِّم: أن دلالة الاقتران تظهر قوتها في موطن، وضعفها في موطن، ويتساوى الأمران في موطن، وذكر لذلك أمثلة، ثم قال: ولقائلٍ أن يقول: اشتراك المستحب والمفروض في لفظٍ عام لا يقتضي تساويهما، لا لغةً ولا عرفًا، فإنهما إذا اشتركا في شيء، لم يمتنع افتراقهما في شيء، ثم قال: وأما الموضع الذي يظهر فيه ضعف دلالة الاقتران، فعند تعدد الجمل، واستقلال كل واحدة منها بنفسها، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة" (¬2). قلت: وكذا ما نحن بصدده، فإن كل جملة مفيدة لمعناها، وحكمها وسببها وغايتها منفردة به عن الجملة الأخرى، واشتراكُهما في مجرد العطف لا يوجب اشتراكهما فيما وراءه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 103). وانظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 5). (¬2) تقدم تخريجه. وانظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (4/ 990).

باب العرايا وغير ذلك

باب العرايا وغير ذلك من أن يبيع النخل بعد التأبير ثمرته للبائع حيث لا شرط، ومنع جواز بيع ما احتاج إلى حق توفية قبلها، وتحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ونحو ذلك. قال علماؤنا كغيرهم: العرايا: جمع عَرِيَّة، فَعيلَة، بمعنى مفعولة. وهي لغةً: كل شيء أُفرد من جملة، قال أبو عبيد: من عراه يعريه: إذا قصده (¬1). قال في "المطلع": ويحتمل أن تكون فعيلة بمعنى: فاعلة، من عري يَعرى: إذا خلع ثيابه، كأنها عِريت من جملة التحريم؛ أي: أخرجت. قال ابن عقيل: هي شرعًا: بيع رطب بتمر (¬2). وفي "الإقناع": العرايا التي رخص فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي: بيع الرطب في رؤوس النخل خرصًا بمآله يابسًا بمثله من التمر، كيلًا معلومًا، لا جزافًا، فيما دون خمسة أوسق، لمن به حاجة إلى أكل الرطب، ولا نقد معه (¬3). وذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- في هذا الباب خمسة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 231). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 241). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 251 - 252).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لِصَاحِب العَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَها بِخَرصِها (¬1). [وَلِمُسْلِمٍ: بِخَرصِها] تَمرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2064)، كتاب: البيوع، باب: بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام، و (2076)، باب: بيع المزابنة، و (2080)، باب: تفسير العرايا، و (2251)، كتاب: المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل، ومسلم (1539/ 60، 62 - 66)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، وأبو داود (3362)، كتاب: البيوع، باب: في بيع العرايا، والنسائي (4538 - 4539)، كتاب: البيوع، باب: بيع العرايا بخرصها تمرًا، والترمذي (1302)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في العرايا والرخصة في ذلك، وابن ماجه (2268)، كتاب: التجارات، باب: بيع العرايا بخرصها تمرًا. (¬2) رواه مسلم (1539/ 61)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 79)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 315)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 35)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 175)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 392)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 184)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 142)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1125)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 237)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 131)، و"فتح الباري" =

(عن) أبي سعيد (زيد بن ثابت) الأنصاريِّ، النجَّاريِّ. تقدَّمت ترجمته (- رضي الله عنه -) في باب: المواقيت من كتاب: الصلاة، قال زيد - رضي الله عنه -: (أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص)؛ أي: سهَّل؛ لأن معنى الرخصة في اللغة: السهولة، وفي الشرع: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح (¬1)، والدليل الشرعي هنا: تحريم بيع الرطب بالتمر، والمعارض الراجح: ما ورد عن صاحب الشريعة من التسهيل في جواز بيع العرايا (لصاحب العرية)، وهي بيع الرطب على النخل، فلو كان على وجه الأرض، لم يجز؛ للنهي عنه. والرخصة وردت في ذلك ليؤخذ شيئًا فشيئًا لحاجة التفكُّه (¬2) (أن يبيعها) لمحتاجها؛ لأجل التفكه (بخرصها)، وهو أن ينظر الخارص الذي هو الحازر. قال القاضي عياض: الخرص للثمار: الحزر والتقدير لثمرتها، ولا يمكن إلا عند طيبها، والخِرص -بالكسر-: الشيء المقدر، و-بالفتح-: اسم الفعل (¬3). وفي "المطلع": الخِرَص -بالفتح والكسر- لغتان في الشيء المخروص، وأما المصدر: فبالفتح، والمستقبل: -بالضم والكسر في الراء-، انتهى (¬4). ¬

_ = لابن حجر (4/ 386)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 306)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 85)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 45)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 309). (¬1) انظر: "القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام (ص: 115). (¬2) انظر: "المبدع" لابن مفلح (4/ 141). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياضى (1/ 233). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 132).

(تمرًا) بأن يحزر كم يجيء من العريَّة تمرًا، فيشتريها المشتري بمثل ما يؤول إليه الرطب إذا جف كيلًا؛ لأن الأصل اعتبار الكيل من الجانبين، سقط في أحدهما، وأقيم الخرص مكانه للحاجة، فيبقى الآخر على مقتضى الأصل (¬1). ويعتبر كون ذلك لمحتاج الرطب، ولا ثمن معه، لما في "الصحيحين" وغيرهما عن محمود بن لبيد، قال: قلت لزيد - رضي الله عنه -: ما عراياكم هذه؟ فسمَّى رجالًا محتاجين من الأنصار شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبًا، وعندهم فُضولٌ من التمر، فرخص لهم - صلى الله عليه وسلم - أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم (¬2) (يأكلونه رطبًا)، فظاهره عدم اعتبار حاجة البائع، فلو احتاج إلى التمر، ¬

_ (¬1) انظر: "المبدع" لابن مفلح (4/ 141). (¬2) قلت: عجيب أن ينسب الشارح -رحمه الله- هذا الحديث إلى "الصحيحين"، ولم يروياه، أو أحد من أصحاب الكتب المشهورة، وقد ذكره الإمام الشافعي في، "الأم" (3/ 54)، وفي "اختلاف الحديث" (ص: 553)، عن محمود بن لبيد - رضي الله عنه - دون إسناده. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير"، (3/ 29): هذا الحديث ذكره الشافعي في "الأم"، و"المختصر" بغير إسناد، وذكره البيهقي في "المعرفة" عن الشافعي معلقًا أيضًا، وقد أنكره محمد بن داود على الشافعي، وردَّ عليه ابن سريج إنكاره، ولم يذكر له إسنادًا، وقال ابن حزم: لم يذكر الشافعي له إسنادًا، فبطل أن يكون فيه حجة، وقال الماوردي: لم يسنده الشافعي؛ لأنه نقله من السير، انتهى. قلت: ولعلَّ الشارح -رحمه الله- نقل الحديث عن كتب الحنابلة، حيث ذكر ابن قدامة هذا الحديث في "الكافي" (2/ 64)، ثم قال: متفق عليه، وتبعه على ذلك جمع من مصنفي الحنابلة، وهو وهم لا ريب فيه، والعصمة لله وحده.

ولا ثمن معه إلا الرطب، فقال أبو بكر والمجد بجوازه، وهو بطريق التنبيه بالشيء على ما هو أولى منه؛ لأنه إذا جاز مخالفة الأصل لحاجة التفكه، فلحاجة الاقتيات أولى، إذ القياس على الرخصة جائز إذا فهمت العلة (¬1). وظاهر الحديث: أنه يعطي المشتري البائعَ من التمر مثلَ ما يؤول ما في النخل عند الجفاف، ارتكابًا لأخفِّ المفسدتين، وهو الجهلُ بالتساوي دون أعظمِهما، وهو العلم بالتفاضل، وهو مذهب الإمام أحمدَ، والشافعي. ويشترط الحلولُ -وتقابضُهما- أي: المتعاقدين -بمجلس العقد؛ لأنه بيع تمر بتمر، فاعتبر فيه شروطه، إلا ما استثناه الشارع مما لم يمكن اعتباره في بيع العرايا، والقبض في حقِّ كل واحد منهما بَحَسَبِهِ، ففي نخلٍ بتخليةٍ بينه وبينه، وفي تمرٍ بكيل. وليس من شرطه حضور التمر عند النخل، فلو تبايعا، وسلَّم أحدهما ثم مشى، ولم يتفرَّقا، فسلَّم الآخر، صحَّ؛ لأن التفرُّقَ لم يحصل قبل القبض (¬2). تنبيهات: * الأول: أجاز بيعَ العرايا: مالكٌ، والشافعي، وأحمد، للأحاديث الصحيحة الصريحة بذلك، ومنع منه أبو حنيفة مطلقًا. ثم اختلف القائلون بصحة بيع العرايا في صفتها المباحة، وقدرها، وسيأتي تحرير قدرها في الحديث التالي، فصفةُ بيع العرايا الصحيح عند مالك: أن يكون قد وهب رجلٌ لآخر ثمرَ نخلة أو نخلات من حائطه، وشقَّ على الواهب دخولُ الموهوب له إلى حديقته، فإذا بدا صلاحها، ¬

_ (¬1) انظر: "المبدع" لابن مفلح (4/ 142). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

فللموهوب له بيعُها ممن شاء غير معريها بالذهب والفضة والعروض، ومن معريها خاصة بخرصها تمرًا، وذلك بثلاثة شروط: أحدها: أن يدفعها إليه عند الجذاذ؛ فإنْ شرط قطعها في الحال، لم يجز. الثاني: أن يكون في خمسة أوسق فما دون. الثالث: أن يبيعها بالتمر مقصورًا على مُعريها خاصة دون غيره، وهي لكلِّ ثمرة تيبس وتدَّخر، هذا مذهب مالك على ما ذكره أبو المظفَّر عون الدين بن هبيرة (¬1)، وابن دقيق العيد (¬2)، وغيرهما. ومذهب الإمام الشافعي كمذهب أحمد، إلا أنه لا يشترط الفقر، بل عنده يجوز للأغنياء والفقراء. وذكر ابن هبيرة: أن الشافعي يجوِّزُ بيعَ العرايا ممن له حاجة في الرطب، ليأكله، ولا ثمر عنده، كذا قال (¬3). وظاهر كلام العلقمي: اعتبارُ التقابض في المجلس (¬4). وجوَّزَ ابنُ عقيل -من أئمة علمائنا- بيعَها لواهبها، لئلا يدخل رب العريَّة حائطه، ولغيره لحاجة غير أكل. قال في "الفروع": ويحتمله كلام الإمام أحمد (¬5). قلت: ومعتمد المذهب عدم الجواز إذن. ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 335). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 142 - 143). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 336). (¬4) وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 391). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 117 - 118).

قال في "شرح المنتهى": ولا يشترط في العريه كونها موهوبة (¬1)؛ لأن اشتراط ذلك مع اشتراط حاجة المشتري إلى أكلها رطبًا، ولا ثمن معه، يفضي إلى سقوط الرخصة، إذ لا يكاد يتفق ذلك؛ ولأن ما جاز بيعه إذا كان موهوبًا، جاز، كان لم يكن موهوبًا كسائر الأموال (¬2). * الثاني: يشترط لبقاء صحة عقد العرايا أن يأكلها أهلها رطبًا، فلو تركت حتى صارت تمرًا، بطل العقد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يأكلونه رطبًا". وفي "الصحيحين" من حديث سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه -: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر بالتمر، ورخَّص في العرايا أن تُشترى بخرصها يأكلها أهلها رطبًا (¬3). وفي رواية متفق عليها: إلا أنه رخَّص في بيع العرية النخلة والنخلتين، يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا، يأكلونه رطبًا (¬4)، ولأن شراءها إنما جاز للحاجة إلى أكل الرطب، فإذا أتمر، تبيَّنا عدمَ الحاجة، ولا فرق بين كون التخلية حتى أتمر لعذر أو غيرها (¬5). وحيث بطل البيع، رجعت الثمرة كلها للبائع تبعًا للأصل، كسائر نماء المبيع المتصل إذا رجع للبائع بفسخ أو بطلان. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 254). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 59). (¬3) رواه البخاري (2079)، كتاب: البيوع، باب: بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة، ومسلم (1540/ 67)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا. (¬4) هي رواية مسلم فقط، كما تقدم تخريجها آنفًا. (¬5) انظر: "المبدع" لابن مفلح (4/ 168).

ونقل ابن أبي موسى -من أئمة علمائنا- في كتابه "الإرشاد": أنهما يكونان شريكين في الزيادة، فتقوم الثمرة وقتَ العقد وبعدَ الزيادة. وعنه: لا يبطل، والزيادة لهما. وقال القاضي: الزيادة للمشتري. وعنه: يفسد إن أخره عمدًا بلا عذر (¬1). * الثالث: لا يصح بيع العرايا في بقيَّةِ الثمار، لما روى الترمذي من حديث سهل ورافع مرفوعًا: نهى عن المزابنة الثمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإِنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب (¬2)، ولأن الأصل يقتضي تحريم بيع العرية، وإنما جازت في ثمرة النخيل رخصة، فلا يصح قياس غيرها عليها؛ لأنَّ غيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات، وسهولة الخرص، ولأن القياس لا يُنظر إليه إذا خالف نصًا (¬3). وقيل: يجوز في العنب فقط، ونقله العلقمي من الشافعية (¬4). * الرابع: لا يجوز بيع الرطب بالتمر، حيث كان على الأرض ليس على نخيله، وجوَّزهُ أبو حنيفة، واتفق أبو حنيفة، ومالك، وأحمد على جواز بيع الرطب بالرطب على وجه الأرض مِثْلًا بمثل، ومنع صِحَّة بيعه الشافعي. قال ابن دقيق العيد: وجهًا واحدًا (¬5)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 75). (¬2) رواه الترمذي (1303)، كتاب: البيوع، باب: (64). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 62). (¬4) وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 386). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 144).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رخَّصَ فِي بَيْعِ العَرَايَا فِي خَمسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ دُونَ خَمسَةِ أَوْسُقٍ (¬1). * * * (عن أبي هريرة) عبدِ الرحمنِ بنِ صخرٍ (- رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2078)، كتاب: البيوع، باب: بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة، و (2253)، كتاب: المساقاة، باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، ومسلم (1541)، كتاب: البيوع، باب: تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، وأبو داود (3364)، كتاب: البيوع، باب: في مقدار العرية، والنسائي (4541)، كتاب: البيوع، باب: بيع العرايا بالرطب، والترمذي (1301)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في العرايا والرخصة في ذلك. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 81)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 35)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 181)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 395)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 187)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 145)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1128)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 388)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 224)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 84)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 309).

رخَّصَ) للمحتاجين لأكل الرطب للتفكُّهِ به، ولا ثمنَ معهم يشترون به رطبًا يتفكهون به (في بيع العرايا) المتقدم ذكرُها، وخصَّ الرخصة بكونها (في خمسة أوسق، أو) قال: فيما (دون خمسة أوسق) بالشك في الخمسة أوسق، فمنع الإمام أحمدُ صحتها في الخمسة أوسق فصاعدًا، لكون الخمسةِ مشكوكًا فيها، فاقتصر على ما لا شك في الجواز فيه، وهو ما دون الخمسة (¬1). وفي حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أذن لأهل العرايا أن يبيعوها بخرصها، يقول: "الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة" رواه الإمام أحمد (¬2)، ولفظ حديث أبي هريرة عند مسلم: رخَّص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة، شك داود، قال: خمسة أو دون خمسة (¬3). قال الزركشمي في "شرح الخرقي": المذهب المقطوع به: المنعُ؛ لأن النهي عن المزابنة مطلق، خرج منه ما دون خمسة أوسق، فيبقى ما عداه على مقتضى النهي، وترجيحًا للحظر على الإباحة، ولا فرق عندنا بين الشراء في صفقة أو في صفقات، ولم يختلف قول الشافعي في أنه لا يجوز فيما زاد على الخمسة أوسق، وأنه يجوز فيما دونها، وله في الخمسة قولان، وكذا مذهب مالك، إلا أن الشافعية اعتبروا القدر الجائز بالصفقة إن كانت واحدة، وأما لو كانت في صفقات متعددة، فلا يمنع عندهم، ولو باع ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 61). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 360)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2469)، وابن حبان في "صحيحه" (5008)، وغيرهم. (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1541).

في صفقة واحدة من رجلين ما يكون لكل واحد منهما القدر الجائز، جاز، ولو باع رجلان من واحد، فكذلك الحكم عندهم في أصح الوجهين. ومذهبنا: لا يصح زيادة مشترٍ على القدر المرخص فيه، ولو اشتراه من عدد في صفقات، بأن يشتري من زيد وسقين، ومن عمرو وسقين، ومن بكر وسقين؛ لأن النهي عن المزابنة عام استُثنيَ منه العرية فيما دون خمسة أوسق، وما زاد يبقى على العموم في التحريم، ولأن ما لم يجز العقد عليه مرة إذا كان من نوع واحد، لم يجز في عقدين، كالذي على وجه الأرض، وكالجمع بين الأختين، وأما إن بايع رجل رجلين عريتين لكل واحد دون الخمسة أوسق، جاز؛ لأن المغلب في التحريم حاجة المشتري لا البائع (¬1). وتقدَّم في الزكاة أن الوسق: ستون صاعًا، والصاع: خمسة أرطال وثلث بالعراقي، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح الزركشي على الخرقي" (3/ 488).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ، فَثَمَرَتُها لِلْبَائعِ، إِلأَ أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ" (¬1). وَلِمُسْلِمٍ: "وَمَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا، فَمَالُهُ للَّذِي بَاعَهُ، إِلأَ أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2090)، كتاب: البيوع، باب: من باع نخلًا قد أبرت، أو أرضًا مزروعة، أو بإجارة، و (2092)، باب: بيع النخل بأصله، و (2567)، كمَاب: الشروط، باب: إذا باع نخلًا قد أبرت، ومسلم (1543/ 77 - 79)، كتاب: البيوع، باب: من باع نخلًا عليها ثمر، وأبو داود (3433)، كتاب: الإجارة، باب: في العبد يباع وله مال، والنسائي (4635)، كتاب: البيوع، باب: النخل يباع أصلها ويستثني المشتري ثمرها، وابن ماجه (2210)، كتاب: التجارات، باب: ما جاء فيمن باع نخلًا مؤبرًا أو عبدًا له مال. (¬2) رواه مسلم (1543/ 80)، كتاب: البيوع، باب: من باع نخلًا عَليها ثمر. قلت: وكذا رواه البخاري (2250)، كتاب: البيوع، باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل. وسيأتي تنبيه الشارح -رحمه الله- على وهم المصنف -رحمه الله- في نسبته لمسلم فقط. ورواه أيضًا: أبو داود (3435)، كتاب: الإجارة، باب: في العبد يباع وله مال، والنسائي (4636) كتاب: البيوع، باب: في العبد يباع ويستثني المشتري ماله، والترمذي (1244)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في ابتياع النخل بعد التأبير، =

(عن) أبي عبد الرحمن (عبد الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: من باع نخلًا قد أُبرت)؛ أي: أُلقحت، يقال: أَبرتُ النخلة، آبرها، ويُقالُ -بالتشديد (¬1) -، وفي الحديث: وهم يأبرون النخل (¬2)؛ أي: يلقحونها ويذكرونها، وقد جاء مفسرًا في الحديث كذلك. ووقع في رواية الطبري: وهم يؤَبِّرون (¬3) -بالتشديد (¬4) -، وهو أن يشقق أَكِمَّةُ إناث النخل، ويُذَرَّ طلعُ الذكر فيها، ولا يلقح جميع النخل، بل يؤبر البعض، ويشقق الباقي بانبثاث ريح الفحول إليه الذي يحصل به تشقيق الطلع (¬5). ¬

_ = والعبد وله مال، وابن ماجه (2211)، كتاب: التجارات، باب: ما جاء فيمن باع نخلًا مؤبرًا أو عبدًا له مال. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 106)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 299)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 184)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 397)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 190)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 146)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 238)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 116)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 402)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 223)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 93)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 48)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 273). (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 146). (¬2) رواه مسلم (3262)، كتاب: الفضائل، باب: وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - من معايش الدنيا على سبيل الرأي، عن رافع بن خديج - رضي الله عنه -. (¬3) وكذا في رواية ابن حبان في "صحيحه" (23). (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 12). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 146).

وفي "المطلع": أبرَ النخلَ يأْبِرُه أَبْرًا، والاسم: الإبار، فهو آبِرٌ، والنخلُ مأبور، وأَبَّر -بتشديد الباء- تأبيرًا، فهو مؤبِّر. قال: وأصل الإبار: التلقيح، وهو وضع الذكر في الأنثى (¬1). (فثمرتُها) بعد التأبير (للبائع) في سورة الإطلاق، وظاهر هذا: اعتبارُ حقيقة التأبير. وقال علماؤنا: من باع أو وهب أو رهن نخلًا، وقد تشقق طلعه، ولو لم يؤبر، أو باع ونحوَه نخلًا به طلعُ فحالٍ يراد لتلقيحٍ، أو صالح به، أو جعله صداقًا، أو عوضَ خُلع، أو أجرة، فالثمر فقط دون العراجينِ ونحوِها لمُعْطٍ متروكًا في النخل إلى الجذاذ، وذلك حين تتناهى حلاوة ثمرها (¬2). قال العلَّامة خاتمة المحققين الشيخُ عثمانُ النجديُّ في "حواشي المنتهى": الطَّلع -بالفتح-: ما يطلع من النخلة، ثم يصير تمرًا إن كان أنثى، وإن كان ذكرًا، لم يصر تمرًا، بل يؤكل طريًا، ويترك على النخلة أيامًا معلومة حتى يصير فيه شيء أبيض مثل الدقيق، وله رائحة زكية، فيلقح به الأنثى. وأطلعت الأنثى: أخرجَتْ طلعَها، فهي مُطْلِعٌ، وربما قيل: مُطْلِعَة (¬3). فعلقوا الحكم بالتشقق؛ لأن التأبير لا يكون حتى يتشقق الطلع، والطلع: وعاء العنقود، ولما كان الحكم متعلقًا بالتشقق بغير خلاف، فسَّروا التأبير به؛ لأنه لازم له غالبًا، إذ لو انشق طلعه، ولو يؤبر، كانت الثمرةُ للبائع. ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 243). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 270). (¬3) انظر: "حاشية المنتهى" للشيخ عثمان النجدي (2/ 372).

وعلم من الحديث: أن ما قبل ذلك للمشتري؛ لأنه جعل التأبير حدًا لِمِلْك البائع للثمرة، وإلا، لم يكن حدّ، أو كان ذكر التأبير غيرَ مفيد، فجعل ما قبل التشقق تابعًا لأصله، وما بعدَه غيرَ تابع له، كالحمل في الحيوان. وألحق بالبيع باقي عقود المعاوضات؛ لأنها في معناه. وألحق بذلك الهبة، لزوال الملك فيها بغير فسخ، وتصرف المُتَّهب بما شاء أشبة المشتري، والرهن؛ لأنه يراد للبيع ليستوفي الدين من ثمنه، وترك إلى الجذاذ؛ لأن تفريغ المبيع بحسب العرف والعادة، كدار فيها أطعمة أو متاع (¬1). (إلا أن يشترط المبتاع)؛ أي: المشتري الثمرةَ بعد التأبير كلَّها، أو بعضها المعلومَ، كنصفها أو ثلثها، أو ثمرةَ شجرة معينة له، فله بشرطه. "أَيُّما نخلٍ اشتُري أصولُها وقد أُبِّرَتْ، فإن ثمرتها للذي أبرها، إلا أَن يشترط الذي اشتراها" (¬2)، وفي لفظ: "أَيُّما امرِىءٍ أَبر نخلًا، ثم باع أُصولَها، فللذي أَبر ثمرُ النخل، إلا أن يشترط المبتاع" (¬3)، ويصح شرط بائع ونحوه ما لمشترٍ بأن يشترط ثمرة النخل قبل التشقق والتأبير مثلًا له، وكذا جزءًا معلومًا منها، نحو: ربع، أو خمس -كما مرَّ-، وله تبقيته إلى جذاذه ما لم يشترط عليه قطع غير مشاع، كان ظهر أو تشقق بعضُ ثمره، أو بعضُ طلع، ولو من نوع، فما ظهر أو تشقق، فلبائع ونحوه، كما سبق، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 284). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1543/ 78). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2092)، وعند مسلم (1543/ 79).

وما لم يظهر ولا يتشقق، فلمشترٍ، إلا إذا ظهر أو تشقق بعض ثمره في شجرة واحدة، فالكل لبائع ونحوه (¬1). تنبيهات: * الأول: اتفق الأئمة على صحة بيع الأصول وفيها ثمرٌ بادٍ، ثم اختلفوا لمن تكون الثمرة؟ وسواء أُبرت أو لم تُؤبر؟. فقال أبو حنيفة: الثمرة في الحالين للبائع، وقال الثلاثة: بالتفرقة بين ما إذا كانت مؤبرة فهي للبائع، أو غير مؤبرة فهي للمشتري، إلا أن يشترطها المشتري -كما في الحديث-. وقال أبو حنيفة: لا يجوز تركها إلى حين الجذاذ، بل يؤخذ البائع بقطعها في الحال. وقال الباقون: له تركها إلى الجذاذ (¬2). قال علماؤنا في سورة تبقيتها إلى الجذاذ: هذا ما لم تجر عادة بأخذها بُسْرًا، أو يكن بسرُها خيرًا من رطبها، فعلى بائع حينئذٍ أن يجذه إذا استحكمت حلاوة بُسره؛ لأنه عادة أخذه، ومحل هذا إن لم يشترط المشتري على البائع قطعه، فله شرطه، أو لم يشترط المشتري ذلك، وكان النخل يتضرر ببقائه، فيقطع؛ لأن الضرر لا يُزال بالضرر (¬3). * الثاني: مثل الطلع الذي تشقق ما بدا من ثمره، كعنب وتين وتوت ورمان وجوز، أو ظهر من نَوْرِه، كمشمش وتفاح وسفرجل ولوز، أو خرج ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 272 - 273)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 287 - 286). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 63)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 402). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 270).

من أكمامه، كورد وقطن، فما كان بعد البُدُوِّ، فهو لبائعٍ ونحوه، وما كان قبل ذلك، فلمشتر، والمراد بالقطن: الذي تبقى أصوله، وأما مالا تبقى أصوله، فهو كزرع؛ لأنه لعدم بقائه في الأرض أشبه البر (¬1). (ولمسلم): قلت: بل لهما، فقد رواه الإمام أحمد (¬2)، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬3)، ولهذا عزاه في "منتقى الأَحكام" لهم (¬4)، ولفظ "صحيح البخاري" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أَيُّما نخلٍ بيعَتْ قد أبرتْ" لم يذكر الثمر، "فالثمر للذي أبرها"، وكذلك العبد والحرث، سمى له نافع هؤلاء الثلاث (¬5)، ولهذا ذكره الحافظ عبد الحق الإشبيلي في المتفق عليه (¬6). (من ابتاع)؛ أي: اشترى (عبدًا) له مال، (فماله) -أي: الذي كان تحت ¬

_ (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 285 - 286). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 6). (¬3) كما تقدم تخريجه عندهم. (¬4) انظر: "منتقى الأحكام" للمجد ابن تيمية (2/ 254)، حديث رقم: (2211). (¬5) رواه البخاري في "صحيحه" (2/ 767) معلقًا بصيغة الجزم. وانظر: "تغليق التعليق" لابن حجر (3/ 261). (¬6) قال الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 238): كذا فعل -أي: المصنف- رحمه الله -في نسبة هذا اللفظ إلى مسلم فقط- في "عمدته الكبرى"، وهو صريح في أنها من أفراد مسلم، وليس كذلك، فقد أخرجها البخاري أيضًا في باب: الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، والذي أوقع المصنف في ذلك، عدم ذكر البخارأنه في باب البيع، واقتصاره على القطعة الأولى، وليس كذلك، فقد أخرجه في غير مظنه، ولهذا نسبه الحافظان المنذري في "مختصره للسنن"، والضياء في "أحكامه" للبخاري ومسلم.

يده- للشخص (للذي باعه)، فلا يشمله الشراء، وإنما يشمل بيعُ القِنِّ من ذكر أو أنثى لباسَه المعتاد له؛ لأنه مما تتعلق به حاجةُ المبيع أو مصلحته، وجرت العادة ببيعه معه، فلا يأخذ مشترٍ ما كان يلبسه الرقيق للتجمُّل من لباس وحلي؛ لأنه زيادةٌ على العادة، ولا تتعلق به حاجة المبيع، وإنما يُلبسه إياه لينفِّقَه به، وهذه حاجة البائع لا المَبيع، ولا يشمل البيع مَالًا كان مع الرقيق، ولا بعضه، (إلا أن يشترطَ المبتاعُ) -أَي: المشتري- ذلك، أو بعضَه في العقد، ثم إن قصد ما اشترط، ولا يتناوله بيع لولا الشرط، بأن لم يرد تركه، تركه للقنِّ اشترط له شروط البيع من العلم به، وأَلَّا يشارك الثمن في عِلَّة ربا الفضل ونحوه، كما يشترط ذلك في العينين المبيعين؛ لأنه بيع مقصود أشبة ما لو ضم إلى الثمن عينًا أخرى وباعهما، كان لم يقصد المال الذي تحت يد القن، أو ثياب جماله، أو حليه، فلا يشترط له حينئذٍ شروط بيع، لدخوله تبعًا غير مقصود، أشبة أساساتِ الحيطان، وتموية سقفٍ بذهب، وسواء قلنا: القنُّ يملك بالتمليك، أو لا (¬1)، ومعتمد المذهب: أنه لا يملك، وإن مُلِّك. واستدل المالكية بظاهر الحديث على أن العبد يملك، لإضافة المال إليه باللام، وهي ظاهرة في الملك، ومن لم ير ذلك يجعلُها للاختصاص، كسرج الفرس (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 294 - 295). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 148).

الحديث الرابع

الحديث الرابع وَعَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا، فَلاَ يَبعهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ: "حَتَّى يَقْبِضَهُ" (¬2). وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مِثْلُهُ (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2017)، كتاب: البيوع، باب: ما ذكر في الأسواق، و (2019)، باب: الكيل على البائع والمعطي، ومسلم (1526/ 32 - 34)، كتاب: البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض، وأبو داود (3492)، كتاب: الإجارة، باب: في بيع الطعام قبل أن يستوفى، والنسائي (4595)، كتاب: البيوع، باب: بيع الطعام قبل أن يستوفى، وابن ماجه (2226)، كتاب: التجارات، باب: النهي عن بيع الطعام قبلُ ما لم يقبض. (¬2) رواه البخاري (2026)، كتاب: البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، و (2029)، باب: بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك، ومسلم (1526/ 35 - 36)، كتاب: البيوع، باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض، والنسائي (4596)، كتاب: البيوع، باب: بيع الطعام قبل أن يستوفى. (¬3) رواه البخاري (2025)، كتاب: البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، و (2028) باب: بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك، ومسلم (1525/ 29 - 31)، كتاب: البيوع. باب: بطلان بيع المبيع قبل القبض، وأبو داود (3497)، كتاب: الإجارة، باب: في بيع الطعام قبل أن يستوفى، والنسائي (4597 - 4600)، كتاب: البيوع، باب: بيع الطعام قبل أن يستوفيه، والترمذي (1291)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في كراهية بيع الطعام حتى =

ما أشار إليه المصنف بقوله: (وعنه)؛ أي: عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: (أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاعَ)؛ أي: اشترى من غيره (طعامًا) بكيلٍ، وكل ما يحتاج إلى حق توفية، من كيل، أو وزن، أو عَدٍّ، أو ذَرْع، ملكه بالشراء، ولزم بالعقد، ولو كان قفيزًا من صبرة، ورطلًا من زُبْرَة (¬1)، لم يصح تصرفه فيه قبل قبضه -ولو من بائعه- ببيع، ولا إجارة، ولا هبة، ولو بلا عوض، ولا رهن، ولو بعد قبض ثمنه، ولا الحوالة عليه، ولا به، ولا غير ذلك (¬2)، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فلا يبعْه)، ومثل البيع غيرُه مما ذكر (حتى)؛ أي: إلى أن (يستوفيه، وفي لفظ: حتى يَقْبِضَهُ). (وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - مثلُه) سواء، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: وأحسب كلَّ شيء مثله (¬3)، وفي لفظ آخر: "فلا يبعه ¬

_ = يستوفيه، وابن ماجه (2227)، كتاب: التجارات، باب: النهي عن بيع الطعام قبلُ ما لم يقبض. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 135)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 368)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 290)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 149)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 375)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 168)، وشرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 149)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1132)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 109)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 344)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 245)، و"إرشاد الساري" للقسطلانى (4/ 57)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 15)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 256). (¬1) الزُّبْرَةُ: القطعة الضخمة. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 235). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1525/ 29).

حتى يكتاله" (¬1)، وفيهما في حديث ابن عمر، قال: وكنشتري الطعام من الركبان جزافًا، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه (¬2). وفي آخر حديث ابن عباس فيهما: قال طاوس: قلت لابن عباس: لم؟ فقال: ألا تراهم يتبايعون بالذهب مُزجَأً؟! (¬3). ولفظ البخاري: قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ دراهم بدراهم والطعام مُرْجَأٌ (¬4)!، وقال: جون: مؤخرون. وفي رواية عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فيهما: كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه، حتى ينقلوه حيث يُباع الطعام (¬5). قوله في الحديث: مُزجَأ؛ أي: مؤخَّر، كما فسره البخاري، ويجوز همزه وتركُ همزه، والجِزافُ -بتثليث الجيم، والكسرُ أفصح وأشهر-: البيعُ بلا كيل ولا وزن ولا تقدير (¬6). وصرح الحديث بالنهي عن بيع المبيع حتى يقبضه. واختلف العلماء في ذلك: فقال علماؤنا: من اشترى شيئًا يحتاج إلى حق توفية، لم يصحَّ تصرفُه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1525/ 31). (¬2) تقدم تخريجه، وهذا لفظ مسلم برقم (1527/ 33)، (3/ 1161). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1525/ 31). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2025). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2017)، واللفظ له، ومسلم برقم (1527/ 38). (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 169).

فيه قبل قبضه -ولو من بائعه- ببيع ولا إجارة ونحوهما مما تقدم، ويصح جعلُه مهرًا، والخلع والوصية به، فلو قبضه جزافًا، مكيلًا كان أو نحوه، لعلمهما قدره، بأن شاهدا كيله ونحوه، ثم باعه به من غير اعتبار، صح، وإن أعلمه بكيله ونحوه، فقبضه ثم باعه به، لم يجز، وإن قبضه مصدقًا لبائعه في كيله ونحوه، برىء من عهدته، ولا يجوز له أن يتصرف فيه قبل اعتباره، لفساد قبضه، وإن لم يصدقه قبل قوله في قدره، حيث كان المبيع أو بعضه مفقودًا، أو اختلفا في بقائه على حاله، وإن اتفقا على بقائه على حاله، وثبت ببينة، اعتبر بالكيل والمبيع بصفة أو رؤية سابقة من ضمان بائع حتى يقبضه مشتر، ولا يجوز للمشتري التصرف فيه قبل قبضه، ولو غير مكيل ونحوه، كما لو اشترى شاة أو شقصًا بطعام، فقبض الشاة وباعها، أو أخذ الشقص بالشفعة، ثم تلف الطعام قبل قبضه، انفسخ العقد الأول دون الثاني، وما عدا مكيل ونحوه؛ ك عبد وصبرة يجوز التصرف فيه قبل قبضه ببيع أو إجارة ونحوهما، فإن تلف، فمن ضمان مشتر، تمكن من قبضه أو لا، إذا لم يمنعه منه البائع (¬1). وقال الشافعية: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه، سواء كان طعامًا، أو عقارا، أو منقولا، أو نقدًا، وغيره. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع العقار قبل القبض، ويمنع غيره. وقال مالك: لا يجوز في الطعام، ويجوز فيما سواه (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 235 - 237). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 149).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ: "إنَّ الله وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخمرِ وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ والأَصنَامِ"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِها السُّفُنُ، ويُدهنُ بها الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فقال: "لاَ، هُوَ حَرَام"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ! إِنَّ الله لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَها، جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكلوُا ثَمَنَهُ" (¬1). جَملوه: أذابُوه. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2121)، كتاب: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام، و (4045)، كتاب: المغازي، باب: منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، و (4357)، كتاب: التفسير، باب: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146]، ومسلم (1581)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، وأبو داود (3486)، كتاب: الإجارة، باب: في ثمن الخمر والميتة، والنسائي (4669)، كتاب: البيوع، باب: بيع الخنزير، والترمذي (1297)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في بيع جلود الميتة والأصنام، وابن ماجه (2167)، كتاب: التجارات، باب: ما لا يحل بيعه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن للخطابي" (3/ 132)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 299)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 251)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 461)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 6)، =

(عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عام الفتح)، أي: فتح مكة المشرفة، وكان في الثامنة، ومقول القول: (إن الله) -سبحانه وتعالى- (ورسوله) محمدًا - صلى الله عليه وسلم - (حَرَّم)، هكذا في "الصحيحين" بإسناد الفعل إلى ضمير الواحد، وكان الأصل: "حرَّما". قال القرطبي: إنه - صلى الله عليه وسلم - تأدب مع الله، فلم يجمع بينه وبين اسم الله في ضمير الاثنين؛ لأنه من نوع ما رد به على الخطيب الذي قال: ومن يعصهما (¬1)، على أنه ورد في بعض طرق "الصحيحين": "إن الله حرم" ليس فيه: ورسوله، والتحقيق جواز الإفراد في مثل هذا، ووجهه: الإشارة إلى أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ناشىء عن أمر الله، وهو نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (¬2) [التوبة: 62]. (بيعَ الخمر)، ويشمل كلَّ مسكر؛ لأنه ما خامر العقلَ وغطاه، وإضافة تحريم الخمر وما عطف عليه لله -جل شأنه- على الحقيقة؛ أي: شرع وقدر تحريم بيع الخمر، وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كذلك؛ لأنه مبلِّغ عن الله تعالى؛ أي: أظهر وبين وبلَّغ حرمةَ ذلك. قال علماؤنا:. من شرطِ صحة البجع أن يكون البيع مالًا، وهو ما فيه ¬

_ = و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 151)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1135)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 241)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 424)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 54)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 113)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 5)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 235) (¬1) رواه مسلم (870)، كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -. وانظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 461). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 425).

منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورة، فلا يجوز بيع خمرٍ، ولو كانا ذميين، ولا كلبٍ، ولو مباح الاقتناء، وتقدم. ويصح شراء كتب زندقة ليتلفها، لا خمرٍ ليريقها؛ لأن في بيع الكتب ماليةَ الورق (¬1). (و) حرم بيع (الميتة)، فلا يصح بيعها، ولابيع شيء منها، ولو لمضطر، إلا سمكًا وجرادًا ونحوهما، لا نحو عبد ميت، وإن كان طاهرًا. والحاصل: أن المدرك في عدم جواز بيع نحو الخمر والميتة، هل هو نجاسة عينهما؟ وهذا مذهب الشافعي، أو عدم ماليتهما؟ وهذا معتمد مذهب الإمام أحمد وغيره من الأئمة. وأما قول ابن دقيق العيد: إن الانتفاع بالخمر والميتة لم يعدم، فإنه قد ينتفع بالخمر في أمور، وينتفع بالميتة في إطعام الجوارح (¬2). فالجواب: إنا شرطنا كون النفع يباح في كل الأحوال، أو الاقتناء بلا حاجة. (و) حرم بيع (الخنزير) -بكسر الخاء المعجمة ونون أصلية-. وعند الجوهري:. زائدة (¬3)، كما في "المطلع" (¬4). وقال الدميري: هو عند أكثر اللغويين رباعي. وحكى ابن سيده عن بعضهم: أنه مشتق من خزر العين؛ لأنه كذلك ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 14). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 151 - 152). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 644)، (مادة: خزر). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 35).

ينظر (¬1)، فهو على ذلك ثلاثي، يقال: تخازر الرجل: إذا ضيق جفنَه ليحدد النظر، كقوله: تعافى وتجاهل. قال عمرُو بنُ العاصِ في يوم صِفِّين: [من الرجز] إذَا تَخَازَزتُ وَمَا بِي مِنْ خَزَرْ ... ثُمَّ كَسَرْتُ الطَّرْفَ مِنْ غَيْرِ عَوَرْ أَلْفَيْتُني أَلْوِي بعيد المستمر ... كَالْحَيَّةِ الصَّمَّاءِ مِنْ أَصْلِ الْجُحُرْ أحمِلُ مَا حُمِّلْتُ مِنْ خَيْرٍ وَشَر (¬2) وفي "سنن أبي داود" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله -عز وجل- حَرَّمَ الخمرَ وثمنَها، وحرمَ الميتةَ وثمنَها، وحرمَ الخنزيرَ وثمنَه" (¬3). وقد منع الشافعي وأحمد من جواز الانتفاع بالخنزير، وكذا إسحاق بن راهويه، ورخص بالانتفاع به مالكٌ، وأصحابُ الرأي. (و) حرم بيعَ (الأصنامِ) جمع صنم، وهو ما اتُّخِذ إلهًا من دون الله تعالى. وقيل: هو ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم أو صورة، فهو وثن (¬4)، والمراد هنا: ما شملهما. قال علماؤنا: لا يصح بيعُ دمٍ وخنزيرٍ وصنمٍ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "المخصص" لابن سيده (1/ 2 / 97). (¬2) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 348). (¬3) رواه أبو داود (3485)، كتاب: الإجارة، باب: في ثمن الخمر والميتة. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 424). (¬5) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 156).

(فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟) وهي في الشرع اسم لكل حيوان خرجت روحه بغير ذكاة (¬1)، (فإنه يطلى بها)؛ أي: بتلك الشحوم (السفنُ، ويدهن بها الجلود) فتلين (ويستصبحُ بها الناسُ)؛ أي: يُشعلون بها سُرُجَهم، (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (لا) يجوز شيء من ذلك، بل (هو)؛ أي: البيع والانتفاع بشحم الميتة (حرام)، سواء كان باستصباح وغيره، فأهدرَ منافعه بعدما بُيِّنَ له أن فيه منفعة (¬2)، (ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك) منبهًا على تعليل تحريم بيع هذه الأشياء: (قاتلَ اللهُ اليهودَ)؛ أي: قتلهم الله، وقيل: لعنهم، وقيل: عاداهم، وواحد اليهود: يهودي، وحذفوا ياء النسبة في الجمع، كزنجي وزنج، جعلًا منهم للياء فيه كتاء التأنيث في نحو: شعيرة وشعير، وفي تسميتهم بذلك خمسة أقوال: أحدها: قولهم: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]. الثاني: أنهم هادوا من عبادة العجل؛ أي: تابوا ورجعوا عنها. الثالث: أنهم مالوا عن دين الإسلام ودين موسى. الرابع: أنهم يتهوَّدون عند قراءة التوراة؛ أي يتحركون، ويقولون: السموات والأرض تحركت حيث آتى الله موسى التوراة. قاله أبو عمرو ابن العلاء. الخامس: نسبتهم إلى يهوذا بنِ يعقوبَ، فقيل لهم: يهوذ -بالذال المعجمة-، ثم عرب -بالمهملة-. نقله غير واحد. وهم قوم موسى -عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام- (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 10). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 153). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 221 - 222).

(إن الله) -سبحانه- (لَمَّا حرمَ) عليهم (شحومها)؛ يعني: الميتة، (جملوه) وفي لفظ: "فأجملوه" (¬1)؛ يعني: أذابوه، يقال: جمل وأجمل (¬2)، (ثم باعوه) مع كونه حرم عليهم، (فأكلوا ثمنه)، وليس يباح لهم شيء من ذلك. قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: (جملوه: أذابوه)، ومنه: يجملون منه الودك، والجميل: الشحم المذاب (¬3). وفي "النهاية": جملت الشحمَ، وأجملته: إذا أذبته، واستخرجت دهنه، وجَملتُ أفصحُ من أجملت (¬4). وقال الخطابي: ومعناه: أذابوها حتى تفسير وَدَكًا، فيزول عنها اسمُ الشحم (¬5)، فوجه اللوم على اليهود في تحريم أكل الثمن بتحريم أكل الشحوم، واستدل بهذا على تحريم الذرائع؛ لأن أكل الثمن ليس هو أكل الأصل بعينه، لكنه لما كان سببًا إلى أكل الأصل بطريق المعنى، استحقوا اللوم عليه (¬6)، والذم بمعاطاته، وفي هذا إبطال لكل حيلة يُتوصل بها إلى محرم، وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه (¬7). وزاد أبو داود في آخر هذا الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال "وإنَّ الله إذا حرمَ على ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1297)، وعند ابن ماجه (1167). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 152). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 298). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 133). (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 153 - 154). (¬7) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 124).

قومٍ أكلَ شيءٍ، حرم عليهم ثمنَهُ"، وفي لفظ لأبي داود: "لعنَ اللهُ اليهود، إِن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها" (¬1). وروى الإمام أبو عبد الله بنُ بطة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبته اليهودُ، فتستحلوا محارمَ الله بأدنى الحيل". ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في "إبطال التحليل "، وقال: إسناده جيد، يصحح مثله الترمذي وغيره (¬2). ثم قال شيخ الإسلام: ومن احتيالهم: أن الله -سبحانه- لما حرم عليهم أكل الشحوم، تأوَّلوا: أن المراد: نفس إدخاله الفم، وأن الشحم هو الجامد دون المذاب، فجملوه، فباعوه وأكلوا ثمنه، وقالوا: ما أكلنا الشحم، ولم ينظروا في أن الله -سبحانه- إذا حرم الانتفاع بشيء، فلا فرق بين الانتفاع بعينه أو ببدله، إذ البدل يسد مسدَّه، ولا فرقَ بين حال جموده وذوبِه، فلو كان ثمنه حلالًا، لم يكن في التحريم كبير أمر. وقد بلغ عمرَ - رضي الله عنه - أن فلانًا باع خمرًا، فقال: قاتل الله فلانًا، ألم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قاتل الله اليهود"، فذكر الحديث (¬3). وذكر شيخ الإسلام بعد كلام الخطابي، ثم قال: يقال: جملت الشيء، وأجملته، واجتملته، وقال غير الخطابي: يقال: جملت الشحم، أَجْمُلُه ¬

_ (¬1) رواهما أبو داود (3488)، كتاب: الإجارة، باب: في ثمن الخمر والميتة، بسياق واحد، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام (3/ 123). (¬3) رواه البخاري (2110)، كتاب: البيوع، باب: لا يذاب شحم الميتة، ولا يباع ودكه، ومسلم (1582)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

-بالضم-، والجميل: الشحم المذاب، وذكر حديثَ جابر، ثم قال: قال الإمام أحمد في رواية صالح وأبي الحارث: هذه الحيل التي وضعها فلان وأصحابه، عمدوا إلى السنن، فاحتالوا في نقضها، والشيء الذي قيل لهم: إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلوه، ولمحالوا: الرهن لا يحل أن يستعمل، ثم قالوا: يحتال له حتى يستعمل، فكيف يحل ما حرم الله تعالى؟!. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فأذابوها فباعوها، وأكلوا أثمانها"، أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وجه الدلالة: ما أشار إليه الإمام أحمد من أن اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم، أرادوا الاحتيال على الانتفاع بها على وجه لا يقال في الظاهر: إنهم انتفعوا بالشحم، فجملوه، وقصدوا بذلك أن يزول عنه اسم الشحم، ثم انتفعوا بثمنه بعد ذلك، لئلا يحصل الانتفاع بعين المحرم، ثم مع أنهم احتالوا حيلة خرجوا بها -في زعمهم- من ظاهر التحريم في هذين الوجهين، لعنهم الله تعالى على لسان رسوله على هذا الاستحلال، نظرًا إلى هذا المقصود، فإن حكمة التحريم لا تختلف، سواء كان جامدًا، أَو مائعًا، وبدل الشيء يقوم مقامه، ويسد مسدَّه، فإذا حرم الله الانتفاع بشيء، حرم الاعتياضَ عن تلك المنفعة، ولهذا ما أبيح الانتفاع به من وجه دون وجه، كالحمير، ونحوها، فإنه يجوز بيعها لمنفعة الظهر المباحة، لا لمنفعة اللحم المحرمة، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس عند أبي داود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء، حرم عليهم ثمنه" (¬1). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا.

قال شيخ الإسلام: يعني: ثمنه المقابل لمنفعة الأكل، فأما إن كانت فيه. منفعة أخرى، وكان الثمن في مقابلتها، لم يدخل في هذا، وأطال الكلام شيخ الإسلام على هذا المقام، والله ولي الإنعام (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 123 - 125).

باب السلم

باب السلم قال الأزهري: السَّلَم والسَّلَف واحد، يقال: سَلَمَ وأَسْلَمَ، وسَلَفَ وأَسْلَفَ بمعنى واحد، هذا قول جميع أهل اللغة (¬1)، كما في "المطلع" (¬2). وتعريفه: عَقْدٌ على موصوفٍ بذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس عقد (¬3). وهو جائز بالإجماع، وسنده من الكتاب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. روى سعيد بإِسناده عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أَحله الله تعالى في كتابه، وأذن به، ثم تلا هذه الآية (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 217). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 245). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 138)، وفي "الأم" (3/ 93 - 94)، وعبد الرزاق في "المصنف" (14064)، والحاكم في "المستدرك" (3130)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 18)، وغيرهم، ورواه البخاري في "صحيحه" (4/ 434 - "فتح الباري") معلقًا.

وذكر المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب حديثًا واحدًا، وهو ما ذكره: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَدِمَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ في الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَالَ: "مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيءٍ، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعلُومٍ، وَوَزْنٍ مَغلُومٍ، إلَى أَجَلٍ مَعلُومٍ" (¬1). * * * (عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قدم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ) المشرفةَ أولَ قدومِه الشريفِ مهاجرًا (وهم)؛ يعني: أهل المدينة (يُسْلِفون في الثمار السنتينِ والثلاثَ) سنينَ، ولفظ مسلم: السنةَ والسنتين (¬2)، وفي ¬

_ (¬1) * في تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2124)، كتاب: السلم، باب: السلم في كيل معلوم، و (2125 - 2126)، باب: السلم في وزن معلوم، و (2135)، باب: السلم إلى أجل معلوم، ومسلم (1604/ 127 - 128)، كتاب: المساقاة، باب: السلم، وأبو داود (3463)، كتاب: الإجارة، باب: في السلف، والنسائي (4616)، كتاب: البيوع، باب: السلف في الثمار، والترمذي (1311)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في السلف في الطعام والتمر، وابن ماجه (2280)، كتاب: التجارات، باب: السلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 124)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 48)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 305)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 514) و"شرح مسلم" للنووي (11/ 41)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 155)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1143)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 429)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 61)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 116)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 49)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 342). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1604/ 127).

لفظ عند البخاري من حديث أبي المنهال، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، والناس يسلفون في الثمر العامَ والعامين، أو قال: عامينِ أو ثلاثةً، شك إسماعيلُ بنُ عُلية (¬1). والحاصل: أنهم كانوا منهم من يسلف إلى عام، ومنهم من يسلف إلى عامين، ومنهم من يسلف إلى ثلاثة أعوام، فلا مانع من الكثرة والقلة، حيث كان إلى أمد معلوم له وقعٌ في الثمن عادة، كشهر ونحوه (¬2). (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلف في شيء) بما يصحُّ السلفُ فيه بحيث يكون مما تنضبط صفاته؛ لأن مالا يمكن ضبطُ صفاته يختلف كثيرًا، فيفضي إلى المنازعة والمشاقة المطلوبِ شرطًا عدمُها (¬3)، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (فليسلِفْ في كيل)؛ أي: إذا كان المُسْلَم فيه مكيلًا، فليكن بكيل (معلوم، و) إذا كان المُسْلَم فيه موزونًا، فليكن بـ (وزن معلوم)، وكذا إذا كان المسلَم فيه مذروعًا، فبذراع معلوم، وأن يكون المكيال والرطل والذراع المقدَّرُ به متعارَفًا عند العامة، وهذا مُفادٌ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في كيل معلوم"، فلا يصح لو شرط بصنجة أو مكيال أو ذراع لا عرف له (¬4). قال ابن المنذر: أجمع كلُّ من يحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم في الطعام لا يجوز بغير مكيال لا يعرف، أو صنجةٍ لا يُعرف عيارُها، ولا في ثوب بذراع فلان أو رطله (¬5)، حيث كان غير معروف؛ لأنه غرر ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2124). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 292). (¬3) انظر: "المبدع" لابن مفلح (4/ 178)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 297). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 291). (¬5) انظر: "الإجماع" لابن المنذر (ص: 94).

لا يحتاج إليه العقد، فإن عين فردًا ما له عرف، كمكيال فلان أو رطله، وهما معروفان عند العامة، صح العقد دون التعيين (¬1). وعلم من الحديث: أنه لا يصح السلم في مكيل وزنًا، ولا في موزون كيلًا. وقد نص الإمام أحمد على ذلك؛ لأنه مبيع تشترط له معرفة قدره، فلم يجز بغير ما هومقدر له في الأصل، كما لو أسلم في المذروع وزنًا، فإنه يصح بغير خلاف (¬2)، وأما في السلم في المكيل وزنًا، والموزون كيلًا، ففيه رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب الثلاثة (¬3). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلى أجل معلوم) يعني: اعتبار كون السلم لا يصح أن يكون حالًّا، كانص عليه الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وقال الشافعي: يصح. ولنا: أن الشارع قد أمر بالأجل، والأمر للوجوب، ولأن السلم رخصة جاز للرفق، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل، فإذا انتفى الأجل، انتفى الرفق، فلا يصح، كالكتابة، والحلول يخرجه عن اسمه ومعناه، بخلاف بيوع الأعيان، فإنها لم تثبت على خلاف الأصل (¬4). ثم اختلف القائلون باعتبار الأجل، فمذهب الإمام أحمد: اعتبارُ كون الأجل وقع في الثمن عادة؛ لأنه إنما اعتبر لتحقق الرفق، ولا يحصل بمدة لا وَقْعَ لها في الثمن. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 305 - 306). (¬2) المرجع السابق، (3/ 305). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 192). (¬4) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 156).

والأجل الذي له وقعٌ عادةً كشهر. وفي "الكافي": كنصفه (¬1)، وقال مالك باعتبار كون الأجل وقع عادة كمذهبنا، وقدر ذلك بنصف شهر. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يكون الأجل أقل من ثلاثة أيام، ويصح إلى ثلاثة فصاعدًا (¬2). تنبيهات: الأول: اتفق الأئمة على صحة السلَم بشروط ستة: أن يكون في جنس معلوم، ونوع معلوم، وصفة معلومة، ومقدار معلوم، وأجل معلوم، ومعرفة بمقدار رأس المال. وزاد أبو حنيفة شرطًا سابعًا، وهو: تسمية المكان ليؤديه فيه إذا كان له حمل ومؤنة، وهذا لازم عند الباقين، وليس بشرط، بعد اتفاقهم على أن يكون الثمن منقودًا، فإن تفرقا قبل قبض رأس مال السلم في المجلس، بطل عند أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد. وقال مالك: يصح، وإن تأخر رأس مال السلم يومين أو ثلاثة أو أكثر ما لم يكن شرطًا (¬3). الثاني: اختلف الأئمة فيما إذا أسلمه للحصاد والجذاذ ونحوهما، فقال مالك بجوازه، ولم يجزه الثلاثة (¬4). الثالث: من الشروط المعتبرة عند علمائنا: غلبةُ وجود مسلَم فيه في ¬

_ (¬1) انظر: "الكافي" لابن قدامة (2/ 112). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 195). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 363). (¬4) المرجع السابق، (1/ 364).

محله، يعني: عند حلوله؛ لأَنه وقت وجوب تسليمه، وإن عدم وقت عقد، كسَلَم في رُطَب وعنب في الشتاء إلى أَمَدٍ معلوم من الصيف، بخلاف عكسه؛ لأنه لا يمكن تسليمه غالبًا عند وجوبه، أشبه بيع الآبق، بل أولى (¬1)، وهذا مذهب مالك، والشافعي أيضًا. وقال أبو حنيفة: لا يجوز السلم إلَّا أن يكون المسلَم فيه موجودًا من حين العقد إلى حين المحل (¬2). قلت: وفي "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح البخاري" عن عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى، قالا: كنا نصيب الغنائم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى، قيل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك (¬3). وفي رواية: كنا نسلف على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر في الحنطة والشعير والزيت والتمر، وما نراه عندهم. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 310). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 364). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 380)، والبخاري (2128)، كتاب: السلم، باب: السلم إلى من ليس عنده أصل. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 354)، وأبو داود (3464)، كتاب: الإجارة، باب: في السلف، والنسائي (4614)، كتاب: البيوع، باب: السلم في الطعام، وابن ماجه (2282)، كتاب: التجارات، باب: السلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم.

باب الشروط في البيع

باب الشروط في البيع أي: ما يشترطه أحد المتعاقدين على الآخر. وتعريفه: إلزام أحد المتعاقدين الآخرَ بسبب العقد ماله فيه منفعة، وتعتبر مقارنته للعقد. وهو ينقسم إلى: صحيح، وفاسد. والفاسد أنواع: أحدها: مبطل للعقد من أصله، كشرط بيع آخرَ، أو سلف، كبعتك عبدي على أن تسلفني كذا في كذا، أو قرض، كعلى أن تقرضني كذا، أو شرط صرف الثمن، أو صرفِ غيره، وهو بيعتان في بيعة المنهي عنه. الثاني: ما يصح معه البيع، كشرطٍ ينافي مقتضى البيع (¬1). وذكر الحافظ في هذا الباب ثلاثة أحاديث، وبدأ بالفاسد الذي لا يفسد البيع، وهو: ¬

_ (¬1) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 286، 291).

الحديث الأول

الحديث الأول عن عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ، فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ، في كُلِّ عَامٍ أُوْقِيَّةً، فَأَعِينِينِي، فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّها لَهُم، وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي، فَعَلْتُ، فَذَهبَتْ بَرِيرَةُ إلى أَهْلِها، فَقَالَتْ لَهم، فَأَبَوْا عَلَيْها، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمِ، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جالِسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِم، فَأَبَوْا إِلأَ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الوَلاَءُ، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "خُذِيها، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءَ، فَإنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعتَقَ"، فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ الله وأَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعدُ: مَا بَالُ رجالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ في كِتَابِ اللهِ؟! مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَهُوَ بَاطِل، وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أَعتَقَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2060)، كتاب: البيوع، باب: إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل، واللفظ له، و (2421)، كتاب: العتق، باب: إثم من قذف مملوكه، و (2422)، باب: ما يجوز من شروط المكاتب، و (2568)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في البيع، و (2579)، باب: الشروط في الولاء، ومسلم (1504/ 6 - 9)، كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، وأبو داود (2233)، كتاب: الطلاق، باب: في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد، و (2236)، باب: حتى متى يكون لها الخيار، و (3929 - 3930)، =

(عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصديقة (- رضي الله عنها -، قالت: جاءَتني بَرِيرةُ) -بفتح الباء الموحدة، وكسر الراء الأولى، وسكون المثناة تحت- مولاة عائشة - رضي الله عنها - منقول اسمها من البَرِير، كأمير: ثمر الأراك. كانت بريرة - رضي الله عنها - مولاة لبعض بني هلال، فكاتبوها، ثم باعوها لعائشة - رضي الله عنها - كما في الحديث (¬1). وجزم [المزي] (¬2) في "التهذيب" بأنها كانت مولاة لعُتبةَ بن أبي لهب، ¬

_ = كتاب: العتق، باب: في بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة، والنسائي (3451 - 3452)، كتاب: الطلاق، باب: خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك، و (4655)، كتاب: البيوع، باب: بيع المكاتب، و (4656)، باب: المكاتب يباع قبل أن يقضي من كتابته شيئًا، والترمذي (1154)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج، و (2124)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت، وابن ماجه (2521)، كتاب: العتق، باب: المكاتب، كلهم من طريق عروة، عن عائشة - رضي الله عنها -، به. وللحديث عندهم طرق أخرى مختلفة، عن عائشة - رضي الله عنها -. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 256)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 63)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 101)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 105)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 318)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 139)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 160)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1146)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 188)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 221)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 76)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 10)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 284). (¬1) قاله ابن عبد البر، كما في "الاستيعاب" (4/ 1795). (¬2) في الأصل: "المزني"، والصواب ما أثبت.

وقد روى حديثَ بريرة: عائشةُ، وابن عباس (¬1)، وابن عمر (¬2) - رضي الله عنهم -، وربما ترويه هي، كما أخرجه النسائي (¬3)، وليس لها في الكتب إلا هو، نعم ذكر السهيلي (¬4) عن عبد الملك بن مروان، قال: كنت أجالس بريرةَ قبل أن أليَ هذا الأمرَ، فتقول في: يا عبدَ الملك! إن فيك خصالًا خليقةً بهذا الأمر، فإن وليت هذا، فاتق الله في الدماء، فإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الرجل لَيَحالُ بينه وبين الجنة بعد أن ينظر إليها بِمحْجَم دمٍ أراقها من مسلم في غير حق" (¬5). وهي أول مكاتَبَة في الإسلام، وأول مكاتَب في الإسلام: سلمانُ الفارسي - رضي لله عنه -، وقيل: أول من كوتب: عبدٌ لعمرَ بن الخطاب. قال البرماوي: ولم أقف لبريرة على وفاةٍ، ولا عُمْرٍ، ولا نسب، إلا ما وقع في "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي: أنها بنت صفوان، ولعله وهم من الناسخ الذي كتب من خط الشيخ من حيث إن بعدها ترجمة بُسرة بنت صفوان، فانتقل نظره، أو نحو ذلك، انتهى (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4979)، كتاب: الطلاق، باب: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في زوج بريرة. (¬2) رواه البخاري (2048)، كتاب: البيوع، باب: البيع والشراء مع النساء. (¬3) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (5017). (¬4) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (4/ 25). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 205)، وفي "مسند الشاميين" (1214). (¬6) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 256)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 38)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1795)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 37)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 600)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 136)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 297)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 535)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 432).

(فقالت) بريرةُ لعائشةَ - رضي الله عنها -: (كاتبت أهلي)، والمكاتبة: مفاعلة، وهي لفظة وُضعت لعتقٍ على مال معلومٍ منجَّمٍ إلى أوقات معلومة، يحلُّ كلُّ نجم لوقته المعلوم، وأصلها من الكتْبَ، وهو الجمع، وسميت بذلك؛ لأنها تُجمع نجومًا (¬1)، وقيل: إنها مأخوذة من كتابة الخط، لما يصحب هذا العقدَ من الكتابة له فيما بين السيد وعبده غالبًا (¬2). والمراد بأهلها: مواليها الذين كانوا يملكون رقها. (على تسع أواق): جمع أُوقيَّة -بضم الهمزة وتشديد الياء المثناة تحت مشددًا-: أربعون درهمًا، كما في "القاموس" (¬3)، و"النهاية" (¬4)، وغيرهما، ووزنه: أُفعولة، والألف زائدة، وقد تكررت في الحديث مفردة ومجموعة، ويقال لنصف الأوقية: نَشٌّ، وهو اسم لعشرين درهمًا (¬5). (في كل عام) أدفع لهم (أوقيةً)، إذ عليَّ في كل عام أوقية، (فأعينيني) بشيء أستعين به في فكاك رقبتي من الرق. قالت عائشة - رضي الله عنها -: (فقلتُ) لها: (إنْ أحبَّ أهلُكِ أن أعدَّها)، أي: التسعَ أواق (لهم) يقبضونها في الحال، (ويكون وَلاؤُكِ) -بفتح الواو، ومد الهمزة-: حق ميراث المعتق من المعتق (¬6)، ومعناه: أنه ¬

_ (¬1) قاله ابن أبي الفتح في "المطلع على أبواب المقنع" (ص: 316)، نقلًا عن الأزهري في "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص: 429). (¬2) قاله ابن دقيق العيد، كما في "شرح عمدة الأحكام" (3/ 160 - 161). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1732)، (مادة: وقي). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 80). (¬5) المرجع السابق، (5/ 216). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 167).

إذا أعتق عبدًا أو أمة، صار له عصبة في جميع أحكام التعصيب عند عدم العصبة من النسب، كالميراث، وولاية النكاح، والعقل، وغير ذلك (¬1) (لي) أنا لعتقي إياكِ دونهم، لكونهم أخذوا ثمنَك (فعلت)، وتكونين قد عتقت، بإعتاقي لك، واسترحت من الدأب في تحصيل ما ذكرتيه من المال. (فذهبت بريرةُ إلى أهلها، فقالت لهم) كما قالت لها عائشة، من دفعها المالَ المطلوب لأهل بريرة، ويكون ولاء بريرة لها، (فأبوا)؛ أي: امتنعوا (عليها) -أي: على بريرة- من ذلك، (فجاءت) بريرةُ (من عندهم، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جالسٌ) عندَ عائشةَ -جملة حالية-، (فقالت) بريرة لعائشة: (إني عرضتُ ذلك) -أي: الذي قالته عائشة - رضي الله عنها -، لها (عليها)؛ أي: مواليها، (فأبوا) من قبوله، والامتثالِ له، (إلا أن يكون لهم) عليَّ (الولاءُ) دونك! (فأخبرت عائشةُ - رضي الله عنها - رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -)، وفي لفظٍ عند البخاري، ولمسلم معناه: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت عليَّ بريرةُ وهي مكاتَبة، فقالت: اشتريني فأعتقيني. قالت: نعم، قالت: لا يبيعوني حتى يشترطوا وَلائي، قالت: لا حاجةَ في فيك، فسمع بذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، أو بلغَهُ، فقال: "ما شأن بريرة؟ " فذكرت عائشة ما قالت، (فقال) - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: (خذيها)، وفي لفظ: "اشتريها فأعتقيها" (¬2)، (واشترطي لهم الولاء)، وفي لفظ: "وليشترطوا ما شاؤوا، (فإنما الولاء لمن أَعتقَ) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 498). (¬2) رواه البخاري (2576)، كتاب: الشروط، باب: ما يجوز من شروط المكاتب، إذا رضي بالبيع على أن يعتق، من طريق عبد الواحد بن أيمن المكي، عن أبيه. (¬3) هو في لفظ الحديث المتقدم تخريجه آنفًا.

وفي لفظ عند البخاري، فقال، وذكر الحديث: "إن الولاء لمن أعطى الوَرِقَ، ووليَ النعمةَ" (¬1). وفي بعض طرق الحديث عندهما: فذكرت -يعني: بريرة- ذلك لأهلها، فأبوا إلا أن يكون الولاءُ لهم، فأتتني، فذكرَتْ ذلك، قالت: فانتهرتُها، فقلت: لاها الله إذًا، قالت: فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألني، فأخبرته، فقال: "اشتريها وأَعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق" (¬2) (ففعلت عائشة) - رضي الله عنها -، يعني: اشترتها، وأعتقتها، واشترطت لموالي بريرة الولاء، كما قال لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي لفظ: قالت عائشة - رضي الله عنها -: ففعلتُ-بضمير المتكلم- (¬3). وقد صرح الحديث بجواز بيع المكاتَب، وبه صرح علماؤنا، وكذا هبتُه، والوصيةُ به، وكذا ولدُه التابع له، ومن انتقل إليه يقوم مقام مكاتبه، يؤدي إليه ما بقي من كتابته، فإذا أدى إليه، عتق، وولاؤه لمن انتقل إليه، وإن عجز، عاد قِنًا، وإن لم يعلم مشتريه أنه مكاتب، فله الرد، وله الإمساك مع الأرش (¬4). قال الوزير عون الدين بن هبيرة: قال الإمام أحمد: يجوز بيع المكاتب، ولا يكون البيع فسخًا لكتابته، بل يجريه للمشتري على ذلك، ويقوم فيه مقام السيد الأول (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6379)، كتاب: الفرائض، باب: ما يرث النساء من الولاء، من طريق النخعي، عن الأسود، عن عائشة، به. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري (2424)، ومسلم برقم (1504/ 8). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2060، 2579)، ومسلم برقم (1504/ 8). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 282 - 283). (¬5) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 375).

قال في "المنتهى، وشرحه": ويصحُّ نقلُ الملك في المكاتَب، ذكرًا كان أو أنثى، على الأصحَّ (¬1). واستُدلَّ بهذا الحديث: فأمرها - صلى الله عليه وسلم - بشرائها، ولو لم يجز، لم يأمرها بذلك، ولأن المكاتَبَ رقيق ما بقي عليه درهمٌ. قال عون الدين بنُ هبيرةَ: وقال أبو حنيفةَ، ومالكٌ: لا يجوز، إلا أن مالكًا قال: يجوز بيع مال الكتابة، وهو الدين المؤجَّل بثمن حالٍّ، إن كان عينًا، فبِعِوَض، وإن كان عرضًا، فبِعَين. وعن الشافعي قولان: الجديد منهما: أنه لا يجوز (¬2). واعتذروا عن الحديث بما لا ينهض به الاعتذار، ولا يحسن تقديم الرأي على صحيح الأخبار. وفي الحديث أيضًا: دليل على صحة بيع العبد بشرط العتق، فيصح أن يشترطه بائع على مشتر، ويجبر حينئذٍ مشترٍ على عتق مبيع اشتُرِطَ عليه إن أباه؛ لأنه مستحَقٌّ لله تعالى، لكونه قربة التزمَها المشتري، فأجبر عليه، كالنذر، فإن أصر ممتنعًا، أعتقه حاكم، كطلاقه على مؤل، هذا معتمد مذهب الإمام أحمد (¬3). وقال الإمام مالك بجواز البيع، وصحة الشرط أيضًا. وعن الشافعي قولان: أصحهما: صحة البيع، وصحة الشرط. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (5/ 66). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 375). (¬3) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 176).

وقال أبو حنيفة: البيع باطل فيما حكاه الكرخي، وروى حسن بن زياد جواز البيع. وفيه أيضًا: إن اشتراط الولاء للبائع لا يفسد العقد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واشترطي لهم الولاء"، ولا يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعقد باطل، وعلم منه عدم صحة هذا الشرط. وهو أيضًا يوافق القياس من وجه، وهو أن القياس يقتضي: أن الأثر مختص بمن صدر منه السبب، والولاء من آثار العتق، فيختص بمن صدر عنه العتق، وهو المشتري المعتق (¬1). فإن قيل: المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اشترطي لهم الولاء"؛ أي: عليهم، بدليل أمرها به، ولا يأمر - عليه الصلاة والسلام - بفاسد. فالجواب: عدم صحة هذا التأويل لوجهين: أحدهما: أن الولاء لها بإعتاقها، فلا حاجة إلى اشتراطه. الثاني: أنهم أَبَوْا البيع، إلا أن يشترط لهم الولاء، فكيف يأمرها بما علم أنهم لا يقبلونه منها؟ وسياق الحديث ظاهر في إبطال هذا التأويل، فليس على مثله تعويل. وأمَّا أمرها بذلك، فليس بأمر حقيقة، وإنما هو صورة الأمر بمعنى التسوية، كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطور: 16]، والتقدير: اشترطي لهم الولاء أو لا تشترطي، ولهذا قال عقبه: "فإنما الولاء لمن أعتق" (¬2). وعلى كل حال، ففي ظاهر الحديث إشكال، حتى زعم بعضُ الأئمة ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 163). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 158).

عدمَ ثبوت هذه اللفظة، كانقل عن يحيى بن أكثم، وعن الإمام الشافعي قريبٌ منه، وأنه قال: اشتراطه للولاء رواه هشام بن عروة، عن أبيه، وانفرد به دون غيره من رواة هذا الحديث، وغيرُه من رواته أثبتُ من هشام، ففي رواية مالك، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: لما ذكرت عائشة امتناعَهم من بيع بَريرةَ إلا أن يكون الولاء لهم، فقال: "لا يمنعك ذلك، فإنما الولاءُ لمن أعتقَ" (¬1). والتحقيق: إثباتُ هذه اللفظة، للثقة براويها، ومن التأويل والتخريج من ظاهر الإشكال أن يكون هذا الاشتراط بمعنى: ترك المخالفة لما شرطه البائعون، وعدم إظهار النزاع فيما دعوا إليه. وقد يعبر عن التخلية والترك بصيغة تدل على الفعل، ألا ترى أنه قد أطلق لفظ الإذن من الله تعالى على التمكين من الفعل والتخلية بين العبد وبينه، وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي الإباحة، والتجويز؟ وهذا موجود في كتاب الله تعالى على ما يذكره المفسرون، كما في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه} [البقرة: 102]، وليس المراد بالإذن هنا إباحة الله بالإضرار بالسحر، ولكنه لما خلى بينهم وبين ذلك الإضرار، أطلق عليه لفظ الإذن مجازًا. ومنها: أن لفظة الاشتراط والشرط وما تصرف منهما يدل على الإعلام والإظهار، ومنه: أشراط الساعة، فيحمل قوله: "اشترطي" على معنى: اعلمي حكم الولاء وبيِّنيه، واعلمي أنه لمن أعتق. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد أخبرهم أن الولاء لمن أعتق، ثم أقدموا على ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2061)، كتاب: البيوع، باب: إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل، ومسلم (1054/ 5)، كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق.

اشتراط ما يخالف هذا الحكم الذي علموه، فورد هذا اللفظ على سبيل الزجر والتوبيخ والتنكيل، لمخالفتهم الحكم الشرعي، فأبطلَ هذا الشرطَ، عقوبةً لمخالفتهم حكمَ الشرع (¬1)، والله الموفق. (ثم) بعد شراء عائشة لبريرةَ وعتقِها لها (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس خطيبًا، فحمد الله) -سبحانه وتعالى-، (وأثنى عليه) عودًا على بَدءٍ بما هو أهله، (ثم قال) بعد الحمد والثناء: (أما بعد: فما بالُ رجالٍ)، وفي لفظ: "أقوام" (¬2)، وهو استفهام إنكاري إبطالي؛ أي: ما حالهم وشأنهم؟ وهم أهل بريرة المتقدم ذكرهم، فنبه على تقبيح فعلهم بقوله: (يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله) تعالى، (ما كان من شرط ليس في كتاب الله) تعالى؛ أي: حكمه الذي يت عبد به عباده من كتاب أو سنة أو إجماع (¬3)، فإن الشريعة كلها في كتاب الله، إما بغير واسطة، كالمنصوصات في القرآن من الأحكام، وأما بواسطة، كالسنة والإجماع، وما يقاس على ذلك (¬4)، (فهو باطل، وإن كان) المشروطُ (مئةَ شرطٍ) مبالغة وتأكيدًا؛ لأن عموم "ما كان من شرط" دل على بطلان جميع الشروط، كان زادت على المئة. (قضاءُ الله)؛ أي: حكمه (أحقُّ) بالاتباع، وأولى بالامتثال له من الشروط المخالفة لحكم الشرع؛ أي: هو الحق الذي يجب العمل به لا غيرُه. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 164). (¬2) رواه البخاري (444)، كتاب: المساجد، باب: ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، ومسلم (1504/ 8). (¬3) نقله المناوي في "فيض القدير" (2/ 173). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 168).

(وشرط الله أوثق)؛ أي: باتباع حدوده، والوقوف على ما شرعه من أَمر ونهي، بامتثال أوامره، والانكفاف عن زواجره؛ أي: هو الأوثق، وما سواه باطل. (وإنما الولاء لمن أعتق) لا لغيره من مشترِط وغيره، فهو منفي شرعًا، وعليه الإجماع (¬1). وفي هذا اللفظ دليل على جواز السجع لغير المتكلف (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "فيض القدير" للمناوي (2/ 173). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 168).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ كانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ، فَأعيَا، فَأَرادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ، فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسر مِثْلَهُ، قَالَ: "بعْنِيهِ بأُوْقِيَّةٍ"، قُلْتُ: لاَ، ثُمَّ قَالَ: "بِعْنِيهِ"، فَبِعْتُهُ بِأُوقِيَّهٍ، وَاسْتَثْنَيْتُ حُملاَنَهُ إَلَى أَهلِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ، أَتَيْتُهُ بالجَمَلَ، فَنَقَذَني ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعتُ، فَأَرسَلَ فِي إِثْرِي، فَقَالَ: "أَتُرَاني مَا كَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ، فَهُوَ لَكَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1991)، كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمير، و (2185)، كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل رجل أن يعطي شيئًا ولم يبين كم يعطي، فأعطى على ما يتعارفه الناس، و (2275)، كتاب الاستقراض، باب: الشفاعة في وضع الدين، و (2569)، كتاب: الشروط، باب: إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، ومسلم (715/ 109)، واللفظ له، و (715/ 110 - 117)، (3/ 1221)، كتاب: المساقاة، باب: بيع البعير واستثناء ركوبه، وأبو داود (3505)، كتاب: الإجارة، باب: في شرط في بيع، والنسائي (4637 - 4641)، كتاب: البيوع، باب: البيع يكون فيه الشرط، فيصح بيع الشرط. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 140)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 291)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 501)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 30)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 169)، و"العدة في =

(عن جابر بن عبد الله) الأنصاريِّ (- رضي الله عنهما -: أنه)؛ أي: جابر - رضي الله عنه - (كان يسير على جمل)، وذلك في رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محاربٍ وبني ثعلبةَ، وكانت بعد خيبر في السابعة على ما حققه الإمام ابن القيم (¬1) وغيره من محققي أهل السير، وبه قال الإمام البخاري (¬2)، لما صح أن أبا موسى الأشعري حضرها، وإنما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند فراغه من خيبر (¬3)، وكذا أبو هريرة - رضي الله عنه - (¬4)، كما بينت ذلك وحققته في "تحبير الوفا"، و"شرح النونية" (¬5). قال جابر - رضي الله عنه -: (فأَعْيَا)؛ أي: كَلَّ وضَعُفَ. قال في "القاموس": أَعيا الماشي: كَلَّ، والسَّيرُ البعيرَ: أكلَّهُ، وإبل مَعايا، ومَعايٍ: مُعْيِيَهةٌ (¬6). (فأراد) جابر - رضي الله عنه - (أن يُسيبه)، لإعيائه وعجزه، وعدم لحوقه الركب. وفي "مسند الإمام أحمد"، و"الصحيحين"، وغيرهما من طرق عن ¬

_ = شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1156)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 243)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 315)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 214)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 433)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 7)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 282). (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 252). (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (4/ 1512). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) وقد تقدم ذكر هذا عند الشارح -رحمه الله-. (¬6) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1697)، (مادة: عيَّ).

جابر - رضي الله عنه -، قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني ثعلبة، وخرجتُ على ناضِحٍ لي، فأبطأ عليَّ، وأعياني حتى ذهب الناس، فجعلت أُرقيه -أي: أصعده وأمشيه-، ويهمني شأنه، (فلحقني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -)، وفي لفظ: فأتى عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "ما شأنك؟ "، فقلت: يا رسول الله! أبطأ عليَّ جملي، فأناخ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرَه، فقال: "أمعكَ ماءٌ؟ "، فقلت: نعم، فجئته بقعب من ماء، فنفث فيه، ثم نضح على رأسه وظهره وعلى عجزه، ثم قال: "أعطني عصًا"، فأعطيته عصًا معي، أو قال: قطعت له عصًا من شجرة، (فدعا لي) - صلى الله عليه وسلم -، (وضربه) بالعصا (¬1)، وفي لفظ: ثم نخسه نخساتٍ، ثم قرعه بالعصا، ثم قال: "اركب"، فركبت، (فسار سيرًا لم يسرْ مثلَه)، وفي اللفظ الآخر، قال: فخرج والذي بعثه بالحق! يواهق؛ أي: يباري ناقته - صلى الله عليه وسلم -، ويماشيها مواهقة ما تفوته الناقة، وجعلت أكُفُّهُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياء منه، وجعلت أتحدث مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ثم (قال) - عليه الصلاة والسلام - لجابر: (بعنيه)؛ أي: الجملَ (بأوقية)، وتقدم أنها أربعون درهمًا، قال جابر: (قلت: لا) أبيعُه، (ثم قال) - صلى الله عليه وسلم - ثانيًا: (بعنيه، فبعته) له - صلى الله عليه وسلم - (بأوقية) كما دفع أولًا، (واستثنيتُ حملانهُ)؛ أي: أن يحملني ومتاعي (إلى أهلي)؛ أي: اشترطت أن تكون في منفعةُ ظهره، بحيث يحمل متاعي الذي كان معي، وأركبه إلى المدينة -زادها الله تشريفًا-. قال جابر - رضي الله عنه -: (فلما بلغتُ) على الجمل إلى أهلي، (أتيتُه) - عليه الصلاة والسلام - (بالجملِ، فنقدَني ثمنَه)؛ أي: أعطانيه نقدًا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عندهما، ورواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 373). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 375).

مُعَجَّلًا، (ثم رجعتُ) إلى بيتي، (فأرسل فى إِثري) -بفتح الهمزة وكسرها-؛ أي: متبعًا له بعده. قال في "القاموس": خرج في أَثره وإِثره: بعده (¬1). يعني: أرسل خلفَ جابر، فرجع إليه، (فقال) له - صلى الله عليه وسلم -: (أَتُرانى) -بفتح الهمزة وضم المثناة الفوقية-؛ أي: تظنني (ماكَسْتُكَ لآخذَ جملك؟). قال في "النهاية": المُماكَسَةُ في البيع: انتقاصُ الثمن واستحطاطُه، والمنابذةُ بين المتابعين (¬2). (خذ جملَكَ) باركَ الله لكَ فيه، (ودراهمَكَ [فهو] لك) أيضًا، وفي لفظ: "فخذ جملَك، فهو مالك" (¬3). ووقع في رواية أبي نعيم شيخ البخاري بلفظ: "أتراني إنما ماكستُك لآخذ جملَكَ؟ خذ جملك ودراهمَكَ، هما لك" (¬4)، وهذا من كرمه - صلى الله عليه وسلم -، ومكارم أخلاقه، وعالي شيمه، وفيه عَلَم من أعلام النبوة، ومعجزة من معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ومحل موافقة الترجمة من الحديث: بيع الجمل، واستثناء حملانه إلى المدينة، وهذا من الشرط الصحيح في البيع، وهو أن يشترط البائع على مشترٍ نفعًا غيرَ وطء ودواعيه معلومًا في مبيع، كسكنى الدار المبتاعة شهرًا، أو حملان البعير المبيع إلى محل معين، وخدمة العبد المبيع مدة معلومة، ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 435)، (مادة: أثر). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 349). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (715/ 109). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 317). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 170).

على الأصح، نص عليه الإمام أحمد، وحجته الحديث المذكور (¬1). وفي رواية عند مسلم: فبعتُه بخمس أواق، قال: قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة، قال: "ولك ظهره إلى المدينة" (¬2). وقد روي في قصة جابر هذه اختلافٌ في قدر ثمن الجمل المذكور، فروي: أُوقية، وروي: أربعةُ دنانير، وروي: أوقيةُ ذهب، وروي: أربعُ أواق، وروي: خمس أواق، وروي: مئتا درهم، وروي: عشرون دينارًا، وهذا كله في رواية البخاري (¬3). وروى الإمام أحمد والبزار من حديث جابر: ثلاثة عشر دينارًا (¬4)، هذا مع كون الثمن واحدًا، والرواة كلهم عدول (¬5). قال الإسماعيلي: ليس اختلافهم في قدر الثمنِ بضارٍّ؛ لأن الغرض بيان كرم المصطفى -عليه السلام-، وتواضعِه وحنوِّه على أصحابه - صلى الله عليه وسلم - (¬6). وقال القرطبي: اختلفوا في ثمن الجمل اختلافًا لا يقبل التوفيق، وتكلُّف ذلك بعيدٌ عن التحقيق، مع أنه لا يتعلق بتحقيق ذلك حكمٌ، وإنما يحصل من مجموع الروايات أنه باعه البعير بثمن معلومٍ بينهما، وزاده عند الوفاء زيادةً معلومة، ولا يضرُّ عدمُ التحقيق بذلك، انتهى (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 170 - 171). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (715/ 113). (¬3) وقد تقدم تخريجه برقم (2569). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 362). (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 297). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 321). (¬7) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 503 - 504).

تنبيهان: الأول: تقدم أن الأوقية أربعون درهمًا، هكذا كان عرفهم في ذلك الزمان، وأما في عرف الناس بعد ذلك، فلهم اصطلاحات متباينة: ففي عرف الحجاز: عشرة دراهم، وفي عرف أهل مصر اليوم: اثنا عشر درهمًا، وفي عرف أهل الشام: خمسون درهمًا، وفي عرف أهل حلب: ستون درهمًا، وفي عرف أهل عيتاب: مئة درهم، وفي عرف بعض أهل الروم: مئة وخمسون درهمًا، وفي مواضع: أكثر من ذلك، حتى إن موضعًا فيه الأوقية: ألف درهم (¬1). الثاني: قد اختلف الفقهاء فيما دل عليه هذا الحديث، فقال الإمام أحمد، ومالك، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وابن المنذر، وغيرهم: إذا باع من رجل دابة بثمن معلوم على أن يركبها البائع لمحل معين، يصح البيع والشرط، واحتجوا بهذا الحديث. وقالت طائفة: البيع جائز، والشرط باطل، وهم: ابن أَبي ليلى، وروي عن أحمد في رواية مرجوحة، وأشهب من المالكية. وقال آخرون: البيع فاسد، وهم: أبو حنيفةَ وصاحباه، والشافعيُّ، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) وانظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 44).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: نَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيع أَخِيهِ، وَلاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبةِ أَخِيهِ، وَلاَ تَسْأَلُ المَرأَةُ طَلاَقَ أُخْتِها لِتَكْفَأَ مَا فِي إنَائِها (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2033)، كتاب: البيوع، باب: لا يبيع على بيع أخيه، واللفظ له، و (2052)، باب: لا يبيع حاضر لباد بالسمسرة، و (2574)، كتاب: الشروط، باب: ما لا يجوز من الشروط في النكاح، ومسلم (1413/ 51 - 53)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك، وأبو داود (2176)، كتاب: الطلاق، باب: في المرأة تسأل زوجها طلاق امرأة له، والنسائي (3239)، كتاب: النكاح، باب: النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، و (4502)، كتاب: البيوع، باب: سوم الرجل على سوم أخيه، و (4506 - 4507)، باب: النجش، والترمذي (1190)، كتاب: الطلاق واللعان، باب: ما جاء: لا تسأل المرأة طلاق أختها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 230)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 269)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 165)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 555)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 104)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 192)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 174)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1159)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 323)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 258)، و"إرشاد الساري" =

(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمنِ بنِ صَخْرٍ (- رضي الله عنه -قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر) بالبلد عارفٍ بالسعر (لبادٍ) أي: إنسان قادم على البلد من غير أهلها، ليبيع سلعته بسعر يومها، وجهل السعر، وكان للناس إلى السلعة التي قدم البادي ونحوه بها ليبيعها حاجةٌ، حرمت مباشرةُ الحاضر للبيع (¬1)، ولم يصحَّ -كما تقدم في باب: ما نهي عنه من البيوع-. (ولا تناجشوا)، وتقدم أن النجش: أن يزيد في ثمن السلعة مَنْ لا يريد ابتياعها، بل ليغرَّ غيره (¬2). (ولا يبيع الرجلُ على بيع أخيه)، وتقدم في أول باب: ما نُهي عنه من البيوع بلفظ: "ولا يبيع بعضُكم على بيع بعض" (¬3)، فيحرم ذلك، (ولا يخطُبْ) بالجزم على النهي، ويجوز الرفع على أنه نفي، وسياق ذلك بصيغة الخبر أبلغُ في المنع، ويؤيده قوله في رواية عبد الله بن عمر عند مسلم: "ولا يبيعُ الرجل على بيع أخيه، ولا يخطبُ" (¬4) بالرفع فيهما (¬5) (على خطبة أخيه) المسلمِ حتى ينكحَ، أو يترك، وفي رواية: "أو يأذن له الخاطب" (¬6)؛ أي: يأذن الأول للثاني (¬7). ¬

_ = للقسطلاني (4/ 61)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 22)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 279). (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 160). (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 5). (¬3) وتقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 199). (¬6) رواه البخاري (4848)، كتاب: النكاح، باب: لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 199).

تنبيه: قال الجمهور: هذا النهي للتحريم. وقال الخطابي: هذا النهي للتأديب، وليس بنهي تحريم يبطل العقد عند أكثر الفقهاء، كذا قال (¬1). ولا يخفى أنه لاملازمة بين كونه للتحريم، وبين البطلان عند الجمهور، بل هو عندهم للتحريم، ولا يبطل العقد. بل حكى النووي: أن النهي فيه للتحريم بالإجماع (¬2)، ولكن اختلفوا في شروطه. فقال الحنابلة والشافعية: محل التحريم ما إذا صرحت المخطوبة أو وليها الذي أذنت له، حيث اعتبر إذنها بالإجابة، فلو وقع التصريح بالرد، فلا تحريم، ولو لم يعلم الثاني بالحال، جاز له الهجومُ على الخطبة؛ لأن الأصل الإباحة على معتمد المذهب (¬3). قال في "الإقناع": ولايحلُّ لرجل أن يخطب على خطبة مسلم، لا كافرٍ، كما لا ينصحه نصًا إن أجيب تصريحًا أو تعريضًا إن علم، فإن فعل، صح العقد، كالخطبة في العدة، بخلاف البيع، فإن لم يعلم، أجيب أو لا، أو ردَّ، ولو بعد الإجابة، أو لم يركن إليه، أو أذن له، أو سكت عنه، أو كان قد عَرَّضَ لها في العِدَّة، أو ترك الخطبة، جاز (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 194). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 197). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 199). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 302).

والأصحُّ عند الشافعية: عدمُ الحرمة إن وقعت الإجابة بالتعريض، كقولها: لا رغبةَ عنك (¬1)، وهو قول الحنفية والمالكية (¬2). (ولا تسألُ المرأةُ)، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا تشترط المرأة (طلاقَ أختها) (¬3)، وفي لفظ عند البخاري وغيره: "لا يحلُّ لامرأةٍ تسألُ طلاقَ أختِها لتستفرغَ صَحْفَتها (¬4)، فإنما لها ما قُدر لها" (¬5)، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" بلفظ: "لا يصلح لامرأة أن تشترطَ طلاقَ أختِها" (¬6). وعلى بعض ألفاظ البخاري: "لا يحل" يقتضي التحريم، وحملوه على ما إذا لم يكن هناك سبب يجوز ذلك، كريبة في المرأة لا ينبغي معها أن تستمر في عصمة الزوج، ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة، أو لضرر يحصل لها من الزوج، أو للزوج منها، أو يكون سؤالها ذلك بعوض، وللزوج رغبةٌ في ذلك، فيكون كالخُلع مع الأجنبي، إلى غير ذلك من المقاصد المختلفة. وقال ابن حبيب: حمل العلماء هذا النهي على الندب، فلو فعل ذلك، لم يفسخ النكاح. وتعقَّبه ابنُ بطال: بأن نفي الحل صريح في التحريم، نعم لا يلزم منه ¬

_ (¬1) انظر: "روضة لطالبين" للنووي (7/ 31). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 199). (¬3) ذكره البخاري في "صحيحه" (5/ 1978). (¬4) في الأصل "ب": "صفحتها". (¬5) رواه البخاري (4857)، كتاب: النكاح، باب: الشروط التي لا تحل في النكاح. (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 219).

فسخ النكاح، وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى، مع أن فقهاءنا صرَّحوا بأن الزوج إذا شرط لمخطوبته طلاق زوجته بأن ذلك شرط صحيح لازم للزوج، بمعنى: ثبوت الخيار لها بعدمه، ولا يجب الوفاء به، بل يندب، فإن لم يفعل، فلها الفسخ، لا بعزمه، وهو على التراخي لا يسقط إلا بما يدل على الرضا من قول أو تمكين منها مع العلم، وهذا محل مطابقة الحديث للترجمة. قال الإمام النووي: معنى هذا الحديث: نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلًا طلاقَ زوجته، وأن يتزوجَها هي، فيصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ما للمطلقة. قال: والمراد بأختها: غيرها، سواء كانت أختًا في النسب، أو الرضاع، أو الدين، ويلحق بذلك الكافرة في الحكم (¬1)، وإن لم تكن أختًا في الدين، إما لأن المراد الغالب، أو أنها أختها في الجنس الآدمي. وحمل ابنُ عبدِ البرِّ الأخت هنا على الضَّرَّةِ (¬2)، وهذا ممكن في الرواية التي وقعت بلفظ: "لا تسأل المرأة طلاق أختها". وأما الرواية التي فيها لفظ الشرط، فظاهرها أنها في الأجنبية، ويؤيده قوله فيها: "ولتنكح، فإنَّما لها ما قُدِّر لها" (¬3)؛ أي: ولتتزوج الزوجَ المذكور من غير أن تشترط أن يطلق التي قبلها، وعلى هذا، فالمراد بالأخت هنا: الأخت في الدين، ويؤيده زيادة ابن حبان في آخره: "فإنَ المسلمةَ أختُ المسلمة" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 193). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 165). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه ابن حبان في "صحيحه" (4070)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 220).

(لتكفأ) -بكسر اللام- تعليلًا لسؤال طلاقها، وهو بالهمز، من كفأتُ الإناءَ: إذا قلبتُه، وأفرغتُ ما فيه، وفي لفظ: "لِتَكْتَفِىءَ" (¬1). (ما في إنائها)، وهو -بالهمز أيضًا-، افتعال من كفأت الإناء، وكذا يكفأ، وهو -بفتح أوله، وسكون الكاف وبالهمز-، وجاء: أكفأت الإناء: إذا أملته، وهو في رواية ابن المسيب: "لِتُكْفِىءَ" (¬2) -بضم أوله- من أَكفأت، وهو بمعنى أملته. وفي رواية: "لتستفرغ صحفتها" (¬3)، والمراد بالصحفة والإناء هنا: ما يحصل من الزوج من النفقة ونحوها (¬4). وفي "النهاية": الصحفة: إناء كالقصعة المبسوطة. قال: وهذا مثل، يريد: الاستئثار عليها بحظها، فتكون كمن قلب إناء غيره في إنائه (¬5). وقال الطيبي: هذه استعارة مستملحة تمثيلية، شبه النصيب والبخت بالصحفة، وحظوظها وتمتعاتها بما يوضع في الإناء من الأطعمة اللذيذة، وشبه الافتراق المسبب عن الطلاق باستفراغ الإناء عن تلك الأطعمة، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به، واستعمل في المشبه ما كان مستعملًا في المشبه به (¬6)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم في "المستخرج على صحيح مسلم" (4/ 75). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 220). (¬2) رواه أبو نعيم في "المستخرج على صحيح مسلم" (4/ 79). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4857). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 220). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 13). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 220).

باب الربا والصرف

باب الربا والصرف الربا: مقصور، أصله في اللغة: الزيادة. قال الجوهري: ربا الشيء، يربو: إذا زاد (¬1)، وهو مكتوب في المصحف بالواو. وقال الفراء: إنما كتبوه في المصحف كذلك؛ لأن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل الحيرة، ولغتهم: الربو، فعلموهم صورة الخط على لغتهم، وإن شئت كتبته بالياء، أو على ما في المصحف، أو بالألف، حكى ذلك الثعلبي. والربية -مخففة-: لغة في الربا، والرَّبا -بفتح الراء ممدودًا- هو الربا أيضًا (¬2). وفي الشرع: تفاضلٌ في أشياء، ونَساء في أشياء، مختصٌّ بأشياءَ ورد الشرعُ بتحريمها (¬3)، وهو من الكبائر. ¬

_ (¬1) انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2349)، (مادة: ربا). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 239). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 245).

والصرف: بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب (¬1)، والأولى ما في "الإقناع" أنه بيع نقد بنقد (¬2). وفي تسميته صرفًا قولان: أحدهما: لصرفه عن مقتضى البياعات من عدم جواز التفرق قبل القبض، والبيع نَساء. والثاني: من صريفهما، وهو تصويتهما في الميزان. قال في "المطلع": وأما بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة فيمسى مراطلة (¬3). وذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب خمسة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 239). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 258). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 239).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الذَّهَبُ بالوَرِقِ رِبًا إلَّا هاءَ وَهاءَ، والبُرُّ بِالبُرِّ رِبًا إِلَّا هاءَ وهاءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هاءَ وَهاءَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2027)، كتاب: البيوع، باب: ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، و (2062)، باب: بيع التمر بالتمر، و (2065)، باب: بيع الشعير بالشعير، ومسلم (1586)، كتاب: المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، وأبو داود (3348)، كتاب: البيوع، باب: في الصرف، والنسائي (4558)، كتاب: البيوع، باب: بيع التمر بالتمر متفاضلًا، والترمذي (1243)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في الصرف، وابن ماجه (2253)، كتاب: التجارات، باب: الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد، و (2259 - 2260)، باب: صرف الذهب بالورق. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 67)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 361)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 266)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 470)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 12)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 180)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1163)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 245)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 348)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 251)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 56)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 300).

(عن) أمير المؤمنين (عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهبُ) وهو التِّبْرُ، ويؤنث، واحدته بهاء كما في "القاموس" (¬1)، والجمع: أذهاب، وذُهوب، وذُهبان -بالضم-، كما في "النهاية" (¬2)، وأذهبه: طلاه به، كذهَّبه (¬3). قال في "المطلع": للذهب أسماءٌ منها: النضر، والنضير، والنُّضار، والزِّبْرِجُ، والسيراء، والزخرف، والعسجد، والعقيان، والتبر غيرُ مضروب، وبعضهم يقوله للفضة (¬4). (بالوَرِقِ): مثلثة، وككَتِف، وجَبَل: الدراهمُ المضروبة، والجمع أوراق، ووراق، كالرقة، وجمعها ورقون. والورَّاق: كثير الدراهم (¬5). فمقصود الحديث: بيع الذهب بالفضة. (رِبًا) محرمٌ من الكبائر، ولك في الذهب الرفعُ والنصب، أي: بيعوا الذهبَ، والأول أرشق؛ أي: الذهبُ يُباع، أو بيعُ الذهبِ، فحذف ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 111)، (مادة: ذهب). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 174). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 111)، (مادة، ذهب). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 9). قال ابن العطار في "العدة في شرح العمدة" (2/ 1163): وقد نظمها شيخنا، حجة العرب، أبو عبد الله بن مالك الجياني -رحمه الله- في بيتين، وهما: نضرٌ نضيرٌ نُضارُ زبرجد ... سيرا عسجدٌ عقيانُ الذَّهبُ والتِّبْر ما لم يذن وأشركوا ... ذهبًا وفضة في نسيك هكذا العربُ (¬5) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1564)، (مادة: ورق).

المضاف، للعلم به، وأُقيم المضافُ إليه مكانه، ومثله البُرُّ فيما يأتي (¬1). ومن أسماء الفضة -أيضًا-: اللُّجين، والنسك، والغرب، ويطلقان على الذهب أيضًا. (إلا هاءَ وهاءَ) -بالمد فيهما على الأفصح، وفتح الهمزة-. وقيل: بكسرها. وقيل: بالسكون. وحكي: القصر بغير همز، وهو قليل، والمعنى: خُذْ وهاتِ. وحكي: هاكِ -بزيادة كاف مكسورة-. ويقال: هاءِ -بكسر الهمزة-، بمعنى: هاتِ، و-بفتحها-، بمعنى: خذْ. قَال ابن الأثير: هاء وهاء: هو أن يقول كل واحد من المتبايعين هاء، فيعطيه ما في يده (¬2). وقال ابن مالك: هاء اسم فعل، بمعنى: خذ، وحقه ألَّا يقع إلا بعد إلا، فيجب تقدير قول قبله يكون محكيًا به؛ أي: إلا مقولًا عنده من المتبايعين، هاء وهاء. وقال الخليل: هاء: كلمة تستعمل عند المناولة، والمقصود من قول هاء وهاء: أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه: هاء، فيتقابضان في المجلس. واستدل به على اشتراط التقابض في الصرف في المجلس، والحلول؛ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 378). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 236).

كما نص عليه علماؤنا -رحمهم الله تعالى-، والشافعية والحنفية (¬1). قال في "الإقناع" في الصرف: والقبضُ في المجلس شرطٌ لصحته، فإن طال المجلس، أو تماشيا مصطحبين إلى منزل أحدهما، أو إلى الصراف، فتقابضا عنده، جاز (¬2). ومقصوده بقوله: والقبض في المجلس شرط لصحته، أي: لبقاء الصحة، لا لصحة العقد، وإلا، لم يتقدم المشروط على الشرط، كما نبه عليه العلامة الشيخ منصور في "شرحه على الإقناع" و"المنتهى" (¬3). وقال الإمام مالك: لا يجوز الصرف إلا عند الإيجاب بالكلام، فلو انتقلا من ذلك الموضع إلى آخر، لم يصح تقابضُهما، فمذهبه: عدمُ جواز تراخي القبض في الصرف، سواء كانا في المجلس، أو تفرقا، وحمل قول سيدنا عمر - رضي الله عنه -: لا تفارقه على الفور (¬4). (والبُرُّ) -بضم الباء الموحدة، فراء مشددة-: من أسماء الحنطة، والجمع: أبرار (¬5). يباع (بالبرِّ رِبًا) محرَّمٌ (إلا) أن يكون (هاء وهاء) يعني: حالًّا مقبوضًا في المجلس -كما تقدم في الصرف-، ولا بد من عدم التفاضل، حيث اتحد الجنس، كالبر بالبر. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 378). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 258). (¬3) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (3/ 263)، و"كشاف القناع" له أيضًا (3/ 266). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 378). (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 445)، (مادة: برر).

(والشعيرُ) يباع (بالشعيرِ) فهو (رِبًا) محرَّم (إلا) أن يكون (هاء وهاء)؛ أي: حالاًّ مقبوضًا قبل التفرق، بشرط التساوي، مع اتحاد الجنس. والبر والشعير: صنفان عند الجمهور، وخالف في ذلك مالكٌ، والليثُ، والأوزاعيُّ، فقالوا: هما صنف واحد (¬1). وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز بيع الربويِّ بجنسه وأحدُهما مؤجَّل، وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالاًّ، كالذهب بالذهب، وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه بما يشاركه في علة الربا، كالذهب بالفضة، والحنطة بالشعير (¬2). وقد اختلفوا في علة الربا، فقال أحمد وأبو حنيفة: العلة في الفضة والذهب: الوزن والجنس، فكل ما جمعه الجنس والوزن، فالتحريم ثابت فيه إذا باعه متفاضلًا، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص، وما أشبهه، وفي غير ذلك العلةُ فيه الكيلُ والجنس، فكل ما جمعه الجنسُ والكيل، فالتحريم فيه ثابت إذا بيع متفاضلًا، كالحنطة والشعير والأرز والأشنان والكرسَنَّة، فكل مكيل وموزون لا يباع بجنسه إلا حالًّا مقبوضًا متساويًا، سواء كان مطعومًا، أو غير مطعوم. وقال مالك والشافعي: العلة في الذهب والفضة: الثمنيَّةُ، فلا يجري الربا عندهما في الحديد والنحاس ونحوِهما. وقال الشافعي: العلة في بقية الربويات: كونُها مطعومة، فيتعدَّى الربا منها إلى كل مطعوم. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 379). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 9).

وأما مالك، فقال: العلة فيها: كونها تدَّخر للقوت، وتصلح له، فعدَّاه إلى الزبيب؛ لأنه كالتمر، وإلى القطنية؛ لأنها في معنى البر والشعير، فمثل رمانة برمانتين، وسفرجلة بسفرجلتين، حرامٌ عند الشافعي، مباحٌ عند غيره (¬1). تنبيهات: الأول: اعلم أن الربا من حيث هو نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة. فأما ربا الفضل: فيحرم في كل مكيل وموزون بيعَ بجنسه عند أبي حنيفة وأحمد - رضي الله عنهما -، وأما عند مالك والشافعي - رضي الله عنهما -، فكل مطعوم مُدَّخَر، وكذا غير مدخر عند الشافعي بيعَ بجنسه متفاضلًا (¬2). قال علماؤنا: ولو كان يسيرًا لا يتأتى كيله، كتمرة بتمرة، أو بتمرتين، أو لا يتأتى وزنه، كما دون الأرزة من الذهب والفضة ونحوهما، لا فيما تخرجه الصناعة، كالمعمول من الصفر والحديد ونحوهما، كالخواتيم والسكاكين والإبر ونحوها. وقال علماؤنا: والجهل بالتساوي حالَ العقد، كالعلم بالتفاضل، فلو باع بعضه ببعض جزافًا، أو كان من أحد الطرفين، حرم، ولم يصح (¬3). وأما ربا النسيئة: فكل شيئين ليس أحدُهما نقدًا، علةُ ربا الفضل فيهما واحدة، كمكيل بمكيل، وموزون بموزون، فيشترط في مثل بيع حديد بنحاس، وبر بشعير -مثلًا- الحلولُ والقبضُ في المجلس، ويجوز التفاضلُ ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 331). (¬2) المرجع السابق، (1/ 332). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 245 - 247).

حيث اختلف النوعُ، وإن اختلفت العلةُ فيهما، كما لو باع مكيلًا بموزون، جاز التفرق قبل القبض، والنساء والتفاضل، وما كان ليس بمكيل ولا موزون، كثياب وحيوان وغيرِها، يجوز النساء فيه، سواء بيع بجنسه، أو بغير جنسه، متساويًا أو متفاضلًا (¬1). الثاني: اقتصر بعض العلماء على كون ما يجري فيه الربا هو ما جاءت به الأحاديث، ولم يتعدَّ شيئًا من ذلك، فحصروا الربويات في ستة أشياء: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، وهو ما في "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: "الذهبُ بالذهبِ، والفضةُ بالفضةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشعيرُ بالشعيرِ، والتمرُ بالتمرِ، والملحُ بالملحِ، مِثْلًا بمثلٍ، يدًا بيدٍ، فمن زاد أو استزادَ، فقد أربى، الآخذُ والمعطي فيه سواء" (¬2). ومثله عن أبي هريرة (¬3)، وعبادة بن الصامت (¬4)، وغيرهما - رضي الله عنهم -. قال أهل الظاهر: لا ربا في غير هذه الستة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: اتفق الناس على تحريم ربا الفضل في الأعيان الستة التي جاءت بها الأحاديث، وهي من أفراد مسلم، وفي آخر ¬

_ (¬1) المرجع السابق (2/ 256 - 257). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 49)، ومسلم (1584)، كتاب: المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 232)، ومسلم (1588)، كتاب: المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 314)، ومسلم (1587)، كتاب: المساقاة، باب: الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا.

حديث عبادة: "فإذا اختلفت هذه الأصنافُ، فبيعوا كيفَ شئتم، إذا كان يدًا بيدٍ". قال: وتنازعوا فيما سوى ذلك على أقوال: فطائفة لم تحرم ربا الفضل في غيرها، وهذا مأثور عن قَتادةَ، وهو قول أهل الظاهر، وابنِ عقيل من أئمة علماء مذهبنا، في آخر مصنفاته رجَّحَ هذا القولَ، مع كونه يقولُ بالقياس. قال ابن عقيل: لأن علل القياس في مسألة الربا عللٌ ضعيفة، وإذا لم يظهر فيه علة، امتنع القياس. قال ابن تيمية: وطائفةٌ حرمته في كل قليل موزون، كما يروى عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه -، وبه أخذ الإمام أحمد في المشهور عنه، وهو قول أبي حنيفة وغيره. وطائفةٌ حرَّمته في الطعام، وإن لم يكن مكيلًا، أو موزونًا، كقول الشافعي، وأحمد في مرجوح روايته. وطائفة لم تحرمه إلا في المطعوم إذا كان مكيلًا أو موزونًا، وهذا قول سعيد بن المسيب، والشافعي في قول، وأحمد في رواية ثالثة اختارها الإمام الموفق، وهذا قريب من قول الإمام مالك: القوت، وما يصلح أن يدخر للقوت، ورجَّح هذا القولَ ابنُ تيمية -رحمه الله تعالى-. قال ابن تيمية عن هذا القول: إنه أرجح الأقوال. وقد حكى عن بعض المتأخرين أنه يحرم في جميع الأموال. قال ابن تيمية: لكن هذا ما علمت به قائلًا من المتقدمين (¬1)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) وانظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (29/ 470) وما بعدها.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا تَبيعُوا الذَّهبَ بِالذَّهبِ إِلَّا مِثْلًا بمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعضَها عَلَى بَعضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الوَرِقَ بالَوَرِقِ إَلَّا مِثْلًا بِمِثلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعضَها عَلَى بعضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْها غَائِبًا بِنَاجِزٍ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ: "إِلَّا يَدًا بيَدٍ" (¬2). وَفِي لَفْظٍ: "إِلَّا وَزنًا بِوَزْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءَ" (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2068)، كتاب: البيوع، باب: بيع الفضة بالفضة، ومسلم (1584/ 75)، كتاب: المساقاة، باب: الربا، والنسائي (4570 - 4571)، كتاب: البيوع، باب: بيع الذهب بالذهب، والترمذي (1241)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في الصرف. (¬2) رواه مسلم (1584/ 76)، كتاب: المساقاة، باب: الربا. (¬3) رواه مسلم (1584/ 77)، كتاب: المساقاة، باب: الربا. قلت: واللفظان الأخيران من أفراد مسلم عن البخاري، كما نبه عليه الحافظ عبد الحق الإشبيلي في "الجمع بين الصحيحين" (2/ 527)، حديث رقم: (2682). * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 349)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 258)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 468)، و"شرح =

(عن أبي سعيد) سعدِ بنِ مالكِ بنِ سنانٍ (الخدريِّ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا الذهبَ بالذهبِ إلا مِثْلًا بمِثْلٍ)، يدخل في الذهب جميع أصنافه، من: مضروب، ومنقوش، وجيد، ورديء، وصحيح، ومكسَّر، وحلي، وتبر، وخالصٍ، ومغشوش، ونقل النووي تبعًا لغيره في ذلك الإجماعَ (¬1). وقوله: "إلا مثلًا بمثل" شرط لازم لا بدَّ منه، وكذا القبضُ قبل التفرق، كما مر، وكما في آخر الحديث (ولا تُشِفُّوا) -بضم المثناة فوق، وكسر الشين المعجمة، وتشديد الفاء-؛ أي: لا تزيدوا (¬2) (بعضَها)؛ أي: بعض الطرفين (على بعض)، فلا يسوغ زيادة أحد العوضين على الآخر عند اتحاد الجنس، فيمتنع التفاضل في الأموال الربوية عند اتحاد الجنس، (ولا تبيعوا) معشرَ الأمة، ومن جرت عليه أحكام الشريعة. (الوَرِق): -بفتح الواو وكسر الراء-، وتقدم أنها تثلث عن "القاموس" (¬3)، وفي "النهاية": الورِق -بكسر الراء: الفضة، وقد ¬

_ = مسلم" للنووي (11/ 10)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 182)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1168)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 246)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 380)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 294)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 80)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 37)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 297). (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 10)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 380)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 256)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 380). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 198)، (مادة: ورق).

تسكن (¬1)، والمراد: ما يعم سائر أصنافه، من: مضروب، وجيد، ورديء، ومكسر، وصحيح، وغير ذلك (بالورق، إلا مثلًا بمثلٍ، ولا تُشِفُّوا)، أي: لا تزيدوا (بعضَها على بعضٍ)، فلا يسوغ التفاضل. وقوله في الموضعين: "ولا تُشِفُّوا بعضَها على بعض" بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا مثلًا بمثلٍ" لمزيد التأكيد والمبالغة في الإيضاح. فهذا تصريح بمنع ربا الفضل، ثم أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى المنع من ربا النسيئة بقوله: (ولا تبيعوا منها)، أي: النقدين، وبقية الأموال الربوية المنصوص عليها، وكذا ما قيس عليها من بقية الربويات (¬2)، حيث اتحد العوضان في علة الربا، بأن كانا مكيلين، أو موزونين، فإن اتحد جنسها، كبرٍّ وبرٍّ، امتنع التفاضل والنَّساء، وإن اختلفا، كبر وشعير عند من عدَّهما جنسين، جاز التفاضل، وامتنع النَّساء، وأما إن اختلفا جنسًا وعلةً، كمكيل وموزون، فلا يمتنع شيء من ذلك -كما تقدمت الإشارة إليه-، فلا يسوغ لأحد -مع اتحاد الجنسين- أن يبيع شيئًا (غائبًا) من الفضة والذهب (بـ) ـشيء (ناجز) منهما، ومكيلًا غائبا بمكيل ناجزٍ، ولا موزونًا غائبًا بموزون حاضر ناجز، إلا النقدين، فإنهما، يجوز أن يكونا رأسَ مال لسلف موزون. فإنّا وإنْ قُلنا: إنَّ العلة في النقدين كونُهما موزوني جنس، فإنّا نقول: يجوز إسلامهما في الموزون من غيرهما (¬3). قال في "الفروع": وعلى المذهب: يجوز إسلام النقدين في الموزون، ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 174). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 182). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 245).

وبه أبطلت العلة؛ لأن كل شيئين شملهما إحدى علتي ربا الفضل، يحرم النساء فيهما. قال: وفي طريقة بعض أصحابنا: يحرم سَلَمُهما فيه، فلا يصحُّ، وإن صحَّ، فللحاجة، وأجاب القاضي وغيره بأن القياس المنع (¬1). وإنما جاز للمشقة، ولها تأثير. (وفي لفظ) عند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه-: (إلا يدًا بيد) بعد قوله: "إلا مثلًا بمثل"، ثم قال: "فمن زاد واستزاد، فقد أربى الآخذُ والمعطي سواء". وكذا في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - بعد ما عدد الأصناف الستة، ثم قال: "مثلًا بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (¬2). وكذا في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "يدًا بيد" (¬3). (وفي لفظ) آخر من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أيضًا، ولفظه: عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال لرجل من بني ليث: إنَّ أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه والليثي، حتى دخل على أبي سعيد الخدري، فقال: إنَّ هذا أخبرني أنَّكَ تخبر أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، وعن بيع الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، فأشار أبو سعيد بأصبعيه إلى عينيه وأذنيه، فقال: أبصرت عيناي، وسمعت أذناي ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 110). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تبيعوا الذهبَ بالذهب، ولا الوَرِق بالورِقِ (إلا وزنًا بوزنٍ، مثلًا بمِثْلٍ، سواءً بسواءٍ) رواه البخاري، ومسلم. إلا أن البخاري لم يقل في هذا الحديث: "وزنًا بوزن" (¬1)، والجمع بين هذه الألفاظ توكيد ومبالغة في الإيضاح، ويؤخذ من قوله: "إلا وزنًا بوزن" اعتبارُ الوزن في الموزونات، فلو باعه شيئًا من الموزونات كيلًا، لم يصحَّ، لعدم العلم بالتساوي فيما هو معتبر شرعًا، كما لو أنه باعه شيئًا من المكيلات وزنًا، كرطلِ حنطة برطل، لم يصح، ما لم يساوه كيلًا، فلا بدَّ من التماثل بالمعيار المعتبر شرعًا، فما كان موزونًا، فبالوزن، وما كان مكيلًا فبالكيل (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2067)، كتاب: البيوع، باب: بيع الفضة بالفضة، ومسلم (1584/ 76) -كما تقدم-، واللفظ له. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 182).

الحديث الثالث

الحديث الثالث وَعَنْهُ، قَالَ: جَاءَ بلالٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَمرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ أَيْنَ هذَا؟ "، قَالَ بلاَلٌ: كانَ عِنْدَنَا تَمرٌ رَدِيءٌ، فَبِغتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بصَاعٍ لِيَطْعَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنْدَ ذَلِكَ: "أَوَّهْ، عَيْنُ الرِّبا! لا تَفْعَل، وَلكن إِذَا أَرَدتَ أَنْ تَشْتَرِيَ، فَبع التمرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ" (¬1). * * * (وعنه)، أَي: عن أبي سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه - (قال: جاء بلالُ) بنُ رباحٍ الحبشيُّ المؤذنُ، القرشيُّ بالولاء، ابنُ حَمامةَ: -بفتح الحاء المهملة، وتخفيف الميم-، وتقدمت ترجمتُه (إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بتمر بَرنيٍّ)، ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2188)، كتاب: الوكالة، باب: إذا باع الوكيل شيئًا فاسدًا، فبيعه مردود، ومسلم (96/ 1594 - 97)، كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل، والنسائي (4557)، كتاب: البيوع، باب: بيع التمر بالتمر متفاضلًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 279)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 481)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 22)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 184)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1170)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 247)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 490)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 148)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 166).

وهو تمر معروف معرَّبٌ، أصله: برنيك؛ أي: الحمل الجيد، كما في "القاموس" (¬1)، (فقال له)؛ أي: لبلال - رضي الله عنه - (النبيُّ) بالرفع فاعل؛ أي: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لبلال: (من أين هذا؟)؛ أي: من أين لك هذا التمر الجيد؟ فـ (قال) له (بلالٌ: كان عندنا تمرٌ رديءٌ) غيرُ جيد (فبعتُ منه)؛ أي: من الرديء (صاعين بصاع) من الجيد (لـ) أجل أن (يطعم)؛ أي: يأكلَ منه (النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك)؛ أي: قوله له ما قال من ابتياعه صاعًا بصاعين، (أَوَّهْ) -بالقصر، وشدِّ الواو، وسكون الهاء-، وقيل: بمدُّ الهمزة، قالوا: ولا معنى لمدِّها؛ إلا لبعد الصوت، وقيل: -بسكون الواو وكسر الهاء-، ومن العرب من يمدُّ الهمزة، ويجعل بعدها واوين، فيقول: أووه، وكله بمعنى التحزُّن. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)} [هود: 75] في قول أكثرهم؛ أي: كثير التأوه، وهو الحزن شفقًا وحزنًا، وقيل: أَوَّاه: دَعَّاء، وهو يرجع إلى قريب منه، وأنشد البخاري: [من الوافر] إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحلُهَا بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزِينِ (¬2) -بالمد-، وكلاهما صواب؛ أَي: تَوَجَّعُ [تَوَجُّعَ،] الرجل الحزين (¬3)، (عين الربا)؛ أي: ما صنعَتُه فهو حقيقة الربا الذي لا شك فيه، (لا تفعل) ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1522)، (مادة: برن). قلت: والبَرْنِيُّ -بفتح الموحدة وسكون الراء وكسر النون وتشديد التحتية-، كما ضبطه القسطلاني في "إرشاد الساري" (4/ 166). (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (4/ 1707). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 52)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 82).

ذلك، فإنه محرم، ثم أَرشده - صلى الله عليه وسلم - إلى فعل ما يحل، ولا محظور فيه، فقال: (ولكن إذا أردتَ أن تشتريَ) تمرًا جيدًا، (فبعِ التمرَ) الرديء (بِبَيْعٍ آخرَ)؛ أي: بثمن معلوم، (ثم اشترِ به)؛ أي: بالثمن الذي بعتَه تمرًا جيدًا، وقد حصل المقصود، وخلصت من إثم الربا. وفي لفظ آخر عندهما من حديثٌ أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، قال: أُتي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر، فقال: "ما هذا التمر من تمرنا"، فقال الرجل: يارسول الله! بعنا تمرنا صاعين بصاع من هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا الربا، فردوه، ثم بيعوا تمرنا، فاشتروا لنا من هذا" (¬1). وعنه: قال: كنا نُرزق تمرَ الجمع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الخلطُ من التمر، فكنّا نبيع صاعين بصاع، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لا" (¬2)، وفي لفظ: "بع الجمعَ بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنيبًا" (¬3)، والجنيبُ: تمر جيد. وفي "المطالع": التمر الجنيب: قال مالك: الكَيِّسُ، وقال غيره: هو كلُّ تمر ليس بمختلط، خلاف الجَمْع، وقال الطحاوي، وابن السكن: هو الطيب (¬4). ¬

_ (¬1) قلت: هو لفظ مسلم فقط، وقد تقدم تخريجه عنده برقم (1594/ 97). (¬2) رواه البخاري (1974)، كتاب: البيوع، باب: بيع الخلط من التمر. (¬3) رواه البخاري (2089)، كتاب: البيوع، باب: إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، ومسلم (1593)، كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما -. (¬4) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 155).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "إبطال التحليل": إذا كان مقصود الرجل نفس الملك المباح بالبيع، وما هو من توابعه، وحصَّله بالبيع، فقد قصد بالسبب ما شرعه الله سبحانه له، وأتى بالسبب حقيقة، وسواء كان مقصوده يحصل بعقد، أو عقود، مثل: أن يكون بيده سلعة، وهو يريد أن يبتاع سلعة أخرى لا تباع بسلعته لمانع شرعي أو عرفي أو غير ذلك، فيبيع بسلعته ما ليملك ثمنها، والبيع لملك الثمن مقصود مشروع، ثم يبتاع بالثمن سلعة أخرى، وابتياعُ السلع بالأثمان مقصود مشروع. قال: وهذه قصة بلال - رضي الله عنه - بخيبر سواء، فإنه إذا باع الجمع بالدراهم، فقد أراد بالبيع ملك الثمن، وهذا مشروع مقصود، ثم إذا ابتاع بالدراهم جنيبًا، فقد أراد بالابتياع ملكَ سلعة، وهذا مقصود مشروع، فلما كان بائعًا، قصد ملك الثمن حقيقةً، ولما كان مبتاعًا، قصد ملك السلعة حقيقةً، فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري منه، فهنا لا محذور فيه، إذ كل واحد من العقدين مقصود مشروع، ولهذا يستوفيان حكم العقد الأول من النقد والقبض ونحو ذلك، وأما إذا ابتاع بالثمن من مبتاعه من جنس ما باعه، فيخاف ألَّا يكون العقد الأول مقصودًا منهما، بل قصدُهما بيعُ السلعة الأولى بالثانية، فيكون رِبًا، ويظهر هذا القصد بأن يكون إذا باعه التمر مثلًا بدراهم لم يحرر وزنها ولا نقدها ولا قبضها، فيعلم أنه لم يقصد بالعقد الأول ملك الثمن بذلك التمر، ولا قصدَ المشتري ملكَ التمر بتلك الدراهم التي هي الثمن، بل قصد العقد الأول على أن يعيد إليه الثمن، ويأخذ التمر الآخر، وهذا تواطؤ منهما حين عقده على فسخه، والعقدُ إذا قُصد به فسخه، لم يكن مقصودًا، وإذا لم يكن الأول مقصودًا، كان وجوده كعدمه، فيكونان قد اتفقا على أن يباع بالتمر تمر، ويحقق أن هذا العقد

المقصود أنه إذا جاء بدراهم أو دنانير، أو حنطة أو تمر أو زبيب، ليبتاع به من جنسه أكثرَ منه أو أقل، فإنهما غالبًا يتشارطان ويتراضيان على سعر أحدهما من الآخر، ثم يقول بعد ذلك: بعتك هذه الدراهم بكذا وكذا دينارًا، ثم يقول: اصْرف لي بها كذا وكذا درهمًا كما اتفقا عليه أولًا، ويقول: بعتك هذا التمر بكذا وكذا درهمًا، ثم يقول: بعني به كذا وكذا تمرًا، فيكونان قد اتفقا على الثمن المذكور صورةً لا حقيقةً، ليس للبائع غرض في أن يُمَلِّكه، ولا للمشتري غرض في أن يَمْلِكه، وقد تعاقدا على أن يملكه البائع، ثم يعيده للمشتري، والعقد لا يعقد، لفسخ من غير غرض يتعلق بنفس وجوده، فإن هذا باطل. والحاصل: أن المقاصد في العقود معتبرة، والأعمال بالنيات، فلا اعتبار بمن أخذ من هذا الحديث تجويزَ الحيل، وفتحَ باب الذرائع، وذلك أن كلام الشارع إنما يُحمل على البيع الحقيقي، لا على صورة بيع لا حقيقة لها في نفس الأمر، كما أشار إليها شيخ الإسلام -قدس الله روحه-، فإن هذا لو كان مشروعًا، لم يكن في تحريم الربا حكمة إلا تضييع الزمان، وإتعاب النفوس بلا فائدة، فإنه لايشاءُ شاءٍ أن يبتاع ربويًا بأكثر منه من جنسه إلا قال: بعتُك هذا بكذا، وابتعت منك هذا بهذا التمر، فلا يعجز أحدٌ عن استحلال ربًا حرَّمه الله سبحانه قط، فإن الربا في البيع نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة. فأمَّا ربا الفضل: فيمكنه في كل ميكل ربوي أن يقول: بعتك هذا المال بكذا، ويسمي ما شاء، ثم يقول: ابتعت هذا المال الذي هو من جنسه. وأمَّا ربا النسيئة: فيمكنه أن يقول: بعتك هذه الحريرة بألف درهم، أَو عشرين صاعًا إلى سنة، فابتعتها منك بسبع مئة حالَّة، أو خمسة عشر صاعًا،

أو نحو ذلك، كما أشار إليه شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-، ولا يخفى على ذي فطنة فساد ذلك، فيا سبحان الله! أَيعود الربا الذي قد عظَّمَ الله شأنه في القرآن، وأوجبَ محاربةَ مستَحِلِّهِ، ولعنَ أهل الكتاب بأخذه، ولعن آكله وموكله وشاهديه وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجىء في غيره إلى أن يستحل جميعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلًا، إِلا بصورة عقد هي عبث ولعب يُضحك منها ويُستهزأ بها؟! وكيف يستحسن مؤمن أن ينسب نبيًا من الأنبياء -فضلًا عن سيد المرسلين-، بل أن ينسب ربَّ العالمين إلى أن يحرم هذه المحارم العظيمة، ثم يبيحها بضرب من العبث والهزل الذي لم يقصد، ولم يكن له حقيقة، وليس فيه مقصود لمتعاقدين قط (¬1)؟! تنبيه: دلَّ هذا الحديث على تحريم ربا الفضل في التمر، وعلى الإرشاد إلى التخلص من إثم الربا. فأما الثاني: فقد ذكرنا منه ما يكفي ويشفي. وأمَّا الأول: وهو ربا الفضل، فجمهور الأمة وسائر الأئمة على تحريمه. وخالف ابن عباس - رضي الله عنهما - في ذلك، فلم يحرم ربا الفضل، وكُلِّمَ في ذلك، فقيل: إنه رجع عنه (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما ربا الفضل بلا نَساء، فقد أشكل على السلف والخلف، فروي عن ابن مسعود، وابن عباس، ومعاوية: أنه لا ربا ¬

_ (¬1) وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 219 - 221)، وعنه ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 227). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 184).

إلا في النَّساء، كما ثبت ذلك عن أسامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا ربا إلا في النسيئة" (¬1). والحاصل: أن الربا من أكبر الكبائر، سواء في ربا الفضل، أو ربا النسيئة، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2069)، كتاب: البيوع، باب: بيع الدينار بالدينار نساء، ومسلم (1596)، كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل. وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 22).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَبِي المِنْهَالِ، قَالَ: سَأَلْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ عَنْ الصَّرْفِ، فَكُلُّ واحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: هَذَا خَيْرٌ مِنِّي، وَكِلاهُمَا يَقُولُ: نَهَى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالوَرِقِ دَيْنًا (¬1). * * * (عن أبي المِنْهال) -بكسر الميم وسكون النون-، واسمه سَيَّار -بفتح السين المهملة وتشديد المثناة تحت وآخره راء- بنُ سلامةَ -بتخفيف اللام- ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1955)، كتاب: البيوع، باب: التجارة في البر، و (2070)، باب: بيع الورق بالذهب نسيئة، واللفظ له، و (2365)، كتاب: الشركة، باب: الاشتراك بالذهب والفضة وما يكون فيه الصرف، و (3724)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: كيف آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، ومسلم (1589/ 86 - 87)، كتاب: المساقاة، باب: النهي عن بيع الورق بالذهب دينًا، والنسائي (4575 - 4577)، كتاب: البيوع، باب: بيع الفضة بالذهب نسيئة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 271)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 16)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 187)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1173)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 382)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 297)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 81).

الرِّياحي -بكسر الراء وفتح المثناة وبالهاء المهملة-، وتقدمت ترجمته في كتاب الصلاة (¬1). (قال) أبو المنهال: (سألتُ البراءَ) -بفتح الموحدة، وتخفيف الراء والمدِّ- على المشهور، (بنَ عازبٍ) -بالعين المهملة وبالزاي المكسورة- ابنِ الحارثِ، الأنصاريَّ، الأوسيَّ، وهو وأبوه صحابيان، (وزيدَ بنَ أرقمَ) بنِ زيدِ بنِ قيسِ بنِ النعمانِ، الأنصاريَّ، الخزرجيَّ، وتقدمت ترجمتهما - رضي الله عنهما -، (عن الصرفِ) متعلق يقول أبي المنهال: سألت، (فكل واحدٍ منهما) يعني: من البراء بن عازب، وزيد بن أرقم (يقول) عن صاحبه: (هذا خيرٌ مني)، لما فيهما من الفضل، وسلامةِ قلوبهما من الشحناء والفخر، فإنما يعلم الفضلَ لأهل الفضل ذوو الفضل، (وكلاهما) - رضي الله عنهما -؛ أي: كل واحد (يقول: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب) بسائر أنواعه (بالوَرِقِ)؛ أي: بالفضة (دينًا)، فلا يَحِلُّ ذلك، ولا يسوغ، فيعتبر في بيع الذهب بالفضة الحلولُ، والتقابضُ قبلَ التفرق -على ما مر-، ويجوز التفاضل، فهذا مضى في تحريم ربا النَّساء، ¬

_ (¬1) قلت: وهم الشارح -رحمه الله- في تفسير أبي المنهال هذا، فقال: هو سيار بن سلامة، والصحيح ما قاله الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 297): أن أبا المنهال المذكور في هذا الإسناد غير أبي المنهال صاحب أبي برزة الأسلمي في حديث المواقيت، واسم هذا عبد الرحمن بن مطعم، واسم صاحب أبي برزة سيار بن سلامة. قلت: وأصرح من هذا ما صرّح به البخاري في الرواية المتقدم تخريجها برقم (3724) من "صحيحه" فقال: أبو المنهال عبد الرحمن بن مطعم. وقد وقع لابن العطار في "العدة في شرح العمدة" (2/ 1173) الوهم نفسه، والعصمة لله وحده.

ومثل الذهب والووق ما ساواهما في علة الربا -على ما مرَّ-، فلا يباع بر بشعير نساء، ولا تمر بزبيب نساء، ولا موزون بمثله نساء، إلا النقدين، فإنه يجوؤ إسلامهما في الموزونات -كما مرَّ قريبًا-، والله أعلم. وفي الحديث: دليل على مشروعية التواضع، والاعتراف بحقوق الأكابر، والله أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 187).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كَشْفُ اللِّثَامِ شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1428 هـ - 2007 م رَقم الْإِيدَاع بمَكتَب الشؤون الفَنيَّة 22/ 2007 م قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة الكويت - الرقعي - شَارِع مُحَمَّد بني الْقَاسِم بدالة: 4892785 - داخلي: (404) فاكس: 5378447 موقعنا على الإنترنت www.islam.gov.kw قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة قَامَت بعمليات التنضيد الضوئي والتصحيح العلمي والإخراج الفني والطباعة دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) - فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الفِضَّةِ بالفِضَّةِ، وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَأَمَر أَنْ نَشْتَريَ الفِضَّةَ بالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا، وَنَشْتَرِيَ الفِضَّةَ بالذَّهَبِ كيْفَ شِئْنَا. قالَ: فَسَأَلَ رَجُل، فَقَالَ: يَدًا بِيَدٍ، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعتُ (¬1). * * * (عن أبي بكرة) -بسكون الكاف، وبهاء في آخره- واسمه: نُفَيعْ -بضم النون وفتح الفاء وسكون المثناة تحت- بنُ الحارثِ، وقيل: ابنُ مسروح -بفتح الميم وسكون السين المهملة وآخره جاء مهملة-، الثقفيُّ، من ولد ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2066)، كتاب: البيوع، باب: بيع الذهب بالذهب، و (2071)، باب: بيع الذهب بالورق يدًا بيد، ومسلم (1590)، كتاب: المساقاة، باب: النهي عن بيع الورق بالذهب دينًا، والنسائي (4578 - 4579)، كتاب: البيوع، باب: بيع الفضة بالذهب، وبيع الذهب بالفضة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 271)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 16)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 188)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1174)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 383)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 297)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 79)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 300).

ثَقِيف -بفتح المثلثة وكسر القاف وآخره فاء- بنِ مُنَبِّهٍ -بضم الميم وتشديد الباء الموحدة مكسورة-، وقيل: اسم ثقيف: عمرو بن منبه، وقيل غير ذلك. وأم أبي بكرة سُمَيَّة -بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء المثناة تحت- أمةُ الحارثِ بنِ كَلَدَةَ -بفتح الكاف واللام-، وقيل: بل كان عبدًا للحارث بن كلدة، وهي أم زياد بن أبي سفيان، الذي استلحقه معاوية، وإنما كُنِّيَ أبا بكرة؛ لأنه تدلَّى من حصن الطائف للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو محاصر له ببكرة، وهي التي يُستقى عليها على البئر، وجمعها بَكَر -بتحريك الكاف-، وهي من شواذ الجمع؛ لأن فَعْلَة -بسكون العين- لا يجمع على فَعَل بالتحريك، إلا قليلًا، نحو حَلْقَة، وحَلَق، وحَمْأَة، وحَمَأ، وبَكْرَة، وبَكَر (¬1). وكان أبو بكرة - رضي الله عنه - قد أسلم، وعجز عن الخروج من الطائف، إلا هكذا، فكنَّاهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وأعتقه، فهو من مواليه، وكانت غزوة الطائف في شوال سنة ثمان. روي لأبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: اثنان وثلاثون حديثًا، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بحديث. ونزل البصرة، ومات بها سنة تسع وأربعين، وقيل: إحدى وخمسين، واعتزل الفتنة في وقعة الجمل، فلم يقاتل مع واحد من الفريقين -رضي الله عنه وعنهم جميعًا (¬2) -. ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (4/ 80)، (مادة: بكر). (¬2) قلت: قد تقدمت ترجمة أبي بكرة - رضي الله عنه - عند الشارح -رحمه الله-، فلا حاجة لذكر ترجمته ثانية، والله أعلم.

(قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن) بيع (الفضةِ بالفضةِ)، (و) عن بيع (الذهب بالذهب، إلا) أن يكون بيع الفضة بالفضة (سواءً بسواءٍ)، وبيع الذهب بالذهب سواءً بسواء، غيرَ متفاضل، (وأمرَ) نا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ إرشاد وإباحة (أن نشتريَ الذهبَ بالفضةِ كيف شئنا)؛ أي؛ متساويًا ومتفاضلًا، (و) أن (نشتريَ الفضةَ بالذهبِ كيف شئنا)؛ أي: بالنسبة للتفاضل والتساوي، لا بالنسبة إلى الحلول والتأجيل، (قال: فسأل)، أي: سأل أبا بكرة - رضي الله عنه - (رجل). قال البرماوي: هو عبدُ الرحمن بنُ أبي بكرة، الراوي عن أبيه هذا الحديث، (فقال)؛ يعني: عبد الرحمن بن أبي بكرة: بشرط كون بيع ذلك) يدًا بيدٍ)، يعني: الحلول والتقابض في المجلس قبل التفرق. (فقال) أبو بكرة - رضي الله عنه -: (هكذا)، أي: مثلَ ما ذكرتُ لكم (سمعتُ) من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقد ورد ذلك مبينًا، كما في حديث عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه - الذي تقدَّم، وفي حديث عبادةَ بنِ الصامتِ - رضي الله عنه -، عند الإمام أحمدَ، ومسلم وأبي داود، وابن ماجه، وفيه: "فإذا اختلفت هذه الأصناف"؛ يعني: الذهب والفضة، والبر والشعير، والتمر والملح، "فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (¬1). والحاصل: أنه إذا اتحد الجنس، مثلَ الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، فيعتبر لصحة ذلك التساوي، والحلولُ، والتقابضُ قبل التفرق، وإن اختلف الجنس، اعتبر الحلولُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد، ومسلم، ورواه أبو داود (3350)، كتاب: البيوع، باب: في الصرف، وابن ماجه (2254)، كتاب: التجارات، باب: الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد.

والتقابضُ قبل التفرق، وجاز التفاضلُ، وإن اختلف المبيعان في علة الربا، لم يمتنع من ذلك شيء -كما مرَّ-. قوله في الحديث: فسأله رجل. . . إلى آخره: من أفراد مسلم، لم يذكره البخاري، والله أعلم.

باب الرهن وغيره

باب الرهن وغيره من مطل الغني، وأن من أدرك ماله بعينه عند من حُجر عليه لفَلَسٍ، فهو أحق به، وإثبات الشفعة فيما لم يقسم، وذكر الوقف، وامتناع العود في الصدقة، ومنع جواز تخصيص بعض أولاده على بعض بلا مسوغ لذلك، وجواز المخابرة، وذكر العمرى، وحسن الجوار، وتهديد من ظَلَمَ قيدَ شبر من أرض، وما يتصل بذلك. والرهن في اللغة: الثبوت والدوام. يُقال: ماء راهن؛ أي: راكد، ونعمة راهنة؛ أي: ثابتة دائمة، وقيل: هو من الحَبْس، قال الله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [الطور: 21]، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38]، وجمعه: رِهان، [كَحَبْلٍ وحِبَال] (¬1)، ورُهُن، كسَقْف وسُقُف، عن أبي عمرو بن العلاء، قال الأخفش: وهي قبيحة، وقيل: رُهُن جمع رِهان، ككتاب وكُتُب، ويقال: رهنت الشيء، وأرهنته (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "كجبل وجبال"، وكذا في المطبوع من "المطلع" الذي نقل عنه الشارح -رحمه الله-، والصواب ما أثبت، لاستقامة الوزن به. (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 247).

وفي الاصطلاح: توثقةُ دَيْنٍ بعَيْن يمكن أخذُه أو بعضه منها، أو من ثمنها، إن تعذر الوفاء من غيرها (¬1). واتمقت الأئمة على جوازه سفرًا وحضرًا، لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، ومعتمد المذاهب الثلاث: جوازُ عقده، مع الحق وبعده، لا قبله (¬2). وقال أبو حنيفة: يصح، ولو قبله، واختاره أبو الخطاب مِنَّا، ويحتملُه كلام الإمام أحمد، لكن المعتمد: عدمُ انعقاده قبله، ولا يصح الرهن إلا منجَّزًا، فلا يصح معلَّقًا بشرط (¬3). وذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب ثلاثة عشر حديثًا: ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 309). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 157).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1962)، كتاب: البيوع، باب: شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة، و (1990)، باب: شراء الحوائج بنفسه، و (2088)، باب: شراء الطعام إلى أجل، و (2133)، كتاب: السلم، باب: الكفيل في السلم، و (2134)، باب، الرهن في السلم، و (2256)، كتاب: الاستقراض، باب: من اشترى بالدين وليس عنده ثمنه أو ليس بحضرته، و (2374)، كتاب: الرهن، باب: من رهن درعه، و (2378)، باب: الرهن عند اليهود وغيرهم، و (2759)، كتاب: الجهاد، باب: ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم - والقميص في الحرب، و (4197)، كتاب: المغازي، باب: وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1603/ 125)، واللفظ له، و (1603/ 124، 126)، كتاب: المساقاة، باب: الرهن وجوازه في الحضر والسفر، والنسائي (4609)، كتاب: البيوع، باب: الرجل يشتري الطعام إلى أجل، ويسترهن البائع منه بالثمن رهنًا، و (4650)، باب: مبايعة أهل الكتاب، وابن ماجه (2436)، كتاب: الرهون، باب: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 303)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 517)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 39)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 196)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1181)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 433)، و"عمدة القاري" للعيني =

(عن) أمِّ المؤمنين، (عائشةَ - رضي الله عنها -) الصديقةِ - رضي الله عنها -: (أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي)، وهو أبو الشحم من بني ظَفَر -بفتح الظاء المعجمة والفاء-، وهو بطن من الأوس، وكان حليفًا لهم، واسم أبي الشحم كنيتُه، وغَلِطَ من ضبطه بالمدِّ، فقال: آبي الشحم، وزعم أنه سُمِّيَ بذلك؛ لأنه كان لا يأكله، أو لا يأكل ما ذبح على الأصنام، ووقع لإمام الحرمين من الشافعية تكنينه بأبي شحمة، وهذا قريب (¬1) (طعامًا)، وكان قدر الطعام ثلاثين صاعًا من شعير، وقيل: ستين صاعًا وصاع واحد. قلت: قد صرَّحت عائشة - رضي الله عنها - في كتاب: الجنائز من "صحيح البخاري"، بأن الطعام قدره ثلاثون صاعًا من شعير، ولفظه عن عائشة - رضي الله عنها -: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير (¬2). وكذلك رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والطبراني (¬3). وفي رواية الترمذي، والنسائي: بعشرين صاعًا (¬4). ¬

_ = (11/ 182)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 18)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 351). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 140 - 141). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2759)، لكن من كتاب: الجهاد والسير، لا الجنائز، كما ذكر الشارح -رحمه الله-. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 237)، من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وراه ابن ماجه (2439)، كتاب: الرهون، باب: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، والطبراني في "المعجم الكبير" (11697)، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬4) رواه الترمذي (1214)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في الرخصة في الشراء إلى =

وفي "مصنف عبد الرزاق": بوسق شعيرٍ أخذه لأهله (¬1). ووقع لابن حِبَّان من حديث أنس: أن قيمة الطعام كانت دينارًا (¬2). زاد الإمام أحمد: فما وجد - صلى الله عليه وسلم - ما يفتكُّها به حتى مات (¬3). (ورهنه)؛ أي: رهن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اليهوديَّ على الطعام (دِرْعًا) -بكسر الدال المهملة، تذكَّر وتؤنث- (من حديد)، واسم هذه الدرع: ذات الفُضول -بالضاد المعجمة وضم الفاء قبلها-، لطولها، أرسل إليه - صلى الله عليه وسلم - بها سعدُ بنُ عبادة هدية حين سار إلى بدر (¬4). قال في "النهاية": الدرع الزردية، وتجمع على أدراع (¬5). فهذا الحديث مما يستدل به على جواز الرهن في الحضر، حتى إن الإمام البخاري ترجم في "صحيحه" كتاب: الرهن في الحضر (¬6)، فلم يرد بقوله: في الحضر: أنه قيد، ولكنه قصد به الرد على الظاهرية المحتجين بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ} [البقرة: 283]. والجواب: أن الله تعالى إنما ذكر السفر؛ لأن الغالب فيه عدم وجود الكاتب، وقد يوجد الكاتب، ومع ذلك يجوز الرهن فيه -أيضًا-؛ لأن ¬

_ = أجل، ولم أره في "سنن النسائي" بلفظ: "عشرين صاعًا". (¬1) لم أقف عليه في المطبوع من "مصنف عبد الرزاق". وانظر: "عمدة القاري" للعيني (11/ 182). (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (5937). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 238). قلت: وهذه الزيادة هي في رواية ابن حبان السالف تخريجها. (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (11/ 183). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 176). (¬6) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 887).

الرهن للاستيثاق، فكما يسوغ أن يستوثق ربُّ الدين سفرًا، يجوز أن يستوثق حضرًا، كالكفيل، وقد حسم مادة هذه الشبهة من أصلها رهنُ الشارع - صلى الله عليه وسلم - درعَه وهو بالمدينة. قال ابن بطال: جميع الفقهاء يجوّزون الرهنَ في الحضر والسفر، ومنعه مجاهدٌ، وداود في الحضر. ونقل الطبري عن مجاهد والضحاك: أنهما قالا: لا يشرع الرهن إلا في السفر، حيث لا يوجد الكاتب (¬1)، والله الموفق (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الطبري في "تفسيره" (3/ 139)، عن الضحاك، ومجاهد. (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 68).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْم، فَإذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍ، فَلْيَتْبَعْ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2166)، كتاب: الحوالات، باب: في الحوالة، وهل يرجع في الحوالة، و (2167)، باب: إذا أحال على مليء فليس له رد، و (2270)، كتاب: الاستقراض، باب: مطل الغني ظلم، ومسلم (1564)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم مطل الغني، وأبو داود (3345)، كتاب: البيوع، باب: في المطل، والنسائي (4691)، كتاب: البيوع، باب: الحوالة، و (4688)، باب: مطل الغني، والترمذي (1308)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في مطل الغني أنه ظلم، وابن ماجه (2403)، كتاب: الصدقات، باب: الحوالة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 64)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 491)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 43)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 233)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 438)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 227)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 198)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1183)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 249)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 160)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 465)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 111)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 144)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 61)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 355).

(عن أبي هريرةَ) عبد الرحمنِ بنِ صخرٍ (- رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مطلُ الغنيِّ)؛ أي: تسويفُه بالدين، كالامتطال، والمماطلة، والمطاولة، وأصل المطل: من مطلتُ الحديدةَ، أَمطلها: إذا ضربتها ومددتها لتطولَ، وكلُّ ممدودٍ ممطولٌ، ومنه اشتقاق المطل بالدين، يُقال: مطلَه وماطله بحقه، فهو مَطول ومطال (¬1). والمراد بالغني: هنا: القادر على الوفاء ممن قدر على الأداء فأَخره، ولو كان فقيرًا (¬2)، فهو (ظلم) منه، لتمكنه من أداء الحق لربه، فلم يفعل. والمعنى: أنه يَحرُم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه وطلبه (¬3). قال علماؤنا كغيرهم: يجب على المديون فورًا وفاءُ دينٍ حالٍّ، أو مؤجَّلٍ حلَّ على قادرٍ بطلب ربِّه، فلا يجبُ بدونه، ولو عين وقت وفاء، خلافًا لما توهمه عبارة "الإقناع" (¬4). قال في "الفروع": ويتعين دفعُه بطلبه. قال جماعة، منهم صاحب "المغني" (¬5)، و"المحرر": في وجوب زكاة الفطر على المدين: يجب أداء الدين عند طلبه، قال: والمراد، كما قال ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 465)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 236). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 465). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 359). (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 365).

صاحب "المحرر": يجب إذًا على الفور، وقيل: وقبله؛ أي: الطلب، ويمهل بقدر ذلك اتفاقًا (¬1). قوله: ويمهَل بقدر ذلك؛ أي: بقدر ما يحضر المالك، فإن كان له سلعة، فطلب أن يُمْهَل حتى يبيعَها ويوفيه من ثمنها، أُمْهِلَ بقدر ذلك، وكذلك إن أمكنه أن يحتال لوفاء دينه باقتراضٍ ونحوه، وطلب ربُّ الدين أن يرسم عليه حتى يفعل ذلك، وجب إجابته (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن مطله حتى شكي عليه، فما غرمه، فعلى المماطل، فإن أبى مَنْ له مالٌ يفي بدينه الوفاءَ، حبسه الحاكمُ، وليس له إخراجه حتى يتبين أمره، أو يبرأ من غريمه بوفاء أو إبراء، أو يرضى بإخراجه، فإن أصر، باع الحاكم ماله، وقضى دينه. وقال جماعة: إذا أصر على الحبس، وصبر عليه، ضربه الحاكم. قال في "الفصول": للإمام ابن عقيل وغيرِه: يحبسه، فإن أبى، عَزَّره، قال: ويكرر حبسه وتعزيره حتى يقضيه. قال شيخ الإسلام: نهى عن ذلك الأئمةُ من أصحاب الإمام أحمدَ وغيرِهم، ولا أعلم فيه نزاعًا، لكن لا يزاد في كل يوم على أكثر التعزير إن قيل بتقديره، انتهى (¬3). وكل هذا يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم"، والظالم يستحق العقوبة، فإن العقوبة تستحق على ترك واجب، أو فعل محرم، وقضية كونه ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 221). (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (30/ 31). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 221).

ظلمًا أنه كبيرة، لكن قال النووي: مقتضى مذهبنا اعتبارُ تكرره (¬1)، وردَّه السبكيُّ بأن مقتضاه عدمه؛ لأن منع الحق بعد طلبه، وانتفاء العذر عن أدائه، كالغصب، والغصبُ كبيرة لا يُشترط فيها التكرار (¬2)، وهذا ظاهر كلام شيخ الإسلام، ومن ثَمَّ أُبيح حبسُه وتعزيره. ومن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث الشريد- بفتح الشين المعجمة -هو ابنُ سُويد الثقفيُّ-، قيل: إنه من حضرموت، فحالف ثقيقًا، مرفوعًا. والشريدُ شهدَ الحُديبية، فهو صحابي - رضي الله عنه -، ولفظُ الحديث: "لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عرضَه وعقوبته" (¬3). وعلقه البخاري في "صحيحه" بلفظ: ويُذكر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكره. قال سفيان: عِرْضَه: أن يقال: مطلني حقي، وعقوبته: الحبس (¬4). قال إسحاق: فسر سفيان عرضه: أذاه بلسانه (¬5). وعن وكيع: عرضه: شكايته (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 227). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 466). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 222)، وأبو داود (3628)، كتاب: الأقضية، باب: في الحبس في الدين وغيره، والنسائي (4689)، كتاب: البيوع، باب: مطل الغني، وابن ماجه (2427)، كتاب: الصدقات، باب: الحبس في الدين والملازمة. (¬4) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 845). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 62). (¬6) انظر: "مسند الإمام أحمد" (4/ 222).

قال في "النهاية": الليُّ: المطل، يقال: لواه غريمُه بدينه يلويه لَيًّا (¬1). والواجد: الغني، قال ذو الرمة: [من الطويل] تُرِيدِينَ لَيَّاتِي وَأَنْتِ مَليَّةٌ ... وَأَحْسَنُ يَا ذَاتَ الوِشَاحِ التَّقَاضِيَا (¬2) وقال الإمام عبدُ الله بنُ المبارك: يُحِلُّ عرضه؛ أي: يغلظ له، وعقوبته؛ أي: يحبس له (¬3)، انتهى. وإذا ثبت إعسارُه، وجبَ انتظارُه، وحَرُمَ حبسُه. واختلف في ثابت العسرة إذا أُطلق من السجن، هل يلازمه غريمُه؟ فقال الثلاثة: يُمنع من الملازمة حتى يثبت له مال آخر. وقال أبو حنيفة: لا يمنع الحاكمُ الغرماءَ من لزومه (¬4). تتمة: في "الصحيحين" وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: كان لرجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق، فأغلظ له، فَهَمَّ به أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لصاحب الحَقِّ مقالًا"، هذا لفظ مسلم (¬5). ولفظ البخاري: "دعوه، فإن لصاحب الحقِّ مقالًا" (¬6). فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشتروا له سنًّا -يعني: من الإبل- فأَعْطُوه إياه"، ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 280). (¬2) انظر: "ديوانه" (2/ 1306) (ق 43/ 17)، ووقع في "الديوان": تسيئين ليَّاني. (¬3) انظر: "سنن أبي داود" (3/ 313). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 236)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬5) رواه مسلم (1601/ 120)، كتاب: المساقاة، باب: من استسلف شيئًا فقضى خيرًا منه. (¬6) رواه البخاري (2183)، كتاب: الوكالة، باب: الوكالة في قضاء الديون.

فقالوا: لا نجد إلا سنًّا هو خيرٌ من سنِّه، قال: "فاشتروه، فَأعطُوه إياه، فإن من خيركم -أو خيرَكم- أحسنُكم قضاء". زاد البخاري في طريق أخرى: فقال الرجل: أوفيتني أوفى اللهُ بك (¬1). وفي لفظ: "فإن خيار الناس أحسنُهم قضاءً" (¬2). وفي آخر: "أفضلُكم أحسنُكم قضاءً" (¬3). قلت: ومن هذا قصة زيد بن سعَنَة -بالسين المهملة والعين والنون المفتوحتين-، كما ذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-، وجرى عليه الدارقطني. وفي نسخ "الشفاء" للقاضي عياض -بالياء التحتية بعد العين المهملة-، وعليه تصحيح مؤلفه (¬4). قال الإمام الحافظ الذهبي: والأول أصحُّ (¬5)، وهي ما روى ابنُ حبانَ والحاكمُ عن عبد الله بنِ سلام - رضي الله عنه -: أن زيد بن سعنة -وهو أحد علماء أهل الكتاب من اليهود-. قال النووي: هو أحد أحبار اليهود الذين أسلموا (¬6). قال: إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: أن يسبق حلمُه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2182)، كتاب: الوكالة، باب: وكالة الشاهد والغائب جائزة. (¬2) رواه البخاري (2262)، كتاب: الاستقراض، باب: هل يعطى أكبر من سنه، ورواه مسلم (1600/ 118)، كتاب: المساقاة، باب: من استسلف شيئًا فقضى خيرًا منه، من حديث أبي رافع - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (2467)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: من أهدي هدية وعنده جلساؤه فهو أحق. (¬4) انظر: "الشفا" للقاضي عياض (ص: 152). (¬5) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (1/ 199). (¬6) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 200).

جهلَه، وأَلَّا تزيدَه شدةُ الجهل عليه إلا حلمًا، فكنت أتلطف له؛ لأن أخالطه فأعرفَ حلمَه، فابتعتُ منه تمرًا معلومًا إلى أجل معلوم، وأعطيته الثمن. ولفظُ ابن حبان، و"الوفاء" للحافظ ابن الجوزي: فخرج يومًا، ومعه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فجاء رجل كالبدوي، فقال: يا رسول الله! إن قرية بني فلان أسلموا، وحدثتُهم إن هم أسلموا، أتتهم أرزاقُهم رغدًا، وقد أصابتهم سَنَة وشدَّة، وإني مشفق أن يخرجوا من الإسلام، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تُعينهم به. قال زيد: فقلت: أنا أبتاع منك بكذا وكذا وسقًا، وأعطيته ثمانين دينارًا، فدفعها إلى الرجل، وقال: "أعجل عليهم بها فأغثهم"، فلما كان قبل الحل بيوم أو يومين أو ثلاثة، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة في نفر من أصحابه، فجذبتُ رداءه جذبةً شديدة حتى سقط عن عاتقه، ثم أقبلتُ بوجه غليظٍ جهم، فقلت: ألا تقضيني يامحمد؟ فو الله! ما علمتُكم بني عبد المطلب بمُطل، فارتعدَتْ فرائصُ عمرَ بن الخطاب كالفلك المستدير، ثم رمى بصره، وقال: أي عدوَّ الله! أتقول هذا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتصنع به ما أرى، وتقول ما أسمع؟ فو الذي بعثه بالحق! لولا ما أخاف فوته -أي: الافتياتَ عليه، يعني: على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لسبقني رأسُك، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى عمرَ في تُؤَدَة وسكون، ثم تبسم وقال: "أنا وهو كنا أحوجَ إلى غير هذا منك يا عمر! تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن اتباعه، اذهبْ". وفي رواية الزهري: أنه قال له: يا محمد! اقضِ حقي، فإنكم -معاشرَ بني عبد المطلب- مُطل، فقال عمر: يا يهودي الخبيث! أما والله! لولا مكانه -يعني: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، لضربت الذي فيه عيناكَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "غفر الله لكَ يا أبا حفص، نحن كنا إلى غير هذا منك أحوجَ إلى أن تكون

أمرتني بقضاء ما عليَّ، وهو إلى أن يكون أَعنته في قضاء حقه أحوج، اذهب يا عمر، فاقض حقه، وزده عشرين صاعًا من تمر مكانَ ما رُعته"، قال زيد: فذهب بي عمر، فقضاني حقي، وزادني عشرين صاعًا من تمر، فقلت: ما هذا؟ قال: أمرني رسول الله أن أزيدك مكان ما رُعْتُك، فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟ فقلت: أنا زيدُ بن سعنة، قال: الحبر؟ قلت: الحبْر، قال: فما دعاكَ إلى أن تفعلَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعلتَ، وتقول له ما قلتَ؟ قلت: يا عمر! إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نظرتُ إليه، إلا اثنتان لم أخبرْهما منه: يسبق حلمُه جهلَه، ولا يزيده شدةُ الجهل عليه إلا حلمًا، فقد اختبرته منه، فأُشهدك يا عمر! أني رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وأُشهدك أن شطرَ مالي، فإني أكثرها مالًا، صدقةٌ على أمة محمد، فقال: أو على بعضهم، فإنها لا تسعهم كلهم، قال: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيدُ بنُ سعنة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فآمن به، وصدَّقه، وبايعه، وشهد معه مشاهدَ كثيرة (¬1). وفي رواية قال: فلم يزده جهلي عليه إلا حلمًا، الحديث. وفيه: أن أهل اليهودي أسلموا كلهم إلا شيخًا كان ابن مئة سنة، فمضى على الكفر (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (288)، والحاكم في "المستدرك" (6547)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2082)، والطبراني في "المعجم الكبير" (5147)، وفي "الأحاديث الطوال" (6)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 52)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (9/ 446)، وغيرهم. (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 360).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا أُتبع أحدكم)؛ أي: أُحيل، ولذا عدَّاه بـ: (على)، فقال: (على مليّ)، كغني لفظًا ومعنى، وفي رواية: مليء -بالهمز- والمشهور رواية ولغة إسكان المثناة من "أتْبع" (¬1)، ومن (فليتْبَعْ)، وهو على البناء للمجهول، مثل: إذا أُعلم فليعْلَم. تقول: اتَّبعت الرجلَ بحقي أَتبعه تَباعة -بالفتح-: إذا طلبته (¬2). وقال القرطبي: أما أُتْبِع -بضم الهمزة وسكون التاء مبنيًّا لما لم يسمَّ فاعله-، فعند الجميع، أما فليتبع، فالأكثر على التخفيف، وقيده بعضهم يالتشديد، والأول أجود، انتهى (¬3). قال العلقمي: وما ادعاه من الاتفاق على أُتبع يرده قول الخطابي: إنَّ أكثر المحدثين بتشديد التاء، والصواب التخفيف (¬4). ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أُتبع فلْيتبع"؛ أي: من أُحيل، فلْيحتل، وقد رواه بهذا اللفظ الإمام أحمد، عن وكيع، عن سفيان الثَّوريُّ، عن أبي الزناد (¬5). وأخرج البيهقي مثله من طريق معلى بن منصور (¬6). ورواه ابن ماجه من طريق ابن عمر، بلفظ: "إذا أُحِلْتَ على مليءٍ، فاتَّبِعْه" (¬7)، وهذا بتشديد التاء بلا خلافٍ. ¬

_ (¬1) قاله النووي في "شرح مسلم" (10/ 228). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 465). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 439). (¬4) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/ 87). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 463). (¬6) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 70). (¬7) رواه ابن ماجه (2404)، كتاب: الصدقات، باب: الحوالة.

والمليء -بالهمزة-: مأخوذ من الإملاء، يُقال: مَلُؤَ الرجلُ -بضم اللام-؛ أي: صار مَلِيئًا. قال الكرماني: المليُّ، كالغنيِّ لفظًا ومعنًى، فاقتضى أنه بغير همز، وليس كذلك، فقد قال الخطابي: إنه في الأصل بالهمز، ومن رواه بتركها، فقد سَهَّله. والأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليتبع" على ظاهره للوجوب على معتمد مذهب الإمام أحمد، وأبي ثور، وابن جرير، وأهل الظاهر. وعبارة الخرقي: ومَنْ أُحيل بحقه على مليءٍ، فواجبٌ عليه أن يحتال (¬1). وعند الثلاثة: أن الأمر للاستحباب. ووهم من نقل فيه الإجماع. وقيل: هو أمر إباحة وإرشاد (¬2). تنبيهات: * الأول: الحوالة عقد إرفاق لا خيار فيه، وليست بيعًا، بل هي انتقال مال من ذمة إلى ذمة بلفظها، أو معناها الخاص، كأتبعتك بدينك على فلان، أو خذ، أو اطلب دينك منه (¬3). * الثاني: يشترط لصحتها ولزومها، رضا محيل، وعلمُ محال به وعليه، والمقاصة، بأن يستوي الدينان جنسًا، وصفة، وحلولًا، وأجلًا، وقدرًا، فلا تصح بذهب على فضة، ولا بصحاح على مكسور، وعكسه، ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر الخرقي" لأبي القاسم الخرقي (ص: 72). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 465). (¬3) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (3/ 324).

ولا مع اختلاف أجل، ولو كانا حالَّين، فشرط على محتال تأخير حقه أو بعضه، لم تصح الحوالة على ما في "الإقناع" (¬1)، وتبعه في "الغاية" (¬2). واستوجه العلامة الشيخ منصور في شرح "الإقناع" فساد الشرط دونها (¬3). انتهى. نعم إذا صحت الحوالة، فرضيا بدفع أدنى أو أعلى، أو تأجيلٍ أو تعجيل، أو دفع عوضٍ، جاز. ولا تصح بكثير على قليل، وعكسه، وتصح بقليل على قدره من كثير، وعكسه (¬4). الرابع: من شروط الحوالة: استقرار مالِ محالٍ عليه، لا به، خلافًا لجمع، فلا تصحُّ على صداق قبل دخول، أو مال كتابة، أو أجرة قبل استيفاء منفعة، أو فراغ مدة، ولا على ثمن مبيع مدة خيار. الخامس: كون محال عليه يصح السلم فيه؛ من مثلي وغيره، كمعدود ومذروع (¬5). * الثالث: لا يشترط في الحوالة رضا محال عليه، ولا رضا محتال، بشرط كون المحال عليه مليًا، والملي هو كما نص عليه الإمام أحمد: القادر مسألة، وقوله، وبدنه فقط، فعند الزركشي من علمائنا: ماله: القدرة على الوفاء، وقوله: ألَّا يكون مماطلًا، وبدنه: إمكان حضوره لمجلس ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 361). (¬2) انظر: "غاية المنتهى" لشيخ مرعي (3/ 325). (¬3) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 385). (¬4) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (3/ 325). (¬5) المرجع السابق (3/ 325 - 327).

الحكم (¬1)، فلا يلزمه احتيال على والده، أو من غير بلده، ولا على ذي شوكة (¬2). فإذا استوفت الحوالة سائر شروطها، برىء المحيل بمجرد الحوالة، ولو أفلس محال عليه، أو مات، أو جحد بعد ثبوته، أو تصديق محال، وإلا فيرجع على محيل، كما لو أُحيل بلا رضا على من ظنه مليًا، فبان غيرَ ملي، أو برضاه، واشترط الملاءَة، فانتفت، لا بلا شرط (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: الحوالة على ما لَهُ في الديوان إذن في الاستيفاء فقط، وللمحتال الرجوع على مطالبة محيله (¬4)، وإحالة من لا دينَ عليه على من دينه عليه وكالة، ومن لا دين عليه على مثله وكالة في اقتراض، وكذا مدين على بريء فلا يصارفه، نص عليه الإمام أحمد (¬5)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح الزركشي على مختصر الخرقي" (4/ 113). (¬2) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (3/ 328 - 329). (¬3) المرجع السابق (3/ 328). (¬4) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" للشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 477). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 199).

الحديث الثالث

الحديث الثالث وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -أَوْ قَالَ-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ -أَوْ إِنْسَانٍ- قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2272)، كتاب: الاستقراض، باب: إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة، فهو أحق به، ومسلم (1559/ 22 - 25)، كتاب: المساقاة، باب: من أدرك ما باعه عند المشتري، وقد أفلس، فله الرجوع فيه، وأبو داود (3519، 3523)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده، والنسائي (4676 - 4677)، كتاب: البيوع، باب: الرجل يبتاع البيع فيفلس ويوجد المتاع بعينه، والترمذي (1262)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء إذا أفلس للرجل غريم فيجد متاعه، وابن ماجه (2358 - 2361)، كتاب: الأحكام، باب: من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 156)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 553)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 19)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 225)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 435)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 221)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 200)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1187)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 63)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 237)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 224)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 53)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 363).

ما أشار إليه بقوله -رحمه الله تعالى-: (وعنه) " أي: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، (قال) أبو هريرة: (قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -أو قال-) أبو هريرة - رضي الله عنه -: (سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول). قال الحافظ ابن حجر: أظن الشك من زُهير -بالتصغير- بنِ معاويةَ الجعفيِّ شيخِ شيخِ البخاري (¬1). واعترض البدرُ العينيُّ: بأن الظن لا يجدي شيئًا؛ لأَن الاحتمال في غيره قائم (¬2). وفيه: شدة الورع والاحتراس في تأدية الحديث كما سمع من غير زيادة ولا نقص، وإن جوزنا روايته بالمعنى. (من أدرك)؛ أي: لحق، والدَّرَك -محركة-: اللَّحاق، يقال: أدركه: لحقه (¬3) (مالَه) الذي باعه وأقبضه للمشتري، ولم يقبض من ثمنه شيئًا، فوجده (بعينِهِ). وفي رواية الترمذي وغيرِه: "فوجد الرجلُ سلعته عنده بعينها" (¬4) (عند رجل) أفلس (أو) وجد ماله بعينه عند (إنسان) أعمّ من كونه رجلًا (قد أفلس). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 63). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 238). قلت: قد علل الحافظ ابن حجر في "الفتح" (5/ 63) سبب هذا الظن، فقال: فإني لم أر في رواية أحد ممن رواه عن يحيى -مع كثرتهم- فيه التصريح بالسماع، وهذا مشعر بأنه كان لا يرى الرواية بالمعنى أصلًا، انتهى. (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروز أبادي (ص: 1211)، (مادة: درك). (¬4) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1262).

والمفلس لغة: من لا مال له، ولا ما يدفع به حاجته (¬1). وشرعًا: من لزمه أكثر من ماله (¬2). قال في "المطلع": وإنما سمي مفلسًا؛ لأنه لا مال له إلا الفلوس، وهي أدنى أنواع المال. قال في "المطلع": والمفلس في عرف الفقهاء: من دينُه أكثرُ من ماله، وخرجُه أكثرُ من دَخْلِه، ويجوز أن يكون سمي بذلك، لما يؤول إِليه من عدم ماله بعد وفاء دينه، ويجوز أن يكون سمي بذلك؛ لأنه يمنع من التصرف في ماله إلا الشيء التافه، كالفلوس ونحوها. وقال أبو [السعادات] (¬3): صارت دراهمه فلوسًا. وقيل: صار إلى حال يقال: ليس معه فلس (¬4)، انتهى (¬5) (فهو)؛ أي: رب المال الذي دفعه لمبتاعه، ولم يقبض من ثمنه شيئًا، ووجده بعينه (أحقُّ به)؛ أي: مسألة الذي وجده بعينه، لم يزد زيادة متصلة، كسِمَنٍ، وكبر، ولم تتغير صفتها بما يزيل اسمها، كنسج غزل، وخبز دقيق (من غيره) من بقية الغرماء الذين لهم على المفلس ديون (¬6). أعلم: أن هذا الحديث رواه الإمام أحمد (¬7)، والشيخان، وأصحاب ¬

_ (¬1) قاله ابن قدامة في "المغني" (4/ 265). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) في الأصل: "السعود" والصواب ما أثبت. (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 470). (¬5) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 254). (¬6) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 394 - 395). (¬7) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 258).

"السنن" و"المسانيد"، ورواه الإمام مالك في "الموطأ" (¬1)، وهو من الأحاديث المقطوع بصحتها. وروى الإمام أحمد أيضًا من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من وجد متاعَه عند مفلس بعينه، فهو أحقُّ به" (¬2). وروى مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة أيضًا في الرجل الذي يعدم إذا وجد عنده المتاع، ولم يُفرِّقه: أنه لصاحبه الذي باعه (¬3)، ورواه بهذا اللفظ النَّسائيُّ أيضًا (¬4). وفي لفظ عند الإمام أحمد: "أيُّما رجلٍ أفلسَ، فوجد رجل عنده مالَه، ولم يكن اقتضى من ماله شيئًا، فهو له" (¬5). وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارثِ بنِ هشام: أن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما رجلٍ باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحقُّ به، وإن مات المشتري، فصاحبُ المتاع أُسوةُ الغرماء" رواه الإمام مالك في "الموطأ"، وأبو داود، وهو مرسل (¬6)، وقد أسنده أبو داود من وجه ضعيف (¬7). ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 678). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 10). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1559/ 23). (¬4) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (4677). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 525). (¬6) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 678)، وأبو داود (3520)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده. (¬7) رواه أبو داود (3522)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يفلس فيجد الرجل متاعه بعينه عنده، وقال: حديث مالك أصح -أي: المرسل-.

تنبيهات: الأول: قال بمقتضى هذا الحديث جمهورُ الأئمة، وأكثرُ الأئمة، منهم: عطاء بن أبي رباح، وعروة بن الزبير، وطاوس، والشعبي، والأوزاعي، وعبيد الله بن الحسن، والإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحق بن راهويه، وداود، فكل هؤلاء وغيرهم من أعلام الأئمة ذهبوا إلى ظاهر هذا الحديث، وقالوا: إذا أفلس الرجل، وعنده متاع قد اشتراه، وهو قائم بعينه، فإن صاحبه أحقُّ به من غيره من الغرماء. وقال الإمام أبو عمر يوسفُ بنُ عبدِ البَرِّ: أجمع فقهاء الحجاز، وأهلُ الأثر على القول بجملته؛ أي: بجملة الحديث المذكور، وإن اختلفوا في أشياء من فروعه، ثم قال: واختلف مالك والشافعيُّ في المفلس يأبى غرماؤه دفع السلعة إلى صاحبها، وقد وجدها بعينها، ويريدون دفع الثمن إليه من قبل أنفسهم، لما لهم في قبض السلعة من الفضل (¬1). فقال مالك: لهم ذلك، وليس لصاحبها أخذُها إذا دفع إليه الغرماء الثمن. وقال الشافعي: ليس للغرماء في هذا مقال، وإذا لم يكن للمفلس ولا لورثته أخذُ السلعة، فالغرماء أبعدُ من ذلك، وإنما الخيار لصاحب السلعة، إن شاء أخذها، وإن شاء تركها، وضرب مع الغرماء (¬2). الثاني: في تحرير مذهب الإمام أحمد - رضي الله عنه - في هذه المسألة من حيث هي معتمد المذهب: أن من وجد عين ما باعه أو أقرضه أو ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 411). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 238).

أصدقه، ثم تنصف، أو سقط، ولو بعد الحجر عليه غير عالمٍ به، أو أعطاه رأس مال سلم، أو أجرة، ولو نفسه، ولم يمض من مدتها شيء، أو شقصًا أخذه مفلس بشفعة، فهو أحق بها، ولو قال المفلس: أنا أبيعها وأعطيك ثمنها، أو بذله غريم، أو خرجت وعادت لملكه، فلو اشتراها ثم باعها، ثم اشتراها البائع الثاني -وهو المفلس-، فهي لأحد البائعين بقرعة، وشرط لصحته أحقية رب العين بها، كون مفلس وبائع حيين إلى أخذها، وبقاء كل عوضها في ذمته، لا إن دفع أو أبرىء من بعضه، وكون كلها في ملكه، لا إذا جمع العقد عددًا أو لا، وكان مكيلًا أو موزونًا، كما استوجهه في "الغاية"، فإنه يأخذ مع تعذُّر بعضِه ما بقي، وكون العين بحالها، لم توطأ بِكْر، ولم يجرح قِنٌّ بما ينقص قيمته، ولم تختلط بغير متميز، ولم تتغير صفتها بما يزيل اسمها -كما مر-، من جعل نحو دُهن صابونًا، وكونها لم يتعلق بها حق، كشفعة وجناية ورهن، فإن أسقطه ربه، فكما لو لم يتعلق، وكونها لم تزد زيادة متصلة، كتعلم صنعة -كما قدمنا (¬1) -. ويصح رجوعه يقول، كرجعت في متاعي، أو أخذته، ولو متراخيًا، بلا حاكم، وهو فسخ لا يحتاج لمعرفة، وقدرة على تسليم، فلو رجع في آبق، صح، وصار له، فإن بأن تلفه حين رجع، بطل استرجاعه، ولا يمنع الرجوعَ نقص، كهزال، وجنون، ونسيان صنعة، ولا صبغ ثوب أو قصره، ولو نقص بهما، كما في "الغاية" (¬2)، خلافًا "للإقناع" (¬3)، و"المنتهى" (¬4)، ¬

_ (¬1) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (3/ 377 - 382). (¬2) المرجع السابق، (3/ 384). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 395). (¬4) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (2/ 482).

والزيادة بصبغ أو قصر لمفلس، ولو كان الثوب والصبغ لواحد، رجع في الثوب وحده، وضرب له بثمن الصبغ مع الغرماء، وأما الزيادة المنفصلة، كالولد والثمرة والكسب، فلا تمنع الرجوع، وهي لراجع، نص عليه الإمام أحمد في ولد الجارية، ونتاج الدابة، واستظهر في "التنقيح" رواية كونها لمفلس، واستوجه في "الغاية" أنه الصحيح (¬1). وحمل الإمامُ الموفق النصَّ على بيعهما في حال حملهما فكان مبيعين، وأما إن مات البائع حال كونه مدينًا، أو حجر عليه، فمشترٍ أحقُّ بمبيعه من الغرماء، ولو قبل قبضه، لا إن مات المشتري مفلسًا والسلعةُ بيد بائع (¬2). واختُلف عن الإمام مالك والشافعي فيما إذا اقتضى صاحب السلعة من ثمنها شيئًا، فقال ابن وهب وغيره عن مالك: إنْ أحبَّ صاحب السلعة أن يرد ما قبض من الثمن، ويقبض سلعته، كان له ذلك. وقال الشافعي: لو كانت عبدًا، فأخذ نصف ثمنه، ثم أفلس الغريم، كان له نصف العبد، ويبيع النصف الثاني الذي يفي للغرماء، ولا يرد شيئًا مما أخذ. وقد علمت أن معتمد مذهب الإمام أحمد أنه متى أخذ من ثمن السلعة شيئًا، امتنع رجوعه بها. واختلف مالك والشافعي فيما إذا مات المفلس. فقال الإمام مالك -كما قدمناه عن معتمد مذهبنا-: لا رجوع في الموت (¬3)، ودليلُه ما قدمنا في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر. ¬

_ (¬1) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (3/ 385). (¬2) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 430). (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (8/ 413)، و"عمدة القاري" للعيني =

الثالث: لم يقل الإمام أبو حنيفة بمقتضى هذا الحديث، وكذا إبراهيم النخعي، والحسن البصري، والشعبي في رواية، وكذا أبو يوسف، ومحمد، وزفر، فقال هؤلاء: بائع السلعة له أسوة الغرماء. وقد صح عن عمر بن عبد العزيز: أن من اقتضى من ثمن سلعته شيئًا، ثم أفلس، فهو والغرماء فيه سواء، وهو قول الزهري. قلت: ونحن نلتزم هذا، ونقول به، وقد روي عن علي - رضي الله عنه - نحوُ ذلك (¬1). الرابع: دلالة الحديث على الرجوع في الفلس قوية جدًا، حتى قيل: إنه لا تأويل له. وقال الإصطخري -من الشافعية-: لو قضى القاضي بخلافه، نقض حكمه. وقد صرح علماؤنا بذلك. وعبارة "الإقناع": ولو حكم حاكم بكونه أسوةَ الغرماء، نقض حكمه نصًا؛ أي: نص عليه الإمام أحمد - رضي الله عنه (¬2) -. وقال القرطبي في "المفهم": تعسف بعضُ الحنفية في تأويل هذا الحديث بتأويلات لا تقوم على أساس (¬3). وقال النووي: فأولوه بتأويلات ضعيفة مردودة (¬4). ¬

_ = (12/ 238)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 240). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 396). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 433). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 222).

وقال ابن بطال: قالت الحنفية: البائع أسوة الغرماء، ودفعوا حديث التفليس بالقياس، وقالوا: السلعة مال المشتري، وثمنها في ذمته. والجواب: أنه لا مدخل للقياس إلا إذا عدمت السنة، أما مع وجودها، فهي حجة على من خالفها. فإن قال الكوفيون: نؤوِّله بأنه محمول على المودع والمقرض دون البائع. قلنا: هذا فاسد؛ لأنه -عليه السلام- جعل لصاحب المتاع الرجوع إذا وجده بعينه، والمودع أحقُّ بعينه، سواء كان على صفته، أو قد تغير عنها، فلم يجز حمل الخبر عليه، ووجب حمله على البائع؛ لأنه يرجع بعينه إذا وجده بصفته لم يتغير، فإذا تغير، فإنه لا يرجع به. وقال الكرماني: هذا التأويل غير صحيح، إذ لا خلاف أن صاحب الوديعة أحق بها، سواء وجدها عند مفلس، أو غيره، وقد شرط في الحديث الإفلاس (¬1). والحاصل: أنهم أطالوا في الرد على من خالف هذا الحديث، والله أعلم. الخامس: قد استُدل بهذا الحديث للقول بأن الديون المؤجلة تحل بالحَجْر على المديون، ووجه الاستدلال: أنه يندرج تحت كونه أدرك ماله، فيكون أحق به، ومن لوازم ذلك أن يحل، إذ لا تسوغ المطالبة بالمؤجل. ومعتمد مذهبنا: أنه متى كان الثمن مؤجلًا، رجع في السلعة، فأخذها عند حلول الأجل، فتوقف إليه. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 240).

ومعتمد المذهب: عدم حلول الدين المؤجل بالحجر، فإذا حجر الحاكم على المفلس، فإن كان في الغرماء من له دين مؤجل، لم يحل، ولم يوقف له شيء، ولا يرجع على الغرماء إذا حَلَّ، لكن إن حَلَّ قبل القسمة، شاركهم، وإن حل قبل قسمة البعض، شارك في الباقي، ويضرب في الباقي بجميع الدين المؤجل الذي حل، ولباقي الغرماء ببقية ديونهم، ومن مات وعليه دين مؤجل، لم يحل إذا وثق الورثة أو غيرهم برهن أو كفيل ملي أقل الأمرين من قيمة التركة أو الدين، كما لا تحل الديون التي له بموته، فإن تعذر التوثق، لعدم وارث أو غيره، حل (¬1)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (3/ 394 - 396).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: جَعَلَ (¬1) -وَفِي لَفْظٍ: قَضَى- النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2099)، كتاب: البيوع، باب: بيع الشريك من شريكه. (¬2) رواه البخاري (2100)، كتاب: البيوع، باب: بيع الأرض والدور والعروض مشاعًا غير مقسوم، واللفظ له، و (2138)، كتاب: الشفعة، باب: الشفعة في ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة، و (2363)، كتاب: الشركة، باب: الشركة في الأرضين وغيرها، و (2364)، باب: إذا اقتسم الشركاء الدور أو غيرها فليس لهم رجوع ولا شفعة، و (6575)، كتاب: الحيل، باب: في الهبة والشفعة، ومسلم (1608/ 133 - 135)، كتاب: المساقاة، باب: الشفعة، وأبو داود (3514 - 3515)، كتاب: الإجارة، باب: في الشفعة، والنسائي (4705)، كتاب: البيوع، باب: ذكر الشفعة وأحكامها، والترمذي (1370)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء: إذا حدت الحدود ووقعت السهام فلا شفعة، وابن ماجه (2499)، كتاب: الشفعة، باب: إذا وقعت الحدود فلا شفعة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 152)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 66)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 128)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 312)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 523)، و"شرح =

(عن جابر بنِ عبد الله - رضي الله عنهما -، قال: جعل) -وهذا في بعض ألفاظ البخاري- (¬1)، وفي بعضها: إنما جعل (¬2)، (وفي لفظ: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة) -وأسقط الباء في رواية-: جعل (في كل مال) من حائط وربع ونحوهما من سائر العقارات (لم يقسم) بخلاف ما قسم مما كان مشتركًا بين اثنين فصاعدًا، (فإذا) قُسم، و (وقعت الحدود) بينهما، أو بينهم، فصار كل واحد منهم يعرف حد نصيبه. (وصُرِّفَتِ الطرقُ)، فصار كل واحد يعرف طريق نصيبه، (فلا شفعة) لأحد في ملك أحد إذا باعه. قال في "المطلع"، كـ"المطالع": الشُّفعة مأخوذة من الزيادة؛ لأنه يضم ما يشفع فيه إلى نصيبه (¬3)، هذا قول ثعلب، فإنه كان وترًا، فصار شفعًا، والشافع: هو الجاعلُ الوترَ شفعًا، والشفيعُ: فعيل بمعنى فاعل (¬4). وقال الإمام الموفق: في الشفعة عرفًا: استحقاقُ الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقل عنه من يد من انتقلت إليه (¬5). ¬

_ = مسلم" للنووي (11/ 45)، و "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 206)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1192)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 251)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 436)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 20)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 122)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 73)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 80). (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2099). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2363، 6575)، وعند أبي داود برقم (3514)، وابن ماجه برقم (2499). (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 256). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 278). (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 178).

زاد في "الإقناع": إن كان مثله، أو دونه، بعوض مالي، بثمنه الذي استقر عليه العقد (¬1). قال علماؤنا: فلا شفعة لكافر حين البيع أسلم بعدُ أو لا على مسلم، ولو ذميًا، خلافًا للثلاثة. قال في "الفروع": ولا شفعة لكافر على مسلم، نص عليه الإمام أحمد - رضي الله عنه - في وجوه كثيرة (¬2). قال في "الإنصاف": وهو المذهب، وعليه الأصحاب، وهو من مفردات المذهب، انتهى (¬3). وبه قال الحسن والشعبي. وقيل: بلى، وبه قال مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، لعموم قوله - عليه السلام -: "لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه، وإن باعه ولم يؤذنه، فهو أحق به" (¬4)، وهو الصحيح من حديث جابر - رضي الله عنه -، ولأنه خيار ثبت لدفع الضرر بالشراء، فاستوى فيه المسلم والكافر، كالعيب. وأما ما روى الدارقطني في كتاب "العلل" عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا شفعة لنصراني" (¬5)، فهذا يخص عموم ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 607). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 415). (¬3) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 312). (¬4) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (14403)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (29043)، والدارقطني في "سننه" (4/ 224). (¬5) ورواه العقيلي في "الضعفاء" (4/ 313)، والطبراني في "المعجم الصغير" =

ما احتجوا به، ولأنه معنى يملك به يترتب على وجود ملك مخصوص، فلم يجب للذمي على المسلم، كالزكاة، ولأنه معنى يختص به العقار، فأشبه الاستعلاء في البنيان، يحققه: أن الشفعة إنما ثبتت للمسلم دفعًا للضرر عن ملكه، فقدم دفع ضرره على دفع ضرر المشتري، ولا يلزم من تقديم دفع ضرر المسلم على المسلم تقديم ضرر الذمي؛ فإن حق المسلم أرجحُ، ورعايته أولى، ولأن ثبوت الشفعة في محل الإجماع على خلاف الأصل، رعاية لحق الشريك المسلم، وليس الذمي في معنى المسلم، فيبقى على مقتضى الأصل، وتثبت الشفعة للمسلم على الذمي، لعموم الأدلة الموجبة، ولأنها إذا ثبتت في حق المسلم على المسلم، مع عظم حرمته ورعاية حقه، فلأنْ تثبت على الذمي مع دناءته أولى وأحرى، قاله في "المغني" (¬1). تنبيهات: الأول: لا تثبت الشفعة إلا في العقارات، فلا تجب فيما ليس بعقار، كشجر، وحيوان مفردين، وجوهر، وسيف، نعم يؤخذ البناء، والغراس تبعًا (¬2). وذهب شذوذ من الناس إلى ثبوتها في المنقولات متعللين بعموم صدر هذا الحديث، مع أن آخره وسياقه يشعر بأن المراد به العقار؛ لأنه الذي تدخله الحدود وصرف الطرق (¬3). ¬

_ = (569)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 465)، وغيرهم. (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 223 - 224). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 610). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 208).

الثاني: لا بد من كون المبيع شِقْصًا مشاعًا مع شريك -ولو مكاتبًا- من عقار ينقسم قسمة إجبار، فأما المقسوم المحدود، فلا شفعة فيه -كما يأتي-، فلا تجب الشفعة فيما لا تجب قسمته، كحمام صغير، وبئر، وطريق، وعراص ضيقة (¬1). وقال أبو حنيفة: تثبت فيه الشفعة. وحجة الجمهور: قوله -عليه السلام-: "إنما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم. . . . إلخ". وهذه الصيغة في النفي تشعر بقبول القسمة، فيقال للبصير: لم تبصر كذا، ويقال للأكمه: لا تبصر كذا، وإن استعمل أحد الأمرين في الآخر، وذلك للاحتمال، فعلى هذا يكون في قوله: "فيما لم يقسم" إشعار بأنه قابل للقسمة، فإذا دخلت "إنما" المفيدة للحصر، اقتضت انحصار الشفعة في القابل، ذكره ابن دقيق العيد (¬2). ولِما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "لا شفعة في فناء، ولا طريق، ولا منقبة"، والمنقبة: الطريق الضيق بين دارين لا يمكن أن يسلكه أحد، ذكره أبو الخطاب في "رؤوس المسائل"، وأبو عبيد في "الغريب" (¬3). وروي عن عثمان - رضي الله عنه -: أنه قال: لا شفعة في بئر، ونخل (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 610). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 207 - 208). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 121). (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 717)، ومن طريقه: عبد الرزاق في "المصنف" (14393).

ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر بالبائُع؛ لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعة في نفسه بالقسمة (¬1). الثالث: يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة": عدمُ ثبوت الشفعة للجار، وهذا معتمد مذهب الإمام أحمد، ومالك، والشافعي. وقال الإمام أبو حنيفة: تجب الشفعة للجار. وهي رواية عن الإمام أحمد؛ إِلا أنها مرجوحة بالمرة. واستدل لقول أبي حنيفة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "جار الدار أحقُّ بدار الجار" رواه النسائي، وأبو يعلى في "مسنده"، وابن حبّان من حديث أنس (¬2)، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث سمرة بن جندب (¬3)، ورواه الطبراني من حديث سمرة بلفظ: "جار الدار أحق بالشفعة" (¬4). وبما روى ابن سعد عن الشريد بن سويد مرفوعًا: "جارُ الدار أحقُّ بالدار من غيره" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 181). (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (5182)، ولم أقف عليه عند النسائي وأبي يعلى من حديث أنس - رضي الله عنه - بهذا اللفظ. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 12)، وأبو داود (3517)، كتاب: الإجارة، باب: في الشفعة، والترمذي (1368)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الشفعة. (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (6941). (¬5) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 513)، وكذا رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 388).

وبما روى البخاري، وأبو داود، والنسائي عن أبي رافع مرفوعًا: "الجار أحقُّ بصقبه" (¬1). وبما روى الإمام أحمد، وأصحاب السنن من حديث جابر مرفوعًا: "الجار أحقُّ بشفعة جاره ينتظر بها، وإن كان غائبًا، بأن كان طريقهما واحد" (¬2). والمانعون أجابوا عن هذه الأحاديث بأجوبة: أما ما في "البخاري" من قوله: "أحق بصقبه"، فقد أبهم الحق، ولم يصرح به، فلم يجز أن يحمل على العموم في مضمر؛ لأن العموم يستعمل في المنطوق به دون المضمر. قال الخطابي (¬3)، وابن الأثير (¬4): الصقب -بالسين والصاد- وفي الأصل: القرب. وقال في "القاموس": الجار أحق بصقبه؛ أي: بما يليه ويقرب منه (¬5). وقال العلّقمي في "حاشية الجامع الصغير": يحتج بهذا الحديث من أوجب الشفعة للجار. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6577)، كتاب: الحيل، باب: في الهبة والشفعة، وأبو داود (3516)، كتاب: الإجارة، باب: في الشفعة، والنسائي (4702)، كتاب: البيوع، باب: ذكر الشفعة وأحكامها. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 303)، وأبو داود (3518)، كتاب: الإجارة، باب: في الشفعة، والترمذي (1369)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الشفعة للغائب، وابن ماجة (2494)، كتاب: الشفعة، باب: الشفعة بالجوار. (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 154). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 41). (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 135)، (مادة: صقب).

وقال: ومن لم يثبتها للجار، تأول الجار على الشريك. ويحتمل أن يكون المراد: أحق بالبر والمعونة وما في معناهما، بسبب قربه من جاره (¬1). وأجابوا عن حديث سمرة: بأن أهل الحديث اختلفوا في لقاء الحسن له، ومن أثبت لقاءه، قال: إنّه لم يَروِ عنه إِلَّا حديثَ العقيقة، وقد رواه الحسن عن سمرة. وعن حديث: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها، وإن كان غائبًا" بأن شعبة قال: سها فيه عبد الملك بن سليمان الذي الحديثُ في روايته. قال الإمام أحمد: هذا الحديث منكر. قال ابن معين: لم يروه غير عبد الملك، وقد أنكر عليه. قال الإمام المجد: ويقوَّى ضعفُه بحديث جابر (¬2) -يعني: الذي نحن بصدد شرحه-. قال بعض الحنفية: يلزم الشّافعية القائلين بحمل اللفظ على حقيقته مجازًا أن يقولوا بشفعة الجوار؛ لأن الجار حقيقةٌ في المجاور، ومجازٌ في الشريك. وأجيب عنه: بأن محله عند التجرد، وقد قامت القرينة هنا للمجاز، فاعتبر للجمع بين حديثي جابر وأبي رافع، فإن حديث جابر صريح في اختصاص الشفعة بالشريك، وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقًا؛ لأنه يقتضي أن يكون الجار أحقَّ من كل أحد، حتى من الشريك، والذين قالوا ¬

_ (¬1) انظر: "حاشية السيوطي على سنن النسائي" (7/ 320). (¬2) انظر: "المنتقى" للمجد ابن تيمية (2/ 353)، عقب حديث (2449).

بشفعة الجوار قدموا الشريك مطلقًا، ثم المشارك في الطريق، ثم الجار على من ليس بمجاور (¬1). قلت: وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: تثبت الشفعة للجار مع الشركة في الطريق، واختاره تلميذه ابن قاضي الجبل في "الفائق"، لما روى الترمذي من حديث جابر مرفوعًا: "الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها إذا كان غائبًا، بأن كان طريقهما واحدًا"، قال: وهذا ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية أبي طالب، وقد سأله عن الشفعة، فقال: إذا كان طريقهما واحدًا شركاء لم يقتسموا، فإذا طرقت الطرق، وعرفت الحدود، فلا شفعة. قال: الحارثي من علمائنا: ومن النَّاس من قال بالجواز، لكنه يقيد الشركة في الطريق. وذكر كلام الإمام أحمد في رواية أبي طالب، ثمّ قال: وهذا الصحيح الذي يتعين المصير إليه، ثم ذكر أدلته، وقال: وفي هذا المذهب جمع بين الأخبار، فيكون أولى بالصواب (¬2). الرابع: يشترط للأخذ بالشُّفعَةِ -مع ما تقدم-: المطالبةُ بها على الفور، وأخذ جميع المبيع، وأن يكون للشفيع ملك الرقبة سابقًا. وعن أبي حنيفة: لا بد من طلبها على الفور، حتى إن علم وسكت هنيهة، ثم طلب الشفعة، فليس له ذلك، وعنه: رواية أخرى: ما دام قاعدًا في ذلك المجلس، فله أن يطالب بالشفعة ما لم يصدر منه ما يدل على الإعراض، من نحو قيام، واشتغال بشغل آخر. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 438). (¬2) انظر: "المبدع" لابن مفلح (5/ 206)، و"الإنصاف" للمرداوي (6/ 255).

وعن مالك: أنها لا ينقطع استحقاقه بسكوته عن الطلب إلا بعد سنة. وعنه: لا تنقطع إلا أن يأتي عليه من الزمان ما يعلم به أنه تارك لها، فأما طلبها عنده، فعلى التراخي. وقال الشافعي في القديم: إنها على التراخي، وقال في الجديد: إنها على الفور، فمتى أخر الطلب من غير عذر، فلا شفعة له. قال الإمام أحمد -كما في رواية أبي طالب-: الشفعة بالمواثبة ساعةَ يعلمه، ودليله حديثُ عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة كحلِّ العِقال" (¬1). وفي لفظ: "الشفعة كنشطة العِقال، إن قيدت، ثبتت، وإن تركت، فاللوم على من تركها". قال في "المغني": رواه الفقهاء في كتبهم (¬2). الخامس: لا يحل الكذبُ والتحيل على إسقاط حق المسلم من الشفعة وغيرها، ويجب على المشتري تسليمُ الشَّقص بالثّمن الذي وقع باطنًا، والتحيلُ على إسقاطها بعد وجوبها حرامٌ بالاتفاق، كما في "مختصر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية"، قال: والنزاع في الاحتيال عليها قبل الوجوب، ومن صور الاحتيال لإسقاطها: أن تكون قيمة الشقص مئة، وللمشتري ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجة (2500)، كتاب: الشفعة، باب: طلب الشفعة. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 187). قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 56): هذا الحديث ذكره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والماوردي هكذا بلا إسناد، وذكره ابن حزم من حديث ابن عمر، وذكره عبد الحق في "الأحكام"، عنه، وتعقبه ابن القطان بأنه لم يره في "المحلى"، وأخرج عبد الرزاق من قول شريح: إنما الشفعة لمن واثبها، وذكره قاسم بن ثابت في "دلائله".

عرض قيمته مئة، فيبيعه العرض بمئتين، ثم يشتري الشقص منه بمئتين، فيتقاصان، والله أعلم (¬1). السادس: ظاهر صنيع المؤلف أن هذا الحديث من متفق الشيخين، وليس كذلك، بل هو بهذا اللفظ من أفراد البخاري (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 503 - 504). (¬2) قلت: ولعل المصنف -رحمه الله- أراد أن أصل الحديث قد أخرجاه في "صحيحيهما"، وإن كان مسلم قد أخرجه بمعناه.

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يسْتأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّي أَصَبْتُ أَرْضًا بخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُني بهِ؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتَ، حَبَّسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا"، قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبَ، قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الفُقَرَاءِ، وَفي القُرْبَى، وَفِي الرِّقَاب، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، والضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَها أَنْ يَأْكلَ مِنْهَا بالمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فيهِ، وفي لفظ: غَيْرَ مُتأَثِّلٍ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2586)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في الوقف، و (2613)، كتاب: الوصايا، باب: وما للوصي أن يعمل في مال اليتيم، و (2620)، باب: الوقف كيف يكتب، و (2621)، باب: الوقف للغني والفقير والضيف، و (2625)، باب: نفقة القيم للوقف، ومسلم (1632)، كتاب: الوصية، باب: الوقف، وأبو داود (2878)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الرجل يوقف الوقف، والنسائي (3597 - 3601)، كتاب: الأحباس، باب: الأحباس كيف يكتب الحبس، والترمذي (1375)، كتاب: الأحكام، باب: في الوقف، وابن ماجة (2396)، كتاب: الصدقات، باب: من وقف. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 143)، و"إكمال =

(عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمَر) بنِ الخطاب (- رضي الله عنهما -، قال) أبو عبد الله بنُ عمَر: (أصاب عمرُ) - رضي الله عنه - (أرضًا بخيبَر) -بالخاء المعجمة فتحتية فموحدة، وزن جعفر-: هي اسم ولاية مشتملة على حصون ومزارع ونخل كثير على ثلاث مراحلَ من المدينة النبوية -على ساكنها الصلاة والسلام-، وذلك ثمانية بُرُد، والبريدُ أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثةُ أميال، على يسار الحاجِّ من الشام، تُسامت هدية إلى جهة الشرق. قال في "السيرة الشامية": والخيبر بلسان اليهود: الحصن، ولذا يقال لها: خيابر -أيضًا-. وقيل: إنها سميت بذلك باسم أول من نزلها، وهو خيبر أخو يثرب ابنا قانية بن مهلايل بن إِرم بن عبيد، وهو أخو عاد (¬1). وعمر - رضي الله عنه - أصاب الأرض التي ذكرها لما فتحها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فاستحق سهمه، وكان فتوحها في أول السابعة على ما رجحناه في "المعارج شرح النونية". قال ابن عمر - رضي الله عنه -: (فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستأمِرُه) -أي: يطلب ¬

_ = المعلم" للقاضي عياض (5/ 374)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 599)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 86)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 210)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1194)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 400)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 24)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 456)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 88)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 127). (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت الحموي (2/ 409)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 464)، و"السيرة الحلبية" (2/ 726).

منه أمره -يعني: يستشيره (فيها) بأن يتصدق بها، أو يوقفها، (فقال) عمرُ - رضي الله عنه -: (يا رسول الله! إنِّي أصبت أرضًا بخيبر)، واسم تلك الأرض: ثَمْغ -بفتح الثاء المثلثة وسكون الميم، فغين معجمة-، وفي "القاموس": ثَمَغَ: خلطَ البياض بالسواد، ورأسَه بالحناء، وثَمْغ -بالفتح-: مال بالمدينة كان لعمر - رضي الله عنه -، انتهى (¬1). وفي "المطالع": ثَمْغ -بإسكان الميم-، وقيده المهلب -بفتحها-: موضع مال عمر - رضي الله عنه - المحبس، انتهى (¬2). (لم أصب مالًا قط أنفسَ)؛ أي: أجود وأعجب - (عندي منه). وفيه: دليل على ما كان أكابرُ السلف والصالحين عليه من إخراج أنفَسِ الأموال عندهم لله تعالى (¬3). (فما تأمرني به؟) أي: بذلك المال النفيس الذي هو الأرض التي أصابها من خيبر، (قال) له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (إن شئتَ حَبَّسْتَ أصلَها)؛ يعني: رقبة الأرض. (وتصدقتَ بها)؛ أي: بثمرتها، ويحتمل أن يكون راجعًا إلى الأصل المحبَّس، وهو ظاهر اللفظ. ويتعلق بذلك ما تكلم فيه الفقهاء من ألفاظ التحبيس التي منها الصدقة، ومن قالك منهم بأنه لا بد من لفظ يقترن به يدل على معنى الوقف (¬4). قلت: صرح علماؤنا بأن صريح الوقف: وَقَفْت، وحَبَّسْت، وسَبَّلْت، ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1008)، (مادة: ثمغ). (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 136). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 210). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

ويكفي أحدُها، وكنايته: تصدَّقت، وحرَّمت، وأبَّدت، ولا يصح بالكناية إِلَّا أن ينويه، أو يقرن به أحد الألفاظ الخمسة، بأن يقول مثلًا: تصدقت صدقة موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، أو مؤبدة، أو يصفها بصفات الوقف، فيقول: لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، أو يقول: تصدقت بأرضي على فلان، والنظر لي أيام حياتي، أو لفلان، ثم من بعده لفلان، وكذا لو قال: تصدقت به على فلان، ثم من بعده على ولده، أو على فلان، أو تصدقت به على قبيلة كذا، أو طائفة كذا. ولو قال: تصدقت بداري على فلان، ثمّ قال بعد ذلك: أردت الوقف، ولم يصدقه فلان، لم يقبل قول المتصدق في الحكم (¬1). وإنما قال له - صلى الله عليه وسلم -: "إن شئت"، ليعلمه أنه مخير. وربما استدل بهذا الحديث: أن ظاهر الأمر للوجوب، وإلا لما احتاج إلى قوله: "إن شئت". (قال)؛ أي: ابن عمر - رضي الله عنهما -: (فتصدَّقَ)؛ أي: (عمر) - رضي الله عنه - (بها)؛ أي: بَغلَّتِها، (غير أنه)؛ أي: الشأن والأمر (لا يباع أصلُها) الذي هو رقبة الأرض، وهذا حكم شرعي ثابت للوقف من حيث هو وقف، ويحتمل من حيث اللفظ أن يكون ذلك إرشادًا إلى شرط هذا الأمر في هذا الوقف، فيكون ثبوته بالشرط لا بالشرع (¬2). (ولا يورث) أصلها (ولا يوهب). (قال) ابن عمر - رضي الله عنهما -: (فتصدق) بها؛ أي: بالأرض المذكورة- (عمرُ) بنُ الخطاب - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (4/ 273 - 274). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 211 - 212).

(في الفقراء) وهم هنا: كل من لا يجد كفايته، فيعم المساكين. (وفي القربى)؛ أي: القرابة في الرحم، وأصل القربى: مصدر، تقول: بيني وبينه قرابة، وقرب، وقربى، ومَقْرَبة (¬1). (وفي الرقاب)؛ أي: في فك الرقاب، وهم: المكاتَبون يُدفع إليهم شيء من الوقف تُفك به رقابهم، وكذلك لهم نصيب في الزَّكاة (¬2). (وفي سبيل الله)، وهو الجهاد عند الأكثرين، ومنهم من عدَّاه إلى الحج. (وابن السبيل)، وهو المسافر، والسبيل: هو الطريق، والقرينة تقتضي حاجته، فلو كان له مال في بلده لا يصل إليه، فهو ابن السبيل أيضًا. (والضيف)، وهو من نزل بقوم، والمراد: قِراه، والقرينة لا تقتضي تخصيصَه بالفقر. وكل هذه المصارف الّتي ذكرها عمر - رضي الله عنه - مصارفُ خيرات، وهي جهة الأوقاف (¬3). (لا جُناحَ)؛ أي: لا إثمَ. (على من وَلِيهَا)؛ أي: أكلُه وإطعامه لا يكون على وجه التموُّل، بل لا يجاوز المعتاد، يعني: إن أكل من ولى التحدث على تلك الأرض، فله (أن يأكل منها)؛ أي: من ريعها. (بالمعروف)؛ أي: بحسب ما يحمل ريع الوقف على الوجه المعتاد. ¬

_ (¬1) قاله الجوهري في "الصحاح" (1/ 199 - 200)، (مادة: قرب). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 24). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 212).

(أو)؛ أي: ولا جناح على من وليها أن (يطعم صديقًا) له من ريعها. (غيرَ متمول) حالٌ من قوله: من وليها؛ أي: أكله وإطعامه لا يكون على وجه التمول (¬1). (فيه)؛ أي: ريع ربح تلك الأرض، بل يتقيد بالمعتاد. (وفي لفظ: غيرَ مُتأَثِّلٍ) -بضم الميم فمثناة فوقية فهمز فمثلثة مشددة فلام- بدل متمول؛ أي غيرَ متخذ من ذلك أصلَ مال، يقال: تأثَّلْتُ المالَ؛ أي: اتخذته أصلًا (¬2). قال في "القاموس": تَأَثَّلَ: تَأَصَّلَ، وأَثَّلَ مالَه تأثيلًا: زكَّاه، وأثل الرَّجلُ: كَثُرَ ماله (¬3). وقال في "المطالع": في حديث أبي قتادة في قصة الدرع يوم حنين: إنه لأولُ مالٍ تأثَّلته (¬4)؛ أي: اتخذته أصلًا. وأَثْلة الشيء -بفتح الهمزة وسكون الثاء-: أصله. ومنه: غير متأثل مالًا، انتهى (¬5). وفي بعض طرق البخاري، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، ولكن ينفق ثمره"، فتصدق به عمر (¬6). وفيه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن عمر- رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 24). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 212). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1240)، (مادة: أثل). (¬4) رواه البخاري (1994)، كتاب: البيوع، باب: شراء الإبل الهيم، ومسلم (1751)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل. (¬5) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 18 - 19). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2613).

تصدق بمال له على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقال له: ثَمْغ، وكان نخلًا، الحديث (¬1) في "الصحيحين". قال ابن عون: أنبأني من قرأ هذا الكتاب: أن فيه: "غير متأثل مالًا" (¬2). تنبيهات: * الأول: هذا الحديث فيه دليل على صحة الوقف والحبس على جهة القربات، وهو مشهور متداول النقل بأرض الحجاز خلفًا عن سلف (¬3). وقد اتفق الأئمة على جوازه، ثم اختلفوا: هل يلزم من غير حكم حاكم، أو يخرجه مخرج الوصايا؟. فقال الثلاثة: يصح بغير هذين الوصفين، ويلزم. وقال أبو حنيفة: لا يصح إلا بوجود أحدهما (¬4). وقال علماؤنا: يصح الوقف بقول وفعل دال عليه، مثل أن يجعل أرضه مقبرة، ويأذن بالدفن فيها، ويبني بنيانًا على هيئة مسجد، ويأذن للناس في الصلاة فيه إذنًا عامًا (¬5). * الثّاني: يشترط في الموقوف: أن يكون عينًا معلومة، يصح بيعها، ويمكن الانتفاع بها دائمًا، مع بقاء عينها عرفًا، عقارات كان، أو شجرًا، أو منقولًا، كالحيوان، والأثاث، والسلاح، والمصحف، وكتب العلم، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2613). (¬2) تقدم تخريجه من لفظ مسلم فقط برقم (1632). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 210). (¬4) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 52). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 63).

ويصح وقف المشاع اتفاقًا، وأن يكون على بر، من مسلم وذمي، كالفقراء، والمساكين، والحج، والغزو، وكتابة الفقه والعلم والقرآن، والسقايات، والقناطر، وإصلاح الطرق والمساجد والمدارس والبيمارستانات، والأقارب من مسلم وذمي، فلا يصح على مباح ومكروه ومعصية، فإن وقف على ذمي -ولو غير قريب-، صح، وشرط استحقاقه ما دام ذميًا لاغٍ، بل يستمر له إذا أسلم، فلا يصح الوقف على كنائس وبيوت نار، وبيع وصوامع، وديورة ومصالحها، ولو كان الوقف من ذمي، بل على من ينزلها من مار ومجتاز بها فقط، ولو كان من أهل الذمة. ولا يصح على كتابة التوراة والإنجيل، ولو من ذمي. ولا على جنس الأغنياء وقطاع الطريق والفسقة. وأن يقف على معين يملك ملكًا مستقرًا، فلا يصح على مجهول، كرجل، ومسجد، ولا على ميت، ولا على معدوم أصلًا، كعلى من سيولد لي، ويصح تبعًا. وأن يقف ناجزًا، فإن علقه بشرط غير موته، لم يصح، وإن قال: هو وقف بعد موتي، صح، وكان لازمًا، ويعتبر خروجُه من ثلث ماله. وأن يكون الواقف ممن يصح تصرفه في ماله، وهو المكلف الرشيد، فإن كان الوقف على غير معين، كالمساكين، ومن لا يتصور منه القبول، كالمساجد والقناطر، لم يفتقر إلى القبول من ناظرها، ولا غيره. وكذا إن كان على آدمي معين، ولا يبطل برده، كسكوته. ويزول ملك الواقف عن العين الموقوفة، وينتقل الملك فيها إلى الله تعالى إن كان الوقف على نحو مسجد، وإلى الموقوف عليه إن كان آدميًا،

أو جمعًا محصورًا، فينظر فيه هو أو وليه بشرطه (¬1)، وهذا مذهبنا كمالك. وقال أبو حنيفة: يزول عن ملك الواقف لا إلى ملك، وهو محبوس على مالكه، حتى يعتبر شرطه، ومنه ينتقل إلى الله. وللشافعي ثلاثة أقوال: أحدها: كمذهب مالك وأحمد. الثاني: هو على ملك الواقف. الثالث: ينتقل إلى الله -عز وجل- (¬2). * الثالث: في الحديث دليل على ذكر الشروط في الوقف واتباعها، وينبغي أن تكتب كلها في كتاب الوقف، وقد كتب سيدنا عمر - رضي الله عنه - كتاب وقفه، كتبه مُعيقيب، وكان كاتبه، وشهد عبدُ الله بن الأرقم، وكان هذا في زمن خلافته؛ لأن معيقيبًا كان يكتب له في خلافته، وقد وصفه بأمير المؤمنين، وكان عمر - رضي الله عنه - قد وقفه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد روى أبو داود بإسناده إلى يحيى بن سعيد عن صدقة عمر - رضي الله عنه -، قال: نسخها لي عبدُ الحميد بنُ عبد الله بنِ عمرَ بنِ الخطاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هذا ما كتب عبدُ الله بنُ عمر في ثَمْغ، فقص من خبره نحو الحديث المشروح. وفيه: غير متأثل مالًا مما عفي عنه من ثمره، فهو للسائل والمحروم، وساق القصة. ¬

_ (¬1) انظر ما نقله الشارح -رحمه الله- من شروط الوقف: "الإقناع" للحجاوي (3/ 64 - 69). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 52).

وفيه: فإن شاء ولي ثمغ، اشترى من ثمرة رقيقًا يعمله. كتبه معيقيب وشهد عبد الله بن الأرقم - رضي الله عنهما (¬1) -. ومعيقيب من فضلاء الصحابة -رضي الله عنه وعنهم أجمعين-، وكان مجذومًا. * الرابع: اتفق الأئمة الأربعة على أن الوقف إذا خرب، لم يعد إلى ملك الواقف. ثم اختلفوا في جواز بيعه، وصرف ثمنه في مثله، وإن كان مسجدًا. فقال أحمد: يجوز بيعه وصرف ثمنه في مثله. وقال مالك والشافعي: لا يباع، ويبقى على حاله. ولا نص لأبي حنيفة فيها. واختلف صاحباه، فقال أبو يوسف كقول مالك والشافعي، وقال محمد: يعود إلى مالكه الأول (¬2). قال علماؤنا: الوقف عقد لازم لا يجوز فسخُه بإقالة ولا غيرها، ويلزم بمجرد القول بدون حكم حاكم -كما تقدم-، ولا يصح بيعه ولا هبته ولا المناقلة به، نصًا، إلا أن تتعطل منافعه المقصودة منه بخراب أو غيره، بحيث لا يرد شيئًا، أو شيئًا لا يعد نفعًا، وتتعذر عمارته وعود نفعه، ولو مسجدًا حتى بضيقه على أهله، وتعذر توسيعه، أو خراب محلته، أو كان موضعه قذرًا، فيصح بيعه، وبيعُ شجرة يبست، وجذع انكسر، أو بلي، أو ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2879)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الرجل يوقف الوقف. (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 54).

خيف الكسر أو الهدم، وبيع ما فضل من نجارة خشبه ونحاتته، ولو شرط عدمه إذن، فشرط فاسد، ويصرف ثمنه في مثله، أو بعض مثله لجهته، وهي مصرفه، فإن تعطلت، صرف في جهة مثلها. وجاز نقل آلة مسجد يجوز بيعه وأنقاضه إلى مثله إن احتاجها، وهو أولى من بيعه، ويصير حكم المسجد للثاني. ويصح بيع بعض الوقف لإصلاح ما بقي إن اتحد الواقف، كالجهة إن كان عينين أو عينا، ولم تنقص القيمة بتشقيص، وإلا بيع الكل (¬1)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 96 - 97).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سبِيلِ اللهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِيَهُ، فَظَنَنْتُ أَنّهُ يَبِيعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "لَا تَشْتَرِهِ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإنَّ العَائِدَ فِي هِبَتِهِ كَالعَائِدِ فِي قَيْئهِ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ: "فَإنَّ الَّذِي يَعُودُ في صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2480)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، و (2841)، كتاب: الجهاد والسير، باب: إذا حمل على فرس فرآها تباع، ومسلم (1/ 1620)، كتاب: الهبات، باب: كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه، والنسائي (2615)، كتاب: الزكاة، باب: شراء الصدقة. (¬2) رواه البخاري (1419)، كتاب: الزكاة، باب: هل يشتري صدقته، ومسلم (2/ 1620)، كتاب: الهبات، باب: كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 254)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 342)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 578)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 64)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 213)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1198)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 353)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 86)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني =

(عن) أميرِ المؤمنين أبي حفص (عمرَ) بنِ الخطاب (- رضي الله عنه -، قال: حملتُ) رجلًا (على فرس في سبيل الله)؛ أي: تصدقت به، ووهبته له بأن يقاتل عليه في سبيل الله تعالى؛ أي: جعلته حمولة لمن لم تكن له حمولة من المجاهدين، والمراد: مَلَّكه إياه (¬1)، وكان اسم الفرس فيما ذكره ابن سعد في "الطبقات": الورد، وكان لتميم الداري، فأهداه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأعطاه لعمر (¬2)، ولم يعرف الحافظ ابن حجر اسم الرجل المعطَى، وكذا البرماوي في "مبهمات الزهر" لم يسمه، وسمى الفرسَ كما ذكرنا، وفي رواية القعنبي في "الموطأ": على فرسٍ عتيقٍ (¬3)، والعتيقُ: الكريم (¬4)، (فأضاعه) الرجل (الذي كان عنده) بترك القيام فيه من الخدمة والعلف والسقي وإرساله للمرعى حتى صار كالشيء الهالك (¬5)، وقيل: أي: لم يعرف مقداره، فأراد بيعه بدون قيمته (¬6)، (فأردتُ أن أشتريه، فظننت)، وفي نسخة: وظننت -بالواو بدل الفاء (¬7) - (أنه يبيعه برخص، فسألت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -) عن ذلك، (فقال) - عليه الصلاة والسلام-: (لا تشتره) ¬

_ = (4/ 363)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 92)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 244). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 236). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 490). (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (1/ 282)، ومن طريقه: مسلم (1/ 1620)، كما تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 176). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 75). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 236). (¬7) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 75).

بإثبات الضمير، وفي بعض نسخ البخاري بحذفه، ولابن عساكر: "لا تشتريه" بإشباع كسرة الراء والياء. وظاهر النهي: التحريم. وقال الكرماني: إنه للتنزيه. قال القسطلاني: وظاهر النهي: التحريم، ولكن حمله الجمهور على التنزيه (¬1). قال العيني: وحمله قومٌ على التحريم، وليس بظاهر (¬2). انتهى. قال علماؤنا: يحرم على مزكٍّ ومتصدّق شراءُ زكاته أو صدقتِه، ولا يصح الشراء، لحديث عمر، يعني: هذا، حسمًا لمادة استرجاع شيءٍ منها حيًا، أو طمعًا في مثلها، أو خوفًا ألا يعطيه بعد، فإن عادت إليه بنحو إرثٍ أو وصيةٍ أو هبةٍ أو دينٍ، حلّت (¬3). وفي "الفروع" للعلامة ابن مفلح: يحرم شراء زكاته، نص عليه، وهو أشهر. قال صاحب "المحرر": صرح جماعة من أصحابنا وأهل الظاهر بأن البيع باطل، واحتج الإمام أحمد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشتره" (¬4)، (ولا تعد في صدقتك) لا بطريق الابتياع، ولا غيره، فهو من عطف العام على الخاص، (وإن أعطاكه)؛ أي: الفرسَ الذي تصدقَت به وحملته عليه (بدرهم) متعلق ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 176). (¬3) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (2/ 238 - 239). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 486).

بقوله: "لا تشتره"؛ أي: لا ترغب فيه أَلبتة، ولا تنظر إلى رخصه، ولكن انظر إلى أنه صدقتك (¬1). قال في "الفروع": ولأنه وسيلة إلى استرجاع شيء منها؛ لأنه يسامحه رغبة أو رهبة. وعنه -أي: الإمام أحمد-: يكره، اختاره القاضي وغيره، وفاقًا لمالك والشافعي، لشراء ابن عمر - رضي الله عنهما -، وهو راوي الحديث. وعنه: يباح، وفاقًا لأبي حنيفة، كما لو ورثها، نص عليه اتفاقًا، وعلله جماعة بأنه رجوعٌ إليه بغير فعله، فيؤخذ منه أن ما كان بفعله كالبيع، وفاقًا للشافعي، ونصوص الإمام أحمد إنما هي في الشراء. وصرح في رواية علي بْن سعيد: أن الهبة كالميراث، ونقل حنبل: ما أراد أن يشتريه فلا إذا كان شيء جعله لله، فلا يرجع فيه، وظاهر كلام الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أنه لا فرق بين أن يشتريها ممن أخذها منه، أو من غيره، وهو المذهب بلا ريب، وهو ظاهر الخبر، وقاله الشافعية، ونقله أبو داود في فرسٍ حميلٍ، وظاهرُ التعليل، بأنه يسامحه يقتضي الفرق. ونقل حنبل: وما أراد أن يشتريه، أو شيئًا من نتاجه، فلا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشترها، ولا شيئًا من نسلها"، نهى عمر عن ذلك. قال: في "الفروع": ولم أجد في حديث عمر النهيَ عن شراء نسلها، قال: والصدقة كالزكاة، جزم به جماعة، نقل أبو طالب وغيره -يعني: عن الإمام أحمد-: أنه قال: إذا تصدق بصدقة، لا يرجع فيها، إنما يرجع بالميراث. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 75).

ونقل حنبل: لا يجوز أن يعود في صدقته، واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترجع، ولا تشترها"، كلُّ ما كان من صدقة، فهذا سبيله، فإن رجع بإرث، جاز. وظاهر كلامهم: له الأكل منه. ونقل ابن الحكم فيمن يتصدق على قريبه بدارٍ أو خادمٍ أو شيءٍ: إن أكل منه قبل أن يرثه، فلا، قال عِمرانُ بنُ حصين: لا أُجيزه له (¬1). تنبيه: أورد ابن المنير على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم" بأن الابتداء في النهي عادته أن يكون بالأخف أو الأدنى، كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، ولا خفاء بأن إعطاءه إياه بدرهم أقربُ إلى الرجوع في الصدقة مما إذا باعه بقيمته، وبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحجة في الفصاحة. وأجاب: بأن المراد: لا تغلب الدنيا على الآخرة، وإن وفرها معطيها، فإذا زهد فيها وهي موفرة، فلأن يزهد فيها وهي مقترة أحرى وأولى، فهذا على وفق القاعدةُ، انتهى (¬2). ثم علل النهي بالرجوع في صدقته بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فإن العائد في هبته) التي وهبها لغيره وقبضها بإذنه (كالعائد في قيئه) الفاء للتعليل؛ أي: كما يقبح أن يقيء ثم يأكل قيئه، كذلك يقبح أن يهب شيئًا، أو يتصدق بشيء، ثم يرجع به، ويجره إلى نفسه بوجه بيع أو نحوه. (وفي لفظٍ) عند الشيخين: (فإن الذي يعود في صدقته) بعد أن تصدق بها وأقبضها لمن أخذها (كالكلب ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 486 - 487). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 75).

يعود في قيئه) الذي يقذفه من داخل جوفه، فشبه بأخسّ الحيوانات في أخسّ أحواله، تصويرًا للتهجين، وتنفيرًا منه. قال في "المصابيح": وفي ذلك دليل على المنع عن الرجوع في الصدقة، لما اشتمل عليه من التنفير الشديد، من حيث شبه الراجع بالكلب، والمرجوع فيه بالقيء، والرجوع في الصَّدقة برجوع الكلب في قيئه، انتهى (¬1). وقد جزم جمعٌ محققون بالحرمة. قال قتادة: لا نعلم القيء إلا حرامًا (¬2). وقالت الشافعية: إن ذلك للتنزيه؛ لأن فعل الكلب لا يوصف بتحريم، إذ لا تكليف عليه، فالمراد: التنفير من العود بتشبيهه بهذا المستقذر (¬3). وقلتُ: ولا يخفى مافي هذا. وقد ترجم البخاري باب: لا يحل لرجل أن يرجع في هبته وصدقته (¬4). قال ابن بطال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجوعَ في ذلك كالرجوع في القيء، وهو حرام، فكذا الرجوع في الهبة، ثم أجاب بمثل ما تقدم (¬5)، مع أنه جاء في حديث: "لا يحل لواهب أن يرجع في هبته"، ولفظه عن ابن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لرجل أن يعطي لرجل عطية، أو يهب هبة، ثم يرجع فيها، إِلا الوالد فيما يعطي ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) رواه أبو داود (3538)، كتاب: الإجارة، باب: الرجوع في الهبة. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 75). (¬4) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 924). (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 175).

ولده، ومثلُ الذي يرجع في عطيته أو هبته كالكلب يأكل، فإذا شبع، قاء، ثم عاد في قيئه" رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وقال الترمذي: حديثٌ حسن صحيح (¬1). ولا يخفى أن المقصود من هذه الأحاديث المبالغةُ في الزجر عن العودة في الصدقة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من لعب بالنردشير، فكأنما غمس يده في لحم خنزير" (¬2)، وأمثاله مما فيه مزيد الزجر والتحذير. يرشدك حديث ابن عباس، وهو في "الصحيحين" وفي بعض طرق البخاري ما لفظه: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لنا مثل السوء" مثل الذي يعود في هبته، كالكلب يرجعُ في قيئه" (¬3)، فقوله: "ليس لنا مثل السوء" يعني: لا ينبغي لنا، يريد - صلى الله عليه وسلم - نفسه والمؤمنين أن نتصف بصفةٍ ذميمة يشابهنا فيها أخسُّ الحيوانات في أخسِّ أحوالها، وقد قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]. ولا يخفى ظهور هذا المثل في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضها (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3539)، كتاب: الإجارة، باب: الرجوع في الهبة، والنسائي (3692)، كتاب: الهبة، باب: رجوع الوالد فيما يعطي ولده، والترمذي (2132)، كتاب: الولاء والهبة، باب: ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة، ولم يروه ابن ماجة من حديث ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -. (¬2) رواه مسلم (2260)، كتاب: الشعر، باب: تحريم اللعب بالنردشير، من حديث بريدة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (2479)، كتاب: الهبة، وفضلها، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 235).

قال ابن دقيق العيد في الحديث المشروح: إنّه يقتضي منع رجوع الواهب مطلقًا، وإنما يخرج الوالد في الهبة لولده بدليل خاص، قال: وأبو حنيفة أجاز رجوع الأجنبي في الهبة، ومنع من رجوع الوالد في الهبة لولده، عكس مذهب أحمد، والشافعي (¬1)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 214).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "العَائِدُ في هِبَتِهِ كَالعَائِدِ في قَيْئهِ" (¬1). * * * (عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: العائد)؛ أي: ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2449)، كتاب: الهبة، باب: هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها، و (2478 - 2479)، باب: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، و (6574)، كتاب: الحيل، باب: في الهبة والشفعة، ومسلم (1622/ 5 - 8)، كتاب: الهبات، باب: تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض، وأبو داود (3538)، كتاب: الإجارة، باب: الرجوع في الهبة، والنسائي (3691)، كتاب: الهبة، باب: رجوع الوالد فيما يعطي ولده، و (3693 - 3700)، باب: ذكر الاختلاف لخبر عبد الله بن عباس فيه، و (3701 - 3702)، باب: ذكر الاختلاف على طاوس في الراجع في هبته، والترمذي (1298)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في الرجوع في الهبة، وابن ماجة (2385)، كتاب: الهبات، باب: الرجوع في الهبة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" (3/ 170)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 581)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 64)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 150)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 346)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 90).

بشراء أو نحوه (في هبته) بعد أن وهبها، وقبضها الموهوب له بإذنه (كالعائد في قيئه)، ولا شك أن عود الآدميّ في قيئه حرامٌ، فهنا رجع الضمير للعائد في هبته، وزاد أبو داود في آخر هذا الحديث: قال همام، قال قتادة: ولا أعلم القيء إِلَّا حرامًا (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3538).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ لَهُ أُمِّي -عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ-: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَفَعَلْتَ هَذَا بوَلَدِكَ كلِّهِمْ؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ"، فَرَجَع أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ (¬1). وَفِي لَفْظٍ قَالَ: "فَلَا تُشْهِدْنِي إذَنْ، فَإنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ" (¬2). وَفِي لَفْظٍ: "فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي" (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2447)، كتاب: الهبة، باب: الإشهاد في الهبة، ومسلم (1623/ 13)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، واللفظ له. (¬2) رواه البخاري (2507)، كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، ومسلم (1623/ 14)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، واللفظ له، والنسائي (3681 - 3682)، كتاب: النحل، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر النعمان بن بشير في النحل. (¬3) رواه مسلم (1623/ 17)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، وأبو داود (3542)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يفضل بعض ولده في النحل، وابن ماجة (2375)، كتاب: الهبات، باب: الرجل ينحل ولده. =

(عن) أبي عبدِ الله (النعمانِ بنِ بَشيرٍ) -بفتح الموحَّدة وكسر الشين المعجمة- بنِ سعدِ بنِ ثعلبةَ، الخزرجيِّ، الأنصاريِّ، وهو أولُ مولود ولد للأنصار من المسلمين بعدَ الهجرة، وهو وأبوه صحابيان - رضي الله عنهما -، وأمه عَمرة بنتُ رواحة. قيل: لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان عمر النعمان ثمان سنين؛ لأن مولده في الثانية من الهجرة على رأس أربعة عشر شهرًا منها، كما قاله النووي، ثم قال: وقيل في مولده غير ذلك؛ أي: من كونه في الرابعة، أو نحو ذلك، وبعض أهل الحديث يصحح سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه صرّح بذلك في حديثين أو ثلاثة. قتل في الشام بقرية من قرى حمص في ذي الحجة سنة أربع وستين، وكان قد استعمله معاوية على حمص، ثم على الكوفة، واستعمله عليها يزيد بن معاوية. وقال ابن الأثير: إنه حين كان واليًا بحمص بعدَ الكوفة، دعا لعبد الله بن الزبير، فطلبه أهل حمص، فقتلوه. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة وأربعة عشر حديثًا، اتفقا على خمسة، ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 171)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 224)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 348)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 584)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 65)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 215)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1201)، و "فتح الباري" لابن حجر (5/ 211)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 143)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 344)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 89)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 109).

وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأربعة، وكان جوادًا شاعرًا (¬1). (- رضي الله عنهما - قال) النعمانُ: (تصدق عليَّ أبي) بشيرُ بنُ سعدٍ المذكور، شهد العقبة الثانية، وبدرًا، وأُحدًا، والخندق، والمشاهد كلها بعدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل: إنه أول من بايع الصدّيق الأعظم بالخلافة من الأنصار، واستشهد مع خالد بن الوليد يوم عين التمر بعد انصرافه من اليمامة سنة اثنتي عشرة من الهجرة، وهو الذي ثبت في "الصحيح" أنه قال: يا رسول الله! أُمرنا أن نصلي عليك؟. . الحديث (¬2). (ببعض ماله) متعلق بتصدق، وكان ذلك غلامًا كما جاء مفسرًا في "الصحيحين" وغيرهما. ففي بعض الألفاظ: أن بشيرًا قال: إنِّي نحلتُ ابني هذا غلامًا كان لي (¬3)، وفي بعضها: أعطاه أبوه غلامًا، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا الغلام؟ "، قال: أعطانيه أبي. . . الحديث (¬4)، وفي بعض الألفاظ: قالت امرأةُ بشيرٍ: انحلْ ابني غلامك، وأشهدْ لي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، (فقالت له)؛ أي: لأبي؛ يعني: بشير بن سعد (أُمي) فاعل قالت (عمرة بنت رواحة) ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمة النعمان بن بشير - رضي الله عنه - في باب: الصفوف من هذا الشرح، وقد أعاد الشارح -رحمه الله- ذكرها ثانية، ولعله سهو منه -رحمه الله-. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه البخاري (2446)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: الهبة للولد، ومسلم (1623/ 9)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬4) رواه مسلم (1623/ 12)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬5) رواه مسلم (1624)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.

-بفتح الراء- الأنصارية، لها صحبة، زوجة بشير، وهي أخت عبدِ الله بنِ رواحة (¬1): (لا أرضى) بذلك. وفي مسلم من رواية الشعبي: حدثني النعمان بن بشير: أنّ أمّه ابنةَ رواحةَ سألت أباه بعضَ الموهوبة لي -بمعنى الهبة، مصدر ميمي- من ماله، فالتوى بها سنة -أي: مطلَها-، ثم بدا له (¬2)، وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه: بعدَ حولين (¬3)، والتوفيق بين الروايتين بأن يقال: إن المدة كانت سنة وشيئًا، فجبر الكسر تارة، وأُلغي أخرى (¬4) (حتى تُشهد) عليه؛ أي على الموهوب له، أو المتصدَّق به عليه (رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) قطعًا للنزاع، وحسمًا لمادة الخصام، (فانطلق أبي) بشيرٌ - رضي الله عنه - (إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية: أنه قال: إن أباه أتى به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - (¬5). وفي رواية عند مسلم: فأخذ أبي بيدي وأنا يومئذٍ غلام (¬6). وفي أخرى: انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7). والتوفيق بينهما بأن يقال: إنه أخذ بيده، فمشى به بعض الطريق، ¬

_ (¬1) انظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 361)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 324)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1887)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 198)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 31). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1623/ 14). (¬3) رواه ابن حبان في "صحيحه" (5104)، إلا أنه قال: "بعد حول أو حولين". (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 212). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2446)، وعند مسلم برقم (1623/ 9). (¬6) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1623/ 14). (¬7) رواه مسلم (1623/ 17)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.

وحمله في بعضها، لصغر سنه (¬1)، (ليشهده) - صلى الله عليه وسلم - (على صدقتي) التي تصدّق بها عليّ، وهو الغلام، (فقال له) أي: لبشير والدِ النعمان (رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أفعلتَ هذا) استفهامٌ منه - صلى الله عليه وسلم - (بولدك)؛ أي: تصدّقتَ عليهم ووهبتهم (كلِّهم) مثلَ الذي فعلته بالنعمان؟ (قال) بشيرٌ: (لا)، ما فعلت بهم كلهم ذلك، ولا بواحد منهم سوى هذا. وقد روى ابنُ حبان، والطبرانيُّ من حديث الشعبي: أنّ النعمان خطب بالكوفة، فقال: إنّ والدي بشيرَ بنَ سعد أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنّ عمرةَ بنتَ رواحة نُفِست بغلام، وإني سمَّيته النعمان، وإنّها أبت أن تربيه حتى جعلتُ له حديقة من أفضل مالٍ هو لي، وإنها قالت: أشهدْ على ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أشهدُ على جَوْر" (¬2). ووفق ابنُ حبان بين الروايتين بالحمل على واقعتين: إحداهما: عند ولادة النعمان، وكانت العطية حديقة. والأخرى: بعد كبره، وكانت العطية عبدًا (¬3). واستبعد بعضهم نسيان بشير بن سعد -مع جلالته- الحكمَ في المسألة حتى يعود يستشهد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على العطية (¬4). وأجاب غيره: بأنّ الإنسان يغلب عليه النسيان، حتى قيل: إنّه مأخوذ من النسيان (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 212). (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (5107). (¬3) انظر: "صحيح ابن حبان" (11/ 507). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 212). (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 146).

(قال) الرسول المرشد - صلى الله عليه وسلم -: (اتقوا الله)؛ أي: عذابه وغضبه ومقته المرتب على عدم العدل بين الأولاد، (واعدلوا في أولادكم) بالتسوية بينهم، وعدم اختصاص بعضِهم دون بعضهم بشيء، اللهم إلا أن يكون سبب أوجب لذلك. قال النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -: (فرجع أبي، فردَّ تلك الصدقةَ) التي كان تصدّقها عليّ. وفي لفظٍ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فارجعه" (¬1)، وفي آخر: "فاردده" (¬2)، وفي لفظٍ في البخاري: "فرجع فردّ عطيته" (¬3)، (وفي لفظٍ: قال) -يعني: النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تُشهدني إذًا)؛ أي: حيث لم تعدل بين كل أولادك في العطيّة؛ لأنّ ذلك يكون جورًا، (فإني لا أشهد على جور)، وفي لفظٍ آخر: "ألك بنون سواه؟ "، قال: نعم، قال: "أكلهم وهبتَ له مثل هذا؟ "، قال: لا، قال: "فلا تشهدني إِذًا فإني لا أشهد على جور" (¬4)، وفي آخر: "فلا تشهدني على جور" (¬5)، (وفي لفظ) آخر: (فأشهد على هذا غيري)، ثم قال: "أيسرك أن يكونوا مواليك في البر سواء؟ "، قال: بلى، قال: "فلا إِذًا" (¬6)، وفي ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2446)، وعند مسلم برقم (1623/ 9). (¬2) رواه مسلم (1623/ 10)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2447). (¬4) رواه مسلم (1623/ 14)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬5) رواه مسلم (1623/ 16)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬6) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1623/ 17).

لفظٍ: "أكلَّ ولدك أعطيته مثل هذا؟ "، قال: لا، قال: "أليس تريد منهم البِرَّ مثلَ ما تريد منه؟ "، قال: بلى، قال: "فإني لا أشهد" (¬1)، وفي آخر قال: "فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق" (¬2)، وكل هذه الألفاظ في "الصحيح"، والجور: هو الظلم والحيف والميل عن الحق. قال علماؤنا -رحمهم الله تعالى-: يجب على الأب والأم وغيرهما التعديلُ بين حق من يرث بقرابة من ولد وغيره في عطيتهم، لا في شيء تافه بقدر إرثهم منه إلا في نفقة وكسوة، فتجب الكفاية (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يجب على المسلم التسوية بين أولاده الذمة (¬4)، انتهى. قال في "الإقناع": وله التخصيص بإذن الباقي، فإن خصّ بعضهم، أو فضله بلا إذن، أثم، وعليه الرجوع، أو أعطى الآخر، ولو في مرض الموت حتى يستووا، كما لو زوّج أحدَ بنيه في صحته، وأدّى عنه الصداقَ، ثم مرض الأبُ، فإنّه يعطي ابنَه الآخرَ كما أعطى الأول، ولا يحسب من الثلث؛ لأنه تدارك للوجوب أشبه قضاء الدين. وإن مات قبل التسوية، ثبت معطى، ما لم تكن العطيّة في مرض الموت. والتسوية هنا: القسمة للذكر مثل حظ الأنثيين، والرجوع المذكور يختص به الأب دون الأم وغيرها. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1623/ 18)، كتاب: الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1624). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 108). (¬4) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 516)، وقوله: "أولاده الذمة" أي: الذميين.

قال: وتحرم الشهادة على التخصيص والتفضيل تحملًا وأداءً، ولو بعد موت المخصص والمفضل إن علم، وكذا كل عقد مختلف فيه فاسد عند الشاهد. وقيل: إن أعطاه لمعنى فيه، من حاجة، أو زمانة، أو عمًى، أو كثرة عائلة، أو لاشتغاله بالعلم ونحوه، أو منع بعض ولده، لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يعصي الله بما يأخذه، جاز التخصيص، اختاره الإمام الموفق وغيره (¬1)، انتهى. وفي كتاب الإمام المحقق ابن القيّم "بدائع الفوائد": عطية الأولاد المشروع أن تكون على قدر مواريثهم؛ لأن الله تعالى منع ما يؤدي إلى قطيعة الرحم، والتسويةُ بين الذكر والأنثى محالة، لما وضعه الشرع من التفضيل، فيفضي ذلك إلى العداوة، ولأن الشرع أعلمنا بمصالحنا، فلو لم يكن الأصلح التفضيل بين الذكر والأنثى، لما شرعه، ولأن حاجة الذكر إلى المال أعظم من حاجة الأنثى، ولأن الله جعل الأنثى على النصف من الذكر في الشهادات والميراث والدِّيات وفي العقيقة بالسنّة، ولأن الله جعل الرجال قوّامين على النِّساء، فإذا علم الذكر أنَّ الأب زاد الأنثى على العطيّة التي أعطاها الله، وسوّاها بمن فضَّله الله عليها، أفضى ذلك إلى العداوة والقطيعة، كما إذا فضّل عليه من سوّى الله بينه وبينه، فأيّ فرقٍ بين أن يفضل من أمر الله بالتسوية بينه وبين أخيه، ويسوي بين من أمر الله بالتفضيل بينهما؟ قال: واعترض ابن عقيل على ذلك التفضيل، فقال: بناء العطيّة حال الحياة والصحة والمال لاحق لأحد فيه، ولهذا يجوز له الهبات والعطايا ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 108 - 109).

للوارث، وما زاد على الثلث للأجانب عبرة بحال صحته، وقطعًا له عز حال مرض الموت، فضلًا عن الموت، وكذا يعطي الإخوان مع وجود الابن والأب، وإن لم يكن لهم حقٌّ في الإرث، وتلك عطية من الله على سبيل التحتم، لا اختيار لأحدٍ فيه، وهذه عطيّة من مكلّف غيرِ محجور عليه، فكانت على حسب اختياره من تفضيل وتسوية. قال: وهذا هو القول الصحيح عندي، انتهى. قال الإمام ابنُ القيّم: وهذه الحجة ضعيفة جدًا باطلة بما سلمه من امتناع التفضيل بين الأولاد المتساوين في الذكورة والأنوثة، وكيف يصح قوله: إنّها عطيةٌ من مكلّف غير محجور عليه، فجازت على حسب اختياره، وأنتَ قد حجرتَ عليه في التفضيل بين المتساويين، انتهى (¬1). تنبيهات: * الأول: اختلف الأئمة في هبة الأولاد هل الأفضل والمشروع فيها التسوية، أم للذكر مثل حظ الأنثيين، فقال الثلاثة: السنّة: التسوية بينهم على الإطلاق، ذكورًا كانوا أو إناثًا، أو ذكورًا وإناثًا. وقال الإمام أحمد: إن كانوا كلهم ذكورًا، أو كلهم إناثًا، فالتسوية، وإن كانوا ذكورًا وإناثًا، فللذكر مثلُ حظ الأنثيين -كما قدّمنا-. واتفقوا على أنّ تخصيص بعضهم بالهبة مكروه. وكذلك اتفقوا على أن تفضيل بعضهم على بعض مكروه. واختلفوا في التحريم: فقال أبو حنيفة، والشافعي بعدم الحرمة. ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 672 - 673).

وقال مالك: يجوز أن ينحل الرجل بعضَ ولده ببعض ماله، ويُكره أن ينحله جميعَ ماله، وإن فعل ذلك، نفذ إذا كان في الصحّة (¬1). وقد علمت أنّ مذهب الإمام أحمد حرمة ذلك. قال ابن دقيق العيد: التفضيل يؤدي إلى الإيحاش والتباغض، وعدم البر من الولد لوالده، أعني: الولدَ المفضّلَ عليه، قال: وقد ذهب بعضهم إلى أنّه محرّم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُشهدْني على جور"، فسمّاه جَورًا، وأمره بالرجوع فيه، لاسيّما إذا أخذ بظاهر هذا الحديث أنّه كان صدقة، فإنّ الصدقة على الولد لا يجوز الرجوع فيها، فإنّ الرجوع يقتضي أنها وقعت على غير الموقع الشرعي حيث نقضت بعد لزومها، انتهى (¬2). وقال بالحرمة في التخصيص والتفضيل: البخاري، وهو قول طاوس، والثوري، وإسحاق بن راهويه، وقال به بعض المالكية. ثم المشهور عند هؤلاء: أنها باطلة، وعند الإمام أحمد: تصح، ويجب عليه أن يرجع، أو يساوي، كما تقدم، وقال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار. ومن ذهب إلى أن التسوية مستحبّة حمل الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فارجعه"، وفي لفظ: "فاردده، واتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم" على التنزيه، مع أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا الله" يؤذن بأن اختلاف التسوية ليس بتقوى الله، وأن التسوية تقوى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 57). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 215 - 216). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 214).

واستدل بعض من لم يقل بالمنع بالرواية التي فيها: "أَشهدْ على هذا غيري"، فإنها تقتضي إباحة إشهاد الغير، ولا يباح إشهاد الغير إلا على أمرٍ جائزٍ، فيكون امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشهادة على وجه التنزيه. ولا يخفى ما في هذا من التهافت، فإن الصيغة، وإن كان ظاهرها الإذن، إلا أما مشعرة بالتنفير الشديد عن ذلك الفعل، حيث امتنع الرسول من المباشرة، فهذه الشهادة معللة للامتناع؛ لأنها جور، فلا جرم أن الصيغة تخرج من ظاهر الإذن بهذه القرائن، وقد استعملوا مثل هذا اللفظ في مقصود التنفير، ومنه: {فَاعْبُدُواْ مَا شِئْمُ} (¬1) [الزمر: 15]. * الثاني: الهبة، والعطية، والصدقة، والهدية، والنِّحلة، معانيها متقاربة تجري فيها أحكام الهبة، لكن المعطي إن قصد بإعطائه ثوابَ الآخرة فقط، فصدقة، وإن قصد إكرامًا وتوددًا ومكافأةً، فهديّة، وإلا يقصدْ توددًا ولا مكافأة، فهي هبة، وعطيّة، ونحلة، وهي مستحبة إذا قصد بها وجه الله تعالى، كالهِبَة للعلماء، والفقراء، والصالحين، وما قصد به صلة رحم، لا مباهاةً ورياءً وسمعة (¬2). قال شيخ الإسلام: والصدقةُ أفضل من الهبة، إلّا أن يكون في الهبة معنًى تكون به أفضل من الصدقة، مثل الإهداء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - محبّةً له، والإهداء لقريب يصل به رحمه، أو أخٍ له في الله، فهذا قد يكون أفضل من الصَّدقة (¬3). * الثالث: لا يجوز لواهب، ولا يصح أن يرجع في هبته -ولو صدقة ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 216). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 101). (¬3) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 517).

وهدية ونحلة - بعد لزومها، إلّا الأب الأقرب، ولو أسقط من الرجوع كما في "الإقناع" (¬1)، خلافًا لما في "المنتهى" (¬2)، ومشى عليه في "الغاية" (¬3)؛ لأن الحق له، وقد أسقطه، فسقط. ويشترط لرجوع الأب ثلاثة شروط: أحدها: أن تكون عينًا باقيةً في ملك الابن، فلا رجوع في دينه على الولد بعد الإبراء، ولا في منفعةٍ أباحها له بعد الاستيفاء، كسكنى ونحوها، فإن خرجت العين عن ملك الولد ببيع أو هبة أو وقفٍ أو غير ذلك، ثم عادت إليه بسببٍ جديدٍ، كبيعٍ أو وصيّةٍ أو إرثٍ أو نحوه، لم يملك الرجوع، ولا يمنع الرجوع إن عادت إلى ملكه بنحو فسخ. الثاني: أن تكون العين باقية في تصرف الولد، فإن تلفت، فلا رجوع في قيمتها، وإن رهن العين، أو أفلس، وحجر عليه، فكذلك، ومتى زال المانع، ملك الرجوع. الثالث: ألا تزيد زيادة متصلة تزيد في قيمتها، كالسِّمَن، والكبر، وتعلُّم صنعة، وإن زاد ببرئه من مرض أو صمم، منع الرجوع، فإن اختلف الأب وولده في حدوث زيادة، فقول أب (¬4). والقول بأنّ الأب يملك الرجوع فيما وهب لولده قولُ الثلاثة. وقال أبو حنيفة: ليس له الرجوع بحالٍ. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 109 - 110). (¬2) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (3/ 407). (¬3) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (4/ 404). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 110 - 112).

لكن قال مالك: للأب أن يرجع فيما وهب للابن على جهة الصلة، لا على جهة الصدقة (¬1). ومعتمد المذهب: منعُ الأم من الرجوع وفاقًا لأبي حنيفة. وقال مالك: تملك الأم الرجوع على الابن في حياة الأب. وقال: الشافعي: تملك مطلقًا. وأما الجد، فلا يملكه عند الثلاثة. وقال الشافعي: بلى (¬2). وفرّق الإمام أحمد بين الأب والأم بأن له أن يتملك من مال ولده، بخلافها، لحديث: "أنت ومالك لأبيك" رواه الطبراني في "معجمه" مطولًا (¬3)، ورواه غيره، وزاد: "إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من أموالهم" (¬4)، وعن عائشة مرفوعًا: "إنّ أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإنّ أولادكم من كسبكم" أخرجه سعيد، والترمذي، وحسنّه (¬5)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 58). (¬2) المرجع السابق، (2/ 59). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6570)، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬4) رواه أبو داود (3530)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يأكل من مال ولده، وابن ماجة (2292)، كتاب: التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده، وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (¬5) رواه الترمذي (1358)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده، وابن ماجة (2290)، كتاب: التجارات، باب: ما للرجل من مال ولده، انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 395).

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ (¬1). * * * (عن) أبي عبد الرحمن (عبد الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ- رضي الله ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2203)، كتاب: المزارعة، باب: المزارعة بالشطر ونحوه، ومسلم (1551/ 1)، كتاب: المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، وأبو داود (3408)، كتاب: البيوع، باب: في المساقاة، والنسائي (3929 - 3930)، كتاب: المزارعة، باب: ذكر اختلاف الألفاظ المأثورة في المزارعة، والترمذي (1383)، كتاب: الأحكام، باب: ما ذكر في المزارعة، وابن ماجة (2467)، كتاب: الرهون، باب: معاملة النخيل والكرم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 97)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 153)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 208)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 413)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 208)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن حجر (3/ 218)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1254)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 13)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 167)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 178)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 77)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 7).

عنهما -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامل أهل خيبر) اليهودَ بعدما فتحها (بشطر ما يخرج منها)؛ أي: من الأرض والنخل (من ثمرٍ أو زرعٍ). فهذا الحديث أشار إلى بابين: الأول: المساقاة: مفاعلة من السقي، سميت بذلك؛ لأن أكثر أهل الحجاز أكثر حاجة شجرهم إلى السقي، لكونهم يسقون من الآبار، وهي أن يدفع إنسان شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وسائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم من الثمرة (¬1). وقد أجمع المسلمون على جواز ذلك، ومستنده حديث ابن عمر المذكور، رواه الإمام أحمد (¬2)، والشيخان، وأصحاب السنن (¬3)، وغيرهم. وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أيضًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا ظهر على خيبر، سألته اليهود أن يُقرّهم بها على أن يكفوه عملها، ولهم نصفُ الثمرة، فقال لهم: "نقرُّكم على ذلك ما شئنا" (¬4)، وهي حجّة في أنّها عقدٌ جائز. قال الإمام شمس الدين في "الشرح الكبير": قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -: عاملَ ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 226). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 17). (¬3) كما تقدم تخريجه عنهم قريبًا. (¬4) رواه البخاري (2213)، كتاب: المزارعة، باب: إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرك الله، ولم يذكر أجلًا معلومًا، فهما على تراضيهما، ومسلم (1551/ 6)، كتاب: المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع.

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر بالشطر، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنهم - إلى اليوم يعطون الثلث والربع. وهذا عمل به الخلفاء الراشدون مدةَ خلافتهم، واشتهر ذلك، فلم ينكره منكِر، فكان إجماعًا، فتجوز المساقاة في النخل، وفي كل شجر له ثمر مأكول ببعض ثمرته، هذا قول الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم -، وبه قال سعيد بن المسيب، وسالم، ومالك، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال داود: لا يجوز إلا في ثمر النخل؛ لأن الخبر إنما ورد [بها] (¬1) فيه. وقال: الشافعي: لا تجوز إلا في النخل والكرم؛ لأن الزكاة تجب في ثمرتها، وفي سائر الشجر قولان. وقال أبو حنيفة وزفر: لا تجوز بحال؛ لأنها إجارة بثمرة لم تخلف، أو إجارة بثمرة مجهولة، أشبه إجارته بغير ثمر الشجر الذي يسقيه. ولنا: ما ذكرنا من الحديث، والإجماع، ولا يجوز التعويل على ما خالفهما، ولأن المعى يدلُّ على ذلك، فإن كثيرًا من أهل النخيل والشجر يعجز عن عمارته وسقيه، ولا يمكنه الاستئجار عليه، وكثير من الناس لا شجر لهم، ويحتاجون إلى الثمر، وفي تجويز المساقاة دفع الحاجتين، وتحصيلُ المنفعة للفئتين، فجاز، كالمضاربة بالأثمان، فأما قياسهم، فيبطل بالمضاربة، فإنه يعمل في المال بجزء من نمائه، وهو معدومٌ مجهول، وقد جاز بالإجماع، وهذا في معناه. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيها".

ثم إنَّ الشّارع قد جوّز العقد في الإجارة على المنافع المعدومة، فلم لا يجوز على الثمرة المعدومة مع الحاجة؟ ثم إنّ القياس إنّما يكون في إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه والمجمع عليه، فأمّا إبطالُ نص، وخرقُ إجماع بقياس نصٍّ آخر، فلا سبيل إليه، وأما تخصيص ذلك بالنخل أو بالكرم، فيخالف عموم قوله: عاملَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَ خيبر بشطرِ ما يخرج منها من زرعٍ أو ثمرٍ، وهذا عامٌّ في كلّ ثمر، ولا تكاد بلدة ذاتُ أشجار تخلو من شجرٍ غير النخيل. وقد جاء في لفظِ بعض الأخبار: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملَ أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من النخل والشجر، رواه الدارقطني (¬1)، ولانه شجر يثمر كلَّ حول، فأشبه النخل والكرم؛ ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة عليه كالنخل وأكثر، لكثرته، فأشبه النخل، ووجوب الزكاة ليس من العلة المجوزة للمساقاة، ولا أثر له فيه، وإنما العلّة ما ذكرنا. وأما ما لا ثمر له، كالصفصاف والحور، أو له ثمر غير مقصود، كالصنوبر والأرز، فلا يجوز المساقاة عليه، وبه قال مالك والشافعي. قال الشارح: ولا نعلم فيه مخالفًا؛ لأنه غير منصوص عليه، ولا هو في معنى المنصوص، اللهم إلا أن يكون يقصد ورقه أو زهره، كالتوت والورد، فالقيالس يقتضي جواز المساقاة عليه؛ لأنه في معنى الثمرة، لكونه مما يتكرر كل عام، ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه، فيثبت له حكمه، انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 37)، وقال: قال ابن صاعد -شيخ الدارقطني-: وهم -أي: يوسف بن موسى القطان أحد رواته- في ذكر الشجر، ولم يقله غيره. (¬2) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر المقدسي (5/ 554 - 557).

قلت: اختار هذا الإمامُ الموفق وجمعٌ. قال في "الإقناع": وعلى قياسه شجرٌ له خشب يُقصد، كحورٍ وصفصاف، وقد صرّح الموفق بعدم صحتها، والله أعلم. وتصح المساقاة على ثمرةٍ موجودةٍ لم تكمل، وعلى زرعٍ نابت ينمى بالعمل، فإن بقي من العمل ما لا تزيد به الثمرة، كالجذاذ ونحوه، لم تصح، وإذا ساقاه على وَدِيِّ نخلٍ، وهو صغاره، أو صغار شجرٍ إلى مدّةٍ يحمل فيها غالبًا بجزء من الثمرة، صحّ. وإن ساقاه على شجرٍ يغرسُه ويعمل عليه حتى يثمر بجزءٍ معلوم من الثمرة أو من الشجر، أو منهما، وهي المغارسة والمناصبة، صحّ إن كان الغرسُ من ربّ المال (¬1)، هذا ما استقر عليه مذهب الإمام أحمد، خلافًا لهم. الثاني: المزارعة: وهي مفاعَلَةٌ من الزرعِ (¬2). وتعريفها: دفع أرضٍ وحَبٍّ لمن يزرعه ويقوم عليه، أو مزرع لمن يعمل عليه بجزء مشاع معلوم من المتحصّل من الزرع (¬3). فإن كان في الأرضِ شجر، فزارعه الأرض، وساقاه على الشجر، صحّ (¬4). قال الإمام شمس الدين في "شرح المقنع": تجوز المزارعة بجزءٍ معلوم يُجْعَل للعامل من الزرع في قول أكثر أهل العلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 475 - 476). (¬2) انظر: "المبدع" لابن مفلح (5/ 55). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 475). (¬4) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (5/ 586).

قال البخاري: قال أبو جعفر: ما بالمدينة أهلُ بيتٍ إلا ويزرعون على الثلث والربع، وزارعَ عليٌّ، وابن مسعود، وسعد، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآلُ أبي بكر، وآل علي، وابنُ سيرين (¬1). وهذا قول سعيد بن المسيب، وطاوس، وعبد الرحمن بن الأسود، وموسى بن طلحة، والزهري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وابنه، وأبي يوسف، ومحمد، ويروى ذلك عن معاذ، والحسن، وعبد الرحمن بن زيد. قال البخاري: وعامل عمر - رضي الله عنه - على أنّه إن جاء عمرُ بالبذر من عنده، فله الشطرُ، وإن جاؤوا بالبذر، فلهم كذا (¬2). وكرهها عكرمة، ومجاهد، والنخعي، ومالك، وأبو حنيفة. وروي عن ابن عباس: الأمران جميعًا. وأجازها الشافعي في الأرض بين النخل إذا كان بياضُ الأرض أقل، فإن كان أكثر، فعلى وجهين، ومنعها في الأرض البيضاء، لما روى رافعُ بن خديج - رضي الله عنه -، قال: كنا نخابر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر أن بعض عمومته أتاه، فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمرٍ كان لنا نافعًا، وطواعيةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنفع، قال: قلنا: ما ذاكَ؟ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له أرضٌ، فليزرعها، ولا يكريها بثلثٍ ولا بربعٍ ولا بطعامٍ مسمًّى" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 820). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) رواه أبو داود (3395)، كتاب: البيوع، باب: في التشديد في ذلك.

وفي "الصحيح" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة (¬1)، وهذه أحاديثُ صِحاحٌ (¬2). والمخابرة: هي المزارعة، واشتقاقها من الخبار، وهي الأرض اللّينة، والخبير: الأَكَّار، وقيل: المخابرة: معاملة أهل خيبر. وقد جاء حديث جابر مفسرًا، روى البخاري عن جابرٍ، قال: كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كانت له أرضٌ، فليزرعها، أو ليمنحها، فإن لم يفعل، فليمسك أرضه" (¬3). قلتُ: ورواه الإمام أحمد، ومسلم بلفظِ: "من كانت له أرضه، فليزرعها، [أ] وليحرثها أخاه، وإلّا فليدعها" (¬4). ولنا: ما في الحديث المتقدم، وما نقله أبو جعفر محمدٌ الباقرُ من فعل الخلفاء الراشدين، ثم أهلوهم يعطون الثلث والربع، قال: وهذا أمرٌ صحيح مشهور، عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ماتَ، ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم، ولم يبق بالمدينة أهلُ بيتٍ إلّا عمل به، وعمل به أزواجُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعده. فروى البخاري عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملَ خيبر بشطر ما يخرج منها من زرعٍ أو ثمرٍ، فكان يعطي أزواجه مئة وسق: ثمانون وسقًا تمرًا، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم، لكن من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (5/ 581 - 582). (¬3) رواه البخاري (2215)، كتاب: المزارعة، باب: ما كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضًا في الزراعة والثمرة. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 312)، ومسلم (1536/ 95)، كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض.

وعشرون وسقًا شعيرًا، فقسم عمر خيبر، فخيّر أزواجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع لهنّ من الماء والأرض، أو يمضي لهن الأوسق، فمنهنّ من اختار الأرض، ومنهنّ من اختار الوسق، فكانت عائشة - رضي الله عنها - ممن اختار الأرض. فإن قلتَ: حديث خيبر منسوخ بخبر رافع. فالجواب: أنّ مثل هذا لا يجوز أن ينسخ؛ لأنّ النسخ يكون في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمّا شيء عمل به إلى أن مات، ثم عمل به خلفائه بعده، وأجمعت الصحابة - رضي الله عنهم - عليه، وعملوا به، ولم يخالف فيه منهم أحد، فكيف يجوز نسخه؟ ومتى نسخ؟ فإن كان في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف عمل به مع نسخه؟ وكيف خفي نسخه علي الخلفاء مع اشتهار قصة خيبر وعملهم فيها؟ وأين كان رواي النسخ حتّى لم يذكروه ولم يخبرهم به؟ فأمّا ما احتجّوا به من حديث رافع، فقد رُوي من عدة أوجه، وقد فسر حديث النهي في حديثه بما لم يختلف في فساده (¬1)، وهو الذي أعقبه المصنف الحافظ لهذا الحديث، وهو: ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (5/ 582 - 583).

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنْ رَاح بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ الأَنْصَارِ حَقْلًا، فَكُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ عَلَى أَنَّ لَنَا هَذِهِ، وَلَهُمْ هَذِهِ، فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ، وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ، فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَّا الوَرِقُ، فَلَمْ يَنْهَنَا عنه (¬1). وَلِمُسْلِمٍ عَنْ حَنْظَلَة بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَافِعٍ بْنَ خَدِيجِ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بالذَّهَبِ والوَرِقِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إنَّمَا كانَ النَّاسُ يُؤاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بما على المَاذِيَانَاتِ، وأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ، وأَشْيَاءَ مِنَ الزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هذا، وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَهْلِكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ للنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ، فَلَا بَأْسَ بِه (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2202)، كتاب: المزارعة، باب: قطع الشجر والنخل، و (2573)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في المزارعة، ومسلم (1547/ 117)، كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض بالذهب والورق، واللفظ له، وابن ماجة (2458)، كتاب: الرهون، باب: الرخصة في كراء الأرض البيضاء بالذهب والفضة. (¬2) رواه مسلم (1547/ 116)، كتاب: البيوع، باب: كراء الأرض بالذهب والورق، وأبو داود (3392)، كتاب: البيوع، باب: في المزارعة، والنسائي (3899)، كتاب: المزارعة، باب: ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع. =

المَاذِيَانَاتُ: الأَنْهَارُ الْكِبَارُ، وَالجَدَاوِلُ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ. * * * (عن رافع بن خديج) -بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة والجيم- بنِ رافعِ بنِ عديِّ بنِ زيدِ بنِ عمرَ بنِ يَزِيد -بفتح المثناة تحت وكسر الزاي-، الحارثيِّ، الأنصاريِّ، الأوسيِّ، من أهل المدينة، لم يشهد بدرًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّه يومئذٍ لصغره، ثمّ أجازه يومَ أُحُد، وأصابه سهمٌ يومَها، فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أشهدُ لك يوم القيامة" (¬1)، ثم انتقضت جراحته في زمن عبد الملك بن مروان، فمات سنة ثلاث وسبعين، وقيل: سنة أربع، بالمدينة، وله ست وثمانون سنة، وقيل: ماتَ في أيّام معاوية. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وسبعون حديثًا، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة، ويكنى: أبا عبد الله (¬2) (- رضي الله عنه -، قال: كنّا) معشرَ بني حارث من الأوس (أكثرَ الأنصار)، وهم الأوس والخزرج وحلفاؤهم (حقلًا) جمع حقلة، ومنه: لا ينبت البقلَـ[ــة] إلّا الحقلةُ (¬3). ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 93)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 195)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 410)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 197)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 219)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1208)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 10)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 163)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 176)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 78)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 11). (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) قلت: تقدمت ترجمة رافع بن خديج - رضي الله عنه - في الحديث العاشر من باب: ما نهي عنه من البيوع. (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 230).

قال في "القاموس": الحقل: قراح طيب يزرع فيه، كالحقلة (¬1). وفي "المطالع": المحاقل: المزارع، وقيل: الحقل: الزرع مادام أخضر، وقيل: أصلها أن يأخذ أحدهما حقلًا من الأرض لحقل له آخر (¬2). (فكنا نكري الأرض على أنّ لنا هذه)؛ أي: ما يخرج من هذه الحقلة، (ولهبهم)؛ أي: العاملين عليها (هذه)؛ أي: ما يخرج من الحقلة الأخرى من الطعام، (فربما أخرجت هذه) التي لنا، (ولم تخرج هذه) التي صارت لهم، وربما صار الأمر بالعكس، (فنهانا) - صلى الله عليه وسلم - (عن ذلك)، لما فيه من الغرر والضرر، (فأمَّا الوَرِق) من الفضة، وكذا الذهب المعلوم المقدار، (فلم ينهنا عنه) - صلى الله عليه وسلم -. وفي لفظٍ للبخاري: كنا أكثرَ أهل الأرض مُزْدَرَعًا، كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض، قال: فربما يُصاب ذلك، وتسلم الأرض، وربما تصابُ الأرض، ويسلم ذلك، فنُهينا، فأمّا الذهب والورق، فلم يكن يومئذٍ (¬3). (و) في لفظٍ (لمسلم عن حنظلة) -بفتح الحاء المهملة وسكون النون وبالظاء المعجمة- (بنِ قيسِ) بنِ عمرَ بنِ حصنٍ، المدنيِّ، الزرقيِّ، نسبةً إلى جدٍّ له يسمى: زُريق -بتقديم الزاي- الأنصاريِّ. قال في "جامع الأصول": هو من ثقات أهل المدينة وتابعيهم، سمع رافعَ بنَ خديج، وأبا هريرة، وابن الزبير، وكذا رَوَى عن عمر، وعثمان، كما في "شرح الزهر" للبرماوي، وعنه: الزهريُّ، وربيعةُ بنُ ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1273)، (مادة: حقل). (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 209). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2202).

أبي عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهو ثقة، أخرج له الجماعة إلّا الترمذي. قال ابن سعد: كان ثقةً، قليلَ الحديث (¬1). (قال: سألتُ رافعَ بنَ خديج - رضي الله عنه - عن كراء الأرض بالذَّهب والورق) المعلومين المقدار، (فقال)؛ أي: رافع بن خديج: (لا بأس)؛ أي: لا حرجَ، ولا إثمَ (به)؛ أي: بكراء الأرض بذلك (إنما كان الناسُ يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذِيانات) -بالذال المعجمة المكسورة فمثناة تحتية بعدها ألف فنودن فألفٌ ومثناة ففوقية- جمع ماذيان، وهو النهر الكبير، كما يأتي في كلام المصنف -رحمه الله-، وليست بعربية، وهي سوادية كما في "النهاية" (¬2)؛ أي: بالذي يخرج على حافَتَي ذلك، (و) بما يخرج على (أقبال)؛ أي: أطراف (الجداول). قال في "النهاية": في قوله: وأقبال الجداول، الأقبال: الأوائل والرؤوس، جمع قبل، والقبل: رأس الجبل، والأكمة، وقد تكون جمع قَبَل -بالتحريك-، وهو الكلأ في مواضع من الأرض، والقبل أيضًا: ما استقبلك من الشيء (¬3)، (و) بـ (أشياء من الزرع) المعيَّن له، (فيهلكُ هذا)؛ أي: فربما يهلك هذا الذي للعامل، لما يصيبه من الجوائح، (ويسلم هذا) ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 73)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 88)، و"جامع الأصول" له أيضًا (14/ 323 - قسم التراجم)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 173)، و"تهذيب الكمال" للمزي (7/ 453)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 155)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 55). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 313). (¬3) المرجع السابق (4/ 9).

الذي لرب الأرض، (و) ربما (يسلم هذا) الذي للعامل، (ويهلك هذا) الذي لرب الأرض، (ولم يكن للناس) يومئذٍ (كراء)؛ أي: أجرة (إلا هذا)، فلم يكن ذهب ولا فضة، (فلذلك)؛ أي: لكونه ربما سلم منه جانب، وعطب جانب، فيتضرر الذي عطب بالجانب الذي صار له دون ذاك (زجر) - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: نهى (عنه، فأما) بـ (شيء) من الذهب أو الفضة أو الطعام (معلومٍ) لكلٍّ منهما (مضمونٍ) على العامل لرب الأرض، (فلا بأس)؛ أي: لا إثم ولا حرج (به) على واحدٍ منهما. قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: (الماذيانات) في الحديث: هي (الأنهار الكبار)، وتقدم أما ليست بعربية، (والجداول): جمع جدول، كجعفر: (النهر الصغير) (¬1). فإذا كان هذا ثابتًا من حديث رافع بن خديج، وقد علمتُ ثبوته، وأنه في "الصحيحين"، فليس هو من محل النزاع، فإن هذا الذي ذكره لا خلاف في فساده، وحينيذٍ لا تعارض بين الحديثين، فإن لم يحمل حديث رافع على هذا الذي فسره من نفسه وبيَّنه بيانًا شافيًا، وإلا فليحمل على الكراء بثلث أو ربع، والنزاع في المزارعة، ولم يدل حديثه عليها أصلًا، وحديثه الذي في المزارعة يحمل على الكراء أيضًا؛ لأن القصة واحدة أتت بألفاظٍ مختلفة، فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر، فإن لم يحمل لا على هذا ولا على هذا، وتمادى الخصم مع ظاهر بعض ألفاظ حديثه بوهم النهي عن المزارعة، قلنا: لا جرم أن حديث رافع هذا ورد بألفاظٍ وروايات مضطربة جدًا، مختلفة اختلافًا كثيرًا يوجب ترك العمل بها لو انفردت، فكيف تُقدم على مثلِ حديثنا؟ ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1261)، (مادة: جدل).

قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: حديث رافع ألوان. قال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع من عدة روايات مختلفة مضطربة، وقد أنكر حديثه فقيهان من فقهاء الصحابة - رضي الله عنهم -: أحدهما: زيدُ بن ثابت - رضي الله عنه -، قال عن حديث رافع لمّا بلغه: أنا أعلم بذلك منه، وإنما سمع النبيُّ في رجلين قد اقتتلا، فقال: "إن كان هذا شأنكم، فلا تكروا المزارع" رواه أبو داود (¬1). والثاني: ما روى البخاري عن عمرو بن دينار، قال: قلتُ لطاوس: لو تركتَ المخابرةَ، فإنهم يزعمون أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها، فقال: إن أعلمهم -يعني: ابن عباس - رضي الله عنهما - أخبرني: أنّ النبي في لم ينه عن ذلك، ولكن قال: " [لَـ]ـأَنْ يمنح أحدكم أخاه [أرضه] خيرٌ له من أن يأخذ عليه خراجًا معلومًا"، ورواه الإمام أحمد، وابن ماجة، وأبو داود (¬2). وروى الترمذي، وصححه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم المزارعة، ولكن أمر برفق بعضهم ببعض (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3390)، كتاب: البيوع، باب: في المزارعة، والنسائي (3927) كتاب: المزارعة، باب: ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع، وابن ماجة (2461)، كتاب: الرهون، باب: ما يكره من المزارعة. (¬2) رواه البخاري (2205)، كتاب: المزارعة، باب: إذا لم يشترط السنين في المزارعة، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 281)، وأبو داود (3389)، كتاب: البيوع، باب: في المزارعة، وابن ماجة (2457)، كتاب: الرهون، باب: الرخصة في كراء الأرض البيضاء بالذهب والفضة. وكذا رواه مسلم (1550)، كتاب: البيوع، باب: الأرض تمنح، وعندهم: "خرجًا معلومًا" بدل "خراجًا معلومًا". (¬3) انظر فيما ذكره الشارح -رحمه الله-: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (5/ 582 - 586).

ثم إن أحاديث رافع: - منها ما يخالف الإجماع، وهو النهي عن كراء المزارع بالإطلاق. - ومنها ما لا يختلف في فساده، كما قد بيّنا. - وتارةً يحدث عن عمومته. - وتارةً عن سماعه. - وتارةً عن ظهير بن رافع. فإذا كانت أخبار رافع هكذا، فطرحُها أولى وأحرى من الأخبار الواردة في شأن خيبر الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها، وقد عمل بها الخلفاء الراشدون وغيرهم، فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث المضطربة. ولمّا كان الإمام أحمدُ أعلم الناس بالمنقوله، وأحفظَهم لأحاديث الصحابة والرسوله، لم يعرِّجْ على خبر رافع، ولم يلوِ إليه عِنانه، لعلمه بثبوت أحاديث المزارعة، وعدمِ ما يقاومها من الأحاديث المخالفة لها. وأَمّا حملُ الشافعية أحاديثَ المزارعة على الأرض التي بين النخيل، وأحاديثَ النهي على الأرض البيضاء، جمعًا بينها، فهذا بعيد جدًا، فإنه يبعد أن يكون بلدٌ كبيرةٌ يأتي منها أربعون ألف وسق ليس فيها أرضٌ بيضاء. ثم إنّ هذا تحكم لا طائل تحته. ثم إنّ موافقة الخلفاء الراشدين وأهليهم، وفقهاءِ الصحابة، وهم الأعلمُ بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنّته ومعانيها أولى وأحرى من قول من خالفهم.

وقد نقل الإمام أبو جعفر الإجماعَ على ما ذهبنا إليه، فإجماعُ السلف أولى بالاتباع، بل لا مندوحة للقول بخلافه. وأيضًا: فإن القياس يقتضي ذلك، فإنّ الأرض عين تنمى بالعمل، فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها، كالمال في المضاربة، والنخل في المساقاة، والله تعالى أعلم (¬1). تنبيهات: الأول: تجوز المزارعة بجزءٍ مشاعٍ معلوم يُجعل للعامل من الزّرع -كما تقدم-، ويشترط كون البذر من ربّ الأرض، ولو أنه العامل، وبقر العمل من الآخر، ولا تصحّ إذا كان البذر من العامل، أو منهما، أو من أحدهما، والأرض لهما، أو الأرض والعمل من الآخر، أو البذر من ثالث، أو البقر من رابع. وعن الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أنّه لا يُشترط كون البذر من ربّ الأرض. واختار هذا الإمامُ الموفق، والمجد، والشارح، وابن رَزين، وأبو محمد الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن قاضي الجبل في "الفائق"، وصاحب "الحاوي الصغير" (¬2). قال الإمام الموفق في "المغني": وهو الصحيح، وعليه عمل الناس (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) نقله الحجاوي في "الإقناع" (2/ 483 - 484). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 244 - 245).

قال في "الإنصاف": وهو أقوى دليلًا (¬1). قال الإمام شمس الدين بن أبي عمر في "شرح المقنع": اختلفت الرواية عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - في هذه المسألة، فروي عنه: اشتراطُ كون البذر من ربِّ الأرض، نصّ عليه في رواية جماعة، وهو اختيار الخرقي، وعامة الأصحاب، وهو قول ابن سيرين، وإسحاق؛ لأنه عقدٌ يشترك ربُّ المال والعامل في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال كلّه من عند أحدهما، كالمساقاة والمضاربة. قال: وروي عنه ما يدل على أنّ البذر يكون من العامل، فإنّه قال في روايةٍ مهنّا في الرجل تكون له الأرض فيها نخلٌ وشجرٌ، يدفعها إلى قومٍ يزرعون الأرض، ويقومون على الشجر على أن له النصف ولهم النصف، فلا بأس بذلك، قد دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر على هذا، فأجازَ دفعَ الأرضِ ليزرعها من غيرِ ذكر البذر، فعلى هذا أيهما أخرج البذر، جاز، وروي نحو ذلك عن عمر - رضي الله عنه -، وهو قول أبي يوسف وطائفة من أهل الحديث. قال: وهو أصح -إن شاءَ الله تعالى-. وروي ذلك عن سعد، وابن مسعود، وابن عمر: أنَّ البذر من العامل، ولعلّهم أرادوا به: يجوز أن يكون من العامل، فيكون كقول عمر - رضي الله عنه -. قال: ولا يكون قولًا ثالثًا. قال: والدليل على ذلك قولُ ابن عمر: دفع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يهود خيبرَ نخلَ خيبر وأرضَها على أن يعملوها من أموالهم، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 483).

شطرُ ثمرها، وفي لفظٍ: "أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها" رواه أبو داود، ورواه مسلم -أيضًا- (¬1)، وتقدم. قال: المجد في "المنتقى": وظاهر هذا أن البذر منهم، وأنّ تسمية نصيب العامل تغني عن تسمية نصيب ربّ المال، ويكون الباقي له، انتهى (¬2). قال شمس الدين: فجعل عملَها من أموالهم، وزرعَها عليهم، ولم يذكر شيئًا آخر، وظاهره: أن البذر من أهل خيبر. قال: والأصل المعمول عليه في المزارعة قصةُ خيبر، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّ البذر على المسلمين، فلو كان شرطًا، لما أخلّ بذكره، ولو فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لنقل، ولم يجز ترك نقله، ولأن عمر - رضي الله عنه - فعل الأمرين جميعًا، فروى البخاري عنه: أنّه عامل الناس على أنّه إن جاء بالبذر من عنده، فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر، فلهم كذا، وتقدّم (¬3). وظاهر هذا: أنّ ذلك اشتهر، فلم ينكر، فكان إجماعًا. فإن قيل: هذا بمنزلة بيعيتن في بيعة، فكيف يفعله عمر؟ قلنا: يُحمل على أنّه قال ذلك ليخبرهم في أيّ العقدين شاؤوا، فمن اختار عقدًا، عقده معه معيّنًا، كما لو قال في البيع: إن شئتَ بعتُك بعشرةٍ صحاح، وإن شئتَ بأحدَ عشرَ مكسرة، فاختار أحدهما، فقد وقع البيعُ عليه معيّنًا. انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "المنتقى" للمجد ابن تيمية (2/ 311)، عقب حديث (2345). (¬3) وتقدم تخريجه. (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (5/ 587 - 589).

وفي "مختصر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية": المزارعة على الأرض بشطر ما يخرج منها جائز، سواء كان البذر من ربِّ الأرض، أو من العامل، هذا هو الصواب الذي دلت عليه سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنّه زارعَ أهلَ خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمرٍ وزرعٍ على أن يعملوها من أموالهم. قال: والمزارعة على الأرض البيضاء مذهبُ الثوري، وابن أبي ليلى، والإمام أحمد، وأبي يوسف، ومحمد، والمحققون (¬1) من أصحاب الشافعي العلماء بالحديث، وبعض أصحاب مالك، وغيرهم. قال: ونهيُه - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة هو أنّهم كانوا يعملون ويشرطون للمالك بقعة معينة من الأرض، وهذا باطل بالاتفاق، انتهى (¬2). الثاني: حكم المساقاة كالمزارعة في ذلك، فيصحّ على هذا القول أن يكون الغراس من مُساق ومُناصب (¬3). قال الإمام المنقح علاء الدين في "تنقيحه": وعليه العمل (¬4). قال الإمام شمس الدين في "شرح المقنع": ولو دفع إلى رجل أرضه يغرسها على أن الشجر بينهما، لم يجز، ويحتمل الجواز بناء على المزارعة، فإن المزارع يبذر في الأرض، فيكون بينه وبين صاحب الأرض، وهذا نظيره. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل "ب". (¬2) وانظر: "الفتاوي المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 453)، وما بعدها. (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 477). (¬4) انظر: "التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع" لعلاء الدين المرداوي (ص: 218).

فأما إن دفعها على أن الأرض والشجر بينهما، فذلك فاسدٌ، وجهًا واحدًا، وبه قال مالك، والشافعي، وأبو يوسف، ومحمد، ولا نعلم فيه مخالفًا؛ لأنه يشترط اشتراكهما في الأصل، ففسد، كما لو دفع إليه الشجر والنخيل ليكون الأصل والثمرة بينهما. ويدل لصحة كونِ الغراس من العامل قولُ الإمام أحمد - رضي الله عنه - في رواية المروذي: من قال لرجلٍ: اغرس في أرضي هذه شجرًا أو نخلًا، فما كان من غلّةٍ، فلكَ بعملك كذا وكذا، فأجازه، واحتجّ بحديث خيبر في الزرع والنخل، لكن يشترط أن يكون الغرس من ربِّ الأرض، كما يشترط في المزارعة كون البذر من ربِّ الأرض، فإن كان من العامل، خرجَ على الروايتين في المزارعة إذا شرط البذر من العامل (¬1)، وقد علمت الخلاف في ذلك. الثالث: دلَّ الحديث على جواز كراء الأرض بالذهب والورق المعلومين، فلا يصح كون الأجرة بشيء غير معلوم المقدار عند العقد، لما دلَّ الحديث على عدم اغتفار جهالة الأجرة، ويستدل به أيضًا على جواز كراء الأرض بطعامٍ مضمون. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن استأجر أرضًا بجزءٍ معلومٍ من زرعها، فظاهر المذهب صحتها، سواء سميِّت إجارة، أو مزارعة، فإن لم تزرع الأرض، وصححناها، ضمنت بالمسمى الصحيح (¬2). قال في "الإقناع": وتصحُّ إجارةُ أرضٍ بنقدٍ وعُروضٍ، وبجزءٍ مُشاعٍ معلومٍ مما يخرج منها. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (5/ 560 - 561). (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (30/ 122 - 123).

قال: وتصحُّ إجارتُها بطعامٍ مَعلومٍ من جنسِ الخارجِ منها، ومن غير جِنسِه. وفيه -أيضًا-: وتصحُّ -يعني: المساقاةَ- بلفظِ مُساقاة، ومُعاملةٍ، ومُفالحةٍ، وبكلِّ لفظٍ يؤدِّي معناها، وتصحُّ هي ومزارعةٌ بلفظِ إجارة (¬1). والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 475 - 476).

الحديث الحادى عشر

الحديث الحادى عشر عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ (¬1). وَفِي لَفْظٍ: "مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَإنَّها لِلَّذِي أُعْمِرَهَا، لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ المَوَارِيثُ" (¬2). وَقَالَ جَابِرٌ: إِنَّما العُمْرَى الَّتِي أَجَازَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإنَّها تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا (¬3). وَفِي ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2482)، كتاب: الهبة، باب: ما قيل في العمرى والرقبى، واللفظ له، ومسلم (1625/ 25)، كتاب: الهبات، باب: العمرى، وأبو داود (3550)، كتاب: الإجارة، باب: في العمرى، والنسائي (3750 - 3751)، كتاب: الهبة، باب: اختلاف يحيى بن أبى كثير ومحمد بن عمرو على أبي سلمة فيه. (¬2) رواه مسلم (1625/ 20)، (3/ 1245)، كتاب: الهبات، باب: العمرى، وأبو داود (3553)، كتاب: الإجارة، باب: من قال فيه ولعقبه، والنسائي (3740)، كتاب: العمرى، باب: ذكر الاختلاف على الزهري فيه، والترمذي (1350)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في العمرى، وابن ماجة (2385)، كتاب: الهبات، باب: العمرى. (¬3) رواه مسلم (1625/ 23)، كتاب: الهبات، باب: العمرى، وأبو داود (3555) كتاب: الإجارة، باب: من قال فيه ولعقبه. =

لَفْظٍ: "أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى، فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا ومَيِّتًا، وَلِعَقِبِه" (¬1). * * * (عن) أبي عبد الله (جابرِ بنِ عبد الله - رضي الله عنهما -، قال: قضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالعُمْرَى) -بضم العين المهملة وسكون الميم، مقصورًا- مأخوذة من العمر. قال في "المطلع": قال أبو السعادات: يقال: أعمرتُه الدارَ عُمرى؛ أي: جعلتها له يسكنها مدة عمره، فإذا ماتَ، عادت إليَّ، كذا كانوا يفعلونه في الجاهلية، فأبطل ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأعلمهم أن من أعمرَ شيئًا وأرقبه في حياته، فهو لورثته من بعده (¬2). وفي "شرح البخاري" للبدر العيني: العُمْرَى -بضم العين المهملة وسكون الميم، مقصورًا، وحكي بضم العين والميم جميعًا، وبفتح العين وسكون الميم-. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1625/ 26)، كتاب: الهبات، باب: العمرى. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 174)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 238)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 99)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 355)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 592)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 69)، وشرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 221)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1210)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 239)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 179)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 364)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 91)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 118). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 298). وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 291).

وقال ابنُ سيده: العُمْرى: مصدرٌ، كالرُّجْعى، وأصلها مأخوذ من العمر، والرقبى: بوزن العُمْرى، كلاهما على وزن فُعْلَى (¬1)، وأصل الرقبى من المراقبة (¬2). قال في "المطلع": أرقبتكها؛ أي: أعطيتكها رقبى. قال ابن [الـ] قطاع: أرقبتك: أعطيتك الرقبى، وهي هبة ترجع إلى المُرْقِب إن ماتَ المُرْقَب، وقد نَهَى عنه، والفاعل منهما مُعْمِر ومُرْقِب -بكسر الميم والقاف-، والمفعول -بفتحهما- (¬3). وقد روى النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفًا: العمرى والرقبى سواء (¬4)؛ يعني: في الحكم. (لمن وُهبت)؛ أي: العمرى، وكذا الرقبى (له)؛ أي: حكمَ - صلى الله عليه وسلم - بصحة هبة العمرى للشخص الذي وُهبت له. قال علماؤنا ومن وافقهم: لا يصح توقيت الهبة، كقوله: وهبتك هذا سنة، إلا العمرى والرقبى، وهما نوعان من أنواع الهبة يفتقران إلى ما يفتقر إليه سائر الهبات، كقوله: أعمرتك هذه الدار، أو الفرس، أو الجارية، أو أرقبتكها، أو جعلتها لك عمرك، أو حياتك، أو ما حَييتَ، أو ما عشتَ، أو نحو هذا، أو عمرى، أو رقبى ما بقيت، أو أعطيتكها عمرك، ويقبلُها، فتصح، وتكون للمُعْمَر -بفتح الميم-، ولورثتِه من بعده لتَصريحه. وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي في العمرى، فقالوا: إن كان له ورثه، ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (2/ 106)، (مادة: عمر). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 178). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 291 - 292). (¬4) رواه النسائي (3711)، كتاب: الرقبى، باب: الاختلاف على أبي الزبير.

سواء قال المعمِر للمعمَر: هي لك ولعقبك، أو أطلق، فإن لم يكن له وارث، فلبيت المال، ولا تعود إلى معمِر (¬1). وفي "البخاري": أعمرتُه الدارَ، فهي عمرى: جعلتُها له (¬2). قال أبو عبيد: العمرى: أن يقول الرجل للرجل: داري لك عمرَكَ، أو يقول: داري هذه لك عمري (¬3)، فإن قال ذلك، وسلّمها إليه، كانت للمعمَر، ولم ترجع إليه؛ أي: المعمِر إن مات، وكذا إذا قال: أعمرتك هذه الدار، وجعلتُها لك حياتَك، أو ما بقيتَ، ونحو ذلك (¬4). (وفي لفظٍ) عند مسلم من حديث جابرٍ - رضي الله عنه -: (من أعمر عمرى له ولعقبه) بأن قال مثلًا: أعمرتك داري هذه لك ولعقبك، (فإنها)؛ أي: العُمرى للشخص (الذي أُعمرها)، وهو المعمَر -بفتح الميم- (لا ترجع إلى الذي أعطاها) بعد موت المعمَر (لأنه) أي: المعمِر -بكسر الميم- (أعطى) المعمَر -بفتحها- (عطاء) ملكه مدةَ حياته، وبعد موته (وقعت فيه)؛ أي: في ذلك الشيء المعطى (المواريثُ). وقد روى سعيد: حدَّثنا هشيم، أنبأنا حميد، حدثنا الحَسن: أنَّ رجلًا أعمر فرسًا حياته، فخاصمه بعد ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من ملك شيئًا حياته، فهو لورثته بعده" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 107). (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 925). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 77). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 178). (¬5) وقد رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 114)، من قول شريح -رحمه الله-.

قال في "الفروع": حديث: "من ملك شيئًا حياته، فلورثته بعد موته" نقله الإمام أحمد والترمذي (¬1). قال البدر العيني في "شرح البخاري": العمرى على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقول: أعمرتُكَ هذه الدَّار، فإذا متَّ، فهي لعقبكَ، أو ورثتكَ، فهذه صحيحة عند عامّة العلماء. ونقل النووي أنَّه لا خلاف في صحتها (¬2)، وإنما الخلاف هل يملك الرقبة أو المنفعة فقط؟ الثاني: ألا يذكر ورثتَهُ، ولا عقبَهُ، بل يقول: أعمرتك هذه الدار، وجعلتُها لك، أو نحوَ هذا، ويطلق، ففيها أربعة أقوال: أصحها: الصحة له ولورثته من بعده، وهو قول الشافعي في "الجديد"، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وسفيان الثوري، وأبو عُبَيد، وآخرون. وقال الشافعي في "القديم": إنها لا تصحّ؛ لأنَّه تمليك مؤقت، أشبه ما لو وهبه أو باعه إلى وقتٍ معين، وحكي عنه في "القديم" -أيضًا-: أما تصح، وتكون للمعمَر في حياته فقط، فإذا ماتَ، رجعت إلى المعمِر، أو إلى ورثته إن كان قد مات. وقيل: إنَّها عارِيَّة يستردها المعمِر متى شاء، فإذا مات، عادت إلى ورثته. الثالث: ألَّا يذكر العقب، ولا الورثة، ولا يقتصر على الإطلاق، بل يقول: فإذا متَّ، رجعت إليَّ، أو إلى ورثتي إن كنتُ متُّ، فهي الرقبى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 485). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 70). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 178).

قال علماؤنا ومن وافقهم: وإن اشترط رجوعها بلفظ الإِرقاب وغيره إلى المعمِر -بكسر الميم- عند موته، أو إليه إن مات قبله، أو إلى غيره، فهي الرقبى، أو رجوعها مطلقًا، أو إلى ورثته، أو قال: هي لآخرنا موتًا، صحَّ العقد دون الشرط، وتكون للمعمَر -بفتح الميم-، ولورثته من بعده كالأوله، ولا ترجع إلى المعمِر والمرقِب (¬1)، وهذا هو الأصح عند الشافعية. قال: الإمام عون الدين صدر الوزراء أبو المظفر بن هبيرة: وأما الرقبى، فحَكَمَ بها حُكمَ العمرى: الشّافعيُّ، وأحمدُ، وهي أن يقول: أرقَبتُك داري، أو جعلتها لك حياتك، فإن متَّ قبلي، رجعتْ إليَّ، وإن متُّ قبلك، رجعتْ إليك. وقال: أبو حنيفة ومالك: الرقبى باطلة. إِلَّا أنَّ أبا حنيفة قال: تبطل المُطْلَقة دون المقيدة، وصفة المطلقة عنده: أن يقول: هذه الدار رقبى، انتهى (¬2). تنبيه: قال: الإمام مالكٌ في العمرى: هي تمليكُ المنافع، وإذا مات المعمَر، رجعت العمرى؛ يعني: للمعمِر -بكسر الميم-، وإن ذكر في الإعمار عقبَه، رجعت إليهم، فإذا انقرض عقبُه، رجعتْ إلى المعمِر، فإذا أطلق، لم ترجع إليهم، بل إلى المعمِر، فإن لم يكن المعمِر موجودًا، عادت إلى ورثته، نقله ابنُ هبيرة في "خلاف الأئمة" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 107). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 61). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

قال: البدر العيني: وأما الرقبى، فهي أن يقول الرَّجل للرجل: أرقبتُكَ داري، إن متُّ قبلك، فهي لك، وإن متَّ قبلي، فهي لي، وهو مشتق من الرقوب، فكأن كل واحد منهما يترقب موتَ صاحبه (¬1). وقال: أبو عيسى الترمذي: ذهب أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أنَّ الرقبى جائزة مثل العمرى، قال: وهو قول أحمد، وإسحاق. وفرق بعض أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم بين العمرى والرقبى، فأجازوا العمرى، ولم يجيزوا الرقبى (¬2). وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: والرقبى باطلة عند أبي حنيفة، ومحمد، ومالك. وقال: أبو يوسف: جائزة (¬3)، وبه قال الشّافعيّ، وأحمد (¬4). (وقال جابر) أيضًا - رضي الله عنه -: (إنما العُمْرَى التي أجازها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أن يقول) المعمِر -بكسر الميم- للمعمَر -بفتحها-: (هي)؛ أي: (لعمرى (لك) مدّةَ حياتك (ولعقبِك) بعد وفاتك. (فأما إذا قال) له: (هي لكَ ما عشتَ)؛ أي: مدّة عَيشِكَ، ونحوه، (فإنها)؛ أي: العمرى والحالةُ هذه (ترجع إلى صاحبها)؛ يعني: المعمِر -بكسر الميم-. واعلم: أن مسلمًا قد روى حديث جابر بألفاظٍ مختلفةٍ، وأسانيدَ متباينة، ولم يخرج البخاري عن جابر في العمرى سوى اللفظ الأول، ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 179). (¬2) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 633). (¬3) انظر: "الهداية شرح بداية المبتدي" للمرغيناني (3/ 230). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 179).

فروى مسلم عنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما رجلٍ أعمرَ عمرى له ولعقبه، فإنَّها للذي أُعطيها" الحديث (¬1). وعنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أعمر رجلًا عُمْرى له ولعقبه، فقد قطع [قولُه] حقّهُ فيها، وهي لمن أُعمر ولِعَقبِهِ" (¬2). وعنه -أيضًا-: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل أعمرَ رجلًا عمرى له ولِعَقِبِهِ، فقال: قد أعطيتُكها وعقبَكَ ما بقي منكم أحدٌ، فإنَّها لمن أُعطيها وعقبه، وإنَّها لا ترجع إلى صاحبها، من أجل أنَّه أعطاها عطاءً وقعتْ فيه الموَريثُ" (¬3). وعنه: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيمن أعمرَ عمرى له ولعقبه، فهي له بَتْلَةٌ (¬4) لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثُنيا. قال أبو سلمة بنُ عبد الرحمن بنِ عوف: لأنَّه أعطى عطاء وقعتْ فيه المواريثُ، فقطعت المواريثُ شرطه (¬5). (وفي لفظٍ) من حديث جابر، لمسلم ممّا أخرجه من رواية أبي الزبير عن جابر، يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (أَمسكوا عليكم أموالكم، ولا تُفسدوها) بإعمارها لغيره (فإنّه)؛ أي: الشأن والأمر (مَنْ أعمرَ عُمرى فهي)؛ أي: العمرى التي أعمرها لغيره ملكٌ للشخص (الذي أُعْمِرها) -بضم الهمزة وسكون العين المهملة مبنيًا للمجهول- (حيًّا وميّتًا)، يعني: أنّها تكون بعد ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1625/ 20). (¬2) رواه مسلم (1625/ 21)، كتاب: الهبات، باب: العمرى. (¬3) تقدّم تخريجه عند مسلم برقم (1625/ 22). (¬4) بَتْلَةٌ أي: عطية ماضية غير راجعة إلى الواهب، كما في "شرح مسلم" للنووي (11/ 71). (¬5) رواه مسلم (1625/ 24)، كتاب: الهبات، باب: العمرى.

موته تركةً له كسائر مخلّفاته، (و) إذا كانت من جملة مخلّفاته، فهي (لِعَقِبِهِ) من بعده على حسب الإرث الشرعي. وعنه: قال: جعل الأنصار يُعْمِرون المهاجرين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمسكوا عليكم أموالكم"، فذكره (¬1). وعن أبي الزبير عن جابر، قال: أَعمرت امرأة بالمدينة حائطًا لها ابنًا لها، ثم تُوفي، وتُوفيت بعده، وترك ولدًا له، وله إخوة وبنون للمعمِرة، فقال ولد المعمِرة: رجع الحائط إلينا، وقال بنو المعمر؛ أي: -بفتح الميم-: بل كان لأبينا حياته وموته، فاختصموا إلى طارق مولى عثمان، فدعا جابرًا، فشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق، ثم كتب إلى عبد الملك، فأخبره بذلك، وأخبره بشهادة جابر، فقال عبد الملك: صدق جابر، فأمضى ذلك طارق بأنّ ذلك الحائط لبني المعمَر حتى اليوم (¬2). وغير ما ذكرنا من الألفاظ. وبمجموع ما ذكرنا احتجّ الجمهور على أنَّ المعمَر -بفتح الميم- يملك العمرى ملكًا تامًا يتصرف فيها تصرُّفَ المُلاّك، واشترطوا فيها القبض على أُصولهم في الهبات (¬3)، نعم، روي عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - عدمُ وطء الجارية المعمرة، فقد نقل يعقوب وابن هانىء عن الإمام أحمد: من يعمر الجارية أيطأُ؟ قال: لا أراه، وحمله القاضي على الورع (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1625/ 27)، كتاب: الهبات، باب: العمرى. (¬2) رواه مسلم (1625/ 28)، كتاب: الهبات، باب: العمرى. (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 180). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 485).

قال في "المغني": عن الإمام أحمد في الرجل يعمر الجارية: فلا أرى له وطأها، قال: القاضي: لم يتوقف أحمد عن وطء الجارية لعدم الملك فيها، لكن على طريق الورع؛ لأن الوطء استباحة فرج، وقد اختلف في صحة العمرى، وجعلها بعضهم تمليك المنافع، فلم يحيى له وطأها، لهذا، ولو وطئها، كان جائزًا (¬1). وذهب القاسم بن محمّد، ويزيد بن قسيط، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والليث بن سعد، ومالك: إلى أنَّ العمرى جائزة، ولكنها ترجع إلى الذي أعمرها، واحتّجوا لذلك بقوله -عليه السلام-: "المسلمون عند شروطهم" أخرجه أبو داود، والطحاوي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬2). وأجاب عنه الطحاوي: بأنّ هذا محمول على الشروط التي قد أباح الكتاب اشتراطها، وجاءت بها السنة، وأجمع عليها المسلمون، وما نَهَى عنه الكتاب، ونهت عنه السنّة، فهو غير داخل في ذلك، ألا ترى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث بَريرة: "كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مئة شرط" (¬3)؟. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (5/ 402). (¬2) رواه أبو داود (3594)، كتاب: الأقضية، باب: في الصلح، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 90)، واللفظ له. (¬3) تقدم تخريجه. وانظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 90)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 180)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-.

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا يَمْنَعَنَّ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ"، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟! وَاللهِ! لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكتَافِكُمْ (¬1). * * * (عن أبي هريرةَ) عبد الرحمنِ بنِ صخر (- رضي الله عنه -: أنَّ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2331)، كتاب: المظالم، باب: لا يمنع جاره أن يغرز خشبه في جداره، ومسلم (1609)، كتاب: المساقاة، باب: غرز الخشب في جدار الجار، وأبو داود (3634)، كتاب: الأقضية، باب: من القضاء، والترمذي (1353)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الرجل يضع على حائط جاره خشبًا، وابن ماجة (2335)، كتاب: الأحكام، باب: الرجل يضع خشبه على جدار جاره. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 180)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 192)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 105)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 317)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 530)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 47)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 224)، و"العمدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1213)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 110)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 10)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 266)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 60)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 385).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يمنعنَّ) نهي مؤكد بالنون الثقيلة. وفي لفظٍ: "لا يمنعْ" -بالجزم- على أنَّ كلمة "لا" ناهية، وفي رواية: بالرفع على أنَّ "لا" نافية خبرٌ بمعنى النّهي (¬1) (جارٌ) -بالرفع- فاعلُ يمنع (جارَه) بالنصب مفعولٌ (أن يغرز)؛ أي: بأن يغرز، وكلمة (أن) مصدرية؛ أي: يغرز (خَشَبه) -بفتح الخاء والشين المعجمتين- جمعُ خشبة، ويجمع أيضًا على خُشْب -بضم الخاء وسكون الشين-، و-بضمتين-، وخشبان (¬2)، وقد روي في الحديث بالإفراد، وأنكر ذلك الحافظُ عبد الغني بن سعيد، فقال: الناسُ كلّهم يقولونه بالجمع، إلّا الطحاوي (¬3) (في جداره)؛ أي: حائطه، وفي قول أبي هريرة - رضي الله عنه - بعد إيراده للحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال، يُشعر بوجوب ذلك (¬4)؛ فإن الراوي، وهو الأعرجُ قال: (ثمّ يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: مالي أراكم عنها)؛ أي: عن هذه المقالة، أو عن هذه السنّة، وفي رواية أبي داود عن ابن عُيينة، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استأذنَ أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره، فلا يمنعه"، فنكسوا، فقال أبو هريرة: مالي أراكم قد أعرضتم (¬5)؟! وفي رواية الإمام أحمد: فلما حدّثهم أبو هريرة بذلك، طأطؤوا رؤوسهم (¬6) (معرضين) غير عاملين بمضمونها، ولا ممتثلين لها، (واللهِ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 110). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 102)، (مادة: خشب). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 47). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 225). (¬5) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3634). (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 240).

لأرمينَّ بها)، وفي رواية: "لأرمينّها" (¬1)، وفي رواية أبي داود: لألقينّها (¬2) (بين أكتافكم). قال ابنُ عبد البَر: رويناه في "الموطأ" بالتاء المثناة، وبالنون، يعني: بالوجهين (¬3)، فأكتافكم جمع كتف -بالتاء-، وبأكنافكم -بالنون- جمع كَنَف، وهو الجانب (¬4) قال الخطابي: معناه: إن لم تقبلوا هذا الحكم، وتعملوا به راضين، لأجعلنّها؛ أي: الخشبة على رقابكم كارهين، وأراد بذلك المبالغة، ووقع ذلك من أبي هريرة حين كان يلي أمر المدينة لمروان، ووقع في رواية عند ابن عبد البر من وجه آخر: لأرمينّ بها بين أعينكم وإن كرهتم (¬5)، ولا يخفى ما في هذا من مزيد التشديد المقتضي بأن ذلك حقٌّ على الجارِ للجار من غرز خشبه في الجدار، لكن بشروطٍ معلومةٍ، واعتبارات مفهومة. تنبيه: اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال قومٌ: معناه: الندب إلى بِرِّ الجار، وليس على الوجوب، وبه قال أبو حنيفة، ومالك. وروى ابن عبد الحكم عن مالك، قال: ليس يقضى على رجلٍ أن يغرز ¬

_ (¬1) رواه ابن الجارود في "المنتقى من الأحكام" (1020)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 68). (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3634). (¬3) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 221): اختلفوا علينا في أكتافكم وأكنافكم، والصواب فيه -إن شاء الله-، وهو الأكثر: التاء. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 111). (¬5) رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 229)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 111).

خشبه في جدار جاره، وإنما نرى أنَّ ذلك كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الوصاة بالجار (¬1)، قال: وأكثر علماءِ السلف أن ذلك على الندب، وقال قوم: هو واجب إذا لم يكن في ذلك مضرة على صاحب الجدار، وهو مذهب الإمام أحمد، وبه قال الشافعي في "القديم"، وأبو ثور، وداود، وجماعة من أصحاب الحديث، وهو قول عمر بن الخطاب، فقد روى الشافعي عن مالك بسند صحيح: أن الضحاك سأل محمدَ بنَ مسلمةَ أن يسوق خليجًا له، فيمر به في أرض محمّد بن مسلمة، فامتنع، فكلمه عمر - رضي الله عنه - في ذلك، فأبى، فقال: والله! ليمرنّ به ولو على بطنك (¬2)، فحمل عمر الأمر على ظاهره، وعدَّاه إلى كل ما يحتاج الجار الانتفاع به من جداره وأرضه (¬3). وقال الحافظ في "الفتح": قد قوى الشافعي في "القديم" القول بالوجوب بأنَّ عمر - رضي الله عنه - قضى به، ولم يخالفه أحدٌ من أهل عصره، فكان اتفاقًا منهم على ذلك (¬4)، واعترضه العيني بأن ما ذكره مجردُ دعوى تحتاج إلى إقامة دليل (¬5). قلتُ: ولا يخفى على منصف أن الدّليل على مثبت الخلاف بين الصحابة الكرام، إذ النفْي مصحوب بالأصل، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 222). (¬2) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 224)، وفي "الأم" (7/ 230 - 231) من طريق الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 746). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 10 - 11). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 111). (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 11).

قال علماؤنا ومن وافقهم: وليس للجار وضع خشبه على حائط جاره، أو المشترك إلّا عند الضرورة (¬1). وفي "المغني": إلا للحاجة، نص عليه (¬2). قال في "الإقناع": بأن لا يمكنه التسقيف إلّا به، فيجوز، ولو ليتيم ومجنون، ما لم يتضرر الحائط، وليس له منعه منه إذن، فإن أبى، جبره الحاكم، وإن صالحه عنه بشيء، جاز، وكذا حكمُ جدار مسجد. ومن ملك وضع خشبه على حائط، فزال بسقوطه، أو قلعه، أو سقوط الحائط، فله إعادته بشرط ألا يمكن تسقيف إلا به بلا ضرر. وإن قلنا: له وضع خشبه على جدار جاره، لم يملك إجارته، ولا إعارته، ولا بيعه، ولا المصالحة عنه للمالك، ولا لغيره؛ لأنه أبيح له من حق غيره لحاجته، ولو أراد صاحب الحائط إعارته، أو إجارته على وجهٍ يمنع هذا المتستحق من وضع خشبه، لم يملك ذلك، وكذا لو أراد هدم الحائط لغير حاجة. ولو أذن صاحب الحائط لجاره في البناء على حائطه، أو وضع سترة أو خشبة عليه في الموضع الذي لا يستحق وضعه، جاز، وصارت عارية لازمة، وإن أذن له في ذلك بأجرة، جاز، سواء كانت إجارة، أو صلحًا على وضعه على التّأبيد، ومتى زال، فله إعادته، لكن لا بد من معرفة البناء، والعرض والطول، والسُّمك، والآلات من الطين واللَّبِن وما أشبهَ ذلك (¬3)، كما هو مفصل في فروع الفقه، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (5/ 262). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (4/ 324). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 381 - 382).

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ، طُوَّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ" (¬1). * * * (عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصدّيقة بنتِ الصدّيق (- رضي الله عنها -) وعن أبيها: (أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من ظلم) أصلُ الظلم: الجور، ومجاوزة الحدّ، ومعناه الشرعي: وضع الشيء في غير موضعه الشرعي، وقيل: التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والمظالم: جمع مظلمة، مصدر ميمي من ظلم يظلم ظلمًا، والمظلمة -أيضًا-: اسمُ ما أُخِذَ منكَ بغيرِ حقّ، ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2321)، كتاب: المظالم، باب: إثم من ظلم شيئًا من الأرض، و (3023)، كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين، ومسلم (1612)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 319)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 50)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 226)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1215)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 103)، و"عمدة القاري" للعينىِ (12/ 299)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 260)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 63).

والظلم: أخذ مالِ الغير بغيرِ حقّ (¬1) (قيد) -بكسر القاف-؛ أي: قدر. قال في "المطلع" في قوله: "قيدَ رمح": يقال: قِيد رمح، وقِيس رمح، وقِدّ رمح -بكسر قافات الثلاثة-، وقاد رمح، وقاسُ رمح، خمس لغات بمعنى: قدر رمح، انتهى (¬2). (شبرٍ) بالجر بإضافته إلى "قيد"، وهو ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر، مذكر، وجمعه أشبار (¬3)، والمراد: من اغتصب شيئًا (من الأرض)، وذكرُ الشبر على التنزُّل، والمقصود: من استولى على شيء من الأرض بغيرِ حقٍّ، سواء كان شبرًا، أو نحوه، أو دونه. وقال: ابن دقيق العيد: قيَّده بالشبر مبالغة، ولبيان أنَّ ما زاد على مثله أولى منه، انتهى (¬4). وفي حديث سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: قال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أخذ من الأرضِ شيئًا بغيرِ حقٍّ، خُسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين" رواه البخاري (¬5). فقوله: "شيئًا" يتناول القليل والكثير من الأرضِ، (طُوِّقَهُ)؛ أي: جُعل طوقًا له، وهو -بضم الطاء المهملة- على بناء المجهول. وقال: الخطابي: له وجهان: أحدهما: أن يكلف ما ظلم منها في القيامة إلى المحشر، فتكون ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 283). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 97). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 529)، (مادة: شبر). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 226). (¬5) رواه البخاري (2322)، كتاب: المظالم، باب: إثم من ظلم شيئًا من الأرض.

كالطوق في عنقه، ويطول الله عنقه كما جاء في غلظ جلد الكافر، وعظم ضرسه، أو يطوق إثم ذلك، ويلزم كلزومِ الطوق بعنقه. وقال أبو الفرج بن الجوزي: هو من تطويق التكليف، لا من التقليد. قال: وليس ذلك بممتنع، فإنّه صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا أُلفيَنَّ أحدَكم يأتي على رقبته بعير أو شاة" (¬1). (من سبعِ أرضين). وفي حديث يعلى بن مرّة: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أيُّما رجل ظلم شبرًا من الأرض، كلّفه الله أن يحفره حتى يبلغ سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس" (¬2). وفي رواية الشعبي عن أيمن، عنه: "من سرق شبرًا من أرض، أو غلّه، جاء يحمله يوم القيامة على عنقه إلى سبع أرضين" (¬3). وفي روايةٍ: "كُلِّف أن يحمل ترابها إلى المحشر" (¬4). وفي "الصحيحين" من حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - رضي الله عنه -، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، قال: سمعتُ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2908)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الغلول، ومسلم (1831)، كتاب الإمارة، باب: غلظ تحريم الغلول. وانظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 298). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 173)، وابن حبان في "صحيحه" (5164)، وغيرهما. (¬3) رواه أبو يعلى في "معجمه" (111)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (5750). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 172)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (22013)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 269).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من ظلم من الأرض شبرًا، طُوّقه من سبع أرضين" (¬1). وفيهما: عن عروة بن الزبير: أنَّ أروى بنتَ أُويس ادّعت على سعيد بن زيد أنَّه أخذ شيئًا من أرضها، فخاصمته إلى مروان بن الحكم، فقال سعيد: أنا كنتُ آخذ من أرضها شيئًا بعد الذي سمعتُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال؟ قال: وما سمعتَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالل: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أخذ شبرًا من الأرض ظُلمًا، طُوقه إلى سبع أرضين"، فقال له مروان: لا أسأَلُكَ بيّنةً بعد هذا، فقال: اللهم إن كانت كاذبة، فأَعمِ بصرها، واقتلْها في أرضها. قال: فما ماتت حتى ذهب بصرُها، ثم بينما هي تمشي في أرضها، إذ وقعت في حفرة، فماتت (¬2). وقال الكرماني: رُوي أنَّ مروان أرسل إلى سعيد ناسًا يكلمونه في شأن أروى بنتِ أويس، وكانت شَكَتْه إلى مروان في أرض، فقال سعيد: تروني ظلمتها؟ وقد سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، الحديث، فتركَ سعيدٌ لها ما ادّعت، وقال: اللهم إن كانت كاذبة، فلا تُمتها حتّى تُعمي بصرها، وتجعل قبرها في بئر، قالوا: فوالله ما ماتت حتى ذهب بصرُها، فجعلت تمشي في دارها، فوقعت في بئرها (¬3). وفي "مسند الإمام أحمد"، وأبي يعلى، و"صحيح ابن خزيمة" من ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2320)، كتاب: المظالم، باب: إثم من ظلم شيئًا من الأرض، ومسلم (1610)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها. (¬2) رواه مسلم فقط (1610)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها. (¬3) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (21/ 85). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 298).

طريق ابن إسحاق: حدّثني الزهري، عن طلحة بن عبد الله، قال: أتتني أروى بنتُ أويس في نفرٍ من قريش فيهم عبدُ الرحمن بنُ سهل، فقالت: إن سعيدًا انتقص من أرضي إلى أرضه ما ليس له، وقد أحببتُ أن تأتوه فتكلموه، قال: فركبنا إليه وهو بأرضه العقيق، فذكر الحديث (¬1)، وكان سعيد - رضي الله عنه - مجابَ الدَّعوة. وفي "الصحيحين" من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -: أنَّ أروى خاصمته في بعض داره، فقال: دعوها وإتاها، فإني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث، ثمّ قال: اللهم إن كانت كاذبة، فأَعم بصرها، واجعل قبرها في دارها. قال محمّد بن زيد: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر، وتقول: أصابتني دعوةُ سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار، إذ مرّت على بئرٍ في الدار، فوقعت فيها، فكانت قبرها (¬2). تنبيهات: الأوّل: مقصود الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- بذكر هذا الحديث في الأحكام مع أنه من أحاديث الترهيب: أنَّ العقار يصحّ غصبه (¬3). قال في "شرح المقنع": ويُضمن العقار بالغصب، ويُتصور غصبُ الأرض والدور، ويجب ضمانه على غاصبه. قال: هذا ظاهر مذهب الإمام أحمد، وهو المنصوص عند أصحابه، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 189)، وأبو يعلى في "مسنده" (950). (¬2) رواه مسلم فقط (1610)، (3/ 1230)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها. (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 227).

وبه قال مالك، والشافعي، ومحمد بن الحسن. وروى ابن منصور عن الإمام أحمد فيمن غصب أرضًا فزرعها، ثم أصابها غرق من الغاصب: غرم قيمة الأرض، وإن كان سببًا من السماء، لم يكن عليه شيء، فظاهر هذا: أنَّها لا تضمن بالغصب، والمعتمد: بلى، كما علمت. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يُتصور غصبُها، ولا تُضمن بالغصب، وإن أتلفها، ضمنها بالإتلاف؛ لأنه لا يوجد فيها النقل والتحويل، فلم يضمنها، كما لو حال بينه وبين متاعه، فتلف المتاع، ولأن الغصب إثبات اليد على المتاع عدوانًا على وجهٍ تزول به يد المالك، ولا يمكن ذلك في العقار. ولنا: ما ذكرنا من الأحاديث، وفي بعض ألفاظها: "من غصب شبرًا من الأرض" (¬1)، وفي بعضها: "من سرق" (¬2)، وفي بعضها: "من اقتطع" (¬3)، وفي بعضها: "من ظلم" (¬4)، وفي بعضها: "من أخذ" (¬5)، فأخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: أنّه يغصب ويظلم فيه، ولأن ما ضمن في البيع، وجب ضمانه في الغصب، كالمنقول، ولأنه يمكن الاستيلاء عليه على وجهٍ يحول بينه وبين مالكه، مثل أن يسكن الدار، ويمنع مالكها من دخولها، فأشبه ما لو أخذ الدابة والمتاع، وأما إذا حال بينه وبين متاعه، فما استولى على ¬

_ (¬1) تقدّم تخريجه عند مسلم برقم (1611) بلفظ: "لا يأخذ أحد شبرًا. . .". (¬2) تقدم تخريجه من حديث يعلى بن مرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه مسلم (1610)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) تقدم تخريجه.

ماله، فنظيره ها هنا أن يحبس المالك، ولا يستولي على داره، فأما ما تلف من الأرض بفعله، أو بسبب فعله، كهدم حيطانها، وتغريقه، وكشط ترابها، وإلقاء الحجارة فيها، أو نقصٍ يحصل بغرسِه أو بنائه، فيضمنه، بغير خلاف بين العلماء؛ لأن هذا إتلاف، والعقار يُضمن بالإتلاف من غير اختلاف (¬1). قلت: ومعتمد المذهب: أنَّ الأرض مادامت في استيلاء الغاصب، فهي وأجرتها وما نقص منها من ضمانه، سواء كان بفعله، أو بسببه، أو بآفةٍ سماويّة؛ لأن العقار مضمونٌ بغصبه. والعَقار -بفتح العين-: الضيعة، والنخل، والأرض، وغير ذلك، قاله أبو السعادات (¬2). وقال أبو عبد الله بن مالك في "مثلثه": العقار -بالفتح-: متاعُ البيت، وخيار كل شيء، والمال الثابت، كالأرض والشجر، وهو المراد هنا (¬3). وقال الكرماني في "شرح البخاري": وفيه -أي: الحديث-: غصب الأرض؛ أي: دليل على أنّ الأرض تُغصب، ويتأتى عليها ذلك، قال: خلافًا للحنفيّة. قال العيني: رمى الكرماني كلامه جزافًا من غير وقوفٍ على كيفية مذهب الحنفية، فإن مذهبهم فيه خلاف، فعند أبي حنيفة، وأبي يوسف: الغصبُ لا يتحقق إلّا فيما ينقل ويحوَّل؛ لأنّ إزالة اليد بالنقل، ولا نقل في العقار، فإذا غصب عقارًا، فتلف في يده، لا يضمن. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (5/ 375). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 274). (¬3) نقله ابن أبي الفتح في "المطلع على أبواب المقنع" (ص: 274).

وقال محمد: يضمن، وهو قول أبي يوسف الأول، وبه قال زفر، والشافعي، ومالك، وأحمد؛ لأن الغصب عندهم يتحقق في العقار، والخلافُ في الغصب، لا في الإتلاف (¬1). هذا كلامه، ولا يخفى على منصفٍ أنّ الذي نسبه لكلام الكرماني بكلامه أَجدر، والحقُّ أحقّ أن يُتبع. ثمّ قال العيني -رحمه الله-: والاستدلال بحديث الباب على ما ذهبوا إليه غيرُ مستقيم؛ لأنّه -عليه السلام- غصب الأرض التطوُّقَ يوم القيامة، ولو كان الضمان واجبًا، لبينه؛ لأن الضمان من أحكام الدنيا، فالحاجة إليه أمسّ. قال: والمذكورُ جميعُ جزائه، فمن زاد عليه، كان نسخًا، وذلك لا يجوز بالقياس، وإطلاق لفظ الغصب عليه لا يدلُّ على تحقق الغصب الموجب للضمان، كما أنّه -عليه السلام- أطلق لفظَ البيع على الحرّ بقوله: "من باع حُرًّا" (¬2)، ولا يدل على ذلك؛ أي: البيع الموجب لحكم، على أنه جاء في "الصحيحين" بلفظ: "أخذ"، فقال: "من أخذ شبرًا من الأرضِ ظلمًا"، فعُلم أنّ المراد من الغصب الأخذُ ظلمًا لا غصبًا موجبًا للضمان، ثم أورد على نفسه حديث: "على اليد ما أخذت حتى ترده" (¬3)، وأجاب: ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 298 - 299). (¬2) رواه البخاري (2114)، كتاب: البيوع، باب: إثم من باع حرًا، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أبو داود (3561)، كتاب: الإجارة، باب: في تضمين العارية، والترمذي (1266)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في أن العارية مؤداة، وابن ماجة (240)، كتاب: الصدقات، باب: العارية، من حديث سمرة - رضي الله عنه -.

بأنّ هذا بالمنقول أولى؛ لأن الأخذ حقيقة لا يتصور في العقار؛ لأن حدّ الأخذ أن يصير المأخوذ تبعًا ليده، كذا قال (¬1). قلتُ: لا يخفى ما في هذا الكلام على من له أدنى إلمام، فإنّ حديث البعير والشاة يدلُّ على ردّ ما ادّعاه من كون التطوق بالأرض جزاء غصبها، وحمله حديث: "على اليد ما أخذت حتى تردّه" على المنقول تحكُّم، والله الموفق. الثاني: في الحديث دليلٌ على أنّ من ملك أرضًا تملك أسفلَها إلى منتهاها، فله أن يمنع من حفر تحتها سربًا، أو بئرًا، سواء أضرّ ذلك بأرضه، أو لا. قال الحافظ ابن الجوزي: لأن حكم أسفلها تبع لأعلاها، وعلى ذلك، فله أن ينزل بالحفر ما شاء، ما لم يضر بأحد. واستدل الداودي على أنّ السبع أرضين بعضها على بعض، لم يفتق بعضها من بعض، قال: لأنها لو فتقت، لم يطوق منها ما ينتفع به غيره. وقيل: بين كل أرض وأرض خمس مئة عام مثل ما بين كل سماء وسماء (¬2). وفي الحديث: دليل على أنّ الأرضين سبع كما قال تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، وأجاب من خالف ذلك بأنْ حملَ سبعَ أرضين على سبع أقاليم (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 298 - 299). (¬2) المرجع السابق، (12/ 298). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 227).

الثالث: لا يحصل الغصب من غير استيلاء، فلو دخل أرضَ إنسان أو دارهَ، لم يضمنها بدخوله، سواء دخلها بإذنه، أو بغير إذنه، وسواء كان صاحبها فيها، أو لم يكن، وقال بعض الشافعية: إن دخلها بغير إذنه، ولم يكن صاحبها فيها، ضمنها، سواء قصد ذلك، أو ظنّ أنّه داره، أو دارٌ أُذن له في دخولها؛ لأن يد الدّاخل تثبت عليها بذلك، فيصير غاصبًا، فإن الغصب إثباتُ اليد العادية، وهذا قد أثبت يده، بدليل أنهما لو تنازعا في الدار، ولا بينة، حكم لمن هو فيها دون الخارج منها. ولنا: أنه غير مستولٍ عليها، فلم يضمنها، كما لو دخلها بإذنه، أو دخل حميراه، ولأنه إنما يضمن بالغصب ما يضمنه بالعارية، وهذا لا تثبت به العارية، ولا يجب به الضمان فيها، فكذلك لا يثبت به الغصب إذا كان بغير إذنه (¬1)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (5/ 375 - 376).

باب اللقطة

باب اللقطة قال في "المطلع": اللُّقَطَة: اسمٌ لما يُلقط، وفيها أربع لغات نظمها ابنُ مالك في قوله: [من الرجز] لُقَاطَةٌ وَلُقْطَةٌ وَلُقَطَهْ ... وَلَقْطَةٌ مَا لاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ فالثلاث الأُول: بضم اللام، والرابع: بفتح اللام [تسكين] والقاف. وروي عن الخليل: اللُّقَطة -بضم اللام وفتح القاف-: الكثيرُ الالتقاط، و -بسكون القاف-: ما يُلتَقط (¬1). قال أبو منصور: وهو قياس اللغة؛ لأن فُعَلَة -بفتح العين- أكثر ما جاء فاعل (¬2)، وبسكونها مفعول، كضُحَكَة: للكثير الضحك، وضُحْكة: لمن تضحك منه (¬3)، انتهى. وذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- في هذا الباب حديثًا واحدًا، وهو ما أشير إليه بقوله: ¬

_ (¬1) انظر: "العين" للخليل (5/ 100). (¬2) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" لأبي منصور الأزهري (ص: 264). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 282).

عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ اللُّقَطَةِ، الذَّهَبِ أَوِ الوَرِقِ؟ فَقَالَ: "اعْرِفْ وِكَاءَها وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنةً، فَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ، فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتكُنْ عِنْدَكَ وَدِيعَةً، فَإنْ جَاءَ إِلَيْهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَأَدِّهَا إِلَيْهِ"، وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الإِبِل، فَقَالَ: "مَالَكَ وَلَهَا؟! دَعْهَا، فَإِنَّ مَعَهَا حِذاءَهَا وَسِقَاءَها، تَرِدُ المَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حتَّى يَجِدَهَا رَبُّها"، وَسَأَلَهُ عَنِ الشَّاةِ، فَقَالَ: "خُذْهَا، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (91)، كتاب: العلم، باب: الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، و (2243) كتاب: المساقاة، باب: شرب الناس والدواب من الأنهار، و (2295)، كتاب: في اللقطة، باب: ضالة الإبل، و (2296)، باب: ضالة الغنم، و (2297)، باب: إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لين وجدها، و (2304)، باب: إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه لأنها وديعة عنده، و (2306)، باب: من عَرَّف اللقطة ولم يدفعها إلى السلطان، و (4986)، كتاب: الطلاق، باب: حكم المفقود في أهله وماله، و (5761)، كتاب: الأدب، باب: ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله، ومسلم (1722/ 5)، واللفظ له، و (1722/ 81)، في أول كتاب: اللقطة، وأبو داود (1704 - 1707)، في أول كتاب: اللقطة، والترمذي (1372 - 1373)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في اللقطة وضالة الإبل والغنم، وابن ماجة (2507)، كتاب: اللقطة، باب: اللقطة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 243)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 135)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 5)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 20)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 239)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1217)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 257)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 78)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 157)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 242)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 94)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 89).

(عن) أبي عبد الرحمن (زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ) الصحابي (- رضي الله عنه -)، والجُهَني -بضم الجيم وفتح الهاء- نسبة إلى جُهينةَ بنِ زيدِ بنِ ليثِ بنِ سُود -بضم السين المهملة- بن أسلُم -بضم اللام- ابنِ الحافِ بنِ قضاعةَ. وكان زيد حامل لِواء جهينة يومَ الفتح، توفي بالمدينة كما قال النووي، وقيل: في الكوفة سنة ثمان وستين، وقيل: سنة اثنتين وسبعين، ويقال: مات في آخر خلافة معاوية، وهو ابن خمسٍ وثمانين سنة. رُوي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ وثمانون حديثًا، اتفقا على خمسة، وانفرد مسلم بثلاثة (¬1). (قال) زيدُ بنُ خالدٍ المذكورُ: (سُئل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -). قال البرماوي: قال الضيعي شارح "العمدة": إنّ هذا السائل هو بلالُ بنُ رباحٍ مؤذِّنُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نظر فيه البرماوي بما في بعض روايات البخاري، قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عمّا يلتقطه، الحديث، وبلال لا يقال فيه: جاء أعرابي، انتهى. وقال غيره: زعم ابن بشكوال أنَّ هذا السائل هو بلال، وعزاه لأبي داود (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 344)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 562)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 139)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 549)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 355)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 199)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 63)، و"الإصابة في تمييز الصّحابة" لابن حجر (3/ 602)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 354). (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 841 - 842).

وردّ عليه الحافظ ابن حجر في "الفتح" بأنه ليس في نسخ أبي داود شيء من ذلك، قال: وفيه بُعد أيضًا؛ لأنه لا يوصف بأنه أعرابي، ثم قال: فإن أبا داود روى هذا الحديث بطرقٍ كثيرةٍ، وليس فيه ما عزاه ابن بشكوال إليه، وإنما لفظه: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن اللقطة، وليس لبلال ذكر أصلًا. ثمّ قال: الحافظ: ثم ظفرتُ بتسمية السائل، وذلك فيما أخرجه الحُميدي، والبغوي، وابن السَّكن، والباوردي، والطبراني، كلهم من طريق محمد بن معن الغفاري، عن ربيعة، عن عقبة بن سويد الجهني، عن أبيه، قال: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة، فقال: "عرفها سنة، ثم أوثق وعاءها"، الحديث (¬1)، قال: وهو أَولى ما فسرّ به هذا المبهم، لكونه من رهط زيد بن خالد الجهني (¬2)، وتعقبه البدر العيني بما لا طائل تحته (¬3). (عن اللقطة الذهب أو الورق) متعلق بسُئل، وتقدم أنّ الورق المراد به: الفضة، وهو -بكسر الراء وقد تسكن-، وفي حديث عرفجة لمّا قطع أنفه اتخذ أنفًا من وَرِقٍ، فأنتن، فاتّخذ أنفًا من ذهب (¬4)، وقد حكى القتيبي عن ¬

_ (¬1) رواه الطَّبرانيُّ في "المعجم الكبير" (4/ 168 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والبغوي في "معجم الصحابة" (1/ 291). وقد روى أبو داود (1708)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 362) طرفًا منه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 80 - 81). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 269). (¬4) رواه أبو داود (4232)، كتاب: الخاتم، باب: ما جاء في ربط الأسنان بالذهب، والنسائي (5161)، كتاب: الزينة، باب: من أصيب أنفه هل يتخذ أنفًا من ذهب، والترمذي (1770)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في شد الأسنان بالذهب.

الأصمعي: أنّه إنّما اتّخذ أنفًا من وَرَق -بفتح الراء- أراد: الورق الذي يُكتب فيه، قال: لأنّ الفضة لا تنتن، قال القتيبي: وكنت أحسب أن قول الأصمعي: إنّ الفضة لا تنتن صحيحٌ حتى أخبرني بعض أهل الخبرة أن الذهب لا يُبليه الثرى، ولا يصدئه الندى، ولا تنقصه الأرض، ولا تأكله النار، فأمّا الفضة، فإنها تبلى، وتصدأ، ويعلوها السواد، وتنتن (¬1). ثم إن الذهب والفضة في الحديث ليس بقيد، بل هو كالمثال، فإنَّ حكمَ غيرهما كحكمِهما، وقد وقع في رواية لأبي داود: سُئل عن النفقة (¬2)، (فقال) - صلى الله عليه وسلم - للسائل: (اعرفْ وِكاءَها) -بكسر الواو وبالمد-، وهو الخيطُ الذي يُشد به رأس الكيس أو الصرّة أو غيرهما، يقال: أوكيته إيكاء، فهو مُوكًى -بلا همز- (¬3). زاد في حديث أُبي بن كعب - رضي الله عنه - عندهما: قال: أخذتُ مرّة مئة دينار، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، الحديث، وفيه: فقال: "احفظ وعاءها وعددها ووكاءها" (¬4)، فالوعاء -بكسر الواو، وقد تُضم، وبالمد-، وقرأ الحسن بالضم من قوله تعالى: {وِعَاءِ أَخِيهِ} (¬5) [يوسف: 76]، وقرأ سعيد بن ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 174). (¬2) كذا في الأصل: "النفقة"، وهكذا هي الكلمة في "عمدة القاري" للعيني (12/ 269) الذي نقل عنه الشارح -رحمه الله-، والذي في "سنن أبي داود": سئل عن اللقطة. (¬3) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (15/ 405)، (مادة: وكي). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 266)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬4) رواه البخاري (2294)، كتاب: اللقطة، باب: وإذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه، ومسلم (1723)، في أوائل كتاب: اللقطة. (¬5) انظر: "إتحاف الفضلاء" للدمياطي (ص: 266). وانظر: "معجم القراءات القرآنية" (3/ 184).

جبير: {إعاء أخيه} بقلب الواو همزة مكسورة (¬1)، والوعاء: ما يُجعل فيه الشيء، سواء كان من جلد، أو خِرَق، أو خشب، أو غير ذلك، ويقال: الوعاء: هو الذي تكون فيه النفقة، وقال ابن القاسم: هو الخرقة (¬2). وقال في "المطلع": ما يجعل فيه المتاع (¬3). (وعِفاصها) -بكسر العين المهملة وتخفيف الفاء، وبالصاد المهملة-. قال في "شرح المقنع": العِفاص: الوعاء الذي هي فيه من خرقة أو قرطاس أو غيرهما، قاله أبو عبيد (¬4)، قال: والأصل في العفاص أنه الجلد الذي يلبسه رأس القارورة (¬5). وقال البدر العيني: العِفاص: الوعاء الذي تكون فيه النفقة، سواء كان من جلدٍ، أو خرقة، أو حرير، أو غيرهما، واشتقاقه من العفص، وهو الثني والعطف؛ لأن الوعاء يُثنى على ما فيه (¬6). ووقع في "زوائد المسند" للإمام عبد الله بن الإمام أحمد، عن طريق الأعمش، عن سَلَمة من حديث أُبي بن كعب - رضي الله عنه -: "وخرقتها" (¬7) بدل "عفاصها". والحاصل: أنّ تفسير العفاص بالوعاء أصح وأثبت، وهو الذي تدل عليه الأحاديث. ¬

_ (¬1) انظر: "معجم القراءات القرآنية" (3/ 184). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 266). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 283). (¬4) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 201). (¬5) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 318). (¬6) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 269). (¬7) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "زوائد المسند" (5/ 127).

(ثم) بعد معرفة ما ذكر (عرفها سنةً) نهارًا متواليًا، ويكون بعد أخذها على الفور بالنداء عليها بنفسه، أو نائبه، في مجامع للناس، كالأسواق، والجماعات، وأبواب المساجد، أدبار الصلوات، ويُكره في المساجد، ويُكثر منه في موضع وجدانها، وفي الوقت الذي يلي التقاطها حولًا كاملًا نهارًا كلّ يوم مرّة أسبوعًا، ثمّ مرّة من كل أسبوع من شهر، ثم مرّة في كل شهر، ولا يصفها، بل يقول: من ضاع منه شيء أو نفقة؟ (¬1) وكون التعريف حَوْلًا هو ما رُوي عن عمر، وعلي، وابن عبّاس - رضي الله عنهم -، وبه قال ابن المسيب، والشعبي، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي. وقيل: بل يعرفها ثلاثة أعوام؛ لأن أُبي بن كعب عرفها ثلاثة أعوام بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). والجواب عنه: أن الراوي قال: لا أدري، ثلاثة أعوام، أو عام واحد؟ قال أبو داود: شك الراوي في ذلك (¬3). وقال ابن بطال: لم يقل أحد من أئمة الفتوى بظاهره بأن اللقطة تعرّف ثلاثة أحوال (¬4)، (فإن لم تُعرَف) اللقطة -بضم التاء المثناة فوق، مبنيًا لما لم يسم فاعله-؛ أي: إن لم يعرفها أحد (فاستنفِقْها) استفعالٌ من الإنفاق، وباب الاستفعال للطلب، لكن الطلب على قسمين: صريح، وتقديري، ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 45 - 46). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 343). (¬3) انظر: "سنن أبي داود" (2/ 134). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 267).

والمراد هنا: الطلب التقديري، كذا قال العيني (¬1). قلتُ: المراد بالأمر هنا: الإباحة. قال علماؤنا ومن وافقهم: وإذا عرّفها فلم تُعرف، دخلت في ملكه بعد الحول حكمًا، كالميراث، ولو عروضًا، كأثمان، ولو لقطة الحرم، أو كان سقوطها من صاحبها بعُدْوان غيره. قالوا: لا يجوز التصرف فيها حتى يعرف وعاءها، وهو ظرفُها، كيسًا كان أو غيره، ووكاءها، وهو الخيط الذي تُشد به، وعِفاصَها، وهو الشد والعقد؛ أي: صفتهما وقدرهما، وجنسها، وصفتها؛ أي: يجب معرفة ذلك عند إرادة التصرف فيها، ويسن ذلك عند وجدانها، وإشهاد عدلين عليها، لا على صفتها، فمتى جاء طالبها، فوصفها، لزم دفعُها إليه إن كانت عنده، ولو بلا بينة ولا يمين، ظن صدقه، أو لا، فإن وجدها قد خرجت عن الملتقِط ببيعٍ أو بغيره بعد ملكها، فلا رجوع، وله بدُلها، فإن أدركها مبيعةً بيعَ خيار للبائُع، أولهما في زمنه، وجب الفسخ، أو مرهونةً، وجب انتزاعها، ويأخذها ربُّها بنمائها المتصلِ، فأما المنفصلُ قبل مضي الحول، فلمالكها، وبعدَه لواجدها. ووارثُ ملتقِطٍ كهو في تعريف وغيره. وإن تلفت أو نقصت أو ضاعت قبل مضي الحول، لم يضمنها بلا تفريط؛ لأنها في يده أمانة، وبعده يضمنها -وإن لم يفرّط- بمثل مثلية، وقيمة متقومة (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (12/ 269). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 46 - 48).

قال في "الإقناع": وإن كان لا يرجى وجود صاحب اللقطة، لم يجب تعريفها في أحد القولين (¬1)، نظرًا إلى أنه كالعبث. وظاهر كلام "التنقيح" (¬2)، و"المنتهى" (¬3)، وغيرهما: يجب، وكذا قال مالك والشافعي: تُملك جميع اللقطات بعد حول التعريف، سواء كان غنيًا، أو فقيرًا، وسواء كانت اللقطة أثمانًا، أو عروضًا. وقال مالك: هو بالخيار من أن يتركها في يده أمانة، وإن تلفت، فلا ضمان عليه، وبين أن يتصدّق بها بشرط الضمان، وتصير دينًا في ذمته. وقال: أبو حنيفة: لا يملك شيئًا الملتقط من اللقطات، قال: ولا يُنتفع بها إذا كان الملتقط غنيًا، فإن كان فقيرًا، جاز له الانتفاع بها بشرط الضمان، فأمّا الغني، فإنه يتصدق بها بشرط الضمان (¬4). وشرط كون الفقير من غير ذوي القربى، واستدل بما روى أبو داود، والنسائي، وابن ماجة من حديث عياض بن حمار المجاشعي - رضي الله عنه -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وجد لقطة، فليُشهد عليها ذَوَي عدل، ولا يكتم، ولا يغيب، فإن وجد صاحبها، فليردّها عليه، وإلّا، فهي مال الله يؤتيه من يشاء" (¬5)، قالوا: وما يضاف إلى الله تعالى إنما يتملكه من يستحق الصدقة. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 46). (¬2) انظر: "التنقيح" للمرداوي (ص: 246). (¬3) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (3/ 301). (¬4) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 63 - 64). (¬5) رواه أبو داود (1709)، كتاب: اللقطة، والنسائي في "السنن الكبرى" (5808)، وابن ماجة (2505)، كتاب: اللقطة، باب: اللقطة.

ونقل حنبل عن الإمام أحمد مثلَ هذا، وأنكره الخلال، وقال: ليس هذا مذهبًا لأحمد (¬1). (ولتكن) اللقطةُ بعد حول التعريف (عندَك) أيها الملتقِط لها (وديعةً) بعد استنفاقك لها، وتسميتُها حينيذٍ بذلك مجاز، فإنها تدل على الأعيان، وإذا استنفق اللقطة، لم تكن عينًا، فتجوز بلفظ الوديعة عن كون الشيء بحيث يُرد إذا جاء ربه (¬2)، وقد شك يحيى بن سعيد الأنصاري في قوله: "ولتكن عندك وديعة"، وفي لفظ: "وكانت وديعة عنده" (¬3)؛ أي: الملتقط، هل هو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لا؟ ثمّ جزم يحيى بأنه من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أشار البخاري إلى ثبوتها من حديثه - صلى الله عليه وسلم - مترجمًا بقوله: "إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة، ردّها عليه؛ لأنها وديعة عنده" (¬4)، (فإن جاء إليها)؛ أي: اللقطة، وفي لفظ: "فإن جاء ربُّها" (¬5)، وفي آخر: "فإن جاء صاحبها" (¬6)، وفي آخر: "فإن جاء من يُعرّفها" (¬7) (يومًا من الدهر)؛ أي: يومًا من أيام الزمان، سواء كان قبل مضي حول التعريف، أو بعده، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 349). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 241). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2296). (¬4) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 858). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 271). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (91، 2304، 5761)، ومسلم برقم (1722/ 2). (¬6) تقدّم تخريجه عند البخاري برقم (2243، 2297)، ومسلم برقم (1722/ 2، 6 - 7). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4986).

(فأدّها)؛ أي: اللقطة (إليه) حيث تبين كونه صاحبَها بوصفه لأماراتها التي عرفها الملتقط. قال ابن بطال: إذا جاء صاحب اللقطة بعد الحول، لزم ملتقطَها أن يردها إليه، وعلى هذا إجماع أئمة الفتوى. قال: وزعم بعض من نسب نفسه إلى العلم: أما لا تؤدَّى إليه بعد الحول، استدلالًا بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "فشأنك بها"، قال: فهذا يدل على ملكها. قال: وهذا القول يؤدي إلى تناقض السنن، إذ قال: "فأدّها إليه" (¬1). والمراد: أنه إذا استنفقها، أو تلفت عنده بعد دخولها في ملكه، فإنه يضمنها لصاحبها إذا جاء، ويدل عليه ما في رواية بسر بن سعيد عن زيد بن خالد - رضي الله عنه -: "فإن جاء صاحبها. . . إلخ" بعد قوله: "كلها" (¬2) يقتضي وجوب ردّها بعد أكلها، فيحمل على ردّ البدل، وفي لفظ: "فإذا جاء صاحبها، فأدّه"، فأمره -عليه السلام- بأدائها بعد الهلاك، لدخولها في ملكه، وأما قبل حول التعريف، فلا يضمنها إن هلكت من غير تعدٍّ ولا تفريط؛ لأنها أمانة كالوديعة (¬3). وفيه دليل على التقاطها، ووجوب نيّة الرّد على المالك إذا تبين كونه صاحبها (¬4). واختلف الفقهاء هل يتوقف وجوب ردّ اللقطة على من جاء، فزعم أنه ¬

_ (¬1) نقله العيني في "عمدة القاري" (12/ 272). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 272). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 241 - 242).

ربّها، على إقامة بينة؟ أو يكتفى بوصفه لأمارتها؟ (¬1) فمعتمد مذهب الإمام أحمد: أنه إذا وصفها بصفاتها المذكورة، دفعها إليه، سواء غلب على ظنه صدقُه، أو لم يغلب، وبهذا قال مالك. وقال الشافعي: لا يجبر على ذلك إلّا ببيّنة، ويجوز له دفعها إليه إذا غلب على ظنه صدقه. وقال أصحاب الرأي: إن شاء دفعها إليه، وأخذ كفيلًا بذلك. ولنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن جاءك أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها، فادفعها إليه" (¬2). قال ابن المنذر: هذا الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبه أقول. وفي حديث أبي بن كعب، وهو في "الصحيحين" زيادة لمسلم: "فإن جاءك أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها، فأعطها إياه" (¬3)، والأحاديث في مثل ذلك متعددة، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - البيّنة في شيء منها، ولو كانت شرطًا للدفع، لم يجز الإخلال به، والأمر بالدفع بدونه، ولأن إقامة البيّنة على اللقطة يتعذّر؛ لأنها إنما تسقط بحال الغفلة والسهو، فتوقفُ دفعِها إلى البيّنة منعٌ لوصولها إلى صاحبها أبدًا، وبه يفوت مقصود الالتقاط، ويفضي إلى تضييع أموال الناس، وما هذا سبيله يسقط اعتبار البيّنة فيه، كالإنفاق على اليتيم، ويلزم القائلَ بهذا أَلَّا يحيى الالتقاط؛ لأنه يكون حينيذٍ تضييعًا لمال المسلم يقينًا، وإتعابًا لنفسه بالتعريف الذي لا يفيد، والمخاطرة بدِينه ¬

_ (¬1) المرجع السابق (3/ 242). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1723) من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه -. (¬3) تقدم تخريجه.

بتركه الواجب من تعريفها، وما هذا سبيله يجب أن يكون حرامًا، فكيف يكون مباحًا، فضلًا عن كونه فاضلًا؟ وتعلل القائلون بالبيّنة بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البيّنة على المدّعي" (¬1)، وهذا مدّعي. قلنا: أجل، ولكن جعل - صلى الله عليه وسلم - بيّنةَ اللقطة وصفَها، فإذا وصفها، فقد أقام بيّنته، فإنّ البيّنة تختلف، فإن وصفها اثنان، أقرع بينهما، فمن وقعت له القرعة، حلف أما له، وسُلّمت إليه، وهكذا إن أقاما بيِّنتين. وقال أبو الخطّاب: فيما إذا وصفها اثنان، تقسم بينهما؛ لأنهما تساويا فيما يستحقانه تساويًا فيها كما لو كانت في أيديهما. والمذهب: الأول، وإن وصفها اثنان، فأقام آخر بيّنة أما له، فهي لصاحب البيّنة؛ لأنها أقوى من الوصف. فإذا كان الواصف قد أخذها، انتُزعت منه، ورُدّت إلى صاحب البيِّنة؛ لأنا تبيّنا أما له، فإن كانت قد هلكت، فلصاحبها تضمين من شاء من الواصف والدافع إليه، وبهذا قال أبو حنيفة، والشافعي. وقيل: لا يلزم الملتقطَ شيء، وهو قول أبي القاسم صاحب الإمام مالك، وأبي عبيد (¬2). قال زيد بن خالد الجهني: (وسأله)؛ أي: سأل السائل المتقدم ذكره النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - (عن ضالة الإبل)؛ أي: عن حكم التقاطها، يعني: هل يجوزُ التقاطها أم لا؟ ومثلُ الإبل كلُّ حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 356 - 357، 363).

ويقدر على ورود الماء، (فقال) له - صلى الله عليه وسلم -: (مالكَ ولها؟) يعني: ليس لك هذا، ويدل عليه ما في الرِواية الأخرى: "فذرها حتى يلقاها ربّها" (¬1) (دعها) عنك، ولا تعرض لها، (فإن معها) ضالة الإبل، والفاء لتعليل القول (حِذاءها) -بكسر الحاء المهملة وبالذال المعجمة، ممدودًا-؛ أي: خُفَّها، (وسقاءها) -بكسر السين المهملة-، وهو في الأصل ظرف الماء من الجلد، والمراد هنا جوفها، وذلك لأنها إذا شربت يومًا، فإنها تصبر أيامًا على العطش، وقيل: المراد: عنقها؛ لأنها تتناول المآكيل بغير تعب، لطول عنقها، فلا تحتاج إلى ملتقط (¬2). قال في "شرح المقنع": كل حيوان يقوى على الامتناع من صغار السباع، وورود الماء لا يجوز التقاطه، ولا التعرض له، سواء كان لكبر جثته، كالإبل والخيل والبقر، أو لطيرانه، كالطيور كلّها، أو لسرعته، كالظباء والصيود، أو بنابه، كالكلاب والفهود (¬3). وقال الحافظ ابن الجوزي: الخيل والإبل والبقر والبغال والحمر والظباء لا يجوز عندنا التقاطها، إلا أن يأخذها الإمام للحفظ (¬4). قال في "شرح المقنع": قال عمر - رضي الله عنه -: من أخذ ضالة، فهو ضال؛ أي: مخطىء، وبهذا قال الشافعي، والأوزاعي، وأبو عبيد. وقال مالك، والليث في ضالَّة الإبل: من وجدها في القرى، عرفها، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (91). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 83)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 270). (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 321). (¬4) انظر: "المذهب الأحمد" لابن الجوزي (ص: 109). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 270)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-.

ومن وجدها في الصحراء، لا يقربها، ورواه المزني عن الشافعي، وكان الزهري يقول: من وجد بدنة، فليعرفها، فإن لم يجد صاحبها، [فلينحرها] (¬1). وقال أبو حنيفة: هي لقطة يباح التقاطها؛ لأنها لقطة أشبهت الغنم (¬2). قال البدر العيني في "شرح البخاري": واختلف العلماء في ضالة الإبل هل تؤخذ؟ على قولين: أحدهما: لا يأخذها، ولا يعرفها، قاله مالك، والأوزاعي، والشافعي، لنهيه -عليه السلام- عن ضالة الإبل. الثاني: أخذها وتعريفها أفضل، قاله الكوفيون؛ لأن تركها سبب لضياعها. وفيه قولٌ ثالث: إن وجدها في القرى، عرّفها، وفي الصحراء لا يعرّفها (¬3)؛ أي: ولا يأخذها. قال في "شرح المقنع": قد قال - صلى الله عليه وسلم - لمّا سُئل عن هوامي الإبل: "ضالّة المسلم حرق النار" رواه النسائي، وابن ماجة (¬4)، وروي عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -: أنه أمر بطرد بقرةٍ لحقت ببقرهِ حتى توارت، ¬

_ (¬1) في الأصل: "فليخبر بها"، والمثبت في المطبوع من "المغني" لابن قدامة (6/ 31)، و"شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 321). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 321). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 270). (¬4) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (5790)، وابن ماجة (2502)، كتاب: اللقطة، باب: ضالة الإبل والبقر والغنم، عن عبد الله بن الشخير.

وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يأوي الضالة إلّا ضال" رواه أبو داود، ورواه النسائي، وابن ماجة (¬1). قلت: وفي "صحيح مسلم" من حديث زيد بن خالد الجهني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من آوى ضالّة، فهو ضال ما لم يعرّفها" (¬2). ولا يخفى أنّ حديث "الباب" كغيره من الأحاديث صرّحت بعدم التقاط ضالة الإبل، فقياسهم يعارضه صريحُ النّص، وكيف يجوز تركُ نصّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وصريحُ قوله بقياس نصّه في موضع آخر، على أنّ الإبل تفارق الغنم، لضعفها، وقلة صبرها عن الماء، قاله في "شرح المقنع" (¬3). وقد نصّ الإمام أحمد على أنّ البقر كالإبل، وهو قول الشافعي، وأبي عبيد. وحكي عن مالك: أنّ البقرة كالشاة. وقال ابن القاسم صاحب مالك: هي ملحقة بالإبل (¬4). قال في "شرح المقنع": ألحقَ أصحابنا بما لا يجوز التقاطُه الحمرَ؛ لأنّ لها أجسامًا عظيمة، فأشبهت البغال والخيل؛ لأنها من الدواب، فأشبهت البغال، قال: والأولى إلحاقها بالشاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل الإبل بأن معها ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1720)، كتاب: اللقطة، والنسائي في "السنن الكبرى" (5799)، وابن ماجة (2503)، كتاب: اللقطة، باب: ضالة الإبل والبقر والغنم. وانظر: "شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 321 - 322). (¬2) رواه مسلم (1725/ 12)، كتاب: اللقطة، باب: في لقطة الحاج. (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 322). (¬4) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 64 - 65)، و"شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 322).

حذاءها وسقاءها يريد: شدّةَ صبرها عن الماء، لكثرة ما توعي في بطونها منه، وقوتها على وروده، والحمرُ مساوية للشاةِ في علتها، فإنها لا تمتنع من الذئب، وتفارق الإبل في علّتها، فإنها لا صبر لها عن الماء، ولهذا يضرب المثل لقلّة صبرها عنه، فيقال: ما بقي من مدّته إلا ظِمْءُ حمار. وإلحاقُ الشيء بما ساواه في علّة الحكم، ولو فارقه في الصورة، أولى من إلحاقه بما يقاربه في الصورة، وفارقه في العلّة (¬1). وهذا اختيار الإمام الموفق كما نبَّه عليه في "الإقناع" (¬2)، و"الفروع" (¬3). وقد بيّن - صلى الله عليه وسلم - علّة عدم جواز التقاط الإبل بقوله: (ترد) الإبلُ الضالّةُ (الماء) بنفسها، يعني: ترد مناهل الماء غير مبالية من السباع، لعظم جثتها، ونفور صغار السباع منها، (وتأكل الشجر)؛ أي: تأكل من أوراق الشجر وأغصانه ما يكفيها ويقوم بها، ولا تزال كذلك (حتى)؛ أي: إلى أن (يجدها ربها)؛ أي: مالكُها. فيه: دليل على جواز أن يقال لمالك السلعة: ربّ السلعة، والأحاديث بذلك متضافرة، والأخبار به متظاهرة، إلّا أنّه قد نهى عن ذلك في العبد والأمة في الحديث الصحيح، فقال: "لا يقلْ أحدُكم: ربّي" (¬4). وقد اختلف العلماء في ذلك، فكرهه بعضهم مطلقًا، وأجازه بعضهم ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أي عمر (6/ 322). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 41 - 42). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (4/ 428). (¬4) رواه مسلم (2249)، كتاب: الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

مطلقًا، وفرق قوم في ذلك بين ما له روحٌ، وما لا روح له، فكره أن يقال: ربّ الحيوان، ولم يكره ذلك في الأمتعة. وصوّب البدر العيني تقييد الكراهة أو التحريم بجنس المملوك من الآدميين، فأما غير الآدمي، فقد ورد في عدّة أحاديث (¬1)، والله أعلم. (وسأله) - صلى الله عليه وسلم - (عن الشاة)، تقدَّمَ أنّ الشاة من الغنم، تذكر وتؤنّث، وفي لفظ: فضالّة الغنم؟ (¬2) أي: ما حكم ضالّة الغنم؟ (فقال) - صلى الله عليه وسلم - للسائل: (خذها) إذا وجدتها ضالّة، ثمّ علل ذلك بقوله: (فإنّما هي)؛ أي: الضالّة إذا وجدتها وأخذتها فهي (لك) إن أخذتها بشرط قصد تعريفها، فعرفتها، فلم تجد صاحبها (أو) هذه للتقسيمِ والتشريع (لأخيك) الذي هو مالكها، فإن وجدها عندك، وأراد به: الأخ في الدين، (أو الذئب)، يعني: إن تركتها ولم تأخذها لا أنت ولا غيرك، فهيْ طُعمة للذئب غالبًا؛ لأنها لا تحمي نفسها، وذكرُ الذئبِ مثالٌ، وليس بقيد، والمراد: جنسُ ما يأكل الشاة من السِّباع (¬3). فإن قلت: في الحديث التصريح بالأمر بالأخذ، مع أنّ الأفضل عند إمامكم ترك الالتقاط. قلت: هي مسألة خلاف بين الأئمة - رضي الله عنهم -: قال إمامنا - رضي الله عنه -: الأفضل تركُ الالتقاط، وقد رُوي معنى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر - رضي الله عنهم -، وبه قال جابر بن زيد، ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 271). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم. (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 270).

والربيع بن خثيم، وعطاء، ومرّ شريح بدرهم، فلم يعرض له (¬1)، والأمرُ محمول على الإباحة كما قدّمنا في أول الحديث. وقال في "شرح المقنع" معللًا لما اختاره الإمام أحمد: هو قول ابن عباس، وابن عمر، ولا نعرف لهما مخالفًا في الصحابة، ولأنه تعريض لنفسه لأكل الحرام، وتضييع الواجب من تعريفها وأداء الأمانة فيها، فكان تركه أولى وأسلم، كولاية مال اليتيم. قال: واختار أبو الخطاب: أنه إن وجدها بمضيعة، وأمن نفسه عليها، فالأفضل أخذُها، وهذا قول الشافعي، وحكي عنه قولٌ آخر: أنه يجب أخذها، لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]، فإذا كان وليّه، وجب عليه حفظُ ماله. وممن رأى أخذها: سعيدُ بن المسيب، والحسن بن صالح، وأبو حنيفة. وأخذها من الصحابة - رضي الله عنهم -: أبي بن كعب، وسويد بن علقمة. وقال مالك: إن كان شيئًا له بالٌ وخطر يأخذه أحبُّ إليَّ من تركه، حفظًا على صاحبه، ويعرّفه؛ لأن فيه حفظَ مال المسلم عليه، فكان أولى من تضييعه، كتخليصه من الغرق (¬2). وإن كان شيئًا يسيرًا من الدراهم، أو يسيرًا من المأكول، فهذا لا فائدة في أخذه، وإن أخذه، جاز. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (18625). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 330).

ومن حجة القائلين بأن الترك أفضل: ما رواه الطحاوي عن الجارود - رضي الله عنه -، فإنه صحابي، واسمه بشر بن معلى العبدي، ولقب بالجارود؛ لأنه أغار في الجاهلية على بكر بن وائل، فأصابهم، وجرّدهم، وقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العاشرة في وفدِ عبد قيس، فأسلم، وكان نصرانيًا، ففرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه، وأكرمه، وقرّبه، قال الجارود: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضالّة المسلم حرق النار"، وأخرجه النسائي، والطبراني (¬1). وأجاب من استحبَّ أخذها عن الحديث بحمله على أخذها لغير التعريف، وقد بيّن ذلك ما روي عن الجارود -أيضًا-، قال: قد كنا أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن على إبلٍ عِجاف، فقلنا: يا رسول الله! إنا قد نمر بالجرف، فنجد إبلًا، فنتركها، فقال: "إنَّ ضالّة المسلم حرق النار"، فكان سؤالهم عن أخذها لركبها لا لتعريفها، فأجابهم بأن قال: "ضالّة المسلم حرق النار"، كذا قال: الطحاوي (¬2)، وهذا على جواز التقاط الضوال من الإبل ونحوها، كما هو مذهب أبي حنيفة، وقد علمتَ نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التقاطها، وتوعد عليه. تنبيهات: منها: لو وُجد محرَّمٌ التقاطُه بمهلكة، كأرض مسبعة، أو قريبًا من دار حرب، أو بموضع يستحل أهله أموالنا، أو ببريّة لا ماء فيها ولا مرعى، ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 133)، والنسائي في "السنن الكبرى" (5793)، والطبراني في "المعجم الكبير" (2109). (¬2) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 133). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 280).

فالأولى جواز أخذه لحفظه، استنقاذًا لا لقطة (¬1). وفي "الإنصاف": لو قيل: بوجوبه إِذًا، لكان له وجهٌ (¬2). وفي "شرح المقنع": الأولى جواز أخذها للحفظ، ولا ضمان على آخذها؛ لأن فيه إنقاذها من الهلاك، فأشبه تخليصها من غرقٍ أو حريق، فإذا حصلت في يده، سلمها إلى نائب الإمام، وبرىءَ من ضمانها، ولا يملكها بالتعريف؛ لأن الشرع لم يرد بذلك فيها (¬3). ومنها: أنّ من ترك دابة، لا عبدًا ومتاعًا بمهلكة أو فلاة تركَ إياس، لانقطاعها، أو عجزه عن علفها، ملكها آخذها، وبه قال الليث، والحسن بن صالح، وإسحاق، لا إن تركها ليرجع إليها، أو ضلّت منه. وقال مالك: هي لمالكها، والآخرُ متبرع بالنفقة، لا يرجع بشيء؛ لأنه ملك غيره، فلم يملكه بغير عوض من غير رضاه، كما لو كانت في غير مهلكة، ولا يملك الرجوع؛ لأنه أنفق على مال غيره بغير إذنه، فلم يرجع بشيء، كما لو بنى داره. ولنا: ما روى الشعبي: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وجد دابّة قد عجز عنها أهلها فسيبوها، فأخذها فأحياها، فهي له". قال عبدُ الله بنُ حُميدِ بنِ عبد الرّحمن: فقلت -يعني: للشعبي-: من حدّثك بهذا؟ قال: غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رواه أبو داود بإسناده (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 33). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (6/ 403). (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 324). (¬4) رواه أبو داود (3524)، كتاب: الإجارة، باب: فيمن أحيا حسيرًا.

وفي لفظٍ عن الشعبي، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من ترك دابّة بمهلكة، فأحياها رجل، فهي لمن أحياها" (¬1)، ولأنه لما أحياها وأنقذها من الهلاك، ملكها، حفظًا للمال عن الضياع، ومحافظةً على حرمة الحيوان، وفي القول بأنها لا تملك تضييع لذلك كله من غير مصلحة تحصل، ولأنه تركه رغبةً عنه، وعجزًا عن أخذه، فملكه آخذه، كالساقط من ابن السبيل، وسائرِ ما ينبذه الناس رغبةً عنه، بخلاف ما إذا كان المتروك متاعًا، فخلصه إنسان، فإنه لا يملكه؛ لأنه لا حرمة له في نفسه، ولا يخشى عليه التلف، كالخشبة، وأما الحيوان، فإنه يموت إذا لم يطعم ويسق، وتأكله السباع، والمتاعُ يبقى حتى يرجع إليه صاحبه، وفيما إذا كان المتروك عبدًا، فإنه لا يملك بأخذه أيضًا؛ لأن العبد في العادة يمكنه التخلص إلى الأماكن التي يعيش فيها، بخلاف البهيمة، وله أخذ العبد والمتاع ليخلصه لصاحبه، وله أجر المثل، نصّ عليه الإمام أحمد في تخليص المتاع، وقيس عليه العبد (¬2). ومعتمد المذهب: لا يسوغ له الرجوع إلّا بأجرة حمل متاع، وبنفقة واجبة حيث نوى الرجوع. ومنها: لو أخذ ما يلقى في البحر خوفًا من الغرق، فهل يملكه آخذه؛ لأنه نُبذ وتُرك تركَ إياس، أو لا؟ قال في "الإقناع": لا يملكه آخذه (¬3). وقال الحارثي: نصّ عليه. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (22388). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 325 - 326). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 32).

وقيل: يملكه آخذه، قدّمه في "الفائق"، و"الرعايتين"، وصححه في "النظم"، وقطع به في "التنقيح" (¬1)، و"المنتهى" (¬2)، و"الغاية" (¬3)، وأشار لخلاف "الإقناع". قلت: كلام صاحب "الإقناع" -في آخر إحياء الموات- صريح بأنه لا يملكه آخذه (¬4)، وأما في أول باب اللقطة، فإن ظاهره: أنه يملكه، حيث قال: وإن ترك دابّة بمهلكة أو فلاة تركَ إياس. . . إلخ، ملكها آخذها إلّا أن يكون تركها ليرجع إليها، أو ضلّت عنه، وكذا ما ألقي خوف الغرق (¬5)؛ أي: في البحر، فيملكه آخذه؛ لأن مالكه ألقاه باختياره، فأشبه المنبوذ رغبةً عنه، كما في "التنقيح" (¬6)، و"المنتهى" (¬7)، وغيرهما، فهو مخالف لما قدّمه في إحياء الموات، ويحتمل أنه أراد التشبيه المستثنى، فلا مخالفة حينيذٍ، قاله في "شرحه" (¬8)، وعلى كل، فالمعتمد: أنه يملكه آخذه، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "التنقيح" للمرداي (ص: 245). (¬2) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (3/ 299 - 300). (¬3) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (4/ 219). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 32). (¬5) المرجع السابق، (3/ 41). (¬6) انظر: "التنقيح" للمرداوي (ص: 245). (¬7) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (3/ 300). (¬8) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 210).

باب الوصايا

باب الوصايا جمع وصية. قال ابن القطاع: يقال: وَصَيْتُ إليه وِصاية، ووَصيَّة، ووَصَّيته، وأوصيته، وإليه، ووصَيْتُ الشيء بالشيء وصيًا: وصلته. قال الأزهري: سُميت الوصية وصيةً؛ لأن الميت لما وصى بها، وصل ما كان فيه من أيام حياته بما بعده من أيام مماته، يقال: وصَّى، وأوصى بمعنى (¬1)، والاسم: الوصية والوصاة (¬2). وهي شرعًا: الأمر بالتصرف بعد الموت، وبمال التبرع به بعد الموت (¬3). وذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب ثلاثة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 271). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 294). (¬3) انظر؛ "الإقناع" للحجاوي (3/ 127).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَا حَقُّ امْرىءٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ" (¬1). زَادَ مُسْلِمٌ: قَالَ ابنُ عُمَر: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ ذَلِكَ، إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2587)، كتاب: الوصايا، باب: الوصايا، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وصية الرجل مكتوبة عنده"، ومسلم (1627/ 1 - 4)، في أول كتاب: الوصية، وأبو داود (2862)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في ما يؤمر به من الوصية، والنسائي (3615 - 3619)، كتاب: الوصايا، باب: الكراهية في تأخير الوصية، والترمذي (974)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الحث على الوصية، و (2118)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الحث على الوصية، وابن ماجة (2699، 2702)، كتاب: الوصايا، باب: الحث على الوصية. (¬2) رواه مسلم (1627/ 4)، في أول كتاب: الوصية، والنسائي (3618)، كتاب: الوصايا، باب: الكراهية في تأخير الوصية. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 81)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 265)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 360)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 539)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 74)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 2)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار =

(عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حقُّ امرىءٍ مسلم) كلمة (ما) بمعنى: ليس، هكذا وقع في أكثر الروايات بلفظ: مسلم، وليست هذه اللفظة في رواية الإمام أحمد عن إسحاق بن عيسى، عن مالك (¬1)، والوصف بالمسلم هنا خرج مخرج الغالب، فلا مفهومَ له، أو ذكر للتهييج، لتقع المبادرة لامتثاله، لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك (¬2) (له شيء) قلّ أو جلّ، فهو واقع صفة لامرىءٍ (يوصي فيه) جملة فعليه صلةٌ لشيء (يبيتُ ليلتين) جملة فعلية وقعت صفة أخرى لامرىءٍ. وقال الحافظ في "الفتح": (يبيتُ) كأن فيه حذفًا تقديره: أن يبيت، وهي كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24]، انتهى (¬3). واعترضه البدر العيني بأنه قياسٌ فاسدٌ، وفيه تغيير المعنى أيضًا، وإنّما قدّر "أنْ" في قوله: {يُرِيكُمُ}؛ لأنه في موضع الابتداء؛ لأن قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ} في موضع الخبر، والفعل لا يقع مبتدأ، فيقدر "أنْ" فيه حتى يكون في معنى المصدر، فيصح حينيذٍ وقوعه مبتدأ، كذا قال (¬4). ¬

_ = (3/ 1221)، و"طرح التثريب" للعراقي (6/ 185)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 356)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 26)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 2)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 103)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 142). (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 113)، بلفظ: "ما حق امرىء له شيء. . ." الحديث. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 357). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 28).

(إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده)، وفي لفظٍ عند مسلم: "ما حقُّ امرىءٍ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيتُ ليلتين" (¬1)، وفي رواية: "ثلاث ليال" (¬2)، فقوله: "إلا ووصيته" مستثنى، وهو خبر "ما" التي هي بمعنى ليس، والواو فيه للحال. قال صاحب "المظهر": قيدُ ليلتين تأكيد لا تحديد، يعني: لا ينبغي له أن يمضي عليه زمان، وإن كان قليلًا، إلا ووصيته مكتوبة. وقال الطيبي: وتخصيص ليلتين تسامحٌ في إرادة المبالغة؛ أي: لا ينبغي أن يبيت ليلة، وقد سامحناه في هذا المقدار، فلا ينبغي أن يتجاوز عنه (¬3). وقال الإمام النووي في "شرح مسلم": وفي رواية: "ثلاث ليال" (¬4)؛ أي: وهي رواية مسلم، والنسائي (¬5). والحاصل: أن ذكر الليلتين أو الثلاث لرفع الحرج، لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها، ففسح له هذا المقدار، ليتذكر ما يحتاج إليه (¬6). وفي رواية عند الإمام أحمد: "حقٌ على كلّ مسلم أن لا يبيت ليلتين وله ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1627/ 1). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1627/ 4). (¬3) نقلهما العيني في "عمدة القاري" (14/ 74). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 74). (¬5) وتقدم تخريجه عندهما. (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 358)، وعنه.: العيني في "عمدة القاري" (14/ 28).

ما يوصي فيه"، الحديث (¬1)، وفي رواية عند الإمام الشافعي بلفظ: "ما حقّ امرىءٍ مسلم يؤمن بالوصية"، الحديث (¬2). قال ابن عبد البر: فسّره ابن عينية: يؤمن بأنها حق (¬3). وأخرجه أبو عوانة بلفظ: "لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين" الحديث (¬4). وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة، عن مالك، وابن عون جميعًا، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، بلفظ: "ما حقّ امرىءٍ مسلم له مال يريد أن يوصي فيه" (¬5). وذكره ابن عبد البر من طريق ابن عون بلفظ: "لا يحلُّ لامرىءٍ مسلمٍ" (¬6). ففيه حث على الوصية، واحتجتْ بظاهره الظاهرية على أنها واجبة (¬7). وقال الزهري: جعل الله الوصية حقًا مما قلّ أو كثر (¬8). قيل لأبي مجلز: على كلِّ مَيْتٍ وصية؟ قال: كلُّ من ترك خيرًا (¬9). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 10). (¬2) رواه الإمام الشافعي (538 - السنن المأثورة). (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 291). (¬4) رواه أبو عوانة في "مسنده" (3/ 472). (¬5) ذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" (5/ 357)، وعنه نقله الشارح -رحمه الله-. (¬6) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 291) وقال: ولم يتابع على هذه اللفظة. (¬7) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 28). (¬8) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 68)، ومن طريقه: الطبري في "تفسيره" (2/ 121). (¬9) ذكره ابن قدامة في "المغني" (6/ 55).

وقال ابن حزم: روينا من طريق عبد الرزاق، عن الحسن بن عبد الله، قال: كان طلحة بن عبيد الله، والزبيرُ يشددان في الوصية (¬1)، وهو قول عبد الله بن أبي أوفى، وطلحةَ بنِ مصرِّف، وطاوس، وغيرهم. قال ابن حزم: وهو قول سليمان، وجميع أصحابنا. وقالت طائفة: ليست الوصية واجبة، سواء كان الموصي موسرًا، أو فقيرًا، وهو قول النخعي، والثوري، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم (¬2). وقال ابن العربي: أما السلف الأول، فلا نعلم أحدًا قال بوجوبها (¬3). وفي "شرح المقنع": الوصية بجزءٍ من ماله ليست بواجبة على أحد في قول الجمهور، وبذلك قال الشعبي، وذكر الأئمة الأربعة وغيرهم. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنّ الوصية غير واجبةٍ إلّا على من عليه دين وحقوق بغير بيّنة، وأمانة بغير إشهاد، إلّا طائفة شذّت فأوجبتها (¬4). وقال أبو بكر بنُ عبد العزيز: هي واجبة للأقربين الذين لا يرثون، وهو قول داود، وحكى ذلك عن مسروق، وطاوس، وإياس، وقتادة، وابن جرير، واحتّجوا بالآية، وخبر ابن عمر، قال: نسخت الوصية للوالدين والأقربين الوارثين، وبقيت فيمن لا يرث من الأقربين، وحجّة الجمهور: أنّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثرهم لم يوص؛ لأنه لم يُنقل عنهم وصية، ولم يُنقل لذلك نكير، ولو كانت واجبة، لم يُخِلوا بذلك، ولنقل عنهم نقلًا ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (16332). (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 312). (¬3) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 274). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 292).

ظاهرًا؛ لأنها عطية لا تجب في الحياة، فلا تجب بعد الموت، كعطية الأجانب. فأمّا الآية، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: نسخها قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (¬1) [النساء: 7]، وقال ابن عمر: نسختها آية الميراث (¬2)، وبه قال عكرمة، ومجاهد، ومالك، والشافعي. وذهبت طائفةٌ ممن يرى نسخ القرآن بالسنّة إلى أنها نُسخت بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث" (¬3)، وحملوا حديت ابن عمر هذا على من عليه واجب، أو عنده وديعة (¬4). وفي "شرح البخاري" للبدر العيني: ليس الاستدلال على وجوب الوصية بحديث ابن عمر بصحيح؛ لأنه راوي الحديث، ولم يوص، ومحال أن يخالف ما رواه لو كان واجبًا (¬5). وردّ ذلك بأنه (زاد مسلم) في "صحيحه" على البخاري: (قال ابن عمر) - رضي الله عنهما -: (ما مرّت عليَّ ليلةٌ) واحدةٌ (منذ سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك)؛ أي: الذي مرّ، وهو: "ما من امرىءٍ مسلمٍ" الحديث (إلّا وعندي وصيتي) مكتوبة، فهذا ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 299). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 119)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 265). (¬3) رواه أبو داود (2870)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الوصية للوارث، والترمذي (2120)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء: "لا وصية لوارث"، وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (2713)، كتاب: الوصايا، باب: لا وصية لوارث، من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 415 - 416). (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 29).

يدل على أنّه كانت له وصية، وأُجيب بأنه قد عارضه ما أخرجه ابن المنذر وغيره عن حمّاد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، قال: قيل لابن عمر في مرض موته: ألا توصي؟ قال: أمّا مالي، فالله أعلم ما كنتُ أصنع فيه، وأمّا رباعي، فلا أحبُّ أن يشارك ولدي فيها أحد (¬1)، وجمع بينهما بعضهم بأنه كان يكتب وصيته، ويتعاهدها، ثمّ صار ينجز ما كان يوصي به متعلقًا بموته، وإليه الإشارة بقوله: الله يعلم ما كنت أصنع في مالي، ولعلَّ الحامل له ذلك حديثه: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء" (¬2)، فصار ينجز ما يريد التصدق به، فلم يحتج إلى تعليق (¬3). ونقل ابن المنذر عن أبي ثور: أن المراد بوجوب الوصية في الآية والحديث يختص بمن عليه حقٌّ شرعيٌّ يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به، كويعة، ودين لله، أو لآدميّ. قال: ويدل على ذلك تقييده بقوله: "له شيء يريد أن يوصي فيه"؛ لأن فيه إشارة إلى قدرته على تنجيزه، ولو كان مؤجلًا، فإنه إذا أراد ذلك، ساغ له (¬4). وإن أراد أن يوصي به، ساغ له. وفي الحديث: دليلٌ على جواز الاعتماد على الكتابة والخط، ولو لم ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 185)، وابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" (ص: 118)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 119). وسنده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (5/ 359). (¬2) رواه البخاري (6053)، كتاب: الرقاق، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359)، وعنه: العيني في "عمدة القاري" (14/ 29). (¬4) المرجعان السابقان.

يقترن ذلك بالشهادة، وبه قال الإمام أحمد، ومحمد بن نصر من الشافعية (¬1). وقال الشافعي: المراد بهذا الحديث: الحزم والاحتياط للمسلم، إلا أن تكون وصيته مكتوبةً عنده، فيستحب تعجيلها، وأن يكتبها في صحته، ويُشهد عليها فيها، ويكتب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدَّد أمرٌ يحتاج إلى الوصية به، ألحقه (¬2). وقال الإمام النووي: قالوا: لا يكلف أن يكتب كلَّ يوم محقرات المعاملات وجزئيات الأمور المتكررة، ولا يقتصر على الكتابة، بل لا يعمل بها، ولا تنفع إلا إذا كان أشهد عليه بها، قال: هذا مذهبنا، ومذهب الجمهور (¬3). فإن قيل: من أين اشتراط الإشهاد مع أنّ إضماره فيه بُعد؟ أجاب: بأنه قد استدل عليه بأمرٍ خارج، كقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ} [المائدة: 106]، فإنه يدلُّ على اشتراط الإشهاد في الوصية (¬4). وقال القرطبي: ذكرُ الكتابة مبالغةٌ في زيادة التوثُّق، وإلّا فالوصية المشهود بها متفق عليها، ولو لم تكن مكتوبة (¬5)، انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359). (¬2) نقله النووي في "شرح مسلم" (11/ 75). (¬3) المرجع السابق، (11/ 75 - 76). (¬4) السائل والمجيب في هذه المسألة هو العيني، كما في "عمدة القاري" له (14/ 29)، خلافًا لما يوهمه كلام الشارح - رحمه الله-. (¬5) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 542).

قلتُ: لا يخفى على منصفٍ أن الآية التي فيها الإشهاد ليس فيها ذكر الكتابة، فدلّت الآيات والأحاديث على ثلاث حالات للوصية؛ لأنها إمّا أن تكون مكتوبة، أو لا، وعلى كلٍّ، إمّا أن يكون أشهد عليها، أو لا، فإذا كانت مكتوبة، وقد أشهد عليها، فمتّفق على العمل بها، وكذا إذا كانت غير مكتوبة، ولكنه قد أشهدَ عليها، وأما إذا كانت مكتوبة بخطه المعروف، ولا شهادة عليها، فهي محل نزاع، وأما القسم الرّابع، وهو ألا تكون مكتوبة، ولا إشهاد عليها، فهو غير ملتفت إلى هذا رأسًا. قال صدر الوزراء أبو المظفر عونُ الدين بنُ هبيرةَ -رحمه الله، ورضي عنه-: اختلفوا فيما إذا كتب وصيته بخطه يعلم أنه خطّه، ولم يُشهد فيها، هل يحكم عليه كما لو أشهد بها؛ فقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا يحكم بها. وقال أحمد: من كتب وصيته بخطه، ولم يُشهد فيها، حُكم بها ما لم يعلم رجوعه عنها، انتهى (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مختصر الفتاوى المصرية": إذا كان الميت ممن يكتب ما عليه للناس في دفتره، أو كان له وكيلٌ يكتب بإذنه، فإن وصيَّه يرجع في ذلك إلى الكتاب الذي بخطه، أو خطّ وكيله، فما كان مكتوبًا ليس عليه علامة الوفاء، كان بمنزلة إقرار الميِّت، فخطُّ الميت، وإقرارُ الوكيل فيما وُكل فيه، أو خطُّه، مقبولٌ، ولكن على صاحب الدين اليمين أنّه لم يقبض، ولم يبرأ، وأنه يستحقه، انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 80). (¬2) وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 520).

ومعتمد المذهب: اعتبارُ كون الخط خطَّ الموصي، إما بإقرار وارث أنّه خط مورِّثه، أو بيِّنة تشهد أنه خطه (¬1). تنبيهان: الأوّل: تجب الوصية على مَنْ عليه حقٌّ بلا بيّنة، فيوصي بالخروج منه، وتسن لمن ترك خيرًا -وهو المال الكثير عرفًا- بخُمسه لقريب فقيرٍ، ولعالمٍ، ومسكينٍ، وتُكره في حق فقيرٍ له ورثة، إلا أن يكونوا أغنياء، فإن كانوا كذلك، فتباح إِذًا، وتحرم -ولو لصحيح ممّن يرثه غيرَ زوجٍ وزوجة- بزائد على الثلث لأجنبي، ولوارثٍ بشيء، وتصح، وتقف على إجازة الورثة، وتصح ممّن لا وارث له بنحو رحمٍ بجميع ماله، فلو ورثَهُ زوج أو زوجة، وردَّها بالكلّ، بطلت في قدر فرضه من ثلثيه، فيأخذ وصيّ الثلث، ثمّ ذو الفرض فرضه من ثلثيه، ثمّ تتم الوصية منهما، ولو وصَّى أحدهما للآخر، فله كلّه إرثًا ووصية (¬2). الثاني: يُستحب أن يكتب في صدر وصيته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما أوصى به فلان: أنه يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنّة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور، وأوصي من تركتُ من أهلي أن يتقوا الله، ويصلوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصيهم بما أوصى إبراهيم بنيه ويعقوب: {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. أخرجه سعيد عن فضيل بن عيّاض، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك - ¬

_ (¬1) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (4/ 445). (¬2) المرجع السابق، (4/ 446 - 448).

رضي الله عنه -، قال أنس: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم، فذكره (¬1). وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنّه كتب في صدر وصيته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ذكرُ ما أوصى به عبد الله بن مسعود إنْ حدث لي حادثُ الموت من مرضي هذا: أن مرجع وصيتي إلى الله تعالى، ثم إلى الزبير بن العوام، وابنه عبد الله، وأنهما في حلٍّ وبلٍّ ممّا وليا وقضيا، وأنه لا تُزوَّج امرأة من بنات عبد الله إلا بإذنهما (¬2). وروى ابن عبد البر، قال: كان في وصية أبي الدرداء: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا ما وصى به أبو الدرداء: أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنّ الجنّة حق، وأنّ النّار حق، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور، وأنه يؤمن بالله واليوم الآخر، ويكفر بالطاغوت، على ذلك يحيا ويموت -إن شاء الله تعالى- (¬3). تتمة في ذكر أحاديت مما ورد في الحث على الوصية والترهيب من تركها: روى ابن ماجة عن جابر - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من مات على وصيةٍ، مات على سبيلٍ وسنّةٍ، ومات على تقى وشهادة، ومات مغفورًا له" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 126 - 127)، وعبد الرزاق في "المصنف" (16319)، والدارقطني في "سننه" (4/ 154)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 287). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 159)، والحاكم في "المستدرك" (5373)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 282). (¬3) رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (14/ 309). (¬4) رواه ابن ماجة (2701)، كتاب: الوصايا، باب: الحث على الوصية.

وروى الطبراني في "الصغير، والأوسط" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: ترك الوصية عارٌ في الدنيا، ونارٌ وشنار في الآخرة (¬1). وروى أبو داود، والترمذي وحَسَّنه، وابن ماجة عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ الرجلَ ليعمل -أو المرأة- بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضارّان في الوصية، فتجب لهما النار"، ثم قرأ أبو هريرة - رضي الله عنه -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} حتى بلغ: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2) [النساء: 12 - 13]. ولفظ ابن ماجة: "إنّ الرجل ليعملُ بعملِ أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى، حاف في وصيته، فيختم له بشرِّ عمله، فيدخل النار، وإنّ الرجل ليعملُ بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنّة" (¬3). وروى النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنّه قال: "الإضرار في الوصية من الكبائر"، ثم تلا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} (¬4) [النساء: 13]. وروى أبو يعلى بإسنادٍ حسن عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5423)، وفي "المعجم الصغير" (809). (¬2) رواه أبو داود (2867)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية، والترمذي (2117)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الضرار في الوصية. (¬3) رواه ابن ماجة (2701)، كتاب: الوصايا، باب: الحيف في الوصية. (¬4) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (11092).

كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجلٌ فقال: يا رسول الله! مات فلان، قال: "أليس كان معنا آنفًا؟ "، قالوا: بلى، قال: "سبحان الله! كأنها أخذةٌ على غضب، المحرومُ من حرم وصيته" (¬1). ورواه ابن ماجة مختصرًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: "المحروم من حرم وصيته" (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى في "مسنده" (4122)، وكذا الطيالسي في "مسنده" (2112). (¬2) رواه ابن ماجة (2700)، كتاب: الوصايا، باب: الحث على الوصية. وانظر فيما ذكره الشارح -رحمه الله- من الأحاديث في هذه التتمة: "الترغيب والترهيب" للمنذري (4/ 168) وما بعدها.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتدَّ بِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُني إلَّا ابنةٌ لِي، أَفَاتَصَدَّقُ بثُلُثَيْ مَالِي، قَالَ: "لا"، قُلتُ: فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لا"، قُلْتُ: فالثُّلُثُ؟ قَالَ: "الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيْرٌ، إِنَّك أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِياءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وَجْهَ اللهِ، إلَّا أُجِرْتَ بهَا، حَتَى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ"، قَالَ: فَقُلتُ. يَا رَسُولَ اللهِ! أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ فَقَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بهِ وَجْهَ اللهِ، إلَّا ازْدَدْتَ بهِ دَرجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حتَّى يَنْتَفعَ بكَ أَقْوامٌ، وَيُضَرَّ بكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلًى أَعْقَابهِمْ، لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَة" يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ مَاتَ بِمَكَّة (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1233)، كتاب: الجنائز، باب: رثى النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة، واللفظ له، و (56)، كتاب: الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، و (2591)، كتاب: الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، و (2593)، باب: الوصية بالثلث، و (3721)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أمض =

(عن) أبي إِسحاق (سعدِ بنِ أبي وقّاصٍ - رضي الله عنه -) واسمُ أبي وقاص: مالكُ بن وُهيب، ويقال: أُهيب بنُ عبدِ منافِ بنِ زهرةَ بنِ كلابِ بنِ مرةَ، القرشيُّ، الزهريُّ، وأمه حَمْنَةُ بنت سفيان، وقيل: بنت أبي سفيان بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ. أسلم قديمًا على يد الصدّيق الأعظم وهو ابن سبع عشرة سنة، وقال: ¬

_ = لأصحابي هجرتهم"، و (4147)، كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، و (5039)، كتاب: النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل، و (5335)، كتاب: المرض، باب: وضع اليد على المريض، و (5344)، باب ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع، وارأساه! أو اشتد بي الوجع، و (6012)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء برفع الوباء والوجع، و (6352)، كتاب الفرائض، باب: ميراث البنات. ورواه مسلم (1628/ 5 - 9)، كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث، وأبو داود (2864) كتاب: الوصايا، باب: ما جاء فيما لا يجوز للموصي في ماله، والنسائي (3626 - 3632)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث، والترمذي (2116)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الوصية بالثلث، وابن ماجة (2708)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 84)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 271)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 268)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 363)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 542)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 76)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 9)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1223)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 260)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 363)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 88)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 104)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 148).

كنتُ ثالث الإسلام (¬1)، وأنا أول من رمى بسهمٍ في سبيل الله (¬2)، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنّة، شهد المشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان قصيرًا غليظًا ذا هامةٍ، شثنَ الأصابع، آدَمَ، أفطسَ، أشعرَ الجسد، مات في قصره بالعقيق قريبًا من المدينة، فحُمل على رقاب الرجال إلى المدينة، وصلّى عليه مروان بن الحكم، وهو يومئذٍ والي المدينة، ودُفن بالبقيع سنة خمس وخمسين، وقيل: سبع وخمسين، وقيل: ثمان وخمسين، وله بضع وسبعون سنة، وقيل: اثنتان وثمانون سنة، وهو آخر العشرة موتًا، ولّاه عمر وعثمان - رضي الله عنهم - الكوفة. روى عنه: عبد الله بن عمر، وجابر، وسمرة، وعامر، ومحمد، ومصعب بنوه، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وابن المسيب، وأبو عثمان النهدي (¬3). (قال) سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: (جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3520)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (3522)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -، ومسلم (2966)، كتاب: الزهد والرقائق. (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" (3/ 137)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 43)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 565)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 92)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 606)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 144)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (20/ 280)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 452)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 207)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 309)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 92)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 73)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 419).

يعودني) جملةٌ وقعت حالًا (عام حجّة الوداع)، وسعد - رضي الله عنه - يومئذٍ بمكة (من وَجَعٍ اشتدَّ بي)، وفي لفظٍ: "من وجعٍ أشفيت منه على الموت" (¬1)، واتفق أصحاب الزهري على أنّ ذلك كان في حجّة الوداع، إلّا ابن عيينة قال: في فتح مكة، أخرجه الترمذي (¬2) وغيره، واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه، على أنه قد ورد ما يؤيد كلام ابن عيينة، فقد أخرج الإمام أحمد، والبزار، والطبراني، والبخاري في "التاريخ"، وابن سعد من حديث عمرو بن القاري: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدِم، فخلف سعدًا مريضًا، حيث خرج إلى حنين، فلما قدم من الجعرانة معتمرًا، دخل عليه وهو مغلوب، فقال: يا رسول الله! إنّ لي مالًا، وإني أورث كَلالَةً، أفأوصي بمالي؟ الحديث (¬3)، ويمكن الجمع بأنّ ذلك وقع مرّتين، وأنه في الفتح لم يكن له وارث من الأولاد (¬4)، فإن لم يحمل على التعدد، وإلّا فالصحيح ما في "الصحيح"، والله أعلم. قال سعد: (فقلتُ: يا رسولَ الله! قد بلغ بي من الوجع ما ترى) فيه دليل على عيادة الإمام أصحابه، ودليلٌ على ذكر شدّة المرض لا في معرض الشكوى (¬5)، (وأنا ذو مال) جملة حالية، وفيه التحدث بما أنعم الله عليه، (ولا يرثني إلا ابنة لي) جملة وقعت حالًا، وابنة سعد هذه تسمى عائشة، ولم يكن له يومئذٍ غيرها، ثم عوفي من ذلك المرض، ورزق أولادًا كثيرًا، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4147)، وعند مسلم برقم (1628/ 5). (¬2) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (2116). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 60)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 146). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 363 - 364). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 9).

منهم: محمد، وإبراهيم، وعامر، ومصعب، وإسحاق، وعمر، ويعقوب، ويحيى، وذكر من أولاده أيضًا: إسحاق الأكبر، وأم الحكم الكبرى، وحفصة، وأم القاسم، وكلثوم، وغيرهم، وكلّهم تابعيون. وأما عائشة المتقدم ذكرها، فروت عن أبيها سعد، ويقال: إنها رأت ستًا من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى عنها: أيوب السختياني، وغيره، أخرج لها: أبو داود، والترمذي، والنسائي (¬1)، (أفأتصدق)، وفي رواية عامر بن سعد عنه: كما في "البخاري": قلت: يا رسول الله! أوصي بمالي كلّه؟ قال: "لا" (¬2). وفي رواية عائشة بنت سعد عنه: كما في الطب من "البخاري"، وكذا في "مسلم": [أفأتصدق] (¬3) (بثلثي مالي؟)، وكذا وقع في رواية الزهري، والمراد بقوله: أفأتصدق؟ أي: صدقة معلقة بالموت، فلا مخالفة بين أوصي وأتصدق في المعنى، وكأنه سأل أولًا عن الكل، ثم سأل عن الثلثين (¬4)، (قال) له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا)؛ أي: لا تتصدق بالكل، ولا بالثلثين. وقد روى الطبراني في "الكبير": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على سعد بن مالك يوم الفتح، الحديث، وفيه: فقال سعد: يا رسول الله! إنّ مالي كثير، وإنني أُورث كلالة، أفأتصدق بما لي كلّه؟ قال: "لا"، قال: أفأتصدق ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (35/ 236). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591، 5039). (¬3) كذا في الأصل، والذي عند البخاري برقم (5335) -كما تقدم-، وعند مسلم برقم (1628/ 8)، من رواية عائشة بنت سعد عنه: "فأوصي"، ولعل هذا مراد الشارح -رحمه الله-. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 365).

بثلثيه؟ قال: لا، الحديث (¬1)، (قلتُ: فالشطر؟)؛ أي: النصف. قال الكرماني: هو بالجر أو الرفع، انتهى. فالجر بأن يكون معطوفًا على قوله: بثلثي مالي، والرفع على تقدير حذف الرافع تقديره: [فيجوز الشطرُ] ونسب إلى الزمخشري جوازُ النصب على تقدير: أعني: الشطرَ (يا رسول الله) (¬2)، (قال: لا)؛ أي: لا يجوز أن توصي بالشطر، فـ (قلتُ: فالثلث؟) بالأوجه الثلاثة كما في الشطر، (قال) - صلى الله عليه وسلم -: (الثلث) بالنصب على الإغراء، ويجوز الرفع على أنه فاعل؛ أي: يكفيك الثلث، (والثلث كثير) مبتدأ وخبر، وأكثر الروايات بالثاء المثلثة، وفي بعضها: "كبير" -بالياء الموحدة (¬3) (إِنَّك أَنْ تذر) قال النووي: -بفتح همزة "أنّ" وكسرها-، فبالفتح تكون للتعليل، وبالكسر تكون للشرط (¬4). وقال القرطبي: لا معنى للشرط هنا؛ لأنه يصير لا جواب له، ويبقى خبر لا رافع له، وعلى تقدير كونها شرطية، فالجزاء محذوف، تقديره: فهو خير (¬5). قال ابن مالك: من خصّ هذا الحكم بالشعر، فقد ضيّق الواسع. وقال الإمام ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وأَنكره شيخنا عبد الله بن أحمد -يعني: ابن الخشاب الحنبلي أحد أئمة النحو-، ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/ 213 - "مجمع الزوائد" للهيثمي). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 33). (¬3) المرجع السابق، (14/ 34). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 76). (¬5) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 545).

وقال: لا يجوز الكسر؛ لأنه لا جواب له، لخلو لفظ "خير" من الفاء (¬1)، واعترض عليه بأن حذف الفاء من الجزاء سائغ شائع غيرُ مختص بالضرورة -كما قدّمنا- (¬2)، ومعنى تذر: تترك، وفي لفظ: "أن تدع (ورثتك) " (¬3)، قيل: إنما عبّر بلفظ الورثة، ولم يقل: أن تذر بنتك، مع أنه لم يكن له يومئذٍ إلا ابنة واحدة، لكون الوارث حينيذٍ لم يتحقق؛ لأن سعدًا لما قال ذلك بناءً على موته في ذلك المرض، وبقائها بعده حتى ترثه، فأجابه -عليه السلام- بكلامٍ كلّي مطابق لكل حالة، وهو قوله: "ورثتك"، ولم يخص بنتًا من غيرها. وقيل: إنما عبّر بالورثة؛ لأنه اطلع على أن سعدًا سيعيش، ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة، فكان الأمر كذلك، فكان له عدة بنين وبنات ما يزيد على خمسة وعشرين، أزيد من خمسة عشر ذكرًا، واثنتي عشرة ابنة. وقيل: لأن ميراثه لم يكن منحصرًا في ابنته، فقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقاص أولاد إذ ذاك، لذاك، منهم: هاشم بن عتبة الصحابي الذي قتل بصفين (¬4) (أغنياء) عن المسألة وتكفف الناس (خير) لك عند الله (من أن تذرهم)؛ أي: تتركهم (عالة)؛ أي: فقراء، وهو جمع عائل، وهو الفقير، من عال يعيل: إذا افتقر (¬5) (يتكففون) التكفف ببسط الكف للسؤال، أو سأل الناس كفافًا من الطعام، أو ما يكف الجوعة، أو بمعنى: يسألون ¬

_ (¬1) نقله ابن الجوزي في "كشف المشكل" (1/ 232). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 34). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591، 5039، 5344). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 34). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 330).

(الناس) بالكف (¬1)، وفي بعض الروايات: "يتكففون النالس في أيديهم" (¬2)؛ أي: بأيديهم، أو المعنى: يسألون بالكف لإكفاء في أيديهم (¬3). ففي هذا: دليلٌ على استحباب الصدقة لذوي الأموال، ومبادرة الصّحابة الكرام، وشدة رغبتهم في الخيرات، فإن سعدًا - رضي الله عنه - طلب التصدق بالأكثر. وفيه: دليل على تخصيص الوصية، وأن الثلث في حدّ الكثرة في باب الوصية (¬4)، ويأتي له تتمة. (وإنك) يا سعد، والمراد به: العموم (لن تنفق نفقة) كثيرة أو قليلة (تبتغي)؛ أي: تقصد (بها)؛ أي: بتلك النفقة (وجهَ الله) تعالى، وفي لفظٍ: "وإنّكَ مهما أنفقتَ من نفقة (¬5) (إلّا أُجرت بها) "، دلّ هذا القيد على أنّ الثواب في الإنفاق مشروطٌ بصحةِ النيّة في ابتغاء وجه الله تعالى، والدار الآخرة، وهذا دقيق عسر إذا عارضه مقتضى الطبع والشهوة، فإن ذلك يفوت الفرض المقصود من الثواب، فضلًا عن شائبة الرياء والمباهاة حتى يبتغي به وجه الله ويَشُقُّ تخليص هذا المقصود بما يشوبه من مقتضى الطبع والشهوة. وفيه: دليلٌ على أنّ الواجبات المالية إذا أُدِّيت على قصد أداء الواجب، ابتغاء وجه الله، من تصحيح النيّة، أُثيبَ عليه (¬6)، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (حتى ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 32). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري، ومسلم. (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 34). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 9). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591). (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 10).

ما تجعل) "حتى" هذه ابتدائية (في في امرأتك)؛ أي: في فم امرأتك، وفي رواية: "حتى اللقمة" (¬1). ووجه تعلق هذا بقضية الوصية: أنّ سؤال سعد - رضي الله عنه - يشعر بأنه رغب في تكثير الأجر، فلمّا منعه الشارع من الزيادة على الثلث، قال له على سبيل التسلية: إنّ جميع ما تفعله في مالك من صدقةٍ ناجزة، ونفقة -ولو واجبة- تؤجر بها إذا ابتغيت بها وجه الله، ولعله خصّ المرأة بالذكر؛ لأن نفقتها مستمرة (¬2). قلت: فالذي يظهر لي أنّ وجه التنصيص على المرأة يشعر بحصول الثواب في غيرها من بابٍ أولى؛ لأن نفقتها في مقابلة الاستمتاع بها، فإذا كان مع كونه في مقابلة عوض، وهو تمتعه بها، يحصل له الثواب، فغيرها من بقية من ينفق عليه ويعوله لا في مقابله شيء أولى، فـ "حتى" ها هنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المعنى، كما يقال: جاء الحاجُّ حتى المشاة، ومات الناس حتى الأنبياء، فلما كان ربما توهم أنّ أداء الواجب قد يشعر بأن لا يقتضي غير إسقاطه عمن أدّاه، وأنه لا يزيد على براءة الذمّة، دفع هذا الوهم بأنه يحصل له ما نواه، فإن المباح إذا قُصد به وجه الله تعالى، صار طاعة، وأُثيب عليه (¬3). (قال) سعد - رضي الله عنه -: (فقلتُ: يا رسول الله! أُخَلَّفُ بعدَ أصحابي؟). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591، 3721، 4147، 5039، 6352)، ومسلم برقم (1628/ 5). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 367). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 10).

قال: القاضي عياض: معناه: أُخلف بمكة بعدَ أصحابي؟ قاله: إمّا إشفاقًا من موته بمكة، لكونه هاجر منها، وتركها لله، فخشي أنّ يقدح ذلك في هجرته، أو في ثوابه عليها، أو خشي بقاءه بمكة بعد انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وتخلف عنهم بسبب المرض، وكانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه لله، ولهذا جاء في رواية: أخلف عن هجرتي؟ (¬1). قال: القاضي: كان حكم الهجرة باقيًا بعد الفتح، لهذا الحديث، وقيل: إنّما كان ذلك لمن هاجر قبل الفتح، وأما من هاجر بعده، فلا (¬2)، (فقال) له - صلى الله عليه وسلم -: (إنّك لن تخلَّفَ فتعملَ عملًا) المراد بالتخلف هنا: طول العمر، والبقاء في الحياة بعد جماعاتٍ من أصحابه (¬3)، (تبتغي به)؛ أي: بذلك العمل (وجهَ الله) الكريم ومرضاته (إلا ازددت به)؛ أي: بذلك التخلف الذي عملت فيه العمل المذكور (درجةً) عند الله عاليةً، (ورفعةً) عظيمة وافية. وفيه: فضيلةُ طول العمر للازدياد في العمل الصالح، والكدح الناجح، والحثّ على إرادة وجه الله تعالى بالأعمال الصالحة (¬4)، (ولعلك)، وفي رواية: "ثم لعلّك" (¬5) (أنّ تخلف حتى ينتفع بك أقوام)، وفي رواية: "عسى الله أن يرفعك" (¬6)؛ أي: يطيل عمرك، وكذلك اتفق، فإنه عاش بعد ذلك أزيدَ من أربعين سنة، بل قريبًا من خمسين عامًا، مات سنة خمسٍ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6352). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 365). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 78). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1233). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591).

وخمسين من الهجرة، وقيل: سنة ثمان وخمسين، وهو المشهور، فيكون عاش بعد حجة الوداع خمسًا وأربعين، أو ثمانيًا وأربعين (¬1)، وفي لفظ: "فينتفع بك ناسٌ" (¬2)، (ويُضر بك آخرون)؛ أي: ينتفع بك المسلمون بالغنائم مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك، ويضر بك المشركون الذين يهلكون على يديك، فإن سعدًا - رضي الله عنه - عاش حتّى فتح العراق وغيره، وانتفع به أقوامٌ في دينهم ودنياهم، ومن ذلك ما رواه الطحاوي، قال: سُئل عامرُ بنُ سعدٍ عن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا، فقال: لما أمر سعد على العراق، أتي بقوم ارتدُّوا، فاستتابهم، فتاب بعضهم، وامتنع بعضهم، فقتلهم، فانتفع به من تاب، وحصل الضرر للآخرين. وزعم ابن التين: أنّ المراد بالنفع به: ما وقع من الفتوح، كالقادسية وغيرها، وبالضرر: ما وقع من تأمير ولده عمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي - رضي الله عنهما - ومن معه. ورده الحافظ ابن حجر، لتكلفه لغير ضرورةٍ تحملُ على إرادة الضرر الصادر من ولده (¬3). قال العيني: لا ينظر فيه من هذا الوجه، بل فيه معجزة من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث أخبر بذلك بالإشارة قبل وقوعه (¬4). قال بعض العلماء: لفظة "لعل" وإن كانت للترجي، لكنها من الله للأمر ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 367). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2591، 5039). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 367). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 35).

الواقع، وكذلك إذا وردت على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غالبًا (¬1). (اللهم)؛ أي: يا ألله! (أمض لأصحابي)؛ أي: المهاجرين منهم (هجرتَهم، ولا تردَّهم على أعقابهم). قال: القاضي: استدل بعضهم على أنّ بقاء المهاجر بمكة -كيف كان- قادحٌ في هجرته، قال: ولا دليل فيه عندي؛ لأنه دعا لهم دعاءً عامًا، ومعنى: "أمض لأصحابي هجرتهم"؛ أي: أتمّها، ولا تبطلها، ولا تردّهم على أعقابهم بترك هجرتهم، ورجوعهم عن مستقيم حالتهم المرضية (¬2)، (لكنِ البائسُ): الذي يبدو عليه أثر البؤس، وهو الفقر والقلّة (سعدُ بنُ خَولة)، وهو أبو سعيد، من بني عامر بن لؤي، من أنفسهم، وقيل: هو حليفٌ لهم، وقيل: هو مولى أبي رُهْمِ بنِ عبد العزى العامري، وقيل: هو من اليمن، وقيل: من عجم القدس، قاله ابن الأثير في "جامع الأصول" (¬3)، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال فيه (يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة) الرثاء -بكسر الراء وبالمثلثة والمد- يطلق على التوجع والتحزن، وهو المباح، وعلى مدحِ الميّت وذكرِ محاسنه، وهو المنهيِّ عنه في حديث الإمام أحمد وغيره (¬4)، وعلّته أنّ ذلك باعث على تهييج الحزن، وتجديد ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 367). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 366). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 408)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 151)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 586)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 575)، و"جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 435 - قسم التراجم)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 53). (¬4) روى الإمام أحمد في "المسند" (4/ 356)، وابن ماجة (1592)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في البكاء على الميت، وغيرهما عن عبد الله بن أبي أوفى =

اللّوعة (¬1). وخولة -بفتح الخاء وسكون الواو-. تنبيهات: الأول: قال: النووي: قال: العلماء: هذا من كلام الراوي، وليس هو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -يعني: قوله: يرثي له. . . إلخ-، بل انتهى كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لكن البائس سعد بن خولة"، فقال الراوي في تفسير هذا الكلام: إنه يرثيه به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتوجع له، ويرق عليه، لكونه ماتَ بمكة. واختلفوا في تأويل هذا الكلام ممن هو؟ فقيل: هو من سعد بن أبي وقاص. وقد جاء مفسرًا في بعض الروايات، قال القاضي: وأكثر ما جاء أنه من كلام الزهري (¬2). قال ابن عبد البر: زعم أهل الحديث أنّ قوله: يرثي. . . إلخ، من كلام الزهري (¬3). وقال: الحافظ ابن الجوزي، وغيره: هو مدرج من كلام الزهري، وكأنهم استندوا إلى ما وقع في رواية أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري (¬4)، فإنه فصل ذلك، لكن وقع في "البخاري" في الدعوات: "لكن البائس سعد بن خولة"، قال سعد: رثى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، فهذا ينافي ¬

_ = - رضي الله عنه -، قال: نَهَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المراثي. (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 164). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 367)، وانظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 79). (¬3) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 278). (¬4) رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (197). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6012).

إدراجه، فلا ينبغي الجزم به كما نبّه عليه الحافظ ابن حجر (¬1). وقال البرماوي: القائل: يرثي له، في هذا الحديث، مختلفٌ فيه، فقيل: هو سعد بن أبي وقاص، وقيل: من قول الزهري، فكان ينبغي للمصنف الحافظ -رحمه الله تعالى- أن يذكر الزهري لذلك؛ لأنه الراوي عن سعد هذا الحديث، فالاحتياطُ ذكره، إلّا أن يكون المصنف -رحمه الله- ممن يرى بأن القائل هو سعد، فلا حاجة حينيذٍ لذكر الزهري، والله الموفق. واختلفوا في البائس سعد بن خولة، فقيل: لم يهاجر من مكة حتى مات بها، قاله عيسى بن دينار، وغيره. وذكر البخاري: أنه هاجر، وشهد بدرًا، ثم انصرف إلى مكة، ومات بها. وقال ابن هشام: إنه هاجر إلى الحبشة الهجرةَ الثانية، وشهد بدرًا وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع سنة عشر، وقيل: توفي بها سنة سبع في الهدنة، خرج مختارًا من المدينة إلى مكة (¬2). قال في "الفتح": وجزم الليث بن سعد بأن سعد بن خولة مات في حجة الوداع، وهو الثابت في "الصحيح"، خلافًا لمن قال بأنه مات في مدة الهدنة مع قريش سنة سبع، انتهى (¬3). قال النووي: فعلى أنه توفي في سنة سبع، فبؤسه سقوطُ هجرته، لرجوعه مختارًا إلى الأرض التي هاجر منها، وموته بها، وعلى القول ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 365). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 79). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 364).

الآخر، سبب بؤسه موته بمكة، على أي حال كان، وإن لم يكن باختياره، لما فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار هجرته والغربة عن وطنه الذي هجره لله (¬1). قال القاضي: وقد روي في هذا الحديث: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خلف مع سعد بن أبي وقاص رجلًا، وقال له: "إن توفي بمكة، فلا تدفنه بها" (¬2)، انتهى (¬3). الثاني: الأولى للموصي أَلَّا يستوعب بالوصية الثلث، وإن كان غنيًا، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والثلث كثير"، ولقول ابن عباس - رضي الله عنهما - كما يأتي: لو أن الناس غضوا من الثلث، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: 1 "الثلث كثير" متفق عليه (¬4). قال: القاضي أبو يعلى، وأبو الخطاب الكلوذاني: إن كان غنيًا، استحب الوصية بالثلث، ويردّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثلث كثير" مع إخبار سعد بكثرة ماله وقلة عياله، وفي النسائي: عن سعد: أن النبي في قال له: "أوصيت؟ "، قال: نعم، قال: "بكم؟ "، قلت: بمالي كله للفقراء في سبيل الله، قال: "فما تركتَ لولدك؟ "، وفيه: "أوص بالعشر"، قال: فما زال يناقصني وأناقصه حتى قال: "أوص بالثلث، والثلث كثير"، أو "كبير" (¬5) يعني: بالمثلثة أو بالموحدة، وهو شك من الراوي، وأكثر الروايات بالمثلثة. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 79 - 80). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 146). (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 368). (¬4) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬5) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (3631). وانظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 426 - 427).

والحاصل: أن الإجماع منعقد على أنّ الوصية بالثلث لغير وارث جائزة، وأنها لا تفتقر إلى إجازة ورثة، وأن ما زاد على الثلث إذا أوصى به من ترك بنين أو عصبة، فإنه لا ينفذ إلا الثلث، والباقي موقوف على إجازة الورثة، فإن أجازوه، نفذ، وإن أبطلوه، بطل، وأن المستحب للموصي أن يوصي بدون الثلث مع إجازتهم له الوصية به (¬1). والمستحب عندنا للغني الوصية بالخمس ونحوه كما يروى عن أبي بكر الصدّيق - رضي الله عنه -، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو ظاهر قول السلف وعلماء أهل البصرة (¬2). قال الصدّيق - رضي الله عنه -: إن الله تعالى رضي من غنائم المؤمنين بالخمس، وقال: وصيت بما رضي الله لنفسه، يعني: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (¬3) [الأنفال: 41]. وروي أنّ أبا بكر وعليًّا - رضوان الله عليهما - أوصيا بالخمس (¬4). وعن عليّ - رضي الله عنه -: لأن أوصي بالخمس أحبُّ إليّ من الربع (¬5). وعن الشعبي، قال: كان الخمس أحبّ إليهم من الثلث (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (12/ 136). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 427). (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (16363). (¬4) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (16364)، عن الحسن، وأبي قلابة، قالا: أوصى أبو بكر بالخمس. (¬5) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (16361)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (30925). (¬6) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 132).

وقال إسحاق بن راهويه: السنّة الربع، إلّا أن يكون رجلًا يعرف في ماله شبهات أو غيرها، فله استيعاب الثلث (¬1). وفي "مسند الإمام أحمد" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: وددت أنّ الناس غضوا من الثلث -بالمعجمتين (¬2) -؛ أي: نقصوا. ويروى عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه جاءه شيخ، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا شيخٌ كبير، ومالي كثير، ويرثني أعراب موالي كلالة منزوح نسبهم، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا، فلم يزل يحطّ حتى بلغ العشر (¬3). والمعروف من مذهب الشافعي استحباب النقص من الثلث (¬4). وفي "شرح مسلم" للإمام النووي: إن كان الورثة فقراء، استحب أن ينقص، وإلّا فلا (¬5). الثالث: إنما تُستحب الوصية بجزءٍ من المال لمن ترك خيرًا؛ لأن الله تعالى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180]، فنسخ الوجوب، وبقي الاستحباب في حق من لا يرث (¬6). وقد روى ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 57). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 233). (¬3) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 130). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 370). (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 77). (¬6) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 424).

"يا بن آدم! جعلت لك نصيبًا من مالك حين أخذت بكفيك لأطهرك" (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم" رواه ابن ماجة (¬2). وقال الشعبي: من أوصى بوصية، ولم يَجُر، ولم يحف، كان له من الأجر مثل ما لو أعطاها وهو صحيح (¬3). فإن كان الموصي فقيرًا له ورثة فقراء، فلا تستحب له الوصية بشيء من ماله؛ لأن الله تعالى يقول في الوصية: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد: "إنّك أن تدع ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول" (¬4)، وقال علي لرجل أراد أن يوصي: "إنك لن تدع طائلًا، إنما تركتَ شيئًا يسيرًا، فدع لورثتك" (¬5). قال في "شرح المقنع": من ترك ستين دينارًا، فما ترك خيرًا، وقال طاوس: الخير ثمانون دينارًا، وقال الإمام أحمد: إذا ترك دون الألف، فما ترك خيرًا (¬6). قال في "شرح المقنع": والذي يقوى أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة فلا تستحب الوصية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل المنع في الوصية بقوله: ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجة (2710)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث. (¬2) رواه ابن ماجة (2709)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث. (¬3) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 133)، والدارمي في "سننه" (3178). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 298 - 299). (¬6) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (6/ 425 - 426).

"أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة"، ولأن إعطاء القريب المحتاج خير من إعطاء الأجنبي، فمتى لم يبلغ الميراث غناهم، كان تركه لهم كعطيتهم إياه، فيكون ذلك أفضل من الوصية به لغيرهم، فحينيذٍ يختلف الحال باختلاف الورثة كثرةً وقلةً وغَناء وحاجة، فلا يتقيد بقدر من المال (¬1). قلت: هذا حيث لا شبهة في المال، وأما إن كان فيه شبهة، أو زكاة مجهولة مما يشغل ذمّته، فالمتعين عليه إبراء ذمّته؛ لأنه من البداءة بنفسه، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (6/ 426).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى الرُّبُعِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الثُّلُثُ، وَالثُلُثُ كثيرٌ" (¬1). * * * (عن) أبي العباس (عبدِ الله بنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: لو أنّ الناسَ غَضُّوا) -بمعجمتين، الأولى مفتوحة، والثانية مضمومة مثقلة-؛ أي: نقصوا (¬2)، وفي لفظٍ: غضّ النَّاس (¬3)، وفي "مسند الإمام أحمد": ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2592)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث، ومسلم (1629)، كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث، واللفظ له، والنسائي (3634)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث، وابن ماجة (2711)، كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 369)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 551)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 82)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 12)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1236)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 370)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 6)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 148). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 371). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2592).

وددتُ أنّ الناسَ غضّوا (¬1) (من الثلث إلى الربع). زاد الحميدي: في الوصية (¬2). كلمة "لو" في هذا الخبر للتمني، فلا تحتاج إلى جواب، وإن قلت: إنها شرطيّة، يكون جوابها محذوفًا، تقديره: لكان أولى، ونحوه. ووقع في رواية ابن أبي عمر في "مسنده" عن سفيان: فكان أحبّ إليّ، فإنّ الفاء تعليلية، وفي رواية: (فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -): هذا تعليل لما اختاره من التنقيص عن الثلث، وكأن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخذ ذلك من وصفه - صلى الله عليه وسلم - الثلث بالكثرة (¬3)، حيث (قال: الثلث، والثلث كثير)، وتقدم الكلام على ذلك، وأنه روي بالمثلثة والموحدة. فائدة: أول من أوصى بالثلث في الإسلام البراءُ بنُ معرور -بمهملات- أوصى به للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد مات قبل أن يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة بشهر، فقبله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وردّه على ورثته، أخرجه الحاكم، وابن المنذر من طريق يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، عن جده (¬4)، وتقدم تفصيل ذلك، والله الموفق. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد. (¬2) رواه الحميدي في "مسنده" (521). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 370). (¬4) رواه الحاكم في "المستدرك" (1305)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 384)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 370)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- هذه الفائدة.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض جمع فريضة، وهي في الأصل اسم مصدر من فرض وافترض، ويسمى البعير المأخوذ في الزكاة وفي الدّية: فريضة، فعيلة بمعنى مفعولة (¬1). قال الجوهري: الفرض: ما أوجبه الله تعالى، سميّ بذلك؛ لأن له معالم وحدودًا، والفرض: العطية الموسومة، وفرضت الرجل، [وأفرضته] (¬2): إذا أعطيته، والفارض، والفرضي: الذي يعرف الفرائض، وتسمى قسمةُ المواريث: فرائض (¬3). والفريضة: نصيب مقدر شرعًا لمستحقه، لا ينقص إلا بالعول، ولا يزيد إلا بالرد (¬4). وذكر المصنف الحافظ -رحمه الله تعالى- في هذا الكتاب أربعة أحاديث. ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 299). (¬2) في الأصل: "وافترضته"، والصواب ما أثبت. (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1097)، (مادة: فرض). (¬4) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 406).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ، فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (¬1). وفي رواية: "اقْسِمُوا المَالَ بَيْنَ أَهْلِ الفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَمَا تَرَكتِ الفَرَائِضُه، فَلأوْلَى رَجُلٍ ذَكرٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6351)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الولد من أبيه وأمه، و (6354)، باب: ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن، و (6356)، باب: ميراث الجد مع الأب والإخوة، و (6365)، باب: ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج، ومسلم (1615/ 2 - 3)، كتاب: الفرائض، باب: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، والترمذي (2098)، كتاب: الفرائض، باب: في ميراث العصبة. (¬2) رواه مسلم (1615/ 4)، كتاب: الفرائض، باب: ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، وأبو داود (2898)، كتاب: الفرائض، باب: في ميراث العصبة، وابن ماجة (2740)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث العصبة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 97). و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 327)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 564)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 53) و "شرع عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 15)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1239)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 265)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 11)، و"عمدة القاري" للعيني (23/ 241)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 98)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 170).

(عن) أبي العباس (عبدِ الله بنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: ألحقوا الفرائض بأهلها)؛ أي: الأنصبة المقدرة في كتاب الله -تعالى-، وهي النصف ونصفه ونصف نصفه، والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما، ومن عباراتهم في ذلك: الثلث والربع وضعفُ كل، ونصف كل ومنهما السدس والثمن وضعفهما وضعف ضعفهما (¬1). والحاصل: أنّ الفروض المقدرة: الثلثان، والثلث، والسدس، والنصف، والربع، والثمن (¬2). ودلّ الحديث على أنّ قسمة المواريث تكون البدأة فيها بأهل الفرض، وبعد ذلك ما بقي فللعصبة (¬3)، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بأهلها". فأهل النصف خمسة: الزوج عند عدم الفرع الوارث بالإجماع، والأنثى من الأولاد، وهي البنت عند انفرادها عمن يساويها من الإناث، أو يعصبها من الذكور، وبنت الابن عند فقد الولد، ومن يساويها في درجتها من الإناث أو من يعصبها من الذكور، والأخت الشقيقة حيث لا ولد للميت، ولا ولد ابن، ولا في درجتها من يساويها من الإناث، ولا من يعصبها من الذكور، والأخت للأب حيث فقد من مرَّ ذكرهم، ولا ثَمَّ من يساويها من الإناث، ولا من يعصبها من الذكور. وأما الربع، ففرض الزوج مع فرع وارثٍ للميّت، وفرض الزوجة فأكثر حيث لا فرع له وارث. وأما الثمن، ففرض الزوجة فأكثر حيث كان للميّت فرعٌ وارث. ¬

_ (¬1) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 406). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 183). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 15).

وأما الثلثان، ففرض أربعة أصناف: فرض البنتين فصاعدًا، وفرض بنتي الابن فصاعدًا، وفرض الشقيقين، وفرض الأختين للأب فصاعدًا بالشروط المعتبرة. وأمّا الثلث، ففرض الأم بشرطين عدميين: أحدهما: حيث لا ولد للميّت، ولا ولد ابن. والثاني: حيث لا عدد من الإخوة والأخوات، سواء كان الإخوان فصاعدًا أشقاء، أو لأبٍ، أو لأمٍ، أو مختلفين، وسواء كانا ذكرين، أو أنثيين، أو مختلفين، ولا فرق في الإخوة بين كونهم وارثين، أو محجوبين، أو بعضهم، والمراد: حجب شخص، وأمّا المحجوب بالوصف، فوجوده كعدمه، وقد لا ترث الأم حقيقة مع عدمِ مَنْ ذُكر في مسألتين يسميان بالغرَّاوين، وبالعمريتين، وهما: زوج وأم وأب، فلها ثلث الباقي بعد فرض الزوج. وزوجة وأم وأب، فلها ثلث الباقي بعد فرض الزوجة. وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة. والثلث أيضًا فرض الأخوين للأم فصاعدًا، يستوي فيه الذكر والأنثى منهم، وتسقط الإخوة للأم بالولد، ذكرًا كان أو أنثى، وبولد الابن كذلك، وبالأب والجد. وقد يرث الجد في بعض أحواله مع الإخوة، وكذلك ربما ورث معهم في بعض أحواله ثلث الباقي. وأما السدس، ففرض سبعة: فرض الأب مع الفرع الوارث، وفرض الأم معه أيضًا، أو مع عدد من الإخوة والأخوات، وفرض بنت الابن فأكثر

مع البنت الواحدة، وكذا كلّ بنت ابن نازلة مع بنت ابن واحدة أعلى منها، وجَدٍّ مع الفرع الوارث، وكذا في حالٍ من أحواله مع الإخوة، وفرض الأخت للأب مع الأخت الشقيقة الواحدة، وفرض الجدّة فأكثر، وفرض ولد الأم الواحد ذكرًا كان أو أنثى. والمجمع على توريثهم من الذكور عشرة: الابن وابنه وإن نزل، والأب وأبوه وإن على، والأخ من كلّ جهة، وابن الأخ لا من الأم، والعم وابنه كذلك، والزوج ومولى النعمة (¬1). ومن الإناث سبع: للبنت وبنت الابن وإن سفل أبوها، والأم، والجدّة، والأخت، من كلّ جهة، والزوجة، ومولاة النعمة. تنبيه: جاءت الأخبار وصحت الآثار بالحثّ على تعلم علم الفرائض، والاعتناء به، وعدم إهماله، فروى أبو داود بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل: آيةٌ محكمة، [أ] وسنّةٌ قائمة، فريضةٌ عادلة" (¬2). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعلّموا الفرائضَ وعلّموها الناسَ، فإنه نصف العلم، وهو يُنسى، وهو أول علم يُنزع من أمّتي" رواه ابن ماجة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر فيما نقله الشارح -رحمه الله- في هذا الموضع: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 82 - 85). (¬2) رواه أبو داود (2885)، كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في تعليم الفرائض، وابن ماجة (54)، في المقدمة. (¬3) رواه ابن ماجة (2719)، كتاب: الفرائض، باب: الحث على تعليم الفرائض.

ويروى عن عبد الله - رضي الله عنه -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعلموا الفرائض وعلّموها الناس، فإني امرؤٌ مقبوض، وإنّ العلم سيُقبض حتى يختلف الرجلان في الفريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما" (¬1). وقال عمر - رضي الله عنه -: تعلّموا الفرائض، فإنها من دينكم (¬2)، والله أعلم. (فما بقي) بعد أن أخذ ذو الفرض فرضه (فهو)؛ أي: الباقي بعد الفريضة (لأَولى)؛ أي: لأقرب (رجلٍ) من عصبات الميّت. (ذَكَرٍ) احترز به عن الخنثى في الجملة. قال الإمام الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين": المراد: أعطوا الفروض المقدرة لمن سمّاه الله لهم، فما بقي بعد هذه الفروض، فيستحقه أولى الرجال، والمراد بالأولى: الأقرب كما يقال: هذا يلي هذا؛ أي: يقرب منه، فأقرب الرجال هو أقرب العصبات، فيستحق الباقي بالتعصيب، وبهذا المعنى فسّر الحديثَ جماعة من الأئمة، منهم: الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، نقله عنهما إسحاقُ بنُ منصور، وعلى ظاهر هذا فإذا اجتمع بنت وأخت وعم، أو ابن عم أو ابن أخ، فينبغي أن يأخذ الباقي بعد نصف البنت العصبة، وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنهما -، وكان يتمسك بهذا الحديث، ويقرّ بأن الناس كلهم على خلافه، وذهبت الظاهرية إلى قوله أيضًا، وقال إسحاق: إذا كان مع البنت والأخت عصبة، فالعصبة ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (7950)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 208)، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (31034)، والدارمي في "سننه" (2851)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 209).

أولى، وإن لم يكن معهما أحد، فالأخت لها الباقي. وحكي عن ابن مسعود: أنه قال: الأخت عصبةُ من لا عصبةَ له، ورد هذا بأنه لم يصح عن ابن مسعود، وكان ابن الزُّبير ومسروق يقولان بقول ابن عبّاس، ثم رجعا عنه. ومذهب جمهور العلماء: أن الأخت مع البنت عصبة، لها ما فضل، منهم: عمر، وعلي، وعائشة، وزيد، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وتابعهم سائر العلماء، ومن حجّتهم ما في "صحيح البخاري" عن أبي قيس الأودي، عن هُزَيْل بن شرُحبيل، قال: جاء رجلٌ إلى أبي موسى - رضي الله عنه -، فسأله عن ابنة وابنة ابنٍ وأختٍ لأبٍ واحدٍ، فقال: للابنة النصف، وللأخت ما بقي، فأئى ابنَ مسعود، فسيتابعني، فأتى ابنَ مسعود، فذكر له ذلك، فقال: لقد ضللتُ إِذًا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، قال: فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم (¬1). وفي "البخاري" -أيضًا- عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد، قال: قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: النصف للابنة، والنصف للأخت، ثم ترك الأعمش ذكر عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يذكره (¬2)، وخرجه أبو داود من وجهٍ آخر، وفيه: ونبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ حيّ (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6355)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث ابنة ابن مع ابنة. (¬2) رواه البخاري (6360)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الأخوات مع البنات عصبة. (¬3) رواه أبو داود (2893)، كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الصلب.

واستدل ابن عباس - رضي الله عنهما - لمذهبه بقوله -تعالى-: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]، وكان يقول: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]؟ يعني: أنّ الله لم يجعل لها النصف إِلَّامع عدم الولد، وأنتم تجعلون لها النصف مع الولد، وهو البنت، والصواب قول عمر والجمهور، ولا دلالة في هذه الآية على خلاف ذلك؛ لأن المراد بقوله: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك} [النساء: 176] بالفرض، وهذا مشروطٌ بعدم الولد بالكلية، ولهذا قال بعده: {فَإِن كَانَتَا اْثنَتَين فَلَهُمَا الْثلثُانِ مِمَّا تَرَك] [النساء: 176] يعني: بالفرض، والأخت الواحدة إنما تأخذ النصف مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى، وكذلك الأختان فصاعدًا إنما يستحقان الثلثين مع عدم وجود الولد الذكر والأنثى، فإن كان هناك ولد، فإن كان ذكرًا، فهو مقدم على الإخوة مطلقًا، وإن لم يكن هناك ولد ذكر، بل أنثى، فالباقي بعد فرضها يستحقه الأخ مع أخته بالاتفاق، فإذا كانت الأخت لا يسقطها أخوها، فكيف يسقطها من هو أبعد منه من العصبات، كالعم وابنه، وإذا لم يكن العصبة الأبعد مسقطًا لها، فيتعين تقديمها عليه، لامتناع مشاركته لها، فمفهوم الآية أن الولد يمنع أن يكون للأخت النصف بالفرض، وهذا حقٌّ، لا أن مفهومها أنّ الأخت تسقط بالبنت، ولا تأخذ ما فضل عن ميراثها، يدل عليه قوله -تعالى-: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176]، وقد أجمعت الأمة على أن الولد الأنثى لا يمنع الأخ أن يرث من مال أخته ما فضل عن البنت أو البنات، وإنما وجود الولد الأنثى يمنع أن يحوز الأخ ميراث أخته كلّه، فكما أن الولد إن كان ذكرًا منع الأخ من الميراث، وإن كان أنثى، لم يمنعه الفاضل من ميراثها، وإن منعه حيازة الميراث، فكذلك الولد إن كان ذكرًا،

منع الأخت الميراث بالكليّة، وإن كان أنثى، منعت الأخت أن يفرض لها النصف، ولم تمنعها أن تأخذ ما فضل عن فرضها (¬1). (وفي رواية) لمسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: " (اقسموا المال) المخلف عن الميّت، يعني: تَرِكته (بين أهل الفرائض)؛ أي: المستحقين لها (على) حكم (كتاب الله) -تعالى-، (فما)؛ أي: أَيَّ شيء (تركت الفرائض)؛ أي: الذي تركته الفرائض، يعني: فضل عنها، فـ (هو لأولى)؛ أي: أقرب (رجل) من عصبات الميت (ذكر). قال الحافظ ابن رجب: قد قيل: إنّ المراد به العصبة البعيدة خاصّة، كبني الإخوة والأعمام وبنيهم، دون العصبة القريب، بدليل أن الباقي بعد الفروض يشترك فيه الذكر والأنثى إذا كان العصبة قريبًا، كالأولاد والإخوة بالاتفاق، وكذلك الأخت مع البنت بالنصّ الدّال عليه، وأيضًا فإنه يخص منه هذه الصور بالاتفاق، وكذلك يخص منه المعتقة مولاة النعمة بالاتفاق، فيخصّ منه صورة الأخت مع البنت بالنّص. وقال بعضهم: المراد بقوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها": ما يستحقه ذَوو الفروض في الجملة، سواء أخذوه بفرض، أو بتعصيب طرأ لهم، والمراد بقوله: "فما بقي فلأولى رجل ذكر": العصبة الذي ليس لها فرض بحال، ويدل عليه أنّه روي الحديث باللفظ الذي أخرجه مسلم، فقوله: "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله تعالى" يدخل فيه كلّ من كان من أهل الفروض بوجهٍ من الوجوه، وعلى هذا، فما تأخذه الأخت مع أخيها أو ابن عمها إذا عصبها هو داخل في هذه القسمة؛ لأنها من أهل الفرائض في الجملة، فكذلك ما تأخذه الأخت مع البنت. ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 399 - 401).

وقالت فرقة: المراد بأهل الفرائض في قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها"، وقوله: "اقسموا المال بين أهل الفرائض": جملة من سمّاه الله في كتابه من أهل المواريث من ذوي الفروض والعصبات كلهم، فإنّ كل ما تأخذه الورثة فهو فرضٌ فرضه الله لهم، سواء كان مقدّرًا، أو غير مقدر، كما قال بعد ذكر ميراث الوالدين والأولاد: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11]، وفيهم ذو فرض وعصبة، وكما قال: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]، وهذا يشمل العصبات، وذوي الفروض، فكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقسموا الفرائض بين أهلها على كتاب الله" يشمل قسمته بين ذوي الفروض والعصبات على ما في كتاب الله، فإن قسم على ذلك، ثم فضل منه شيء، فيختصّ بالفاضل أقربُ الذكور من الورثة، وكذلك إن لم يوجد في كتاب الله تصريح بقسمته بين من سمّاه الله من الورثة فيكون حينئذٍ المال لأولى رجل ذكر منهم، فهذا الحديث مبيّن لكيفية قسمة المواريث المذكورة في كتاب الله -تعالى- بين أهلها، ومبيّن لقسمة ما فضل من المال عن تلك القسمة ممّا لم يصرّح به في القرآن من أحوال أولئك الورثة وأقسامهم، ومبيّن -أيضًا- لكيفية توريث بقية العصبات الذين لم يصرح بتسميتهم في القرآن، فإذا ضُمّ هذا الحديث إلى آيات القرآن، انتظم ذلك كلّه معرفة قسمة المواريث بين جميع ذوي الفروض والعصبات (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها": الحديث هذا عام خصّ منه المُعْتِقَة والملاعِنَة والملتَقِطَة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تحوز ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 401 - 402).

المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعَنَتْ عليه" (¬1)، وإذا كان عامًا مخصوصًا، خصّت منه هذه الصور بما ذكر من الدلالة، فإن قيل: قوله: "فلأولى رجلٍ ذكر" إنما هو من الأقارب الوارثين بالنسب، قيل: فالمنازع يقدّم المعتق على الأخت مع البنت، وليس من الأقارب، وهو - صلى الله عليه وسلم - قال: "فلأولى رجل ذكر"، فأكدّه بالذكر، ليبيّن أنّ العاصب المذكور هو الذكر دون الأنثى، وإنه لم يرد بلفظة الرجل ما يتناول الأنثى، كما في قوله: "أَيُّما رجلٍ وجد متاعَه"، ونحو ذلك مما يذكر فيه لفظة الرجل، والحكم يعمّ النوعين الذكور والإناث. ثمّ قال: فقوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما يراد به إذا لم يكن هناك من يكون عصبة بغيره؛ أي: مع غيره، وهو من أهل الفرض في بعض الأحوال (¬2). تنبيهات: الأوّل: الإرث ثلاثة أنو اع: فرضٌ، وتعصيب، وذو رحمٍ، فالفرضُ تقدّم ذكره، وذكر الوارثين به. والعصبة مصدر عصب يعصب تعصيبًا، فهو عاصب، ويجمع العاصب على عَصَبَة، وتجمع العصبة على عَصَبات، ويسمى بالعصبة: الواحدُ وغيره، والعصبة لغة: قرابة الرجل لأبيه، سمّوا بها؛ لأنهم عصبوا به؛ أي: أحاطوا به، وكلّ ما ما استدار حول شيء، فقد عصب به، ومنه: ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2906)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث ابن الملاعنة، والترمذي (2115)، كتاب: الفرائض، باب: ما جاء ما يرث النساء من الولاء، وابن ماجة (2742)، كتاب: الفرائض، باب: تحوز المرأة ثلاث مواريث، من حديث واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (31/ 349) وما بعدها.

العصائب؛ أي: العمائم، وقيل: سمّوا بها، لتقوي بعضهم ببعض، من العصب، وهو الشدّ والمنع، يقال: عصبت الشيء عصبًا: إذا شددته، والرأسَ بالعمامة: شددتها، ومنه: العصابة، لشدّ الرأس بها، ومدار هذه المادّة على الشدّ والقوّة والإحاطة (¬1). والعصبة اصطلاحًا: من يرث بغير تقدير، إن انفرد، أخذ المال كلّه، وإن كان معه ذو فرض، أخذ ما فضل عنه، وإن استوعبت الفروض التركة، سقط. وهم: كلّ ذكر ليس بينه وبين الميّت أنثى، وهم: الابن وابنه، والأب وأبوه، والأخ وابنه لا من الأم، والعم وابنه كذلك، ومولى النعمة، وأحقّهم بالميراث أقربُهم، ويسقط به من بَعُد، وأقربُهم الابنُ فابنه وإنْ نزله، ثمّ الأب، ثمّ الجد وإن على، فهو أولى من الإخوة لأب أو لأبوين أو لأب في الجملة، وإن كان، إن اجتمعوا معه فقاسموه، ثم الأخ من الأبوين، فمن الأب، ثم ابن الأخ من الأبوين، فمن الأب، ثم أبناؤهم وإن نزلوا، ثم الأعمام فأبناؤهم كذلك، ثم أعمام الأب فأبناؤهم [ثم أعمام الجد فأبناؤهم] (¬2) كذلك أبدًا، لا يرث بنو أب أعلى من بني أب أقرب منهم، وإن نزلت درجتهم. والحاصل: أنّ جهات العصوبة عندنا ست: البنوّة، ثم الأبوّة، ثم الجدودة مع الأخوّة، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة، ثم ذوو الولاء، فلا ترث جهة من هذه الجهات الست مع وجود جهة مقدمة عليها -يعني: ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 302)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 607)، (مادة: عصب). (¬2) [ثم أعمام الجد فأبناؤهم] ساقطة من "ب".

بالعصوبة-، وإلّا، فالأب، وكذا الجدّ مع عدم الأب يرث مع ولد أو ولد ابن بالفرض سدسًا، وبالفرض والتعصيب مع أنوثيتهما، فيأخذ السدس فرضًا، ثم ما بقي تعصيبًا، فإن اجتمع اثنان فأكثر من جهةٍ واحدةٍ، قدّم بالدرجة؛ أي: قدم أقربهم إلى الميّت؛ كتقديم الابن على ابنه مثلًا، وتقديم العم على ابنه، فإن اتحدا جهة ودرجة، قدم بالقوّة، فيقدّم الأخ الأبوين على الأخ من الأب، وكذلك ابن الأخ لأبوين على ابن الأخ لأب، وكذا العم لأبوين على العم لأب، وبنوهم كذلك، وإلى هذه القاعدة أشار الجعبريُّ -رحمه الله تعالى (¬1) - بقوله: [من الطويل] فَبِالْجِهِة التَّقْدِيمُ ثُمَّ بِقُرْبِهِ ... وَبَعْدَهُمَا التَّقْدِيمَ بِالقُوَّةِ اجْعَلَا (¬2) فذو القرابتين أقوى من ذى القرابة الواحدة كما مثلنا، والله أعلم. الثاني: اعلم أنّ العصبة ثلاثة أقسام: عصبة بنفسه، وهم من قدّمنا ذكرَهم، وعصبةٌ بغيره، وهم البنت فأكثر، فإنّه يعصبها الابن فأكثر، وبنتُ الابن فأكثر يعصبها ابنُ الأبن فأكثر، فيكون المال أو الباقي بعد الفروض بينهم للذكر مثلُ حظ الأنثيين، والأخُ الشقيق فأكثر يعصب الأختَ الشقيقة فأكثر، والأخ من الأب فأكثر يعصب الأختَ من الأب فأكثر، فيقسم المالُ أو الفاضل بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إجماعًا؛ لقوله -تعالى-: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176]، ويعصب - ¬

_ (¬1) هو الشيخ صالح بن تامر بن حامد أبو الفضل الجعبري الشافعي، صاحب: "الجعبرية" في الفرائض، كان خيرًا متواضعًا، حسن الخلق، سمع من المجد ابن تيمية وغيره. توفي سنة (706 هـ)، انظر: "الدرر الكامنة" لابن حجر (2/ 355). (¬2) انظر: "حاشية النجدي على منتهى الإرادات" (3/ 518)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-.

أيضًا- الأختَ لأبوين، أو لأب الجد، ولا يعصب الأخُ لأب الأختَ الشقيقة، بل لها معه النصفُ فرضًا، وله الباقي تعصيبًا إجماعًا، ولا يعصب الأخُ الشقيق الأختَ لأب. بل يسقطها إجماعًا، فتلخّص أنّ العصبة بالغير أربعة: البنت، وبنت الابن، والأخت لأبوين، والأخت لأب. وأمّا العصبة مع الغير، فالأخت فأكثر لأبوين، أو لأب مع البنت، أو بنت الابن فأكثر، فإذا كانت البنت واحدة، فلها النصف فرضًا، والباقي للأخت فأكثر تعصيبًا، وإذا كانت بنات الصلب ثنتان فأكثر، فلهما أو لهنَّ الثلثان فرضًا، والباقي للأخت فأكثر تعصيبًا، وإن كانت بنت وبنت ابن وأخت، فللبنت النصف فرضًا، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين فرضًا والباقي للأخت تعصيبًا، وإذا صارت الأخت الشقيقة مع البنت عصبة، فهي بمنزلة الشقيق، فتُسقط الأخَ والأختَ من الأب كما يُسقطهم الشقيق. والفرق بين العصبة بغيره والعصبة مع غيره: أنّ الأول لابد أن يشاركه من عصبه، وأما العصبة مع غيره، فلا يشاركه، بل إن بقي شيء بعد الفروض، أخذه العصبة، وإلّا، سقط، فزوج وبنتان وأم شقيقة: المسألة من اثني عشر: للزوج الربع ثلاثة، وللبنتين الثلثان ثمانية، وللأم السدس اثنان، فتعول إلى ثلاثة عشر، وتسقط الشقيقة. فتلخص: أن العصبة مع غيره جنُس الأخت للأبوين أو لأب مع جنس البنت أو بنت الابن، والله -تعالى- الموفّق (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي مع "شرحه" للبهوتي (4/ 562)، و"الإقناع" للحجاوي (3/ 193)، و"حاشية النجدي على المنتهى" (3/ 517)، و"الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 83)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 54).

الثالث: ذوو الأرحام: كلّ قرابة ليس بذي فرض ولا عصبة، وهم أحد عشر صنفًا: ولد البنات، وولد بنات الابن، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وبنات الأعمام، وأولاد الإخوة من الأم، والعم من الأم، والعمّات، والأخواله، والخالات، وأبو الأم، وكلّ جدّة أدلت بأب بين أميّن، كأم أبي الأم، أو بأبٍ أعلى من الجد، كأم أبي أبي أبي الميّت، ومن أدلى بهم، ويرثون بالتنزيل، وهو أن تجعل كلّ شخص بمنزلة من أدلى به، فولد البنات، وولد بنات الابن، وولد الأخوات كأمهاتهم، وبنات الإخوة، والأعمام لأبوين أو لأب، وبنات بنيهم، وولد الإخوة من الأم كآبائهم، والأخواله، والخالات، وأبو الأم كالأم، والعمّات والعم من الأم كالأب، وأبو أم أب، وأبو أم أم، وأخواهما، وأختاهما، وأم أبي جد بمنزلتهم، ثم يُجعل نصيبُ كلّ وارث لمن أدلى به، فإن انفرد واحد من ذوي الأرحام، أخذ المال كلّه، وإن أدلى جماعة منهم بواحد، واستوت منازلهم منه بلا سبق، فنصيبه بينهم بالسويّة ذكرهم وأنثاهم ولو خالًا وخالة، فإن أسقط بعضهم بعضًا، كأبي الأم والأخوال، فأسقط الأخوال؛ لأن الأب يسقط الإخوة والأخوات، فإن كان بعضهم أقرب من بعض، فالميراث لأقربهم، ويسقط البعيد منهم كما يسقط البعيد من العصبات بقريبهم، كخالة وأم أبي أم أو ابن خاله، فالميراث للخالة؛ لأنها تلقى الأمَّ بأول درجة، فإن اختلفت منازلهم من المدلي، به جعلته كالميّت، وقسَمت نصيبه بينهم على ذلك، كثلاث خالات متفرقات، وثلاث عمّات متفرقات، فالثلت بين الخالات على خمسة، والثلثان بين العمّات كذلك، فاجتزِ بإحداهما، واضربها في ثلاثة، تكن خمسة عشر: للخالة من قبل الأم والأب ثلاثة، وللتي من قبل الأب سهم، وللتي من قبل الأم سهم، وللعمّة التي من قبل

الأم والأب ستة، وللتي من قبل الأب سهمان، وللتي من قبل الأم سهمان. وإن أسقط بعضهم بعضًا، عملت بذلك، فإن كان بعضهم أقرب من بعض في السبق إلى الوارث، ورثَ، وأسقط غيره إذا كانوا من جهة واحدة؛ كبنت بنتٍ وبنت بنتِ بنتٍ، وإن كانوا من جهتين، فينزل البعيد حتى يلحق بوارثه، سواء سقط به القريب، أو لا، كبنت بنت بنت، وبنت أخ من أم، فالمال لبنت بنت البنت. والجهات ثلاثة: أبوّة، وأمومة، وبنوّة، ومن أدلى بقرابتين، ورث بهما (¬1)، وهذا مذهب أهل التنزيل، وهو معتمد مذهب الحنابلة والشافعية، وهو أقيس، ومذهب الحنفية، ويسمى مذهب أهل القرابة، فيقدّمون الأقرب فالأقرب كالعصبات (¬2)، وفي ذلك تفصيلٌ يطول لا حاجة بنا إلى ذكر شيء منه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 215 - 217). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 90).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَتَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِكَ بمَكَّةَ؟ قَالَ: "وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاع؟! "، ثمّ قَالَ: "لَا يَرِثُ الكَافِرُ المُسْلِمَ، وَلَا المُسْلِمُ الكَافِرَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1511)، كتاب: الحج، باب: توريث دور مكة وبيعها وشرائها، و (2893)، كتاب: الجهاد، باب: إذا أسلم قوم في دار الحرب، ولهم مال وأرضون، فهي لهم، و (4032)، كتاب المغازي، باب: أين ركز النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية يوم الفتح، ومسلم (1351)، كتاب: الحجِّ، باب: النزول بمكة للحاج وتوريث دورها، و (1614)، كتاب: الفرائض. قلت: قال ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (8/ 63): هذا الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواضع مفرقًا وَمجموعًا -ثم بعد ذكرِها- قال: إذا عرفت ذلك، فلفظ المصنف بسياقه ليس واحد منهما، وأقربها إلى روايته سياق البخاري له في باب المغازي، انتهى. قلت: لفظ البخاري في المغازي برقم (4032) -كما تقدم-: أن زيدًا - رضي الله عنه - قال زمن الفتح: أين تنزل غدًا؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وهل ترك لنا عقيل من منزل" ثم قال: "لا يرث المؤمن الكافر، ولا يرث الكافر المؤمن". قلت: ولعل المصنف -رحمه الله- قد جمع بين سيأتي حديث أسامة - رضي الله عنه -، فالأول وهو قوله: (قلت: يا رسول الله! أتنزل غدًا في دارك بمكة؟ قال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع") رواه البخاري (1511)، ومسلم برقم (1351) -كما تقدم تخريجه عندهما-. =

(عن) أبي محمدٍ (أسامةَ بنِ زيدِ) بنِ حارثة - (رضي الله عنهما) - وأسامةُ هو الحِبُّ بن الحبِّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقدّمت ترجمته في باب: فسخ الحج إلى العمرة، وأما زَيْدٌ والدُ أُسامة - رضي الله عنهما -، فهو زيدُ بنُ حارثةَ مولى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، يُكنّى بابنه أسامةَ، وحارثةُ -بالحاء المهملة وبالمثلثة- ابنُ شَراحِيلَ -بفتح الشين المعجمة وكسر الحاء المهملة- ابنِ كعبِ بنِ عبدِ العزى بنِ امرىء القيسِ بنِ النعمانِ بنِ عبدِ ودّ بنِ امرىء القيسِ بنِ عامرٍ القضاعيُّ الكلبيُّ، وكان قد أصابه في الجاهلية سبيًا؛ لأن أمه خرجت به تزور قومها، فأغارت عليهم خيلٌ لبني العين بن حَسْرٍ، ¬

_ = والثاني: وهو قوله: "لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر" رواه البخاري (6383) كتاب: الفرائض، باب: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، ومسلم (1614)، في أول كتاب الفرائض. وقد جمعهما ابن ماجة (2730)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك. ورواه أبو داود (2010)، كتاب: المناسك، باب: التحصيب، و (2909 - 2910)، كتاب: الفرائض، باب: هل يرث المسلم الكافر، والترمذي (2107)، كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في إبطال الميراث بين المسلم والكافر، وابن ماجة (2729)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 100)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 257)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 324)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 567)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 120)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (17/ 4)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1243)، و"فتح الباري" لابن حجر (3/ 451)، و"عمدة القاري" للعيني (9/ 226)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 153)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 192).

فأخذوا زيدًا فباعوه وهو ابن ثمان سنين، وأمُّ زيد سعدى بنت ثعلبةَ من بني معن من طيٍّ، فوافوا به بعد سَبْيِه سوقَ عكاظ، فاشتراه حكيمُ بنُ حزامِ بنِ خُويلدٍ لعمّته خديجةَ أمِّ المؤمنين - رضي الله عنهما - بأربع مئة درهم، فلما تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهبته له، فقبضه، وكان أبوه حارثةُ قال حين فقده: [من الطَّويل] بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ ... أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الأَجَلْ فَوَ اللهِ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ سَائِلًا ... أَغَالَكَ سَهْلُ الأَرْض أَمْ غَالَكَ الجَبَلْ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَكَ الدَّهْرَ رَجْعَةٌ ... فَحَسْبِي مِنَ الدُّنْيَا رُجُوعُكَ لَوْ بَجَلْ تُذَكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا ... ويعْرِضُ ذِكْرَاهُ إِذَا قَارَبَ الطَّفَلْ وَإِنْ هَبَّتِ الأَرْوَاحُ هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ ... فَيَا طُولَ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَيَا وَجَلْ سَأُعْمِلُ نَصَّ الِعيسِ فِي الأَرْضِ جَاهِدًا ... وَلا أَسْأَمُ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمَ الإِبِلْ حَيَاتِيَ أَوْ تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي ... وَكُلُّ امْرِىءٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الأَمَلْ وَأُوصِي بِهِ قَيْسًا وَعَمْرًا كِلَيْهِما ... وَأُوصِي يَزِيدًا ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ جَبَلْ يعني: جبلةَ بنَ حارثة أخا زيد، ويزيدُ هو أخو زيدٍ لأمه. قال الحافظ ابنُ الجوزي في "منتخب المنتخب": فحجّ ناسٌ من كعب، فرأوا زيدًا، فعرفوه وعرفهم، فقال: أبلغوا أهلي هذه الأبيات، فإني أعلم أنهم قد حرقوا عليَّ، فقال: [من الطويل] أُبَكِّي إِلَى قَوْمِي وَإِنْ كُنْتُ نائِيًا ... بِأَنِّيَ قَطينُ البَيْتِ عِنْدَ المَشَاعِرِ فَكُفُّوا عَنِ الوَجْدِ الَّذِي قَدْ شَجَاكُمُ ... وَلا تُعْمِلُوا فِي الأَرْضِ نَصَّ الأَباعِرِ فَإِنِّي بِحَمْدِ اللهِ فِي خَيْرِ أُسْرَةٍ ... كِرَامِ مَعَدٍّ كابِرًا بَعْدَ كابِرِ فانطلقوا فأعلموا أباه، فخرج حارثةُ وكعبٌ ابنا شَراحيلَ بفدائه، فدخلا

على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالا: يا بنَ هاشمٍ! يا بنَ سيّدِ قومِه! أنتم أهلُ حرم الله وجيرانُه، تفكون العانيَ، وتطعمون الأسير، جئنا في ابننا، فامننن علينا، فإنّا سندفع لك الفداء، فقال: "ما هو؟ "، فقالوا: زيد، قال: "فهلّا غير ذلك؟ "، قالوا: ما هو؟ قال: "ادعوه فخيّروه، فإن اختاركم، فهو لكم بغيرِ فداء، وإن اختارني، فوالله! ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدًا"، قالا: قد زدتنا على النصفة، فدعاه، فقال: "هل تعرف هؤلاء؟ "، قال: هذا أبي، وهذا عمي. قال: "وأنا من قد علمتَ، فاخترني أو اخترهما"، فقال: ما أنا بالذي أختار عليكَ أحدًا، فقالا: ويحك يا زيد! تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك! قال: نعم، إنِّي قد رأيتُ في هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختارُ عليه أحدًا، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، أخرجه إلى الحِجْر، فقال: "يا من حضر! اشهدوا أنّ زيدًا ابني، يرثني وأرثه"، فلما رأى ذلك أبوه وعمه، طابت أنفسهما، وانصرفا، فدعي: زيدَ بنَ محمّد إلى أن جاء الإسلام ونزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]، فقيل له: زيدُ بنُ حارثةَ، فزوجه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زينبَ بنتَ جحش. قال الزهري: زيدٌ أولُ من أسلم، وقال غيره: أسلمَ بعدَ علي، وقيل: هو أولُ من أسلم من الموالي، شهد بدرًا وأُحدًا والخندق والحديبية وخيبر، واستخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة حين خرج إلى المريسيع، وخرج أميرًا في سبع سرايا، ولم يَذكر في القرآن صحابيًا باسمه غيره في قوله -تعالى-: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]. قال في "جامع الأصول": كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكبرَ منه بعشر سنين، وقيل: بعشرين سنة، وزوجه - صلى الله عليه وسلم - مولاته أم أيمن، فولدت له أسامة، ثم زوجه

زينب بنت جحش، وكان يقال له: حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين زيد وبين حمزة عمّه. وفي "مستدرك الحاكم": أنّ حارثة والد زيد أسلم، فأسامة وأبوه وجدُّه صحابة. ويروى: أنّ ابنًا لأسامة صحابي أيضًا. وقالت عائشة - رضي الله عنها -: ما بعثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة في سريّة إلّا أمّرَه عليهم، ولو بقي، لاستخلفه (¬1). واستشهد [زيد] (¬2) - رضي الله عنه - في غزوة مؤتة، وهو أمير الجيش في جمادى الأولى سنة ثمان، وهو ابن خمسٍ وخمسين سنة أو نحوها. روى عنه ابنه أسامة وغيره. قال الحافظ ابن الجوزي في "منتخب المنتخب": رُوي لزيد أربعة أحاديث، ولم يُذكر له شيء في "الصحاح" (¬3). وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا: "أَحَبُّ النَّاس إليَّ مَنْ أنعم اللهُ عليه ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (4962). (¬2) [زيد] ساقطة من "ب". (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 40)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 379)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 235)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 542)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (19/ 342)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 378)، و"جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 408 - "قسم التراجم")، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 53)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 35)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 598).

وأنعمتُ عليه" (¬1)، يعني: زيدَ بنَ حارثة - رضي الله عنه -. (قال) أسامةُ بنُ زيد: (قلتُ) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا رسولَ الله! أتنزل غدًا) إذا قدمت مكّة، وذلك في حجّة الوداع، (في دارك بمكة؟). وفي رواية: أين تنزل غدًا (¬2)؟ في دارك بمكة؟ (قال)، وفي لفظ: فقال، بزيادة الفاء (¬3): (وهل ترك لنا عَقيلٌ) -بفتح العين المهملة وكسر القاف- ابنُ أبي طالب، القُرَشي، الهاشميُّ، هو أخو علي بن أبي طالب لأبيه وأمه، وكان أسنَّ من علي بعشر سنين، كنّاه النبي - صلى الله عليه وسلم -: أبا يزيد، ويزيدُ أحد بنيه، قدم عقيل البصرة، ثم أتى الكوفة، ثم الشّام، وكان قد شهد بدرًا مع المشركين مكرهًا، وأُسر، وفداه العبّاس، ثم أسلم قبل الحديبية، ومات بعدما أضر في أيام معاوية، ودفن بالبقيع، وقبره مشهور، وكان أعرفَ قريش بأنسابها، وكان فاضلًا ذكيًا، حاضر الجواب، وله في ذلك حكايات، وكان عارفًا بمثالب قريش، وكانت قريش تُبغضه لذلك، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث قليلة (¬4). (من رباع) -بكسر الراء- جمع رَبعْ: المحلّة أو المنزل المشتمل على أبيات، أو الدار، وحينيذٍ فيكون قوله: "أو ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (445)، والحاكم في "المستدرك" (6529)، من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم. (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 153). (¬4) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 42)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 50)، و"الاستعاب" لابن عبد البر (3/ 1078)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (41/ 4)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 61)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 309)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 235)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 218)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 531)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 226).

دور" تأكيدًا، أو شكًا من الراوي، وجمعُ النكرة -وإن كانت في سياق الاستفهام الإنكاري- تفيد العموم، للإشعار بأنه لم يترك من الرباع المتعددة شيء، و (مِنْ) للتبعيض. قاله الكرماني. وقيل: إنّ هذه الدار كانت لهاشم بن عبد مناف، ثم صارت لابنه عبد المطلب، فقسمها بين ولده، فمن ثَمَّ صار للنبي - صلى الله عليه وسلم - حقُّ أبيه عبد الله، وفيها ولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قاله الفاكهي. وظاهر قوله: "وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ " أما كانت ملكه، فأضافها إلى نفسه، فيحتمل أنّ عقيلًا تصرّف فيها، كما فعل أبو سفيان بدور المهاجرين، ويحتمل غير ذلك. وقد فسّر الراوي، ولعلّه أسامة - رضي الله عنه - المراد بما أدرجه هنا، حيث قال كما في "البخاري" (¬1): وكان عقيل ورث أباه أبا طالب، -واسمُه عبدُ مناف- هو وأخوه طالب المكنى به عبدُ مناف، ولم يرثه؛ أي: لم يرث أبا طالب الذي هو عبد مناف ابناه جعفر وعلي - رضي الله عنهما -؛ لأنهما لمّا مات أبوهما، كانا مسلمين، ولو كانا وارثين، لنزل -عليه السلام- في دورهما، وكانت كأنها ملكه، لعلمه بإيثارهما إيّاه على أنفسهما، وكان قد استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما، لكونهما كانا لم يسلما حين موت أبي طالب، وباعتبار تركِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لحقّه منهما بالهجرة، وفقد طالب ببدر، فباع عقيل الدار كلها. وحكى الفاكهي أنّ الدار لم تزل بيد أولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمئة ألف دينار، كما في "القسطلاني" (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1511)، وعند مسلم برقم (1351). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 153 - 154).

وقال: الداودي وغيره: كان من هاجرَ من المؤمنين باع قريبُه الكافرُ دارهَ، فأمضى النبي - صلى الله عليه وسلم - تصرفات الجاهلية، تأليفًا لقلوب من أسلمَ منهم (¬1). تنبيه: من متعلقات هذا الحديث مسألةُ رِباعِ مكة ودورها، وهل يجوز بيعُها أم لا، وفي ذلك خلاف مشهور للعلماء. قال علماؤنا: لا يصحّ بيعُ رباع مكةَ، وهي المنازله، ودارُ الإقامة، ولا الحرم كله، وبقاع المناسك، وأولى، إذ هي كالمساجد، ولأنها فُتحت عنوة، ولا إجارةُ ذلك، فإن سكن بأجرة، لم يأثم بدفعها (¬2)، وهو مذهب ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، وغيرهم، فذهبوا إلى التسوية بين البادي والعاكف في منازل مكّة، وهو مذهب أبي حنيفة -أيضًا-، وبه قال محمّد بن الحسن، فليس المقيمُ بها أحقَّ بالمنزل من القادم عليها، واحتجّ لذلك بحديث علقمة بن نضلة عند ابن ماجة، قال: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمر، وما تدعى رباع مكّة إلا السوائب، من احتاج، سكن (¬3)، زاد البيهقي: من استغنى أسكن (¬4)، زاد الطحاوي بعد قوله: على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم -: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 452). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 164). (¬3) رواه ابن ماجة (3107)، كتاب: المناسك، باب: أجر بيوت مكة. (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 35)، وهذه الزيادة هي في لفظ ابن ماجة السالف ذكره.

ما تُباع ولا تُكرى (¬1)، لكنه منقطع؛ لأن علقمة ليس بصحابي. وقال عبد الرزاق عن معمر، عن منصور، عن مجاهد: إن عمر قال: يا أهل مكة! لا تتخذوا لدوركم أبوابًا، لينزل البادي حيث شاء (¬2). وروى عمرو بنُ شعيب عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة: "لا تُباع رباعها، ولا تكرى بيوتها" رواه الأثرم (¬3). وروى سعيد بنُ منصور عن مجاهد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنّه قال: "مكة حرام بيعُ رباعها، حرامٌ إجارتُها" (¬4)، وأجاب من أجاز البيع والإجارة بأن المراد: كراهة الكراء، رفقًا بالوفود، ولا يلزم من ذلك منع البيع والشراء (¬5)، والله أعلم. (ثم قال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - كما في "مسند الإمام أحمد" (¬6)، و"الصحيحين"، و"سنن أبي داود"، و"الترمذي" (¬7)، وغيرهم: (لا يرث الكافرُ المسلمَ، ولا) يرث (المسلمُ الكافرَ) لانقطاع الموالاة بينهما، ومن "تراجم البخاري" على هذا الحديث باب: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، وإن أسلم قبل أن يقسم الميراث، فلا ميراث له" (¬8)، انتهى. ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 49). (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (9211). (¬3) ذكره ابن قدامة في "المغني" (4/ 177). (¬4) ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (14679). (¬5) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 153). (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 200). (¬7) تقدم تخريجه عندهم. (¬8) انظر: "صحيح البخاري" (6/ 2484).

قال الإمام محمد بن شهاب الزهري: وكانوا؛ أي: السلفُ يتأولون قول الله -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] الآية (¬1). فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نُسخ ذلك بقوله -تعالى-: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬2) [الأحزاب: 6]، وأما مع اختلاف الدين، فلا توارث، وإن أسلم قريبُ الميتِ المسلمِ قبل قسم التركة عند الجمهور؛ لأن الاعتبار بوقت انتقال التركة، وهو زهوق روح الميّت، لا وقت القسمة عند الجمهور، فلا يرث المسلم الكافر، وقيل: يرثه، لخبر: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" (¬3)، وأجاب الجمهور عن الخبر بأن معناه: فضل الإسلام، ولا تعرض فيه للإرث، فلا يترك النص الصريح لذلك (¬4). واعلم أنّ عدم إرث الكافر للمسلم مجمَعٌ عليه، وأما عكسه فعند الجمهور خلافًا لمعاذ بن جبل ومعاوية ومن وافقهما، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. قال في "الفروع": وورَّثَ شيخُنا المسلمَ من الذميّ، لئلا يمتنع قريبه من الإسلام، ولوجوب نصرهم، ولا ينصروننا، ولا مولاة لمن آمن ولم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1511). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 154). (¬3) رواه الروياني في "مسنده" (7836)، والدارقطني في "سننه" (3/ 252)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 205)، والديلمي في "مسند الفردوس" (395)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (8/ 240)، عن عائذ بن عمرو المزني - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1244 - 1245).

يهاجر بنصرة، ولا ولاءَ له، للآية، فهؤلاء لا ينصروننا، ولا هم بدارنا لننصرهم دائمًا فلم يكونوا يرثون، ولا يورثون، والإرث كالعقل، وقد بيّن في قوله -تعالى-: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} [الأحزاب: 6] في الأحزاب: أنّ القريب المشارك في الإيمان والهجرة أولى ممن ليس بقرابة، وإن كان مؤمنًا مهاجرًا، ولما فُتحت مكة، توارثوا. وقال في "الردّ على الزنادقة": إن الله حكم على المؤمنين لمّا هاجروا ألَّا يتوارثوا إلّا بالهجرة، فلما أكثر المهاجرون، ردّ الله الميراث على الأولياء، هاجروا أو لم يهاجرواه. وفي "عيون المسائل": كان التوارث في الجاهلية، ثم في صدر الإسلام بالحلف والنصرة، ثم نُسخ إلى الإسلام والهجرة بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة مع وجود النسب، ثمّ نُسخ بالرحم والقرابة، فهذا نُسخ مرّتين، كذا رواه عكرمة، انتهى كلام "الفروع" (¬1). تنبيهان: الأوّل: معتمد المذهب: أنه لو أسلم كافر قبل قسم ميراث مورثه المسلم، ورثه، نقله الأثرم محمد بن الحكم، واختاره الشريف، وأبو الخطاب في "خلافيهما". قال في "الإنصاف": هذا المذهب، جزم به في "الوجيز"، وغيره. قال في "الرعايتين": هذا المذهب (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 35). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 349).

قال الزركشي: هذا المشهور (¬1). انتهى. وسواء كان الوارث كافرًا أصليًا، أو مرتدًّا، أو زوجة، بشرط إسلامها قبل قسمة التركة، وقبل انقضاء عدّتها، لا إن أسلم زوج بأن تسلم المرأة أولًا، ثم تموت في مدّة العدّة، لم يرثها زوجها الكافر، ولو أسلم قبل القسمة، لانقطاع علق الزوجية منه بموتها، قاله في "القواعد" (¬2). وهذا يعني: كونَ الوارث إذا أسلم بعد موت مورثه، وقبل قسمة التركة، يرثه، مرويًا نحوه عن عمر، وعثمان، والحسن بن علي، وابن مسعود، وبه قال جابر بن زيد، والحسن، ومكحول، وقتادة، وحميد، وإياس بن معاوية، وإسحاق بن راهويه، وسنده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أسلم على شيء، فهو له" رواه سعيد في "سننه" (¬3). وروى أبو داود وابن ماجة بإسناديهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلّ قسم قسم في الجاهلية، فهو على ما قسم، وكلّ قسم أدركه الإسلام، فإنه على قسم الإسلام" (¬4). وروى ابن عبد البر بإسناده عن [يزيد] (¬5) بن قتادة العنبري: أنّ إنسانًا من أهله مات على غير دين الإسلام، فورثته أختي دوني، وكانت على دينه، ثمّ إنّ جدّي أسلم، وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حنينًا، فتوفي، فلبثت سنة، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح الزركشي على الخرقي" (4/ 535). (¬2) وانظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (4/ 637 - 638). (¬3) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 97) من طريق عروة بن الزبير وابن أبي مليكة. (¬4) رواه أبو داود (2914)، كتاب: الفرائض، باب: فيمن أسلم على ميراث، وابن ماجة (2485)، كتاب: الرهون، باب: قسمة الماء. (¬5) في الأصل: "زيد"، والصواب ما أثبت.

وكان ترك ميراثًا، ثمّ إنّ أختي أسلمت، فخاصمتني في الميراث إلى عثمان - رضي الله عنه -، فحدّثه عبدُ الله بن أرقم: أن عمر قضى: أنّ من أسلم على ميراث قبل أن يُقسم، فله نصيبه، فقضى به عثمان، فذهبت بذلك الأول، وشاركتني في هذا (¬1)، وهذه قضية انتشرت ولم تُنكر، فكان الحكم فيها كالمجمعَ عليه (¬2)، والحكمة في ذلك الترغيبُ في الإسلام، والحثُّ عليه، فلو قسم بعض الميراث، فأسلم قبل قسم بقيته، ورث فيما لم يُقسم، وإن كان الوارث واحدًا، فإذا تصرّف في التركة، واحتازها، كان ذلك بمنزلة قسمتها (¬3). وعن الإمام أحمد فيمن أسلم بعد الموت، ولو قبل قسم التركة: لا يرث، صححها جماعة، كقنّ عتق قبل قسمة، على الأصح، قاله في "الفروع" (¬4). قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب فيمن أسلم بعد الموت: لا يرث، قد وجبت المواريث لأهلها. وروي عن علي، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، والزهري، والنخعي، وهو مذهب الثلاثة (¬5)، والله أعلم. الثاني: معتمد المذهب: يرث المسلم الكافر بالولاء كعكسه، لما روى جابر: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلم النصراني، إلّا أن يكون ¬

_ (¬1) رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 56 - 57). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 249). (¬3) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (4/ 637 - 638). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 35). (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 249).

عبدَه أو أمته" رواه الدارقطني (¬1)، ولأنّ ولاءه له بالإجماع، وهو شعبة من الرق، فورثه كما يرثه قبل العتق (¬2)، وعنه: لا إرث بالولاء مع المخالفة للدين، وهو مذهب الثلاثة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 74)، وكذا النسائي في "السنن الكبرى" (6389)، والحاكم في "المستدرك" (8007)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 218). (¬2) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (4/ 476). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 105 - 106).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى عَنْ بَيْعِ الوَلَاءِ وَهِبَتِهِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2398)، كتاب: العتق، باب: بيع الولاء وهبته، و (6375)، كتاب الفرائض، باب: إثم من تبرأ من مواليه، ومسلم (1506)، كتاب: العتق، باب: النهي عن بيع الولاء وهبته، وأبو داود (2919)، كتاب: الفرائض، باب: في بيع الولاء، والنسائي (4657 - 4659)، كتاب: البيوع، باب: بيع الولاء، والترمذي (1236)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في كراهية بيع الولاء وهبته، و (2126)، كتاب: الولاء والهبة، باب: ما جاء في النهي عن بيع الولاء وعن هبته، وابن ماجة (2747 - 2748)، كتاب: الفرائض، باب: النهي عن بيع الولاء وعن هبته. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" (4/ 104)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 349)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 284)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 117)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 339)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 148)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 19)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1246)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 167)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 95)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 314)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 14)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 188).

(عن) أبي عبدِ الرحمنِ (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ - رضي الله عنهما - أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى) نهيَ تحريم (عن بيع الوَلاءِ) -بفتح الواو ممدودًا- والمراد به: العتاقة (¬1)، وهو عصوبةٌ سببها نعمة المعتِق على رقيقه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الولاءُ لمن أعتقَ" كما تقدم في حديث عائشة - رضي الله عنها (¬2) -، (و) نَهَى -عليه السلام- عن (هبته)، أي الولاء، فيحرم بيع الولاء، وهبته، ولا يصحان، فلا ينتقل الولاء. وعن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من والى قومًا بغير إذن مواليه، فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفًا، ولا عدلًا" متفق عليه (¬3)، وليس لمسلم فيه: بغير إذن مواليه، لكن له مثله بهذه الزيادة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه (¬4) -. وفي حديث عبد الله بن أبي أَوفى - رضي الله عنه - مرفوعًا: "الولاءُ لحمة كلحمة النسب" رواه الخلاّل (¬5). ورواه الشافعي وابن حبّان من حديث ابن عمر مرفوعًا، ولفظه: "الولاءُ لحمة كلحمة النسب، لا يُباع ولا يُوهب" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 311). (¬2) وتقدم تخريجه. (¬3) رواه البخاري (1771)، كتاب: فضائل المدينة، باب: حرم المدينة، ومسلم (1370)، (2/ 1147)، كتاب: العتق، باب: تحريم تولي العتيق غير مواليه. (¬4) رواه مسلم (1508)، كتاب: العتق، باب: تحريم تولي العتيق غير مواليه. (¬5) ذكره ابن قدامة في "المغني" (6/ 279)، ورواه من حديثه -أيضًا- الطبراني في "المعجم الكبير" (4/ 231 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 61). (¬6) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 338)، وابن حبان في =

قال علماؤنا: الولاء: ثبوت حكم شرعي بعتق، أو تعاطي سببه، والأصل فيه قوله -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]؛ يعني: الأدعياء، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعنَ اللهُ من تولَّى غيرَ مواليه" (¬1)، وقوله: "مولى القوم منهم" (¬2)، الحديثان صحيحان (¬3)، فمن أعتق نسمة، صار لها عصبة في جميع أحكام التعصيب عند عدم العصبة من النسب، من الميراث، وولاية النكاح، والعقل، وغير ذلك، فكلُّ من أعتق رقيقًا، أو بعضه، فسرى عليه، ولو سائبة ونحوها، كقوله: أعتقتك سائبة، أو ولاء عليك، أو منذورًا، أو عن زكاة، أو عن كفّارة، أو عتق عليه برحم، أو تمثيل به، أو كتابة، ولو أدّى إلى الورثة، أو تدبيرًا، أو إيلادًا، أو وصية بعتقه، أو تعليقًا بصفة فوجدت، أو بعوض، ونحو ذلك، فله عليه الولاء، وإن اختلف دينهما، وعلى أولاده من زوجة معتقة، أو سريّة، وعلى من لهم ولاؤه، كمعتقيه ومعتقي أولاده وأولادهم ومعتقيهم أبدًا ما تناسلوا، لا يزول بحال، ويرث به، ولو باينه في دينه على معتمد المذهب عند عدم العصبة من النسب، وعدم ذوي الفروض، فإِن كان من ذوي الفروض من لا يرث جميع التركة، فالباقي للمولى، ولا يرث النساء بالولاء إلا من أعتقن (¬4)، أو أعتق من أعتقن، والله -سبحانه- أعلم. ¬

_ = "صحيحه" (4950)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (1318)، والحاكم في "المستدرك" (7990)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 292). (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (4/ 672). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 245 - 247).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أَنَّها قَالتْ: كَانَتْ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: خُيِّرَتْ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عُتِقَتْ، وَأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ، فَدَعَا بطَعَامٍ، فَأْتِيَ بخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ البَيْتِ، فَقَالَ: "ألَمْ أَرَ البُرْمَةَ عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْم؟ " فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، ذَلِكَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ: "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّة". وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيها: "إِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4809)، كتاب: النكاح، باب: الحرة تحت العبد، و (4975)، كتاب: الطلاق، باب: لا يكون بيع الأمة طلاقًا، ومسلم (1504/ 14)، كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق، واللفظ له، والنسائي (3447 - 3448)، كتاب: الطلاق، باب: خيار الأمة، وابن ماجة (2076)، كتاب: الطلاق، باب: خيار الأمة إذا أعتقت. وقد تقدم تخريج الحديث بألفاظ مختلفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 63)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 105)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 334)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 20)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 1247)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 405)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 90).

(عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصدّيقةِ - (رضي الله عنها) - (أنها قالت: كانت في بريرةَ) المتقدمة ترجمتُها في "باب: الشروط في البيع" (ثلاثُ سُنن) وفي رواية: ثلاثُ قضيات (¬1)، وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند الإمام أحمد وأبي داود: قضى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أربع قضيات، فذكر نحو حديث عائشة، وزاد: وأمرها أن تعتدّ عدّة الحرّة (¬2)، وأخرجه الدارقطني (¬3)، وهذه الزيادة لم تقع في حديث عائشة. ثم أَخرج ابن ماجة من طريق الثوري عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أُمرت بريرةُ أن تعتدّ بثلاث حيض (¬4)، فهذا مثل حديث ابن عباس في قوله: تعتدّ عدّة الحرّة، وتخالف ما وقع في رواية أخرى عن ابن عباس: تعتدّ بحيضة، والحديث الذي أخرجه ابن ماجة على شرط "الصحيحين"، بل هو في أعلى درجات الصحة. وأخرج أبو يعلى، والبيهقي من طريق أبي معشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل عدّة بريرةَ عدّةَ المطلّقة (¬5)، وهذا شاهدٌ قوي، فإن أبا معشر، وإن كان فيه ضعف، لكنه يصلح في المتابعات. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1075)، (2/ 705)، كتاب: الزكاة، باب: إباحة الهدية للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 270)، وأبو دواد (2232)، كتاب: الطلاق، باب: في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد. ولم يقل: أربع قضيات. (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 294). (¬4) رواه ابن ماجة (2077)، كتاب: الطلاق، باب: خيار الأمة إذا أعتقت. (¬5) رواه أبو يعلى في "مسنده" (4921)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 451).

وقد صنّف العلماء في قصة بريرة تصانيف، وبعضهم أوصل فوائد قصتها إلى أربع مئة فائدة، ولا يخالف ذلك قول عائشة: ثلاث سنن؛ لأن مراد عائشة، ما وقع من الأحكام فيها مقصودًا خاصة، لكن لمّا كان كلّ حكم منها يشتمل على تقعيد قاعدة يستنبط العالم الفطن منها فوائد جمّة، وقع التكثّر من هذه الحيثية، وانضم إلى ذلك ما وقع في سياق القصة غير مقصود، فإنّ في ذلك أيضًا فوائد تؤخذ بطريق التنصيص والاستنباط، واقتصرت على الثلاث أو الأربع، لكونها أظهرَ ما فيها، وما عداها إنما يؤخذ بطريق الاستنباط، أو لأنها أهم، والحاجةُ إليها أمسّ (¬1). قال القاضي عياض: معنى ثلاث أو أربع: أنها شرعت في قصتها، وما يظهر فيها مما سوى ذلك كان قد علم من غير قصتها (¬2). قال في "الفتح": وهذا أولى من قول من قال: ليس في كلام عائشة حصر، أو مفهوم العدد ليس بحجّة، وما أشبه ذلك من الاعتذارات التي لا تدفع سؤال: ما الحكمة في الاقتصار على ذلك (¬3)؟ (خُيّرت) -بضم الخاء المعجمة وتشديد المثناة تحت المكسورة مبنيًا للمجهول-؛ أي: عُتقت، فخُيّرت بين أن تقر تحت زوجها، أو تفارقه (¬4). وفي رواية في "الصحيحين": فدعاها -أي: بريرة حين عتقت- النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فخيّرها من زوجها، فاختارت نفسها (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 405). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 109). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 406). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2399، 6377)، وعند مسلم برقم (1504/ 10).

وفي الدارقطني من حديث عائشة: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لبريرة: "اذهبي، فقد عُتق معك بُضْعُك" (¬1)، زاد ابن سعد: "فاختاري" (¬2). (على زوجها) مغيث -بضم الميم وكسر الغين المعجمة وآخره مثلثة-، وقيل: -بالعين المهملة المفتوحة والمثناة فوق وآخره باءٌ موحدة-، والأول أكثر وأشهر (¬3) (حين عُتقت) أي: وقت عتقها، وكان زوجها مغيث رقيقًا على الأصح. قال البرماوي: كان مولًى لآل أحمد بن جحش كما قال الخطيب وابن طاهر، ورجّحه ابن الأثير وغيره، وقيل: كان عبدًا لبني مطيع، وعليه اقتصر ابن عبد البر في "الاستيعاب" (¬4)، وفي بعض طرق الحديث: كان زوجُ بريرةَ عبدًا أسود يقال له: مغيث عبدًا لبني فلان (¬5)، وفي بعضها: كان يقال له: المغيث (¬6)، والخلاف في كونه كان عند عتق بريرة حرًّا أو عبدًا مشهور. قال الإمام المحقق ابن القيّم في "الهدي": قال القاسم عن عائشة: كان عبدًا، ولو كان حرًّا، لم يخيرها (¬7)، وقال عروة: كان عبدًا (¬8)، وقال ابن ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 290). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 259)، عن الشعبي مرسلًا. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 408). (¬4) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1443). (¬5) رواه البخاري (4978)، كتاب: الطلاق، باب: خيار الأمة تحت العبد، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬6) انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 234 - 235). (¬7) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1504/ 11). (¬8) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1504/ 10).

عباس: كان عبدًا أسود يقال له مغيث عبدًا لبني فلان، كأني أنظر إليه كان يطوف وراءها في سكك المدينة (¬1)، وكل هذا في "الصحيح". وفي "سنن أبي داود" عنه: كان عبدًا لآل أبي أحمد، فخيّرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال لها: "إنْ قربَكِ، فلا خيارَ لك" (¬2). وفي "مسند الإمام أحمد" عن عائشة: أن بريرة كانت تحت عبد، فلما أعتقتها، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اختاري، فإن شئتِ [أن] تمكثي تحت هذا العبد، وإن شئتِ أن تفارقيه" (¬3). قال: وقد روي في "الصحيح": أنه كان حرًا، وأصح الروايات وأكثرها أنه كان عبدًا. قال: وهذا الخبر رواه عن عائشة ثلاثة: الأسود، وعروة، والقاسم، فأما الأسود، فلم يختلف فيه عن عائشة أنه كان حرًا، وأما عروة، فعنه روايتان صحيحتان متعارضتان، إحداهما: أنه كان حرًا، والثانية: أنه كان عبدًا، وأما عبد الرحمن بن القاسم، فعنه روايتان صحيحتان، إحداهما: أنه كان حرًا، والثانية: الشك. قال ابن القيم: ولم تختلف الرواية عن ابن عباس أنه كان عبدًا. قال: واتفق الفقهاء على تخيير الأمة إذا عُتقت وزوجها عبد، واختلفوا إذا كان حرًا. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4978). (¬2) رواه أبو داود (2236)، كتاب: الطلاق، باب: حتى متى يكون لها الخيار، من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 180).

فقال الشافعي، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه: قلتُ: هي معتمد مذهبه لا تُخيّر (¬1). وقال أبو حنيفة، وأحمد في الرواية الثانية: تُخيّر. قلتُ: معتمد مذهب الإمام أحمد: أنه إن عُتقت الأمة كلّها، وزوجُها حر، أو بعضه، فلا خيار لها، وإن كان عبدًا، فلها فسخ النكاح بنفسها بلا حاكم، فإذا قالت: اخترتُ نفسي، أو فسختُ النكاح، انفسخ، ولو قالت: طلّقتُ نفسي، ونوت المفارقة، كانت كناية عن الفسخ، وهو على التراخي، خلافًا للشافعية، فإن عُتق قبل فسخها، ورضيت بالمقام معه، أو أَمكنته من وطئها، أو مباشرتها، أو تقبيلها طائعة، وقبلته هي ونحوه مما يدلّ على الرضا، بطل خيارها، فإن ادّعت الجهل بالعتق، وهو مما يجوز جهله، أو الجهل بملك الفسخ، لم تسمع، وبطل خيارها نصًا، ويجوز للزوج الإقدام على وطئها إذا كانت غير عالمة، وإذا عُتق الزوجان معا، فلا خيار لها (¬2). (و) السنّة الثانية المستفادة من قصة بريرة: (أهدي) بضم الهمزة لما لم يسم فاعله (لها)؛ أي: لبريرة - رضي الله عنها - (لحم). قال البرماوي: كان لحمَ بقر كما جاء في رواية: "وأنه تصدّقَ عليها بلحم بقر" الحديث (¬3)، انتهى. وفي "الفتح" للحافظ ابن حجر: وقع في بعض الشروح أنه كان لحم ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 168 - 169). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 357). (¬3) تقدّم تخريجه عند مسلم برقم (1075).

بقر، قال: وفيه نظر، بل جاء عن عائشة: تُصُدِّق على مولاتي بشاة من الصدقة، فهو أولى أن يؤخذ به، انتهى (¬1). قالت عائشة - رضي الله عنها -: (فدخل [عليَّ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يعني: البيتَ (والبرمةُ) وهي -بالضم- قدر من حجارة، والجمع بُرَم بالضم، كصرد، وجبال (¬2) (على النار)، وفي لفظ: والبرمة تفور بلحم (¬3)، (فدعا) - صلى الله عليه وسلم - (بطعامٍ) ليأكله، (فأُتي بخبز وأدم من أدم البيت فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (أَلَمْ) استفهام تقريري (أرَ البرمةَ على النار فيها لحمٌ)؛ أي: فمع وجود ذلك اللحم كيف تأتوني بغيره من الأدم؟ (قالوا: بلى يا رسول الله) الأمرُ الذي رأيته من كون البرمة فيها لحم على النار حق، ولكن (ذلك) اللحم (لحمٌ تُصدق به على بَريرةَ)، وأنتَ لا تأكل الصدقة، (فكرهنا أن نطعمك منه)، لكون الصدقة لا تحل لك، ولا تأكل منها. وفي رواية: أنه أهدي لعائشة لحم، فقيل: هذا تصدق به على بريرة (¬4). وفي رواية أسامة بن زيد، [عن القاسم بن محمد]، عن عائشة - رضي الله عنها - عند الإمام أحمد، وابن ماجة: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمرجلُ يفور بلحم، فقال لعائشة - رضي الله عنها -: "من أين لك هذا؟ "، قالت: قلتُ: أهدته لنا بريرةُ وتُصدّق به عليها (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 406)، قلت: وفيما قاله الحافظ -رحمه الله- نظر، مع ما ثبت في "صحيح مسلم"، والعصمة لله وحده. (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1394)، (مادة: برم). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4975). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1504/ 11). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 180)، وتقدم تخريجه عند ابن ماجة برقم (2076).

وعند الإمام أحمد، ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها -: وكان الناس يتصدّقون عليها، أي: على بريرة، فتهدي لنا (¬1). (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (هو) أي: اللحم المتصدَّق به (عليها صدقة)، وفي لفظٍ: هوَ لها صدقة (وهو منها لنا هديّة)، والصدقة: منحة لثواب الآخرة، والهدية: تمليك الغير شيئًا تقرّبًا إليه، وإكرامًا له، ففي الصدقة نوع ذل للآخذ، فلذلك حرّمت الصدقة عليه - صلى الله عليه وسلم - دون الهديّة، وقيل: لأنّ الهديّة يُثاب عليها في الدنيا، فتزول المنّة، والصدقة يُراد بها ثواب الآخرة، فتبقى المنّة، ولا ينبغي لنبي أن يمنّ عليه غير الله. وقال البيضاوي: إذا تصدّق على المحتاج بشيء، ملكه، وصار له كسائر ما يملكه، فله أن يهدي به إلى غيره، كما له أن يهدي من سائر أمواله، بلا فرق (¬2). قال في "الهدي": وفي أكله - صلى الله عليه وسلم - من اللحم الذي تُصدّق به على بريرة، وقال: "هو عليها صدقة، ولنا هديّة" دليلٌ على جواز أكل الغني، وبني هاشم، وكلّ من يحرم عليه الصدقةُ بما يهديه إليه الفقير من الصدقة، لاختلاف جهة المأكول، ولأنه قد بلغ محله، وكذلك يجوز له أن يشتريه منه بماله، هذا إذا لم تكن صدقته نفسه، فإن كانت صدقته، لم يجز له أن يشتريها، ولا يهبها، ولا يقبلها هديّة، كما نَهَى - صلى الله عليه وسلم - عمرَ - رضي الله عنه - عن شراء صدقته، فقال: "لا تشترها ولو أعطاكها بدرهم" (¬3)، انتهى. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 45)، وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (1075). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 77). (¬3) تقدم تخريجه. وانظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 175 - 176).

(و) السنّة الثالثة مِمَّا استفيد من قصة عتق بريرة: (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها)؛ أي: بريرة - رضي الله عنها -: (إنما الولاء) -بفتح الواو مع المد- مأخوذٌ من الوَلْي -بفتح الواو وسكون اللام-، وهو القرب، والمراد به هنا: وصف حكمي ينشأ عنه ثبوت من الإرث من العتيق الذي لا وارث له من جهة النسب أو الزوجية، أو الفاضل من ذلك، كما تقدم (لمن أَعتقَ) من ذكر وأنثى، كما قدّمنا، وقد كان العرب في الجاهلية تبيع هذا الحق وتهبه، فنهى الشرع عنه؛ لأن الولاء كالنسب، ولحمة كلحمة النسب، فلا يقبل الزوال بالإزالة، والمولى يطلق على المعتِق من أعلى وعلى العتيق أيضًا، لكن من أسفل، وهل ذلك حقيقة فيهما، أو في الأعلى أو في الأسفل؟ أقوالٌ مشهورة (¬1). وذكر ابن الأثير في "النهاية": المولى يقع على معانٍ كثيرة نذكر منها ستة عشر معنى، وهو: الرّبُّ، والمالكُ، والسيّدُ، والمنعِم، والمعتِق، والناصرُ، والمحبُّ، والتابعُ، والجار، وابن العم، والحليف، والعقيد، والصهر، والعبد، والمنعَم عليه، والمُعتق، قال: وأكثرها قد جاء في الحديث، فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد [فيه] (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "إرشاد الساري " للقسطلاني (3/ 76 - 77). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 227).

كتاب النكاح

كتاب النكاح النكاح في اللغة: الضَّمُّ والتداخُل وفيه من قال: إنه الضم تجوز، قال الفراء: النُّكْح -بضم ثم سكون-: اسم الفرج، ويجوز كسر أوله، وكثر استعماله في الوطء، وسميّ به العِقْد، لكونه سببه. وقال أبو القاسم الزجاجي: هو حقيقة فيهما (¬1). قال علماؤنا، منهم صاحب "الإقناع" فيه: النكاح عقدُ التزويج، وهو حقيقة في العقد، مجاز في الوطء (¬2). وفي "المطلع": النكاح في كلام العرب: الوطء، قاله الأزهري (¬3)، وقيل للتزويج نكاحٌ؛ لأنه سبب الوطء، ويقال: نكحُ المطر الأرضَ، ونكح النعاسُ عينهَ، وذكر كلامَ الزجاج بأنّ النكاح في كلام العرب بمعنى الوطء والعقد جميعًا. قال: وموضوع نكح في كلامهم للزومِ الشيءِ للشيءِ راكبًا عليه. قال ابن جِنِّي: سألتُ أبا عليٍّ الفارسيَّ عن قولهم: نكحها، قال: فرقت ¬

_ (¬1) نقله الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 103). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 295). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (4/ 103)، (مادة: نكح).

العربُ فرقًا لطيفًا يعرف به موضعُ العقد من الوطء، فإذا قالوا: نكح فلانةَ، أو بنتَ فلان، أرادوا تزوجها، وعقد عليها، وإذا قالوا: نكح امرأته، أو زوجته، لم يريدوا إلا المجامعة؛ لأن بذكر امرأته وزوجته يستغنى عن العقد. وقال القاضي أبو يعلى أحدُ أعلام المذهب: هو حقيقة في العقد والوطء جميعًا، وقيل: حقيقة في الوطء مجاز في العقد (¬1)، ومعتمد المذهب أنه حقيقة في العقد، مجاز في الوطء. وذكر في "فتح الباري" للحافظ ابن حجر: أنه الصحيح، قال: والحجّة في ذلك كثيرة وروده في الكتاب والسنّة للعقد، حتى قيل: إنه لم يرد في القرآن إلا للعقد، ورد بقوله -تعالى-: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وأجيب بأن شرط الوطء في التحليل إنما ثبت بالسنة، وإلا فالعقد لا بد منه، فإن قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، معناه: حتى تتزوج؛ أي: يعقد عليها، ومفهومه أنّ ذلك كافٍ بمجرده، لكن بيّنة السنّة أن لا عبرة بمفهوم الغاية، بل لابد بعد العقد من ذوق العُسيلة، كما أنه لا بد بعد ذلك من الفرقة، ثم العدة، نعم أفاد أبو الحسين بن فارس أن النكاح لم يرد في القرآن إلّا للتزويج، إلّا قوله -تعالى-: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6]، قال: المراد به: الحلم. وفي وجه للشافعية، كقول الحنفية: أنه حقيقة في الوطء مجازٌ في العقد، وقيل: مقول بالاشترك على كلٍّ منهما كما قاله الزجاجي، والقاضي أبو يعلى، وغيرهما. ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 318).

قال: الحافظ ابن حجر في "الفتح": وهذا الذي يترجّح في نظري، وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد. وقد جمع أسماء النكاح ابنُ القطاع، فزادت على الألف (¬1). وذكر الحافظ المصنف في هذا الباب ثلاثة عشر حديثًا. ¬

_ (¬1) انظر "فتح الباري" لابن حجر (9/ 103).

[باب]

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ! مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ، فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1806)، كتاب: الصوم، باب: الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة، و (4778)، كتاب: النكاح، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج"، و (4779)، باب: من لم يستطع الباءة فليصم، ومسلم (1400/ 1 - 4)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه، وأبو داود (2046)، كتاب: النكاح، باب: التحريض على النكاح، والنسائي (2239 - 2243)، كتاب: الصيام، باب: ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في فضل الصائم، و (3207 - 3211)، كتاب: النكاح، باب: الحث على النكاح، والترمذي (1081)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في فضل التزويج والحث عليه، وابن ماجة (1845)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في فضل النكاح. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 179)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 521)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 80)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 172)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 22)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1249)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 2)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 107)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 254)، =

(عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ مسعود - رضي الله عنه -) تقدّمت ترجمته في أول كتاب الصلاة، (قال) ابن مسعود - رضي الله عنه -: (قال لنا)، وفي لفظ: لقد قال لنا (¬1) (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر) وفي رواية: لقد كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شبابًا، فقال لنا (¬2)، وفي لفظٍ: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - شبابًا لا نجد شيئًا، فقال لنا (¬3). والمعشر: جماعة يشملهم وصفٌ ما. قال في "القاموس": المعشر، كمسكن: الجماعة، وأهل الرجل، والجن والإنس، انتهى (¬4). (الشباب) جمع شاب، ويجمع -أيضًا- على شَبَبَة، وشُبان -بضم أوله، والتثقيل-، وذكر الأزهري أنه لم يجمع فاعل على فعال غيره، وأصله: الحركة والنشاط، وهو اسم لمن بلغ إلى أن يكمل ثلاثين، هكذا أطلق الحنابلة والشافعية (¬5). وقال: القرطبي "في المفهم": يقال له: حدث ستة عشر سنة، ثم شاب إلى اثنتين وثلاثين سنة، ثم كهل (¬6). ¬

_ = و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 5)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 109)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 225). (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4778)، وعند مسلم برقم (1400/ 1). (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (4026)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (1163). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4779). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 566)، (مادة: عشر). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 108). (¬6) لم أقف عليه عند القرطبي في "المفهم"، والله أعلم.

وكذا ذكر الزمخشري في الشاب أنه من لدن البلوغ إلى اثنتين وثلاثين سنة. وقال ابن شاش المالكي في "الجواهر" (¬1): إلى الأربعين. وقال النووي: الأصح المختار أن الشاب: من بلغ، ولم يجاوز الثلاثين (¬2). قال علماؤنا: ثم هو من الثلاثين إلى الخمسين كهل (¬3). وقال النووي: من الثلاثين كهل إلى أن يجاوز الأربعين، ثم عند علمائنا من الخمسين إلى السبعين شيخ، ثم هرم (¬4). وقال الرُّوياني من الشافعية، وطائفة، من جاوز الثلاثين يسمى شيخًا. قال ابن قتيبة: إلى أن يبلغ الخمسين. وقال أبو إسحاق الإسفراييي: المرجع في ذلك إلى اللغة، وأما بياض الشعر، فيختلف باختلاف الأمزجة (¬5). (من استطاع منكم) خصّ الشباب بالخطاب؛ لأنّ الغالب وجود قوّة الداعي فيهم إلى النكاح، بخلاف الشيوخ، وإن كان المعنى معتبرًا إذا وجد ¬

_ (¬1) هو كتاب: "الجواهر الثمينة على مذهب عالم المدينة" في الفروع، للإمام عبد الله بن محمد بن نجم بن شاس المالكي، المتوفى سنة (616 هـ)، وضعه على ترتيب "الوجيز" للغزالي، والمالكية عاكفة عليه، لكثرة فوائده. انظر: "كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 613). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 173). (¬3) انظر: "دليل الطالب" للشيخ مرعي (ص: 184 - 185). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 108).

السبب في الكهول والشيوخ -أيضًا- (¬1). (الباءة) بالهمز وتاء التأنيث ممدود، وفيها لغة أخرى بغير همزٍ ولا مد، وقد تهمز وتمد بلا هاء، ويقال أيضًا: الباهة كالأول، لكن بهاء بدل الهمزة، وقيل: بالمد: القدرة على مؤن النكاح، وبالقصر: الوطء (¬2). قال الخطابي: المراد بالباءة: النِّكاح، وأصله: الموضع الّذي يتبوَّؤه ويأوي إليه (¬3). وقال المازري: اشتق العقد على المرأة من أصل الباءة؛ لأن من ضمان من يتزوج أن يبوِّئها منزلًا. وقال النووي: اختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد: أصحهما: أن المراد: معناها اللغوي، وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع، لقدرته على مؤنه، وهي مون النكاح، فليتزوج، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشباب الذين هم مظنة شهوة النساء، ولا ينفكون عنها غالبًا. والقول الثاني: أن المراد بالباءة هنا مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها، وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح، فليتزوج، ومن لم يستطع، فليصم، ليدفع شهوته، والذي حمل القائلين بهذا على ما قالوا قوله: "ومن لم يستطع فعليه بالصوم"، فإنّ العاجز عن الجماع لا يحتاج إلى كسر شهوته بالصوم، فوجب حمل الباءة على المؤن (¬4)، وانفصل ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 179). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 173).

القائلون بالأول عن ذلك بالتقدير المذكور، وهذا التعليل للمازري (¬1)، وأجاب عنه القاضي عياض بأنه لا يبعد أن تختلف الاستطاعتان، فيكون المراد بقوله: "من استطاع الباءة"؛ أي: بلغ الجماع، وقدر عليه، فليتزوج، ويكون قوله: "ومن لم يستطع"؛ أي: من لم يقدر على التزويج (¬2). وقد جاء في رواية عن الترمذي: "ومن لم يستطع منكم الباءة" (¬3). وعند أبي عوانة: "من استطاع منكم أن يتزوج، فليتزوج" (¬4). وعند النسائي: "من كان ذا طول، فلينكح" (¬5)، ومثله لابن ماجة من حديث عائشة (¬6). والحاصل: أنّه - صلى الله عليه وسلم - قسّم الشباب إلى قسمين: قسم يتوقون إلى الجماع، ولهم اقتدار عليه، فندبهم إلى التزويج، دفعًا للمحذور، بخلاف الآخرين، وهم الذين لا قدرة لهم على الزواج، إمّا لعدم اقتدارهم على الجماع، أو لعدم اقتدارهم على مؤن النكاح، فندبهم إلى أمر تستمر به حالتهم؛ لأن ذلك أرفق بهم، للعلّة التي ذكرت في بعض روايات الحديث، وهي أنهم كانوا لا يجدون شيئًا. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 108). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 522). (¬3) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1081). (¬4) كذا عزاه إليه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 108). (¬5) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (2243، 3206) إلا أنه قال: "فليتزوج" بدل "فلينكح". (¬6) رواه ابن ماجة (1846)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في فضل النكاح.

ويستفاد منه: أنّ الذي لا يجد أهبة النكاح، وهو تائق إليه، يندب له التزويج، دفعًا للمحذور (¬1). (فليتزوج) دفعًا للمحذور، وتحصيلًا للمصلحة، فإنّ الله -سبحانه- اختار النكاح لأنبيائه ورسله، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]، وقال في حقِّ آدم: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، واقتطع من زمن كليمه موسى -عليه السلام- عشر سنين في رعاية الغنم مهر الزوجة، ومعلوم مقدار هذه السنين العشر في نوافل العبادات، واختار لنبيّه وحبيبه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أفضلَ الأشياء، فلم يحب له تركَ النكاح، بل زوّجه بعدة نساء، حتى إنه ماتَ عن تسعة من النساء، ولا هدي فوق هديه، ولو لم يكن في النكاح إلّا سرور النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم المباهاة بأمَّته، وأنّ الناكح لا ينقطع عمله بموته، وأنه يخرج من صلبه من يشهد لله بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، لكفاه (¬2). وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على بعض فوائد النِّكاح بقوله: (فإنه)؛ أي: التزويج، (أغَضُّ)؛ أي: أشدُّ غضًا (للبصر) عن إطلاقه فيما لا يحل له. قال في "النهاية": غضَّ طرفه؛ أي: كسره، وأطرق، ولم يفتح عينه (¬3). وقال ابن هشام: غضُّ الطرف: عبارة عن ترك التحديق واستيفاء النظر، فتارةً يكون ذلك؛ لأن في الطرف كسرًا وفتورًا خلقيين، وهو المراد بقول كعب: غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ (¬4) ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 109). (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 679 - 680). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 371). (¬4) انظر: "ديوانه" (ص: 84)، (ق 23/ 2).

وتارةً يكون القصد الكفّ عن التأمل، حياءً من الله ورسوله، ووقوفًا على حدود الشرع، وهو المراد في قوله -تعالى-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]. وقد روى الطبراني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يعني: عن ربه -عز وجل-: "النظرة سهمٌ مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي، أبدلته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه" (¬1). ورواه الحاكم من حديث حذيفة، وصححه (¬2). وأخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة، ثم يغضُّ بصرَه، إلّا أحدث الله له عبادة يجدُ حلاوتها في قلبه" (¬3). ورواه الطبراني، إلا أنه قال: "ينظر إلى امرأة أول رمقة" (¬4)، والبيهقي، وقال: إنما أراد، إن صح، والله أعلم: أن يقع بصره عليها من غير قصد، فيصرف بصره عنها تورعًا (¬5). (وأَحْصَنُ)، أي: أشدُّ إحصانًا (للفرج)، ومنعًا من الوقوع في الفاحشة. قال ابن دقيق العيد: قوله: "فإنّه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج" يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون (أفعل) فيه مما استعمل لغير المبالغة. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (10362). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (7875). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 264). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (7842). (¬5) انظر: "شعب الإيمان" للبيهقي (5431).

والثاني: أن تكون على بابها؛ فإنّ التقوى سببٌ لغض البصر وتحصين الفرج، وفي معارضتها الشهوة والداعي إلى النكاح، وبعدَ النكاح يضعف هذا المعارض، فيكون أغضَّ للبصر، وأحصنَ للفرج مما إذا لم يكن، فإنّ وقوع الفعل مع ضعف الداعي إلى وقوعه أندرُ من وقوعه مع وجود الداعي (¬1). قال ابن القيّم في "بدائع الفوائد" في الاستدلال على أنّ النكاح أفضلُ من التخلي لنوافل العبادات: ولو لم يكن فيه إلّا تعديل قوته الشهوانية الصارفة له عن تعلق قلبه بما هو أنفع له في دينه ودنياه، فإن تعلّق القلب بالشهوة، ومجاهدته عليها، تصده عن تعلّقه بما هو أنفع له، فإنّ الهمة متى انصرفت إلى شيء، انصرفت عن غيره، ولو لم يكن فيه إلّا غضُّ بصره، وإحصان فرجه عن التفاته إلى ما حرّم الله، مع تحصينِ امرأةٍ يُعفها الله به، ونيّته على قضاء وطره ووطرها، فهو في لذّاته وصحائف حسناته تتزايد مع ما يثاب عليه من نفقته على امرأته، وكسوتها وسكنها، ورفع اللقمة إلى فيها، مع تكثير الإسلام وأهله، وغيظ أعداء الدين، يعني: لكفاه (¬2). (ومن لم يستطع)؛ أي: ومن لم يقدر على ذلك (فعليه بالصوم) اعترضه بعض المدققين بأنه إغراء الغائب، قال: فلا يجوز دونه زيدًا، أو لا عليه زيدًا عند إرادة غير المخاطب، وإنما جاز للحاضر، لما فيه من دلالة الحال، بخلاف الغائب، فلا يجوز، لعدم حضوره ومعرفته بالحالة الدّالة على المراد، وقد جاء شاذًا قول بعضهم: عليه رجلًا يسبني، على جهة الإغراء، وأجاب عياض بأن المثال ما فيه حقيقة الإغراء، وإن كانت ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 23). (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 680).

صورته، فلم يرد تبليغ الغائب، وإنما أراد الإخبار عن نفسه، كقولهم: إليك عنا؛ أي: اجعل شغلك بنفسك، ولم يرد أن يغريه به، وإنما مراده: دعني وكن لمن شغل عني. وأما الحديث، فليس فيه إغراء الغائب، بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولًا بقوله: "من استطاع منكم"، فالهاء في قوله: "فعليه" ليست للغائب، وإنما هي للحاضر المبهم، لا يصحّ خطابه بالكاف، ونظير هذا قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، إلى أن قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]، ومثله لو قلت لاثنين: من قدم منكما، فله درهم، فالهاء للمبهم من المخاطبين، لا للغائب، انتهى ملخصًا (¬1)، وقد استحسنه القرطبي (¬2). قال في "الفتح": وهو حسن بليغ، وقد تفطن له الطيبي، فقال: قال أبو عبيد: قوله: "فعليه بالصوم" إغراء غائب، ولا تكاد العربُ تُغري إلّا الشاهد، تقول: عليك زيدًا، إلّا في هذا الحديث (¬3)، وجوابه: أنّه لمّا كان الضمير الغائب راجعًا إلى لفظة: "من"، وهي عبارة عن المخاطبين في قوله: "يا معشر الشباب! "، وبيان لقوله: "منكم"، جاز قوله: "عليه"؛ لأنه بمنزلة الخطاب. قال في "الفتح": وأجاب بعضهم: بأن إيراد هذا اللفظ، في مثالٍ إغراء الغائب باعتبار اللفظ وجواب عياض باعتبار المعنى، وأكثر كلام العرب ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 109). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 84 - 85). (¬3) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 75).

اعتبار اللفظ، كذا قال (¬1)، والحق مع عياض، فإن الألفاظ توابع للمعاني، ولا معنى لاعتبار اللفظ مجردًا هنا، انتهى (¬2). وإنما قال: "بالصوم"، ولم يقل: بالجوع وقلة ما يثير الشهوة ويستدعي طغيان الماء من الطعام والشراب، لأجل تحصيل العبادة المشروعةن إذ هي برأسها مطلوبة. وفيه إشارة إلى أنّ أصل مشروعية الصوم لأجل كسر الشهوة (¬3). (فإنه)؛ أي: الصوم (له)؛ أي: لمن لم يستطع النكاح (وِجَاء) -بكسر الواو والمد-، أصله الغمز، ومنه: وجأ في عنقه: إذا غمزه دافعًا له، ووجأه بالسيف: إذا طعنه به، ووجأ أنثييه: غمزهما حتى رضهما (¬4). ووقع في رواية ابن حبّان: "فإنه له وجاء، وهو الإخصاء" (¬5). قال: الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": وهي زيادة مُدرجة في الخبر، لم تقع إلّا في طريق زيد بن أبي أنيسة، وتفسيرُ الوجاء بالإخصاء فيه نظر، فإن الوجاء رضُّ الأنثيين، والإخصاء سلبُهما، وإطلاق الوِجاء على الصيام من مجاز المشابهة (¬6). وقال أبو عبيد: قال بعضهم: وَجاء -بفتح الواو- مقصورًا، والأول أكثر (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 525). (¬2) انظر: "فتح البارى" لابن حجر (9/ 110). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) رواه ابن حبان في "صحيحه" (4026). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 110). (¬7) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 74).

وقال أبو زيد: لا يقال وجاء إلّا فيما لم يبرأ، وكان قريب العهد بذلك. واستدل بهذا الحديث على أنّ من لم يستطع الجماع، فالمطلوب منه تركُ التزويج؛ لأنه أرشده إلى ما ينافيه ويضعف دواعيه، وأطلق بعضهم أنه يُكره في حقّه (¬1). تنبيهات: الأول: تعتري النكاحَ الأحكامُ الخمسة، فيجب على ذي شهوة يخاف الزنى من رجل وامرأة، علمًا أو ظنًا، ويقدم حينيذٍ على حجٍّ واجب، نصّ عليه الإمام أحمد (¬2)، وبه قال أبو عوانة الإسفراييني من الشافعية، وصرح به في "صحيحه"، ونقله المصعبي في "شرح مختصر الجويني" وجهًا، وهو قول داود وأتباعه. قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": المشهور عن الإمام أحمد أنه لا يجب على القادر التائق إلّا إذا خشي العنت، وعلى هذه الرواية اقتصر ابن هبيرة (¬3). وعبارة "المقنع" بدل الزنى المحظور (¬4)، وهو أعم، فيشمل نحو الاستمناء باليد. وقال المازري: الذي نطق به مذهب مالك: أنه مندوب، وقد يجب عندنا في حقِّ من لا ينكف عن الزنى إلا به (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 110). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 295). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 110). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 4). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 110).

وقال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة، بحيث لا يرتفع عنه ذلك إلا بالتزويج، لا يختلف في وجوب التزويج عليه (¬1)، ونبه ابن الرفعة على صورة يجب فيها، وهي ما إذا نذره حيث كان مستحبًا (¬2). قلت: وصرّح به علماؤنا. وقال ابن دقيق العيد: قسم بعض الفقهاء النكاح إلى الأحكام الخمسة، وجعل الوجوب فيما إذا خاف العنت، وقدر على النكاح، وتعذر التسرِّي (¬3)، وكذا حكاه القرطبي عن بعض علمائهم، وهو المازري (¬4)، قال بالوجوب في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به، كما قدمنا (¬5). ويحرم النكاح بدار الحرب إلا لضرورةٍ، فإن كانت، لم يحرم، ما لم يكن أسيرًا عند كفار، فلا يتزوج ولو لضرورة لئلا يستعبد ولده، كذا علل الإمام أحمد - رضي الله عنه -، ولا يطأ زوجته إن كانت معه (¬6). وفي "المغني": أما الأسير، فظاهر كلام الإمام أحمد: لا يحل له التزوج ما دام أسيرًا، وأما الذي يدخل بلادهم بأمان، كالتاجر ونحوه، فلا ينبغي له التزوج، فإن غلبت عليه الشهوة، أبيح له نكاح مسلمة، ولا يتزوج منهم، ويعزل وجوبًا حيث حرم، وإلا استحبابًا (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 82). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 110). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 22). (¬4) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 82). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 110 - 111). (¬6) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 295). (¬7) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 235).

قال في "الغاية": ومقتضى تعليلهم جواز نكاح آيسة ونحوها (¬1). قال ابن حجر في "شرح البخاري": والتحريم في حق من يخل بالوطء والإنفاق على الزوجة، مع عدم قدرته عليه، وعدم توقانه إليه. قال: والكراهة في مثل هذا حيث لا إضرار بالزوجة، فإن انقطع بذلك عن شيء من أفعال الطاعة، من عبادة، أو اشتغالٍ بالعلم، اشتدّت الكراهة. وقيل: الكراهة فيما إذا كان في حال العزوبة أجمع منه في حال التزويج، انتهى (¬2). وقد قيل عندنا: إنّ النكاح لغير ذي شهوة مكروه، والمذهب خلافه، قال المكرهون له: إنما كُره لمنع من يتزوجها من التحصين بغيره، وإضرارها بحبسها على نفسه، وتعريض نفسه على واجبات وحقوق لعله لا يقوم بجميعها، ويشتغل عن العلم والعبادة بما لا فائدة له فيه (¬3). وقد ذكرت في "شرح منظومة الآداب": أنه يفصل بين الفقير الذي لا يجد ما ينفق، وليس بذي كسب، وهو مع ذلك ليس بذي شهوة، فيُكره في حقه النكاح، لعدم قدرته على مؤنه، وعدم إحصانه لزوجته، مع عدم حاجته إليه. ثم رأيت العلّامة تقي الدين بن قندس البعلي ذكر ذلك في "حواشي الفروع" رواية عن الإمام أحمد - رضي الله عنه (¬4) -، وفي "الشرح على المقنع" لشمس الدين بن أبي عمر -قدّس الله روحه-: أن النكاح مطلوب ¬

_ (¬1) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (5/ 8). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 111). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 5). (¬4) انظر: "حاشية ابن قندس على الفروع" (8/ 178).

في حقِّ من يمكنه التزويج، فأمّا من لم يمكنه، فقد قال -تعالى-: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33]. انتهى. ويسن لمن له شهوة، ولا يخاف الزنى، ولو فقيرًا، واشتغالُه به أفضل من التخلي لنوافل العبادة. ويُباح لمن لا شهوة له، هكذا قال علماؤنا (¬1). وفي "شرح البخاري" لابن حجر: أنّ الاستحباب فيما إذا حصل به معنى مقصودًا من كسر شهوةٍ، وإعفاف نفس، وتحصين فرج، ونحو ذلك. قال: والإباحة فيما إذا انتفت الدواعي والموانع، ومنهم من استمر بدعوى الاستحباب فيمن هذه صفته، للظواهر الواردة في الترغيب فيه (¬2). قال عياض: هو مندوب في حق كلّ من يرجى منه النسل، ولو لم يكن في الوطء شهوة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإني مكاثر بكم الأمم" (¬3)، ولظواهر الحضّ على النكاح، والأمر به، وكذا في حقّ من له رغبة في نوعٍ من الاستمتاع بالنساء غير الوطء، فأما من لا ينسل، ولا أربَ له في النساء، ولا في الاستمتاعِ فهذا يباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك، ورضيت. ¬

_ (¬1) انظر: "غايه المنتهى" للشيخ مرعي (5/ 5 - 6). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 111). (¬3) رواه أبو داود (2050)، كتاب: النكاح، باب: النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، والنسائي (3227)، كتاب: النكاح، باب: كراهية تزويج العقيم، من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه -.

وقد يقال: إنه مندوب -أيضًا-، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا رهبانية في الإسلام" (¬1). وفي "الإحياء" للإمام الغزالي: من اجتمعت له فوائد النكاح، وانتفت عنه آفاته، فالمستحب في حقّه التزويج، ومن لا، فالتركُ له أفضل، ومن تعارض الأمر في حقه، فليجتهد، وليعمل بالراجح (¬2)، انتهى. الثاني: الأحاديث الواردة في ذلك كثيرة، فأما حديث: "فإني مكاثرٌ بكم"، فصح من حديث أنس بلفظ: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثرٌ بكم يوم القيامة" أخرجه ابن حبان (¬3)، وذكره الشافعي بلاغًا عن ابن عمر بلفظ: "تناكحوا تكاثروا، فإني أباهي بكم الأمم" (¬4)، وللبيهقي من حديث أَبي أمامة: "تزوّجوا، فإني مكاثرٌ بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى" (¬5). وورد: "فإني مكاثرٌ بكم" عن عدّة من الصحابة، منهم: عائشة (¬6) ومعقل بن يسار (¬7)، وسهل بن حنيف (¬8)، وحرملة بن النعمان (¬9) ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا، وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (4/ 524). (¬2) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 53)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 111). (¬3) رواه ابن حبان في "صحيحه" (4056). (¬4) ذكره الإمام الشافعي في "الأم" (5/ 144). (¬5) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 78). (¬6) رواه ابن ماجة (1846)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في فضل النكاح. (¬7) تقدم تخريجه قريبًا عند أبي داود والنسائي. (¬8) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5746). (¬9) رواه الدارقطني في "المؤتلف"، وأبن قانع في "معجم الصحابة"، كما عزاه =

وعياض بن غنم (¬1)، ومعاوية بن حيدة (¬2)، والصنابح بن الأعسر (¬3)، وغيرهم (¬4). وأما حديث: "لا رهبانية في الإسلام"، فقال: الحافظ ابن حجر: لم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقّاص - رضي الله عنه - عند الطبراني: "إنّ الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة" (¬5)، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - رفعه: "لا صَرورة في الإسلام" أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم (¬6)، وفي "الباب" حديث النهي عن التبتل (¬7)، انتهى (¬8). ¬

_ = الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 116). (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (1008)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (5/ 145)، والحاكم في "المستدرك" (5270). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 416)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 111)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 253)، والديلمي في "مسند الفردوس" (3514). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 349)، والحميدي في "مسنده" (780)، وأبو يعلى في "مسنده" (1452)، وغيرهم. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 111). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (5519). (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 312)، وأبو داود (1729)، كتاب: المناسك، باب: لا صرورة في الإسلام، والحاكم في "المستدرك" (1644). (¬7) رواه النسائي (3214)، كتاب. النكاح، باب: النهي عن التبتل، والترمذي (1082)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في النهي عن التبتل، وابن ماجه (1849)، كتاب: النكاح، باب: النهي عن التبتل، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -. (¬8) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 111).

وروى الطبراني بإسنادٍ حسن، والبيهقي، والدارمي من حديث أبي نجيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان موسرًا لأن ينكح، فلم ينكح، فليس مني" (¬1) جزم [البيهقي] (¬2) بأنه مرسل، قال: وأبو نجيح تابعي، واسمه يسار -بالياء المثناة تحت-، وهو والد عبد الله بن أبي نجيح المكي. قال الحافظ ابن حجر: قد أورد أبا نجيح [البغوي] (¬3) في "معجم الصحابة" (¬4). وفي "الصحيحين": "النكاح سنّتي، فمن رغب عن سنّتي، فليس مني" (¬5). وأخرج الحاكم من حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتقِ الله في الشطر الثاني" (¬6). قال الحافظ ابن حجر: وهذه الأحاديث -وإن كان في الكثير منها ضعف-، فمجموعها يدلُّ على أنّ لِما يحصل به المقصودُ من الترغيب في التزويج أصلًا، ولاسيما في حقّ من يتأتّى منه النسل (¬7). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 366)، وفي "المعجم الأوسط" (989)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 78)، والدارمي في "سننه" (2164). (¬2) في الأصل: "الدرامي"، والصواب ما أثبت. (¬3) في الأصل: "البيهقي"، والصواب ما أثبت. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 111). (¬5) سيأتى تخريجه. (¬6) رواه الحاكم في "المستدرك" (2681)، وكذا الطبراني في "المعجم الأوسط" (972)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5487). (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 111).

الثالث: جاء عدّة أحاديث في ذم العزوبية، وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تزوّج أربعَ عشرةَ، ومات عن تسع، ولو تزوّجَ بشر بن الحارث، تم أمره، ولو ترك الناس النكاح، لم يكن غزو ولا حجّ، ولا كذا ولا كذا، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح وما عندهم شيء، وكان يختار النكاح، ويحثُّ عليه، ونهى عن التبتل، فمن رغب عن سنّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو على غير الحق، ويعقوب في حزنه قد تزوّج، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حُبّبَ إليَّ النساء" (¬1). قال المروذي: قلتُ له: إنّ إبراهيم بن أدهم يحكى عنه أنه قال لروعة صاحب عيال، فما قدرت أن أتم الحديث حتى صاح بي، وقال: وقعت في بنيات الطريق، انظر ما كان عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ثم قال: فبكاءُ الصبيّ بين يدي أبيه يطلب منه الخبزَ أفضلُ من كذا وكذا، أين يلحق المتعبد والعزب، نقل هذا كله الإمامُ ابن القيّم في كتابه "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" من رواية المروذي عن الإمام أحمد - رضي الله عنه (¬2) -. وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي ذر بإسنادٍ حسن (¬3)، وأبو يعلى في "مسنده" عن عطيّة بن بشر (¬4) مرفوعًا: "شرارُكم عزّابكم، وأراذل موتاكم عزّابكم". ¬

_ (¬1) رواه النسائي (3940)، كتاب: عشرة النساء، باب: حب النساء، والطبراني في "المعجم الأوسط" (5772)، وأبو يعلى في "مسنده" (3482)، والحاكم في "المستدرك" (2686)، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "روضة المحبين ونزهة المشتاقين" لابن القيم (ص: 214 - 215). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 163). (¬4) رواه أبو يعلى في "مسنده" (6856).

وأخرج أبو يعلى، والطبراني في "الأوسط"، وابن عدي عن أبي هريرة مرفوعًا: "شراركم عزّابكم، ركعتان من متأهل خيرٌ من سبعين من غير متأهل" (¬1). وقد نظم ذلك ابن العماد فقال: [من الرجز] شِرَارُكُمْ عُزَّابُكم جَاءَ الخَبَرْ ... أَرَاذِلُ الأَمْوَاتِ عُزَّابُ البَشَرْ (¬2) وقد أورده الحافظ ابن الجوزي في "الموضوعات" من حديث أبي هريرة، وحَكم عليه بالوضع، وأعلّه بخالد بن إسماعيل، قال: له طريق ثانٍ فيه يوسف بن السَّفر متروك (¬3)، قال الحافظ السيوطي: قلت: ورد بهذا اللفظ من حديث أبي ذر، أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بسند رجالُهُ ثقات، ومن حديث عطيّة بن بشر المازني: أخرجه أبو يعلى، والطبراني، والبيهقي في "الشعب" (¬4). الرابع: استدل بالحديث، من إرشاد العاجز عن مؤن النكاح إلى الصوم؛ لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل، يقوى بقوّته، ويضعف بضعفه، على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية كما قاله الخطابي (¬5)، وحكاه البغوي في "شرح السنّة" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى في "مسنده" (2042)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (4476)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (7/ 163)، واللفظ له. (¬2) انظر: "المقاصد الحسنة" للسخاوي (ص: 299 - 300). (¬3) انظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (2/ 257 - 258). (¬4) انظر: "الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة" للسيوطي، حديث رقم (268). (¬5) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 180). (¬6) انظر: "شرح السنة" للبغوي (9/ 6 - 7).

قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": وينبغي أن يحمل على دواء يسكّن الشهوة، دون ما يقطعها أصالة؛ لأنه قد يقدر بعد ذلك، فيندم، لفوات ذلك في حقّه. قال: وقد صرّح الشّافعيّة بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، والحجّة فيه: أنهم اتفقوا على منع الجب والخصاء، فيلحق بذلك ما في معناه من التداوي بالقطع أصلًا (¬1). قلت: صرّح علماؤنا بجواز شرب دواء مباح يمنع الجماع، قالوا: ولأنثى شربه -أيضًا- لإلقاء نطفةٍ، لا علقةٍ، ولحصول حيض، لا قرب رمضان لتفطر (¬2). قال العلّامة مرعي في "غايته": ويتجه، وتفطر وجوبًا، ولها شربه لقطع حيض مع أمن ضرر، نصًّا، ولو بلا إذن زوج، واستوجه في "الغاية" ما لم ينهها، وحرم لقطعه بلا علمها، وشرب ما يقطع الحمل، انتهى (¬3). فظاهر كلامهم: إطلاق ما يمنع الجماع ولو أصالة. وصرّح في "الفروع" بأنه يتوجه في الكافور ونحوه كقطع الحيض، وقال قبله: ولها شرب دواء مباح لقطع الحيض، نصّ عليه الإمام أحمد. وقال القاضي: بإذن الزوج كالعزل، يؤيده قول الإمام أحمد في بعض أجوبته: الزوجة تستأذن زوجها. قال في "الفروع": ويتوجه: يكره، انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 111). (¬2) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (1/ 267). (¬3) المرجع السابق، (1/ 268). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 244).

تتمة: سبب إيراد ابن مسعود - رضي الله عنه - لهذا الحديث: ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن علقمة، قالى: كنتُ مع عبد الله، يعني: ابن مسعود - رضي الله عنه -، فلقيه عثمان، يعني: ابن عفّان - رضي الله عنه - بمنًى، فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن لي إليك حاجة، فَحَلَيا، فقالى عثمان: هل لك يا أبا عبد الرحمن أن نزوّجك بكرًا تذكرك ما كنت تعهد؟ فلما رأى عبد الله أن ليس له حاجة إلّا هذا، أشار إليَّ، فقالى: يا علقمة، فانتهيت إليه وهو يقولى: أَما لئن قلت ذلك، لقد قالى لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري (4778)، واللفظ له، وعند مسلم برقم (1400/ 1 - 2).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَألُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَمَلِهِ في السِّرِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا: كَذَا؟! لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4776)، كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح، ومسلم (1401)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه، واللفظ له، والنسائي (3217)، كتاب: النكاح، باب: النهي عن التبتل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 528)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 85)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 176)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 25)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1254)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 104)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 65)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 3)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 110)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 225).

(عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالك - رضي الله عنه - أَنّ نفرًا) النفر: من ثلاثة إلى تسعة، وهذا اللفظ في رواية ثابت عند مسلم (من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وفي رواية حميد بن أبي حميد الطَّويل، عن أنس - رضي الله عنه - عند البخاري: جاء ثلاثة رهط، ولا منافاة بينهما؛ لأن الرهط من ثلاثة إلى عشرة، والنفر ما قدَّمنا، وكلٌّ منهما اسم جمع لا واحد له من لفظه، ووقع في مرسل سعيد بن المسيب عند عبد الرزاق: أنّ الثلاثة المذكورين هم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون (¬1)، وعند ابن مردويه من طريق الحسن، قال: كان علي في أناسٍ ممن أرادوا أن يحرموا الشهوات، فنزلت الآية في المائدة (¬2). ووقع في "أسباب النزول" للواحدي بغير إسناد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكّر الناس، وخوّفهم، فاجتمع عشرة من الصحابة، وهم: أبو بكر، وعمر، وابن مسعود، وأبو ذر، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد، وسلمان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون - رضي الله عنهم -، فاتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، ولا يقربوا النساء، ويجبوا مذاكيرهم (¬3). قال: الحافظ ابن حجر في "الفتح": فإن كان هذا محفوظًا، احتمل أن يكون الرهط منهم الثلاثةُ هم الذين باشروا السؤال، فنسب ذلك إليهم ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (10374). (¬2) وكذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (3/ 143) لابن مردويه، عن الحسن العدني. (¬3) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: 113).

بخصوصهم تارةً، ونسب تارةً للجميع، لاشتراكهم في طلبه، ويؤيد أنهم كانوا أكثر من ثلاثة في الجملة ما روى مسلم من طريق سعيد بن هشام: أنه قدم المدينة، فأراد أن يبيع عقاره فيجعله في سبيل الله، ويجاهد الروم حتى يموت، فلقي ناسًا بالمدينة، فنهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطًا ستة أرادوا ذلك في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنهاهم فلمّا حدّثوه ذلك، راجع امرأته، وكان قد طلّقها (¬1)، يعني: لسبب ذلك، لكنْ في عدّ عبدِ الله بنِ عمرٍ ومعهم نظر؛ لأن عثمان بن مظعون مات قبل أن يهاجر عبد الله فيما أحسب، انتهى (¬2). وذكر البرماوي في "مبهمات العمدة" العشرةَ المتقدمَ ذكرُهم، إلّا أنه زاد: ابن عمر، وقال: في بيت عثمان بن مظعون، كما ذكر الحافظ ابن حجر، ولى يقدح فيه مع جزمه بذلك (سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أُخبروا، كأنهم تقالُّوها -بتشديد اللام المضمومة-، يعني: استقلوها، وأصل تقالُّوها: تقاللوها؛ أي: رأى كلٌّ منهم أما قليلة، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، والمعنى: أن من لم يعلم بحصول مثل ذلك له يحتاج إلى المبالغة في العبادة، عسى أن يحصل بخلاف، من حصل له (¬3)، (فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللّحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري، فقال أحدهم: أمّا أنا، فإني أصلّي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (746)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 104 - 105). (¬3) المرجع السابق، (9/ 105).

وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا، فقوله: أصلّي الليل أبدًا: التأبيد قيد لليل، لا لأ صلّي، وقوله: ولا أتزوج أبدًا: أكد المصلي ومعتزل النساء بالتأبيد، ولم يؤكد الصيام؛ لأنه لا بد له من فطر الليالي، وكذا أيام العيد، ومجموع الروايتين يؤكد زيادة عدد القائلين عن الثلاثة؛ لأن تركَ أكلِ اللّحم أخصُّ من مداومة الصِّيام، واستغراق الليل بالصلاة أخصُّ من ترك النوم على الفراش، وإن أمكن التوفيق بضربٍ من التجويز (¬1) (فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -) بنصب النبي مفعول بلغ، والفاعل اسمُ الإشارة؛ أي: قولُ أصحابه ما قالوا، فجاء - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ "، (فحمدَ الله -تعالى-، وأثنى عليه) بما هو أهله، والثناء: تعداد المحامد وإعادتها (وقال) بعد الحمد والثناء: (ما بال)، أي: ما شأن (أقوام) وما حالهم واهتمامهم، (قالوا: كذا؟) طريق الجمع بأنه جاء إليهم، فقال: أنتم القائلون: كذا كذا سرًا فيما بينه وبينهم، ثمّ أعلن ذلك جهرًا مع عدم تعيينهم، رفقًا بهم. ثم قال كما في البخاري: "أما والله! "؛ أي: -بتخفيف الميم- حرف تنبيه "إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له" فيه إشارة إلى ردّ ما بنوا عليه أمرهم، من أنّ المغفور له لا يحتاج إلى مزيد العبادة، بخلاف غيره، فأشار بهذا إلى أنه أشدُّ خشية، وذلك بالنسبة لمقام العبودية في جانب الربوبية، فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - أنّه -مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة- أخشى لله، وأتقى من الذين يشددون، وإنما كان كذلك؛ لأنّ المشدد لا يأمن من الملل، بخلاف المقتصد، فإنه أمكنُ لاستمراره، وخيرُ العمل ما دام عليه صاحبُه، وقد أرشد إلى ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: "المُنْبَتُّ لا أرضًا قطعَ، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه.

ولا ظهرًا أبقى" (¬1) (لكني) استدراك من شيء محذوف دل عليه السياق؛ أي: أنا وأنتم بالنسبة إلى العبوديّة سواء، لكن أنا (أصلي) من الليل حزبي (وأنام) منه (وأصوم) من غيرِ صيام الفرض (وأُفطر) فلا أسردُ الصومَ، ولا أتركه بالكليّة، وتقدم الأفضلُ من ذلك في محالِّه (وأتزوج النساء) ولا أتبتل عن الزواج (فمن رغب عن سنتي، فليس مني) المراد بالسنّة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء: الإعراض عنه إلى غيره (¬2). قال في "القاموس": رغب فيه، كسمع، رَغْبًا، ويضم، ورغبه: أراده، كارتغب، وعنه: لم يرده، وإليه رَغَبًا -محركة- ورَغْبى، ويضم، ورغباء، كصحراء، أو رَغَبوتًا، ورَغَبوتى، ورَغَبانًا محركات، ورُغْبَة -بالضم-، ويحرك: ابتهل، أو هو الضراعة والمسألة، والرغيبة: الأمر المرغوب فيه، والعطاء الكثير، ورغِب بنفسه عنه -بالكسر-: رأى لنفسه عليه فضلًا، انتهى (¬3). والحاصل: أن (رغب) متى تعدى بعَنْ، يكون معناه: أنه لم يرده، بل تركه وأعرض عنه، والمراد: من ترك طريقتي [وأخذ] (¬4) بطريقة غيري، فليس مني، ولمّح بذلك إلى طريقة الرهبانية، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد، كما وصفهم الله -تعالى-، وقد عابهم بأنهم ما وفوا بما التزموه، وطريقة ¬

_ (¬1) رواه البزار في "مسنده" (1/ 62 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1147)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 18)، والديلمي في "مسند الفردوس" (900)، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 105). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 105). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 116)، (مادة: رغب). (¬4) في الأصل: "واتخذ"، والصواب ما أثبت.

النبي - صلى الله عليه وسلم - الحنيفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليس مني" إن كانت الرغبة بضربٍ من التأويل يعذر صاحبه فيه، فمعنى "ليس مني"؛ أي: على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملّة، وإن كانت إعراضًا وتنطعًا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فمعنى "ليس مني": على ملّتي؛ لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر، كما في "الفتح" (¬1). وفي الحديث: دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه. وفيه: تتبع أَحوال الأكابر للتأسي بأفعالهم، وأنه إذا تعذّرت معرفته من الرجاله، جاز استكشافه من النساء، وأنّه من عزم على عمل بِرّ، واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرياء، لم يكن ذلك ممنوعًا. وفيه: تقديم الحمد والثناء على الله عند إلقاء مسائل العلم، وبيانِ الأحكام للمكلفين، وإزالةِ الشبهة عن المجتهدين، وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة أو الاستحباب. قال: الطبري: وفي الحديث: الردُّ على [من] منعَ استعمالَ الحلال من الأطعمةِ والملابسِ، وآثر غليظَ الثياب وخشنَ المآكل (¬2). قال عياض: وهذا مما اختلف فيه السلف، فمنهم من نحا إلى ما قال الطبري، ومنهم من عكس، واحتجّ بقوله -تعالى-: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]، قال: والحقّ أنّ هذه الآية في الكفار، وقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمرين (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 105 - 106). (¬2) المرجع السابق، (9/ 106). (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 528).

قال الحافظ ابن حجر: لا يدل ذلك لأحد الفريقين إن كان المراد المداومة على إحدى الصفتين، والحق أنّ ملازمة استعمال الطيبات يفضي إلى الترفه والبطر، ولا يأمن الوقوع في الشبهات؛ لأن من اعتاد ذلك، قد لا يجده أحيانًا، فلا يستطيع الانتقال عنه، فيقع في المحذور، كما أن منع تناول ذلك أحيانًا يفضي إلى التنطع المنهيِّ عنه، ويردُّ عليه صريح قوله -تعالى-: {{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)} [الأعراف: 32]، كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلًا، وترك التنفل يفضي إلى انتشار البطالة وعدم النشاط إلى العبادة، فخيرُ الأمور الوسط. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأخشاكم" مع ما انضم إليه إشارةٌ إلى العبادة، وفيه -أيضًا-: إشارة إلى أن العلّمَ بالله، ومعرفةَ ما يجب من حقّه أعظمُ قدرًا من مجرد العبادة البدنية، انتهى (¬1). قلتُ: قال علماؤنا، منهم صاحب "الإقناع" في "إقناعه" (¬2)، و"الغاية" (¬3)، وغيرهما: من أذهب طيّباته في حياته الدنيا، واستمتع بها، نقصت درجاته في الآخرة، ودليل ما ذكروه ما روى البيهقي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، قال: لقيَني عمرُ بنُ الخطاب - رضي الله عنه - وقد ابتعتُ لحمًا بدرهم، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلتُ: قَرِم أهلي، فابتعت لهم لحمًا بدرهم، فجعل عمر يردد: قرِم أهلي، حتى تمنيت أنّ الدرهم ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 106). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 412). (¬3) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (5/ 250).

سقط مني ولم ألق عمر (¬1). قوله: قرِم أهلي؛ أي: اشتدّت شهوتهم إلى اللحم (¬2). وفي رواية مالك عن يحيى بن سعيد: أنّ عمر بن الخطاب قال لجابر: أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه لجاره وابنِ عمه؟ فأين تذهب عنكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (¬3) [الأحقاف: 20]؟. قال بعض العلماء: هذا الوعيد من الله، وإن كان للكفار الذين يقدمون على الطيّبات المحظورة، ولذلك قال: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20]، فقد يخشى مثلُه على المنهمكين في الطيبات المباحة؛ لأن من تعوَّدها، مالت نفسه إلى الدنيا، فلم يؤمَن أن يرتبك في الشهوات والملاذ، كلما أجاب نفسه إلى واحدة منها، دعته إلى غيرها، فيصير إلى حالة لا يمكنه عصيانُ نفسه في هوى قط، وينسدُّ باب العبادة دونه، فإذا آلَ به الأمر إلى هذا، لم يبعد أن يقال له: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] الآية (¬4)، ويأتي الكلام على هذا في كتابَي: الأطعمة واللباس -إن شاء الله تعالى-. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (5673). (¬2) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 102). (¬3) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (5672). (¬4) قاله الحليمي، كما نقله البيهقي في "شعب الإيمان" (5/ 35).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: رَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ، لاخْتَصَيْنَا (¬1). التبتل: ترك النكاح، ومنه قيل لمريم -عليها السلام-: البتول. * * * (عن) أبي إسحاقَ (سعدِ بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه -، قال: ردَّ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4786)، كتاب: النكاح، باب: ما يكره عن التبتل والخصاء، ومسلم (1402/ 6 - 8)، كتاب: النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنه، والنسائي (3212 - 3213)، كتاب: النكاح، باب: النهي عن التبتل، والترمذي (1083)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في النهي عن التبتل، وابن ماجة (1848)، كتاب: النكاح، باب: النهي عن التبتل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 529)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 88)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 176)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 27)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1257)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 118)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 72)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 15)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 225).

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمانَ بنِ مظعونٍ التبتلَ) المراد بالتبتل هنا: الانقطاع عن النكاح وما يتبعه من الملاذ إلى العبادة، وأما المأمور به في قوله -تعالى-: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 18] فقد فسّره مجاهد بالإخلاص، فقال: أخلصْ له إخلاصًا (¬1)، وهو تفسير معنى، وإلا، فأصل التبتل: الانقطاع، المعنى: انقطعْ إليه انقطاعًا، لكن لمّا كانت حقيقة الانقطاع إلى الله -تعالى- إنما تقع بإخلاص العبادة له، فسّرها بذلك، ومنه: صدقة بتلة؛ أي: منقطعة عن الملك، وسُمِّيت مريمُ: البتول، لانقطاعها عن التزويج إلى العبادة، وقيل لفاطمة: البتول، لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشرف، ولانقطاع نظرها عما سوى ابن عمها عليٍّ - رضوان الله عليه (¬2) -. وأراد بقوله: ردّ على عثمان؛ أي: لم يأذن له به، بل نهاه عنه، فأخرج الطبراني من حديث عثمان بن مظعون نفسِه: أنه قال: يا رسول الله! إني رجلٌ يشق عليَّ العزوبة، فأذنْ لي في الخِصاء، قال: "لا، ولكن عليك بالصيام" (¬3). ومن طريق سعيد بن العاص: أنّ عثمان قال: يا رسول الله! ائذنْ لي في الاختصاء، فقال: "إنّ الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة" (¬4)، فيحتمل أن يكون الذي طلبه عثمانُ - رضي الله عنه - في الاختصاء حقيقة، فعبّر عنه الراوي بالتبتل؛ لأنه ينشأ عنه (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 216)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (35459)، وغيرهما. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 118). (¬3) رواه الطَّبرانيُّ في "المعجم الكبير" (8325)، وكذا ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 396). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 118).

وعثمانُ بنُ مَظْعون -بفتح الميم وسكون الظاء المعجمة وضم العين المهملة- ابنِ حبيبِ بنِ وهبِ بنِ حُذافَةَ -بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة وبالفاء- ابنِ جُمَحَ -بضم الجيم وفتح الميم ثم حاء مهملة-: من بني كعب بن لؤي، الجُمَحيُّ القرشيُّ، أسلم قديمًا بعد ثلاثة عشر رجلًا، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، وكان ممن حرّم الخمرَ على نفسه في الجاهلية، وقال: أشرب شيئًا يُذهب عقلي، ويُضحك مني من هو أدنى مني (¬1)؟! وهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة في شعبان على رأس ثلاثين شهرًا، وقيل: اثنين وعشرين شهرًا بعدَما رجع من بدر، وقبّل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وجهَه بعدَ موته، ولمّا دفن، قال - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ السلفُ هو لنا" (¬2)، ودُفن في البقيع، وهو أول من دُفن فيه، ولما مات إبراهيمُ بنُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال - صلى الله عليه وسلم -: "اْلَحِقْ سلفنا الصالحَ عثمانَ بَن مظعون" (¬3)، وروي أنه قال ذلك حين توفيت زينبُ ابنتهُ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وكان - صلى الله عليه وسلم - يزوره، وكان قد أعلم قبره بحجر لذلك، وكان - رضي الله عنه - عابدًا مجتهدًا من فضلاء الصحابة، روى عنه ابنه السائب وغيره. ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 393 - 394). (¬2) ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 1053). (¬3) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 378)، والطبراني في "المعجم الكبير" (837)، عن الأسود بن سريع، قال: لما مات عثمان بن مظعون، أشفق المسلمون عليه، فلما مات إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون". (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 237)، والطيالسي في "مسنده" (2694)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 398)، والطبراني في "المعجم الكبير" (8317)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 105).

وفي "البخاري ": أنّ أم العلاء الأنصارية قالت: رأيتُ في النوم لعثمان بن مظعون عينًا تجري، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاك علمه" (¬1) - رضي الله عنه - (¬2). قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: (ولو أذن)، أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (له)، أي: لعثمانَ بنِ مظعون - رضي الله عنه - بالتبتل، (لاختصينا)؛ لأنه الذي طلبه عثمان -كما قدّمنا- في حديث الطبراني وغيره، أو المراد: لفعلنا فعلَ من يختصي، وهو الانقطاع عن النساء، قال الطبري: التبتل الذي أراده عثمان بن مظعون: تحريمُ النساءِ والطيبِ وكلِّ ما يلتذ به، فلهذا نزل في حقّه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، وتقدم تَسمية من أراد ذلك مع عثمان بن مظعون. قال الطيبي: قوله: ولو أذن له، لاختصينا كان الظاهر أن يقول: ولو أذن له، لتبتلنا، لكنه عدل عن هذا الظاهر إلى قوله: لاختصينا، لإرادة المبالغة، أي: لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الأمرُ إلى الاختصاء، ولم يرد به حقيقة الاختصاء؛ لأنه حرام، وقيل: بل هو على ظاهره، وكان ذلك ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6615)، كتاب: التعبير، باب: العين الجارية في المنام، إلا أن فيه: "عمله" بدل "علمه". (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 393)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 210)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 260)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 209)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 102)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1053)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 449)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 589)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 300)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 153)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 461)، و"تعجيل المنفعة" له أيضًا (ص: 283).

قبل النهي عن الاختصاء، ويؤيده تواردُ استئذانِ جماعة من الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كأبي هريرة، وابن مسعود، وغيرهما، وإنما كان التعبير بالخصاء أبلغَ من التعبير بالتبتل؛ لأن وجود الآلة يقتضي استمرار وجود الشهوة ووجود الشهوة، ينافي المراد من التبتل، فيتعين الخصاء طريقًا إلى تحصيل المطلوب، وغايته أنّ فيه ألمًا عظيمًا في العاجل يغتفر في جنب ما يندفع به في الآجل، فهو كقطع الإصبع إذا وقعت في اليد آكلة، صيانةً لبقية اليد، وليس الهلاك بالخصاء محققًا، بل هو نادر، ويشهد له كثرة وجوده في البهائم مع بقائها، وعلى هذا فلعل الراوي عبّر بالخصاء عن الجب؛ لأنه هو الذي يحصل المقصود. والحكمة في منعهم من الاختصاء إرادة تكثير النسل، ليستمر جهاد الكفار، وغير ذلك، ولو أذن - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، لأوشك تواردهم عليه، فينقطع النسل، فيقل المسلمون بانقطاعه، ويكثر الكفار، فهو خلاف المقصود من البعثة المحمدية (¬1). قال: الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى ورضي عنه-: (التبتل) الذي ردّه - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون، ولم يأذن له فيه، أي المراد به: (ترك النكاح) -كما قدّمناه-، (ومنه)، أي: من كون المراد بالتبتل: ترك النكاح، أي: من أجل ذلك (قيل لمريم) بنت عمران (-عليها السلام-: البتول)، لانقطاعها عن التزويج، واسم أمها حنّة، وأخت حنّة أمُّ يحيى اسمها يساع، واسم أبيها فاقود، وعمران ابن ماثان، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 118).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بنْتِ أَبِي سُفْيَانَ: أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! انْكِحْ أُخُتِي ابْنَةَ أَبي سُفْيَانَ، فَقَالَ: "أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ ذَلِكَ لَا يَحَلُّ لِي"، قَالَتْ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بنْتَ أَبي سَلَمَةَ، قَالَ: "بنْتَ أُمِّ سَلَمَة؟! "، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "إِنَّهَا لَوْ لَمْ تكُنْ رَبِيبَتي في حَجْرِي، مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّها لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ". قَالَ عُروةُ: ثُوَيْبَةُ مولاةٌ لِأَبي لَهَبٍ، كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَها، فَأَرْضَعَت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ، أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بشِرِّ حِيبَةٍ، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكمْ، غَيْرَ أَنِّي سقِيتُ فِي هَذِه بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ (¬1). الحِيْبَةُ: الحالةُ بكسرِ الحَاء. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4813)، كتاب: النكاح، باب {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، واللفظ له، و (4817)، باب: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، و (4818)، باب: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (2) [النساء: 23]، و (4831)، باب: عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير، و (5057)، كتاب: النفقات، =

(عن) أم المؤمنين (أم حبيبة) رَمْلَةَ -بفتح الراء وسكون الميم-، وقيل: هند. قال ابن عبد البر: لا خلاف أنّ اسمها رملة إلا عند من شذَّ ممّن يُعد قوله خطأ، ومن قال ذلك زعم أن رملة أختها، ثمّ قال: وإنما دخلت الشبهةُ على من قال فيها هند باسم أم سلمة هند، وأمُّ حبيبة رملةُ أم المؤمنين - رضي الله عنها - (بنت أبي سفيان)، واسمه صخرُ بنُ حربِ بْنِ أميّةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ القرشيُّ، والدُ معاويةَ بنِ أبي سفيان - رضي الله عنه -، ولد أبو سفيان قبل الفيل بعشر سنين، وكان من أشراف قريش في الجاهلية، أسلم يوم فتح مكة، وكان أحد شيوخ مكة، لقي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في طريقها عام الفتح، وأسلم قبل أن يدخلها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لفتحها، وكان من المؤلّفة قلوبُهم شهد حُنينًا، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من مغانمها مئة بعير، وأربعين أوقية فيمن أعطاه من المؤلفة. ¬

_ = باب: المراضع من المواليات وغيرهن، ومسلم (1449/ 15 - 16)، كتاب: الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة، وأبو داود (2056)، كتاب: النكاح، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، والنسائي (3284)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الربيبة التي في حجره، و (3285 - 3286)، باب: تحريم الجمع بين الأم والبنت، و (3287)، باب: تحريم الجمع بين الأختين، وابن ماجة (1939)، كتاب: النكاح، باب: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 633)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 181)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 24)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 29)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1262)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 272)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 142)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 93)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 29).

قال النووي وغيره: وقد حسُن إسلامه، وفُقِئت عينُه يوم الطائف، فلم يزل أعورَ إلى يوم اليرموك، فأصاب عينَه الأخرى حجرٌ، فعمي. روى عنه ابنُ عباس وغيره، مات سنة أربع وثلاثين بالمدينة، ودُفن بالبقيع، فصلى عليه عثمان بن عفان، وقيل: ابنه معاوية، وكان سنّه يوم مات ثمانية وثمانين سنة. أخرج له البخاري ومسلم حديث هرقل عظيم الروم (¬1). وأما أم حبيبة ابنته، فهاجرت مع زوجها عبد الله بن جحش للحبشة، فتنصّر زوجُها هناك، ومات نصرانيًا، وبقيت أم حبيبة مسلمة بأرض الحبشة، فخطبها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي، فزوّجه إياها وهي هناك، على الصحيح، وقيل: بعد رجوعها، وتزوجها سنة ست، وقيل: سبع، وكان بعث - صلى الله عليه وسلم - في أمرها عمرو بن أميّة الضمري، فكتب معه -عليه السلام- إلى النجاشي كتابين، أحدهما يدعوه فيه إلى الإسلام، والآخر إلى تزويجه بأم حبيبة - رضي الله عنها -، والقصة مشهورة في ذلك، وولي نكاحَها عثمانُ، وقيل: خالدُ بن سعيد بن العاص، وقيل: النجاشي، وأصدقَها عنه - صلى الله عليه وسلم - النجاشيُّ أربع مئة دينار، وقيل: أربعة آلاف، وقيل غير ذلك. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته: في "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 310)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (1/ 363) "الثقات" لابن حبان (3/ 193)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 714)، و"تاريخ دمشق" للبخاري (23/ 421)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 9)، "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 521)، و"تهذيب الكمال" للمزي (13/ 119)، و"سير الأعلام النبلاء" للذهبي (2/ 105)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 412).

وما وقع في "مسلم": أنّ أبا سفيان هو الذي زوّجه إياها (¬1)، فإشكال معروف عند العلماء، وقد أطال المقالة على ذلك الإمام ابن القيّم في كتابه "جلاء الأفهام" (¬2)، وغيره، فإنّ أم حبيبة تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلام أبي سفيان، كما بيّنا، زوجه إياها النجاشيُّ، ثم قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يسلم أبوها. وقد أجاب العلماء عن الحديث الذي ذكره مسلم، وهو ما رواه في "صحيحه" من حديث عكرمة بن عمّار، عن أبي زميل، عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان، ولا يقاعدونه، فقال لنبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -: يا نبيّ الله! ثلاث خلال أعطنيهن، قال: "نعم"، قال: عندي أحسن العرب وأجمله، أمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيان، أزوجكها؟ قال: "نعم"، قال: ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك، قال: "نعم"، قال: وتأمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: "نعم"، قال: أبو زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما أعطاه ذلك؛ لأنه لم يكن يُسأل شيئًا إلا قال: نعم (¬3)، بأجوبة، حتى قالت طائفة بأنه كذب لا أصل له. قال ابن حزم: كذّبه عكرمةُ بن عمار، وحمل عليه، واستعظم ذلك آخرون، وقالوا: أَنَّى يكون في "صحيح مسلم" حديث موضوع؟ وذكر جوابَ كلّ طائفة عن ذلك، وما فيه من قدح، ثم صوّب كون الحديث غيرَ ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬2) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 243) وما بعدها. (¬3) رواه مسلم (2501)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي سفيان - رضي الله عنه -.

محفوظ، بل وقع فيه تخليط (¬1)، والله أعلم. وروى عن أم حبيبة: أخوها معاوية، وعنبسة ابنا أبي سفيان، وغيرهما. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وستون حديثًا، اتفقا على حديثين، ولمسلم مثلهما، روى لها الجماعة. توفيت سنة أربع وأربعين (¬2)، وهي التي أكرمت فراشَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس عليه أبوها لمَّا قدمَ من المدينة في تجديد عقد الهدنة، وقالت له: أنت مشرك، هذا فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها: لقد أصابك بعدنا شيء (¬3)! (أنها)؛ أي: أم حبيبة بنت أبي سفيان، (قالت: يا رسول الله! انكِحْ)، أي: تزوّج (أختي بنتَ أبي سفيان)، واسمها عزّة على الأرجح كما في "صحيح مسلم": انكح أختي عزّة بنتَ أبي سفيان، وكذا هو عند ابن ماجة، والنسائي (¬4)، وعند الطبراني: أما حمنة (¬5)، وقيل: اسمها درّة، ¬

_ (¬1) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 243) وما بعدها. (¬2) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 96)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 461)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 131)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1843)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (3/ 181)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 42)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 303)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 175)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 218)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 651)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 448). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 99 - 100)، وغيره، عن الزهري مرسلًا. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1449/ 16)، وابن ماجة برقم (1939)، ولم أر في روايات النسائي الأربع المتقدم تخريجها التصريح باسمها، والله أعلم. (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 224).

وضعفها البرماوي، وجزم المنذري بأن اسمها حَمْنة كما في الطبراني. وقال: أبو موسى في "الذيل": الأشهر فيها عزّة كما في "الفتح" (¬1). قال: ابن دقيق العيد: عزّة -بفتح العين المهملة وتشديد الزاي- (¬2)، (قال) - صلى الله عليه وسلم - لأم حبيبة: (أَوَ تحبين ذلك؟) استفهام تعجب من كونها تطلب أن يتزوج غيرَها، مع ما طُبع عليه النساء من شدة الغيرة (¬3)، قالت أم حبيبة: (فقلتُ: نعم)؛ أي: أحبُّ ذلك، (لستُ لَكَ بمُخْلِية) -بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وكسر اللام-: اسم فاعل من أخلى؛ أي: لستُ بمنفردة بك، ولا خالية من ضرّة، وقال بعضهم: هو بوزن فاعل. قال في "الفتح": الإخلاء متعديًا ولازمًا، من أخليت بمعنى: خلوت من الضرّة؛ أي: ليست بمتفرّغة، ولا خالية من ضرّة، وفي بعض الروايات -بفتح اللام- بلفظ المفعوله، حكاها الكرماني (¬4). وقال عياض: مُخلية؛ أي: منفردة، يقال: أخل أمرك، وأخل به؛ أي: انفردْ به (¬5). وقال صاحب "النهاية": معناه: لم أجدْكَ خاليًا من الزوجات، وليس هو من قولهم: امرأة [مخلية]: إذا خلت من الأزواج (¬6) (وأَحَبُّ مَنْ شاركني) مرفوع بالابتداء؛ أي: إليَّ، وفي رواية: "من شركني" بغير ألف، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 143). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 30). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 143). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 633)، و"مشارق الأنوار" له أيضًا (1/ 239). (¬6) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 74).

وهي في "الصحيحين" -أيضًا- (¬1) (في خير) كذا، للاشتراك بالتنكير؛ أي: أيّ خير كان، وفي رواية في "الخير" (¬2)، قيل: المراد به صحبة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المتضمنة لسعادة الدارين الساترة ما لعله يعرض من الغيرة التي جرت بها العادة بين الزوجات، لكن في بعض الروايات: وأحبُّ من شركني فيك (¬3) (أختي)، فعرف أن المراد بالخير: ذاتُه - صلى الله عليه وسلم - (قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنّ ذلك)، أي: الجمع بين الأختين حرام (لا يحلُّ لي)، وكأن أم حبيبة لم تطلع على تحريم ذلك، إمّا لأن ذلك كان قبل نزول آية التحريم، وإمّا بعد ذلك، وظنتْ أنه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الكرماني. قال الحافظ ابن حجر: والاحتمال الثاني -يعني: ظنها أنّه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -- هو المعتمد، والأول يدفعه سياق الحديث (¬4)، وكأن أم حبيبة استدلّت بقولها: (قالت: فإنّا) معشر نسائك (نُحَدَّث) -بضم النون وفتح الحاء المهملة، على البناء للمجهول-، وفي رواية: قلت: بلغني (¬5)، وفي رواية عند أبي داود: فوالله! لقد أخبرتُ (¬6) (أنك تريد أن تنكِحَ)، وفي رواية: بلغني أنّك تخطب (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4817)، وعند مسلم برقم (1449/ 15 - 16). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5057)، وعند مسلم برقم (1449/ 15). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4817)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 143). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 143). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4817). (¬6) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2056). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4817).

قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على: اسم من حدَّثَ بذلك وأخبر به، ولعله كان من المنافقين، فإنه قد ظهر أن الخبر لا أصل له (¬1) (بنتَ أبي سَلَمة)، واسمها درّة -بضم المهملة وتشديد الراء- في روايةٍ حكاها عياض، وخَطَّأَها -بفتح المعجمة (¬2) -، وعند أبي داود: دُرَّة أو ذرة -على الشك (¬3) -، وأما ما وقع عند البيهقي: بلغني أنك تخطب زينبَ بنتَ أبي سلمة (¬4)، فهو خطأ كما نبّه عليه أئمة الحفّاظ، وكذا ما وقع عند أبي موسى في "ذيل المعرفة": حَمْنة بنت أبي سَلَمة (¬5)، (قال) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (بنتَ أُمِّ سَلَمة؟) هو استفهام استثبات لرفع الإشكال، أو استفهام إنكار، والمعنى: أما إن كانت بنتَ أبي سَلَمَة بنتَ أم سَلَمة -واسمها هند كما تقدّم في ترجمتها في باب "الجنابة"-، فتحريمها من وجهين، وإن كان من غيرها، فمن وجه (¬6) (قالت) أم حبيبة: (نعم) هي بنت أم سلَمَة، فاستدلّت أم حبيبة على جواز الجمع بين الأختين بجواز الجمع بين المرأة وابنتها بطريق الأولى؛ لأن الربيبة حُرّمت على التأبيد، والأخت إنّما حرّمت في صورة الجمع فقط، (قال) - صلى الله عليه وسلم - مجيبًا لأم حبيبة بأن ذلك لا يحلّ، وأنّ الذي بلغها من ذلك ليس بحق، وبنت أم سَلَمَة تَحرم عليه من جهتين، وإذا كان الأمر كذلك (إنها)؛ أي: بنت أم سَلَمة (لو لم تكنْ ربيبتي في حجري، ما حَلَّت لي). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 143). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 266). (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2056). (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 453). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 143). (¬6) المرجع السابق، الموضع نفسه.

قال القرطبي: فيه تعليل الحكم بعلّتين، فإنّه علل تحريمها بكونها ربيبة، وبكونها بنتَ أخ من الرضاعة (¬1). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": الذي يظهر أنه نبّه على أما لو كانت بها مانع، لكفى في التحريم، فكيف وبها مانعان؟ فليس من التعليل بعلتين في شيء؛ لأنه كلّ وصفين يجوز أن يضاف الحكم إلى كلٍّ منهما لو انفرد، فإما أن يتعاقبا، فيضاف الحكم إلى الأول منهما، كما في السببين إذ اجتمعا، ومثاله: لو أحدث، ثم أحدث بغير تخلل طهارة، فالحدث الثاني لم يعمل شيئًا، أو يضاف الحكم إلى الثاني، كما في اجتماع السبب والمباشرة، وقد يضاف إلى أشبههما وأنسبهما، سواء كان الأول، أو الثاني، فعلى كل تقدير، لا يضاف إليهما جميعًا، وإن قدّر أن يوجد، فالإضافة إلى المجموع، ويكون كلّ منهما جزءَ علّة، لا علّة مستقلّة، فلا يجتمع علّتان على معلولٍ واحدٍ، هذا الذي استظهره في "الفتح"، قال: والمسألة مشهورة في الأصول، وفيها خلاف (¬2). قال القرطبي: والصّحيح جوازه بهذا الحديث وغيره (¬3)، انتهى. قلتُ: الذي اعتمده متأخرو علمائنا جوازُ تعليل حكم واحد بعلتين، وبعلل مستقلّة. قال في "شرح مختصر التحرير" (¬4): يجوز تعليل صورة واحدة بعلّتين، ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 182). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 144). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 182). (¬4) هو كتاب: "الذخر الحرير شرح مختصر التحرير" للإمام الفقيه أحمد بن عبد الله البعلي، المتوفى سنة (1189 هـ) -أي بعد وفاة الشارح- رحمه الله بسنة-، شرح =

وبعلل مستقلّة، على الصّحيح، كتعليل تحريم وطء هند -مثلًا- بحيضها، وإحرامها، وواجب صومها، وكتعليل نقض الطهارة بخروج شيء من فرج، وزوال عقل، ومسّ فرج، فإنّ كلّ واحد من المتعددين يثبت الحكم مستقلًا، وإنما كان كذلك؛ لأن العلّة الشرعية بمعنى المعرّف، ولا يمتنع تعدد المعرّف؛ لأن من شأن كلّ واحد أن يعرف الذي وجد به التعريف. قال بعض علمائنا: ويقتضيه قول الإمام أحمد بن حنبل في خنزير ميّت وغيره: هذا حرام من جهتين. وذكره ابن عقيل عن جمهور الفقهاء والأصوليين. والقول الثاني: أنه غير جائز. وعلى القول بجواز تعليل الحكم بعلّتين، فكلّ واحدة من العلل علّة كاملة، لا جزء علّة عند الأكثر، وعند ابن عقيل جزء علّة. وقيل: العلّة إحداهما لا بعينها، واستدل الأول بأنه ثبت استقلال كلٍّ منهما منفردة، وأيضًا لو لم يكن كلّ واحدة علّة، لامتنع اجتماع الأدلّة؛ لأن العلل أدلّة، انتهى ملخصًا. وفي "مفتاح السعادة" للإمام المحقق ابن القيّم -رحمه الله تعالى- في حكم تعليل الحكم بعلّتين ما نصه: فصل الخطاب فيها: أنّ الحكم الواحد إن كان واحدًا بالنوع، كحل الدم، وثبوت الملك، ونقض الطهارة، جاز تعليله بالعلل المختلفة، وإن كان واحدًا بالعين، كحل الدم بالردّة، وثبوت الملك بالبيع والميراث، ونحو ذلك، لم يجز تعليله بعلّتين مختلفتين، ¬

_ = فيه "الكوكب المنير" المشهور بـ "مختصر التحرير" لمحمد بن أحمد الفتوحي المتوفى سنة (972 هـ)، وصاحب "منتهى الإرادات" في الفقه الحنبلي. وانظر: "معجم مصنفات الحنابلة" للطريقي (5/ 334).

قال: وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في هذه المسألة، انتهى (¬1). وفي الحديث إشارة إلى أنّ التحريم بالربيبة أشدُّ من التحريم بالرضاعة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ربيبتي"؛ أي: بنت زوجتي، مشتقة من الرَّبّ، وهو الإصلاح؛ لأنه يقوم بأمرها، وقيل: من التربية، وهي غلط من جهة الاشتقاق؛ لأنّ شرطه الاتفاق في الحروف الأصلية والاشتراك، فإنّ آخر (رَبّ) باء موحدة، وآخر ربي ياء مثناة من تحت، قاله ابن دقيق العيد (¬2). وفي "الفتح": قيل للربيبة ذلك؛ لأنها مربوبة، وغلط من قال: هي من التربية (¬3). قال: الإمام ابن القيّم في كتابه "الهدي": وحرّم الربائب اللاتي في حجور الأزواج، وهنّ بنات نسائهم المدخول بهنّ، فيتناول ذلك بناتِهنّ، وبناتِ بناتهنّ، وبناتِ أبنائهنّ، فإنهنّ داخلاتٍ في اسم الربائب، وقيّد في الكتاب العزيز التحريم بقيدين: أحدهما: كونهنّ في حجور الأزواج. والثاني: الدخول بأمهاتهنّ، فإذا لم يوجد الدخول، لم يثبت التحريم، وسواء حصلت الفرقة بموتٍ أو طلاق، هذا مقتضى النصّ، وذهب زيد بن ثابت ومن وافقه، والإمام أحمد في رواية مرجوحة عنه: إلى أنّ موت الأم في تحريم الربيبة كالدخول بها؛ لأنه يكمل الصداق، ويوجب العدّة والتوارث، فصار كالدخوله، والجمهور أبوا ذلك، فقالوا: الميتة غير مدخول بها، فلا تحرم، انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 34). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 31). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 158). (¬4) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 121).

وقد قيّد الله -تعالى- التحريم بالدخول، وصرّح بنفيه عند عدم الدخول. وأمّا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في حجري"، وقول الله -تعالى-: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، الحَجْر -بفتح الحاء المهملة وإسكان الجيم-، ومعناه: الحضانة والتربية، وكون المحضون تحت نظر الحاضن يمنعه مما يجب المنع منه، ولو كان الغالب ذلك ذكره لا تقييد للتحريم به، بل هو بمنزلة قوله -تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31]، ولمّا كان من شأن بنت المرأة أن تكون عند أمها، فهي في حَجر الزوج وقوعًا وجوازًا، قيّده به، وكأنه قال: اللاتي من شأنهنّ أن يكنّ في حجوركم. قال: الإمام المحقق ابن القيّم في "الهدي": وفي ذكر هذا فائدة شريفة، وهي: جواز جعلها في حجره، وأنه لا يجب عليه إبعادُها عنه، وتجنبُ مؤاكلتها والسفرِ والخلوةِ بها، فأفاد هذا الوصف عدم الامتناع من ذلك، قال: ولمّا خفي هذا على بعض أهل الظاهر، شرط في تحريم الربيبة أن تكون في حجر الزوج، انتهى (¬1). وقال في "الفتح" في قول البخاري: وهل تسمى الربيبة وإن لم تكن في حجره؟ أشار بهذا إلى أن التقييد بقوله: {فِي حُجُورِكُمْ} هل هو للغالب، أو يعتبر فيه مفهوم المخالفة؟ قد ذهب الجمهور إلى الأول، وهو خلافٌ قديم أخرجه عبد الرزاق، وابن المنذر من طريق إبراهيم بن عبيد، عن مالك بن أوس، قال: كانت عندي امرأة قد ولدت لي، فماتت، فوَجدت ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (5/ 121 - 122).

عليها، فلقيت عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فقال لي: مالك؟ فأخبرته، فقال لي: ألها ابنة؟ يعني: من غيرك، قلتُ: نعم، قال: كانت في حجرك؟ قلتُ: لا، هي في الطائف، قال: فانكحها، قلت: فأين قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ}؟ قال: إنها لم تكن في حجرك (¬1). قال: وقد رفع بعض المتأخرين هذا الأثر، وادّعى نفي ثبوته، بأنّ إبراهيم بن عُبيد لا يعرف، وهو عجيب، فإنّ الأثر المذكور عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، وإبراهيمُ ثقة تابعي معروف، وأبوه وجدّه صحابيان، والأثر صحيح عن علي، وكذا صحّ عن عمر: أنه أفتى من سأله: إن تزوّج بنتَ رجل كانت تحته جدّتُها، ولم تكن أمُّ البنتِ في حجره. أخرجه أبو عبيد، وهذا وإن كان الجمهور على خلافه، فقد احتج أبو عبيد للجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تعرضْنَ عليَّ بناتكنّ". قال: نعم، ولم يقيّد بالحجر، وفيه نظر لحمل المطلق على المقيّد. قال الحافظ ابن حجر: ولولا الإجماع الحادث في المسألة، وندرةُ المخالفة، لكان الأخذُ به أولى؛ لأن التحريم جاء مشروطًا بأمرين: أن تكون في الحجر، وأن يكون الذي يريد التزويج قد دخل بالأم، فلا تحرم إلا بوجود الشرطين، انتهى (¬2). وفي روايةٍ: قال - صلى الله عليه وسلم -: "واللهِ لو لم تكن ربيبتي، ما حَلَّت لي (¬3)، (إنها)؛ أي: بنتَ أبي سَلَمَة (لابنةُ أخي من الرضاعة)، ثم بيّن ذلك ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (10834)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (5130). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 158). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5057).

بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أرضعتني) أنا، (و) أرضعَتْ (أبا سَلَمَةَ) -بنصب (أبا) على أنه معطوفٌ على الياء في (أرضعتني) -وهو مفعول مقدم (ثويبةٌ) -بالرفع- فاعل. واسم أبي سَلَمَة عبدُ الله بنُ عبد الأسد بنِ هلالِ بنِ عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ مخزومٍ القرشيُّ المخزوميُّ، وأمه برّةُ بنتُ عبدِ المطلب عمّةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان هاجرَ بأم سَلَمَة إلى أرض الحبشة، وهو أولُ من هاجر لها، ثم شهد بدرًا بعد أن هاجر الهجرتين، وجُرح يومئذٍ جرحًا اندملَ، ثم انتقض، فمات منه لثلاث مضينَ من جمادى الآخرة سنة ثلاث من الهجرة، كذا قاله ابن عبد البر، ورجّح ابن الأثير: أنه مات سنة أربع، وكان أخا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخا حمزةَ - رضي الله عنه - من الرضاع، وله من الأولاد: سَلَمَة، وعمرو، وزينب، ودرّة (¬1). قال ابن إسحاق: أسلم أبو سَلَمَة بعد عشرة أنفس، واستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى غزوة العشيرة -بالشين المعجمة-، وكانت في الثانية. قال ابن إسحاق في "السيرة": هاجر أبو سَلَمة إلى المدينة قبل بيعة العقبة بسنة، وحُبست عنه امرأته أم سَلَمة هند بنتُ أبي أميّة بمكّة نحو سنة، ثم أذن لها بنو المغيرة الذين حبسوها في اللحاق بزوجها، فانطلقت، وشيّعها عثمانُ بنُ طلحةَ، ولم يكن أسلم بعدُ، حتى إذا وافى على قرية بني ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 87)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 939)، و"جامع الأصول" لابن الأثير (15/ 578 - "قسم التراجم")، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 521)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 187)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 152).

عمرو بن عوف بقباء، قال لها: هذا زوجك في هذه القرية، ثم انصرف راجعًا إلى مكة، فكانت تُثني عليه ثناءً حسنًا. وإنما تقدّمت هجرة أبي سَلَمة إلى المدينة على غيره؛ لأنه لمّا قدم من الحبشة إلى مكّة، آذاه أهلها، فأراد الرجوع إلى الحبشة، فلمّا بلغه إسلام من أسلم من الأنصار؛ أي: الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - البيعةَ الأولى، وكانوا اثني عشر، خرج إليهم وقدِم المدينة بكرة النهار، وقد قيل: إن أبا سَلَمة - رضي الله عنه - أول من يأخذ كتابه بيمينه في الموقف (¬1). ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم حبيبة ولغيرها: (فلا تَعْرِضْنَ) -بفتح أوله وسكون العين المهملة وكسر الراء بعدها ضاد معجمة ساكنة فنون- على صيغة الخطاب لجماعة النساء، أو -بكسر المعجمة وتشديد النون- خطاب أم حبيبة وحدها، والأول أوجه كما في "الفتح". وقال ابن التين: ضبط -بضم الضاد-، قال ابن حجر: ولا أعلم له وجهًا؛ لأنه إن كان الخطاب لجماعة النساء، وهو الأبين، فهو بسكون الضاد، ولأنه فعلٌ مستقل مبني على أصله، ولو أدخلتَ عليه التأكيد، فشدَّدتَ النون، لكان لتعرضنان عليَّ؛ لأنه يجتمع ثلاث نونات، فيفرق بينهن بألف، وإن كان لأم حبيبة، فعلى صيغة ما تقدم (¬2). وقال القرطبي: جاء بلفظ الجمع، وإن كانت القصة لاثنتين، وهما أم حبيبة وأم سَلَمة، ردعًا وزجرًا أن تعود واحدة منهما أو من غيرهما إلى مثل ذلك (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (2/ 315). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 144). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 182).

(عليَّ) متعلّق فلا تعرضن (بناتكن). وكان لأم سَلَمة من البنات: زينب، ودرّة، ولأم حبيبة من البنات: حبيبة، وقد روت عنها الحديث، ولها صحبة. (ولا) تعرضن عليّ (أخواتكنّ). وكان لأم سَلَمة من الأخوات: قريبة زوج زمعة بن الأسود، وقريبة الصغرى زوج عمر، ثم معاوية، وعزّةُ بنتُ أبي أميّة زوج منبه بن الحجّاج، وكان لأم حبيبة من الأخوات: هند زوج الحارث بن نوفل، وجويرية زوج السائب بن أبي حبيش وأميمةُ زوج صفوانَ بن أميّة، وأمُّ الحكم زوجُ عبد الله بن عثمان، وصخرة زوج سعيد بن الأخنس، وميمونةُ زوجُ عروة بنِ مسعود، ولغيرهما من أمهات المؤمنين عدّة أخوات (¬1). وفي "البخاري" وحده دون مسلم (¬2): (قال عروة) بن الزبير - رضي الله عنهما - وقد قدّمنا ترجمته في فسخ الحجِّ إلى العمرة (ثويبةُ) وموحدّة مصغر، قال البرماوي كغيره -بضم المثلثة وفتح الواو وسكون المثناة تحت وبعدها موحدّة- (مولاةٌ)؛ أي: معتقَةٌ (لأبي لهب) عمِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، اسمُه عبد العزى، وعداوته للنبي - صلى الله عليه وسلم - مشهورة (كان أبو لهب أعتقها)؛ أي: ثويبة، قال: (فأرضعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -). وقد ذكرها الإمام الحافظ ابن منده في "الصحابة"، وقال: اختلف في إسلامها. وقال الحافظ أبو نعيم: لا نعلم أحدًا ذكر إسلامها غيره، والذي في ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 144). (¬2) قلت: هذه الزيادة من أفراد البخاري، كما قاله الحافظ عبد الحق الإشبيلي في "الجمع بين الصحيحين" (2/ 410)، حديث رقم (2382).

[السير] (¬1) أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكرمها، وكانت تدخل عليه بعدما تزوّج خديجة، وكان يرسل إليها الصلة من المدينة إلى أن كان بعد فتح خيبر ماتت، ومات ابنها مسروح (¬2). وذكر البرماوي: أنّ ابن سعد ذكر عن غير واحد من أهل العلم: أن خديجة طلبت أن تبتاعها من أبي لهب لتعتقها، فأبى أبو لهب، فلمّا هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أعتقها أبو لهب. وكذا قال الحاكم أبو أحمد: إنه أعتقها بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يبعد على هذا القول أن يكون أعتقها لكونها مرضعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان إرضاعُ ثويبة له - صلى الله عليه وسلم - قبل إرضاع حليمة السعدية، وأرضعت قبله حمزةَ عمَّه، وبعده أبا سَلَمةَ المخزوميَّ، كذا صوّبه البرماوي. قلت: المشهور في السيرة: أن ثويبة أول من أرضعته - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أعتقها حين بشرّته بولادته - صلى الله عليه وسلم -، فإنها قالت له: أشعرتَ أن آمنة ولدت غلامًا لأخيك عبد الله؟ فقال لها: أنتِ حرّة، فجوزيَ بتخفيف العذاب عنه يوم الاثنين كما يأتي (¬3)، ومات أبو لهب في الثانية بعد غزوة بدر بسبعة أيام ميتة شنيعة بداءٍ يقال له: داء العدسة، خرج في مواضع من جسده من جنس الطاعون يقتل غالبًا، كانت العرب تتشاءم به، فلمّا مات، تباعد عنه بنوه، فبقي ثلاثًا لا يُقرب ولا يُدفن حتى حفروا له حفرة، فدفعوه فيها بعود، وحديث موته بذلك رواه النسائي من حديث أبي رافع (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "السنن" والتصويب من "الفتح". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 145). (¬3) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (3/ 99)، و"السيرة الحلبية" (1/ 138). (¬4) لم أجده عند النسائي في "سننه"، وقد رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" =

فائدة: مَراضعُه - صلى الله عليه وسلم - عشرة: أُمّه آمنة أرضعته قبل ثويبة سبعةَ أيام، وقيل: تسعة، وعليه فقولهم: أول من أرضعته ثويبة، يعني: من مراضعه سوى أمّه والثالثة والرابعة والخامسة من مراضعه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثُ نسوة أبكار من بني سليم، كلّ واحدة منهنّ تسمى عاتكة، أخرجنَ أثدِيتهنّ، فوضعنها في فمه فدرَّت، فرضع منهنّ، وهن اللاتي عناهن - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أنا ابنُ العَواتِكِ من سليم" رواه سعيد بن منصور في "سننه"، والطبراني في "معجمه الكبير" عن سِيابه -بسين مهملة مكسورة فمثناة تحتية فموحدة فهاء- بنِ عاصم السلمي - رضي الله عنه -، ورجاله رجال الصحيح (¬1). السادسة: مولاته أم أيمن - رضي الله عنها - كما في "الخصائص الصغرى" للسيوطي، مع أنه لا يُعرف لها ولد وقتئذٍ، فإن ثبت، فلعلها درّت عليه كالعواتك. السابعة: أم فروة. الثامنة: حليمة السعدية بنت أبي ذئب ظئره. التّاسعة: خَولةُ بنت المنذر، والصّحيح أنها مرضعة ابنه إبراهيم - عليه السلام -، إلا أن يقال: إنها غيرها، وإنها وافقتها في الاسم واسم الأب، وإنها هي التي أرضعته وأرضعت عمه حمزة، وهو عند بني سعد، وإنّ ¬

_ = (4/ 73 - 74)، والبزار في "مسنده" (3866)، والطبراني في "المعجم الكبير" (912)، والحاكم في "المستدرك" (5403)، وغيرهم من حديث أبي رافع - رضي الله عنه -. (¬1) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (2/ 351)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6724).

حمزة رضيع النبي - صلى الله عليه وسلم - من لبن ثويبة، ومن لبن السعديّة، وهي مرضعة حمزة كما في "الهدي" (¬1). قال في "سيرة الشامي": لم أقف على اسمها. وجوّز الحلبي كونها خولةَ بنتَ المنذر من بني سعد (¬2). وذكر الحافظ ابنُ سيد الناس: أن أبا إسحاق الأمين ذكر في استدراكه على أبي عمر خولةَ بنتَ المنذر بنِ زيد بن لبيد بنتَ خدّاش التي أرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). العاشرة: زعم بعضهم أنّها أم أيمن عزيزة، وهو وهم، وإنما هي حاضنته، واسمها بركة، ولعلها كانت تسمى عزيزة، وقد ذكرناها، فتكون مراضعه على هذا تسعة. وفي "شرح سيرة الحافظ عبد الغني" المصنفِ -رحمه الله تعالى- للحافظ قطب الدين عبد الكريم الحلبي: وكانت ترضعه حبيبة، وأنيسة، وحُذافة -بضم الحاء المهملة-، وقيل: -بكسر المعجمة- بناتُ الحارث بن عبد العزى بنِ رفاعة، لكن في "تجريد الذهبي": حذافةُ بنتُ الحارث السعديّة التي يقال لها: الشيماء أُختُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة (¬4)، كما في "شرح الزهر البسام". فائدة أخرى: ذكر الحافظ جلال الدين السيوطي: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ترضعه مرضعة إلّا ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 83). (¬2) انظر: "السيرة الحلبية" للحلبي (1/ 142). (¬3) انظر: "عيون الأثر" لابن سيد الناس (1/ 98). (¬4) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (2/ 258).

وأسلمت، انتهى (¬1). كذا قال، والله أعلم. (فلمّا مات أبو لهب) عبدُ العزى بن عبد المطلب في الثانية من الهجرة -كما تقدم- (أُريه) -بضم الهمزة وكسر الراء وفتح التحتانية- على البناء للمجهول (بعضُ أهله) نائب الفاعل، وقد ذكر غير واحد، منهم السهيلي: أن الرائي له العباس -رضوان الله عليه-، قال العباس: لما مات أبو لهب، رأيته في منامي بعد حولٍ في شَرّ، فقال: ما لقيت بعدكم راحة، إلّا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين، قال: وذلك أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم الإثنين، وكانت ثويبة بشّرت أبا لهب بمولده، فأعتقها، ذكره في "الروض الأنف" (¬2) (بشرِّ حِيبة) -بكسر الحاء المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة- أي: سوء حال. وقال ابن فارس (¬3): أصلها: الحوبة، وهي المسكنة والحاجة، فالياء في حيبة منقلبة عن واو، لانكسار ما قبلها. ووقع في "شرح السنّة" للبغوي: -بفتح الحاء (¬4) -، وهي عند المستملي -بفتح الخاء المعجمة-؛ أي: حالة خائبة من كلّ خير. وقال الحافظ ابن الجوزي: هو تصحيف (¬5). وقال القرطبي: يروى بالمعجمة، ووجدته في نسخة معتمدة بكسر المهملة وهو المعروف. ¬

_ (¬1) نقله الحلبي في "السيرة الحلبية" (1/ 143). (¬2) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (3/ 98 - 99). (¬3) انظر: "مجمل اللغة" لابن فارس (1/ 255)، (مادة: حوب). (¬4) انظر: "شرح السنة" للبغوي (9/ 76). (¬5) انظر: "كشف المشكل" لابن الجوزي (4/ 216).

وحكى في "المشارق" عن رواية المستملي: -بالجيم-، قال: ولا أظنه إلا تصحيفًا (¬1)، قال في "الفتح": هو تصحيف كما قال (¬2). (فقال له)، أي: قال بعض أهل أبي لهب، وهو أخوه العباس - رضي الله عنه - لأبي لهب، وقد رآه في النوم: (ماذا لقيتَ) بعد الموت؟ (قال له أبو لهب: لم ألق بعدَكم)؛ أي: من حين موتي، أيَّ خير، كذا في أكثر الأصول بحذف المفعول، وفي رواية الإسماعيلي: لم ألق بعدكم رخاء، وعند عبد الرزاق عن معمر، عن الزُّهريُّ: لم ألق بعدكم راحة (¬3)، قال ابن بطال: سقط المفعول من رواية البخاري، ولا يستقيم الكلام إلّا به (¬4) (غير أني سُقيت في هذه) كذا في الأصول بالحذف، ووقع في رواية عبد الرزاق: وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه، وفي رواية الإسماعيلي: وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي قبلها من الأصابع، وللبيهقي في "دلائل النبوّة" مثله بلفظ: يعني: النقرة إلخ (¬5). وفي ذلك إشارة إلى حقارة ما سقي من الماء (بعَتاقتي) -بفتح العين المهملة- وفي رواية عبد الرزاق: بعتقي، وهو أوجه، والوجه أن يقول: بإعتاقي؛ لأن المراد التخلص من الرق (¬6) (ثُويبةَ) المتقدمَ ذكرُها. قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- (الحِيبَة: الحالة -بكسر الحاء) المهملة وفتح موحدة- كما قدّمنا. ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 219). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 145). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 145). (¬5) انظر: "دلائل النبوة" للبيهقي (1/ 148 - 149). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 145).

وفي الحديث دلالة على أنّ الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرَة، لكنه مخالف لظاهر القرآن، قال الله -تعالى-: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، وأجيب: أولًا: الخبر مرسل، أرسله عروة، ولم يذكر من حدّثه به، وعلى تقدير أن يكون موصولًا، فالذي في الخبر رؤيا منام، فلا حجّة فيه، ولعلّ الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلمَ بعد، فلا يحتجّ به. وثانيًا: على تقدير القبول يحتمل أن يكون ما يتعلّق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مخصوصًا من ذلك بدليل قصة أبي طالب، فإنّه خُفف عنه، فنُقل من الغمرات إلى ضَحْضاحٍ من نار (¬1). وقال: البيهقي: ما ورد من بطلان الخير للكفار، فمعناه: أنه لا يكون لهم التخلص من النار، ولا دخول الجنّة، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات. وأما عياض، فقد قال: انعقد الإجماع على أنّ الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم، ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشدّ عذابًا من بعض (¬2). قال: الحافظ ابن حجر في "الفتح": وهذا -يعني: ما ذكره عياض- لا يرد الاحتمال الذي ذكره البيهقي، فإن جميع ما ورد من ذاك فيما يتعلق ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3670)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قصة أبي طالب، ومسلم (209)، كتاب: الإيمان، باب: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب، من حديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 597).

بذنب الكفر، وأما ذنب غير الكفر، فما المانع من تخفيفه (¬1)؟ وقال القرطبي: هذا التخفيف خاص بهذا، وبمن ورد النص فيه (¬2). وقال ابن المنير في "حاشية البخاري": هنا قضيتان: إحداهما: محال، وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره؛ لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقودٌ من الكافر. الثانية: إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضُّلًا من الله -تعالى- لا يحيله العقل، فإذا تقرر ذلك، لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربةً معتبرة، ويجوز أن يتفضل الله عليه بما شاء كما تفضل على أبي طالب، والمتبع في ذلك التوقف نفيًّا وإثباتًا، والله الموفق (¬3). تنبيهات: الأول: اشتمل هذا الحديث على ذكر تحريم الجمع بين الأختين، وهذا بالإجماع، وعلى تحريم الربيبة، وهو بالإجماع أيضًا، وعلى تحريم بنت الأخت من الرضاع، وهو بالإجماع. الثاني: الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة، وقد ثبت ذلك في "الصحيحين" من حديث عائشة (¬4)، وفي لفظٍ عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحرُم ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 145). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 457). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 145). (¬4) رواه البخاري (2938)، كتاب: الخمس، باب: ما جاء في بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (1444)، كتاب: الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة.

من الرضاعة ما يحرُم من النسب" رواه مسلم (¬1)، ورواه الشيخان -أيضًا- من قولها (¬2)، ومن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وخرجه الترمذي من حديث علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقد أجمع العلماء -رضوان الله عليهم- على العمل بهذه الأحاديث في الجملة، وأنّ الرضاع يحرّم ما يحرّم النسب. الثالث: في ذكر قاعدة كلّية في ذكر المحرمات من النسب، ليعلم بها المحرّمات من الرضاعة، ولنذكر المحرمات من النسب كلهنّ. اعلم أنّ الولادة والنسب قد تؤثر التحريم في النكاح، وهذا التحريم على قسمين: أحدهما مؤبد على الانفراد، وهو نوعان: أحدهما: ما يحرّم بمجرد النسب، فيحرّم على الرجل أصوله وإن علون، وفروعه وإن سفلن، وفروع أصله الأدنى. وإن سفلن، وفروع أصوله البعيدة دون فروعهنّ، فدخل في أصوله أمهاته وإن علونَ من جهة ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1445/ 9)، كتاب: الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. (¬2) رواه البخاري (5804)، كتاب: الأدب، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تربت يمينك" و"عقرى حلقى"، ومسلم (1444/ 5) كتاب: الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. (¬3) رواه البخاري (2502)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، ومسلم (1447/ 12)، كتاب: الرضاع، باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة. (¬4) رواه الترمذي (1146)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. وقال: حسن صحيح.

أبيه وأمه، وفي فروعه بناته وبنات أولاده وإن سفلن، وفي فروع أصله الأدنى أخواتُهمن الأبوين أو من أحدهما، وبناتهنّ، وبنات الإخوة وأولادهم وإن سفلنَ، ودخل في فروِع أصوله البعيدة العمّاتُ والخالات، وعمّات الأبوين وخالاتهما وإن علون، فلم يبق من الأقارب حلالًا للرجل سوى فروع أصوله البعيدة، وهنّ بنات العم، وبنات العمات، وبنات الخال، وبنات الخالات. والنوع الثاني: ما يحرم بالنسب مع سببٍ آخر، وهو المصاهرة، فيحرم على الرجل حلائل آبائه، وحلائل أبنائه، وأمهات نسائه، وبنات نسائه المدخولِ بهنّ، فيحرم على الرجل أمُّ امرأته وأمهاتها من جهة الأم والأب وإن علونَ، ويحرم عليه بنات امرأته، وهنّ الربائب وبناتهنّ وإن سفلنَ، وكذا بنات بني زوجته، وهنّ بنات الربيب، نصّ عليه الإمام الشافعي، والإمام أحمد. قال الحافظ ابن رجب: ولا نعلم فيه خلافًا. ويحرم عليه أن يتزوج امرأة أبيه وإن علا، وامرأة ابنه وإن سفل، ودخول هؤلاء في التحريم بالنسب ظاهر؛ لأن تحريمهنّ من جهة نسب الرجل مع سبب المصاهرة، وأما أمهاتُ نسائه وبناتُهنّ، فتحريمهن مع المصاهرة بسبب نسب المرأة، فلم يخرج التحريم بذلك على أن يكون بالنسب (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 410)، وانظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 335)، و"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (5/ 162)، وما بعدها، و"حاشية النجدي على المنتهى" (4/ 82) وما بعدها.

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4820 - 4821)، كتاب: النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها، ومسلم (1408/ 33 - 40)، كتاب: النكاح، باب: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، وأبو داود (2066)، كتاب: النكاح، باب: ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، والنسائي (3288 - 3294)، كتاب: النكاح، باب: الجمع بين المرأة وعمتها، و (3295 - 3296)، باب: تحريم الجمع بين المرأة وخالتها، والترمذي (1126)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، وابن ماجة (1929)، كتاب: النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 189)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 451)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 55)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 545)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 101)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 190)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 32)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1267)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 29)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 160)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 107)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 39)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 124)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 285).

(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمن بنِ صخر (- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يُجمع بين المرأة وعمتها)، في النكاح، وهو -بالرفع- خبرٌ بمعنى النّهي، وسواء جمعهما في عقدٍ واحدٍ، أو تزوّج واحدة بعد واحدة، لكن إذا كانا في عقدٍ واحد، فالعقد باطلٌ فيهما جميعًا، وإذا كان مرتبًا، فالباطل الثّاني فقط (¬1)، (ولا) يجمع (بين المرأة وخالتها) كذلك، وهو من التحريم المؤبَّد على الاجتماع دون الانفراد، وتحريمه يختصّ بالرجاله، لاستحالة إباحة جمع المرأة بين زوجين، فكلّ امرأتين بينهما رحمٌ محرم يحرم الجمع بينهما، بحيث لو كان أحدهما ذكرًا لم يجز له الزواج بالأخرى، فإنه يحرم الجمع بينهما بعقد النكاح (¬2). قال: الشعبي: كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يقولون: لا يجمع الرجل بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلًا لم يصلح له أن يتزوجها (¬3)، وهذا إذا كان التحريم لأجل النسب، وبذلك فسّره سفيان الثوري وأكثر العلماء، فلو كان لغير، نسب مثل أن يجمع بين زوجة رجل وابنته من غيرها، فإنه يباح عند عامّة العلماء، وكرهه بعض السلف (¬4)، وفي لفظٍ عن أبي هريرة عندهما: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تُنكح المرأة على بنت الأخ، ولا ابنة الأخت على خالة" (¬5)، وفي لفظٍ آخر: "لا تُنكح المرأة على عمّتها، ولا على خالتها" أخرج البخاري هذا من حديث جابر (¬6)، ومن ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 32). (¬2) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 539). (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (10768). (¬4) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 411). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1408/ 35). (¬6) رواه البخاري (4819)، كتاب: النكاح، باب: لا تنكح المرأة على عمتها.

حديث أبي هريرة (¬1) - رضي الله عنهما -. وبه تعلم ما فيما نقله الإمام الحافظ البيهقي عن الإمام الشافعي: أن هذا الحديث لم يرو من وجه يثبته أهل الحديث إلّا عن أبي هريرة، وروي من وجوهٍ لا يثبتها أهل العلم بالحديث. وقال: البيهقي: هو كما قاله، قد جاء من حديث علي، وابن مسعود، وابن عمر، وعن ابن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس، وأبي سعيد، وعائشة، وليس فيها شيء على شرط الصّحيح، وإنما اتفقا على إثبات حديث أبي هريرة، وأخرج البخاري رواية عاصم عن الشعبي عن جابر، وبيّن الاختلاف على الشعبي فيه، قال: والحفّاظ يرون رواية عاصم خطأ والصواب رواية بن عون وداود عن أبي هريرة (¬2)، انتهى. ولا يخفى عليك أنّ الاختلاف الذي أشار إليه غير ملتفَت إليه؛ لأن إمام الحفّاظ البخاري لم يره قادحًا، فإنّ الشعبي أشهرُ بجابر منه بأبي هريرة، وللحديث طريقٌ أخرى عن جابر بشرط الصحيح أخرجها النسائي من طريق ابن جريح، عن أبي الزبير، عن جابر، والحديث ثابت محفوظ من أَوجه عن أبي هريرة، وقد صحح حديثَ جابر الترمذيُّ (¬3)، وابن حبان (¬4)، وغيرهما، وكفى بتخريج البخاري له موصولًا قوّة. وقال: ابن عبد البر: الحديثان جميعًا صحيحان (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4821)، وعند مسلم برقم (1408/ 37). (¬2) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 166). (¬3) لم يرو الترمذي في "سننه" حديث جابر - رضي الله عنه -، وإنما روى حديث ابن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهما -. (¬4) رواه ابن حبان في "صحيحه" (4114). (¬5) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 278).

وزاد بعضهم على من قدمنا ذكرهم ممن روى الحديث من الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- أبا موسى الأشعري، وأبا أمامة، وسمرة، وأبا الدرداء، وعتاب بن أسيد، وسعد بن أبي وقاص، وزينب امرأة ابن مسعود، فعدّةُ مَنْ رواه خمسةَ عشَر نفسًا، وأحاديثهم موجودة عند الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجة، وأبي يعلى، والبزار، والطبراني، وابن حبان، وغيرهم. قال الإمام الشافعي: تحريم الجمع بين من ذكر هو قول من لقيتُه من المفتين لا اختلاف بينهم في ذلك (¬1). وقال الترمذي بعد تخريجه: العمل على هذا عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافًا أنه لا يحلّ للرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، ولا أن تُنكح المرأةُ على عمتها أو خالتها (¬2). وقال ابن المنذر: لستُ أعلم في منع ذلك اختلافًا اليوم، وإنما قال بالجواز فرقةٌ من الخوارج، وإذا ثبت الحكم بالسنّة، واتفق أهل العلم على القول به، لم يَضُره خلافُ من خالفه. وكذا نقل الإجماعَ: ابنُ عبد البرّ (¬3)، وابنُ حزم (¬4)، والقرطبي (¬5)، والنووي (¬6)، لكن استثنى ابنُ حزم عثمانَ البَسْتِيَّ، وهو أحد الفقهاء القدماء ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (5/ 5). (¬2) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 433). (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 277). (¬4) انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 524). (¬5) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 101). (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 191).

من أهل البصرة، وهو -بفتح الموحدة وتشديد المثناة-، واستثنى النووي طائفة من الخوارج والشيعة، واستثنى القرطبي الخوارج، ولفظه: اختار الخوارج الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها وخالتها، ولا يُعتد بخلافهم؛ لأنهم مرقوا من الدين (¬1)، انتهى. وفي نقله عن الخوارج الجمعَ بين الأختين غلط بيّن، فإن عمدتَهم التمسّكُ بأدلة القرآن، لا يخالفونه البتة، وإنما يردون الأحاديث، لاعتقادهم عدمَ الثقة بنَقَلَتها، وتحريمُ الجمع بين الأختين منصوص القرآن. ونقل ابن دقيق العيد تحريمَ الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها عن جمهور الأمّة (¬2)، ولم يعين المخالف (¬3). وقال ابن القيّم في "الهدي ": وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وهذا التحريم مأخوذ من تحريم الجمع بين الأختين، لكن بطريقٍ خفي، وما حرّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلُ ما حرّمه الله، ولكن هو مستنبط من دلالة الكتاب. قال: فاستفيد من تحريمه الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها: أنّ كلّ امرأتين بينهما قرابة لو كان إحداهما ذكرًا، حُرِّمَ على الآخر، فإنه يحرم الجمع بينهما. قال: ولا يستثنى من هذا صورة واحدة، فإن لم يكن بينهما قرابة، لم ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 101 - 102). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 32). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 161).

يحرم الجمع بينهما، وهل يكره؟ على قولين: فذكر صورة جمعة بين زوجة رجل وابنته من غيرها (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض تعاليقه: نكاح العمّة والخالة أفحشُ وأقبحُ من نكاح الأخت، وكذلك الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، فإنه أشدّ قطيعة للرحم من الجمع بين الأختين، فإنّ الأختين يتماثلان، وقد تختار الأخت لأختها أن تكون مثلها كما قالت أم حبيبة - رضي الله عنها -: لستُ لك بمُخْلِية، وأحقُّ من يشركني في الخير أختي (¬2)، فجعلت أختَها أحقَّ بمشاركتها في الزوج من العمّة والخالة، وأما العمّة والخالة إذا زاحمتهما بنتُ الأخ والأخت، فهذا يعظُم عليها، ويفضي إلى القطيعة أكثر، فإنها تقول: ليست مثلي، أنا مثلُ أمها، فكيف تزاحمني؟ وكذلك الكبرى إذا نُكحت على الصغرى تقول: أنا مثلُ ابنتها، فكيف تزاحمني؟ فهذا بالجمع بين الأم وربيبتها أشبهُ، وذلك أفحش أنواع الجمع، ولهذا حرّمت البنت بالدخول بالأم، وحرّمت الأم بالعقد على البنت تحريمًا مؤبدًا، فالجمع بين المرأة وعمتها وخالتها إلى الجمع بين الأم وابنتها أقرب من الجمع بين الأختين، وأطال في ذلك (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 271 - 128). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 539)، وما بعدها.

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ أَحَقَّ الشُرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ: مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجَ" (¬1). * * * (عن) أبي حمّادٍ (عقبةَ بنِ عامر) بنِ عبس -بفتح العين المهملة وسكون ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2572)، كتاب: الشروط، باب: الشروط في المهر عند عقدة النكاح، واللفظ له، و (4856)، كتاب: النكاح، باب: الشروط في النكاح، ومسلم (1418)، كتاب: النكاح، باب: الوفاء بالشروط في النكاح، وأبو داود (2139)، كتاب: النكاح، باب: في الرجل يشترط لها دارها، والنسائي (3281 - 3282)، كتاب: النكاح، باب: الشروط في النكاح، والترمذي (1127)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الشرط عند عقدة النكاح، ابن ماجه (1954)، كتاب: النكاح، باب: الشرط في النكاح. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 219)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 58)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 562)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 112)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 201)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 33)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1270)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 217)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 141)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 63)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 125).

الموحدة فسين مهملة -الجهنيِّ (- رضي الله عنه -) من بني قيس بن جهينة الجهنيِّ. قال ابن الأثير في "جامع الأصول": وقد اختلف في نسبه، وكان واليًا على مصر لمعاوية، وابتنى بها دارًا، وذلك بعد أخي معاوية عتبةَ بنِ أبي سفيان، ثمّ عزله، ومات بها سنة ثمان وخمسين، ودفن بالمعظم من مصر. وقال خليفة ابن خياط: إنه قتل يوم النهروان شهيدًا سنة ثمان وثلاثين، وغلّطه ابن عبد البر وغيره. وكان من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، وكان هو البريد إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بفتح دمشق، ووصل في ستة أيام، ثمّ دعا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتشفَّع عنده في تقريب طريقه، فرجع في يومين ببركة دعائه، كذا في "شرح الزهر البسام" للبرماوي. روي له خمسة وخمسون حديثًا، اتفقا على تسعة، وللبخاري حديث، ولمسلم تسعة. روى عنه: جابر، وابن عباس، وأبو أمامة - رضي الله عنهم -، ومن التابعين خلقٌ كثير (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 343)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 430)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 313)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 280)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1073)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (40/ 486)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 51)، و"جامع الأصول" له أيضًا (15/ 604 - قسم التراجم)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 308)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 202)، و"سير =

(قال) عقبة - رضي الله عنه -: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ أحقَّ الشروط) وفي لفظ: الشرط (¬1)، وفي آخر: "أحقُّ ما أَوفيتم من الشروط" (¬2) (أن توفوا به)، وفي لفظٍ آخر: "إِنّ أحقّ الشروط أن يوفى به (¬3) (ما استحللتم به الفروج)؛ أي: أحقّ الشروط بالوفاء شروط النكاح؛ لأن أمره أَحوط، وبابه أضيق. وقال الخطابي: الشروط في النكاح مختلفة، فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقًا، وهو ما أمر الله به من إمساكٍ بمعروف، أو تسريحٍ بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث، ومنها ما لا يوفى به اتفاقًا، كسؤال طلاق ضرّتها، ومنها ما هو مختلف فيه، كاشتراط أَلَّا يتزوج عليها، أو لا يتسرّى، أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله (¬4). قلت: الشروط عندنا في النكاح قسمان: أحدهما: صحيحٌ لازم للزوج، فليس له فكُّه بدون إبانتها، ويُشرع وفاؤه به، كزيادة مهر، أو نقد معين، أو لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يتزوج أو لا يتسرّى عليها، أو لا يفرق بينها وبين أبويها أو أولادها، أو أن ترضع ولدها الصغير، أو ينفق عليه مدّةً معلومةً، ويرجع لعرفٍ، أو يطلّق ضرتها، أو يبيع أمَتَه ممّا لها به غرض صحيح، فإن لم يف، فلها ¬

_ = أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 467)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 520)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 216). (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1418). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4856). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم (1418). (¬4) نقله الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 217 - 218).

الفسخ على التراخي، ولا يسقط إلّا بما يدلّ على الرضا من قول أو تمكين مع العلم بعدم وفائه بما شرط، فإن شرط أَلاَّ يخرجها من منزل أبويها، فمات أحدهما، بطل الشرط. ثانيهما: فاسد، وهو نوعان: نوعٌ يبطل النكاح من أصله، وهو أربعة أشياء: نكاح الشغار، ونكاح المحلل، ونكاح المتعة، والنكاح المعلّق، ويأتي الكلام على الثلاثة، وأما النكاح المعلّق، فهو قوله: زوّجتك إذا جاء رأس الشهر، أو إن رضيت هي أو أمها، أو إن وضعت زوجتي بنتًا، فقد زوّجتكها، فهذا غير صحيح. النوع الثاني: فاسد غير مفسد لعقد النكاح، مثل أن يشترط أنّ لا مهر، أو لا نفقة، أو يقسم لها أكثر من ضرّتها، أو أقل، أو يشترط أحدهما عدم وطء أو دواعيه، أو تعطيه شيئًا، أو تنفق عليه، ومتى فارق، رجع بما اتفق، أو تستدعيه لوطء عند إرادتها، وأشبه ذلك، فهذا يصحّ معه العقد دون الشرط (¬1). وفي "الفتح" للحافظ ابن حجر: وعند الشافعية الشروط قسمان: منها ما يرجع إلى الصداق، فيجب الوفاء به، وما يكون خارجًا عنه، فيختلف الحكم فيه، وذكر من ذلك ما يشترطه العاقد لنفسه خارجًا عن الصداق، وبعضهم يسميه الحلوان، فقيل: هو للمرأة مطلقًا، وهو قول عطاء وجماعة من التابعين، وبه قال الثوري، وأبو عبيد، وقيل: هو لمن شرطه، قاله مسروق، وعلي بن الحسين، وقيل: يختص ذلك بالأب دون ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 349 - 353).

غيره من الأولياء، ويأتي تحرير ذلك في الصداق -إن شاء الله تعالى-، وذكر: إذا تزوّج الرجل المرأة، وشرط أَلَّا يُخرجها، لزم. كما قاله الترمذي، قال: وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق (¬1). وتعقبه الحافظ بأن النقل في هذا عن الشافعي غريب، وحملوا الحديث على الشروط التي لاتنافي مقتضى النكاح، بل تكون من مقتضياته ومقاصده، كاشتراط العشرة بالمعروف، والإنفاق، والكسوة، والسكن، وأَلَّا يقصّر في شيء من حقّها من قسم، ونحوها، وكشرطه عليها أَلَّا تخرج إلّا بإذنه، ولا تمنعه نفسها، ولا تتصرف في متاعه إلّا برضاه، ونحو ذلك، وأما إذا اشترطت عليه أَلَّا يتزوّج أو يتسرّى عليها، فلا يجب عندهم الوفاءُ به، وإن وقع في صلب، العقد لغا، وصحّ النكاح بمهر المثل، وفي وجه: يجب المسمى، ولا أثر للشرط (¬2). وقد استشكل ابن دقيق العيد حمل الحديث على الشروط التي هي من مقتضيات النكاح، وقال: تلك الأمور لا تؤثر الشروط في إيجابها، فلا تشتد الحاجة إلى تعليق الحكم باشتراطها، وسياق الحديث يقتضي خلاف ذلك؛ لأن لفظ: "أَحقّ الشروط" يقتضي أن يكون بعضُ الشروط يقتضي الوفاء به، وبعضها أشدّ اقتضاء، والشروط التي من مقتضى العقد مستوية في وجوب الوفاء بها (¬3). قال الترمذي: وقال علي: سبق شرطُ الله شرطَها، قال: وهو قول ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 434). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 218). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 33).

الثوري وبعضِ أهل الكوفة (¬1)، والمراد في الحديث: الشروط الجائزة، لا المنهيُّ عنها (¬2)، انتهى. تنبيه: اختلف الأئمة فيمن تزوّج امرأة، وشرطَ لها أَلَّا يتسرّى عليها، ولا ينقلها من بلدها. فقال الإمام أحمد، والإمام مالك في رواية عنه: هو لازم، ومتى خالف شيئًا منه، فلها الخيار في الفسخ. وقال الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك في رواية أخرى عنه: لا يلزم هذا الشرط. وقال الإمام الشافعي: لا يلزم هذا الشرط، إلا أنه عنده أفسد المهر، ويلزمه مهر المثل، ولا يلزمه أن يفي بما شرط. وقال أبو حنيفة: إن وَفَى الشرط، فلا شيء عليه، وإن خالف، لزمه الأكثرُ من مهرِ المثل، أو المسمى (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 434). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 218). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 133).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ ابن عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ نِكَاحِ الشِّغَار. والشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، ولَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4822)، كتاب: النكاح، باب: الشغار، و (6559)، كتاب: الحيل، باب: الحيلة في النكاح، ومسلم (1415/ 57 - 60)، كتاب: النكاح، باب: تحريم نكاح الشغار وبطلانه، وأبو داود (2074)، كتاب: النكاح، باب: في الشغار، والنسائي (3334)، كتاب: النكاح، باب: الشغار، و (3337)، باب: تفسير الشغار، والترمذي (1124)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في النهي عن نكاح الشغار، وابن ماجه (1883)، كتاب: النكاح، باب: النهي عن الشغار. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 191)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 464)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 51)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 559)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 110)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 200)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 34)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1272)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 21)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 162)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 108)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 39)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 121)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 277).

(عن) أبي عبدِ الرحمن عبدِ الله (بنِ عمرَ) الفاروقِ (- رضي الله عنهما -: أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى) نهي منعٍ وتحريم (عن نكاح الشغار، والشغارُ) -بكسر الشين وفتح الغين المعجمتين فألف فراء- (أن يزوج الرَّجل ابنته، على أن يزوجه) الآخر (ابنته، وليس) الواو للحال (بينهما صَداقٌ)، أي: مهر. قال ابن عبد البر: ذكر تفسيرَ الشغار جميعُ رواة مالك عنه (¬1). قال في "الفتح": واختلف الرواة عن مالك فيمن ينسب إليه تفسيرُ الشغار، فالأكثر [لم] (¬2) ينسبوه لأحد، وبهذا قال الشافعي فيما حكاه البيهقي في "المعرفة": لا أدري التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن ابن عمر، أو عن نافع، أو عن مالك، ونسبه محرز بن عون وغيره لمالك (¬3). قال الخطيب: تفسير الشغار ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من قول مالك، وقيل: من قول نافع (¬4)، يدل له ما في "الجمع بين الصحيحين" للحافظ عبد الحق: التفسير لنافع مولى ابن عمر. وفي كتاب الحيل من "البخاري": قال عبيد الله: قلت لنافع: ما الشغار، فذكره (¬5)، فهذا صريح بأنه ممن تقدم مالكًا - رضي الله عنه - وفي مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا شغار في الإسلام" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 465). (¬2) [لم] ساقطة من "ب" وإثباته أولى. (¬3) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (10/ 166). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 162). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6559). (¬6) رواه مسلم (1415)، كتاب: النكاح، باب: تحريم نكاح الشغار وبطلانه.

وفيه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار، زاد ابن نمير في طريق أخرى: والشغار: أن يقول الرجل: زوّجني ابنتك، وأُزوّجك ابنتي، وزوجني أختك، وأزوّجك أختي (¬1). وفيه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: نَهَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشغار (¬2). وعن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج: أنّ العباس بن عبد الله بن العباس أنكحَ عبدَ الرحمن بنَ الحكم ابنتَه، وأنكحه عبدُ الرحمن ابنته، وقد كانا جعلا صداقًا، فكتب معاويةُ بن أبي سفيان إلى مروانَ بنِ الحكم يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نَهَى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رواه الإمام أحمد، وأبو داود (¬3). وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا جَنَبَ ولا جَلَبَ، ولا شِغارَ في الإسلام، ومن انتهبَ، فليس منّا" رواه الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، وصححه (¬4). قال في "المطلع": سمى هذا النكاح شغارًا، لارتفاع المهر من بينهما، من شغر الكلبُ: إذا رفع رِجْلَه ليبول، ويجوز أن يكون من شغرَ البلدُ: إذا خلا، لخلو العقد عن الصداق (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1416)، كتاب: النكاح، باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه. (¬2) رواه مسلم (1417)، كتاب: النكاح، باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 94)، وأبو داود (2075)، كتاب: النكاح، باب: في الشغار. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 439)، والنسائي (3335)، كتاب: النكاح، باب: الشغار، والترمذي (1123)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في النهي عن نكاح الشغار. (¬5) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 323).

قال علماؤنا: نكاح الشغار: هو أن يزوّجه وليته على أن يزوّجه الآخر وليّته، ولا مهر بينهما، كما في الحديث، أو يجعل بضع كل واحدة مع دراهم معلومة مهر الأخرى (¬1)، على حديث جابر الّذي رواه البيهقي من طريق نافع بن يزيد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعًا: نهى عن الشغار، والشغار: أن ينكح هذه بهذه بغير صداق، بُضْعُ هذه صداقُ هذه، [وبُضْعُ هذه صداق] (¬2) هذه (¬3) وقد اختلف الفقهاء هل يعتبر من الشغار الممنوع ما في ظاهر هذه الأحاديث في تفسيره، فإنّ فيه وصفين: أحدهما: تزويج كلٍّ من الوليين وَلِيَّتَهُ للَاخر بشرط أن يزوّجه وليته. والثاني: خلوّ بُصح كلّ منهما من الصداق، فمنهم من اعتبرها حتى لا يمنع مثلًا إذا زوّج كلٌّ منهما الآخر بغير شرط، وإن لم يذكر الصداق، أو زوّج كلّ واحد منهما بالشرط، وذكر الصداق. وذهب بعض الشافعية إلى أنّ علّة النّهي الاشتراكُ في البضع؛ لأن بُضع كلٍّ منهما يصير مورد العقد، وجعلُ البضع صداقًا مخالف لإيراد عقد النكاح، وليس المقتضي للبطلان ترك ذكر الصداق، لصحة النكاح بدون تسمية صداق، والأصحّ عندهما صحة العقد إذا لم يصرّحا بذكر البضع، لكن وجد نصُّ الشافعي على خلافه كما في "الفتح" (¬4). ولفظ نص الشافعي: زوّج الرجل ابنته أو المرأة يلي أمرها -من كانت- لآخرَ على أنّ صداقَ كلِّ واحدة بضعُ الأخرى، أو على أن يُنحكه الأخرى، ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 350). (¬2) ما بين معكوفين ساقط من "ب". (¬3) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 200). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 163).

ولم يسم أحد منهما لواحدة منهما صداقًا، فهذا الشغار الذي نَهَى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو منسوخ. هكذا ساقه البيهقي بإسناده الصحيح عن الشافعي، قال: وهو الموافق لتفسير المنقول في الحديث (¬1)، واختلف نصّ الشافعي فيما إذا سمَّى مع ذلك مهرًا، فنص في "الإملاء" على البطلان، وظاهر نصه في "المختصر": الصحة، وعلى ذلك اقتصر في النقل عن الشافعي من ينقل الخلافَ من أهل المذاهب. وقال القفّال: العلّة في البطلان: التعليق والتوقيف، فكأنه يقول: لا ينعقد لك نكاح ابنتي حتى ينعقد لي نكاح ابنتك (¬2). وقال الغزالي في "الوسيط": وصورته الكاملة: أن يقول: زوّجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، على أن يكون بضعُ كلّ واحدة منهما صداقًا للأخرى، ومهما انعقد نكاح ابنتي، انعقد نكاحُ ابنتك (¬3). وقال العراقي في "شرح الترمذي": ينبغي أن يُزاد: ولا يكون مع البضع شيء آخر (¬4)، ليكون متفقًا على تحريمه في المذهب (¬5). وقال الخرقي من علمائنا: إنّ الإمام أحمد نصّ على أن علّة البطلان تركُ ذكر المهر (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (10/ 168 - 169). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 163). (¬3) انظر: "الوسيط" للغزالي (5/ 48). (¬4) ونقله عنه ابنه الحافظ أبو زرعة في "طرح التثريب" (7/ 24). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 163). (¬6) انظر: "مختصر الخرقي" (ص: 97).

ورجح الإمام المجدُ ابن تيميةَ في "المحرر" أنّ العلّةَ التشريكُ في البضع (¬1). وقال ابن دقيق العيد: ما نصّ عليه الإمام أحمد هو ظاهر التفسير المذكور في الحديث، لقوله فيه: ولا صداق بينهما، فإنّه يشعر بأن جهة الفساد ذلك، وإن كان يحتمل أن يكون ذكر لملازمته لجهة الفساد (¬2). وقال الإمام المحقق ابن القيّم في "الهدي": اختلف في علّة النهي، فقيل: هي جعل كل من العقدين شرطًا في الآخر، وقيل: العلّةُ التشريكُ في البضع، وجعلُ بضع كل واحدة مهرًا للأخرى، وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهرُ، بل عاد المهر إلى الولي، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته، وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين، وإخلاءُ نكاحها عن مهر تنتفع به. قال: وهذا هو الموافق للغة العرب، فإنهم يقولون: بلد شاغر عن أمير، ودارٌ شاغرة من أهلها: إذا خلت، وشغرَ الكلبُ: إذا رفع رجله، وأخى مكانها. قال: فإذا سمّوا مهرًا مع ذلك، زال المحذور، ولم يبق إلّا اشتراط كلّ واحدٍ على الآخر شرطًا لا يؤثر في فساد العقد. قال: فهذا منصوص الإمام أحمد. والذي يجيء على أصله: أنهم متى عقدوا على ذلك، وإن لم يقولوه بألسنتهم: أنه لا يصحّ؛ لأن القُصود في العقود معتبرة، والمشروطُ عرفًا ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر" للمجد ابن تيمية (2/ 23). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 35)، إلا أنه لم يذكر الإمام أحمد في توجيه قوله: "ولا صداق بينهما".

كالمشروط لفظًا، فيبطل العقدُ بشرط ذلك، والتواطؤ عليه، ونيّته، وإن سمِّي لكلِّ واحدةٍ مهرُ مثلها، صحّ. قال: وبهذا تظهر حكمة النهي، واتفاق الأحاديث في هذا الباب (¬1). قلت: الذي استقر عليه المذهب: أنهم إن سمّوا مهرًا مستقلًا، ولو قلّ، خلافًا لِـ"المنتهى" (¬2) بشرط كونه غير حيلة، صحّ العقد، وإن سميّ لإحداهما، صحّ نكاحها فقط، وأما إن كان المسمى كثيرًا، فالعقد صحيح، ولو كان ذلك حيلة (¬3)، والله الموفق. تنبيه: قال: ابن عبد البر: أجمع العلماء على عدم جواز نكاح الشغار، ولكن اختلفوا في صحته، فالجمهور على البطلان، وفي روايةٍ عن الإمام مالك: يفسخ قبل الدخوله، لا بعده، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي، وذهب الحنفية إلى صحته، ووجوبِ مهرِ المثل، وهو قول الزهري، ومكحوله، والثوري، والليث، ورواية عن الإمام أحمد، وإسحاق، وأبي ثور (¬4). قاله (¬5): وهو [قوله] (¬6) على مذهب الشافعي، لاختلاف الجهة، لكن قال: الإمام الشافعي: إنّ النساء محرّمات إلّا ما أحلّ الله، أو ملك يمين، ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 108 - 109). (¬2) انظر: " منتهى الإرادات" للفتوحي (4/ 100). (¬3) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (5/ 124). (¬4) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 71 - 72). (¬5) القائل هو الحافظ ابن حجر، فالشارح -رحمه الله- ينقل عنه كلامه في "الفتح" (9/ 164). (¬6) في الأصل: "قوي"، والتصويب من "الفتح".

فإذا ورد النهي عن نكاحٍ، تأكد التحريم (¬1). قلت: وجزم في "الإفصاح" بأنّ مذهب مالك كمذهب أحمد في بطلان نكاح الشغار (¬2)، وما ذكره ابن عبد البر أولى بمذهبه، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 163 - 164). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 131).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عِنْ نِكَاحِ المُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَعَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3979)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، و (4825)، كتاب: النكاح، باب: نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة آخرًا، و (5204)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحوم الحمر الإنسية، و (6560)، كتاب: الحيل، باب: الحيلة في النكاح، ومسلم (1407/ 30)، واللفظ له، و (1407/ 29 - 32)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة، والنسائي (3365 - 3367)، كتاب: النكاح، باب: تحريم المتعة، و (4334 - 4335)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، والترمذي (1121)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في تحريم نكاح المتعة، وابن ماجه (1961)، كتاب: النكاح، باب: النهي عن نكاح المتعة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 48)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 502)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 535)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 96)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 189)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 36)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1274)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 167)، و"عمدة القاري" للعيني (17/ 246)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 42)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 126)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 269).

(عن) الإمامِ الضرغام سيدِنا أبي الحَسنين (عليِّ بنِ أبي طالب - رضي الله عنه -) قال: (أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى) نهيَ منع وتحريم (عن نكاحِ المُتعة) هكذا في سائر ما وقفت عليه في "نسخ العمدة". والذي في "البخاري"، وفي "الجمع بين الصحيحين " للحافظ عبد الحق من حديث علي - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء (¬1). وما ذكره الحافظ -رحمه الله تعالى- رواية لمسلم، وهو عند الإمام أحمد من طريق سفيان (¬2). ونكاح المتعة: هو تزويج المرأة إلى أَجَلٍ، فإذا انقضى الأجل، وقعت الفرقة (¬3). قال في "المطلع": التمتع بالشيء: الانتفاع به، ويقال: تمتّعت أتمتع تمتُّعًا، والاسم المُتْعَةُ، كأنه ينتفع بذلك النكاح إلى مدّة معلومة (¬4). قال الزركشي من علمائنا في "شرح الخرقي ": وسواء وقع بلفظ النكاح، وبولي وشاهدين، أم لا (¬5). وفي "الصحيحين": أنّ عليًّا - رضي الله عنه - سمع ابن عباس - رضي الله عنهما - يلين في متعة النساء، فقال: مهلًا يا بن العباس، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3979). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 79). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 167). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 323). (¬5) انظر: "شرح الزركشي على الخرقي" (5/ 224). (¬6) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1407/ 31).

وفي بعض طرق "البخاري": أنّ عليًّا - رضي الله عنه - قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأسًا، الحديث (¬1). وفي رواية الثوري، ويحيى بن سعيد، كلاهما عن مالك عند الدارقطني: أنّ عليًّا سمع ابن عباس وهو يفتي في متعة النساء، فقال: أما علمتَ (¬2)؟ وأخرجه سعيد بن منصور بلفظ: أنّ عليًّا مرّ بابن عباس وهو يفتي في متعة النساء أنه لا بأس بها (¬3). وفي لفظٍ لمسلم عن مالك بسنده: أنه سمع عليًّ بن أبي طالب يقول لفلان: إنّك رجل تائه (¬4). وفي رواية الدارقطني من طريق الثوري: تكلم علي وابن عباس في متعة النساء، فقال له علي: إنك امرؤٌ تائه (¬5). (يوم)، وفي لفظ: زمن (خيبر) (¬6)؛ أي: زمن فتحها، وكان في أول السابعة من الهجرة ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر (وعن) أكل (لحوم الحمر) جمع حمار (الأهلية)، وفي لفظ: الإنسية (¬7)، احترز من لحوم الحمر الوحشية، فإنه مباح. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6560). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 257). (¬3) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 251 - 252). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1407/ 29). (¬5) رواه الدارقطني في "العلل" (4/ 115). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4825). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3979، 6560)، وعند مسلم برقم (1407/ 29).

قال: الإمام ابن القيّم: واختلف في المتعة، هل نهي عنها يوم خيبر؟ على قولين. قال: والصحيح أنّ النهي عنها إنما كان عام الفتح، وأنّ النهي يوم خيبر إنما كان عن الحمر الأهلية. قال: وإنما قال عليّ لابن عباس: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن متعة النساء، ونهى عن الحمر الأهلية محتجًا عليه في المسألتين. قلت: لأن ابن عباس - رضي الله عنهما - كان يرخِّص في الأمرين معًا كما نصّ عليه الأئمة. قال: ابن القيّم: فظن بعض الرواة أنّ النهي يوم خيبر راجع إلى الفعلين، فرواه بالمعنى، ثم أفرد بعضهم أحد الفعلين، وقيّده بيوم خيبر. وفي "الصحيحين" عن علي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرّم متعة النساء، وهذا التحريم إنما كان بعد الإباحة، انتهى ملخصًا (¬1). قلت: حكى البيهقي عن الحميدي: أنّ سفيان بن عينية كان يقول: قوله: يوم خيبر يتعلق بالحمر الأهلية، لا بالمتعة. قال: البيهقي: وما قاله محتمل (¬2). وذكر السهيلي أن ابن عينية رواه عن الزهري بلفظ: نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر، وعن المتعة بعد ذلك (¬3). وذكر ابن عبد البر من طريق قاسم بن أصبغ: أن الحميدي ذكر عن ابن ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 111 - 112). (¬2) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 202). (¬3) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (4/ 75).

عينية: أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأما المتعة، فكان في غير يوم خيبر (¬1). قال البيهقي: يشبه أن يكون كما قال (¬2)، لصحة الحديث في أنه - صلى الله عليه وسلم - رخص فيها بعد ذلك، ثم نهى عنها، فلا يتم احتجاج علي إلّا إذا وقع النهي أخيرًا، لتقوم له الحجّة على ابن عباس. وقال أبو عوانة في "صحيحه": سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث علي: أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة، فسكت عنها، وإنما نهى عنها يوم الفتح، انتهى (¬3). وقال السهيلي: وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة، فأغربُ ما روي في ذلك روايةُ من قال: في غزوة تبوك، ثم رواية الحسن: أن ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها: أن ذلك كان في غزوة الفتح، كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة، عن أبيه (¬4)، وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود: أنه كان في حجّة الوداع (¬5)، قال: ومن قال من الرواة: كان في غزوة أوطاس، فهو موافق لمن قال: عام الفتح، انتهى (¬6). فتحصل بما أشار إليه ستة مواطن: أولها خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (10/ 99). (¬2) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 202). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 169). (¬4) رواه مسلم (1406)، كتاب: النكاح، باب: نكاح المتعة. (¬5) رواه أبو داود (2072)، كتاب: النكاح، باب: في نكاح المتعة. (¬6) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (4/ 75).

الفتح، ثم أوطاس، ثم تبوك، ثم حجة الوداع. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وبقي عليه حنين؛ لأنها وقعت في رواية، ولعله إنما تركها؛ لأنها هي وأوطاس وكذا الفتح في عام واحدٍ، وهو عام ثمان، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في "صحيح مسلم" من حديث سبرة بن معبد الجهني - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة: "يا أيها الناس! إني قد كنتُ أذنتُ لكم في الاستمتاع من النساء، وإنّ الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده شيء منهنّ، فليخْلِ سبيلَها، ولا تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا" (¬1). وفي "مسلم" -أيضًا- عن عروة بن الزبير: أن عبد الله بن الزُّبير - رضي الله عنهما - قام بمكة، فقال: إنّ ناسًا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يُفتون بالمتعة -يعرِّض برجل-، فناداه فقال: إنك لجلفٌ جافٍ، فلعمري! لقد كانت المتعة في عهد إمام المتّقين -يريد به: رسول الله - صلى الله عليه وسلم --، فقال له ابن الزبير: فجرّب بنفسك، فوالله! لئن فعلتها، لأرجمنّك بأحجارك. قال ابن شهاب: فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله: أنه بينما هو جالسٌ عند رجل جاء رجلٌ، فاستفتاه في المتعة، فأمره بها، فقال له ابن أبي عمرة الأنصاري: مهلًا، قال: ما هي؟ والله! لقد فُعلت في عهد إمام المتقين. قال ابن أبي عمرة: إنها كانت رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها، كالميتة والدم ولحم الخنزير، ثم أحكم الله الدين، ونهى عنها. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1406/ 21)، كتاب: النكاح، باب: في نكاح المتعة.

قال ابن شهاب: فأخبرني ربيع بن سبرة الجهني: أنّ أباه قال: كنتُ أستمتع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة من بني عامر ببردين أحمرين، ثم نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المتعة. قال ابن شهاب: وسمعتُ ربيعَ بنَ سَبرة يحدّث ذلك عمرَ بنَ عبد العزيز وأنا جالسٌ (¬1). والمراد بالرجل المبهم: ابن عباس - رضي الله عنهما -، وقد صرّح به البيهقي (¬2). وقد أخرج الفاكهي والخطابي من طريق سعيد بن جبير، قال: قلتُ لابن عباس - رضي الله عنهما -: لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء -يعني: المتعة-، فقال: والله! ما بهذا أفتيت، وما هي إلّا كالميِّتة، لا تحلّ إلّا للمضطر (¬3). وأخرجه البيهقي من وجهٍ آخر عن سعيد بن جبير، وزاد في آخره: ألا إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير (¬4). قلت: وهذا الذي أشار إليه في "الهدي" بقوله: وهل هو -يعني: نكاح المتعة- تحريم بتات، أو تحريمٌ مثلُ تحريم الدم والميتة، وتحريم نكاح الأمَة، فيباح عند الضرورة وخوف العنت؟ هذا هو الذي لحظه ابن عباس، وأفتى بحلّها للضرورة، فلمّا توسع الناس فيها، ولم يقتصروا على موضع الضرورة، أمسك عن فتياه، ورجع عنها (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1406/ 19)، كتاب: النكاح، باب: في نكاح المتعة. (¬2) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 205). (¬3) رواه الخطابي في "معالم السنن" (3/ 191). (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 205). (¬5) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 112).

تنبيه: قد ثبت وتقرر، وصحّ وتحرر فسخُ إباحة نكاح المتعة بالطلاق والميراث والعدّة. قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصةُ فيها، ولا أعلم اليوم أحدًا يُجيزها إلّا بعض الرافضة، قال: ولا معنى لقولٍ يخالف كتابَ الله وسنةَ رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقال القاضي عياض: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض، وأما ابن عباس، فروي عنه أنه أباحها، وروي عنه: أنه رجع عن ذلك (¬1). قال ابن بطال: روى أهل مكة واليمنِ عن ابن عباس إباحةَ المتعة، وروي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة، وإجازة المتعة عنه أصح، وهو مذهب الشيعة. قال: وأجمعوا على أنّ متى وقع الآن، أُبطل، سواء كان قبل الدخول، أم بعده، إلّا قول زفر: أنه جعلها كالشروط الفاسدة، ويرده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن كان عنده منهنّ شيء، فَلْيُخَلِّ سبيلها"، وهو في حديث الربيع بن سبرة عند مسلم (¬2) -كما تقدّم- قال الخطابي: تحريمُ المتعة كالإجماع، إلا عن الشيعة (¬3). قال (¬4): ولا يصح على قاعدتهم؛ لأن عندهم القاعدة في الرجوع في ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 537). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1406/ 19). (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 190). (¬4) القائل: هو الحافظ ابن حجر، كما في "الفتح" (9/ 173)، خلافًا لما يوهمه =

المختلفات إلى علي وآل بيته، فقد صحّ عن عليّ -رضوان الله عليه-: أنها نسخت، ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد: أنه سئل عن المتعة، فقال: هي الزنى بعينه (¬1). وقال الخطابي: ويحكى عن ابن جريج جوازها، انتهى. وقد نقل أبو عوانة في "صحيحه" عن ابن جريج: أنه رجع عنها بعد أن روى بالبصرة في إباحتها ثمانيةَ عشرَ حديثًا (¬2). وقال ابن دقيق العيد: ما حكاه بعض الحنفية عن مالك من الجواز خطأ، فقد بالغ المالكيّة في منع النكاح المؤقت، حتى أبطلوا توقيت الحل بسببه. فقالوا: لو علق على وقت لابد من مجيئه، وقع الطلاق الآن؛ لأنه توقيت، فيكون في معنى نكاح المتعة (¬3). وقال القرطبي: الروايات كلُّها متفقة على أنّ زمن إباحة المتعة لم يَطُل، وأنه حرّم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها، إلّا من لا يُلتفت إليه من الروافض (¬4). وجزم جماعة من الأئمة بتفرد ابن عباس بإباحتها، فهي من المسألة المشهورة، يعني: ندرة المخالِف (¬5). ¬

_ = كلام الشارح -رحمه الله-. (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 207) بلفظ: "ذلك الزنى". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 173). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 36). (¬4) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 93). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 173).

ولكن قال ابن عبد البر: أصحاب ابن عباس، من أهل مكة واليمن على إباحتها، ثم اتفق فقهاء الأمصار على تحريمها (¬1)، فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نهى عن المتعة، ونقل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، فلم ينكر عليه ذلك منكر، وفي هذا دليلٌ على متابعتهم له فيما نهى عنه (¬3). وفي "الإفصاح" لصدر الوزراء عون الدين بن هبيرة الحنبلي: وأجمعوا على أن نكاح المتعة باطل، لا خلاف بينهم في ذلك (¬4)، انتهى. وذكر أبو إسحاق وابنُ بطةَ من أئمة مذهبنا: أنها كزِنًا. قال علماؤنا: نكاح المتعة هو أن يتزوجها إلى مدة، مثل أن يقول: زوجتك ابنتي شهرًا، أو سنة، أو إلى انقضاء الموسم، أو قدوم الحاج، وشبهِه، معلومة كانت المدة أو مجهولة، أو يقول هو: أمتعيني نفسك، فتقول: أمتعتك نفسي، لا بولي، ولا شاهدين، وإن نوى بقلبه، فكالشرط، نصًا، خلافًا للموفق. قال علماؤنا: ولا يتوارثان، ولا تسمى زوجة، ومن تعاطاه عالمًا، عُزِّر، ويلحق فيه النسب إذا وطىء يعتقده نكاحًا، ويرث ولده، ويرثه (¬5)، والله -تعالى- الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 506). (¬2) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 146). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 174). (¬4) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 131). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 352).

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتأْذَنَ"، قَالُوا: يَا رسُولَ اللهِ! وَكيفَ إِذْنُها؟ قَالَ: "أَنْ تَسْكُتَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4843)، كتاب: لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، و (6567، 6569)، كتاب: الحيل، باب: في النكاح، ومسلم (1419)، كتاب: النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت، وأبو داود (2092)، كتاب: النكاح، باب: في الاستئمار، والنسائي (3265)، كتاب: النكاح، باب: استئمار الثيب في نفسها، و (3267)، باب: إذن البكر، والترمذي (1107)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في استئمار البكر والثيب، وابن ماجه (1871)، كتاب: النكاح، باب: استئمار البكر والثيب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 201)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 23)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 563)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 114)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 202)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 37)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1279)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 192)، و"عمدة القاري" (20/ 128)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 54)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 118)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 252)

(عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنكحُ) -بكسر الحاء المهملة- للنهي، وبرفعها للخبر، وهو أبلغ في المنع (¬1) (الأيم) وهي التي مات زوجها، أو بانت منه وانقضت عدّتها، وأكثر ما يطلق اسم الأيم على من مات زوجها. وقال ابن بطال: [العرب]: تطلق (¬2) على كلّ امرأة لا زوجَ لها، وكلّ رجلٍ لا امرأةَ له أيمًا (¬3). زاد في "المشارق": وإن كان بكرًا (¬4). وفي "المطالع": الأيم: التي مات زوجها، أو طلّقها وقد أيمت تيم. قال الحربي: وبعضهم يقول: تيأم، ولم يعرفه أبو مروان بن سراج، وقال: الأشبه تآم، وقد يقال ذلك في الرجل -أيضًا-، وأكثره في النساء، ولذلك لم يقل: فيهن أيمة -بالهاء-، لاختصاصهنّ بهذه الصِّفَة، على أنّ أبا عبيدة حكى أنه يقال: امرأة أيمة، وقد استعمل الأيم فيمن لا زوج لهما، بكرًا أو ثيبًا، انتهى (¬5). لكن ظاهر هذا الحديث: أنّ الأيم هي الثيّب التي فارقت زوجَها بموتٍ أو طلاقٍ، لمقابلتها بالبكر، وهذا هو الأصل في الأيم، ومنه قولهم: الغزو مأيمة؛ أي: تقتل فيه الرجال، فتصير النساء أيامى (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 192). (¬2) في الأصل: "يطلق". (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 176). (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 55). (¬5) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 289). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 192).

وقد وقع في رواية الأوزاعي عن يحيى في هذا الحديث عند ابن المنذر والدارمي والدارقطني: "لا تنكح الثيّب (حىَ تستأمر) (¬1) أصل الاستئمار: طلب الأمر، فالمعنى: إلا بطلب الأمر منها. ويؤخذ منه: أنه لا يُعقد عليها إلا بعد أن تأمر بذلك، وليس فيه دلالة على عدم اشتراط الولي في حقها، بل فيه إشعار باشتراطه. وفي رواية عند ابن المنذر: "الثيّب تُشاور" (¬2)، (ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن) كذا وقع التفرقة بين الثيّب والبكر، فعبّر للثيّب بالاستئمار، وللبكر بالاستئذان، فيؤخذ منه الفرق بينهما من جهة أن الاستئمار يدل على تأكد المشاورة، وجعل الأمر إلى المستأمرة، ولهذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها في العقد، فإذا صرّحت بمنعه، امتنع اتفاقًا. والحاصل: أنه لا بدّ في طرف الثيّب من صريح القول، بخلاف البكر (¬3). قال علماؤنا: إذنُ الثيب الكلامُ، قالوا: وهي من وُطئت في القُبل بآلة الرجال، ولو بزنًا، وحيث حكمنا بالثيوبة، وعادت البكارة، لم يزل حكمُ الثيوبة، وأما إذن البكر، فالصمات (¬4)، ولهذا لمَّا (قالوا: يا رسول الله!)، وفي رواية: قلنا: يا رسول الله! وحديث عائشة - رضي الله عنها - صريح في أما هي السائلة عن ذلك (وكيف إذنها) في حديث عائشة: قلت: إن البكر تستحي (قال) - صلى الله عليه وسلم - مجيبًا لهم عن سؤالهم: (إذنُها أن تسكتَ)، وفي حديث ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 238). (¬2) قلت: هذه الرواية قد رواها الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 229). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 192). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 321).

عائشة: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجارية يُنكحها أهلُها، أتستأمر أم لا؟ قال: "نعم تُستأمر"، قلت؛ فإنها تستحي، قال: "رضاها صمتُها" (¬1)، وفي رواية: "سكاتُها إذنها" (¬2)، وفي أخرى: "إذنها صماتُها" (¬3)، وفي "مسلم" من طريق ابن جريج: قال: "فذلك إذنُها إذا هي سكتت" (¬4)، وفي "مسلم" من حديث ابن عباس: "والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها" (¬5). قال ابن المنذر: ويستحب إعلامُ البكر أن سكوتها إذنٌ، لكن لو قالت بعد العقد: ما علمتُ أن صمتي إذن، لم يبطل العقد بذلك عند الجمهور، وأبطله بعض المالكية، وابن شعبان منهم يقال لها ذلك ثلاثًا: إن رضيتِ، فاسكتي، وإن كرهتِ، فانطقي (¬6). قال علماؤنا: وإن ضحكت أو بكت، فكسكوتها، ونطقها بالإذن أبلغ (¬7). وعند الشافعية: إن قرنت مع البكاء الصياحَ ونحوه، فليس بإذن، وإلّا، فلا أثر لنحو بكائها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4844)، كتاب: النكاح، باب: لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، ومسلم (1420/ 65)، كتاب: النكاح، باب: استئذان الثب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت. (¬2) رواه البخاري (6547)، كتاب: الإكراه، باب: لا يجوز نكاح المكره. (¬3) رواه البخاري (6570)، كتاب: الحيل، باب: في النكاح. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1420/ 65). (¬5) رواه مسلم (1421/ 66)، (2/ 1027)، كتاب: النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت. (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 193). (¬7) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 321).

وعند المالكية: إن نفرت، أو بكت، أو قامت، أو ظهر منها ما يدل على الكراهة، لم تزوّج. واختلف العلماء في الأب هل يزوّج البكر البالغ بغير إذنها؟ فقال الأوزاعي، والثوري، والحنفية، ووافقهم أبو ثور: يشترط استئذانها، فلو عُقد عليها بغير إستئذان، لم يصح. وقال آخرون: يجوز للأب أن يزوجها -ولو كانت بالغة- بغير استئذان، وهو قول ابن أبي ليلى، ومالك، والليث، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومن حجّتهم مفهومُ حديث: "الثيّب أحقّ بنفسها" (¬1) وبحديث: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت، فهو إذنها" (¬2). قال علماؤنا: للأب تزويج بناته الأبكار، ولو بعد البلوغ، وثيّبٍ لها دون تسع سنين، ويسن استئذانُ بكر بالغة هي وأمها بنفسه، أو بنسوة ثقات ينظرن ما في نفسها، وأمُّها بذلك أولى (¬3). قال الشافعي: كان ابنُ عمر والقاسمُ يزوجان الأبكار لا يستأمرونهنّ (¬4). وقال أبو حنيفة: الصغيرة الثيّب كالبكر، وخالفه صاحباه، واحتجّ له ولمذهب أحمد بأن علّة الاكتفاء بسكوت البكر هو الحياء، وهو باقٍ في ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1421/ 67)، كتاب: النكاح، باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) رواه أبو داود (2093)، كتاب: النكاح، باب: في الاستئمار، والنسائي (3270)، كتاب: النكاح، باب: البكر يزوجها أبوها وهي كارهة، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 319). (¬4) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 116).

هذه؛ لأن المسألة مفروضة فيمن زالت بكارتها بوطء لا فيمن اتخذت الزنا ديدنًا وعادة (¬1). تنبيهات: * الأول: أركان النكاح: الزوجان الخاليان عن الموانع، والإيجاب فالقبول، ولا ينعقد إلّا بهما مرتبين، الإيجابُ أولًا، وهو اللفظ الصادر من قبل الولي، أو مَنْ يقوم مقامه. ومعتمد مذهبنا: اعتبارُ كون كل واحد من الإيجاب والقبول بالعربية إذا صدر العقد ممن يحسنها، وأن يكون لفظ الإيجاب: أنكحت، أو زوّجت، وكونُ قبول بلفظ: قبلت نكاحها، أو تزويجها، أو قبلت هذا النكاح، أو هذا التزويج، أو تزوجتها، أو رضيت هذا النكاح، أو قبلت فقط، أو تزوّجت. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الموفق، وجمعٌ انعقادَ عقد النكاح بغير العربية لمن يُحسنها (¬2). وعند أبي حنيفة: ينعقد النكاح بلفظ الهبة، والبيع، وبكل لفظ يقتضي التمليك والتأبيد دون التوقيت. وقال الشافعي وأحمد: لا ينعقد بذلك (¬3). وعند شيخ الإسلام ابن تيمية: ينعقد بما عدّه الناس نكاحًا بأي لغة ولفظ كان، وإن مثله كل عقد (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 193). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 315). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 123). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 315 - 316).

وأما مالك فذكر عنه أصحابه: أن عقد النكاح ينعقد بلفظ الهبة، وكل لفظ يقتضي التمليك. وذكر ابن القاسم هذه المسألة، فقال: الهبة لا تصح لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كانت هبته إياها ليست على نكاح، وإنما وهبها ليحصنها وليكنها، فلا أرى بذلك بأسًا، وإن وهب ابنته له بصداق كذا، فلا أحفظه عن مالك، وهو عندي جائز (¬1)، انتهى. * الثاني: يشترط لصحة النكاح خمسة (¬2) شروط: أحدها: تعيين الزوجين. الثاني: رضاهما، أو رضا من يقوم مقامهما، فإن لم يرضيا، أو أحدهما، لم يصح، لكن للأب تزويج بَنيه الصغارِ والمجانين -ولو بالغين- بغير أمة، ولا معيبة بما يُرَدُّ به النكاحُ بمثلِ مهر المثل وغيره، ولو كرهًا، وليس لهم خيار إذ ابلغوا، وله تزويجُ بناته الأبكار -كما تقدم-. الثالث: الوليُّ، فلا ينعقد نكاح إلّا بولي، فلو زَوَّجت نفسَها أو غيرَها، أو وكَّلَت غيرَ وليها في تزويجها، ولو بإذن وليها فيهن، لم يصح، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلا بولي" رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث أبي موسى الأشعري مرسلًا وموصولًا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 123). (¬2) في "ب": "خمس". (¬3) رواه أبو داود (2085)، كتاب: النكاح، باب: في الولي، والترمذي (1101)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء: لا نكاح إلا بولي، وابن ماجه (1881)، كتاب النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، وابن حبان في "صحيحه" (4077)، والحاكم في "المستدرك" (2710).

قال الترمذي: ورواية من رواه موصولًا أصحُّ؛ لأنهم سمعوه في أوقاتٍ مختلفة (¬1). والحاصل أنّ الحديث المذكور صحيح. وعند الطبراني من حديث ابن عباس: "لا نكاح إلا بولي، والسلطانُ وليُّ مَنْ لا وليَّ له" (¬2)، وإسناد بعض طرقه حسن. وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها، فنكاحها باطل" الحديث، وفيه: "السلطانُ وليُّ من لا وليّ له" أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسنه، وأبو عوانة، وصححه، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم (¬3)، ورواه أبو داود الطيالسي بلفظ: "لا نكاحَ إلّا بوليّ، وأَيُّما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، باطل، باطل، وإن لم يكن لها وليّ فالسلطان وليّ، من لا وليّ له" (¬4). ومن حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسَها، فإنّ الزانية هي التي تزوج نفسَها" رواه ابن ماجه، والدرقطني (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 409). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11298). (¬3) رواه أبو داود (2083)، كتاب: النكاح، باب: في الولي، والترمذي (1102)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء: لا نكاح إلا بولي، وابن ماجه (1879)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 165)، وابن حبان في "صحيحه" (4074)، وأبو عوانة في "مسنده" (4259)، والحاكم في "المستدرك" (2706). (¬4) رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (1463). (¬5) رواه ابن ماجه (1882)، كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، والدارقطني =

وعن عكرمة بن خالد، قال: جمعتُ الطريق ركبًا، فجعلت امرأةٌ منهنّ ثيّبٌ أمرَها بيد رجل غير وليّ، فأنكحها، فبلغ ذلك عمر فجلد الناكحَ والمنكِحَ، وردّ نكاحهما، رواه الإمام الشافعي، والدارقطني (¬1). وعن الشعبي، قال: ما كان أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أشدّ في النكاح بغير وليّ، من علي - رضي الله عنه -، كان يضرب فيه، رواه الدارقطني (¬2). واختلف الفقهاء في ذلك. فقال الإمام أحمد والإمام الشافعي: لا يصح أن تلي المرأة عقدَ النكاح لنفسها، ولا لغيرها، وليس لها أن تأذن في عقد نكاح نفسِها لغير وليّها. وقال أبو حنيفة: يجوز جميع ذلك، ويصح. وعن مالك: لا تزوج نفسها، ولا تزوج غيرها، واختلف عنه: هل يجوز لها أن تأذن لغير وليّها في تزويجها؟ ثالثها: التفصيل بين الشريفة، فلا يجوز، والمشروفة يجوز (¬3)، والله أعلم. فائدتان: إحداهما: متى حكمَ بصحة العقد الصادر بغير وليّ حاكمٌ يرى ذلك، لم يُنقض، وكذلك سائر الأنكحة الفاسدة (¬4). ¬

_ = في "سننه" (3/ 227). (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 290)، وفي "الأم" (7/ 222)، والدارقطني في "سننه" (3/ 225). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 229)، من طريق: ابن أبي شيبة في "المصنف" (15922). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 111). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 322).

الثانية: يشترط في الولي حُرية، إلّا مكاتبًا يزوج أمَته، وذكوريةٌ، واتفاقُ دينٍ سوى أم ولد كافر أسلمت، فيليه، ويباشره، ويلي الكتابيُّ نكاح موليته الكتابية من مسلم وذميّ، ويباشره، ويشترط في الولي -أيضًا- بلوغ، وعقل، وعدالة -ولو ظاهرًا- إلّا في سلطان وسيد ورشد، وهو هنا معرفة الكفء، ومصالح النكاح، وليس هو حفظ المال، فإن رشد كلّ شيء بحسبه، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1). تتمة: اختلف الفقهاء في اعتبار عدالة الولي وعدمِ اعتبارها. فأبو حنيفة ومالك لم يعتبراها، فقالا بصحة ولاية الفاسق، وينعقد بها النكاح. وقال الشافعي في القول المنصوص عنه: لا ينعقد النكاح بولاية الفاسق، ولا يصح. وعن الإمام أحمد روايتان: إحداهما: المنع من صحتها، وهو المفتى به. والثانية: عدم اعتبار العدالة في ولاية النكاح (¬2). قلت: وهو المختار الذي لا محيد عنه، ولا يسع الناسَ القولُ بغيره في هذا الزمان ومنذ أزمان، والله وليّ الإحسان. الرابع: من شروط صحة النكاح: الشهادةُ، احتياطًا للنسب خوف الإنكار، فلا ينعقد إلّا بشاهدين مسلمين عدلين ذكرين بالغين عاقلين ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 324). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 115).

سميعين ناطقين، ولو كانا عبدين أو ضريرين إذا تيقنَّا الصوت يقينًا لا شك فيه، ولو كانا عدوًا لزوجين، أحدهما، أو عدوًا ولي، لا شهادة بمتهم لرحم، كابني الزوجين، أو ابني أحدهما، وهذا يعني: اعتبار الشهادة، وأنها شرط لصحة عقد النكاح. مذهب الإمام أحمد كأبي حنيفة، والشافعي في أظهر روايتيه، ومعتمد مذهب أحمد، وأبي حنيفة، والشافعي: لا يبطله التواصي بكتمانه (¬1). وقال الإمام مالك بعدم اعتبار الشهادة، فقال: ليست الشهادة بشرط لصحة عقد النكاح، فيصح عنده بدونها، وعنده: يبطل النكاح بالتواصي بكتمانه. ودليل من اعتبر الشهادة ما رواه الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البغايا اللاتي ينحكنَ أنفسهن بغيرِ بيّنة" (¬2)، وقد رفعه عبد الأعلى، وهو ثقة، وما رواه الدارقطني من حديث عمران بن حصين مرفوعًا: "لا نكاح إلّا بولي وشاهدي عدل، فإن تشاجروا، فالسطان وليُّ من لا وليَّ له" (¬3)، ولمالك في "الموطأ" عن أبي الزبير المالكي: أنّ عمر بن الخطاب أُتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة، فقال: هذا نكاح السر، ولا أجيزه، ولو كنت تقدّمت فيه، لرجمت (¬4). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) رواه الترمذي (1103)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء لا نكاح إلا ببينة. (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 225)، لكن من حديث عمران بن حصين، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - بلفظ: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل". (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 535).

فائدة: يروى عن الإمام أحمد: أنّ الإشهاد في عقد النكاح سنّة كغيره من العقود، فيصح بدونها. قال جماعة منا: ما لم يكتموه، وإلّا، لم يصح، ذكره بعضُهم إجماعًا (¬1)، والله أعلم. الخامس: الخلو من الموانع، بأَلَّا يكون بهما أو بأحدهما ما يمنع التزويج، من نسب، أو سبب، أو اختلاف دين، أو كونها في نحو عدّة (¬2). * التنبيه الثالث: الكفاءة في زوج شرطٌ للزوم النكاح، لا لصحته، على الصحيح المعتمد، فيصح مع فقدها، فهي حق للمرأة والأولياءِ كلِّهم، حتى من يحدث، فلو زوّجت بغير كفءٍ، فلمن لم يرض الفسخُ، من المرأة، والأولياء جميعهم، فورًا ومتراخيًا، ويملكه الأبعد مع رضا الأقرب والزوجة، ولو زالت الكفاءة بعد العقد، فلها الفسخ وحدَها دون سائر الأولياء. والكفاءة معتبرة في خمسة أشياء: - أحدها: الدين، فلا يكون الفاجر ولا الفاسق كفئًا لعفيفة عدل. - الثاني: المنصب، وهو النسب، فلا يكون العجمي -وهو من ليس من العرب- كُفْئًا لعربيّة. - الثالث: الحريّة، فلا يكون العبد -ولو مبعضًا- كُفْئًا لِحُرة -ولو عتيقة-. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 143). (¬2) انظر ما ذكره الشارح -رحمه الله- من شروط النكاح الخمسة: "الإقناع" للحجاوي (3/ 318 - 332).

- الرابع: الصناعة، فلا يكون صاحب صنعة دنيّة، كالحجام، والحائك، والكسّاح، والزبّال كفئاص لبنت من هو صاحب صناعة جليلة، كالتاجر، والبزاز، والتَّانىء صاحب العقار، ونحو ذلك. - الخامس: اليسار بمال بحسب ما يجب لها من المهر والنفقة. قال ابن عقيل: بحيث لا تتغير عليها عادتها عند أبيها في بيته، فلا يكون المعسر كفئًا للموسرة، وليس مولى القوم كفئًا لهم (¬1). وزاد الشافعي: سادسًا: وهو البراءة من العيوب. وعند أبي حنيفة هي: النسكُ، والدينُ، والحريّة، والإسلامُ، والآباءُ، حتى لا يكون من له أب في الإسلام كفئًا لمن له أب وجد فيه، ولا يكون من له أب وجد فيه كمن له أكثر من ذلك، والقدرةُ على المهر والنفقة، والصناعةُ. وعن أبي حنيفة رواية أخرى: لا تعتبر الصناعة. وقال مالك فيما ذكره ابن نصر عنه: إنها: الدين، والحرية، والسلامة من العيوب الموجبة للرد. وحكى ابن القصار عن مالك: أنّ الكفاءة في الدين فحسب. قال عبد الوهاب: وفي الصناعة نظر، ويجب أن تكون من الكفاءة. وفي رواية عن الإمام أحمد: أن الكفاءة الدين والحسب فقط. وفقد الكفاءة عند أبي حنيفة يوجب للأولياء حق الاعتراض. وقال مالك: لا يبطل النكاحَ فقدُها. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (3/ 332 - 334).

وعن الشافعي قولان: الجديد منهما: أنّه لا يبطل النكاحَ عدمُها، والقديم: أنّ فقدها يبطله. وعن الإمام أحمد روايتان، والمعتمد: ما تقدّم أما شرط للزوم النكاح، لالصحته (¬1). * الرابع: اختلفوا في النكاح الفضولي، وهو النكاح الموقوف على إجازة المنكوحة، أو الوليّ، أو الناكح، هل تصح أم لا؟ فصححه أبو حنيفة مع الإجازة، فمتى وجدت الإجازة، ثبت النكاح على الإطلاق. وقال الشافعي: لا يصح مطلقًا. وهو معتمد مذهب الإمام أحمد الذي لا يفتى بغيره. وعن الإمام مالك روايتان، إحداهما: لا يصح جملة، والأخرى: يجوز إذا أُجيز بقرب ذلك من غير تراخٍ شديد. وعن أحمد رواية ثانية كمذهب أبي حنيفة (¬2)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 121). (¬2) المرجع السابق، (2/ 114 - 115).

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ الله عَنْهَا-، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ القُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ القُرَظِي، فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَن بْنَ الزَّبِيرِ، وَإنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتبَّسَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ: "أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟! لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"، قَالَتْ: وَأَبُو بكْرٍ عِنْدَهُ، وَخَالِدُ بنُ سَعيدٍ بِالبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: يَا أَبَا بكْرٍ! أَلَا تَسْمَعُ مَا تَجْهَرُ بهِ هَذِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬1)؟! ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2496)، كتاب: الشهادات، باب: شهادة المختبي، و (4960 - 4961)، كتاب: الطلاق، باب: من أجاز طلاق الثلاث، و (4964)، باب: من قال لامرأته أنت عليَّ حرام، و (5011)، باب: إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة زوجًا غيره فلم يمسها، و (5456)، كتاب: اللباس، باب: الإزار المهدب، و (5487)، باب: الثياب الخضر، و (5734)، كتاب: الأدب، باب: التبسم والضحك، ومسلم (1433/ 111 - 115)، كتاب: النكاح، باب: لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره ويطأها، والنسائي (3409)، كتاب: الطلاق، باب: طلاق البتة، و (3283)، كتاب: النكاح، باب: النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثًا لمطلقها، و (3407 - 3408)، كتاب: الطلاق، باب: الطلاق التي تنكح زوجًا ثم لا يدخل بها، و (3411 - 3412)، باب: إحلال المطلقة ثلاثًا والنكاح الذي يحلها به، والترمذي =

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصدّيقة (- رضي الله عنها -، قالت: جاءت امرأةُ رفاعةَ)، وهي تميمة -بفتح المثناة فوق- وقيل: -بالضم- بنتُ وهب كما في "الموطأ" (¬1)، وقيل: سُهيمة -بضم السين المهملة-، وقيل: عائشة. وقال ابن منده، وابن طاهر: اسمها أميمة بنت الحارث -بألف- كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - (¬2)، وهي قرظيّة (¬3). ورفاعة -بكسر الراء وبالفاء- بنُ سِمْوال -بكسر السين المهملة-، ويقال: -بفتحها وسكون الميم وتخفيف الواو وباللام- (القرظيِّ) -بضم ¬

_ = (1118)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء فيمن يطلق امرأة ثلاثًا فيتزوجها آخر، فيطلقها قبل أن يدخل بها، وابن ماجه (1932)، كتاب: النكاح، باب: الرجل يطلق امرأته ثلاثًا فتتزوج فيطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى الأول؟. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 43)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 656)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 234)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 2)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 39)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1283)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 94)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 464)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 196)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 134)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 137)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 44). (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 531). (¬2) انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 509). (¬3) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 457)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1798)، و"غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 622)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 43)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 631)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 545).

القاف وفتح الراء وبالظاء المشالة- نسبة إلى قريظة، وهو من يهود المدينة، من ولد لاوي بن يعقوب -عليه السلام-، وهو خال صفية بنت حُيَيٍّ أم المؤمنين؛ لأن أمها برةُ بنتُ سموال (¬1) (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) متعلق بـ: (جاءت)، (فقالت) امرأةُ رفاعةَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (كنتُ عندَ رفاعةَ القرظي) زوجةً له، (فطلّقني) رفاعةُ (فبتّ طلاقي) تطليقُه إياها بالبتات يحتمل من حيث اللفظ أن يكون بإرسال الطلقات الثلاث، ويحتمل أن يكون بإيقاع آخرِ طلقة، ويحتمل أن يكون بإحدى الكنايات التي تحمل على البينونة عند جماعة من الفقهاء، وليس في اللفظ عموم، ولا إشعارٌ بأحد هذه المعاني، وإنما يؤخذ ذلك من أحاديث أخر تبين المراد، والحديث إنما دل على مطلق البت، والدال على المطلق لا يدلُّ على أحد قيديه بعينه (¬2). (فتزوجتُ بعده)؛ أي: بعد طلاق رفاعةَ لها وانقضاءِ عدّتها منه. (عبدَ الرحمن بن الزَّبيرِ) -بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة- بلا خلاف، كما نقله صاحب "المطالع" ابن باطا -بموحدة بلا مد ولا همز- ويقال: ابن باطيا، قُتل الزُّبيرُ يهوديًا يومَ بني قريظة، قتله الزُّبير بن العوام - رضي الله عنه -، وقد اتفقت الروايات كلّها عن هشام بن عروة أنّ الزوج رفاعة، والثاني عبد الرحمن. وكذا قال عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة في كتاب النكاح له: عن قتادة: أن تميمةَ بنتَ أبي عبيد القرظيةَ كانت تحت رفاعة، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 500)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 283)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 189)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 491). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 39 - 40).

فطلّقها، فخلَفَ عليها عبدُ الرحمن بن الزبير، وتسميتُه لأبيها لا ينافي روايةَ مالك، فلعلَّ اسمَه وهب، وكنيته أبو عبيد، وإلا ما وقع عند ابن إسحاق في "المغازي" من رواية سَلَمة بن الفضل عنه، وتفرّد به عنه هشامٌ عن أبيه، قال: كانت امرأةٌ يقال لها: تميمةُ تحتَ عبد الرحمن بن الزبير، فطلّقها، فتزوجها رفاعة، ثم فارقها، فأرادت أن ترجع إلى عبد الرحمن بن الزبير، وهو -مع إرساله- مقلوبٌ، والمتفق عليه الجماعة أصح وأثبت (¬1). وأخرج مقاتل بن حيان في "تفسيره"، ومن طريقه ابن شاهين في "الصحابة"، ثمّ أبو موسى في قوله - تعالى-: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، قال: نزلت في عائشةَ بنتِ عبد الرحمن بنِ عتيك النضيرية، كانت تحت رفاعةَ بن وهبِ بنِ عتيك، وهو ابن عمها، فطلّقها طلاقًا بائنًا، فتزوجت بعده عبدَ الرحمن بنَ الزبير، ثم طلقها، فأتت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إنه طلّقني قبل أن يمسّني، أفأرجع إلى ابن عمي زوجي الأول؟ قال: "لا"، الحديث (¬2). قال: الحافظ ابن حجر في "الفتح": وهذا إن كان محفوظًا، فالواضح من سياقه أما قصة أخرى، وأن كلًا من رفاعة القرظي، ورفاعة النضري وقع له مع زوجة له طلاقٌ، فتزوج كلًا منهما عبدُ الرحمن بنُ الزبير، فطلقها قبل أن ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 833)، و"الإكمال" لابن ماكولا (4/ 166)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 442)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 276)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 94)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 305)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 155). (¬2) ورواه ابن المنذر في "تفسيره"، كما نسبه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 677).

يمسها، فالحكم في قصتهما متحدٌ، مع تغاير الأشخاص، وبهذا يتبين خطأ من وحّد بينهما، ظنًا منه أن رفاعة بنَ سموال هو رفاعةُ بن وهب، فقال: اختلف في امرأة رفاعة على خمسة أقوال، فذكر اختلاف اللفظة بتميمة، وضمّ إليها عائشة، والتحقيق ما تقدم (¬1)، والله أعلم. (وإنما معه)، أي: عبدِ الرحمن بنِ الزَّبيرِ بنِ باطا من الآلة؛ أي: الذَّكَر (مثلُ هُدْبَة) -بضم الهاء وسكون الدّال المهملة بعدها موحدة مفتوحة-: هو طرف (الثّوب) الذي لم يُنسج، مأخوذٌ من هدب العين، وهو شعر الجفن (¬2)، وأرادت أن ذَكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار (¬3)، واستدل به على أنّ وطء الزوج الثاني لا يكون محلِّلًا ارتجاعَ الزوج الأول للمرأة إلّا إن كان حالَ وطئه منتشرًا، فلو كان ذكره أشلَّ، أو كان عِنِّينًا، أو طفلًا، لم يكف، على أصح قولي العلماء، وهو الأصح حتى عند الشافعية (¬4) (فتبسّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) من قولها، (وقال) لها: (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعةَ؟!) زوجِها الأول، وفي رواية في "الصحيحين" أنها قالت: يا رسول الله! إنها كانت تحت رفاعة، فطلّقها آخر ثلاث تطليقات، فتزوجت بعده عبدَ الرّحمن بَن الزَّبير، وأنه والله! ما معه إلّا مثل هذه الهدبة، وأخذت بهدبة من جِلبابها، قالت: فتبسّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكًا، وقال: "لعلّكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة" (¬5). وفيهما عن عكرمة: أنّ رفاعة طلّق امرأته، فتزوجها عبد الرحمن بن ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 465). (¬2) قاله النووي في "شرح مسلم" (10/ 1). (¬3) قاله ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام" (4/ 40). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 465). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5456)، ومسلم برقم (1433/ 112).

الزبير القرظي، قالت عائشة - رضي الله عنها -: فجاءت وعليها خمارٌ أخضر، فشكت إليها؛ أي: إلى عائشةَ من زوجها، وأرتها خضرةً بجلدها، فلمّا جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنساء ينصر بعضُهنَّ بعضًا، قالت عائشة: ما رأيتُ مثلَ ما يلقى المؤمنات، لجلدُها أشدُّ خضرة من ثوبها، قال: وسمع زوجُها، فجاء ومعه اثنان له من غيرها، قالت: والله! ما لي إليه من ذنب، إلّا أنّ ما معه ليس بأغنى عني من هذه، وأخذت هُدبةً من ثوبها، فقال: كذبت، والله يا رسول الله! إني لأنفضها نفضَ الأديم، ولكنها ناشزٌ تريد رفاعةَ، قال: "فإن كان ذلك، لم تحلّي له" الحديث (¬1)، وكأن هذه المراجعة بينهما هي التي حملت خالدَ بنَ سعيد على قوله ما قال (لا) ترجعين إلى رفاعة (حتى تذوقي عُسيلته)؛ أي: عسيلةَ الزوج الثاني الذي هو عبد الرحمن بن الزبير، (ويذوقَ) هو (عُسيلتك) كذا في الموضعين بالتصغير، واختلفوا في توجيهه، فقيل: هو تصغير العسل؛ لأن العسل مؤنث، جزم به القزاز. ثم قال: وأحسب التذكيرَ لغةً. وقال الأزهري: يُذَكَّر ويُؤنّث (¬2). قال في "القاموس": العسلُ، لُعاب النحل، وطلٌّ خفيٌّ يقع على الزهر وغيره، فيلقطه النحل، وهو بخار يصعد فينضج في الجو، فيستحيل، فيغلظ في الليل. فيقع عسلًا، وقد يقع العسل ظاهرًا، فيلتقطه الناس، قال: وأَفردتُ لمنافعه وأسمائه كتابًا، ويؤنث، انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5487). (¬2) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 330). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1333)، (مادة: عسل).

وقيل: إنّ العرب إن احتقرت الشيء، أدخلت فيه هاء التأنيث، ومن ذلك قولهم: دُريهمات، فجمعوا الدرهم جمع المؤنث عند إرادة التحقير، وقيل: التأنيث باعتبار الرطبة، إشارة إلى أما تكفي في المقصود من تحليلها للزوج الأول، وقيل: المراد: قطعة من العسل، والتصغير للتقليل، إشارة إلى أن القدر القليل كافٍ في تحصيل الحِلّ (¬1). قال الأزهري: الصواب: أن معنى العسيلة: حلاوة الجماع الذي يحصل بتغييب الحشفة في الفرج، وأُنث تشبيهًا بقطعة من عسل (¬2). وقال الداودي: صغرت لشبهة شبهها بالعسل، وقيل: معنى العسيلة: النطفة، وهذا يوافق قول الحسن البصري، والجمهور: أن ذوق العسيلة كناية عن المجامعة، وهو تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة، وزاد الحسن البصري: وحصول الإنزال، وهذا الشرط تفرد به عن الجماعة، قاله ابن المنذر وآخرون. وقال ابن بطال: شذّ الحسن في هذا، وخالفه سائر الفقهاء، فقالوا: يكفي من ذلك ما يوجب الحد، ويُحْصِن الشخص، ويوجب الغسل، ويفسد الحج والصوم، ويكمل الصداق. قال أبو عبيد: العسيلة: لذة الجماع، والعرب تسمي كل شيء تستلذُّه عسلًا. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحلّ للأول، إلا ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 466). (¬2) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 330)، وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 101)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 237).

سعيد بن المسيب، فإنّه قال: يقول الناس: لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوجها تزويجًا صحيحًا، لا يريد بذلك إحلالها للأول، فلا بأس أن يتزوجها. وقال ابن المنذر: وهذا القول لا نعلم أحدًا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، ولعله لم يبلغه الحديث، فأخذ بظاهر القرآن. وحكى الإمام الحافظ ابن الجوزي عن داود: أنه وافق سعيدَ بن المسيب على ذلك. قال القرطبي: ويستفاد من الحديث على قول الجمهور: أن الحكم يتعلق بأقل ما يطلق عليه الاسم (¬1)، خلافًا لمن قال: لابد من حصول جميعه، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى تذوقي عسيلته" إلخ إشعارٌ بإمكان ذلك، لكن قولها: ليس معه إلا مثل هذه الهدبة ظاهر في تعذر الجماع المشترط. وأجاب الكرماني: بأن مرادها بالهدبة: التشبيه بها في الدقة والرقة، لا في الرخاوة وعدم الحركة، واستبعد ما قاله، وسياقه الخبر يعطي بأنها شَكَتْ منه عدم الانتشار، ولا يمنع من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى تذوقي عسيلته"؛ لأنه علقه على الإمكان، وهو جائز الوقوع، فكأنه قال: اصبري حتى يتأتى منه ذلك، واستدل بإطلاق وجود الذوق منهما اشتراط علم الزوجين به، حتى لو وطئها نائمة، أو مغمًى عليها، لم يكف، ولو أنزل هو. وبالغ ابن المنذر، فنقله عن جميع الفقهاء، وتُعُقِّب. ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 234 - 235).

وقال القرطبي: فيه حجة لأحد القولين فى أنه لو وطئها نائمة، أو مغمًى عليها، لم تحل (¬1). وجزم ابن القاسم بأن وطء المجنون يحلل، وخالفه أشهب (¬2). قلت: وجزم علماؤنا بحصول حلها للأول بوطء الثاني في قبلها مع انتشار، ولو نائمًا، أو مغمًى عليه وأدخلته فيه، وأنه يكفي تغييب الحشفة أو قدرها من نحو مجبوب (¬3). (قالت) عائشة - رضي الله عنها -: صارت المراجعة من امرأة رفاعة لرسول الله (وأبو بكر) الصديق - رضي الله عنه - جالسٌ (عنده)؛ أي: عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جملة حالية (وخالد بن سعيد) بن العاص بنِ أميةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ القرشيُّ، الأُمويُّ -بضم الهمزة-، ويكنى: أبا سعيد، أسلم قديمًا، قيل: بعد أبي بكرٍ الصديق، فكان ثالثًا، أو رابعًا، وقيل: كان خامسًا. وكان سبب إسلامه رؤياه في منامه النارَ، وأنه واقفٌ على شفيرها، وكأَنَّ أباه يدفعه فيها، ورأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ بحقويه لا يقع فيها، فلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بأجياد، فقال: يا محمد! إلام تدعو؟ قال: "أدعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجرٍ لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، ولا يدري من عبده ممن لم يعبده"، قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، فسرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بإسلامه ولما علم أبو خالد بذلك، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (4/ 235). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 466 - 467). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 362).

آذاه (¬1)، ثمَّ لما هاجر المسلمون إلى الحبشة، هاجر إليها، وأقام بها بضع عشرة (¬2) سنة. ووُلد له ابنه سعيد، وبه كني، وابنته أم خالد، فهو من السابقين الأولين، ثمَّ وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك وهو بخيبر، فشهدها وما بعدها، وبعثه - صلى الله عليه وسلم - على صدقات اليمن، فتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بها، واستشهد - رضي الله عنه - يوم مرج الصفر بالشام سنة أربع عشرة في صدر خلافة عمر، وقيل: قتل يوم أجنادين في سنة ثلاث عشرة (¬3) قبل وفاة الصديق - رضي الله عنه - بأربع وعشرين ليلة، وهو ابن خمسين سنة (¬4)، ومَرْجُ الصُّفَّر -بضم الصاد المهملة وتشديد الفاء-: موضعٌ بغوطة دمشق، كان به وقعة للمسلمين مع الروم. قال النَّوويُّ: بينها وبين دمشق دون مرحلة (¬5). فلما قالت امرأةُ رفاعة ما قالت، وأبو بكر - رضي الله عنه - عند ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 94)، والحاكم في "المستدرك" (5082). (¬2) في "ب": "بضعة عشر". (¬3) في "ب": "ثلاثة عشر". (¬4) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 94)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 152)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (1/ 387)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 334)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 103)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 277)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 420)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (16/ 67)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 124)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 259)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 236). (¬5) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 326).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخالدُ بن سعيد - رضي الله عنه - قائمٌ (بالباب)؛ أي: باب بيت النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (ينتظر أن يؤذنَ له) في الدخول على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجملة: وخالد بالباب إلخ حالية، (فنادى) خالدُ بنُ سعيدٍ أبا بكرٍ الصديقَ - رضي الله عنهما - لما سمع قولها: فقال: (يا أبا بكر! ألا تسمعُ ما تجهر به هذه) يعني: تميمة امرأة رفاعة (عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛)، وفي لفظ: ألا تنهى هذه عما تجهر به عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوالله ما يزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التبسم (¬1). وفيه ما كان الصحابة عليه من سلوك الأدب بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنكارُهم على من خالف ذلك بفعله أو قوله "لقول خالد بن سعيد لأبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنهما - وهو جالسٌ: ألا تنهى هذه؟ وإنما قال خالد ذلك؛ لأنه كان خارجَ الحجرة، فاحتمل عنده أن يكون هناك ما يمنعه من مباشرة نهيها بنفسه، فأمر به أبا بكر، لكونه كان جالسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - شاهدًا لصورة الحال، ولذلك لما رأى أبو بكر - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم - يتبسم عند مقالتها، لم يزجرها، وتبسُّمه - صلى الله عليه وسلم - كان تعجبًا منها، إما لتصريحها بما يستحيي النساء من التصريح به غالبًا، وإما لضعف عقل النساء، لكون الحامل لها على ذلك شدةُ بغضها في الزوج الثاني، ومحبتها في الرجوع إلى الأول (¬2). تنبيهات: الأول: اعتبر علماؤنا كونَ النكاح الثّاني نكاحًا صحيحًا، لا فاسدًا ولا باطلًا، فلابد من كونه نكاح رغبة، لا نكاح تحليل. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5456). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 466).

وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية -روَّحَ الله رُوحَه- في ذلك كتابه "بيان الدليل في إبطال التحليل"، قال فيه: نكاح المُحَلِّل حرام باطل لا يفيد الحل، وصورة ذلك: أن الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثًا، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجًا غيره كما ذكره -سبحانه- في كتابه، وجاءت به سنّة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأجمعت عليه أمته، فإذا تزوجها رجل بنيّة أن يطلقها لتحل لزوجها الأول، كان هذا النكاح حرامًا باطلًا، سواء عزم بعد ذلك على إمساكها، أو فارقها، وسواء شُرط عليه ذلك في عقد النكاح، أو شرط عليه قبل العقد، أو لم يشرط عليه لفظًا، بل كان ما بينهما، من الخطبة، وحالِ الرجل والمرأة والمهر نازلًا بينهم منزلةَ اللفظ بالشرط، أو لم يكن شيء من ذلك، بل أراد الرجل أن يتزوجها ثمَّ يطلقها لتحلَّ للمطلِّقِ ثلاثًا من غير أن تعلم المرأة والأولياء شيئًا من ذلك، سواء علم الزوج المطلِّق ثلاثًا، أو لم يعلم، مثل أن يظن المحلِّل أن هذا فعل خير ومعروف مع المطلِّق وامرأته بإعادتها إليه، لما أن الطلاق أضرّ بهما وبأولادهما وعشيرتهما، ونحو ذلك، بل لا تحل للمطلِّق ثلاثًا أن يتزوجها حتى ينكحها رجلٌ مرتغبًا لنفسه نكاحَ رغبة لا نكاحَ دلسة، ويدخل بها بحيث تذوق عُسيلته، ويذوق عُسيلتها، ثمَّ بعد هذا إذا حدثت بينهما فرقة بموتٍ أو طلاقٍ أو فسخٍ، جاز للأول أن يتزوجها، ولو أراد هذا المحلل أن يقيم معها بعد ذلك، استأنف ذلك فإن ما معنى عقد فاسدٌ لا يباح المقام به معها؟ قال -رحمه الله-: هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، وهو المأثور عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعامةِ التابعين لهم بإحسانٍ، وعامةِ فقهاء الإسلام، مثل سعيدِ بن المسيب، والحسنِ البصري، وإبراهيمَ النخعيِّ، وعطاءِ بنِ رباح، وهؤلاء الأربعة أركان التابعين، ومثل أبي الشعثاء جابرِ بنِ

زيد، والشعبي، وقتادة، وبكر بن عبد الله المزني، وهو مذهب مالك وجميع أصحابه، والليث بن سعد، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وهؤلاء الأربعة أركان أتباع التابعين، وهو مذهب الإمام أحمد، وفقهاء الحديث، منهم إسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبو خيثمة زهيرُ بن حرب، وأبو بكر بنُ أبي شيبة، وأبو إسحاق الجوزجاني، وغيرهم. وهو قول للشّافعيّ في كتابه "القديم العراقي"، قال: فيما إذا تزوجها تزويجًا مطلقًا لم يشترط، ولا اشتُرط عليه التحليل، إلا أنه نواه وقصده، فأبطله كمالك، وصححه في "الجديد المصري". وذكر الشيخ في "إبطال التحليل" الأدلة الصريحةَ، والأحاديثَ الصحيحةَ في إبطال التحليل، وأنه حرامٌ وباطل، وأن فاعله تيسٌ مستعار وعاهر، وقال في غضون ذلك: المعروف عن المدنيين التغليظ في التحليل، قال: وهو عملهم، وعليه اجتماع مَلَئِهم، وقد أجلب على ذلك بخيله ورَجِلِهِ (¬1). وقال تلميذه الإمام المحقق ابنُ القيم في كتابه "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: "ومن مكائده -أي: الشيطان- التي بلغ فيها مرادَه: مكيدةُ التحليل الذي لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاعله، وشبهه بالتيس المستعار، وعظم بسببه العار والشنار، وعير المسلمين بها الكفار، وجعل بسببه من الفساد، ما لا يحصيه إلا ربُّ العباد، واستكبرت له التيوس المستعارات، وضاقت به ذرعًا النفوسُ الأبِيَّات، ونفرت منه أشدَّ من نفارها من السفاح، وقالت: ¬

_ (¬1) وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 100) وما بعدها.

لو كان هذا نكاحًا صحيحًا، لم يلعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من أتى بما شرّعه من النكاح، فإن النكاح سنّة، وفاعلُ السنّة مقرَّب غيرُ ملعون، والمحلِّلُ مع وقوع اللعنة عليه بالتيس المستعار مقرون، فقد سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتيس المستعار، وسماه السلف بمسمار النار. ثمَّ ذكر ابن القيم ما رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال: لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المحلِّل والمحلَّل له، رواه الحاكم في "الصحيح"، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (¬1)، وقال: العمل عليه عند أهل العلم، منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - (¬2). وهو قول الفقهاء من التابعين، وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده"، والنسائي في "سننه" بأسانيد صحاح، ولفظُهما: لعن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الواشمةَ والمتوشمةَ، والواصلةَ والموصلة، والمحلِّلَ والمحلَّلَ له، وآكلَ الربا وموكلَه (¬3). وفي حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه لعن المحلِّل والمحلَّل له، رواه الإمام أحمد، وأهل السنن كلهم غير النّسائيّ (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1120)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في المحلل والمحلل له، ولم أره عند الحاكم في "مستدركه" من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 170). (¬2) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 428). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 428)، والنسائي (3416)، كتاب: الطلاق، باب: إحلال المطلقة ثلاثًا وما فيه من التغليظ. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 83)، وأبو داود (2076)، كتاب: النكاح، =

وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله المحلل والمحلل له" رواه الإمام أحمد بإسناده، ورجاله كلهم ثقات (¬1). قال التّرمذيّ في كتاب "العلل": سألت أبا عبد الله محمدَ بنَ إسماعيل البخاريّ عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن (¬2). وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله المحلل والمحلل له" رواه ابن ماجه (¬3). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضًا، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحلل، فقال: "لا، إلا نكاحَ رغبة لانكاحَ دلسة ولا استهزاء بكتاب الله، ثمَّ يذوق العسيلة" رواه أبو إسحاق الجوزجاني في كتاب "المترجم" (¬4). وفي حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ "، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له" رواه ابن ماجه (¬5)، قال في "إغاثة اللهفان": رجال إسناده كلهم موثقون لم يجرح واحد منهم. ¬

_ = باب: في التحليل، والترمذي (1119)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في المحلل والمحلل له، وابن ماجه (1935)، كتاب: النكاح، باب: المحلل والمحلل له. (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 323). (¬2) انظر: "العلل" للترمذي (ص: 161). (¬3) رواه ابن ماجه (1934)، كتاب: النكاح، باب: المحلل والمحلل له. (¬4) ساق إسناده ابن كثير في "تفسيره" (1/ 281)، ورواه أيضًا: الطبراني في "المعجم الكبير" (11567)، وابن حزم في "المحلى" (10/ 184). (¬5) رواه ابن ماجه (1936)، كتاب: النكاح، باب: المحلل والمحلل له.

وعن عمرو بن دينار، وهو من أعيان التابعين: أنه سئل عن رجلٍ طلق امرأته، فجاء رجل من أهله بغير علمه ولا علمها، فأخرج شيئًا من ماله، فتزوجها ليحللها له، فقال: لا، ثمَّ ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن مثل هذا، فقال: "لا، حتى ينكح مرتغبًا لنفسه، فإذا فعل ذلك، لم تحلَّ له حتى يذوقَ العُسيلة" رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" بإسنادٍ جيد (¬1)، وهذا المرسل قد احتج به من أرسله، فدل على قوته عنده، وهو موافق لبقية الأحاديث الموصولة. قال في "إغاثة اللهفان": ومثل هذا حجة باتفاق الأئمة، وهو حديث ابن عباس الذي تقدم نص في المحلل المنوي، ومثلهما حديث نافع عن ابن عمر: أن رجلًا قال له: امرأة تزوجتها أحللها لزوجها، لم يأمرني، ولم يعلم، قال: لا، إلا نكاح رغبة: إن أعجبتك فأمسكها، وإن كرهتها فارقتها، وإن كنا نعد هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفاحًا، ذكره شيخ الإسلام -قدس الله روحه- في "إبطال التحليل". وفي "مصنف" ابن أبي شيبة، و"سنن الأثرم"، و"الأوسط" لابن المنذر، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: لا أوتى بمحلِّل ولا محلَّل له، إلا رجمتُهما (¬2). ولفظ عبد الرزاق عن معمر، والزهري عن عبد الملك بن المغيرة، قال: سئل ابن عمر عن تحليل المرأة لزوجها، فقال: ذاك السِّفاح (¬3)، وفي ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (17090). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (17080)، وكذا عبد الرزاق في "المصنف" (10777). (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (10776).

رواية: كلاهما زانٍ، يعني: المحلل والمحلل له، وإن مكث عشرين سنة، أو نحو ذلك، إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يحللها له (¬1). وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رجل طلق امرأته ثلاثًا، فقال: عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، قال: كيف ترى في رجل يحللها؟ قال: من يخادعِ الله يخدعْه (¬2). وسئل عثمان - رضي الله عنه - عن رجل تزوج أمرأة يحللها لزوجها، ففرّق بينهما، وقال: لا ترجع إليه إلا على نكاح رغبة غير دلسة، ولا استهزاء بكتاب (¬3). وعلي - رضي الله عنه - هو ممن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه لعن المحلل، وقد جعل هذا من التحليل، وإن لم تعلم به المرأة، فكيف بما اتفقا عليه، وتراوضا وتعاقدا على أنه نكاح لعبة لا نكاح رغبة؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: وهذه الآثار عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وابن عمر مع أما منصوص فيما إذا قصد التحليل ولم يظهره، ولم يتواطأ عليه، فهي مبينة أن هذا هو التحليل، وفاعله هو المحلل الملعون على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمُ بمراده ومقصوده، ولا سيما إذا رووا حديثًا وفسروه بما يوافق الظاهر، هذا مع أنه لم يعلم أن أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرّق بين تحليل وتحليل، ولا رخص في شيء من أنواعه، مع أن المرأة المطلقة ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (10778). (¬2) رواه عبد الرازق في "المصنف" (10779)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 337). (¬3) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 208).

ثلاثًا مثل امرأة رفاعة كانت تختلف إليه المدة الطويلة، وإلى خلفائه، لتعود إلى زوجها، فمنعوها من ذلك، ولو كان التحليل جائزًا، لدلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فإنها لم تكن تعدم من يحللها لو كان التحليل جائزًا. قال: والأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية متى قصد التحليل، فهو نكاح تحليل، وإن لم يشترط في العقد (¬1). الثاني: معتمد المذهب: أن الذي تعتبر نيته: الزوجُ، فلا أثر لنية الزوجة والولي، كما في "إعلام الموقعين" (¬2). وفي "الفروع" (¬3)، و"المحرر" (¬4)، وغيرهما: من لا فرقة بيده لا أثر لنيته، ولو شرط عليه قبل العقد أن يحلها، ثمَّ نوى عند العقد غير ما شرطوا عليه، وأنه نكاح رغبة، صحّ، قاله الموفق (¬5) وغيره، وجزم به في "الإقناع" (¬6) وغيره، والقول قوله في نيته. ولو زوج عبدَه بمطلقته ثلاثًا، ثمَّ وهبها العبدَ أو بعضَه ليفسخَ نكاحها، لم يصح النكاح، نصًا، وهو محلل نيته كنية الزوج. ولو دفعت الزوجة مالًا هبة لمن تثق به ليشتري مملوكًا، فاشتراه، ¬

_ (¬1) انظر: "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 268 - 273)، و"الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 100) وما بعدها. (¬2) انظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (4/ 45). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 164). (¬4) أنظر: "المحرر في الفقه" للمجد ابن تيمية (2/ 24). (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 139). (¬6) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 351).

وزوجه بها، ثمَّ وهبه لها، انفسخ النكاح، ولم يكن هناك تحليل مشروط ولا منوي ممن تؤثر نيته، وهو الزوج، فإن ذلك يحلها، كما في "إعلام الموقعين" (¬1)، و"الإقناع" (¬2)، واختار جماعة: لا، قال العلامة الشيخ مرعي في "غايته" (¬3): وهو أصح، انتهى. قال المُنقِّح: الأظهرُ عدم الإحلال (¬4). قلت: قواعد المذهب تأبى إحلالها، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (4/ 45). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 351). (¬3) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (5/ 127). (¬4) انظر: "التنقيح" للمرداوي (ص: 295).

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ البِكْرَ على الثَّيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبِ على البِكْرِ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَسَمَ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: ولَو شِئْتُ، لَقُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4915)، كتاب: النكاح، باب: إذا تزوج البكر على الثيب، و (4916)، باب: إذا تزوج الثيب على البكر، واللفظ له، ومسلم (1461/ 44 - 45)، كتاب: الرضاع، باب: قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، وأبو داود (2124)، كتاب: النكاح، باب: في المقام عند البكر، والترمذي (1139)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في القسمة للبكر والثيب، وابن ماجه (1916)، كتاب: النكاح، باب: الإقامة على البكر والثيب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 214)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 77)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 661)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 254)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 45)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 41)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1290)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 314)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 200)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 106)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 162)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 369).

(عن) أبي حمزة (أنسِ بنِ مالك - رضي الله عنه -، قال: من السنة) الذي اختاره أكثر أهل الأصول أن قول الراوي: من السنة كذا [له] حكمُ المرفوع؛ لأنه ينصرف بحسب الظاهر إلى سنّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان يحتمل أن يقول ذلك على اجتهادٍ رآه، إلا أن الأظهر خلافه (¬1). قال في "التحرير وشرحه" (¬2): هو كمرفوع صريحًا عند العلماء. قال ابن الصلاح: حكم ذلك عند أهل العلم حكمُ المرفوع صريحًا (¬3)، انتهى. وفي "الفتح": قوله: قال: من السنّة؛ أي: سنّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا الذي يتبادر إلى الفهم من قول الصحابي (¬4). (إذا تزوج) الرجلُ (البكرَ على الثيب) أي: تكون عنده امرأة، فيتزوج معها بكرًا. قال ابن دقيق العيد: هذا الحق للبكر والثيب إنما هو فيما إذا كانتا متجددتين على نكاح امرأة قبلهما، فلا يقتضي أنه ثابت لكل متجددة، وإن لم يكن قبلها غيرها (¬5)، (أقام عندها سبعًا) من الليالي خالصة لها غير داخلٍ في قَسْم. قال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أن ذلك حقٌّ للمرأة بسبب ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 41). (¬2) "التحرير" هو كتاب: "تحرير المنقول في علم الأصول"، وشرحه هو: "التحبير"، كلاهما لعلاء الدين المرداوي، صاحب "الإنصاف"، و"التنقيح" وغيرهما. وقد حقق الكتابان في رسائل علمية. انظر: "معجم مصنفات الحنابلة" للطريقي (5/ 8 - 9). (¬3) انظر: "علوم الحديث" لابن الصلاح (ص: 49). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 314). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 41).

الزفاف، قال: وسواء كان عنده زوجة، أولا (¬1). وحكى النّوويّ من الشافعية: أنه يستحب إذا لم يكن عنده غيرها، وإلا، فيجب (¬2). قال في "الفتح": وهذا يوافق كلامَ أكثر الأصحاب، واختار النّوويّ: أن لا فرق، وإطلاق الشّافعيّ يعضده (¬3). قلت: وهذا ظاهرُ إطلاق علمائنا، فإنهم قالوا: ومن تزوج بكرًا، أقام عندها سبعًا خالصة ثمَّ دار (¬4)، لكن يدل للأول قولُه في الحديث: "إذا تزوج البكر على الثيّب". ويمكن أن يتمسك الآخر بسياق حديث بشر عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس: ولو شئت أن أقول قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن قال: السنّة إذا تزوج البكر، أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب، أقام عندها ثلاثًا، فلم يقيده بما إذا تزوجها على غيرها، لكن القاعدة أن المطلق يحمل على المقيد، بل ثبت في رواية خالد التقييد -أيضًا-، فعند "مسلم" من طريق هشيم عن خالد: "إذا تزوج البكر على الثيّب" الحديث (¬5)، ويؤيده -أيضًا- قوله في هذا الحديث: (وقَسَم)، وفي لفظٍ: ثمَّ قسم (¬6)؛ لأن القَسْم إنما يكون لمن عنده زوجةٌ أخرى (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 440). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 45). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 315). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 256). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1461/ 44). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4916). (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 3115).

(وإذا تزوج) الرجلُ المرأةَ (الثيبَ على البِكر، أقامَ عندها)؛ أي: الثيبِ (ثلاثًا) من الليالي خالصة لها (ثمّ قَسَمَ) بعد ذلك لنسائه. وفي الحديث حجة على الكوفيين في قولهم: إن البكر والثيب سواء في الثلاث، وعلى الأوزاعي في قوله: للبكر ثلاث، وللثيب يومان. وفيه حديث مرفوع عن عائشة - رضي الله عنها - أخرجه الدارقطني بسندٍ ضعيف جدًا (¬1)، وخص من عموم الحديث ما لو أرادت الثيب أن يكمل لها السبع، فإنه إذا أجابها، سقط حقها من الثلاث، وقضى السبع لغيرها (¬2). قال علماؤنا ومن وافقهم: ويقيم عند الثيب ثلاثًا وإن شاءت، وقيل: أو هو سبعًا، فعل، وقضى الكل (¬3)، لما أخرجه مسلم من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها، أقام عندها ثلاثًا، وقال: "إنه ليس بك هوان على أهلك، إن شئتِ سَبَّعْتُ لكِ، وإن سبعتُ لكِ، سبعت لنسائي"، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه (¬4). ورواه الدارقطني بلفظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها حين دخل بها: "ليس بك هوان على أهلك، إن شئتِ، أقمت عندك ثلاثًا خالصة لك، وإن شئتِ، سبعتُ لك، وسبعتُ لنسائي"، قالت: تقيم معي ثلاثًا خالصة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 284). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 315). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 256). (¬4) رواه مسلم (1460/ 41)، كتاب: الرضاع، باب: قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، والإمام أحمد في "المسند" (6/ 292)، وأبو داود (2122)، كتاب: النكاح، باب: في المقام عند البكر، وابن ماجه (1917)، كتاب: النكاح، باب: الإقامة على البكر والثيب. (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 284).

وفي رواية: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يخرج، أخذت أم سلمةَ بثوبه، فقال: "إن شئتِ، زدتُك، وحاسبتك به، للبكر سبعٌ، وللثيب ثلاث" رواه مسلم (¬1). (قال أبو قِلابة) -بكسر القاف وتخفيف اللام وبالباء الموحدة-، اسمه عبدُ الله بنُ زيدِ بنِ عمرو، وقيل: عامر، الأنصاريُّ الجَرْميُّ نسبةً إلى جَرم -بفتح الجيم وسكون الراء- ابنِ رَبَّان -بفتح الراء وتشديد الباء الموحدة- بنِ ثعلبةَ البصريُّ، روى عن ثابت بن الضحاك الأنصاري، وأنسِ بن مالك، ومالكِ بن الحويرث، والنعمانِ بن بشير، وغيرِهم، وسمع عن جماعة من التابعين -أيضًا-، وتقدمت ترجمته في باب: صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ولو شئتُ، لقلت: إن أنسًا) - رضي الله عنه - (رفعه)؛ أي: الحديثَ المذكور (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -)؛ كأنه يشير إلى أنه لو صرّح برفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكان صادقًا، ويكون روي بالمعنى، وهو جائز عنده، لكنه رأى أن المحافظة على اللفظ أولى (¬2)، وقد صرح برفعه ابنُ خزيمة، وابنُ حبان، والدارميُّ، والدارقطنيُّ (¬3). وقال الإمام ابنُ القيم في "الهدي": وهذا الذي قاله أبو قِلابة قد جاء به مصرّحًا عن أنس، كما رواه البزار في "مسنده" من طريق أيوب السختياني ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1460/ 42)، كتاب: الرضاع، باب: قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 314). (¬3) رواه ابن حبان في "صحيحه" (4258)، والدارمي في "سننه" (2209)، والدارقطني في "سننه" (3/ 283).

عن أبي قِلابة، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للبكر سبعًا، وللثيب ثلاثًا، وكذا رواه غيره (¬1)، والله أعلم. تنبيه: قد تكلم بعض العلماء في حكمة مشروعية اختصاص البكر بسبع، والثيبِ بثلاث، فقيل: هو حق للمرأة على الزوج، لأجل إيناسها به، وإزالة الحشمة عنها لتجدده (¬2)، ولهذا كانت البكر أشد نفورًا وأبعد إيناسًا، زادت لياليها عن الثيب، لتقدم ارتياضها وإلفها مع الرجل في الجملة. وفي "شرح الوجيز" من متأخري علمائنا: إنما خصت البكر بالزيادة؛ لأن حياءها أكثر، والثلاث مُدَّة معتبرة في الشرع والسبع؛ لأنها أيام الدنيا، وما زاد عليها يتكرر، وحينيذٍ يقطع الدور، انتهى. وقيل: بل هو حقٌّ للزوج على المرأة، وهذا ليس بشيء، وأفرط بعض فقهاء المالكية، فجعل مقامه عندها عذرًا في إسقاط الجمعة. قال: ابن دقيق العيد: وهو ساقطٌ منافٍ للقواعد، فإن مثل هذا من الآداب والسنن لا يُترك له الواجب، ولما شعر بهذا بعض المتأخرين، وأنه لا يصلح أن يكون عذرًا، توهم أن قائله يرى الجمعة فرضَ كفاية، قال: وهذا فاسد جدًا؛ لأن قول هذا القائل متردد يحتمل أن يكون جعله عذرًا، أو أخطأ في ذلك، وتخطئته في هذا أولى من تخطئته فيما دلت عليه النصوصُ وعملُ الأمة على وجوب الجمعة على الأعيان (¬3)، انتهى. وفي "الفتح" للحافظ ابن حجر: يكره أن يتأخر في السبع أو الثلاث عن ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 148). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 41 - 42). (¬3) المرجع السابق، (4/ 42).

صلاة الجماعة، وسائرِ أعمال البر التي كان يفعلها، نصّ عليه الشّافعيّ. وقال الرافعي: هذا في النهار، وأما في الليل، فلا؛ لأن المندوب لأن يُترك له الواجب، فعدوا هذا من الأعذار في ترك الجماعة (¬1)، وهذا على أصلهم ومذهبهم من كون الجماعة سنّة أو فرضَ كفاية على الخلاف، وأما على قواعد مذهبنا، فليس هذا عذرًا في ترك جمعة ولا جماعة، اللهم إلا أن يخاف عليها ضررًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 315 - 316).

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأَتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ في ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهْ الشَّيْطَانُ أَبدًا" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (141)، كتاب: الوضوء، باب التسمية على كل حال وعند الوقاع، و (3098، 3109)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، و (4870)، كتاب: النكاح، باب: ما يقول الرجل إذا أتى أهله، و (6025)، كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا أتى أهله، و (6961)، كتاب: التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، ومسلم (1434)، كتاب: النكاح، باب: ما يستحب أن يقوله عند الجماع، وأبو داود (2161)، كتاب: النكاح، باب: في جامع النكاح، والترمذي (1092)، كتاب: النكاح، باب: ما يقول الرجل إذا دخل على أهله، وابن ماجه (1919)، كتاب: النكاح، باب: ما يقول الرجل إذا دخلت عليه أهله. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 610)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 159)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 5)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (43/ 4)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1295)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 228)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 266)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 69)، و"سبل السلام" للصنعاني =

(عن) حبر الأمة عبدِ الله (بنِ عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أن أحدكم)، وفي لفظ للبخاري: "أما لو أن أحدهم" (¬1)، وفي آخر له: "أما إن أحدكم" (¬2) (إذا أراد أن يأتي أهله) يعني: زوجته، وكَنَّى بالإتيان عن الجماع كما هو عادته - صلى الله عليه وسلم - أن يكني عن الأمور المستفظعة، كتكنيته عن الفرج بالهن، وعن الجماع بالمخالطة والمواقعة، وكذا الجماعُ كنى به عن فعل الوطء، والوطء كني به عما هو معلوم. وفي رواية عند الإسماعيلي: "أما إن أحدكم لو يقول حين يجامع أهله"، وهو ظاهر في أن القول يكون مع الفعل، ولكن الأولى حمله على ما في رواية "الصحيحين": أنه يكون عند إرادة الجماع (¬3)، فإذا أراد أن يجامع أهله، (قال: باسم الله، اللهم جنبنا)، وفي بعض الروايات: "جنبني" بالإفراد (¬4). (الشيطان)؛ أي: أبعدنا عنه، (وجنب)؛ أي: أبعد (الشيطانَ ما رزقتنا)؛ أي: من الّذي رزقتناه من الولد والذرية، (فإنه)؛ أي: الشأن والأمر. (إن يقدر بينهما)؛ أي: الزوجين (ولد) من ذكر أو أنثى (في ذلك) الجماعِ، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاريّ: "ثمَّ قدر بينهما ولد، أو قضي ولد" كذا بالشك (¬5)، وزاد في رواية الكشميهني: "ثمَّ قدر بينهما في ذلك"؛ ¬

_ = (3/ 142)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 344) (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4870). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3098). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 228). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3109، 4870). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4870).

أي: الحال "ولد" (¬1)، وفي رواية سفيان بن عينية عن منصور: "فإن قضى الله بينهما ولدًا"، ومثله في رواية إسرائيل (¬2)، وفي رواية شعبة: "فإن كان بينهما ولد" (¬3). (لم يضره الشيطان أبدًا)، وفي لفظٍ: "لم يضره شيطان أبدًا" (¬4)، وفي لفظٍ للبخاري -أيضًا-: "لم يضره الشيطان، ولم يُسَلَّط عليه" (¬5)، وفي رواية شعبة عند الإمام أحمد ومسلم: "لم يُسَلَّط عليه الشيطان"، أو: "لم يضره الشيطان" (¬6)، وفي لفظٍ عند الإمام أحمد: "لم يضرَّ ذلك الولدَ الشيطانُ أبدًا" (¬7)، وفي مرسل الحسن عند عبد الرزاق: "إذا أتى الرَّجلُ أهلَه، فليقل: باسم الله، اللهم باركْ لنا فيما رزقتنا، ولا تجعل للشيطان نصيبًا فيما رزقتنا" وكان يرجى إن حملت أن يكون ولدًا صالحًا (¬8)؛ يعني: أنه بسبب الذكر المذكور لا يكون للشيطان المبعود المدحور على الولد سلطان، فيكون من المحفوظين. قال في "الفتح": واختلف في الضرر المنفي بعدَ الاتفاق على ما نقل عياض على عدم الحمل على العموم في أنواع الضرر (¬9)، وإن كان ظاهرًا ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 229). (¬2) وهي رواية الإسماعيلي، كما ذكر الحافظ ابن حجر. (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3109). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4870، 6025، 6961)، وعند مسلم برقم (1434). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3109). (¬6) هي رواية الإمام أحمد فقط كما في "مسنده" (1/ 286). (¬7) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 216). (¬8) رواه عبد الرازق في "المصنف" (10467). (¬9) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 610).

في الحمل على عموم الأحوال من صيغة النفي مع التأبيد، وكان سبب ذلك ما ثبت وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - كما في "الصحيح": أن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد، إلا من استثني (¬1)، فإن في هذا الطعن نوعَ ضرر في الجملة، مع أن ذلك سبب صُراخه، ثمَّ اختلفوا، فقيل: المعنى: لم يسلط عليه من أجل بركة التسمية، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، ويؤيده مرسَل الحسن المذكور. وقيل: المراد: لم يطعن في بطنه، وهو بعيد، لمنابذته لظاهر حديث أبي هريرة عند الشيخين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مولود إلا ينخسه الشيطان، فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان، إلا ابنَ مريمَ وأمَّه"، قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬2) [آل عمران: 36]. وفي بعض طرق البخاري: "كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بإصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم، ذهب يطعن، فطعن [في] الحجاب" (¬3)، فليس تخصيص حديث أبي هريرة بأولى من تخصيص هذا. وقيل: المراد: لم يصرعه. وقيل: لم يضره في بدنه. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬2) رواه البخاري (3248)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم: 16]، ومسلم (2366)، كتاب: الفضائل، باب: فضائل عيسى -عليه السلام-. (¬3) رواه البخاري (3112)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده.

وقال: ابن دقيق العيد: يحتمل ألَّا يضره في دينه -أيضًا- (¬1)، ولكن يبعده انتفاء العصمة، وتعقب بأن اختصاص من خص بالعصمة بطريق الوجوب لا بطريق الجواز، فلا مانع أن يوجد من لا تصدر منه معصية عمدًا، وإن لم يكن ذلك واجبًا له. وقال: الداودي: معنى لم يضره: لم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية. وقيل: لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه، كما جاء عن مجاهد: أن الذي يجامع ولا يسمي، يلتف الشيطان على إحليله، فيجامع معه، رواه ابن جرير في "تهذيب الآثار"، ولفظه عن مجاهد، قال: إذا جامع الرجل، ولم يسم، انطوى الجان على إحليله، فجامع معه، فذلك في قوله -تعالى-: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} (¬2) [الرحمن: 74]. قال في "الفتح": ولعل هذا -يعني: ما في ضمن خبر مجاهد- أقربُ الأجوبة، ويتأيد الحمل على الأول بأن الكثير ممن يعرف هذا الفضل العظيم قد يذهل عنه عند إرادة المواقعة، والقليل الذي قد يستحضره ويفعله لا يقع معه الحملة، فإذا كان ذلك نادرًا، لم يبعد. وفي الحديث من الفوائد: استحبابُ التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك في حالة الملاذ، كالوقاع، وفيه الاعتصام بذكر الله ودعائه من الشيطان، والتبرك باسمه، والاستعاذة به من جميع الأسواء، وفيه إشعار بأن الشيطان ملازم لابن آدم، لا ينطرد عنه إلا إذا ذكر الله -تعالى- (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 43). (¬2) ورواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (1/ 384). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 229).

تنبيهات: الأول: قال شيخنا العلامة الشهاب المنيني الحنفي (¬1): إن قلت: لم خولف الأسلوب السابق في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم جنبنا الشيطان"، وكان المطابقة له "وجنب ما رزقتنا الشيطان"؟ قلت: لما كانت بهمجانبة الشيطان من الدواعي متأتية بالاعتصام بهذا الدعاء وبغيره، أرشده - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بإقدار الله -تعالى- عليه، ولما كان ما يُرْزَقه هذا الداعي لا تتأتى منه المجانبة في تلك الحالة إذ هو نطفة، أرشده - صلى الله عليه وسلم - إلى الدعاء بمجانبة الشيطان إياه؛ لأن المجانبة من طرفه غير متأتية. فإن قلت: هلا غَيَّرَ الأسلوبَ الأول إلى الثاني، فتيطابق الأسلوبان، ويحصل المقصود -أيضًا-؛ لأن كل من جانبك فقد جانبته؟ قلت: لم يغير لنكتتين: إحداهما لفظية، والأخرى معنوية. أما اللفظية، فتأتي [من] اتصال الضمير في "جنبنا"، إذ لا يعدل إلى الانفصال مع إمكان الاتصال. وأما المعنوية: فلأن المجانبة لو كانت من قبل الشيطان بترك الوسوسة مثلًا، لم يكن للعبد في ذلك فضيلة ولا ثواب، بخلاف ما إذا كانت من طرف العبد، فإن فيها كفاية لنفسه عن متابعة الشيطان، وله في مباعدة نفسه عن متابعته ثواب، فهو يسأل الله -تعالى- أن يجعله مجانبًا له، ليأمن من غوائل موافقته ويُثاب على المجاهدة والمثابرة على مخالفته. ¬

_ (¬1) انظر: ترجمته في مقدمة هذا الشرح الحافل.

ثمَّ قال: هذا ماظهر لي من بعض أسرار هذا التعبير من البشير النذيره، ومن فمه سمعته، ومن خطه نقلته. قلت: وفي حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - عند الطبراني: "جنبني وجنب ما رزقتنا من الشيطان الرجيم" (¬1)، ففي هذا الحديث المجانبة من طرف المرزق [كالمجامع] (¬2)، والله أعلم. الثاني: روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن ابن مسعود مرفوعًا: أنه إذا أنزل يقول: "اللهم لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبًا" (¬3). قال علماؤنا: فيستحب أن يقول ذلك عند إنزاله. قال في "شرح الوجيز": وهو حسن (¬4). الثالث: قال ابن نصر الله: وتقول المرأة -أيضًا- الذكر، يعني: أنه يشرع لها أن تقول: "باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا". قال: ولم أجده في كلام أصحابنا (¬5)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (7839). (¬2) ما بين: معكوفين سقط من "ب". (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (17154). (¬4) وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 357). (¬5) وانظر: "كشاف القناع" للبهوتي (5/ 194).

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر عَنْ عُقْبهَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إيَّاكُمْ وَالدُّخُولُ عَلَى النِّسَاءِ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قال: "الحَمُوْ: المَوْتُ" (¬1). وَلِمُسْلِم عَنْ أَبي الطَّاهِرِ، عَنْ ابنِ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ اللَّيْثَ يَقُولُ: الحَمُوْ: أَخو الزَّوْجِ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَقَارِبِ الزَّوْجِ، كابْنِ العَمِّ وَنَحْوِهِ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4934)، كتاب: النكاح، باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المُغِيبة، ومسلم (2172/ 20)، كتاب: السلام، باب: تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، والترمذي (1171)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات. (¬2) رواه مسلم (2172/ 21)، كتاب: السلام، باب: تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 60)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 500)، و "شرح مسلم" للنووي (14/ 153)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 44)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1296)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 39)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 331)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 213)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 115)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 241).

(عن) أبي حماد (عقبةَ بنِ عامرٍ) الجهنيِّ (- رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إياكم والدخولَ على النساء) بالنصب على التحذير، وهو تنبيه المخاطب على محذور ليحترز منه، كما قيل: إياك والأسدَ، فقوله: "إياكم" مفعول بفعل مضمر تقديره: اتقوا، وتقدير الكلام: اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء، والنساء أن يدخلن عليكم. ووقع في رواية: "لا تدخلوا على النساء" (¬1). وتضمن: منعُ الدخول منعَ الخلوة بها بطريق الأولى (¬2)، (فقال رجل من الأنصار) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على تسميته (¬3): ([يا رسول الله] أفرأيت الحمو؟، قال) - صلى الله عليه وسلم -: (الحمو) هو (الموتُ). (ولمسلم) منفردًا به عن البخاري (عن أبي الطاهر) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح، مولى عتبة بن أبي سفيان الأموي، فقيه كبير مصري، يروي عن سفيان بن عينية، وعبد الله بن وهب، وخلق، روى عنه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وقال: ثقة، وابن ماجه، وغيرهم، مات يوم الاثنين رابع عشر خلت من ذي القعدة سنة خمسين ومئتين وعمره ثمانون سنة (¬4). (عن) الإمام عبد الله (بنِ وَهْب) هو أبو محمّد عبدُ الله بنُ وهب المصريُّ القرشيُّ الفِهْريُّ، مولى أبي عبد الرحمن يزيدَ بنِ أنسٍ الفهري، فقيه كبير، سمع مالكًا، وما كتب ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (5588)، والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 277)، وغيرهما. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 331). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 65)، و"الثقات" لابن حبّان (8/ 29)، و"تهذيب الكمال" للمزي (1/ 415)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (1/ 55).

مالكٌ - رضي الله عنه - لأحد وعنونه بالفقيه إلاله، وسمع سفيانَ الثوري، وابن أبي ذئب، وابنَ جريج، والليث، وعبدَ العزيز بنَ محمّد الداودي، وخلقًا كثيرًا. وحكى الحافظ عبد الغني المصنف -قدس الله روحه-: أن الذين سمع منهم ابنُ وهب نحوُ أربع مئة رجل. وروى عنه: الليث بن سعد، وسعيد بن أبي مريم، ويحيى بن بكير، وقتيبة بن سعيد، وآخرون. وقال ابن أبي حاتم: نظرت في نحو ثلاثين ألف حديث من حديث ابن وهب في غير مصرة، لا أعلم أني رأيت حديثًا إلا أصلُه له. وقال أحمد بن صالح: حدث ابن وهب بمئة ألف حديث، وقرىء عليه تصنيفه في أحوال يوم القيامة، فخرّ مغشيًا عليه، فلم يتكلم بكلمة حتى مات بعد أيام بمصر سنة سبع وتسعين ومئة، أخرج له الجماعة (¬1). (قال) ابن وهب -رحمه الله تعالى-: (سمعت الليثَ) يعني: ابنَ سعدِ بنِ عبد الرحمن الإمامَ المجتهدَ، يكنى: أبا الحارث، فقيه أهل مصر، يقال: إنه مولى خالد بن ثابت الفَهَمْي -بفتح الفاء وسكون الهاء-، وأهل بيته يقولون: إنه من الفرس، والأول هو المشهور. قال ابن حبان: قال الإمام الشّافعيّ - رضي الله عنه -: كان الليث أفقهَ من مالك، إلا أنه ضيعه أصحابه. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 218)، و"الثقات" لابن حبان (8/ 346)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 277)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 304)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 65).

ولد بقرية في أسفل مصر سنة أربع وتسعين، وقيل: اثنتين وتسعين، وقيل: ثلاثة. روى عن عطاء بن أبي رباح، والزهري، وابن أبي مليكة، وسعيد المقبري، ونافع، وغيرهم. وحدث عنه: هشيم، وابن المبارك، وابن وهب، ويحيى بن بكير، وغيرهم. وقدم بغداد سنة إحدى وستين ومئة، وعرض عليه المنصور ولاية القضاء، فأبى واستعفى. قال يحيى بن بكير: ما رأيت أحدًا أكملَ من الليث بنِ سعد. وقال ابنُ وهب: كل ما في كتاب مالك: أخبرني مَنْ أرضى من أهل العلم، فهو الليث بن سعد. وقال قتيبة بن سعيد: كان الليث بن سعد يستغل في كل سنة عشرين ألف دينار، وما وجبت عليه زكاة. مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومئة، في قول ابن بكير. وقال ابن حبان: إنه مات سنة ست أو سبع وسبعين -رحمه الله، ورضي عنه- (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 517)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 246)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 179)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (7/ 318)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (13/ 3)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (50/ 341)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 382)، و"تهذيب الكمال" للمزي (12/ 532)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (8/ 136)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (8/ 412).

(يقول) في تفسير الحمو (الحَمُوْ) -بفتح الحاء المهملة وضم الميم ثمَّ واو بعدها ساكنة بلا همز- كما جاءت الرواية به كما في "المطالع". قال: وفيه لغات هذه إحداها، ويقال: هذا حَمُك، ورأيت حَمَك، ومررت بحَمِك، ويقال بالهمز: هذا حَمُؤُك، ورأيت حَمَأَك (¬1)، والحاصل: أن فيه خمس لغات، منها: إلزامُه الألف في حالاته الثلاث مثل فتاك. وقال في "الفتح": واختلف في ضبط الحمو، فصرح القرطبي بأن الذي وقع في هذا الحديث: حمؤ -بالهمز- (¬2)، وأما الخطابي، فضبطه بواو غير همز؛ لأنه قال: إنه وزن دَلْو (¬3)، وهو الذي اقتصر عليه أبو عبيد الهروي (¬4)، وابن الأثير (¬5)، وغيرهما، وهو الثابت في روايات البخاري، وفيه لغتان أخريان: إحداهما: حَمْ بوزن أخ، والأخرى: حمى بوزن عصى، ويخرج من ضبط المهموز تحريك الميم لغة أخرى خامسة حكاها صاحب "المحكم"، انتهى (¬6). (أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج كابن العم ونحوه)، ووقع عند الترمذي: يقال: هو أخو الزوج، كره له أن يخلو بها، قال: ومعنى الحديث على نحو ما روي: "لا يخلونّ رجلٌ بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان" (¬7)، انتهى. ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 199). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 551). (¬3) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 71). (¬4) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 353). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 447). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 331 - 332). (¬7) انظر: "سنن الترمذي" (3/ 474).

والحديث الذي أشار إليه أخرجه الإمام أحمد من حديث عامر بن ربيعة - رضي الله عنه (¬1) -. قال: النَّوويُّ: اتفق أهل اللُّغة على أن الأسماء أقاربُ زوج المرأة، كأبيه، وعمه، وأخيه، وابن أخيه، وابن عمه، ونحوهم، وأن الأختانَ أقاربُ زوجة الرجل، وأن الأصهار يقع على النوعين (¬2)، انتهى. وقد اقتصر أبو عبيد، وتبعه ابن فارس، والداودي، على أن الحمو أبو الزوجة، زاد ابن فارس: وأبو الزوج، يعني: أن والد الزوج حمو المرأة، ووالد الزوجة حمو الرجل، وهذا الذي عليه عرف الناس اليوم. قال: الأصمعي، وتبعه الطّبريّ، والخطابي: ما نقله النّوويّ، وكذا نقل عن الخليل، ويؤيده قول عائشة - رضي الله عنها -: ما كان بيني وبين علي إلا ما كان بين المرأة وأحمائها (¬3). وقد قال: النّوويُّ: المراد في الحديث: أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه؛ لأنهم محارم الزوجة، يجوز لهم الخلوة بها، ولا يوصفون بالموت. قال: وإنما المراد: الأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، وابن الأخت، ونحوهم ممن يحل له تزويجها لو لم تكن متزوجة، وقد جرت العادة بالتساهل فيه، فيخلو الأخ بامرأة أخيه، فشبهه بالموت، وهو أولى بالمنع من الأجنبي (¬4)، انتهى. وقد جزم التّرمذيّ وغيره -كما تقدم-، وتبعه المازري بأن الحمو ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 446). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 154). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 331). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 154).

أبو الزوج، وأشار المازري إلى أنه ذكر للتنبيه على منع غيره بطريق الأولى، وتبعه ابن الأثير في "النهاية" (¬1). ورده النّوويّ، فقال: هذا كلام فاسد مردود، ولا يجوز حملُ الحديث عليه (¬2)، انتهى. وفي "الفروع" للإمام العلامةِ ابنِ مفلح: وليكن -يعني: الزوج- غيورًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والدخول على النساء"، وذكر الحديث (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغيرُ منه، والله أغيرُ مني، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهرَ منها وما بَطَنَ" (¬4). قال الشاعر: [من الكامل] لَا يَأْمَنَنَّ عَلَى النِّسَاءِ أَخٌ أَخًا ... مَا فِي الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ أَمِينُ إِنَّ الأَمِينَ وَإِنْ تَحَفَّظَ جُهْدَهَ ... لابُدَّ أَنَّ بِنَظْرَةٍ سَيَخُونُ (¬5) والحاصل: عدمُ جواز الخلوة بالأجنبيات دون المحارم، وهذا الذي استقرت عليه مذاهب الناس من الشريعة الغراء، والله -تعالى- الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 447). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 154). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 331). (¬3) أي: حديث الباب الذي نحن فيه. (¬4) رواه البخاري (6980)، كتاب: التوحيد، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا شخص أغير من الله"، ومسلم (1499)، كتاب: اللعان، من حديث سعد بن عبادة - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "أخبار النساء" لابن القيم (ص: 82). وانظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 240 - 241).

باب الصداق

باب الصداق وهو العَوِضُ المسمَّى في عَقْد النكاح، وما قام مقامَه، وفيه خمس لغات: صَدِاق -بفتح الصادِ المهملة، وبكسرها-، وصَدُقة -بفتح الصاد وضم الدال المهملتين-، وصُدْقة -بسكون الدال مع ضم الصاد وفتحها- كما في "المطلع"، وله ثمانية أسماء: الصداق، والمهر، والنحلة، والفريضة، والأجر، والعُقْر -بضم العين المهملة وسكون القاف-، والحِباء -بكسر الحاء المهملة ممدودًا-، والعلائق، وقد نظمها صاحب "المطلع" في قوله: [من الطويل] صدَاقٌ وَمَهْرٌ نِحْلَةٌ وَفَرِيضَةٌ ... حِبَاءٌ وَأَجْرٌ ثُمَّ عُقْرٌ عَلَائِقُ يقال: أصدقت المرأة، ومهرتها، وأمهرتها، نقلهما الزجاج وغيره (¬1). والأصلُ في مشروعيته: الكتابُ والسنّةُ والإجماعُ: أما الكتاب، فقوله -تعالى-: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24]، وقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24]. ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 326).

وأما السنّة: فما سيذكر بعضه. وأجمع المسلمون على مشروعيته. وذكر الحافظ -رَوَّحَ الله روحه- في هذا الباب ثلاثة أحاديث.

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا (¬1). * * * (عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3964)، كتاب: المغازي، باب غزوة خيبر، و (4798)، كتاب: النكاح، باب: من جعل عتق الأمة صداقها، و (4874)، باب: الوليمة ولو بشاة، ومسلم (1365)، (2/ 1045)، كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمة ثم يتزوجها، وأبو داود (2054)، كتاب: النكاح، باب: في الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها، والنسائي (3342)، كتاب: النكاح، باب: التزويج على العتق، والترمذي (1115)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الرجل يعتق الأمهَ ثم يتزوجها، وابن ماجه (1957)، كتاب: النكاح، باب: الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 595)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 137)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 220)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 45)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1305)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 129)، و"عمدة القاري" للعيني (17/ 238)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 17)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 147)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 296).

صفيةَ) بنتَ حُيَيِّ بنِ أخطبَ أُمَّ المؤمنين - رضي الله عنها -، وتقدمت ترجمتها في "الاعتكاف"، (وجعل) - صلى الله عليه وسلم - (عتقَها صداقَها)، أخذ بهذا الإمام أحمد - رضي الله عنه -. قال الإمام ابن القيم في "الهدي": ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه أعتق صفية - رضي الله عنها -، وجعل عتقها صداقها، قيل لأنس بن مالك - رضي الله عنه -: ما أصدقَها؟ قال: أصدقَها نفسَها (¬1). وقد ذهب إلى جواز ذلك عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وفعله أنسُ بن مالك، وهو مذهب أعلم التابعين وسيدهم سعيدِ بنِ المسيب، وأبي سلمةَ بنِ عبد الرحمن، والحسنِ البصري، والزهري، وإسحاق (¬2)، انتهى. وفي "شرح البخاريّ" للحافظ ابن حجر: أنه ذهب للقول بصحة ذلك -أيضًا-: إبراهيمُ النخعي، وطاوس، والزهري، ومن فقهاء الأمصار: الثوري، وأبو يوسف، فقال هؤلاء كإمامنا: إذا أعتق أمته على أن يجعل عتقها صداقها، صح العتق والعقد والمهر على ظاهر الحديث. وقول أنس - رضي الله عنه -: أمهرها نفسَها (¬3)، ظاهر جدًا في أن المجعول مهرًا هو نفس العتق. وأجاب من لم يقل بصحة ذلك بأجوبة عن ظاهر هذا الحديث، منها: أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجب له عليها قيمتها، وكانت معلومة، فتزوجها بها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3965)، كتاب: المغازي، باب: غز وة خيبر، ومسلم (1365)، كما تقدم عنه قريبًا. (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 156). (¬3) رواه البخاري (905)، كتاب: صلاة الخوف، باب: التبكير والغلس بالصبح.

وقال بعضهم: بل جعل - صلى الله عليه وسلم - نفسَ العتق المهرَ، ولكنه من خصائصه، فجعل الجواب عن ظاهر الحديث: أن ذلك من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لا تشاركه فيها أمته، وممن جزم بذلك الماوردي من الشّافعيّة. وقال آخرون: قوله: أعتقها وتزوجها، معناه: أعتقها، ثمَّ تزوجها، فلما لم يعلم أنس - رضي الله عنه - أنه ساق لها صداقًا، قال: أصدقها نفسَها؛ أي: لم يصدقها فيما أعلم، ولم ينف أصل الصداق. ومن ثمَّ قال أبو الطيب الطبري من الشّافعيّة، وابنُ المرابط من المالكية، ومن تبعهما: إن قول أنس قاله ظنًا من قِبل نفسه، ولم يرفعه، وربما تعللوا بما أخرجه البيهقي من حديث أميمة، ويقال: أمة الله بنت رزينة، عن أمها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية، وخطبها، وتزوجها، وأمهرها رزينة (¬1)، وكان أتى بها سبية من قريظة والنضير، وهذا لا تقوم به حجة، لضعف إسناده، ويعارضه ما أخرجه الطبراني، وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها، قالت: أعتقني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل عتقي صداقي، رواه الأثرم -أيضًا (¬2) -، وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال: إن أنسًا قال ذلك بناء على ما ظنه، ثمَّ إن هذا الحديث الذي ذكره البيهقي خلاف ما عليه كافة أهل السير من أن صفية من سبي خيبرو لا من سبي قريظة والنضير. وأجاب بعضهم: أن حديث أنس باحتمال أنه - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية - رضي الله عنها - بغير عوض، وتزوجها بغير مهر في الحال ولا في المآل. قال ابن الصلاح: معناه: أن العتق حلَّ محل الصداق، وإن لم يكن ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 128). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 73)، وفي "المعجم الأوسط" (4953)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (7/ 115).

صداقًا، قال: وهذا كقولهم: الجوعُ زادُ من لا زادَ له، قال: وهذا الوجه أصحُّ الأوجه وأقربُها إلى لفظ الحديث. وتبعه النّوويّ في "الروضة" (¬1). قال في "الفتح": ومن المستغربات قولُ التّرمذيّ بعد أن أخرج الحديث: وهو قول الشّافعيّ، وأحمد، وإسحاق. قال: وكره بعض أهل العلم أن يجعل عتقَها صداقَها حتى يجعل لها مهرًا سوى العتق، والقول الأول أصح، وكذا نقل ابن حزم عن الشافعي. قال الحافظ في "الفتح": والمعروف عند الشافعية أن ذلك لا يصح، لكن لعل مراد من نقله عنه صورة الاحتمال الأول، ولاسيما نص الشّافعيّ على من أعتق أمته على أن يتزوجها، فقبلت، عتقت، ولم يلزمها أن تتزوج به، لكن يلزمها له قيمتها؛ لأنه لم يرض بعتقها مجانًا، فصار كسائر الشروط الفاسدة، فإن رضيت وتزوجته على مهرٍ يتفقان عليه، كان لها ذلك المسمى، وعليها له قيمتها، فإن اتحداو تقاصا. قال في "الفتح": وممن قال بقول الإمام أحمد من الشافعية: ابنُ حبان، صرّح بذلك في "صحيحه" (¬2). قال ابن دقيق العيد: الظاهرُ مع الإمام أحمد ومن وافقه، والقياسُ مع الآخرين، فيتردد الحال بين ظن نشأ عن قياس، وبين ظن نشأ عن ظاهر الخبر، مع كون ما تحتمله الواقعة من الخصوصية، وهي وإن كانت على خلاف الأصل، لكن يتقوى ذلك بكثرة خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - في النكاح، ¬

_ (¬1) انظر "روضة الطالبين" للنووي (7/ 11). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 131).

وخصوصًا خصوصيته بتزويج الواهبة من قوله -تعالى-: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] الآية (¬1). وممن جزم بأن ذلك كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -: يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقي، قال: وكذا نقله المزني عن الشافعي، قال: وموضع الخصوصية: أنه أعتقها مطلقًا، وتزوجها بغير مهر ولا ولي ولا شهود (¬2)، وهذا بخلاف غيره (¬3). قلت: وقد أطالوا في رد ظاهر الحديث بأقيسة جدلية وتخيلات فكرية لا طائل تحتها، وما دلّ عليه الحديث الصحيح هو الصحيح. ولذا قال: الإمام ابن القيم في "الهدي": والقول الأولُ هو الموافق للسنّة، وأقوال الصحابة، والقياس، فإنّه كان يملك رقبتها وملكها، فأزال ملكه عن رقبتها، وأبقى ملك المنفعة بعقد النكاح، فهو أولى بالجواز مما لو أعتقها واستثنى خدمتها (¬4). تنبيه: معتمد مذهب الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أنه إذا قال لأمته القِنِّ، أو المدَبَّرة، أو المكاتَبة، أو أُمِّ ولده، أو المعلَّقِ عتقُها على صفةٍ بشرطِ كونها تحلُّ له إذن: أعتقتك، وجعلت عتقك صداقك، أو جعلت عتق أمتي صداقَها، أو صداقُ أمتي عتقُها، أو قد أعتقتها، وجعلت عتقها صداقها، أو أعتقيها على أن عتقها صداقها، أو أعتقتك على أن أتزوجك وعتقك ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 46 - 47). (¬2) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 128). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 130). (¬4) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 156).

صداقك، صحَّ بشرط كونه متصلًا، نصًا، وأن يكون بحضرة شاهدين، نصّ عليه في رواية ابنه عبد الله -رحمهما الله ورضي عنهما-، وفي رواية مرجوحة عنه: أنه لا يصح حتى يستأنف نكاحها بإذثها، فإن أبت، فعليها قيمتها، وعنه رواية ثالثة: أنه يوكل رجلًا يزوجه إياها، وعلى معتمد المذهب: إن طلقها قبل الدخول بها، رجع عليها بنصف قيمتها وقتَ الاعتاق، فإن لم تكن قادرة، أُجبرت على الاستسعاء، نصًا، فإن أدت، أو فعلت ما يفسخ نكاحها؛ مثل أن أرضعت له زوجة صغيرة قبل الدخول، فعليها قيمة نفسها (¬1)، والله -تعالى- الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 140)، و"الإقناع" للحجاوي (3/ 330).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَاَلَتْ: إنِّي وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ، فَقَامَتْ طَوِيلًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! زَوِّجْنِيهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، فَقَالَ: "هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءَ تُصْدِقُهَا؟ "، فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِزَارُكَ إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ، جَلَسْتَ وَلَا إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا"، فَقَالَ: مَا أَجِدُ، قَالَ: "فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ"، فَالْتَمَسَ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2186)، كتاب: الوكالة، باب: وكالة المرأة الإمامَ في النكاح، و (4741)، كتاب: فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، و (4742)، باب: القراءة عن ظهر القلب، و (4839)، كتاب: النكاح، باب: تزويج المعسر، و (4829)، باب: عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، و (4833)، باب: قول الله عز وجل: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235]، و (8439)، باب: إذا الولي هو الخاطب، و (4842)، باب: السلطان ولي، و (4847)، باب: إذا قال الخاطب للولي: زوجني فلانة، و (4854)، باب: التزويج على القرآن وبغير الصداق، و (4855)، باب: المهر بالعروض وخاتم من حديد، و (5533)، كتاب: اللباس، باب: خاتم الحديد، و (6981)، كتاب: التوحيد، باب: {قُلْ أَىُّ شَئٍ =

(عن) أبي العباس (سهلِ بنِ سعدِ) بنِ مالكٍ (الساعديِّ) الخزرجيِّ الأنصاريِّ (- رضي الله عنه -) كان اسمه حَزْنًا، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سهلًا، مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وله خمسَ عشرةَ سنةً، ومات سهلٌ بالمدينة سنة إحدى وتسعين، وتقدمت ترجمته في أول باب: صلاة الجمعة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة) هي: أم شريك، واسمها غُزِّيَّة -بضم الغين وتشديد الزاي مكسورة- من دوس من الأزد، وقيل: غُزَيلة -بضم الغين المعجمة وفتح الزاي- بنتُ دوران، وقيل: بنت جابر، وقيل: خولة بنت حكيم امرأةُ عثمان بن مظعون، وقيل: أُمُّ سليك العامرية، ويقال: الأنصارية، وقيل: اسمها ميمونة بنت حكيم، وقيل: بنت خزيمة الأنصارية، ذكره البرماوي (¬1). ¬

_ = أَكْبَرُ شَهَدَةً} [الأنعام: 19]، ومسلم (1425/ 76 - 77)، كتاب: النكاح، باب: الصداق، وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، وأبو داود (2111)، كتاب: النكاح، باب: في التزويج على العمل يعمل، والنسائي (3280)، كتاب: النكاح، باب: الكلام الذي ينعقد به النكاح، و (3339)، باب: التزويج على سور من القرآن، و (3359)، باب: هبة المرأة نفسها لرجل بغير صداق، والترمذي (1114)، كتاب: النكاح، باب: (23)، وابن ماجه (1889)، كتاب: النكاح، باب: صداق النساء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 210)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 407)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 35)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 578)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 127)، و "شرح مسلم" للنووي (9/ 211)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 127)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1302)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 278)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 191)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 140)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 53)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 114)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 27) (¬1) وانظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 668 - 670).

وفي "الفتح" ما نصه: وهذه المرأة لم أقف على اسمها. ووقع في "الأحكام" لابن الطلاع (¬1): أن خولة بنت حكيم، أو أم شريك، وهذا نقل عن اسم الواهبة الوارد في قوله -تعالى-: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} (¬2) [الأحزاب: 50]. وفي تفسير سورة الأحزاب من "الفتح" -أيضًا- من حديث عائشة - رضي الله عنها -: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن (¬3)، هذا ظاهرٌ في أن الواهبة أكثر من واحدة، وذكر الواهبة في قصة حديث سهل، وذكر أخرى في حديث أنس: أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إن لي ابنة، فذكرت من جمالها، فآثرتُكَ بها، فقال: "قد قبلتها"، فلم تزل تذكر حتى قالت: لم تُصْدع قط، فقال: "لا حاجة لي في ابنتك"، وأخرجه الإمام أحمد -أيضًا- (¬4). قال الحافظ في "الفتح": وهذه امرأة أخرى بلا شك. وعند ابن أبي حاتم من حديث عائشة - رضي الله عنها -: التي وهبت نفسها للنبي هي خولة بنت حكيم (¬5). قال: ومن الواهبات أم شريك، ¬

_ (¬1) هو محمد بن فرج أبو جعفر القرطبي المشهور بابن الطلاع، المتوفى سنة (497 هـ)، وكتابه هو: "أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم -". انظر: "كشف الظنون" لحاجي (1/ 485). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 206). (¬3) رواه البخاري (4510)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51]، ومسلم (1464)، كتاب: الرضاع، باب: جواز هبتها نوبتها لضرتها. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (8/ 525). (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3143).

وأخرجه النّسائيّ من طريق عروة (¬1)، وعند أبي عبيدة معمرِ بنِ المثنى: أن من الواهبات فاطمة بنت شريح، وقيل: إن ليلى بنت الحُطيم ممن وهبت نفسها له - صلى الله عليه وسلم -، ومنهن زينبُ بنتُ خزيمة، جاء عن الشعبي، -وليس بثابت-. وخولة بنت حكيم، قال: وهو في هذا الصحيح (¬2). ومن طريق قتادة عن ابن عباس، قال: التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - هي ميمونةُ بنتُ الحارث وهذا منقطع، ورواه من وجهٍ آخر مرسل ضعيف (¬3)، ويعارضه حديث سِماك عن عِكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: لم يكن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ وهبت نفسها له، أخرجه الطبري، وإسناده حسن (¬4)، والمراد: أنه لم يدخل بواحدة ممن وهبت نفسها له، وإن كان مباحًا له؛ لأنه راجعٌ إلى إرادته، لقوله -تعالى-: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} (¬5) [الأحزاب: 50]، (فقالت) تلك المرأة: يا رسول الله! (إني) قد (وهبت نفسي لك). وفي لفظ: قال سهل بنُ سعدٍ الساعدي: إني لفي القوم عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قامت امرأة (¬6)، وفي لفظ: فيما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أتت امرأة إليه، وفي رواية سفيان الثوري عند الإسماعيلي: جاءت امرأة ¬

_ (¬1) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (8928). (¬2) رواه البخاري (4823)، كتاب: النكاح، باب: هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد. (¬3) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3144)، والحاكم في "المستدرك" (6803). (¬4) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (22/ 23). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 525 - 526). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4854).

إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد، فأفاد تعيينَ المكان الذي وقعت فيه القصة (¬1). وفي لفظ: أنها قالت: إنها وهبت نفسها لله ورسوله (¬2). في كلّ هذه الروايات حذفُ مضاف تقديرُه: أمر نفسي، أو نحوه، وإلا، فالحقيقة غير مرادة؛ لأن رقبة الحر لا تُملك، فكأنها قالت: أتزوجك من غير عوض (¬3)، (فقامت طويلًا) كذا في رواية الإمام مالك، ومثله الثوري. وفي لفظ: أنها قالت: يا رسول الله! جئتُ أهبُ لك نفسي، فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصَعَّدَ النظرَ فيها وصَوَّبه، ثمّ طأطأَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، فلما نظرت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا، جلست، رواه مسلم (¬4)، وأخرجه البخاري في باب التزويج على القرآن، وعلى غير صداق، وذكر فيه: أنها وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، تعيد القول عليه، فلا يجيبها بشيء (¬5). وفي بعض ألفاظه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "ما لي اليوم بالنساء من حاجة" (¬6). (فقال رجل)، وفي لفظ: فقام رجل (¬7)، فقال: (يا رسول الله! ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 206). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4741). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 206). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1425/ 76)، وكذا البخاري برقم (4799). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4854). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4847). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقنم (4742)، وعند مسلم برقم (1425/ 76).

زَوِّجنيها)، وفي لفظ عند البخاريّ وغيره: أنكحنيها (¬1) (إن لم يكن لك بها حاجة)، ولا يعارض هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية حماد بن زيد "لا حاجة لي"، لجواز أن تتجدد الرغبة فيها بعد أن لم تكن (¬2). قال البرماوي: لم نصل إلى اسم الرجل الذي تزوج بها. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": لم أقف على اسمه، لكن وقع في رواية معمر، والثوري عند الطبراني: فقام رجل أحسبه من الأنصار (¬3)، وفي رواية زائدة عنده: فقال رجل من الأنصار (¬4)، ووقع في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ينكح هذه؟ "، فقام رجل (¬5)، (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (هل عندك من شيء تُصْدِقُها؟). وفي حديث ابن مسعود: "ألك مال؟ " (¬6) (فقال) الرجل: لا، واللهِ! يا رسولَ الله (ما عندي إلا إزاري هذا)، زاد في رواية هشام بن سعد: قال: "فلابد لها من شيء" (¬7)، وفي رواية قال: والذي بعثك بالحق! ما أملك شيئًا (¬8)، (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرجل) لمّا عرض إزاره: (إزارُك إن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4854). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 207). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (5961). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (5980). (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 249). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 207). (¬6) تقدم تخريجه آنفًا. (¬7) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (5750). (¬8) رواه أبو عمر بن حيوة في "فوائده" من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 207).

أعطيتَها) يجوز في إزارك الرفع على الابتداء، والجملة الشرطية الخبر، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إياه؛ كما ثبت كذلك في رواية، ويجوز النصب على أنه مفعول ثان لأعطيتها، والإزارُ يذكَّر ويؤنَّث. وقد جاء هنا مذكرًا (جلست ولا إزارَ لك) فيه الإرشاد إلى المصالح من الكبير، والرفق بالرعية، وجملة "ولا إزار لك" جملة حالية (¬1) (فالتمسْ)؛ أي: اطلب، ومنه حديث: "من سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا" (¬2)؛ أي: يطلبه، وحديثُ عائشة: فالتمستُ عِقْدي (¬3) (شيئًا) قَلَّ أو جَلَّ، (فقال) الرجل: (ما أجد) شيئًا، (قال) - صلى الله عليه وسلم -: (فالتمسْ ولو خاتمًا من حديد، فالتمس) الرجلُ (فلم يجد شيئًا) ولا خاتمًا من حديد، وإنما تنزَّلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ما ذكر حرصًا على استحباب عدم خلو العَقْد من ذكر الصَّداق؛ لأنه أقطعُ للنزاع، وأنفعُ للمرأة، وبه استدل علماؤنا كالشّافعيّة على جواز الصداق بما قل أو أكثر (¬4). قال الإمام ابن القيم في "الهدي": ثبت في "صحيح مسلم" عن عائشة - رضي الله عنها -: كان صداق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونَشًّا، فذلك خمس مئة درهم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 207). (¬2) رواه مسلم (2699)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (2518)، كتاب: الشهادات، باب: تعديل النساء بعضهن بعضًا، ومسلم (2770)، كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك وقبول توبة القاذف. وانظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 270 - 271). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 48). (¬5) رواه مسلم (1426)، كتاب: النكاح، باب: الصداق، وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد.

قال عمر - رضي الله عنه -: ما علمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نكح شيئًا من نسائه ولا أنكح شيئًا من بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقية. قال الترمذي: حديثٌ حسن صحيح (¬1). والأوقية أربعون درهمًا. وفي "الصحيح" من حديث سهل بن سعد الساعدي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "تزوج ولو بخاتم من حديد" (¬2). وفي "سنن أبي داود" من حديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أعطى في صداق ملءَ كفيه سويقًا أو تمرًا، فقد استحل" (¬3). وفي التّرمذيّ: أن امرأة من فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رضيتِ من نفسِكِ ومالِكِ بنعلين؟ "، فقالت: نعم، فأجازه. قال التّرمذيّ: حديث صحيح (¬4). وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أعظم النكاح بركةً أيسرُه مؤنةً" (¬5). كل هذه الأحاديث وغيرها مما لم نذكره تدل على عدم اعتبار تحديد الصداق بنحو أربع دراهم أو عشرة كما ترى. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1115)، كتاب: النكاح، باب: (23). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4855). (¬3) رواه أبو داود (2110)، كتاب: النكاح، باب: قلة المهر. (¬4) رواه الترمذي (1113)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في مهور النساء. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 82). وانظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 176 - 177).

وقال الإمام مالك: لا يكون المهر أقلَّ من ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو قيمتها. ومذهب الإمام أبي حنيفة: أن أقله عشرة دراهم، واستدل بحديث: "لامهرَ أقلُّ من عشرة دراهم" (¬1). قال الإمام ابن القيم في أول كتابه "إعلام الموقعين": أجمعوا على ضعف هذا الحديث، بل على بطلانه (¬2)، انتهى. ومذهب بعضهم: أن أقله خمسة دراهم. وهذه أقوال لا دليل عليها من كتاب ولا سنّة، ولا إجماع ولا قياس، ولا قول صحابي، ومن ادعى في هذه الأحاديث التي ذكرناها اختصاصها بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو أما منسوخة، أو أن عمل أهل المدينة على خلافه، فقد جاء بدعوى لا يقوم عليها دليل، والأصلُ يردُّها، وقد زوج سيدُ أهل المدينة من التابعين سعيدُ بنُ المسيَّب ابنتَه على درهمين، ولم ينكر عليه أحد، بل عدّ ذلك في مناقبه وفضائله، ولا سبيل إلى إثبات المقادير لها من جهة صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، انتهى. قلت: ذكر الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رَوَّحَ الله روحَه- في "الرسالة المالكية والتنبيه على بعض ما امتاز أهل المدينة به من العلم": أن بعض المدنيين قد اعترض على الإمام مالك - رضي الله عنه - لمّا حدّ المهر بثلاثة دراهم، فقال: ولسنا ننكر أن من الناس من أنكر على الإمام مالك مخالفتَه ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 245)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 240)، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬2) أنظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (1/ 32). (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 179).

لبعض الأحاديث في بعض المسائل، كما يذكر عن عبد العزيز الدراوردي، روي أنه قال: له في مسألة تقدير المهر بنصاب السّرقة: تَعَرَّقْتَ يا أبا عبد الله؛ أي: صرت فيها إلى قول أهل العراق الذين يقدرون أقل المهر بنصاب السّرقة، لكن النصاب عند أبي حنيفة وأصحابه عشرة دراهم، وأما مالك، والشّافعيّ، وأحمد، فالنصاب عندهم ثلاثة دراهم، أو ربع دينار كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. ثمَّ قال شيخ الإسلام: هذه الحكاية تدل على ضعف أقوال أهل العراق عند أهل المدينة، وأنهم كانوا يكرهون للرجل أن يوافقهم، وهذا مشهورٌ عندهم، كما قال ابن عمر - رضي الله عنهما - لمن استفتاه عن دم البعوض؛ يعني: من قوله: انظروا هذا، يستفتي في دم البعوض، وقد أراقوا دم الحسين بن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو كما قال. ثمَّ إن شيخ الإسلام اعتذر عن الإمام مالك بأنه ما من عالم إلا وله ما يُرد عليه، والله أعلم (¬1). (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) للرجل بعد أمره له أن يلتمس شيئًا، ولو خاتمًا من حديد، فلم يجد شيئًا: (زوجتكها)، وفي لفظ: "اذهب فقد زوجتكها" (¬2) (بما معك من القرآن)، وفي رواية: "قد ملّكتكها بما معك من القرآن" (¬3)، وفي لفظ عند الإمام أحمد: "قد أملكتكها"، والباقي مثله، وقال في آخره: فرأيته يمضي وهي تتبعه (¬4)، وفي حديث ابن مسعود: "قد أنكحتكها على ¬

_ (¬1) وانظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (20/ 326 - 327). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4839). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4742، 4799، 4833، 4847، 5533). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 334).

أن تقرئها وتعلمها، وإذا رزقك الله، عوضتها" (¬1). قال في "الفتح": في هذا الحديث دليل على أنه لاحد لأقل المهر. قال: ابن المنذر: فيه ردٌّ على من زعم أن أقل المهر عشرة دراهم، وكذا ربع دينار؛ لأن خاتمًا خاتمًا من حديد لا يساوي ذلك. وقال: المازري: تعلق به من أجاز النكاح بأقل من ربع دينار؛ لأنه خرج مخرج التقليل، ولكن مالكًا قاسه على القطع في السرقة. قال: القاضي عياض: تفرد بهذا مالك عن الحجازيين، لكن مستنده الالتفات إلى قوله -تعالى-: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، وبقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25]، فإنه يدل على أن المراد: ما له بالٌ من المال، وأقلّه ما استُبيح به قطع العضو المحترم. قال: وأجازه الشافعية بما تراضى عليه الزوجان، أو من العقد إليه بما فيه منفعة، كالسوط والنعل، وإن كانت قيمته أقل من درهم، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو الزناد، وربيعة، وابن أبي ذئب، وغيرهم من أهل المدينة غير مالك ومن تبعه، وابن جريج، ومسلم بن خالد من أهل مكة، والأوزاعي من أهل الشام، والليث من أهل مصر، والثوري، وابن أبي ليلى، وغيرهما من العراقيين غير أبي حنيفة ومن تبعه، والشّافعيّ، وداود، وفقهاء أصحاب الحديث، وابن وهب من المالكية. وقال: ابن شبرمة: أقل المهر خمسة دراهم (¬2). قال: القرطبي: استدل من قاسه بنصاب السّقة بأنه عضو آدمي محترم، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند الدارقطني والبيهقي. (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 579).

فلا يستباح بأقل من كذا، قياسًا على يد السارق (¬1)، وتعقبه الجمهور بأنه قياس في مقابل النص، فلا يصح، وبأن اليد تقطع وتبين، ولا كذلك الفرج، وبأن القدر المسروق يجب على السارق رده مع القطع، ولا كذلك الصداق، وقد ضعّف جماعة من المالكية هذا القياس. فقال: أبو الحسن اللخمي: قياس قدر الصداق بنصاب السرقة ليس بالبيّن؛ لأن اليد إنما قُطعت في ربع دينار نكالًا للمعصية، والنكاح مستباح بوجهٍ جائز. ونحوه لأبي عبد الله بن الفخار عنهم، نعم قوله -تعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25]، يدل على أن صداق الحرة لابد وأن يكون ما ينطلق عليه اسم مال له قدر، ليجعل الفرق بينه وبين مهر الأمة. وأما قوله -تعالى-: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، فإنه يدل على اشتراط ما يسمى مالًا في الجملة، قَلَّ أو كَثُر، وقد حدّه بعض المالكية بما تجب فيه الزكاة، وهو أقوى من قياسه على نصاب السرقة، وأقوى من ذلك رَدُّه إلى المتعارَف. وقال ابن العربي: وزن الخاتم من الحديد لا يساوي ربع دينار، وهو مما لا جواب عنه، ولا عذر فيه. لكن المحققين من أصحابنا نظروا إلى قوله -تعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25]، فمنع الله القادر على الطول من نكاح الأمة، فلو كان الطول درهمًا، ما تعذر على أحد، ثمَّ تعقبه بأن ثلاثة دراهم كذلك (¬2)، يعني: فلا حجة فيه للتحديد، ولاسيما مع الاختلاف في المراد بالطول (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 129). (¬2) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 33 - 34). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 210).

تنبيهات: الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "زوجتكها"، ومنهم من رواه: "مَلَّكتكها"، وفي لفظ: "ملكتها" -كما مر- مما اختلف فيه العلماء، والمشهور من مذهب المالكية جوازه بكل لفظ دل على معناه إذا قرن بذلك الصداق، أو قصد النكاح، كالتمليك والهِبَة والصدقة والبيع، ولا يصح عندهم بلفظ الإجارة ولا العارية ولا الوصية، واختلف عندهم في الإحلال والإباحة. وأجازه الحنفية بكل لفظ يقتضي التأبيد مع القصد، وموضع الدليل من هذا الحديث ورود قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ملكتكها"، لكن ورد -أيضًا- بلفظ: "زوجتكها". قال ابن دقيق العيد: هذه لفظة واحدة في قصة واحدة اختلف فيها، مع اتحاد مخرج الحديث، فالظاهر أن الواقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدُ الألفاظ المذكورة. فالصواب في مثل هذا النظرُ إلى الترجيح. وقد نقل عن الدارقطني: أن الصواب رواية من روى: "زوجتكها"، وأنهم أكثرُ وأحفظ. قال: وقال بعض المتأخرين -يعني: النّوويّ في "شرح مسلم" (¬1) - يحتمل صحة اللفظين، ويكون قال لفظَ التزويج أولًا، ثمَّ قال: "اذهب فقد ملكتكها"، والتزويجُ السابقُ، واستبعده ابن دقيق العيد؛ لأن سياق الحديث يقتضي تعين لفظة: قبلت، لا تعددها، وأنها هي التي انعقد بها النكاح، وما ذكره يقتضي وقوع أمر آخر انعقد به النكاح، والذي قاله بعيد جدًا، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 214).

أيضًا- فملخصه أن يعكس، ويدّعي أن العقد وقع بلفظ التمليك. ثمَّ قال: "زوجتكها" التمليكُ السابق، قال: ثمَّ إنه لم يتعرض لرواية: "ملكتكها" مع ثبوتها، وكل هذا يقتضي تعين المصير إلى الترجيح (¬1). وقال الحافظ ابن الجوزي في "التحقيق": إن رواية أبي غسان: "أنكحتكها"، ورواية: الباقين: "زوجتكها" إلا ثلاثة أنفس، وهم: معمر، ويعقوب، وابن أبي حازم، قال: ومعمر كثير الغلط، والآخران لم يكونا حافظين (¬2)، انتهى. واعترض عليه في رواية أبي غسان، فإنها بلفظ: "أنكحتكها" في جميع نسخ البخاريّ، نعم وقعت بلفظ: "زوجتكها" عند الإسماعيلي من طريق حسين بن محمّد، وقد خرّجه أبو نعيم في "المستخرج" بلفظ: "أنكحتكها"، فهذه ثلاثة ألفاظ عن أبي غسان، ورواية: "أنكحتكها" في "البخاري" لابن عُيينة، كما حرره الحافظ ابن حجر في "الفتح"، ورد الحافظ ابن حجر الطعن في الثلاثة المذكورين، ثم قال: نعم، الذي تحرر: أن الذي رووه بلفظ التزويج أكثر عددًا، ولاسيما وفيهم الحفاظ مثل الإمام مالك، ورواية سفيان بن عُيينة: "أنكحتكها" مساويةٌ لروايتهم. والحاصل: أن رواية التزويج أو الإنكاح أرجح، كما قرره غير واحد من الحفاظ، آخرهم الحافظ ابن حجر في "الفتح". وبالغ ابنُ التين فقال: أجمع أهلُ الحديث على أن الصحيح رواية: "زوجتكها"، وأن رواية "ملّكتكها" وهَمْ، وتعلق بعض المتأخرين بأن الذين اختلفوا في هذه اللفظة أئمة، فلولا أن هذه الألفاظ عندهم مترادفة، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 48 - 49). (¬2) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (2/ 272).

ما عبّروا بها، فدلّ على أن كل لفظ منها يقوم مقام الآخر عند ذلك الإمام، وهذا لا يكفي في الاحتجاج لجواز انعقاد النكاح بكل لفظة منها. وقد ذهب جمهور من العلماء إلى أن النكاح ينعقد بكل لفظ يدل عليه، وهو قول الحنفية، والمالكية، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وقد اختلف الترجيح في مذهبه - رضي الله عنه -، فأكثر نصوصه تدل على موافقة أبي حنيفة، ومالك، والجمهور (¬1). قال في "الفروع": ذكر ابن عقيل عن بعضهم: أنه خرج صحته بكل لفظ يقتضي التمليك، وخرجه هو في "عمد الأدلة" من جعلِه عتقَ أمتِه مهرَها. قال: وقال شيخنا- يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: ينعقد بما عده الناس نكاحًا بأي لغة ولفظ وفعل كان، وإن مثله كل عقد، وإن الشرط بين الناس ما عدوه شرطًا فالأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع، وتارة باللغة، وتارة بالعرف، وكذلك العقود (¬2). قلت: الذي استقر عليه المذهب: اعتبارُ الإيجاب والقبول، فلا ينعقد النكاح إلا بهما مرتبين، الإيجاب أولًا، وهو اللفظ الصادر من قبل الولي، أو من يقوم مقامه، فالقَبولُ بعده، وهو اللفظ الصادر من قبل الزوج، أو من يقوم مقامه، ولا يصح إيجاب ممّن يحسن العربية إلا بلفظ: أنكحت، أو زوجت، ولمن يملكها، أو يملك بعضها، وبعضُها الآخر حر: أعتقها وجعلت عتقها صداقها، ونحوه، ولا يصح قَبولٌ لمن يحسن العربية إلا قبلت تزويجها ونكاحها، أو قبلت هذا النكاح، أو هذا التزويج، أو تزوجت، أو رضيت هذا النكاح، أو قبلت فقط، أو تزوجت. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 214 - 215). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 123).

واختار الموفق، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وجمعٌ انعقادَه بغير العربية، ولو أحسنها (¬1). ومذهب الشافعي - رضي الله عنه - في اعتبار لفظ التزويج أو الإنكاح كمذهبنا. الثاني: دل الحديث على اعتبار الصداق، فلا يكون عقد بلا مهر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هل عندك من شيء؟ "، وقد أجمعوا على أنه لا يجوز لأحد أن يطأ فرجًا وُهِب له دون الرقبة بغير صداق. وفيه: أن الأولى أن يذكر الصداق في العقد؛ لأنه أقطعُ للنزاع، فلو عُقد بغير صداق، صحَّ، ووجب لها مهرُ المثل بالدخول، على الصحيح. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - للرجل: "هل عندك من شيء"، فقال: لا، دليلٌ على صحة عقد النكاح ممن لا يملك شيئًا (¬2). وقد نقل القاضي عياض الإجماع على أن مثل الشيء الذي لا يُتمول، ولا له قيمة، لا يكون صداقًا، ولا يحل النكاح به. وقد خرق هذا الإجماع أبو محمد بن حزم، فقال: يجوز بكل ما يسمى شيئًا، ولو حبة من شعير (¬3)، ويؤيد ما ذهب إليه الكافة قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "التمس ولو خاتمًا من حديد"؛ لأنه أورده مورد التقليل بالنسبة لما فوقه، ولا شك أن الخاتم من حديد له قيمة، وهو أعلى خطرًا من النواة وحبة الشعير، ومساقُ الخبر يدل على أنه لا شيء دونه يُستحل به البُضع، وأقلُّ ما ورد من الصداق ما عند الدارقطني من حديث أبي سعيد في أثناء حديث المهر: ولو ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 315). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 48). (¬3) انظر: "المحلى" لابن حزم (9/ 494).

على سواك من أراك (¬1)، وأقوى شيء ورد في ذلك حديثُ جابر عند مسلم: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نَهَى عنها عمر (¬2). قال البيهقي: إنما نهى عمر عن النكاح إلى أجل، لا عن قدر الصداق (¬3). قال في "الفتح": وهو كما قال (¬4). قلت: الّذي اعتمده علماؤنا كالشافعية: كلُّ ما صح ثمنًا أو أجرة، صح أن يكون مهرًا، وإن قل، من عين أو دين ومؤجل، ومنفعة معلومة، كرعاية ضمنها مدة معلومة، وخياطة ثوب، لا ما لا يُتمول عادة، كحبة حنطة وشعير. قال في "الإقناع": ويجب أن يكون له نصف يُتمول عادة، ويبذل العوض في مثله عرفًا، والمراد: نصف القيمة، لا نصف عين الصداق (¬5). قال الإمام ابن هبيرة في "اختلاف الأئمة": وقد حدَّ الخرقي في ذلك بما له نصف يحصل، وكان الشيخ محمد بن يحيى يقول: إنما عنى بذلك الخرقي الجزء الذي يقبل التجزئة، قال: وعلى ذلك، فهو كلام صحيح، فإنه لو طلقها قبل الدخول، استحقت النصف (¬6)، انتهى. ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 244)، لكن من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: "ولو قضيب من أراك". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 237). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 211). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 378). (¬6) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 135).

وفي "الغاية": وشرط جمعٌ أن يكون له نصف يُتمول عادة، ويُبذل العوض في مثله عرفًا (¬1). وفي "شرح الوجيز": ظاهر إطلاق الإمام أحمد وعامة علمائنا: أنه لا فرق بين أن يكون له نصف متمول، أو لا، وشرط الخرقي: أن يكون له نصف يحصل (¬2)، وتبعه على ذلك الإمام الموفق في "المغني" (¬3). فائدة: لا يتقدر أكثر الصداق على الصحيح، وقد حكى ابنُ عبد البر الإجماعَ على ذلك (¬4)، لقوله -تعالى-: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، قال أبو صالح: القنطار: مئة رطل، وهو عرف الناس الآن. وقال أبو سعيد الخدري: ملء مَسْكِ ثورٍ ذهبًا (¬5). وعن مجاهد: سبعون ألف مثقال (¬6). ويروى أن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - قال: خرجت وأنا أريد أن أنهى عن كثرة الصداق، فذكرت هذه الآية: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬7) [النساء: 20]. ¬

_ (¬1) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (5/ 179). (¬2) انظر: "مختصر الخرقي" (ص: 99). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 160). (¬4) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 408)، و"التمهيد" له أيضًا (21/ 117). (¬5) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 907). (¬6) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (3/ 201). (¬7) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 159 - 196).

وروى أبو حفص بإسناده: أن أمير المؤمين عمر - رضي الله عنهما - أصدقَ أمَّ كلثوم ابنةَ عليٍّ من فاطمة الزهراء -رضوان الله عليهم- أربعين ألفًا (¬1). وقد ذكرنا -فيما تقدم- ما أمهر به النجاشي أم حبيبة - رضي الله عنها -، والله -تعالى- الموفق. الثالث: اختلفوا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "زوجتكها بما معك من القرآن"، فمنهم من قال بجواز جعل تعليم شيء من القرآن معيَّنٍ صداقًا بناءً على كون الباء للتعويض، كقولك: بعتك ثوبي بدرهم، وهذا -أعني: كون الباء للتعويض- هو الظاهر، وإلا لو كانت بمعنى اللام على معنى تكريمه لكونه حامل للقرآن، لصارت المرأة بمعنى الموهوبة، والهبةُ خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وحمله بعضهم على الخصوصية بذلك الرجل، لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجوز له نكاحُ الواهبة، فكذلك يجوز له أن يُنكحها لمن شاء بغير صداق، ولأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وقواه بعضهم بأنه لما قال له: "ملّكتكها"، لم يشاورها، ولم يستأذنها، وهذه التقوية ضعيفة؛ لأن المرأة أولًا فوضت أمرها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي "الصحيح" أما قالت له: فَرَ فيّ رأيَك (¬2). ووقع في حديث أبي هريرة عند النسائي بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حاجة لي، ولكن تملِّكيني أمرَك"، قالت: نعم، وفيه: فقالت: ما رضيتَ لي رضيتُ (¬3)، فهذه صارت كمن قالت لوليها: زوجني بما ترى من كثير الصداق وقليله. ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (4/ 186)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 233). وانظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 161). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4854)، وعنده: "فَرَ فيها" بدل "فَرَ فيَّ". (¬3) لم أقف عليه في "سنن النسائي" بهذا اللفظ، والله أعلم.

واستدل لمن قال بالخصوصية بما أخرجه سعيد بن منصور من مرسل أبي النعمان الأزدي، قال: زوّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة على سورة من القرآن، وقال: "لا يكون لأحد بعدَكَ مهرًا" (¬1)، لكنه مع إرساله فيه من لا يُعرف. وأخرج أبو داود من طريق مكحوله، قال: ليس هذا لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأخرج أبو عوانة من طريق الليث بن سعد نحوَه (¬3). وقال: القاضي: يحتمل قولُه: "بما معك من القرآن" وجهين: أظهرهما: أن يعلمها ما معه من القرآن، أو مقدارًا معينًا، ويكون ذلك صداقَها، وقد جاء هذا التفسير عن الإمام مالك (¬4)، ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة: "فعلمها من القرآن" (¬5)، وعين في حديث أبي هريرة مقدار ما يعلمها، وهو عشرون آية (¬6). قال: البرماوي في "شرح الزهر البسام": واعلم أن القرآن الذي زوّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الرجل عشرون آية من سورة البقرة والتي بعدها، كما جاء في بعض الروايات نحوُ هذه القصة من حديث أبي هريرة من غير ذكر الإزار والخاتم إلى أن قال: "وما تحفظ من القرآن؟ "، قال: سورة البقرة، والتي تليها، قال: "قمْ فعلِّمها عشرين آية، وهي امرأتك" خرّجه ¬

_ (¬1) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 206). (¬2) رواه أبو داود (2113)، كتاب: النكاح، باب: في التزويج على العمل يعمل. (¬3) لم أقف عليه فيما طبع من "مسنده"، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 212). (¬4) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 581). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1425/ 77). (¬6) سيأتي تخريجه قريبًا.

أبو داود، والنسائي (¬1) لكن في "كتابيهما": سورة البقرة، أو التي تليها، بلفظ أو. وقال: الحافظ ابن حجر في "الفتح": وزعم بعضُ من لقيناه أنه عند أبي داود بالواو، وعند النّسائيّ بلفظ: "أو" (¬2)، وفي بعض الروايات من حديث ابن عباس وجابر -رضي الله عنهم-: "هل تقرأ من القرآن شيئًا؟ "، قال: نعم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، قال: "أصدِقْها إياها" (¬3)، وفي رواية: خمس سور، أو أربع سور من القرآن، وفي رواية: على سور المفصل، ويُجمع بين هذه الألفاظ بأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ غيره، أو أن القصص متعددة (¬4). والوجه الثاني: أن تكون الباء بمعنى اللام، أي: لأجل ما معك من القرآن، فأكرمَه بأن زوّجه المرأة بلا مهر، لأجل كونه حافظًا للقرآن، أو لبعضه (¬5). الرابع: اختلف الفقهاء في تعلم القرآن هل يجوز أن يكون مهرًا: فقال: أبو حنيفة، وأحمد في أظهر روايتيه: لا يكون ذلك مهرًا. وقال مالك، والشافعي: يجوز أن يكون مهرًا. وعن الإمام أحمد مثله (¬6). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2112)، كتاب: النكاح، باب: في التزويج على العمل يعمل، والنسائي في "السنن الكبرى" (5506). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 208). (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 209). (¬5) المرجع السابق، (9/ 212). (¬6) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 136).

قلت: وقد مال في "الهدي" ميلًا كليًا إلى صحة كون المرأة إن رضيت بعلم زوجها أو حفظه للقرآن أو بعضه من مهرها، وأن ما يحصل لها من انتفاعها القرآن والعلم هو صداقها، كما إذا جعل السيد عتقَها صداقَها، وكان انتفاعُها بحريتها وملكها لرقبتها هو صداقها، فإن الصداق شُرع في الأصل حقًا للمرأة تنتفعُ به، فإذا رضيت بالعلم والدين وإسلام الزوج، كما في قصة أبي سليم وقراءته للقرآن، كان هذا من أفضلِ المهور وأنفعِها وأجلِّها، فما خل العقد من مهر، وأين الحكم بتقدير المهر بثلاثة دراهم أو عشرة من النص والقياس إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصًا وقياسًا، وليس هذا مساويًا للموهوبة التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي خاصة له من دون المؤمنين، فإن تلك وبيت نفسها هبةً مجردة عن ولي وصداق، بخلاف هذه، فإنه نكاحٌ بولي وصداق، فإنه وإن كان غير مالي، فإن المرأة جعلته عوضًا عن المال، لما يرجع إليها من نفعه، ولم تهب نفسها للزوج هبة مجردة كهبة شيء من مالها، انتهى ملخصًا (¬1). ومعتمد المذهب: أنه إن أصدقها تعليم قرآن، لم يصح، بل فقه أو أدب أو شعر مباح معلوم. قال في "شرح الوجيز": كونه إذا أصدقها تعليم قرآن لا يصح؛ لأن الفروج لا تستباح إلا بالأموال، بدليل قوله -تعالى-: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]، والقرآن ليس بمال، ولأن تعليم القرآن من شرطه أن يقع قربة لفاعله، فلم تصح المعاوضة عليه، دليله إذا استأجر قومًا يصلون معه الجمعة والفرائض والتراويح. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 178 - 179).

قال: وهذا المذهب نص عليه، وعليه علماؤنا، منهم: أبو بكر، والموفق (¬1)، والشارح (¬2)، وغيرهم، وصححه في "الهداية"، و"الخلاصة" وغيرهما. قال في "البلغة" و"النظم": هذا المشهور، وجزم به في "المنور" (¬3)، و"منتخب الأدمي"، وغيرهما، وقدمه في "الفروع" (¬4)، وغيره، وهو الذي جزم به في "الإقناع" (¬5)، و"المنتهى" (¬6)، و"الغاية" (¬7)، وغيرها. والرواية الثانية: يصح. قال ابن رزين: هذا الأظهر، واختاره ابنُ عبدوس في "تذكرته"، وجزم به في "عيون المسائل"، لهذا الحديث، ولأن تعليم القرآن منفع مباحة، فجاز جعلُه صداقًا، كتعليم قصيدة من الشعر المباح (¬8)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 163). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (8/ 11). (¬3) انظر: "المنور في راجح المحرر" للأدمي (ص: 360 - 361). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 199). (¬5) انظر: "الإقناع " للحجاوي (3/ 376). (¬6) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (4/ 135). (¬7) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (5/ 177). (¬8) وانظر: "المبدع" لابن مفلح (7/ 135).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَهْيَمْ؟ " فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! تَزَوَّجْتُ امْرأَةً، فَقَالَ: "مَا أَصْدَقْتَهَا؟ " قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: "فَبَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1944)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الْصَّلَاة} [الجمعة: 10]، و (2171)، كتابك الكفالة، باب: قول الله تعالى: "والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، و (3570)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: إخاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار، و (3722)، باب: كيف آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، و (4785)، كتاب: النكاح، باب: قول الرجل لأخيه: انظر أي زوجتي شئت حتى أنزل لك عنها، و (4853)، باب: قول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}، و (4858)، باب: الصفرة للمتزوج، و (4860)، باب: كيف يدعى للمتزوج، و (4872)، باب: الوليمه ولو بشاة، و (5732)، كتاب: الأدب، باب: الإخاء والحلف، و (6023)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء للمتزوج، ومسلم (1427/ 79 - 83)، كتاب: النكاح، باب: الصداق، وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، وأبو داود (2109)، كتاب: النكاح، باب: قلة المهر، والنسائي (3351 - 3352)، كتاب: النكاح، باب: التزويج على نواة من ذهب، و (3372)، باب: دعاء من لم يشهد التزويج، و (3373 - 3374)، باب: =

(عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالكٍ) الأنصاريِّ النجاريِّ (- رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى عبدَ الرحمن بنَ عوف) بنِ عبدِ عوف بنِ عبدِ الحارثِ بنِ زهرةَ بنِ كلابِ بنِ مرةَ بنِ كعبِ بنِ لؤيِّ بنِ غالبٍ، هو أبو محمدٍ القرشيُّ الزّهريُّ - رضي الله عنه -، كان اسمه في الجاهلية عبدَ عمرو، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الرحمن، وأمه الشِّفَّا بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة، أسلمت وهاجرت كما في "جامع الأصول" لابن الأثير. وَقَدَّمَ البرماوي: أن أمه صفيةُ بنتُ عبد منافِ بنِ زهرة، ثم قال: ¬

_ = الرخصة في الصفرة عند التزويج، و (3387 - 3388)، باب: الهدية لمن عرس، والترمذي (1094)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في الوليمة، و (1933)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في مواساة الأخ، وابن ماجه (1907)، كتاب: النكاح، باب: الوليمة. قلت: وقوله في الحديث: "ردع زعفران" ليس في شيء من روايات الصحيحين، قال ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (8/ 312): وهذه اللفظة -أعني: الردع- لم أرها في الصحيحين، انتهى. نعم وقعت في رواية أبي داود المتقدم تخريجها برقم (2109)، وكذا رواية النسائي (3373)، وقد فات الشارح -رحمه الله-التنبيه عليه. * في مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 210)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 525)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 3)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 585)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 134)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 216)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 50)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1308)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 279)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 232)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 163)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 64)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 154)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 309).

ويقال: الشفا -بكسر الشين المعجمة وبالفاء- بنتُ عوفِ بنِ الحارث، ويقال: الشفا بنتُ عوف إنما هي أخته. وأسلم عبد الرحمن - رضي الله عنه - قديمًا على يد أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه -، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين، وشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وثبت يوم أحد، وصلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - خلفه في غزوة تبوك، وأَتَمَّ ما فاته، كان نحيلًا رقيقَ البشرة أبيضَ مشربًا حمرة ضخمَ الكفين أقنى، وقيل: كان ساقط الثنيتين أعرجَ، أُصيب يوم أحد، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، فأصابه بعضُها في رجله، فعرج. ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، وبعثه - صلى الله عليه وسلم - إلى دومة الجندل، وعَمَّمه بيده، وسدلَها بين كتفيه، وقال له: "إن فتح الله عليك، فتزوَّجْ بنتَ ملكهم وعريفهم"، فتزوجَ بنتَ شريفهم، وهي تُمَاضِرُ بنتُ الأصبغ بنِ ثعلبة بنِ ضمضم، فولدت له أبا سلمةَ الفقيهَ، وهي أول كلبية نكحها قرشيٌّ، وكان الأصبغُ بنُ ثعلبةَ شريفَهم، وكان زواجُ عبد الرّحمن - رضي الله عنه - على تُماضِرَ بنتِ الأصبغِ الكلبيةِ في شعبانَ سنة سِتٍّ من الهجرة، فأسلم ناس كثير، منهم الأصبغُ، وتُماضِرُ -بضم التاء المثناة فوق وبالضاد المعجمة-، والأَصْبَغ بسكون الصاد المهملة وفتح الموحدة، فغين معجمة-، وكان عبد الرحمن - رضي الله عنه - طلقها في مرض موته طلقةً واحدة، وهي آخر طلاقها، يعني: تمام الثلاث، فورَّثَها عثمانُ - رضي الله عنه -، وقصتها في ذلك مشهورة، وتُوفي عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - سنة اثنتين وثلاثين، ودفن بالبقيع، وله اثنتان وسبعون سنة، وقيل: خمس وسبعون سنة، وقيل: ثمانٍ وسبعون سنة، ويلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلابِ بنِ مرة، وتزوج - رضي الله عنه - ثلاث عشرة امرأة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة.

روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسةَ عشرَ حديثًا، اتفق البخاري ومسلم منها على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة. وقال الحافظ ابن الجوزي في كتابه "مشكل الصحيح": روى خمسة وستين حديثًا، اتفقا على سبعة، ومناقبه - رضي الله عنه - كثيرة شهيرة (¬1). (وعليه) أي: والحال أنَّ على عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - (رَدْعُ) -براء ودال وعين مهملات مفتوح الأول ساكن الثاني-: هو أثر (¬2) (زعفران). وفي رواية: لقيه - صلى الله عليه وسلم - في سكة من سكك المدينة، وعليه وَضَرٌ من صفرة (¬3)، والوَضَرُ -بفتح الواو والضاد المعجمة وآخره راء- هو في الأصل: الأثر، والمراد بالصفرة صفرة الخلوق (¬4). وفي رواية عند الإمام أحمد: وعليه وَضَرٌ من خلوق (¬5)، وفي رواية: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 124)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 240)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (1/ 173)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 247)، و"الثقات" لابن حبان (2/ 342)، "المستدرك" للحاكم (3/ 345)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 98)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 844)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 475)، و"جامع الأصول" له أيضًا (14/ 128 - قسم التراجم)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 280)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 324)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 68)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 346)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (6/ 221). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 191). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 523). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 233). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 165).

وعليه أثر صفرة (¬1)، [وفي رواية:] (¬2) فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه بشاشة العرس (¬3)، (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مهيم؟)؛ أي: ما أمُرك، وما خبرُك، وما شأنك؟ وهي كلمة استفهام مبنية على السكون. قال ابن دقيق العيد: قيل: إنها لغة يمانية، قال بعضهم: ويشبه أن تكون مركبة (¬4). وفي "الفتح": وهل هي بسيطة أو مركبة؟ قولان لأهل اللغة. وقال ابن مالك: هي اسم فعل بمعنى: أخبر. ووقع في رواية عند الطبراني في "الأوسط": فقال له: "مهيم"، وكانت كلمته: إذا أراد أن يسأل عن الشيء (¬5). ووقع في رواية: "مهين" -بنون آخره بدل الميم- (¬6)، والأول المعروف. ووقع في رواية عند البخاري: "ما هذا يا عبد الرحمن؟ " (¬7). وفي رواية: أن عبد الرحمن بن عوف أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد خضب بالصفرة، فقال: "ما هذا الخضاب؟ أَعرستَ؟ "، قال: نعم، الحديث (¬8). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4858)، إلا أنه قال: "وبه أثر صفرة". (¬2) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4853)، ومسلم برقم (1427/ 82). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 50). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (7188). (¬6) هي رواية ابن السكن، كما ذكر الحافظ ابن حجر. (¬7) لم أر هذه الرواية في شيء من روايات البخاري السالفة الذكر، ولم ينقلها الشارح -رحمه الله- عن الحافظ ابن حجر. (¬8) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5776)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وعند أبي عوانة: أنه قال له: "ما هذا؟ " (¬1)، (فقال) عبد الرحمن - رضي الله عنه -: (يا رسول الله! تزوجت) من (امرأة) زاد في رواية مالك: من الأنصار (¬2). قال البرماوي: المرأة التي تزوج بها هي بنتُ أنس بن رافع بنِ امرىء القيس بنِ زيد بنِ عبدِ الأشهل بنِ أوسِ، ولدت له القاسمَ، وعبد الله الأكبر، أما عثمانُ، وعبدُ الله الأصغرُ أبو سلمة، وهو الفقيه التابعي الذي أخرج له الجماعة، فأمه تُماضِر بنتُ الأصبغ -كما مرّ آنفًا-، وتزوج عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -أيضًا- أُمَّ كلثوم بنتَ عقبةَ بنِ أبي مُعيط، وبُجَيْرَةَ بنتَ هانىء، وسهلةَ بنتَ سهيلِ بنِ عمرو، وأمَّ حكيم بنت قارط، وأسماءَ بنتَ سلامة، ونسيبة من بهراء، ومجدة بنتَ يزيد الحِمْيَري، وغزال بنتَ كسرى من سبي سعدِ بن أبي وقاص يومَ المدائن، وباديةَ بنتَ غيلان، وسهلة الصغرى بنتَ عامر العجلاني، وله أولاد كثيرة من هؤلاء يطول ذكرُهم، ولم يسمِّ المرأةَ البرماويُّ. وفي "الفتح": أما أم إياس بنتُ أبي الحَيْسَر -بفتح المهملتين بينهما تحتانية ساكنة، وآخره راء-، واسمه أنس بن رافع الأوسي (¬3)، (فقال) له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: و (ما أصدقتها؟)، وفي لفظ: " [كم] (¬4) أصدقتها؟ (¬5) "، وفي آخر: "على كم؟ (¬6) "، وفي رواية: "ما سُقْتَ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 234). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4858). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 234). (¬4) [كم] ساقطة من "ب". (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4872)، وعند مسلم برقم (1427/ 82). (¬6) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (7188).

إليها؟ (¬1) "، وفي رواية مالك: "كم سُقْتَ إليها؟ (¬2) "، (قال): أصدقتها (وزن نواة من ذهب)، كذا وقع الجزم به في رواية ابن عُيَيْنَة، وفي رواية: نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب (¬3)، وفي لفظ: على وزن نواة من ذهب (¬4)، وفي أخرى عند مسلم: على وزن نواة، قال: فقال رجل من ولد عبد الرحمن: من ذهب (¬5)، ورجح الداودي رواية من قال: على نواة من ذهب، واستنكر رواية من روى: وزن نواة. قال في "الفتح": واستنكاره هو المنكر؛ لأن الذين جزموا بذلك أئمة حفاظ (¬6). قال عياض: لا وهم في الرواية؛ لأنها إن كانت نواة تمر أو غيره، أو كان للنواة قدر معلوم، صلحّ أن يقال: ذلك وزن نواة (¬7)، ويأتي الكلام على النواة في كلام المصنف -رحمه الله تعالى-. (قال) النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: [فبارك الله لك] (¬8)، وفي رواية: (بارك الله لكَ) (¬9). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1944، 3570). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4858). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1944). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4853، 4860، 6023)، ومسلم برقم (1427/ 79 - 80، 83). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1427/ 83). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 234). (¬7) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 587). (¬8) في الأصل: "بارك الله لكل منكما في صاحبه"، والصواب ما أثبت، إذ الشارح -رحمه الله- بصدد شرح مفردات الحديث، ولعله سبق قلم منه -رحمه الله-. (¬9) تقدم تخريجه في أكثر روايات الشيخين.

قال ابن بطّال: فيه رد قول العامة عند العرس: بالرفاء والبنين، وترجم [له] (¬1) البخاري في "صحيحه" باب: كيف يدعى للمتزوج (¬2)؟ فكأنه أشار إلى تضعيف قول العامّة، وإلى تضعيف حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أنه شهد إملاك رجل من الأنصار، فخطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنكح الأنصاري، وقال: "على الألفة والخير والبركة، والطير الميمون والسعة في الرزق" الحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" بسندٍ ضعيف، وفي "الأوسط" بسندٍ أضعف منه (¬3)، وأخرجه أبو عمر البَرقاني في كتاب "معاشرة الأهلين" من حديث أنس، وزاد فيه: والرفاء والبنين، وفي سنده أبانُ العبديُّ، وهو ضعيف، وأقوى من ذلك ما أخرجه أصحاب "السنن"، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رَفَّأَ إنسانًا، قال: "بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير" (¬4). وقوله: رَفَّأَ -بفتح الراء وتشديد الفاء مهموز- معناه: دعا له في موضع قولهم: بالرفاء والبنين، وكانت كلمة يقولها أهلُ الجاهلية، فورد النّهي، عنها كما روي من طريق غالب، عن الحسن البصري، عن رجل من بني تميم، قال: كنا نقول في الجاهلية: بالرفاء والبنين، فلما جاء الإسلام، ¬

_ (¬1) [له] سقطت من "ب". (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (5/ 1979). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (20/ 97)، وفي "المعجم الأوسط" (118). (¬4) رواه أبو داود (2130)، كتاب: النكاح، باب: ما يقال للمتزوج، والنسائي في "السنن الكبرى" (10089)، والترمذي (1091)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء فيما يقال للمتزوج، وابن حبان في "صحيحه" (4052)، والحاكم في "المستدرك" (2745).

علّمنا نبينا، قال: "قولوا: بارك الله لكم، وبارك فيكم، وبارك عليكم" (¬1) وأخرج النسائي (¬2)، والطبراني عن الحسن، عن عقيل بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنه قدم البصرة، فتزوج امرأة، فقالوا له: بالرفاء والبنين، فقال: لا تقولوا هكذا، وقولوا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم بارك لهم، وبارك عليهم" (¬3)، ورجالهم ثقات، إلا أن الحسن لم يسمع من عقيل فيما يقال. ودلّ حديث أبي هريرة الذي في "السنن" على أن هذا القول كان مشهورًا عندهم غالبًا حتى سمي كلُّ دعاء للمتزوج ترفية. واختلف في علة النهي عن ذلك، فقيل: لأنه لأحمدَ فيه ولا ثناء ولا ذكر لله -تعالى-، وقيل: لما فيه من بغض البنات، لتخصيص البنين بالذكر. وأمّا الرَّفاء: فمعناه: الالتئام من رَفَأْت الثوبَ، ورَفَوْتُه رَفْوًا، وهو دعاء للزوج بالالتئام والائتلاف، فلا كراهة فيه. وقال: ابن المنير: الذي يظهر: أنه - صلى الله عليه وسلم - كره اللفظ، لما فيه من موافقة الجاهلية لأنهم كانوا يقولونه تفاؤلًا، لا دعاء، فيظهر أنه لو قيل للمتزوج بصورة الدعاء لم يكره، كأن يقال: اللهم ألّف بينهما، وارزقهما بنين صالحين مثلًا، أو ألّف اللهُ بينكما، ورزقكما ولدًا ذكرًا، ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) رواه بقي بن مخلد في "مسنده" كما ذكر الحافظ ابن حجر. (¬2) في الأصل زيادة: "والطبري" بين النسائي والطبراني، ولا موضع لها، إذ لم يذكره الحافظ ابن حجر -الذي ينقل عنه الشارح هنا- في "الفتح" ولم يخرجه الطبري في "تفسيره" والله أعلم. (¬3) رواه النسائي (3371)، كتاب: النكاح، باب: كيف يدعى للرجل إذا تزوج والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 192).

وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عمر بن قيس الماصر، قال: شهدت شريحًا -وأتاه رجل من أهل الشّام-، فقال: إني تزوجت امرأة، فقال: بالرفاء والبنين، وأخرجه عبد الرزاق من طريق عدي بن أرطاة، قال: حدّثتُ شريحًا: أني تزوجت امرأة، فقال: بالرفاء والبنين (¬1)، فمحمول على أن شريحًا لم يبلغه النهي عن ذلك. ودلّ الحديث على أن الدعاء بالبركة للمتزوج مشروع، وهي لفظة جامعة يدخل فيها كل مقصود من ولد وغيره، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم - لجابر - رضي الله عنه - لمّا سأله: "تزوجت بكرًا أم ثيّبًا؟: بارك الله لك" (¬2)، والأحاديث في مثل هذا معروفة (¬3). ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: (أَوْلِمْ) أمر بالوليمة، وهي اسم لطعام العرس خاصة، لا يقع على غيره. وفي "المطلع": قال بعض الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: الوليمة تقع على كل طعام لسرور وحادث، إلا أن استعمالها في طعام العرس أكثر، ثم قال: وقول أهل اللغة إنها مختصة بطعام العرس أولى؛ لأنهم أهل اللسان، وأعرف بموضوعات اللغة، هذا معنى ما حكاه الإمام الموفق في "المغني" (¬4). وقال صاحب "المستوعب": وليمة الشيء: كمالُه وجمعه، وسميت ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (10458)، ولم أقف عليه عند ابن أبي شيبة في "مصنفه". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 221 - 222). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 212).

دعوة العرس وليمة، لاجتماع الزوجين (¬1). (ولو بشاة). قال في "شرح الوجيز": قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولو بشاة) للتقليل؛ أي: ولو بشيء قليل كشاة، فيستفاد منه: أن الوليمة جائزة بدونها (¬2). كما روى البخاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولمَ على صفيةَ بمدَّين من شعير (¬3). وقال: ابن دقيق العيد: "ولو بشاة" يفيد معنى التقليل، وليست "لو" هذه هي التي تقتضي امتناع الشيء لوجود غيره، وقال بعضهم: هي التي تقتضي معنى التّمني (¬4)، انتهى. تنبيهان: الأوّل: الوليمة سنّة مؤكدة، لأمره - صلى الله عليه وسلم - بها، ولأنه فعلها. قال أنس - رضي الله عنه -: ما أولم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، جعل يبعثني، فأدعو له الناسَ، فأطعمهم خبزًا ولحمًا حتى شبعوا (¬5). قال: ابن دقيق العيد: صيغة الأمر في هذا الحديث محمولة عند الجمهور على الاستحباب (¬6)، انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 328). (¬2) وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 317). (¬3) رواه البخاري (4877)، كتاب: النكاح، باب: من أولم بأقل من شاة، من حديث صفية بنت شيبة - رضي الله عنها -. (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 51). (¬5) رواه البخاري (4873)، كتاب: النكاح، باب: الوليمة ولو بشاة، ومسلم (1428)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش. (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 51).

وقد أخرج الطبراني من حديث وحشيِّ بن حرب، رفعه: "الوليمة حقّ، والثانية معروف، والثالثة فخر" (¬1). وفي مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "شرُّ الطعام طعامُ الوليمة، يدعى إليها الأغنياء، وتترك الفقراء، ومن لم يُجِبْ، فقد عصى الله ورسوله" (¬2). ولأبي الشيخ، والطبراني في "الأوسط" من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "الوليمة حقّ وسنّة، فمن دُعي فلم يُجب، فقد عصى" (¬3). وروى الإمام أحمد من حديث بريدة - رضي الله عنه - قال: لمّا خطب علي - رضي الله عنه - فاطمةَ - عليها السلام -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لابد للعروس من وليمة" (¬4)، وسنده لا بأس به. قال: ابن بطال: قوله: "الوليمة حق"؛ أي: ليست بباطل، يندب إليها، وهي سنّة فضيلة، وليس المراد بالحق الوجوب. قال: ولا أعلم أحدًا أوجبها، كذا قاله، مع أن في مذهبه رواية بوجوبها، نقلها القرطبي، وقال: مشهور المذهب: أما مندوبة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 136). (¬2) رواه مسلم (1432)، كتاب: النكاح، باب: الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، وكذا البخاري (4882)، كتاب: النكاح، باب: من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله. (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (3948). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 359)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1153). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 230).

قال في "الفروع": وليمة العرس تستحب بالعقد، قاله ابن الجوزي ولو بشاة. وقال ابن عقيل: ذكر الإمام أحمد: أما تجب ولو بها، للأمر، وقال ابن عقيل: السنّة أن يكثر للبكر (¬1)، انتهى. قال الموفق في "المغني": هي سنّة، بل وافق ابن بطّال فى نفى الخلاف بين أهل العلم في ذلك. وقال بعض الشّافعيّة: هي واجبة، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن عوف، ولأن الإجابة إليها واجبة، فكانت واجبة. وأجاب الموفق: بأنه طعام لسرور حادث، فأشبه سائر الأطعمة، والأمر محمول على الاستحباب بدليل ما ذكرناه، ولكونه أمره بشاة، وهي غير واجبة اتفاقًا (¬2). وفي "الإفصاح" لابن هبيرة: اتفقوا على أن وليمة العرس مستحبة، ثم اختلفوا في وجوبها: فقال الشّافعيّ وحده: وهي واجبة في أظهر القولين عنه (¬3)، انتهى. وقد علمت أما مستحبة على معتمد مذهب الشّافعيّ. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": القول بوجوبها وجهٌ معروف عند الشّافعيّة، وقد جزم به سليم الرازي، وقال: إنه ظاهر نص الإمام الشّافعيّ، ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 226). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 212). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 230). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 140).

ونقله عن النص -أيضًا- الشيخ أبو إسحاق في "المذهب"، وهو قول أهل الظاهر كما صرح به ابن حزم (¬1)، انتهى. الثاني: الإجابة إلى الوليمة المذكورة واجبة في المشهور عن مالك، وأظهر قولي الشافعي، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد - رضي الله عنهم -، وقال أبو حنيفة: إن الإجابة إليها مستحبة، وليست بواجبة، وروى الطحاوي عن أبي حنيفة: الوجوب -أيضًا- (¬2). ويعتبر لوجوب الإجابة: أَلَّا يكون عذر من نحو حرّ وبرد وشغل، وكونُ داعٍ مسلمًا يحرم هجرُه، ولو أنثى، وقِنًا أَذِن له سيدُه، وكونُ كسبه طيبًا، وأن يكون أولَ مرة، وهي حقّ للدّاعي، تسقط بعفوه، فإن دعي للوليمة الجَفَلى أيها النَّاس تعالوا للطعام، كُرهت الإجابة، ولم تجِب (¬3)، والله أعلم. قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى ورضي عنه-: (النواة) المذكورة في الحديث أنه أصدقَها وزنها هي (وزن خمسة دراهم). قال في "الفتح": اختلف في المراد بالنواة، فقيل: النواة: واحدةُ نوى التمر، كما يوزن بنوى الخروب، وإن القيمة عنها يومئذٍ كانت خمسة دراهم، وقيل: كان قدرها يومئذٍ ربع دينار، ورُدَّ بأن نوى التمر يختلف في الوزن، فكيف يُجعل معيارًا لما يوزن به؟ وقيل: لفظ النواة من ذهب عبارة عمّا قيمته خمسة دراهم من الوَرِق، وهذا مراد المصنف -رحمه الله ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 230). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 140). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 400 - 401).

تعالى-، وجزم به الخطابي (¬1)، واختاره الأزهري (¬2)، ونقله القاضي عياض عن أكثر العلماء (¬3)، ويؤيده أن في رواية عند البيهقي من طريق سعيد بن بشر، عن قتادة: وزن نواة من ذهب قوّمت خمسة دراهم (¬4)، وقيل: وزنها من الذهب خمسة دراهم، حكاه ابن قتيبة (¬5)، وجزم به ابن فارس، واستظهره البيضاوي، واستبعد؛ لأنه يستلزم أن يكون ثلاثة مثاقيل وبضعًا، ووقع في رواية حجاج بن أرطاة عن قتادة عند البيهقي: قوّمت ثلاثة دراهم وثلثًا، وإسناده ضعيف (¬6)، ولكن جزم به الإمام أحمد، وقيل: ثلاثة ونصف، وقيل: ثلاثة وربع، وعن بعض المالكية: النواة عند أهل المدينة ربع دينار، ويؤيده ما وقع عند الطبراني في "الأوسط" في آخر حديث أنس: حزرناها ربعَ دينار (¬7). وقد قال الشّافعيّ: النواة ربع النَّشِّ، والنشُ نصف أوقية، والأوقية أربعون درهمًا، فيكون خمسة دراهم، وكذا قال أبو عبيد: إن عبد الرحمن بن عوف دفع خمسة دراهم، وهي تسمى نواة، وكما يسمى الأربعون أوقية (¬8)، وبه جزم أبو عو انة وآخرون (¬9)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 210). (¬2) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (15/ 557)، (مادة: نوى). (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 587). (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 237). (¬5) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 179). (¬6) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 237). (¬7) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (7188). (¬8) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 190). (¬9) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 234 - 235).

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق (¬1) هو في اللغة: حلُّ الوثاق، مشتق من الإطلاق، وهو الإرسال والتخلية (¬2)، يقال: أُطلقتِ الناقةُ: إذا سَرَحَتْ حيث شاءت، وحُبِس فلانٌ في السجن طَلْقًا: بغير قيد، وفرسٌ طلقُ إحدى القوائم: إذا كانت إحدى قوائمِها غيرَ محجَّلة، وفلانٌ طلقُ اليدِ بالخير؛ أي: كثير البذل. وفي الشرع: حلّ عقدة النكاح، وهو راجعٌ إلى معناه في اللغة؛ لأن من حُلَّ قيدُ نِكاحها، فقد خُلّيت (¬3). قال في "الفتح": الطلاق لفظ جاهليّ ورد الشرعُ بتقريره (¬4). قال في "المطلع": يقال: طَلُقت المرأةُ، وطَلَقت -بفتح اللام وضمها- تَطْلُق -بضم اللام- فيهما، طلاقًا، وطلقة، وجمعُها طَلَقات -بفتح اللام لا غير-، فهي طالق، وطلَّقها زوجُها، فهي مُطَلَّقة. ثم الطلاق من حيث تعتريه الأحكام الخمسة. ¬

_ (¬1) جاء على هامش النسخة الخطية "ظ": من البيوع إلى هنا " 63 " حديثًا، فيكون من أول الكتاب إلى هنا (319). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 333). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346)، نقلًا عن إمام الحرمين.

فقد يكون واجبًا، كطلاق المؤلي بعدَ المدةِ والامتناعِ من الفيئة. ومكروهًا: إذا كان لغير حاجة، مع استقامة الحال. ومباحًا، وذلك عند نحو ضرورة، ككونه لا يريدها، ولا تطيب نفسه أن يتحمل مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع. ومستحبًا، وذلك عند تضرر المرأة بالمقام، لبغض أو غيره، أو لكونها مفرِّطة في حقوق الله -تعالى-، قالوا: أو لكونها غير عفيفة. وعن الإمام أحمد: يجب الطلاق فيما إذا كانت مفرِّطة في حقوق الله تعالى، أو غير عفيفة. قلت: وهو الصواب في الأخير من غير شك. وحرامًا، وهو طلاق المدخول بها إذا كانت حائضًا أو في طهر قد وطئها فيه (¬1). وقد ذكر الحافظ المصنف -رحمه الله- في هذا الأمر حديثين. ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 333).

[باب]

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَر ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَغَيَّظَ فيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: "لِيُرَاجعْهَا، ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضُ فَتَطْهُرُ، فَإنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلًّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، فَتِلْكَ العِدَّةُ، كَمَا أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-" (¬1). وفي لفظٍ: "حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا" (¬2). وفي لفظٍ: فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللهِ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4625)، كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة الطلاق، واللفظ له، و (6741)، كتاب: الأحكام، باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان، ومسلم (1471/ 4)، كتاب: الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأبو داود (2182)، كتاب: الطلاق، باب: في طلاق السنة، والنسائي (3391)، كتاب: الطّلاق، باب: وقت الطلاق للعدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق النساء، من طريق ابن شهاب الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، به. (¬2) رواه مسلم (1471/ 4)، كتاب: الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، من طريق ابن شهاب الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، به. (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم آنفًا. وللحديث طرق وألفاظ أخرى سيأتي الشارح - =

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ عمرَ - رضي الله عنهما -: أنه)، أي: عبد الله بن عمر (طلق امرأة له) وفي لفظ: طلق امرأته (¬1) واللفظ الأول لمسلم، وله -أيضًا- عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: طلقت امرأتي (¬2). قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": اسمها آمنة بنتُ غِفار، قاله ابن باطيش (¬3)، ونقله عن النووي جماعة ممن بعده، منهم: الذهبي في "تجريد الصحابة"، لكن قال في "مبهماته": فكأنه أراد: "مبهمات التهذيب"، أو "مبهمات النووي"، وأوردها الذهبي في آمِنة -بالمد وكسر الميم ثم نون- (¬4)، وأبوها ضبطه ابن نقطة -بكسر المعجمة وتخفيف الفاء-. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" بعد نقله لما تقدم: لكن رأيت مستند ¬

_ = رحمه الله- على ذكرها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 231)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 138)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 5)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 224)، و "شرح مسلم" للنووي (10/ 60)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 52)، و "العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1315)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 81)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 347)، و"عمدة القاري" للعيني (19/ 244)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 128)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 169)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 4) (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4625)، ورواه مسلم (1471/ 1). (¬2) رواه مسلم (1471/ 2). (¬3) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 634). (¬4) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (2/ 243).

ابن باطيش في أحاديث قتيبة جمع سعيد العيار، بسندٍ فيه ابنُ لهيعة: أن ابن عمر طلق امرأته آمنةَ بنتَ عمَّار، كذا رأيتها في بعض الأصول -بمهملة مفتوحة فميم ثقيلة-، والأول أولى وأقوى. وفي "مسند الإمام أحمد": حدثنا يونس، حدثنا الليث، عن نافع: أن عبد الله طلق امرأته وهي حائض، فقال عمر: يا رسول الله! إن عبد الله طلق امرأته النوار، فأمره أن يراجعها، الحديث (¬1)، وهذا بسند صحيح على شرط الشيخين، ويونس شيخُ الإمام أحمد في هذا الحديث هو ابنُ محمد المعروف بالمؤدب من رجال الصحيحين، ويمكن الجمعُ بين هذا وما ذكره النووي بأن يكون اسمها آمنة، ولقبها النوار (¬2) (وهي حائض)، وفي رواية: وهي في دمها حائض (¬3)، وعند البيهقي: أنه طلق امرأته في حيضها (¬4)، زاد في رواية عند الشيخين: على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، وأكثرُ الرواة لم يذكروا هذه الزيادة استغناءً عنها بما في الخبر: أن عمر سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستلزم أن ذلك وقع في عهده، وزاد الليث عن نافع: تطليقة واحدة، أخرجه مسلم، وقال في آخره: جود الليث في قوله: تطليقة واحدة (¬6). ¬

_ (¬1) لم أقف على اسمها في روايات ابن عمر - رضي الله عنهما - التي ساقها الإمام أحمد في "مسنده". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 347). (¬3) رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (15/ 54). (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 326). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4953). (¬6) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1471/ 1)، (2/ 1093 - 1094).

ومن طريق عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر: أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض (¬1). وكذا وقع عند مسلم من طريق محمّد بن سيرين، قال: مكثت عشرين سنة يحدّثني من لا أتهم: أن ابن عمر طلق امرأته ثلاثًا وهي حائض، فأُمر أن يراجعها، فكنت لا أتهم، ولا أعرف وجه الحديث، حتى لقيت أبا غلاَّب يونسَ بنَ جبير، وكان ذا ثَبَت، فحدّثني: أنه سأل ابن عمر، فحدّثه: أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض (¬2). وأخرجه الدارقطني، والبيهقي عن طريق الشعبي، قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض (¬3)، (فذكر ذلك)؛ أي: طلاقة لها وهي حائض (عمرُ) - رضي الله عنه - الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) متعلق بذكر، وفي لفظ: فسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬4)، (فتَغَيَّظَ) -بفتح التاء المثناة فوق والغين المعجمة فمثناة تحت مشددة فظاء مشالة-؛ أي: حصل له غيظ (فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: من أجل ذلك وبسببه، والغيظ: تغير يحصل للإنسان عند احتداده (¬5)، وزيادة: فتغيظ فيه في رواية سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما (¬6)، وهو أجلّ من روى الحديث عن ابن عمر، وفيه إشعار بأن الطلاق في الحيض كان تقدم النهي عنه، وإلا، لم يقع التغيظ على أمرٍ لم يسبق النهي عنه، ولا يعكّر على ذلك مبادرةُ عمر ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 31)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 330). (¬2) رواه مسلم (1471/ 7). (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 11)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 326). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4953)، وعند مسلم برقم (1471/ 1). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 402). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4625).

بالسؤال عن ذلك، لاحتمال أن يكون عرف حكم الطلاق في الحيض، وأنه منهي عنه، ولم يعرف ماذا يصنع من وقع له مثل ذلك، كما في "الفتح" (¬1). وقال ابن دقيق العيد: وتغيظُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إمّا لأن المعنى الذي يقتضي المنع كان ظاهرًا، فكان مقتضى الحال التثبت في ذلك، أو لأنه كان مقتضى الحال مشاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك إذا عزم عليه (¬2)، (ثمّ قال) - عليه الصلاة والسلام -: (ليراجعْها)، وفي رواية مرة: "فليراجعها" (¬3). قال ابن دقيق العيد: تتعلق به مسألة أصولية، وهي أن الأمر بالأمر بالشيء، هل هو أمر بذلك الشيء، أو لا؟ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مره"، فأمر بأن يأمره (¬4). قلت: الذي جزم به علماؤنا، منهم: صاحب "مختصر التحرير" للعلامة ابن النجار في "شرحه" (¬5): إنه ليس بأمر بذلك الشيء، وعبارته: وأمرٌ من الشارع بأمرٍ لآخر ليس أمرًا به؛ أي: بذلك الشيء عندنا وعند الأكثر، ومَثَّل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر عن ابنه عبد الله: "مره فليراجعها"، وقوله في: "مُروهم بها لسبع" (¬6)، وقوله -تعالى-: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132]؛ لأنه مبلغ الأمر، ولأنه لو كان أمرًا، لكان قول القائل: مُرْ عبدَكَ بكذا، مع قول السَّيِّد لعبده: لا تفعله، أمرين متناقضين. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 347). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 52). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4953)، ومسلم برقم (1471/ 1 - 2، 4، 6). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 53). (¬5) تقدم التعريف بكتاب ابن النجار الفتوحي صاحب "منتهى الإرادات". (¬6) تقدم تخريجه.

وكذا قال: ابن الحاجب: الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا بذلك الشيء. وفصل بعضهم بأن عدم كونه أمرًا حيث تجرد الأمر عن قرينة، وأما إذا وجدت قرينة تدل على أن الأمر الأول أمرُ المأمور الأول أن يبلغ المأمور الثاني، فلا. قال في "الفتح": وينبغي أن ينزل كلام الفريقين على هذا التفصيل، فيرتفع الخلاف. ومنهم من فرق بين الأمرين، فقال: إن كان الأمر الأول بحيث يسوغ له الحكم على المأمور الثاني، فهو أمرٌ له، وإلا فلا. قال: وهذا أقوى، وهو مستفاد من الدليل الذي استدل به ابن الحاجب على النفي؛ لأنه لا يكون متعديًا إلا إذا أمر من لا حكم له عليه، لئلا يصير متصرفًا في ملك غيره بغير إذنه، والشارع حاكم على الآمر والمأمور، فوجد فيه سلطان التكليف على الفريقين، ومنه قوله -تعالى-: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه: 132]، فإن كل أحد يفهم منه أمر الله لأهل بيته بالصلاة، ومثله حديث الباب، فإن عمر إنما استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لتبيين ما يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - به، ويلزم ابنه به، فالقرينة واضحة في أن عمر في هذه الكائنة كان مأمورًا بالتبليغ، ولهذا قال فيما يأتي: فراجعها عبد الله كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واقتضى كلام سليم الرازي أنه يجب على الثاني الفعل جزمًا، وإنما الخلاف في تسميته أمرًا، فرجع الخلاف عنده لفظيًا. وقال: ابن دقيق العيد: لا ينبغي أن يتردد في اقتضاء ذلك الطلب، وإنما ينبغي أن ينظر في لوازم صيغة الأمر بالأمر أولًا، بمعنى: أنهما يستويان في الدلالة على الطلب من وجهٍ واحد، أولا (¬1)، واستحسنه في "الفتح"، قال: ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 53).

لأن أصل المسألة الذي انبنى عليها هذا الخلاف حديث: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع" (¬1)، فإن الأولاد ليسوا بمكلفين، فلا يتجه عليهم الوجوب، وإنما الطلب متوجب على أوليائهم أن يعلموهم ذلك، فهو مطلوب من الأولاد بهذه الطريق، وليس مساويًا للأمر الأول (¬2). قلت: قال العلامة ابن اللحام في "قواعده الأصولية": فائدة الأمر بالأمر بالشيء ليس إعرابه مع عدم الدليل عليه، ذكره أبو محمد المقدسي؛ يعني: الإمام الموفق، والرازي. قال ابن اللحام: وحينيذٍ فلا يستقيم استدلال من استدل من الأصحاب على مراجعة الحائض إذا طلقت في الحيض بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عمر يأمر ابنه - رضي الله عنه - بمراجعة زوجته لمّا طلقها وهي حائض (¬3)، والله أعلم. (ثم يمسكها) في عصمته بعد مراجعته، لها وفي لفظ: "ثم ليمسكها" (¬4) بزيادة لام الأمر، وتستمر في عصمته (حتى تطهر) من تلك الحيضة (ثم تحيض) حيضة أخرى (فتطهر) منها -أيضًا- (فإن بدا له)؛ أي: لعبد الله بن عمر - رضي الله عنه - بعد ذلك (أن يطلقها)، أي: امرأته، (فليطلقها قبل أن يمسَّها) بجماع، وفي لفظ: "قبل أن يمس" (¬5)، وفي رواية: "فإذا طهرت، فليطلقها قبل أن يجامعها" (¬6)، وفي رواية: "فإن بدا له أن يطلقها، فليطلقها ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 348). (¬3) انظر: "القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام (ص: 190). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4953). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4953)، ومسلم برقم (1471/ 1). (¬6) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1471/ 2).

طاهرًا قبل أن يمسها" (¬1)، وفي رواية: "ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا" (¬2)، (فتلك العدّة كما أمر الله -عزّ وجلّ-) أن تُطَلَّق لها النساء، أي: أذِن، وهذا بيان لمراد الآية، وهي قوله -تعالى-: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]؛ أي: وقت ابتداء عدتهن. (وفي لفظ) من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: "مره فليراجعها" (حتى تحيض) وهي عنده في عصمته (حيضة مستقبلة سوى حيضتها) الأولى (التي طلقها فيها)، فإن بدا له أن يطلقها، فليطلقها طاهرًا من حيضتها قبل أن يمسها، فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله -عزّ وجلّ-. قال في "الإقناع" عن صاحب "الترغيب" من علمائنا: ويلزمه وطؤها (¬3)؛ أي: وطء من طلقها وهي حائض، ثم راجعها إذا طهرت واغتسلت. واختلفوا في حكمة الأمر بالمراجعة، وأن يطلقها إن شاء بعد طهرها من الحيضة الثانية التي بعد الحيضةِ المطلَّقِة فيها، فقيل: ليكون تطليقها وهي تعلم عدّتها، إما بحملٍ، أو بحيض، أو ليكون تطليقها بعد علمه بالحمل وهو غير جاهل بما صنع، إذ ربما يرغب فيها فيمسكها لأجل الحمل. وقيل: الحكمة فيه أَلَّا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فإذا أمسكها زمانًا يحل له فيه طلاقها، ظهرت فائدة الرجعة؛ لأنه قد يطول مقامه معها، فقد ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4625)، ومسلم برقم (1471/ 4). (¬2) رواه مسلم (1471/ 5). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 463).

يجامعها، فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها، فيمسكها، ولاسيما على القول بوجوب جماعه لها (¬1). تنبيهات: الأول: اختلف الفقهاء في جواز تطليقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق والرجعة، فمعتمد مذهبنا، وأصح الوجهين عند الشّافعيّة: المنع (¬2). قال في "الإقناع"، وغيره: السنّة أن يطلقها واحدة في طهرٍ لم يصبها فيه، ثم يدعها، فلا يتبعها طلاقًا آخر حتى تنقضي عدّتها، إلا في طهرٍ متعقب لرجعة من طلاق في حيضٍ، فبدعة زاد في "الترغيب": ويلزمه طؤها، قال: وإن طلق المدخول بها في حيضٍ، أو طهرٍ أصابها فيه، ولو في آخره، ولم يستبن حملها، فهو طلاق بدعة محرم، ويقع نصًا، وتسن رجعتها إن كان رجعيًا، فإذا راجحها، وجب إمساكها حتى تطهر، فإذا طهرت، سنّ أن يمسكها حتى تحيض حيضة أخرى ثم تطهر، فإن طلقها في هذا الطهر قبل أن يمسها، فهو طلاق سنّة (¬3). وكلام المالكية يقتضي أن التأخير مستحب. وفي كتب الحنفية عن أبي حنيفة: الجواز، وعن أبي يوسف ومحمد: المنع، وجه من قال بالجواز: أن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 349). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 463).

طهرت، زال موجب التحريم، فجاز طلاقها في هذا الطهر كما يجوز في الطهر الذي بعده، وكما يجوز طلاقها في الطهر إن لم يتقدم طلاق في الحيض، ومن منعَ، قال: لو جاز له طلاقها عقب تلك الحيضة، كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة، فإنها شرعت لإِيْوَاءِ المرأة، ولهذا سماها إمساكًا، فأمره أن يمسكها في ذلك الطهر، وأَلَّا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى ثمّ تطهر؛ لتكون الرجعة للإمساك، لا للطلاق، ويؤكد ذلك: أن الشارع أكد هذا المعنى، حيث أمر بأن يمسكها في الطهر الّذي يلي الحيض الّذي طلقها فيه، لقوله في رواية عبد الحميد بن جعفر: "مُرْهُ أن يراجعها، فإذا طهرت، مسّها، حتى إذا طهرت أخرى، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها" (¬1)، فإذا كان قد أمره أن يمسها في ذلك الطهر، فكيف يحيى له أن يطلقها، وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهرٍ جامعها فيه؟ (¬2) الثاني: اختلفوا في وجوب المراجعة إذا طلقها في الحيضة، أو في طهر وطئها فيه، ولم يتبين حملها، فمعتمد مذهب أحمد: تسنّ رجعتها، للأمر، وأقل أحوال الاستحباب، ولأنه بالرجعة يزيل المعنى الذي حرم الطلاق من أجله، ولا تجب الرجعة على الأصح؛ لأنه طلاقٌ لا يرتفع بالرجعة، فلم تجب عليه، كالطلاق في طهر لم يصبها فيه، فإنهم أجمعوا على أن الرجعة لا تجب (¬3). قال في "شرح الكافي": تستحب رجعتها، هذا الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب، وجزم به في "الوجيز"، وقدّمه في "الهداية"، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند ابن عبد البر. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 349 - 350). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (7/ 279 - 280).

و"المذهب" (¬1)، و"مسبوك الذهب"، و"المستوعب"، و"الخلاصة"، و"المحرر"، و"الرعايتين"، و"الحاوي الصغير"، و"الفروع" (¬2)، وغيرهم. قلت: وجزم به في "الإقناع" (¬3)، و"المنتهى" (¬4)، وهو المذهب بلا ريب. وعنه: أنها واجبة في الحيض، اختارها في "الإرشاد"، و"المبهج" (¬5). ومذهب مالك: وجوب المراجعة. وقول الجمهور: عدم الوجوب، لكن صحح صاحب "الهداية" من الحنفية: أنها واجبة، وحجة من أوجبها ورودُ الأمر بها، ولأن الطّلاق لما كان محرمًا في الحيض، كانت استدامة النكاح فيه واجبة، فلو تمادى الذي طلق في الحيض حتى طهرت، فعند مالك وأكثر أصحابه: يجبر على الرجعة -أيضًا-، وقال أشهب منهم: إذا طهرت، انتهى الأمر بالرجعة. واتفقوا على أنه إذا انقضت عدّتها أن لا رجعة. ونقل ابن بطال: أنه لو طلقها في طهر مسها فيه، لا يؤمر بمراجعتها، لكن الخلاف فيه ثابت في الجملة. واتفقوا على أنه لو طلق قبل الدخول وهي حائض، لم يؤمر بالمراجعة إلا ما نقل عن زُفَر، فطرد الباب. قال في "الفتح": لو طلقها في طهر مسّها فيه، هل يجبر على الرجعة ¬

_ (¬1) انظر: "المذهب لأحمد" لابن الجوزي (ص: 140). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 287). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 463). (¬4) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (4/ 233). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 287).

كما يُجبر عليها إذا طلقها وهي حائض؟ فردّه بعض المالكية فيهما، والمشهور عنه: إجباره في الحائض دون الطّاهر، وقالوا فيما إذا طلقها وهي حائض: يجبر على الرجعة، فإن امتنع، أدّبه الحاكم، فإن أصرّ، ارتجع الحاكم عليه. وهل يجوز له طؤها بذلك؟ روايتان لهم: أصحهما: الجواز، وعن داود: يجبر على الرجعة إذا طلقها حائضًا، ولا يجبر إذا طلقها نفساء، وهو جمود كما في "الفتح" (¬1). الثالث: اختلفوا في علة منع الطلاق في الحيض، هل هو لتطويل العدّة؟ وهذا قول عامة علمائنا، وخالفهم أبو الخطاب، فقال: بل لكونه طلقها في زمن رغبته عنها، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد يقال: الذي يتعقبه عدّة؛ لأنه لابد من عدّة، كذا في "شرح الكافي" (¬2). الرابع: اختلف في الطلاق في الحيض، هل هو محرم لحق الله، فلا يباح بسؤالها، أو لحقها، فيباح فيه؟ وجهان لعلمائنا، قال الزركشي، ظاهر إطلاق الكتاب والسنّة: أنه حقٌّ لله (¬3)، وهو ظاهر كلام الإمام الموفق في "الكافي" (¬4)، وغيره، ولكن صرح في "الهداية"، و"المذهب"، و"مسبوك الذهب"، و"المستوعب"، و"الخلاصة"، وغيرهم، وقدّمه في "المحرر" (¬5)، و"الرعايتين"، و"الحاوي الصغير"، وغيرهم: أن خُلع ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 349 - 350). (¬2) وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 449). (¬3) انظر: "شرح الزركشي على الخرقي" (5/ 378). (¬4) انظر: "الكافي" لابن قدامة (3/ 161). (¬5) انظر: "المحرر في الفقه" للمجد ابن تيمية (2/ 52).

الحائض وطلاقَها بسؤالها غير محرم ولا بدعة (¬1). قلت: وهو معتمد المذهب. قال في "الإقناع": ويباح خُلع، وطلاق بسؤالها زمن بدعة (¬2)، وقال في كتاب: الحيض: ويمنع الحيض سنّة الطلاق ما لم تسأله طلاقًا بعوض، أو خلعًا، فإن سألته بغير عوض، لم يبح (¬3)، انتهى. وإذا كانت المرأة صغيرة أو آيسة، أو غير مدخولٍ بها، واستبان حملها، فلا سنّة لطلاقها ولا بدعة في وقت ولا في عدد (¬4). قال الحافظ المصنِّف -رحمه الله تعالى-: (وفي لفظ) عن ابن عمر - رضي الله عنهما - (فحسبت) تلك التطليقة التي طلقها لامرأته وهي حائض (من طلاقها) وفي بعض الألفاظ عن ابن عمر: حسبت علي بتطليقة (¬5). وفي "الصحيحين" عن يونس بن جبير، وكان ذا ثبت، قال: قلت لابن عمر: رجل طلق امرأته وهي حائض؟ فقال: أتعرف عبد الله بن عمر، فإنه طلق امرأته وهي حائض، الحديث، فقلت له: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض، أتعتدّ بتلك الطلقة؟ قال: فمه؟ أو إن عجز أو استحمق (¬6). وفي لفظٍ: قلت لابن عمر: أفاحتسبت بها؟ قال: ما يمنعه؟ أرأيت إن ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (8/ 449). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 466). (¬3) المرجع السابق، (1/ 99). (¬4) المرجع السابق، (3/ 464). (¬5) رواه البخاري (4954)، كتاب: الطلاق، باب: إذا طلقت الحائض يعتد بذلك الطلاق. (¬6) رواه مسلم (1471/ 9)، كتاب: الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وتقدم قريبًا عند البخاري.

عجز واستحمق (¬1)؟! وفي لفظ عن ابن عمر: حُسبت عليَّ بتطليقة (¬2)، وهو -بضم أوله- من الحساب (وراجعها)؛ أي: راجع المرأة التي طلقها في الحيض، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمراجعتها (عبد الله) بن عمر - رضي الله عنهما - (كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) حيث قال لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "مُرْهُ فَلْيراجعْها". تنبيه: الصحيح من المذاهب الأربعة: أن طلاقها في حيضها، وكذا طهر أصابها فيه، طلاقُ بدعة، ومحرم، ويقع (¬3)، نصَّ على ذلك الإمام أحمد، وعليه جلّ الأصحاب من علمائنا. قال في "شرح الكافي": إن طلاقها يقع، نص عليه الأصحاب، وقال الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم: لا يقع الطلاق فيهما. قال الشيخ تقي الدين: اختار طائفة من أصحاب الإمام أحمد عدمَ الوقوع في الطلاق المحرم (¬4). وقال -أيضًا-: ظاهر كلام ابن أبي موسى: أن طلاق المجامعة مكروه، وطلاق الحائض محرم. قال النووي: شذَّ بعض أهل الظاهر، فقال: إذا طلق الحائض، لم يقع ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1471/ 10)، كتاب: الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4954). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 148). (¬4) نقله المرداوي في "الإنصاف" (8/ 448).

الطّلاق؛ لأنه غير مأذون فيه، فأشبه طلاق الأجنبية (¬1)، وحكاه الخطابي عن الخوارج والروافض (¬2)، وقال ابن عبد البرّ: لا يخالف في ذلك إلا أهلُ البدع والضلال، يعني: الآن، وروى مثله عن بعض التابعين، وهو شذوذ (¬3)، وحكاه ابن العربي وغيره عن ابن عليّة (¬4)؛ يعني: إبراهيم بن إسماعيل بن عليّة الذي قال الشّافعيّ في حقه: إبراهيمُ ضالّ، جلس في باب الضوال يضل الناس (¬5)، وكان بمصر، وله مسائل ينفرد بها، وكان من فقهاء المعتزلة، وقد غلط فيه من ظن أن المنقول عنه المسائل الشاذّة أبوه، وحاشاه، فإنه من كبار أهل السنّة. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وكأن النووي أراد ببعض الظاهرية: ابن حزم، فإنه ممن جرّد القول بذلك، وانتصر له، وبالغ، وأجاب عن أمر ابن عمر بالمراجعة: بأن ابن عمر كان اجتنبها، فأمر أن يعيدها إليه على ما كانت عليه من المعاشرة، فحمل المراجعة على معناها اللغوي. وتعقب بأن الحمل على الحقيقة الشرعية مقدّم على اللغوية اتفاقًا. وأجاب عن قول ابن عمر: حُسبت عليّ بتطليقة: بأنه لم يصرح بمن حسبها عليه، ولا حجة في أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وتعقب بأنه مثل قول الصحابي: أمرنا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا، فإنه ينصرف إلى من له الأمر حينيذٍ، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذا قال بعض الشراح. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 60). (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 232). (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 59). (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 127). (¬5) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 21).

قال الحافظ ابن حجر: وعندي: لا ينبغي أن يجيء فيه الخلاف الذي في قول الصحابي: أُمرنا بكذا، فإن ذلك محله حيث يكون اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ليس صريحًا، وليس كذلك في قصة ابن عمر هذه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الآمر بالمراجعة، وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك، وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حسبت عليه بتطليقة، كان احتمال كون الذي حسبها غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيدًا جدًا، مع احتفاف القرائن في هذه القصة بذلك، وقد جاء في بعض روايات الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن طلاق ابن عمر: "هي واحدة" (¬1)، وهذا نص في موضع الخلاف، فيجب المصير إليه، وقد أورده بعض العلماء على ابن حزم، فأجاب بأن قوله: "هي واحدة" لعله ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فألزمه بأنه نقض أصله؛ لأن الأصل لا ينقض بالاحتمال. قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": وقد وافق ابنَ حزم على ذلك من المتأخرين ابنُ تيمية، وله كلام طويل في تقرير ذلك، والانتصارِ له، وأعظمُ ما احتجوا به: ما في أبي داود، والنسائي من حديث ابن عمر: فردّها علي، ولم يرها شيئًا، وإسناده على شرط الصحيح (¬2)، وأخرج الإمامُ أحمد الحديثَ بالزيادة المذكورة (¬3)، والجمهور أجابوا عن هذه الزيادة بأجوبة متعددة: منها: أن الراوي -وهو أبو الزبير- خالف نافعًا، ونافعٌ أثبت منه. ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 9). (¬2) رواه أبو داود (2185)، كتاب: الطلاق، باب: في طلاق السنة، والنسائي (3392)، كتاب: الطلاق، باب: وقت الطلاق للعدة التي أمر الله عز وجل أن تطلق لها النساء. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 80).

ومنها: أنه لم يرها شيئًا مستقيمًا، أو شيئًا تحرم معه المراجعة، أو شيئًا جائزًا في السنّة، أو ماضيًا في الاختيار، وإن كان لازمًا مع الكراهة. واحتج من لم يوقع الطلاق بما روي عن الشعبي، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي حائض، لم يعتد بها في قول ابن عمر (¬1). وروى سعيد بن منصور من طريق عبد الله بن مالك، عن ابن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس ذلك بشيء" (¬2). قال في "الفتح": وهذه متابعات لأبي الزبير، إلا أما كلها قابلة للتأويل، وهو أولى من إلغاء الصريح في قول ابن عمر: إنها حسبت عليه بتطليقة، فإنه، وإن لم يصرح برفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن فيه تسليم كون ابن عمر قال: إنها حسبت عليه، فكيف يلتئم مع هذا قوله: إنه لم يعتد بها، أو لم يرها شيئًا على المعنى الذي ذهب إليه من لم يوقع [عليه] (¬3) الطلاق. قال: واحتج ابن القيم بترجيح ما ذهب إليه شيخه بأقيسة ترجع إلى مسألة: أن النهي يقتضي الفساد، فقال: الطلاق ينقسم إلى حلال وحرام، فالقياس أن حرامه باطل كالنكاح وسائر العقود، وأيضًا فكما أن النهي يقتضي التحريم، فكذلك يقتضي الفساد. وأيضًا، فهو طلاق منع منه الشرع، فأفاد منعُه عدمَ جواز إيقاعه، فكذلك يفيد عدم نفوذه، وإلا لم يكن للمنع فائدة؛ لأن الزوج لو وكل رجلًا أن يطلق امرأته على وجه، فطلقها على غير الوجه المأذون فيه، لم ينفذ، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (17753). (¬2) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 403 - 404). (¬3) [عليه] ساقطة من "ب".

فكذلك لم يأذن الشارع للمكلف في الطّلاق إلا إذا كان مباحًا، فإذا طلق طلاقًا محرمًا، لم يصح. وأيضًا كلُّ ما حرّمه الله من العقود مطلوبُ الإعدام، فالحكم ببطلان ما حرّمة أقربُ إلى تحصيل هذا المطلوب من تصحيحه، ومعلومٌ أن الحلال المأذون ليس كالحرام الممنوع منه، وأطال على أن القياس في معارضة النص لا ينهض (¬1)، على أن الطلاق ليس من أعمال البر الذي يتقرب بها، وإنما هو إزالة عصمة فيها حق آدمي، فكيفما أوقعه، وقع، سواءٌ أُجر في ذلك، أو أثم ولو لزمَ المطيعَ ولم يلزم العاصي، لكان العاصي أخفّ حالًا من المطيع، قاله ابن عبد البر (¬2). قلت: ولشيخ الإسلام ابن تيمية ولتلميذه كلامٌ طويل على ذلك في عدة مؤلفات، كـ"إعلام الموقعين"، و"الهدي"، و"إغاثة اللهفان" لابن القيم، ولشيخ الإسلام عدة مؤلفات في هذه المسائل بخصوصها، غير أن معتمد مذهب الإمام أحمد على الوقوع كسائر مذاهب الأئمة، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 228)، وما بعدها. (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 59)، وانظر فيما نقله الشارح -رحمه الله- عن الحافظ ابن حجر: "فتح الباري" (9/ 352 - 355).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ فَاطِمَةَ بنَتِ قَيْسِ: أَنَّ أَبَا عَمْرِو بنَ حَفْصٍ طَلَّقَها البَتَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ، وَفي رِوَايةٍ: طَلَّقَهَا ثلاثًا (¬1)، فَأَرْسَلَ إلَيْهَا وَكيلُهُ بشَعِيرٍ، فَسَخِطَتْةُ، فَقَالَ: وَاللهِ! مَالَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ" (¬2). وفي لفظ: "وَلَا سُكْنَى" (¬3)، فأمرها أَنْ تَعْتدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: "تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيَابَكَ، فَإذَا حَلَلْتِ، فَآذِنِيني"، قَالَتْ: ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (1480/ 38)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، وأبو داود (2285)، كتاب: الطلاق، باب: في نفقة المبتوتة، والنسائي (3405)، كتاب: الطلاق، باب: الرخصة في ذلك، والترمذي (1135)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء أن لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، وابن ماجه (2035)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا هل لها سكنى ونفقة. (¬2) رواه مسلم (1480/ 36)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، والنسائي (3245)، كتاب: النكاح، باب: إذا استشارت المرأة رجلًا فيمن يخطبها هل يخبرها بما يعلم. (¬3) رواه مسلم (1480/ 37)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، وأبو داود (2288)، كتاب: الطلاق، باب: في نفقة المبتوتة، والنسائي (3405)، كتاب: الطلاق، باب: الرخصة في ذلك.

فَلَمَّا حَلَلْتُ، ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّا أَبُو الجَهْمِ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زيْدٍ"، فَكَرِهَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: "انْكحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ"، فَنكحَتْهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا، واغْتبَطَتْ به (¬1). * * * (عن فاطمةَ بنتِ قيس) بنِ خالدٍ الأكبرِ بنِ وهبِ بنِ ثعلبةَ بنِ وايِلةَ -بكسر الياء التحتية- بنِ عمرَ بنِ شيبانَ بنِ محاربِ بنِ فهرِ بنِ مالكِ بنِ النضرِ بنِ كنانةَ الفهريَّةِ القرشيةِ، وهي أخت الضحَّاك بن قيس. يقال: إنها كانت أكبر منه بعشر سنين، وكانت من المهاجرات الأُول، وهي التي تروي ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1480/ 36)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، وأبو داود (2284)، كتاب: الطلاق، باب: في نفقة المبتوتة، والنسائي (3245)، كتاب: النكاح، باب: إذا استشارت المرأة رجلًا فيمن يخطبها هل يخبرها بما يعلم. قلت: قد وهم المصنف -رحمه الله- في جعله الحديث من متفق الشيخين، وإنما هو مما انفرد به مسلم عن البخاري، كما نبه عليه الإشبيلي في "الجمع بين الصحيحين" (2/ 449)، حديث رقم (2456). وهكذا ذكر ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 478)، وسيأتي تنبيه الشارح -رحمه الله- عليه * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 284)، و"عارضة الأحوذي لابن العربي (5/ 70)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 48)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 266)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 94)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 54)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1322)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 282)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 129).

حديث الدجال والجساسة، وكانت ذات عقل وافر وكمال، وفي بيتها اجتمع أصحاب الشورى. روى عنها: أبو سلمة بنُ عبد الرحمن، وسليمانُ بن يسار، وعروة بن الزبير، والشعبي، وغيرهم. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثة وثلاثون حديثًا، اتفقا على واحد، وهو هذا، وانفرد مسلم بثلاثة. روى عنها الجماعة - رضي الله عنها - (¬1): (أَنَّ أبا عمرِو بنَ حفصِ) بنِ المغيرة بنِ عبد الله بنِ عمر بنِ مخزوم، القرشيَّ، المخزوميَّ، اسمه عبد المجيد، وقيل: عبد الحميد، وصححه القاضي عياض، وقيل: أحمد، قاله النسائي، قيل: ولا يعرف في الصحابة من اسمه أحمد غيره على هذا القول، لكن ذكر الذهبي في "تجريده" أحمد بن جعفر بن أبي طالب، وقال: تفرد بذكره الواقدي، ويقال: ولد لجعفر بالحبشة عبدُ الله، ومحمد، وأحمد، نقله الحافظ عبد الرحمن بن منده، وذكر الذهبي -أيضًا- أحمدَ بنَ حفص بن المغيرة المذكور، قال: وهو بكنيته أشهر، وفيه ترجيح أن اسمه أحمد عند من سماه، وهو ابن عم خالد بن الوليد - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 273)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 336)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1901)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 224)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 617)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 264)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 319)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 69)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 471).

ولم يؤرخ البرماوي، ولا ابن الأثير في "جامع الأصول" ولا غيرهما ممن رأيت وفاته، إلا أن الحافظ ابن حجر في "الفتح" قال: قد ذهب جمع جمُّ إلى أنه مات مع علي باليمن، وذلك بعد أن أرسل إليها، بطلاقها، إلا أنه يبعده قول من قال: إنه بقي إلى خلافة عمر -رضي الله عنهم أجمعين (¬1) -، وقد بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع علي بن أبي طالب حين بعثه أميرًا إلى اليمن. روى عنه عمر بن الخطاب، وناشزة بن سمي اليزني (¬2). (طلقها)؛ أي: فاطمةَ بنتَ قيس - رضي الله عنها - (البتةَ) بمعنى: المقطوعة، وهي في الأصل: المرة من بته يبتُّه بتًا وبتة، يقال: طلقها ثلاثًا بتة، وصدقة بتة؛ أي: منقطعة (¬3)، (وهو) أي: أبو عمر بن حفص (غائب) فيه دليل على وقوع الطلاق في غيبة المرأة، وهو مجمعَ عليه، (وفي رواية: طلقها ثلاثًا) يحتمل أن يكون الراوي عبّر عمّا وقع من الطلاق بلفظ: البتة، وهذا على مذهب من جعل لفظ البتة للطلاق الثلاث، ويحتمل أن يكون اللفظ الذي وقع به الطلاق هو الطلاق الثلاث، وحينيذٍ يكون قوله: طلقها البتة تعبيرًا عمّا وقع من الطلاق بلفظ الطلاق ثلاثًا، وهذا يتمسك به من يرى جواز إيقاع الطلاق الثلاث دفعة واحدة، لعدم الإنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنه يحتمل أن يكون قوله: طلقها ثلاثًا؛ أي: أوقع طلقةً يتم بها الثلاث، وقد ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 478). (¬2) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1719)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 221)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 500)، و"تهذيب الكمال" للمزي (116/ 34)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 287)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 196). (¬3) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 242)، (مادة: بتت).

جاء مصرحًا بذلك عنها: كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات (¬1) (فأرسل إليها وكيلُه)؛ أي: وكيل أبي عمرو المذكور، والوكيلُ هو عَيَّاشُ -بفتح العين المهملة وتشديد المثناة تحت فشين معجمة بينهما ألف- ابنُ أبي ربيعة، واسمُ ابن ربيعة عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي القرشي، وهو أخو أبي لهب لأمه، أسلم قديمًا قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة هو وعمر بن الخطاب، ورده أخوه أبو جهل، وأوثقه، فكان من المستضعفين الذين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو لهم في القنوت فيقول: "اللهم أنجِ عيّاشَ بنَ أبي ربيعة" (¬2)، واستشهد يوم اليرموك بالشام، وقيل: مات بمكة. روى عنه ابنه عبد الله، وعمر بن الخطاب، وغيرهما (¬3). وقيل: الوكيلُ الحارثُ بنُ هشام. وجوز ابن دقيق العيد رفعَ الوكيل ونصبَه، فإن رفعَ، كان الوكيل هو الذي أرسل رسوله إليها، وإن نصب، كان الوكيل هو الذي جاء إليها رسولًا (¬4) (بشعيرٍ) متعلق بأرسل. وفي رواية لمسلم عن فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها - قالت: أرسل ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 54 - 55). (¬2) رواه البخاري (961)، كتاب: الوتر، باب: دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلها عليهم سنين كسني يوسف"، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 129)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1230)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 750). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 55).

إلي زوجي أبو عمرو بنُ حفص بن المغيرة عياش بن أبي ربيعة بطلاقي، وأرسل معه بخمسة آصُع تمر، وخمسة آصع شعير (¬1) (فسخطتُه)؛ أي: الشعيرَ المرسلَ إليّ، كذا التمر -بضم التاء- ضمير المتكلم؛ أي: كرهتُه ولم أرضَ به. وفي "صحيح مسلم" -أيضًا-: أن أبا عمرو بن حفص المخزومي طلقها ثلاثًا، ثم انطلق إلى اليمن (¬2). وفي آخر في "صحيح مسلم" عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى اليمن، فأرسل إلى امرأته فاطمةَ بنتِ قيس بتطليقة كانت بقيتْ من طلاقها، وأمر لها الحارثُ بنُ هشام وعياشُ بن أبي ربيعة بنفقة (¬3)، (فقال) الوكيلُ، وفي لفظ حديث عبيد الله: فقالا (¬4): (والله ما لك علينا من شيء)، وفي لفظ: مالَكِ نفقة إلا أن تكوني حاملًا (¬5)، (فجاءت) فاطمةُ بنت قيس (رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك) الذي قاله لها وكيل زوجها، من عدم النفقة والسكنى الواجبين لها، لبينونتها من زوجها، وعدم حملها منه (له) - صلى الله عليه وسلم - (فقال) عليه الصلاة والسلام لها: (ليس لك عليه)؛ أي: على أبي عمرو بن حفص المخزومي (نفقةٌ)، (وفي لفظٍ) عند مسلم عنها: أنها طلقها زوجها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان أنفق عليها نفقة دونًا، فلما رأت ذلك، قالت: والله لأُعْلِمنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كانت لي نفقة، أخذت ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1480/ 48)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها. (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 38). (¬3) رواه مسلم (1480/ 41)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها. (¬4) تقدم تخريجه أنفًا. (¬5) تقدم تخريجه أنفًا.

الذي يصلحني، وإن لم تكن لي نفقة، لم آخذ منه شيئًا، قالت: فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لا نفقة لك (ولا سكنى) ". وفي مسلم -أيضًا- عن الشعبي، قال: دخلت عليَّ فاطمةُ بنتُ قيس، فسألتُها عن قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها، فقالت: طلقها زوجها البتة، قالت: فخاصمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السكنى والنفقة، قالت، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، (فأمرها) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنتقل من بيت أبي عمرو بن حفص المخزومي، و (أن تعتدَّ في بيت أم شريك). اعلم أن هذه الكنية لعدة نساء من الصحابيات، والأمر يدور في هذا الحديث بين أم شريك غُزَيَّةَ -بضم الغين المعجمة وفتح الزاي وتشديد الياء- بنتِ دودان -بضم الدال المهملة الأولى- بنِ عوفٍ القرشيةُ العامريةُ: صحابية مشهورة، وبين أم شريك الأنصارية، واسمها غزيلة، ويقال: غزيّة. قال ابن الأثير: وهي التي جاء ذكرها في حديث فاطمة بنت قيس حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: "اعتدي في بيت أم شريك"، وقال بعضهم: إن التي أمرها - صلى الله عليه وسلم - بأن تعتدّ في بيتها هي أم شريك الأولة، قال: ولا يصح؛ لأن الأولى قرشية من بني لؤي بن غالب، وهذه أنصارية، فإنه قد جاء في بعض روايات حديث فاطمة بنت قيس: أن أمَّ شريك امرأةٌ غنية من الأنصار، [وذكر ابن عبد البر في "الكنى" أن أم شريك القرشية اسمها غزيّة، ويقال: غزيلة] (¬1) وذكر في الغين من الأسماء: أم شريك الأنصارية غزيلة، ويقال: غزيّة، ووافقه ابن منده في الأنصارية والقرشية. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

وقد جاء عن ابن حبيب: في الأنصار امرأتان، كلتاهما أم شريك، فقال: في بني عبد الأشهل أم شريك بنت أنس بن نافع بن امرىء القيس بن زيد، وفي بني ساعدة أمُّ شريك بنتُ خالد بنِ خُنَيْس بنِ لوذان بن عبد ود، فيحتمل أن تكون التي أمر فاطمة أن تعتدّ في بيتها إحدى هاتين الأنصاريتين (¬1)، (ثم) بعد أمرِه - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة أن تعتدّ في بيت أم شريك (قال: تلك)؛ أي: أم شريك (امرأة يغشاها أصحابي)، قيل: كانوا يزورونها، ويُكثرون التردد إليها، لصلاحها (¬2) (اعتدي عند) ابنِ عمك عمرو، وقيل: عبد الله بن قيس بن زائدة -كما مرّ ذكره في باب الأذان- (ابنِ أمِّ مكتوم)، وهي أمه، واسمها عاتكةُ بنتُ عبد الله من بني مخزوم، وهو ابن خال خديجةَ بنتِ خويلد. وفي "صحيح مسلم" أنه قال لها: "انتقلي إلى بيت ابن عمك عمرو بن أم مكتوم، فاعتدّي عنده" (¬3)؛ (فإنّه) أي: ابن أم مكتوم (رجلٌ أعمى)، وفي رواية: "فإنه ضرير البصر" (¬4) (تضعين)، وفي لفظٍ: "تلقين (ثيابك) عنده" (¬5)، وفي رواية: "فإنك إذا وضعتِ خمارك، لم يرك" (¬6) (فإذا حللت) للخطاب بانقضاء عدتك (فآذنيني)؛ أي: أعلميني زاد (قالت) فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها -: (فلما حللت) بانقضاء عدتي (ذكرت ذلك له) - صلى الله عليه وسلم - (وأن معاوية بن أبي سفيان) صخرِ بنِ حرب بن أمية القرشي ¬

_ (¬1) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 512 - قسم التراجم). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 96). (¬3) رواه مسلم (1480/ 45)، كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 48). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 48). (¬6) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 38).

الأموي - رضي الله عنه -، وتقدمت ترجمته - (وأبا جهم) -بفتح الجيم وسكون الهاء على التكبير، وربما قيل: أبو [جهيم بدون أل] (¬1)، واسمه عامر، وتقدمت ترجمته في آخر باب: الذكر عقب الصلاة (خطباني) خطبة النكاح -بكسر الخاء المعجمة؛ أي: طلبا نكاحي من نفسي، والخَطبة -بالفتح-: المرَّة من خطب القوم، و-بالضم-: ما يقوله الخطيب (¬2)، (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لها: (أما أبو الجهم فلا يضع عصاه)؛ أي: العود المعروف (عن عاتقه)؛ أي: موضع ردائه من منكبه، قيل: أراد - صلى الله عليه وسلم -: أنه يؤدب أهله بالضرب. قلت: ويؤيد هذا المعنى في "صحيح مسلم" وغيره من حديث أبي بكر بن أبي الجهم العدوي، عن فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها -، وذكرت الحديث، وفيه: "وأما أبو الجهم، فرجلٌ ضَرَّاب للنساء" (¬3)، وفي رواية أخرى: "وأبو الجهم منه شدة على النساء، أو يضرب النساء، أو نحو هذا" (¬4)، وفي "سنن النسائي": "أما أبو الجهم فرجلٌ أخافُ عليك قسقاسته" (¬5)؛ أي: عصاه، أي: إنه يضربها بها (¬6)، وفي لفظٍ: "فإنه صاحب شر لا خير فيه" (¬7)، وقيل: أراد بذلك كثرة الأسفار، يقال: رفع ¬

_ (¬1) في "ب": "جهم بدون". (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 103)، (مادة: خطب). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 47). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 48). (¬5) رواه النسائي (3545)، كتاب: الطلاق، باب: الرخصة في خروج المبتوتة من بيتها في عدتها لسكناها. (¬6) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 61). (¬7) رواه النسائي (3244)، كتاب: الطلاق، باب: خطبة الرجل إذا ترك الخاطب أو أذن له.

عصاه: إذا سافر، وألقى عصاه: إذا نزل وأقام؛ أي: لا حظّ لك في صحبته؛ لأنه كثير السفر، قليل المقام. وفي رواية: "إني أخاف عليكِ قسقاسته العصا" (¬1)، فذكر العصا تفسيرًا للقسقاسة، وقيل: أراد: قسقسته للعصا، أي: تحريكه إياها، فزاد الألف ليفصل بين توالي الحركات (¬2). والحاصل: أنه - صلى الله عليه وسلم - كنّى عن كثرة الضرب أو السفر بكونه لا يضع العصا من عاتقه مبالغةً في الكثرة. (وأما معاوية) بن أبي سفيان فغلامٌ من غلمان قريش لا شيء له، (فـ) ـهو (صعلوك) -بضم الصاد وسكون العين المهملتين فلامٌ مضمومة فواو فكاف- كعصفور، وهو الذي (لا مال له)، قال في "القاموس": صعلكه: أفقره، والصعلوك، كعصفور: الفقير، وتصعلك: افتقر، والجمع صعاليك (¬3). وفي رواية للنسائي: "وأما معاوية فرجلٌ أملق من المال" (¬4)؛ أي: فقير منه، يقال: أملق الرجل، فهو مُمْلِق، وأصل الإملاق: الإنفاق، يقال: أملق ما معه إملاقًا، وملقه ملقًا: إذا أخرجه من يده، ولم يحبسه، والفقر تابع لذلك، فاستعملوا لفظ السبب في موضع المسبب حتى صار به أشهر كما في "النهاية" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر رواية النسائي المتقدم تخريجها برقم (3545). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 61). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1221)، (مادة: صعلك). (¬4) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (3545). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 357).

(انكحي أسامة بن زيد) بن حارثة - رضي الله عنهما - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحِبَّه وابن حِبّه -تقدمت ترجمته في باب: فسخ الحج إلى العمرة-، قالت فاطمة - رضي الله عنها -: (فكرهته)؛ أي: أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -، وسبب كراهتها له إما لكونه مولى، أو لسواده، وفيه: جواز نكاح القرشية للمولى (¬1)، (ثم قال) - صلى الله عليه وسلم - لها: (انكحي أسامة بن زيد) - رضي الله عنهما -، وفي رواية: فقالت فاطمة - رضي الله عنها - بيدها هكذا أسامة، أسامة! فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "طاعةُ الله وطاعةُ رسوله خيرٌ لكِ" (¬2)، قالت: (فنكحته)؛ أي: تزوجت أسامة - رضي الله عنه -، (فجعل الله) -عزّ وجلّ- (فيه)؛ أي: في نكاحي له أو فيه نفسه (خيرًا) كثيرًا (واغتبطت)؛ أي: فرحتُ وحصل لي السرور (به). وفي حديث: "اللهم غَبْطًا لا هَبْطًا" (¬3)؛ أي: أَوْلِنا منزلةً نُغبط عليها، وجَنِّبنا منازلَ الهبوط والضَّعة، وقيل: معناه: نسألك الغبطة، وهي النعمة والسرور، ونعوذ بك من الذل والخضوع (¬4). وفي الحديث دليلٌ على جواز ذكر الإنسان بما فيه عند النصيحة، فلا يكون من الغيبة المحرمة، وهذا أحد المواضع التي أبيحت فيها الغيبة لأجل المصلحة (¬5). قال الإمام ابن عقيل في "الفصول": قال أبو طالب: سئل أبو عبد الله؛ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام " لابن دقيق (4/ 58). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 47). (¬3) لم أقف عليه. (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 340). (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 57).

يعني: الإمام أحمد - رضي الله عنه - عن الرجل يخطب إليه، فيسأل عنه، فيكون رجل سوءٍ، فيخبره مثل ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لفاطمة: معاوية عائل، وأبو جهم عصاه على عاتقه، يكون غيبة أن أخبره؟ قال: المستشار مؤتمن يخبره بما فيه. قال: ابن عقيل: لا يقصد الإزراء على المذكور، ولا الطعن فيه. وسئل الإمام أحمد - رضي الله عنه - عن معنى الغيبة - يعني: في النصيحة -، قال: إذا لم ترد عيب الرّجل. وقال: الخلال: أخبرني حرب: سمعت الإمام أحمد - رضي الله عنه - يقول: إذا كان الرجل معلِنًا بفسقه، فليست له غيبة. وقال: أنس، والحسن: من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة فيه (¬1). قال: ابن مفلح في "الآداب": الأشهرُ عنه -يعني: الإمام أحمد- الفرقُ بين المعلِن وغيره (¬2). ومن المواضع التي يجوز فيها أن يذكر المرء بما فيه ونحوه بأن يكون لا يُعرف إلا بلقبه، كالأعرج، والأعمش، وقد سهل الإمام أحمد في مثل هذا إذا كان قد شهر. قال في "شرح مسلم": قال: العلماء من أصحاب الحديث والفقه وغيرهم: يجوز ذكر الراوي بلقبه، وصفته، وبنسبه الذي يكرهه إذا كان المراد تعريفه، لا تنقصه، للحاجة، ومنها: جرح الراوي للحاجة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 316 - 317). (¬2) المرجع السابق، (1/ 318). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (1/ 53).

قال في "الآداب الكبرى": لكن يمتاز الجرح بالوجوب، فإنّه من النصيحة الواجبة بالإجماع (¬1). وفي "الفصول" لابن عقيل، و"المستوعب" للسامري: من جاز هجره من أهل البدع، أو المجاهر بالكبائر، جازت غيبته (¬2). ومنها: إذا رفع المنكِر على المنكَر عليه لمن يقدر على إزالته، وقد نظم بعضهم ذلك فقال (¬3): [من الكامل] القَدْحُ لَيْسَ بِغِيبةٍ فِي سِتَّةٍ ... مُتَظلِّمٍ وَمُعَرِّفٍ وَمُحَذِّرِ وَلِمُظْهِرٍ فِسْقًا وْمُسْتَفْتٍ وَمَنْ ... طَلَبَ الإِعَانَةَ فِي إِزَالَةِ مُنْكَرِ تنبيهان: الأول: اشتمل حديث فاطمةَ بنتِ قيس - رضي الله عنها - على فوائد كثيرة، وأحكام غزيرة، إلا أن عمدة ذلك أربعةُ أشياء: * الأول: جواز الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، ووقوعه، وقد اختلف الناس في وقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة على أربعة مذاهب، أحدها: أنها تقع الثلاث، وهذا قول الأئمة الأربعة، وجمهور التابعين، وكثير من الصحابة. * الثاني: أنها لا تقع، بل تُرد؛ لأنها بدعة محرمة، والبدعة مردودة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 40). (¬2) المرجع السابق، (1/ 318). (¬3) هو ابن أبي شريف، كما قال الصنعاني في "سبل السلام" (4/ 194)، وكان في الأصل: "أو مشتك" بدل "ومستفت"، والصواب ما أثبت. (¬4) تقدم تخريجه.

وهذا المذهب حكاه أبو محمّد بن حزم، وحكي للإمام أحمد، فأنكره، وقال: هذا قول الرّافضة. * الثالث: أنه يقع به واحدة رجعية، وهذا ثابت عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، ذكره أبو داود عنه. قال الإمام أحمد: وهذا مذهب ابن إسحاق، يقول: خالف السنّة، فيرد إلى السنّة، انتهى. وهو قول طاوس، وعكرمة كما في "الهدي" (¬1). قال في "شرح الوجيز" وغيره: وأوقع الشّيخ تقي الدين بن تيمية -قدّس الله روحه- من ثلاث مجموعة أو متفرقة قبل رجعة طلقة واحدة، وقال: لا نعلم لها فرقًا بين الصورتين، وحكى عدم وقوع الطلاق الثلاث جملة، بل واحدة في المجموعة أو المفرقة عن جده المجد، وأنه كان يفتي به أحيانًا سرًا، ذكره عنه في "الطبقات". وقال: في إيقاع الثلاث إنما جعله عمر - رضي الله عنه -، لإكثارهم منه، فوافقهم على الإكثار منه لما عصوا بجمع الثلاث، فتكون عقوبة من لم يتق الله من التعزير الذي يرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة، كالزيادة على الأربعين في حد الخمر، لمّا أكثر الناس منها، وأظهروه، ساغت الزيادة عقوبة (¬2)، انتهى. واختاره ابن القيم، وكثير من أتباع شيخ الإسلام. قال ابن المنذر: وهذا هو مذهب أصحاب ابن عباس، كعطاء، ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 247 - 248). (¬2) وانظر: "المبدع" لابن مفلح (7/ 262 - 263).

وطاوس، وعَمْرِو بن دينار، كما نقله الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري" (¬1). وقال: القرطبي في "تفسيره" على قوله -تعالى-: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]: اتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الثلاث، وهو قول جمهور السلف، ونقل طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة تقع به واحدة. ويروى هذا عن محمد بن إسحاق، والحجاج بن أرطاة، وقال بعده: ولا فرق بين أن يوقع ثلاثًا مجتمعًا في كلمة، أو متفرقًا في كلمات (¬2). وانتصر ابن القيم لهذا في "إغاثة اللهفان" (¬3)، وفي "الهدي" (¬4)، و"إعلام الموقعين" (¬5)، وغيرها انتصارًا لا مزيد عليه، وأقام عليه حججًا ظاهرة، وأدلة باهرة، غير أن مذهب الإمام أحمد وقوع الثلاث، والله أعلم. * المذهب الرابع: أن يفرق بين المدخول بها وغيرها، فيقع الثلاث بالمدخول بها، ويقع بغيرها واحدة، وهذا قول جماعة من أصحاب ابن عباس، وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه محمّد بن نصر المروزي في كتاب "اختلاف العلماء"، فأمّا من لم يوقعها جملة، فاحتجوا بأنه طلاق بدعة محرم، والبدعة مردودة، وقد اعترف أبو محمّد بن حزم ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 363). (¬2) انظر: "تفسير القرطبي" (3/ 129). (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 284). (¬4) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 247). (¬5) انظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (3/ 70).

بأنها لو كانت بدعة محرمة، لوجب أن ترد وتبطل، ولكنه اختار مذهب الشّافعيّ: أن جمع الثلاث جائز غير محرم (¬1). وحجة من لم يحرم الثلاث ما في حديث فاطمة هذا من قولها: طلقني ثلاثًا مع أن في نفس حديثها في "صحيح مسلم": أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها (¬2)، وفي لفظٍ فيه: طلقها آخر ثلاث تطليقات (¬3)، وهو سند صحيح متصل لاخفاء عليه. الثاني والثالث: نفقة البائن وسكناها، والحديث صريح في عدم وجوب ذلك للبائن، وفي بعض ألفاظ "سنن النسائي" بسند صحيح لا مطعن فيه: فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة"، ورواه الدارقطني (¬4)، قالت: فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة (¬5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما السكنى والنفقة لمن يملك الرجعة" (¬6)، وإسناد هذا صحيح، وهذا قول ابن عباس وأصحابه، وجابر بن عبد الله، وفاطمة بنت قيس إحدى فقهاء نساء الصحابة، وكانت تناظر عليه، وبه يقول الإمام أحمد وأصحابه، وإسحاق بن راهويه وأصحابه، وداود بن علي وأصحابه، وسائر أهل الحديث. وللفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهي ثلاث روايات عن الإمام ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 248). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 41). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 40). (¬4) رواه النسائي (3403)، كتاب: الطلاق، باب: الرخصة في ذلك، والدارقطني في "سننه" (4/ 22). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 42). (¬6) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 22).

أحمد، أحدُها: هذا، والثاني: أن لها النفقة والسكنى، وهو قول عمر بن الخطاب، وابن مسعود - رضي الله عنهما -، وهو قول فقهاء الكوفة، والثالث: أن لها السكنى دون النفقة، وهذا مذهب أهل المدينة، وبه يقول الإمام مالك والشّافعيّ. قال الدارقطني: السنّة بيد فاطمة بنت قيس قطعًا، ومن له إلمام بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، علم حقية عدم ثبوت السكنى والنفقة للبائن ما لم تكن حاملًا. قال في "الهدي" وقد تناظرَ في هذه المسألة ميمونُ بن مروان، وسعيدُ بن المسيَّب، فذكر له ميمون خبرَ فاطمة، فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس، فقال له ميمون: لئن كانت إنما أخذت ما أفتاها به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما فتنت النَّاس، وإن لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوةٌ حسنةٌ. وأطال صاحب "الهدي" في الانتصار لهذا، ورد على من خالف حديث فاطمة بما يشفي ويكفي (¬1)، والله أعلم. الرابع: العدّة، فمان كانت حاملًا، فبتمام وضع الحمل، سواء كانت بائنة أو رجعية، مفارقة في الحياة أو متوفى عنها زوجها حيث كان الحمل من الزوج، وإن لم تكن حاملًا، وكانت تحيض، فعدّتها ثلاثة أقراء، وسواء كانت بائنة أو رجعية، وعدّة التي لا حيض لها، وهي الصغيرة والآيسة ثلاثة أشهر، وأما المتوفى عنها زوجها، فعدتها إن لم تكن حاملًا أربعة أشهر وعشر ليال (¬2)، ويأتي قريبًا. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 539). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 95).

التنبيه الثاني: ظاهر صنيع المصنف -رحمه الله تعالى-: أن حديث فاطمة بنت قيس من متفق الشيخين، وليس كذلك، بل رواه الإمام أحمد في "المسند" (¬1)، ومسلم في "صحيحه" (¬2)، والإمام مالك في "الموطأ" (¬3)، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬4)، وغيرهم. وأما البخاري، فقال قصة فاطمة بنت قيس، وذكر بسنده أن يحيى بن سعيد [بن العاص] (¬5) طلق امرأته بنت عبد الرحمن بن الحكم، واسمها عمرة، وهي بنت أخ مروان بن الحكم الذي ولي الخلافة بعد ذلك، فأنقلها عبد الرحمن، فأرسلت عائشة أم المؤمنين إلى مروان وهو أمير المدينة: اتق الله، وارددها إلى بيتها، قال مروان: أوَ ما بلغك شأنُ فاطمة بنت قيس؟ قالت: لا يضرك أَلَّا تذكر حديث فاطمة (¬6). ثم ذكر بسنده عن عائشة أنها قالت: ما لفاطمة ألا تتقي الله، يعني: في قولها: لا سكنى ولا نفقة (¬7). ثم ذكر سنده عن عروة بن الزبير: أنه قال لعائشة: ألم تسمعي إلى قول فاطمة؟ قالت: أما إنّه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث، زاد ابن أبي الزناد ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 411). (¬2) كما تقدم تخريجه. (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 580). (¬4) تقدم تخريجه عندهم. (¬5) [بن العاص] ساقطة من "ب". (¬6) رواه البخاري (5015)، كتاب: الطلاق، باب: قصة فاطمة بنت قيس. (¬7) رواه البخاري (5016)، كتاب: الطلاق، باب: قصة فاطمة بنت قيس.

عن هشام عن أبيه: عابت عائشة أشد العيب، وقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحشٍ، فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص لها النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). فلم يذكر قصتها في "البخاري"، وإنما أشار إلى أشياء منها فقط، ومن ثمّ لم يعز القصّة في "الجمع بين الصحيحين" إلا إلى مسلم فقط، ثمّ قال: لم يخرج البخاري من حديث فاطمة إلا من حديث هشام إلى آخر الباب (¬2)، وهو القدر الذي ذكرناه، ومن ثمّ وَهَّمَ الحافظ ابن حجر في "الفتح" المصنفَ -رحمه الله تعالى (¬3) -، ولم ينبه على ذلك ابنُ دقيق العيد في "شرحه" (¬4)، والله الموفق. تتمة: في ذكر بعض ما أشار إليه حديث فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها - من النفقة، وما احتج به العلماء: احتج الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد في سقوط نفقة المبتوتة إذا كانت حائلًا لا حاملًا. وأحمد وإسحاق على إسقاط السكنى -أيضًا-. والشّافعيّ ومن وافقه على جواز جمع الطلقات الثلاث، لقولها في بعض الألفاظ: طلقني، وقد بينا أنه إنما طلقها آخر ثلاث كما أخبرت به عن نفسها. واحتج به من يرى جواز نظر المرأة إلى الرجال. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5017)، كتاب: الطلاق، باب: قصة فاطمة بنت قيس. (¬2) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (2/ 449). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 478). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" له (4/ 54).

واحتج به الأئمة كلهم على جواز خطبة الرجل على خطبة أخيه، إذا لم تكن المرأة قد سكنت إلى الخاطب الأول. واحتج [به] على جواز بيان ما في الرجل إذا كان على وجه النصيحة -كما تقدم-، وعلى جواز نكاح القرشية غيرَ القرشي، وعلى وقوع الطلاق في غيبة أحد الزوجين عن الآخر -كما تقدم-، وعلى جواز التعريض بخطبة المعتدّة البائن؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها -كما في بعض الروايات-: "لا تسبقيني بنفسك" (¬1)، وفي بعضها: "فإذا حللت فآذنيني" (¬2)، وغيرها من الأحكام (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 38). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1480/ 36). (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 540)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- هذه التتمة.

باب العدة

باب العدة بكسر العين المهملة، وهي ما تعدُّه المرأة من أيام أَقرائها وأيام حملها، [أو] أربعة أشهر وعشر ليال للمتوفى عنها زوجها. قال ابن فارس: عِدَّة المرأة: أيامُ أقرائها، والمرأة معتدَّة (¬1). وذكر الحافظ في هذا الباب أربعة أحاديث. ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 348).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ سُبَيْعةَ الأَسْلَمِيَةِ: أَنَّها كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، وَهُوَ فِي بَنِي عَامِرِ بنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نَفَاسِهَا، تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابلِ بْنُ بَعْكَكٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكَ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تُرَجِّيْنَ النِّكَاحَ، وَاللهِ! مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَني بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لي. قَالَ ابنُ شِهَابٍ: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَتَزَوَّجَ حِينَ وَضَعَتْ، وإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُها زَوْجُهَا حَتَّى تَطْهُرَ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3770)، كتاب: المغازي، باب: فضل من شهد بدرًا، و (5013 - 5014)، كتاب: الطلاق، باب: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]،، ومسلم (1484/ 56)، كتاب: الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها، بوضع الحمل، واللفظ له، وأبو داود (2306)، كتاب: الطلاق، باب: في عدة الحامل، والنسائي (3518)، كتاب: الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها. =

(عن سبيعة) -بضم السين المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية وعين مهملة، مصغرة- بنت الحارث، وفي رواية لابن إسحاق عند الإمام أحمد: سبيعة بنت أبي برزة، فإن كان محفوظًا، فهو أبو برزة آخر غير الصحابي المشهور، وهو إما كنية للحارث والد سبيعة، أو نسبت في الرواية المذكورة إلى جدٍّ لها (الأسلمية) أبوها الحارثُ من ولد أسلَم -بفتح اللام-، وهي صحابية جليلة، روي لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر حديثًا. روى عنها: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عتبة بن مسعود. قال ابن عبد البر: روى عنها حديثَ العدة فقهاءُ المدينة، وفقهاء الكوفة، والتابعون - رضي الله عنها - (¬1). (أنها)؛ أي: سبيعة الأسلمية (كانت تحت) زوجِها (سعدِ بنِ خولةَ) -بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو-، وقدّمنا بعض ترجمته في حديث سعد بن أبي وقّاص في "الوصايا" ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 290)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 210)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 63)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 280)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 108)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 58)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1332)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 471)، و"عمدة القاري" للعيني (17/ 102)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 180)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 85). (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 287)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1859)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 138)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 612)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 193)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 690)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 453).

في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لكن البائس سعد بن خولة" (وهو في) عداد (بني عامر بن لؤي) من أنفسِهم، وقيل: هو حليفٌ لهم، وقيل: هو مولى أبي رهم بن عبد العزى العامري، (وكان) سعدُ بن خولة - رضي الله عنه - من الصحابة الأول، (ممن شهد بدرًا)، ومن مهاجرة الحبشة الهجرة الثانية، (فتوفي) - رضي الله عنه - (عنها)؛ أي: سبيعة (في حجة الوداع). نقل ابن عبد البر الاتفاق على ذلك (¬1)، ونظر فيه في "الفتح" بأن محمد بن سعد ذكر أنه كان مات قبل الفتح (¬2)، وذكر الطبري أنه مات سنة سبع، والصحيح أنه مات بمكة في حجة الوداع (¬3)، (وهي) زوجته؛ أي: سبيعة (حامل، فلم تنشب)؛ أي: لم تلبث (أن وضعت حملها بعد وفاته)؛ أي: زوجها وحقيقته؛ أي: لم تتعلق بشيءٍ غيره، ولا اشتغلت بسواه، والمراد: قرب ولادتها بعد موت زوجها كما في رواية في "الصحيحين": بعد وفاة زوجها بليالٍ (¬4). وفي حديث سبيعة عن الإمام أحمد: فلم أمكث إلا شهرين حتى وضعت (¬5). وفي رواية: فولدت لأدنى من أربعة أشهر (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 587). (¬2) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 408). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 472). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5014)، ورواه مسلم (1485)، كتاب: الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 432). (¬6) رواه النسائي (3517)، كتاب: الطلاق، باب: عدة المتوفى عنه زوجها، عن =

وفي رواية يحيى بن أبي كثير عند البخاري: فوضعت بعد موته بأربعين ليلة (¬1). وفي بعض طرق البخاري -أيضًا-: فمكثت قريبًا من عشر ليال، ثم جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وفي رواية عند النسائي: أما وضعت بعد وفاة زوجها بعشرين ليلة (¬3). وفي رواية عند ابن أبي حاتم: أو خمس عشرة (¬4). وفي رواية الأسود: فوضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين يومًا، أو خمسة وعشرين يومًا، كذا عند الترمذيّ والنسائي (¬5). والحاصل أنه ورد في تقدير المدة ما بين موت زوجها ووضعها روايات متعددة والجمع بينها متعذر، أقل ما ورد في ذلك خمسة عشر (¬6)، وأما رواية عشر، أو ثمان، فالمراد: ما بين وضعها واستفتائها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكثر ¬

_ = أبي سلمة - رضي الله عنه -. (¬1) رواه البخاري (4626)، كتاب: التفسير، باب: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، عن أبي سلمة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (5012)، كتاب: الطلاق، باب: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} عن أبي سلمة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه النسائي (3511)، كتاب: الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، عن أبي سلمة - رضي الله عنه -. (¬4) كذا عزاه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 473)، ولم أقف عليه فيما طبع من "تفسيره"، والله أعلم. (¬5) رواه النسائي (3508)، كتاب: الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، والترمذي (1193)، كتاب: الطلاق، باب: ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع. (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 473).

ما قيل في المدة ما بين وفاة زوجها ووضعها بالصريح مدة شهرين، وبغيره دون أربعة أشهر، (فلما تَعَلَّتْ من نفاسها)؛ أي: طهرت منه، يقال: تَعَلَّتْ المرأة من نفاسها -بتشديد اللام-. إذا ارتفعت منه، وطهرت عن دمها كما في "جامع الأصول" لابن الأثير (¬1). و"في كتاب" الخطابي: تعالت (¬2)، وهما بمعنى. قال في "النهاية": ويجوز أن يكون من قولهم: تعلَّى الرجل من علّته: إذا برىء؛ أي: خرجت من نفاسها وسلمت (¬3) (تجملت) بالغسل والتنظيف ولباس ثياب الزينة (للخطاب) جمع خاطب، وهو الطالب من المرأة أو وليها أن يتزوجها، (فدخل عليها)؛ أي: سبيعة (أبو السنابل) -بسين مهملة فنون فألف فموحدة فلام- جمع سنبلة (بن بَعْكَك) -بموحدة مفتوحة فعين مهملة ساكنة فكافين، بوزن جعفر- بنِ الحارث بن عميلة بن السباق [بن ([رجل من بني] (¬4) عبد الدار) كذا نسبه ابن إسحاق، وقيل: هو بعكك بن الحجاج بن الحارث بن السباق، نقله ابن عبد البر عن الكلبي، وكان أبو السنابل بن بعكك من المؤلِّفة، وسكن الكوفة، وكان شاعرًا. ونقل الترمذيّ عن البخاري: أنه قال: لا نعلم أن أبا السنابل عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذا قاله، لكن جزم ابن سعد أنه بقي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - زمنًا. وقال: ابن منده في "الصحابة": عداده في أهل الكوفة. وكذا قال: أبو نعيم أنه سكن الكوفة، ونظر فيه الحافظ ابن حجر بأن ¬

_ (¬1) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (8/ 111). (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 290). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 293). (¬4) [رجل من بني]: سقطت من "ب".

خليفة قال: أقام بمكة حتى مات، وتبعه ابن عبد البر، ويؤيد كونَه عاش بعد النبي: قول ابن البرقي أن أبا السنابل تزوج سبيعة بعد ذلك، وأولدها سنابلَ بن أبي السنابل، ومقتضى ذلك أن يكون عاش أبو السنابل بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه وقع في رواية عبد ربه بن سعيد، عن أبي سلمة: أنها تزوجت الشاب، وكذا في رواية داود بن أبي عاصم: أنها تزوجت فتى من قومها (¬1). تنبيه: اختلف في اسم أبي السنابل، فقيل: عمرو، وقيل: حبة -بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة-، وقيل: -بالنون-، قال: ابن ماكولا: ولا يصح، وقيل: اسمه لبيد -بفتح اللام وكسر الموحدة-، وقيل: لبيد ربّه، وقيل: عامر، وقيل: أصرم، وقيل: عبد الله، وفي "الفتح" وقع في بعض الشروح وقيل: بغيض، وغلط قائله، قال: وسبب الغلط أن بعض الأئمة سئل عن اسمه، فقال: بَغيضٌ يسأل عن بغيض، فظن الشارح أنه اسمه، وليس كذلك؛ لأن في بقية الخبر اسمه لبيد ربّه، وجزم العسكري بأن اسمه كنيته (¬2)، فهو رجل من بني عبد الدار بن قصي القرشي العبدري، وهو من مسلمة الفتح، ومات بمكة. روى عنه الأسود بن يزيد النخعي، روى له الترمذيّ، والنسائي، وابن ماجه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 472). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 449)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 387)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 89)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1684)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 152)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 522)، و"تهذيب الكمال" للمزي =

(فقال) أبو السنابل (لها)؛ أي: سبيعة: (مالي أراكِ متجملة؟). وفي رواية: صحيحة أن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها توفي عنها وهي حبلى، فخطبها أبو السنابل بن بعكك، فأبت أن تنكحه (¬1)، فقال: (لعلّك تُرَجِّين) -بضم المثناة فوق وبفتح الراء وتشديد الجيم- من الرجاء (النكاحَ) مفعول ترجين (والله! ما أنت بناكح)؛ أي: ما أنت بمتزوجة؛ أي: لا يحلّ لك ذلك. وقد أفاد ابن بشكوال فيما حكاه عن محمّد بن وضاح: أن أبا السنابل خطب سبيعة هو وشاب، فآثرت الشاب على أبي السنابل، وأن اسم الشاب أبو البِشْر بن الحارث، وضبطه -بكسر الموحدة وسكون المعجمة- (¬2). ووقع في رواية "الموطأ": فخطبها رجلان، أحدهما شاب، و [الآخر] كهل، فحطت إلى الشاب (¬3)، فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه (¬4). وفي رواية "الموطأ": فقال الكهل: لم تحلِّي، وكان أهلها غيبًا، فرجا أن يؤثروه بها (¬5) (حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر) ليال. وفي رواية: حتى تعتدي آخر الأجلين (¬6). وفي رواية عند النسائي، قال: وضعت سبيعة حملها بعد وفاة زوجها ¬

_ = (33/ 385)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 190)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 132). (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5012). (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 167). (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 589). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5012). (¬5) تقدم تخريجه قريبًا. (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5012).

بثلاثة وعشرين، أو خمسة وعشرين ليلة، فلما تعلّه، تَشَوَّفت للأزواج، فعيب ذلك عليها، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الحديث (¬1)، ومعنى تشوفت: رغبت ومالت للأزواج، (قالت سبيعة: فلما قال لي) أبو السنابل (ذلك) أي: لا يسوغ لها النكاح إلا بعد أربعة أشهر وعشر (جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيت)، وظاهر هذا أنه مساء اليوم الذي قال لها أبو السنابل فيه ما قال، ويؤيده قولها: (فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن ذلك)، فإنه يفيد التعقيب. وفي رواية عند البخاري: فقال: والله! ما يصلح أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين، فمكثتْ قريبًا من عشر ليال، ثمّ جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم (¬2)، ويمكن الجمع بينهما بأن يحمل قولها: حين أمسيت، على إرادة وقت توجيهها، ولا يلزم منه أن يكون ذلك في اليوم الذي قال لها فيه أبو السنابل ما قال، (فأفتاني) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (بأني قد حللتُ) للأزواج (حين وضعتُ حملي، وأمرني) - صلى الله عليه وسلم - أمرَ إرشادٍ وبيانٍ (بالتزويج إن بدا لي) أن أتزوجَ، فلا حرج لانقضاء العدة بوضع الحمل. قال في "الفتح": ويظهر من مجموع الطرق في قصة سبيعة: أن أبا السنابل رجع عن فتواه أولًا أما لا تحل حتى تمضي مدة عدة الوفاة؛ لأنه قد روى قصة سبيعة، وقد ردّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أفتاها أبو السنابل من أنها لا تحل حتى يمضي لها أربعة أشهر وعشر ليال، ولم يرد عن أبي السنابل تصريح في حكمها لو انقضت المدة قبل الوضع، هل كان يقول بظاهر إطلاقه من ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (3508). (¬2) تقدم تخريجه برقم (5012).

انقضاء العدة، أو لا؟ لكن نقل غير واحد الإجماع على أما لا تنقضي حتى تضع. وفي هذا دليل [على] أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يفتون في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه: أن المفتي إذ كان له ميل إلى الشيء، لا ينبغي له أن يفتي فيه، لئلا يحمله الميلُ إليه على ترجيح ما هو مرجوح، كما وقع لأبي السنابل، حيث أفتى سبيعة أما لا تحل بالوضع، لكونه كان خطبها، فمنعته، ورجا أما إذا قبلت ذلك منه، وانتظرت مضيَّ العدة، حضر أهلها، فرغبوها في زواجه دون غيره. وفيه: ما كان في سبيعة من الشهامة والفطنة حتى ترددت فيما أفتاها به حتى حملها ذلك على استيضاح الحكم من الشارع: وهكذا ينبغي لمن ارتاب في فتوى المفتي، أو حكمِ الحاكم في مواضع الاجتهاد أن يبحث عن النص في تلك المسألة، ولعلّ ما وقع من أبي السنابل من ذلك هو السر في إطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كذب في الفتوى المذكورة، كما أخرجه الإمام أحمد من حديث ابن مسعود (¬1)، على أن الخطأ قد يطلق عليه الكذب، وهو في كلام أهل الحجاز كثير، وحمله بعض العلماء على ظاهره، فقال: إنما كذبه؛ لأنه كان عالمًا بالقصة، وأفتى بخلافه، حكاه ابن داود عن الشافعي في "شرح المختصر"، واستبعده في "الفتح". وفيه: الرجوع في الوقائع إلى الأعلم، ومباشرة المرأة السؤال عمّا ينزل بها، ولو كان مما يستحيي النساء من مثله. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 447).

وفيه: جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها، ففي رواية غير ما مر: أن سبيعة تهيأت للنكاح، واختضبت، وفي رواية عند الإمام أحمد، فلقيها أبو السنابل وقد اكتحلت، وفي رواية: تطيبت وتَصنَّعت. وفيه: أن الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل (¬1)، وهو المقصود من إيراد الحديث. (قال) الإمام الجليل أبو بكر محمّد بن مسلم بن عبد الله (ابن شهاب) بنُ الحارث بنِ زهرة بنِ كلاب بنِ مرّة بنِ كعب بنِ لؤي الزهريُّ، أحد أئمة الفقهاء والمحدِّثين، تابعي جليل، سكن الشام، وسمع سهل بن سعد، وأنس بن مالك، وأبا الطفيل، وغيرهم، وذكر جماعة من حفاظ الحديث أن ابن شهاب سمع عشرة من الصحابة - رضي الله عنهم -. وقد روى عن ابن شهاب خلق كثير، ومناقبه مشهورة، مات في شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومئة، وقيل: خمس وعشرين، وهو ابن سبعين سنة، ودفن بقرية بأطراف الشام يقال لها: شَغْبَدا -بشين مفتوحة فغين ساكنة معجمتين وباء موحدة مفتوحة ثم دال مهملة-، ويقال لها -أيضًا-: شغب بدا، بإفصال لفظة: بدا عن شغب كما في "شرح الزهر" للبرماوي -رحمه الله تعالى (¬2) -. فمما زاده مسلم على البخاري: و (لا أرى بأسًا أن ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 474 - 475). (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 220)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 71)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 349)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (3/ 360)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 77)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 105)، و"تهذيب الكمال" للمزي (26/ 419)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 326)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 108)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (9/ 395).

تتزوج) المرأةُ المتوفَّى عنها زوجُها وهي حامل (حين وضعت)؛ أي: وقت وضعها [يعني: بعد تمام وضعها، (¬1) لحملها، (وإن كانت في دمها) لم تطهر منه بعد (غير أنه)؛ أي: الزوج (لا يقربُها)؛ أي: لا يطؤها لأجل نفاسها (حتى تطهر) من دمها، وأخرجه أبو داود بالزيادة المذكورة (¬2). وقد قال أئمة الفتوى في الأمصار: إن الحامل إذا مات عنها زوجها تحلُّ بوضع الحمل، وتنقضي عدة الوفاة (¬3). قال الإمام ابن القيم في "الهدي": قال جمهور الصحابة ومَنْ بعدهم، والأئمةُ الأربعة: عدتها وضعُ الحمل، ولو كان الزوج على مغتسله، فوضعت، حلّت (¬4)، انتهى. وخالف في ذلك علي، وابن عباس، وجماعة من الصحابة، فقالوا: تعتد بأبعدِ الأجلين، من وضع الحمل، أو أربعة أشهر وعشر ليال. قال في "الهدي": وهذا أحد القولين في مذهب مالك، اختاره سحنون. قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: ابن عباس، وعلي بن أبي طالب يقولان في عدة الحامل بأبعد الأجلين، وكان ابن مسعود يقول: من شاء باهَلْتُه أن سورة النساء القصرى نزلت بعدُ (¬5)، وحديث سبيعة يقضي بينهم، ¬

_ (¬1) [يعني بعد تمام وضعها] ساقطة من "ب". (¬2) كما تقدم تخريجه برقم (2306) عنده. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 474). (¬4) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 597). (¬5) رواه أبو داود (2307)، كتاب: الطلاق، باب: في عدة الحامل، والنسائي (3522)، كتاب: الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، بلفظ: "من شاء لاعنته، لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشر.

إذا وضعت، فقد حلّت، وابنُ مسعود يتأوّل القرآن {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] هي المتوفَّى عنها زوجها، والمطلقة مثلُها إذا وضعت [حملها] (¬1)، فقد حلّت، وانقضت عدتها، قال: ولا تنقضي عدتها إذا ولدت ولدًا وفي بطنها آخر حتى تلد الآخرَ، قال: ولا تنقضي عدة الحامل إذا أسقطت حتى يتبين خلقُه، فإذا بأن له يدٌ أو رِجْلٌ، عتقت به الأَمَة، وتنقضي به العدة. قال: ولا تثبت في منزلها الذي أُصيب فيه زوجها أربعة أشهر وعشرًا إذا لم تكن حاملًا، والعدة من يوم يموت، أو يطلق، هذا كلام الإمام أحمد - رضي الله عنه -. وقد تناظرَ في هذه المسألة ابنُ عباس وأبو هريرة، فقال: أبو هريرة: عِدَّتها وضعُ الحمل، وقال: ابن عباس: تعتدُّ أطولَ الأجلين، فحكّما أُمَّ سلمةَ، فحكمت لأبي هريرة، واحتجت بحديث سُبيعة (¬2). وقد قيل: إن ابن عباس - رضي الله عنهما - رجع (¬3)، ويقويه: أنّ المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة. وفي البخاري، وأبي داود، والنسائي عن الإمام محمّد بن سيرين، قال: جلست إلى مجلس فيه عظم من الأنصار، وفيهم عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان أصحابه يعظمونه، فذكرت حديث عبد الله بن عتبة في شأن سبيعة بنت الحارث، فقال عبد الرحمن: لكن عمّه كان لا يقول ذلك، فقلت: إنّي لجريءٌ إن كذبتُ على رجل في جانب الكوفة -يعني: ¬

_ (¬1) [حملها] ساقطة من "ب". (¬2) تقدم تخريجه من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 596 - 597).

عبدَ الله بن عتبة-، ورفع صوته، ثم خرجتُ فلقيت مالكَ بنَ عامر، فقلت: كيف كان قول عبد الله بن مسعود في المتوفى عنها زوجها وهي حامل؟ فقال: قال ابن مسعود: أتجعلون عليها التغليظ، ولا تجعلون لها الرخصة؟! أنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬1) [الطلاق: 4]. وله في رواية أخرى: سورة النساء القصرى نزلت بعد البقرة (¬2). وفي رواية أبي داود: من شاء لاعنته، لأُنزلت سورةُ النساء القصرى بعد الأربعة أشهر وعشر (¬3). وفي "موطأ الإمام مالك": قال نافع: إن عبد الله بن عمر سئل عن المرأة يتوفَّى عنها زوجها وهي حامل، فقال: إذا وضعت، فقد حلت، فأخبره رجل كان عنده: أن عمر قال: لو ولدت وزوجُها على السرير لم يُدفن بعدُ، حلّت (¬4). قال الحافظ ابن حجر عن اختيار سحنون من المالكية بعدم انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها بالحمل: هو شذوذ مردود؛ لأنه إحداث خلاف بعد استقرار الإجماع، والذي حمله على ما اختاره الحرصُ على العمل بالآيتين اللتين تعارض عمومُهما، فقوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، عامٌّ في كلّ مَنْ مات ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4258)، كتاب: التفسير، باب: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234]، والنسائي (3520)، كتاب: الطلاق، باب: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها. (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (5717). (¬3) تقدم تخريجه برقم (2307) عنده. (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 589).

عنها زوجها، يشمل الحامل وغيرها وقوله -تعالى-: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، عام -أيضًا-يشمل المطلقة والمتوفى عنها، فجمع من قال بعدم انقضاء العدة بوضع الحمل بين العمومين بقَصْر الثانية على المطلقة، بدليل ذكر عدد الطلقات، كالآيسة والصغيرة قبلها، ثم لم يهملوا ما تناولته الآية الثانية من العموم، لكن قصروه على من مضت عليها المدة، ولم تضع، فكان تخصيص بعض العموم أولى وأقربَ إلى العمل بمقتضى الآيتين من إلغاء أحدهما في حق بعض من شمله العموم. وقد استحسن هذا النظر القرطبيُّ، قال: لأن الجمعَ أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول، لكن حديث سبيعة نص بأنها تحل بوضع الحمل، فكان فيه بيان للمراد بقوله -تعالى-: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، أنه في حق من لم تضع، وإلى ذلك أشار ابن مسعود بقوله: إن آية الطلاق نزلت بعد آية البقرة. قال في "الفتح" وقد فهم بعضهم منه أنه يرى نسخ الأولى بالآخرة، وليس ذلك مراده، وإنما يعني: أما مخصِّصة لها، فإنها أخرجَتْ منها بعضَ متناولاتها (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 280 - 281)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 474). قلت: وقوله: "وقد فهم بعضهم منه أنه يرى نسخ الأولى بالآخرة. . إلى قوله: "بعض متناولاتها" هو من تتمة كلام القرطبي في "المفهم"، وليس من كلام الحافظ ابن حجر، فقد قال في "المفهم": "وظاهرة كلامه -أي: ابن مسعود- أنها ناسخة لها، وليس مراده -والله أعلم- وإنما يعني: أما مخصصة لها، فإنها أخرجت منها بعض متناولاتها". وقد نقله الحافظ -كما ترى بمعناه، وعليه: لا يصلح تعقيب الشارح -رحمه الله- في ظنه أن الكلام لابن حجر أولًا، وفي =

قلت: وكأنه أراد الإمام ابن القيم؛ لأنه قال في "الهدي" في جواب ابن مسعود - رضي الله عنه - من قوله: أشهد لَنزلت سورةُ النساء القصرى بعد الطولى إلى آخره. قال الإمام ابن القيم: وهذا الجواب يحتاج إلى تقرير، فإن ظاهره: أن آية الطلاق مقدمة على آية البقرة، لتأخرها عنها، فكانت ناسخة لها، قال: ولكن النسخ عند الصحابة والسلف أعمُّ منه عند المتأخرين، فإنهم يريدون به ثلاثة معانٍ: أحدها: رفع الحكم الثابت بخطاب، الثاني: رفع دلالة الظاهر إما بتخصيص وإما بتقييد، وهو أعم مما قبله، الثالث: بيان المراد باللفظ الذي بيانه من خارج، وهذا أعم من المعنيين الأولين، فإن ابن مسعود - رضي الله عنه - أشار بتأخر نزول آية الطلاق إلى آية الاعتداد بوضع الحمل بأنها ناسخة لآية البقرة إن كان عمومها مرادًا، أو مخصِّصَةً إن لم يكن عمومُها مرادًا ومُبيِّنَةً للمراد منها، ومقيدة لإطلاقها، وعلى التقديرات الثلاث، فيتعين تقديمُها على عموم تلك وإطلاقها، قال: وهذا من كمال فقهه - رضي الله عنه -، ورسوخه في العلم (¬1)، انتهى. فإن كان مراد الحافظِ ابنِ حجر ابنَ القيم، فلا يخفى ما في كلامه من المؤاخذة؛ لأن ابن القيم فصّل ذلك أتم تفصيل، فقدس الله روحه ما أجزل كلامه! تنبيهان: الأول: دل عموم حديث سبيعة مع قوله -تعالى-: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ ¬

_ = إرادة ابن القيم في الكلام ثانيا، وفي فهم كلام ابن القيم ثالثًا، فإنه موافق لما قاله القرطبي، والعصمة لله وحده. (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 598 - 599).

أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] على أن العدة تنقضي بوضع جميع الحمل على أي صفة، حيًا كان أو ميتًا، تام الخلقة أو ناقصها، نفخ فيه الروح أو لم ينفخ، أَمَّا مِنْ عموم الآية، فظاهر، وأما من الحديث، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أفتى سبيعة بانقضاء عدتها بوضعها، ولم يستفصل، وتركُ الاستفصال في قضايا الأحوال ينزل منزلة العموم في المقال (¬1)، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنها حلّت حين وضعت"، وفي رواية: "حللتِ حين وضعتِ" (¬2)، وعند الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب: أن امرأته أم الطفيل قالت لعمر: قد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُبيعة أن تنكحَ إذا وضعت (¬3). ومعتمد المذهب: انقضاءُ عدة ذوات الحمل بوضعه، سواء كن حرائر أو إماءً، مسلمات أو كافرات، في فرقة حياة أو وفاة. ولابد من وضع جميع الحمل، ولو لم تطهر وتغتسل من نفاسها، خلافًا للشعبي، والحسن البصري، والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، حيث قالوا: لا تنكح حتى تطهر (¬4)، نعم، يحرم وطؤها في الفرج حتى تطهر، فلو ظهر بعض الولد، فهي عدة حتى ينفصل باقيه إن كان واحدًا، وإن كان أكثر، فحتى ينفصل باقي الأخير، والحمل الذي تنقضي به العدة ما تصير به الأمة أم ولد، وهو ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، كرأسٍ ورِجلٍ، وأما إن وضعت مضغة لم يتبين فيها شيء من ذلك، فذكر ثقاتٌ من النساء أنه مبدأ خلق آدمي، لم تنقض به العدة، وكذا لو وضعت نطفة أو دمًا أو علقة، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 60). (¬2) كما تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 375). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 475).

نعم لو وضعت مضغة لم يتبين فيها الخلق، فشهدت ثقاتٌ من القوابل أن فيها صورة خفية بانَ بها أنها خلقة آدمي، انقضت بها العدة (¬1). ومذهب أبي حنيفة كمذهبنا. وعند الإمام مالك، والشّافعيّ في أحد قوليه: تنقضي عدتها بالوضع على أي صفة كان من مضغة أو علقة، سواء استبان خلق الآدمي، أو لا، لكونه - صلى الله عليه وسلم - رتّب الحل على الوضع من غير تفصيل (¬2). قال ابن دقيق العيد: هذا ها هنا ضعيف؛ لأن الغالب هو الحمل التام المتخلق، ووضع المضغة والعلقة نادر، وحمل الجواب على الغالب ظاهر، وإنما تقوى قاعدة ترك الاستفصال حيث لا يترجح الاحتمالات بعضُها على بعض، ويختَلَفُ الحكم باختلافها (¬3). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": ولهذا نقل عن الشافعي قوله بأن العدة لا تنقضي بوضع قطعة لحم ليس فيها صورة بيّنة ولا خفية (¬4). قلت: معتمد مذهب الشافعية: انقضاءُ العدة بوضع المضغة بشرط قول القائل: إنها مبدأ خلق إنسان، دون وضع العلقة، والله الموفق. الثاني: معتمد المذهب: لزومُ عدة الوفاة في المنزل الذي وجبت فيه، وهو الذي مات زوجها فيه وهي ساكنة فيه، وسواء كان لزوجها، أو بإجارة، أو عارية حيث تطوَّع الورثة بإسكانها فيه، أو السلطان، أو أجنبي، وإن انتقلت إلى غيره، لزم العود إليه، إلا أن تدعو الضرورة إلى خروجها ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 6 - 7). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 475). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 60). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 475).

منه، بأن يحولها مالك، أو تخشى على نفسها من هدم أو غرق أو عدو، أو غير ذلك، كخروجها لحق، أو لا تجد ما تكتري، أو لا تجد إلا من مالها (¬1). وفي "المغني"، وغيره: أو يطلب منها فوق أجرته، فتسقط السكنى، وتسكن حيث شاءت (¬2). ولا سكنى لها ولا نفقةَ في مال الميِّت، ولا على الورثة إذا لم تكن حاملًا، ولهم إخراجها لأذاها، ولا تخرج ليلًا -ولو لحاجة-، بل لضرورة، ولها الخروج نهارًا لحوائجها فقط، ولو وجدت من يقضيها، وليس لها المبيت في غير بيتها، فإن تركت الاحداد في المنزل، أو لم تحد، عصت، وتمت العدة بمضيّ الزمان، والأمة كالحرة في الإحداد والاعتداد في منزلها، إلا أن تكون سكناها في العدة كسكناها في حياة زوجها، للسيد إمساكُها نهارًا، وإرسالُها ليلًا، فإن أرسلها ليلًا ونهارًا، اعتدّت زمانها كله في المنزل، والبدوية كالحضرية فإن انتقلت الحلة، انتقلت معهم، وإن انتقل غير أهل المرأة، لزمها المقام مع أهلها، وإن انتقل أهلها، انتقلت معهم، إلا أن يبقى من الحلة من لا تخاف على نفسها معهم، فتخير بين الإقامة والرحيل (¬3). وقال أبو حنيفة فيمن توفي عنها زوجها وهي في الحج: تلزمها الإقامة على كل حال إن كانت في بلد، أو ما يقاربها. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 18 - 19). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 128). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 19 - 20).

وقال الثلاثة: إن خافت فوات الحج إن جلست لقضاء العدة، جاز لها المضي فيه (¬1). وقال أبو حنيفة في البائن: لايجوز لها أن تخرج من بيتها لقضاء حوائجها، ولو نهارًا وقال مالك، وأحمد: يجوز لها ذلك. وعن الشّافعيّ قولان (¬2). والقول بلزوم عدة الوفاة في المنزل الذي توفي زوجها وهي فيه قولُ الأئمة الأربعة، وأصحابهم، والأوزاعي، وأبي عبيد وإسحاق. قال ابن عبد البر: وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز، والشام، والعراق، ومصر (¬3)، وحجتهم حديث الفريعة بنتِ مالك أختِ أبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما -: أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أَعْبُد له أَبَقُوا، حتى إذا كانوا بطرف القدوم، لحقهم، فقتلوه، فسألته - صلى الله عليه وسلم - أن ترجع إلى أهلها، وقالت: إنه لم يتركني في مسكنه بملكه، ولا نفقة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم"، فخرجتُ، قالت: حتى إذا كنتُ في الحجرة، أو في المسجد، دعاني، أو أمر بي فدعيت له، فقال: "كيف قلت؟ "، فرددت عليه القصة التي ذكرتُ من شأن زوجي، قالت: فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتابُ أجله"، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فلما كان عثمان، أرسل إليَّ، فسألني عن ذلك فأخبرته، فقضى به، واتبعه، رواه ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 174). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 31).

الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائي، وابن ماجه، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح (¬1)، وقال ابن عبد البرّ: هذا حديث مشهور معروف (¬2). قال الإمام ابن القيم في "الهدي": قد تلقاه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بالقبول، وقضى به بمحضر المهاجرين والأنصار، وتلقاه أهل المدينة والحجاز والشام والعراق ومصر بالقبول، ولم يعلم أن أحدًا منهم طعن فيه، وقد أدخله الإمام مالك في "الموطأ" (¬3)، وبنى عليه مذهبه، مع تحريه وتشدده في الرواية (¬4). وقالت الظاهرية بعدم وجوب لزومها مسكنًا معينًا، لأنه -سبحانه وتعالى- إنما أمرها باعتداد أربعة أشهر وعشرًا، ولم يأمرها بمكان معين، وهذا الذي احتج به ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها، فتعتد حيث شاءت، وهو قوله -تعالى-: {غَيْرَ إِخْرَاجِ} (¬5) [البقرة: 240]. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 370)، وأبو داود (2300)، كتاب: الطلاق، باب: في المتوفى عنها تنتقل، والنسائي في "السنن الكبرى" (11044)، والترمذي (1204)، كتاب: الطلاق، باب: ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها، وابن ماجه (2031)، كتاب: الطلاق، باب: أين تعتد المتوفى عنها زوجها. (¬2) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 214). (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 591). (¬4) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 687). (¬5) رواه البخاري (4257)، كتاب: التفسير، باب: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا}.

قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهله، وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، لقوله -تعالى-: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ} [البقرة: 240]. قال الجمهور: نحن لا ننكر النزاع بين السلف في المسألة، ولكن السنّة تفصل بين المتنازعين. قال ابن عبد البر: أما السنّة، فثابتة بحمد الله -تعالى-، وأما الإجماع، فمستغنى عنه مع السنّة؛ لأن الخلاف إذا نزل في مسألة، كانت الحجة في قول من وافقته السنّة (¬1). فإن قيل: فهل ملازمة المنزل حقٌّ للزوجة أو حقٌّ عليها؟ فالجواب: أنه حقٌّ عليها إذا تركه لها الورثة، [ولم يكن عليها فيه ضرر، وكان المسكن لها، فلو حولها الورثة، أو طلبوا منها الأجرة] (¬2)، لم يلزمها السكن، وجاز لها التحول؛ لأنها غير ملزومة ببذل أجر المسكن، وإنما هي ملزومة بفعل السكنى، لا تحصيل السكن، وإذا تعذرت السكنى، سقطت، هذا قول أصحاب أحمد، والشّافعيّ، كما في "الهدي" (¬3). فإن قيل: هل الإسكان حقٌّ على الورثة، فتقدَّم الزوجةُ على الغرماء، وعلى الميراث، أم لا حق لها في التركة سوى الميراث؟ فأجاب في "الهدي": بأن هذا الموضع مما اختلف فيه، فقال الإمام أحمد: إن كانت حائلًا، فلا سكنى لها في التركة، ولكن عليها ملازمة المنزل إذا بُذل لها -كما تقدم-، وإن كانت حاملًا، ففيه روايتان، إحداهما: أن الحكم كذلك، ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 31). (¬2) [ولم يكن عليها فيه ضرر وكان المسكن لها فلو حولها الوارث أو طلبوا منها الأجرة] ساقطة من "ب". (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 687 - 688).

والثانية: أن لها السكنى حقٌّ ثابت في المال تقدَّم به على الورثة والغرماء، ويكون من رأس المال. وعن الإمام أحمد رواية ثالثة: أن للمتوفى عنها السكنى بكل حال، حاملًا كانت أو حائلًا، فصار في مذهبه ثلاث روايات: وجوبُها للحامل والحائل، وإسقاطُها في حقّهما، ووجوبُها للحامل دون الحائل، هذا محصل مذهب الإمام أحمد في سكنى المتوفَّى عنها. وأما مذهب مالك، فإيجاب السكنى لها حاملًا كانت أو حائلًا، وإيجاب السكنى عليها مدة العدة، فهي أحق بالسكنى من الورثة والغرماء إذا كان الملك للميت، أو كان قد أدى كراءه، فإن لم يكن أدى كراءه، ففي "التهذيب": لا سكنى لها في مال الميت، وإن كان معسرًا وللشافعى في سكنى المتوفى عنها قولان: أحدهما: لها السكنى حاملًا كانت أو حائلًا. والثاني: لا سكنى لها، حاملًا كانت أو حائلًا، وعنده: يجب عليها ملازمتها للمسكن في العدة، حاملًا كانت أو متوفّى عنها، إلا أن ملازمة البائن للمنزل عنده آكد، فإنه يجوز للمتوفى عنها الخروجُ نهارًا لقضاء حوائجها، ولا يجوز ذلك للبائن في أحد قوليه، وهو القديم، ولا يوجبه، بل يستحبه. وأما الإمام أحمد، فعنده ملازمةُ المتوفى عنها للمنزل آكدُ من الرجعية. وأما أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: لا يجوز للمطلقة الرجعية ولا للبائن الخروجُ من بيتها ليلًا ولا نهارًا، وأما المتوفى عنها، فتخرج نهارًا وبعضَ الليل، ولكن لا تبيت إلا في منزلها، قالوا: لأن المطلقة نفقتُها في مال زوجها، فلا يجوز لها الخروج كالزوجة، بخلاف المتوفَّى عنها، فإنها

لا نفقة لها، فلابد أن تخرج في النهار لإصلاح حالها. قالوا: وعليها أن تعتد في المنزل الذي يضاف إليها بالسكنى حالَ وقوع الفرقة، فإن كان نصيبها من دار الميِّت لا يكفيها، وأخرجها الورثة من نصيبهم، انتقلت؛ لأن هذا عذر، والكون في بيتها عبادة، والعبادة تسقط بالعذر، وظاهر كلامهم أن أجرة السكن عليها؛ لأن المتوفى عنها عندهم لا سكنى لها، حاملًا كانت أو حائلًا، وإنما عليها أن تلزم مسكنها الذي تُوفي زوجها فيه ليلًا لا نهارًا، فإن بذله لها الورثة، وإلا كانت الأجرة عليها، فهذا تحرير مذاهب الأئمة في هذه المسألة كما في "الهدي" (¬1)، وغيره، والله الموفق. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (5/ 688 - 690).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لأُمِّ حَبِيبَةَ، فَدَعَتْ بصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْهُ بذِرَاعَيْهَا، وَقَالَتْ: إنَّما أَصْنَعُ هَذَا؛ لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "لَا يّحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" (¬1). الحميم: القرابة. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1222)، كتاب: الجنائز، باب: حد المرأة على غير زوجها، و (5024)، كتاب: الطلاق، باب: تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، و (5030)، باب: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا}، ومسلم (1486/ 59)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك، إلا ثلاثة أيام، وأبو داود (2299)، كتاب: الطلاق، باب: إحداد المتوفى عنها زوجها، والنسائي (3500)، كتاب: الطلاق، باب: عدة المتوفى عنها زوجها، و (3533)، باب: ترك الزينة للحادة المسلمة دون اليهودية والنصرانية، والترمذي (1195)، كتاب: الطلاق، باب: ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 229)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 171)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 66)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 282)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 111)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 60)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار =

(عن زينبَ بنتِ) أمِّ المؤمنين (أم سلمةَ)، وهي بنت أبي سلمة، ربيبةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أم سلمة - رضي الله عنهما -، وكان اسمها بَرَّةَ، فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - زينبَ، ولدت بأرض الحبشة، وكانت تحت عبدِ الله بنِ زمعة بنِ الأسود، وولدت له، وكانت من أفقه أهل زمانها، ماتت - رضي الله عنها - بعد وقعة الحرة، وقد قتل لها في الحَرَّة ابنان. ويروى: أنها دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يغتسل، فنضح في وجهها، قالوا: فلم يَزَل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت وعجزت. روى عنها: علي بن الحسين، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وغيرهم (¬1). (قالت: توفي)؛ أي: مات (حَميمٌ) على وزن أمير: هو القريب، ومثل المُحِمّ كالمُهِمّ، والجمعُ أَحِمَّاء، وقد يكون الحميم للجمع والمؤنث، كما في "القاموس" (¬2)، لـ (أم) المؤمنين (أم حبيبةَ) رملةَ بنتِ أبي سفيان - رضي الله عنهما -، وحميمُها الذي توفي هو أبوها كما صرح به في بعض طرق "الصحيحين"، فقال: لما توفي أبوها أبو سفيان (¬3)، وفي ¬

_ = (3/ 1338)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 285)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 485)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 65)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 187)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 93). (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 461)، و"الثقات" لابن حبّان (3/ 145)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1854)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 132)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 185)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 200)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 675)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 450). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1417)، (مادة: حمم). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5024).

رواية: لما جاءها نعيُ أبيها (¬1)، أبي سفيان من الشام. قلت: كذا في البرماوي، مع جزمهم بأن أبا سفيان صخرَ بن حرب إنما توفي بالمدينة، ونقل القسطلاني الإجماع على ذلك (¬2)، ودُفن في البقيع، وصلّى عليه عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وذلك سنة ثلاثين، أو إحدى وثلاثين (فدعت) أم حبيبة (بصفرة)، وفي رواية: فدعت بطيب فيه صفرة، خلوقٌ أو غيره (¬3). قال في "القاموس" الخلوق، كصبور، وكتاب: ضرب من الطيب (¬4). وقال في "المطالع": الخلوق: طيب يخلط بالزعفران (¬5). (فمسحته)؛ أي: مسحت أم حبيبة ذلك الطيب (بذراعيها) تثنية ذراع -بكسر المعجمة- يذكر ويؤنث، وهو العظم من المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى (¬6). وفي رواية في "الصحيحين": فدعت أم حبيبة بطيبٍ فيه صفرة خلوق أو غيره، فدهنت منه جارية، ثمّ مسّت بعارضيها (¬7)، (وقالت) أم حبيبة - رضي الله عنها -: (إنما أصنع هذا) يعني: مسحها الطيب بذراعيها؛ (لأني ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5030). (¬2) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (1/ 73). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5024)، ورواه مسلم (1486/ 58)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك، إلا ثلاثة أيام. (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1137)، (مادة: صبر). (¬5) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 238). (¬6) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 925)، (مادة: ذرع). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5024)، وعند مسلم برقم (1486/ 58).

سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يحل)، استدل به على تحريم الإحداد على غير الزوج، وهو واضح، وعلى وجوب الإحداد المدة المذكورة على الزوج، واستشكل بأن الاستثناء وقع بعد النفي، فيدل على الحل فوق الثلاث على الزوج، لا على الوجوب، وأجيب بأن الوجوب اسْتُفِيدَ من دليلٍ آخر كالإجماع، ورُد نقلُ الإجماع بأن المنقول عن الحسن البصري: أن الإحداد غيرُ واجب، أخرجه ابن أبي شيبة (¬1)، ونقل الخلال بسنده عن الإمام أحمد عن هشيم، عن داود، عن الشعبي: أنه كان لا يعرف الإحداد. قال الإمام أحمد: ما كان بالعراق أشد تَبَحُّرًا من هذين -يعني: الحسن والشعبي-، قال وخفي ذلك عليهما، ثم إن مخالفتهما لا تقدح في الاحتجاج، نعم يرد القول بدعوى الإجماع (¬2). وفي "الشرح الكبير" للإمام شمس الدين بن أبي عمر نفى الخلافَ بين أهل العلم بوجوب الإحداد، إلا عن الحسن. قال: وهو قول قد شذّ به عن أهل العلم، وخالف فيه السنّة، فلا يعرَّج عليه (¬3). وسبقه إلى مثل ذلك ابن المنذر. وقال الإمام ابن القيم في "الهدي": أجمعت الأمة على وجوبه على المتوفَّى عنها زوجُها، إلا ما حُكي عن الحسن، والحكم بن عُيينة، أما الحسن، فروى حماد بن سلمة عن حميد عنه: أن المطلقة ثلاثًا، والمتوفى عنها زوجها يكتحلان ويمتشطان ويتطيبان ويختضبان وينتقلان ويصنعان ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شبية في "المصنف" (19290). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 485 - 486). (¬3) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (9/ 145).

ما شاءتا، وأما الحكم، فذكر عنه شعبة: أن المتوفى عنها زوجُها لا تُحِدّ. قال أبو محمَّد بن حزم: واحتج أهل هذه المقالة بحديث عبد الله بن شداد بن الهاد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأةِ جعفرِ بنِ أبي طالب: "إذا كان ثلاثة أيام، فالبسي ما شئتِ"، [أو] إذا كان بعد ثلاثة أيام، شك شعبة (¬1)، وفي طريقٍ آخر عن عبد الله بن شداد المذكور: أن أسماء بنتَ عُميس استأذنت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن تبكي على جعفر، وهي امرأته، فأذن لها ثلاثة أيام، ثم بعث إليها بعد ثلاثة أيام: أن "تَطَهَّري واكتحلي" (¬2)، قالوا: وهذا ناسخ لأحاديث الإحداد. وأجاب الجمهور: بأن هذا الحديث منقطع، فإن عبد الله بن شداد بن الهاد لم يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا رآه، فكيف يقدَّم حديثه على الأحاديث الصحيحة المسنَدة الصريحة التي لا مطعن فيها؟ وفي الطريق الثاني الحجاجُ بن أرطاة، ولا يعارض حديثه حديثَ الأئمة الأثبات الذين هم فرسان هذا الشأن (¬3). (لامرأةٍ) متعلق بـ: (لا يحل)، وقد تمسك بمفهومه الحنفية، فقالوا: لا يجب الإحداد على الصغيرة، وذهب الجمهور إلى وجوب الإحداد [عليها] (¬4) كما تجب العدة، وأجابوا عن التقييد بالمرأة: أنه خرج مخرج الغالب، وعن كونها غير مكلفة: بأن الولي هو المخاطَب بمنعها مما تمنع منه المعتدّة (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن حزم في "المحلى" (10/ 280). (¬2) رواه ابن حزم في "المحلى" (10/ 280). (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 696 - 697). (¬4) [عليها] ساقطة من "ب". (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 486).

قال في "الهدي": الإحداد يستوي فيه جميع الزوجات، المسلمة والكافرة، والحرة والأمة، والكبيرة والصغيرة، قال: وهذا قول الجمهور، وأحمد، ومالك، والشّافعيّ، إلا أن أشهب وابن نافع قالا: لا إحداد على الذميّة، ورواه أشهب عن مالك، وهو قول أبي حنيفة (¬1)، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (تؤمن بالله واليوم الآخر)، فقالوا: التقييد بالإيمان مُخْرِج للذمية، وبه قال أبو ثور، وترجم عليه النسائي بذلك، وأجاب الجمهور: بأنه ذُكر تأكيدًا للمبالغة في الزجر، فلا مفهوم له، كما يقال: هذا طريق المسلمين، وقد يسلكه غيرهم (¬2). قال في "الهدي": و"التحقيق أن نفيَ حل الفعل عن المؤمنين لا يقتضي نفيَ حلِّه عن الكفار، ولا إثباتَ الحل لهم -أيضًا-،وإنما يقتضي أن من التزم الإيمان وشرائعه، فهذا لا يحل له، ويجب على كل أحد أن يلزم الإيمان وشرائعه، لكن لا يُلزمه الشارعُ بشرائع الإيمان إلا بعد دخوله فيه، وهذا كما لو قيل: لا يحل لمؤمن أن يترك الصلاة والزكاة والحج، فهذا لا يدل على أن ذلك حل للكفار، وكما لو قال: لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانًا، وسرُّ المسألة: أن شرائع الحلال والحرام والإيجاب إنما شرعت لمن التزم أصلَ الإيمان، ومن لم يلتزمه، وخلِّي بينه وبين دينه، فإنه يخلَّى بينه وبين شرائع الدين الذي التزمه كما خُلِّي بينه وبين أصله ما لم يحاكم إلينا، وهذه القاعدةُ متفق عليها بين العلماء، ولكن عذر من أوجب الإحداد على الذميّة: أنه يتعلق به حق الزوج المسلم، فهو ملتحق بالعدّة في حفظ النسب، ولهذا لا تلزم في عدّتها من الذميّ بالإحداد، ولا يتعرض لها فيها، ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 698). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 486).

فيلتزمون بعقودهم مع المسلمين بأحكام الإسلام، وأما عقود بعضهم مع بعض، فلا يتعرض لهم فيها ما لم يرتفعوا إلينا، والله الموفق (¬1). (أن تُحِدَّ): أن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل [لا يحل؛ أي] (¬2): لا يحل إحدادُها على ميّت، استدل به لمن قال: لا إحداد على امرأةِ المفقود، لعدم تحقق وفاته، خلافًا للمالكية، ولمن قال: لا يجب الإحداد على البائن، على الأصح عندنا كالشّافعيّة، خلافًا لسعيد بن المسيَّب، وأبي عبيد، وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وبعدم وجوب الإحداد على البائن، قال عطاء، وربيعة، ومالك، وابن المنذر: ونحوه قول الإمام الشّافعيّ. قلت: قال صاحب "الهدي" في القول بوجوب الإحداد: قال: وهو قول من ذكرنا، والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، واختارها الخرقي، قال: وهذا محض القياس؛ لأنها معتدة بائن من نكاحٍ، فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها؛ لأنهما اشتركا في العدّة، واختلفا في سببها (¬3). وقال الإمام شمس الدين بن أبي عمر في تأييد المذهب: الحديث: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت" دلّ على أن الإحداد إنما يجب في عدّة الوفاة، والبائنُ معتدّةٌ من غير وفاة، فلم يجب عليها، كالرجعية، والموطوءة بشبهةٍ؛ ولأن الإحداد في عدة الوفاة لإظهار الأسف على فراق زوجها وموته، وأما الطلاق، فإنه فارقها باختيار نفسه، وقطع نكاحها منافٍ لتكليفها الحزنَ عليه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 698 - 699). (¬2) [لا يحل أي] ساقطة من "ب". (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 700). (¬4) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (9/ 146).

وأما الرجعية، فلا إحداد عليها بغير خلاف، ونقل في "الفتح": الإجماع على ذلك (¬1). (فوق ثلاث) من الليالي بأيامها (إلا على زوج) سواء كان أبًا أو غيره، وأما ما رواه أبو داود في "المراسيل" من رواية عمرو بن شعيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للمرأة أن تحد على أبيها سبعة أيام، وعلى من سواه ثلاثة أيام (¬2)، فلم يصح؛ لأنه مرسل أو معضل؛ لأنّ جُلَّ رواية عمرو بن شعيب عن التابعين، ولم يرو عن أحد من الصحابة إلا الشيءَ اليسير عن بعض صغار الصحابة، ووهم من تعقب على أبي داود تخريج هذا الحديث في "المراسيل"، فقال: عمرو بن شعيب ليس تابعيًا، فلا يخرج حديثه في "المراسيل"، وهذا تعقب مردود لِما قلناه، لاحتمال أن يكون أبو داود كان يخص المرسل برواية التابعي كما هو منقول عن غيره -أيضًا-، كما في "الفتح" (¬3). واستدل به على جواز الإحداد على غير الزوج من قريب ونحوه ثلاث ليال فما دونها، وتحريمه فيما زاد عليها، وكأن هذا القدر أبيح لأجل حفظ النفس ومراعاتها، وغلبة الطباع البشرية، ولهذا تناولت أم حبيبة وغيرُها الطيب لتخرجَ به عن عهدة الإحداد، مع تصريحها بأنها لم تتطيب لحاجة، إشارة إلى أن آثار الحزن باقية عندها، لكنها لم يسعها إلا امتثال الأمر (¬4). وأما الأَمَة وأمُّ الولد، فلا إحداد عليهما (¬5)، نعم لهما أن يحدا على ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 486). (¬2) رواه أبو داود في "المراسيل" (409). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 486). (¬4) المرجع السابق، (9/ 487). (¬5) انظر: "الشرح الكبير" لابن أبي عمر (9/ 147).

سيدهما ثلاثة أيام فما دون، وأما الزوجة، فعليها أن تحد على زوجها (أربعة أشهر وعشرًا)، قيل: الحكمة في التخصيص بهذه المدة: أن الولد يتكامل تخليقُه وينفخ فيه الرُّوح بعد مضي مئة وعشرين يومًا، وهي أن العشر زيادة على الأربعة أشهر ينقصان الأهلة، فجبر الكسر إلى العقد -يعني: العشر- على طريق الاحتياط (¬1). قال في "الهدي": قيل لسعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيها تنفخ الروح (¬2). وذكر العشر مؤنثًا، لإراده الليالي. والمراد: بأيامها عند الجمهور، فلا تحل حتى تدخل الليلة الحادية عشرة (¬3). قال في "شرح المقنع": والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال، فيجب عشرة أيام مع الليالي، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأبو عبيد، وابن المنذر، وأصحاب الرأي. قال الأوزاعي: يجب عشر ليال وتسعة أيام؛ لأن العشر تستعمل في الليالي دون الأيام، وإنما دخلت الأيام في أثناء الليالي تبعًا، قلنا: العرب تغلِّب حكمَ التأنيث في العدد خاصة على المذكر، فيطلق لفظ الليالي، ويراد الليالي بأيامها، كما في قوله -تعالى- لزكريا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10]، يريد: بأيامها، بدليل أنه قال في ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 487). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (2/ 516)، وانظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 666). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 487).

موضع آخر: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلا رَمْزًا} [آل عمران: 41]. يريد: بلياليها (¬1). قال الحافظ المصنف -رحمه الله ورضي عنه-: (الحميم) في قول زينب بنت أم سلمة - رضي الله عنهما -: توفي حميم لأم حبيبة هو (القرابة) -كما تقدم-، وتقدم أنه أبوها أبو سفيان - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 90).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أُمِّ عَطِيَّة: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ" (¬1). العَصْبُ -: ثِيابٌ مِنَ اليَمَنِ، فِيها بَيَاضٌ وَسَوَادٌ. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (307)، كتاب: الحيض، باب: الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض، و (1220)، كتاب: الجنائز، باب: حد المرأة على غير زوجها، و (5026)، كتاب: الطلاق، باب: الكحل للحادة، و (5027)، باب: القسط للحادة عند الطهر، و (5028)، باب: تلبس الحادة ثياب العصب، ومسلم (938/ 66)، (2/ 1127)، واللفظ له، و (938/ 67)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك، إلا ثلاثة أيام، وأبو داود (2302 - 2303)، كتاب: الطلاق، باب: فيما تجتنبه المعتدة في عدتها، والنسائي (3534)، كتاب: الطلاق، باب: ما تجتنب الحادة من الثياب المصبغة، و (3536)، باب: الخضاب للحادة، وابن ماجه (2087)، كتاب: الطلاق، باب: هل تحد المرأة على غير زوجها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 286)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 74)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 288)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 114)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 62)، و"العدة في =

(عن أم عطية) نُسَيْبَةَ -بضم النون وفتح السين المهملة وسكون المثناة تحت فموحدة-، ومنهم من -فتح النون وكسر السين- الأنصاريةِ - رضي الله عنها -، وتقدمت ترجمتها، قالت: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تُحِدُّ المرأة على ميت) لها أو لغيرها (فوق ثلاثٍ) من الليالي بأيامها، كائنًا من كان (إلا على زوج)، فيجب أن تحد عليه إذا توفي عنها (أربعةَ أشهرٍ وعشرًا) من الليالي بأيامها. وتضمن هذا الحديث مع ما يأتي الفرقَ بين الإحدادين من وجهين: أحدهما: من جهة الوجوب والجواز، فالإحداد على الزوج واجب، وعلى غيره جائز من مقدار مدة الإحداد، فالإحداد على الزوج عزيمة، وعلى غيره رخصة (¬1). قلت: لكن معتمد مذهب الإمام أحمد: جواز إحداد لبائن، فيباح لها أن تُحد من العدة، ويلزم المتوفَّى عنها فقط، بشرط أن يكون نكاحها صحيحًا لا فاسدًا، فإذا زادت مدة الحمل على أربعة أشهر وعشر، وجب استمرار الإحداد إلى أن تضع كل حملها؛ لأنه من توابع عدة الوفاة، ولهذا قيد بمدتها، فهو حكم من أحكام العدة المذكورة، وواجبٌ من واجباتها، فكان معها وجودًا وعدمًا. (و) المرأة الحادة (لا تلبس ثوبًا مصبوغًا)، وهذا يعم المعصفر، ¬

_ = شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1342)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 491)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 7)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 191)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 199)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 97). (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 696).

والأخضر والأزرق الصافيين، وسائر الأحمر والمزعفر، وسائر الملون للتحسين والتزيين (¬1). وفي لفظ: "ولا تلبس المعصفر من الثياب والممشق" (¬2). قال في "النهاية": المِشْق -بالكسر- المغرة، وثوب ممشَّق مصبوغ به (¬3)، ومنه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: وعليه ثوبان ممشقان (¬4). (إلا ثوبَ عصبٍ)، قال في "النهاية": العصب: برودٌ يَمَنِيَّةٌ يعصب غزلها؛ أي: يُجمَع ويُشَدُّ، ثم يُصبغ وينسج، فيأتي موشيًا، لبقاء ما عُصب منه أبيضَ لم يأخذه صبغ، يقال: برد عصب، وبرود عصب بالتنوين والإضافة، وقيل: هي برود مخططة، والعصب: الفتل، والعَصَّاب: الغَزَّال، فيكون النّهي للمعتدة عما صُبغ بعد النسج، ومنه حديث عمر: أنه أراد أن ينهى عن عصب اليمن، وقال: ثبت أنه يصبغ بالبول، ثم قال: نُهينا عن التعمق (¬5)، انتهى (¬6). ويأتي عليه كلام عند ذكر المصنف له، (ولا تكتحل) المرأةُ الحادّة بالإثمد، ولو كانت سوداء، إلا إذا احتاجت للتداوي، فتكتحل ليلًا، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (5/ 705). (¬2) رواه أبو داود (2304)، كتاب: الطلاق، باب: فيما تجتنبه المعتدة في عدتها، والنسائي (3535)، كتاب: الطلاق، باب: ما تجتنب الحادة من الثياب المصبغة، عن أم سلمة - رضي الله عنها -. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 334). (¬4) رواه البخاري (6893)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض على اتفاق أهل العلم. (¬5) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (1494) نحوه. (¬6) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 245).

وتمسحه نهارًا، ويباح الكحل للحادة بتوتياء، وعَنْزَرُوت، ونحوهما، كما يباح لها التنظيف، وتقليم أظفار، ونتف إبط، وحلق شعر مندوبٍ أخذُه، واغتسالٌ بسدر، وامتشاط، ودخول حمام (¬1)، وهذا معتمد مذهب الإمام أحمد، والجمهور، وحجّتهم حديث أم سلمة - رضي الله عنها - الذي أخرجه أبو داود في "سننه" من حديث ابن وهب: أخبرني مخرمة عن أبيه، قال: سمعت المغيرةَ بنَ النعمات يقول: أخبرتني أمُّ حكيم بنتُ أسيد عن أمها: أن زوجها توفي، وكانت تشتكي عينها، أفتكتحل بالجلا؟ قال: أحمد بن صالح الصواب تكتحل بالجلا، فأرسلت مولى لها إلى أم سلمة، فسألتها عن كحل الجلا، فقالت: لا تكتحل به إلا من أمرٍ لابدَّ منه يشتدُّ عليكِ، فتكتحلين بالليل، وتمسحينه بالنهار. ثمّ قالت عند ذلك أمُّ سلمة: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تُوفي أبو سلمة، وجعلت عليَّ صبرًا، فقال: "ما هذا يا أم سلمة؟ "، فقلت: هو صبرٌ يا رسول الله، ليس فيه طيب، قال: "إنه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار" الحديث (¬2). قال في "الهدي": الكحلُ المنهيُّ عنه -يعني: للحادّة- ثابتٌ بالنص الصريح الصحيح، ثم قال طائفة من أهل العلم من السلف والخلف، ومنهم أبو محمد بن حزم: لا تكتحل ولو ذهبت عيناها ليلًا و [لا] (¬3) نهارًا، ويساعد قولهم الحديث الآتي، ثم قال: ولا ريب أن الكحل من أبلغ الزينة، فهو كالطيب، وأشدُّ منه، وقال بعض الشّافعيّة للسوداء أن تكتحل. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 17 - 18). (¬2) رواه أبو داود (2305)، كتاب: الطلاق، باب: فيما تجتنبه المعتدة في عدتها. (¬3) [لا] ساقطة من "ب".

قال في "الهدي": هذا تصرف مخالف للنص، والمعنى، وأحكام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفرق بين السود والبيض، كما لا يفرق بين الطوال والقصار، ومثل هذا القياس والرأي الفاسد الذي اشتد إنكار السلف له وذمهم إياه. قال: وأما جمهور العلماء، وأحمد، والشّافعيّ، وأبو حنيفة وأصحابهم، قالوا: إن اضطرت إلى الكحل تداويًا لا زينة، فلها أن تكتحل به ليلًا، وتمسحه نهارًا، لحديث أم سلمة المذكور، وقد ذكره الإمام مالك في "موطئه" بلاغًا (¬1)، وذكر أبو عمر بنُ عبد البر في "التمهيد" له طرقًا يشد بعضها بعضًا (¬2)، ويكفي احتجاج الإمام مالك به، وأدخله أهل السنن في كتبهم، واحتج به الأئمة، وأقل درجاته أن يكون حسنًا، لكنه مخالف لظاهر حديثها المتفق عليه، فيحمل على أن الشّكاة التي لم يأذن في الاكتحال لأجلها لم تبلغ منها مبلغًا لابد لها فيه من الكحل، لذلك نهاها، ولو كانت محتاجة مضطرة تخاف ذهابَ بصرها، لأذن لها في ذلك كما فعل بالتي قال لها: "اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار". قال في "الهدي": والنظر يشهد لهذا التأويل؛ لأن الضرورات تنقل المحظورات إلى الإباحة في الأصوله، ولهذا جعل الإمام مالك فتوى أم سلمة تفسيرًا للحديث المسند في الكحل؛ لأن أم سلمة روته، وما كانت لتخالفه إذا صح عندها، وهي أعلم بتأويله، والنظر يشهد لذلك (¬3)، ويأتي له تتمة في الحديث الاتي إن شاء الله -تعالى- (ولا تمسّ) المرأةُ المتوفَّى ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 600). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (17/ 318) وما بعدها. (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 702 - 704).

عنها زوجها في مدة عدَّتها منه (طيبًا) من المسك، والكافور، والصبر، والند، والغالية، والزباد، والذريرة، والبخور، والأدهان، كدهن البان، والبنفسج، والورد، والياسمين، والمياه المعتصرة من الأدهان الطيبة، كماء الورد، وماء القرنفل، وماء زهر النارنج، فهذا كلُّه طيب، كما في "الهدي"، لا الزيت، ولا الشيرج، ولا السمن، فلا تمنع من الادّهان بشيء من ذلك (¬1). قال في "الهدي": لا خلاف بتحريم التطيب بالطيب على الحادّة عند من أوجب الإحداد، ولهذا لما خرجت أم حبيبة من إحدادها على أبيها أبي سفيان، دعت بطيب، فدهنت منه جاريةً، ثم مسّت بعارضها، ثم ذكر الحديث (¬2) (إلا إذا طهرت) الحادّة من حيضها، واغتسلت من محيضها، فتستعمل (نُبْذَةً) -بضم النون وسكون الموحدة بعدها معجمة-؛ أي: قطعة، وتطلق على الشيء اليسير (¬3) (من قسط أو أظفار). [وفي رواية: من قسطٍ وأظفارٍ (¬4) -بالواو من غير ألف قبلها-] (¬5)، وفي رواية: من قسطِ أظفارٍ -بالإضافة-، قال في "النهاية": القسط: ضرب من الطيب، وقيل: هو العود، والقسط: عقار معروف من عقاقير الأدوية طيب الريح تبخر به النساء والأطفال، وهو أشبه الحديث، لإضافته إلى الأظفار كذا في "النهاية" (¬6). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (5/ 701 - 702). (¬2) المرجع السابق، (5/ 701). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 432)، (مادة: نبذ). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5028)، ومسلم برقم (938). (¬5) [وفي رواية: من قسط وأظفار بالواو من غير ألف قبلها-] سقطت من "ب". (¬6) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 158).

وقال -أيضًا- في حديث أم عطية: "لا تمس المحدَّةُ إلا نبذةً من قسطِ أظفار" (¬1)، الأظفار: جنس من الطيب لا واحدَ له من لفظه، وقيل: واحدُه ظفر، وقيل: هي شيء من العطر أسود، والقطعة منه شبيـ[ـ هـ]ـة بالظفر، وفي حديث الإفك عقد من جزع أظفار (¬2)، هكذا روي، وأريد بها: العطر المذكور، كان يؤخذ ويُثقب، ويجعل في العقد والقلادة، لكن الصحيح في الرواية أنه من جزع ظَفارِ بوزن قَطامِ، وهي اسم مدينة لحمير باليمن، وفي المثل: من دخل ظفار حمير، وقيل: كلّ أرضٍ ذات معزة ظفار (¬3). وفي لفظ في حديث أم عطية: من كست -بالكاف (¬4) -، واستوجه في "الفتح" القاف، والعطف؛ أي: من القسط وأظفار، وخطأ القاضي عياض رواية الكاف مع الإضافة (¬5). قال: الإمام البخاري في "صحيحه": القسطُ، والكست: مثل الكافور، والقافور (¬6)، ويجوز في كلٍّ منهما القاف والكاف، وزاد القسط بأن يقال: بالتاء المثناة بدل الطاء. قال: الإمام النووي: القسطُ والأظفارُ: نوعان معروفان من البخور: ¬

_ (¬1) المتقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (2518)، كتاب: الشهادات، باب: تعديل النساء بعضهنَّ بعضًا، عن عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 158). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري (307، 5027). (¬5) انظر "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 75). (¬6) انظر: "صحيح البخاري" (5/ 2043).

وليسا من مقصود الطيب، رُخِّص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدِّم، لا للطيب (¬1). قال في "الفتح": المقصود من التطيب بهما، أن يخلطا في أجزاء أخر، ثم تُسحق، فتصير طيبًا، والمقصود بهما هنا كما قال: الشّيخ -أي: النووي-: أن يتبع بهما أثر الدم لإزالة الرائحة. قال: وزعم الداودي: أن المراد: أما تسحق القسط، وتلقيه في الماء آخر غسلها، ليذهب رائحة الحيض، ورده القاضي عياض بأن ظاهر الحديث يأباه، وأنه لا يحصل منه رائحة طيبة إلا من التبخُّر به، كذا قال (¬2)، ونظر فيه في "الفتح" (¬3). وقد نصَّ علماؤنا على أن للحادّة جعلَ طيب في فرجها إذا اغتسلت من الحيض. وفي "شرح المقنع": عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها من قسطٍ أو أظفار، للحديث (¬4)، انتهى. قال: الحافظ ابن حجر في "الفتح": قال: النووي: والمقصود باستعمال الطيب: دفعُ الرائحة الكريهة على الصحيح (¬5)، وقيل: لكونه أسرع للحبل، حكاه الماوردي، فعلى الأول: إن فقدت الحائض المسك، استعملت ما يخلفه في طيب الريح، وضعف النووي الثاني، قال لو كان ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 119). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 74 - 75). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 491 - 492). (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 149). (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 119).

صحيحًا، لاختص به ذات الزوج، وليس كذلك، انتهى ملخصًا (¬1). قال الحافظ المصنف -قدس الله روحه-: (العَصْب) -بمهملتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة فموحدة-: (ثياب)، جمع ثوب (من) بلاد (اليمن، فيها بياض وسواد)؛ لأنه يعصب غزلها؛ أي: يربط ثم يصبغ ثم ينسج معصوبًا، فيخرج موشًّى، لبقاء ما عصب من أبيض لم ينصبغ -كما تقدم-، وإنما يعصب السَّدَى دون اللحمة (¬2). وفي "الفتح" ذكر أبو موسى [المديني] (¬3) في "ذيل الغريب" عن بعض أهل اليمن: أنه من دابةٍ بحرية تسمى: فرس فرعون، يتخذ منها الخرز وغيره، ويكون أبيض، وهذا غريب. قال في "الفتح": وأغرب منه قول السهيلي: إنه نبات لا ينبت إلا باليمن، وعزاه لأبي حنيفة الدينوري (¬4). قال: وأغرب منه قولُ الداودي: المراد بالثوب العصب: الخضرة، وهي الحبرة. قال: وليس له سلف في أن العصب الأخضر. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادّة لبسُ الثياب المعصفرة، ولا المصبغة، إلا ما صبغ بسواد، فرخص فيه مالك، والشافعي، لكونه لا يتخذ للزينة، بل هو من لباس الحزن، وكره عروة العصب -أيضًا-. وكره مالك غليظه. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 492). (¬2) المرجع السابق، (9/ 491). (¬3) [المديني] ساقطة من "ب". (¬4) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (1/ 189).

قال النووي: الأصح عند أصحابنا تحريمُه مطلقًا (¬1)، قاله في "الفتح"، وقال: هذا الحديث حجة لمن أجازه (¬2)، انتهى. وفي "الهدي" للإمام ابن القيم: فإن قيل: فما تقولون في الثوب إذا صبغ غزلُه ثمّ نُسج، هل للحادّة لبسه؟ قيل: فيه وجهان: وهما احتمالان في "المغني": أحدهما: يحرم لبسه؛ لأنه أحسن وأرفع، ولأنه يصبغ للحسن، فأشبه ما صُبغ بعد نسجه. والثاني: لا يحرم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا ثوبَ عصب"، وهو ما صبغ غزلُه قبل نسجه، ذكره القاضي. قال الإمام الموفق: والأول أصح (¬3). قال: والصحيح في العصب: أنه نبت يُصبغ به الثياب، قال السهيلي: الورس والعصب نبتان باليمن، لا ينبتان إلا به (¬4)، فأرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للحادة في لبس ما يُصبغ بالعصب؛ لأنه في معنى ما يصبغ لغير تحسين، وأما ما صبغ غزله للتحسين، كالأحمر والأصفر، فلا معنى لتجويز لبسه، مع حصول الزينة بصبغه كحصولها بما صبغ بعد نسجه (¬5)، وقاله أيضًا شمس الدين بن أبي عمر في "شرح المقنع" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 118). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 491). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 126). (¬4) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (1/ 189). (¬5) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 711). (¬6) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 150).

قلت: وهذا الذي استقر عليه المذهب، فيحرم على الحادّة لبس الثياب المصبغة للتحسين، كالمعصفر، والمزعفر، والأحمر، والأزرق والأخضر الصافيين، والأصفر -كما تقدّم-، وكذا المطرز. قال في "الإقناع"، وغيره: وما صُبغ غزله، ثم نُسج، فكمصبوغ بعد نسجه (¬1)، والله أعلم. تنبيهان: الأول: الإحداد مصدر أَحدَّت المرأةُ على زوجها: إذا تركت الزينة لموته، فهي مُحِدّ، ويقال -أيضًا-: حَدَّت تَحُدُّ -بكسر الحاء وضمها-، فيكون في مضارعه ثلاث لغات: واحدة من الرباعي، واثنتان من الثلاثي، كما في "المطلع"، قال: والحِداد -بكسر الحاء المهملة-: ثياب سود يحزن بها، والحدّ: المنع فالمحدّة ممتنعة من الزينة (¬2)، انتهى. وفي "الفتح": أصل الإحداد: المنع، ومنه سُمِّي البواب حدادًا، منعه الداخل، وسميت العقوبة حدًا؛ لأنها تردع عن المعصية. قال: ابن درستويه: معنى الإحداد: منعُ المعتدة نفسَها الزينة، وبدنَها الطيبَ، ومنع الخطّاب خطبتَها والطمعَ فيها، كما منع الحدّ المعصية. وقال: الفراء: سمي الحديد حديدًا، للامتناع به، ولامتناعه على محاوله، ومنه تحديد النظر بمعنى: امتناع تقلبه في النظر. قال: ويروى بالجيم، حكاه الخطابي، ولفظه: يروى بالحاء والجيم، ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 18). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 348 - 349).

والحاء أشهر، وبالجيم مأخوذ من جدَدت الشيء: إذا قطعته، فكأن المرأة انقطعت عن الزينة. وقال أبو حاتم: أنكر الأصمعي جَدَّتْ، ولم يعرف إلا أَحَدَّت. وقال الفراء: كان القدماء يؤثرون أحدَّت، والأخرى أكثر في كلام العرب (¬1). الثاني: الخصال التي تجتنبها الحادّة مما دل عليها النص أربعة أشياء: أحدها: الطيب -كما تقدم-. الثاني: الزينة، وهي ثلاثة أنواع: أحدها: الزينة في يديها، فيحرم عليها الخضاب، والنقش، والتطريف، والحمرة، والإسفيذاج، فإنه - صلى الله عليه وسلم - نصّ على الخضاب كما في حديث أم عطية عند الإمام أحمد، وأبي داود، والنسائي: "ولا تختضب" (¬2)، وفي حديث أم سلمة - رضي الله عنها -: "ولا تمتشطي بالطيب، ولا بالحناء، فإنه خضاب" (¬3) مُنَبِّهًا به على هذه الأنواع التي هي أكثر زينة منه، وأعظم فتنة، وأشد مضادة لمقصود الإحداد، ومن ذلك الكحل، وهو ثابتٌ بالنص -كما تقدم-، ويأتي -أيضًا-. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 485). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 302)، من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - ورواه أبو داود (2303)، كتاب: الطلاق، باب: فيما تجتنبه المعتدة في عدتها، والنسائي (3536)، كتاب: الطلاق، باب. الخضاب للحادة، عن أم عطية - رضي الله عنها -. (¬3) رواه أبو داود (2305)، كتاب: الطلاق، باب: فيما تجتنبه المعتدة في عدتها، والنسائي (3537)، كتاب: الطلاق، باب: الرخصة للحادة أن تمتشط بالسدر.

النوع الثاني: زينة الثياب. الثالث: الحلي كله، حتى الخاتم في قول عامة أهل العلم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا الحلي" كما في حديث أم سلمة عند الإمام أحمد، وأبي داود، والنسائي (¬1). وقال عطاء: تُباح الفضةُ دون الذهب (¬2). قال في "شرح المقنع": ولا يصح، لعموم النهي، ولأن الحلي يزيد حسنَها، ويدعو إلى مباشرتها، قال الشاعر: [من الطويل] وَمَا الحَلْيُ إلَّا زِينَةٌ لِنَقِيَصةٍ ... يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الحُسْنُ قَصَّرَا (¬3) ومعتمد المذهب: لا يحرم ملونٌ لدفع وسخ، كأسود، وكُحلي، وأخضر مشبع، ولا نقاب، وبُرْقع (¬4)، نصّ عليه الإمام أحمد، خلافًا لما في الخرقي وغيره، وكذا لا يحرم الأبيض، ولو كان حسنًا، وعلى المعتمد، ولو حريرًا (¬5)، ومنع بعض المالكية المرتفع من الأبيض الذي يتزين به، وكذا الأسود إذا كان يتزين به، وقال النووي: رخص أصحابنا فيما لا يتزين به، ولو كان مصبوغًا (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد برقم (6/ 302)، ورواه أبو داود (2304)، كتاب الطلاق، باب: فيما تجتنبه المعتدة في عدتها. ولم أقف عليه عند النسائي. والله أعلم. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 126). (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 151). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 18). (¬5) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 118).

واختلف في الحرير قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": الأصح عند الشّافعيّة منعُه مطلقًا، مصبوغًا أو غير مصبوغ؛ لأنه أبيح للنساء التزين به، والحادة ممنوعة من التزين، فكان في حقها كالرجال. قال: وفي التحلي بالذهب وبالفضة وباللؤلؤ ونحوه وجهان، الأصح: جوازه، قال: وفيه نظر من جهة المعنى في المقصود بلبسه، وفي المقصود بالإحداد، فإنّه عند تأمّلهما يترجح المنع (¬1)، انتهى. وقال أبو حنيفة: لا تلبس الحادّة ثوب عصب، ولا خز، وإن لم يكن مصبوغًا، إذا أرادت به الزينة، وإن لم ترد بلبس الثّوب المصبوغ الزينة، فلا بأس أن تلبسه (¬2). الثالث: قال في "الهدي": تمنع الحادّة من لبس ما كان من لبس الزينة من أي نوع كان، قال: وعلى هذا مدار كلام أحمد، والشّافعيّ، وأبي حنيفة، وهو الصواب قطعًا، فإن المعنى الذي منعت من الممشق والمعصفر لأجله مفهوم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - خصه بالذكر مع المصبوغ تنبيهًا على ما هو مثله، وأولى بالمنع، فإذا كان الأبيض والبُرد المحبّرة الرفيعة الغالية الأثمان مما تراد للزينة لارتفاعها وتناهي جودتها، كان أولى بالمنع من الثوب المصبوغ. قال: وكل من عقل عن الله ورسوله لم يسترب في ذلك، لا كما قال أبو محمد بن حزم: إنها تجتنب الثياب المصبغة فقط، ويباح لها ما شاءت من حرير أبيض وأصفر من لونه الذي لم يصبغ، وصوف البحري الذي هو لونه، وغير ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 491). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (17/ 320).

قال: ويباح لها أن تلبس المنسوج بالذهب، والحلي كله من ذهب وفضة وجوهر وياقوت وزمرد وغير ذلك. قال: فهي -يعني الممنوعة- خمسة أشياء عليها أن تجتنبها فقط: الكحل كله، لضرورة أو غيرها، ولو ذهبت عيناها، لا ليلًا ولا نهارًا، وتجتنب فرضًا كلَّ ثوب مصبوغ مما يلبس في الرأس، أو على الجسد، أو على شيء منه، سواء في ذلك السواد والخضرة والحمرة والصفرة وغير ذلك، إلا العصب وحده، وتجتنب فرضًا الخضاب كله جملة، وتجتنب الامتشاط، حاشا التسريح بالمشط فقط، فهو حلال لها، وتجتنب -أيضًا- فرضًا الطيب كله، فلا تقربه، حاشا شيئًا من قسط أو أظفار عند طهرها فقط، فهذه الخمسة التي تجتنبها الحادّة عنده. قال ابن القيم في "الهدي" منكرًا عليه: وليس بعجيب منه تحريم لبس ثوب أسود عليها ليس من الزينة في شيء، وإباحة ثوب يتقد ذهبًا ولؤلؤًا وجوهرًا، وتحريم المصبوغ الغليظ الحمل الوسخ، وإباحة الحرير الذي يأخذ العيون حسنه وبهاؤه ورؤياه، وإنما العجيب منه في زعمه أن هذا دين الله سبحانه في نفس الأمر الذي لا يحل لأحد خلافه، وأعجب من هذا إقدامه على خلاف الحديث الصحيح في نهيه - صلى الله عليه وسلم - لها عن لباس الحرير، وأطال في التنكيت عليه، والتعجب من مقالته (¬1)، والله -تعالى- أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 707 - 708)، وما بعدها.

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّي عَنْهَا زَوْجُها، وَقَدِ اشْتكتْ عَيْنُهَا، أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا"، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: "لَا"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّما هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ في الجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ". قَالَتْ زينَبُ: كَانَتِ المَرْأَةُ إِذَا تُوُفيِّ عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا، وَلَا شَيْئًا حَتَّى تَمُرَّ بها سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّهٍ، حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ، فَتَفْتَضُّ بهِ، فَقَلَّ ما تَفْتَضُّ بشَيءٍ إلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ، فَتُعْطَى بَعْرَةً، فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدُ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ (¬1). الحِفْشُ: البيت الصغير، وتفتضُّ: تدلك به جسدها. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5024)، كتاب: الطلاق، باب: تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، ومسلم (1488)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك، إلا ثلاثة أيام، وأبو داود (2299)، كتاب: الطلاق، باب: إحداد المتوفى عنها زوجها، والنسائي (3533)، كتاب: الطلاق، باب: ترك الزينة للحادة المسلمة دون =

(عن أم سلمة) هند بنت أبي أمية أم المؤمنين (- رضي الله عنهما - قالت: جاءت امرأة)، زاد النسائي من طريق الليث عن حميد بن نافع من قريش (¬1)، وسماها ابن وهب في "موطئه"، وأخرجه إسماعيل القاضي في "أحكامه" من طريق عاتكة بنت نعيم بن عبد الله، وأخرجه ابن وهب عن أبي الأسود النوفلي، عن القاسم بن محمّد، عن زينب، عن أمها أم سلمة: أن عاتكة بنت نعيم بن عبد الله جاءت (¬2) (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) تستفتيه (فقالت: يا رسول الله! إنّ ابنتي) لم تسمِّ البنت، قاله الحافظ في "الفتح" (¬3)، وكذا لم يسمّها البرماوي في "مبهمات العمدة" (توفي) أي: مات (عنها زوجها). قال في "الفتح": وكانت ابنتها تحت المغيرة المخزومي، قال: ولم أقف على اسم أبي المغيرة المخزومي، قال: وقد ¬

_ = اليهودية والنصرانية، و (3538)، باب: النهي عن الكحل للحادة، والترمذي (1197)، كتاب: الطلاق، باب: ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها، وابن ماجه (2084)، كمَاب: الطلاق، باب: كراهية الزينة للمتوفى عنها زوجها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 286)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 229)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 173)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 70)، والمفهم" للقرطبي (4/ 282)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 113)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 63)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1345)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 287)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 485)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 3)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 188)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 92). (¬1) رواه النسائي (3540)، كتاب: الطلاق، باب: النهي عن الكحل للحادة. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 488). وانظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 353). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 488).

أغفله ابن منده في الصحابة، وكذا أبو موسى فى الذّيل عليه، وكذا ابن عبد البر لكن استدركه ابن فتحون عليه (¬1)، انتهى. وقال البرماوي: لم يذكر في "التجريد" المغيرة سوى أنه قال: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وقال: إن مولده في الثانية من الهجرة، أو قبلها، وهو مجهول (¬2)، انتهى. قال: فينبغي أن يكشف عن المغيرة المتوفّى عن زوجته مَنْ هو، انتهى كلام البرماوي. (وقد اشتكت عينُها)، قال ابن دقيق العيد: يجوز فيه وجهان -ضم النون على الفاعلية على أن تكون العين هي المشتكية، وفتحها على أن يكون في اشتكت ضمير الفاعل يعود على المرأة، وعينها مفعول، ورجح هذا، ووقع في بعض الروايات: عيناها (¬3)، وهي ترجح الضم وهذه الرواية في مسلم كما في "الفتح" (¬4)، وعلى الضم اقتصر النووي (¬5)، والذي رجّح الأول هو المنذري (¬6). (أفتكحُلها) -بضم الحاء المهملة-. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا) (مرتين) يكرر لا (أو ثلاثًا) من المرات (كل ذلك يقول) عليه الصلاة والسّلام: (لا) أي لا تكتحل. قال النووي: فيه دليل على تحريم الاكتحال على الحادّة سواء احتاجت ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (2/ 91). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 63). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 488). (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 113). (¬6) انظر: "مختصر السنن" للمنذري (3/ 198).

إليه أم لا، وجاء في حديث أم سلمة في الموطأ وغيره: "اجعليه بالليل، وامسحيه بالنهار" (¬1). ووجه الجمع: أما إذا لم تحتج إليه لا يحل، وإذا احتاجت إليه لم يجز بالنهار، ويجوز بالليل مع أنّ الأولى تركه، فإن فعلت مسحته بالنهار، قال: وتأوّل بعضهم الحديث على أنه لم يتحقق الخوف على عينها (¬2). وتعقب بأن في "الصحيحين"، فخافوا على عينها (¬3)، وفي رواية عند ابن منده: [و] (¬4) رمدت رمدًا شديدًا وقد خشيت على بصرها، وفي رواية قال: الطبراني: أنها قالت: في المرة الثانية أما تشتكي عينها فوق ما يظن، فقال: لا (¬5)، وفي رواية القاسم بن أصبغ أخرجها ابن حزم: إني أخشى أن تنفقأ عينها، قال: لا، وإن انفقأت (¬6)، وسنده صحيح. وبمثل ذلك أفتت أسماء بنت عميس، أخرجه ابن أبي شيبة (¬7). وفي "الموطأ": أن صفية بنت أبي عبيد اشتكت عينها، وهي حاد على زوجها ابن عمر، فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمصان (¬8)، قال في "جامع الأصول": رمصت العين إذا حصل فيها ذلك الوسخ الذي يجتمع فيها، فإن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 114). (¬3) رواه مسلم (1488/ 60). (¬4) [و] ساقطة من "ب". (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (8628). (¬6) رواه ابن حزم في "المحلى" (10/ 276). (¬7) لم أقف عليه في "مصنفه". وانظر "فتح الباري" لابن حجر (9/ 488). (¬8) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 599).

سأل فهو غمص، وإن جمد فهو رمص (¬1)، انتهى. وقال في "المطالع": ترمصان -بصادٍ مهملة وفتح الميم وضمها- كذا قيّدناه، ومعناه تقذيان، والرمص: القذى الذي تقذفه العين، فيجتمع في مآقيها وبين أهدابها، قال: ورواه الطباع عن مالك -بضاد معجمة- من الرمض وهو شدة الحر، والأول هو المعروف (¬2)، انتهى. ولهذا قال مالك في رواية عنه: تمنعه، أي: تمنع الحادّة الكحلَ مطلقًا، وعنه: يجوز إذا خافت على عينها بما لا طيب فيه وبه قال الشافعية: مقيدًا بالليل (¬3). وتقدم في الحديث المار ما ذكره في "الهدي"، وقوله فيه: أن النظر يشهد لذلك؛ لأن المضطر إلى شيء لا يحكم له بحكم المترفِّه المتزيِّن، وليس الدواء والتداوي من الزينة في شيء، وإنما نهيت الحادّ عن الزينة لا عن التداوي، وأم سلمة أعلم بما روت مع صحته في النظر، وعليه أهل الفقه، وبه قال مالك والشّافعيّ وأكثر الفقهاء، وقد ذكر مالك في "الموطأ": أنه بلغه عن سالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار أنهما كانا يقولان في المرأة يتوفى عنها زوجها: أما إذا خشيت على بصرها من رمدٍ بعينها، أو شكوى إصابتها أما تكتحل وتداوى بالكحل ولو كان فية طيب (¬4). قال أبو عمر ابن عبد البر: لأن القصد التداوي لا التطيب، والأعمال ¬

_ (¬1) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (8/ 160). (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 291). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 488). (¬4) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 599).

بالنيات، وقال: الشّافعيّ: يصفرّ فيكون زينة، وليس بطيب وهو كحل الجلا، فأذنت أم سلمة للمرأة بالليل حيث لا يرى، وتمسحه بالنهار حيث يرى، وكذلك ما أشبهه (¬1). وقال: الإمام الموفق في "المغني": إنما تمنع الحادّة من الكحل بالإثمد؛ لأنه الذي يحصل به الزينة، وأما الكحل بالتوتياء والعنزروت ونحوهما فلا بأس به -كما تقدم-، فإنه لا زينة فيه، بل يفتح العين ويزيدها مرهًا، قال: ولا تمنع من جعل الصبر على غير وجهها من بدنها؛ لأنه إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب (¬2)، وقد قيل لأبي عبد الله يعني: الإمام أحمد: المتوفى عنها تكتحل بالإثمد؟ قال: لا، ولكن إن أرادت اكتحلت بالصبر إذا خافت على عينها، أو شَكَتْ شكوى شديدة (¬3)، انتهى. (إنما هي أربعة أشهر وعشر ليالٍ) وفي لفظ: وعشرًا (¬4) -بالنصب- على حكاية [لفظ] (¬5) القرآن. قال: ابن دقيق العيد: فيه إشارة إلى تقليل المدة بالنسبة لما كان قبل ذلك، وتهوين المدة عليها (¬6)، ولهذا قال: (وقد كانت إحداكنَّ) معشر النساء إذا توفي عنها زوجها (في الجاهلية) قبل الإسلام، وإنما قيده بالجاهلية للإشارة بأن الحكم في الإسلام صار بخلافه، وهو كذلك بالنسبة إلى ما وصف بأن إحداهن كانت (ترمي بالبعرة على رأس الحول) وقد كان ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (17/ 320). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 126). (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 704 - 705). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5024). (¬5) [لفظ] ساقطة من "ب". (¬6) انظر "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 64).

في صدر الإسلام بنص قوله -تعالى-: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240]، ثم نسخت بالآية التي قبل وهي أن: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [البقرة: 234]. قال حميد بن نافع -راوي الحديث-: قلت لزينب بنت أبي سلمة: وما ترمي بالبعرة على رأس الحوله (¬1) أي: بَيِّنِي لي المراد بهذا الكلام الذي خوطبت به هذه المرأة؛ (قالت زينب:) بنت أبي سلمة - رضي الله عنها -: (كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها، دخلت حِفشًا) -بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء وبعدها شين معجمة-، فسره أبو داود في روايته عن مالك بالبيت الصغير (¬2)، وعند النسائي من طريق ابن القاسم عن مالك: الحِفش: الخُصُّ -بضم الحاء المعجمة فصادٌ مهملة (¬3) - وهو أخص من الذي قبله. وقال: الشّافعيّ: الحفش: البيت الذليل الشعث البناء (¬4) وقيل: هو شيء من خوص يشبه القفه تجمع فيه المعتدة متاعها من غزل ونحوه، وظاهر سياق القصة يأبى هذا خصوصًا في رواية شعبة في "الصحيحين" قد كانت إحداكن تمكث في شرّ أحلاسها أو شرّ بيتها (¬5). وفي رواية النسائي: عمدت إلى شرّ بيت لها فجلست فيه (¬6). قال في "الفتح": ولعل الحفش ما ذكر ثم استعمل في البيت الصغير الحقير على طريق الاستعارة، والأحلاس: جمع حِلس -بكسر الحاء ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5024). (¬2) انظر: "سنن أبي داود" (2/ 290)، عقب حديث (2299) المتقدم تخريجه. (¬3) انظر: "سنن النسائي" (6/ 201)، عقب حديث (3533) المتقدم تخريجه. (¬4) انظر: "مسند الشافعي" (ص: 300)، و"الأم" له أيضًا (5/ 231). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5025). (¬6) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (3540).

وبالسين المهملتين بينهن لام- ثوب أو كساء رقيق يكون تحت البرذعة، والمراد أن الراوي شك في أي اللفظين وقع وصف ثيابها، أو وصف مكانها، وجمع بينهما في هذا الحديث (¬1)، فلهذا قالت زينب: (ولبست) الحادّة (شرّ ثيابها) فتجمع بين شرّ الثياب وشرّ المكان الذي هو البيت الذي تأوي إليه، (ولم تمسَّ) في كلّ مدة الإحداد (طيبًا ولا شيئًا) مما يبيض وجهها، أو بحمرة وبجنسها من نحو أَسْفِيْداج (¬2) العرائس، أو أن تجعل عليه صبرًا يصفره ونحوه (¬3)، ولا تزال كذلك (حتى تمر بها)، وفي لفظ: لها (سنة) كاملة (ثم) بعد مضي السنة (تُؤتى) المرأة الحادّة (بدابةٍ) -بالتنوين- (حمارٍ) -بالجر والتنوين- على البدل من دابة (أو شاة أو طير) أو هذه للتنويع لا الشك، وإطلاق الدابة على ما ذكرٍ بطريق الحقيقة اللغوية (فتفتضُّ به) -بفاء فمثناة فوقية فضاد معجمة ثقيلة- فسره مالك - رضي الله عنه -، في آخر الحديث بما فسره المصنف فيما يأتي من قوله: تدلك به جسدها، ولفظ مالك: تمسح به جلدها (¬4)، وأصل الفض الكسر؛ أي: تكسر ما كانت فيه وتخرج منه بما تفعله بالدابة، ووقع في روايةٍ للنسائي: (تقبص) -بقاف فموحدة فصاد مهملة خفيفة- وهي رواية الشّافعيّ (¬5)، والقبص: الأخذ بأطراف الأنامل. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 489). (¬2) الأسفيداج: هو رماد الرصاص، معرب. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 248). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 17). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5044). (¬5) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 300). ولم أقف عليه في رواية النسائي، ولعله تصحف في المطبوع.

قال الأصبهاني وابن الأثير: هو كناية عن الإسراع أي: تذهب [بعدوٍ] (¬1) وسرعة إلى منزل أبويها، لكثرة حيائها لقبح منظرها (¬2) أو لشدة شوقها إلى التزويج لبعد عهدها به، والباء في قوله: به سببيّة، قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": والضبط الأول أشهر (¬3)، قال ابن قتيبة: سألت الحجازيين عن الافتضاض؟ فذكروا أنّ المعتدّة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفرًا ولا تزين شعرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثم تفتض أي: تكسر ما فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش ما تفتض به (¬4). قال في "الفتح": وهذا لا يخالف تفسير مالك لكنه أخص منه؛ لأنه أطلق الجلد وتبين أن المراد به جلد القبل. قال ابن وهب: معناه أنها تمسح بيدها على الدابة وعلى ظهره. وقيل: المراد تمسح به (¬5). وهذا الظاهر يدل عليه قولها (فَقَلَّ مَا) ما موصول حرفي تسبك مع ما بعدها بمصدر. (تفتض)؛ أي: افتضاضها (بشيء) من طير أو نحوه (إلا مات) لتمسُّحِا به، والافتضاض: الاغتسال بالماء العذب لإزالة الوسخ، وإرادة النقاء حتى تصير بيضاء نقية كالفضة، ومن ثم قال الأخفش: معناه: تتنظّف، فتنقّى من الوسخ النقاء، فتشبه الفضة في نقائها وبياضها، والغرض بذلك الإشارة إلى إهلاك ما هي فيه، وجوّز الكرماني أن تكون الباء في قوله: "فتفتض به" ¬

_ (¬1) [بعدوٍ] ساقطة من "ب". (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 5). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 489). (¬4) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 496). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 489).

للتعدية، أو تكون زائدة؛ أي: تفتض الطائر، بأن تكسر بعضَ أعضائه، ورده في "الفتح" (¬1) (ثم تخرج) مما هي فيه، (فتعُطى) بالبناء للمجهول (بَعْرَةً) -بفتح الموحدة وسكون العين المهملة-، ويجوز فتحُها (فترمي بها) في رواية مطرف، وابن الماجشون عن مالك: ترمي ببعرة من بعر الغنم أو الإبل، فترمي بها أمامها، فيكون ذلك إحلالًا لها. وفي رواية ابن وهب: ترمي ببعرة من بعر الغنم من وراء ظهرها (¬2). ووقع في رواية شعبة الآتية: فإذا كان حوله، فمر كلب، رمت ببعرة، وظاهره أن رميها البعرة يتوقف على مرور كلب، سواء طال زمن انتظار مروره، أم قصر، وبه جزم بعض الشراح، وقال: ترمي بها من عرضَ من كلب أو غيره، ترى من حصرها أن مقامها حولًا أهونُ عليها من بعرة ترمي بها كلبًا أو غيره. وقال عياض: يمكن الجمع بأن الكلب إذا مرّ، افتضت به، ثم رمت البعرة (¬3)، واستبعده في "الفتح"، قال: واختلف في المراد برمي البعرة، فقيل: هو إشارة إلى أنها رمت العدّة رميَ البعرة، وقيل: إشارة إلى أن الفعل الذي فعلته، من التربُّص، والصبر على البلاء الذي كانت فيه، لما انقضى، كان عندها بمنزلة البعرة التي رمتها، استحقارًا له، وتعظيمًا لحق زوجها، وقيل: بل ترميها على سبيل التفاؤل، لعدم عودها إلى مثل ذلك (¬4)، (ثم) بعدَ صنيعها الأشياءَ المذكورةَ (تراجع بعدُ) بالبناء على ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (9/ 490). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (17/ 322). (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 70). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 490).

الضم؛ أي: بعد ما تقدم (ما شاءت من طيب) بسائر أنواعه (أو غيره) مما يحمر الوجه، ومن أنواع ثياب الزينة، واستعمال الحلي والكحل والخضاب، وكل ما يدعو إلى نكاحها ويحسنها من أنواع الزينة والتجمل (¬1). قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى ورضي عنه-: (الحفش) -بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء وبالشين المعجمة-: (البيت الصغير) كما تقدم الكلام عليه عند ذكره، (و) قوله: (تفتض)؛ أي: (تدلك به)؛ أي: بالحمار، أو ما عطف عليه ونحو ذلك (جسدَها) كما بيّنا ذلك، والله -تعالى- أعلم. تنبيه: ظاهر صنيعه كما في "الصحيحين" وغيرهما أن القصة غير مسندة، بل من كلام زينب، وفي "الصحيحين" ما يدل على أنها من المرفوع، لكنه باختصار، ففيهما عن حميد عن زينب، عن أمها أم سلمة - رضي الله عنهما -: أن امرأة توفي عنها زوجها، فخشوا على عينها، فأتوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فاستأذنوه في الكحل، فقال: "لا تكتحل، قد كانت إحداكن تمكث في شر أحلاسها، أو شر بيتها، فإذا كان حول، فمر كلب، رمت ببعرة، فلا تكتحل حتى تمضي أربعة أشهر وعشر" (¬2). وفي رواية عند النسائي من حديث أم حبيبة وأم سلمة: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "قد كانت إحداكن في الجاهلية إذا تُوفي عنها زوجُها، أقامت سنة، ثم قذفت ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 17). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5025).

خلفها ببعرة، ثم خرجت" الحديث (¬1)، والذي في "الصحيحين" من كون القصة من مرفوع أم سلمة من رواية شعبة، وهو من أحفظ الناس، فلا يُقْضَى على روايته برواية غيره بالاحتمال، قاله في "الفتح"، ثم قال: ولعلّ الموقوف منه الزيادة التي ليست في رواية شعبة (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه النسائي (3541)، كتاب: الطلاق، باب: النهي عن الكحل للحادة. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 489).

كتاب اللعان

كتاب اللعان اللعان: مصدر لاعَنَ لِعانًا: إذا فعل ما ذكر، أو لعنَ كلُّ واحد من الاثنين الآخر. قال الأزهري: وأصل اللعن: الطرد والإبعاد، يقال: لعنه الله؛ أي: باعده، والتَعَنَ الرجل: إذا لعن نفسه من قبل نفسه، واللعان لا يكون إلا من اثنين، يقال: لاعن امرأتَه لِعانًا ومُلاعنةً، فتلاعنا، والتعنا بمعنى واحد، ولاعنَ الإمامُ بينهما، ورجل لُعَنَة بوزن هُمَزة: إذا كان يلعن الناس كثيرًا، ولُعْنَة -بسكون العين-: يلعنه الناس (¬1)، كما في "المطلع" (¬2). واللعان شرعًا: شهادات مؤكَّدات بأيمان من الجانبين، مقرونة باللعن والغضب، قائمة مقام حدّ قذف أو تعزير في جانبه، وحد زنا في جانبها (¬3). وذكر المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الكتاب ثمانية أحاديث. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (2/ 396 - 397)، (مادة: لعن). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 347). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 599).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فاحِشَةٍ، كيْفَ يَصْنَعُ؟ إنْ تَكَلَّمَ، تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ، سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلَمْ يُجِبْهُ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيتُ بهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَؤُلَاءِ الآياتِ فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ، وَوَعَظَهُ، وَذَكَّرَهُ أَنَّ عَذَابِ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةُ. فَقَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ! مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا. ثُمَّ دَعَاهَا، فَوَعَظَهَا، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْونُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةُ، فَقَالَتْ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ! إِنَّهُ لَكَاذِبٌ. فَبَدَأَ بالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادَقِينَ، وَالخَامِسَةُ أَنَّ لعْنهَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الكَاذِبينَ، ثُمَّ ثَنَّى بالمَرْأَةِ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الكَاذِبينَ، وَالخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ. ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ قَالَ: "اللهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟ ثَلَاثًا" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (1493/ 4)، كتاب: اللعان، والنسائي (3473)، كتاب: الطلاق، باب: عظة الإمام الرجل والمرأة عند اللعان، =

وفي لفظ: قالَ "لا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا". قَالَ: يَا رَسُولِ اللهِ! مَالِي. قَالَ: "لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كنتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا" (¬1). * * * (عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ عمرَ - رضي الله عنهما -) قال: (إنَّ فلانَ بنَ فلانٍ) يعني: عُويمرَ بنَ الحارث، ويقال: ابن النضر العجلاني، نسبة إلى عجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف. وقال: النووي: هو هلالُ بنُ أميةَ بنِ عامر بن قيس، شهد بدرًا (¬2) (قال: يا رسول الله! أرأيتَ) من الرأي، أو من الرؤية؛ أي: أخبرني عن حكم ما (لو وجدَ أحدُنا) معشرَ المسلمين (امرأتَه على فاحشةٍ). ¬

_ = والترمذي (3178)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النور. (¬1) رواه البخاري (5005)، كتاب: الطلاق، باب: صداق الملاعنة، و (5006)، باب: قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب، و (5034)، باب: المهر للمدخول عليها، و (5035)، باب: المتعة للتي لم يفرض لها، ومسلم (1493/ 5)، كتاب: اللعان، واللفظ له، وأبو داود (2257)، كتاب: الطلاق، باب: في اللعان، والنسائي (3476)، كتاب: الطلاق، باب: اجتماع المتلاعنين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 271)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 80)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 294)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 124)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 65)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1352)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 447)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 300)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 177)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 193)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 65) (¬2) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 437).

وفي حديث سهل بن سعد الساعدي: أن عُويمرًا العجلانيَّ جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري، فقال له: أرأيت يا عاصم! لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتلُه فتقتلونه (¬1)؛ يعني: قصاصًا، لتقدم علمه بحكم القصاص، لعموم قوله -تعالى-: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، لكن تطرق إليه احتمال أن يخص من ذلك ما يقع بالسبب الذي لا يقدر على الصبر عليه غالبًا من الغيرة التي في طبع البشر، ولهذا قال في حديث سهل: أم كيف يفعل (¬2)؟. وفي حديث ابن عمر: (كيف يصنع)؟ وقد قال سعد بن عبادة: لو رأيتُه لضربتُه بالسيف غيرَ مصفح (¬3)، ثمّ قال عويمرٌ العجلاني: (إن تكلّم) بما وجدَ من ذلك (تكلَّمَ بأمرٍ عظيم) تأباه العقول السليمة، والشيمُ المستقيمة. وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: عندهما: إن تكلم، جلدتموه، أو قتل، قتلتموه (¬4) (وإن سكت) عمّا وجد (سكتَ على مثلِ ذلك)؛ أي: على أمرٍ عظيم. وفي حديث ابن مسعود: سكت على غيظ (¬5)، (فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -) عن جواب مسألته (فلم يجبه) بشيء، (فلما كان بعد ذلك) الحديث (أتاه)؛ أي: أتى السائلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، (فقال) له: يا رسول الله! (إنَّ الذي سألتك عنه): من ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1492/ 1)، كتاب: اللعان. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 449). (¬3) رواه البخاري (6454)، كتاب: المحاربين من أهل الكفر، باب: من رأى مع امرأته رجلًا فقتله، ومسلم (1499)، كتاب: اللعان. (¬4) رواه مسلم (1495)، كتاب: اللعان. (¬5) تقدم تخريجه آنفًا.

وجدان أحدِنا امرأتَه على الفاحشة، قد ابُتليتُ به، وكأنه كان قد اطلع على مخايل ما سأل عنه، لكنه لم يتحققه، فلذلك لم يفصح به، أو اطلع - صلى الله عليه وسلم - الحقيقة، إلا أنه خشي إذا صرح به من العقوبة التي ضمنها من رمي المحصنة بغير بيّنة، كما أشار إليه ابن العربي، قال: ويحتمل أن يكون لم يقع له شيء من ذلك، لكن اتفق أنه وقع في نفسه إرادة الاطلاع على الحكم، فابتُلي به؛ عنه، يقال: البلاء موكَّلٌ بالمنطق (¬1)، ومن ثم قال: إن الذي سألتك عنه (¬2) (قد ابتليت به، فأنزل الله -عزَّ وجلَّ- هؤلاء الآيات في سورة النور)، وهو قوله -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، فتلاهُنَّ)؛ أي: الآياتِ (عليه)؛ أي: على السائل، وهو عويمر، أو هلال. وفي حديث سهل: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك" (¬3). وفي حديث ابن مسعود: فلما قال: وإن سكتَ، سكتَ على غيظ، قال النبيُّ في: "اللهم افتحْ"، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان (¬4). وقد اختلف أئمة الحديث والتفسير وغيرهم فيمن نزلت فيه، فظاهر سياق أحاديث "الصحيحين" وغيرهما: أنها نزلت بسبب عويمر، ويعارضه ¬

_ (¬1) رواه القضاعي في "مسند الشهاب" (227)، من حديث حذيفة - رضي الله عنه -، و (228)، من حديث علي - رضي الله عنه - وانظر: "فيض القدير" للمناوي (3/ 223). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 449). (¬3) رواه البخاري (4468)، كتاب: التفسير، باب: قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (1492/ 1). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1495).

ما رواه الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشَريك بن سَحماء، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البيّنة، أو حدٌّ في ظهرك" فقال: يا رسول الله! إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا، ينطلق يلتمس البيّنة! فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البيِّنة، وإلا حدٌّ في ظهرك"، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل، وأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، فقرأ حتى بلغ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (¬1) [النور: 9]. وفي رواية في هذا الحديث عن ابن عباس عند أبي داود: فقال هلال: وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجًا، قال: فبينا رسول الله في كذلك، إذْ نزل عليه الوحي (¬2). وفي حديث أنس عند الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي: أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، وكان أخا البراء بن مالك لأمه، وكان أول رجل لاعنَ في الإسلام (¬3)، فهذا يدل على أن الآية نزلت بسبب هلال. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4470)، كتاب: التفسير، باب: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}، وأبو داود (2254)، كتاب: الطلاق، باب: في اللعان، والترمذي (3179)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النور، وابن ماجه (2067)، كتاب: الطلاق، باب: اللعان، ورواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 142)، لكن من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) رواه أبو داود (2256)، كتاب: الطلاق، باب: في اللعان. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 142)، ومسلم (1496)، كتاب: اللعان، والنسائي (3468)، كتاب: الطلاق، باب: اللعان في قذف الرجل زوجته برجل بعينه.

وقد روى النسائي من حديث أنس - رضي الله عنه -: أول لعان كان في الإسلام: أن هلال بن أمية قذف شريك بن سحماء بامرأته، الحديث (¬1). قال الحافظ ابن حجر في كتاب: التفسير من "الفتح" في تفسير سورة النور: وقد اختلف الأئمة في هذا الموضع، فمنهم من رجح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجح أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما: بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر -أيضًا-، فنزلت في شأنهما معًا. وقد جنح النووي إلى هذا (¬2)، وسبقه الخطيب، فقال: لعلهما اتفق كونهما جاءا في وقت واحد، ويؤيّد التعدد أن القائل في قصة هلال سعدُ بنُ عُبادة كما أخرجه أبو داود، والطبري عن ابن عباس، وفي أوله: لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، الآية، قال سعد بن عبادة: لو رأيت لكاعٍ قد تفخّذها رجل، لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، ما كنت لآتي بهم حتى يفرغ من حاجته! قال: فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية، الحديث (¬3). وعند الطبري عن عكرمة مرسلًا نحوه، وفيه: فلم يلبثوا أن جاء ابن عم له، فرمى امرأته، الحديث (¬4). وفي قصة عويمر القائلُ عاصمُ بنُ عدي. ¬

_ (¬1) رواه النسائي (3469)، كتاب: الطلاق، باب: كيف اللعان. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 120). (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2256)، ورواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (18/ 82). (¬4) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (18/ 82).

وأخرج الطبري عن طريق الشعبي مرسلًا، قال: لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، الآية، قال: عاصمُ بنُ عَدِيّ: إن أنا رأيتُ فتكلمتُ، جُلدت، وإن سكتُّ، سكتُّ على غيظ، الحديث (¬1). ولا مانع من تعدد القصص واتحاد النزول. وقد روى البزار من حديث حذيفة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: "لو رأيت مع أمّ رومان رجلًا، ما كنت فاعلًا به؟ "، [قال: كنت فاعلًا به] (¬2) شرًا، قال: "فأنت يا عمر؟ "، قال: كنت أقول: لعن الله الأبعدَ، قال: فنزلت (¬3). ويحتمل أن النزول سبق بسبب هلال، فلما جاء عويمر، ولم يكن علمَ بما وقع لهلال، أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكم، ولهذا قال في قصة هلال: فنزل جبريل، وفي قصة عويمر: "قد أنزل الله فيك"؛ أي: وفيمن كان قبلك، وبهذا أجاب ابن الصباغ في "الشامل"، قال: أنزلت الآية في هلال، وأما قوله لعويمر: قد نزل فيك وفي صاحبتك، فمعناه ما نزل في قصة هلال، ويؤيده ما في حديث أنس: أولُ لعان كان في الإسلام: أن شريكَ بن سحماء قذفه هلالُ بنُ أمية بامرأته، الحديث (¬4). وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين، قال: وهذه الاحتمالات -وإن بعدت- أولى من تغليط الرواة الحفاظ (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (18/ 84). (¬2) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬3) رواه البزار في "مسنده" (2940). (¬4) تقدم تخريجه عند النسائي. (¬5) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 300).

وقد أنكر جماعةٌ ذكرَ هلال فيمن لاعنَ، منهم: عبد الله بن أبي صفرة أخو المهلب، والطبري. وقال: ابن العربي: قال: الناس: هو وهمٌ من هشام بن حسان، وعليه دار حديث ابن عباس وأنس بذلك (¬1). وقال عياض في "المشارق": كذا جاء في رواية هشام بن حسان، ولم يقله غيره، وإنما القصة لعويمر العجلاني، لكن وقع في "المدونة" في حديث العجلاني ذكر شريك (¬2). وقال النووي في "مبهماته": اختلفوا في الملاعن على ثلاثة أقوال: عويمر العجلاني، وهلال بن أمية، وعاصم بن عدي، ثم نقل عن الواحدي: أن أظهر هذه الأقوال أنه عويمر. وقد تعقّب الحافظ ابن حجر كلامهم في "الفتح"، واستظهر في باب: اللعان احتمالَ في وجه الجمع أن يكون عاصم سأل قبل النزوله، ثم جاء هلال بعده، فنزلت عند سؤاله، فجاء عويمر في المرة الثانية التي قال فيها: إن الذي قد سألتك عنه ابتُليت به، فوجد الآية نزلت في شأن هلاله، فأعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها نزلت فيه؛ يعني: أنها نزلت في كلّ من وقع له ذلك؛ [لأن ذلك] (¬3) لا يختص بهلال، وكذا يجاب عن سياق حديث ابن مسعود (¬4). (و) لما قال عويمر ما قال في حق زوجته، (وعظه) النبي - صلى الله عليه وسلم -، (وذكَّره) -بتشديد الكاف- بمعنى: وعَظَه ونبهه من غفلته (أنَّ عذاب الدنيا) من الحد ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 188). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 318). (¬3) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 450).

ونحوه (أهونُ) وأخفُّ (من عذاب الآخرة) الذي هو دخول النار، وغضبُ الجبار، ومجاورةُ الفجار في دار البوار، (فقال) الرجل: (لا والذي بعثك بالحق) نبيًا! (ما كذبتُ عليها) فيما نسبته إليها، (ثم دعاها) النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعني: امرأة عويمر، وهي خولة بنت عاصم بن عدي. قال ابن منده في كتاب "الصحابة": خولة بنتُ عاصم هي التي قذفها زوجُها، فلاعنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينهما، لها ذكر، ولا يعرف لها رواية، وتبعه أبو نعيم، ولم يذكر أسلفهما في ذلك، وكأنه ابنُ الكلبي، فإنه قال: إن امرأة عويمر هي بنتُ عاصم المذكور، واسمها خولة، وذكر مقاتلُ بنُ سليمان فيما حكاه القرطبي: أنها خولة بنتُ قيس، وذكر ابن مردويه أنها بنتُ أخي عاصم، فأخرج من طريق الحكم بن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عاصم بن عدي لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، قال: يا رسول الله! أين لأحدنا أربعةُ شهداء؟! فابتلي به في بنت أخيه، وفي سنده -مع إرساله- ضعف. وأخرج ابن أبي حاتم في "التفسير" عن مقاتل بن حيان، قال: لما سأل عاصم عن ذلك، ابتلي به في أهل بيته، فأتاه ابنُ عمه تحتَ ابنةِ عمِّه، رماها بابن عمه، المرأةُ والزوجُ والخليلُ ثلاثتهم بنو عمِّ عاصمٍ (¬1). وعند ابن مردويه في مرسل ابن أبي ليلى المذكور: أن الرجل الذي رمى عويمرٌ امرأته به هو شريك بن سحماء، وهو يشهد لصحة هذه الرواية؛ لأنه ابن عم عويمر، وكذا في مرسل مقاتل بن حيان عند ابن أبي حاتم: فقال الزوج لعاصم: يابن عم! أقسمُ بالله لقد رأيت شريكَ بنَ سحماء على ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2535).

بطنها، وإنها لحُبلى وما قربتها منذ أربعة أشهر (¬1)، وكان شريك بن سحماء اتهم بامرأة عويمر، وبامرأة هلال بن أمية (¬2)، (فوعظها) النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وأخبرها أن عذاب الدنيا) من الرَّجْم ونحوه (أهونُ من عذاب الآخرة)، (فقالت) المرأة: (لا والذي بعثلث بالحق) الذي هو القرآن وشرائع الإسلام والإيمان (إنه لَكَاذِبٌ) فيما رماني فيه من الزنا، ونسبني إليه من الفاحشة والخنا، فحينئذ دعاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتلاعنا، وكان ذلك بعد العصر في المسجد، وفي رواية: عند المنبر (¬3)، (فبدأ) - صلى الله عليه وسلم - اللعان (بالرجل، فشهد أربع شهادات بالله إنَّه لمن الصادقين) فيما رميت به امرأتي هذه من الزنا، ولا بد أن يكون مشيرًا إليها، ولا يحتاج مع حضورها والإشارة إليها إلى تسميتها ونسبها، وإن لم تكن حاضرة، سماها، ونسبها، فإن كملت الأربع مرات (¬4)، يزيد بعدها (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كَان من الكاذبين) فيما رميتُها به من الزنا، (ثم) بعد فراغ الرجل من ذلك (ثَنَّى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله إنه)؛ أي: زوجي هذا (لمن الكاذبين) فيما رماني به من الزنا، وتشير إليه إن كان حاضرًا، وإن كان غائبًا، سمته، ونسبته، فإن كملت أربع مرات (¬5)، قالت (والخامسة أنَّ غضبَ الله عليها إن كان من الصادقين)، وتزيد استحبابًا: فيما رماني به من الزنا (¬6). ¬

_ (¬1) كما تقدم تخريجه آنفًا. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 448). (¬3) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 398)، وضعفه. (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 599 - 600). (¬5) المرجع السابق، (3/ 600). (¬6) المرجع السابق، الموضع نفسه.

وفي حديث ابن مسعود: فلما ذهبت لتلتعن، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: "مَهْ"، فأبت، فالتعنت (¬1). وفي حديث أنس: فلما كان في الخامسة، سكتت سكتة حتى ظنوا أنها ستعترف، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت على القول (¬2). وفي حديث ابن عباس عند أبي داود، والنسائي، وابن أبي حاتم: فدعي الرجل، فشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الصادقين، فأمر به، فأمسك على فيه، فوعظه، فقال: "كل شيء أهونُ عليك من لعنة الله"، ثم أرسله، فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. وقال في المرأة نحو ذلك (¬3). وفي البخاري وغيره من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: فلما كان عند الخامسة، وقفوها، وقالوا: إنها موجِبَة، قال ابن عباس: فتلكأت، ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت (¬4)، (ثم فرق) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (بينهما)؛ أي: المتلاعنين. وفي حديث سهل من طريق ابن جريج: فكانت سُنَّةً في المتلاعنين، لا يجتمعان أبدًا (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2253)، كتاب: الطلاق، باب: في اللعان. (¬2) رواه أبو يعلى في "مسنده" (2824). (¬3) رواه أبو داود (2255)، كتاب: الطلاق، باب: في اللعان، والنسائي (3472)، كتاب: الطلاق،، باب: الأمر بوضع اليد على في المتلاعنين عند الخامسة، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2534)، واللفظ له. (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4470). (¬5) رواه مسلم (1492/ 2)، كتاب: اللعان، بلفظ: "وكات فراقه إياها، بعدُ، سنة في المتلاعنين"، لكن من طريق الزهري، عن سهل، به.

وقال الزهري عن سهل بن سعد: فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وقال: "لا يجتمعان أبدًا" (¬1). وفي آخر حديث ابن عباس عند أبي داود: وقضى أن ليس عليه قوت ولا سكنى (¬2)، من أجل أنها يفترقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها، وهذا ظاهر في أن الفرقة وقعت بينهما بنفس اللعان (¬3). قال في "الهدي": في ذلك خمسة مذاهب: * أحدها: أن الفرقة تحصل بمجرد القذف، وهذا قول أبي عبيد، والجمهورُ على خلافه، ثم اختلفوا، فقال جابر بن زيد، وعثمان الليثي، ومحمد بن أبي صفرة، وطائفة من فقهاء البصرة: لا يقع اللعان فرقة البتّة، قال ابن أبي صفرة: اللعان لا يقطع العصمة، واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على الملاعن طلاقَ ملاعنته بعد اللعان، بل إن شاء طلاقها، ونزه نفسه أن يمسك من قد اعترف بأنها زنت، وأن يقوم عليه دليل كذب بإمساكها، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله سنة، ونازع هؤلاء جمهور العلماء، فقالوا: اللعان يوجب الفرقة، ثم اختلفوا على ثلاثة مذاهب: أحدها: أن يقع بمجرد لعان الزوج وحده، وإن لم تلتعن المرأة، وهذا القول مما تفرد به الشافعي، واحتج له بأنها فرقة حاصلة بالقول، فحصلت بقول الزوج وحده كالطلاق. * الثاني: أن الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما جميعًا، فإذا تم ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2250)، كتاب: الطلاق، باب: في اللعان. (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2256)، بلفظ: "وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت". (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 459).

لعانهما، وقعت الفرقة، ولا يعتبر تفرق الحاكم، وهذا مذهب الإمام أحمد في أصح الروايتين عنه، وهو المذهب المعتمد، اختارها أبو بكر، وهو قول مالك، وأهل الظاهر؛ لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بينهما بعد تمام لعانهما لمصلحة ظاهرة، وهي أن الله سبحانه جعل بين الزوجين مودة ورحمة، وجعل كلًا منهما سكنًا للآخر، وقد زال هذا بالقذف، وإقامتها مقام الخزي والعار والفضيحة، فإن كان كاذبًا، فقد فضحها، وبهتها، [ورماها بالداء العضال ونفى ورؤوس قومها وهتكها على رؤوس الأشهاد] (¬1)، وإن كانت هي كاذبة، فقد أفسدت فراشه، ومسته الفضيحة والخزي والعار بكونه زوج بغي، وتعليق ولَدِ غيره عليه، فلا يحصل بعد هذا بينهما من المودة والرحمة والسكن ما هو المطلوب بالنكاح، فكان من محاسن الشريعة الغراء التفريقُ بينهما، والتحريم المؤبد -على ما سنذكره-، وهذا لا يترتب على بعض اللعان، كما لا يترتب على بعض لعان الزوج. * المذهب الثالث: أن الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانها، وتفريق الحاكم، بينهما، وهذا مذهب أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد، واحتج لهذا بالحديث المذكور، وبقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، فظاهر هذا أن الفرقة لم تحصل قبله، وبأن عويمرًا قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي هذا حجة من وجهين: إمكان إمساكها، ووقوع الطلاق، ولو حصلت الفرقة باللعان وحده، لما ثبت واحد منهما. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

وفي حديث سهل بن سعد الساعدي: أنه طلقها ثلاثًا، فأنفذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورواه أبو داود (¬1). وأجاب القائلون بالفرقة بمجرد تمام اللعان بدون تفريق الحاكم: أن اللعان معنى يقتضي التّحريم المؤبد، فلم يقف على تفريق الحاكم، كالرضاع، ولأن الفرقة لو وقفت على تفريق الحاكم، لساغ تركُ التفريق إذا كرهه الزوجان كالتفريق، بالعيب والإعسار. وأما قوله: فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، فيحتمل ثلاثة أمور: إنشاء الفرقة، والإعلام بها، والإلزام بموجبها من الفرقة الحسية. وأما قوله: كذبتُ عليها إن أمسكتها، فلا يدل على أن إمساكها بعد اللعان مأذون فيه شرعًا، بل هو بادرَ إلى فراقها، فكان الأمر صائرًا إلى ما بادر إليه. وأما طلاقه ثلاثًا، فما زاد الفرقة الواقعة إلا تأكيدًا، فإنها حرمت عليه تحريمًا مؤبدًا، فالطلاق تأكيد لهذا الفراق، فكأنه قال: لا تحل لي بعد هذا. وأما إنفاذ الطلاق عليه، فتأكيد لموجبه من التحريم، فإنها إذا لم تحل له باللعان أبدًا، كان الطلاق الثلاث تأكيدًا للتحريم الواقع باللعان، فهذا معنى نفاذه فلم ينكره - صلى الله عليه وسلم -، وسهل لم يحك لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: وقع طلاقك، وإنما شاهد القصة، وعدمَ إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - للطلاق، فظن ذلك تنفيذًا، وهذا صحيح بهذا الاعتبار (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2250). (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 388 - 390).

تنبيه: هذه الفرقة توجب تحريمًا مؤبدًا، لا يجتمعان بعدها أبدًا، كما رواه أبو داود من حديث سهل (¬1). وقال: ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدًا" (¬2). وعن علي بن أبي طالب، قال: مضت السنة في المتلاعنين أَلَّا يجتمعا أبدًا (¬3). وعن علي، وابن مسعود، قالا: مضت السنة أَلَّا يجتمع المتلاعنان [أبدًا] (¬4)، روى هذا الدارقطني (¬5). وروى البيهقي من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "المتلاعنان إذا تفرقا، لا يجتمعان أبدًا" (¬6). وقال عمر - رضي الله عنه -: يفرق بينهما، ولا يجتمعان أبدًا (¬7). ¬

_ (¬1) برقم (2250). (¬2) ذكره البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 409)، لكن من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. وكذا رواه الدارقطنىِ في "سننه" (3/ 276). (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 276)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 410). (¬4) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 276). (¬6) تقدم تخريجه قريبًا عند الدارقطني والبيهقي. (¬7) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 405 - 406)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (17369)، وغيرهما.

وإلى هذا ذهب أحمد، والشافعي، ومالك، والثوري، وأبو عبيد، وأبو يوسف. ومذهب سعيد بن المسيب، وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن: إن أكذب نفسه، حلت له، وعاد فراشه بحاله. قال سعيد بن المسيب: إن أكذب نفسه، هو خاطب من الخطاب. وهي رواية شاذة عن الإمام أحمد. وقال سعيد بن جبير: إن أكذب نفسه، رُدت إليه ما دامت في العدة. والصحيح: القول الأوّل، وهو الذي دلت عليه [السنة] (¬1) الصحيحة الصريحة، وأقوال الصحابة (¬2). قال في "الهدي": وهذا الذي يقتضيه حكم اللعان، فإن لعنة الله -عز وجل-، وغضبه قد حل بأحدهما لا محالة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الخامسة: "إنها الموجبة" (¬3)؛ أي: الموجبة لهذا الوعيد، ولا نعلم عينَ من حلَّت به يقينًا، ففرق بينهما خشية أن يكون هو الملعون الذي قد وجبت عليه لعنة الله، وباء بها، فيعلو امرأة غيرَ ملعونة، وحكمُ الشرع يأبى هذا كما دلت الشريعة أن يعلو الكافر مسلمة، والزاني عفيفة، وإما أن يمسك غيرُ الملعون ملعونةً مغضوبًا عليها، قد وجب عليها غضب الله، وباءت به، ولا يلزم هذا فيما إذا تزوج كلُّ منهما غير صاحبه، لعدم تحقق عين الملعون منهما، وأيضًا فالنفرة الحاصلة من إساءة كل منهما إلى صاحبه لا تزول أبدًا، فإن الرجل إن كان صادقًا عليها، فقد أشاع فاحشتها، وفضحها على ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 391 - 392). (¬3) كما تقدم تخريجه.

رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزي، وخفق عليها الخزي والغضب، وقطع نسب ولدها، وإن كان كاذبًا، فقد أضاف إلى ذلك بهتها بهذه التهمة العظيمة، وأحرق قلبها بها، والمرأة إن كانت صادقة، فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه لعنة الله، وإن كانت كاذبة، فقد أفسدت فراشه، وخانته في نفسها، وألزمته لعنة الله والفضيحة، وأخرجته إلى هذا المقام المخزي، فحصل لكل واحد منهما من صاحبه من النفرة والوحشة وسوء الظن به ما لا يكاد يلتئم معه شمل أبدًا، فاقتضت حكمةُ مَنْ شرعُه كلُّه حكمةٌ ومصلحة وعدل ورحمة انحتامَ الفرقة بينهما، وقطعَ الصحبة المتمحضة مفسدة (¬1)، انتهى. في "الفتح": قال ابن السمعاني: لم أقف على دليل لتأبيد الفرقة من حيث النظر، وإنما المتّبع في ذلك النص. وقال ابن عبد البر: أبدى بعض أصحابنا له فائدة، وهو ألا يجتمع ملعون مع غير ملعون؛ لأن أحدهما ملعون في الجملة، بخلاف ما إذا تزوجت المرأة غيرَ الملاعن، فإنه لا يتحقق، قال: وتُعقب بأنه لو كان كذلك، لامتنع عليهما معًا التزويج؛ لأنه يتحقق أن أحدهما ملعون، ويمكن أن يجاب بأن في هذه الصورة افترقا في الجملة (¬2)، انتهى. وتقدم كلام صاحب "الهدي" في ذلك آنفًا. (ثم قال) النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الله يعلم أن أحدَكُما)؛ أي المتلاعنان (كاذبٌ) فيه تغليب المذكر على المؤنث. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 393). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (15/ 22 - 23)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 459).

قال القاضي عياض، وتبعه النووي في قوله: "أحدكما" ردُّ على من قال من النُّحاة: إن لفظ: (أحد) لا يستعمل إلا في النفي، وعلى من قال منهم: لا يستعمل إلا في الوصف، وإنها لا توضع موضع واحد، ولا توقع موقعه، وقد أجازه المُبَرِّد، وجاء في الحديث في غير وصف ولا نفي، وبمعنى واحد (¬1)، انتهى. قال الفاكهي: هذا من أعجب ما وقع للقاضي مع براعته وحذقه، فإن الذي قاله النحاة إنما هو في (أحد) التي للعموم، نحو: ما في الدار من أحد، وما جاء إليَّ من أحد، وأما أحد بمعنى واحد، فلا خلاف في استعمالها في الإثبات، نحو: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]، ونحو "أحدكما كاذب" (¬2). (فهل منكما تائب) يحتمل أن يكون إرشادًا؛ لأنه لم يحصل منهما ولا من أحدهما اعتراف، ولأن الزوج لو أكذبَ نفسه، كانت توبته منه. قال القاضي عياض: ظاهره: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا الكلام بعد فراغهما من اللعان، فيؤخذ منه: عرضُ التوبة على المذنب، ولو بطريق الإجمال، وأنه يلزم من كذبَ التوبةُ من ذلك. وقال الداودي: قال ذلك قبل اللعان تحذيرًا لهما منه، قال: والأول أظهر وأولى بسياق الكلام (¬3). قال في "الفتح": والذي قال الداودي أولى من جهة أخرى، وهو ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 86)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 126). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 457 - 458). (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 86).

مشروعية الموعظة قبل الوقوع في المعصية، بل هو أحرى مما بعد الوقوع، قال. وأما سياق الكلام، فمحتمّل في رواية ابن عمر للأمرين. وأما حديث ابن عباس، فسياقه ظاهر فيما قال الداودي، ففي رواية جرير بن حازم عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس عند الطبري، والحاكم، والبيهقي في قصة هلال بن أمية، قال: فدعاهما حين نزلت آية الملاعنة، فقال: "الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ "، فقال هلال: والله! إني لصادق، الحديث (¬1). قلت: وفي حديث ابن عباس عند البخاري ما يُشعر بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك ما بين لعانه ولعانها، ولفظه في أثناء الحديث: فنزل جبريل -عليه السلام-، وأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، فقرأ حتى بلغ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9]، فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ "، ثم قامت فشهدت، الحديث (¬2). وقوله: (ثلاثًا)؛ أي: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ يعني: "الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ " ثلاث مرات. (وفي لفظ): (قال) - صلى الله عليه وسلم - للملاعن: (لا سبيل لك عليها) من جميع متعلّقات النكاح، لانقطاع علقه، وهي أيضًا لا نفقة لها عليه، ولا سكنى، كالمبتوتة وأولى؛ لأن المبتوتة له سبيل أن ينكحها في الجملة، بخلاف ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (18/ 83)، والحاكم في "المستدرك" (2813)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 395). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 458). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4470).

الملاعنة، فلا وجه لوجوب نفقتها وسكانها وقد انقطعت العصمةُ انقطاعًا كليًا. وأوجب مالك والشافعي لها السكنى، وأنكر ذلك القاضي إسماعيل بن إسحاق إنكارًا شديدًا (¬1). وفي لفظ: قال - صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين: "حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها" (¬2)؛ أي لا تسليط. (قال: يا رسول الله! مالي) موفوع على على أنه فاعل لفعل محذوف، كأنه لما سمع: "لا سبيل لك عليها"، قال: أيذهب مالي؟ والمراد به: الصداق (¬3). قال ابن العربي: قوله مالي؛ أي: الصداق الذي دفعته إليها، فأجيب بأنه (قال: لا مال لك) عليها؛ لأنك قد استوفيته بدخولك عليها (¬4)، وتمكينها لك من نفسها، ثم أوضح له ذلك بتقسيم مستوعب، فقال: (إن كنت صدقت)؛ أي: إن كنت صادقًا فيما ادعيته (عليها فهو)؛ أي: مالك الذي هو الصداق (بما استحللت من فرجها)، فتكون قد استوفيت حقك منها قبل ذلك (وإن كنت) قد (كذبت عليها) فيما نسبته إليها (فهو أبعد لك منها) لئلا يجتمع عليها الظلم في عرضها ومطالبتها بملك قَبَضَتْهُ منك قبضًا صحيحًا تستحقه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 396). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5006، 5035)، وعند مسلم برقم (1493/ 5). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 457). (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 191). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 457).

وفي لفظ: "فذلك أبعد وأبعد لك منها" (¬1) بتكرار لفظة أبعد تأكيدًا، فإذا كان مع الصدق يبعد عليه استحقاق إعادة المال، ففي الكذب أبعد (¬2). تنبيهات: الأول: ظاهر صنيع الحافظ المصنف: أن هذا الحديث من متفقي الشيخين، وقد عزاه لهما في "المنتقى" (¬3) وغيره، وليس كذلك، بل هو من أفراد مسلم، والمتفق عليه من حديث ابن عمر من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين: "حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها" إلى قوله: "فهو أبعدُ لك منها" (¬4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ "، فأبيا، قالها ثلاثًا (¬5)، وقد نبّه على ذلك الحافظ عبد الحق في "جمعه بين الصحيحين"، وغيره. الثاني: قد عُلم ممّا ذكرنا أن في الملاعن أقوالًا، أصحها: أنّه عويمر العجلاني، وقيل: هو هلال بن أمية بن عامر بن قيس، شهد بدرًا. والرّجل الذي رُمِيَتْ به شريكُ بن سحماء -بفتح السين وسكون الحاء المهملتين-، وسمحاء أمه -بالمد-، وأبوه عبده بن مغيث، وكان عند ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5035). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 457). (¬3) انظر: "المنتقى في الأحكام" للمجد ابن تيمية (2/ 537)، حديث رقم: (2891). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5006، 5035)، وعند مسلم برقم (1493/ 5). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5005، 5034)، وعند مسلم برقم (1493/ 6).

الناس بحال سوء، والأصح أنه لم يشهد بدرًا، وإنما شهد أحدًا، وتوفي في التاسعة عشرة. وفي الملاعن قول ثالث: أنه سعد بن عبادة، وأنكره شيخ الإسلام البلقيني. ورابع: أنه ابن عاصم بن عدي، وأنكره أيضًا. قال النووي: قال أبو الحسن الواحدي: أظهر الأقوال أنه عويمر، لكثرة الأحاديث، قال واتفقوا على أن الموجود زانيًا شريك بن السحماء (¬1)، انتهى. والملاعنَ منهما، فإن كان هلالًا، فهي خولة بنت قيس، أو بنت عاصم، والأصح أن هذه امرأة عويمر، وهي خولة بنت عاصم، أو بنت قيس -على ما مر-، وكذا امرأة هلال اسمها خولة، والله أعلم. الثالث: في ذكر عدة أحكام وقواعد تضمنها هذا الحديث: منها: سقوط الحد عن الملاعن بتمام تلاعنهما إن كانت المقذوفة محصنة، أو التعزير إن لم تكن محصنة (¬2)، وإن أكذب نفسه بعد اللعان، لزمه الحد إن كانت محصنة، وإلا تكن محصنة، فعليه التعزير (¬3). فإن نكل الزوج عن اللعان بعد القذف، حُدَّ للقذف عند أحمد والشافعي ومالك، وهذا مذهب السلف. وقال أبو حنيفة: يحبس حتى يلاعن، أو تقر الزوجة (¬4). ¬

_ (¬1) كما تقدم في "مبهماته". (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 608). (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 374). (¬4) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 167 - 168).

قال في "الهدي": وهذا الخلاف مبني على أن موجب قذف الزوج لامرأته هل هو الحد، كقذف الأجنبي، وله إسقاطه باللعان، أو موجبه اللعان نفسه، فالأول قول الجمهور، والثاني قول أبي حنيفة (¬1). ومنها: الفرقة المؤبدة، والتحريم المؤبد -كما مرَّ-. الرابع: في صفة اللعان وشروطه: أما صفته، فهي أن يقولى الزوج بحضرة حاكم أو نائبه، وكذا لو حَكَّما رجلًا أهلًا للحكم: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتُ به امرأتي هذه من الزنا، مشيرًا إليها، ولا يحتاج مع حضورِها والإشارةِ إليها إلى تسميتها ونسبها، كما لا يحتاج إلى ذلك في سائر العقود، وإن لم تكن حاضرة، سمَّاها، ونسبها حتى يكمل ذلك أربع مرات، ولا يشترط حضورهما معًا، بل لو كان أحدهما غائبًا عن صاحبه، مثل أن لاعن الرجلُ في المسجد، والمرأةُ على بابه لعذر، جاز، ئم يقول في الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا، ثم تقول: أشهد بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتشير إليه إن كان حاضرًا، وإن كان غائبًا، سمَّته ونسبته، فإذا كملت أربع مرات، تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فإن نقص أحدهما من الألفاظ الخمسة شيئًا، أو بدأت الزوجة باللعان قبله، أو تلاعنا بغير حضرة حاكم أو من يقوم مقامه، أو أبدَل لفظ أشهد بأقسم، أو أحلف، أو آلي، أو لفظة اللعنة بالإبعاد، أو أبدلَها بالغضب، أو أبدلت هي لفظةَ الغضب بالسخط، أو قدمت الغضب، أو أبدلته باللعنة، أو قدم هو اللعنة، أو أتى به أحدُهما ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 374).

قبل إلقائه عليه، أو علقه بشرط، أو لم يوالِ بين الكلمات عرفًا، أو أتى يه بغير العربية ممّن يحسنها، لم يعتد به، وإن عجزا عنه بالعربية، لم يلزمهما تعلمُها، وصح بلسانهما، ويستحب أن يحضر مع الحاكم أربعة يحسنون لسانهما، وإن كان الحاكم لا يحسن لسانهما، فلا بد في الترجمة من عدلين (¬1). قال ابن القيم في "الهدي": لا يقبل من الرجل إبدال اللعنة بالغضب، والإبعاد والسخط، ولا منها إبدالُ الغضب باللعنة والإبعاد والسخط، بل يأتي كل منهما بما قسمه الله سبحانه له من ذلك شرعًا وقدرًا. قال: وهذا أصح القولين في مذهب أحمد، ومالك، وغيرهما، ولا يحتاج أن يزيد على ما شرعه الله، بأن يقول: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، ولا أن يقول إذا ادعى الرؤية: رأيتها تزني كالميل في المكحلة، إذ لا أصل لذلك في كتاب الله وسنة رسوله (¬2). قال صاحب "الإفصاح" الإمام أبو المظفر بن هبيرة: من الفقهاء من اشترط أن يزاد بعد قوله من الصادقين: فيما رميتها به من الزنا، واشترط في نفيها عن نفسها أن تقول: فيما رماني به من الزنا، قال: ولا أراه يحتاج إليه؛ لأن الله تعالى أنزل ذلك وبيّنه، ولم يذكر هذا الاشتراط (¬3). واعتمد صاحب "الهدي" هذا، وقال: ظاهر كلام الإمام أحمد أنه لا يشترط ذكر الزنا في اللعان، فإن إسحاقَ بنَ منصور قال: قلت لأحمد: ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 599 - 601). (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 378). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 167).

كيف يلاعن؟ قال: على ما في كتاب الله، يقول أربع مرات: أشهد بالله إني: فيما رميتها به لمن الصادقين، ثم يقف عند الخامسة فيقول: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة مثل ذلك، فلم يشترط في هذا النص أن يقول: من الزنا (¬1)، انتهى. وقد استقر مذهبه الآن على ما ذكرناه أولًا. والسنة أن يتلاعنا بمحضر جماعة، ويستحب ألَّا ينقصوا عن أربعة، فإن ابن عباس، وابن عمر، وسهل بن سعد حضروه مع حداثة أسنانهم، فدل ذلك على أنه حضره جمع كثير (¬2). وينبغي أن يكون في الأوقات والأماكن المعظمة، وأن يكون المتلاعنان قائمين؛ لأن في قصة هلال بن أمية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "قم فاشهد أربع شهادات" (¬3)، وفي "الصحيحين" في قصة المرأة: ثم قامت فشهدت (¬4)، ولأنه إذا قام، شاهده الحاضرون، فيكون أبلغَ في شهرته، وأوقعَ في النفوس. قال في "الهدي": وفيه سر آخر، وهو أن الدعوة التي تطلب إصابتها إذا صادفت المدعو عليه قائمًا، نفذت فيه، ولهذا لمَّا دعا خبيب على المشركين حين صلبوه، أخذ أبو سفيان معاوية، فأضجعه، وكانوا يرون أن الرجل إذا لطي بالأرض، زلت عنه الدعوة (¬5)، انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 378 - 379). (¬2) المرجع السابق، (5/ 376). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 376).

وأما شروط اللعان، فيشترط [فيه] (¬1) أن يكون بين زوجين، ولو قبل الدخول، فلها حينئذ نصف الصداق، عاقلين بالغين، سواء كانا مسلمين، أو ذميين، حرين أو رقيقين، عدلين أو فاسقين، أو محدودين في قذف، أو كان أحدهما كذلك (¬2). قال الإمام أحمد: جميع الأزواج يلاعِنون: الحر من الحرةِ، والأمةِ إذا كانت زوجة، والعبد من الحرةِ والأمةِ إذا كانت زوجة، والمسلم من اليهودية والنصرانية، وهذا قول مالك، وإسحاق، وقول سعيد بن المسيب، والحسن، وربيعة، وسليمان بن يسار. وذهب أهل الرأي، والأوزاعي، والثوري، وجماعة إلى أن اللعان لا يكون إلا بين زوجين مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف، وهي رواية مرجوحة عن الإمام أحمد، ومأخذ القولين: أن اللعان يجمع وصفين: اليمينَ والشهادة، وقد سماه الله شهادة، وسماه رسوله يمينًا حيث قال: "لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن" فغلب عليه حكم الأيمان. قال: يصح من كل من تصح يمينه، مع عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، ولأنه مفتقر إلى اسم الله، وإلى ذكر القسم المؤكد وجوابه، ولاستواء الذكر والأنثى فيه، بخلاف الشهادة، ولو كان شهادة، لما تكرر لفظه، وأما اليمين فقد شرع فيها التكرار، كأيمان القسامة، وإنما أطلق عليه اسم الشهادة، لقول الملاعن: أشهد الله، فسمي بذلك شهادة، وإن كان يمينًا اعتبارًا بلفظها، والعرب تعد ذلك يمينًا في لغتها واستعمالها، قال قيس: [من الطويل] ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 602).

وَأَشْهَدُ عَنْدَ الله أَنِّي أُحِبُّهَا ... فَهَذَا لَهَا عِنْدِي فَمَا عِنْدَهَا لِيَا (¬1) ومن غلَّب عليه حكمَ الشهادة، اعتبر ما مر (¬2). والحاصل: أن اللعان يمين في معنى الشهادة، وشهادة في معنى اليمين، لاشتماله عليهما، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "ديوان مجنون ليلى" (ص: 294) من قصيدته المسماة بـ"المؤنسة"، والتي هي أشهر قصائده. (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 358 - 361).

الحديث الثاني

الحديث الثاني وَعَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا رَمَى امْرَأَتَهُ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَتَلَاعَنَا كَمَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، ثُمَّ قَضَىَ بِالَولَدِ لِلْمَرْأَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ المُتَلَاعِنَيْنِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4471)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9]، واللفظ له، و (5000)، باب: إحلاف الملاعن، و (5007 - 5008)، باب: التفريق بين المتلاعنين، و (5009)، باب: يلحق الولد بالملاعنة، ومسلم (1494/ 8 - 9)، كتاب: اللعان، وأبو داود (2259)، كتاب: الطلاق، باب: في اللعان، والنسائي (3477)، كتاب: الطلاق، باب: نفي الولد باللعان وإلحاقه بأمه، والترمذي (1203)، كتاب: الطلاق، باب: ما جاء في اللعان، وابن ماجه (2069)، كتاب: الطلاق، باب: اللعان. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 270)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 94)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 194)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 68)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1360)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 108)، و"فتح الباري" لابن حجر (8/ 451)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 301)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 178)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 61).

(وعنه)؛ أي: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: (أن رجلًا) هو هلال بنُ أميةَ، أو عُويمرٌ العجلاني -كما مر- (رمى امرأته) بالزنا، وأسمها خولةُ بنتُ قيس، أو بنتُ عاصم -على ما مر-، وفي حديث سهل بن سعد ما يشعر بأن ذلك كان في العاشرة؛ لأنه قال: شهدت المتلاعنين وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنةً، وقال: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنة (¬1)، فهذا يدل على أن اللعان كان في السنة الأخيرة من زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون في الحادية عشرة، أو في العاشرة بإلغاء الكسر. لكن جزم الطبري، وأبو حاتم بن حبان بأن اللعان كان في شعبان سنة تسع، وجزم به غير واحد من المتأخرين. ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند الدارقطني: أن قصة اللعان كانت منصرفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك (¬2)، وهو قريب من قول الطبري ومن وافقه، لكن في إسناده الواقدي، فلا بدّ من تأويل أحد القولين، فإن أمكن، وإلا فحديث سهل أصح، ومما يوهن رواية الواقدي ما اتفق عليه أهلُ السير أن التوجه إلى تبوك كان في رجب، وما ثبت في "الصحيحين": أن هلال بن أمية أحدُ الثلاثة الذين تيب عليهم، وفي قصته: أن امرأته استأذنت له النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه تخدمه، فأذن لها بشرط أَلَّا يقربها، فقالت له: إنه لا حراك به، وفيه: أن ذلك كان بعد أن مضى لهم أربعون يومًا (¬3)، فكيف تقع قصة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6462)، كتاب المحاربين، باب: من أظهر الفاحشة واللطخ والتهمة بغير نية. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 277). (¬3) رواه البخاري (4156)، كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، ومسلم (2769)، كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه.

اللعان في الشهر الذي انصرفوا فيه من تبوك، ويقع لهلال مع كونه فيما ذكر من الشغل بنفسه وهجران الناس له، وغير ذلك؟! وقد ثبت في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن آية اللعان نزلت في حقه (¬1)، وكذا عند مسلم من حديث أنس: أنه أوّل من لاعنَ في الإسلام (¬2)، ووقع في رواية عباد بن منصور في حديث ابن عباس عند الإمام أحمد وأبي داود: حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فوجد عند أهله رجلًا، الحديث (¬3)، فهذا يدل على أن قصة اللعان تأخرت عن قصة تبوك. قال في "الفتح": والذي يظهر: أن القصة كانت متأخرة، ولعلها كانت في شعبان سنة عشر لا تسع، وكانت الوفاة النبوية في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة باتفاق، فيلتئم حينئذ مع حديث سهل بن سعد. ووقع عند مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: كنّا ليلة الجمعة في المسجد، إذ جاء رجل من الأنصار، فذكر القصة في اللعان باختصار (¬4)، فعين اليوم، لكن لم يعين الشهر ولا السنة (¬5). وذكر البرماوي: أن لعانه - صلى الله عليه وسلم - بين عويمر وامرأته كان في السنة التاسعة في شعبان في مسجده - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر، قال: وكان عويمر قد قدم من تبوك، فوجدها حبلى. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1495/ 10). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 447 - 448).

قلت: هذا ينافي كون هلال بن أمية أولَ من لاعن جزمًا كما يظهر بمزيد التأمل، والله أعلم. (وانتفى) الملاعنُ (من ولدها)، وفي لفظ: فانتفى -بالفاء- (¬1)، قال الطيبي: الفاء سببية؛ أي: الملاعنة سبب الانتفاء، فإن أراد أن الملاعنة سبب ثبوت الانتفاء، فجيد، وإن أراد أن الملاعنة سبب وجود الانتفاء، فليس كذلك، فإنه إن لم يتعرض لنفي الولد في الملاعنة، لم ينتفِ. واستدل بهذا الحديث على مشروعية اللعان لنفي الولد (¬2)، وهذا معتمد المذهب. وفي رواية مرجوحة في مذهب الإمام أحمد: ينتفي الولد بمجرد اللعان، ولو لم يتعرض الرجل لذكره في اللعان، واختاره أبو بكر عبد العزيز غلام الخلال (¬3). ومعتمد المذهب: اعتبار ذكر نفي الولد صريحًا بأن يقول: أشهد بالله لقد زنت، وما هذا ولدي، وتعكس هي، أو تضمنًا، كقولِ مدَّعٍ زناها في طهرٍ لم يصيبها فيه، وأنه اعتزلها حتى ولدت: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما ادعيت به عليها، أو فيما رميتها به من الزنا، فإن لم يذكره، لم ينتف إلا أن يعيد اللعان بذكر نفيه (¬4)، وهكذا مذهب الشافعي، ومعتمد مذهب ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4471، 5009). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 460). (¬3) ووجه هذه الرواية: أنه سكت عن نفي ولد في نسب متحقق مع القدرة على نفيه في مجلسه، فلم يكن له نفيه. انظر: "التمام لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام" لابن أبي يعلى (2/ 180). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 609).

الإمام أحمد: أنه لا ينتفي عنه إلا أن ينفيه باللعان التام، وهو أن يوجد اللعان بينهما جميعًا، ولا ينتفي بلعان الزوج وحده، خلافًا للشافعية، وإن نفى الحمل في التعانه، لم ينتف (¬1). قال الإمام أحمد في رواية الجماعة: لعله يكون ريحًا لا ولدًا، فإذا وضعته، أعاد اللعان (¬2) (في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) متعلق بكلٍّ من رمى، وانتفى، (فأمرهما)؛ أي: الزوجين (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتلاعنا) لأجل نفي الولد. قال الشافعي: إن نفى الولد في الملاعنة، انتفى، وإن لم يتعرض له، فله أن يعيد اللعان لانتفائه، قال: ولا إعادة على المرأة. قال الشافعية: وإن أمكنه الرفع إلى الحاكم، فأخرَ بغير عذر حتى ولدت، لم يكن له أن ينفيه كما في الشفعة (¬3). وقال علماؤنا: من شرط نفي الولد أن ينفيه حالةَ علمه بولادته من غير تأخير إذا لم يكن عذر. قال أبو بكر: لا يتقدّر ذلك بثلاث، بل هو على ما جرت به العادة، فإن كان ليلًا، فحتى يصبح وينشر الناس، وإن كان جائعًا أو ظمآن، فحتى يأكل أو يشرب، أو ينام إن كان ناعسًا، أو يلبس ثيابه ويسرج دابته ويصلي إن حضرت الصلاة، ويحرّز ماله إن لم يكن محرّزًا، أو ما أشبهه من أشغاله، فإن أخره بعد [هذا] (¬4)، لم يكن له نفيه. ولا بد ألَّا يوجد منه دليل على الإقرار به، فإن أقر، به أو بتوأمه، أو نفاه ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامه (8/ 71)، و"كشاف القناع" للبهوتي (5/ 403). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 460). (¬4) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

وسكت عن توأمه، أو هُنِّىء به فسكت، أو أمّن على الدعاء، أو قال: أحسن الله جزاءك، أو رزقك مثلَه، لحقه نسبُه، وامتنع نفيه، وإن قال: أخّرت نفيه رجاء موته، لم يعذر بذلك، وإن نفى العلم بولادته، وأمكن صدقه، قُبل قولُه مع يمينه: لا إن كان معها في الدار، وإن قال: علمت بولادته، ولم أعلم أن لي نفيه، أو علمت ذلك ولم أعلم أنه على الفور، وكان ممن يخفى عليه ذلك، كعامة الناس، ومن هو حديثُ عهد بالإسلام، ونحو أهل البادية، قُبل منه، لا إن كان فقيهًا. ومتى أكذب نفسه بعد نفيه باللعان، لحقه نسبه، حيًا كان أو ميتًا، غنيًا كان أو فقيرًا، ويتوارثان، ولزمه الحد إن كانت محصنة، وإلا التعزير، فإن رجع عن إكذاب نفسه، وقال: لي بينة أقيمها بزناها، أو أراد إسقاط الحد باللعان، لم يُسمعا (¬1). وقال بعض أصحاب الإمام مالك: ينتفي الحمل بلعانه، ولا يحتاج أن يقول: وما هذا الحمل مني، ولا قد استبرأتها، وكذلك قال بعض أهل الظاهر، وهو اختيار عبد العزيز غلام الخلال من أئمة مذهبنا (¬2). وكان تلاعن المتلاعنين بحضرته - صلى الله عليه وسلم - (كما قال الله -عز وجل-) في صفة الملاعنة -على ما مرّ بيانه- (ثم قضى) - صلى الله عليه وسلم - (بالولد) الذي هو حمل المرأة الملاعنة المرأة (للمرأة) الملاعنة التي هي أمّه دون الملاعن، (وفرق) - صلى الله عليه وسلم - (بين المتلاعنين)، وفي لفظ: ففرق بينهما؛ أي: المتلاعنين، وألحق الولد بالمرأة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 609 - 611). (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 379). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5009).

قال الدارقطني: تفرد الإمام مالك بهذه الزيادة. قال ابن عبد البر: ذكروا أنّ مالكًا تفرّد بهذه اللفظة في حديث ابن عمر، وقد جاءت من وجه آخر في حديث سهل بن سعد عند أبي داود بلفظ: ثم خرجت حاملًا، فكان الولد [يُدعى] إلى أمه (¬1). ومن رواية الأوزاعي عن الزهري: وكان الولد يُدعى إلى أمه (¬2). ومعنى قوله: ثم قضى بالولد للمرأة؛ أي: حكم بأنه لها وحدها، ونفاه عن الزوج، فلا توارث بينهما، وأما أمه، فترث منه ما فرض الله لها كما وقع صريحًا في حديث سهل، وكان ابنها يدعى لأمه، ثم خرجت السنّة في ميراثها أنها ترثه ويرث منها ما فرض الله لها. وقيل: معنى إلحاقه بأمه والقضاء به لها: صيّرها له أبًا وأمًا، فترث جميع ماله إذا لم يكن له وارثٌ آخر من ولد ونحوه، وهو قول ابن مسعود، وواثلة، وطائفة، ورواية عن الإمام أحمد، وروي عن ابن القاسم: وعنه: معناه: أنّ عصبة أمه تصير عصبة له، وهو قول علي، وابن عمر -رضوان الله عليهم-، وهو المشهور المعتمد في مذهب الإمام أحمد، وقيل: ترثه أمه وإخوته منها بالفرض والرّدّ، وهو قول أبي عبيد، ومحمد بن الحسن، ورواية عن الإمام أحمد، قال: فإن لم يرثه ذو فرضٍ بحال، فعصبتُه عصبة أمه، واستدل به بعضهم على أنّ الولد المنفي باللعان لو كان بنتًا، حلَّ للملاعن نكاحُها. قال في "الفتح": وهو وجهٌ شاذ لبعض الشافعية، والأصح قولُ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2247)، كتاب: الطلاق، باب: في اللعان. (¬2) انظر: "التمهيد" لابن بد البر (15/ 21).

الجمهور أنها تحرم؛ لأنها ربيبة في الجملة (¬1). قلت: وهذا بمعزل عن قواعد الإمام أحمد؛ لأنه لا يسوغ له أن ينكح بنت موطوءته بحال على المعتمد، والله الموفق. قال في "الهدي": فإن قيل: قد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد اللعان ونفي الولد بأنه إن جاء شبهَ الزوج صاحبِ الفرالش، فهو له، وإن جاء شبهَ الذي رُميت به، فهو له، فما قولكم في مثل هذه الواقعة في الذي لاعنَ امرأته، وانتفى من ولدها، ثم جاء الولد يشبهه، هل تلحقونه [به] (¬2) بالشبه عملًا بالقافة؟ أو تحكمون بانقطاع نسبه عملًا بموجب لعانه؟ فأجاب: بأنه محل ضنك، وموضع ضيق، تجاذب أعنته باللعان المقتضي لانقطاع النسب، وانتفاء الولد، وأنه يدعى لأمه، ولا يدعى لأب، والشبه الدال على ثبوت نسبه من الزوج، فإنه ابنه مع شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها إن جاءت به على شبهه، فالولد له، وأنه كذب عليها، فهذا مما لا يتخلص منه إلّا المستبصرُ البصيرُ بأدلةِ الشرع وأسراره، والخبيرُ بجمعه وفرقه، ثم استظهر أنّ حكم اللعان قطع حكم التبعة، وصار معه بمنزلة أقوى الدليلين مع أضعفها، فلا عبرة للشبه بعد مضي حكم اللعان، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخبر عن شأن الولد وشبهه، ليبيّن الصادقَ منهما من الكاذب الذي قد استوجبَ اللعنةَ والغضب، لا ليغيرَ بذلك حكمَ اللعان، بدليل أنه إنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك بعد الانتفاء من الولد (¬3). قال في "الهدي": وإن لاعنَها وهي حامل، وانتفى من حملها، انتفى ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 460 - 461). (¬2) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 380 - 381).

عنه، ولم يحتج أن يلاعن بعدَ وضعه، كما دلّت على ذلك السنّة الصحيحة الصريحة. وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء، قال أبو حنيفة: لا يلاعن لنفيه حتى تضع، لاحتمال أن يكون ريحًا فينفس، ولا يكون للّعان حينيذٍ معنى، وهذا هو الذي ذكره الخرقي في "مختصره"، فقال: وإن نفى الحمل في التعانه، لم ينتفِ حتى ينفيه عند وضعها له، ويلاعن (¬1)، وتبعه الأصحاب، وخالفهم الإمام الموفق (¬2). وقال: جمهور أهل العلم: له أن يلاعن في حال الحمل اعتمادًا على قصة هلال بن أميّة، فإنها صحيحة صريحة في اللعان حالَ الحمل، ونفي الولد في تلك الحاله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن جاءت به على صفة كذا وكذا، فلا أراه إلّا قد صدق" (¬3). وفي "البخاري" في قصة عويمر: "انظروا، فإن جاءت به أَشحمَ، أدعجَ العينين، عظيمَ الأليتين، خَدَلَّجَ الساقين، فما أحسبُ عويمرًا إلّا قد صدق عليها، وإن جاءت به أُحيمر كأنه وَحَرَة، فلا أحسب عويمرًا إلّا قد كذب عليها"، فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تصديق عويمر (¬4)، وفي رواية: كانت حاملًا، فأنكر حملها (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر الخرقي" (ص: 109). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 60 - 61). (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 384 - 385). (¬4) رواه البخاري (4468)، كتاب: التفسير، باب: قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلا أَنْفُسُهُمْ}، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -. (¬5) رواه البخاري (4469)، كتاب: التفسير، باب: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -.

قوله: "أحيمر" تصغير أحمر كما هو في لفظ، وفي لفظ: "أشقر" (¬1). قال ثعلب: المراد بالأحمر: الأبيض؛ لأن الحمرة إنما تبدو في البياض. وقوله: "كأنه وَحَرَة" هو -بفتح الواو والحاء المهملة-: دُوَيْبَّةٌ تترامى على الطعام واللحم فتفسده، وهي من نوع الوزغ (¬2). وفي قصة هلال: "فإن جاءت به أبيض سبطًا، قضيء العينين، فهو لهلال بن أميّة، وإن جاءت به أكحل، جعدًا، حمشَ الساقين"؛ أي: دقيقهما؛ أي: "فهو لشريك بن سحماء" (¬3). قال الإمام الموفق في "المغني": قال مالك، والشافعي، وجماعة من أهل الحجاز: يصح نفيُ الحمل، وينتفي عنه، محتجين بحديث هلاله، فإنه نفى حملها، فنفاه عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وألحقه بالأم، ولا يخفى بأنه كان حملًا، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "انظروها، فإن جاءت به كذا وكذا"، قال: ولأنّ الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولهذا ثبت للحامل أحكام تخالف فيها غير الحامل، من النفقة، والفطر في الصيام، وترك إقامة الحدّ عليها، وتأخير القصاص عنها، وغير ذلك مما يطول ذكره، قال: وهذا القول هو الصحيح، لموافقته لظواهر الأحاديث، وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنًا ما كان. قال: وأما مذهب أبي حنيفة، فإنه لا يصح نفيُ الحمل واللعانُ عليه، فإن لاعنَها حاملًا، ثم أتت بالولد، لزمه عنده، ولم يتمكن من نفيه أصلًا؛ لأن اللعان لا يكون إلّا بين الزوجين، وهذه قد بانت بلعانها في حال ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 257)، عن سهل بن سعد - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 453). (¬3) رواه مسلم (1496)، كتاب: اللعان، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

حملها (¬1)، وفي هذا إلزامه ولدًا ليس منه. وعند صاحبيه: له أن ينفي الحمل ما بين الولادة إلى تمام أربعين ليلة منها (¬2). تتمة: روى أبو داود في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: ففرّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وقضى أَلَّا يُدعى ولدها لأب، ولا يُرمى ولدها، ومن رماها، أو رمى ولدها، فعليه الحدّ. وفي القصة: قال عكرمة: وكان بعد ذلك أميرًا على مصر، ولا يدعى لأب (¬3). ووقع في آخر حديث ابن عباس عند الحاكم، قال ابن عباس: فما كان في المدينة أكثر ماشية منه (¬4). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" فيما رواه أبو داود وغيره من قول عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على مصر؛ أي: من الأمصار. قال: وظنّ بعضُ شيوخنا أنه أَراد مصر البلد المشهور، فقال: فيه نظر؛ لأنّ أمراء مصر معروفون، معدودون، وليس فيهم هذا، ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند ابن سعد في "الطبقات": ولد الملاعنة عاش بعد ذلك بسنتين، ومات، وهذا ممّا يقوي التعدد (¬5)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 61). (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 385 - 386). (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2256). (¬4) رواه الحاكم في "المستدرك" (2813)، من حديث عكرمة، عن ابن عباس، به، وليس فيه ما ذكره الحافظ ابن حجر، والله أعلم. (¬5) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (9/ 455).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ لَكَ إِبِلٌ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَمَا أَلْوَانُهَا؟ "، قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: "فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ "، قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: "فَأَنِّي أَتَاهَا ذَلِكَ؟ "، قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: "وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ" (¬1) ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4999)، كتاب: الطلاق، باب: إذا عرض بنفي الولد، و (6455)، كتاب: المحاربين، باب: ما جاء في التعريض، و (6884)، كتاب: الإعتصام بالكتاب والسنة، باب: من شبه أصلًا معلومًا بأصل مبين، ومسلم (1500/ 18)، واللفظ له، و (1500/ 19 - 20)، كتاب: اللعان، وأبو داود (2260)، كتاب: الطلاق، باب: إذا شك في الولد، والنسائي (3478 - 3480)، كتاب: الطلاق، باب: إذا عرض بامرأته وشكت في ولده وأراد الانتفاء منه، والترمذي (2128)، كتاب: الولاء والهبة، باب: ما جاء في الرجل ينتفي من ولده، وابن ماجه (2002)، كتاب: الطلاق، باب: الرجل يشك في ولده. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 272)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 289)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 95)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 307)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 133)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 69)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار =

(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمن بنِ صخر (- رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ من بني فزارةَ)، قال البرماوي: هو ضمضم بن قتادة الفزاري، وهو -بضادين معجمتين- كما نقله ابن بشكوال عن عبد الغني، وهو كذلك في "غوامضه" (¬1). وذكره ابن حجر في "الفتح"، قال: وأخرج حديثَه عبدُ الغني بن سعيد في "المبهمات" له من طريق قطبة بن عمرو بن هرم: أنّ عُدْلوكًا حدّثها: أنّ ضمضم بن قتادة ولد له مولود أسود من امرأة بني عجل (¬2) (إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) متعلق بـ (جاء)، وفي حديث قطبة: فشكى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (فقال: إنَّ امرأتي ولدت غلامًا أسود) قال في "الفتح": لم أقف على اسم المرأة، ولا على اسم الغلام، وزاد في رواية يونس: وإني أنكرته (¬3)؛ أي: استنكرته بقلبي، ولم يرد أنه أنكر كونَه ابنَه للسانه، وإلّا لكان تصريحًا بنفيه، والحال إنما عرَّض بذلك تعريضًا، ووجه التعريض: أنه قال: غلامٌ أسود؛ أي: وأنا أبيض، فكيف يكون مني؟! ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم: وهو حينيذٍ يُعرِّض بأن ينفيه (¬4). ¬

_ = (3/ 1362)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 118)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 442)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 294)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 172)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 195)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 74). (¬1) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 281 - 282). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 443). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6884)، وعند مسلم برقم (1500/ 20). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1500/ 19).

ويؤخذ منه: أن التعريض بالقذف ليس قذفًا، وبه قال الجمهور، واستدل الشافعي بهذا الحديث لذلك. وعن المالكية: يجب به الحدّ إذا كان مفهومًا، وأجابوا عن الحديث بما سيأتي في آخر شرح الحديث. وقال ابن دقيق العيد: في الاستدلال: بالحديث نظر؛ لأن المستفتي لا يجب عليه حدّ ولا تعزير (¬1). ونظر في "الفتح" في هذا الإطلاق؛ لأنه قد يستفتى بلفظ لا يقتضي القذف، وبلفظ يقتضيه: فمن الأول: أن يقول -مثلًا-: إذا كان زوج المرأة أبيض، فأتت بولد أسودَ، ما الحكم؟. ومن الثاني: أن يقول -مثلًا-: إن امرأتي أتت بولدٍ أسود، وأنا أبيض، فيكون تعريضًا؟ أو يزيد فيه -مثلًا-: زنت، فيكون تصريحًا، والذي ورد في حديث "الباب" هو الثاني، فيتم الاستدلال. وقد نبّه الخطابي على عكس هذا، فقال: لا يلزم الزوجَ إذا صرّح بأن الولد الذي وضعته امرأته ليس منه حَدُّ قذفٍ، لجواز أن يريد أنها وُطئت بشبهة، أو وضعته من الزوج الذي قبله (¬2)، إن كان ذلك ممكنًا (¬3)، انتهى. قلت: وفي قوله: زنت، إنه استفتاء، نظر، بل هو إخبار بصريح لفظ القذف أنّ زوجته زنت، وهذا بمعزل عن الاستفتاء، وإنما الاستفتاء: ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 69). (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 272). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 443).

ما على الزوجة إذا هي زنت؟ مثلًا، والله الموفق. (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -) له: (هل لك إبلٌ؟)، (قال: نعم)؛ أي: لي إبل يا رسول الله، (قال: فما ألوانها؟)، (قال: حُمر)، وفي رواية محمَّد بن مُصْعَب بن مالك عند الدارقطني: قال: رُمْكٌ، والأَرْمَكُ: الأبيض إلى حمرة (¬1)، (قال) - صلى الله عليه وسلم -: (فهل فيها)؛ أي: إبلك (من أَوْرَق؟) بوزن أحمر (قال: إنّ فيها لَوُرْقًا) -بضم الواو، وزن حُمر-، والأورق: الذي فيه سواد ليس بحالك، بل يميل إلى الغبرة، ومنه قيل للحمامة: ورقاء (¬2)، (قال) له -عليه السلام-: (فأنى)؛ أي: من أين (أتاها)؛ أي: إبلَكَ الحمرَ (ذلك) اللونُ الذي خالفَها؟ هل هو بسبب فحلٍ من غير لونها طرأ عليها، أو لأمر آخر؟ (قال) الرجلُ الفزاري: (عسى أن يكون نَزعَهُ)؛ أي: ذلك اللون المخالف لألوانها (عرقٌ)، يعني: يحتمل أن يكون في أصولها من هو باللون، فاجتذبه إليه، فجاء على لونه. وفي رواية: لعله يا رسول الله نزعهُ عرق (¬3)، وفي لفظ: لعله نزعه عرق (¬4)، فجزم جمعٌ بأن الصواب النصب؛ أي: لعل عرقًا نزعه، وقال الصفاني: ويحتمل أن يكون في الأصل لعله، فسقطت الهاء، ووجه ابنُ مالك باحتمال أنه حذف منه ضمير الشأن، ويؤيد توجيهه رواية: لعله، وادعى الداودي أن لعلّ هنا للتحقيق (¬5)؛ أي: ومثلها عسى. (قال) ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. ولم أقف عليه عند الدارقطني في "سننه"، والله أعلم. (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1500/ 20). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4999). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 443).

النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهذا)؛ يعني: الغلام الذي ولدته امرأتُه (عسى أن يكون نزعه)، [أي] (¬1): إلى لون السواد (عرق) في أصوله، إذ المراد بالعرق: الأصل من النسب، شبهه بعرق الشجرة، ومنه قولهم: فلانٌ عريقٌ في الأصالة؛ أي: إن أصله متناسب، وكذا مُعْرِق في الكرم، أو اللؤم (¬2). وذكر عبد الغني بن سعيد في "مبهماته" زيادة حسنة، وهي أنه جاء عجائز من بني عجل، فسئلن عن المرأة التي ولدت الغلام الأسود، فقلن: كان في آبائها رجلٌ أسود، وأخرجه أبو موسى بإسنادٍ غريب، ولفظه: فقدم عجائز من بني عجل، فأخبرن أنه كان للمرأة جدّةٌ سوداءُ. وأصل النزع: الجذب، وقد يطلق على الميل، ومنه ما وقع في قصة عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - سأله عن شبه الولد بأبيه أو بأمه: "نزع إلى أبيه أو أمه" (¬3)؛ أي: مال (¬4). وقد أخرج الطبراني وابن منده في كتاب "التوحيد" من حديث مالك بن الحويرث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّ الله تعالى إذا أرادَ خلقَ عبدٍ، فجامع الرجلُ المرأة، طار ماؤه في كلّ عرقٍ وعضوٍ منها، فإذا كان يوم السابع، جمعه الله، ثم أحضره كلّ عرقٍ له دون آدم" [أي] (¬5): {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (¬6) [الانفطار: 8]. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 444). (¬3) رواه البخاري (4210)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97]. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 444). (¬5) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬6) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 290)، وفي "المعجم الأوسط" =

قال: الحافظ ابن منده: إسناده متصل مشهور على رسم أبي عيسى، والنسائي، وغيرهما. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني من رواية مطهر بن الهيثم، عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن جدّه: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجدّه: "يا فلان! ما ولد لك؟ "، قال: يا رسول الله! وما عسى أن يولد لي؟ إما غلام، وإما جارية، قال: "فمن يشبه؟ "، قال: [من] (¬1) عسى أن [يشبه] (¬2)؟ يشبه أمه أو أباه، قال: فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقولنّ كذا، إن النطفة إذا استقرت في الرحم، أحضرها الله كلَّ نسب بينَها وبين آدم، أما قرأت هذه الآية: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 8]، قال: "سلكك" (¬3). قال: الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين": هذا إسنادٌ ضعيف، ومطهر بن الهيثم ضعيف جدًا، وقال البخاري: هو حديث لم يصح، وذكر بإسناده عن موسى بن علي عن أبيه: أنّ أباه لم يسلم إلّا في عهد أبي بكر الصدّيق، يعني: أنه لا صحبة له. قال: الحافظ ابن رجب: ويشهد لهذا، يعني: ما ذكر في الحديثين: لعله نزعه عرق (¬4). وفي الحديث: ضربُ المثل، وتشبيه المجهول بالمعلوم تقريبًا لفهم ¬

_ = (1613)، وفي "المعجم الصغير" (106). (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬2) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬3) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (30/ 87)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3408)، والطبراني في "المعجم الكبير" (4624). (¬4) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 48).

السائل، واستدل به لصحة العمل بالقياس (¬1). قال الخطابي: هو أصلٌ في قياس الشبه (¬2). وقال ابن العربي: فيه دليلٌ على صحة القياس والاعتبار بالنظير (¬3)، وتوقف فيه ابن دقيق العيد، فقال: هو تشبيه في أمر وجوديّ، والنزاع إنما هو التشبيه في الأحكام الشرعية من طريق واحد قويّة (¬4). وفيه: أن الزوج لا يجوز له الانتفاء من ولده بمجرّد الظن (¬5). قلت: الذي اعتمده الإمام المجد في "المحرّر" (¬6)، وذكره عنه في "الإقناع": أن الزوج لو وطىء امرأته في طهر زنت فيه، وظن الولدَ من الزاني، ساغ له قذفُها، ونفيُ الولد (¬7). ومعتمد المذهب: أن القذف محرم إلا في موضعين: أحدهما: أن يرى امرأته تزني في طهر لم يصبها فيه، فيعتزلها، ثم تلد ما يمكن أنه من الزاني، فيجب عليه قذفُها، ونفيُ ولدها. وفي "المحرر" وغيره: وكذا لو وطئها في طهر زنت فيه، وظن الولد من الزاني (¬8). وفي "الترغيب": نفيه محرّم مع التردّد. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 444). (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 272). (¬3) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 289). (¬4) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 69). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 444). (¬6) انظر: "المحرر في الفقه" للمجد ابن تيمية (2/ 95). (¬7) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 232). (¬8) انظر: "المحرر في الفقه" للمجد ابن تيمية (2/ 95).

والثاني: أن يراها تزني، ولم تلد ما يلزمه نفيُه، أو يستفيض زناها بين الناس، أو أخبره به ثقة، أو رأى رجلًا يُعرف بالفجور يدخل إليها. زاد في "الترغيب": خلوة، فيباح قذفُها، وفراقُها أولى من قذفها (¬1). وعند شيخ الإسلام: يجب فراقها، وهو الذي تقتضيه الشيم السليمة، والهمم المستقيمة، وإلا كان ديوثًا قرنانًا لا يدخل الجنة (¬2). وفي الحديث: أن الولد يلحق بالرجل، وإن خالف لونَه ولونَ أمه. وقال القرطبي تبعًا لابن رشد: لا خلاف في أنه لا يحل له نفي الولد باختلاف الألوان (¬3)، كالأدمة والسمرة، ولا في البياض والسواد إذا كان قد أقرّ بالوطء، ولم تمض مدّة الاستبراء. قال في "الفتح": وكأنه أراد: في مذهبه، وإلّا فالخلاف ثابت عند الشافعية بتفصيل: قالوا: إن لم ينضم إليه قرينة زِنا، لم يجز النفي، فإن اتهمها، فأتت بولدٍ على لون الرجل الذي اتهمها به، جاز النفي على الصحيح. قال: وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقًا (¬4). قلت: معتمد المذهب: لو أتت بولد يخالف لونه لونهما، أو يشبه رجلًا غيرَ والديه، لم يبح نفيه بذلك ما لم تكن قرينة. قال الإمام شمس الدين في "شرح المقنع": وإن أتت بولد يخالف لونُه لونَها، لم يبح نفيُه بذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 232 - 233). (¬2) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 159). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 307). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 444).

وقال ابن الخطاب: ظاهر كلامه: إباحتُه. قال: شمس الدين محتجًا على معتمد المذهب من عدم إباحة اهي بمجرد ذلك بحديث أبي هريرة في قصة الفزاري، وتعريضِه بنفي الولد، لكونه أسود، فلم يرخص له في الانتفاء منه، قال: ولأن الناس كلهم من آدم وحواء، وألوانهم وخلقهم مختلفة، ولولا مخالفتهم شبهَ والدِيهم، لكانوا على صفة واحدة، ولأن دلالة الشبه ضعيفة، ودلالة الولادة على الفراش قويّة، فلا يجوز ترك القوي لمعارضة الضعيف. قال: وذكر القاضي، وأبو الخطاب: أن ظاهر كلام الإمام أحمد: جوازُ نفيه، وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث اللعان: "إن جاءت به [على نعت] (¬1) كذا وكذا، فهو للذي رُميت به"، فأتت به على النعت المذكور، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لولا الأيمان" يعني: التلاعن "لكان لي ولها شأن"، فجعل الشبه دليلًا على نفيه عنه، قال: والصحيح الأول (¬2)، انتهى. وفي الحديث: دليلٌ على تقديم حكم الفراش على ما يشعر به مخالفة الشبه. وفيه: الاحتياطُ للأنساب وإبقائها مع الإمكان، والزجرُ عن تحقيق ظن السوء. وفيه: أنّ التعريض بالقذف لا يثبت حكمَ القذف حتى يقع التصريحُ، خلافًا للمالكية، وأجاب بعض المالكية أنّ التعريض الذي يجب به القذف ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 220).

عندهم إنما هو ما يُفهم منه القذفُ كما يُفهم من التصريح، قالوا: وهذا الحديث لا حجّة فيه لدفع ذلك، فإنّ الرجل لم يردّ قذفًا بل جاء سائلًا مستفتيًا عن الحكم لما وقع له من الريبة، فلما ضرب له المثل، أذعن. وقال المهلب: التعريض إذا كان على سبيل السؤال، لا حدّ فيه، وإنما الحدُّ في التعريض إذا كان على سبيل المواجهة والمشاتمة. وقال ابن المنير: الفرق بين الزوج والأجنبي في التعريض: أن الأجنبي يقصد الأذيّة المحضة، والزوج قد يُعذر بالنسبة إلى صيانة النسب (¬1)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 444).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلَامٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا ابنُ أَخِي عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلَيَّ أَنَّهُ ابنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللهِ، وُلِدَ عَلَى فَرِاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى شَبَهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بعُتْبَةَ، فَقَالَ: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ"، فَلَمْ تَرَهُ سَوْدة قَطُّ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2105)، كتاب: البيوع، باب: شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه، واللفظ له، و (1948)، باب: تفسير المشبَّهات، و (2289)، كتاب: الخصومات، باب: دعوى الوصي للميت، و (2594)، كتاب: الوصايا، باب: قول الموصي لوصيه: تعاهد ولدي، وما يجوز للوصي من الدعوى، و (4052)، كتاب: المغازي، باب: من شهد الفتح، و (6368)، كتاب: الفرائض، باب: الولد للفراش حرة كانت أو أمة، و (6384)، باب: إثم من انتفى من ولده، ومن ادعى أخًا أو ابن أخ، و (6431)، كتاب: المحاربين، باب: للعاهر الحجر، و (6760)، كتاب: الأحكام، باب: من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه، فإن قضاء الحاكم لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، ومسلم (1457)، كتاب: الرضاع، باب: الولد للفراش، وتوقي الشبهات، وأبو داود (2273)، كتاب: الطلاق، باب: الولد للفراش، والنسائي (3484)، كتاب: الطلاق، باب: إلحاق الولد بالفراش إذا =

(عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصدّيقةِ (- رضي الله عنها -، قالت: اختصم سعدُ بنُ أبي وقاصٍ) - أحدُ العشرة المبشرين بالجنّة - رضي الله عنهم - (وعبدُ) من غير إضافة (بن زَمعة) - بفتح الزاي والميم، وقد تسكن الميم، وبالعين المهملة- ابنِ قيس بنِ عبد شمس بنِ عبد ود بنِ نصر -بالصاد المهملة- ابنِ مالك بنِ حِسْل -بكسر الحاء وسكون السين المهملتين- ابنِ عامر بنِ لؤي بنِ غالبٍ، القرشيُّ العامريُّ المكيُّ، وهو أخو سودةَ بنتِ زمعة إحدى أمهات المؤمنين لأبيها، وهذا غير عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب ابن الأسد بن عبد العزى بن قصي، فهو أسدي، وعبدُ بنُ زمعة عامريّ، وليس له رواية، وأما عبد الله بن زمعة الأسدي، فأخرج له الجماعة، وكان عبد بن زمعة شريفًا سيّدًا من سادات الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- (¬1) (في غلامٍ) متعلّق باختصم. ¬

_ = لم ينفه صاحب الفراش، وابن ماجه (2004)، كتاب: النكاح، باب: الولد للفراش وللعاهر الحجر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 278)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 162)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 648)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 194)، وشرح مسلم" للنووي (10/ 37)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 70)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1364)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 121)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 32)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 167)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 156). (¬1) وانظر ترجمته في: "الثقات" لابن حبان (3/ 305)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 820)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 510)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 288)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 386).

قال النووي وغيره: اسم الغلام: عبدُ الرحمن بنُ زمعة، وهو أخو عبدِ بن زمعةَ لأبيه، وله عقب بالمدينة، وهو صحابي، وكانت الخصومة فيه عام الفتح (¬1)، (فقال سعد) بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: (يا رسول الله! هذا ابن أخي عتبة) -بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية فموحدة فهاء تأنيث- ([ابن أبي وقاص]) (¬2)، واسمه مالك بن وهب الزهري أخو سعد بن أبي وقاص. قال النووي: لم يذكره الجمهور في "الصحابة"، وذكره ابن منده فيهم، واحتجّ بوصيته إلى أخيه سعد، وأنكره عليه أبو نعيم. قال البدر العيني: اختلفوا في إسلامه. قال أبو نعيم: وعتبة هذا هو الذي شجَّ وجهَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكسرَ رَباعِيَتَهُ، قال: وما علمتُ له إسلامًا، ولم يذكره أحد في الصحابة، قيل: إنه مات كافرًا (¬3). وفي "أسد الغابة" (¬4) حكاية عن أبي نعيم عقبَ الرد على ابن منده: روى معمر عن عثمان الجريري عن مقسم: أنّ عتبة كسر رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدعا عليه، فقال: "اللهم لا تُحِلْ عليه الحولَ حتى يموتَ كافرًا"، فما حال عليه الحولُ حتى مات كافرًا (¬5). وقد ذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" عن الحافظ محمَّد بن يوسف ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 276، 2/ 577). (¬2) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (11/ 167). (¬4) انظر: "أسد الغابة" لابن الاثير (3/ 565). (¬5) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (9649).

الفريابي، قال: بلغني أنّ الذين كسروا رباعية رسول الله لم يولد لهم صبي فنبتت له رَباعية (¬1). قال السهيلي: ولم يولد من نسل عتبة ولدٌ يبلغ الحلم، إلّا وهو أَهْتَمُ أَبْخَرُ يعرف ذلك في عقبه (¬2)، كما ذكرته في "شرح نونية الصرصري" -رحمه الله-. وقد قال البلقيني: ذكر عتبةَ بنَ أبي وقاص هذا في الصحابة: أبو أحمد العسكري، لكن عبارته: أنه مات في الإسلام (¬3)، وهي عبارة غير مستعملة كما في البرماوي. وقد روى الحاكم في "المستدرك" في ترجمة حاطب بن أبي بلتعة: أنه قتل عتبة بن أبي وقاص يوم أُحد (¬4)، والله أعلم. (عهد إلي) قبل موته (أنه)؛ أي: الغلامَ الذي هو عبد الرحمن (ابنُه)؛ أي: ابن أخيه عتبةَ (انظرْ) يا رسول الله! (إلى شبهه)؛ أي: الغلام، بعتبةَ أخي، (وقال عبد بن زمعة) في جواب دعوى سعد - رضي الله عنه - (هذا)؛ أي: الغلام الحاضر (أخي يا رسول الله، وُلد على فراش أبي) زمعةَ (من وليدته). قال عبد الحق في "الأحكام": كانت امرأة يمانية، وهي في الأصل: المولودة، وتطلق على الأُمَّة، والجمعُ ولائد، وقيل: إنها اسم لغير أم الولد (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 385)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/ 230). (¬2) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (3/ 264). (¬3) وانظر: "عمدة القاري" للعيني (11/ 167). (¬4) رواه الحاكم في "المستدرك" (5307). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 32).

قال الخطابي (¬1)، وتبعه القاضي عياض (¬2)، والقرطبي (¬3)، وغيرهما: كان أهل الجاهليّة يقتنون الولائد، ويقررون عليهنّ الضرائب، فيكتسبنَ بالفجور، وكانوا يلحقون النسب بالزناة إذا ادّعوا الولد كما في النكاح، وكانت لزمعة أمَةٌ، وكان يلمُّ بها، فظهر بها حملٌ زعم عتبة بن أبي وقاص أنه منه، وعهد إلى أخيه سعد أن يستلحقه، فخاصم فيه عبدُ بن زمعة، فقال: هو ابن أخي، على ما كان عليه الأمر في الجاهلية، وقال عبدٌ: هو أخي على ما استقر عليه الحكم في الإسلام، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الجاهلية، وألحقه بزمعة؛ لأن عتبة لم يكن استلحقه به في الجاهلية، ولم تكن الوليدة اعترفت به أنه له قبل ذلك (¬4). قال في "الفتح": وفي حديث عائشة الذي في "البخاري" وغيره ما يؤيد أنهم كانوا يعتبرون استلحاقَ الأمِّ في صورة، وإلحاقَ القائفِ في صورة، ولفظُها على ما في "البخاري": أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فكان منها نكاحُ الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجلُ وليّته أو ابنته، فيُصدقها، ثم ينكحها. ونكاحٌ آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طَهُرت من طَمْثها: أرسلي إلى فلان، فاستبضِعي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملُها من ذلك الرجل الذي يُستبضع منه، فإذا تبين حملُها، أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع. ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 278). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 652). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 194). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 33).

ونكاحٌ آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة، كلُّهم يُصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومرّ عليها ليالي بعد أن تضع حملَها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدتُ، فهو ابُنك يا فلان، تسمِّي من أحبت باسمه، فيُلحق به ولدُها، لا يستطيع أن يمتنع به، وفي لفظ: منه الرجل. ونكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهنَّ البغايا، كنَّ ينصبنَ على أبوابهن راياتٍ تكون علمًا، فمن أرادهنَّ يدخلُ عليهنَّ، فإذا حملت إحداهنَّ، ووضعت حملها، جمعوا لها، ودعوا لهم القافَةَ، ثم ألحقوا ولدَها بالذي يريدون، فالتاط به؛ أي: لصق به ولزمه، ولم ينفك عنه، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، قال: فلما بُعثَ محمّد - صلى الله عليه وسلم - بالحق، هدم نكاح الجاهلية كلها إلا نكاح الناس اليوم (¬1)، أي: وهو الذي بدأتُ بذكره (¬2). قوله: على أربعة أنحاء [جمع] (¬3) نحوٍ؛ أي: ضَرْبٍ، وزْنًا ومعنى، ويطلق النحو -أيضًا- على الجهة، والنوع، وكذا على القرب والشبه، وعلى العِلْم المعروفِ اصطلاحًا (¬4). قال الداودي، وغيره: بقي عليها أنحاء لم تذكرها: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4834)، كتاب: النكاح، باب: من قال: لا نكاح إلا بولي. (¬2) وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 33). (¬3) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 184).

الأول: نكاح الخِدْن، وهو الذي في قوله: {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]، كانوا يقولون: ما استتر، فلا بأس به، وما ظهر، فهو لؤم. الثاني: نكاح المتعة -وتقدم بيانه-. الثالث: نكاح البدل، وقد أخرج الدارقطني من حديث أبي هريرة: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: انزلْ لي عن امرأتك، وأنزلُ لك عن امرأتي، وأزيدك (¬1). وإسناده ضعيف جدًا (¬2). وقوله: استبضعي منه -بموحدة بعدها ضادٌ معجمة-؛ أي: اطلبي منه المُباضَعَةَ، وهو الجماع، مشتقة من البُضع، وهو الفرج. وقوله: وإنما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد؛ أي: اكتسابًا من ماء الفحل؛ لأنهم كانوا يطلبون ذلك من أكابرهم ورؤسائهم في الشجاعة والكرم أو غير ذلك. قوله: يجتمع الرهط: فلا بد فيه من ضبط العدد، والظاهر أنّ إصابتهم إيّاها إنما كان عن رضا منها، وتواطُؤ بينها وبينهم. قوله: وهنَّ؛ أي: صاحبات الرايات: البغايا، تكون الراياتُ علامةً عليهنّ. وقد أخرج الفاكهي من طريق ابن أبي مليكة، قال: تبرز عمر - رضي الله عنه - بأجياد، فدعا بماء، فأَتته أمُّ مهزول، وهي من البغايا التسع اللاتي كنَّ في الجاهلية، فقالت: هذا ماءٌ، ولكنه في إناءٍ لم يُدبغ، فقال: هَلُمّ، فإن الله جعل الماء طهورًا (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 218). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن ججر (9/ 184). (¬3) رواه الفاكهي في "أخبار مكة" (5/ 199)، وكذا عبد الرزاق في "المصنف" (181).

وروي عن ابن عمر [و]: أن امرأة كانت يقال لها: أم مهزول تسافح في الجاهلية، فأراد بعض الصحابة أن يتزوجها، فنزلت: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} (¬1) [النور: 3]. وفي رواية في تفسير هذه الآية، قال: هنَّ بغايا كنَّ في الجاهلية معلومات، لهن رايات يُعرفن بها (¬2). وقد ساق هشام بن الكلبي في كتاب "المثالب" أساميَ صاحبات الرايات في الجاهلية، فسمى منهن أكثر من عشرِ نسوة مشهورات. قوله: القَافَة، جمع قائف وهو الذي يعرف شبه الولد بالآثار الخفية (¬3)، والله -تعالى- أعلم. (فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شبهه)؛ أي: شبه الغلام، (فرأى شبهًا بيّنًا) ظاهرًا (بعتبةَ) بن أبي وقّاص، (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (هو)؛ أي: الغلام (لكَ يا عبدُ بنَ زمعةَ) أخٌ دون سعد بن أبي وقاص، فليس هو ابن لأخيه عتبة، (الولدُ للفراش)؛ أي: تابعٌ للفراش، أو محكومٌ به له؛ أي: لصاحبه، زوجًا كان أو سيدًا؛ لأنهما يفترشان المرأة بالاستحقاق، وهذا إذا لم ينفه صاحب الفراش بما شرع له، ففراش الزوجة يثبت بالعَقْد عليها مع إمكان وطئها في الجملة، وهذا مذهب أحمد، والشافعي. وعند أبي حنيفة: تصير المرأة فراشًا بنفس العقد، وإن علم أنه لم ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 158)، والطبراني في "المعحم الأوسط" (1798)، وغيرهما. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (16925)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ 2522)، عن عروة، به. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 185).

يجتمع بها، ولو طلّقها في المجلس، وقيل: لا تصير فراشًا إلا بالعقد والدخول المحقق إمكانه، لا المشكوك فيه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: إن الإمام أحمد أشار إليه في رواية حرب، وصححه ابن القيّم في "الهدي"، وجزم به، قال: وإلّا، فكيف تصير المرأة فراشًا، ولم يدخل بها الزوج، ولم يَبْنِ بها لمجرد إمكان بعيد؟ ونكت على من خالفه، وفي الأمَة: لا يثبت كونُها فراشًا إلّا بوطئها، خلافًا لبعض متأخري المالكية من أن الأمَة التي تُشترى للوطء دون الخدمة تصير فراشًا بنفس الشراء (¬1)، (وللعاهر)؛ أي: الزاني (الحجر)؛ أي: الخيبة والحرمان؛ أي: حظه ذلك، ولا شيء له في الولد، فيكون كناية عن الحرمان فيما ادعاه من النسب، لعدم اعتبار دعواه مع وجود الفراش كما يقال: بفيهِ الحجر، وقيل: هو على ظاهره؛ أي: الرجم بالحجارة، ورُد بأن الرجم خاص بالمحصَن، وأنه لا يلزم من الرجم نفيُ الولد الذي الكلام فيه، فلم يحكم - صلى الله عليه وسلم - بالشبه. قال البدر العيني: وفيه حجةٌ قويةٌ للحنفية في منع الحكم بالقائف (¬2)، انتهى. قلت: لا قوة لهذه الحجة، بل لا حجة؛ لأن الفراش مقدَّم على الشبه، ولم يقابله فراش مثله، بل لا عبرة لكل من القَافَة والشبه مع الفراش، فليس هذا من محل النزاع، كما لا يخفى. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لزوجته أم المؤمنين سودة بنت زمعة - رضي الله عنها -: (واحتجبي منه) أي: من ابن أمَة زمعة (يا سَودةُ)، لاحتمال كونه انعقدَ من ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 415 - 416). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 260، 24/ 258).

ماء عتبة بن أبي وقّاص، (فلم تره سَودةُ) - رضي الله عنها - (قط) امتثالًا لأمره - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أمرها بذلك تورّعًا واحتياطًا للمشابهة الظاهرة بين ابن أمَة زمعة وعتبة، مع أنه في ظاهر الشرع أخوها، فراعى - صلى الله عليه وسلم - الأمرين، فحكم بظاهر الشرع، وأمر بالحمية مما يمكن كونه على خلاف ظاهر الشرع، مع عدم الملجىء إلى ذلك (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 71).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: أَنَّها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رسُولُ اللهَ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: "أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَقْدَامِ لَمِنْ بَعْضٍ" (¬1). وفي لفظ: "كَانَ مُجَزِّزٌ قَائِفًا" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3362)، كتاب: المناقب، باب: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (3525)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب زيد بن حارثة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (6388 - 6389)، كتاب: الفرائض، باب: القائف، ومسلم (1459/ 38 - 40)، كتاب: الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف الولد، وأبو داود (2267 - 2268)، كتاب: الطلاق، باب: في القافة، والنسائي (3493 - 3494)، كتاب: الطلاق، باب: القافة، والترمذي (2129)، كتاب: الولاء والهبة، باب: ما جاء في القافة، وابن ماجه (2349)، كتاب: الأحكام، باب: القافة. (¬2) رواه مسلم (1459/ 40)، كتاب: الرضاع، باب: العمل بإلحاق القائف الولد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 275)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 290)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 655)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 198)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 40)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 72)، و"العدة في شرح =

(عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصدّيقةِ (- رضي الله عنها -: أنها قالت: دخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -) حالَ كونه (مسرورًا)، (تبرُقُ)؛ أي: تلمع، وتعني: (أسارير وجهه). قال في "القاموس": الأسارير: محاسنُ الوجه، والخدان، والوجنتان (¬1)، (فقال) -عليه الصلاة والسلام-: (ألم تَرَي) خطابًا لعائشة - رضي الله عنها -: ألم تعلمي (أنّ مُجَزِّزًا) -بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الزاي الأولى وكسرها- على المشهور، ومنهم من -فتحها-، نقله ابن عبد البر، والدارقطني، والحافظ عبد الغني المصنفُ -رحمهم الله تعالى- عن ابن جريج، بن الأعور بن جَعْدَة -بفتح الجيم وسكون العين المهملة- بن معاذ بن [عتوارة] (¬2) بن عمرو بن مُدْلج -بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر اللام ثم جيم- ابنِ مرّةَ بنِ عبدِ مناةَ بنِ كنانةَ، القائفَ المدلجيَّ نسبةً لجده مدلج المذكور في نسبه، ومدلج: بطن من كنانة مشهورٌ بالقيافة بين العرب. قيل: إنما سميّ مجززًا؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرًا يجزُّ ناصيته، ولم يكن اسمه مجززًا، وإنما غلب ذلك عليه. قال ابن عبد البر: قال بعضهم: ويقال: مُحْرزًا -بالحاء المهملة الساكنة وبكسر الراء ثم زاي-، وغلّطوه في ذلك (¬3). ¬

_ = العمدة" لابن العطار (3/ 1371)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 56)، و"عمدة القاري" للعيني (16/ 232)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 136)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 80). (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 518)، (مادة: سرر). (¬2) في الأصل: "عنوان"، والصواب ما أثبت. (¬3) انظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1461)، و"تهذيب الأسماء =

قال -عليه السلام- لعائشة: فإن مجززًا (نظر آنِفًا)، -بمد الهمز وقصره-؛ أي: قريبًا، أو الساعة، وقيل: في أول وقت كنا فيه، وكلُّه من الاستئناف والقرب، كما في "المطالع" (¬1)، (إلى زيد بن حارثة) مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحِبِّه، (و) إلى ابنه (أسامةَ بنِ زيدٍ) الحِبِّ ابن الحِبِّ - رضي الله عنهما -، (فقال) مجزز المدلجي: (إنّ بعض هذه الأقدام لمن بعض). وفي رواية لمسلم والترمذي والنسائي: "ألم تري أنّ مجززًا المدلجي رأى زيدًا وأسامة قد غطيا رؤوسهما بقَطيفة، وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" (¬2). وفي لفظٍ قالت: دخل قائف والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شاهد، وأسامةُ بنُ زيد وزيدُ بن حارثة مضطجعان، فقال: إنّ هذه الأقدام بعضُها من بعض، فسرّ بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأعجبه، وأخبر به عائشة، متفقٌ عليه (¬3). قال أبو داود: وكان أسامة أسودَ، وكان زيد أبيضَ (¬4). (وفي لفظ: كان مُجَزِّزٌ قائفًا) والقَافَة: قومٌ يعرفون الأنسابَ بالشبه، كما يختص ذلك بقبيلة معينة، بل من عرفت منه المعرفةُ بذلك، وتكررت منه الإصابة، فهو قائف، وقيل: أكثر ما يكون في بني مدلج رهط مجززِ المدلجيِّ -المذكور- (¬5). ¬

_ = واللغات" للنووي (2/ 390)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 775). (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 44). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1459/ 39)، وأبي داود برقم (2267)، وعند النسائي برقم (3494)، وكذا عند البخاري برقم (6389). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3525)، وعند مسلم برقم (1459/ 40). (¬4) انظر: "سنن أبي داود" (2/ 280)، عقب حديث (2267). (¬5) انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 47).

قال الإمام الموفق في "المغني": كان إياس بن معاوية قائفًا، وكذا قيل في شريح القاضي، وغيرهما (¬1). تنبيهات: الأول: لما ذكر المصنف -رحمه الله تعالى- حديثَ عائشة في مخاصمة عبد بن زمعةَ، وسعدِ بن أبي وقاص - رضي الله عنهما - في الغلام الذي هو ابنُ وليدةِ زمعةَ، وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغلام لعبد بن زمعة، مع وجود الشبه البيّن بعتبة بن أبي وقاص، ولم يعول عليه، بل رجّح كونَ الولد للفراش، ربما أشعر هذا الحكم بردّ اعتبار الشبه وحكمِ القَافَة مطلقًا، فدفع بهذا الوهم بأن أعقبه بما روت عائشة -أيضًا- من أمر زيد وأسامة، وحكمِ القَافَة بأن أقدامهما بعضهما من بعض، مع تغطية رؤوسهما، فارتضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأقرّه، وسرّ به، فكان أصلًا ثابتًا في اعتبار القائف بشروطه المعتبرة، وهذا بيّنٌ ظاهر (¬2)، والله -تعالى- أعلم. الثاني: الأمور التي يثبت بها النسب أربعة: أحدها: الفراش. الثاني: الاستلحاق، وقد اتفق أهل العلم على أنّ للأب أن يستلحق، وكذا كل وارث حيث اتفق عليه جميع الورثة، ولا لم يثبت نسبه إلّا أن يكون الوارث أحدَ الشاهدين فيه، وحكمُ الجدِّ والأخ سواء، والأصل في ذلك: أن من حاز المال يثبت النسب بإقراره، واحدًا كان أو جماعة، هذا أصل مذهب أحمد، والشافعي؛ لأن الورثة قاموا مقام الميت، وحلوا ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 72).

محله، ومعتمد كل من المذهبين: أن إقرار من حاز الميراث إقرار خلافة عن الميت، لا إقرار شهادة، فلا تعتبر عدالة المستلحِق، بل ولا إسلامه، فيصح من الفاسق والذميّ. وقالت المالكية: هو إقرار شهادة، فيعتبر فيه أهلية الشهادة. وحكى ابن القصار عن مذهب مالك: أنّ الورثة إذا أقروا بالنسب، لحق، وإن لم يكونوا عدولًا، لكن المعروف من مذهبه خلافه. الثالث: من الأمور التي يثبت بها النسب: البيّنة، بأن يشهد شاهدان أنه ابنه، أو أنه ولد على فراشه من زوجته أو أمَته، وإذا شهد بذلك اثنان من الورثة، لم يلتفت إلى إنكار بقيتهم، وثبت نسبه، ولا يُعرف في ذلك نزاع. الرابع: القَافَة، والحجّة في إلحاق النسب بها الحديث المذكور (¬1)، فإذا ادّعى اثنان طفلًا أو أكثر، وتساووا في البيّنة أو عدمها، عرض معهما على القَافَة، أو مع أقاربهما إنّ ماتا، كالأخ والأخت، والعمّة والخالة، فإن ألحقته بأحدهما، لحق به، هذا قول أنس بن مالك، وعطاء، ويزيد بن عبد الملك، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وأبي ثور، وهو مذهب الإمام أحمد. وقال أصحاب الرأي: لا حكم للقافة؛ لأن الحكم بها تعويل على مجرد الشبه والظن والتخمين، والشبه يوجد بين الأجانب، وينتفي بين الأقارب، واحتّجوا بقصة الفزاري، وتقدّم الجواب عنها (¬2). قال الإمام ابن القيّم في "الهدي" في حديث عائشة المتفق عليه: أنه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 416 - 418). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (6/ 276).

دخل ذات يوم مسرورًا تبرق أساريرُ وجهه، فقال: "ألم تري أنّ مجززًا المدلجيَّ نظر آنفًا إلى زيد بن حارثة، وأسامةَ بنِ زيد، وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامُهما، فقال: إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض"، فسُرَّ النبي بقول القائف، فلو كانت -كما يقول المنازعون- من أمر الجاهلية، كالكهانة ونحوها، لما سُرَّ بها، ولا أُعجب بها، ولكانت بمنزلة الكهانة. قال: الإمام الشافعي: النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبته علمًا، ولم ينكره، ولو كان خطأ، لأنكره؛ لأنّ في ذلك قذفَ المحصنات، ونفيَ الأنساب (¬1)، انتهى. قال في "الهدي": فكيف والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد صرّح في الحديث الصحيح بصحتها واعتبارها، فقال في ولد الملاعنة: "إن جاءت به كذا وكذا، فهو لهلال بن أميّة، وإن جاءت به كذا وكذا، فهو لشريك بن سحماء"، فلما جاءت به على نعت الذي رُميت به، قال: "لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن" (¬2)، وهل هذا إلا اعتبارًا بالشبه، وهو عين القيافة، فإن القائف يتَّبع أثرَ الشبه، وينظر إلى من يفضل، فيحكم به لصاحب الشبه، وقد اعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الشبه، وبيّن سببه، ولهذا قالت له أم سَلَمة: وتحتلمُ المرأة؟ فقال: "ممَّ يكون الشبه؟! " (¬3)، وأخبر في "الحديث الصحيح": أنّ ماء الرجل إذا سبق ماء المرأة، كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها، كان الشبه لها (¬4)، فهذا اعتبارٌ منه للشبه شرعًا وقدرًا، وهذا أقوى ما يكون من طرق ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 418). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه.

الأحكام أن يتوارد عليه الخلق والأمر والشرع والقدر، ولهذا تبعه خلفاؤه الراشدون في الحكم بالقافة، فقد روى سعيد بن منصور: حدّثنا سفيان عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعًا، فجعله بينهما (¬1). قال الشعبي: وعلي يقول: هو ابنها، وهما أبواه يرثانه، ذكره سعيد -أيضًا- (¬2). وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة، فحملت فولدت غلامًا، فشبههما، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فدعا القافة، فنظروا فقالوا: نراه شبههما، فألحقه بهما، وجعله يرثهما ويرثانه (¬3). قال في "الهدي": ولا يُعرف قطُّ في الصحابة مَنْ خالف عمر وعليًا في ذلك، بل حكم عمر بذا في المدينة، وبحضرته المهاجرون والأنصار، فلم ينكره منهم منكر. قالت الحنفية: لقد أجلبتم علينا في القافة بالخيل والرَّجِل، مع أن الحكم بالقيافة تعويل على مجرد الشبه والظن والتخمين، ومعلوم أن الشبه يوجد في الأجانب، وينتفي من الأقارب، وذكرتم قصة أسامة وزيد، ونسيتم قصة الذي ولدت امرأته غلاما أسود يخالف لونَهما، فلم يمكنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من نفيه، ولا جعل للشبه ولا لعدمه أثر، ولو كان للشبه أثر، ¬

_ (¬1) ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 162)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 263). (¬2) ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (31467). (¬3) ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 163).

لانتفى به في ولد الملاعنة، ولم يحتج إلى اللعان، ولكان ينظر إلى ولادته، ثم يلحق بصاحب الشبه بالزوج. قالوا: وقد دلّت السنّة الصحيحة الصريحة على نفيه عن الملاعن، ولو كان الشبه له، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أبصروها، فإن جاءت به كذا وكذا، فهو لهلال بني أميّة"، وهذا قاله بعد اللعان ونفيِ النسب عنه، فعلم أنّه لو جاء على الشبه المذكور، لم يثبت نسبه منه، وإنما كان مجيئه على شبهه أو عدمه دليلًا على صدقه أو كذبه، لا على لحوق الولد به. قالوا: وأما قصة أسامة وزيد، فالمنافقون كانوا يطعنون في نسبه من زيد، لمخالفة لونه لونَ أبيه، ولم يكونوا يكتفون بالفراش، وحكمِ الله ورسوله أنه ابنه، فلما شهد به القائف، وافقت شهادته حكمَ الله ورسوله، فسرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لموافقتها حكمَه، وتكذيبها قولَ المنافقين؛ لأنه أثبت نسبه بها، فأين هذا في إثباتُ النسب بقول القائف؟ وهذا معنى الأحاديث التي ذكر فيها اعتبار الشبه، فإنها إنما اعتبر فيها الشبه في نسبٍ ثابت بغير القافة، ونحن لا ننكر ذلك. قالوا: وأما حكم عمر وعلي، فقد اختلف على عمر وعلي، فروي عنه ما ذكرتم، وروي عنه: أنّ القائف لما قال له: قد اشتركا فيه، قال: وإلى أيهما ينسب؟ فلم يعتبر قول القائف. قالوا: وكيف تقولون بالشبه ولو أقرّ أحد الورثة بأخ، وأنكره الباقون، والشبه موجود، لم تثبتوا النسب به؟ وقلتم: إن لم يتفق الورثة على الإقرار به، لم يثبت النسب!. قال أهل الحديث: من العجب أن يُنكَر القولُ بالقافة، ويُجعل من باب الحدس والتخمين من يُلحق ولدَ المشرق بمن في أقصى المغرب، مع

القطع بأنهما لم يتلاقيا طرفة عين، ويُلحق الولدَ بأُمّينِ، مع القطع بأنه ليس ابنًا لإحداهما، ونحن إنّما ألحقنا الولد بقول القائف المستند إلى الشبه المعتبر شرعًا وقدرًا، فهو إسناد إلى ظنٍ غالب، ورأيٍ راجح، وأمارة بقول من هو من أهل الخبرة، فهو أولى بالقبول من قول غيرهم، وهل ينكر مجيء كثير من الأحكام مستندًا إلى الأمارات الظاهرة، والظنون الغالبة؟ وأما وجود الشبه بين الأجانب، وانتفاؤه بين الأقارب وإن كان واقعًا، فهو نادر قليل، والحكم للغالب الكثير، وأما النادر، فهو في حكم المعدوم. وأما قضية من ولدت امرأتُه غلامًا أسود، فحجّةٌ عليكم؛ لأنها دليل على أن العادة التي فطر الله الناس عليها اعتبارُ الشبه، وأن خلافه يوجب ريبة، وأنّ في طباع الخلق إنكار ذلك، ولكن لما عارض ذلك دليلٌ أقوى منه، وهو الفراش، كان الحكم للدليل القوي، وكذلك نقول نحن وسائر النّاس: الفراش الصحيح إذا كان قائمًا، فلا يعارض بقافة ولا شبه، فمخالفة ظاهر الشبه لدليل أقوى منه، وهو الفراش، غير مستنكر، وإن المستنكر مخالفة هذا الدليل الظاهر لغير شيء. وأما تقديم اللعان على الشبه، وإلغاء الشبه مع وجوده، فكذلك -أيضًا- هو من تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما، وذلك لا يمنع العمل بالشبه مع عدم ما يعارضه، كالبينة تقدم على اليد والبراءة الأصلية، ويعمل بها عند عدمها. وأما ثبوت نسب أسامة بن زيد بدون القيافة، فنحن لم نثبت نسبه بالقيافة، والقيافة دليلٌ آخر موافق لدليل الفراش، فسرورُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفرحُه بها، واستبشارُه، لتعاضد أدلة النسب وتظافرها، لا لإثبات النسب بقول القائف وحده، بل هو من باب الفرح بظهور أعلام الحق وأدلته وتكاثرها،

ولو لم تصلح القيافة دليلًا، لم يفرح بها، ولم يسر، وكان - صلى الله عليه وسلم - يفرح ويسر إذا تعاضدت عنده أدلة الحق، ويخبر بها الصحابة، ويحب أن يسمعوها من المخبّر بها؛ لأن النفوس تزداد تصديقًا بالحق لتعاضد الأدلة، وعلى هذا فطر الله عباده. وأما ما روي عن عمر - رضي الله عنه -: أنه قال: وإلى أيهما ينسب؟ فلا تعرف صحته عن عمر، ولو صح عنه، لكان قولًا عنه، فإن الذي ذكرناه عنه في غاية الصحة، مع أن قوله لو صح: وإلى أيهما ينسب؟ ليس بصريح في إبطال قول القائف، ولو كان صريحًا في إبطال قوله، لكان دليلًا للشافعي في عدم صحة إلحاقه باثنين. وأما قولهم من إقرار بعض الورثة بأخ، وإنكار الباقين، فإنما لم يثبت نسبه بمجرد الإقرار، وأما إذا كان هناك شبه يستند إليه القائف، وألحقه به، فلا التفات لإنكار من ينكر والحالة هذه، والله -سبحانه- أعلم (¬1). التنبيه الثالث: يشترط في القائف أن يكون ذكرًا عدلًا مجربًا في القافة، ولا تشترط حريته، ويكفي قائفٌ واحد، وهو كحاكم، فيكفي مجرد خبره، ولا يختص ذلك بقبيلة معينة، بل من عُرف منه المعرفه بذلك، وتكررت إصابتُه، فهو قائف (¬2). وعن الإمام أحمد رواية ثانية: أن قول القائف شهادة، فلابد من اثنين ولفظِ الشّهادة، ومعتمد مذهب الإمام أحمد: أنّ القافة إذا ألحقته باثنين فأكثر، أُلحق بهم، وهو قولُ جمهورِ من قال بالقيافة، خلافًا للشافعي، وبانعقاد الحيوان من ماءين فصاعدًا، وبه قال أبو حنيفة، وإن لم يعتبر القافة. ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 418 - 423). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 60 - 61).

لكن قال القاضي أبو يعلى: يجب ألا يلحق بأكثر من ثلاثة، وهو قول محمَّد بن الحسن. وقال ابن حامد من أئمة المذهب: لا يلحق بأكثر من اثنين، وهو قول أبي يوسف، والحجة في ذلك كله قضيةُ عمرَ بمجمعٍ من الصحابة من غير إنكار، واحتجّ القاضي بأن أحمد نصّ على الثلاثة، فيقتصر عليها (¬1). وحجّة المذهب: أنه متى جاز انعقاده من ماء اثنين، جاز انعقاده من ماء ثلاثة وأربعة وأكثر من ذلك، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 407).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: ذُكِرَ العَزْلُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُم؟ "، وَلَمْ يَقُلْ: فَلَا يَفْعَلْ "فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إلا اللهُ خَالِقُهَا" (¬1) ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2116)، كتاب: البيوع، باب: بيع الرقيق، و (2404)، كتاب: العتق، باب: من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية، و (3907)، كتاب: المغازي، باب: غزوة بني المصطلق، و (4912)، كتاب: النكاح، باب: العزل، و (6229)، كتاب: القدر، باب: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، و (6974)، كتاب: التوحيد، باب: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24]، ومسلم (1438/ 132)، واللفظ له، و (1438/ 215 - 133)، كتاب: النكاح، باب: حكم العزل، وأبو داود (2170 - 2172)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في العزل، والنسائي (3327)، كتاب: النكاح، باب: العزل، والترمذي (1138)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في كراهية العزل، وابن ماجه (1926)، كتاب: النكاح، باب: العزل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 221)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 615)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 163)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 10)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 74)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1375)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 306)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 47)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني =

(عن أبي سعيد) محمدِ بن مالكٍ (الخدريِّ - رضي الله عنه -، قال: ذُكر العزلُ)؛ أي: النزعُ بعد الإيلاج لينزل خارجَ الفرج (¬1). وفي رواية عن عبد الله بنُ محيريز الجمحي: أنه قال: دخلت المسجدَ، فرأيت أبا سعيد الخدري، فجلست إليه، فسألته عن العزل (¬2). ووقع عند الإمام مسلم: قال: ابن مُحيريز: دخلت أنا وأبو صِرْمَة على أبي سعيد، فسأله أبو صرمة، فقال: يا أبا سعيد! هل سمعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر العزل (¬3)؟ وأبو صِرْمة -بكسر الصاد المهملة وسكون الراء- اسمه مالك، وقيل: قيس، صحابي مشهور من الأنصار (¬4) (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) متعلق بذُكر، (فقال): (وَلِمَ يفعلُ ذلك أحدُكم؟! ولم يقلْ) - صلى الله عليه وسلم -: (فلا يفعلْ) ذلك، فصرّح في هذه الرواية بأنه -عليه السلام- لم يصرّح لهم بالنهي، وإنما أشار بالاستفهام الإنكاري إلى أن الأولى تركُ ذلك العزل إن كان خشيةَ حصول الولد، فلا فائدة في ذلك، وفي رواية: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أو إنكم لتفعلون؟ " (¬5) هذا الاستفهام يشعر بأنه ما كان اطلع على فعلهم ذلك، ففيه تعقيب على من قال: إن قول الصحابي: كنا نفعل كذا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعٌ معتلًا بأن الظاهر اطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي هذا الخبر أنهم فعلوا العزله، ولم يعلم به حتى سألوه عنه، نعم للقائل أن يقول: كانت ¬

_ = (8/ 104)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 146)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 346). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 305). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3907). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1438/ 125). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 306). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4912).

دواعيهم متوفرة على سؤاله عن أمور الدين، فإذا فعلوا الشيء، وعلموا أنه لم يطلع عليه، بادروا إلى سؤاله عن الحكم فيه، فيكون الظهور من هذه الحيثية (¬1). ووقع في رواية: "لا عليكم أَلَّا تفعلوا" (¬2)، ثم علل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (فإنه)؛ أي: الشأن والأمر (ليست نفسٌ) من سائر النفوس (مخلوقة)؛ أي: مما سبق في علم الله أنها ستُخلق (إلا اللهُ) -جلّ شأنه- (خالقُها)، فإذا كان الله -سبحانه- قد قدر خلقَ الولد، لم يمنع العزلُ ذلك، فقد يسبق الماء، ولا يشعر العازل، فيحصل العُلوق، ويلحقه الولد، ولا رادّ لما قضى الله. والفرار من الولد يكون لأسباب منها: خشيةُ علوق الزوجة الأُمَّة، لئلا يصير الولد رقيقًا، أو خشيةُ دخول الضرر على الولد المرضَع إذا كانت الموطوءة ترضعه، أو فرارًا من كثرة العيال إذا كان الرجل مُقِلًّا، فيرغب في قلة الولد لئلا يتضرر بتحصيل الكسب، وكل ذلك لا يغني شيئًا، فقد أخرج الإمام أحمد، والبزار، وصححه ابن حبان من حديث أنس: أن رجلًا سأل عن العزل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنّ الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة، لأخرج الله منها ولدًا" (¬3)، وله شاهدان في "الكبير" للطبراني عن ابن عباس، وفي "الأوسط" له عن ابن مسعود (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 307). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2116، 6229)، وعند مسلم برقم (1438/ 125، 128 - 130). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 140)، ورواه ابن حبان في "صحيحه" (4194) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 308).

وفي "الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدري في بعض ألفاظه قال: أصبنا سبيًا، فكنا نعزل، فسألنا رسول الله، فقال: "وإنكم لتفعلون؟! " قالها ثلاثًا، "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" (¬1) النسمة -بفتح السين المهملة-، وهي الإنسان، إذ ما من نفس كائنةٍ في علم الله إلّا وهي [كائنة] (¬2) في الخارج لابد من مجيئها من العدم إلى الوجود. وفي "السنن" عنه: أن رجلًا قال: يا رسول الله! إن لي جارية، وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدّث أن العزل الموءودة الصغرى، قال: "كذبت يهود، لو أراد الله أن يخلقه، ما استطعت أن تصرفه" (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4912)، وعند مسلم برقم (1438/ 127). (¬2) ما بين معكوفين سقطت من "ب". (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2171).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ، وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ، لَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ، لَنَهَانَا عَنْهُ القُرْآنُ (¬1). * * * (عن جابر) بنِ عبد الله الأنصاريِّ (- رضي الله عنهما - قال: كنا) معشرَ الصحابة (نعزل) عن النِّساء بأن نجامعهن، فإذا أردنا أن ننزل، أنزلنا خارج فروج النساء المجامَعات لغرضٍ من الأغراض، (والقرآن) العظيم (ينزل) ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4911)، كتاب: النكاح، باب: العزل، ومسلم (1440/ 136 - 138)، كتاب: النكاح، باب: حكم العزل، والترمذي (1137)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في العزل، وابن ماجه (1927)، كتاب: النكاح، باب: العزل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 75)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 169)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 74)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1378)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 59)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 305)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 194)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 104)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 146)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 346).

من الرب العليم إلى النبي الكريم، والجملة حالية. وفي رواية: كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقرآن ينزله، هذا القدر المتفق عليه من حديث جابر، وزاد مسلم عن إسحاق بن راهويه عن سفيان بن عينية: أنه قال: (لو كان) -أي: العزل- (شيئًا يُنْهَى عنه، لنهانا عنه القرآن (¬1). وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن سفيان، وظاهر هذا أن سفيان قاله استنباطًا، ولا يخفى أنّ كلام المصنف -رحمه الله- يوهم أن هذه الزيادة من نفس الحديث، ولم ينبّه ابن دقيق العيد على ذلك، بل شرحه بالزيادة، فقال: استدلال جابر بالتقرير من الله غريب، ويمكن أن يكون استدل بتقرير الرسوله، لكنه مشروط بعلمه بذلك (¬2)، انتهى. ويكفي في علمه قول الصحابي: إنه فعله في عهده، والمسألة مشهورة في الأصول وفي علم الحديث، وهي أن الصحابي إذا أضافه إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان له حكم الرفع عند الأكثر؛ لأن الظاهر: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك، وأقره؛ لتوفر دواعيهم على سؤالهم إياه عن الأحكام، وإذا لم يضفه، فله حكم الرفع -أيضًا- عند قوم، وهذا من الأول، فإن جابرًا صرّح بوقوعه في عهده - صلى الله عليه وسلم -، وقد وردت عدة طرق تصرح باطلاعه على ذلك. واستظهر الحافظ ابن حجر في "الفتح": أنّ الذي استنبط ذلك، سواء كان هو جابرًا أو سفيان، أراد بنزول القرآن: ما يقرأ أعم من المتعبَّد بتلاوته أو غيره مما يوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع، ولو كان حرامًا، لم نُقَرَّ عليه، وإلى ذلك يشير قول ابن عمر: كنا نتقي الكلامَ ¬

_ (¬1) كما تقدم تخريجه برقم (1440/ 136). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 74).

والانبساط إلى نسائنا هيبةً أن ينزل فينا شيء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، تكلمنا وانبسطنا، أخرجه البخاري (¬1). وفي "مسلم" من حديث جابر -أيضًا-: كنا نعزل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك نبيَّ الله، فلم ينهنا (¬2). وفيه عن جابر -أيضًا-: أنّ رجلًا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن لي جارية، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: "اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قُدِّر لها" (¬3)، فلبث الرجل ثم أتاه، فقال: إنّ الجارية قد حبلت، قال: "قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قُدِّر لها". وفي رواية: فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا عبد الله ورسوله" (¬4) وأخرجه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وابن ماجه بسندٍ على شرط الشيخين (¬5). وفي مسلم من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما -: أنّ رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنِّي أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِمَ تفعل ذلك؟! "، فقال: الرجل: أشفق على ولدها، أو على أولادها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان ضارًّا، ضرّ فارس والروم" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4891)، كتاب: النكاح، باب: الوصاة بالنساء. (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1440/ 138). (¬3) رواه مسلم (1439/ 134)، كتاب: النكاح، باب: حكم العزل. (¬4) رواه مسلم (1439/ 135)، كتاب: النكاح، باب: حكم العزل. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 312)، وابن ماجه (89)، في المقدمة، وابن أبي شيبة في "المصنف" (16597). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 305 - 306). (¬6) رواه مسلم (1443)، كتاب: النكاح، باب: جواز العيلة وهي وطء المرضع، وكراهة العزل.

وفي "مسند الإمام أحمد"، و"سنن ابن ماجه" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: نَهَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعزل عن الحرّة إلا بإذنها (¬1). قال: أبو داود: سمعتُ أبا عبد الله -يعني: الإمام أحمد- ذكرَ حديثَ ابن لهيعةَ عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن المحرز، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يعزل عن الحرّة إلّا بإذنها"، فقال: ما أنكره. قال في "الهدي": فهذه الأحاديث صريحة في جواز العزله، قال: وقد رُويت الرخصة فيه عن عشرة من الصحابة - رضي الله عنهم -: الإمام علي، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وأبي أيوب، وجابر، وابن عباس، والحسن بن الإمام علي، وخباب بن الأرت، وأبي سعيد الخدري، وابن مسعود. قال ابن حزم: جاءت الإباحة صحيحة عن جابر، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت، وابن مسعود. قال في "الهدي": وهذا هو الصحيح، وحرمه جماعة، منهم: ابن حزم وغيره، وفرقت طائفة بين أن تأذن، له الحرة أو لا تأذن وإن كانت زوجته أمَة، أبيح بإذن سيدها، لا بدون إذنه، وهذا منصوص الإمام أحمد وأصحابه، ومنهم من قال: لا يباح بحاله، ومنهم من قال: يباح بكل حال، ومنهم من قال: يباح بإذن الزوجة، حرة كانت أو أمة، فمن أباحه مطلقًا، احتجّ بما ذكرنا من الأحاديث، وبأن حقّ المرأة في ذوق العُسيلة، لا في ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 31)، وابن ماجه (1928)، كتاب: النكاح، باب: العزل، لكن من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

الإنزال، ومن حرّمه مطلقًا، احتجّ بما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث عائشة - رضي الله عنها -، عن جذامة بنت وهب أختِ عكاشة، قالت: حضرتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في أناس، فسألوه عن العزل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلك الوأد الخفي"، وهي: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (¬1) [التكوير: 8]، قالوا: وهذا ناسخ لأخبار الإباحة، فإنه ناقل عن الأصل، وأحاديث الإباحة على وفق البراءة الأصلية، وأحكام الشرع ناقلة عن البراءة. قالوا: وقول جابر: كنا نعزل والقرآن ينزل، فلو كان شيئًا يُنهى عنه، لنهى عنه القرآن -على ما مرّ-، فيقال: قد نَهَى عنه مَنْ أُنزل عليه القرآن بقوله: "إنه الموءودة الصغرى"، والوأد كله حرام. قالوا: وقد فهم الحسن البصري النهيَ من حديث أبي سعيد الخدري لمّا ذكر العزل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم، فإنما هو القدر"، قال الحسن: واللهِ لكأَن هذا زجرٌ (¬2)، ولأن فيه قطعَ النسل المطلوب من النكاح، وسوء العشرة، وقطع اللذة عند استدعاء الطبيعة لها. قالوا: ولهذا كان ابن عمر لا يعزل وقال: لو علمت أنّ أحدًا من ولدي يعزل، لنكلته، وكان علي يكره العزل، ذكره شعبة عن عاصم عن زر، عنْه، وصحّ عن ابن مسعود أنه قال في العزل: هي الموءودة الصغرى، وصحّ عن أبي أمامة أنه سئل عنه، فقال: ما كنتُ أرى مسلمًا يفعله، وقال نافع عن ابن عمر: ضرب عمر على العزل بعض بنيه، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1442/ 141)، كتاب: النكاح، باب: جواز العملة وهي وطء المراضع، وكراهة العزل. (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1438/ 131).

عن سعيد بن المسيب، قال: كان عمر وعثمان ينهيان عن العزل (¬1). قال ابن حزم: حديث الإباحة وحديث الحظر صحيحان، ولكن حديث التحريم ناسخ (¬2). قال في "الهدي": وهذه دعوى تحتاج إلى تاريخٍ محقق يبين تأخر أحد الحديثين عن الآخر، وأنى به؟!، وقد اتفق عمر وعلي على أنها لا تكون موءودة حتى تمرّ عليها التارات السبع. وروى القاضي أبو يعلى بإسناده عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، قال: جلس إلى عمر عليٌّ والزبير وسعد في نفرٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتذاكروا العزل، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموءودة الصغرى! فقال عليٌّ: لا تكون موءودة حتى تمرّ عليها التارات السبع: حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظمًا، ثم تكون لحمًا، ثم تكون خلقًا آخر، فقال عمر: صدقتَ -أطال الله بقاءك-. قال في "الهدي": وبهذا احتج من احتج على جواز الدعاء للرجل بطول البقاء. وأما من جوّزه بإذن الحرة، فقال: للمرأة حقٌّ في الولد كما للرجل حقٌّ فيه، ولهذا كانت أحقَّ بحضانته (¬3). قلت: معتمد مذهب الإمام أحمد الذي استقر عليه: أنه يحرّم العزل عن ¬

_ (¬1) ذكر هذه الآثار: ابن حزم في "المحلى" (10/ 71)، وعنه نقلها ابن القيم -رحمه الله-. (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 142 - 143، 145 - 146).

الحرّة إلا بإذنها، وعن الأمَة إلّا بإذن سيّدها، ويعزل عن سريّته بلا إذن، ويعزل وجوبًا من الكل بدار حرب بلا إذن، وإذا عَنَّ له أن ينزع قبل الإنزال، لا على قصد الإنزال خارج الفرج، لم يحرم في الكل (¬1). قال: الحافظ ابن حجر في "الفتح": وقد اختلف السلف في حكم العزل، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلّا بإذنها (¬2)؛ لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلّا ما لا يلحقه عزله، ووافقه في نقل هذا الإجماع: أبو المظفر عونُ الدين بنُ هبيرة، وعبارته: وأجمعوا على أنه ليس له العزل إلّا بإذنها (¬3)، وتُعقب بأن المعروف عند الشافعية: أن المرأة لا حقَّ لها في الجماع أصلًا، ثم في خصوص هذه المسألة عند الشافعية خلافٌ مشهور في جواز العزل عن الحرّة بغير إذنها. قال: الغزالي وغيره: يجوز، وهو المصحَّح عند المتأخرين، كما في "الفتح"، واحتجّ الجمهور لاعتبار الإذن بحديث ابن عمر -المتقدم- رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، ولفظه: نَهَى عن العزل عن الحرّة إلّا بإذنها (¬4)، وفي إسناده ابن لهيعة، وتقدم كلام الإمام أحمد الذي نقله أبو داود. والوجه الآخر للشافعية: المنع إذا امتنعت، وفيما إذا رضيت وجهان: أصحهما: الجواز، هذا كله في الحرة. وأما الأمَة، فإن كانت زوجة، فهي مرتبة على الحرة، إن جاز فيها، ففي ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 422). (¬2) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 228). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 141). (¬4) تقدم تخريجه.

الأمة أولى، وإن امتنع، فوجهان، أصحهما: الجواز، تحرزًا من إرقاق الولد، وإن كانت سريّة، جاز بلا خلاف عندهم، إلّا في وجهٍ حكاه الروياني في المنع مطلقًا، كمذهب ابن حزم، وإن كانت السرية مستولدة، فالراجح: الجوازُ فيها مطلقًا؛ لأنها ليست راسخة في الفراش. وقيل: حكمها حكم الأمَة المزوجة. والراجح عند أبي حنيفة، ومالك، وأحمد: اعتبار إذن سيد الأمة المزوَّجة، لا إذنها هي. وقال أبو يوسف، ومحمد: الإذن لها هي، وهي رواية عن الإمام أحمد، وعنه: بإذنهما، وحجة التفصيل ما رواه عبد الرزاق بسندٍ صحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: تُستأمر [الحرة] (¬1) في العزل، ولا تُستأمر السرية (¬2)، فإن كانت أمَة تحت حر، فعليه أن يستأمرها. قال في "الفتح": وهذا نص في المسألة، فلو كان مرفوعًا، لم يجز العدول عنه (¬3). تتمة: ثبت في "صحيح مسلم": أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغِيلة حتى ذكرتُ أنّ الروم وفارس يصنعون ذلك، فلا يضر أولادهم" (¬4). وفي "سنن أبي داود" من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعًا: "لا تقتلوا ¬

_ (¬1) في الأصل: "المرأة". (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (12562)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 231). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 308). (¬4) رواه مسلم (1442/ 140)، كتاب: النكاح، باب: جواز العيلة وهي وطء المرضع.

أولادكم سرًا، فَوَالذي نفسي بيده! إنه ليدرك الفارس فَيُدَعْثِرُهُ"، قلت: ما يعني؟ قال: الغيلة: يأتي الرجلُ امرأته وهي تُرضع (¬1). قال الإمام ابن القيّم في "الهدي": أما الحديث الأول، فهو حديث جذامةَ بنتِ وُهْب، وقد تضمن أمرين: لكلٍّ منهما معارض، فصدرُه هو الذي تقدم: "لقد هممتُ أن أنهى عن الغيل"، وعارضَه حديث أسماء، وعجزه: ثم سألوه عن العزل، فقال: "ذلك الوأد الخفي" -كما تقدم-، وعارضه حديثُ أبي سعيد: "كذبت يهود"، وقد يقال: إنّ قوله: "لا تقتلوا أولادكم سرًا" نهي أن ينسب إلى ذلك فإنه شبه الغيل بقتل الولد، وليس بقتل حقيقة، وإلّا لكان من الكبائر، ولا ريب أن وطء المراضع مما تعم به البلوى، ويتعذّر على غالب الرجال الصبر عن امرأته مدّة الرضاعة، فلو كان وطؤهنَّ حرامًا، لكان معلومًا من الدين، وكان بيانه من أهم الأمور، ولم تهمله الأمة وخير القرون ولا يصرح أحد منهم بتحريمه، فعلم أنّ حديث أسماء على وجه الإرشاد والاحتياط للولد، وأَلَّا يعرضه لفساد اللبن بالحمل الطارىء عليه، ولهذا كانت عادة العرب أن يسترضعوا لأولادهم غير أمهاتهم، والمنعُ منه غايته أن يكون من باب سدِّ الذرائع التي تفضي إلى الإضرار بالولد، وقاعدة سد الذرائع أنه إذا عارضه مصلحةٌ راجحة، قدّمت عليه (¬2)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3881)، كتاب: الطب، باب: في الغيل، والإمام أحمد في (2) "المسند" (6/ 457)، واللفظ له. (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 147 - 148).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ سَمعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتبوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوَّ اللهِ، وَلَيْسَ كَذَلكَ، إلَّا حارَ عَلَيْهِ". كذا عند مسلم، وللبخاري نحوه (¬1). * * * (عن أبي ذَرٍّ) جُنْدُبِ -بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3317)، كتاب: المناقب، باب: نسبة اليمن إلى إسماعيل، و (5698)، كتاب: الأدب، باب: ما ينهى من السباب واللعن، ومسلم (61)، كتاب: الإيمان، باب: بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، واللفظ له، وابن ماجه (2319)، كتاب: الأحكام، باب: من ادعى ما ليس له وخاصم فيه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 319)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 254)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 49)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 75)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1379)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 540)، و"عمدة القاري" للعيني (16/ 79)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 375)

وفتحها -أيضًا- ابنِ جُنادة -بضم الجيم وتخفيف النون-، وقيل: جُندب بن عبد الله، والمشهور: جُنادة بن سفيان بن عبيد بن الرقيعة بن حرام بن غفار بن مُلَيل بن حمزة بن كنانة. وقال: ابن عبد البر: ابن جنادة بن قيس بن عمرو بن مُلَيل -بضم الميم وفتح اللام- ابن صُعَير -بضم الصاد وفتح العين المهملتين- ابن حرام بن غِفار -بكسر الغين المعجمة- ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة الغفاري (- رضي الله عنه -) وهو من أعلام الصحابة وزُهادهم، ومن المهاجرين، وهو أول من حيَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحية الإسلام، فقال: السلامُ عليكَ يا رسول الله، فقال: "وعليكَ ورحمةُ الله"، ثم قال: "من أنتَ؟ "، الحديث الطويل المشهور في إسلامه (¬1). وكان إسلامه قديمًا بعد ثلاثة أو أربعة أو خمسة، على الخلاف في ذلك، ثم رجع إلى بلاد قومه، ثم قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الخندق، وقال له - صلى الله عليه وسلم - لمّا رآه: "أنتَ أبو نَمْلة؟ " يعنيِ: أبا ذر؛ لأنهما يشتبهان غالبًا، فقال: أنا أبو ذر، فقال: "نعم أنت أبو ذَرّ" (¬2)، ثم سكن الرَبَّذَة -بفتح الراء والباء الموحدة وبالذال المعجمة- إلى أن مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان، وصلّى عليه ابن مسعود - رضي الله عنهم -، ثم مات ابن مسعود بعده بعشرة أيام. وروي لأبي ذر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئتين حديث وأحد وثمانون حديثًا، في "الصحيحين" ثلاثة وثلاثون، اتفقا منها على اثني ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2473)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/ 1654 - 1655).

عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بتسعة عشر (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه: "أبو ذر في أمتي على زهد عيسى بن مريم" (¬2). أخرج الترمذي من حديثه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدقَ ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى بن مريم"، فقال عمرُ بن الخطاب كالحاسد: يا رسول الله! أفنعرف ذلك له؟ قال: "نعم فاعرفوه" حسّنه الترمذي (¬3)، وروى نحوه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (¬4) (أنه)؛ أي: أبا ذر، (سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس من رجل)؛ أي: شخص، من ذكر أو أنثى (ادّعى)؛ أي: انتسب (لغير أبيه)، واتخده أبًا، (وهو يعلمه)؛ أي: يعلم أنه غير أبيه (إلّا كفر)، زاد البخاري: "بالله" (¬5)؛ أي: إن استحلّ ذلك مع علمه بالتحريم، وإلا فهو زجر وتنفير وكفر النعمة على رواية إسقاط زيادة البخاري. والحاصل أنه متى استحلّ ذلك، مع علمه أنه حرام، كفر، وإلّا فظاهر اللفظ غير مراد، وإنما أورد على سبيل التغليظ لزجر فاعل ذلك، والمراد ¬

_ (¬1) قلت: قد تقدم للشارح -رحمه الله- ترجمة أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1655). (¬3) رواه الترمذي (3802)، كتاب: المناقب، باب: مناقب أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬4) رواه الترمذي (3801)، كتاب: المناقب، باب: مناقب أبي ذر - رضي الله عنه -. (¬5) كما في رواية أبي ذر، قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/ 540): ولم يقع قوله: "بالله" في غير رواية أبي ذر، ولا في رواية مسلم، ولا الإسماعيلي، وهو أولى.

بإطلاق الكفر: أنّ فاعله فعل فعلًا شبيهًا بفعل أهل الكفر (¬1). (ومن ادّعى) (ما ليس له)؛ أي: حقًا، سواء كان مالًا أو غيره، (فليس منا). قال النووي: قال العلماء: ليس على هدينا وجميل طريقتنا (¬2)، (وليتبوأ)؛ أي: ليتّخذ (مقعده من النار) المعهودةِ التي هي نار جهنم؛ أي: فليتّخذ له منزلًا في النار، فهو إما دعاءٌ من الرسول عليه بذلك، وإما خبر بمعنى الأمر؛ أي: هذا جزاؤه إن جوزيَ، وقد يُعفى عنه، وقد يتوب فيسقط الإثم (¬3)، (ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال) له: (عدوَّ الله، وليس) المدعو بالكفر كافرًا، أولا مَنْ قيل فيه إنه (¬4) عدو الله (كذلك، إلا حار) -بحاء وراء مهملتين-؛ أي: رجع (عليه)؛ أي: على القائل ذلك القولَ، فإذا قال: لمسلم: يا كافر بلا تأويل، كفر، فإن أراد كفرَ النعمة، فلا. قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (كذا عند مسلم) في "صحيحه"، (ولـ) ـلإمام (البخاري نحوه)؛ أي: نحو ما تقدم، ولفظ البخاري عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس من رجلٍ ادعى لغير أبيه، وهو يعلمه، إلا كفر بالله، ومن ادعى قومًا ليس له فيهم نسب، فليتبوأ مقعده من النار" ذكر هذا الحديث في كتاب: بدء الخلق من "صحيحه" بعد ذكر الأنبياء (¬5)، وذكره في باب: الأدب من "صحيحه" ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 540). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 50). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3317)، لكن في كتاب المناقب.

عن أبي ذر -أيضًا-: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يرمي رجل رجلًا بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك" (¬1)، وذكر البخاري -أيضًا- في: بدء الخلق، عن واثلة بن الأسقع، ولم يخرج له في كتابه غيره، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أعظم الفِرى أن يَدَّعي الرجل إلى غير أبيه، أو يُري عينيه ما لم تر، أو يقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل" (¬2). وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه، فهو كفر" (¬3). وفيهما عن أبي عثمان النهدي، قال: لمّا ادّعى زياد، لقيت أبا بَكْرة، فقلتُ له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعتُ سعدَ بن أبي وقاص - رضي الله عنه - يقول: سمعت أذني من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "من ادّعى أبًا في الإسلام غيرَ أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنّة عليه حرام"، فقال أبو بكرة: أنا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وفي لفظٍ آخر: وكلاهما يقول: سمعته أذناي ووعاه قلبي (¬5). وظاهر هذه الأحاديث يقتضي أن من قال لآخر: أنتَ فاسق، أو قال له: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5698). (¬2) رواه البخاري (3318)، كتاب: المناقب، باب: نسبة اليمن إلى إسماعيل. (¬3) رواه البخاري (6386)، كتاب: الفرائض، باب: من ادعى إلى غير أبيه، ومسلم (62)، كتاب: الإيمان، باب: بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم. (¬4) رواه البخاري (4071)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الطائف، ومسلم (63/ 114)، كتاب: الإيمان، باب: بيان حال من رغب عن أبيه وهو يعلم. (¬5) رواه البخاري (6385)، كتاب: الفرائض، باب: من ادعى إلى غير أبيه، ومسلم (63/ 115)، كتاب: الإيمان، باب: بيان حال من رغب عن أبيه وهو يعلم.

أنتَ كافر، فإن كان ليس كما قال، فهو المستحق للوصف المذكور، وإن كان كما قال، لم يرجع عليه شيء، لكونه صدق فيما قال، لكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقًا ولا كافرًا أَلَّا يكون إثما في صورة قوله له: أنتَ فاسق، بل ينبغي أن يفصل بين أن يقصد نصحَه، أو نصحَ غيره ببيان حاله، أو يقصد تعييره وشهرته بذلك ومحضَ أذاه، وحينيذٍ يكون آثمًا؛ لأن ذلك غير جائز؛ لأنه مأمورٌ بالستر عليه، وتعليمه وموعظته بالحسنى على قدر الإمكان، فمهما أمكنه فعلُ المعروف والنهي عن المنكر بالرفق، لا يفعله بالعنف؛ لأنه قد يكون سببًا لإغرائه وإصراره على ذلك الفعل كما هو في طبع كثيرٍ من الناس من الأنفة، لاسيما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة (¬1). تنبيهان: الأول: قال في "الفتح": قال النووي: اختلف في تأويل هذا الرجوع، فقيل: رجع عليه الكفر إن كان مستحلًّا (¬2). قال في "الفتح": وهذا بعيدٌ من سياق الخبر، وقيل: محمولٌ على الخوارج؛ لأنهم يكفِّرون المؤمنين، هكذا نقله عياض عن الإمام مالك (¬3)، وهو ضعيف؛ لأن الصحيح عند الأكثرين: أنّ الخوارج لا يكفرون ببدعتهم. قال في "الفتح": ولِما قاله مالك وجه، وهو أن منهم من يكفّر كثيرًا من الصحابة ممن شهد له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنّة وبالإيمان، فيكون كفرُهم من ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 466). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 50). (¬3) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 318).

حيث تكذيُبهم للشهادة المذكورة، لا من مجرد صدور التكفير منهم بتأويل. قلت: وفي هذا ما لا يخفى على محقق، والتحقيق: أن الحديث سيق لزجر المسلم من أن يقول ذلك لأخيه المسلم، وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم. وقيل: رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره، وهذا لا بأس به. وقيل: يُخشى عليه أن يؤول به ذلك إلى الكفر كما قيل: المعاصي بريد الكفر، فيخاف على من أدامها وأصرّ عليها سوءُ الخاتمة، وعلى ذلك، فالراجع إليه التكفيرُ لا الكفر، فكأنه كفّر نفسه بكونه كفّر مَنْ هو مثلُه، ومن لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام، ويؤيده أن في بعض طرقه: "وجب الكفر على أحدهما" (¬1)، وهذا الذي رجحه الحافظ ابن حجر في "الفتح"، فقال: من قال ذلك لمن يُعرف منه الإسلام ولم تقم له شبهة في زعمه أنه كافر، فإنه يكفر بذلك، قال: فهذا أرجح من الجميع (¬2)، انتهى. الثاني: يحرم الانتفاء عن النسب وادّعاء نسب غير نسبه (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (111)، وأبو عوانة في "مسنده" (53)، من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 466). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 75).

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع الرَّضاع -بفتح الراء وكسرها- مصدر رَضِعَ الصبيُّ الثديَ -بكسر الضاد وفتحها-: مصّه، قال ابن الأعرابي: والكسرُ أفصح. قال في "المطلع": يرضِع -بالفتح مع الكسر، والكسر مع الفتح، رَضْعًا، كفَلْس، ورَضَعًا كفَرَس، ورَضِاعًا -بفتح الراء وكسرها-، ورضاعة، ورَضِعًا -بفتح الراء وكسر الضاد-، حكى السبعةَ ابنُ سيده، والفراءُ في المصادر. قال المطرزي في "شرحه": وامرأة مرضع: إذا كانت ترضع ولدها ساعةً بعد ساعة، وامرأة مرضعة: إذا كان ثديها في فم ولدهما، قال ثعلب: فمن ها هنا جاء القرآن {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2]، ونقل الحربي عن الفراء: المرضعة: الأم، والمرضع: التي معها صبي ترضعه، فالولد رضيع، وراضع، ومرضع: إذا أرضعته أمه، انتهى (¬1). وذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الكتاب ستة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 350).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بنْتِ حَمْزَةَ: "لَا تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، وَهِيَ ابْنَةُ أَخَي مِنَ الرَّضَاعَةِ" (¬1). * * * (عن ابن عباس) حبرِ الأمة عبدِ الله بن عباس (- رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة) اختلف في اسمها، فقيل: آمنة، ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2502)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب، والرضاع المستفيض، والموت القديم، و (4812)، كتاب: النكاح، باب: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، ومسلم (1447/ 12 - 13)، كتاب: الرضاع، باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، والنسائي (3305 - 3306)، كتاب: النكاح، باب: تحريم بنت الأخ من الرضاعة، وابن ماجه (1938)، كتاب: النكاح، باب: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح مسلم" للنووي (10/ 23)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 78)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1385)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 142)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 204)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 217)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 123).

وقيل: أمامة، وقيل: عمارة، قاله ابن بشكوال (¬1)، ونقله الخطيب عن الواقدي، وأنه انفرد به، وقيل: أمَةُ الله، وقيل: فاطمة، وقيل: عائشة، وقيل: سلمى، وقيل: يعلى، كذا في "الفتح" (¬2)، وأسقط آمنة. قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- في "مختصر السيرة" له: لما مات حمزة، لم يكن له إلا ابنة. قال الحافظ عبد الكريم في "شرحه": قال أبو محمّد بنُ قدامة -يعني: الإمامَ الموفق-: كان له -أيضًا-: يعلى، وعمارة. قال ابن عبد البر: توفي - صلى الله عليه وسلم - وليعلى وعمارة أعوام، ولا يحفظ لهما رواية (¬3). وقال مصعب: ولد لحمزة خمسة رجالٍ لصلبه، وماتوا ولم يعقبوا، ولم يبق لحمزة عقب (¬4). قال الإمام الموفق: ومن أولاد حمزة: أمامة، وهي التي أخرجها علي من مكة، واختصموا فيها، وزوَّجَها النبي - صلى الله عليه وسلم - من سَلَمة بن أبي سَلَمة ربيبِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فهلك قبل اجتماعهما. ولحمزة -أيضًا- ابنة تسمى: أم الفضل، روى عنها عبد الله بن شداد، قالت: تُوفي مولًى لنا، وترك ابنةً وأختًا، فأعطى الابنةَ النصفَ، والأختَ النصفَ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" له (2/ 709 - 710). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 505). (¬3) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1142). (¬4) المرجع السابق، (4/ 1587). (¬5) المرجع السابق، (4/ 1950).

وقيل: اسم أم الفضل فاطمة، وقيل: فاطمة غيرُ أم الفضل، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث لعلي بحلّة، وأمره أن يجعلها خُمُرًا بين الفواطم، فشقها خمرًا لفاطمةَ بنتِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفاطمةَ بنتِ أسد؛ أي: أُمِّ علي -رضوان الله عليهما-، وفاطمةَ بنتِ حمزةَ هذه - رضي الله عنها - (¬1). وحمزة هو سيد الشهداء عمُّ المصطفى، ابنُ عبدِ المطلب، يقال له: أسدُ الله، وأسدُ رسول الله، وكان يقاتل بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسيفين، ويقول: أنا أسدُ الله، ذكره الحاكم أبو عبد الله (¬2). وروى الحاكم -أيضًا- بإسناده: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتاني جبريل، فأخبرني أنّ حمزة مكتوبٌ في أهل السموات: أسدُ الله وأسدُ رسوله، وأنه قُتل جُنبًا، فغسَّلته الملائكة"، وقال: صحيح الإسناد، كذا قال (¬3). وذكر الحاكم في "المستدرك": أنه يكنى: أبا يعلى، وأبا عمارة، وهما ابنان له (¬4). قال: ابن الأثير في "جامع الأصول": أسلم حمزة - رضي الله عنه - قديمًا، قيل: في السنة الثانية من المبعث، وقيل: بل كان إسلام حمزة بعد دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دارَ الأرقم في السنة السّادسة، وكان إسلامه حَمِيَّةً، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (170)، وانظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 62). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (2557)، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" (4881)، وليس فيه: أنه قتل جنبًا، فغسلته الملائكة. (¬4) رواه الحاكم في "المستدرك" (4899)، عن محمَّد بن كعب القرظي قال: كان حمزة بن عبد المطلب يكنى أبا عمارة.

فاعتزّ الإسلام باسلامه، وشهد بدرًا، واستشهد يوم أُحد، قتله وحشيُّ بنُ حرب، وكان أسنَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع سنين، وردّه ابنُ عبد البر؛ لأنه رضيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن تكون ثُوَيبة أرضعتهما في زمانين، وقيل: كان أسن منه بسنتين. روى عنه: علي، والعباس، وزيد بن حارثة - رضي الله عنهم - (¬1). وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين زيد بن حارثة، فلهذا قال زيد في خصومته مع علي وجعفر في ابنة حمزة: ابنة أخي -كما سيأتي بيان ذلك-. وأول لواء عقده - صلى الله عليه وسلم - لحمزة - رضي الله عنه - في الثانية حين بعثه إلى سيف البحر -بكسر السين- من أرض جُهينة، وقيل: بل أول لواء عقده - صلى الله عليه وسلم - لعبيدةَ بن الحارث بن عبد المطلب. ولما رآه - صلى الله عليه وسلم - قتيلًا، بكى، وقال: "يرحُمك الله يا عمّ، لقد كنت وَصولًا للرحم، فَعولًا للخيرات" (¬2)، وكان ذلك في الثالثة من الهجرة. قال ابن عبد البر: كان حمزة يوم استشهد ابنَ سبع وخمسين سنة، ودفن هو وابن أخيه عبدُ الله بن جحش في قبرٍ واحد، في أحد (¬3)، وقبره مشهورٌ يُزار، ومناقبه كثيرة، وفضائله غزيرة مشهورة - رضي الله عنه -. (لا تحلُّ لي) أن أنكحها، وأولُ الحديث: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا تزوّج ابنةَ حمزة (¬4)؟ ¬

_ (¬1) انظر: "جامع الأصول " لابن الأثير (14/ 297 - "قسم التراجم"). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 13)، والطبراني في "المعجم الكبير" (2937)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "الاستيعاب " لابن عبد البر (1/ 372). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4812).

والقائل له ذلك: علي بن أبي طالب كما في "مسلم" من حديثه، قال: قلت: يا رسول الله! ما لك تَنَوَّقُ في قريش وتدعُنا؟ قال: "وعندَكم شيء؟ "، قلت: نعم، ابنةُ حمزة، الحديث (¬1). قوله: تَنَوَّقُ ضبط -بفتح المثناة والنون وتشديد الواو بعدها قاف-؛ أي: تختار، مشتق من النِّيقَة -بكسر النون وسكون التحتية بعدها قاف-، وهي الخيار من الشيء، يقال: تَنَوَّقَ تَنَوُّقًا؛ أي: بالغ في اختيار الشيء وانتقائه. وعند بعض رواة مسلم: تَتُوق -بمثناة مضمومة بدل النون وسكون الواو- من التَّوْق؛ أي: تميل وتشتهي. ووقع عند سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيَّب، قال علي: يا رسول الله! ألا تتزوج بنتَ عمك حمزة؟ فإنها من أحسن فتاة في قريش (¬2)، وكأنَّ عليًّا لم يعلم أنّ حمزة رضيعُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو جوَّزَ الخصوصية، أو كان ذلك قبل تقرير الحكم، قال القرطبي: وبعيدٌ أن يقال عن علي: لم يعلم بتحريم ذلك (¬3). لأنه (يَحْرُم من الرضاع ما يَحْرُم من النسب) كما يأتي تقرير ذلك، (وهي)؛ أي: ابنة حمزة، (ابنةُ أخي من الرضاعة). قال بعض العلماء: يستثنى من [عموم] (¬4) قوله: "يَحْرُم من الرضاع ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1446)، كتاب: الرضاع، باب: تحريم ابنة الأخ من الرضاعة. (¬2) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 272). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 180). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 142). (¬4) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

ما يَحْرُم من النسب" أربعُ نسوة يحرمن في النسب مطلقًا، وفي الرضاع قد لا يَحْرُمن: الأولى: أم الأخ في النسب حرام؛ لأنها إمّا أُمٌّ، وإما زوج أبٍ، وفي الرضاع قد تكون أجنبية، فترضع الأخ، فلا تحرم على أخيه. الثانية: أم الحفيد حرام في النسب؛ لأنها إما بنتٌ، أو زوجُ ابن، وفي الرضاع قد تكون أجنبية، فترضع الحفيد، فلا تحرم على جده. الثالثة: جدة الولد في النسب حرام؛ لأنها إما أم، أو أمُّ زوجة، وفي الرضاع قد تكون أجنبية أرضعت الولد، فيجوز لوالده أن يتزوج أمها. الرابعة: أخت الولد حرام في النسب؛ لأنها بنتٌ، أو ربيبة، وفي الرضاع قد تكون أجنبية، فترضع الولد، فلا تحرم على والده بنتُها. وهذه الصور اقتصر عليها جماعة، ولم يستثنِ الجمهور شيئًا من ذلك، وفي نفس الأمر لا يحتاج إلى استثناء شيء من ذلك؛ لأن المذكورات لم يحرمن جهة النسب، وإنما حرمن جهة المصاهرة (¬1). ولما استثنى بعض علمائنا وغيرهم ممّا يحرم من النسب صورتين فقالوا: لا يحرم نظيرهما من الرضاع: إحداهما: أم الأخت، فتحرم من النسب، ولا تحرم من الرضاعة. والثانية: أخت الابن، فتحرم من النسب، ولا تحرم من الرضاع. قال الحافظ ابن رجب وغيره: لا حاجة لاستثناء هاتين، ولا إحداهما، أنها أم الأخت، فإنها تحرم من النسب، لكونها أمًا، أو زوجة أب، لا لمجرد كونها أمَّ أخت، فلا نعلِّق التحريمَ بما لم يعلِّقه به، وحينيذٍ فيؤخذ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 142).

في الرضاع من هي أم أخ ليست أمًا، ولا زوجة أب، فلا تحرم؛ لأنها ليست نظيرًا لذات النسب، وأما أخت الابن، فإنّ الله -تعالى- إنّما حرّم الربيبة المدخول بأمها، فتحرم لكونها ربيبة دخل بأمها، لا لكونها أختَ ابنه، والدخول في الرضاع منتفٍ، فلا يحرم به أولاد المرضعة (¬1)، انتهى. وتقدم في باب النكاح المحرمات بالنسب، فكل ما يحرم منه، فإنه يحرم من الرضاع نظيرُه، فيحرم على الرجل أن يتزوج أمهاته من الرضاعة وإن علونَ، وبناتِه منها وإن سَفُلنَ، وأخواته، وبناتُ أخواته من الرضاعة، وعمّاته وخالاته من الرضاعة وإن علونَ دون بناتهنَ، ومعنى هذا: أنّ المرأة إذا أرضعت طفلًا الرضاعَ المعتبر في المدة المعتبرة -كما يأتي بيان ذلك في الحديث الرابع-، صارت أمًا له بنص الكتاب، فتحرم عليه هي وأمهاتها وإن علونَ من نسب أو رضاع، ويصير بناتها كلُّهنَّ أخواتٍ له من الرضاعة، فيحرمْنَ عليه بالنص، وبقية التّحريم من الرضاعة استفُيد من السنة، كما استفيد منها أنّ تحريم الجمع لا يختص بالأختين، بل المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها كذلك، وإذا كان أولاد المرضعة من نسبٍ أو رضاع إخوة للمرضع، فيحرم عليه بنات إخوته -أيضًا-، كما امتنع في من تزويج ابنة حمزة وابنة أبي سَلَمة، وعلل ذلك بأن أبواهما كانا أخوين له من الرضاعة، ويحرم عليه -أيضًا- أخواتُ المرضِعة؛ لأنهنَّ خالاته، وتنتشر الحرمة -أيضًا- إلى الفحل -كما يأتي- (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 413). (¬2) المرجع السابق، (ص: 411).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كَشْفُ اللِّثَامِ شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1428 هـ - 2007 م رَقم الْإِيدَاع بمَكتَب الشؤون الفَنيَّة 22/ 2007 م قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة الكويت - الرقعي - شَارِع مُحَمَّد بني الْقَاسِم بدالة: 4892785 - داخلي: (404) فاكس: 5378447 موقعنا على الإنترنت www.islam.gov.kw قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة قَامَت بعمليات التنضيد الضوئي والتصحيح العلمي والإخراج الفني والطباعة دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) - فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الرَّضَاعَةِ تُحَرِّمُ مَا يَحْرُمُ مِنَ الوِلَادَةِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2503)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب، و (2938)، كتاب: الخمس، باب: ما جاء في بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما نسب من البيوت إليهن، و (4811)، كتاب: النكاح، باب: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}، ومسلم (1444/ 1 - 2)، كتاب: الرضاع، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، وأبو داود (2055)، كتاب: النكاح، باب: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، والنسائي (3300 - 3303)، كتاب: النكاح، باب: ما يحرم من الرضاع، و (3313)، باب: لبن الفحل، والترمذي (1147)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وابن ماجه (1937)، كتاب: النكاح، باب: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 182)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 241)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربى (5/ 87)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 626)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 176)، و"شرح مسلم" للنووي (18/ 10)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 79)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1389)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 140)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 205)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 28)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 123)

(عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصدّيقة (- رضي الله عنها -، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ الرضاعة) المعتبرة (تحرّم ما يحرم من الولادة) أي: وتُبيح ما تُبيح، وهو بالإجماع فيما يتعلق بتحريم النكاح وتوابعه، وانتشار الحرمة بين الرضيع وأولاد المرضعة، وتنزيلهم منزلةَ الأقارب في جواز النظر والخلوة والمسافرة، ولكن لا يترتب عليه أحكام الأمومة من التوارث ووجوبِ الإنفاق والعتقِ بالملك والشهادةِ والعقلِ وإسقاطِ القصاص (¬1). قال القرطبي: وقع في رواية: "ما تحرّم الولادة"، وفي رواية: "ما يحرم من النسب"، وهو دال على جواز نقل الرواية بالمعنى، قال: ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - قال اللفظين في وقتين (¬2). قال الحافظ ابن حجر: وهذا الثاني المعتمد، فإن الحديثين مختلفان في القصة والسبب والراوي، وإنما يتأتى ما قال إذا اتّحد ذلك. وقد وقع عند الإمام أحمد من وجهٍ آخر عن عائشة - رضي الله عنه -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب من خال أو عَمٍّ أو أخ" (¬3). قال القرطبي: في الحديث دلالة على أنّ الرضاع ينشر الحرمة بين الرضيع والمرضعة وزوجها، يعني: الذي وقع الإرضاع بلبن ولده منها، أو السيد، فيحرم على الصبي؛ لأنها تصير أمه وأمها؛ لأنها جدته فصاعدًا، وأختها؛ لأنها خالته، وبنت بنتها فنازلًا؛ لأنها بنتُ أخته، وبنتَ صاحب اللبن؛ لأنها أخته، وبنتَ بنته فنازلًا؛ لأنها بنتُ أخته، وأمَّه فصاعدًا؛ لأنها جدته، وأختَه؛ لأنها عمته، ولا يتعدى التحريم إلى أحد من قرابة الرضيع، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 141). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 177). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 102).

فليست أختُه من الرضاعة أختًا لأخيه، ولا بنتًا لأبيه، إذ لارضاعَ بينهم. والحكمة في ذلك: أنّ سبب التحريم ما ينفصل من أجزاء المرأة وزوجها، وهو اللبن، فإذا اغتذى به الرضيع، صار جزءًا من أجزائهما، فانتشر التحريم بينهم؛ بخلاف قرابات الرضيع؛ لأنه ليس بينهم وبين المرضعة ولا زوجها نسب ولا سبب (¬1). قال الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين": والتحريم بالرضاع يختص بالمرتضع نفِسهِ، وينتشر إلى أولاده، ولا ينتشر تحريمُه إلى مَنْ في درجة المرتضع من إخوته وأخواته، ولا إلى من أعلى منه من آبائه وأمهاته، وأعمامه وعمّاته، وأخواله وخالاته، فتباح المرضعة نفسُها لأبي المرتضِع من النسب، ولأخيه، وتباح أمُّ المرتضِع من النسب وأختُه منه لأبي المرتضِع من الرضاعة، ولأخيه، هذا قول جمهور العلماء، فقالوا: يباح أن يتزوج أختَ أخيه من الرضاعة، وأختَ ابنته من الرضاعة، حتى قال الشعبي: هي أَحَلُّ ممّا قد مرّ، وصرّح بإباحتها حبيبُ بن أبي ثابت، والإمام أحمد. وروى أشعث عن الحسن: أنه كره أن يتزوج الرجل بابنة ظئر ابنه، يقول: أخت ابنه، ولم يرَ بأسًا أن يتزوج أمها، يعني: ظئر ابنه. وروى سليمان التيمي [عن الحسن] (¬2): أنه سئل عن الرجل يتزوج أخت أخيه من الرضاعة، فلم يقل فيه شيئًا. قال الحافظ ابن رجب: وهذا يقتضي توقفه فيه، قال: ولعل الحسن ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 177 - 178). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 141 - 142). (¬2) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

إنما كان يكره ذلك تنزيهًا لا تحريمًا، لمشابهته المحرم بالنسب في الاسم، وهذا بمجرده لا يوجب تحريمًا (¬1). فائدة: ممّا يدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" ونحوِه من الأحاديث: ما لو ظاهَرَ من امرأته، فشبهها بمحرَّمةٍ من الرضاع، فقال مثلًا: أنتِ عليَّ كأمي من الرضاع، فالجمهور يثبتون الظهار بذلك، منهم: ما لك، والثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وهو المشهور من مذهب أحمد، بل هو الذي استقر عليه المذهب. وقال الشافعي: لا يثبت به. وتوقف أحمد في رواية ابن منصور (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 413). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الحديث الثالث

الحديث الثالث وَعَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ اسْتأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ! لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ أَخَا أَبَا القُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ! إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ، قَالَ: "ائذَني لَهُ، فَإنَّهُ عَمُّكَ، تَرِبَتْ يَمِيُنَكِ". قال عروةُ: فبذلك كانت عائشةُ تقول: حَرِّموا من الرضاعة ما يَحْرُمُ من النسب (¬1). وفي لفظ: استأذنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ، فلم آذَنْ لَهُ، فقالَ: أَتَحْتَجِبِينَ مِنِّي وَأَنا عَمُّكِ؟ فَقُلْتُ: كيفَ ذلكَ؟ قال: أَرْضَعَتْكُ امرأةُ أَخي بلبنِ أَخي، قالت: ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4518)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 54]، و (4815)، كتاب: النكاح، باب: لبن الفحل، و (5804)، كتاب: الأدب، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تربت يمينك" و"عقرى حلقى"، ومسلم (1445/ 3 - 10)، كتاب: الرضاع، باب: تحريم الرضاعة من ماء الفحل، وأبو داود (2057)، كتاب: النكاح، باب: في لبن الفحل، والنسائي (3314 - 3318)، كتاب: النكاح، باب: لبن الفحل، والترمذي (1148)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في لبن الفحل، وابن ماجه (1948 - 1949)، كتاب: النكاح، باب: لبن الفحل. =

فسألتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "صَدَقَ أَفْلَحُ، ائذَنِي لَهُ" (¬1). * * * (وعنها)؛ أي: عن أم المؤمنين عائشةَ الصدّيقةِ - رضي الله عنها - (قالت: إن أَفْلَحَ) -بفتح الهمزة وسكون الفاء وبالحاء المهملة غير منصرف للعلمية ووزن الفعل-، ويكنى بأبي الجعد كما قاله الخطيب. قال ابن عبد البر: لا أعلم له خبرًا ولا ذِكْرًا أكثرَ ممّا جرى من ذكره في حديث عائشة من الرضاع، ثم قال: يقال: إنه من الأشعريين (¬2)، والذي صوّبه أئمةُ الحديث وحفّاظُهم أن أفلح المذكور كان (أخا أبي القُعَيس) -بضم القاف وفتح العين المهملة وسكون المثناة تحت وآخره سينٌ مهملة-. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": ولم أقف على اسم أبي القعيس إلا في كلام الدارقطني، فقال: بل هو وائل بنُ أفلحَ الأشعريُّ، وحكى هذا ابنُ عبد البر، ثم حكى -أيضًا- أن اسمه الجَعْدُ، فعلى هذا يكون أخوه وافقَ اسمُه اسمَ أبيه، ويحتمل أن يكون أبو القعيس نسب لجده، ويكون اسمه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2501)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب، والرضاع المستفيض، والموت القديم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (6/ 242)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 88)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 628)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 178)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 20)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 78)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1389)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 254)، و"عمدة القاري" للعيني (19/ 125)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 33)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 216)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 23). (¬2) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 102).

وائل بن قعيس بن أفلح بن قعيس، وأخوه: أفلح بن قعيس بن أفلح أبو الجعد، انتهى (¬1). (استأذن) ليدخل (عَلَيَّ)، لكونه مَحْرَمًا، وذلك (بعد ما أُنزل) -بضم الهمزة- مبينًا لما لم يسمى فاعله (الحجاب) -بالرفع- ائب الفاعل؛ أي: بعد ما أنزل اللهُ -سبحانه وتعالى- آيةَ الحجاب، وهي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] إلى قول: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ} [الأحزاب: 53] في سورة الأحزاب، (فقلت: واللهِ! لا آذَنُ له حتى أستأذنَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -) في ذلك، وفي لفظٍ: فأبيتُ أن آذن له (¬2)، فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ قالت عائشة - رضي الله عنها - معللةً لعدم إذنها في دخوله عليها: (فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأةُ أبي القعيس)، وفي رواية معمر عن الزهري عند مسلم: وكان أبو القعيس زوجَ المرأة التي أرضعت عائشة - رضي الله عنها - (¬3)، قالت: (فدخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله! إنّ الرجل ليس هو أرضعني) حتى يُباح لأخيه أن يدخل عليَّ وأكونَ له ابنة أخ، (ولكن أرضعتني امرأته، فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (ائذني له، فإنّه عمّك تربَتْ يمينك)، وفي رواية سفيان: "يداك"، أو "يمينك" (¬4)، وفي روايةٍ: فأمرني أن آذن له (¬5)، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 150). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4518، 4815، 4941)، وعند مسلم برقم (1445/ 3، 7). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1445/ 6). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1445/ 4). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4815)، وعند مسلم برقم (1445/ 3).

وفي رواية مالك عن هشام بن عروة: "إنه عمّك، فليلجْ عليكِ" (¬1)، وفي روايةٍ: "صدق أفلحُ، ائذني له" (¬2). ووقع في رواية سفيان الثوري عن هشام عند أبي داود: دخل عليَّ أفلحُ، فاستترت منه، فقال: أتستترين مني وأنا عمّك؟ قلت: من أين؟ قال: أرضعتكِ امرأةُ أخي، قلت: إنما أرضعتني المرأةُ، ولم يرضعني الرجلُ، الحديث (¬3)، ويأتي. ويُجمع بأنه دخل عليها أوّلًا، فاستترت منه، ودار بينهما الكلام، ثم جاء يستأذن ظنًا منه أنها قبلَتْ قوله، فلم تأذن له حتى تستأذنَ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وقوله: "تربت يمينك"؛ أي: أُلصقت بالتراب، وهي كناية عن الفقر كما هو في بعض النسخ: ولفظ: تربت يمينك؛ أي: افتقرت، والعرب تدعو على الرجل، ولا تريد وقوعَ الأمر به، ونقله في "الفتح" عن "العمدة"، فعلم أنه من الأصل. قال في "الفتح": وزاد غيره، يعني: غير صاحب "العمدة" المصنف -رحمه الله تعالى-: أن صدور ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُستجاب، لشرطه ذلك على ربه، وحكى ابن العربي أن معناه: استغنت، ورد بأن المعروف: أترب: إذا استغنى، ترب: إذا افتقر، ووجه بأن الغنى الناشىء عن المال تراب؛ لأن جميع ما في الدنيا تراب، ولا يخفى بعدُه، وقيل: معناه: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4941)، وعند مسلم برقم (1445/ 7). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2501). (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود (2057). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 151).

ضعف عقلك، وقيل: افتقرتِ من العلم، وقيل: فيه شرط مقدر؛ أي: وقع لك ذلك إن لم تفعلي، ورجحه ابن العربي (¬1). (قال عروةُ) بنُ الزبير بن العوام: (فبذلك) بما تقدم من أمر أفلح أخي أبي القعيس، وأمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَلَّا تحتجب منه، لكونه عمَّها من الرضاعة، (كانت) خالته (عائشةُ) - رضي الله عنها - (تقول: حرِّموا من الرضاعة ما يحرم من النسب)، وظاهر هذا: الوقف. وقد أخرجه مسلم من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن مالك، عن عروة في هذه القصة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحتجبي منه، فإنّه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" (¬2). وقد جاءت هذه الزيادة عن عائشة مرفوعة من وجه آخر. (وفي لفظ) عندهما، قالت: (استأذن عليَّ أفلحُ) أخو القعيس (فلم آذنْ له) أن يلج عليّ، (فقال) أفلح: (أتحتجبين مني وأنا عمُّكِ) من الرضاعة؟ (فقلت: كيف ذلك، قال: أرضعتكِ امرأة أخي) منها (بلبن أخي) أبي القعيس، واللبن يضاف إلى الفحل، لم أقف على اسمها. (قالت) عائشة - رضي الله عنها -: (فسألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -) عن قوله، وإباحة نظري إليه ونظره إلي، وثبوت المحرمية بما قال، (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (صدق أفلحُ ائدني، له) فليلج عليك؛ لأنه عمك من الرضاعة، فينشر لَبَنُ الفحل الحرمةَ لمن أرضع الصغير بلبنه، فلا تحل له بنت زوج المرأة التي أرضعته من غيرها مثلًا، وفيه خلافٌ قديم حكي عن ابن عمر، وابن الزبير، ورافع بن خديج، وزينبَ بنتِ أم سَلَمة، وغيرهم، ونقله ابن بطال عن ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (5/ 135). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1445/ 9).

عائشة، وفيه نظر، ومن التابعين عن سعيد بن المسيب، وأبي سَلَمة، والقاسم، وسالم، وسليمان بن يسار، وعطاء بن يسار، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبي قلابة، وإياس بن معاوية، أخرجها ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن المنذر. وعن ابن سيرين: نبئت أنّ ناسًا من أهل المدينة اختلفوا فيه. وعن زينبَ بنتِ أبي سَلَمة: أنها سألت -والصحابة متوافرون وأمهاتُ المؤمنين-، فقالوا: الرضاعة من قبل الرجل لا تحرم شيئًا (¬1)، وقال به من الفقهاء: ربيعةُ الرأي، وإبراهيمُ بنُ عليّة، وابنُ بنت الشافعي، وداودُ الظاهري وأتباعه، فتخصيصُ القاضي عياض ومن تبعه نسبة ذلك لداودَ وإبراهيمَ بنِ عليّةَ غريب، مع وجود الرواية عمن ذكرنا، وحجّتهم: ظاهر قوله -تعالى-: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23]، ولم يذكر العمّة، ولا البنت كما ذكرهما في النسب. والجواب عن ذلك بأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدلّ على نفي الحكم عمّا عداه، ولا سيما والأحاديث الصحيحة التي جاءت بتحريم من ذكروا صريحة. واحتج بعضهم من حيث النظر بأن اللبن لا ينفصل إلا عن المرأة، فكيف ينشر الحرمة إلى الرجل؟ والجواب: أنه قياس في مقابلة النص، فلا يعتبر، و-أيضًا- سبب اللبن ماء الرجل والمرأة معًا، فيجب أن يكون الرضاع منهما، ولهذا أشار ابن ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 230)، وفي "الأم" (7/ 265 - 266).

عباس في هذه المسألة بقوله: اللقاح واحد، أخرجه ابن أبي شيبة (¬1)، و -أيضًا- الوطء يُدِرُّ اللبن، فللفحل فيه نصيب، ولهذا ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، كالأوزاعي في أهل الشام، والثوري، وأبي حنيفة وصاحبيه في أهل الكوفة، وابن جريج في أهل مكة، ومالك في أهل المدينة، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأتباعهم: إلى أن لبن الفحل يُحَرِّم، وحجتهم هذا الحديث الصحيح. وألزم الشافعي المالكيةَ في هذه المسألة بردّ أصلهم بتقديم عمل أهل المدينة، ولو خالف الحديث الصحيح، إذا كان من الآحاد، لما رواه عن عبد العزيز بن محمّد عن ربيعة من أنّ لبن الفحل لا يحرم، قال عبد العزيز: وهذا رأي فقهائنا إلّا الزهري، فقال الشافعي: لا نعلم شيئًا من علم الخاصّة أولى بأَلَّا يكون عامًّا ظاهرًا من هذا وقد تركوه للخبر الوارد، فيلزمهم على هذا إما أن يردّوا هذا الخبر، وهم لم يردّوه، أو يردُّوا ما خالف الخبر على كل حال، وهو المطلوب. قال القاضي عبد الوهاب من المالكية: يُتصور تجريدُ لبن الفحل برجل له امرأتان، ترضع إحداهما بنتًا، والأخرى صبيًّا، فالجمهور قالوا: يحرم على الصبي تزوجُ الصبية، وقال من خالفهم: يجوز. قال في "الفتح": وألزم به بعضهم من أطلق من الحنفية القائلين: الصحابي إذا روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، وصحّ عنه، ثم صح عنه العمل بخلافه أن العمل بما رأى، لا ما روى؛ لأن عائشة صحّ عنها أنه لا اعتبار للبن الفحل، ذكره مالك في "الموطأ"، وسعيد بن منصور في "السنن"، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (17348). وكذا الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 602).

وأبو عبيد في كتاب "النكاح " بإسنادٍ حسن، وأخذ الجمهور، ومنهم الحنفية بخلاف ذلك، وعملوا براويتها ولو كان روى هذا الحكم غير عائشة، لكان لهم معذرة، لكنه لم يروه غيرها، وهدا إلزامٌ قويّ (¬1)، انتهى. تنبيه: المقصود الأعظم من هذا الحديث كونُ لبن الفحل يحرّم، وهو متفق عليه بين الأئمة الأربعة، وكذا عند جمهور الأئمة، وأكثر الأمّة. وفي "العيني": المعروف عن داود موافقة الأئمة الأربعة في ذلك، حكاه ابن حزم عنه في "المحلى" (¬2)، وكذا ذهب إليه ابن حزم، انتهى (¬3). وفي الحديث: دليلٌ على أنّ من ادّعى الرضاع، وصدّقه الرضيع، ثبت حكم الرضاع بينهما ولا يحتاج إلى بَيِّنة؛ لأن أفلح ادَّعاه، وصدّقته عائشة، وأذن الشارع بمجرد ذلك، وتُعُقِّب باحتمال كون الشارع اطلع على ذلك من غير دعوى أفلح وتسليم عائشة. واستدل به على أنّ قليل الرضاع يحرّم كما يحرّم كثيره، لعدم الاستفصال فيه ولا حجّة فيه؛ لأن عدم الذكر لا يدل على العدم المحض. وفيه: أنّ من شك في حكم يتوقف حتى يسأل العلماء عنه، وأن من اشتبه عليه الشيء، طالب المدّعي ببيانه ليرجع إليه أحدهما، وأن العالم إذا سُئل، يُصدق من قال: الصواب فيه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - عن أفلح: "صدق". وفيه: وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب، ومشروعية استئذان المحرم على محرمه، وأنّ المرأة لا تأذن في بيت الرجل إلّا بإذنه. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 151 - 152). (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 4). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 205).

وفيه: جواز التسمية بأفلح. ويؤخذ منه: أنّ المستفتي إذا بادر بالتعليل قبل سماع الفتوى، أنكر عليه، لقوله -عليه الصلاة والسلام- لعائشة: "تربت يمينك"، فإن فيه إشارة إلى أنه كان من حقها أن تسأل عن الحكم فقط، ولا تعلل (¬1)، والله -تعالى- أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 152).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْها - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَعِنْدِي رَجُلٌ، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ؟ مَنْ هَذَا؟ "، قُلْتُ: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ! انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانكُنَّ، فَإنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ" (¬1). * * * (عنها)؛ أي: أم المؤمنين عائشة - (رضي الله عنها - قالت: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ذات يوم (وعندي رجل)، زاد في رواية: قاعد، الواو فيه ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2504)، كتاب: الشهادات، باب: الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض، والموت القديم، واللفظ له، و (4814)، كتاب: النكاح، باب: من قال: لا رضاع بعد حولين، ومسلم (1455)، كتاب: الرضاع، باب: إنما الرضاعة من المجاعة، وأبو داود (2058)، كتاب: النكاح، باب: في رضاعة الكبير، والنسائي (3312)، كتاب: النكاح، باب: القدر الذي يحرم من الرضاعة، وابن ماجه (1945)، كتاب: النكاح، باب: لا رضاع بعد فصال. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 184)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 190)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 80)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1392)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 146)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 206)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 32)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 214)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 121).

للحال، قالت: فاشتدّ ذلك عليه، ورأيتُ الغضب في وجهه (¬1) (فقال: يا عائشة! مَنْ هذا؟)، وفي روايةٍ: فشق عليه ذلك، وتغير وجهه (¬2)، فـ (قلت: أخي من الرضاعة). وأخرجه الإمام أحمد بدون زيادة: من الرضاعة (¬3)، وذكره أبو داود بها من طريق شعبة وسفيان (¬4). قال في "الفتح": لم أقف على اسمه -يعني: أخاها من الرضاعة-، قال: وأظنه ابنًا لأبي القُعيس، وغلط من قال: هو عبد الله بن يزيد رضيعُ عائشة؛ لأن عبد الله هذا تابعي باتفاق الأئمة، وكأن أمه التي أرضعت عائشة عاشت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فولدته، فلهذا قيل له: رضيع عائشة (¬5). (فقال) - عليه الصلاة والسلام -: (يا عائشة! انظرن) من النظر الذي هو التأمل والتفكر (من) استفهامية، وفي لفظ: ما (إخوانكنَّ) (¬6)، وفي رواية مسلم: "إخوتُكن" (¬7)، وكلاهما جمع أخ، والمعنى تَأْمَّلْنَ ما وقع من ذلك، هل هو رضاع صحيح بشرطه، من وقوعه في زمن الرضاع، ومقدار الارتضاع؟ فإن الحكم الذي ينشأ عن الرضاع إنما يكون إذا وقع الرضاع المشترط. قال المهلب: معناه: انظرن ما سبب هذه الأخوة، فإن حرمة الرضاع إنما هي في الصغر حتى تسدّ الرضاعة المجاعة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1455). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5749). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 94). (¬4) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2058). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 147). (¬6) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (3312). (¬7) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1455).

وقال أبو عبيد: معناه: أن الذي جاع كان طعامه الذي يشبعه اللبن من الرضاع، لا حيث يكون الغذاء بغير الرضاع (¬1)، ولهذا علل ذلك بقوله: (فإنما الرضاعة) الفاء للتعليل لقوله: "انظرنَ"؛ أي: أَمْعِنَّ النظرَ والتفكُّرَ؛ لأن الرضاعة (من المجاعة)؛ أي: الرضاعة التي تثبت بها الحرمةُ، وتحصل لأجلها الخلوة، وتجعل الرضيع محرمًا: هي حيث يكون الرضيع طفلًا يسدّ اللبنُ جوعته؛ لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت بذلك لحمه، فيصير كجزء من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فكأنه قال: لا رضاعة معتبرة إلا المغنية عن المجاعة، أو المطعمة من المجاعة، كقوله -تعالى-: {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} (¬2) [قريش: 4]. ومن شواهده: حديثُ ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لا رضاعة إلا ما شدّ العظم، وأنبت اللحم" أخرجه الترمذي في "صحيحه" (¬3)، وحديث أم سَلَمة - رضي الله عنها -، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُحَرِّمُ من الرضاع إلّا ما فتقَ الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام" رواه الترمذي في "صحيحه" (¬4)، وحديث ابن عباس مرفوعًا: "لا رضاع إلّا ما كان في ¬

_ (¬1) انظر "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 149). وانظر "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148). (¬3) رواه أبو داود (2059)، كتاب: النكاح، باب: في رضاعة الكبير، موقوفًا. ورواه -أيضًا- (2065)، مرفوعًا. ولم يروه الترمذي في "سننه"، ولعلّه سبق قلم من الشارح -رحمه الله-، إذ إنه ينقل عن الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 148)، وعبارته هناك: "أخرجه أبو داود مرفوعًا وموقوفًا"، والله أعلم. (¬4) رواه الترمذي (1152)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء ما ذكر أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين.

الحولين" رواه الدارقطني (¬1)، وحديث جابر مرفوعًا: "لا رضاعَ بعد فصال-، ولا يُتْمَ بعدَ احتلام" رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (¬2). قال في "الفتح": ويمكن أن يستدل به؛ أي: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنما الرضاعة من المجاعة" على أن الرضعة الواحدة لا تحرّم؛ لأنها لا تغني من جوع، وإذا كان يحتاج إلى تقدير، فأولى ما يؤخذ به ما قدرته الشريعة، وهو خمس رضعات (¬3)، وكذا قال العيني (¬4)، وقيل: معناه: أن المصّة والمصّتين لا تسد الجوع، وكذا الرضاع بعد الحولين، وإن بلغ خمس رضعات، وإنّما يحرم إذا كان في الحولين قدر ما يدفع المجاعة، وهو ما قدرت به السنة، يعني: خمسًا، فلا بُدّ من اعتبار المقدار والزمان (¬5). قلت: وإنما لم يذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- ما يدلُّ على اعتبار العدد لأجل التحريم اعتمادًا على هذا المفهوم، ولأن أحاديث اعتبار العدد من أفراد مسلم، ففي حديث عائشة - رضي الله عنها -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحرِّمُ المصّةُ والمصّتان" رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬6)، وفي "مسلم" عن أم الفضل: أنّ ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 174)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 462). (¬2) رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (1767)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 447). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (20/ 97). (¬5) المرجع السابق، (13/ 206). (¬6) رواه الإمام حمد في "المسند" (6/ 31)، ومسلم (1450)، كتاب: الرضاع، باب: في المصة والمصتان، وأبو داود (2063)، كتاب: النكاح، باب: هل =

رجلًا سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أتحرم الرضعةُ والرضعتان، والمصّةُ والمصّتان؟ (¬1) وفي رواية: قالت: دخل أعرابي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيتي، فقال: يا فني الله! إني كانت لي امراة، فتزوجتُ عليها أخرى، فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدث رضعة أو رضعتين، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحرم الإملاجةُ ولا الإملاجتان" رواهما مسلم (¬2)، وفي لفظ: "الملجة والملجتان" (¬3). قال في "النهاية": الملج: المَصُّ، يقال: ملجَ الصبيُّ أمّه يملجها ملجًا، الملجة والإملاجة: المرة، يعني: أنّ المصّة والمصّتين لا يحرمان ما يحرمه الرضاع الكامل، ومنه الحديث: "فجعل مالكُ بنُ سنان يملج الدّم بفيه من وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ازْدَرَدّه (¬4)؛ أي: مصّه، ثم ابتلعه. وروي: "الملحة والملحتان" (¬5) -بالحاء المهملة- بدل الجيم. قال في "النهاية": أي: الرضعة والرضعتان، قال: وأما بالجيم، فهي المصّة، والملح -بالفتح والكسر-: الرضع (¬6). ¬

_ = يحرم ما دون خمس رضعات، والنسائي (3310)، كتاب: النكاح، باب: القدر الذي يحرم من الرضاعة، والترمذي (1150)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، وابن ماجه (1941)، كتاب: النكاح، باب: لا تحرم المصة ولا المصتان. (¬1) رواه مسلم (1451/ 20)، كتاب: الرضاع، باب: في المصة والمصتان، بلفظ: "لا تحرم الرضعة أو الرضعتان، أو المصة أو المصتان". (¬2) رواه مسلم (1451/ 18)، كتاب: الرضاع، باب: في المصة والمصتان. (¬3) كذا ذكره ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" (4/ 353). (¬4) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (20/ 385)، من طريق الواقدي، به. (¬5) رواه الخطابي في "غريب الحديث" (1/ 571). (¬6) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 353 - 354).

وفي حديث عبد الله بن الزبير مرفوعًا: "لا يحرم من الرضاع المصّة والمصّتان" رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي (¬1). وعن عائشة - رضي الله عنها -: أنها قالت: كان فيما نزل من القرآن أنّ عشرَ رضعاتٍ معلومات يُحَرِّمْنَ، ثم نُسخن بخمسٍ معلوماتٍ، فتوفي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فيما نقرأ من القرآن، روإه مسلم، وأبو داود، والنسائي (¬2). وفي لفظ: وهي تذكر الذي يحرم من الرضاعة: نزل في القرآن: عشرُ رضعات معلومات، ثم نزل -أيضًا- خمسٌ معلومات، رواه مسلم (¬3). وفي لفظٍ قالت: أنزل في القرآن: عشرُ رضعاتٍ معلومات، فنُسخ من ذلك خمس، وصارت إلى خمس رضعاتٍ معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك، رواه الترمذي (¬4). تنبيهات: الأوّل: المُحَرِّمُ إنما هو التغذيةُ بلبن المرضِعة، سواء كان بشرب، أم الحل بأي صفة كان، حتى الوجور والسعوط والثرد والطبخ، وغير ذلك، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 4)، والنسائي (3309)، كتاب: النكاح، باب: القدر الذي يحرم من الرضاعة، والترمذي (3/ 455)، عقب حديث (1150)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان. (¬2) رواه مسلم (1452/ 24)، كتاب: الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات، وأبو داود (2062)، كتاب: النكاح، باب: هل يحرم ما دون خمس رضعات، والنسائي (3307)، كتاب: النكاح، باب: القدر الذي يحرم من الرضاعة. (¬3) رواه مسلم (1452/ 25)، كتاب: الرضاع، باب: التحريم بخمس رضعات. (¬4) رواه الترمذي (3/ 456)، عقب حديث (1150)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان.

وإذا وقع ذلك بالشرط المذكور من العدد في الأمد لأن كلّ ذلك يطرد الجوع، وبهذا قال الجمهور، نعم استثنى الحنفية الحقنة، كما في "الفتح" (¬1). قلت: وهو مذهبنا. قال في "الفروع": ويُحَرِّمُ لبنٌ حُلب من ميتة كحلبِه من حية، ثم شُرب بعدَ موتها, لا حقنة، نصّ عليهما؛ لأن العلة انتشار العظم وإنبات اللحم لا حصوله في الجوف فقط، بخلاف الحقنة بخمر، وخالف الخلال في الأولى، فذكرها ابن عقيل وغيره رواية, وابن حامد في الثانية، ويحنث به من حلف لا يشرب من لبنها، ذكره في "الانتصار"، ولا أثر لواصلٍ جوفاً لا يغذي، كمثانة وذَكَر (¬2). وجزم متأخرو علمائنا بعدم انتشار الحرمة بالحقنة (¬3)، فَعَزْوُ الحافظ ابن حجر ذلك للحنفية فقط تقصير، والله أعلم. وقال الليثُ وأهلُ الظاهر: الرضاعة المحرِّمَةُ لا تكون إلا بالتقام الثدي، ومصّ اللبن منه. وأورد على ابن حزم أنه يلزم على اعتبارهم التقامَ الثدي إشكال في التقام سالم ثديَ سهلة زوجةِ أبي حذيفة - رضي الله عنهم (¬4) -، وهي أجنبية منه، فإن عياضاً إنما أجاب عن الإشكال باحتمال أنها حلبته، ثم شربه من غير أن يمسّ ثديها. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 436). (¬3) انظر: "القناع" للحجاوي (4/ 30). (¬4) سيأتي تخريجه.

قال الإِمام النووي: وهو احتمال حسن (¬1)، لكنه لا يفيد ابن حزم؛ لأنه لا يكتفى في الرضاع إلا بالتقام الثدي، نعم قال النووي: إنه عني عن ذلك للحاجة، وأما ابن حزم، فاستدل بقصة سالم على جواز مسّ الأجنبي ثديَ الأجنبية والتقام ثديها إذا أراد أن يرتضع منها مطلقًا (¬2). الثاني: المعتبرُ كونُ الرضاعة في حال الطفولة؛ لأنها الحال الذي يمكن طرد الجوع فيها باللبن، بخلاف حال الكبر، وضابط ذلك بتمام الحولين -كما تقدم-، وعليه دلّ حديث ابن عباس، وحديث أم سَلَمة، وحديث جابر -كما تقدمت الإشارة إلى ذلك-، فهذه قاعدة كلّية صريحة في اعتبار الرضاع في الزمن الذي يستِغني به الرضيع عن الطعام باللبن (¬3)، ويَعتضد بقوله -تعالى-: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، فإنه يدل على أن هذه أقصى مدّة الرضاع المحتاج إليه عادة، المعتبر شرعًا، وما زاد عليه، فلا يحتاج إليه عادةً، ولا يعتبر شرعًا، إذ لا حكم للنادر، وفي اعتبار إرضاع الكبير انتهاكُ حرمة المرأة بارتضاع الأجنبي، منها لاطلاعه على عورتها ولو بالتقام ثديها (¬4). وهذا مذهب الإِمام أحمد، والجمهور، كالإمام مالك، والشافعي، وبه قال أبو يوسف، ومحمد صاحبا أبي حنيفة. وقال أبو حنيفة: المدة المعتبرة لذلك ثلاثون شهرًا. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 31). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148). (¬3) ذكر هذه القاعدة: القرطبي في "المفهم" (5/ 188). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 148).

وقال زفر: ثلاث سنين، كما نقله العيني في "شرح البخاري" (¬1). قال أبو الخطاب من أئمة علمائنا: لو ارتضع بعد الحولين بساعة، لم يحرِّم. وقال القاضي أبو يعلى، وصاحب "الترغيب": لو شَرَع في الخامسة -يعني: من الرضعات-، فحال الحول -يعني: الثاني- قبل كمالِها, لم يثبت التحريم. قال الإِمام الموفق عن قول القاضي، وصاحب "المستوعب": لا يصح هذا؛ لأن ما وجد من الرضعة في الحولين كافٍ في التحريم، بدليل ما لو انفصل مما بعده. واختار شيخ الإِسلام تقي الدين بن تيمية ثبوتَ الحرمة بالرضاع إلى الفطام، ولو بعد الحولين، أو قبلهما، فأناط الحكم بالفطام، سواء كان قبل الحول، أو بعده (¬2). وخالفت عائشة - رضي الله عنها - في ذلك، فلم تعتبر كون الرضاعة في الحولين، ولم تفرق في حكم الرضاع بين حال الصغر والكبر، وقد استشكل ذلك مع كون هذا الحديث من روايتها، واحتجت لمذهبها بقصة سالم مولى أبي حذيفة، فعن زينبَ بنتِ أم سَلَمة، قالت: قالت أم سلَمَةَ لعائشة: إنه يدخل عَلَيَّ الغلامُ الأيفعُ، ما أحبُّ أن يدخل عليّ، فقالت عائشة: مالك في رسول الله أسوة حسنة؟ وقالت: إنّ امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله! إنّ سالمًا يدخل عليّ، وهو رجل وفي نفس ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 207). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 334).

أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرضعيه حتى يدخل عليك" رواه الإِمام أحمد، ومسلم (¬1). وفي رواية عن زينب، عن أمها أم سَلَمة: أنها قالت: أبي سائرُ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُدخلن عليهنّ أحدًا بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: ما نرى هذا إلا رخصةً أرخصَها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لسالمٍ خاصّة، فما هو داخلٌ علينا أحدٌ بهذه الرضاعة، ولا رائينا، رواه الإِمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه (¬2). وفي "مسلم" -أيضًا- عن عائشة - رضي الله عنها -، قالت: جاءت سهلةُ بنتُ سُهيل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، وهو حليفه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرضعيه"، قالت: وكيف أرضعه وهو رجلٌ كبير؟! فتبسَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "قد علمتُ أنه رجل كبير". وفي رواية: فضحك رسول الله، وقال: "قد علمت أنه رجل كبير". وفي رواية: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي أخرى: وقد شهد بدرًا (¬3). وفي لفظ: فقالت: إن سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة شيئًا من ذلك، فقال: "أرضعيه تَحْرُمي عليه"، ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (6/ 174)، ومسلم (1453/ 29)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير. (¬2) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (6/ 312)، ومسلم (1454)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير، والنسائي (3325)، كتاب: النكاح، باب: رضاع الكبير، وابن ماجه (1947)، كتاب: النكاح، باب: لا رضاع بعد فصال. (¬3) رواه مسلم (1453/ 26)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير.

فرجعتُ إليه فقلت: إني قد أرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة (¬1). واسم أبي حذيفة مهشم، على المشهور، وقيل: هاشم، وقيل غير ذلك، وهو ابن عتبة بن ربيعة خال معاوية بن أبي سفيان، وكان سالم حليفًا له، فكان يأوي معه ومع امرأته سهلةَ في بيت واحد، وكان يراها متبذِّلَةً في ثياب مهنتها، وربما تكون في ثوب واحد، وربما تكون مكشوفة الرأس والصدر، وقد كان استشهاد سالم وأبي حذيفة جميعًا يومَ اليمامة في خلافة الصدِّيق (¬2). وفي البخاري من حديث عائشة - رضي الله عنها -: أن أبا حذيفة بنَ عتبةَ بنِ ربيعةَ بنِ عبدِ شمس، وكان ممن شهد بدرًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تبنى سالمًا، وأنكحه بنتَ أخيه هند بنتَ الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو -أي: سالم- مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زيدًا، وكان من تبنى رجلًا في الجاهلية، دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله تعالي: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] إلى قوله: {وَمَوَالِيكُمْ}، فرُدوا إلى آبائهم، فمن لم يعلم له أبًا، كان مولًى وأخًا في الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشيِّ ثم العامريِّ، وهي امرأة أبي حذيفة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! إنّا كنّا نربي سالمًا ولدًا، وقد أنزل الله ما [قد] (¬3) علمتَ، فذكر الحديث هكذا في البخاري (¬4)، وساق البرقاني وأبو داود بقيته، ولفظه: فكيف ترى فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرضعيه"، فأرضعته خمسَ رضعات، فكان بمنزلة ولدِها من الرضاعة، فبذلك كانت عائشة تأمر ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1453/ 27)، كتاب: الرضاع، باب: رضاعة الكبير. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 133). (¬3) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬4) رواه البخاري (4800)، كتاب: النكاح، باب: الأكفاء في الدين.

بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يُرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيرًا، خمسَ رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت أم سلَمَة: وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحدًا من الناس، حتى يرضع في المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندري، لعلها رخصة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسالم دون الناس (¬1). قال في "الفتح": وذكر الطبري في "تهذيب الآثار" في مسند عليّ هذه المسألةَ، وساق بإسناده الصحيح عن حفصةَ مثلَ عائشة، وهو مما يخص به قول أم سلَمَة: أبي سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُدخلن عليهنَّ بتلك الرضاعة أحدًا، ونقله الطبري عن عبد الله بن الزبير، والقاسم بن محمَّد، وعروة في أخوين، وفيه تعقب على القرطبي، حيث خصّ الجواز بعد عائشة بداود، وفي نسبته ذلك لداود نظر، فإن ابن حزم ذكر عن داود أنه مع الجمهور، وكذا نقل غيره من أهل الظاهر، وهم أخبرُ بمذهب صاحبهم، وإنما الذي نصرَ مذهب عائشة هذا، وبالغ في ذلك ابنُ حزم، ونقله عن علي - رضي الله عنه -أيضًا-، وهو من رواية الحارث الأعور عنه، فلذلك ضعفه ابن عبد البر (¬2)، وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج، قال رجل لعطاء: إن امرأة سقتني من لبنها بعدَ ما كبرتُ، أفأنكِحُها، قال: لا، قال ابن جريج: فقلت له: هذا رأيك؟ قال: نعم، كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها (¬3)، وهو قول الليث بن سعد، قال ابن عبد البر: لم يختلف عنه في ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2061)، كتاب: النكاح، باب: فيمن حرم به. (¬2) انظر: "الاستذكار" (6/ 255)، و"التمهيد" كلاهما لابن عبد البر (8/ 256). (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (13883). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 149).

قلت: واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية ثبوتَ الحرمه بالرضاع، ولو كان المرتضِع كبيرًا، للحاجة، نحو كونه محرمًا، لقصة سالم مولى أبي حذيفة مع زوجة أبي حذيفه (¬1). وأجاب الجمهور عن قصة سالم بأجوبة: منها: أنه حكمٌ منسوخ، وبه جزم المُحِبُّ الطبري في "أحكامه"، وقرره بعضهم بأن قصة سالم كانت في أوائل الهجرة، والأحاديث الدالة على اعتبار الحولين من رواية أحداث الصحابة، فدلّ على تأخرها. وهو مستند ضعيف، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوي ولا صغره أَلاَّ يكون ما رواه متقدمًا، وأيضًا، ففي سياق قصة سالم ما يُشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين، لقول امرأة أبي حذيفة: كيف أرضعه وهو كبير؟ فهذا يشعر أنها كانت تعرف أنّ الصغر معتبر في الرضاع المحرِّم. ومنها: دعوى الخصوصية بسالم وامرأة أبي حذيفة، والأصل في هذا قولُ أم سَلَمة وأزواجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما نرى هذا إلّا رخصةً أرخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسالم خاصّة، وقرره ابن الصباغ وغيره بأن أصل قصة سالم ما كان وقع من التّبنّي الذي أدّى إلى اختلاط سالم بسهلة، فلما نزل الاحتجاب، ومُنعوا من التبني، شقّ ذلك على سهلةَ، فوقع الترخيصُ لها في ذلك لرفع ما حصل لها من المشقة، وهذا فيه نظر؛ لأنه يقتضي إلحاق من يساوي سهلة في المشقة والاحتياج بها، فتنتفي الخصوصية، وثبت مذهب المخالف، لكن بقيد الاحتياج. قلت: وهذا الذي التزمه شيخ الإِسلام ابن تيمية، واختاره، وقرره آخرون بأن الأصل أن الرّضاع لا يحرِّم، فلما ثبت ذلك في الصغر، خولف ¬

_ (¬1) نقله المرداوي في "الإنصاف" (9/ 334)، وعنه: نقل الشارح -رحمه الله-.

الأصل له، وبقي ما عداه على الأصل، وقصة سالم واقعةُ عين يتطرقها احتمالُ الخصوصية، فيجب الوقوف عن الاحتجاج بها. قال في "الفتح" عن السبكي: أنه رأى في تصنيفٍ لمحمد بنِ خليلٍ الأندلسيِّ في هذه المسألة أنه توقف في أنه صحّ عن عائشة، وأنه صحّ عنها الفتيا بذلك، لكن لم يقع منها إدخالُ أحد من الأجانب بتلك الرضاعة. قال تاج الدين السبكي: وظاهر الأحاديث ترد عليه، قال: وليس عندي فيه قول جزم، لا من قطع، ولا ظن غالب، كذا قال الحافظ ابن حجر، وفيه غفلة عما ثبت عند أبي داود في هذه القصة: فكانت عائشة تأمر بنات أخواتها أن يرضعن من أحبّت أن يدخل عليها أو يراها، وإن كان كبيرًا، خمسَ رضعات، ثم يدخل عليها -كما تقدم (¬1) -، وإسناده صحيح، وهو صريح، فأيُّ ظنٍّ غالب وراء هذا؟ (¬2) والله الموفق. الثالث: اختلف في القدر المحرِّم من الرضاع، فمذهب الإِمام أحمد، والإمام الشافعي: لا يثبت حكم الرضاع بأقل من خمس رضعات، وقال به ابنُ حزم. قال في "الكافي": ولا تثبت الحرمة إلا أن يرضع خمسَ رضعات (¬3)، قال في شرحه: هذا ظاهر المذهب، وهذا المذهب بلا ريب. [قال المصنف -يعني: الإِمام الموفق-، والشارح -يعني: ابن أخيه-: هذا الصحيح من المذهب] (¬4). ¬

_ (¬1) برقم (2061) عنده. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 149). (¬3) انظر: "الكافي" لابن قدامة (3/ 342). (¬4) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

وكذا قال المجد في "محرره" (¬1)، وغيره. قال الزركشي: هو مختار أصحابه، متقدِّمِهم ومتأخِّرِهم (¬2)، وجزم به في "الوجيز"، وغيره، وقدمه في "الفروع" (¬3)، وغيره. وعنه: ثلاثٌ يحرِّمْنَ (¬4). وبه قال إسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وداود وأتباعُه إلاّ ابنَ حزم، وحجتُهم مفهومُ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحرم الرضعة والرضعتان" (¬5)، فإن مفهومه: أن الثلاث تحرِّم، وأغرب القرطبيُّ فزعم أنه لم يقل به إلا داودُ (¬6)، وتقدمت الأحاديث الصحيحة الصريحة باعتبار الخمس. وقال أبو حنيفة، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، ورواية مشهورة عن أحمد: يثبت حكم الرضاع برضعة واحدة، واحتجّ أبو حنيفة بإطلاق قوله -تعالى-: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ولم يذكر عددًا، والتقييد به زيادة، وهو نسخ، قاله العيني (¬7)، وفيه نظر لا يخفى، وحديث الخمس جاء من طرق صحيحة لا يسوغ ردّها، والسنّة تبين المجمل من كتاب الله -تعالى-، وتقيد المطلق منه، والله -تعالى- أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر" للمجد ابن تيمية (2/ 112). (¬2) انظر: "شرح الزركشي على الخرقي" (5/ 586). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 436). (¬4) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (9/ 334). (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 187). (¬7) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 206).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتكمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِك لرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَعْرَضَ عَنِّي، قالَ: فَتنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: "كيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنْ قَدْ أَرْضَعَتكمَا؟ " (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2516)، كتاب: الشهادات، باب: شهادة الإماء والعبيد، و (2517)، باب: شهادة المرضعة، و (4816)، كتاب: النكاح، باب: شهادة المرضعة، وأبو داود (3603)، كتاب: الأقضية، باب: الشهادة في الرضاع، والنسائي (3330)، كتاب: النكاح، باب: الشهادة في الرضاع، والترمذي (1151)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في شهادة المرأة الواحدة في الرضاع. قلت: الحديث من أفراد البخاري، ولم يخرجه مسلم، بل لم يخرج في "صحيحه" عن عقبة بن الحارث شيئًا، كما قال الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 298). وقد فات الشارح -رحمه الله- التنبيه عليه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 170)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 93)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 81)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1394)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 269)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 166)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 33)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 218)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 125).

(عن) أبي سِرْوَعَةَ -بكسر السين المهملة وسكون الراء وفتح الواو والعين المهملة- (عُقْبَةَ) -بضم العين المهملة وسكون القاف، فموحدة، فهاء تأنيث- (بنِ الحارثِ) بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصيٍّ القرشيِّ النوفليِّ، أسلم بعد فتح مكة، هذا على قول المحدِّثين، وأما أهلُ النسب- غير مصعب الزبيري، فيقولون: إن عقبة هذا أخو أبي سِرْوَعَة، وأنهما أسلما جميعًا يوم الفتح، وعِدادُ عقبةَ في أهل مكة، وهو الذي قتل خُبيبًا، على ما صححه ابنُ عبد البر، رواه بسنده عن جابر بن عبد الله. روى له البخاري ثلاثة أحاديث، وأخرج له -أيضًا- مسلمٌ، وأبو داود (¬1) (أنه)؛ أي: عقبة المذكور (تزوج أُمَّ يحيى) الصحابيةَ، اسمها غَنِيَّةَ -بفتح الغين المعجمة، وكسر النون وتشديد المثناة تحت- كما قاله الأمير بن ماكولا (¬2)، والحافظ ابنُ حجر في باب: الرحلة في المسألة النازلة مِن كتاب: العلم في "الفتح" (¬3). وقال المزي في "الأطراف": اسمها زينب. قال البرماوي في "شرح الزهر البسام": والجمهور لم يذكروا لها اسمًا. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 447)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 430)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 309)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 279)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 490)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1072)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 48)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 308)، و"تهذيب الكمال" للمزي (20/ 192)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 518)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 212). (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 453 - 454). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 184).

(بنتَ أبي إهاب) -بكسر الهمزة- لا يعرف اسمه كما في "الفتح" وهو مذكورٌ في الصحابة (¬1). (فجاءت أَمَةٌ سوداءُ). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": ما عرفتٌ اسمَ هذه الأمَة السوداء المرضعة بعد (¬2)، (فقالت)؛ أي: الأمَةُ السوداء: (قد أرضعتكما)؛ تعني: الزوجين عقبةَ بنَ الحارث وأمَّ يحيى المذكورَين، قال عقبةُ بنُ الحارث: (فذكرت ذلك)؛ أي: قول الأمَة السوداء إنها أرضعته وأرضعت زوجته أم يحيى (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه مزيد الأهتمام والاحتياط للفروج، وسؤال من لم يعلم الحكمَ لمن يعلم، وقد كان عقبة في مكة، فركب منها إلى المدينة كما في "الصحيحين" وغيرهما: أنه تزوج بنتًا لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعتُ عقبةَ والتي تزوج بها، فقال لها عقبةُ: ما أعلم أنك أرضعتيني ولا أخبرتيني-؛ أي:-بكسر المثناة-؛ أي: قبل ذلك، كأنه اتهمها، فأرسل إلى آل أبي إهاب يسألهم، فقالوا: ما علمنا أرضعت صاحبتَنا، فركب؛ أي: من مكة؛ لأنها كانت دار إقامته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فسأله (¬3)، قال عقبة: (فأعرضَ عني)، وفي رواية "المستملي": فأعرض عنه، وفيه التفات، (قال) عقبة: (فتنحيتُ)، أي: انصرفت، ودرت إلى [جهة] (¬4) وجهه - صلى الله عليه وسلم -، (فذكرت ذلك)؛ أي: قولَ ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 184). (¬2) المرجع السابق، (5/ 268). (¬3) رواه البخاري (88)، كتاب: العلم، باب: الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله. ولم يروه مسلم في "صحيحه" كما تقدم. (¬4) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

السوداء وزعمَها الذي زعمته - (له) -عليه الصلاة والسلام - (قال) - صلى الله عليه وسلم -: (كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟) فنهاه، وفي رواية: فقال: "وكيف وقد قيل؟ دعها عنك" (¬1)، ففارقها، ونكحت زوجًا غيره. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": اسم هذا الزوج ظُرَيْب -بضم المعجمة المشالة وفتح الراء وآخره موحدة مُصَغَّرًا- (¬2). قال الكرماني في "شرح البخاري": أمرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمفارقة بقوله: "كيف وقد قيل؟ " كالحكم، وإخبار المرضعة كالشهادة (¬3). وقال في "الفتح": المرضعة أثبتت الرّضاع، وعقبة نفاه، فأعملَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قولَها، فأمره بالمفارقة، إمّا وجوبًا عند من يقول به، وإمّا ندبًا على طريق الورع (¬4)، واعترضه العيني بأن في كلٍّ منهما نظر، أمّا الأول: ففيه التجوز، وأمّا الثاني: فلو لاحظ صورة ما علمت، لكان أقرب وأوجه؛ لأنه فيه نفي العلم (¬5)، انتهى. واستدل الحافظ المصنف بالحديث المذكور على قبول شهادة المرضعة وحدَها في ثبوت حكم الرضاعة (¬6)، على قاعدة معتمد مذهب الإِمام أحمد. وقد أغرب ابن بطال، فنقل الإجماع على أنّ شهادة المرأة وحدها ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2517). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 185). (¬3) وانظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 199). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 251). (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 199). (¬6) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 81).

لا تجوز في الرضاع وشبهه، وهو عجيب منه، فإنه قول جماعة من السلف، حتى إن عند المالكية رواية أنها تُقبل وحدَها, لكن بشرط فُشُوِّ ذلك في الجيران (¬1). قال أبو المظفر عونُ الدين بنُ هبيرة -رحمه الله تعالى-: اتفق الأئمة على أنه تُقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، كالولادة، والبكارة، والرضاع، وعيوب النساء، وما يخفى عن الرجال غالبًا، ثم اختلفوا في العدد الذي يُعتبر فيه منهن، فقال أبو حنيفة، وأحمد: تُقبل شهادة امرأة عدل، وقال مالك: لا تقبل بأقل من شهادة امرأتين عُدَّل، وعن أحمد مثلُه، وقال الشافعي: لا يقبل إلا شهادةُ أربع نسوة عُدَّل (¬2)، انتهى. وفي "الفروع": ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال، كعيوب النساء تحت الثياب، كحيض، ورضاع، وعنه: وتحلف فيه، وولادة، واستهلال، وبكارة، وثيوبة امرأةٌ لا ذميّةٌ، نقله الشَّالنجي، وغيره. وفي "الانتصار": فيجب أَلَّا يلتفت إلى لفظ الشهادة، ولا مجلس الحكم، كالخبر، قال: ولا أعرف عن إمامنا ما يرده، والرجل فيه كالمرأة (¬3)، انتهى. والذي استقر عليه المذهب: أن الرضاع إذا شهدت به امرأةٌ واحدةٌ مرضيَّةٌ على فعلها، أو على فعل غيرها، أو رجلٌ واحدٌ، ثبت بذلك، ولا يمين (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 152 - 153). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 356 - 357). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 510). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 40 - 41).

قال في "شرح الكافي": ما لا يطلع [عليه] (¬1) الرجال، كعيوب النساء تحت الثياب، والرضاع، والاستهلال، والبكارة، والحيض، ونحوه يُقبل فيه شهادة امرأة واحدة، وهذا المذهب [مطلقًا] (¬2) بلا ريب، ونص عليه الإِمام أحمد في رواية الجماعة، وعليه الأصحاب. قال: وقبولُ شهادتها منفردةً في الاستهلال والرضاع من المفردات. وبه تعلم ما في كلام ابن هبيرة من الإجمال. وعن الإِمام أحمد رواية: تحلف الشاهدة في الرضاع. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: قال أصحابنا: والاثنتان في الرضاع أحوطُ من المرأة، وجعله القاضي محلَّ وفاق. وقال أبو الخطاب، والموفق، وابن الجوزي، وابن حمدان، وابن عبد القوي، وغيرهم: الرجل أولى، لكماله (¬3)، انتهى. قال علي بن سعيد: سمعت الإِمام أحمد يُسأل عن شهادة المرأة وحدها في الرضاع، قال: تجوز على حديث عقبةَ بنِ الحارث. وهو قول الأوزاعي، ونُقل عن عثمان، وابن عباس - رضي الله عنهم -، والزهري، والحسن، وإسحاق. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج، عن ابن شهاب، قال: فرّق عثمان بين ناسٍ تناكحوا يقول امرأةٍ سوداء: إنها أرضعتهم (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬2) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬3) وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (12/ 86). (¬4) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (13969).

قال ابن شهاب: الناس يأخذون بذلك من قول عثمان اليوم، واختاره أبو عبيد، إلا أنه قال: إن شهدت المرضعة وحدَها، وجب على الزوج مفارقةُ المرأة، ولا يجب عليه الحكمُ بذلك، وإن شهدت معها أخرى، وجب الحكمُ به، واحتجّ بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يلزم عقبةَ بطلاق امرأته، بل قال: "دعها عنك". وذهب الجمهور إلى أنه لا يكفي في ذلك شهادةُ المرضعة؛ لأنها شهادةٌ على فعلِ نفسِها، فأخرج أبو عبيد عن عمر والمغيرة بن شعبة، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس - رضي الله عنهم -: أنهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك، وقال عمر: فرّق بينهما إن جاءت بيّنة، وإلّا، فخلّ بين الرجل وامرأته إلّا أن يتنزها, ولو فتح هذا الباب، لم تشأ امرأةٌ أن تفرق بين زوجين إلّا فعلت. وقال الشافعي: يُقبل مع ثلاث نسوة في ثبوت المحرمية، دون ثبوت الأجرة لها على ذلك. وقال مالك: تُقبل مع أخرى. وعن أبي حنيفة: لا تقبل في الرضاع شهادةُ النساء المتمحضات. وعكسه الإصطخري من الشافعية. ولا ريب أن الحديث فيه الحجّةُ الظاهرة والدلالةُ الباهرة لمذهبنا، وأجاب: من لم يقبل شهادةَ المرأة وحدها عن الحديث يحمل النهي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: فنهاه عنها، على التنزيه، ويحمل الأمر في قوله: "دَعْها عنك" على الإرشاد (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 268 - 269).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -يَعْنِي: مِنْ مَكَّةَ-، فَتَبِعَتْهُ ابْنهُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمِّ! يَا عَمِّ فَتنَاوَلَهَا عَلِيٌّ، فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لفَاطِمَة: دُونَكِ ابْنهَ عَمِّكِ فَاحْتَمَلَهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيُّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِيُّ: أَنَا أَحَقُّ بهَا، وَهِيَ ابْنهُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي، وخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابنهُ أَخِي. فَقَضَى بهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لخَالَتِهَا، وَقَالَ: "الخَالَةُ بمَنْزِلَةِ الأُمِّ"، وَقَالَ لِعَلِيٍّ: "أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ"، وَقَالَ لِجَعْفَر: "أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي"، وَقَالَ لِزَيْدٍ: "أَنْتَ أَخُونا وَمَوْلاَنَا" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2552)، كتاب: الصلح، باب: كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان، وفلان بن فلان، و (4005)، كتاب: المغازي، باب: عمرة القضاء. قلت: وهذا الحديث من أفراد البخاري بهذا السياق، قال الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 299)، وكذا عزاه إليه البيهقي في "سننه"، وعبد الحق في "الجمع بين الصحيحين"، والمزي في "الأطراف"، ووقع لصاحب "المنتقى"، ولابن الأثير في "جامع الأصول": أنه من المتفق عليه، ومرادهما قصة صلح الحديبية منه، والمصنف اختصره، والبخاري ذكره في موضعين من "صحيحه" مطولًا، انتهى. وقد رواه -أيضًا- الترمذي (1904)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في بر =

(عن) أبي عمارة (البراءِ بنِ عازبٍ - رضي الله عنه) ما - فهو صحابيّ بنُ صحابي -كما تقدم في ترجمته- (قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يعني: من مكة-) المشرفة، وذلك بعد فراغهم من عمرة القضاء، فإنهم لما خرجوا بعد العمرة من مكة، وكانت في السادسة من الهجرة، (فتبعته) -عليه الصلاة والسلام- (ابنة) عمه (حمزةَ) بنِ عبد المطلب - رضي الله عنه - (تنادي) بصوتها: (يا عمِّ يا عمِّ! فتناولها علي) بن أبي طالب -رضوان الله عليه- (فأخذ بيدها، وقال لـ) زوجته (فاطمةَ) سيدةِ النساء، وبنتِ رسول ربّ الأرض والسماء - صلى الله عليه وسلم - عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين دائمًا أبدًا: (دونَكِ) يا فاطمةُ (ابنة عمك) أُمامة بنت حمزة -رضوان الله عليه-، فخذيها، (فاحتملها) علي - رضي الله عنه - (فاختصم فيها)؛ أي: في ابنة حمزة - رضي الله عنهما - (علي) لكونه ابنَ عمها، (وزيد) بن حارثة، لكونه كان مؤاخيًا لحمزة، وكذا ابن عمها (جعفر) بن أبي طالب الطيار، وسُمِّيَ ذا الجناحين؛ لأنه - رضي الله عنه - قاتل يومَ غزوة مؤتة حين قطعتْ إحدى يديه، فأخذ اللواءَ بالثانية، فلما قُطعت، حضَن اللواءَ حتى قتل، فعوّضه الله عن يديه جناحين يطير بهما في الجنّة، وكان يكنى: أبا عبد الله، ووالدُه أبو طالب عمُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمه: عبدُ مناف كما تقدم في ترجمة علي - رضي الله عنه -. وكان يقال لجعفر -أيضًا-: ذا الهجرتين. ¬

_ = الخالة، بلفظ: "الخالة بمنزلة الأم"، ثم قال: وفي الحديث قصة طويلة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 82)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1396)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 502)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 276)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 229)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 137).

ويروى أنه لما أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نعيُ جعفر - رضي الله عنه -، وأتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - امرأتَه أسماءَ بنتَ عُميس، فعزّاها في زوجها جعفرٍ، دخلت فاطمةُ وهي تبكي وتقول: واعمّاه! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "على مثلِ جعفرٍ فلتبكِ البواكي" (¬1). ولما قدم جعفرٌ من أرض الحبشة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فتح خيبر، تلقاه - صلى الله عليه وسلم -، واعتنقه، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ما أَدري بأَيِّهما أنا أشدُّ فرحًا: بقدومِ جعفر، أم بفتحِ خيبر" (¬2)، وكان جعفرٌ وأصحابه - رضي الله عنهم - سببَ إسلام النجاشي ملكِ الحبشة - رضي الله عنه -، وكان إسلام جعفر قديمًا. قال ابن الأثير: إنه أسلم بعد أُحد وثلاثين إنسانًا. وقال الذهبي: يروى أن عليًا أسلم، ثم زيد، ثم جعفر، وكان الصدّيق رابعَهم، وفيه نظر، والمعتمد خلافه. وكان جعفر - رضي الله عنه - أشبهَ الناس بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال كما في الحديث الصحيح: "أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي". والمشبَّهون به - صلى الله عليه وسلم -: جعفر، والحسنان، وقُثَمُ بنُ العباس، وأبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطلب، واسمه المغيرة، ومنهم السائبُ بن عبيد أحدُ أجداد الإِمام الشافعي - رضي الله عنه - كما نقله الخطيب في "تاريخ بغداد" (¬3)، ومنهم: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ¬

_ (¬1) ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" (1/ 243). (¬2) رواه البزار في "مسنده" (1328)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1478)، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، به. (¬3) انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (2/ 57).

كما في "السنن الكبرى"، ونظمهم الحافظ زينُ الدين عبدُ الرحيم العراقي فقال: [من البسيط] وَسَبْعَة شُبِّهُوا بِالمُصْطَفَى فَسَمَى ... لَهُمْ بِذَلِكَ قَدْرٌ قَدْ زَكَا وَنَما سِبْطَا النَّبِيِّ أَبُو سُفْيَانَ سَائِبُهُمْ ... وَجَعْفرٌ وابْنُهُ ذُو الجُودِ مَعْ قُثَمَا (¬1) روى عن جعفر: ابنُه عبدُ الله، وأبو موسى الأشعريُّ، وعمرُو بن العاص، وامرأته أسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ -بضم العين وبالسين المهملتين-. قتل جعفر - رضي الله عنه - شهيدًا يومَ مؤتةَ في جُمادى الأولى سنة ثماني، وله إحدى وأربعون سنة، وقيل: ثلاث وثلاثون، يقال: إنه وجد فيما أقبل من جسده سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف كما في "صحيح البخاري" من حديث ابن عمر - رضي الله عنهم - (¬2). (فقال علي) - رضي الله عنه -: (أنا أحقُّ بها) منكما، (وهي ابنةُ عمي) حمزةَ - رضي الله عنه -، (وقال جعفر): هي (ابنةُ عمي) كما هي ابنةُ عمّك، (وخالتُها تحتي)، واسم امرأة حمزةَ أُمُّ أمامةَ - رضي الله عنهم - سلمى بنتُ عميس (¬3)، فَلي عليكَ بذلكَ مزيّة، (وقال زيد) بن حارثة: هي (ابنة أخي) بالمؤاخاة التي عقدَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين حمزة، (فقضى بها)؛ أي: بابنة حمزة (النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتِها) أسماءَ بنتِ عميس التي تحت جعفر بن أبي طالب ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 97). (¬2) رواه البخاري (4013)، كتاب: المغازي، باب: غزوة مؤتة. وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 242)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 511)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 154)، و"تهذيب الكمال" للمزي (5/ 50)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 206)، و"الإصابة في تمييز "الصحابة" لابن حجر (1/ 485). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 506).

- رضي الله عنهما -، (وقال) -عليه الصلاة والسلام-: (الخالةُ بمنزلةِ الأم) في الشفقة والحُنُوِّ. وكانت هذه الخصومة والقضاء بعد أن قدموا المدينة المنورة، كما صحّ ذلك في الحديث عند الإِمام أحمد - رضي الله عنه - (¬1)، فلما ذكرَ جعفر - رضي الله عنه - لما ادَّعاه، مرجحين القرابةَ، وكونَ خالتِها عنده، قضى - صلى الله عليه وسلم - أن تكون عند خالتها، فاعتبر - صلى الله عليه وسلم - مُرَجِّحَ جعفر دون مرجِّحهما، ثم طَيَّبَ قلبَ كل واحد منهما بما هو أحبُّ إليه من أخذٍ البنت بأضعافٍ مضاعفة، (و) ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - (قال لعلي) - رضي الله عنه -: (أنت مني، وأنا منك، وقال) - صلى الله عليه وسلم - (لجعفر) - رضي الله عنه -: (أشبهتَ خَلْقي) -بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام: صورتي الظاهرة (وخُلُقي) -بضمهما-: الصورة الباطنة، (وقال) -عليه الصلاة والسلام- (لـ) مولاه (زيد) بن حارثة - رضي الله عنه -: (أنتَ أخونا) في الدين، وبالمؤاخاة، (ومولانا) بالعتق، وكأنه قال لزيد ذلك نظرًا لقوله -تعالى-: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] , وقد رواه الإِمام أحمد من حديث علي - رضي الله عنه - أيضًا، وفيه: "والجاريةُ عند خالتها، فإن الخالة [والدة] (¬2) " (¬3). قال الإِمام ابن القيّم في "الهدي": وليست المؤاخاة من مقتضى الحضانة، ولكن زيدًا لَمَّا واخى حمزة، فإنّ الإخاء حينئذٍ يَثبتُ به التوارث، فظن زيدٌ بمقتضى ذلك أنه أحقُّ بها، وأما بنوة العم، فهل تستحق بها الحضانة؟ على قولين: ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (1/ 230)، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬2) في "ب": "واحدة". (¬3) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (1/ 98).

أحدهما: تستحق بها، وهو منصوص الشافعي، وقول الإِمام أحمد، والإمام مالك، وغيرهم؛ لأنه عصبة، وله ولاية القرابة، فيقدَّم على الأجانب كما قُدم عليهم في الميراث، وولاية النكاح، وولاية الموت، ولم ينكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جعفر وعليّ ادعاءهما حضانتَها، فلو لم يكن لهما ذلك، لأنكر عليهما الدعوى الباطلة، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يُقِرُّ على باطل. والقول الثاني: أنه لا حضانة لأحد من الرجال سوى الأجداد، وهذا قول بعض الشافعية، وهو مخالف لنصِّه، وللدليل، فعلى قول الجمهور: إذا كان الطفل أنثى، وكان ابنُ العم محرمًا لها برضاع ونحوه، كان له حضانتُها، وإن جاوزت السبع، وإن لم يكن محرمًا، فله حضانتها صغيرة حتى تبلغ سبعًا، فلا يبقى له عليها حضانة، بل تُسَلّم لمحرم لها إن كان، أو امرأة ثقة. فإن قيل: حكمه - صلى الله عليه وسلم - بالحضانة في هذه القصة هل وقع للخالة، أو لجعفر؟ فالجواب: هذا مما اختُلف فيه على قولين منشؤهما اختلاف ألفاظ الحديث في ذلك، ففي الحديث الذي في "الصحيحين": فقضى بها لخالتها، وكذا في حديث علي عند الإِمام أحمد (¬1)، وأما عند أبي داود من حديث علي: فقضى بها لجعفر، لتكون مع خالتها، وإنما الخالة أم (¬2)، وفي رواية عنده: فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لجعفر؛ لأن خالتها عنده (¬3)، ثم ذكره في رواية أخرى، ولفظها: فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، فإنّ الخالة بمنزلة ¬

_ (¬1) كما تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) رواه أبو داود (2278)، كتاب: الطلاق، باب: من أحق بالولد، من حديث علي - رضي الله عنه -. (¬3) رواه أبو داود (2279)، كتاب: الطلاق، باب: من أحق بالولد.

الأم (¬1)، واستشكل كثير من الفقهاء هذا وهذا بأن القضاء إن كان لجعفر، فليس محرمًا لها، وهو وعلي على سواء في القرابة منها، وإن كان للخالة، فهي مزوجة، والحاضنةُ إذا تزوجت سقطت حضانتُها. ولمّا ضاق هذا على ابن حزم، ولم ير عنه جوابا على قاعدة مذهبه، طعن في القصة بجميع طرقها، ثم قال: إلّا أنّ هذا الخبر بكل وجه حجّة على الحنفية والمالكية والشافعية، لكون خالتها كانت مزوجة بجعفر، وهو أجمل شاب في قريش، وليس هو ذا محرم من بنت حمزة (¬2). قال الإِمام ابن القيّم في "الهدي": وهذا من تهوره وإقدامه على تضعيف ما اتفق الناس على صحته، فخالفهم وحده، فإن شهرة هذه القصة في الصِّحاح، والسنن, والمسانيد، والسِّير، والتواريخ تغني عن إسنادها، فكيف وقد اتفق عليها صاحبا "الصحيحين" وغيرُهما, ولم يحفظ عن أحد قبلَه الطعنُ فيها البتة؟ (¬3) تنبيهات: الأول: الحَضانة -بفتح الحاء المهملة- في اللغة: مصدر حضنت الصبي حضانة: تحملّت مؤونته وتربيته، عن ابن القطاع، والحاضنة: التي تربي الطفل، سميّت بذلك؛ لأنها تضم الطفل إلى حضنها، وهو ما [دون] (¬4) الإبط إلى الكشح، وهو الخصر (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2280)، كتاب: الطلاق، باب: من أحق بالولد. (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 326). (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 480 - 482). (¬4) في الأصل: "عند". (¬5) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 355).

وفي الشرع: حفظ صغير ومجنون ومعتوه -وهو المختل العقل- عمّا يضرهم، وتربيتهم بعمل مصالحهم من غسل رأس الطفل وبدنه وثيابه، ودهنه وتكحيله، وربطه في المهد وتحريكه لينام، ونحوه، وهي واجبة، كالإنفاق عليه، ومستحقها رجلٌ عصبة أو امرأة وارثة، أو مدلية بوارث، كالخالة، وبناتُ الأخوات، أو مدليةٌ بعصبة، كبنات الإخوة، والأعمام، وذوي رحم غير من تقدم، وحاكم (¬1). الثاني: في بيان أولى الناس بحضانة الطفل ونحوه، وأحقهم بها إذا افترق الزوجان، ولهما طفل ونحوه، ذكرًا كان أو أنثى، فأحقُّ الناس بحضانته أمه كما قبل الفراق، مع أهليتها وحضورها، وقبولها ولو بأجرة مثلها، كالرضاع، هذا معتمد المذهب بلا ريب (¬2). وقال أبو حنيفة: إن كان ثَمَّ متطوع بالرضاع، أو من ترضعه بدون أجرة مثل، فللأب أن يسترضعَ غيرَ الأم بشرط كونِ الرضيع عند الأم؛ لأن الحضانة لها. وعن مالك كأبي حنيفة. وعنه: الأم أولى بكل حال، وهو أحد قولي الشافعي كمعتمد مذهبنا، والقول الثاني للشافعي كأبي حنيفة. واتفق الأئمة الأربعة على أن الحضانة للأم (¬3)؛ لأنه لا يقوم مقامَها في مصلحة الطفل أحدٌ، فإن الأب لا يتولى الحضانة بنفسه، وإنما يدفعه إلى ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 77). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 186).

امرأته، وأمه أولى من امرأة أبيه، فلو امتنعت الأم من الحضانة، لم تُجبر، وانتقلت إلى مَنْ بعدَها (¬1). ومحل أولوية أمه ما لم تتزوج بأجنبي، فمتى تزوجت، ودخل بها الزوج، سقطت حضانتها (¬2). ومعتمد المذهب: تسقط حضانتها من حين العقد، خلافًا لمالك، ولو رضي الزوج، لئلا يكون في حضانة أجنبي، خلافًا لصاحب "الهدي" (¬3)، فإن كان الزوج ليس أجنبيًا، كجده وقريبه، ولو كان الزوج غير محرم للمحضون، لم تسقط الحضانة (¬4). وقال مالك والشافعي: تسقط حضانتها بالتزويج مطلقًا، نعم، قال مالك: إن كانت مزوجة بجده لا تسقط، وقال أبو حنيفة: تسقط ما لم يكن الزوج ذا محرم، فإن زال المانع، بأن طلقت بائنًا، عادت حضانتها، خلافًا لمالك، هكذا نقله أبو المظفر بن هبيرة (¬5)، وأشار إلى مثله في "الفروع" (¬6)، وهكذا نقله صاحب "الهدي" في "هديه"، وعبارته: اختلف الناس في سقوط الحضانة بالنكاح على أربعة أقوال: أحدها: سقوطُها به مطلقًا، سواء كان المحضون ذكرًا أو أنثى، هذا مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وكذا أحمد في المشهور عنه، حتى ¬

_ (¬1) انظر "الإقناع" للحجاوي (4/ 77). (¬2) انظر "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 186). (¬3) انظر "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 485). (¬4) انظر "الإقناع" للحجاوي (4/ 79 - 80). (¬5) انظر "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 186). (¬6) انظر "الفروع" لابن مفلح (5/ 467).

قال ابن المنذر: وأجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم، وقضى به شريح. الثاني: أنها لا تسقط بالتزويج بحال، ولا فرق في الحضانة بين الأيّم وذاتِ البعل، ويحكى هذا عن الحسن البصري، وهو قول أبي محمَّد بن حزم. الثالث: إن كان المحضون بنتًا، لم تسقط الحضانة بنكاح أمها، وإن كان ذكرًا، سقطت، وهذا رواية عن الإِمام أحمد، فإنه قال في رواية مهن ابن يحيى الشامي: إذا تزوجت الأم وابنُها صغير، أُخذ منها، قيل له: والجاريةُ مثل الصبي؟ قال: لا، الجاريةُ تكون مع أمها إلى سبع سنين. القول الرابع: أنها إذا تزوجت بنسب من الطفل، لم تسقط حضانتها، ومعتمد قول علماء المذهب: عدم اعتبار كون الزوج محرمًا، خلافًا للحنفية، واعتبر الإِمام مالك أن يكون الزوج جدًّا للطفل (¬1). قلت: وفي "المنهاج" للإمام النووي: ولا حضانة لناكحة غيرَ أبي الطفل إلّا عمه وابن عمه وابن أخيه في الأصح. قال شارحه الرملي على قوله: وناكحة غير أبي الطفل: وإن رضي زوجها، وإن لم يدخل بها، ما لم يرض الزوج والأب ببقائه مع الأم. قال: أما ناكحة أبي الطفل وإن على، فحضانتها باقية، أما الأب فظاهر، وأما الجد، فإنه وليّ تامُّ الشفقة. وعلى قوله: إلا عمه وابن عمه وابن أخيه، أي: إلّا إن تزوجت من له حقّ في الحضانة؛ أي: في الجملة، ورضي به، كأن تزوجت عمه وابن عمه ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 454 - 455).

وابن أخيه، أو أختُه لأمه أخاه لأبيه في الأصح؛ لأن هؤلاء أصحابُ حق في الحضانة، والشفقةُ تحملهم على رعاية الطفل، فيتعاونان على كفالته، بخلاف الأجنبي. قال: والثاني يبطل حقها، لاشتغالها بالزوج، ولا حق له في الحضانة الآن، فأشبه الأجنبي، ويتصور نكاح ابن الأخ فيما إذا كان المستحق غير الأم وأمهاتها، كأن تتزوج أختُ الطفل لأمه بابن أخيه لأبيه، فإنها تقدَّم على ابن أخيه لأبيه في الأصح (¬1)، انتهى. فعلى هذا يتحد مذهبنا ومذهب الشافعية في ذلك، والله أعلم. لكن وعبارة القاضي ذكر في "المنهج وشرحه": ولا ناكحة غير أبيه، وإن رضي؛ لأنها مشغولة بحق الزوج، إلّا من له حق في الحضانة بقيدٍ زدته بقولي: ورضي، فلها الحضانة (¬2)، انتهى. قال في "الهدي": ودليل سقوط الحضانة بالتزويج ما رواه عَمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إنّ ابني هذا كان بطني له وِعاءً، وثديي له سِقاءً، وحجري له حِواء، وإنّ أباه طلّقني، وأراد أن ينزِعَه مني، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتِ أحقُّ به ما لم تَنْكِحي" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي (¬3)، وقال الصدّيق: هي أحقُّ به ما لم تتزوج، ووافقه عمرُ على ذلك (¬4)، ¬

_ (¬1) انظر: "نهاية المحتاج" للرملي (7/ 212). (¬2) انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 214). (¬3) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (2/ 182)، وأبو داود (2276)، كتاب: الطلاق، باب: من أحق بالولد، والحاكم في "المستدرك" (2830)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 4). (¬4) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (12598).

ولا مخالف لهما من الصحابة - رضي الله عنهم -، وقضى به شريح. وروى عبد الرزاق عن رجلٍ صالح من أهل المدينة، عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن، قال: كانت امرأة من الأنصار تحت رجلٍ من الأنصار، فقُتل عنها يوم أُحد، وله منها ولد، فخطبها عمُّ ولدها ورجل آخرُ إلى أبيها، فأنكح الآخرَ، فجاءت إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: أنكحني أبي رجلًا لا أريده، وتركَ عمَّ ولدي، فأخذ مني ولدي، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباها فقال: "أنتَ الذي لا نكاح لك، اذهبي فانكحي عَمَّ ولدِك" (¬1)، فلم ينكر أخذ الولد منها لمّا تزوجت، بل أنكحها عمّ الولد لتبقى لها الحضانة، ففيه دليلٌ على سقوط الحضانة بالنكاح، وبقائها إذا تزوجت بنسيبٍ من الطفل. وهذا الحديث، وإن اعترض عليه ابن حزم بأنه مرسل، وفيه مجهول (¬2)، فإن أبا سلَمةَ من كبار التابعين، وقد حكى القصة عن الأنصارية، ولا ينكر لقاؤه لها، فلا يتحقق الإرسال، وإذا تحقق، فمرسل جيد له شواهدُ مرفوعة وموقوفة، فالاعتماد ليس عليه وحده، وعَنى بالمجهول الرجلَ الصالح الذي شهد له أبو الزبير بالصلاح، ولا ريب أنّ هذه الشهادة لا تعرف به، ولكن المجهول إذا عدّله الراوي عنه الثقةُ، ثبتت عدالتُه، وإن كان واحدًا على أحد القولين، وصححه في "الهدي"، قال: لأن التعديل من باب الإخبار والحكم، لا من باب الشهادة، ولا سيما التعديل في الرواية، فإنه يكتفى فيه بالواحد، مع أن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له في أحد القولين، وإن لم يصرّح بالتعديل، وهو إحدى الروايتين عن الإِمام أحمد، فإذا روى عنه، وصرّح بتعديله، خرج عن ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (10304). (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 325).

الجهالة التي تُرَدُّ لأجلها روايتُه، لا سيما إذا لم يكن معروفًا بالرواية عن الضعفاء والمتهمين، وأبو الزبير، وإن كان فيه تدليس، فليس معروفًا بالتدليس عن المتهمين و"الضعفاء" بل من جنس تدليس السلف، فإنهم لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح، وإنما أكثر هذا النوع من التدليس في المتأخرين (¬1). وبعد الأم الأَوْلى بالحضانة أمهاتُها، ثم أب، ثم أمهاته، ثم جد، ثم أمهاته، وهلم جرًا، ثم أخت لأبوين، فأخت من أُم تقدَّم على أختٍ من أب، وخالةٌ تقدم على عمّة، وخالةُ أم تقدم على خالة أب، وخالات أب على عمّاته، ومن يُدلي من عمّات وخالات بأم على من يدلي بأب، وتحرير ذلك: أنها تقدم أُم، ثم أمهاتها القربى فالقربى، ثم أب، ثم أمهاته كذلك، ثم جد، ثم أمهاته كذلك، ثم أخت لأبوين، [ثم لأم] (¬2)، ثم لأب، ثم خالة لأبوين، ثم لأم، ثم لأب، ثم عمّات كذلك، ثم خالات أمه، ثم خالات أبيه، ثم عمّات أمه، ثم عمّات أبيه، ثم بنات إخوته وأخواته، ثم بنات أعمامه وعمّاته، ثم بنات أعمام أبيه وبنات عمات أبيه (¬3)، على الخلاف المشهور بين الأئمة. واختار الإِمام ابن القيّم في "الهدي" أن المقدّم بعد الأم أقاربُ الأب لا أقاربها، قال: وهو أصح دليلًا، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية. قال: وهو الذي ذكره الخرقي في "مختصره"، قال: وإنما قدّمت الأم، لكونها أنثى، لا لتقديم جهتها، إذ لو كانت جهتها راجحة، لترجَّحَ رجالها ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 456 - 457). (¬2) ما بين معكوفين سقطت من "ب". (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 77 - 78).

ونساؤها على الرجال من جهة الأب، بل إنما قدّمت؛ لأن النساء أرفقُ بالطفل، وأخبرُ بتربيته، وأصبرُ على ذلك، وعلى هذا فالعمّة أولى من الخالة كما نصّ عليه الإِمام أحمد في إحدى الروايتين، وبهذا قضى شريح، فإنه اختصم عنده عم وخال في طفل، فقضى به للعم، فقال الخال: أنا أنفق عليه من مالي، فدفعه إليه شريح (¬1)، وأورد على نفسه: أنه كان لابنة حمزة - رضي الله عنها - عمّة، وهي صفية بنت عبد المطلب أختُ حمزة، وكانت موجودة في المدينة، فإنها هاجرت، وعزّاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أخيها حمزةَ، وشهدت الخندقَ، وبقيت إلى خلافة عمر، ومع ذلك قدّم النبي - صلى الله عليه وسلم - خالة بنت حمزة أسماءَ بنتَ عميس عليها، فهذا يدل على تقديم مَنْ في جهة الأم على مَنْ في جهة الأب، فأجاب: بأن صفية - رضي الله عنها - لم تطلب الحضانة، ولم تنازع فيها، فلو طلبتها, ولم يقض لها بها، وقدّم عليها الخالة، لكان فيه الدليل لِمدَّعاكم، والحضانة حقٌّ للمرأة، فإذا تركتها، انتقلت إلى غيرها (¬2)، انتهى. ومعتمد المذهب: تقديم الخالة على العمة، والله أعلم. الثالث: يُشترط في الحاضن ستة شروط: أحدها: اتفاقُهما في الدِّين، فلا حضانة لكافر على مسلم، لانقطاع الولاية بين المسلم والكافر، والمسلمون بعضُهم أولياء بعض، والحضانة من أقوى أسباب الموالاة التي قطعها الله -سبحانه- بين الفريقين. وقال أهل الرأي، وابن القاسم، وأبو ثور: تثبت الحضانة لها مع كفرها وإسلام الولد، واحتجوا بما في "سنن النسائي" من حديث عبد الحميد بن ¬

_ (¬1) انظر: "المحلى" لابن حزم (10/ 324). (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 438 - 440).

جعفر عن أبيه، عن جده رافع بن سنان: أنه أسلم، وأبت امرأته أن تُسلم، فأتت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: ابنتي، وهي فطيم أو مشبهة، وقال رافع: ابنتي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اقعد ناحية"، وقال لها: "اقعدي ناحية"، وقال لهما: "ادعواها"، فمالت الصبيّة إلى أمها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اهدِها"، فمالت إلى أبيها، فأخذها (¬1). قالوا: ولأن الحضانةَ أمران: الرضاعةُ، وخدمة الطفل، وكلاهما يجوز من الكافر. قال له المانعون: أما الحديث، فلا حجّة فيه؛ لأن الإِمام يحيى بن سعيد القطان ضعّف عبد الحميد بنَ جعفر بنِ عبد الله بنِ الحسن بنِ رافع بن سنان الأنصاريَّ الأوسيَّ، وكان سفيان يحمل عليه، وضعّف ابنُ المنذر وغيرُه الحديثَ. قال الإِمام الموفق في "المغني": وهذا الحديث لا يُثْبته أهل النقل، وفي إسناده مقال (¬2). على أن ليس في الحديث ما يدل على مدَّعاهم؛ لأن فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لها بالهداية، فدلّ على أنّ كونها مع الكافر خلاف الهداية، ومن كان على خلاف هدي الله الذي أحبه من عباده، كان على غير حق، ولا حق له. قال في "الهدي": والعجب أنهم يقولون: لا حضانة للفاسق، فأيّ فسق ¬

_ (¬1) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (6385)، وكذا أبو داود (2244)، كتاب: الطلاق، باب: إذا أسلم أحد الأبوين، مع من يكون الولد؟ والإمام أحمد في "المسند" (5/ 446). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 190).

أكبر من الكفر؟ وأين الضرر المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقع من الكافر؟. الثاني: العدالة: فلا حضانة لفاسق. قال في "الهدي": الصواب أنه لا تشترط العدالة في الحاضن قطعًا، وإن شرطها أصحاب أحمد، والشافعي، وغيرهم، قال: واشتراطها في غاية البعد، قال: ولو اشترطت في الحاضن العدالة، لضاع أطفال العالم، ولعظمت المشقة على الأمّة، واشتد العنت، قال: ولم نزل من حين قام الإِسلام إلى أن تقوم الساعة أطفال الفسّاق بينهم، لا يتعرض لهم أحد في الدنيا، مع كونهم هم الأكثرين، قال: وهذا في الحرج والعسر، واستمرار العمل المتصل في سائر الأمصار والأعصار على خلافه بمنزلة اشتراط العدالة في ولاية النكاح، فإنه دائم الوقوع في الأمصار والأعصار والقرى والبوادي، مع أن أكثر الأولياء الذين يلون ذلك فساق، ولم يزل الفسوق في الناس، ولم يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدٌ من أصحابه فاسقًا من تربية ابنه وحضانته له، ولا من تزويجه موليته، والعادة شاهدة بأن الرجل، ولو كان من الفساق، فإنه يحتاط لابنته ولا يضيعها، ويحرص على الخير لها بجهده، ويكفي في ذلك الباعث الطبيعي، وإن قدر خلاف ذلك، فهو نادر لا حكم له، ولو كان الفاسق مسلوب الحضانة وولايةِ النكاح، لكان بيانه للأمة من أهم الأمور، واعتناءُ الأمّة بنقله وتوارثِ العمل به مقدّمًا على كثيرٍ مما نقلوه وتوارثوا العمل به، فكيف يجوز عليهم تضييعه واتصال العمل بخلافه؟! الثالث: العقل، فلا حضانة لمجنون ومعتوه وطفل؛ لأن هؤلاء يحتاجون إلى من يحضنهم ويكفلهم، فكيف يكونون كافلين لغيرهم؟.

الرابع: الحرية، فلا حضانة لرقيق، ولو مبعَّضا, ولو كان بينه وبين سيده مهايأة. واختار في "الهدي" عدمَ اعتبار الحرية، قال: لأنه لا ينهض عليه دليل يركن القلب إليه. قال الإِمام مالك في حر له ولد من أَمَة: إن الأم أحقُّ به إلا أن تُباع فتنتقل، فيكون الأب أحقَّ، قال: وهذا هو الصحيح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من فرّق بين والدةٍ وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" (¬1). والمعتمد: لا حضانة لها حيث كانت رقيقة؛ لأن منافعها مملوكة لسيدها، فهي مستغرقة في خدمته (¬2). نعم استثنى الشافعية ما لو أسلمت أم ولد كافر، فحضانته لها، وإن كانت رقيقة ما لم تنكح، لفراغها؛ لأن السيد ممنوع من قربانها (¬3). قلت: وهذا غير منافٍ لقواعد مذهبنا إن لم يكن له حاضن مسلم. الخامس: عدم نكاحها -الأجنبي كما تقدم-. السادس: القدرة عليها، فلا حضانة لعاجز عنها، كأعمى ونحوه (¬4). قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: ضعفُ البصر يمنع من كمال ما يحتاج إليه المَحْضُونُ من المصالح (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1283)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين، أو بين الوالدة وولدها في البيع، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 412)، عن أبي أيوب - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 459 - 462). (¬3) انظر: "فتح الوهاب" للشيخ زكريا الأنصحاري (2/ 214). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 79). (¬5) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإِسلام ابن تيمية (4/ 593).

وإذا كان بالأم برص أو جذام، سقط حقها من الحضانة. صرّح بذلك العلائي الشافعي في "قواعده"، قال: لأنه يُخشى على الولد من لبنها ومخالطتها، انتهى. ونقله في "الإقناع" (¬1)، والله أعلم. فائدة: متى زالت الموانع، كأنْ أسلم الكافر، وتاب الفاسق، وعَتَقَ الرقيق، وعقل المجنون، وطُلَقت المزوَّجة -كما تقدم- ولو رجعيًا، ولم تنقض العدّة، عاد إليهم حقهم عندنا (¬2)، كالشافعية. وقال أبو حنيفة: لا تعود للمطلقة حتى تنقضي العدّة. وقال مالك: لا تعود إليها أبدًا -كما تقدم- (¬3). السابع: لا تثبت الحضانة على البالغ الرشيد العاقل، وإليه الخِيرةُ في الإقامة عند من شاء من أبويه، فإن كان رجلًا، فله الانفراد بنفسه، إلا أن يكون أَمْرَدَ يخاف عليه الفتنة، فيمنع من مفارقتهما، ويُستحب أَلَّا ينفرد عن أبويه، وأَلَّا يقطع برّه عنهما، وإن كانت جارية، فليس لها الانفراد، ولأبيها وأوليائها عند عدمه منعُها منه، وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلًا، واتفق أبواه أن يكون عند أحدهما، جاز، وإن تنازعا، خيّره الحاكم بينهما، فكان مع مَنِ اختار منهما. قال ابن عقيل: مع السلامة من فساد، فأما إذا علم أنه يختار أحدهما ليمكنه من الفساد، ويكره الآخر للأدب، لم يُعمل بمقتضى شهوته، انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 79). (¬2) المرجع السابق، (4/ 80). (¬3) وانظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 186).

ولا يُخير قبل سبع، فإن اختار أباه، كان عنده ليلًا ونهارًا، ولا يُمنع من زيارة أمه، وإن مرضَ، فهي أحق بتمريضه في بيتها، وإن اختار أمه، كان عندها ليلًا، وعند أبيه نهارًا، ليعلمه الصناعة والكتابة ويؤدِّبه، فإن عاد فاختار الآخر، نقل إليه، فإن أبي أن يختار أحدهما، واختارهما معًا، أُقرع بينهما، فإن اختار غير من قدم بالقرعة، رجع إليه، ولا تخيير إن لم يكن أحد أبويه من أهل الحضانة، وتعين كونه عند من هو أهلها منهما، وإن اختار أباه، ثم زال عقله، رُدّ إلى أمه. وأما الجارية إذا بلغت سبع سنين فصاعدًا، فهي عند أبيها إلى البلوغ، وكذا بعده إلى لزفافها وجوبًا، ولو تبرعت الأم بحضانتها (¬1). ولم يقل مالك ولا أبو حنيفة بالتخيير مطلقًا، ثم اختلفا. فقال أبو حنيفة: الأم أحقُّ بالجارية حتى تبلغ، وبالغلام حتى يأكل وحده، ويشرب وحده، ويلبس وحده، ثم يكونان عند الأب، وعند مَنْ سوى الأبوين ممَّن هو أحقُّ بهما حتى يستغنيا, ولا يعتبر البلوغ. وقال مالك: الأم أحقُّ بالولد، ذكرًا كان أو أنثى حتى يشغر، هذه رواية ابن وهب، وروى ابن القاسم: حتى يبلغ، ولا يخير بحال. وقال الليث: الأم أحق بالابن حتى يبلغ ثمان سنين، وبالبنت حتى تبلغ، ثم الأب أحق بهما بعد ذلك. وقال الحسن: الأم أولى بالبنت حتى يَكْعَبَ ثدياها، وبالغلام حتى ييفعَ (¬2)، فيُخيران بعد ذلك بين أبويهما، الذكر والأنثى. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 80 - 82). (¬2) في "ب": "يفع".

قال في "الهدي": ثبت التخييرُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغلام من حديث أبي هريرة (¬1)، وثبت عن الخلفاء الراشدين، ولا يُعرف لهم مخالف في الصحابة البتةَ، ولا أنكر منكر، فوجب المصير إليه، والتعويل عليه، والله الموفق (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2277)، كتاب: الطلاق، باب: من أحق بالولد، والنسائي (3496)، كتاب: الطلاق، باب: إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد. (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 467 - 468).

كتاب القصاص

كتاب القصاص بكسر القاف، قال في "القاموس": هو: القود (¬1)، وفي "النهاية": أَقَصَّه الحاكم يُقِصُّه: إذا أمكنَهُ من أخذ القِصاص، هو أن يفعل به مثلَ فعله من قتلٍ أو قطعِ أو ضربٍ أو جَرْحٍ، قال: والقِصاص الاسم (¬2)، وقال الله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]؛ أي: المساواة والمماثلة في الجراح والدِّيات، وأصله من قَصَّ الأثرَ: إذا اتبعه، ومنه قوله -تعالى- في قصة موسى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ} [القصص: 11]. وهو شرعًا: أن يُفعل بالجاني مثلُ ما فَعل بشروطه المعلومة (¬3)، وسبب نزول الآية: أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماءٌ في الجاهلية، وكان لأحدهما طولٌ على الأخرى، أقسموا لنقتلنَّ الحرَّ منكم بالعبد، والذكرَ بالأنثى، فلما جاء الإِسلام، تحاكموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت (¬4)، وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] كلام في غاية الفصاحة، حيث جعل الشيء محل ضده، وعرَّف القصاص، ¬

_ (¬1) انظر: القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 809)، (مادة: قصص). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 72). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 113). (¬4) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (1/ 109): غريب جدًا.

ونكَّر الحياة، ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعًا من الحياة عظيمًا، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل، فيكون سببَ حياة نفسين. وقيل: المراد بالحياة: أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا، لم يؤاخذ به في الآخرة (¬1). وذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- في هذا الكتاب تسعة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير البيضاوي" (1/ 458 - 459).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِىءً مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ؛ إِلَّا بإحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6484)، كتاب: الديات، باب: قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. . . .} [المائدة: 45] ومسلم (1676/ 25)، واللفظ له، و (1676/ 26)، كتاب: القسامة، باب: ما يباح به دم المسلم، وأبو داود (4352)، كتاب الحدود، باب: الحكم فيمن ارتد، والنسائي (4016)، كتاب: تحريم الدم، باب: ما يحل به دم المسلم، و (4721)، كتاب: القسامة، باب: القود، والترمذي (1402)، كتاب: الديات، باب: ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وابن ماجه (2534)، كتاب: الحدود، باب: لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 476)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 38)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 164)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 84)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1399)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 201)، و"عمدة القاري" للعيني (24/ 40)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 48)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 231)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 146).

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحلُّ دم امرئٍ مسلم) من ذكرٍ وأنثى؛ أي: لا يَسوغ، ولا يُشرع ولا يحل قتلُ شخصٍ مسلم (يشهد أن لا إله إلّا الله، وأني رسول الله) لأحد من الخلق. لكن روي عن الإِمام أحمد - رضي الله عنه -: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يقتل بغير هذه الأسباب الثلاثة الآتي ذكرها، وأما غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس له ذلك. كأنَّ الإِمام أحمد - رضي الله عنه - يشير إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يعزر بالقتل إذا رأى في ذلك مصلحة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- معصومٌ من التعدِّي والحيف، وأما غيره، فليس له ذلك؛ لأنه غير مأمونٍ عليه التعدي بالهوى (¬1). قال أبو داود: سمعت أحمدَ سئل عن حديث أبي بكر: ما كانت لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلًا إلّا بإحدى ثلاث، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يقتل (¬2). وحديث أبي بكر المشار إليه هو: أنّ رجلًا كَلَّمَ أبا بكر، فأغلظَ له، فقال له أبو برزة: ألا أقتلُه يا خليفةَ رسولِ الله؟ فقال أبو بكر: ما كانت لأحدٍ بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3) (إلّا بإحدى) خصلة من (ثلاث) يتصف بواحدة منها: - الأولى من الخصال الثلاث: ما أشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الثيَّب الزاني)، وهو من زنى بعد إحصانه. ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 131). (¬2) انظر: "مسائل الإِمام أحمد- رواية أبي داود" (ص: 306). (¬3) رواه النسائي (4073)، كتاب: تحريم الدم، باب: ذكر الاختلاف على الأعمش في هذا الحديث، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 9).

قال في "المطالع": مِنْ ثاب يثوب، كأنه من إعادة الوطء (¬1)؛ لأنه لمّا أحصن فرجَه وأهلَه بوطئه زوجته، ثم أعاد وطء من ليس له زوجةً ولا سُرِّيَّةً، استحق ما شرّعه الله ورسوله، والمحصَن في حدّ الزنى غيرُ المحصَن في باب القذف، فالإحصانُ في باب حدّ الزنى: هو من وَطِىءَ امرأته -ولو كتابيّة- في قُبلها وَطْئًا حصل به تغييبُ الحشفة أو قدرِها في نكاحٍ صحيح، وهما بالغان عاقلان حرّان ملتزمان لديننا، فإن اختلّ شرطٌ منها, ولو في أحدهما، فلا إحصان لواحدٍ منهما، فلا يحصل الإحصان بالوطء بملك اليمين، ولا في نكاحٍ فاسد، ولا في نكاحٍ خالٍ عن الوطء، سواء حصل فيه خلوةٌ أو وطءٌ فيما دون الفرج، أو في الدبر، أو لا (¬2). والزاني: من وطئ امرأة في قُبلها، وهي حرامٌ عليه، ولا شبهة له في وطئها، ويحصل الزنى بدخول الحشفة أو قدرِها بلا حائل، والوطءُ في الدبر مثلُه (¬3). ولفظ الزنى يمد ويقصر، فالقصر لأهل الحجاز، والمد لأهل نجد (¬4). وأنشد ابن سيده: [من البسيط] أَمَّا الزِّنَاءُ فَإِنِّي لَسْتُ قَارِبَهُ ... وَالْمَالُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْخَمْرِ نِصْفَانِ (¬5) ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 136). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 217). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 53). (¬4) قاله الجوهري في "الصحاح" (6/ 2368)، (مادة: زنى). (¬5) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 370)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-.

وقد جاء في معني ما دلّ عليه حديث ابن مسعود هذا عدّة أحاديث: من حديث عائشة رواه مسلم (¬1). وأخرج الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس" (¬2). وفي رواية للنسائي: "رجلٌ زنى بعد إحصانه، فعليه الرجم، أو قتل محمدًا، فعليه القود، أو ارتدَّ بعد إسلامه، فعليه القتل" (¬3). روي -أيضًا- من حديث ابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، وغيرهم - رضي الله عنهم -. والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين، فأجمع المسلمون: أن حدّ زنى الثيِّب إذا زنى: الرجم حتى يموت، وقد رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا، والغامدية، وكان في القرآن الذي نُسخ لفظه وبقي معناه: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله، والله عزير حكيم" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1676/ 26)، كتاب: القسامة، باب: ما يباح به دم المسلم. (¬2) رواه النسائي (4058)، كتاب: تحريم الدم، باب: الحكم في المرتد، والترمذي (2158)، كتاب: الفتن، باب: ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وابن ماجه (2533)، كتاب: الحدود، باب: لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث. (¬3) رواه النسائي (4057)، كتاب: تحريم الدم، باب: الحكم في المرتد. (¬4) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (5/ 132)، والنسائي في "السنن الكبرى" (7150)، عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -.

وقد استنبط ابن عباس - رضي الله عنهما - الرجمَ من القرآن من قوله -تعالى-: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 15] , قال: من كفر بالرجم، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، ثم تلا هذه الآية، وقال: كان الرجم ممّا أخفوا، أخرجه النسائي، والحاكم وصححه (¬1). ويُستنبط -أيضًا- من قوله -تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] إلى قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] قال الزهريّ: بلغنا أنها نزلت في اليهوديين اللذين رجمهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "إني أحكم بما في التوراة"، وأمر بهما فرُجما (¬2). وخرج مسلم في "صحيحه" من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قصة رجم اليهوديين، وقال في حديثه: فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] , وأنزل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] في الكفار كلها (¬3). وخرّجه الإِمام أحمد، وعنده: فأنزل الله: {لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] ويقولون: ائتوا محمدًا، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد، ¬

_ (¬1) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (7162)، والحاكم في "المستدرك" (8069). (¬2) رواه أبو داود (4450)، كتاب: الحدود، باب: في رجم اليهوديين، من طريق عبد الرزاق في "المصنف" (13330). (¬3) رواه مسلم (1700/ 28)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود، أهل الذمة، في الزنى.

فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم، فاحذروا، إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] , قال: في اليهود (¬1). وروي من حديث جابر قصة رجم اليهوديين، وفي حديثه قال: فأنزل الله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] إلى قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (¬2) [المائدة: 42] وكان الله -تعالى- قد أمر أولًا بحبس الزواني إلى أن يتوفاهنَّ الموت أو يجعل الله لهنَّ سبيلًا، ثم جعل الله لهنَّ السبيل، ففي "مسلم" عن عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "خذوا عني، قد جعل الله لهنَّ سبيلًا، البِكرُ بالبكرِ جلدُ مئة وتغريبُ عام، والثيِّبُ بالثِّيبِ مئةُ جلدة والرجمُ" (¬3)، وآية الرجم في "الصحيحين" وغيرهما (¬4). قال في "الفروع": فإن قيل: لو كانت في المصحف، لاجتمع العمل بحكمها، وثواب تلاوتها. قال ابن الجوزي: أجاب ابن عقيل فقال: إنما كان ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استقصاء لطلب طريق مقطوع به قنوعًا بأيسر شيء كما سارع الخليل - صلى الله عليه وسلم - إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي وأقلّها (¬5). ويأتي الكلام على الزنى في باب الحدود -إن شاء الله تعالى-. ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 286). (¬2) رواه الحميدي في "مسنده" (1294). (¬3) رواه مسلم (1690/ 12)، كتاب: الحدود، باب: حد الزنى، بلفظ: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". (¬4) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 124 - 125). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 73).

- (و) لخصلة الثانية من الخصال التي يحلّ بها دم المسلم: (النفسُ) من المؤمن يحلّ ويشرع قتلها (بالنفس)؛ يعني: أن المكلف إذا قتل نفسًا بغير حق عمدًا، فإنه يُقتل بها، وقد دلّ القرآن على ذلك بقوله -تعالى-: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] , وقال الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178] , لكن يُستثنى من عموم قوله -تعالى-: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] صور: منها: أن يقتل الوالدُ ولدَه، فالجمهور على أنه لا يُقتل به، وصحّ ذلك عن عمر، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددة، وإن تُكلم في أسانيدها، وقال مالك: إن تعمّد قتله تعمدًا لا شك فيه مثل أن يذبحه، فإنه يُقتل به، وإن حَذفه بسيفٍ أو عصا، لم يُقتل (¬1)، ومذهب الجمهور: لا يُقتل أحد الأبوين وإن على بالولد وإن سفل، وإن اختلفا دينًا وحريّة، لخبر: لا يُقاد للابن من أبيه، صححه الحاكم والبيهقي (¬2). وعن عمر، وابن عباس - رضي الله عنهم-: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُقتل والدٌ بولدهِ"، أخرج النسائي حديث عمر (¬3)، ورواهما ابن ماجه (¬4)، ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 125). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (8104)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 36)، بلفظ: "لا يقاد ولد من والده"، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬3) لم أقف عليه في "السنن" والله أعلم. (¬4) رواه ابن ماجه (2661)، كتاب: الديات، باب: لا يقتل الوالد بولده، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ: "لا يقتل بالولد الوالد". ورواه -أيضًا- (2662)، من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بلفظ: "لا يقتل الوالد بالولد".

وذكرهما ابن عبد البر، وقال: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، يُستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه، حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته تكلفا (¬1)، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنتَ ومالك لأبيك" (¬2)، وقضية هذه الإضافة تمليكُه إياه، فإذا لم تثبت حقيقة الملكية، ثبتت الإضافة، وهي شبهة في ردّ القصاص؛ لأنه يُدرأ بالشبهات، ولأنه سببُ إيجاده، فلا ينبغي أن يُسلط بسببه على إعدامه، وهذا يخص العمومات، ويفارقُ الأبَ غيرُه من سائر الناس، فإنهم لو قتلوا بالحذف والسيف، وجب عليهم القصاص، والأبُ بخلافه. وقال بعدم قتل الأب وإن علا بالابن وإن سفل: ربيعة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، خلافًا لنافع، وابن عبد الحكم، وابن المنذر، وكذا مالك على التفصيل الذي ذكرناه عنه (¬3). وأما الفرع، فيقتل بأصله. ومنها: أن يقتل الحرُّ عبدًا، فالأكثرون على أنه لا يُقتل به، روي عن أبي بكر، وعمر، وعلي، وزيد، وابن الزبير - رضي الله عنهم -، وبه قال الحسن، وعطاء، وعمر بن عبد العزيز وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وروي ذلك -أيضًا- عن الشعبي، وهو المذهب، وعليه علماؤنا. وقال سعيد بن المسيب، والنخعي، وقتادة، والثوري، وأصحاب الرأي: إنه يُقتل به، لعموم الآيات والأخبار، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمنون ¬

_ (¬1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (23/ 437). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 227).

تتكافأ دماؤهم" (¬1)، ولأنه آدمي معصوم، فأشبه الحر (¬2). ولنا ما روى الإِمام أحمد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنه قال: من السنّة أَلَّا يُقتل حر بعبد (¬3). [وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُقتل حر بعبد"] (¬4) رواه الدارقطني (¬5). قال الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين": ورد في ذلك أحاديث في أسانيدها مقال (¬6). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: ليس في العبد نصوص صحيحة صريحة تمنع قتلَ الحر به، وقوّى أنه يُقتل به، وقال: هذا الراجح، وأقوى على قول الإِمام أحمد (¬7)، انتهى. والمعتمد: الأول. وقيل: يُقتل الحر بعبد غيره دون عبده، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الثوري: بل يُقتل بعبده -أيضًا-، وبه قالت طائفة من أهل الحديث، لحديث سمرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل عبدَه، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 221). (¬3) لم يروه الإمام أحمد في "مسنده"، ولم يعزه إليه ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 310)، وإنما رواه من طريق الدارقطني في "سننه" (3/ 133). (¬4) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 133). (¬6) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 126). (¬7) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإِسلام ابن تيمية (14/ 80)، وما بعدها.

قتلناه، ومن جدعه، جدعناه" رواه الإِمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن غريب (¬1). وفي رواية لأبي داود، والنسائي: "ومن خص عبده خصيناه" (¬2). وقد طعن الإِمام أحمد في هذا الحديث، وكذا غيرُه من أئمة الحديث طعنوا فيه، وقد أجمعوا على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار في الأطراف، وهذا يدل على طرح هذا الحديث، وعدم العمل به، وهو مما يُستدل به على أن المراد بقوله -تعالى-: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]: الأحرار (¬3). ومنها: أن يقتل المسلم كافرًا، فإن كان حربيًا، فلا يُقتل مسلم به، بغير خلاف، لإباحة قتل الحربي بلا ريب، وإن كان ذميًّا أو معاهدًا، فالجمهور على أنه لا يُقتل به -أيضًا-، روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، ومعاوية - رضي الله عنهم -، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وعطاء، والحسن، وعكرمة، والزهري، وابن شبرمة، والثلاثة، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وابن المنذر. ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (5/ 10)، وأبو داود (4515)، كتاب: الديات، باب: من قتل عبده، أو مثَّل به، أيقاد منه، والنسائي (4737)، كتاب: القسامة، باب: القود من السيد للمولى، والترمذي (1414)، كتاب: الديات، باب: ما جاء في الرجل يقتل عبده، وابن ماجه (2663)، كتاب: الديات، باب: هل يقتل الحر بالعبد. (¬2) رواه أبو داود (4516)، كتاب: الديات، باب: من قتل عبده، أو مثل به، أيقاد منه، والنسائي (4736)، كتاب: القسامة، باب: القود من السيد للمولى. (¬3) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 126).

وقال أبو حنيفة: يُقتل المسلم بالكافر، وهو قول النخعي، والشعبي، لكن بشرط كونه ذميًّا خاصّةً. قال الإِمام أحمد: الشعبي والنخعي قالا: ديَة المجوسي والنصراني مثل ديَة المسلم، وإن قتله، يقتل به، سبحان الله هذا عجيب! يصير المجوسي مثل المسلم! ما هذا القول؟ واستبشعه، وقال: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يُقتل مسلم بكافر" (¬1)، وهو يقول: يُقتل بكافر، فأي شيء أشدّ من هذا؟!. واحتجّوا بالعمومات الواردة من القرآن والأخبار من قوله -تعالى-: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] وبما روى ابن البيلماني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قاد مسلمًا بذميّ، وقال: "أنا أحقُّ من وفي بذمته" (¬2). قالوا: ولأنه معصوم عصمة مؤبدة، ويُقتل به قاتله كالمسلم. ولنا: قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدْنَاهم، وهم يدٌ على مَنْ سواهم، ألا لا يُقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهدٍ في عهده" رواه الإِمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث علي - رضي الله عنه - (¬3)، وفي لفظ مسلم: "لا يُقتل بكافر" رواه الإِمام أحمد، والبخاري (¬4)، وفي لفظ عند الإِمام أحمد من حديث علي - رضي الله عنه -: "من السنّة أَلَّا يُقتل مؤمن بكافر" (¬5)، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أنّ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 134). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) تقدم تخريجه.

النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى ألَّا يُقتل مسلم بكافر، رواه الإِمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه (¬1)، وفي لفظ قال: "لا يُقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده" رواه الإِمام أحمد، وأبو داود (¬2). وأما ما ذكروه عن ابن البيلماني، فهو مرسل ضعيف، ضعفه الإِمام أحمد، وأبو عبيد، وإبراهيم الحربي، والجوزجاني، وابن المنذر، والدارقطني، وقال: ابن البيلماني ضعيف، لا تقوم به حجّة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله (¬3)؟! وقال الجوزجاني: إنما أخذه ربيعة عن إبرهيم بن أبي يحيى، عن ابن المنذر، عن ابن البيلماني، وابنُ أبي يحيى متروك الحديث، وفي مراسيل أبي داود حديث آخر مرسل: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر قتل مسلمًا بكافر قتلة غيلة، وقال: "أنا أولى وأحق من وفي بذمته" (¬4). قال الحافظ ابن رجب: وهذا مذهب مالك، وأهل المدينة: أن القتل غيلة لا يُشترط له المكافأة، فيُقتل فيه المسلمُ بالكافر، وعليه حملوا حديثَ ابن البيلماني -أيضًا- على تقدير صحته (¬5). والحاصل: أن اعتبار المكافأة، وهي أن يساويه في الدين والحرية ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (2/ 178)، والترمذي (1413)، كتاب: الديات، باب: ما جاء في دية الكفار، وابن ماجه (2659)، كتاب: الديات، باب: لا يقتل مسلم بكافر. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "سنن الدارقطني" (3/ 134). وانظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 218). (¬4) رواه أبو داود في "المراسيل" (251)، عن عبد الله بن عبد العزيز بن صالح الحضرمي. (¬5) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 126).

والرق والاعتبار بحال الجناية، فلا يُقتل مسلم -ولو عبدًا- بكافر ذميّ، ولو ارتد، ولا حر -ولو ذميًا- بعبد، إلا أن يقتله وهو مثله، أو يجرحه وهو مثله، أو يكون الجارح مرتدًا، ثم يسلم القاتل أو الجارح، أو يعتق العبد قبل موت المجروح أو بعده، فإنه يُقتل به، نصًا، ولو جرح مسلم ذميًا، أو حر عبدًا، ثم أسلم المجروح، أو عَتق العبدُ ومات، فلا قود عليه، وعليه ديّة حر مسلم (¬1). ومنها: أن يقتل الرجل امرأة، فيُقتل بها، بغير خلاف (¬2)، ويأتي. - (و) لخصلة الثالثة من الخصال التي يحل بها دم المسلم: (التاركُ لدينه)؛ يعني: دين الإِسلام، بأن ارتدّ عنه (المفارقُ للجماعة) من المسلمين كما جاء التصريح بذلك في حديث عثمان -كما تقدّم-، وإنما استثناه مع من يحل دمه من أهل الشهادتين باعتبار ما كان عليه قبل الردّة، وحكم الإِسلام لازمٌ له بعدها, ولهذا يُستتاب، ويُطلب منه العود إلى الإِسلام، وفي إلزامه بقضاء ما فاته في زمن الردّة من العبادات اختلافٌ مشهور بين العلماء، -وأيضًا- فقد يترك دينه ويفارق الجماعة وهو مقر بالشهادتين ويدّعي الإِسلام، كما لو كفر بجحد شيء من أركان الدين، أو سبَّ الله أو رسوله، أو كفر ببعض الملائكة أو النبيين أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك. وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من بدّلَ دينه، فاقتلوه" (¬3)، ولا فرق في هذا بين الرجل والمرأة عند أكثر العلماء. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 104). (¬2) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 126). (¬3) رواه البخاري (2854)، كتاب: الجهاد والسير، باب: لا يعذب بعذاب الله.

ومنهم من قال: لا تُقتل المرأة إذا ارتدّت، كما لا تقتل نساء أهل دار الحرب في الحرب، وإنما تُقتل رجالهم، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، فجعلوا الكفر الطارئ كالأصلي، والجمهور فرّقوا بينهما، فجعلوا الطارئ أغلظَ، لما سبقه من الإِسلام، ولهذا يُقتل بالردّة عن الإِسلام من لا يُقتل من أهل الحرب، كالشيخ الفاني، والزَّمِنِ، والأعمى، مع أنهم لا يُقتلون في الحرب. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "التارك لدينه" الحديث: دلالةٌ على أنه لو تاب ورجع إلى الإِسلام، لم يُقتل؛ لأنه ليس بتارك لدينه بعد رجوعه، ولا مفارق للجماعة. فإن قيل: بل استثناءُ هذا ممن يعصم دينه من أهل الشهادتين يدل على أنه يُقتل -ولو كان مقراً بهما- كما يُقتل الزاني المحصَن وقاتلُ النفس، وهذا يدل على أنّ المرتدّ لا تُقبل توبته كما حُكي عن الحسن، أو أن يحمل ذلك على من ارتدّ ممن ولد على الإِسلام، فإنه لا تقبل توبته، وإنما تقبل توبة من كان كافرًا، ثم أسلم، ثم ارتدّ، على قول طائفة من العلماء، منهم: الليثُ بن سعد، وإسحاق، والإمام أحمد في رواية مرجوحة. فالجواب: إنما استثناه من المسلمين باعتبار ما كان عليه قبل مفارقة دينه -كما سبق-، وليس هذا كالثيِّب الزاني وقاتل النفس؛ لأن قتلهما وجبَ عقوبةً لجريمتهما الماضية، ولا يمكن تلافي ذلك، وأما المرتد، فقتلُه لوصفٍ قائم به في الحال، وهو تركُ دينه ومفارقةُ الجماعة، فإذا عاد إلى دينه وإلى موافقة الجماعة، فقد انتفى الوصف المُبيح لدمه، فتزول إباحة دمه. فإن قيل: قد أخرج النسائي من حديث عائشة - رضي الله عنها - عن

النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاثِ خصالٍ: زانٍ محصَن يُرجم، ورجل قتل متعمدًا، فيقتل، ورجل يخرج من الإِسلام يحارب الله ورسوله، فيقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأرض" (¬1)، وهذا يدل على أن المراد: مَنْ جمعَ بين الردّة والمحاربة. فالجواب: أن أبا داود أخرج من حديث عائشة - رضي الله عنها - بلفظٍ آخر، وهو أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل دم امرئ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، إلا في إحدى ثلاث، رجل زنى بعد إحصان، فإنه يرجم، ورجلٌ خرج محاربًا لله ورسوله، فإنه يُقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض، أو يَقتل نفسًا، فيُقتل بها" (¬2) وهذا يدل على أن من وُجد منه الحرابُ من المسلمين، خُير الإمامُ فيه مطلقًا، كما يقوله علماء أهل المدينة مالكٌ وغيرُه، وأما الرواية الأولى، فقد تحمل على أن المراد بخروجه عن الإِسلام: خروجه عن أحكامه، وقد تُحمل على ظاهرها، ويستدل بذلك من يقول: إن المحاربة تختص بالمرتدين، فمن ارتد وحارب، فُعل به ما في الآية، ومن حاَرب من غير ردّة، أُقيمت عليه أحكام المسلمين من القصاص والقطع في السرقة، وهذا رواية عن الإِمام أحمد، لكنها غير مشهورة عنه، ولا هي مذهبه، وكذا قالت طائفة من السلف: إن آية المحاربة تختص بالمرتدين، منهم: أبو قلابة وغيره، وعلى كلّ حال، فحديثُ عائشة ألفاظه مختلفة، وقد روي عنها مرفوعًا، وروي عنها موقوفًا، وحديث ابن مسعود لفظه محفوظ لا اختلاف فيه، وهو ثابتٌ متفق على صحته (¬3). ¬

_ (¬1) رواه النسائي (4048)، كتاب: تحريم الدم، باب: الصلب. (¬2) رواه أبو داود (4353)، كتاب: الحدود، باب: الحكم فيمن ارتد. (¬3) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 126 - 128).

فإن قيل: فقد ورد قتلُ المسلم بغير إحدى هذه الخصال الثلاث: فمنها: في اللواط كما جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اقتلوا الفاعلَ والمفعول به" (¬1)، وأخذ به كثير من العلماء، كمالك وأحمد، وقالوا: إنه موجب للقتل بكل حال، محصَنًا كان أو غير محصن، وقد روي عن عثمان - رضي الله عنه -: أنه قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأربع، فزاد على الثلاث: ورجلٌ عمل عملَ قوم لوط (¬2)، ويأتي الكلام عليه في الحدود. ومنها: من أتى ذاتَ محرم، فقد روي الأمرُ بقتله (¬3). وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلُ من تزوج بامرأة أبيه (¬4)، وأخذَ بذلك طائفة من العلماء، فأوجبوا قتله مطلقًا، محصَنًا كان أو غير محصَن. ومنها: الساحر، ففي "الترمذي" من حديث جندب مرفوعًا: "حدُّ الساحر ضربةٌ بالسيف"، وذكر أن الصحيح وقفه على جندب (¬5)، وهو ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4462)، كتاب: الحدود، باب: فيمن عمل عمل قوم لوط، والترمذي (1456)، باب: الحدود، باب: ما جاء في حد اللوطي، وابن ماجه (2561)، كتاب: الحدود، باب: من عمل عمل قوم لوط. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (27905). (¬3) رواه الترمذي (1462)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء فيمن يقول لآخر: يا مخنث، وضعفه، وابن ماجه (2564)، كتاب: الحدود، باب: من أتى ذات محرم ومن أتى بهيمة. (¬4) رواه أبو داود (4457)، كتاب: الحدود، باب: في الرجل يزني بحريمه، والنسائي (3331)، كتاب: النكاح، باب: نكاح ما نكح الآباء، والترمذي (1362)، كتاب: الأحكام، باب: فيمن تزوج امرأة أبيه، وابن ماجه (2607)، كتاب: الحدود، باب: من تزوج امرأة أبيه من بعده. (¬5) رواه الترمذي (1460)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في حد الساحر.

مذهب جماعة من العلماء، منهم: عمر بن عبد العزيز، ومالك، وأحمد، وإسحاق، ولكنهم يقولون: إنه يكفر بسحره، فيكون حكمه كمرتد. ومنها: قتل من وقع على بهيمة، وقد ورد فيه حديث مرفوع (¬1)، وقال به طائفة من العلماء. ومنها: ترك الصلاة، فإن تاركها يُقتل عند كثير من العلماء، مع قولهم: إنه ليس بكافر كما هو معلوم. ومنها: قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، فقد ورد الأمر به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن وجوهٍ متعددة (¬2)، وأخذ بذلك عبدُ الله بن عمرو العاص وغيره، وأكثر العلماء على أن القتل انتسخ، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتى بالشارب في المرة الرابعة فلم يقتله (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1455)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء فيمن يقع على البهيمة، وابن ماجه (2564)، كتاب: الحدود، باب: من أتى ذات محرم ومن أتى بهيمة، من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬2) رواه أبو داود (4484)، كتاب: الحدود، باب: إذا تتابع في شرب الخمر، والنسائي (5662)، كتاب: الأشربة، باب: ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر، وابن ماجه (2572)، كتاب: الحدود، باب: من شرب الخمر مرارًا، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. ورواه الترمذي (1444)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء: من شرب الخمر فاجلدوه، ومن عاد في الرابعة فاقتلوه، من حديث معاوية - رضي الله عنه -. ثم قال: وفي الباب: عن أبي هريرة، والشريد، وشرحبيل بن أوس، وجرير، وأبي الرمد البلوي، وعبد الله بن عمرو. (¬3) ذكره الترمذي في "سننه" (4/ 49)، عقب حديث (1444)، عن جابر بن عبد الله وقبيصة بن ذؤيب. وانظر: "الضعفاء" للعقيلي (4/ 144).

وقد روي قتلُ السارق في المرة الخامسة (¬1)، وقيل: إن بعض الفقهاء ذهب إليه. ومنها: ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما" خَرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري (¬2). وقد ضعف العقيلي أحاديث هذا الباب كلها. ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أتاكم وأمرُكم جميع على رجلٍ واحد، فأراد أن يشقَّ عصاكم، أو يفرِّق جماعتكم، فاقتلوه" (¬3)، وفي رواية: "فاضربوا رأسه بالسيف كائنًا من كان" (¬4)، وقد أخرجه مسلم -أيضًا- من رواية عرفجة. ومنها: مَنْ شهرَ السلاح، فقد خرج النسائي من حديث ابن الزبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من شهر السلاح ثم وضعه، فدمُه هدر" (¬5)، وقد روي عن ابن الزبير مرفوعًا وموقوفًا (¬6)، وقال البخاري: إنما هو موقوف (¬7)، وسئل ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4410)، كتاب: الحدود، باب: في السارق يسرق مرارًا، والنسائي (4978)، كتاب: قطع السارق، باب: قطع اليدين والرجلين من السارق، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (1853)، كتاب: الإمارة، باب: إذا بويع لخليفتين. (¬3) رواه مسلم (1852/ 60)، كتاب: الإمارة، باب: حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع. (¬4) رواه مسلم (1852/ 59)، كتاب: الإمارة، باب: حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع. (¬5) رواه النسائي (4097)، كتاب: تحريم الدم، باب: من شهر سيفه ثم وضعه في الناس. (¬6) رواه النسائي (4098 - 4099)، كتاب: تحريم الدم، باب: من شهر سيفه ثم وضعه في الناس. (¬7) انظر: "العلل" للترمذي (ص: 237).

الإِمام أحمد عن معنى هذا الحديث، فقال: ما أدري ما هذا! وقال إسحاق بن راهويه: إنما يريد: من شهرَ السلاحَ ثم وضعه في الناس حتى استعرض الناس، فقد حلّ قتله، وهو مذهب الحرورية يستعرضون الرجال والنساء والذرية. قال الحافظ ابن رجب: وقد روي عن عائشة ما يخالف تفسير إسحاق، فخرج الحاكم من رواية علقمة بن أبي علقمة، عن أمه: أن غلامًا شهر السيف على مولاه في إمرة سعيد بن العاص، وتفلّت عليه، فأمسكه الناس عنه، فدخل المولى على عائشة، فقالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أشار بحديدة إلى أحدٍ من المسلمين يريد قتله، فقد وجب دمه"، فأخذه مولاه فقتله، وقال: صحيح على شرط الشيخين (¬1). وقد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قُتل دون ماله فهو شهيد" (¬2)، وفي رواية: "من قُتل دون دمه فهو شهيد" (¬3)، فإذا أُريد مالُ المرء أو دمُه، دافع عنه بالأسهل، هذا مذهب الإِمام أحمد، والشافعي، وهل يجب عليه أن ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (2669). وكذا الإِمام أحمد في "المسند" (6/ 266) مختصرًا. (¬2) رواه البخاري (2348)، كتاب: المظالم، باب: من قاتل دون ماله، ومسلم (141)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان المقاصد مهدر الدم في حقه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. (¬3) رواه النسائي (4094)، كتاب: تحريم الدم، باب: من قاتل دون أهله، والترمذي (1421)، كتاب: الديات، باب: ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 190)، من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -.

ينوي أنه لا يريد قتله أم لا؟ فيه روايتان عن الإِمام أحمد، وذهبت طائفة إلى أن من أراد ماله أو دمه، أُبيح له قتلُه ابتداء، وقد دخل على ابن عمر لص، فقام إليه بالسيف صَلْتًا، فلولا أنهم حالوا بينه وبينه، لقتله، وسئل الحسنُ عن لصٍّ دخل بيت رجل ومعه حديدة، فقال: اقتله بأي قتلة قدرت عليه، فهؤلاء أباحوا قتله، وإن ولّى هاربًا من غير جناية، منهم: أبو أيوب السجستاني، وخرج الإِمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدار حرمك، فمن دخل عليك حرمك، فاقتله" (¬1)، ولكن في إسناده ضعف. ومنها: قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للكفار على المسلمين، وقد توقف فيه الإِمام أحمد، وأباح قتلَه طائفةٌ من أصحاب مالك، وابنُ عقيل من علمائنا، ومن المالكية من قال: إن تكرر ذلك منه، أُبيح قتله، واستدل من أباح قتله يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى أهل مكة يُخبرهم بسير النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ويأمرهم بأخذ حذرهم، فاستأذن عمر في قتله، فقال: "إنه شهد بدرًا" (¬2)، فلم يقل: إنه لم يبح دمه، فإنما علل بوجود مانع من قتله، وهو شهوده بدرًا، ومغفرةُ الله لأهل بدر، وهذا المانع منتفٍ في حق مَنْ بعده. ومنها: ما أخرجه أبو داود في "المراسيل" من رواية ابن المسيب: أن ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (5/ 326)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (6/ 253)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 341). (¬2) رواه البخاري (2845)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الجاسوس، ومسلم (2494)، كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل أهل بدر - رضي الله عنهم -، وقصة حاطب بن أبي بلتعة، من حديث علي - رضي الله عنه -.

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ضرب أباه، فاقتلوه" (¬1)، وروي مسندًا من وجهٍ آخر لا يصح (¬2). فالجواب عن هذه الأحاديث المذكورة: أن منها ما لا يصح ولا يعرف به قائل معتبر، كهذا الحديث: "من ضرب أباه فاقتلوه"، وحديث قتل السارق في المرّة الخامسة، وباقي النصوص كلها يمكن ردّها إلى حديث ابن مسعود، وذلك أنه تضمن أنه لا يُباح دم المسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: إما أن يترك دينه ويفارق جماعة المسلمين، وإما أن يزني وهو محصن، وإما أن يقتل نفسًا بغير حق. يؤخذ منه أن قتل المسلم إنما يباح بإحدى ثلاثة أنواع: ترك الدين، وإراقة الدم المحرم، وانتهاك الفرج المحرم، فهذه الأنواع الثلاثة هي التي تبيح دم المسلم دون غيرها. فأما انتهاك الفرج المحرم، فقد ذكر في الحديث أنه الزنى بعد الإحصان، وهذا -والله أعلم- على وجه المثال، فإن المحصَن قد تمت عليه النعمة بنيل الشهوة بالنكاح، فإذا أتاها بعد ذلك من فرجٍ محرمٍ عليه، أبيح دمه، وقد ينتفي شرط الإحصان ليخلفه شرط آخر، وهو كون الفرج لا يُستباح بحال، إما مطلقًا كاللواط، أو في حق الوطء كمن وطئ ذات محرم بعقد أو غيره، فهذا الوصف قد يكون قائما مقام الإحصان، وخلفًا عنه، وهذا محل النزاع بين العلماء. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في "المراسيل" (485)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 38). (¬2) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (38/ 2)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[والأحاديث دالّة على أنه يكون خلفًا عنه] (¬1)، ويكتفى به في إباحة الدم. وأما سفك الدم الحرام، فهل يقوم مقامه إثارةُ الفتن المؤدية إلى سفك الدماء، كتفريق جماعة المسلمين، وشق العصا، والمبايعة لإمام ثان، ودلِّ الكفار على عورات المسلمين؟ هذا محل النزاع، وقد روي عن عمر ما يدل على إباحة القتل بمثل هذا، وكذا شهر السلاح لطلب القتل هل يقوم مقام القتل في إباحة الدم أم لا؟ فابن الزبير وعائشة - رضي الله عنهم - رأياه قائمًا مقام القتل الحقيقي في ذلك، وكذلك قطعُ الطريق بمجرده هل يبيح القتل أم لا؛ لأنه مظنة لسفك الدماء المحرمة؟ وقول الله -عزّ وجلّ-: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] يدل على أنه إنما يباح قتل النفس بشيئين: أحدهما: بالنفس. والثاني: بالفساد في الأرض. ويدخل في الفساد في الأرض الخرابُ والردّة والزنى، فإن ذلك كله فسادٌ في الأرض، وكذلك تكررُ شرب الخمر والإصرارُ عليه هو مظنّة سفك الدماء المحرمة، وقد اجتمع رأي الصحابة - رضي الله عنهم - في عهد عمر على حدّ السكران ثمانين (¬2)، وجعلوا السكر مظنة الافتراء والقذف الموجب لجلد الثمانين، ولما قدم وفد عبد القيس على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونهاهم عن الأشربة والانتباذ في الظروف، قال: "إن أحدكم ليقوم إلى ابن عمه" يعني: ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬2) رواه مسلم (1707)، كتاب: الحدود، باب: حد الخمر.

إذا شرب "فيضربه بالسيف"، وكان فيهم رجل قد أصابته جراحة من ذلك، فكان يَخْبَؤُها حياءً من النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، فهذا كله يرجع إلى إباحة الدم بالقتل إقامةً لمظان القتل مقامَ حقيقته. لكن هل نسخ ذلك، أم حكمه باقٍ؟ محلّ نزاع بين العلماء. وأما ترك الدين ومفارقةُ الجماعة، فمعناه: الارتداد عن دين الإِسلام، ومفارقة جماعة المسلمين، ولو أتى بالشهادتين، فلو سبّ الله أو رسوله، وهو مقرٌّ بالشهادتين، أبيح دمه؛ لأنه قد ترك بذلك دينه، وكذلك لو استهان بالمصحف، وألقاه في القاذورات، أو جحد ما يُعلَم من الدين بالضرورة، كالصلاة وما أشبه ذلك ممّا يخرج من الدين. وهل يقوم مقام ذلك تركُ شيء من أركان الإِسلام الخمس؟ هذا ينبني على أنه هل يخرج من الدين بالكليّة بذلك أم لا؟ فمن رآه خروجًا عن الدين، كان عنده كترك الشهادتين وإنكارهما، ومن لم يره خروجًا عن الدين، فاختلفوا هل يلحق بتارك الدين في القتل، لكونه ترك أحد مباني الإِسلام، أم لا، لكونه لم يخرج عن الدين؟. ومن هذا الباب ما قاله كثير من العلماء في قتل الداعية إلى البدع، فإنهم نظروا إلى أن ذلك شبيهٌ (¬2) بالخروج عن الدين، وهو ذريعة ووسيلة إليه، فإن استخفى بذلك، ولم يَدْعُ غيرَه، كان حكمُه حكمَ المنافقين إذا استخفوا، وإذا دعا إلى ذلك، تغلّظ جرمُه بإفساد دين الأمّة، وقد صحّ عن ¬

_ (¬1) رواه مسلم (18)، كتاب: الإيمان" باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) في الأصل: "شبيهًا"، والصواب ما أثبت.

النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمرُ بقتال الخوارج وقتلِهم (¬1)، وقد اختلف العلماء في حكمهم، فمنهم من قال: إنهم كفّار، فيكون قتلُهم لكفرهم، و [منهم] (¬2) من قال: إنهم إنما يُقتلون لفسادهم في الأرض بسفك دماء المسلمين، وتكفيرِهم لهم، وهو قول [الإمام] (¬3) مالك. قال الحافظ ابن رجب: وهو قول طائفة من أصحابنا، وأجازوا الابتداءَ بقتلهم، والإنجازَ على جريحهم. ومنهم من قال: إن دعوا إلى ما هم عليه، قوتلوا، وإن أظهروه ولم يدعوا إليه، لم يقاتلوا، وهو نص الإِمام أحمد، وإسحاق، وهذا يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة. ومنهم من لم ير البداءة بقتالهم حتى يبدؤوا بقتال، أو بما يبيح قتالهم، من سفك دم ونحوه كما روي عن علي، وهو قول الشافعي وكثير من علمائنا، وقد روي من وجوهٍ متعددة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل رجلٍ كان يصلي، وقال: "لو قتل، لكان أولَ فتنة وآخرَها" (¬4)، وفي رواية: "لو قتل لم يختلف رجلان من أمتي حتى يخرج الدجال" رواه الإِمام أحمد وغيره (¬5)، فيستدل بهذا على ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3415)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإِسلام، ومسلم (1066)، كتاب: الزكاة، باب: التحريض على قتل الخوارج، من حديث علي - رضي الله عنه -. (¬2) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬3) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬4) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (5/ 42)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (703)، من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -. (¬5) رواه أبو يعلى في "مسنده" (3668)، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.

قتل المبتدِع إذا كان قتلُه يكف شرَّه عن المسلمين ويحسم مادّة الفتن. وقد حكى ابن عبد البر وغيره عن مذهب مالك جوازَ قتل الداعي إلى البدعة. فرجعت نصوص القتل كلُّها إلى ما في حديث ابن مسعود بهذا التقدير، ولله الحمد، كما ذكره الحافظ ابن رجب، ولخصته من كلامه. قال: وكثيرٌ من العلماء يقول في هذه النصوص التي ذكرناها ها هنا إنها منسوخة بحديث ابن مسعود، وفي هذا نظر، لعدم العلم بتأخر حديثه عنها كلها, لا سيما وابن مسعود من قدماء المهاجرين، وكثير من تلك يرويها من تأخر إسلامُه، كأبي هريرة، وجرير بن عبد الله، ومعاوية، فإن هؤلاء كلهم رووا قتل شارب الخمر في المرّة الرابعة، ولأن الخاص لا يُنسخ بالعام، ولو كان العامُّ متأخرًا عنه، على الصحيح الذي عليه الجمهور؛ لأن دلالة الخاص على معناه بالنص، ودلالة العام عليه بالظاهر عند الأكثرين، فلا يُبطل الظاهرُ حكمَ النص، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل رجلٍ كذب عليه في حياته، وقال لحيّ من العرب: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلني وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم، وهذا روي من وجوهٍ متعددة كلُّها ضعيفة، وفي بعضها: أن هذا الرجل كان قد خطب امرأة منهم في الجاهلية، فأبوا أن يزوجوه، وإنه لما قال لهم هذه المقالة، صدّقوه، ونزل على تلك المرأة (¬1)، وحينئذٍ فهذا الرجل قد زنى، ونسبَ إباحةَ ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كفرٌ ورِدَّة عن الدين، وقد قدّمنا أنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل بغير هذه الأسباب الثلاثة كما نص عليه الإِمام أحمد (¬2)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (1/ 352)، من حديث بريدة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 128 - 131).

تتمة: يُقتل الزنديق، وهو المنافق، ومن تكررت رِدَّته، أو كفر بسحره، أو بسبِّ الله أو رسوله، أو تنقُّصه، وقيل: ولو تعريضًا، فقد نقل حنبلٌ عن الإِمام أحمد: من عَرَّض بشيء من ذكر الربِّ، فعليه القتلُ، مسلمًا كان أو كافرًا. وفي "الفروع": أنه مذهب أهل المدينة، وسأل ابنُ منصور الإمامَ أحمد: ما الشتيمة التي يُقتل بها؟ قال: نحن نرى في التعريض الحدَّ، قال: فكان مذهبه فيما يجب الحد من الشتيمة التعريض. ولا تقبل توبة هؤلاء على المعتمد. وفي "الفصول" للإمام ابن عقيل ما نصه عن أصحابنا: لا تقبل إن سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه حق آدميّ لم يُعلم إسقاطه، وأنه تقبّل إن سبَّ الله؛ لأنه يقبل التوبة في خالص حقه، وجزم به في "عيون المسائل" وغيرها؛ لأن الخالق -سبحانه- منزه عن النقائص، فلا تلحق به، بخلاف المخلوق، فإنه محل لها، فلهذا افترقا. والخلاف في أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوتِ أحكام الإِسلام لهم، فأما في الآخرة: فمن صدق منهم، قُبل إسلامه، بلا خلاف، ذكره ابن عقيل، والموفق، وجماعة (¬1). وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: والنصيرية الإسماعيلية الملاحدة القرامطة الباطنية الحرمية المحمزة -كل هذه أسماء لهم-. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 162 - 163).

قلت: وكذا من أسمائهم: الدروز، والتيامنة، والبرذعية، والحمزاوية. قال: أجمع المسلمون على أنه لا تجوز مناكحتُهم، ولا يجوز أن ينكح الرجل موليته منهم، ولا تباح ذبائحهم، ولا يجوز دفنُهم في مقابر المسلمين، ولا يصلى عليهم. قال: واستخدام مثل هؤلاء في حصون المسلمين وثغورهم من الكبائر المحرمة، وهي بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعي الغنم. قال: ودماؤهم وأموالهم حلال مباحة، ولا تُقبل توبتهم، ومن قبلها، أقرّهم على أموالهم، ومن لم يقبلها، فمالُهم فيء لبيت المال. قال: وأصل مذهبهم التقيّة، فإذا أخذوا، أظهرو التوبة (¬1)، انتهى. قلت: أمر الدروز بَيِّنٌ ظاهرٌ، لا يخفى إلا على مغفل، ولا يروج إلا على مخبَّل، أو من لا حرارة له على دين الإِسلام، فإنهم من أشدّ الناس، بل هم أشدُّ الناس كفرًا، وأعظمهم جرمًا ونكرًا، وقد اجتمعتُ مرارًا بمن يَدْعونهم عُقَّلًا، وجرى بيني وبينهم من المحاورة وإقامة البراهين ما أذعنَ له بعضُهم، واعترف بأنهم ليسوا بمسلمين، وأنهم لا يصلون، ولا يصومون، ولا يحجون، ولا يزكون، ولا بدينٍ يتدينون، فعلى كل مسلم قتلُهم حيث قدر حيث يكونون من حل وحرم، ومن قال بخلاف مقالتي هذه، فما اطلع على حقيقة حالهم، وإن كان اطلع وتمادى على خلافه، فهو على منوالهم، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم. ¬

_ (¬1) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإِسلام ابن تيمية (4/ 249 - 253).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ في الدِّمَاءِ" (¬1). * * * (عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ مسعود) -أيضًا (- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أولُ ما يُقضى) -بضم أوله وفتح الضاد المعجمة مبنيًا للمفعول-؛ أي: أول قضاء يقضى: (بين الناس يوم القيامة في ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6168)، كتاب: الرقاق، باب: القصاص يوم القيامة، و (6471)، في أول كتاب: الديات، ومسلم (1678)، كتاب: القسامة، باب: المجازاة بالدماء في الآخرة، واللفظ له، والنسائي (3991 - 3994، 3996)، كتاب: تحريم الدم، باب: تعظيم الدم، والترمذي (1396 - 1397)، كتاب: الديات، باب: الحكم في الدماء، وابن ماجه (2615، 2617)، كتاب: الديات، باب: التغليط في قتل مسلم ظلمًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 479)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 42)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 167)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 87)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1406)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 396)، و"عمدة القاري" للعيني (23/ 112)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 42)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 232)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 196).

الدماء)؛ يعني: أول ما يحكم الله بين الناس فيها، مقدِّمًا لها على غيرها، لعظم مفسدة سفكها، والأوجَهُ: أن الأولوية في هذا مطلقة (¬1). وهذا رواه غير الشيخين -أيضًا- الإمامُ أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬2). وللنسائي -أيضًا-: "أول ما يُحاسب عليه العبدُ الصلاةُ، وأول ما يُقضى بين الناس في الدماء" (¬3). وفي "الصحيحين"، وأبي داود، والنسائي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبعَ الموبقات"، قيل: يا رسول الله! وما هنَّ؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحق، وأكلُ مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصَنات الغافلات المؤمنات" (¬4). ومعنى الموبقات: المهلكات. وفي "البخاري"، و"مستدرك الحاكم"، وقال: صحيح على شرطهما، عن ابن عمر - رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يزال ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 87). (¬2) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (1/ 388). وتقدم تخريجه عند الترمذي والنسائي وابن ماجه. (¬3) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (3991). (¬4) رواه البخاري (2615)، كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] , ومسلم (89)، كتاب: الإيمان, باب: بيان الكبائر وأكبرها، وأبو داود (2874)، كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في التشديد في أكل مال اليتيم، والنسائي (3671)، كتاب: الوصايا، باب: اجتناب أكل مال اليتيم.

المؤمن في فُسحة من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا (¬1) ". وقال ابن عمر: من ورطات الأمور التي لا مخرجَ لمن أوقع نفسه فيها سفكُ الدم الحرام بغير حلّه (¬2). الورطات: جمع وَرْطة -بسكون الراء-، وهي الهلكة، وكل أمر تعسرُ النجاة منه (¬3). وعن البراء بن عازب - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لزوال الدنيا أهونُ على الله من قتل مؤمنٍ بغير حق" رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسن، والبيهقي (¬4)، والأصبهاني، وزاد فيه: "ولو أنّ أهلَ سماواته وأهلَ أرضه اشتركوا في دم مؤمن، لأدخلهم [الله] (¬5) النار" (¬6). وفي حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لزوال الدنيا أهونُ من قتل رجل مسلم" رواه مسلم، والنسائي، والترمذي (¬7)، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6469)، في أول كتاب: الديات، والحاكم في "المستدرك" (8029). (¬2) رواه البخاري (6470)، في أول كتاب: الديات. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 188). (¬4) رواه ابن ماجه (2619)، كتاب: الديات، باب: التغليظ في قتل مسلم ظلمًا، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5343). (¬5) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬6) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 201)، حديث رقم (3675). (¬7) لم يروه مسلم في "صحيحه"، وقد تبع الشارح -رحمه الله- المنذريَّ في "الترغيب والترهيب" (3/ 201)، حديث رقم (3677) في عزوه الحديث إلى مسلم. وقد رواه النسائي (3987)، كتاب: تحريم الدم، باب: تعظيم الدم، والترمذي (1395)، كتاب: الديات، باب: ما جاء في تشديد قتل المؤمن.

وروى نحوه البيهقي من حديث بريدة (¬1). وفي حديث أبي سعيد، وأبي هريرة مرفوعًا: "لو أنّ أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن، لأكبهم الله في النار" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب (¬2). وفي "سنن ابن ماجه" من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، لقي الله مكتوبًا بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله" (¬3)، رواه الأصبهاني، وزاد: قال سفيان بن عينية: هو أن يقول: اُقْ، لا يُتم الكلمة اقتل (¬4). ورواه البيهقي من حديث ابن عمر مرفوعًا، ولفظه: "من أعان على دم امرئ مسلم" الحديث (¬5). وفي الطبراني، ورواته ثقات، والبيهقي عن جندب بن عبد الله مرفوعًا: "من استطاع منكم أَلَّا يحول بينه وبين الجنّة ملء كفٍّ من دم امرئٍ مسلم أن يهريقه كما تذبح به دجاجة، كلَّما تعرَّضَ لبابٍ من أبواب الجنّة، حال الله بينه وبينه" الحديث (¬6). وفي النسائي، والحاكم وصححه من حديث معاوية مرفوعًا: "كل ذنب ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (5342). (¬2) رواه الترمذي (1398)، كتاب: الديات، باب: الحكم في الدماء. (¬3) رواه ابن ماجه (2620)، كتاب: الديات، باب: التغليظ في قتل مسلم ظلمًا. (¬4) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 202)، حديث رقم (3683). (¬5) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (5346). (¬6) رواه الطبراني في "المعجم"الأوسط" (8495)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5350).

عسى الله أن يغفره، إلّا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا" (¬1). ورواه أبو داود، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم -أيضًا- من حديث أبي الدرداء (¬2). وفي الترمذي وحسنه، والطبراني في "الأوسط"، ورواته رواة الصحيح، واللفظ له: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه سأله سائل: هل للقاتل من توبة؟ فقال كالمعجب من شأنه: ماذا تقول؟ فأعاد عليه مسألته، فقال: ماذا تقول؟! مرّتين أو ثلاثًا، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: سمعتُ نبيّكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يأتي المقتولُ متعلقًا رأسه بإحدى يديه، متلببًا قاتلَه باليد الأخرى تشخب أوداجه دمًا حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لربّ العالمين: هذا قتلني، فيقول الله للقاتل: تعست، ويذهب به إلى النار" (¬3). ورواه الطبراني في "أوسطه" -أيضًا- من حديث ابن مسعود، وفي آخره: فيقول: "بم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزّة لفلان، قيل: هي لله" (¬4). وفي "مسند الإِمام أحمد" من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "يخرج عنق ¬

_ (¬1) رواه النسائي (3984)، في أول كتاب: تحريم الدم، والحاكم في "المستدرك" (8031). (¬2) رواه أبو داود (4270)، كتاب: الفتن والملاحم، باب: في تعظيم قتل المؤمن، وابن حبان في "صحيحه" (5980)، والحاكم في "المستدرك" (8032). (¬3) رواه الترمذي (3029)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النساء، والطبراني في "المعجم"الأوسط" (4217). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (766).

من النار يتكلم يقول: وكلت اليوم بثلاثة: بكلِّ جبار عنيد، ومن جعل مع الله إلهًا آخر، ومن قتل نفسًا بغير نفس، فيهوي عليهم، فيقذفهم في حمراء جهنم"، ورواه البزار، والطبراني بإسنادين رواةُ أحدهما رواة الصحيح (¬1). وعلى كل حال قتلُ النفس المعصومة بغير حق من أكبر الكبائر، بل أكبر الكبائر بعدَ الشرك بالله -تعالى-، والله الموفق. فإذا كان الأمر كما ذكر، فلا ينبغي التجرؤ على هذه الكبيرة العظيمة، وإذا كان الله -جل شأنه- أول ما يقضي بين عباده في الدماء، فلا يسوغ للحكام وولاة الأمور إهمالُ شيء من ذلك، بل عليهم الاحتفالُ بشأنه، والمبادرةُ لإنفاذ ما حكم الله ورسوله وقضاه في ذلك من قَوَدٍ أو ديَة أو غيرهما، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (3/ 40)، والبزار في "مسنده" (10/ 392 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والطبراني في "المعجم"الأوسط" (318، 3981)، وعندهم: "فينطوي" بدل: "فيهوي".

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ سَهْلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى خَيْبَرَ -وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ-، فَتَفَرَّقَا، فَأتَى مُحَيِّصَةُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ سَهْلٍ، وَهُوَ يَتَشَحَّطُ في دَمِهِ قَتِيلًا، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ المَدِينهَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَيِّصَةُ وَحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتكَلَّمُ، فَقَالَ: "كَبِّرْ كَبِّرْ! "، وَهُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ، فَسَكَتَ، فَتكلَّمَا، فَقَالَ: "أتحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ صَاحِبَكُمْ أَوْ قَاتِلَكُمْ؟ "، قَالُوا: وَكيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَرَ وَلَمْ نَشْهَدْ؟ قَالَ: "فَتبرِئكمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمينًا؟ "، فَقَالُوا: كَيْفَ نَأَخُذُ بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كفَّارٍ؟ فَعَقَلَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - منْ عِنْدِهِ (¬1). وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمَّتِهِ؟ "، قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ، كيْفَ نَحْلِفُ؟ قَالَ: "فَتبرِّئكمْ يَهُودُ بِأَيمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! قَوْمٌ كفَّارٌ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3002)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، واللفظ له، ومسلم (1/ 1669)، كتاب: القسامة، باب: القسامة، والنسائي (4715) كتاب: القسامة، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر سهل فيه. (¬2) رواه البخاري (5791)، كتاب: الأدب، باب: إكرام الكبير، ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال، ومسلم (1669/ 2)، كتاب: القسامة، باب: القسامة، =

وَفي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ: فَكَرِهَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ بِمِئَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ (¬1). * * * (عن سهل بنِ أبي حَثْمَةَ) -بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة- كنيته: أبو محمَّد، كما تقدم في ترجمته في باب: صلاة الخوف، واسم أبي حثمة: عبد الله، وهما صحابيان - رضي الله عنهما - (قال) سهل - رضي الله عنه -: "إنطلقَ عبدُ الله بنُ سهلِ) بنِ زيد بنِ كعب بنِ عامر بن عديٍّ الأنصاريُّ المدنيُّ، كان قد خرج بعد فتح خيبر مع أصحابٍ له ¬

_ = واللفظ له، وأبو داود (4520)، كتاب: الديات، باب: القتل بالقسامة، والنسائي (4712 - 4714) كتاب: القسامة، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر سهل فيه، والترمذي (1422)، كتاب: الديات، باب: ما جاء في القسامة. (¬1) رواه البخاري (6502)، كتاب: الديات، باب: القسامة، ومسلم (1669/ 5)، كتاب: القسامة، باب: القسامة، وأبو داود (4523)، كتاب: الديات، باب: في ترك القود بالقسامة، والنسائي (4719)، كتاب: القسامة، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر سهل فيه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 10)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 191)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 192)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 447)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 5)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 431)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 88)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1408)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 232)، و"عمدة القاري" للعيني (24/ 58)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 62)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 253)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 183).

يمتارون تمرًا (¬1). (ومُحَيِّصَة) -بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة تحت، على الأشهر، وقد تخفف (¬2) (بنُ مسعود) بنِ كعب بنِ عامرٍ الخزرجيُّ الأنصاريُّ أخو حُوَيِّصَة -الآتي ذكره-. والحاصل: أن محيِّصة وحويِّصة ابنا مسعود بن كعب، وعبد الله وعبد الرحمن -الآتي ذكره- ابنا سهل بن زيد بن كعب، فاجتماع الفريقين في كعب، فحويصة ومحيصة كانا ابني عم سهل والد عبد الله وعبد الرحمن، فما وقع في عبارات المحدثين مما يشعر بغير ذلك فهو على ضربٍ من المجاز. وكنية محيصة: أبو سعيد، وهي كنية أخيه حويصة -أيضًا-. وشهد محيصة أُحدًا والخندق وما بعدهما من المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحيصة أصغر من حويصة، ولكنه أنجبُ من حويصة وأفضل، وهو السابق بالإِسلام، ثم أسلم حويصة على يديه. وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محيصةَ إلى فَدَك يدعوهم إلى الإِسلام. روى عنه: ابنُه سعيد، وابنُ ابنه حَرامُ بن سعيد، ومحمدُ بنُ سهل بن أبي حثمة، وأخرج له أبو داود، والترمذي (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 924)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 255)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 123). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 399). (¬3) انظر ترجمة محيصة في: "التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 53)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 426)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 404)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1463)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 411)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 392)، و"تهذيب الكمال" للمزي =

(إلى خيبر): متعلق بانطلق، (وهي)؛ أي: خيبر (يومئذٍ)؛ أي: يوم خروجهما وانطلاقهما إليها (صلح)؛ لأن ذلك بعد فتحها وإبقاء أهلها يعملون للمسلمين على غيلها وأرضها بشطر ما يخرج منها -كما تقدم- (فتفرق)؛ أي: عبد الله بن سهل ومحيصة لأجل الميرة، (فأتى محيصة) بعد قضاء حاجته (إلى عبد الله بنِ سهل)، فوجده (وهو يتشحَّلط في دمه) -جملة حالية-؛ أي: وجده مضرَّجًا بالدم ملطَّخًا به، يقال: شحطه تشحيطًا: ضرّجه بالدم، فتشحّط: تضرّج به، واضطرب فيه، وأشحطه: أبعده (¬1)؛ يعني: وجده (قتيلًا، فدفنه) محيصةُ، (ثم قدم المدينة) المشرفة، (فانطلق عبد الرحمن بن سهل) أخو عبد الله المقتول، وكان لعبد الرحمن هذا فهمٌ وعلمٌ، وروى عنه سهل بن أبي حثمة، وشهد أحُدًا والخندق وما بعدهما من المشاهد، واختُلف في شهوده بدرًا، فأثبت ابن عبد البر أنه شهدها، ونفاه غيره، واستعمله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على البصرة بعد موت عتبة بن غزوان (¬2). (و) انطلق مع عبد الرحمن ابنا عمه (محيصةُ) المذكور أولًا (وحويصةُ ابنا مسعود) بن كعب بن عامر، وحُوَيِّصة -بضم الحاء المهملة وفتح الواو وتشديد الياء المثناة تحت مكسورة على الأفصح الأشهر وبالصاد المهملة- ¬

_ = (27/ 312)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 60). وانظر ترجمة أخيه حويصة في: "الثقات" لابن حبان (3/ 91)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (10/ 409)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (97/ 2)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 173)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 143). (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 869)، (مادة: شحط). (¬2) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 277).

هو: أبو سعد بن مسعود بن كعب بن عدي بن مَجْدَعة -بفتح الميم وسكون الجيم وفتح الدال المهملة- ابنِ حارثة، وسبب إسلام حويصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا قال: "من ظفرتم به من رجال يهود، فاقتلوه"، وثب محيصة على رجلٍ من تجار اليهود فقتله، وكان يلابسهم ويبايعهم، فجعل حويصةُ يضرب محيصةَ، ويقول: أي عدوّ الله! قتلته، أما والله! لربَّ شحمٍ في بطنك من ماله، فقال له محيصة: أما والله! لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله، لضربت عنقك، فقال له حويصة: إن دينًا قد بلغ بك هذا لعجب! فأسلم حويصة يومئذٍ (¬1)، وشهد أحُدًا والخندق وما بعدهما من المشاهد، ولهما أخ آخر يقال له: الأحوص، نقل الذهبي في "تجريده" عن ابن الدباغ: أنه شهد أحُدًا (¬2). (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -): متعلق بقوله: فانطلق، (فذهب عبدُ الرحمن) بنُ سهل أخو المقتول (يتكلم) في أمر قتل أخيه، (فقال): -عليه الصلاة والسلام-: (كبّرْ، كبّرْ) في رواية البخاري وأبي داود "الكُبْرَ الكُبْرَ" (¬3). قال في "النهاية": أي: ليبدأ الأكبرُ بالكلام، أو قدّموا الأكبرَ، إرشادًا إلى الأدب في تقديم الأَسَنِّ (¬4)، والكُبرَ -بضم الكاف وسكون الموحدة بالنصب- فيهما على الإغراء. (وهو)؛ أي: عبد الرحمن بن سهل (أحدثُ)؛ أي: أصغر (القوم) ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1463 - 1464). (¬2) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (1/ 10). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6502)، وعند أبي داود برقم (4520). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الإثير (4/ 141).

سنًا، (فسكت) عبد الرحمن - رضي الله عنه -، امتثالًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (فتكلما)؛ أي: محيصة وحويصة في أمر عبد الله بن سهل، وأنه وجد قتيلًا في بعض نواحي خيبر، فقالوا للذي وجد فيهم: قتلتم صاحبنا؟ قالوا: ما قتلنا, ولا علمنا قاتلًا (¬1). واعلم أن حقيقة الدعوى إنما هي لأخيه عبد الرحمن، لا حقّ فيها لابن عمه، وإنما أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتكلم الأكبرُ، وهو حويصة؛ لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى، بل صورة القصة، وكيف جرت، فإذا أراد حقيقة الدعوى، تكلم صاحبها، ويحتمل أن عبد الرحمن وكّلَ حويصةَ ومحيصةَ في الدعوى، أو أمر بتوكيله. وفي هذا فضيلة السنن عند التساوي في الفضائل، وله نظائر منها: الإمامة، وولاية النكاح، وغيرها (¬2). (فقال) -عليه الصلاة والسلام- لهم: تأتون بالبيّنة على من قتله، فقالوا: ما لنا بيّنة، قال: (أتحلفون) خمسين يمينًا؟ كما يأتي (وتستحقون صاحبكم أو) قال: (قاتلكم)، يعني: دمه، وليس في رواية يحيى ولا أبي قلابة للبيّنة ذكرٌ (¬3). قال النووي: قال القاضي حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ كافة الأمّة من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6502). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 146). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 234).

والشاميين والكوفيين وغيرهم، وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به (¬1)، وسأبين ذلك بيانًا شافيًا -إن شاء الله تعالى-. (قالوا)؛ يعني: محيصة وحويصة وعبدُ الرحمن بن سهل ومن معهم: (وكيف نحلف ولم نر) القاتلَ لصاحبنا (ولم نشهدْ) ذلك؟ وفي لفظ عند الإِمام أحمد: قال لهم: "تُسَمُّون قاتلكم، ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا، ثم نسلمه" (¬2). واستدل بهذه الزيادة على أن تسميته شرط، وفي قولهم: كيف نحلف ولم نر ولم نشهد؟ وإقرارِهم على ذلك، دليلٌ على أنه لا يحلف على ما لا يعلم، ويأتي الكلام عليه -إن شاء الله تعالى-. (قال) -عليه الصلاة والسلام-: فإذا أبيتم أن تحلفوا، (فتبرئكم)؛ أي: تتخلص وتنفصل من دعواكم عليهم (يهود)؛ أي: المدعى عليهم منهم (بـ) أيمانٍ مكررة من طرفهم (خمسين يمينًا) لأجل براءتهم من دعواكم عليهم أنهم قتلوا صاحبكم (فقالوا): يا رسول الله! (كيف نأخذ بأيمان قومٍ كفار) بالله وبك يا رسول الله، وهم أعداؤنا؟ (فعقله)؛ أي: أدّى عقله يعني: ديَته (النبي) - صلى الله عليه وسلم - (من عنده) بمئة من إبل الصدقة ولم يبطل دمه. (وفي حديث حمّاد بن زيد) بن درهم الجَهْضَمِيِّ -بفتح الجيم وسكون الهاء وفتح الضاد المعجمة- نسبةً إلى جَهْضَم بن عوف بن مالك بن فهم بن غنم الأَزْدي -بفتح الهمزة وسكون الزاي وبالدال المهملة- نسبةً إلى الأزد، واسمه دَرَا -بفتح الدال والراء المهملتين- بن الغوث، وإليه تنسب الأنصار، وكان حماد هذا مولى آل جرير بن حازم البصري أحدِ الأعلام ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 448). وانظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 143). (¬2) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 3).

الإثبات، وكان جده درهمٌ من سَبْي سِجِستان، روى عن ثابت البناني، وأيوب، وعمرو بن دينار، روى عنه ابن المبارك، ويحيى بن سعيد، وابن مهدي، ولد في زمان عمر بن عبد العزيز. قال ابن الأثير: مات حمّاد -رحمه الله ورضي عنه- سنة تسع وسبعين ومئة، وقال النووي: ثمان، وكان عمره إحدى وثمانين سنة، في شهر رمضان، في البصرة، وكان ضريرًا. قال المهدي: أئمةُ الناس في زمانهم أربعة: الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحمّاد بن زيد بالبصرة. وقال عبد الله بن معاوية: سمعت عبد الله بن المبارك -رحمه الله- ينشد: [من مجزوء الرمل] أَيُّهَا الطَّالِبُ عِلْمًا ... ائْتِ حَمَّادَ بْنَ زَيْدِ فَخُذِ الْعِلْمَ بِحِلْمٍ ... ثُمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْدِ وقال عبد الله بن الحسن: إنما هما الحَمَّادانِ، فإذا طلبتم العلمَ، فاطلبوه من الحمّادَيْنِ: حمّادِ بنِ زيد، وحمّادِ بن سَلَمة. وحديثه هذا مما اتفق عليه البخاري ومسلم (¬1). (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقسم خمسون منكم) معشرَ بني الحارث (على ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 286)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 25)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 176)، و"الثقات" لابن حبان (6/ 217)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 364)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 170)، و"تهذيب الكمال" للمزي (7/ 239)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (7/ 456)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 228)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 9).

رجلٍ منهم)، وفي هذا حجة لمعتمد مذهب الإِمام أحمد: أنهم لا يقسمون على أكثر من واحد، فلابد من تعيين الذي يقسمون عليه، كما في لفظ رواية الإِمام أحمد: "تسمون قاتلكم، ثم تحلفون عليه خمسين يمينًا" (¬1)، ومن كونه واحدًا، فلا يقسمون على متعدد، لهذا الحديث، (فيدفع) لكم الرجل الذي تقسمون عليه خمسين يمينًا (برمته) التي يقاد بها؛ يعني: بالحبل الذي ربط به، وكانوا يربطون المقود منه بحبل، ويدفعونه إلى وليّ المقتول، ثم قيل ذلك لكلِّ ما دُفعَ بجملته، ولكل من أسلم للقود، وإن لم يكن مربوطًا بحبل، والرمة: قطعة حبل بالٍ (¬2)، وبه لقب ذو الرمة الشاعر المشهور، (قالوا: أمرٌ لم نشهده، كيف نحلف) عليه؟ (قال) -عليه السلام-: (فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا: يا رسول الله! قومٌ كفار) لا نرضى بأيمانهم، كما في رواية في "الصحيحين": فقالوا: لا نرضى بأيمان اليهود (¬3). (وفي حديث) أخرجه مسلم عن محمَّد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن (سعيد بن عبيد) بن بشير بن يسار الأنصاري، عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري: أنه أخبره أن نفرًا عنهم، وساق الحديث، وقال فيه: (فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه)؛ أي دم عبد الله بن سهل من غير قود ولا ديّة، (فوداه) -عليه السلام- (بمئة) بعير، أي: دفع ديّته من عنده (من إبل الصدقة)، وهو في "صحيح البخاري" -أيضًا- (¬4)، وفي لفظ: فودَاه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 267). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6502). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6502).

رسول الله من قبله، قال سهل بن أبي حثمة: فدخلتُ مربدًا لهم، فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها (¬1). وفي لفظٍ: فودَاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده، فبعث إليهم مئة ناقة حتى دخلت عليهم الدار (¬2). وفي "مسند الإِمام أحمد"، و"صحيح مسلم"، و"سنن النسائي" عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ القَسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (¬3)، وزاد مسلم في رواية: وقضى بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بين ناسٍ من الأنصار في قتيلٍ ادّعوه على اليهود (¬4). وروى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر، إلّا في القسامة" (¬5). تنبيهات: * الأول: القَسامةُ أيمانٌ مكررة في دعوى قتلِ معصوم، وقد اتفق الأئمة الأربعة على مشروعيتها في الجملة، وإن اختلفوا في كيفيتها وشروطها، وقد روي عن جماعة إبطالُها، وأنه لا حكم لها, ولا عمل بها، وممن قال ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1669/ 2). (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (5988). (¬3) رواه الإِمام أحمد في "المسند" (4/ 62)، ومسلم (1670/ 7)، كتاب: القسامة، باب: القسامة، والنسائي (4707)، كتاب: القسامة، باب: القسامة. (¬4) رواه مسلم (1670/ 8)، كتاب: القسامة، باب: القسامة. (¬5) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 111)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 123).

بهذا: سالمُ بنُ عبد الله، [وسليمان] بن يَسار، والحكمُ بن عيينة، وقتادة، وأبو قلابة، ومسلم بن خالد، وابن عليه، والبخاري، وغيرهم (¬1). ومذهب الإِمام أحمد: لا تثبت القسامة إلّا بشروط أربعة: - أحدها: دعوى القتل محمدًا أو خطأ، أو شبه عمد، على واحد معين مكلف، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، مسلم أو كافر ملتزم، ذكرًا كان المقتول أو أنثى، حرًا أو عبدًا، مسلمًا أو ذميًّا، ويُقسم على العبد المقتول سيدُه، وأمُّ ولد ونحوُها كقن، فلا قسامة فيما دون النفس من الجراح والأطراف والمال غير العبد. - الثاني: من شروط صحة القسامة: اللَّوْثُ -ولو في الخطأ، وشبهِ العمد- وهو العداوة الظاهرة، بنحو ما كان بين الأنصار وأهل خيبر، وكما بين القبائل التي يطلب بعضُها بعضًا بثأر، وما بين أحياء العرب وأهل القرى الذين بينهم الحروب والدماء، وما بين البغاة وأهل العدل، والشرط واللصوص، وكل من بينَه وبين المقتول ضِغْنٌ يغلب على الظن أنه قتله. قال القاضي: يجوز للأولياء أن يُقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله، وإن كانوا غائبين عن مكان القتل؛ لأن للإنسان أن يحلف على غالب ظنه، كما أن من اشترى من إنسان شيئًا، فجاءآخر يدعيه، جاز له أن يحلف أنه لا يستحقه؛ لأن الظاهر أنه ملك الذي باعه، إلا أنه لا ينبغي أن يحلف إلا بعد الاستثباتِ، وغلبةِ الظن التي تقارب اليقين، وينبغي للحاكم أن يعظهم ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة من الإثم، وأنها تدع الديار بَلاقعَ. فإن لم تكن عداوة ظاهرة، ولكن غلب على الظن صدقُ المدّعي؛ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 143).

كتفرق جماعة عن قتيل، أو كانت عصبية من غير عداوة ظاهرة، أو وجد قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم، أو بشهادة من لا يَثبت القتلُ بشهادتهم، كالنساء والصبيان والفساق، أو عدلٌ واحدٌ وفَسَقَةٌ، أو تفرق فئتان عن قتيل، أو شهد رجلان على إنسان أنه قتل أحد هذين، ونحوُ هذه، فليس بلوث على معتمد مذهب الإِمام أحمد (¬1). وعن الإِمام أحمد - رضي الله عنه - ما يدل على أنه لوثٌ معتبر، اختاره أبو محمَّد الجوزي، وابن رزين، وشيخ الإِسلام تقي الدين بن تيمية (¬2)، وصوّبه في "شرح الكافي". قال في "المحرر" وغيره: وعنه -أي: الإِمام أحمد- ما يدل على أن اللوث كلُّ ما يغلب في الظن صحة الدعوى، كتفرق جماعة عن قتيل إلخ (¬3)، قال في "شرحه" عن هذه الرواية: هي ظاهر كلامه؛ لأن ذلك هو المقصود من اللوث، فيكون معتبرًا كما في العداوة الظاهرة. قال علماؤنا: وأما قولُ المجروح: جرحني فلانٌ، فليس بلوث على كلتا الروايتين (¬4)؛ لأن قول المجروح: جرحني فلان دعوى منه لا تزيد على دعوى الولي، وإذا لم تكن دعوى الولي لوثًا، فكذلك دعوى المجروح، ولأن اللوث مستند الدعوى، فلا تكون الدعوى بمجردها لوثًا، هذا المذهب، وعليه الأصحاب. وهذا خلافٌ للإمام مالك - رضي الله عنه -، فإن السبب الذي يملك به ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 197 - 199). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 49). (¬3) انظر: "المحرر" للمجد ابن تيمية (2/ 150). (¬4) المرجع السابق، (2/ 151).

أولياء المقتول القسامة عنده: أن يقول ولي المقتول: دمي عند فلان عمدًا، ويكون المقتول بالغا مسلمًا حرًا، وسواء كان عدلًا أو فاسقا، ذكرًا أو أنثى، أو يقوم لأولياء المقتول شاهدٌ واحد. واختلف أصحابه في اشتراط عدالة الشاهد، فاعتبرها ابن القاسم دون أشهب (¬1). - الثالث: اتفاقُ الأولياء في الدعوى، فإن كذّب بعضُهم بعضًا، فقال أحدهم: قتله هذا، وقال الآخر: لم يقتله هذا، أو بل قتله هذا، لم تثبت القسامة، سواء كان المكذِّب عدلًا أو فاسقًا، لعدم التعيين، فلو كانت الدعوى على أهل مدينة أو محلة، أو واحد غير معين، لم تُسمع. - الرابع: أن يكون في المُدَّعين ذكور مكلفون، ولو واحدًا، فلا مدخل للنساء والخناثى والصبيان والمجانين في القسامة، سواء كانت الدعوى في القسامة أن القتل عمدًا أو خطأً، فيقسم الرجال العقلاء فقط، ويثبت الحق للجميع، فإن لم يكن فيهم ذكر، فكما لو نكل الورثة، فيحلف المدّعى عليه خمسين يمينًا، ويبرأ (¬2). ولا تُسمع الدعوى فيها إلا أن تكون مكررة بأن يقول: أَدّعي بأن هذا قتل وليّ فلان بن فلان عمدًا أو خطأ أو شبهَ عمد، ويصف القتلَ، إن كان عمدًا، قال: قصد إليه بسيف أو بما يقتل مثله غالبًا، فإن أقرّ المدّعى عليه، ثبت القتل، وإن أنكر، وثَمَّ بيّنة، حكم بها، وإلا، صار الأمر إلى الأيمان (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 219). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 200 - 202). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 398).

* الثاني: قد قدّمنا عن الإِمام مالك: أن السبب الموجب للقسامة عنده أن يقول المقتول: دمي عند فلان -مثلًا-، أو يشهد واحد. قال ابن القاسم: يعتبر في هذا الشاهد أن يكون عدلًا -كما قدّمنا عنه-، وأن يكون ذكرًا، ولم يشترط ذلك أشهبُ، ومن الأسباب الموجبة للقسامة عنده من غير خلاف عنه: أن يوجد المقتول في مكان خالٍ من الناس، وعلى رأسه رجلٌ شاكٍ في السلاح، مختضبٌ بالدم، وكذلك إن شهد شاهدان بالجرح، ثم أكل وشرب وعاش مدة، ثم مات. وقال أبو حنيفة: القسامة وجودُ القتيل في موضع هو في حفظ قوم أو حمايتهم، كالمحلة والدورِ ومسجدِ المحلة والمقبرة، فكل ذلك موجبٌ للقسامة، ولو كان الدم يخرج من أنفه ودبره وفيه، فليس بقتيل، ولو خرج من أذنه أو عينه، فهو قتيل تسوغ فيه القسامة. وقال الشافعي: السبب الموجب للقسامة اللوثُ، قال: واللوث عندي: أن يُرى قتيل في محلة أو قرية لقومٍ بينهم عداوة ظاهرة، [ولا يشارك لأهل المحلة والقرية غيرهم، فإن ذلك لوث، فإن عدم أحد الشرطين، لم يكن لوثًا عنده. ومنه: أن يدخل نفر دارًا، فيتفرقون عن قتيل، سواء كان بينهم عداوة ظاهرة] (¬1)، أو لم تكن. ومنه: أن يزدحم الناس في موضع، كالطواف، ودخول الكعبة، أو على مصنع ماء، أو في بابٍ ضيق، فيوجد فيهم قتيل. ومن ذلك: أن يوجد في صحراء رجلٌ مقتول بالجرح، وبقربه رجلٌ معه ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

سلاح، والدمُ على سلاحه، أو ثوبه، وليس إلى جنبه عينٌ أو أثر، ومعنى ذلك: أَلَّا يُرى بقربه سَبُع، [أ] ويُرى أثر الدم في غير الطريق (¬1). إذا علمت هذا، فحاصل الشبهة الموجبة للقسامة من حيث الجملة سبع صور: الأولى: أن يقول المقتول في حياته: دمي عند فلان، وهو قتلني، أو ضربني، ونحو ذلك، هذا موجب القسامة عند مالك والليث، وادّعى مالك أنه مما أجمع عليه الأئمة قديمًا وحديثًا. قال القاضي: ولم يقل بهذا متفقهاء الأمصار غيرُهما, ولا روي عن غيرهما، وخالفا في ذلك العلماء في الفقه، فلم ير أحد غيرهما في هذا قسامة (¬2)، واحتجّ الإِمام مالك لذلك بقصة بني إسرائيل، قوله -تعالى-: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] قال: فحييَ الرجل، فأخبرَ بقاتله، واحتجّ أصحابه -أيضًا- بأن تلك حالة يطلب فيها غفلة الناس، فلو شرطنا الشهادة، وأبطلنا قول المجروح، أدّى ذلك إلى إبطال الدماء غالبًا، قالوا: ولأنها حالة يتحرى فيها المجروحُ الصدقَ، ويتجنب الكذبَ والمعاصيَ، ويتزوّد البر والتقوى، فوجب قَبولُ قوله. الثانية: اللوثُ من غير بيّنة على معاينة القتل، وبهذا قال إمامنا، ومالك، والشافعي، والليث، ومنه في قول، وهي معتمد مذهب الشافعية: شهادةُ العدل وحده. الثالثة: إذا شهد عدلان بالجرح، فعاش بعده أيامًا، ثم مات قبل أن ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 219 - 220). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 450).

يفيق منه، قال به مالك، والليث، فإنهما قالا: هو لوث، وقال غيرهما: لا قسامة، بل يجب القصاص بشهادة العدلين. الرابعة: أن يوجد المتهم عند المقتول، أو قريبًا منه، ومعه آلة القتل، وعليه أثر -كما قدّمنا آنفًا- عن الشافعي، أو تفرّق جماعة عن قتيل، فهذا لوثٌ عنده كمالك. الخامسة: أن تقتتل طائفتان، فيوجد بينهما قتيل، ففيه القسامة عند مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وعن مالك رواية: أنه لا قسامة، بل فيه الديَة على الطائفة الأخرى إن كان من الطائفتين، وإن كان من غيرهما، فعلى الطائفتين جميعًا. السادسة: أن يوجد الميّت في زحمة الناس، قال الشافعي: تثبت فيه القسامة، وتجب لها الديَة، وقال مالك: هو هدر، وقال الإِمام أحمد، والثوري، وإسحاق: تجب ديَته في بيت المال، وروي مثله عن عمر، وعلي - رضي الله عنهما -. السابعة: أن يوجد في محلة قوم، أو قبيلتهم، أو مسجدهم، فقال الجمهور: لا يثبت بذلك قسامة بمجرده، بل القتيل هدرٌ، قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أعدائه لا يخلطهم غيرهم، فيكون كالقصة التي جرت بخيبر، فحكمَ - صلى الله عليه وسلم - فيها بالقسامة لورثة القتيل، لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم. ومعتمد مذهب أحمد: حيث كانت العداوة الظاهرة تثبت القسامة، ولو كان في الموضع الذي وجد به القتيل غير العدو. وقال أبو حنيفة، والثوري، ومعظم الكوفيين: وجود القتيل في المحلة ونحوها يوجب القسامة، ولابد عندهم أن يوجد بالقتيل أثر.

قالوا: فإن وجد القتيل في المسجد، حلف أهل المحلة، ووجبت الدية في بيت المال، وذلك إذا ادّعوا على أهل المحلة. وقال الأوزاعي: وجود القتيل في المحلة يوجب القسامة، وإن لم يكن عليه أثر. ونحوه عن داود (¬1). * الثالث: قد عُلم أن الدعوى لا يسوغ سماعها على أكثر من واحد، هذا معتمد متأخري علمائنا، وجزم به "الاقناع" (¬2)، و"المنتهى" (¬3)، و"الغاية" (¬4)، وغيرها. وفي "شرح المقنع" لشمس الدين بن أبي عمرو -قدس الله روحه- ما نصه: فإن كانت الدعوى على واحد، فأقرَّ، ثبت القتل، وإن أنكرَ، وثمة بيّنة، حكم بها، وإلا، صار الأمر إلى الأيمان، قال: وإن كانت الدعوى على أكثر من واحد، لم تخل من أربعة أحوال: أحدها: أن يقول: قتله هذا، أو هذا تعمّد قتله، ويصف العمدَ بصفته، فيقال له: عيّن واحدًا، فإن القسامة الموجبة للقود لا تكون على أكثر من واحد. الثاني: أن يقول: تعمّدَ هذا، وهذا كان خاطئًا، فهو يدّعي قتيلًا غير موجب للقود، فيقسم عليهما، ويؤخذ نصف الديَة من مال العامد، ونصفها من مال الخاطىء. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 144 - 146)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- الصور السبع الماضية. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 202). (¬3) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 108). (¬4) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (6/ 153).

الثالث: أن يقول: عمد هذا, ولا أدري أكان قتل الثاني عمدًا أو خطأً، فقيل: لا تسوغ القسامة ها هنا؛ لأنه يحتمل أن يكون الآخر مخطئًا، فيكون موجبها الديَة عليهما، ويحتمل أن يكون عامدًا، فلا تسوغ القسامة ها هنا، ويجب أن يعين واحدًا، والقسامة عليه، فيكون موجبها القود، فلم تجز القسامة مع هذا، فإن عاد فقال: علمت الآخر كان عامدًا، فله أن يعين واحدًا، ويقسم عليه، وإن كان مخطئًا، ثبتت القسامة حينئذٍ، ويُسأل الآخر، فإن أنكر، ثبتت القسامة، وإن أقرّ، ثبت القتل، ويكون عليه نصف الديَة في ماله؛ لأنه ثبت بإقراره، لا بالقسامة. وقال القاضي: يكون على عاقلته، والأول أصح؛ لأن العاقلة لا تحمل اعترافًا. الرابع: أن يقول: قتلاه خطأ، أو شبه عمد، أو: أحدهما خاطئًا، والآخر شبه العمد، فله أن يقسم عليهما، فإن ادّعى أنه قتل وليّه عمدًا، فسئل عن تفسير العمد، ففسره بعمد الخطأ، قُبل تفسيره، وأقسمَ على ما فسره به؛ لأنه أخطأ في وصف القتل بالعمدية. ونقل المزني عن الشافعي: لا يحلف عليه؛ لأنه بدعوى العمد برأ العاقلة، فلم تسمع دعواه بعد ذلك ما يوجب عليها المال، ولنا: أن دعواه قد تحررت، وإنما غلظ في تسمية شبه العمد عمدًا، وهذا مما يشتبه، فلا يؤاخذ به، ولو أحلفه الحاكم قبل تحرير الدعوى، وتبين نوع القتل، لم يعتد باليمين؛ لأن الدعوى لا تُسمع غيرَ محررة، فكأنه أحلفه قبل الدعوى (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 3 - 4).

وقال في "شرح الكافي": وأما الدعوى على واحد، فإن كانت عمدًا محضًا، لم يقسموا إلا على واحد معين، ويستحقون دمه، وهذا بلا نزاع، وإن كان خطأ، أو شبه عمد، فالصحيح من المذهب والروايتين: ليس لهم القسامة، ولا تشرع على أكثر من واحد، وعليه جماهير الأصحاب: منهم: الخرقي، وأبو بكر، والقاضي، وجماعة من أصحابه، كالشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن عقيل، وغيرهم، وقدّمه في "المحرر" (¬1)، و"النظم"، و"الحاوي الصغير"، و"الفروع" (¬2)، وغيرهم. وعنه - رضي الله عنه -: لهم القسامة على جماعة معينين، ويستحقون الدية، وهو الذي قاله الإِمام الموفق في "المقنع" (¬3)، و"الكافي" (¬4). قال في "الإنصاف" (¬5) و"شرح الكافي": جزم به في "الهداية"، و"المذهب"، و"المستوعب"، و"الخلاصة"، وقدّمه في "الرعايتين"، وظاهر كلام الموفق أن غير الخرقي قال ذلك، وتابعه على ذلك الشارح، وابن منجا في "شرحه"، وليس الأمر كذلك، فقد اختار ذلك جماعة غيره، فعلى هذه الرواية: هل يحلف كل واحد من المدّعى عليهم خمسين يمينًا، أو قسطه من الخمسين؟ وجهان، وعبارة "المحرر": لا قسامة على غير معين بحال، ولا قسامة على أكثر من واحد في عمد ولا خطأ، وعنه: تشرع على الجماعة فيما لا توجب القود، ويجب بها الدية (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر" للمجد ابن تيمية (2/ 151). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 51). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 387). (¬4) انظر: "الكافي" لابن قدامة (4/ 130). (¬5) انظر: "الإنصاف" للمراداوي (10/ 145 - 146). (¬6) انظر: "المحرر" للمجد ابن تيمية (2/ 151).

قال شارحه مستدلًا لما قدمه من اعتبار عدم القود للمدعى عليه: يشترط أن يكون واحدًا، فلا تسمع على أكثر من واحد، سواء كانت الدعوى موجبة لموجب العمد، أو للخطأ في إحدى الروايتين؛ لأن في حديث قتل الأنصاري في رواية متفق عليها: "يقسم خمسون منكم على رجلٍ منهم، فيُدفع برُمته" (¬1)، ولأنها بيّنة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد، فيقتصر عليه، ويبقى ما عداه على الأصل. قال: والرواية الأخرى إن كانت موجبة للقتل، فكذلك، وإن كانت موجبة للديَة، جاز على جماعة؛ لأن المال أسهل حالًا من النفس، والقسامة بيّنة يثبت بها المال ها هنا، فاستوى فيها الواحد والجماعة في الثبوت، كالشهادة، وهذا بخلاف ما فيه القود، فإن التشديد في قتل النفس أوجبَ أن يجعل القسامة على أكثر من واحد شبهة في إسقاط القود، لثبوته على خلاف الأصل. وقال في "شرح المقنع" معلِّلًا اشتراطَ كونِ الذي عليه الدعوى واحدًا -بعدَ ذكر الحديث المذكور-: ولأنها -أي: القسامة- بيّنة ضعيفة، خولف بها الأصل في قتل الواحد، فيقتصر عليه، ويبقى على الأصل فيما عداه. قال: وبيان مخالفة الأصل بها: أنها ثبتت باللوث، وهو شبهة مغلِّبَةٌ على الظن صِدْقَ المدّعي، والقودُ يسقط بالشبهات، فكيف يثبت بها يقول المدّعي ويمينِه مع التهمةِ في حقه، والشكِّ في صدقه، وقيام العداوةِ المانعةِ من صحة الشهادة عليه في إثبات حق لغيره؟ فَلأَنْ يمنع من قبول قوله وحده في إثبات حق له أولى وأحرى، وفارق البيّنة، فإنها قويت ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

بالعدد، وعدالة الشهود، وانتفاء التهمة في حقهم من الجهتين في كونهم لا يثبتون لأنفسهم حقًا ولا نفعًا، ولا يدفعون عنها ضررًا، ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه، ولهذا تثبت بها سائر الحقوق والحدود التي تنتفي بالشبهات. قال في "شرح المقنع". وعند غير الخرقي من أصحابنا: أن القسامة تجري فيما لا قودَ فيه، فيجوز أن يُقسموا على جماعة، وهذا قول مالك، والشافعي (¬1). الرابع: يبدأ في القسامة بأيمان المُدَّعين، فيحلفون خمسين يمينًا بحضرة الحاكم: أنه قتله، ويثبت حقُّهم عليه (¬2)، ويعتبر حضور المدّعى عليه وقتَ اليمين، كالبينة، وحضورُ المدّعي -أيضًا-، فإن كانت الدعوى على أهل مدينة أو محلة، أو واحد غير معين، أو جماعة منهم بغير أعيانهم، لم تُسمع، وبهذا قال الشافعي. وقال أصحاب الرأي: تُسمع، ويُستحلف خمسون منهم؛ لأن الأنصار ادّعوا القتل على يهود خيبر، ولم يعينوا القاتل، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعواهم. ولنا: أنها دعوى في حق، فلم تُسمع على غير معين كسائر الدعاوى، فأما الخبر، فدعوى الأنصار التي سمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن الدعوى التي بين الخصمين المختلف فيها، فإن تلك من شرطها حضورُ المدّعى عليه عندهم، أو تعذر حضوره عندنا، وقد قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُسمون قاتلَكم، ثم تحلفون عليه" الحديث، رواه الإِمام أحمد (¬3)، وفي ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 26 - 27). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 202). (¬3) تقدم تخريجه.

المتفق عليه: " [يقسم] (¬1) خمسون منكم على رجلٍ منهم" (¬2)، فهذا بيان أن الدعوى لا تصح على غير معين (¬3). فإن لم يحلفوا، حلف المدّعى عليه خمسين يمينًا، وبرىء، هذا قول يحيى بن سعيد، وربيعة، وأبي الزناد، والليث، ومالك، وأحمد، والشافعي. وقال الحسن: يستحلف المدّعى عليهم أولًا خمسين يمينًا، ويبرؤون، فإن أبوا أن يحلفوا، استحلف خمسون المدّعين إنّ حقنا قِبَلكم، ثم يقبلون الدية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولكن اليمين على المدّعى عليه" رواه مسلم (¬4). وقال الشعبي، والنخعي، والثوري، وأصحاب الرأي: يستحلف خمسون رجلًا من أهل المحلة التي وجد فيها القتيل: بالله ما قتلنا، ولا علمنا قاتلًا، ويغرمون الدية، واحتجّوا لذلك أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - قضى به. ولنا: ما في "الصحيحين" من حديث سهل بن [أبي] (¬5) حثمة، وما فيهما يقضي على غيره، ولا يقضي عليه غيرُه مما عارضه من الأحاديث التي لا تساويه في الصحة. وتختص الأيمان بالوارث الذكور دون غيرهم، فتُقسمَ بينهم على قدر ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 16). (¬4) رواه مسلم (1711)، كتاب: الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬5) ما بين معكوفين ساقط من "ب".

إرثهم، ويجبر كسر. وهذا مذهب الشافعي -أيضًا-. وعن مالك: أنه قال: ينظر إلى من عليه أكثر اليمين، فيجبر عليه، ويسقط عن الآخر، والله تعالى الموفق (¬1). الخامس: إذا حلف الأولياء، استحقوا القود إذا كانت الدعوى عمدًا، إلا أن يمنع منه مانع، روي ذلك عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك، وأبو ثور، وابن المنذر. وعن معاوية، وابن عباس، والحسن، وإسحاق: لا يجب بها إلا الدية، لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لليهود: "إما أن تَدُوا صاحبكم، وإما أن تؤذنوا بحربٍ من الله" (¬2)، ولأن أيمان المدعين إنما هي لغلبة الظن وحكم الظاهر، فلا يجوز إشاطة الدم بها، لقيام الشبهة المتمكنة، ولأنها حجة لا يثبت بها النكاح، فلا يجب بها القصاص كالشاهد واليمين، وبه قال الشافعي في معتمد مذهبهم. ولنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقسم خمسون منكم على رجلٍ منهم، فيُدفع إليكم بِرُمَّته" (¬3)، وفي رواية مسلم: "ويُسَلَّم إليكم" (¬4)، وفي لفظ: "وتستحقون دمَ صاحبكم" (¬5)، وأراد: دم القاتل؛ لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين، ولأنها حجة يثبت بها العمد، فيجب بها القود كالعمد. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 28 - 29، 33 - 34). (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (5988). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) رواه البخاري (6769)، كتاب: الأحكام، باب: كتاب الحاكم إلى عماله، والقاضي إلى أمنائه، ومسلم (1669/ 6)، كتاب: القسامة، باب: القسامة.

وقد روى الأثرم بإسناده عن عامر الأحول: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أقاد بالقسامة بالطائف (¬1)، وهذا نص، ولأن الشارع جعل القول قول المدعي مع يمينه احتياطًا للدم، فإن لم يجب القود، سقط هذا المعنى (¬2). تتمات: صفة يمين القسامة أن يقول: واللهِ الذي لا إله إلا هو، عالمِ خائنةِ الأعين وما تخفي الصدور، لقد قتل فلانُ بنُ فلانٍ الفلاني -ويشير إليه- فلانًا ابني، أو أخي، ونحوه، منفردًا بقتله ما تركه فيه غيره، عمدًا أو شبه عمد أو خطأ بسيف، أو بما يقتله غالبًا، ونحو ذلك، فإذا اقتصر على لفظة: والله، كفى، ويكون بالجر، فإن نطق به مضمومًا أو منصوبًا، أجزأه. قال القاضي: ولو تعمده؛ لأنه لحنٌ لا يحيل المعنى، وبأي اسم من أسماء الله -تعالى-، وصفة من صفات ذاته حلف، أجزأه إذا كان إطلاقه ينصرف إلى الله. ويقول المدعى عليه في يمينه إذا حلف: واللهِ! ما قتلته، ولا شاركت في قتله، ولا فعلت شيئًا مات منه، ولا كان سببًا في موته، ولا مُعينًا على موته. فإن لم يحلف المدعون، أو كانوا نساءً، حلف المدعى عليه خمسين يمينًا، وبرىء. فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، وداه الإِمام ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في "المراسيل" (269)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 127)، عن قتادة وعامر الأحول، عن أبي المغيرة، به. قال البيهقي: وهو منقطع. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 39 - 40).

من بيت المال، فإن تعذر، لم يجب على المدعى عليه شيء، وإن رضوا بيمينه، فنكل، لم يحبس على المعتمد، ولزمته الدية، ولا قصاص (¬1). وفي رواية مرجوحة عن الإِمام أحمد: أنه إذا امتنع من اليمين، يحبس حتى يحلف (¬2)، وهو قول أبي حنيفة، والله -تعالى- الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 204 - 205). (¬2) انظر: "المحرر" للمجد ابن تيمية (2/ 151).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنَّ جَارِيةً وُجِدَ رَأْسُهَا مَرْضُوضًا بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ؟ فُلاَنٌ، فُلاَنٌ، حتَّى ذُكرَ يَهُودِي، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخذَ اليَهُودِيُّ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ [يُرَضَحَ] (¬1) رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ (¬2). ¬

_ (¬1) كذا ذكره الشارح -رحمه الله- في "شرحه" هذا، والذي في "الصحيحين": "يُرَضّ". (¬2) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2282)، كتاب: الخصومات، باب: ما يذكر في الإشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم والذمي، و (2595)، كتاب: الوصايا، باب: إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة جازت، و (4989)، كتاب: الطلاق، باب: الإشارة في الطلاق والأمور، و (6482)، كتاب: الديات، باب: سؤال القاتل حتى يقر، والإقرار في الحدود، و (6483)، باب: إذا قتل بحجر أو بعصا، و (6485)، باب: من أقاد بالحجر، و (6490)، باب: إذا أقر بالقتل مرة فتل به، ومسلم (1672/ 16 - 17)، كتاب: القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات، وقتل الرجل بالمرأة، وأبو داود (4527 - 4529)، كتاب: الديات، باب: يقاد من القاتل، و (4535)، باب: القود بغير حديد، والنسائي (4741 - 4742)، كتاب: القسامة، باب: القود من الرجل للمرأة، وابن ماجه (2665)، كتاب: الديات، باب: يقتاد من القاتل كما قتل.

وَلَمُسْلِم والنَّسَائي عَنْ أَنَس بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ، فَأَقَادَهُ بِهَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * * * (عن) أبي حمزة (أنسِ بنِ مالك - رضي الله عنه -: أن جارية)؛ أي: من الأنصار، ولم يسمِّها البرماوي، ولا في "الفتح" (وجد) -بضم الواو وكسر الجيم- مبنيًا للمفعول، (رأسُها) -بالرفع- نائب الفاعل، (مرضوخًا)، منصوب على أنه مفعول ثان لوجد- وفي لفظ عند البخاري، وغيره: أن يهوديًا رضَّ رأسَ جارية (¬2) (بينَ حَجَرين). قال في "المطالع": رضخ رأسه: شدخه (¬3)، وفي "شرح البخاري" ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1672/ 15)، كتاب: القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره من المحددات والمثقلات، وقتل الرجل للمرأة، والنسائي (4740)، كتاب: القسامة، باب: القود من الرجل للمرأة، واللفظ له، وكذا رواه البخاري أيضًا (6491)، كتاب: الديات، باب: قتل الرجل بالمرأة، والترمذي (1394)، كتاب: الديات، باب: ما جاء فيمن رضخ رأسه بصخرة، وابن ماجه (2666)، كتاب: الديات، باب: يقتاد من القاتل كما قتل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 14)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 169)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 467)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 24)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 157)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 93)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1421)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 198)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 252)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 48)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 236)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 160). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2282، 2595، 6482، 6490). (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 293).

للعيني: يقال: رَضَضت الشيءَ رَضًّا، فهو رَضيض ومرضوض (¬1)، وقال ابن الأثير: الرضُّ: الدق الجريش (¬2). قال العيني في رواية لمسلم: فرضخ رأسها بين حجرين (¬3)، وفي رواية أبي داود: رضخ رأسها بالحجارة (¬4)، وفي رواية الترمذي: فرضخ رأسها، وأخذ ما عليها من الحلي (¬5)، وقال: هذا الاختلاف في الألفاظ، لا في المعاني، فإن الرضخ والرض والرجم كله عبارة ها هنا عن الضرب بالحجارة، والرضخ -بالضاد والخاء المعجمتين- هو الدق والكسر، وهو المراد هنا، ويجيء بمعنى الشدخ (¬6). قال الترمذي في روايته: فأدركت وبها رمق (¬7)، (فقيل) لها: (من فعل هذا بك)؟ أي: قال لها أهلُها ذلك، (فلان؟ فلان؟) بتقدير همزة الاستفهام كما هو في رواية البخاري (¬8)، فهو استفهام على سبيل الاستخبار (¬9)، فلم يزالوا يقولون لها مثل ذلك وهي غير موحية لأحد (حتى ذكر) لها (يهودي) لم يسمَّ، (فأومأت) لجارية (برأسها). وقال ابن التين: صوابه فأومأت، وثلاثيه: ومأ (¬10)، وفي "المطالع" ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 253). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 229). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (16/ 1672)، لكن بلفظ: "ورضخ رأسها بالحجارة". (¬4) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4528). (¬5) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1394). (¬6) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 253). (¬7) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1394). (¬8) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2282، 2595، 6490). (¬9) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 253). (¬10) المرجع السابق، الموضع نفسه.

يقال منه: وَمَأَ، وأَوْمَأَ (¬1)، وفي "الصحاح": أومأت إليه: أشرف إليه، ولا تقل: أومـ[ـيـ]ـت (¬2)، وفي "القاموس": ومأ إليه؛ كرضع: أشار؛ كأومأ، ووَمَأَ (¬3). (فأُخذ اليهودي) الذي أومأت إليه، فسئل عما فعل بالجارية من رضخ رأسها، (فاعترف) بأنه هو الذي فعل بها ذلك، (فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُرضخ رأسُه)؛ أي: اليهودي الذي رضخ رأس الجارية (بين حجرين) كما فعل بها ذلك جزاءً وفاقًا. احتج به عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والحسن، وابن سيرين، وقال به جمهور الفقهاء: أحمد، والشافعي، ومالك، وأبو ثور، وإسحاق، وابن المنذر، وجماعة من الظاهرية، على أن القاتل يقتل بما قتل به. وقال ابن حزم: قال مالك: إن قتله بحجر أو بِعصًا أو بالنار أو بالتغريق، قتل بمثل ذلك، يكرر عليه أبدًا حتى يموت. وقال الشافعي: إن ضربه بحجر أو بِعصًا حتى مات، ضرب بحجر أو بِعصًا أبدًا حتى يموت، فإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات، حُبس مثلَ المدة حتى يموت، فإن لم يمت، قتل بالسيف، وهكذا إن غَرَّقه، وهكذا إن ألقاه من مَهْواة عالية، فإن قطع يديه ورجليه، فإن قطع يديه ورجليه، قطعت يدا القاتل ورجلاه، فإن مات، وإلا قتله بالسيف. وقال أبو محمَّد: إن لم يمت، ترك كما هو حي حتى يموت، لا يُطعم ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 51). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 82)، (مادة: ومأ). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 71)، (مادة: ومأ).

ولا يسقى، وكذلك إن قتله جوعًا أو عطشًا، جُوِّع أو عُطِّش حتى يموت، ولا يراعى المدة أصلًا (¬1). قلت: وما ذكره عن الإمام أحمد إنما هو على إحدى الروايتين عنه. قال في "شرح المقنع": وإن قتله بغير السيف، مثل إن قتله بحجر أو هدم أو تغريق أو خنق، فهل يستوفي القصاص بمثل ما فعله؟ على روايتين: إحداهما: له ذلك، وهو قول مالك، والشافعي. والثانية: لا يستوفى إلا بالسيف في العنق، وبه قال أبو حنيفة فيما إذا قتله بمثل الحديد على إحدى الروايتين عنده، أو جرحه فمات (¬2). وقال الإمام الموفق في "متن المقنع ": ولا يستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف في إحدى الروايتين، والأخرى: يفعل به كفعله، فلو قطع يديه، ثم قتله، فُعل به كذلك، وإن قتله بحجر، أو غرَّقه، أو غير ذلك، فعل به مثل فعله، وإن قطع يده من مفصلٍ أو غيره، أو أوضحه فمات، فعل به كفعله، فإن مات، وإلا ضربت عنقه (¬3). وقال القاضي: يقتل، ولا يزاد على ذلك، رواية واحدة. قال في "شرحه": اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في كيفية الاستيفاء، فروي عنه: لا يستوفى إلا بالسيف في العنق، وبه قال عطاء، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد؛ لما روي عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا قود إلا ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 253). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 404). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 242).

بالسيف" رواه ابن ماجه (¬1)؛ لأن القصاص أحد بدلي النفس، فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية، فإنه لو صار الأمر إليها، لم يجب إلا دية النفس، ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل، وإتلاف الجملة، وقد أمكن هذا بضرب العنق، فلا يجوز تعذيبه بإتلاف أطرافه، كما لو قتله بسيف كل، فإنه لا يقتل بمثله. والرواية الثانية عن الإمام أحمد قال: لأهل المقتول أن يفعلوا بالقاتل كما فعل، وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعي؛ لقوله -تعالى-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، ولهذا الحديث، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يفعل باليهودي مثل ما فعله، ويروى عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من حرق حرقناه، ومن غرَّق غرَّقناه" (¬2)، ولأن موضوع القصاص على المماثلة، ولفظه مشعر به، فوجب أن يستوفى منه مثل ما فعل، كما لو ضرب العنق واحد آخر غيره. وأما حديث: "فلا قود إلا بالسيف"، فقال الإمام أحمد: ليس إسناده بجيد (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2667)، كتاب: الديات، باب: لا قود إلا بالسيف، من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -. ورواه - أيضًا (2668)، من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -، وهو حديث ضعيف كما قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (12/ 200). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 43)، من حديث عمران بن يزيد بن البراء، عن أبيه، عن جده، به. قال ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 317): وهذا لا يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما قاله زياد في خطبته. (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 400 - 401).

وفي "شرح البخاري" للبدر العيني: قال عامر الشعبي، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: لا يقتل القاتل في جميع الصور إلا بالسيف (¬1)، واحتجوا بحديث النعمان بن بشير مرفوعًا: "لا قود إلا بحديدة" رواه أبو داود الطيالسي (¬2)، والطحاوي، ولفظه عنده: "لا قود إلا بالسيف" (¬3)، وأخرجه الدارقطني (¬4). قلت: وفي إسناده جابر الجعفي مطعون فيه، لكن حديث ابن ماجه رواه عن أبي بكرة مرفوعًا سنده جيد (¬5)، وأخرجه البيهقي في "سننه" من حديث أبي هريرة مرفوعًا (¬6). والحاصل: أن هذا الحديث روي عن عدة من الصحابة، منهم: علي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، والنعمان بن بشير، وأبو بكرة، وعبد الله بن مسعود، فقد تعددت طرقه، وتباينت مخارجه، فلا جرم لا أقلَّ من أن يكون حسنًا، وحينئذٍ يصح الاحتجاج به، ويسوغ الاعتماد على مفهومه، والتعويل على مضمونه. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 253). (¬2) رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (802). (¬3) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 184). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 106). (¬5) تقدم تخريجه عند ابن ماجه برقم (2668). قلت: والعجب من الشارح -رحمه الله- كيف جوَّد إسناد حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -، والأئمة -كالبزار وابن عدي والبيهقي وغيرهم- قد نصُّوا على تضعيفه، كما ساق ذلك الحافظ ابن حجر في "الدراية" (2/ 265)، وفي "التلخيص الحبير" (4/ 19). (¬6) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 63).

(و) في رواية (لمسلم) في "صحيحه" والإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني مصنف كتاب "السنن الكبرى" و"الصغرى"، و"الكبرى" أحد الكتب الستة، (والنسائي)، ويقال فيه: النَّسَوي نسبة إلى نَسا: كورة من كور نيسابور. وقال المسعودي: نسا: من أرض فارس. وقال الحافظ عبد الغني بن سعيد: نسا: موضع بخراسان. قال الحاكم أبو عبد الله: كان النسائي إمامَ أهل الحديث، وكان يصوم الدهر، ويختم القرآن في كل يوم وليلة، فإذا كان رمضان، ختم في كل يوم مرتين، وكان يجاهد ويرابط، ولما امتُحن بدمشق، قال: احملوني إلى مكة، فحُمل إليها، ودفن بها، وهو مدفون بين الصفا والمروة، وكانت وفاته في شعبان، قال ابن عساكر: في سنة ثلاث وثلاث مئة، كذا في البرماوي. قلت: والذي قدمه ابن خلكان: أنه لما قدم دمشق، سئل عن معاوية وما روي له من فضائله، فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأس برأس حتى يفضل؟ وفي رواية قال: ما أعرف له فضيلة، ألا لا أشبع الله بطنك، قال: وكان يتشبع، فما زالوا يدفعون في حضنه حتى أخرجوه من المسجد، ثم حمل إلى الرملة، فمات بها. وقال الدارقطني: لما امتحن النسائي بدمشق، قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها كما ذكر البرماوي. قال ابن خلكان: وكانت وفاته سنة ثلاث وثلاث مئة. قال الحافظ أبو نعيم: مات النسائي بسبب ما داسه أهل دمشق، وكان

صنف الكتاب "الخصائص في فضل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأهل البيت"، وأكثر رواياته فيه عن الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -، فقيل له: ألا تصنف كتابًا في فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -؟ فقال: دخلت دمشق، والمنحرفُ عن علي - رضي الله عنه - كثير، فأردت أن يهديهم الله -تعالى- بهذا الكتاب. قال ابن خلكان: وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا. وقال الدارقطني: امتُحن بدمشق، فأدرك الشهادة. قال: وتوفي يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاث مئة بمكة -حرسها الله تعالى-، وقيل: بالرملة من أرض فلسطين، وكان إمامًا في الحديث، ثقة ثبتًا حافظًا. قال ابن خلكان: ومولده بنسا في سنة خمسر عشرة، [وقيل: أربع عشرة] (¬1) ومئتين، قال: ونَسَأ -بفتح النون وفتح السين المهملة وبعدها همزة-، وهي مدينة بخراسان، خرج منها جماعة من الأعيان (¬2)، والله أعلم. (عن أنس بن مالك) أيضًا (- رضي الله عنه -: أن يهوديًا) من يهود المدينة (قتل جاريةً) من الأنصار (على أوضاحٍ)، جمع وضح -بالضاد المعجمة والحاء المهملة- وهو نوع من الحلي يُعمل من الفضة، سميت بها، لبياضها (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬2) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 77 - 78)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- ترجمته هذه. وانظر: "تهذيب الكمال" للمزي (1/ 328)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (14/ 125). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 195).

وفي رواية: أن رجلًا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في القليب، ورضخ رأسها بالحجارة (¬1)، (فأقاده)؛ أي: اقتص منه (بها)؛ أي: الجارية (النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -). قال في "المطلع": القَوَدُ: القصاص، [وقتل القاتل] (¬2) بدلَ القتيل، وقد أَقدتُه به أُقيده إقادةً، انتهى (¬3). وفي "النهاية" في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل عمدًا، فهو قود" (¬4) القود: القصاص، وقتلُ القاتلِ بدلَ القتيل، وقد أَقدته به أُقيده إقادة، واستقدت الحاكم: سألته أن يُقيدني، واقتدت منه، أَقتاد، فأما قال البعير، واقتاده، فبمعنى: جره خلفه (¬5). وهذه اللفظة التي انفرد بها مسلم عن البخاري (¬6)، فإن ألفاظ "الصحيحين" غير ما تقدم: فأشارت، يعني: الجارية برأسها، فقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بين حجرين (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1672/ 16). (¬2) في الأصل: "وقبل القائد"، والصواب ما أثبت. (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 357). (¬4) رواه أبو داود (4540)، كتاب: الديات، باب: من قتل في عمياء بين قوم، والنسائي (4790)، كتاب: القسامة، باب: من قتل بحجر أو سوط، وابن ماجه (2635)، كتاب: الديات، باب: من حال بين ولي المقتول وبين القود أو الدية، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 119). (¬6) قلت: بل هي في البخاري -أيضًا- كما تقدم تخريجه عنده، ونبَّه على ذلك الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 303). (¬7) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1672/ 15).

وفي لفظ آخر: فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرُجم حتى مات (¬1). وفي آخر: فأمر به أن يُرَضَّ رأسُه بالحجارة، خرّجه البخاري في باب: الإشارة في الطلاق (¬2). وفي لفظ آخر عن أنس قال: عدا يهودي على جارية، فأخذ أوضاحًا كانت عليها، ورضخ رأسها، فأتى بها أهلُها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهي في آخر رمق وقد أصمتت، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتلك فلان؟ " لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها: أَنْ لا (¬3). وفي لفظ: فرفعت رأسها، قال: "فلان؟ " لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت برأسها: أَنْ لا، فقال: "فلان؟ " لقاتِلها، فأشارت: نعم، وفي لفظ: فقال لها في الثالثة: "فلان قتلك؟ "، فخفضت رأسها، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرضخ رأسه بين حجرين (¬4). والحاصل: أن الحديث دل على عدة أشياء: منها: اعتبار الإشارة، وقد اختلف العلماء في العمل بمضمونها إذا كانت من مريض، فقال علماؤنا في كتاب: الوصايا: ولا تصح الوصية ممن اعتقل لسانه بإشارة، ولو فُهمت، إذا لم يكن ميئوسًا من نطقه كقادر، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1672/ 16). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4989)، وهذا اللفظ ليس له، وإنما هو لمسلم برقم (1672/ 17)، ولفظ البخاري ما ذكره الشارح -رحمه الله- بعد هذا، فلعله سبق قلم منه -رحمه الله-. (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4989). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6483).

ولا من أخرس لا تفهم إشارته، فإن فهمت، صحَّت (¬1). وقالوا في كتاب: الطلاق: ويقع؛ أي: الطلاق بإشارة مفهومة من أخرس فقط، فلو لم يفهمها إلا البعض، فكناية (¬2). وذهب الليث، ومالك، والشافعي إلى أن المريض إذا ثبتت إشارته على ما يعرف من حضره، جازت وصيته. وقال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري: إذا سئل المريض عن الشيء، فأومأ برأسه أو بيده، فليس بشيء حتى يتكلم. [قال أبو حنيفة: إنما تجوز إشارة الأخرس أو من لحقته سكتة لا يتكلم، (¬3)، وأما من اعتقل لسانه، فلا تجوز إشارته. فإن قيل: هذا مصادمة للحديث الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالجواب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بقتل اليهودي لمجرد إشارة الجارية، ولكن أمر بذلك بعد اعترافه وإقراره أنه قتلها، فلا حجة فيه على الحنفية من هذا الوجه. وقال الإسماعيلي: من أطاق الإبانة عن نفسه، لم تكن إشارته فيما له أو عليه واقعة موقع الكلام، لكن تقع موقع الدلالة والأمارة على ما يراد، إلا فيما يؤدي إلى الحكم على إنسان بإشارة غيره، ولو كان كذلك، لقبلت شهادة الشاهدين بالإشارة والإيماء (¬4). ومنها: القتل بالمُثَقَّل عمدًا، هل يوجب القصاص؟ ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 127). (¬2) المرجع السابق، (3/ 458). (¬3) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 254).

قال الجمهور: يوجبه، وخالفهم أبو حنيفة، فأوجب عليه دية مغلظة، والحديث حجة عليه. وأجاب العيني عن ذلك بأنه إنما أمر -عليه السلام- بقتل اليهودي؛ لأنه كان ساعيًا في الأرض بالفساد، فقُتل سياسة، فأورد عليه بأنه لو قتل لسعيه في الأرض بالفساد، لما قتل مماثلة برض رأسه بين الحجرين، وكان يجب أن يكون بالسيف في العنق، وأجاب: بأنه إنما قتل كذلك؛ لأنه كان قبل تحريم المثلة، فلما حرمت، نسخت، فكان القتل بعد ذلك بالسيف (¬1). ولا يخفى أنها دعوى بلا برهان. ثم إن لنا عليه هذه الرواية التي في مسلم، والنسائي من حديث أنس حيث قال: فأقاده بها، فهذا خبر صحيح، وهذا بمدعانا صريح، والله أعلم. ومن أوجب كونَ القود بالسيف، أجاب عن الحديث المذكور أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى أن ذلك القاتل يجب قتله لله -تعالى- وللقود إذا كان إنما قتل على مال، كما يجب دم قاطع الطريق لله -تعالى-، فكان له أن يقتله كيف شاء بسيف أو بغيره، وقد ذكرنا أنه روي أنه أمر به -عليه السلام- أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات، فدلّ أن قتل القاتل لا يتعين فيه التماثل (¬2). والذي أجاب به علماؤنا: أن ذلك كان حين كانت المثلة مباحة كما فعل -عليه السلام- بالعرنيين (¬3)، ثم نسخت بعد ذلك، ونهى عنها -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (12/ 254 - 255). (¬2) المرجع السابق، (12/ 254). (¬3) سيأتي تخريجه.

وأما إن قتله بمحرَّم في نفسه كتجريع الخمر واللواط ونحوه، قتل بالسيف، رواية واحدة، وهو متفق عليه بين الأئمة، فلا يفعل به كفعله (¬1). نعم حكي عن بعض الشافعية فيمن قتله باللواط: أنه يُدخل في دبره خشبة يقتله بها، وفيمن قتله بتجريع الخمر يجرعه الماء حتى يموت (¬2). ولا ريب أن هذا -ولاسيما إدخال الخشبة في دبره- أمر مستبشَع، فلا تكاد تأتي الشريعة بمثله، والله -تعالى- أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الكافي" لابن قدامة (4/ 43). (¬2) قاله أبو إسحاق والإصطخري، كما ذكر النووي في "روضة الطالبين" (9/ 229)، وانظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 242)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-.

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مكَّةَ، قَتَلَتْ هُذَيْل رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بقَتِيلٍ كَانَ لَهُمْ في الجَاهِلِيهِّ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قدَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالمُؤْمنينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلُّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإنَّها سَاعَتِي هَذِهِ، حَرَامٌ لاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُقْتَلَ، وَإمَّا أَنْ يُفْدَى"، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! اكتبوا لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ"، ثُمَّ قَامَ العَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إلَّا الإِذْخِرَ، فَإنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِلَّا الِإذْخِرَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * في تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (112)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، و (2302)، كتاب: اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة، و (6486)، كتاب: الديات، باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، ومسلم (1355/ 447 - 448)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، وأبو داود (4505)، كتاب: الديات، ولي العمد يرضى بالدية، والنسائي (4785 - 4786)، كتاب: القسامة، باب: هل يؤخذ من قاتل العمد الدية إذا ولي المقتول عن القود، والترمذي (1405)، =

(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمنِ بنِ صخرٍ (- رضي الله عنه - قال: لما فتح الله) -سبحانه وتعالى- (على رسوله) محمدٍ (- صلى الله عليه وسلم - مكة) المشرفة، وكان ذلك في شهر رمضان في الثامنة (قتلت هذيل) كذا قال المصنف -رحمه الله تعالى-، وهو سبق قلم، أو وهم، والصواب: (قتلت هذيل رجلًا من بني ليث) كما في "الصحيحين" وغيرهما (بقتيل كلان لهم)؛ أي: لخزاعة (في الجاهلية) قبل الإسلام. قال البرماوي: يؤخذ تعيين القاتل والمقتول به مما روى ابن إسحاق: أن خِراشًا -بكسر الخاء المعجمة وآخره شين معجمة- بن أميةَ من خزاعة قتل ابنَ الأدلع الهذلي وهو مشرك بقتيل قتل في الجاهلية يقال له أحمر بأسًا، انتهى (¬1). واسم ابن الأدلع: جُنْدُب -بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة فموحدة-، فقد روى الشيخان، والترمذي عن أبي شريح ¬

_ = كتاب: الديات، باب: ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعفو، وابن ماجه (2624)، كتاب: الديات، باب: من قتل له قتيل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 5)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 468)، و"شرح مسلم" للنووي (9/ 129)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 95)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1424)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 304)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 205، 12/ 206)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 163)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 50)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 196)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 148). (¬1) انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (5/ 76 - 77). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 206).

خويلد بن عمرو العدوي (¬1)، والشيخان عن ابن عباس (¬2)، والإمامُ أحمد، وابنُ منيع بسندٍ صحيح، والبيهقي عن ابن عمر (¬3)، وابنُ أبي شيبة، والشيخان عن أبي هريرة (¬4) - رضي الله عنهم -، قالوا: لما كان الغد من يوم الفتح، عدت خزاعةُ على رجل من هذيل، فقتلوه وهو مشرك، (فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في الناس خطيبًا بعد الظهر، فأسند ظهره إلى الكعبة. وعند ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - ركب راحلته، فحمد الله، وأثنى عليه (¬5)، وقال: "يا أيها الناس! إن الله -تعالى- حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ويوم خلق الشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، ولم يحرمهما الناس، فهي حرام إلى يوم القيامة". قال في "الهدي" وغيره: وكان - صلى الله عليه وسلم - قد حكم لخزاعة أن يبذلوا سيوفهم في بني بكر إلى صلاة العصر من يوم الفتح (¬6) (فقال) -عليه الصلاة والسلام-: (إن الله -عز وجل- قد حبس عن مكة) المشرفة (الفيلَ) الذي كان مع أبرهة عامل النجاشي على اليمن؛ لأن أبرهة لما رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله، بنى كنيسة عظيمة بصنعاء، وكتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يُبن لملك مثلُها، ولست منتهيًا حتى أصرف إليها حجَّ العرب، فسمع به رجل من بني ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 238)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 52)، لكن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) رواه ابن أبي شبية في "المصنف" (7/ 326). وتقدم تخريجه عند الشيخين. (¬5) تقدم تخريجه آنفًا. (¬6) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 68).

مالك بنِ النضر بنِ كنانة، فخرج إليها، فدخلها ليلًا، فصعد فيها ولطخ بالعذرة قِبلتَها، فبلغ ذلك أبرهةَ، فقال: من اجترأ عليّ؟ فقيل: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت لما سمع الذي قلت، فحلف أبرهةُ عند ذلك ليسيرنَّ إلى الكعبة حتى يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له: محمود، وكان فيلًا لم يُر مثلُه، جسيمًا عظيمًا ذا قوة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة في الحبشة سائرًا إلى مكة ومعه الفيل، فسمعت العرب بذلك، فأعظموه، ورأوا جهاده حقًا عليهم، فقاتلهم ملك من ملوك اليمن يقال له: ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فهزمهم أبرهة، وأُخذ ذو نفر، فقال له: أيها الملك! لا تقتلني، فإن استبقائي خير لك من قتلي، فاستحياه، وأوثقه، وكان أبرهة رجلًا حليمًا، ثم سار حتى دنا من بلاد خثعم، فخرج نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم، ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن، فقاتلوه، فهزمهم، وأُخذ نفيل، فقال نفيل: أيها الملك! إني دليل بأرض العرب، فهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه، وخرج معه يديه، حتى إذا مر بالطائف، خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف، فقال: أيها الملك! نحن عبيدك، ليس لك عندي خلاف، إنما تريد البيت بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبا رغال مولَى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس، مات أبو رغال، وهو الذي يُرجم قبره، وبعث أبرهة من المغمس رجلًا من الحبشة يقال له: الأسود بن المقصور على مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نَعَم الناس، فجمع الأسود إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مئتي بعير، ثم إن أبرهة بعث حباطة العميري إلى أهل مكة، فقال: سل عن شريفها، ثم أبلغه أني لم آتِ لقتال، إنما جئت لأهدمَ هذا البيت، فأنطلق

حتى دخل مكة، [فلقي] (¬1) عبد المطلب بن هاشم، فقال: إن الملك أرسلني إليك لأخبرك بأنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، ولا لنا به يَدان، سنُخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام وبيتُ خليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فإن منعه، فهو بيته وحرمه، وإن يُخَلِّ بينه وبين ذلك، فو الله! ما لنا به قوة، قال: فانطلقْ معي إلى الملك. قال بعض أهل العلم: إنه أردفه على بغلة كان عليها، وركب معه بعضُ بنيه حتى قدم المعسكر، وكان ذو نفر صديقًا لعبد المطلب، فأتاه فقال: يا ذا نفر! هل عندك من غَناءٍ بما نزل بنا؟ فقال: ما غَناءُ رجل أسيرٍ لا يأمن أن يُقتل بكرة أو عشيًا؟ ولكن سأبعث لك إلى أنيس سائس الفيل، فإنه في صديق، فاسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أنيس، فأتاه، فقال له: إن هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة الذي يُطعم الناس في السهل، والوحوشَ في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مئتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه عنده، فانفعه؛ فإنه صديق لي، أحب ما وصل إليه من الخير. فدخل أنيس على أبرهة، فقال له: أيها الملك! هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، يستأذن عليك، وأنا أحبُّ أن تأذن له فيكلّمك، وقد جاء غيرَ ناصبٍ لك، ولا مخالف عليك، فأذن له. وكان عبد المطلب رجلًا جسيمًا وسيمًا، فلما رآه أبرهة، أعظمه، وأكرمه، وكره أن يجلس معه على سريره، أو أن يجلس تحته، فهبط إلى ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

البساط، فجلس عليه، ثم دعاه وأجلسه معه، ثم قال لترجمانه: ما حاجتُك إلى الملك، فقال له الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يردّ إليَّ مئتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنتَ أعجبتني حين رأيتُك، ولقد زهدتُ فيك، قال: لِمَ؟ قال: جئتُ لبيت هو دينك ودين آبائك، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمَه، لمْ تكلمْني فيه، وتكلمُني في مئتي بعير أصبتُها؟! قال عبد المطلب: أنا ربُّ هذه الإبل، ولهذا البيت ربّ سيمنعه [منك] (¬1)، قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك، فأمر بإبله فردّت إليه، فلما ردّت الإبل إلى عبد المطلب، خرج فأخبر قريشًا الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، ويتحرزوا في رؤوس الجبال تخوفًا عليهم من معرّة الجيش، ففعلوا، وأتى عبدُ المطلب الكعبةَ، فأخذ بحلقة الباب، وجعل يقول: [من الرجز] يَا رَبِّ لاَ أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا ... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا إِنَّ عَدُوَّ البَيْتِ مَنْ عَادَاكَا ... امْنَعْهُمُ أَنْ يُخْرِبُوا حِمَاكَا ثم إن عبد المطلب توجه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول، وعبأ جيشه، وهيأ فيله، وكان فيلًا لم يُر مثلُه في العظم والقوة، ويقال: كان معه اثنا عشر فيلًا، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم، فأخذ بأذنه وقال: ابرك محمود وارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك، وصرفوه إلى الحرم، فبرك وأبى أن يقوم، ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل، فأرسل الله -عز وجل- طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجرانِ في رجليه، وحجرٌ في منقاره أمثال الحِمِّص والعدس، فلما غشين القوم، أرسلتها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدًا إلا هلك، وليست كلَّ القوم أصابت، وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي منه جاؤوا، يتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، ونفيل ينظر إليهم من بعض تلك الجبال، وصرخ القوم، وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق، ويهلكون كل مهلك، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعل تتساقط أنامله، كما سقطت أنملة، أتبعها مِدَّة من قيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، ثم هلك. قال الواقدي: فأما محمود فيلُ النجاشي، فربض، ولم يجسر على الحرم، فنجا، والفيل الآخر شَجُع؛ أي: جَسُرَ، فحُصب، أي: رُمي بالحصباء، رواه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، عن سعيد بن جبير، وعكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وهو المشار إليه بقوله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] السورة، وكان ذلك قبل مولد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، والمشهور أنه كان في العام الذي ولد وفيه - صلى الله عليه وسلم -. قال مقاتل: كان معهم فيل واحد، وقال الضحاك: كانت ثمانية، وقيل: اثنا عشر سوى الفيل الأعظم (¬1)، (وسلط عليها)؛ أي: على مكة ¬

_ (¬1) انظر: "السيرة النبوية" لابن إسحاق (1/ 38)، وما بعدها، و"تفسير الطبري" (30/ 299) وما بعدها، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-، و"الثقات" لابن حبان (1/ 16)، وما بعدها.

المشرفة (رسولَه) محمدًا - صلى الله عليه وسلم - (و) أصحابه (المؤمنين)، فلم يحبسهم عنها كما حبس الفيل وأصحابه؛ لأن مقصود أصحاب الفيل الفساد والإفساد، فهم محاربون لله ولبيته وأهله، ومقصود الرسول والمؤمنين استنقاذ بيته المعظّم من أيدي عبدة الأوثان والأصنام، وما كانوا يصنعون فيه وعليه من الأنصاب والأزلام، فالله -سبحانه وتعالى- أذن لرسوله، ولم يأذن لغيره. (وإنها) أي: مكة -زادها الله تشريفًا وتعظيمًا- (لم تحلَّ لأحد) من الخلق كان (قبلي ولا تحل لأحد) من الخلق يأتي من (بعدي، وإنما أحلت) مكة المشرفة (لي ساعة من نهار)، وكانت تلك المدةُ التي أُحلت له المعبر عنها بالسّاعة من صبيحة يوم الفتح إلى العصر كما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما (¬1) - كما تقدم عن صاحب "الهدي" -أيضًا-، وتقدم في كتاب: الحج مفصلًا. (وإنها ساعتي هذه) التي أُحلت في ولمن أطلقْتُ سيفَه فيها بعد مقامي هذا (حرام)، أي: عادت حرامًا كما كانت، (لا يعُضد) -بضم أوله وفتح ما قبل آخره- مبنيًا لما لم يسمَّ فاعله، (شجرُها) -بالرفع-: نائب الفاعل؛ أي: لا يُقطع، يقال: عضدت الشجر أعضده عَضْدًا، فالعَضَد -بالتحريك-: المعضود، ومنه الحديث: "لوددتُ أني شجرةٌ تُعضد" (¬2)، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه الترمذي (2312)، كتاب: الزهد، باب: في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا"، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (4190)، كتاب: الزهد، باب الحزن والبكاء، من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -.

وفي حديث طهفة: ونستعضد البرير (¬1)، يعني: ثمر الأراك؛ أي: نقطعه ونجنيه من شجره للأكل (¬2). (ولا يُخْتلى) أي: يُقطع، ويُحش (شوكها) أي: مكة، يعني: حرمها. قال في "الفروع": يحرم قلع الشجر إجماعًا، ونباته، حتى الشوك، خلافًا للشافعي، إلا اليابس، فإنه كالميت (¬3). (ولا تُلتقط ساقطتُها)؛ أي: مكة، يعني: حرمها، (إلا لمُنْشِد) عنها لأجل التعريف، فإذا عرفها التعريفَ الشرعيَّ، ملكها كسائر اللقط، هذا معتمد مذهبنا، كالحنفية والمالكية، فلا خصوصية للقطة الحرم. وقال الشافعية: لا يملكها، وعليه أن يعرِّفها أبدًا، فلا تُلتقط القطة الحرم إلا لمجرد التعريف، واستدلوا بهذا الحديث ونحوه، قالوا: لأن الكلام ورد مورد الفضائل المختصة بها، كتحريم صيدها، وقطع شجرها، فإذا سوينا بين لُقطة الحرم وغيره من البلاد، بقي ذكر اللقطة في هذا الحديث خالٍ عن الفائدة، وهذه رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وجماعة من متأخري علمائنا (¬4). (ومن قُتل لَهُ) -بضم القاف وكسر المثناة تحت- مبنيًا للمفعول، (قتيل) نائب الفاعل، (فهو)؛ أي: وليُّ المقتول، (بخير النظرين) أراد بالنظر هنا: ¬

_ (¬1) رواه ابن الأعرابي في "معجمه"، وأبو نعيم، من طريق العوام بن حوشب، عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن طهفة بن أبي زهير، به. كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (3/ 546). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 251 - 252). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 351). (¬4) انظر: "المبدع" لأبي إسحاق ابن مفلح (5/ 284).

الرأي، فهو مخير (إما أن يقتل) الذي قتل موليه قصاصًا حيث كان كُفئًا له، (وإما أن يُفدى) -بضم الياء المثناة تحت- من أفدى، يقال: أفدى الأسير: قبل منه فديته، ويقال: فاداه يفاديه مفاداة: إذا أعطى فداءه وأنقذه (¬1). وفي رواية في "الصحيحين": "فهو بخير النظرين، إما أن يعطي الدية، وإما أن يقاد أهل القتيل" (¬2). وفي "السنن" عن أبي شريح الخزاعي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أصيب بدمٍ أو خبل"، والخبل: الجراح، "فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرابعة، فخذوا علي يديه: أن يقتل، أو يعفو، أو يأخذ الدية، فمن فعل شيئًا من ذلك، فعاد، فله نارُ جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا" رواه الإمام أحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬3). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فقال الله -تعالى- لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الآية، {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]، قال: العفو: أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بالمعروف: أن يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1702)، (مادة: فدى). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1355/ 448). (¬3) رواه أبو داود (4496)، كتاب: الديات، باب: الإمام يأمر بالعفو في الدم، وابن ماجه (2623)، كتاب: الديات، باب: من قتل له قتيل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، والإمام أحمد في "مسنده" (4/ 31). وقد ذكره الترمذي في "سننه" (4/ 21) عقب حديث (1406) دون إسناد، وإنما قال: وروي عن أبي شريح الخزاعي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكره.

رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] فيما كتب على من كان قبلكم. رواه البخاري، والنسائي، والدارقطني (¬1). والحاصل: أن القتل ثلاثة أنواع: أحدها: العمد المحض، وهو أن يقصد من يعلمه معصومًا بما يقتل غالبًا، سواء كان يقتل بحده، كالسيف ونحوه، أو بثقله، كالسندان والحجر الكبير، أو بغير ذلك، كالتحريق، والتغريق، والإلقاء من مكان شاهق، والخنق، وإمساك الخصيتين حتى تخرج الروح، وسقيِ السموم، ونحو ذلك من الأفعال، فهذا إذا فعله، وجب فيه القَوَد، وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل، فإن أحبوا، قتلوا، وإن أحبوا، عفوا، وإن أحبوا، أخذوا الدية، وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله، قال الله -تعالى-: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} [الإسراء: 33]، قيل في التفسير: لا يقتل غير قاتله (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في [كتابه] (¬3) "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية": من قتل بعد العفو، أو بعد أخذ الدية، فهو أعظم جرمًا ممن قتل ابتداء، حتى قال بعض العلماء: إنه يجب قتلُه حدًا، ولا يكون أمره لأولياء المقتول. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4228)، كتاب: التفسير، باب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، والنسائي (4781)، كتاب: القسامة، باب: تأويل قوله عز وجل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ}، والدارقطني في "سننه" (3/ 86). (¬2) انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 122). (¬3) ما بين معكوفين ساقطة من "ب".

وقال: في قوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] إلى قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه، وربما لم يرضوا بقتل القاتل، بل يقتلون كثيرًا من أصحاب القاتل، كسيد القبيلة، ومقدَّم الطائفة، فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء، ويعتدي هؤلاء في الاستيفاء كما كان يفعله أهل الجاهلية، وكما يفعله الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات من الأعراب والحاضرة وغيرهم، وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيمًا أشرفَ من المقتول، فيفضي ذلك إلى أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل، وربما حالف هؤلاء قومًا، واستعانوا بهم، وهؤلاء قومًا، فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة، وسبب ذلك كله خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى، فكتب -سبحانه وتعالى- علينا القصاص، وهو المساواة والمعادلة في القتلى، وأخبر أن فيه حياةً، فإنه يحقن دمَ غيرِ القاتل من أولياء الرجلين، وأيضًا إذا عَلم من يريد القتل أنه يُقتل، كفَّ عن القتل. وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، وغيرهما من حديث علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم وأموالهم، وهم يدٌ على مَنْ سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يُقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده" (¬1)، فقضى -عليه الصلاة والسلام- أن المسلمين تتكافأ دماؤهم؛ أي: تتساوى وتتعادل، فلا يفصّل عربي على عجمي، ولا قرشي أو هاشمي على غيره من المسلمين، ولا حر أصلي على مولى عتيق، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

ولا عالم أو أمير على أميّ أو مأمور، وهذا متفق عليه بين المسلمين، بخلاف ما كان عليه الجاهلية وحكام اليهود، فإن بني النضير كانت تتفضل على قريظة في الدماء، فتحاكموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وفي حد الزنا، فأنزل الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] الآيات (¬1). (فقام رجل) لما سمع خطبة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (من أهل اليمن يقال له)؛ أي: لذلك الرجل الذي قام: (أبو شاه) -بالهاء- في الوقف والدرج، ولا يقال -بالتاء-، خلافًا لما قاله ابن دحية، ونقل عن الحافظ الدمياطي أنه -بالتاء مفتوحة-. قال النووي: لاخلاف أنه بالهاء في آخره (¬2)، فلا يغتر بكثرة من يُصَحِّفه ممن لا يأخذ العلم على وجهه ومن مَظانِّه (¬3)، ومثله شاه الكرماني الصوفي الزاهد، هو -بالهاء- في الوقف والدرج. قال البرماوي: وأبو شاه هذا لا يعرف اسمُه، ولا يعرف له غيرُ هذه القصة (¬4). (فقال) أبو شاه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا رسولَ الله! اكتبوا لي)؛ أي: ما قُلْتَه في هذه الخطبة من الحكم في حرمة مكة والحرم، ومن حكم الدماء، (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اكتبوا لأبي شاه) ما طلبه، (ثم قام العباس) - رضي الله عنه - ¬

_ (¬1) انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 123 - 124). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 129). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعينى (2/ 166). (¬4) وانظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1687)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 202).

(فقال: يا رسول الله! إلا الإذخِرَ)، فإنا لا غنى لنا عنه، (فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا) ليلقَى التراب، (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إلا الإذخر)، فهو مستثنى من نبات الحرم -كما تقدم في الحج-، والله أعلم. تنبيهان: الأول: يعتبر للقصاص شروط: منها: كون الجاني مكلفًا، وكون المقتول معصومًا، فلا قصاص ولا دية ولا كفارة في قتل حربي ولا مرتد قبل توبته، ولا زانٍ محصن ولو قبل ثبوته عند حاكم، ولا محارب تحتَّمَ قتلُه. ومنها: أن يكون المجني عليه مكافِئًا للجاني، وهو أن يساويه في الدين والحرية والرق، فلا يقتل المسلم بالكافر، ولو ذميًا (¬1). وفي "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح البخاري"، وفي "سنن أبي داود"، والترمذي، والنسائي من حديث أبي جُحيفة، قال: قلت لعلي - رضي الله عنه -: هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقلُ، وفكاكُ الأسير، وأَلَّا يقتل مسلم بكافر (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 101 - 102). (¬2) رواه البخاري (2882)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فكاك الأسير، وأبو داود (2034)، كتاب: المناسك، باب: في تحريم المدينة، والنسائي (4744)، كتاب: القسامة، باب: سقوط القود من المسلم للكافر، والترمذي (1412)، كتاب: الديات، باب: ما جاء لا يقتل مسلم بكافر، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 79).

وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث علي - رضي الله عنه - مرفوعًا: "ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" (¬1). وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى ألَّا يقتل مسلم بكافر (¬2)، وتقدم، وكذا لا يقتل الحر بالرقيق كما تقدم الكلام على ذلك. ومنها: ألَّا يكون القاتل أبًا -كما تقدم-. فمتى ورث ولدُ القاتل القصاص، أو شيئًا منه، أو ورث القاتل شيئًا من دمه، سقط القصاص، فلو قتل أحد الزوجين صاحبه، ولهما ولد، لم يجب القصاص؛ لأنه لو وجب، لوجب لولده، ولا يجب للولد قصاصٌ على أبيه؛ لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه، فلأن لا يجب بالجناية على غيره أولى، وسواء كان له من يشاركه في الميراث، أو لم يكن؛ لأنه لو ثبت القصاص، لوجب له جزء منه، ولا يمكن وجوبه، وإذا لم يثبت بعضه، سقط كله؛ لأنه لا يتبعض، وصار كما لو عفا بعضُ مستحقي القصاص عن نصيبه منه، فإن لم يكن للمقتول ولد منها، وجب القصاص في قول أكثر أهل العلم، منهم: عمر بن عبد العزيز، والنخعي، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي، وقال الزهريّ؟: لا يقتل الزوج بامرأته؛ لأنه ملكها بعقد النكاح أشبه الأمة (¬3). والمعتمد: وجوب القصاص، لوجود المكافأة، وقوله: إنه ملكها غيرُ صحيح، وإنما ملك الانتفاع بالبضع، والانتفاع بها من أنواع التمتع. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 228).

الثاني: أجمع أهل العلم على أن الحر المسلم يقاد به قاتله، وإن كأن مجدَّعَ الأطراف معدومَ الحواس، والقاتلُ صحيح سويُّ الخلق، أو كان بالعكس، وكذلك إن تفاوتا في العلم والشرف، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والقوة والضعف، والكبر والصغر. ويجري القصاص بين الولاة والعمالك وبين رعيتهم (¬1)، لعموم الآيات والأخبار، وليس في هذا خلاف بين أئمة المسلمين، والله -تعالى- الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 111 - 112).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَنّهُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي إِمْلاَصِ المَرْأَةِ، فَقَالَ المُغِيرَةُ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قضَى فِيهِ بغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، فَقَالَ: لَتأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ (¬1). إمْلاصُ المَرْأَةِ: أن تُلقي بجنينها حيًّا. * * * (عن) أمير المؤمنين أبي حفص (عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه)؛ أي: عمر -رضوان الله عليه- في أيام خلافته (استشار الناس) من ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6509 - 6510)، كتاب: الديات، باب: جنين المرأة، و (6887)، كتاب: الإعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل الله تعالى، ومسلم (1689/ 39)، (3/ 1311)، كتاب: القسامة، باب: دية الجنين، وأبو داود (4570)، كتاب: الديات، باب: دية الجنين، وابن ماجه (2640)، كتاب: الديات، باب: دية الجنين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 32)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 493)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 68)، و "شرح مسلم" للنووي (11/ 175)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 98)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1427)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 247)، و"عمدة القاري" للعيني (24/ 67)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 69)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 227).

علماء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و -رضي عنهم- (في إملاص المرأة) جنينَها، وهو أن يزلق الجنين قبل وقت الولادة، وكل ما أزلق من اليد، فقد ملص، وأَمْلَصَ، وأملصته أنا (¬1)، والمراد: إسقاطُها الجنين قبل أوان ولادته، (فقال المغيرة بن شعبة) الثقفيُّ الصحابيُّ - رضي الله عنه - وتقدمت ترجمته في المسح على الخفين: (شهدت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه)؛ أي: في إملاص المرأة؛ أي: جنينَها (بغرة) على الجاني عليها حتى أملصها (عبدٍ أو أمةٍ) -بالجر- بدل من غرة، وأصل الغرة: البياض الذي يكون في وجه الفرس، ولهذا كان يقول أبو عمرو بن العلاء: الغرةُ: عبد أبيض، أو أمة بيضاء، وإنما سمي غرة، لبياضه، فكان يقول: لا يُقبل في الدية عبدٌ أسود، ولا جارية سوداء، وليس ذلك شرطًا عند الفقهاء، وإنما الغرة عندهم، من بلغ ثمنُه نصفَ عشرِ دية أمه (¬2)؛ أي: الجنين من العبيد والإماء. (فقال) سيدنا عمر - رضي الله عنه - للمغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: (لتأتينَّ بمن) أي: بأحد من أصحاب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (يشهد معك) على ما زعمتَهُ، واللام في: (لتأتينّ) موطِّئة للقسم، (فشهد له)؛ أي: لعمر - رضي الله عنه - مع المغيرة بن شعبة (محمدُ بنُ مسلمة)؛ أي: شهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في إملاص المرأة بغرة، ومحمد بن مسلمة بن خالد البكري الأنصاري حليفُ بني عبد الأشهل، شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: إنه استخلفه - صلى الله عليه وسلم - على المدينة عام تبوك، اعتزل الفتنة، وأقام بالربذة، ومات بالمدينة في شهر صفر سنة ثلاث وأربعين، ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 356). (¬2) المرجع السابق، (3/ 353).

وقيل: سنة سبع وأربعين، وهو ابن سبع وسبعين، وصلى عليه مروان وهو يومئذٍ أمير المدينة (¬1). قال الحافظ المصنف -رحمه الله ورضي عنه-: (إملاصُ المرأة): هو (أن تلقي بجنينها حيًا). قال في "المقنع": دية الجنين الحر المسلم إذا أسقط ميتًا غرةٌ عبدٌ أو أَمَةٌ قيمتُها خمسٌ من الإبل موروثةٌ عنه، ذكرًا كان أو أنثى. يقال: غرة عبد بالصفة وبالإضافة، قال: والصفة أحسن؛ لأن الغرة اسم للعبد نفسه، قال مهلهل: [من الرجز] كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّهْ ... حَتَّى يَنَالَ القَتْلُ آلَ مُرَّهْ (¬2) قال في "شرح المقنع": في جنين الحرة المسلمة غيرةٌ، وعبارة المتن ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 443)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 11)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 71)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 362)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1377)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (55/ 250)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 106)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 107)، و "تهذيب الكمال" للمزي (26/ 456)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 369)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (6/ 33)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (9/ 401). (¬2) انظر البيت في: "الأغاني" للأصفهاني (4/ 144)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 18). وقد ورد البيت في "الحيوان" للجاحظ (5/ 500)، و"لسان العرب" لابن منظور (12/ 148): كلُّ قتيلٍ في كُليبٍ حُلاَّمْ ... حتى ينالَ القتلُ آلَ همامْ وانظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 316).

أشملُ وأحسن، قال: وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وعطاء، والشعبي، والنخعي، والزهري، ومالك، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وإنما سميت غرة؛ لأن العبد والأمة من أنفس الأموال. والأصل في الغرة: الخيار، فإن قيل: فقد روي في هذا الخبر: أو فرسٌ أو بغلٌ (¬1)، فالجواب: إن هذا لم يثبت، ووهم فيه عيسى بن يونس كما قاله أهل النقل. ولابد من وجوب الغرة أن يسقط الجنين من الضربة، ويُعلم ذلك بأن تُسقط عقب الضرب، أو تبقى الأم متألمة منها إلى أن تُسقط، ولا فرق في إلقائها إياه في حياتها، أو بعد موتها، وبهذا قال الشافعي. وقال مالك، وأبو حنيفة: إن ألقته بعد موتها، لم يضمنه؛ لأنه يجري مجرى أعضائها، وبموتها سقط حكم أعضائها. ولنا: أنه جنين سقط بجنايته، وعلم ذلك بخروجه، كما لو سقط في حياتها، ولأنه لو سقط حيًا، ضمنه، فكذا إذا سقط ميتًا، كما لو أسقطته في حياتها، وما ذكروه غير صحيح؛ لأنه لو كان كذلك، لكان إذا سقط ميتًا، ثم ماتت، لم يضمنه، كأعضائها. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4579)، كتاب: الديات، باب: دية الجنين، وابن حبان في "صحيحه" (6022)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (8101)، والدارقطني في "سننه" (3/ 114)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 115)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. قال أبو داود: روى هذا الحديث حماد بن سلمة، وخالد بن عبد الله، عن محمد بن عمرو, لم يذكرا: "أو فرس أو يغل". وزاد البيهقي فقال: ولم يذكره أيضًا الزهري عن أبي سلمة، وسعيد بن المسيب.

فإن ظهر بعضُه من بطن أمه، ولم يخرج باقيه، ففيه الغرة، وبه قال الشافعي. وقال مالك، وابن المنذر: لا تجب الغرة حتى تلقيه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أوجبها في الجنين الذي ألقته المرأة، وهذه لم تلق شيئًا، أشبهَ ما لو لم يظهر منه شيء. ولنا: أنه قاتل لجنينها، فلزمته الغرة كما لو ظهر جميعه، ويفارق ما لو لم يظهر منه شيء، فإنه لم يتيقن قتلُه ولا وجوده، وكذا الحكم إن ألقت يدًا أو رجلًا أو رأسًا أو جزءًا من أجزاء الآدمي؛ لأنا تيقنا أنه من جنين، وإن ألقت رأسين ونحوهما، لم يجب أكثرُ من غرة، لجواز كونهما من جنين واحد، فلم تجب الزيادة مع وجود الاحتمال؛ لأن الأصل براءة الذمة، فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي، فلا شيء فيه؛ لأنه لا يعلم أنه جنين، وإن ألقت مضغة، فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية، ففيه غرة، وإن شهدت أنه مبدأ خلق إنسان لو بقي تصور، فلا شيء فيه، على الأصح (¬1). قلت: ومعتمد المذهب: يقبل قول ثقة واحدة -كما مر-. تنبيهان: الأول: معتمد المذهب: كونُ الغرة عبدًا أو أَمَةً، وهو قول أكثر أهل العلم. وقال عروة، وطاوس، ومجاهد: عبد أو أمة أو فرس؛ لأن الغرة اسم لذلك، وقد جاء في حديث أبي هريرة، قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 530 - 532).

الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو يغل (¬1)، وتقدم أنه لم يصح. وجعل ابن سيرين مكان الفرس مئة شاة، ونحوه قال الشعبي؛ لأنه روي في حديث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه جعل في ولدها مئة شاة، رواه أبو داود (¬2). وروي عن عبد الملك بن مروان: أنه قضى في الجنين إذا أملص بعشرين دينارًا، فإذا كان مضغة فأربعين، فإن كان علقة فستين، فإذا كأن عظمًا قد كسي لحمًا، فثمانين، فإن تم خلقه وكسي شعره، فمئة دينار (¬3). وقال قتادة: إذا كان علقة، فثلث غرة، وإذا كان مضغة، فثلثي غرة (¬4). والحق الصريح ما ثبت في "الصحيح"، وسنّةُ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قاضية على من خالفها، وتقدم أن ذكر الفرس والبغل وهم انفرد به عيسى بن يونس عن سائر الرواة، وهو متروك في البغل بغير خلاف، فكذلك في الفرس. وقول عبد الملك بن مروان بحكم بتقدير لم يرد به الشرع، وكذلك قتادة، نعم، إن دفع بدل الغرة، ورضي المدفوعُ إليه، جاز؛ لأنه حق لآدمي، فجاز ما تراضيا عليه، أيهما قبل البدل، فله ذلك؛ لأن الحق فيها لهما فلا يقبل بدلها إلا برضاهما (¬5). الثاني: إن كانت أم الجنين أَمَةً، وهو حر، فتقدر حرة، أو كانت ذمية حاملًا من ذمي ومات على أصلنا، فتقدر مسلمة؛ لأنا حكمنا بإسلامه على أصلنا. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه أبو داود (4578)، كتاب: الديات، باب: دية الجنين، من حديث بريدة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (18333). (¬4) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (18335). (¬5) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 532 - 533).

ولا يقبل في الغرة خنثى، ولا خصي ونحوه، وإن كثرت قيمته، ولا مَعيبٌ بعيب يُرد في البيع، ولا هرمة، ولا مَنْ دون سبع سنين، وإن كان الجنين مملوكًا، ففيه عُشر قيمة أمه يوم الجناية نقدًا، ومع سلامته وعيبها تعتبر سليمة. وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: يجب في الجنين الرقيق نصفُ عشر قيمته إذا كان ذكرًا، وعشرُ قيمته إن كان أنثى؛ لأن الغرة الواجبة في جنين الحرة هي نصف عشر دية الرجل، وعشر دية الأنثى، وهذا متلف، فاعتباره بنفسه أولى من اعتباره بأمه، ولأنه جنين مصون تلف بالضربة، فكان فيه نصفُ الواجب فيه إذا كان ذكرًا كبيرًا، أو عشر الواجب إذا كان أنثى، كجنين الحرة (¬1)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (9/ 536 - 538).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، قَالَ: اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَضَىَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا: غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بدِيَةِ المَرأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَها وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الهُذَلِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لاَ شَرِبَ لاَ أَكلَ، وَلاَ نَطَقَ وَلاَ اسْتَهَلَّ؟! فَمِتْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما هُوَ مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّانِ" مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5426 - 5427)، كتاب: الطب، باب: الكهانة، ومسلم (36/ 1681)، واللفظ له، و (1681/ 34 - 35)، كتاب: القسامة، باب: دية الجنين، وأبو داود (4576)، كتاب: الديات، باب: دية الجنين، والنسائي (4818 - 4819)، كتاب: القسامة، باب: دية الجنين المرأة، وابن ماجه (2639)، كتاب: الديات، باب: دية الجنين. * مصَادر شرح الحَدِيث: " معالم السنن" للخطابي (4/ 34)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 70)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 489)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 59)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 175)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 101)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1432)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 306)، و"فتح الباري" =

(عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: اقتتلت امرأتان من هُذَيل)، قال الخطيب: إحدى المرأتين اسمُها مُليكة -بضم الميم- مصغرًا، والأخرى اسمها غُطَيف -بضم الغين المعجمة وفتح الطاء المهملة-، وقيل: أم غطيف. قال النووي: ثم رواه -يعني: الخطيب- كذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في المرأتين، قال الخطيب: وروي: أن إحداهما أم عَفيف -أي: بفتح العين المهملة وكسر الفاء-، والأخرى أم مكلف (¬1)، (فرمت إحداهما) -هي أم عفيف بنتُ مسروح- (الأخرى بحجر) -المضروبة مُليكة بنتُ ساعدة-، وقال النووي: مليكة بنت عويمر، وقال الحافظ أبو موسى الأصبهاني: بنت عويم -بلا راء في آخره (¬2) -، (فقتلتها)، (و) قتلت (ما)؛ أي: الجنين الذي (في بطنها، فاختصموا)؛ أي: أهلُها (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) في ذلك، (فقضى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن دية جنينها) الذي أسقطته بضربتها (غرةٌ عبدٌ أو وليدة)؛ أي: أَمَةٌ، وإن كانت كبيرة. قال في "النهاية": وقد تطلق الوليدة على الجارية والأمةِ، وإن كانت كبيرة، ويطلق الوليد على الطفل، فَعيل بمعنى مفعول، وفي قصة فرعون مع موسى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 18]، والأنثى: وليدة، والجمع: ¬

_ = لابن حجر (10/ 217)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 275)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 238)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 227). (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 228)، وقد اقتصر ابن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة" (1/ 220 - 222) على أم عفيف بنت مسروح وهي الضاربة، ومليكة بنت عويمر ذات الجنين. (¬2) انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 632).

الولائد، ومنه: "الوليد في الجنة" (¬1): الذي مات وهو طفل أو سقْطٌ (¬2). (وقضى) - صلى الله عليه وسلم - (بدية المرأة على عاقلتها)، ودية المرأة نصفُ دية الرجل، وديةُ الحرِّ الذكرِ المسلم مئة من الإبل، أو مئتا بقرة، أو ألفا شاة، أو ألف مثقال ذهبًا، أو اثنا عشر ألف درهم فضة من دراهم الإسلام التي كلُّ عشرة منها سبعة مثاقيل، فهذه الخمس أصولٌ في الدية، لا حُلَلٌ، فأيها أحضرَ من لزمته الديةُ، لزم الوليَّ قبولُه، ولم يكن له المطالبةُ بغيره، سواء كان من أهل ذلك النوع، أو لم يكن؛ لأنها أصول في قضاء الواجب، يجزىء واحد منها، فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه، كخصال الكفارة، وهذا قول عمر، وعطاء، وطاوس، والفقهاء السبعة، وبه قال الثوري، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد بن عمرو بن حزم، وروي في كتابه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن: "وإن في النفس المؤمنة مئة من الإبل، وعلى أهل الوَرِق ألفُ دينار" رواه النسائي (¬3). وروى ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رجلًا من بني عدي قُتل، فجعل النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ديته اثني عشر ألفًا، رواه أبو داود، وابن ماجه (¬4). وروى الشعبي: أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2521)، كتاب: الجهاد، باب: في فضل الشهادة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 58)، من حديث حسناء بنت معاوية الصريمية، عن عمها، به. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 223 - 224). (¬3) رواه النسائي (4853)، كتاب: القسامة، باب: ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول، واختلاف الناقلين له. وفيه: "أهل الذهب" بدل "أهل الورق". (¬4) رواه أبو داود (4546)، كتاب: الديات، باب: الدية كم هي، واللفظ له، وابن ماجه (2629)، كتاب: الديات، باب: دية الخطأ. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (26727)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 80).

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن عمر قام خطيبًا، فقال: ألا إن الإبل قد غلت، فقوَّمَ على أهل الذهب ألفَ دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحُلَل مئتي حُلَّة، رواه أبو داود (¬1). ومعتمد المذهب: أن الحلل ليست أصلًا، وقيل: بلى، لهذا الحديث. وعن الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أن الإبل هي الأصل خاصة، وهذا ظاهر كلام الخرقي، وذكره أبو الخطاب عن الإمام أحمد، وهو قول طاوس، والشافعي، وابن المنذر (¬2). تنبيه: دية الكتابيِّ الذَّكَرِ الحرِّ نصفُ دية المسلم الحر إن كان ذميًا، أو مستأمنًا، أو معاهدًا، ونساؤهم على النصف من دياتهم، وهو مذهب مالك -أيضًا-. وقال أبو حنيفة: دية اليهودي والنصراني والمجوسي كدية المسلم. وقال الشافعي: دية النصراني أربعة آلاف درهم. ولنا: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "دية المعاهد نصف دية المسلم" (¬3)، وفي لفظ: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى أن ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4542)، كتاب: الديات، باب: الدية كم هي. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 507 - 508). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 180)، إلا أن فيه: "دية الكافر" بدل "دية المعاهد".

عقل أهل الكتاب نصفُ عقل المسلمين، رواه الإمام أحمد (¬1)، وفي لفظ: "دية المعاهد نصف دية الحر" (¬2). قال الخطابي: ليس في دية أهل الكتاب شيء أبينُ من هذا (¬3)، ولا بأس بإسناده، وقد قال به أحمد، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى. وأما حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - مرفوعًا: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم (¬4)، فلم يذكره أهل السنن، والظاهر: أنه ليس بصحيح، قاله في "شرح المقنع". ومذهب مالك، والشافعي في دية المجوسي ثماني مئة درهم، وكذا مذهبنا إن كان المجوسي ذميًا، أو مستأمنًا، أو معاهدًا، وكان القتل خطأ. فأما عَبَدَة الأوثان وسائر مَنْ لا كتاب له، كالترك، ومن عبدَ ما استحسنَ، فلا دية لهم إذا لم يكن لهم أمان ولا عهد، فإن كان، فديةُ مجوسي. ومعتمد مذهب الإمام أحمد: أن المسلم إذا قتل كافرًا، كتابيًا أو غيره حيث حقن دمه عمدًا، أُضعفت الديةُ على قاتله لإزالة القود، كما حكم عثمان - رضي الله عنه -، كما رواه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن رجلًا قتل رجلًا من أهل الذمة، فرفع إلى عثمان، فلم يقتله، وغلّظ ألف دينار (¬5)، فذهب إليه الإمام أحمد - رضي الله عنه -، وله نظائر في مذهبه. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 224). (¬2) رواه أبو داود (4583)، كتاب: الديات، باب: في دية الذمي. (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 37). (¬4) قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 25): لم أجده من حديث عبادة، إلا فيما ذكر أبو إسحاق الإسفراييني في كتاب: "أدب الجدل" له. (¬5) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (18492).

وذهب الجمهور إلى أن دية الذمي في العمد والخطأ واحد، لعموم الأخبار (¬1)، والله أعلم. والعاقلة التي تحمل الدية عن الجاني، سواء كان الجاني ذكرًا أو أنثى: ذكورُ عصبته نسبًا وولاءً، قريبُهم وبعيدُهم، حاضرُهم وغائبُهم، صحيحُهم ومريضُهم، ولو هرمًا وزَمِنًا وأعمى، ومنهم عمودُ نسبه آباؤه وأبناؤه، ولا يعتبر أن يكونوا وارثين في الحال، بل متى كانوا يرثون لولا الحجب، عقلوا، وليس منهم الإخوة لأم، ولا سائر ذوي الأرحام، ولا الزوج، ولا الولي من أسفل، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، لما روى عمرو به. شعيب عن أبيه، عن جده، قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن عقلَ المرأة بينَ عصبتها مَنْ كانوا لا يرثون منها شيئًا إلا ما فضل عن ورثتها، وإن قتلت، فعقلُها بين ورثتها، رواه أبو داود (¬2). ولأنهم عصبة، فأشبهوا سائر العصبات، يُحَقِّقه أن العقل موضوع على التناصر، وهم من أهله. وعن الإمام أحمد رواية ثانية: أن الآباء والأبناء ليسوا من العاقلة، وهو قول الشافعي؛ لأن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قضى بدية المرأة على عاقلتها (¬3)، (وورثها)؛ أي: المرأة (ولدها ومن معهم)؛ أي: مع ولدها من بقية الورثة دون عصبتها الذين هم عاقلتها. وفي رواية: ثم ماتت القاتلة، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميراثَها لبنيها، والعقلَ على العصبة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 521 - 522). (¬2) رواه أبو داود (4564)، كتاب: الديات، باب: ديات الأعضاء. (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 643). (¬4) رواه البخاري (6359)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث المرأة والزوج مع الولد =

وفي رواية عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عاقلتها، وبرأ زوجها وولدها، قال: فقالت عاقلة المقتولة: ميراثُها لنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ميراثها لزوجها وولدها" رواه أبو داود (¬1). وإذا ثبت هذا في الأولاد، قسنا عليه الوالد؛ لأنه في معناه، ولأن مال ولده ووالده كماله، ولهذا لم تقبل شهادتهم له، ولا شهادته لهما، ووجب على كل واحد منهما الإنفاق على الآخر إذا كان محتاجًا، والآخرُ موسرًا، فلا يجب في ماله دية كما لا تجب في مال القاتل (¬2). تنبيهات: الأول: اختلفوا في ترتيب ما تحمله العاقلة، فقال أحمد، والشافعي: يبدأ بالأقرب فالأقرب، كعصبات في ميراث، لكن يؤخذ من بعيد لغيبة قريب، فإن اتسعت أموال الأقربين لها، لم يتجاوزهم، وإلا انتقل إلى من يليهم. فعند الإمام أحمد: يبدأ بالآباء، فالأبناء، فالإخوة، فبنيهم، فالأعمام، فبنيهم، فأعمام الجد، فبنيهم كذلك، فإذا انقرض ذو نسب، فعلى المولى المعتق، فعصباته، فإن كان المعتق امرأة، حمل عنها جنايةَ عتيقها من يحمل جنايتها من عصباتها، ثم على مولى المولى، فعصباته الأقرب فالأقرب كالميراث، ولا يدخل الجاني في العاقلة، فلا يلزمه شيء مطلقًا (¬3). ¬

_ = وغيره، وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (1681/ 35). (¬1) رواه أبو داود (4575)، كتاب: الديات، باب: دية الجنين. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 644). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 192).

وقال الشافعي: إن اتسعت العاقلة، لم يلزم الجانيَ شيء، وإن لم تتسع العاقلة لها، لزمه. وقال أبو حنيفة: هو كأحد العاقلة، يلزمه ما يلزم أحدَهم. واختلف أصحاب مالك عنه، فقال ابن القاسم كقول أبي حنيفة، وقال غيره: لا يجب على الجاني الدخول مع العاقلة. وعلى معتمد مذهبنا: متى لم تتسع العاقلة لتحمل جميع الدية، انتقل باقي ذلك في بيت المالك، والأصل فيه حديث حويصة ومحيصة (¬1). وعند الشافعي: الأقربُ الإخوةُ فبنوهم وإن نزلوا، فالأعمام فبنوهم، ويقدم مُدْلٍ بأبوين على مدلٍ بأب كالإرث، وقال أبو حنيفة: القريب والبعيد في التحمل سواء، فيقسم على جميعهم؛ لأن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جعل دية المقتول على عصبة القاتل (¬2). الثاني: اختلفوا فيما تحمله العاقلة، هل هو مقدَّر أو لا؟ فمعتمد مذهبنا: أن ما يحمل كل واحد من العاقلة غيرُ مقدر، ويرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم، فيحمل كل إنسان ما يسهل عليه ولا يشق، بل يحمل كل واحد على قدر ما يطيق، وهذا مذهب مالك؛ لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف لا بالرأي والتحكم، ولا نص من الشارع في هذه المسألة، فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات. وعن الإمام أحمد رواية ثانية: أنه يُفرض على الموسر نصفُ مثقال؛ لأنه أقل مالك يتقدر في الزكاة، فكان معتبرًا بها، وعلى المتوسط ربعُ مثقال؛ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 215).

لأن ما دون ذلك تافه، لكون اليد لا تقطع به، بدليل قول عائشة - رضي الله عنها -: لا تقطع في الشيء التافه، وما دون ربع دينار لا قطعَ فيه، وهذا اختيار أبي بكر، وهو مذهب الشافعي، وعندهم: الغنيُّ: من ملك آخر السنة فاضلًا عن حاجته عشرين دينارًا، والمتوسط: من ملك دونها. وقال أبو حنيفة: أكثر ما يُجعل على الواحد أربعةُ دراهم، وليس لأقله حَدٌّ؛ لأن ذلك يجب على سبيل المواساة للقرابة، فلم يتعذر أقله، كالنفقة، قال: ويسوى بين الغني والمتوسط لذلك (¬1). الثالث: فيما تحمله العاقلة: قال علماؤنا: لا تحمل العاقلة عمدًا محضًا، ولو لم يجب فيه القصاص، كالجائفة، ولا عبدًا قتل عمدًا أو خطأ، ولا طرفه ولا جنايته، ولا قيمة دابة، ولا صلح إنكار، ولا تحمل اعترافًا، بأن يقرَّ على نفسه بجناية خطأ، أو شبه عمد توجب ثلث الدية فأكثر إن لم تصدقه العاقلة، ولا تحمل العاقلة ما دون ثلث الدية الكاملة، وهي دية الحر الذكر المسلم، إلا غرةَ جنين مات مع أمه بجناية واحدة، أو بعدَ موتها لا قبلها، لنقصه عن الثلث (¬2). أما ما يجب فيه القصاص، فلا خلاف بين العلماء أن العاقلة لا تحمله، وأكثر أهل العلم على أنها لا تحمل العمدَ بحال، وحُكي عن مالك: أنها تحمل الجنايات التي لا قصاص فيها، كالمأمومة والجائفة، وهذا قول قتادة؛ لأنها جناية لا قصاص فيها، فأشبهت جناية الخطأ. ولنا: ما روى ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: لا تحمل العاقلة ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 658 - 659). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 191).

عمدًا، ولا عبدًا، ولا صلحا، ولا اعترافا، روي عنه مرفوعًا وموقوفًا (¬1)، ولم يعرف له في الصحابة مخالف، فيكون إجماعًا، ولأن حمل العاقلة إنما ثبت في الخطأ، لكون الجاني معذورًا، تخفيفًا عنه، ومواساة له، والعامد غير المعذور، فلا يستحق المواساة ولا التخفيف، فلم يوجد فيه المقتضي، وبهذا فارق العمدَ الخطأ (¬2). وأما العبد، فوافق على عدم تحمل العاقلة له: الشعبيُّ، والثوريُّ، ومكحول، والنخعي، ومالك، والليث، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبو ثور. وقال عطاء، والزهري، وحماد، وأبو حنيفة: تحمل العاقلة، وهو الأصح في مذهب الشافعي، قالوا: لأنه آدمي يجب بقتله القصاص والكفارة، فحملت العاقلة بدله، كالحر. ووافقنا أبو حنيفة في دية أطرافه، فلم يحملها للعاقلة، وعند الشافعية: بلى، ولنا: على المذهب حديثُ ابن عباس المارُّ، ولأن الواجب فيه قيمتُه، وتختلف باختلاف صفاته، فلم تحمله العاقلة، كسائر القيم، ثم إن قياسه في مقابلة نص، فوجب طرحُه والاعتماد على النص (¬3). واختلف علماؤنا في الصلح، فقدم في "الشرح": أن معناه: أن يدعي عليه القتل، فينكره، ويصالح المدعي على مال، فلا تحمله العاقلة؛ لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره، فلم تحمله العاقلة، كالذي ثبت باعترافه. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 104)، موقوفًا. ولم أقف عليه مرفوعًا، وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 31). (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 653). (¬3) المرجع السابق، (9/ 654).

وقال القاضي: معناه: أن يصالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية. والأول أولى؛ لأن العمد يستغنى عنه بذكر العمد. وممن قال: لا تحمل العاقلة الصلح: ابن عباس، والزهري، والشعبي، والثوري، والليث، والشافعي، وقد ذكرنا حديث ابن عباس في ذلك (¬1). وأما ما دون ثلث الدية، فقال بأن العاقلة لا تحمله: سعيد بن المسيب، وعطاء، ومالك، وإسحاق. وقال الزهري: لا تحمل الثلث -أيضًا-. وقال الثوري، وأبو حنيفة: تحمل السن، والموضحة، وما فوقها، واحتج بالغرة في الجنين على العاقلة، وقيمتها نصف عشر الدية، ولا تحمل ما دون ذلك. والصحيح عند الشافعية: أنها تحمل الكثير والقليل، كالجاني في العمد. ولنا: ما روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنه قضى في الدية ألَّا يحمل منها شيء، حتى تبلغ المأمومة، ولأن مقتضى الأصل وجوبُ الضمان على الجاني؛ لأنه موجب جنايته، وبدلُ متلَفه، فكان عليه كسائر المتلفات والجنايات، وإنما خولف في الثلث تخفيفًا من الجاني، لكونه كثيرًا، فيجحف به، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الثلث كثير" (¬2). فأما دية الجنين، فلا تحملها العاقلة إلا إذا مات مع أمه من الضربة؛ ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) تقدم تخريجه.

لكون ديتهما جميعًا توجب جناية تزيد على الثلث، وإن سلَّمنا وجوبها على العاقلة، فلأنها دية كاملة (¬1). الرابع: تحمل العاقلة دية المرأة اتفاقًا، وتحمل من جراحها ما بلغ ثلث دية الرجل، كأنفها، فأما ما دون ذلك، كيدها، فلا تحمله العاقلة، وكذلك الحكم في دية الكتابي، ولا تحمل دية المجوسي؛ لأنها دون ثلث الدية (¬2). تتمة: ما تحمله العاقلة يجب مؤجلًا في ثلاث سنين، في آخر كل سنة ثلثه إن كان دية كاملة، كدية النفس، أو طرفٍ كأنفٍ، وإن كان الثلثَ، كدية المأمومة، وجب في آخر السنة الأولى، وإن كان نصفَ الدية الكاملة، كدية اليد، ودية المرأة، والكتابي، أو ثلثيها، كدية المنخرين وجب الثلث في آخر السنة الأولى، والباقي في آخر السنة الثانية، وإن كان أكثر من دية، مثل أن ذهب سمعُ إنسان وبصرُه بجناية واحدة، ففي ست سنين، في كل سنة ثلث (¬3). والحاصل: لا يزاد في كل حول على ثلث دية من جناية واحدة، لكن اختلف القائلون بالتقدير، فقال بعضهم: يتكرر الواجب في الأحوال الثلاثة، فيكون الواجب على الغني فيها دينارًا ونصفًا، وعلى المتوسط ثلاثة أرباع دينار، وقال بعضهم: لا يتكرر، ويعتبر الغِنَى والتوسُّطُ عند رأس الحول (¬4)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 655 - 656). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 191). (¬3) المرجع السابق، (4/ 192 - 193). (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (9/ 659 - 660).

(ف) لما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن دية جنين المضروبة غُرَّةٌ، وديتها هي على عاقلتها، (قام حَمَلُ بنُ) مالكِ بنِ (النابِغة) وهو -بفتح الحاء المهملة وتخفيف الميم المفتوحة- والنابغة: -بالنون، وكسر الموحدة بعدها غين معجمة-، واشتهر بجده النابغة، وهو النابغة بن جابر بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كبير -بالموحدة- من نسل مدركة بنِ إلياس، عدَّه مسلمٌ من الصحابة المدنيين، وعده غيره من البصريين؛ لأنه نزل بالبصرة، وله بها دار، ويكنى: أبا نضلة -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة-، أخرج له أبو داود، والنسائي، وابن ماجه (¬1). وقد وقع في "المبهمات" لابن بشكوال عن الحافظ عبد الغني: أن القائل في هذا الحديث ما قال هو مسروح، بناءً على أن الضاربة أم عفيف بنت مسروح (¬2)، وما في "الصحيحين"، بل أخرجه الجماعة أصح، ويحتمل على بعد أن يكون كل منهما قال ذلك، فقد أخرج أبو داود، والنسائي من حدي اثبن عباس؛ أن حمل بن النابغة قال لعمر لما سأل عن قضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى، الحديث، وفيه: فقال عمها: إنها قد أسقطت يا نبي الله غلامًا قد ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 33)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 108)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 303)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 94)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 376)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 75)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 172)، و"تهذيب الكمال" للمزى (7/ 349)، و"الإصابة في تمييز "الصحابة" لابن حجر (2/ 125)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (3/ 32). (¬2) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 221).

نبت شعره، فقال أبو [القاتلة] (¬1): إنه كاذب، والله ما استهل، الحديث (¬2) (الهذلي)، -منسوب إلى هُذَيل-. (فقال): حَمَلُ بنُ النابغة: (يا رسول الله! كيف أغرم) -أي: التزم وأَدِي- (مَنْ)؛ أي: سقطًا، (لا شربَ ولا أكلَ)؛ أي: لا شرب ماء، ولا أكل زادًا، (ولا نطق)؛ أي: لا تكلم بصوت وحروف تُعرف بها المعاني، (ولا استهلَّ)؛ أي: صاح عند الولادة. قال في "المطلع": استهل المولود: إذا صاح عند الولادة (¬3). وقال القاضي عياض: استهل المولود: رفع صوته، فكل شيء رفع صوته فقد استهل، وبه سُمّي الهلال هلالًا، والإهلالُ بالحج: رفعُ الصوت بالتلبية (¬4). (فمثل ذلك)؛ أي: حيث كان نحوه بهذه المثابة من عدم دخول جوفه ماء ولا زاد، ولا تكلم ولا رفع صوته بالصراخ (يُطَلُّ)؛ أي: يُهدر، وهو -بضم الياء المثناة تحت، وفتح الطاء المهملة فلام مشددة- يقال: طُلُّ دمه -بضم الطاء-، وأطل، وأطله الله، وأجاز الكسائي طَلَّ -بفتح الطاء- ومنه هذا الحديث (¬5)، ومنه: فسقطت ثنايا العاض، فطلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: "العالية" وهو خطأ، والصواب ما أثبت. (¬2) رواه أبو داود (4574)، كتاب: الديات، باب: دية الجنين، والنسائي (4828)، كتاب: القسامة، باب: صفة شبه العمد. (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 307). (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 269). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 136). (¬6) رواه النسائي (4764)، كتاب: القسامة، باب: الرجل يدفع عن نفسه، من حديث يعلى بن منية - رضي الله عنه -. إلا أن فيه: "فأطلها". =

(فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لما سمع كلامه المسجع: (إنما هو من إخوان الكهان) جمع كاهن وهو الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويَدَّعي معرفة الأسرار، وقد كان في العرب كهنة، كشِقٍّ، وسَطيح، وغيرهما، فمنهم من كان يزعم أن له تابعًا من الجن ورِئيًا يلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلامِ مَنْ يسأله، أو فعلِه أو حالِه، وهذا يخصّونه باسم العراف، كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق، ومكانَ الضالَّة ونحوِهِما (¬1). وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - لحمل بن النابغة ذلك (من أجل سجعه الذي سجع)، ولم يعبه بمجرد السجع دون ما تضمن سجعه من الباطل كما في "النهاية"، وإنما ضرب المثل بالكهان؛ لأنهم كانوا يروجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق للسامعين، فيستميلون بها القلوب، ويستصغون إليها الأسماعَ، فأما إذا وُضع السجع في مواضعه من الكلام، فلا ذم فيه ولا ملام (¬2)، وكيف وقد جاء في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعاءٍ لا يُسمع" (¬3)، ففي هذا الحديث وغيره من الأدعية المسجوعة دليلٌ لما قاله ¬

_ = قال الخطابي في "تصحيفات المحدثين" سمعت ابن دريد وغيره ينصر هذا -أي: فأطلها على قولهم فطلها- ويثبته. ثم قال الخطابي: ولا أعلم الرواية جاءت إلا بالباء. (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 214 - 215). (¬2) المرجع السابق، (4/ 215). (¬3) رواه أبو داود (1548)، كتاب: الصلاة، باب: في الاستعاذة، والنسائي (5467)، كتاب: الاستعاذة، باب: الاستعاذة من نفس لا تشبع، وابن ماجه =

العلماء: إن السجع المذموم في الدعاء هو المقصود المتكلَّف، فإنه يُذهب الخشوع والخضوع والإخلاص، ويُلهي عن الضراعة والافتقار وفراغ القلب، وأما ما حصل بلا كلفة ولا إعمال فكر، لكمال الفصاحة أو نحو ذلك، أو كان محفوظًا، فلا بأس به بل هو حسن (¬1). والسجع: هو الكلام المقفّى، أو موالاة الكلام على رَوِيّ، يقال: سجع: إذا نطق بكلامٍ له فواصل، فهو سَجَّاعة وساجع، وسجعت الحمامة: رددت صوتها، فهي ساجعة وسجوع (¬2)، والله الموفق. ¬

_ = (250)، في المقدمة، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (17/ 41). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 939)، (مادة: سجع).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْن - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ، فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيْهِ، فَوَقَعَتْ ثنَيَّتَاهُ، فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ؟ لاَ دِيَةَ لَكَ" (¬1). * * * (عن عمرانَ بنِ حصين - رضي الله عنهما -: أن رجلًا) من الصحابة -رضي الله عنهم- (عضَّ يدَ رجلٍ)، عضّ الأسنان -بالضاد المعجمة- يقال: ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6497)، كتاب: الديات، باب: إذا عضَّ فوقعت ثناياه، ومسلم (1673/ 18)، كتاب: القسامة، باب: الصائل على نفس الإنسان أو عضوه، والنسائي (4758 - 4762)، كتاب: القسامة، باب: القود من العضة، والترمذي (1416)، كتاب: الديات، باب: ما جاء في القصاص، وابن ماجه (2657)، كتاب: الديات، باب: من عض رجلًا فنزع يده فندر ثناياه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 470)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 31)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 160)، و"شرح عمدة الأحكام "لابن دقيق (4/ 103)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1439)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 220)، و"عمدة القاري" للعيني (24/ 52)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 58)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 262)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 171).

عضه عضا: إذا أمسكه بأسنانه (¬1)، وفي الحديث: "عَضُّوا عليها بالنواجِذ" (¬2) هو مَثَلٌ في شدة الاستمساك؛ لأن العض بالنواجذ عضٌّ بجميع الفم والأسنان، والنواجذ -بالذال المعجمة-: أواخر الأسنان، وقيل: التي بعد الأنياب (¬3). وقد صرح في رواية مسلم أن المعضوض يعلى بن مُنْيَةَ -بضم الميم وسكون النون وفتح المثناة تحت-، وقيل: ابن أمية، وكلاهما صحيح، فمرة نُسب إلى أبيه أمية بن أبي عتيد بن همام بن الحارث التميمي الحنظلي، ومرة إلى أمه وكنية يعلى: أبو صفوان، وقيل: أبو خالد، وهو قول الأكثر، أسلم يوم الفتح، فشهد حنينًا والطائف وتبوك، مات سنة ثمان وثلاثين بصفين مع علي بعد أن شهد الجمل مع عائشة، وهو صاحب الجمل أعطاه عائشةَ -رضي الله عنها (¬4) -. وفي رواية لمسلم -أيضًا-: أن المعضوض كان أجيرًا ليعلى (¬5)؛ إذ لا يظن بيعلى ذلك، قاله النووي (¬6)، وكذا صاحب "المفهم" (¬7). قال البرماوي: الصحيح المعروف أنه أجير ليعلى، ويحتمل أنهما قضيتان (¬8) انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 835)، (مادة: عضض). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 252). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 222). (¬5) رواه مسلم (1674)، كتاب: القسامة، باب: الصائل على نفس الإنسان أو عضوه. (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 160). (¬7) انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 32). (¬8) وقاله قبله النووي في "شرح مسلم" (11/ 160). قال الحافظ ابن حجر في "فتح =

قلت: في "منتقى الأحكام" للإمام مجد الدين بن تيمية (¬1): عن يعلى بن أمية، قال: كان لي أجير، فقاتل إنسانًا، فعض أحدُهما صاحبه، فانتزع إصبعه، فأندر ثنيته، فسقطت، فانطلق إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأهدر ثنيته وقال: "ليدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل" رواه الجماعة إلا الترمذي (¬2)، وهم في اصطلاحه: الإمامُ أحمد، والشيخان، وأصحاب السنن. قلت: وفي لفظ البخاري: "أيدفع يده إليك فتقضمها كما يقضم الفحل؟! " (¬3)، وقال في آخر: "فيدع إصبعه في فيك" (¬4)، (فنزع) المعضوض (يده من فيه)؛ أي: من فم العاضِّ، (فوقعت ثنيتاه)؛ أي: ثنيتا العاض -بالتثنية- بالنزع، وفي رواية: ثنيته -بالإفراد (¬5) -، وللإنسان أربع ثنايا: ثنتان من فوق، وثنتان من أسفل (¬6)، (فاختصما)؛ أي: العاض ¬

_ = الباري" (12/ 220): وتعقبه شيخنا -يعني: العراقي- في "شرح الترمذي" بأنه ليس في رواية مسلم، ولا رواية غيره في الكتب الستة ولا غيرها أن يعلى هو المعضوض، لا صريحًا ولا إشارة، وقال شيخنا: فيتعين على هذا أن يعلى هو العاض، والله أعلم. (¬1) انظر: "منتقى الأحكام" له (3/ 12 - 13)، حديث رقم (3006). (¬2) رواه البخاري (2146)، كتاب: الإجارة، باب: الأجير في الغزو، ومسلم (1674/ 22)، كتاب: القسامة، باب: الصائل على نفس الإنسان أو عضوه، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 224)، وأبو داود (4584)، كتاب: الديات، باب: في الرجل يقاتل الرجل فيدفعه عن نفسه، والنسائي (4769)، كتاب: القسامة، باب: ذكر الاختلاف على عطاء في هذا الحديث. (¬3) رواه البخاري (2814)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الأجير. (¬4) تقدم تخريجه قريبًا برقم (2146). (¬5) تقدم تخريجه عند ابن ماجه برقم (2657). (¬6) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1637)، (مادة: ثنى).

والمعضوض (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك)، (فقال) -عليه السلام-: (يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل؟)؛ أي: فحلُ الإبل، وفي رواية: "أردت أن تأكل لحمه؟! " (¬1)، وفي رواية: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضَمُها كما يقضم الفحل؟! " (¬2)، والقضمُ: هو الأكل بأطراف الأسنان، وفي لفظ: "أردت أن تقضمه كما يقضم الفحل؟ " (¬3)، (لا دية لك)، وفي رواية من حديث يعلى بن أمية: فسقطت ثنيتاه، فأبطلهما النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4)، وتقدم آنفًا من حديثه: فأهدر ثنيته؛ أي: أبطل أن يكون فيها قصاص أو دية، بل ذهبت باطلة. قال علماؤنا: إن عضَّ يدَ إنسان عضًا محرَّمًا، فانتزع يده من فيه، ولو بعنف، فسقطت ثناياه، فهدر، وكذا ما في معنى العض (¬5). قال في "شرح الكافي": وهذا المذهب مطلقًا، وعليه جماهير الأصحاب، وقال جماعة من الأصحاب: ينتزعها بالأسهل فالأسهل؛ كالصائل (¬6)، انتهى. تنبيهات: الأول: أشار الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- بمضمون هذا الحديث إلى قاعدة فقهية، وهي حكم الصائل، فكل من صال على نفسه أو ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1673/ 19). (¬2) رواه مسلم (1673/ 21)، كتاب: القسامة، باب: الصائل على نفس الإنسان أو عضوه. (¬3) رواه مسلم (1674/ 22)، كتاب: القسامة، باب: الصائل على نفس الإنسان أو عضوه. (¬4) تقدم تخريجه برقم (1674/ 22). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 274). (¬6) وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 308).

نسائه أو ولده أو ماله، ولو قل، سواء كان الصائل بهيمة أو آدميًا، ولو غير مكلف، أو صبيًا أو مجنونًا، في منزله أو غيره، ولو متلصصًا، ولم يخف أن يبدره الصائل بالقتل، دفعه بأسهل ما يغلب على ظنه دفعُه به، فإن اندفع بالقول، لم يكن له ضربه، كان لم يندفع بالقول، فله ضربه بأسهل ما يظن أن يندفع به، فإن ظن أنه يندفع بضرب عصا، لم يكن له ضربه بحديد، وإن ولى هاربًا، لم يكن له قتله، ولا اتباعه، وإن ضربه فعطله، لم يكن له أن يثني عليه، وهكذا مِنْ فعلِ الأسهلِ فالأسهل (¬1). قال في "شرح المحرر": الصَّوْل والصِّيال: قصدُ الإنسان بما لا يحل له من تلف نفسه أو طرفه أو ماله، أو هتك عورته، وأصل الصول: الاستطالة والتغلب. وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي؟ قال: "فلا تُعطِه"، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "فاقتلْه"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: "هو في النار" (¬2) ورواه الإمام أحمد، وفيه: أنه قال له: "لولا أنشده الله"، قال: فإن أبى علي؟ قال: "فاقتله" (¬3). وقال في حديث عمران بن حصين هذا: لم يوجب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الضمان في ذلك، وقد ذهبت ثنيتاه بفعله؛ لأنه كان دافعًا عن نفسه، وشبهه في ذلك بالفحل. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 272). (¬2) رواه مسلم (140)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق، كان القاصد مهدر في حقه، وإن قتل كان في النار. (¬3) لم أقف عليه في "المسند"، والله أعلم.

قال: وقد روي أن جارية خرجت من المدينة تحتطب، فتبعها رجل، فراودها عن نفسها، فرمته بفهر، فقتلته، فرُفع ذلك إلى عمر، فقال: هذا قتيل الله، واللهِ لا يودى أبدًا (¬1). ومعنى قتيل الله: أن الله أباح قتله، ولأنه إتلاف بدفعٍ مباح، فوجب أن يسقط ضمانه، كالعادل إذا قتل الباغي، فإن قتل الدافع، فهو شهيد؛ لما روي عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من قُتل دون دمه، فهو شهيد، ومن قتل دون ماله، فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، فهو شهيد" رواه أبو داود، والترمذي، وصححه (¬2)، ومن حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل دون ماله، فهو شهيد" رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وصححه (¬3). فإن كان الدفع عن حرمته مثل أن يجد رجلًا مع امرأته أو ابنته أو أخته يزني بها، أو مع ابنه يلوط به، فدفعُه واجبٌ عليه، رواية واحدة؛ لأنه قد اجتمع فيه حق لله -تعالى-، وهو منعه عن الفاحشة، وحقٌّ لنفسه بالمنع عن أهله، فلا يسعه إضاعةُ هذه الحقوق؛ لأن الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر واجبٌ في غير هذه الصورة، ففيها أولى أن يجب. وإن كان الدفع عن نفسه؛ مثل من قصد قتلَه أو قطعَ عضو من أعضائه، ففي وجوبه روايتان: إحداهما: يجب؛ لقوله -تعالى-: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (27793)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 337)، من حديث عبيد بن عمير. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

وكما يحرم عليه قتلُ نفسه، يحرم عليه إباحة دمه. والثانية: يجوز ولا يجب، بل يستحب، لقوله -تعالى- في قصة ابني آدم: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28]، فهذا يدل على أنه ترك قتله مع القدرة عليه (¬1). وقد روى ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يمنع أحدَكم إذا جاء من يريد قتلَه أن يكون مثلَ ابني آدم؟ القاتلُ في النار، والمقتولُ في الجنة" رواه الإمام أحمد (¬2)، ولأن عثمان - رضي الله عنه - ترك القتال على من بغى عليه مع القدرة عليه، ومنعَ غيره عن قتالهم، وصبر على ذلك، ولو لم يجز، لأنكر الصحابة عليه ذلك. وإن كان الدفع عن ماله، فهذا لا يجب عليه، رواية واحدة؛ لأنه ليس فيه من المحذور ما في النفس، لأن المال لا حرمة له كحرمة النفس، فلا يجب عليه أن يقتل النفس بسبب المال؛ لأنه ربما يمكن دفع الصائل بدون القتال، ولا يأمن المقاتل أن يقتل، ومع ذلك يجوز له قتال الصائل؛ لاعتدائه عليه. قال شيخ الإسلام حفيد المجد بن تيمية -قدس الله روحه-: لا يجب على الإنسان الدفعُ عن ماله، قال -تعالى-: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34]، قال عمر [و] بن أوس: هم الذين لا يظلمون إذا ظُلموا (¬3)، فينبغي الصبر على الظالم، وأَلَّا يبغي عليه، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لو بغى ¬

_ (¬1) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 155). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 100). (¬3) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 381)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (35487)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (8088).

جبل على جبلٍ، لجعل الله -تعالى- الباغيَ منهما دكًا (¬1)، ومن ذا قول الشاعر: [من الطويل] قَضَى اللهُ أَنَّ الْبَغْيَ يَصرَعُ أَهْلَهُ ... وَأَنَّ عَلَى الْبَاغِي تَدُورُ الدَّوَائِرُ (¬2) ويشهد لهذا قوله -تعالى-: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]. الثاني: ذكر البدر العيني في "شرح البخاري" تحت قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "من قتل دون ماله فهو شهيد": فيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق، سواء كان المال قليلًا، أو كثيرًا؛ لعموم الحديث. قال: وهذا قول جماهير العلماء، وقال بعض أصحاب مالك: لا يجوز إذا طلب شيئًا يسيرًا؛ كالثوب والطعام، قال: وهذا ليس بشيء، والصواب ما قاله الجماهير. قال: وأما المدافعة عن الحريم، فواجبة بلا خلاف في مذهبنا ومذهب غيرنا. والمدافعة عن المال جائزة واجبة، قال: وفيه أن القاصد إذا قُتل، لا دية له، ولا قصاص، وأن الدافع إذا قُتل يكون شهيدًا. وقال الإمام الحافظ الترمذي: وقد رخص بعضُ أهل العلم للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله. وقال الإمام ابن المبارك: يقاتل ولو على درهمين (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن مردويه في "تفسيره" كما ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (4/ 353)، لكن من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعًا. (¬2) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 237 - 238). (¬3) انظر: "سنن الترمذي" (4/ 29)، عقب حديث (1419).

وقال ابن المهلب: وكذلك في كل من قاتل على ما يحل له القتال عليه من أهلٍ ودينٍ، فهو كمن قاتل دون نفسه وماله، فلا دية عليه، ولا تبعة، ومن أخذ في ذلك بالرخصة، وأسلم المال والأهل والنفس، فأمرُه إلى الله -تعالى-، والله يعذره ويأجره، ومن أخذ في ذلك بالشدة، وقُتل كانت له الشهادة. وقال الإمام ابن المنذر: روينا عن جماعة من أهل العلم: أنهم رأوا قتالَ اللصوص ودفعَهم عن أنفسهم وأموالهم، وقد أخذ ابن عمر لصًا في داره، فأصلت عليه السيف، قال سالم: لولا أنا حُلْنا بينه وبينه، لضربه به (¬1). وقال النخعي: إذا خفت أن يبدأك اللص، فابدأه. وقال الحسن: إذا طرق اللص بالسلاح، فاقتله. وسئل الإمام مالك عن القوم يكونون في السفر، فتلقاهم اللصوص، قال: يقاتلونهم ولو على دانق. وقال عبد الملك: إن قدر أن يمتنع من اللصوص، فلا يعطهم شيئًا. وقال الإمام أحمد: إذا كان اللص مقبلًا، فادفعه؛ يعني: ولو بالقتل، وإن كان موليًا، فلا تقتله. وعن إسحاق مثله. وقال الإمام أبو حنيفة في رجل دخل على رجل ليلًا للسرقة، ثم خرج بالسرقة من الدار، فأتبعه الرجل فقتله: لا شيء عليه. وقال الإمام الشافعي: من أريد ماله في مصر أو في صحراء، أو أريد حريمه، فالاختيار له أن يكله، أو يستغيث، فإن منع أو امتنع، لم يكن له ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (18557).

قتاله، فإن أبى أن يمتنع من قتله من أراد قتله، فله أن يدفعه عن نفسه وعن ماله، وليس له عمد قتله، فإذا لم يمتنع، فقاتله فقتله، فلا عقل فيه، ولا قود، ولا كفارة (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية": إذا كان مطلوب الصائل المال، جاز دفعه بما يمكن، فإذا لم يندفع إلا بالقتال، قوتل، وإن ترك القتال، أو أعطاهم شيئًا من المال، جاز، وأما إذا كان مطلوبه الحرمة؛ مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان، أو يطلب من المرأة والصبي الفجور به، فيجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن، ولو بالقتل، ولا يجوز التمكين بحال؛ بخلاف المال؛ لأن بذل المال جائز؛ بخلاف الفجور، وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان، جاز له الدفع، وهل يجب عليه؟ على قولين للعلماء في مذهب الإمام أحمد وغيره، والله أعلم (¬2). الثالث: إذا نظر إنسان في بيت إنسان من خصاص الباب ونحوه، فحذف عينه، ففقأها، فلا شيء عليه (¬3)؛ لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اطلع في بيتِ قومٍ بغير إذنهم، ففقؤوا عينه، فلا ديةَ ولا قصاص" رواه الإمام أحمد، والنسائي (¬4). وفي رواية: "من اطلع في بيت قومٍ بغير إذنهم، فقد حلَّ لهم أن يفقؤوا عينه" رواه الإمام أحمد، ومسلم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 35 - 36). (¬2) انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 74 - 75). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 274). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 414)، والنسائي في "السنن الكبرى" (7065)، واللفظ له. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 266)، ومسلم (2158)، كتاب: الآداب، =

وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن رجلًا اطلع في جحرٍ في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِدْرَى يرجِّل به رأسه، فقال له: "لو أعلم أنك تنظر، طعنتك به في عينك، إنما جُعل الإذن من أجل البصر" (¬1). قوله: أن رجلًا، قيل: هو الحكمُ بن العاص بن أمية والدُ مروان، وقيل: سعد، غير منسوب. وقوله: اطَّلع -بشد الطاء-، والجُحْر -بضم الجيم وسكون المهملة-، والمِدْرى -بكسر الميم وسكون الدال المهملة-: عود تُدخله المرأة في رأسها ليضم بعض شعرها إلى بعض، وهو يشبه المِسَلَّة، يقال: مدرت المرأة: سرحت شعرها، وقيل: مشط له أسنان يسيرة، وقال الأصمعي وأبو عبيد: هو المشط، ويأتي له تتمة. وقد روي: في جُحْر -بضم الجيم وسكون المهملة-، وهو ثقب مستدير في أرض أو حائط، وأصلها: مكامنُ الوحش، وروي -بضم الحاء المهملة وفتح الجيم-: جمع حُجَرة، وهي ناحية من البيت، ووقع في رواية: حُجْرة -بالإفراد-، والله -تعالى- الموفق (¬2). ¬

_ = باب: تحريم النظر في بيت غيره. (¬1) رواه البخاري (5887)، كتاب: الاستئذان، باب: الاستئذان من أجل البصر، ومسلم (2156)، كتاب: الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 334). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 367).

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنِ الحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ البصرِيَ، قَالَ: حَدَّثنا جُنْدُبٌ فِي هذَا المَسْجِدِ، وَمَا نَسِينَا مِنْهُ حَديثًا، وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُم رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزع، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِها يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: "عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ، فَحَرَّمتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ" (¬1). * * * (عن الحسن بن أبي الحسن) الإمامِ المشهور التابعيِّ الأنصاريِّ، مولاهم؛ لأنه مولى زيد بن ثابت، وقيل: مولى جابر بن عبد الله، وقيل: ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1298)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قاتل النفس، و (3276)، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، واللفظ له، ومسلم (113/ 80 - 81)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 396)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 127)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 105)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1440)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 308)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 499)، و"عمدة القاري" للعيني (16/ 46)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 198).

مولى جميل بن قطبة، ويكنى: أبا سعيد، وأبا الحسن، اسمه يَسار -بفتح المثناة تحت وبعدها سين مهملة- من سبي مَيْسان -بفتح الميم وسكون المثناة تحت وبالسين المهملة-، وهو صُقْع بالعراق، وكان المغيرة بن شعبة افتتحها. قال ابن سعد وغيره: وكانت اشترته الرُّبَيِّعُ -بالتصغير- بنتُ النضر -بالضاد المعجمة- عمة أنس بن مالك، فأعتقته. ويروى عن الحسن (البصري) -رحمه الله- أنه قال: كان أبواي لرجل من بني النجار، فتزوج امرأة من بني سلمة، فساقهما إليها من مهرها، فأعتقتهما. لكن المشهور أن أمه واسمها خَيْرَة -بالخاء المعجمة المفتوحة وبعدها مثناة من تحت ساكنة- كانت مولاة لأم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها-، قالوا: وكانت أمه ربما خرجت في شغل، فيبكي الحسن، فتعطيه أم سلمة ثديها، فيدر عليه، فيرون أن تلك الفصاحة والحكم من بركة ذلك. ونشأ الحسن بوادي القرى، ورأى طلحةَ بنَ عبد الله، وعائشةَ، ولم يصح سماعه منهما كما قاله الحافظ عبد الغني المصنف -رحمه الله تعالى-، وكذلك رأى أم سلمة، ولم يسمع منها. وقيل: إنه لقي عليَّ بنَ أبي طالب، ولم يصح لُقِيُّه له كما قاله البرماوي، وابن الأثير، وجمعٌ، وقطع به شيخ الإسلام ابن تيمية. وقال في "جامع الأصول": وقيل: إنه لقي عليًا بالمدينة، ولا يصح، وأما رؤيته إياه بالبصرة، فلم تصح؛ لأنه كان في وادي القرى متوجهًا نحو البصرة حين قدم عليّ البصرة. ولد الحسن البصري لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله

عنه- بالمدينة، وقدم البصرة بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه -، فسمع ابنَ عمر، وأنسًا، وسمرةَ، وأبا بكرة، وقيسَ بنَ عاصم، وجندبَ بنَ عبد الله، ومعقلَ بن يسار، وعمروَ بنَ تَغْلِب -بالمثناة والغين المعجمة وكسر اللام-، وعبد الرحمن بنَ سمرة، وأبا برزة الأسلمي، وعمران بنَ حُصَيْن، وعبدَ الله بن مُغَفَّلٍ، وغيرَهم. قال الفضيل بن عياض: سألت هشام بن حسان: كم أدرك الحسنُ من الصحابة؟ قال: مئة وثلاثين. وعن الحسن، قال: غزونا غزوة إلى خراسان معنا فيها ثلاث مئة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما التابعون، فسمع كثيرًا منهم، وروى عنه خلق كثير لا يُحصون، وكان قد حضر يوم الدار، وعمره أربع عشرة سنة، وجلالته وإمامته وزهده وورعه وعبادته ما لا يخفى، ومناقبه لا تحصى. روى الثوري عن عمران القصير، قال: سألت الحسن عن شيء، فقلت: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا، فقال: وهل رأيت فقيهًا بعينك؟ إنما الفقيهُ: الزاهدُ في الدنيا، البصيرُ بدينه، المداومُ عبادة ربه (¬1). وكان الحسن يحلف بالله ما أعز أحدٌ الدراهم إلا أذله الله (¬2). وقدم الحسن مكة، فأجلسوه على سرير. توفي سنة عشر ومئة في رجب، وعمره ثمانٍ وثمانون سنة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (35188)، والدرامي في "سننه" (294)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 147). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 152). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 156)، و"التاريخ الكبير" =

قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصحَ من الحسن البصري، ومن الحجاجِ بنِ يوسفَ الثقفي، فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن (¬1). وكان أجملَ أهل البصرة حتى سقط عن دابته، فحدث بأنفه ما حدث. وحكى الأصمعي عن أبيه، قال: ما رأيت أعرضَ زَنْدًا من الحسن، كان عرضه شبرًا. ومن كلامه: ما رأيت يقينًا لا شكَّ فيه أشبه بشكٍّ لا يقين فيه إلا الموت (¬2). ولما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق، وأضيفت إليه خراسان، وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسنَ البصري، ومحمدَ بن سيرين، والشعبيَّ، وذلك في سنة ثلاث ومئة، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله، استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتبُ إليَّ بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر، فما ترون؟ فقال ابنُ سيرين والشعبيُّ قولًا فيه تَقِية، فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا بن هبيرة! خَفِ الله في يزيدَ، ولا تخف يزيدَ في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك ¬

_ = للبخاري (2/ 286)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 40)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 122)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 131)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 233)، و"جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 308 - قسم التراجم)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 165)، و"تهذيب الكمال" للمزي (6/ 95)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 563)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 71)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (2/ 231). (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (12/ 116 - 117). (¬2) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 232)، لكن من قول أبي حازم.

من الله، ويوشك أن يبعث إليك مَلَكًا فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سَعَةِ قصر إلى ضيق قبرٍ، ثم لا ينجيك إلا عملُك، يا بن هبيرة! لا تعص الله، فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرًا لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فأجازهم ابنُ هبيرة، وأضعفَ جائزةَ الحسن، فقال ابن سيرين والشعبي: سَفْسَفْنا له، فسفسفَ لنا (¬1). ودخل على أمه وفي يدها كراثة تأكلها، فقال لها: يا أُمَّه! ألقي هذه البقلة الخبيثة من يدك، فقالت: يا بني! إنك شيخ قد كبرتَ وخرفت، فقال: يا أُمه! أينا أكبر (¬2)؟!. وأكثرُ كلامه حكمة وبلاغة -رحمه الله، ورضي عنه-. (قال) أبو سعيد الحسنُ البصري: (حدّثنا جُنْدُب) -بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة وفتحها، لغتان- بنُ عبد الله البَجَلِيُّ - رضي الله عنه -، وتقدمت ترجمته في باب: صلاة العيدين (في هذا المسجد)؛ يعني: مسجد البصرة. قال الحسن -رحمه الله-: (وما نَسينا منه)؛ أي: مما حدّثنا به (حديثًا)؛ لأنه كان من أحفظ الناس، (وما نخشى)؛ أي: ما نخاف (أن يكون) أبو عبد الله (جندب) بن عبد الله البجلي صاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، وهو يعلم ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن كذب عليه. (قال) جندب: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان فيمن)؛ أي: في الناس؛ أي: ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (45/ 375 - 376)، إلا أن فيه: "رفقنا له، فرفق لنا"ـ (¬2) انظر: "تهذيب الكمال" للمزي (35/ 167).

الخلق أو الجيل الذي (كان قبلكم) في الزمن الذي مضى (رجلٌ به جرحٌ) في يده، وفي رواية: كان رجل به جراح (¬1)، (فجَزع) -بفتح الجيم وكسر الزاي-؛ أي: فزع وقلَّ صبرُه. وفي البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: الجزع: القول السيئ (¬2)، (فأخذ) ذلك الرجل (سكينًا، فحزَّ)؛ أي: قطع (بها) أي: السكينِ، (يده)؛ أي: يد نفسه التي بها الجرح، (فما رَقَأَ) -مهموز-؛ أي: ما جفّ (الدمُ) وسكنَ جريانه (حتى مات) من ذلك، (قال الله -عز وجل-: عبدي بادرني) -من المبادرة- بمعنى: المسابقة؛ أي: سابقني (بنفسه)، فقتلها بجزعه وعدم صبره على ما ابتليته به، (فحرمت عليه) دخول (الجنة). وفي رواية لمسلم: "إن رجلًا كان ممن كان قبلكم خرجت بوجهه قرحة، فلما آذته، انتزع سهمًا من كنانته، فنكأها -أي: نخسها وفجرها-، فلم يرقأ الدم حتى مات. قال ربكم: قد حرمت عليه الجنة" (¬3). وفي "صحيح ابن حبان" من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: أن رجلًا كان به جراحة، فأتى قرنًا له، فأخذ مِشْقَصًا، فذبح به نفسه، فلم يصلِّ عليه النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). القرن -بفتح القاف والراء: جعبة النشاب، والمِشْقَص -بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح القاف-: سهم فيه نصل عريض، وقيل: هو ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1298)، وفيه: "كان برجل جراح". (¬2) ذكره البخاري في "صحيحه" (1/ 437)، لكن عن محمد بن كعب القرظي. (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (113/ 80). (¬4) رواه ابن حبان في "صحيحه" (3093).

النصل وحده، وقيل: سهم فيه نصل طويل، وقيل: هو ما طال وعرض من النصال (¬1). وفي "الصحيحين"، وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تَرَدَّى من جبلٍ، فقتل نفسَه، فهو في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومن قتلَ نفسَه بحديدةٍ، فحديدتُه في يده يتوجّأ بها في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا" (¬2). قوله: "تردّى"؛ أي: رمى نفسه من الجبل أو غيره، فهلك، وقوله: "يتوجّأ" -مهموزًا-؛ أي: يضرب بها نفسه (¬3). وفي البخاري عنه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذي يخنق نفسه، يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار، والذي يقتحم يقتحم في النار" (¬4). تنبيه: من قتل نفسه خطأ، وجبت الكفارة في ماله، وبهذا قال الشافعي. قال أبو حنيفة: لا تجب؛ لأن ضمان نفسه لا يجب، فلم تجب الكفارة به؛ كقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم. ووجه الأول: عمومُ قوله -تعالى-: {وَمَن قَنَلَ مُؤْمَنًا خَطا فَتحْريرُ رَقَبَةٍ ¬

_ (¬1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 206)، عقب حديث: (3701). (¬2) رواه البخاري (5442)، كتاب: الطب، باب: شرب السم والدواء به، ومسلم (109)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. (¬3) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 205)، عقب حديث (3697). (¬4) رواه البخاري (1299)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قاتل النفس، دون قوله: "والذي يقتحم يقتحم في النار". وهو عند الإمام أحمد في "مسنده" (2/ 435)، وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 205).

مّؤمِنةٍ} [النساء: 92]، ولأنه آدمي مؤمن مقتول خطأ، فوجبت الكفارة على قاتله، كما لو قتله غيره. قال الإمام الموفق: وقول أبي حنيفة أقربُ إلى الصواب؛ فإن عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأ، فلم يأمر النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فيه بكفارة، فأما قوله -تعالى-: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92]، فإنما أريد بها إذا قتل غيره؛ بدليل قوله -تعالى-: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]، وقاتل نفسه لا تجب فيه دية؛ بدليل قتل عامر بن الأكوع. وأما إن قتل نفسه عمدًا، فلا كفارة؛ لأن معتمد المذهب أنه لا كفارة بقتل العمد العدوان، وبه قال الثوري، ومالك، وأبو ثور، وابن المنذر، وأصحاب الرأي. وعن الإمام أحمد رواية أخرى: تجب في العمد الكفارة، وحكي عن الزهري، وهو قول الشافعي، واحتج له بحديث واثلة بن الأسقع، قال: أتينا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بصاحب لنا قد أوجب بالقتل، فقال: "اعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو منها عضوًا منه من النار" (¬1). قالوا: ولأنها إذا وجبت في قتل الخطأ، ففي العمد أولى؛ لأنه أعظم جرمًا، وحاجته إلى تكفير ذنبه أعظم. ولنا: مفهوم قوله -تعالى-: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، ثم ذكر قتل العمد، فلم يوجب فيه كفارة، وجعل جزاءه جهنم، فمفهومه أنه لا كفارة. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3964)، كتاب: العتق، باب: في ثواب العتق، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 107).

وروي أن سُويد بنَ الصامت قتل رجلًا، فأوجب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - القودَ، ولم يوجب كفارة، وعمر [و] بن أمية الضمري قتل رجلين كانا في عهد النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، فوداهما النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يأمره بكفارة؛ لأنه فعل يوجب القتل، فلا يوجب الكفارة، كزنى المحصن، وحديث واثلة يحتمل أنه كان خطأ، وسماه موجبًا؛ أي: فوت النفس بالقتل، ويحتمل أنه كان شبه عمد، ويحتمل أنه أمرهم بالإعتاق تبرعًا، وكذلك أمرُه غيرَ القاتل بالإعتاق، وما ذكروه من المعنى لا يصح؛ لأنها وجبت في الخطأ لتمحو إثمه، لكونه لا يخلو من تفريط، فلا يلزم من ذلك إيجابها في موضع عظم الإثم فيه بحيث لا يرتفع بها، وأما شبه العمد، فتجب فيه الكفارة بلا خلافٍ في المذهب (¬2). والحاصل: أن الذي استقر عليه المذهب: وجوبُ الكفارة في الخطأ وشبهِ العبد، سواء كان الجاني هو على نفسه، أو شارك في قتل نفس غيره، أو كان الجاني على غيره حيث كانت النفس محرمة، والله -تعالى- الموفق. ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 248)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (45/ 421). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (8/ 402).

كتاب الحدود

كتاب الحدود جمع حَدّ، وهو في الأصل: المنعُ والفصلُ بين شيئين، وحدودُ الله: محارمه؛ كقوله -تعالى-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]. وحدود الله -أيضًا-: ما حَدَّه وقَدَّرَه، فلا يجوز أن تُتعدى؛ كالمواريث المعينة، وتَزَوُّجِ الأربع، ونحوِ ذلك مما حَدَّه الشرع، فلا تجوز الزيادةُ ولا النقصان، قال الله -تعالى-: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، والحدود المراد بها هنا: العقوبات المقدرة، وإنما سميت بذلك؛ لأنها مأخوذة من الحد، وهو: المنع؛ لأنها تمنع من الوقوع في مثل ذلك الذنب، ويحتمل أن تكون سميت بالحدود التي هي المحارم؛ لكونها زواجرَ عنها، أو بالحدود التي هي المقدرات؛ لكونها مقدرة لا يجوز فيها الزيادة ولا النقصان كما في "المطلع" (¬1). وذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب ستة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 370).

[باب]

الحديث الأول عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَدِمَ نَاس مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنة، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُم أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالها وَأَلْبَانها، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوَا رَاعِيَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أَوَّلِ النهارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِم، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهارُ، جِيءَ بِهم، فَأَمَرَ بِقَطْعِ أيدِيهِم وَأَرجُلِهِم، وَسُمِرَتْ أَعيُنُهم، وَتُرِكُوا في الحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ. قَالَ أَبُو قِلابة: فَهؤُلاَءِ سَرَقُوا، وَقَتَلُوا، وَكفَرُوا بَعدَ إِيمَانِهِم، وَحَارَبُوا الله وَرَسُولَهُ. [أخرجه الجماعة] (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (231)، كتاب: الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، واللفظ له، و (1430)، كتاب: الزكاة، باب: استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل، و (2855)، كتاب: الجهاد والسير، باب: إذا حرق المشرك المسلم، هل يحرق؟، و (3956 - 3957)، كتاب: المغازي، باب: قصة عكل وعرينة، و (4334)، كتاب: التفسير، باب: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . . .} [المائدة: 33]، و (5361)، كتاب: الطب، باب: الدواء بألبان الإبل، و (5362)، باب: الدواء بأبوال الإبل، و (5395)، باب: من خرج من أرض لا تلايمه، و (6417)، في أول كتاب: =

(عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالك - رضي الله عنه -، قال: قدم) على النبي - صلى الله عليه وسلم - (ناسٌ من عُكْلٍ) -بضم العين المهملة وسكون الكاف- هو في ¬

_ = المحاربين من أهل الكفر والردة، (6418)، باب: لم يحسم النبي - صلى الله عليه وسلم - المحاربين من أهل الردة حتى هلكوا، و (6419)، باب: لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا، و (6420)، باب: سمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين المحاربين، و (6503)، كتاب: الديات، باب: القسامة. ومسلم (1671/ 9 - 14)، كتاب: القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، وأبو داود (4364 - 4368)، كتاب: الحدود، ما جاء في المحاربة، والنسائي (305 - 306)، كتاب: الطهارة، باب: فرث ما يؤكل لحمه يصيب الثوب، و (4024 - 4027)، كتاب: تحريم الدم، باب: تأويل قول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]، و (4028 - 4034)، باب: ذكر اختلاف الناقلين لخبر حميد عن أنس بن مالك فيه، و (4035)، باب: ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحيى بن سعيد في هذا الحديث، والترمذي (72 - 73)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في بول ما يؤكل لحمه، و (1845)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في شرب أبوال الإبل، و (2042)، كتاب: الطب، باب: ما جاء في شرب أبوال الإبل، وابن ماجه (2578)، كتاب: الحدود، باب: من حارب وسعى في الأرض فسادًا، و (3503)، كتاب: الطب، باب: أبوال الإبل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 297)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 462)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 18)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 153)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 108)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1445)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 309)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 336)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 151)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 2)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 59).

الأصل اسمُ امرأة حصيبٍ ولدِ عوفِ بن أيامين، غلب اسمها على القبيلة من ولدها (¬1). (أو) الناس الذين قدموا على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من (عُرَيْنة) -بضم العين المهملة وفتح الراء- بطن من بَجيلة (¬2)، وكان عدة هؤلاء ثمانية كما في "الصحيحين": أربعة كانوا من عكل، وثلاثة من عرينة والرابع كان تابعًا لهم (¬3). وفي لفظ [لمسلم] (¬4): أن ناسًا من عرينة (¬5)، وفي آخر: من عكل وعرينة (¬6)، وفي رواية للإمام أحمد، والبخاري، وأبي داود، قال قتادة: فحدّثني ابن سيرين: أن ذلك قبل أن تنزل الحدود (¬7). (فاجتووا المدينة) النبويةَ؛ أي: استَوْبَلوها واستَوْخَموها (¬8)، وقد جاء ذلك مفسرًا، ففي لفظ في "الصحيح": فقالوا: يا نبي الله! إنا كنا أهلَ ضرع، ولم نكن أهلَ ريف، خرّجه البخاري في الطب، والمغازي (¬9)، ¬

_ (¬1) انظر: "الأنساب" للسمعاني (4/ 223)، و"الطبقات" لخليفة بن خياط (ص: 40)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 152). (¬2) انظر: "الأنساب" للسمعاني (4/ 182). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 141). (¬4) ما بين معكوفين ساقطة من "ب". (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9)، وكذا عند البخاري برقم (1430). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3956، 5395)، وعند مسلم برقم (1671/ 13). (¬7) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 290). وتقدم تخريجه عند البخاري برقم (5362)، وعند أبي داود برقم (4371). (¬8) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 165). (¬9) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3956، 5395).

وقال فيه: قالوا: يا رسول الله! آونا وأطعِمْنا، فلما صحوا، قالوا: إنّ المدينة وخمة (¬1)، (فأمر لهم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بلقاح) جمع لقوح؛ كصبور: الناقة القريبة العهد بالنتاج، وناقة لقوح: إذا كانت غزيرة اللبن، ولاقح: إذا كانت حاملًا، ونوقٌ لواقحُ، واللِّقاح: ذواتُ الألبان، الواحدة لَقوح (¬2). وفي "الفتح": اللِّقاح -باللام المكسورة فالقاف وآخره مهملة-: النوق ذوات الألبان، واحدها لِقْحَة -بكسر اللام وإسكان القاف-، قال أبو عمرو: يقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر، ثم هي لبون (¬3). وعند أبي عوانة من حديث أنس في هذه القصة: فعظمت بطونهم، فأمرهم بلقاح (¬4)؛ أي: أمرهم أن يلحقوا بها. وفي رواية عند البخاري وغيره: فأمرهم أن يلحقوا براعيه (¬5). وعند أبي عوانة بسند "صحيح مسلم": أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح، فقالوا: يا رسول الله! قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل (¬6). وفي رواية عند البخاري: قالوا: يا رسول الله! ابغنا رِسْلًا؛ أي: اطلب لنا لبنًا، قال: "ما أجدُ لكم إلا أن تلحقوا بالذَّوْد" (¬7). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5361). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 262). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 338). (¬4) رواه أبو عوانة في "مسنده" (6101). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5362). (¬6) رواه أبو عوانة في "مسنده" (6123). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2855).

وظاهر الأمر: أن اللقاح كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وصرح بذلك في: "البخاري" في المحاربين، ولفظه: أن تلحقوا بإبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذا فيه، وفي "مسلم": أن تخرجوا إلى إبل الصدقة (¬2)، وطريق الجمع بينهما: أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعثَ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بلقاحه إلى المرعى طلبُ هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء (¬3)، (وأمرهم) النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (أن يشربوا من ألبانها)؛ أي: اللقاح، (وأبوالها)، احتج به من قال بطهارة بول مأكول اللحم، أما من الإبل، فبهذا الحديث، وأما بقية مأكول اللحم، فبالقياس عليه، وهو مذهب الإمام أحمد، والإمام مالك، وطائفة من السلف، ووافقهم من الشافعية: ابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان، والإصطخري، والروياني. وذهب الشافعي، وجمهور من العلماء إلى القول بنجاسة الأبوال والأرواث كلِّها، من مأكول اللحم أو غيره. واحتج ابن المنذر بأن الأشياء على الطهارة حتى يثبت دليل النجاسة. قال: ومن زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام، فلم يصب، إذ الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، ولم يزل الناس يبيعون أبعار الغنم في أسواقهم، ويستعملون أبوال الإبل في أدويتهم قديمًا وحديثًا من غير نكير، وهذا يدل على طهارة ذلك. وقال ابن العربي: تعلق بهذا الحديث من قال بطهارة أبوال الإبل، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6419). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6417)، وعند مسلم برقم (1671/ 9). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 338).

وعورضوا بأنه أذن لهم في شربها للتداوي (¬1). وتعقب بأن التداوي ليس حال ضرورة؛ بدليل أنه لا يجب، فكيف يُباح الحرام لما لا يجب؟ وأجيب: بمنع أنه ليس حال ضرورة، بل هو حال ضرورة إذا أخبره بذلك من يعتمد على خبره، وما أبيح للضرورة لا يسمى حرامًا وقتَ تناوله؛ لقوله -تعالى-: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬2) [الأنعام: 119]. ولنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لم يجعل شفاءَ أُمتي فيما حَرَّمَ عليها" رواه أبو داود من حديث أم سلمة (¬3)، وروي من طريق في البخاري وغيره -أيضًا- (¬4)، والنجس حرام، فلا ويُتداوى به؛ لأنه غير شفاء، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في جواب من مسألة عن التداوي بالخمر: "إنها ليست بدواء، إنها داء" رواه مسلم (¬5). وقد جاء في حديث عن ابن عباس مرفوعًا: "إن في أبوال الإبل شفاء للذربة" رواه ابن المنذر (¬6)، والذربة: فساد المعدة، فلولا أن أبوال الإبل ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 97). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 338). (¬3) رواه أبو داود (3874)، كتاب: الطب، باب: الأدوية المكروهة، لكن من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - بلفظ: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام". (¬4) رواه البخاري في "صحيحه" (5/ 2129)، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - معلقًا عليه من قوله. (¬5) رواه مسلم (1984)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم التداوي بالخمر، من حديث طارق بن سويد - رضي الله عنه -. (¬6) ورواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 293)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12986).

طاهرة، لما ثبت فيها دواء؛ بدليل قوله في الحديث الصحيح: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها" (¬1). (فلما صحوا)، في السياق حذف تقديره: ففعلوا؛ أي: شربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا، وقد ثبت ذلك في رواية (¬2). وفي لفظ لمسلم: ففعلوا، فصحوا (¬3)، و (قتلوا راعي) لقاح (النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -). وفي رواية عند مسلم: ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم، وارتدوا عن الإسلام، (واستاقوا النعم)، من السوق، وهو السير العنـ[ــيـ]ـف (¬4). وفي لفظ لمسلم: وساقوا ذَوْدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، (فجاء الخبر)، وفي لفظ: فبلغ ذلك النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬6)، وفي رواية: فجاء الصريخ -بالخاء المعجمة (¬7) -، وهو فعَيل بمعنى فاعل؛ أي: صرخ بالإعلام بما وقع منهم، وهذا الصارخ هو أحد الرعاء كما ثبت في "صحيح أبي عوانة" من حديث أنس، وأخرج مسلم إسناده، ولفظه: فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع، فقال: قد قتلوا صاحبي، وذهبوا بالإبل (¬8). واسم راعي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المقتول: يَسار -بياء تحتانية فمهملة خفيفة- كما ذكره ابن إسحاق في "المغازي"، والحافظ ابن حجر في "الفتح"، ورواه ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 339). (¬2) انظر "فتح الباري" لابن حجر (1/ 339). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9)، وكذا عند البخاري برقم (6417). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 339). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9). (¬6) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2855، 6419). (¬8) تقدم تخريجه عند أبي عوانة برقم (6123).

الطبراني موصولًا من حديث سلمة بن الأكوع بإسناد صالح، قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - غلام يقال له: يسار. زاد ابن إسحاق: أصابه في غزوة بني ثعلبة، قال سلمة: فرآه يحسن الصلاة، فأعتقه، وبعثه في لقاح له بالحَرَّة، فكان بها، فذكر قصة العرنيين، وأنهم قتلوه (¬1). قال في "الفتح": ولم أقف على تسمية الراعي الآتي بالخبر، والظاهر أنه راعي إبل الصدقة، ولم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذكره بالإفراد، وكذا لمسلم، لكنه عنده في رواية ما ذكرناها: ثم مالوا على الرعاء، فقتلوهم -بصيغة الجمع-، ونحوه لابن حبان عن أنس (¬2)، فيحتمل أن إبل الصدقة كان لها رعاة، فقتل بعضهم مع راعي اللقاح، فاقتصر بعضُ الرواة على ذكر راعي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وذكر بعضهم معه غيره. ورجح في "الفتح" أن بعض الرواة ذكره بالمعنى، فتجوَّزَ بالإتيان بصيغة الجمع، قال: لأن أهل المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار (¬3). قال البرماوي: فلما قتلوه، حُمل إلى قباء ميتًا، فدفن بها. قال: وكانت عدة اللقاح خمسة عشر (في أول النهار) -متعلق بجاء- (فبعث) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (في آثارهم)، زاد في رواية الأوزاعي: الطلب (¬4)، وفي حديث سلمة بن الأكوع: خيلًا من المسلمين، أميرهم كُرْز بن جابر ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (6223). (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1386). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 339). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3956، 5395، 6419، 6420) من طرق ليس فيها الأوزاعي.

الفهري (¬1)، وكذا ذكره ابن إسحاق والأكثرون، وهو -بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي-، وللنسائي من رواية الأوزاعي: فبعث في طلبهم قافَة (¬2)؛ أي: جمع قائف، ولمسلم من رواية معاوية بن قرة عن أنس: أنهم شباب من الأنصار قريب من عشرين رجلًا، وبعث معهم قائمًا يقتصُّ آثارهم (¬3). قال في "الفتح": ولم أقف على اسم هذا القائف ولا على اسم واحد من العشرين، لكن في "مغازي" الواقدي: أن السرية كانت عشرين رجلًا، ولم يقل من الأنصار، بل سمى منهم جماعة من المهاجرين، منهم: بريدة بن الحصيب، وسلمة بن الأكوع الأسلميان، وجندب ورافع ابنا مكيث جهنيان، وأبو ذر وأبو رهم الغفاريان، وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان، وغيرهم. وقد قيل: إن أمير هذه السرية سعيد بن زيد، كذا بزيادة الياء بعد العين المهملة، والمعروف: سعد -بسكون العين- بن زيد الأشهلي (¬4). وفي البرماوي: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقيل: جرير بن عبد الله البجلي، والمعروف تأخرُ إسلام جرير عن ذلك بمدة، فإن هذه القصة كانت في شوال سنة ست من الهجرة. (فلما ارتفع النهار) فيه حذف تقديره: فأُدركوا في ذلك اليوم، فأُخذوا، فلما تعالى النهار، (جيء بهم) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسارى، ولفظ جيء مبني ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا عند الطبراني. (¬2) تقدم تخريجه لكن عند أبي داود برقم (4366). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 13). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 340).

للمفعول، (فأمر) - صلى الله عليه وسلم - (بقطع أيديهم). وفي لفظ: فقطع أيديهم (وأرجلهم) (¬1)، قال الداودي: يعني: قطع يدي كل واحد ورجليه، وزاد الترمذي: من خلاف (¬2)، وهي ترد ما قاله الداودي، ولم يحسمهم؛ أي: لم يكن إذا قطع منهم عضوًا يحسمه بالزيت المغلي لينقطع الدم، بل تركه ينزف حتى ماتوا (¬3)، (وسُمِّرَتْ) -بتشديد الميم-، وفي رواية -بتخفيفها-، ولم تختلف رواية البخاري أنها بالراء، ووقع لمسلم: وسمل -بالتخفيف واللام (¬4) - (أعينهم). قال الخطابي: السمل: فَقْءُ العين بأي شيء كان. قال أبو ذؤيب الهذلي: [من الكامل] وَالْعَيْنُ بَعدَهُمُ كَأَنَّ حِدَاقَهَا ... سُمِلَتْ بِشَوْكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدمَع (¬5) قال: والسمر لعلَّه لغة في السمل، ومخرجهما متقارب، قال: وقد يكون من السمر، يريد: أنهم كحلوا بأميال قد أحميت (¬6)، وقد وقع التصريح بالمراد عند البخاري، ولفظه: ثم أمر بمسامير فأُحميت فكحلهم بها (¬7)، فهذا يوضح ما تقدم، ولا يخالف ذلك رواية السمل؛ لأنه فقء ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (231، 1430، 2855، 5361، 6417، 6420)، وعند مسلم برقم (1671/ 9). (¬2) تخريجه عند الترمذي برقم (72). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 340). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9). (¬5) انظر: "ديوانه" (ص: 148). (¬6) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 297). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2855).

العين بأي شيء كان كما مضى (¬1) (وتُرِكُوا)، وفي لفظ: وتركهم (¬2)، وفي آخر: ونبذوا (¬3)، وفي آخر: وألقوا (¬4) (في الحَرَّة) -وهي بفتح الحاء المهملة-: أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة، وإنما ألقوا فيها؛ لأنها أقرب إلى المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا (¬5). (يستسقون)؛ أي: يطلبون السقيا، يعني: يطلبون الماء ليشربوا، بها (فلا يُسْقَون)، حتى ماتوا. وفي رواية شعبة عن قتادة: يعضون الحجارة (¬6)، وفي رواية: قال أنس: فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت (¬7)، ولأبي عوانة: يعض الأرض ليجد بردها ممّا يجد من الحر والشدة (¬8)، وفي لفظ: ممّا يجد من الغم والوجع (¬9). وعند أبي عوانة عن أنس قال: فصلب اثنين، وقطع اثنين، وسمل اثنين (¬10)، كذا ذكر ستة فقط. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 340). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1430)، وعند مسلم برقم (1671/ 9). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 10). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (231)، وعند مسلم برقم (1671/ 11). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 340). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1430). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5361). (¬8) رواه أبو عوانة في "مسنده" (6111). (¬9) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 142). (¬10) أبو عوانة في "مسنده" (6122).

قال في "الفتح": فإن كان محفوظًا، فعقوبتهم كانت موزعة (¬1). وقال ابن الجوزي وجماعة من العلماء: إن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص؛ لما وقع عند مسلم من حديث سليمان التيمي عن أنس: إنما سمل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أعينَهم، لأنهم سملوا أعين الرعاة (¬2)، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المُثلة وقعت في حقهم من جهات، وليس في الحديث إلا السمل، فيحتاج إلى ثبوت البقية (¬3). قال في "الفتح": كأن من قال: إنه فعل بهم ذلك قصاصًا تمسكَ بما نقله أهلُ المغازي أنهم مثلوا بالراعي، وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ، قال ابن شاهين عقب حديث عمران بن حصين في النهي عن المثلة: هذا الحديث ينسخ كل مثلة. وتعقبه ابن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": يدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي هريرة في النهي عن التعذيب بالنار (¬4)، بعد الإذن فيه، وقصةُ العرنيين قبل إسلام أبو هريرة، وقد ذكر النهي بعد الإذن، وحضر ذلك. وروى قتادة عن ابن سيرين: أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود (¬5)، ولموسى بن عقبة في "المغازي" ذكر أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - نهى بعد ذلك عن المثلة ¬

_ (¬1) انطر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 340). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 14). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 109). (¬4) رواه البخاري (2795)، كتاب: الجهاد والسير، باب: التوديع. (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5362).

بالآية في سورة المائدة، وإلى هذا مال البخاري، واستشكل القاضي عياض عدم سقيهم الماء للإجماع على أن من وجب عليه القتل فاستسقى، لا يمنع، وأجاب: بأن ذلك لم يقع عن أمر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا وقع منه نهي عن سقيه، انتهى (¬1). وضعفه في "الفتح"؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك، وسكوته كافٍ في ثبوت الحكم (¬2). وأجاب النووي بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره (¬3)، ويدل عليه أن من ليس معه ماء إلا لطهارته ليس له أن يسقيه المرتدَّ ويتيمم، بل عليه أن يستعمل الماء ولو مات المرتد عطشًا؛ أي: لعدم عصمته. وقال الخطابي: إنما فعل النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بهم ذلك؛ لأنه أراد بهم الموت بذلك (¬4)، وقيل: الحكمة في ذلك لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجوع والوخم، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - دعا بالعطش على من عطَّش آل بيته في قصة رواها النسائي (¬5)، فيحتمل أن يكونوا منعوا إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يُراح به إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - من لقاحه في كل ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 464). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 341). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 154). (¬4) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 299). (¬5) رواه النسائي (4036)، كتاب: تحريم الدم، باب: ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحيى بن سعيد في هذا الحديث، من حديث سعيد بن المسيب مرسلًا.

ليلة، كما ذكر ذلك ابن سعد (¬1) (قال أبو قِلابة) -بكسر القاف وتخفيف اللام وبالباء الموحدة- عبدُ الله بنُ زيد بنِ عمرو الجَزمي نسبة إلى جرم -بفتح الجيم وسكون الراء-، روى عن الثابت بن الضحاك الأنصاري، وأنس بن مالك، والنعمان بن بشير، وتقدمت ترجمته في باب: صفة صلاة النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (فهؤلاء)؛ يعني: العرنيين المتقدم ذكرهم، (سرقوا)؛ أي: لأنهم أخذوا اللقاح من حرز مثلها، وهذا ما قاله أبو قلابة استنباطًا كما في "الفتح" (¬2). قال البدر العيني: لم يكن هذا سرقة، إنما كان حرابة، وهذا ظاهر لا يخفى (¬3)، (وقتلوا)، أي: الراعي -كما تقدم-، (وكفروا بعد إيمانهم)؛ أي: ارتدوا عن دين الإسلام، هكذا هو في رواية سعيد عن قتادة عن أنس في "المغازي"، وكذا في رواية وهب عن أيوب في الجهاد في أصل الحديث (¬4)، وليس موقوفًا على أبي قلابة كما توهمه بعضهم (¬5). كذا قوله: (وحاربوا [الله ورسوله]): ثبت عند الإمام أحمد من رواية حميد عن أنس في أصل الحديث: وهربوا محاربين (¬6). وفي هذا الحديث من الفوائد سوى ما تقدم: قدوم الوفود على الإمام، ونظرُه في مصالحهم. ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 494). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 341). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 341). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 267). (¬4) وتقدم تخريجهما. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 341). (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 107).

وفيه: مشروعية الطلب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها. وفيه: أن كل جسد يطب بما اعتاده. وفيه: قتل الجماعة بالواحد، سواء قتلوه غيلة، أو حرابة (¬1)، إن قلنا: إن قتلهم كان قصاصًا، وأما إن كان قتلهم لأجل حرابتهم، فلا ريب أنه ثبت في "الصحيحين" من حديث أنس: ثم مالوا على الرعاء فقتلوهم، وارتدوا على الإسلام، واستاقوا ذَوْدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وحينئذٍ فيكون قتلهم بردتهم، والتنكيل الذي صار لهم لعظم جرمهم وقبح جريرتهم. وثبت -أيضًا- أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود. وفي البخاري: قال سلام بن مسكين: فبلغني أن الحَجاج قال لأنس: حدّثني بأشدِّ عقوبة عاقبه النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -كذا بالتذكير على إرادة العقاب-، وفي رواية بهز: عاقبها؛ إجراءً على ظاهر اللفظ، فحدّثه بهذا، يعني: حديث العرنيين، فبلغ الحسنَ البصري -رحمه الله تعالى-، فقال: وددت أنه لم يحدّثه بهذا (¬3)، أو في رواية بهز: فوالله! ما انتهى الحجاج حتى قام بها على المنبر، فقال: حدّثنا أنس، فذكره، وقال: قطع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأيدي والأرجل، وسمر الأعين في معصية الله، أفلا نفعل نحن ذلك في معصية الله. وساق الإسماعيلي من وجهٍ آخر عن ثابت: حدّثني أنس، قال: ما ندمت على شيء ما ندمتُ على حديثٍ حدّثت به الحجاجَ، فذكره، وإنما ندم أنس على ذلك؛ لأن الحجاج كان مسرفًا في العقوبة، وكان يتعلق ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 341). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1671/ 9). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5361).

بأدنى شبهة، ولا حجةَ له في قصة العرنيين، لأنه ورد التصريح في الصحيح بأنهم ارتدوا، و-أيضا- كان ذلك قبل النهي عن المثلة؛ فإن أبا هريرة حضر الأمر بالتعذيب بالنار، ثم حضر نسخَه (¬1)، والنهيَ عن التعذيب بالنار، وكان إسلام أبي هريرة متأخرًا عن قصة العرنيين، وقد نهى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة (¬2). وفي مسلم عن قتادة، قال: بلغنا أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك كان يحثُّ على الصدقة، وينهى عن المثلة (¬3). تنبيه: حَدُّ المحاربين، وهم قطاعُ الطريق المكلفون الملتزمون، ولو أنثى، الذين يعرضون للناس بسلاحٍ ولو بِعصًا وحجارة، في صحراء أو بنيان أو بحر، فيغصبونهم مالًا محترمًا قهرًا مجاهرة، فإِن أخذوا مختفين، فسرّاق، وإن خطفوه وهربوا، فمنتهبون، لا قطع عليهم، وإن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة، فاستلبوا منها شيئًا، فليسوا بمحاربين؛ لأنهم لم يرجعوا إلى منعة وقوة، وإن خرجوا على عددٍ يسير فقهروهم، فهم محاربون، ويعتبر ثبوت ذلك ببيّنة، أو إقرار معتبر، فمن كان منهم قد قتل قتيلًا لأخذ ماله، ولو بمثقل، أو سوطٍ، أو عصا ولو غير مكافٍ له؛ كمن قتل عبدًا أو ذميًا وأخذ المال، قتل حتمًا بالسيف في عنقه، ولو عفا عنه ولي، وصلب المكافىء دون غيره بقدر ما يشتهر، ثم يُنزل ويُدفع إلى أهله، فيُغسل ويُكفن، ويصلى عليه، ويدفن، فإن مات قبل قتله، لم يصلب. ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجه عند البخاري. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 142). (¬3) تقدم تخريجه، لكن عند البخاري برقم (3956).

ولا يتحتم استيفاء جناية توجب القصاص فيما دون النفس إلا إذا كان قد قتل، وحكمها حكم الجناية في غير المحاربة، فإن جرح إنسانًا وقتل آخر، اقتُصَّ منه للجراح، ثم قُتل للمحاربة حتمًا فيهما (¬1). وفي "التنقيح" (¬2)، و"المنتهى" (¬3): التحتُّم القصاص في النفس فقط، وولي الجراح بالخيار، ورِدءٌ وطليع في ذلك كمباشر، فإذا قتل واحدًا منهم، ثبت حكم القتل في حق جميعهم، فيجب قتل الكل، وإن قتل بعضُهم، وأخذ المال بعضُهم، قتلوا كلهم، وصلب المكافىء. وإن قطع أهل الذمة على المسلمين الطريق وحدَهم، أو مع المسلمين، انتقض عهدُهم، وحلّت دماؤهم وأموالهم، ومن قتل من المحاربين، ولم يأخذ المال، قُتل حتمًا، ولا أثر لعفو ولي، ولم يصلب. ومن أخذ المال ولم يقتل، قُطعت يده اليمنى، وحُسمت، ثم رجلُه اليسرى، وحُسمت في مقام واحد حتمًا مرتبًا وجوبًا. وإن أخافوا السبيل من غير قتل ولا أخذ مال، نُفوا وشُرِّدوا، فلا يُتركون أن يأووا إلى بلد -ولو عبدًا- حتى تظهر توبتهم، ويجب أن ينفوا متفرقين، ومن تاب منهم قبل القدرة عليه لا بعدها، سقط عنه حقُّ الله من الصلب والقطع، وانحتام القتل، حتى حدّ زِنًا وسرقةٍ وشرب، وكذا خارجي وباغٍ ومرتدّ، وآخذ بحقوق الآدميين من الأنفس والأموال والجراح، إلا أن يُعفى لهم عنها، وقد تضمنت الآية الشريفة أحوال المحاربين وهي: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 269 - 270). (¬2) انظر: "التنقيح المشبع" للمرداوي (ص: 379 - 380). (¬3) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 160 - 161).

تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]. وقد روى الشافعي في "مسنده" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال، قُتلوا وصُلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قُتلوا ولم يُصلبوا، فإذا أخذوا المال ولم يَقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلُهم من خلف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالًا، نُفوا من الأرض (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية": هذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي، وأحمد، قال: وهو قريب من قول أبي حنيفة، انتهى (¬2). وتحقيق مذهب أبي حنيفة على ما نقله الإمام ابن هبيرة في "الإفصاح": أن الإمام مخيّر، إن شاء، قطع أيديهم وأرجلهم من خلف، وصلبهم، وإن شاء، صلبهم، وإن شاء، قتلهم ولم يصلبهم، وصفةُ القتل عنده أن يُصلب الواحد منهم حيا ويُبعج بطنه برمح إلى أن يموت، ولا يُصلب أكثرَ من ثلاثة أيام. وعنه رواية أخرى: أنه يقتل، ثم يصلب مقتولًا، فإن قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلهم الإمام حدًا، وإن عفا الأولياء عنهم، لم يلتفت إلى قولهم، فإن أخذوا مالًا لمسلم أو ذمي، والمأخوذ لو قُسم على جماعتهم أصابَ كلَّ واحد عشرةُ دراهم فصاعدًا، أو ما قيمته ذلك، قطع الإمام أيديَهم وأرجلَهم من خلاف، فإن أُخذوا قبل أن يأخذوا مالًا ولا قَتلوا نفسًا، حبسهم الإمام ¬

_ (¬1) رواه الإمام الشافعي في "مسنده " (ص: 336)، وفي "الأم" (6/ 151 - 152). (¬2) انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 67).

حتى يحدِثوا توبة، أو يموتوا، فهذه صفة النفي عنده. وقال مالك: إذا المحاربون فعل الإمام فيهم ما يراه ويجتهد فيه، فمن كان منهم ذا رأي وقوة، قتل، ومن كان ذا جلد وقوة، قطعه من خلاف، ومن كان منهم لا رأي له ولا قوة، نفاه. وفي الجملة عنده: أنه يجوز قتلهم وقطعهم وصلبهم وإن لم يقتلوا، ولم يأخذوا مالًا على ما يراه أردعَ لهم ولأمثالهم، وصفةُ النفي عنده: أن يُخرجوا من البلد الذي كانوا فيه إلى غيره، ويُحبسوا فيه. ووقتُ الصلب عنده لمن رأى الإمام أن يجمع بين صلبه وقتله: أن يُصلب حيًا، ويقتل. وكيفية الصلب في مذهبه كمذهب أبي حنيفة. وصفة النفي عند الشافعي: أن يطلبوا إذا هربوا ليقام عليهم الحد إن أتوا حدًا، وعند بعض أصحاب الشافعي: أنه يصلب حيًا، ثم يقتل، والأصح عندهم كمذهبنا، والله أعلم (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من كان من المحاربين قد قتل، فإنه يقتله الإمام حدًا، لا يجوز العفو عنه بحال، بإجماع العلماء، ذكره ابن المنذر، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، حتى لو كان المقتول غير مكافىء للقاتل -كما تقدم (¬2) -. قال شيخ الإسلام: فأما التمثيل في القتل، فلا يجوز إلا على وجه القصاص، وقد قال عِمران بن حُصين - رضي الله عنه -: ما خطبنا ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 262 - 263). (¬2) انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 67).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبةً إلا أمرنا بالصدقة، ونهانا عن المُثْلَة (¬1)، حتى الكفار إذا قتلناهم، فإنا لا نمثل بهم بعد القتل، فلا نجدع أنفهم وآذانهم، ولا نبقُر بطونهم، إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم مثلما فعلوا، والتركُ أفضلُ كما قال الله -تعالى-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]. وفي "صحيح مسلم" عن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه -، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميرًا على سرية جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم يقول: "اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا مَنْ كفرَ بالله، ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تُمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا" (¬2)، والله -تعالى- الموفق. ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (7843). (¬2) رواه مسلم (1731)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث، وانظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 70 - 71).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أنّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنْشُدُكَ الله، إِلا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بكِتَابِ اللهِ، فَقَالَ الخَصمُ الآخَرُ -وَهوُ أَفْقَهُ مِنْهُ-: نعم. اقْضِ بينَنَا بَكِتَاب اللهِ، وَائذنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْ"، قَالَ: إنَّ ابْنِي كانَ عَسِيفًا عَلَى هذَا، فَزَنَى بامرَأَتِهِ، وَإنِّي أُخْبرتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتديْتُ مِنْهُ بِمِئَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَة، فَسأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ فَأَخْبَرونِي: أنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِئة وَتَغْرِيْبُ عَامٍ، وأَنَّ عَلَى امرَأَةِ هذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ! لأَقْضِيَنَّ بَيْنكُمَا بكِتَابِ اللهِ، الوَلِيدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جلْدُ مِئَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أَنِيسُ -لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَم- إلَى امرَأَةِ هذَا، فَإنِ اعتَرَفَتْ، فَارجُمها"، فَغَدَا عَلَيْها، فَاعتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِها رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرُجِمَتْ (¬1). العسيف: الأجير. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2190)، كتاب: الوكالة، باب: الوكالة في الحدود، و (2506)، كتاب: الشهادات، باب: شهادة القاذف والسارق والزاني، و (2549)، كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور =

(عن عُبيد الله) -مصغرًا- (بنِ عبد الله بنِ عتبةَ بنِ مسعودٍ) الهُذَليِّ، وهو أخو عبد الله بن مسعود، أحدُ الفقهاء السبعة من المدينة، وأحد أعلام التابعين، إمام ثقة، مأمون، كثير الحديث والعلم، شاعر مُجيد، لقي خلقًا ¬

_ = فالصلح مردود، و (2575)، كتاب: الشروط، باب: الشروط التي لا تحل في الحدود، و (6258)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (6440)، كتاب: المحاربين، باب: الاعتراف بالزنا، و (6443)، باب: البكران يجلدان وينفيان، و (6446)، باب: من أمر غير الإمام بإقامة الحد غائبًا عنه، و (6451)، باب: إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا عند الحاكم والناس، و (6467)، باب: هل يأمر الإمام رجلًا فيضرب الحد غائبا عنه، و (6770)، كتاب: الأحكام، باب: هل يجوز للحاكم أن يبعث رجلًا وحده للنظر في الأمور، و (6831 - 6832)، كتاب: التمني، باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، و (6850)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله. ورواه مسلم (1697)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، وأبو داود (4445)، كتاب: الحدود، باب: المرأة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمها من جهينة، والنسائي (5410 - 5411)، كتاب: آداب القضاء، باب: صون النساء عن مجلس الحكم، والترمذي (1433)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في الرجم على الثيب، وابن ماجه (2549)، كتاب: الحدود، باب: حد الزنى. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 323)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 474)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 205)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 520)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 104)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 206)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 111)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1450)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 312)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 137)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 272)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 3)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 249).

كثيرًا من الصحابة، وسمع من ابن عباس، وابن عمر، وسمع عائشة، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري، وغيرهم، وروى عنه: أبو الزناد، والزهري. مات سنة تسع وتسعين على ما قاله المديني، وقال البخاري: سنة خمس، أو أربع، وقال الواقدي، وابن نمير: سنة ثمان، أخرج له الجماعة (¬1). (عن أبي هريرة) عبدِ الرحمن بنِ صخرٍ (وزيدِ بنِ خالدٍ الجهني) الصحابي -وقد تقدمت ترجمته في باب: اللقطة - (رضي الله عنهما) -؛ يعني: من تقدم ذكرُهم من الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- (أنهما)؛ أي: أبا هريرةَ، وزيدَ بنَ خالد (قالا): (إن رجلًا من الأعراب) لم يسمِّه البرماوي في "مبهمات العمدة"، ولا الأسيف، ولا اسم أبيه، ولا اسم المرأة، ولا وقفت على من سمَّى أحدًا منهم (أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال) ذلك الأعرابي: (يا رسولَ الله! أنشدُكَ الله) -سبحانه وتعالى- (إلا قضيتَ بيننا)؛ أي: بيني وبين هذا الرجل، وابنه الذي زنى بامرأته، (بكتاب الله)؛ أي: بحكم الله -تعالى-. فإن قيل: هذا المتكلم وخصمُه يعلمان أنه -عليه السلام- لا يحكم إلا بكتاب الله -تعالى-، فما معنى قولهما: اقض بيننا بكتاب الله؟ ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 250)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 385)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 319)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 63)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 188)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 290)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 73)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 475)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 78)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (7/ 22).

فالجواب: أن مرادهما الفصلُ بينَهما بالحكم الصرف لا بالصلح، إذ للحاكم أن يفعل ذلك، لكن برضاهما (¬1). (فقال الخصم الآخر: وهو أفقهُ)؛ أي: أعلمُ وأفهم (منه)؛ أي: من الأول الذي هو زوجُ المرأة، (نعم) وفي لفظ: صدقَ (¬2): (اقضِ)؛ أي: افصل (بيننا بكتاب الله)؛ أي: بحكمه (وائذَنْ لي) فعل دعاء؛ لأنه من الأدنى إلى الأعلى، ومن أدبه وفقهه: طلبُه الإذنَ من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. (فقال) له (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل) جوابًا لطلبه أن يأذن له بالتكلم (قال: إن ابني كان عسيفًا)؛ أي: أجيرًا، ويُجمع على عسفاء، ذكره الأزهري (¬3)، وعَسَفَة على غير قياس، ذكره ابن سيده (¬4)، وقيل: كل خادم عسيفٌ. وقال ابن الأثير: عسيف: فَعيل بمعنى مفعول؛ كأسير، أو بمعنى فاعل؛ كعليم؛ من العَسْف: الجور، أو الكفاية، يقال: هو يعسفهم؛ أي: يكفيهم، وكم أعسف عليك؛ أي: أعمل لك، ومنه الحديث: "لا تقتلوا عسيفًا ولا أسيفًا" (¬5). (على هذا)، إنما عداه بعلى دون اللام؛ ليعلم أنه أجير، وأجرته ثابتة عليه، وإنما يكون كذلك إذا لابسَ العملَ وأتمّه، ولو قال: لهذا، لم يلزم ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 272). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2549، 6446، 6467). (¬3) انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري (2/ 106)، (مادة: عسف). (¬4) انظر: "المحكم" لابن سيده (1/ 310)، (مادة: عسف). (¬5) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 237)، ولم أقف على الحديث الذي ذكره. وانظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 272)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬6) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 272).

(فزنى) ابني الذي هو أجيرُ هذا (بامرأته)، ويُعلم من فحوى هذا أنه برضاها غير غاصب لها، فلا مهر لها، (وإني) استخبرتُ عن حكم ذلك، وما يلزم ابني منه، فـ (أُخبرت أن على ابني الرجمَ) حتى يموت، وفي لفظ: فقالوا لي: على ابنك الرجمُ (¬1)، (فافتديت) ابني (منه)؛ أي: من الرجم، أو من هذا بألَّا يرجم (بمئة شاة) من الغنم، (ووليدة)؛ أي: جارية، فقبل ذلك مني، وتسلم المئة شاة والوليدة مني، (فسألتُ)، وفي لفظ: ثم سألت (أهلَ العلم) (¬2) -أراد بهم: الصحابة- الذين كانوا يُفتون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم: الخلفاء الأربعة، وثلاثة من الأنصار: أُبي بن كعب، ومُعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، -رضي الله عنهم- كما تقدم في ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أول الكتاب، (فأخبروني أَنَّما)؛ أي: ليس (على ابني) شيء سوى (جلد مئة) من الجلدات، (وتغريب عام)، التغريب -بالغين المعجمة-: النفي من البلد الذي وقعت فيه الجنابة، يقال: أغربته، وغَرَّبته: إذا نحيته وأبعدته، والغرب: البعد (¬3). (و) أخبروني (أن على امرأة هذا) الرجلِ (الرجمَ)؛ لكونها محصنة، وأما ابني؛ فإنه بكر لم يحصن. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده!) وكانت هذه يمينه غالبًا، وهو الله -جل شأنه- (لأقضينّ بينكما) ثناه لإرادة الخصمين، بقطع النظر عن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2549، 6770). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2549، 6258، 6446، 6451، 6770، 6832). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 349).

الزاني والمزنيِّ بها (بكتاب الله)؛ أي: بحكمه -تعالى-؛ إذ ليس في الكتاب حكم الرجم، وقد جاء الكتاب بمعنى الفرض، قال -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]؛ أي: فرض، أو لأنه نزلت أولًا آية الرجم، ثم نسخ لفظها وبقي حكمها (¬1). كما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قرأناها فيما أنزل الله: (الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا، فارجموهما البتةَ) (¬2). وفي حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلًا، البكرُ بالبكر مئةُ جلدة ونفيُ سنة، والثيبُ بالثيبِ جلدُ مئة والرجم" رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه (¬3). وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أن رجلًا زنى بامرأة، فأمر به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فجلد الحد، ثم أُخبر أنه محصَن، فأمر به فرُجم. رواه أبو داود (¬4). وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزَ بنَ مالك، ولم يذكر جلدًا. رواه الإمام أحمد (¬5). (الغنم) (¬6) التي دفعتها له مصالحةً عما أخبرت به من رجم ولدك، (و) كذا (الوليدةُ) التي دفعتها له كذلك (رَدُّ)؛ أي: مردود ذلك (عليك)، ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 272). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه أبو داود (4438)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 92). (¬6) في الأصل: "المئة شاة"، والصواب ما أثبت.

ويروى: "فترد عليك" على صيغة المجهول من المضارع (¬1)، فالواجب (على ابنك جلدُ مئة) سوط (وتغريب عام) من محله إلى مسافة قصر، والبدوي يغرب عن محلته وقومه، ولا يمكَّن من الإقامة بينهم، والواجب على امرأة هذا الرجل الرجم بالحجارة حتى تموت إن ثبت زناها، إما بالبينة، أو الاعتراف. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (واغد يا أنيس)؛ أي: ائت. وقال البرماوي: أُنيس -بضم الهمزة- تصغير أنس، واختُلف فيه، فقيل: إنه أنيس بن مرثد بن أبي مَرْثَد -بفتح الميم والثاء المثلثة- الغَنَوِيُّ -بفتح الغين والنون-، واسمُ أبي مرثد: كَنَّاز -بفتح الكاف وتشديد النون وآخره زاي- ابنُ حصن أو حُصين، وقيل: بل اسمه حصينُ بنُ كناز. وقيل: اسمه أيمن، نقله الذهبي عن "تلقيح" ابن الجوزي (¬2)، وهذا جده حليف حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه -، وهو من بني غَنِيّ -بفتح الغين المعجمة وكسر النون وتشديد الياء- اسمه: عمرو بن أَعصُر -بفتح الهمزة وسكون العين وضم الصاد المهملتين-، ويقال: يَعْصُر: بإبدال الهمزة ياء مثناة تحت، ابن سعد بن قيس عيلان -بالعين المهملة- بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وأنيس هذا وأبوه وجدُّه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قتل أبوه يوم الرجيع في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومات جده في خلافة الصديق الأعظم - رضي الله عنه -. وشهد أنيسٌ هذا فتحَ مكة وحُنينًا، وكان عينًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة حنين. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 272). (¬2) انظر: "تلقيح فهوم أهل الأثر" لابن الجوزي (ص: 118).

والصحيح أن أنيسًا هو الأسلمي، نسبة إلى أَسْلَم -بسكون السين المهملة وفتح اللام- ابن أَفْصى -بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح الصاد-، وقد روي عنه حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر: "البسِ الخشنَ الضيق"، ويُعد في الشاميين، ومخرج حديثه عندهم. قال ابن الأثير في "جامع الأصول" عن أبي مرثد هذا: يقال: إنه الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "واغدُ يا أنيس على امرأة هذا"، وقيل: هو غيره، ويكنى هذا بأبي يزيد، والصحيح أنه الأسلمي لا الغَنَوي؛ لكثرة الناقلين له، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتقصد أَلَّا يؤمر في القبيلة إلا رجلًا منهم؛ لنفورهم من حكم غيرهم. قال البرماوي: وكانت المرأة أسلمية، وفي رواية البخاري في "كتاب الأيمان" في باب: كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وامر أنيسَ الأسلميَّ أن يأتي امرأة الآخر" الحديث (¬1). وهذا قضية كلام الحافظ الذهبي في "تجريده" حيث جزم في ترجمة الأسلمي بأنه الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اغد يا أنيس"، وقال في ترجمة الغنوي: ويقال: إنه الذي قال له: "اغد يا أنيس". قال البرماوي: لم أطلع على وفاة الأسلمي، وأما الغنوي، فقال ابن عبد البر: إنه توفي في ربيع الأول سنة عشرين، والله الموفق (¬2). (إلى امرأة هذا) الجار والمجرور متعلق بـ "اغد"، فاسألها عما نسب ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6258). (¬2) وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 114)، و"جامع الأصول" لابن الأثير (15/ 847 - قسم التراجم)، و"تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (1/ 33)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 138).

إليها من الزنا (فإن اعترفت) به، (فارجمها)؛ لأنها محصنة، ولا لها ما يدرأ الحد عنها. قال الراوي: (فغدا عليها)؛ أي: أتاها غدوةً، قاله ابن التين، ثم قال: قيل: فيه تأخير الحكم إلى الغد، وقال غيره: ليس معناه: امض إليها بكرة، بل معناه: امش إليها، فمشى إليها (¬1)، (فاعترفت) بالزنا، ولم تجد ما يدرأ الحد عنها، (فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، في الكلام طيٌّ، والتقدير: فرجع أنيسٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره باعترافها، فأمر بها، (فرجمت) حتى ماتت. قال -رحمه الله ورضي عنه-: (العَسيف) -بفتح العين وكسر السين المهملتين-: (الأجير) كما ذكرنا أولًا. احتج به الإمام أحمد، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وغيرهم على أن الرجل إذا لم يكن محصنًا، وزنى، فإنه يجلد مئة، ويغرب عامًا، وقال أبو عمر: لا خلاف بين المسلمين أن البكر إذا زنى، فإنه يجلد مئة جلدة. واختلفوا في التغريب: فقال مالك: ينفى الرجل، ولا تُنفى المرأةُ، ولا العبدُ. وقال الأوزاعي: ينفى الرجل، ولا تنفى المرأة. وقال الثوري، والشافعي، والحسنُ بن حَيّ: ينفى الزاني إذا جُلد، امرأةً كان أو رجلًا. واختلف قول الشافعي في العبد، فقال مرة: استخرت الله في تغريب ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 272).

العبد، وقال مرةً: ينفى العبد نصفَ سنة، وقال مرةً: ينفى العبد إلى غير بلده، وبه قال الطبري. ومذهب الإمام أحمد: وجوبُ التغريب على الرجل والمرأة دون الرقيق مطلقًا، ويأتي تحرير ذلك. قال الإمام الترمذي: قد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النفيُ، والعملُ على هذا عند أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وأبو ذر، وغيرهم، وكذلك روي عن غير واحد من التابعين، وهو قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق (¬1). وقال إبراهيم النخعي، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر: البكر إذا زنى، جُلد مئة جلدة، ولا ينفى إلا أن يرى الإمام أن ينفيه للدعارة التي كانت منه، فينفيه إلى حيث أحب (¬2). قال البدر العيني في "شرح البخاري": الدعر والدعارة والشَّرُّ والفساد، ومدة نفي الدعار موكولة إلى رأي الإمام، انتهى (¬3). وروي عن عمر: أنه غَرَّبَ في الخمر، وكان إذا غضب على رجل، نفاه، واحتج أبو حنيفة بحديث أبي هريرة الآتي في الأَمَةِ إذا زنت ولم تحصن، فأمر بجلدها، ولم يأمر مع الجلد بنفي. وقال -تعالى- في حق الإماء: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فأعلمنا بذلك أن الواجب على الإماء إذا زنين نصفُ ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الترمذي" (4/ 44)، عقب حديث (1438). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 272 - 273). (¬3) المرجع السابق، (13/ 273).

ما على الحرائر إذا زنين. ثم ثبت أن لا نفي على الأمة إذا زنت، كذلك -أيضًا- لا نفيَ على الحرة إذا زنت. وقال الطحاوي من الحنفية: وقد روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع مَحْرَم (¬1)، قال: وفي ذلك إبطال النفي عن النساء في الزنا، وانتفاء ذلك عن الرجال -أيضًا-؛ لأنه في درئه إياه عن الحرائر دليلٌ على درئه عن الأحرار، هذا كلامه (¬2). وعلل غيره منهم ذلك بأن تغريبها بغير محرم إغراءٌ لها بالفجور، وتضييع لها، وإن غربت بمحرم، أفضى إلى تغريب مَنْ ليس بزانٍ، ونفي مَنْ لا ذنب له، وإن كلفت أجرته، ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به، كما لو زاد ذلك على الرجل. وقال أبو حنيفة، ومحمد: لا تغريب على رجل، ولا على امرأة؛ لأن عليًا - رضي الله عنه - قال: حَسْبُهما من الفتنة أن يُنفيا (¬3). ولنا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البكر بالبكر جلدُ مئة وتغريب عام"، وروى أبو هريرة، وزيدُ بنُ خالد هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على العسيف بالتغريب عامًا، وفيه: فقال أبو العسيف: سألت رجالًا من أهل العلم، فقالوا: إنما على ابنك جلدُ مئة وتغريب عام، وهذا يدل على أن هذا كان مشهورًا عندهم من حكم الله وقضاء رسوله، وقد قيل: إن الذي قال له هذا أبو بكر، وعمر -رضي الله عنهما-، ولأن التغريب فعلَه الخلفاء ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (3/ 136). (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (13313). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 273).

الراشدون، ولا يُعرف لهم في الصحابة مُخالف، فكان إجماعًا، وما روي عن علي - رضي الله عنه - لا يثبت؛ لضعف رواته وإرساله، وما ذكروه من التعليل قياسٌ في مقابلة نص، فلا ينظر إليه، وقياسُهم الحرائر على الإماء قياسٌ مع الفارق لا ينهض لهم بحجة، ولأن تغريب الإماء تضييعٌ لحقوق ساداتهن، وإبطال لما يستحقونه من خدمتهن (¬1). وعلى كل حال ما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون أولى وأحقُّ وأجدرُ أن يتبع، والله أعلم. وفي هذا الحديث: رجم الثيب، ويأتي الكلام عليه في حديث ماعز. وفيه: أن المدعي أولى بالقول، والطالب أحقُّ أن يتقدم بالكلام، وإن بدأ المطلوب. وفيه: أن الباطل من القضاء مردود، وما خالف السنة الواضحة من ذلك فباطل. وفيه: عدم اعتبار القبض الباطل، وأنه لا يدخل المقبوض في ملكه، ولا يصح ذلك، لأنه مبني على فاسد، وعليه رده. وفيه: أن للعالِم أن يُفتي في عصر فيه مَنْ هو أعلم منه حيث أفتى بعلم. وفيه: أن مجرد الزنا لا يوجب الفرقة بين المزني بها وزوجها. وفيه: دليل على قبول خبر الواحد. وفيه: أدب السائل في طلب الإذن. وفيه: أن الرجم لا يجب إلا على المحصَن، وهذا لا خلاف فيه بين ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 45).

العلماء، ولا التفات إلى ما يحكى عن الخوارج وقد خالفوا السنن (¬1). تنبيهات: الأول: المراد بالمُحْصَن هنا: من وطىء امرأة في قُبلها -ولو كانت امرأة كتابية- وطئًا حصل به تغييبُ الحَشَفة أو قدرِها بلا حائل في نكاح صحيح، وهما بالغان عاقلان حرّان ملتزمان لديننا، فإن اختل شرط منها، ولو في أحدهما، فلا إحصان لواحد منهما، فإن عتقا وبلغا وعقلا بعد النكاح، ثم وطئها، صارا محصَنين، فلا يحصل الإحصان بالوطء بملك اليمين، ولا في نكاح فاسد، ولا في نكاح خال عن الوطء، سواء حصل في خلوة، أو وطىء فيما دون الفرج، أو في الدبر، أو لا. ويثبت لمستأمنين كذميين، نعم، لا يصير المجوسيُّ محصنًا بنكاح ذي محرم (¬2). وكل ما ذكرناه متفق عليه بين الأئمة الأربعة، إلا أن الإمام مالك قال: إذا كان أحد الزوجين كاملًا، والآخر ناقصًا، صار الكامل محصنًا، إلا الصبيَّ إذا وطىء الكبيرة لم يحصِنْها، ونحوه عن الأوزاعي. واختلف عن الشافعي، فقيل: له قولان: أحدهما: كقولنا، والثاني: أن الكامل يصير محصنًا، وهو قول ابن المنذر، وذكر ذلك من علمائنا: ابنُ أبي موسى في "الإرشاد"، فقال: إذا وطىء الحر البالغ حرة صغيرة في نكاح صحيح، صار محصَنًا دونها، وإذا وطىء الصبي الحرة الكبيرة، صارت محصنة دونه. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 273). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 217).

وكذا يشترط الإسلام في الإحصان، وعطاء، والنخعي، والشعبي، ومجاهد، والثوري قالوا: فلا يكون الكافر محصنًا، ولا تُحصِن الذميةُ مسلمًا، وقال مالك كقولهم، إلا أن الذمية تحصن المسلم بناء على أصله في أنه لا يعتبر الكمال في الطرفين (¬1). قلت: معتمد مذهب الشافعي -كما في "شرح المنهج" للقاضي زكريا-: يحصل الإحصان الكامل بناقص؛ كأن وطىء كامل بتكليف، وحرة ناقصة، أو عكسه، فالكامل محصن نظرًا إلى كماله (¬2). ويأتي الكلام على رد قول من أهدر الإحصان في حق أهل الذمة في الحديث الخامس. الثاني: لو ثبت زناه، وشهدت بينة الإحصان أنه داخل بزوجته، فقال علماؤنا: يثبت الإحصان بذلك، لأن المفهوم من لفظ الدخول كالمفهوم من لفظ المجامعة. وقال محمد بن الحسن: لا يكتفى به حتى يقول: جامَعها، أو باضَعَها، أو نحو ذلك؛ لأن الدخول يطلق على الخلوة، ولهذا يثبت بها أحكامه. قال الإمام الموفق: وهذا أصح القولين (¬3). قلت: مشى في "الإقناع" على هذا حيث قال: ويثبت -يعني: الإحصان- بقوله: وطئتها -يعني: زوجته-، أو جامعتُها، أو باضعتُها، ويثبت إحصانها بقولها: إنه جامعها، أو باضعها، أو وطئها، وإن قالت: باشرها، ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 42 - 43). (¬2) انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 272). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 44).

أو مسها، أو أصابها، أو أتاها، أو دخل بها، أو قاله هو، فينبغي أَلَّا يثبت الإحصان، انتهى (¬1). وفي "المنتهى": يثبت؛ أي: إحصانه بقوله: وطئتها، أو جامعتها، أو دخلت بها (¬2). الثالث: لو كان لرجل ولد من امرأته، فقال: ما وطئتها، لم يثبت إحصانه، وكذا هي إذا كان لها ولد من زوج، فأنكرت أن يكون وطئها، لم يثبت إحصانها، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يثبت الإحصان بذلك، ويُرجم إذا زنى؛ لأن الولد لا يكون إلا من وطء، فقد حكم ضرورة الحكم بالولد. ولنا: أن الولد يلحق بإمكان الوطء واحتماله، والإحصان لا يثبت إلا بحقيقة الوطء، فلا يلزم من ثبوت ما يكتفى فيه بالإمكان وجود ما تعتبر فيه الحقيقة، وهو أحق الناس بهذا، فإنه قال: لو تزوج امرأة في حضرة الحاكم في مجلسه، ثم طلقها فيه، فأتت بولد، لحقه، مع العلم بأنه لم يطأها في الزوجية، فكيف يحكم بحقيقة الوطء مع تحقق انتفائه؟ والله أعلم (¬3). الرابع: دل الحديث على عدم صحة الصلح عن الحدود التي متمحضة لحق الله، فلا يصح الصلح عنها، واختلف في حد القذف هل يصح الصلح فيه أم لا؟ ولم يختلف في كراهيته؛ لأنه عن عِرض. ومعتمد مذهب الإمام أحمد: عدم صحة الصلح عنه، ويسقط. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 218). (¬2) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 121). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 44).

قال في "الإقناع": وإن صالح شفيعًا عن شُفعتِهِ، أو مقذوفًا عن حدِّه، أو صالح بعِوَضٍ عن خيار، لم يصح الصلح، وتسقط الشفعة وحد القذف، انتهى (¬1). وأما حقوق الأبدان من الجوارح، وحقوق الأموال، فلا خلاف في جواز الصلح عنها مع الإقرار، واختلف في صحة الصلح مع الإنكار، فأجازه أحمد، ومالك، وأبو حنيفة، ومنعه الشافعي (¬2)، والله -تعالى- أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 372). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 378).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْهُ، عَنْهُمَا قَالَا: سُئِلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَم تُحصِنْ، قَالَ: "إذَا زَنَتْ، فَاجْلِدُوها، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ، فَاجْلِدُوها، ثُمَّ إنْ زَنَتْ، فَاجْلِدُوها، ثُمَّ بِيعُوها وَلَوْ بِضفِيرٍ". قَالَ ابنُ شِهاب: ما أَدرِي أَبَعدَ الثَّالِثة أَو الرَّابِعة. وَالضَّفِيرُ: الحَبْلُ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2046)، كتاب: البيوع، باب: بيع العبد الزاني، و (2417)، كتاب: العتق، باب: كراهة التطاول على الرقيق، و (6447)، كتاب: المحاربين، باب: إذا زنت الأمة، ومسلم (1704)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، وأبو داود (4469)، كتاب: الحدود، باب: في الأمة تزني ولم تحصن، وابن ماجه (2565)، كتاب: الحدود، باب: إقامة الحدود على الإماء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 334)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 503)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 536)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 121)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 113)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1455)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 162)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 278)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 28)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 293).

(عنه)؛ أي: عبيدِ الله بنِ عبد الله بن عتبةَ بنِ مسعود -رضي الله (عنهما) -؛ أي: عن أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني المتقدم ذكرُهما -رضي الله عنهما- (قالا: سئل) -بالبناء للمجهول- (النبيُّ) -بالرفع نائب الفاعل (- صلى الله عليه وسلم - عن الأمة) القِنِّ (إذا زنت ولم تحصن)، هذا لا مفهوم له؛ لأن الأمة لا يتصور إحصانُها، إذ من شرط الإحصان الحريةُ في قول جميع أهل العلم، إلا أبا ثور قال: العبد والأمة هما محصنان، يُرجمان إذا زنيا، إلا أن يكون الإجماع يخالف ذلك. وحكي عن الأوزاعي في العبد تحته حرة: هو محصن يُرجم إذا زنى، وإن كان تحته أمة، لم يرجم. وهذه أقوال تخالف النص والإجماع، فإن الله -تعالى- قال: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، والرجم لا يتنصف، وإيجابه كله يخالف النص مع مخالفة الإجماع المنعقد على عدم رجم الأرقاء. وقد وافق الأوزاعي الجمهورَ على أن العبد إذا وطىء الأمة، ثم عتقا، لم يصيرا محصنين (¬1). (قال) - صلى الله عليه وسلم - مجيبا لسؤال من سأل عن زنا الأمة: (إن زنت، فاجلدوها). وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا زنت أمة أحدكم، فتبين زناها، فليجلدها الحدَّ ولا تثريب عليها" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 42). (¬2) رواه البخاري (2119)، كتاب: البيوع، باب: بيع المدبّر، ومسلم (1703/ 30)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود.

قال الخطابي: ومعنى "لا تثريب عليها": لا يقتصر على التثريب، وهو التعيير والتوبيخ بالذنب (¬1). (ثم إن زنت) ثانيًا، (فاجلدوها) جلدًا ثانيًا، (ثم إن زنت) ثالثًا (فاجلدوها) -أيضًا- جلدًا ثالثًا. قال العلماء: إن كان الزاني رقيقًا من ذكر أو أنثى، فحدُّه خمسون جلدةً، بكل حال، سواء كانا بكرين، أو ثيبين، في قول أكثر أهل العلم، منهم: عمر، وعلي، وابن مسعود -رضي الله عنهم-، والحسن البصري، والنخعي، ومالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي، والعنبري، وغيرهم. وقال ابن عباس، وأبو عبيد: إن كانا مزوجين، عليهما نصفُ الحد، ولا حد على غيرهما؛ لقوله -تعالى-: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فيدل بخطابه على أنه لا حدَّ على غير المحصَنات من الإماء (¬2). وفي "الهدي": قد يقال: إن تنصيصه على التنصيف بعدَ الإحصان لئلا يتوهم متوهم أن الإحصان يزيل التنصيف، ويصير حدها حدَّ الحرة، كما أن الجلد عن البكر زالَ بالإحصان، وانتقل إلى الرجم، فتبقى على التنصيف في أكمل حالتيها، وهي الإحصان؛ تنبيهًا على أنه إذا اكتفى به فيها، ففيما قبل الإحصان أولى وأحرى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 334). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 49). (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 44).

وقال داود الظاهري: على الأمة نصف الحد إذا زنت بعدما زوجت، وعلى العبد جلدُ مئة بكل حال. وعنه في الأَمة إذا لم تزوج روايتان: إحداهما: لا حدَّ عليها. والأخرى: تُجلد مئة؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] خرجت منه الأمة المحصنة بقوله: {أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فيبقى العبد والأَمَة التي لم تحصن على مقتضى العموم. وقال: ويحتمل دليل الأمة في الخطاب أن لا حدّ عليها؛ كقول ابن عباس. وقال أبو ثور: الرقيقان إذا لم يحصنا بالتزويج، فعليهما نصفُ الحد، وإن أحصنا، فعليهما الرجمُ؛ لعموم الأخبار فيه، قال: ولأنه حدّ لا يتبعَّض، فوجب تكميله؛ كالقطع في السرقة. ولنا: ما ذكرنا من الأحاديث، وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد حجةٌ على ابن عباس وموافقيه. وجعل داود على الأمة إذا لم تحصن مئة، وخمسين إذا أحصنت؛ نبذًا للشريعة، وخلاف ما شرع الله تعالى؛ فإنه تعالى ضاعف عقوبة المحصَن على غيره، فجعل الرجم على المحصن، والجلدَ على البكر، وداودُ عكس الأمر، فلا جَرَمَ وجب اتباع ما شرع اللهُ ورسوله، وطرحُ ما خالفه. وأما مفهوم الخطاب الذي تمسك به أبو ثور، فقد روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنه قال: إحصانُها إسلامُها، ثم إن أبا ثور خالف نصَّ قوله

تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وخرق الإجماع في إيجاب الرجم على المحصنات من الأرقاء، كما خرقه داود في تكميل الجلد على العبيد، وتضعيف جلد الأبكار على المحصنات (¬1). وفي "زوائد المسند" للإمام عبد الله بن الإمام أحمد -رحمهما الله تعالى- عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمة له سوداءَ زنت لأجلدَها الحدَّ، فوجدتها في دمها، فأتيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته بذلك، فقال: "إذا تعالَّتْ من نفاسها، فاجلدها خمسين" (¬2). وفي رواية: فأتيتها، فوجدتها لم تجفَّ من دمها، فأتيته فأخبرتُه، فقال: "إذا جفت من دمها، فأقم عليها الحد، أقيموا الحدودَ على ما ملكت أيمانكم" رواه أحمد، وأبو داود (¬3). وفي "صحيح مسلم" من حديث علي - رضي الله عنه -: أنه قال: يا أيها الناس! أقيموا على أرقائكم الحدَّ، من أحصنَ منهن ومن لم يحصنْ؛ فإن أَمة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثةَ عهد بنفاسٍ، فخشيتُ إن أنا جلدتها أن أقتلَها، فذكرتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أحسنت" (¬4). وفي "موطأ الإمام مالك" عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش، فجلدنا ولائد ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 49 - 50). (¬2) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "زوائد المسند" (1/ 136). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 95)، وأبو داود (4473)، كتاب: الحدود، باب: في إقامة الحد على المريض. (¬4) رواه مسلم (1705)، كتاب: الحدود، باب: تأخير الحد عن النفساء.

من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا (¬1). (ثم) إن زنت الأَمَةُ بعد ذلك (بيعوها)، ولا تقتنوها؛ لعدم ردعها عن الفاحشة (ولو بضفير). و (قال) الإمام أبو بكر محمد (ابنُ شهاب) الزهري التابعيُّ: (لا أدري أبعدَ) المرةِ (الثالثةِ) أمرَ ببيعها، (أو) بعد المرة (الرابعة). وفي حديث أبي هريرة في "الصحيحين": "ثم إن زنت الثالثة، فليبعها، ولو بحبل من شعر" (¬2). ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، وذكر فيه في الرابعة الحدَّ والبيع (¬3). قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (والضفير) -بفتح الضاد المعجمة وكسر الفاء فتحتية ساكنة فراء-: (الحبل) العظيم المفتولُ من شعر، فَعيل بمعنى مفعول. تنبيه: استدل علماؤنا ومَنْ وافقهم بهذا الحديث وغيره على أن السيد له إقامةُ الحدِّ على رقيقه القِنِّ حيث كان الحدُّ جَلْدًا، وبهذا قال أكثر العلماء، ورُوي نحوُ ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي حميد، وأبي أسيد الساعديين، وسيدة نساء العالمين فاطمةَ الزهراء -رضوان الله عليهم-، ومن التابعين: علقمة، والأسود، والحسن، والزهري، وغيرهم، ومن الأئمة: مالك، والثوري، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر. ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 827). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2119)، وعند مسلم برقم (1703). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 376)، وأبو داود (4471)، كتاب: الحدود، باب: في الأمة تزني ولم تحصن.

وقال ابن أبي ليلى: أدركتُ بقايا الأنصار يجلدون ولائدَهم في مجالسهم الحدودَ إذا زنوا (¬1). وعن الحسن بن محمد: أن فاطمةَ -عليها السلام- حدَّتْ جاريةً لها زنت (¬2). وعن إبراهيم: أن علقمةَ والأسودَ كانا يُقيمان الحدود على من زنى من خدم عشائرهم؛ كما رواه سعيد في "سننه" (¬3). وقال الحنفية: ليس له ذلك؛ لأن الحدود إلى السلطان، ولأن من لا يملك إقامةَ الحد على الحر، لا يملكه على العبد؛ كالصبي، ولأن الحد لا يجب إلا ببينة أو إقرار، ويعتبر ذلك شروط؛ من عدالة الشهود، ومجيئهم مجتمعين في مجلس واحد، وذكر حقيقة الزنا، وغير ذلك من الشروط التي تحتاج إلى فقيه يعرفها، ويعرف الخلاف فيها، والصواب منها، وكذلك الإقرار، فينبغي أن يفوض ذلك إلى الإمام أو نائبه كحدِّ الأحرار، ولأنه حقٌّ لله، فيفوض إلى الإمام؛ كالقتل والقطع. ولنا: الأحاديثُ المتقدمة، وفي حديث علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" رواه الدارقطني (¬4)، ولأن السيد يملك تأديبَ أَمَته وتزويجَها، فملكَ إقامةَ ¬

_ (¬1) رواه ابن الجعد في "مسنده" (98). (¬2) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 362)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (28278). (¬3) ورواه عبد الرزاق في "المصنف" (13605)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (28285). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 158). وتقدم تخريجه قريبا عند الإمام أحمد وأبي داود.

الحدِّ عليها كالسلطان، وبهذا فارقَ الصبيَّ. إذا ثبت هذا، فيملك السيدُ إقامة الحد على رقيقه بأربعة شروط: أحدها: أن يكون جلدًا؛ كحد زنا، وشرب مسكر، وحد قذف، فأما القتلُ في الردة، والقطعُ في السرقة، فلا يملكها إلا الإمام، وفي رواية: يملكها السيد، وهو ظاهر مذهب الشافعي؛ لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم". وروي: أن ابن عمر قطع عبدًا سرق، وكذلك عائشة، وعن حفصة: أنها قتلت أمةً لها سحرتها، وقد أنكر عثمان على حفصة ذلك. الثاني: كونُ السيد حرًا مكلفًا، عالمًا به وبشروطه، ولو فاسقًا، أو امرأة. الثالث: أَلَّا يكون له فيه شرك، وأن يكون كله في الرِّق، فلا يملك إقامةَ الحد على عبده المشترك، ولا على المبعَّض. الرابع: أَلَّا تكون أمته مزوجة، فإن كانت مزوجة، لم يملك إقامةَ الحد عليها، كما لا يملك إقامته على رقيق موليه، ولا فرق في الرقيق بين كونه مكاتبًا أو مرهونًا أو مستأجرًا، وليس للسيد إقامته إلا بعد ثبوته، إما بإقرار الرقيق الإقرارَ الذي يثبت به الحدُّ إذا علم شروطه، أو ببينة يسمعها إن كان يحسن سماعها، ويعرف شروط العدالة، نعم إن ثبت بعلمه، فله إقامتُه، بخلاف الإمام أو نائبه، فليس لهما إقامةُ الحدود بعلمِهما، والله تعالى الموفق (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 51 - 53).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، أَنّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي زَنَيْتُ، فَأَعرَضَ عَنْهُ، فَتنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي زَنَيْتُ، فَأعرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَربَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَربَعَ شَهادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "أَبكَ جُنُون؟ "، قَالَ: لَا، قَالَ: "فَهلْ أَحصَنْتَ؟ "، قَالَ: نَعَم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اذْهبُوا بِهِ فَارجُمُوهُ". قالَ ابنُ شهابٍ: فَأَخبرَنَي أَبُو سَلَمَة بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أنَّه سَمعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمنَاهُ بالمُصلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ، هرَبَ، فَأَدرَكنَاهُ بِالحَرَّةِ، فَرَجمنَاهُ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (4970)، كتاب: الطلاق، باب: الطلاق في الإغلاق والكره، وما لا يجوز من إقرار الموسوس، و (6430)، كتاب: المحاربين، باب: لا يرجم المجنون والمجنونة، و (6439)، باب: سؤال الإمام المقر: هل أحصنت؟، و (6747)، كتاب: الأحكام، باب: من حكم في المسجد، ومسلم (1691/ 15 - 16)، كتاب: الحدود، باب: رجم الثيب في الزنى، وأبو داود (4428)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، والترمذي (1428)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء عن المعترف إذا رجع، وابن ماجه (2554) كتاب: الحدود، باب: الرجم. =

الرجُلُ هُوَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ. ورَوَى قِصَّتَهُ جَابِرُ بْنُ سَمُرَة (¬1)، وعَبْدُ الله بْنُ عبَّاسٍ (¬2)، وأبو سعيدٍ الخُدرِيُّ (¬3)، وبُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيبِ الأَسْلَمِيُّ (¬4). * * * (عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه)؛ أي: أبا هريرة (قال: أتى رجلٌ) هو ماعِزُ بنُ مالكٍ الأسلميُّ -كما يأتي في كلام المصنف -رحمه الله-،- وهو -بكسر العين المهملة وبالزاي-، وقال بعض العلماء: ماعزٌ لقبٌ له، واسمُه: عَرِيب -بفتح العين المهملة وكسر الراء-، وهو معدود في ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 317)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 510)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 100)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 191)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 117)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1459)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 394)، و"عمدة القاري" للعيني (20/ 259)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 10)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 6)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 259). (¬1) رواه مسلم (1692/ 17 - 18)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، وأبو داود (4422)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك. (¬2) رواه البخاري (6438)، كتاب: المحاربين، باب: هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت؟، ومسلم (1693)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، وأبو داود (4421، 4425 - 4427)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، والترمذي (1427)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في التلقين في الحد. (¬3) رواه مسلم (1694/ 20 - 21)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، وأبو داود (4431)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك. (¬4) رواه مسلم (1695)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا.

المدنيين، كتب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلام قومه كتابًا، روى عنه ابنه عبد الله حديثًا واحدًا، وجاء وصفُه والثناءُ عليه في طرق من حديث حدِّه في الزنا (¬1). ففي مسلم من حديث بريدة: أن ماعزًا لما رُجِم، كان الناس فيه فرقتين، فقائل يقول: لقد هلك، قد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبةٌ أفضلُ من توبة ماعز، إنه جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة، قال: فلبثوا في ذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم جلوس، فسلم، ثم جلس، فقال: "استغفروا لماعز بنِ مالك"، فقالوا: غفرَ اللهُ لماعز بن مالك، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد تابَ توبةً لو قُسمت بين أمة، لوسعتهم" الحديث (¬2). وفي "أبي داود" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: لما أمر به - صلى الله عليه وسلم -، فرُجم، سمع رجلين من أصحابه يقول أحدُهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي سترَ الله عليه، فلم تدَعه نفسه حتى رُجم رجمَ الكلب، فسكت عنهما، وسار ساعةً حتى مَرَّ بجيفة حمار شائلًا رجله، فقال: "أين فلان وفلان؟ "، فقالا: نحن ذا يا رسول الله! قال: "كُلا من جيفة هذا الحمار"، فقالا: يا نبي الله! من يأكل من هذا؟ قال: "فما نِلْتُما من عِرض أخيكما آنِفًا أشدُّ من أكله، والذي نفسي بيده! إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها" (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 324)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1345)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (5/ 6)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 383)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 705)، و"تعجيل المنفعة" له أيضًا (ص: 384). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1695). (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4428).

وفي "أبي داود" أيضًا، من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -، قال: أنا رأيت ماعزًا حين جيء به رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قصيرا أعضلَ عليه رداء، الحديث (¬1). والأعضل -بالضاد المعجمة- قال في "النهاية": الأعضل والعَضِل: المكتنز باللحم، والعَضَلَةُ في البدن: كلُّ لحمة صلبة مكتنزة، ومنه: عَضَلَة الساق، قال: ويجوز أن يكون أراد: أن عضلة ساقيه كبيرة (¬2). وفي رواية: أتى رجل قصيرٌ أشعثُ ذو عضلات (¬3). (من المسلمين)، بيان الواقع؛ لأن ماعزًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -) بالنصب مفعولًا لأتى، (وهو)؛ أي: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (في المسجد) النبوي، جملة حالية، (فناداه)، أي: نادى ذلك الرجل الذي هو ماعز بنُ مالك الأسلميُّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، (فقال) في ندائه: (يا رسول الله! إني زنيت)، وهذا أصح وأثبت من كل حديث في صفة إقرار ماعز. وفي "مسلم": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز: "حقٌّ ما بلغني عنك؟ "، قال: وما بلغك عني؟ قال: "بلغني عنك أنك وقعتَ بجارية آل فلان"، قال: نعم (¬4). وجاء في رواية لغير مسلم: أن قومه أرسلوه، فقال - صلى الله عليه وسلم - للذي أرسله: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4422)، وكذا عند مسلم برقم (1692). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 253). (¬3) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 142)، من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه -. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1693)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

"لو سترتَه بثوبك يا هزَّالُ، لكان خيرًا لك" (¬1)، وهزَّال -بفتح الهاء وتشديد الزاي- كان ماعز تربَّى يتيما في حَجْره، والمشهور ما فى الروايات: أنه هو أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ويمكن أنه جاء أولًا من غير استدعاء، فذكر قومُه ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أحقٌّ ما بلغني عنك؟ "، ثم جاء هو بنفسه، فقال ذلك، هذا معنى كلام الإمام النووي (¬2)، (فأعرضَ) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (عنه)؛ أي: عن ماعز لما قال له: إني زنيتُ، (فتنحى) ماعز من مقامه الذي كان فيه إلى مكان (تلقاءَ)؛ أي: مقابلًا لـ (وجهه) الكريم، (فقال له) ثانيًا: (يا رسول الله! إني زنيت، فأعرضَ) - صلى الله عليه وسلم - (عنه) ثانيًا، ولم يزل ماعزٌ يقول ذلك ويصرِّحُ به معترفًا، والرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يُعرض عنه (حتى ثنى)؛ أي: إلى أن قال (ذلك)؛ أي: يصرح يقول: إني زنيت، (أربع مرات). وفي حديث ابن عباس عند الإمام أحمد، ومسلم، وأبي داود، والترمذي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز بن مالك: "أحقٌّ ما بلغني عنك؟ "، قال: وما بلغك عني؟ قال: "بلغني أنك وقعت بجارية لبني فلان"، قال: نعم، فشهد أربع شهادات، فأمر به فرجم (¬3). قال البرماوي: التي زنى بها ماعز هي فاطمةُ مولاة هَزَّال -بفتح الهاء وتشديد الزاي- بن ذياب بنِ بريدٍ الأسلميِّ، وهو والد نُعَيم -بضم النون وفتح العين- بنِ هزَّال، قيل: له صحبه، وقيل: الصحبة لأبيه فقط، روى ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4377)، كتاب: الحدود، باب: في الستر على أهل الحدود، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 217)، عن يزيد بن نعيم، عن أبيه. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 197). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 328). وتقدم تخريجه عند مسلم وأبي داود والترمذي.

عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة ماعز، وأخرج له النسائي كما قاله [المزي] (¬1). قال أبو عمر بن عبد البر: ما كان له غير قول النبي - صلى الله عليه وسلم -.: "يا هَزَّالُ! لو سترته بردائك" (¬2). وقيل: اسمها منيرة، وفي "طبقات ابن سعد" أن اسمها مهيرة (¬3). وفي رواية عند أبي داود، قال: جاء ماعزُ بنُ مالكٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاعترف بالزنا مرتين، فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين، فقال: "شهدتَ على نفسك أربعَ مرات، اذهبوا به فارجموه" (¬4). وفي حديث الصديق -رضوان الله عليه-، قال: كنتُ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسًا، فجاء ماعزُ بنُ مالك، فاعترف عنده مرة، فردَّه، ثم جاء فاعترف عنده الثانية، فردَّه، ثم جاء فاعترف عنده الثالثة فردَّه، فقلت له: إنك إن اعترفت الرابعة، رجمَك، قال: فاعترف الرابعةَ، فحبسَه، ثم سأل عنه، فقالوا: ما نعلم إلا خيرًا، قال: فأمر برجمه، رواه الإمام أحمد (¬5). وروي أيضًا من حديث بريدة، قال: كنا نتحدث -أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن ماعز بن مالك لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات، لم يرجمه، وإنما رجمه عند الرابعة (¬6). ¬

_ (¬1) في الأصل: "المزني"، والصواب ما أثبت. وانظر: "تهذيب الكمال" للمزي (30/ 171). (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. وانظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1538). (¬3) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 323). (¬4) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4426)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 8). (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 347)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 143).

(فلما شهد) ماعزُ بنُ مالك (على نفسه) أنه زنى (أربعَ شهادات) يصرِّح في كل مرة من الشهادات الأربِع بأنه زنى، (دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال) له: (أبك جنون؟ قال: لا) جنون بي، (قال) له - صلى الله عليه وسلم -: (فهل أحصنتَ؟ قال: نعم)، أي: قد أحصنتُ، (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا به)، أي: بماعز (فارجموه). فيه دليل على أن الإحصان يثبُت بالإقرار مرة، وأن الجواب بنعم إقرار (¬1). وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عند الإمام أحمد، والبخاري، وأبي داود، قال: لما أتى ماعز بن مالك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال له: "لعلك قبلتَ، أو غمزتَ، أو نظرت"، قال: لا يا رسول الله، قال: "أنكتها"، لا يكني، قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه (¬2). وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند أبي داود، والدارقطني، قال: جاء الأسلمي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حرامًا أربعَ مرات، كل ذلك يُعرض عنه، فأقبل عليه في الخامسة، فقال: "أنكتها؟ "، قال: نعم، [قال] (¬3): "كما يغيب المِروَدُ في المكحلة؟ " أو "الرشاء في البئر؟ "، قال: نعم، قال: " [فهل] (¬4) تدري ما الزنا؟ "، قال: نعم، أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا، قال: "فما تريد بهذا ¬

_ (¬1) انظر: "المنتقى" للمجد بن تيمية (3/ 49)، عقب حديث (3089). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 270)، وتقدم تخريجه عند البخاري وأبي داود. (¬3) [قال] ساقطة من "ب". (¬4) في الأصل: "ويك"، والصواب ما أثبت.

القول؟ "، قال: أريد أن تطهرني، فأمر به فرُجم (¬1). فظهر أنه لابد من التصريح، فإن أقر بأنه أصاب حدًا، لم يقم عليه الحد. ففي "الصحيحين" من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله! إني أصبت حدًا، فأقمه عليَّ، ولم يسأله، قال: وحَضرَت الصلاةُ، فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة، قام إليه الرجل، فقال: يا رسول الله! إني أصبت حدًا، فأقم فيَّ كتاب الله، قال: "أليس قد صليت معنا؟ "، قال: نعم، قال: "فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو حَدَّك" (¬2). وروى الإمام أحمد ومسلم نحوه من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -. تنبيهات: الأول: عُلم من هذا الحديث، ومن حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في قصة العَسيف: أن حد المحصَن الرجمُ حتى يموت، سواء كان الزاني المحصَن رجلًا أو امرأة، هذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولم يخالف فيه إلا الخوارج، فإنهم زعموا أن الجلد للبكر والثيب؛ لمفهوم عموم قوله ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4428). ورواه الدارقطني في "سننه" (3/ 196). (¬2) رواه البخاري (6437)، كتاب: المحاربين، باب: إذا أقر بالحد، ولم يبين، هل للإمام أن يستر عليه؟ ومسلم (2764)، كتاب: التوبة، باب: قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].

تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، ولا ريب أنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجمُ بقوله في أخبار كثيرة تشبه التواتر، وأجمع عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقدم أنه كان قد نزل به كتاب يتلى، ثم نُسخ لفظه دون حكمِه. قال سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إن الله تعالى بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتُها وعَقَلْتُها ووعيتُها، رجم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان يقول قائل: ما نجد الرجمَ في كتاب الله تعالى، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجمُ حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت به البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، وقد قرأ لنا: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، نكالًا من الله، والله عزيز حكيم) رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما (¬1). ومع ثبوت هذه النصوص القولية والفعلية، والإجماع السابق، واتفاق الأئمة، فلا التفات لما زعم الخوارج، ولا ينبغي أن يشغل البال في الرد عليهم (¬2). الثاني: اختلف العلماء في المحصَن هل يُجلد ثم يُرجم، أو يُقتصر على الرجم فقط؟ الذي استقرت عليه المذاهب الأربعة: الاقتصار على الرجم، وهو مروي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود -رضي الله عنهم-، قال ابن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 39).

مسعود: إذا اجتمع حدان -فيهما القتل-، أحاط القتل بذلك (¬1)، وبه قال النخعي، والأوزاعي، والزهري، وأبو ثور، واحتجوا بقصة ماعز؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجمه، ولم يجلده، ورجم - صلى الله عليه وسلم - الغامديةَ، ولم يجلدها، ورجم الأسلميةَ في قصة العَسيف، ولم يجلدها، فكان هذا آخرَ الأمرين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب تقديمه، وعمر - رضي الله عنه - رَجَمَ ولم يجلِدْ. وعن الإمام أحمد - رضي الله عنه - رواية ثانية: أنه يجلَد، ثم يرجَم؛ لأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فعله، وبه قال ابن عباس، وأبيّ بن كعب، وأبو ذر -رضي الله عنهم-، وبه قال الحسن، وداود، وابن المنذر. قال علي - رضي الله عنه - لما جلد شراحةَ، ثم رجمها: جلدتُها بكتاب الله، ثم رجمتُها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وروي أن عليًا - رضي الله عنه - جلدَ شراحةَ يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة (¬3). الثالث: لابد لحدّ الزنا من ثبوته، ولا يثبت الزنا إلا بأحد (¬4) شيئين: أحدهما: أن يقرّ أربع مرات في مجلس أو مجالس، وهو بالغ عاقل، ويصرح بذكر حقيقة الوطء، ولا ينزع عن إقراره حتى يتم الحد، وبهذا قال الحكم، وابن أبي ليلى، وأصحاب الرأي. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (28126). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 141)، والحاكم في "المستدرك" (8086)، وغيرهما. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 140)، والدارقطني في "سننه" (3/ 123)، والحاكم في "المستدرك " (8087)، وغيرهم. (¬4) في "ب": "بإحدى".

وقال الحسن، وحماد، ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر: يُحدّ بإقراره مرةً، لقصة العسيف؛ فإنه قال: "واغدُ يا أُنيسُ إلى امرأة هذا، فإن اعترفتْ، فارجمها"، واعترافُ مرة اعتراف، وقد أوجب عليها الرجم به، ورجم الجهينية، وإنما اعترفت مرة. وقال عمر - رضي الله عنه -: إن الرجم حقٌّ واجب على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف (¬1). قالوا: ولأنه حق، فيثبت باعتراف مرة؛ كالإقرار بالقتل. ولنا قصةُ ماعز بن مالك، وإعراضُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة بعد أخرى إلى ما بعد الرابعة، ولو وجب الحد بمرة، لم يعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز ترك حدٍّ وجبَ لله، وقد روى نُعيم بنُ هَزَّال حديثه، وفيه: حتى قالها أربع مرات، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك قد قلتها أربع مرات فبمن؟ "، قال: بفلانة. رواه أبو داود (¬2)، هذا تعليم منه يدل على أن إقرار الأربع هي الموجبة، وتقدم أن الصديق - رضي الله عنه - قال له عند النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أقررتَ أربعًا، رجمَكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وفي هذا دلالة من وجهين: كونه أقره على هذا ولم ينكره، فكان بمنزلة قوله؛ لأنه لا يقر على الخطأ، وكونه معلومًا من حكمه - صلى الله عليه وسلم -، ولولا ذلك ما تجاسر الصديق على قوله بين يديه. قال الإمام أحمد -وقد سُئل عن الزاني يردد أربع مرات-: نعم، على حديث ماعز هو أحوط، قال الأثرم: قلت له: في مجلس واحد، أو ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6442)، كتاب: المحاربين، باب: رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت، ومسلم (1691)، كتاب: الحدود، باب: رجم الثيب في الزنا. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

مجالس متفرقة؟ قال: أما الأحاديث، فليست تدل إلا على مجلس واحد، إلا عن ذلك الشيخ بشير بن مهاجر، عن عبد الله بن بريد، عن أبيه، وذلك عندي منكر الحديث. وقال أبو حنيفة: لا يثبت إلا بأربع إقرارات في أربعة مجالس؛ لأن ماعزًا أقرّ في أربعة مجالس، فلو أقرّ عن يمين الحاكم، ويسارِه، وأمامِه، وورائه، كانت أربعة مجالس. ولنا: أن الحديث الثابت الصحيح إنما يدل على أنه أَقَرَّ أربعًا في مجلس واحد. الثاني: أن يشهد عليه أربعةُ رجال عدولٍ يصفون الزنا، ويجيئون في مجلس واحد، سواء جاؤوا مجتمعين، أو متفرقين، ويشترط فيهم سبعة شروط: * كونهم أربعة، وهذا بالإجماع. * وكونهم رجالًا كلهم، فلا تقبل في الزنا شهادة النساء بحال، من غير خلاف بين الأئمة الأربعة. * وكونهم أحرارًا، فلا تقبل فيه شهادة العبيد، من غير خلاف، إلا رواية عن الإمام أحمد، وهي معتمد مذهبه على متأخري علمائنا، وإن استثنى جماعة عدَم قبول شهادة العبيد في الحدود والقصاص، لكن الذي استقر عليه المذهب: قبولُ شهادتهم في كل ما تقبل فيه شهادة الحر، وهو قول أبي ثور. * وكونهم عدولًا اتفاقًا. * وكونهم مسلمين.

* وأن يصفوا الزنا؛ بأن يقولوا: رأينا ذَكَرَه في فرجها كالمِرْوَدِ في المكحلة، والرشاء في البئر، وهذا قول معاوية بن أبي سفيان، والزهري، والشافعي، وأبي ثور، وابن المنذر، وأصحاب الرأي؛ لما ذكرنا في قصة ماعز؛ فإنه لما أقر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بالزنا، فقال: "أنكتها؟ "، فقال: نعم، فقال: "حتى غابَ ذلكَ منكَ في ذاكَ منها كما يغيب المرودُ في المكحلة، والرشاء في البئر؟ "، قال: نعم (¬1). وإذا اعتبر التصريح في الإقرار، فاعتباره في الشهادة أولى، ولأنهم إذا لم يصفوا الزنا، احتمل أن يكون المشهودُ به لا يوجب الحد، فاعتبر كشفُه. قال بعض أهل العلم: يجوز للشهود أن ينظروا إلى ذاك منها؛ لإقامة الشهادة عليها؛ ليحصل الردع بالحد، فإن شهدوا بأنهم رأوا ذكره قد غيبه في فرجها، كفى. ولا يعتبر ذِكْرُ مكانِ الزنا، ولا زمانِه، ولا ذكرُ المَزْنِيِّ بها إن كانت الشهادةُ على رجل، ولا ذكرُ الزاني إن كانت الشهادة على امرأة؛ خلافًا للقاضي أبي يعلى من أعلام علمائنا. * الشرط السابع: مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد، فإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم، كانوا قذفة، وعليهم الحدُّ، وهذا مذهب الإمام أحمد، ومالك، وأبي حنيفة. وقال الشافعي، والبَتِّي، وابن المنذر: لا يشترط ذلك. ولنا: أن أبا بكرةَ ونافعًا وشبلَ بنَ معبد شهدوا عند عمرَ على المغيرة بن شعبةَ بالزنا، ولم يشهد زيادٌ، فحدَّ الثلاثةَ، ولو كان اتحادُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

المجلس غيرَ مشترَط، لم يجز أن يحدَّهم؛ لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو شهد ثلاثة، فحدهم، ثم جاء رابع، لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط اتحاد المجلس، لكملت شهادتهم، وبهذا يفارق سائر الشهادات، فإن جاؤوا متفرقين واحدًا بعد واحد في مجلس واحد، قُبلت شهادتهم. وقال مالك، وأبو حنيفة: إن جاؤوا متفرقين، فهم قذفة؛ لعدم اجتماعهم في مجيئهم، فلم تُقبل شهادتهم؛ كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد. ولنا قصة المغيرة بن شعبة؛ فإن الشهود جاؤوا واحدًا بعد واحد، وإنما حُدُّوا؛ لعدم كمالها في المجلس، وفي حديثه: أن أبا بكرة قال لعمر - رضي الله عنه -: أرأيتَ لو جاء آخر شهد، أكنت ترجمه؟ قال عمر: إي والذي نفسي بيده. وقد روى صالحٌ بإسناده عن أبي عثمانَ النهديِّ، قال: جاء رجل إلى عمر، فشهد على المغيرة بن شعبة، فتغير لونُ عمرَ، ثم جاء آخرُ فشهدَ، فتغير لون عمر، ثم جاء آخرُ فشهد، فاستنكر ذلك عمرُ، ثم جاء شابٌّ يخطر بيديه، فقال عمر: ما عندك سلحَ العقاب؟! وصاح به عمر صيحة، فقال أبو عثمان: والله! لقد كدتُ يُغشى عليَّ، فقال: يا أمير المؤمنين! رأيت أمرًا قبيحًا، فقال: الحمد لله الذي لم يتشبث الشيطان بأصحاب محمد، قال: فأمر بأولئك النفر فجلدوا. وفي رواية ابن عمر: لما شهد عنده على المغيرة، شهد ثلاثة، وبقي زياد، فقال عمر: أرى شابًا، وأرجو أَلَّا يفضح الله على لسانه رجلًا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا أمير المؤمنين! رأيت استًا تنبر، ونفسًا

تعلو، ورأيت رجليها فوق عنقه كأنهما أذنا حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فقال عمر: الله أكبر، وأمر بالثلاثة فضُربوا. وقول عمر: يا سلح العقاب! معناه أنه يشبه سلحَ العُقاب الذي يحرق كل شيء أصابه، كذلك هو يوقع العقوبة بأحد (¬1) الفريقين لا محالة، إن كملت شهادته، حُدّ المشهود عليه، وإن لم تكمل، حُدّ أصحابه، والله الموفق (¬2). تتمة: محصل قصة المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: أنه كان أميرًا بالبصرة لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فاتهمه أبو بكرةَ، وشِبْل -بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة- بنُ مَعبَد -بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الموحدة- بنِ عبيد بنِ الحارث، ونافعُ بنُ الحارث أخو أبي بكرة لأمه. قال الكرماني: الثلاثة -يعني: أبا بكرة، وشبل بن معبد، ونافعًا- إخوة صحابيون، شهدوا مع أخ لأبي بكرة اسمُه زياد، وليست لزياد صحبة ولا رواية. وكان زياد من دهاة العرب وفصحائهم، مات سنة ثلاث وخمسين، وهو زياد الذي يقال له زياد بن أبي سفيان، والأربعة إخوة من أم، وهي سمية، فرأوا المغيرة مستبطِنَ المرأة، وكان يقال لها: الرقطاء أم جميل بنت عمرو بن الأفقم الهلالية، وزوجُها الحجاجُ بن عَتيك بنِ الحارث بن عوف الجشمي، فرحلوا إلى عمر - رضي الله عنه -، فشكوه، فعزله عمر، وولى ¬

_ (¬1) في "ب": "بإحدى". (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 64 - 67).

أبا موسى الأشعري، وأحضر المغيرةَ، فشهد عليه الثلاثةُ بالزنا، وأما زياد، فلم يثبت الشهادة (¬1). وروى الحاكم في "المستدرك": أن زيادًا قال: رأيتهما في لحاف، وسمعت نفسًا عاليًا، ولا أدري ما وراء ذلك (¬2). وقد رويت هذه القصة من وجوه كثيرة، وطرق متعددة، ومحصلها يرجع إلى ما ذكرنا، والله تعالى أعلم. (قال) الإمام التابعي الجليل أبو بكر محمد (ابنُ شهاب) الزهريُّ: (فأخبرني) الإمام (أبو سلمةَ) عبد الله، على الأرجح، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته (بنُ عبدِ الرحمن) بنِ عوف الزهريُّ القرشيُّ المدنيُّ، وهو أحدُ الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، من مشاهير التابعين وأعلامهم، ثقة، كثير الحديث، واسع الرواية، سمع ابنَ عباس، وأبا هريرة، وابن عمر، وعائشةَ، وغيرَهم، روى عنه الزهري، ويحيى بن أبي كثير، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والشعبي، ومحمد بن إبراهيم، وغيرهم، مات سنة أربع وتسعين، وقيل: أربع ومئة، وله اثنتان وسبعون سنة (¬3). (أنه)؛ أي: أبا سلمةَ بنَ عبد الرحمن (سمع جابرَ بنَ عبد الله) ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ الطبري" (2/ 492)، وما بعدها. (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (5892). (¬3) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 155)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (29/ 290)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 521)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 370)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 287)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (12/ 127).

الأنصاريَّ الخزرجيَّ -رضي الله عنهما- (يقول: كنت فيمَنْ)؛ أي: في الجمع الذي (رجمَهُ)؛ أي: رجمَ ماعز بن مالك، (فرجمناه بالمصلَّى). فيه دليل على أن الحدود إنما تقام خارج المساجد. وروى حكيمُ بنُ حِزام - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يُستقاد في المسجد، وأن تُنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود (¬1)؛ لأنه لا يؤمَن أن يحدث من المحدود شيء يتلوث به المسجد، فإن أقيم فيه، سقط الفرض عنه؛ لحصول المقصود، وهو الزجر؛ لأن المرتكب للنهي غيرُ المحدود، فلم يمنع ذلك سقوطَ الفرض عنه؛ كما لو اقتصّ في المسجد (¬2). (فلما أَذْلَقَتْه)؛ أي: لما أصابت (الحجارةُ) ماعزًا بحدِّها، ومنه: سنان مذلق؛ أي: حادّ، قال في "القاموس": ذلقَ السكينَ: حَدَّدَهُ؛ كذَلَّقَه، وأَذْلَقَه، والسَّمُومُ أو الصومُ فلانًا: أضعفه، وذَلِق اللسانُ؛ كفَرِحَ: ذَرِبَ، وقال -أيضًا- ذَلِقَ اللسانُ؛ كفرح ونصر وكرم، فهو ذليق، والذَلَقٌ -بالفتح-، وكصُرَد، وعُنُق؛ أي: حديد بليغ بيّنُ الذلاقة، ويقال: أذلقه؛ أي: أقلقه وأضعفه (¬3)، وهذا الذي ينبغي أن يُحمل عليه ما في هذا الحديث. (هرب، فأدركناه بالحَرَّة)، وهو موضع معروف بالمدينة، وأصلُها كلُّ أرض ذاتِ أحجار سودٍ، وذلك لشدة حرها، ووهج الشمس فيها، وجمعُها ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4490)، كتاب: الحدود، باب: في إقامة الحد في المسجد، والإمام أحمد في "المسند" (3/ 434)، وغيرهما. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 127). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1143)، (مادة: ذلق).

حِرار، وحِراء، وأحرين، وأحرون في الرفع كما في "المطالع" (¬1). وفي "القاموس": الحرة: موضع بين المدينة والبقيع وقبلي المدينة (¬2)، انتهى. وهذه -أعني: التي قبلي المدينة- المرادةُ هنا، وهي التي تُرك فيها العرنيون بعد قطعهم وسَمْلِهم. (فرجمناه)؛ أي: ماعزًا، يعني: في الحرة حتى مات هناك. قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (الرجل) المذكور في حديث أبي هريرة في قوله: أتى رجل من المسلمين رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله! إني زنيت، الحديث (هو: ماعزُ بنُ مالك) الأسلمي. قال المصنف -رحمه الله-: (وروى قصته جابرُ بن سمرة)، رواه مسلم، وهو أبو عبد الله، وقيل: أبو خالد بن سمرةَ بنِ جُنادة -بضم الجيم وتخفيف النون والدال المهملة- من ولد قيس عيلان -بالعين المهملة- بنِ مضر بنِ نزار بنِ معدِّ بنِ عدنان، السُّوائيُّ -بضم السين وتخفيف الواو والمد- نسبة إلى سُواءَةَ بنِ عامر بنِ صعصعة من قيس عيلان، وجابرٌ هذا هو وأبوه صحابيان، وهو ابنُ أختِ سعدِ بنِ أبي وقاص - رضي الله عنه -، واسمها: خالدةُ بنتُ أبي وقاص، نزل الكوفة، مات بها سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة ست وستين أيامَ المختار، وصلى عليه عمرُو بنُ الحارث المخزوميُّ. ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 187). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 478)، (مادة: حرر).

وجزم الذهبي: أنه توفي سنة ثلاث وسبعين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة وستة وأربعون حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين حديثًا. روى عنه: سماكُ بنُ حَرب، وعامرٌ الشعبيُّ، وحصينُ بنُ عبد الرحمن، وغيرهم (¬1). (و) روى قصة ماعز أيضًا (عبدُ الله بن عباس)، رواه البخاري، ومسلم (¬2)، (وأبو سعيد الخدري)، رواه مسلم (¬3)، (وبُريدة بنُ الحُصَيْب الأسلمي)، رواه مسلم أيضًا (¬4). وبُرَيْدَة هذا -بضم الموحدة وفتح الراء وسكون المثناة تحت- يقال: إن هذا لقبه، وإن اسمه عامر، والحُصَيب -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وسكون المثناة تحت- ابنُ عبد الله بنِ الحارثِ بنِ الأعرجِ الأسلمي، من ولد أسلم بن أَفْصَى -بفتح الهمزة وسكون الفاء وبالصاد المهملة- بنِ حارثة. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 24)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 205)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 186)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 224)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (11/ 199)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 488)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 149)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 437)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 186)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 431). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6438)، وعند مسلم برقم (1693). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1694). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1695).

وفي كتاب "الأنساب" (¬1) للرشاطي: أنه سَهْمِي من سهمِ خزاعةَ، كنيته: أبو عبد الله، على المشهور، أسلم قبل بدر، ولم يشهدها، وشهد الحديبية، وبايع بيعة الرضوان، سكن المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو، ثم انتقل إلى خراسان، فمات بها سنة اثنتين وستين، وقيل: ثلاث وستين. وفي "جامع الأصول" لابن الأثير: أنه تحول من المدينة إلى البصرة، ثم خرج من البصرة إلى خراسان غازيًا، فمات بمرو زمن يزيدَ بنِ معاوية سنة اثنتين، أو ثلاث وستين، وله بها عقب، وهو آخر من مات من الصحابة بخراسان. روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مئة حديث، وأربعة وستون حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأحد عشر (¬2). وفي "البخاري"، في باب: الجريدة على القبر: أن بريدةَ بن الحُصيب أوصى أن يُجعل على قبره جريدتان (¬3)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) هو كتاب "اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار" للرشاطي، وقد طبع. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 8)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 29)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 185)، و"جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 209 - قسم التراجم)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 141)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 53)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 469)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (1/ 286). و"تهذيب التهذيب"، كلاهما لابن حجر (1/ 378). (¬3) ذكره البخاري في "صحيحه" (1/ 457) معلقًا، وقد تقدم في كتاب: الجنائز.

تنبيهات: الأول: متى رجع المقرّ عن إقراره، قُبل منه، وإن رجع في أثناء الحد، لم يتمم؛ لأن من شرط إقامة الحد بالإقرار البقاءَ عليه إلى تمام الحد، وبهذا قال عطاء، ويحيى بن يعمر، والزهري، وحماد، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبو حنيفة، وأبو يوسف. وقال الحسن، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى: يُقام عليه الحد، ولا يُترك؛ لأن ماعزًا هرب، فقتلوه، وروي أنه قال: رُدُّوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن قومي هم غَرُّوني من نفسي، وأخبروني أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غيرُ قاتلي، فلم ينزعوا عنه حتى قتلوه، رواه أبو داود (¬1)، ولو قُبل رجوعه، للزمتهم ديتُه، ولأنه حقٌّ وجب بإقراره، فلم يقبل رجوعُه؛ كسائر الحقوق. وحكي عن الأوزاعي: أنه إن رجع، حُدَّ للفرية على نفسه، وإن رجع عن السرقة والشرب، ضُرِب دونَ الحَدّ (¬2). وفي "الإفصاح" للإمام عون الدين بن هبيرة: أن الإمام مالكًا فَصَّل في رجوعه عن إقراره بأنه إن رجع عن الإقرار بشبهة يُعذر بها؛ مثل أن يقول: إني وطئت في نكاح فاسد، أو ظننت أنها جارية مشتركة، أو نحو ذلك، قُبل رجوعه؛ كمذهب الجمهور، وأما إن رجع عن الإقرار بالزنا بغير شبهة، ففيه عنه روايتان: إحداهما: يُقبل رجوعه؛ كمذهب الجماعة. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4420)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 138 - 139).

والأخرى: لا يقبل رجوعه بوجه (¬1). واستدل لقول الجمهور: أن ماعزًا لما هرب، ذُكر للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه" رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن (¬2). وفي حديث جابر في قصة ماعز: أنه لما وجد مَسَّ الحجارة، صرخ بنا: يا قوم! ردوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، الحديث، فلما رجعنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه، قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به" (¬3)، ففي هذا أوضح الدلائل على أنه يُقبل رجوعه. وعن بريدة - رضي الله عنه -، قال: كنا -أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- نتحدث أن الغامديةَ وماعزَ بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما، لم يطلبهما، وإنما رجمهما عند الرابعة، رواه أبو داود (¬4). ولأن رجوعه شبهة، والحدود تُدرأ بالشبهات، ولأن الإقرار أحدُ بينتي الحد، فسقط بالرجوع عنه؛ كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد، وفارق سائرَ الحقوق؛ فإنها لا تدرأ بالشبهات. ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 237). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 216)، وتقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4419)، من حديث يزيد بن نعيم بن هزال، عن أبيه. وتقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1428)، وعند ابن ماجه برقم (2554)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4420). (¬4) رواه أبو داود (4434)، كتاب: الحدود، باب: رجم ماعز بن مالك.

وإنما لم يجب ضمان ماعز على الذين قتلوه بعد هربه؛ لأنه ليس بصريح في الرجوع. وأما إن رجم ببينة، فهرب، لم يترك، بخلاف الرجوع عن الإقرار. فإن قال من رجم بإقراره: ردوني إلى الحاكم، أو هرب، وجب تركُه وردُّه، ولم يجز إتمامُ الحد، فإن أُتم، فلا ضمان على من أتمه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يضمن ماعزًا من قتله، ولأن هربه ليس بصريح في رجوعه. وأما إن قال: كذبتُ في إقراري، أو: رجعتُ عنه، أو: لم أفعلْ ما أقررتُ به، وجب تركُه، فإن قتله قاتل بعد ذلك، فعليه ضمانُه؛ لأنه قد زال إقراره بالرجوع عنه، فصار كمن لم يقرَّ، ولا قصاص على قاتله؛ لاختلاف العلماء في صحة رجوعه، فكان اختلافهم شبهة دارئة للقصاص، ولأن صحة الرجوع مما يخفى، فيكون ذلك عذرًا مانعًا من وجوب القصاص، بخلاف ما إذا رُجم ببينة، فهرب؛ فإنه لا يترك؛ لأن زناه ثبت على وجه لا يبطل برجوعه، فلم يؤثر فيه هربُه كسائر الأحكام، والله أعلم (¬1). الثاني: الذي استقر عليه المذهبُ: أن المرجوم يُرجم بحجارة متوسطة كالكف، فلا ينبغي أن يثخن بصخرة كبيرة، ولا أن يطول عليه بحصاة خفيفة، ويتقى الوجه، ولا يزال يرجم حتى يموت من غير أن يُحفر له حفيرة، رجلًا كان المرجوم أم امرأة، ثبت ببينة أو إقرار، وتُشد ثيابُ المرأة؛ لئلا تنكشف، والسنة أن يدور الناس حوله من كل جانب كالدائرة إن كان زناه ثبت ببينة، وأما إن كان ثبت بإقراره، لم يدر حوله؛ لاحتمال أن يهرب فَيُترك. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 139 - 140).

ويُسن حضورُ شهود الزنا، وبدأتُهم بالرجم، وإن ثبت بإقرار، بدأ بالرجم الإمامُ أو الحاكم، ثم يرجم الناسُ، ويجب حضور الإمام أو نائبه في كل حد (¬1). قال في "شرح المقنع": أما إذا كان الزاني رجلًا، لم يوثق بشيء، ولم يُحفر له، سواء ثبت زناه ببينة أو إقرار، لا نعلم فيه خلافًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفر لماعز، قال أبو سعيد: لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجم ماعز، خرجنا به إلى البقيع، فوالله! ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكنه قام لنا. رواه أبو داود (¬2). ولأن الحفرَ له ودفنَ بعضه عقوبةٌ لم يرد بها الشرع في حقه، فوجب أَلَّا تثبت. قال: وأما المرأة، فإن كان ثبت زناها بإقرارها، لم يُحفر لها، وإن ثبت ببينة، حُفر لها إلى الصدر. وظاهر كلام أحمد: لا يحفر لها أيضًا، وهو معتمد مذهبه، وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلى في "الخلاف"، وفصَّل في "المجرد" بأنه إن ثبت زناها بالبينة، حُفر لها إلى الصدر. قال أبو الخطاب: وهذا أصح عندي، وهو قول الشافعية؛ لما روى أبو بكرة، وبريدة -رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم امرأة، فحفر لها إلى الثندوة. رواه أبو داود (¬3)، ولا حاجة إلى تمكينها من الهرب؛ لكون ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 211 - 212). (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4431). (¬3) رواه أبو داود (4443)، كتاب: الحدود، باب: المرأة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمها من جهينة، من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -.

الحد ثبت بالبينة، فلا يسقط بفعل من جهتها؛ بخلاف الثابت بالإقرار؛ فإنها تترك على حال لو أرادت الهربَ، تمكنت منه؛ لأن رجوعها عن إقرارها مقبول. ولنا -على معتمد المذهب-: أن أكثر الأحاديث على ترك الحفر؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفر للجهنية، ولا لليهوديين، ففي "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، قال: لما أمرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن نرجم ماعز بن مالك، خرجنا به إلى البقيع، فوالله! ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكن قام لنا، فرميناه بالعظام والخزف، فاشتكى، فخرج يشتدُّ حتى انتصب لنا في عرض الحرة، فرميناه بجلاميد الجندل حتى سكت (¬1). وأما ما احتجوا به من قصة الغامدية، وهو ما رواه الإمام أحمد، ومسلم عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه - رضي الله عنه -، قال: جاءت الغامدية، فقالت: يا رسول الله! إني قد زنيتُ، فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله! لمَ تُرَدِّدني؟ لعلك ترددني كما رَدَّدْت ماعزًا، فوالله! إني لحبلى، الحديث، وفيه: فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، فرمى رأسها، فنضح الدم على وجه خالد، فسبها، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبه إياها، فقال: "مهلًا يا خالد، فوالذي نفسي بيده! لقد تابت توبة لو تابها صاحبُ مكس، لغفر له"، ثم أمر بها، فصلَّى عليها، ودُفنت (¬2)، فمتروك العمل به؛ فإنهم ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 61). وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (1694). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 348). وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (1695).

لا يقولون به؛ فإنها إنما ثبت حدها بإقرارها، ومن كان كذلك، لا يُحفر له باتفاقٍ مِنّا ومنهم (¬1). الثالث: يؤخر إقامة الحد عن الحبلى حتى تضع؛ لما في "صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود"، والدارقطني، وقال: هذا حديث صحيح عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة من غامد من الأزد، فقالت: يا رسول الله! طهرني، فقال: "ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه"، فقالت: أراك تريد أن تُرددني كما رددت ماعزَ بن مالك، قال: "وما ذاك؟ "، قالت: إنها حبلى من الزنا، قال: "أنت؟ "، قالت: نعم، فقال لها: "حتى تضعي ما في بطنك"، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت، قال: فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعت الغامديةُ، قال: "إذًا لا نرجُمها وندعُ ولدها صغيرًا ليس له من يُرضعه"، فقام رجل من الأنصار، فقال: إليّ إرضاعُهُ يا نبي الله، قال: فرجمَها (¬2). وفي حديث عمرانَ بنِ حُصين عند الإمام أحمد، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي: أن امرأة من جُهينة أتت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله! أصبتُ حدًا، فأقمه عليّ، فدعا نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - وليها، فقال: "أحسنْ إليها، فإذا وضعتْ، فائتني"، ففعل، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشُدَّت عليها ثيابُها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟! قال: "لقد ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 137 - 138). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1695)، وعند أبي داود برقم (4442). ورواه الدارقطني في "سننه" (3/ 91).

تابت توبة لو قُسمت بين سبعين من أهل المدينة، لوسعتهم، وهل وجدت أفضلَ من أَنْ جادت بنفسها لله؟ " (¬1). وروي أن امرأة زنت في أيام عمر - رضي الله عنه -، فهمّ برجمها وهي حامل، فقال له معاذ: إن كان لك سبيل عليها، فليس لك سبيل على حملها، فقال: عجز النساء أن يلدن مثلك، ولم يرجمها (¬2). وعن عليّ - رضي الله عنه - مثلُه (¬3). وسواء كان الحد رجمًا أو غيره؛ لأنه لا يؤمن تلف الولد من سراية الضرب، وربما سرى إلى نفس المضروب، فيفوت الولد بفواته، فإذا وضعت الولدَ، فإن كان الحدُّ رجمًا، لم ترجم حتى تسقيه اللِّبَأ؛ لأن الولد لا يكاد يعيش إلا به، ثم إن كان له من يرضعه، أو تكفل أحد برضاعه، رُجمت، وإلا، تركت حتى تفطمه (¬4). الرابع: معتمد المذهب: أن إقامة الحدود لا تؤخر للمرض، فإن كان جلدًا، أو خشي عليه من السوط، أقيم بأطراف الثياب والعثكول. قال في "شرح المقنع": ويُحتمل أن يؤخَّر للمرض المرجوِّ زوالُه، وأما ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 429)، ومسلم (1696)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا، وأبو داود (4440)، كتاب: الحدود، باب: المرأة التي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجمها من جهينة، والترمذي (1435)، كتاب: الحدود، باب: تربص الرجم بالحبلى حتى تضع. (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (13454)، وسعيد بن منصور في "سننه" (2/ 94)، وغيرهما. (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (12288)، وسعيد بن منصور في "سننه" (2/ 94)، والدارقطني في "سننه" (3/ 138). (¬4) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 133).

إذا كان الحد رجمًا، لم يؤخر؛ لأنه لا فائدة فيه إذا كان قتله متحتمًا، وبمعتمد المذهب قال إسحاق، وأبو ثور؛ لأن عمر - رضي الله عنه - أقام الحد على قُدامة بنِ مظعون في مرضه (¬1)، ولم يؤخره، وانتشر ذلك في الصحابة، ولم ينكروه، فكان إجماعًا، ولأن الحد واجب على الفور، فلا يؤخر ما أوجبه الله تعالى بغير حجة. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا يقام عليه في مرضه، لحديث عليّ - رضي الله عنه - في الأَمَة التي كانت في نفاسها، رواه الإمام أحمد، ومسلم، وتقدَّم (¬2). وهو قول الخرقي من علمائنا. وأجابوا عن إقامة عمرَ الحدَّ على قدامة باحتمال أنه كان مرضًا خفيفًا لا يمنع من إقامة الحد، ولهذا لم يُنقل عنه أنه خفف عنه في السوط، وإنما اختار له سوطًا وسطًا (¬3) كالذي يضرب به الصحيحُ. وأما إن كان مريضًا لا يرجى برؤه، فهذا يقام عليه الحد في الحال، ولا يؤخر، بسوط يؤمن معه التلف؛ كالقضيب الصغير، وشمراخ النخل، فإن خيف عليه من ذلك، جمع ضغثًا فيه مئة شمراخ، فضرب به ضربة واحدة، وبهذا قال الشافعي. وأنكر مالك هذا، وقال: قال الله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وهذا جلدة واحدة. ولنا: ما روى أبو أمامةَ بنُ سهلِ بنِ حنيف، عن بعض أصحاب ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (17076). (¬2) وتقدم تخريجه. (¬3) في "ب": "أوسطًا"، وهو خطأ.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن رجلًا اشتكى حتى ضَنِيَ، فدخلت عليه امرأة، فهشَّ لها، فوقعَ بها، فسئل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر أن يأخذوا مئة شمراخ فيضربوه ضربة واحدة، رواه أبو داود، والنسائي (¬1). قال ابن المنذر: في إسناده مقال، وهذا أولى من ترك الحد بالكلية، أو قتله بما لا يوجب القتل (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4472)، كتاب: الحدود، باب: في إقامة الحد على المريض. (¬2) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 131 - 132).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جاءَ إليه اليَهُودُ، فَذَكَروا لَهُ أَنَّ امرَأَةً مِنْهُم وَرَجُلًا زَنيا، فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَجِدوُنَ فِي التَّوْرَاةِ في شَأنِ الرَّجْمِ؟ "، فَقَالُوا: نَفْضَحُهم وَيُجْلَدُونَ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: كذبتم، إنَّ فِيها آيَةَ الرَّجْم. فَأتوْا بالتَّوْرَاةِ، فَنَشَرُوها، فَوَضَعَ أَحَدُهُم يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَها وَمَا بَعدها، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: ارفَع يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإذَا فِيها آيةُ الرَّجْمِ، فَقَالَ: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فَأَمَرَ بهِمَا النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فَرُجِمَا، قَالَ: فَرَأيتُ الرجُلَ يَحنِي على المَرأَة يَقِيها الحِجارةَ (¬1). الذي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، عَبْدُ اللهِ بنُ صُورِيا. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1264)، كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، و (3436)، كتاب: المناقب، باب: قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]، و (4280)، كتاب: التفسير، باب: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]، و (6433)، كتاب: المحاربين، باب: الرجم في البلاط، و (6450)، باب: أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام، و (6901)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضَّ على اتفاق أهل العلم، و (7104)، كتاب: التوحيد، باب: ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من =

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (-رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء إليه اليهود، فذكروا له) - صلى الله عليه وسلم -: (أن امرأة منهم) -أي: اليهود- (ورجلًا منهم). قال البرماوي: اسم المرأة اليهودية التي زنت بسرة. قال البغوي في "تفسيره": إنهما، أي: اللذين (زنيا) وأُتي بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل خيبر (¬1). قال السهيلي: اسم المرأة بسرة (¬2)، ولم يسم الرجل، زنيا بعد إحصان. وفي "سنن أبي داود": أن رجلًا منهم -أي: يهود- وامرأة زنيا، فقالوا: اذهبوا إلى هذا النبي، فإنه بُعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم، قبلناها منه، واحتججنا بها عند الله، وقلنا: فُتيا نبيٍّ من أنبيائك، فأتوه وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم! ما ترى في رجل ¬

_ = كتب الله بالعربية وغيرها، ومسلم (1699/ 26 - 27)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهود أهل الذمة في الزنا، وأبو داود (4446)، كتاب: الحدود، باب: في رجم اليهوديين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 325)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 529)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 108)، و "شرح مسلم" للنووي (11/ 208)، و "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 120)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1466)، و"النكت على عمدة الأحكام" للزركشي (ص: 316)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 167)، و"عمدة القاري" للعيني (16/ 160)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 30)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 256). (¬1) انظر: "تفسير البغوي" (1/ 289). (¬2) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (2/ 423).

وامرأة زنيا؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيتَ مِدْراسهم (¬1)؛ أي: وهو البيت الذي يقرأ فيه أهل الكتاب، ودرستُ الكتاب: قرأته، كما في "المطالع" (¬2)، وفي "القاموس" المِدراس: الموضعُ يُقرأ فيه القرآن، ومنه مِدراسُ اليهود (¬3)، انتهى. (فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟). وفي حديث أبي داود: فقام - صلى الله عليه وسلم - على الباب، فقال: "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى! ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ "، (فقالوا: نفضحهم)؛ أي: نفضح من زنى؛ أي: نظهر ذمه وعيبه، ونُسَخِّمهم، أي: نسوِّدُ وجوههم، (ويُجلدون) بالسوط. وفي حديث أبي داود: يُحَمَّم؛ أي: يُسَوَّد وجهُه؛ من الحمم، وهو الفحم، ومنه: صاروا حممًا (¬4)، ويُجَبَّهُ، ويُجْلَد، وفي لفظ: التحميمُ والتجبية (¬5)، وهو -بفتح المثناة فوق مشددة، وسكون الجيم وكسر الموحدة فمثناة فهاء-، جاء تفسيره في الحديث: أنهما يُجلدان، وتُحمم وجوههما، ويُحملان على حمار، ويخالَفُ بين وجوههما، فيقابل أقفيتهما، ويُطاف بهما (¬6). ¬

_ (¬1) في "ب": "مدارسهم"، وهو خطأ. والحديث رواه أبو داود (4450)، كتاب: الحدود، باب: رجم اليهوديين، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 256). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 702)، (مادة: درس). (¬4) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 21). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6433). (¬6) رواه ابن هشام في "السيرة" (3/ 102)، من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، به، وقد جزم الحربي أن هذا التفسير من قول الزهري، كما نقل الحافظ ابن حجر في "الفتح" (12/ 129).

قال: فسكت شابٌّ منهم، فلما رآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سكت، أَلَظَّ به النِّشْدَةَ، فقال: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجمَ، ولما قالوا ما قالوا، وأنكروا الرجمَ، (قال عبد الله بن سَلَام) -بتخفيف اللام- بنِ الحارث، يكنى: أبا يوسف، من بني قَيْنُقاع -بفتح القاف وسكون المثناة تحت وضم النون ثم قاف وألف وآخره عين مهملة- الإسرائيليُّ، من ولد يوسفَ الصديقِ -على نبينا وعليه أفضلُ الصلاة والسلام-، وكان حليفًا لبني عوف بنِ الخزرج، وكان اسمه: الحُصينَ، فسماه رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: عبدَ الله، أسلم أول مقدمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهو أحد الأحبار، وأحدُ من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي "الصحيحين" من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: ما سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحيّ يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} (¬1) [الأحقاف: 10]. روى عنه: ابناه: يوسف، ومحمد، وأنسُ بنُ مالك، وغيرهم، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وعشرون حديثًا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بآخر - رضي الله عنه - (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3601)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، ومسلم (2483)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله سلام - رضي الله عنه -. (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 352)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (4/ 109)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 228)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 467)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 921)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (29/ 97)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي =

(كذبتم)؛ أي: قال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - ليهود لما قالوا في الزناة: نفضحهم ونُسَخِّمهم، ونسبوا ذلك إلى التوراة: كذبتم، (إن فيها)؛ أي: التوراة (آيةَ الرجم)، فأنكروا ذلك، فطلبها منهم، (فأتوا) -بقصر الهمز-؛ أي: جاؤوا (بالتوراة، فنشروها)؛ أي: أفردوها، ونظروا فيها، والنشرُ ضدُّ الطَّيِّ (¬1)، (فوضع أحدهم يده)؛ أي: اليهود، وهو عبد الله بن صوريا -كما يأتي في كلام المصنف -رحمه الله- (يده على آية الرجم) من التوراة، فغطاها، (فقرأ ما قبلها)؛ أي: الآية التي قبل آية الرجم، (وما)؛ أي: والآية التي (بعدها)، ولم يقرأ آية الرجم، (فقال له)؛ أي: عبدِ الله بن صوريا (عبدُ الله بنُ سلام) - رضي الله عنه - فاعل، قال: (ارفع يدك، فرفع يده) الخبيثة، (فإذا فيها)؛ أي: التوراة (آيةُ الرجم) مكتوبة، (فقال) عبد الله بن صوريا ومَنْ معه من أحبار يهود: (صدق) عبد الله بن سلام (يا محمد)، إن فيها آيةَ الرجم. وفي حديث أبي داود لما اعترفوا أنهم يجدون في التوراة الرجم: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟ "، قال له الشاب: زنى ذو قرابةٍ [مع] ملكٍ من ملوكنا، فأخر عنه الرجمَ، ثم زنى رجل في أسرة من الناس، فأراد رجمَه، فحال قومُه دونه، وقالوا: لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمَه، فاصطلحوا [على] هذه العقوبة بينهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ = (1/ 718)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 265)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 255)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 74)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 413)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 26)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 118)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 219). (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 54).

"فإني أحكم بما في التوراة" (¬1)، (فأمر بهما)؛ أي: الزانيين من اليهود ([النبي - صلى الله عليه وسلم -])، (فرجما) عند باب مسجده الشريف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية": وذلك أول رجم كان في الإسلام (¬2). وفي كتاب "الأوائل" لعلي دَدَهْ: أن أول من رُجم في الإسلام ماعز، وعزاه لـ"شرح المصابيح". ويمكن الجمع بأن أول من رُجِم في الإسلام من المسلمين ماعزٌ، وأول رجم مطلقًا اليهوديين (¬3). وعند أبي داود أيضًا: أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا بالشهود، فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثلَ الميل في المكحلة (¬4)، (قال) عبدُ الله بن عمر -رضي الله عنهما-: (فرأيت الرجل) وهما يُرجمان (يَحني)؛ أي: يميل ويعطف (على المرأة يَقيها الحجارةَ) بنفسه؛ من العطف والإشفاق عليها. قال الحافظ المصنف -رحمه الله ورضي عنه-: الحبر (الذي وضع يده على آية الرجم) في التوراة من يهود (عبدُ الله بن صُورِيا) -بضم الصاد المهملة وسكون الواو وكسر الراء وبالمثناة تحت- وقال الحافظ زكي الدين المنذري: عبد الله بن صُوَرَى -بفتح الواو-، وقيده بعضهم: صُورِي -بكسر الراء-. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4450). (¬2) انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 87). (¬3) كذا في "الأصل"، والصواب: "اليهوديان". (¬4) رواه أبو داود (4452)، كتاب: الحدود، باب: في رجم اليهوديين، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.

قال الحافظ المنذري: وفي أبي داود، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، قال: جاءت اليهود برجل وامرأة قد زنيا، فقال: "ائتوني بأعلم رجلين منكم"، فأتوا بابني صُوريا (¬1)، ولعله أراد: عبدَ الله بنَ صوري المتقدم، وكنانةَ بنَ صوريا، ويكون قد ثناهما على لفظ أحدهما، أو يكون عبد الله يقال فيه: ابن صوريا (¬2). قال البرماوي: صورياء -ممدود-، وفي "البحر" عن السهيلي حكاية عن النقاش: إنه أسلم (¬3). قلت: عند الإمام أحمد من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: فجاؤوا -يعني: يهود- بقارىء لهم أعور يقال له: ابن صوريا (¬4). وفي "المسند" أيضًا، و"صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود"، من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما-، قال: مُرّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بيهودي مُحَمَّمٍ مجلودٍ، فدعاهم، فقال: "هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟ "، قالوا: نعم، فدعا رجلًا من علمائهم، فقال: "أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى! أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟ "، قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا، لم أخبرك، نجد الرجمَ، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف، تركناه، وإذا أخذنا الضعيف، أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلْنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميمَ والجلدَ مكانَ الرجم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أولُ من أحيا أمرك إذْ أماتوه"، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه آنفًا. (¬2) انظر: "مختصر السنن" للمنذري (6/ 265). (¬3) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (2/ 369). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 5).

فأمر به فرُجم، فأنزل الله -عز وجل-: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ)} [المائدة: 41]، يقولون: ائتوا محمدًا، فإن أمركم بالتحميم والجلد، فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم، فاحذروا، فأنزل الله -تبارك وتعالى-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، هي في الكفار كلُّها (¬1). وفي "تفسير الحنبلي العُليمي" في قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة: 41]: المعنى: هؤلاء الجماعة الذين جاؤوك من اليهود هم جواسيسُ لطائفة أخرى منهم لم تجئْكَ؛ لأنه كان قد زنى يهودي بيهودية، وكانا محصنين شريفين عند أهل خيبر، وكان حدُّهما الرجم، فكرهوا رجمَهما، فأرسلوا بهما مع جماعة من قريظة والنضير ليسألوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن حدهما عنده، وقالوا: إن أمركما محمد بالجلد، فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم، فاحذروا، فعلى هذا {سماعون} الأولى: أهل خيبر، والثانية: قريظة والنضير، وذكر تمام القصة على نحو ما قدمنا (¬2)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 286)، وأبو داود (4448)، كتاب: الحدود، باب: في رجم اليهوديين. (¬2) كتاب "فتح الرحمن في تفسير القرآن" للشيخ مجير الدين العليمي، مخطوط بالمكتبة الظاهرية بدمشق، وهذا النقل الثاني للشارح -رحمه الله- عن تفسير العليمي، وقد قدمنا أننا بصدد إخراجه إلى عالم المطبوع، نسأل الله التوفيق فيه والسَّداد.

تنبيهان: الأول: ثبت بهذا الحديث ونحوِه الإحصانُ للذميين، وهي مسألة خلاف، فمعتمد مذهب الإمام أحمد، عدم اشتراط الإسلام في الإحصان، وبه قال الزهري، والشافعي، فيكون الذميان محصَنين، وإذا تزوج المسلم ذمية، فوطئها، صارا محصنين. وفيه رواية أخرى عن الإمام أحمد: أن الذمية لا تحصن المسلم. وقال عطاء، والنخعي، والشعبي، ومجاهد، والثوري: الإسلام شرط في الإحصان، فلا يكون الكافر محصنًا، ولا تحصن الذمية مسلمًا؛ لأن ابن عمر روى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أشرك بالله، فليس بمحصَن" (¬1)، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، إلا أن الذمية تحصِنُ المسلم عند مالك بناء على أصله في أنه لا يعتبر الكمال في الزوجين. ولنا: هذا الحديث في قصة اليهوديين، ولأن الجناية بالزنا استوت من المسلم والذمي، فيجب أن يستويا في الحد، وحديثهم لم يصح، ولا يُعرف في مسنَد، وقيل: هو موقوف على ابن عمر، ثم على فرض ثبوته، يتعين حملُه على إحصان القذف؛ جمعًا بينه وبين الأحاديث الثابتة في "الصحيحين"، وغيرهما، ولاسيما وروايهما واحد، وحديثنا صريح في الرجم، فيتعين حملُ خبرهم على الإحصان الآخر. فإن قيل: إنما رجم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اليهوديين بحكم التوراة؛ بدليل أنه راجعها، فلما تبين له أن ذلك حكمُ الله عليهم، أقامه فيهم، وفيها أنزل الله ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 147)، ثم قال: والصواب موقوف، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 216).

تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]. فالجواب: إنما حكم عليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بما أنزل الله عليه؛ بدليل قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، ولأنه لا يسوغ للنبي - صلى الله عليه وسلم - الحكمُ بغير شريعته، ولو ساغ ذلك له، لساغ لغيره، وإنما راجعَ - صلى الله عليه وسلم - التوراة؛ لتعريفهم أن حكم التوراة موافقٌ لما يحكم به عليهم، وأنهم تاركون شريعتهم، مخالفون لحكمهم، ثم هذا حجة لنا؛ لأن حكم الله تعالى -في وجوب الرجم- إن كان ثابتًا في حقهم، يجب أن يحكم به عليهم، وقد ثبت وجود الإحصان فيهم، ولا معنى له سوى وجوب الرجم على من زنى منهم بعد وجود شروط الإحصان فيه، فإن منعوا ثبوتَ الحكم في حقهم، فلم حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح القياس على إحصان القذف؛ لأن من شروطه العفةَ، وليست شرطًا هاهنا (¬1). الثاني: حدُّ اللواط، وهو عمل الفاحشة، ونسبته إلى قوم لوط؛ لأنه يعمل عملهم، وهم منسوبون إلى لوط النبي -عليه السلام-، وهو لوط بن هاران، وهارانُ أخو إبراهيم الخليل -عليه السلام-، وأما هاران أبو سارة فهو هاران الأكبر عمُّ إبراهيم -عليه السلام- كما برهن على ذلك ابن خلكان في "تاريخه" (¬2). وكان لقوم لوط صفات مذمومة، أشهرها وأقبحها إتيانُ الذكور في ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 162 - 163). (¬2) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 315).

الدُّبُر، وهو المراد هنا، الفاعل والمفعول به كزانٍ، ولا فرق بين أن يكون في مملوكه، أو أجنبي، أو أجنبية. وأما إن وطىء زوجته في دبرها، وكذا مملوكته، فهو محرم من الكبائر، ولا حد عليه في ذلك، نعم يُعَزَّرُ ويُفَرَّق بينهما إن أصرَّ على ذلك. قال في "شرح المقنع": وحدُّ اللوطيِّ كحدِّ الزاني، وعنه: حده الرجم بكل حال، قال: وأجمع أهل العلم على تحريم اللواط، وقد ذمه الله تعالى في كتابه، وعاب مَنْ فعله، وذمه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولعنَ من عَمِلَ عَمَلَ قومِ لوط، وكرر ذلك. قال: واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في حده، فروي عنه: أن حده الرجم بكل حال، بكرًا كان أو ثيبًا، وهذا قول علي، وابن العباس، وجابر بن زيد، وعبيد الله بن معمر، والزهري، وأبي حبيب، وربيعة بن مالك، وإسحاق، وأحد قولي الشافعي. والرواية الثانية: أن حده حدّ الزنا، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، والنخعي، وقتادة، والأوزاعي، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وهو المشهور من قولي الشافعي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتى الرجلُ الرجلَ، فهما زانيان" (¬1)، ولأنه إيلاج في فرج آدمي لا ملك له فيه، ولا شبهةَ ملكٍ، فكان زنا كالإيلاج في فرج المرأة، وإذا ثبت كونه زنا، ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 233)، وفي "شعب الإيمان" (5458)، من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -.

دخل في عموم الآية والأخبار فيه، ولأنه فاحشة، فكان زنا كالفاحشة بين الرجال والنساء. وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أنه أمر بتحريق اللوطي، وهو قول ابن الزبير، ولما روى صفوان بن سليم عن خالد بن الوليد: أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلًا يُنكح كما تُنكح المرأة، فكتب إلى أبي بكر، فاستشار أبو بكر الصحابة فيه، فكان علي - رضي الله عنه - أشدَّهم قولًا فيه، فقال: ما فعل هذا إلا أمةٌ من الأمم واحدة، وقد علمتم ما فعل الله بها، أرى أن يحرق بالنار، فكتب أبو بكر - رضي الله عنه - إلى خالد، فحرقه (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "السياسة الشرعية": وأما المتلوط، فمن العلماء من يقول: حدُّه حدُّ الزنا، وقد قيل: دون ذلك، والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة: أن يُقتل الاثنان الأعلى والأسفلُ، سواء كانا محصَنين، أو غيرَ محصَنين؛ فإن أهل السنن رووا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من وجدتموه يعملُ عملَ قومِ لوط، فاقتلوه، الفاعلَ والمفعولَ به" (¬2)، وروى أبو داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في البكر يؤخذ على اللوطية، قال: يرجم (¬3)، ورُوي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - نحوُ ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 232)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5389)، وانظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 175 - 176). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه أبو داود (4463)، كتاب: الحدود، باب: فيمن عمل عمل قوم لوط. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (28339)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 232).

قال شيخ الإسلام: لم يختلف الصحابة -رضي الله عنهم- في قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فعن بعضهم: أنه يُلقى عليه جدار حتى يموت تحت الهدم، وقيل: يُحبسان في أنتنِ موضع حتى يموتا، وعن بعضهم: أنه يرفع على أعلى جدار في القرية، فيرمى منه، ويتبع بالحجارة؛ كما فعل الله بقوم لوط، قال: وهذه رواية عن ابن عباس، والرواية الأخرى قال: يرجم. قال شيخ الإسلام: وعلى هذا أكثرُ السلف، قالوا: لأن الله رجم قومَ لوط، وشرع رجم الزاني تشبيهًا برجم قوم لوط، فيرجم الاثنان، سواء كانا حرين، أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكًا، والآخر حرًا، إذا كانا بالغين، فإن كان أحدهما غير بالغ، عوقب بما دون القتل، ولا يرجم إلا البالغ، انتهى (¬1). وقال ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية": هو -أي: اللواط- أولى بالحد من الزنا، فإنه وطء فرج لا يستباح بحال، والداعي إليه قويٌّ، فهو أولى بوجوب الحد، فيكون نصابه -يعني: من جهة ثبوته- نصابَ الزنا. واكتفى أبو حنيفة، وأبو محمد بن حزم بشاهدين (¬2). وقال في كتابه "إغاثة اللهفان": اعلم أن الإمام مالكًا من أشد الناس، بل أشدّهم في هذا الباب، حتى إنه يوجب قتل اللوطي حدًا، بكرًا كان أو ثيبًا، قال: وقوله في ذلك هو أصح المذاهب كما دلت عليه النصوص، واتفقت عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن اختلفت أقوالهم في كيفية قتله، وما نسب إلى الإمام مالك من جواز وطء الرجل امرأته في دبرها هو كذبٌ ¬

_ (¬1) انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 88). (¬2) انظر: "الطرق الحكمية" لابن القيم (ص: 240).

عليه وعلى أصحابه، فكتبُهم كلُّها صريحة بتحريمه. قال: ومن نسب إلى الإمام مالك شيئًا من إباحة الفواحش، فهو كذب، وهو كفر وزندقة من قائله بإجماع الأمة. قال: ونظير هذا ما يتوهمه كثير من الفَسَقَة وجهالِ الترك وغيرهم أن مذهب أبي حنيفة أن هذا ليس من الكبائر، وغايته أن يكون صغيرة من الصغائر، وهذا من أعظم الكذب والبهتان على الأئمة، فقد أعاذ الله أبا حنيفة وأصحابه من ذلك، وشُبهة هؤلاء الفسقة الجهلة أنهم لما رأوا أبا حنيفة لم يوجبْ فيه الحد، ركَّبوا على ذلك أنه ليس من كبائر الذنوب، بل من صغائرها، وهذا ظن كاذب؛ فإنه لم يُسقط فيه الحد لخفته؛ فإن جرمه عنده وعند جميع أهل الإسلام أعظمُ من جرم الزنا، ولهذا عاقب الله -سبحانه- أهله بما لم يعاقب به أمةً من الأمم، وجمعَ عليهم من أنواع العذاب ما لم يجمعه على غيرهم، ولكن شُبهة من أسقط فيه الحد: أن فحشه مركوز في طباع الأمم، فاكتفى فيه بالوازع الطبعي، كما اكتفى بذلك في أكل الرجيع وشرب البول والدم، ورتب الحد على شرب الخمر؛ لكونه مما تدعو إليه النفوس. والجمهور يجيبون عن هذا بأن في النفوس الخبيثة المتعديةِ حدودَ الله أقوى الداعي لذلك، فالحد فيه أولى من الحد في الزنا، ولذلك وجب الحد على من وطىء أمه وبنته وخالته وجدته، وإن كان في النفوس وازع وزاجر طبعي عن ذلك، بل حد هذا القتل بكل حال، بكرًا كان أو محصنًا في أصح الأقوال. قال: وهذا مذهب الإمام أحمد، وغيره، وأطال في ذلك (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "إغاثة اللهفان" لابن القيم (2/ 144 - 145).

وقال في كتابه "الداء والدواء": وقد اختلف الناس هل هو أغلظ عقوبة من الزنا، أو الزنا أغلظ عقوبة منه، أو عقوبتهما سواء؟ على ثلاثة أقوال: فذهب الصديق الأعظمُ، وعليُّ بن أبي طالب، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس، وجابر بن زيد، وعبد الله بن معمر، والزهري، وربيعة بن عبد الرحمن، ومالك، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد في أصح الروايتين عنه، والشافعي في أحد قوليه: إلى أن عقوبته أغلظُ من عقوبة الزنا، وعقوبته القتل على كل حال، محصنًا كان أو غير محصن. وذهب عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والأوزاعي، والشافعي في ظاهر مذهبه، والإمام أحمد في الرواية الثانية عنه، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن: إلى أن عقوبته وعقوبة الزنا سواء. وذهب الحكم، وأبو حنيفة: إلى أن عقوبته دون عقوبة الزاني، وهي التعزير، قالا: لأنه معصية من المعاصي لم يقدر الله ولا رسولُه فيه حدًا مقدَّرًا، فكان فيه التعزير؛ كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، ولأنه وطء في محل لا تشتهيه الطباع، بل ركبها الله على النفرة منه، حتى الحيوان البهيم، فلم يكن فيه حد؛ كوطء الحمار وغيره. قالوا: ولأنّا رأينا قواعد الشريعة أن المعصية إذا كان الوازع عنها طَبْعيًّا، اكتفي بذلك الوازع من الحد، وإذا كان في الطباع تقاضيها، جعل فيه الحد بحسب اقتضاء الطباع لها، وقد جبل الله الطباع على النفرة من وطء الرجل مثلَه أشدَّ نفرة، كما جبلها على النفرة من استدعاء الرجل من يطؤه؛ بخلاف الزنا؛ فإن الداعي فيه من الجانبين.

قال أصحاب القول الأول، وهم جمهور الأمة، وحكاه غير واحد إجماعًا للصحابة: ليس في المعاصي مفسدة أعظمُ من هذه المفسدة، وهي التي تلي مفسدةَ الكفر، وربما كانت أعظم من مفسدة القتل، إلى أن قال: وقد حتم قتلُ اللوطي حدًا؛ كما أجمع عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودلت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة الصريحة التي لا مُعارِضَ لها، بل عليها عملُ أصحابه وخلفائه الراشدين، وذكر قصةَ خالد بن الوليد والذي وجده في بعض ضواحي العرب، وتحريقه بالنار (¬1)، وقد روى ابنُ عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من وجدتموه يعمل عملَ قوم لوط، فاقتلوا الفاعلَ والمفعول به" رواه أهل "السنن"، وصححه ابن حِبانَ وغيرُه (¬2)، واحتج به الإمامُ أحمد، قال ابن القيم: وإسنادُه على شرط البخاري، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله من عمل عمل قومِ لوط، لعن الله من عمل عملَ قوم لوطٍ، لعن الله من عمل عمل قوم لوط" (¬3)، ولم تجىء لعنة الزاني في حديث واحد، وقد لعنَ جماعةً من أهل الكبائر، فلم يجاوز بهم اللعنة مرة واحدة، وكرر لعنَ اللوطية ثلاثَ مرات، وأطال في تقرير أدلة هذا المذهب، ورد ما يخالفه وتضعيفه، وأنه غير ملتفَت إليه (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 317)، وعبد بن حميد في "مسنده" (589)، والنسائي في "السنن الكبرى" (7337)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬4) انظر: "الداء والدواء" المشهور بـ"الجواب الكافي" لابن القيم (ص: 118)، وما بعدها.

وقد ذكرتُ طرفًا من ذلك صالحا في رسالتي "قرع السياط في قمع أهل اللواط"، والله الموفق (¬1). ¬

_ (¬1) * تنبيه: قوله في الحديث: "فرأيت الرجل يجنأ على المرأة": هذه اللفظة -أي: يحنأ- قد أثبتها الشارح -رحمه الله- خلاف ذلك، فقال: "يحني"، ثم قال: أي: يميل ويعطف، وكان على الشارح -رحمه الله- تبيان هذه اللفظة بوضوح أكثر؛ نظرًا للاختلاف الكثير فيها. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (12/ 169): وجملة ما حصل لنا من الاختلاف الكثير في ضبط هذه اللفظة عشرة أوجه: الأولان والثالث: بضم أوله والجيم وكسر النون وبالهمز. الرابع: كالأول إلا أنه بالموحدة بدل النون. الخامس: كالثاني إلا أنه بواو بدل التحتانية. السادس: كالأول إلا أنه بالجيم. السابع: بضم أوله وفتح المهملة وتشديد النون. الثامن: "يجاني" بالنون. التاسع: مثله، لكن بالحاء. العاشر: مثله، لكنه بالفاء بدل النون والجيم أيضًا. ورأيت في "الزهريات" للذهلي بخط الضياء في هذا الحديث من طريق معمر عن الزهري "يجافي" بجيم وفاء بغير همز، وعلى الفاء: صح صح، انتهى.

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لو أن امرأ اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَحَذَفْتَهُ بحَصَاةٍ، فَفَقَأتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ" (¬1). * * * (عن أبي هريرة) عبدِ الرحمن بنِ صخر (- رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أن امرأ) من الناس، من ذكر أو أنثى (اطلع عليك) ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6493)، كتاب: الديات، باب: من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان، و (6506)، باب: من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه، فلا دية له، ومسلم (2158/ 43 - 44)، كتاب: الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره، واللفظ له، والنسائي (4860 - 4861)، كتاب: القسامة، باب: من اقتص وأخذ حقه دون السلطان. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 35)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 481)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 138)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 122)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1472)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 216)، و"عمدة القاري" للعيني (24/ 65)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 263)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 173).

في بيتك (بغير إذنٍ) منك، (فحذفته) -بالحاء المهملة- عند أبي ذر، والقابسي، وعند غيرهما -بالخاء المعجمة-، وهو أوجه؛ لأنه الرمي (بحصاة) ونحوِها من نواة وغيرها، إما بين الإبهام والسبابة، وإما بين السبابتين، وجزم النووي بأنه في "مسلم" -بالخاء المعجمة- (¬1)، لكن في رواية سفيان -بالمهملة-، وقال القرطبي: الرواية -بالمهملة- خطأ (¬2)؛ لأن في نفس الخبر أنه الرمي بالحصا، وهو -بالمعجمة- جزمًا. قال العلقمي: ولا مانع من استعمال -المهملة- في ذلك مجازًا، انتهى (¬3). وفي "المطالع" في باب الحاء المهملة والذال المعجمة: فحذفه بحصاة، كذا للقابسي -بحاء مهملة-، وعند سائرهم -بخاء معجمة-، وهو الصواب المستعمل في الحصاة وشبهها (¬4). وقال في الخاء والذال المعجمتين: الخذف: الرمي بحصا أو نوى بين سبابتيه، أو بين الإبهام والسبابة، ومنه: نَهى عن الخذف (¬5)، قوله: "فخذفته بحصاة"، وللقابسي في كتاب: الديات بحاء مهملة، والأول أصوب، انتهى (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 138). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 479). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 216). (¬4) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 186). (¬5) رواه البخاري (5162)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: الخذف والبندقة، ومسلم (1954)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو، وكراهة الخذف، عن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -. (¬6) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 231).

(ففقأَت) -بقاف ثم همزة ساكنة-؛ أي: شققتَ (عينه)، قال ابن القطاع: فقأ عينه: أطفأ ضوءَها (¬1)، وفي "النهاية": فيه؛ أي: الحديث: "لو أن رجلًا اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقؤوا عينه، لم يكن عليهم شيء"؛ أي: شقوها، والفقء: الشق (¬2). (ما كان عليك جُناح) هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: "لم يكن عليك جناح"؛ أي: لم يكن عليك حرج. وفي رواية من حديث أبي هريرة كما في مسلم: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، فقد حلّ لهم أن يفقؤوا عينه" (¬3). وفيه ردٌّ على من حمل الجُناح هنا على الإثم، ورتَّب على ذلك وجوبَ الدية؛ إذ لا يلزم من رفع الإثم رفعُها؛ لأن وجوبَ الدية من خطاب الوضع، ووجه الدلالة: أن إثبات الوضع يمنع من ثبوت القصاص والدية. وورد ما هو أصرح من هذا كما في "مسند الإمام أحمد"، والنسائي، وصححه ابن حبان، والبيهقي من رواية بشير بن نَهيك بلفظ: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقؤوا عينه، فلا قصاص ولا دية" (¬4)، وفي رواية: "فهو هدر" (¬5)، واستدل به على جواز رمي من يتجسس، ولو لم يندفع ¬

_ (¬1) نقله الحافظ ابن حجر في "الفتح" (12/ 216). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 461). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2158/ 43). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 385)، والنسائي (4860)، كتاب: القسامة، باب: من اقتص وأخذ حقه دون السلطان، وابن حبان في "صحيحه" (6004). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 414).

بالشيء الخفيف، جاز بالثقيل، وأنه إذا أصيبت نفسه أو بعضه، فهو هدر (¬1). قال علماؤنا: وإن نظر في بيته من خصاص الباب (¬2)، أو من ثقب في جدار، أو من كوة ونحوه، لا من باب مفتوح، فرماه صاحب الدار بحصاة أو نحوها، أو طعنه بعود، فقلع عينه، فلا شيء عليه، ولو أمكن الدفعُ بدونه، وسواء كان في الدار نساء، أو كان الناظر محرمًا، أو نظر من الطريق، أو من ملكه، أو لا، فإن ترك الاطلاع ومضى، لم يجز رميُه، فإن رماه، فقال المُطَّلع: ما تعمدته، أو: لم أر شيئًا حين اطلعت، لم يضمنه، وليس لصاحب الدار رميُه بما يقتله ابتداءً، فإن لم يندفع برميه بالشيء اليسير، جاز رميه بأكثر منه حتى يأتي ذلك على نفسه (¬3). وأما لو تسمَّع الأعمى أو البصير على مَنْ في البيت، لم يجز طعنُ أذنه. وعن أبي ذر مرفوعًا: "وإن مر رجل على باب لا سترَ له غير مغلق، فنظر، فلا خطيئة عليه، وإنما الخطيئة على أهل البيت"، في سنده ابن لهيعة، رواه الإمام أحمد، والترمذي (¬4)، وتقدم الكلام على ذلك في آخر الحديث الثامن من باب القصاص. وذهب المالكية فيما إذا خذف عينَ من اطلع على بيته بلا إذنه، ففقأها: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 244 - 245). (¬2) خصاص الباب: الخرق أو الخلل الذي يكون في الباب. انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 796)، (مادة: خصص). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 274 - 275). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 153)، والترمذي (2707)، كتاب: الاستئذان، باب: ما جاء في الاستئذان قبالة البيت، وقال: غريب.

إلى وجوب القصاص، وأنه لا يجوز قصدُ العين ولا غيرُها، واعتلوا بأن المعصية لا تُدفع بالمعصية. وأجاب الجمهور: بأن المأذون فيه إذا ثبت الإذن، لا يسمَّى معصيةً، وإن كان الفعلُ لو تجرد عن هذا السبب يعدُّ معصية. وقد اتفقوا على جواز دفع الصائل، ولو أتى على نفس المدفوع، وهو بغير السبب المذكور معصية، فهذا يلحق به مع ثبوت النص فيه. وأجاب المالكية عن الحديث: بأنه ورد على سبيل التغليظ والإرهاب، ووافق الجمهورَ منهم ابنُ نافع. وقال يحيى بن عمر منهم: لعل مالكًا لم يبلغْه الخبر. وقال القرطبي في "المفهم": ما كان -عليه الصلاة والسلام- بالذي يهمُّ أن يفعل ما لا يجوز (¬1)، أو يؤدي إلى ما لا يجوز، والحمل على رفع الإثم لا يتم مع وجود النهي برفع الحرج، وليس مع النص قياس، انتهى (¬2). وتقدم في آخر القصاص قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جُعل الإذن من أجل البصر" (¬3)، فيشرع الاستئذان على كل أحد، حتى المحارم؛ لئلا تكون منكشفة العورة. وقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" عن نافع: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا بلغَ بعضُ ولده الحلمَ، لم يدخل عليه إلا بالإذن (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 34). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 245). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (1058).

ومن طريق علقمة: جاء رجل إلى ابن مسعود - رضي الله عنه -، فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: ما على كل أحيانها تريد أن تراها (¬1). ومن طريق مسلم بن ندير -بالنون مصغرًا-: سأل رجل حذيفة: أستأذن على أمي؟ فقال: إن لم تستأذن عليها، رأيت ما تكره (¬2). ومن طريق موسى بن طلحة: دخلتُ مع أبي على أمي، فدخل، فاتبعته، فدفع في صدري، وقال: تدخل بغير إذن (¬3). ومن طريق عطاء: سألت ابن عباس: أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حَجْري، قال: أتحبُّ أن تراها عريانة؟ (¬4). وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة. وأما دخول المرء منزلَه، فلا يحتاج فيه إلى الاستئذان؛ لفقد العلة التي لأجلها شرع الاستئذان، نعم لو احتمل أن يتجدد فيه ما يحتاج معه إليه، شُرع له (¬5)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (1059). (¬2) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (1060). (¬3) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (1061). (¬4) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (1063). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 25).

باب حد السرقة

باب حد السرقة وهي أخذ مالٍ محترمٍ لغيره، وإخراجُه من حرزِ مثلِه، لا شبهةَ له فيه، على وجه الاختفاء (¬1). يقال: سرق منه الشيء يَسرِق، سَرَقًا -محركة-، وككتف، وسَرَقَة -محركة- وكفَرِحَة، وسَرقًا -بالفتح-، واسترقه: جاء مستترًا إلى حرز، فأخذ مالًا لغيره (¬2)، والاسم: السَّرقة -بالفتح-، وكَفِرحَةٍ، وكَتِفٍ، وسرقه، فهو سارق، والشيءُ مسروق، وصاحبُه مسروقٌ منه (¬3). وذكر المصنف -رَوَّحَ الله روحَه- في هذا الباب ثلاثة أحاديث. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 251). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1153)، (مادة: سرق). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 374).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَطَعَ في مِجَنٍّ قِيْمَتُهُ -وَفِي لَفْظٍ: ثَمَنُهُ- ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6411 - 6413)، كتاب: الحدود، باب: قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ومسلم (1686)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها، وأبو داود (4385)، كتاب: الحدود، باب: ما يقطع فيه السارق، والنسائي (4907 - 4908، 4910)، كتاب: قطع السارق، باب: القدر الذي إذا سرقه السارق قطعت يده، والترمذي (1446)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في كم تقطع يد السارق، وابن ماجه (2584)، كتاب: الحدود، باب: حد السارق. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 302)، و"الاستذكار" لابن عبد البر، (7/ 529)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 225)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 498)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 72)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 181)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 126)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1476)، و"طرح التثريب" للعراقي (8/ 22)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 104)، و"عمدة القاري" للعيني (23/ 281)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 461)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 20)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 296).

(عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ -رضي الله عنهما-) قال: (أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع) اليدَ (في مِجَنٍّ)، وهو الترس. قال في "النهاية": المِجَنُّ، والمَجَانُّ: هو الترسُ، والترسة، والميم زائدة؛ لأنه من الجُنَّة: السترة، انتهى (¬1). وفي "المطالع" المِجَنُّ: الترس؛ لأنه يُستتر به، والمَجَانُّ المُطْرَقَةُ -بفتح الميم وتشديد النون- جمعُ مِجَنٍّ، ووزنه مَفاعِل، وحكي عن بعضهم: أنه كان يقوله -بكسر الميم-، قال: وهو خطأ، وإنما هو مثل مِحْمَل ومَحامل، الميم فيه زائدة، مفتوحة في الجمع، قال: وقد رواه ابن السماك وغيره من رواة البخاري -بكسر الميم- (¬2). (قيمته)؛ أي: قيمة ذلك المِجَنِّ المسروقِ، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد (¬3)، والشيخان، وأصحاب السنن الأربعة. (وفي لفظ) بعضهم: (ثَمَنُه) -بفتح الثاء المثلثة والميم فنون-، والهاء تعود على المجن، وهو ما استحق به ذلك الشيء، والجمع أثمان، ويرادف القيمةَ في الجملة؛ لأنها ما تقوم بها السلعة (ثلاثةُ دراهمَ) إسلامية. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 301). (¬2) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 156). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 6).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ -رَضيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّها سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "تُقْطَعُ اليَدُ فِي رُبع دِينَارٍ فَصَاعِدًا" (¬1). * * * (عن) أم المؤمنين (عائشةَ) الصديقة (-رضي الله عنها-: أنها سمعت ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6407)، كتاب: الحدود، باب: قوله الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، واللفظ له، ومسلم (1684/ 1)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها، وأبو داود (4384)، كتاب: الحدود، باب: ما يقطع فيه السارق، والنسائي (4917 - 4920، 4922 - 4923)، كتاب: قطع السارق، باب: ذكر الاختلاف على الزهري. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 302)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 530)، و"عارضة الحوذي" لابن العربي (6/ 225)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 495)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 70)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 181)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 127)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1479)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 97)، و"عمدة القاري" للعيني (23/ 280)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 459)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 18)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 296).

رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تقطع اليد) من السارق (في) سرقة (ربع دينار) من حرزه (فصاعدًا)؛ أي: أكثر، وهذا رواه مع الشيخين: الإمام أحمد (¬1)، وأبو داود، والترمذي، والنسائي (¬2). وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا" رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه (¬3). وفي رواية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع السارقَ في ربع دينار فصاعدًا (¬4). وفي رواية: لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فما فوقه (¬5). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اقطعوا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك" ذكره الإمام أحمد (¬6). وقالت عائشة -رضي الله عنها-: لم تكن تُقطع يدُ السارق في عهد ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 36). (¬2) كما تقدم تخريجه قريبًا، وليس هو من رواية الترمذي، وسيأتي تخريج رواية الترمذي التي أخرجها في "سننه". (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 104)، ومسلم (1684/ 2)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها، والنسائي (4928)، كتاب: قطع السارق، باب: ذكر اختلاف أبي بكر بن محمد وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة في هذا الحديث، وابن ماجه (2585)، كتاب: الحدود، باب: حد السارق. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1684/ 1). (¬5) رواه مسلم (1684/ 3)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها، والنسائي (4939)، كتاب: قطع السارق، باب: ذكر اختلاف أبي بكر بن محمد وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة في هذا الحديث. (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 80)، وأبو يعلى في "معجمه" (116)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 255).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أدنى من ثمن المِجَنِّ ترسٍ أو حجفةٍ، وكان كل منهما ذا ثمن (¬1). وقال الإمام مجد الدين في "المنتقى": وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار: اثني عشر درهمًا، رواه الإمام أحمد (¬2). وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال: "لعن اللهُ السارق يسرق البيضةَ فتقطع يدُه، ويسرق الحبلَ فتقطع يدُه" قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيضة الحديد، والحبل، كانوا يرون أنه منها ما يساوي ثلاثة دراهم، متفق عليه (¬3)، وليس لمسلم فيه زيادة قول الأعمش (¬4). قال الإمام ابن القيم في "الهدي": هذا حبل السفينة، وبيضةُ الحديد، وقيل: بل كل حبل وبيضة، وقيل: هو إخبار بالواقع؛ أي: إنه يسرق هذا، فيكون سببًا لقطع يده بتدرجه منه إلى ما هو أكبر منه (¬5). قال الإمام النووي: أجمع العلماء على قطع يد السارق، واختلفوا في اشتراط النصاب وقدره، فقال أهل الظاهر لا يشترط نصاب، بل تقطع في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6410)، كتاب: الحدود، باب: قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، واللفظ له، ومسلم (1685/ 5)، كتاب: الحدود، باب حد السرقة ونصابها. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 80)، وانظر: "المنتقى في الأحكام" للمجد بن تيمية (3/ 66)، عقب حديث (3129). (¬3) رواه البخاري (6401)، كتاب: الحدود، باب: لعن السارق إذا لم يُسم، ومسلم (1687)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها. (¬4) انظر: "المنتقى في الأحكام" للمجد بن تيمية (3/ 66)، عقب حديث (3130). (¬5) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 49).

القليل والكثير، وبه قال ابن بنت الشافعي من أصحابنا، وحكاه عياض عن الحسن البصري (¬1)، واحتجوا بعموم الآية، وقال الجمهور: لا تقطع إلا في نصاب؛ لما ذكرنا من الأحاديث (¬2). واختلفوا في قدره، فقال الإمام أحمد، ومالك، وإسحاق: تقطع في ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، وما قيمته ذلك، قال ابن هبيرة: أي قيمة ثلاثة دراهم من العروض، قال: والتقويم بالدرهم خاصة، قال: والأثمان أصول لا يقوَّم بعضُها ببعض (¬3). قلت: معتمد المذهب: كونُ الدينار الذي تقطع اليد في ربعه مثقالًا ذهبًا، وإن العرض يقوَّم بأحدهما، فإن بلغ ربع دينار، أو ثلاثة دراهم فضة صافية، قطعت، وتعتبر القيمة حال إخراجه من الحرز، فإن كان في أحد النقدين غش، لم تقطع حتى يبلغ ما فيه من النقد الخالص نصابًا، وسواء كان النقد مضروبًا، أو تبرًا، أو حليًا، أو مكسرًا، ويضم أحدُ النقدين إلى الآخر بالأجزاء في تكميل النصاب؛ كالزكاة، فلو سرق ثُمْنَ مثقال ودرهمًا ونصفًا، قُطع، وكذا يضم أحد النقدين أو هما إلى قيمة عرض في تكميل النصاب، فلو سرق درهمًا وعرضًا يساوي درهمًا ونصف سدس مثقال، قطع (¬4). ومذهب الشافعي: النصاب ربعُ دينار ذهبًا، أو ما قيمته ربع دينار، فلا تُقطع في أقل منه. ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 499). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 181). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 250). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 252 - 253).

وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تقطع إلا في عشرة دراهم، وما قيمته ذلك (¬1). والصحيح ما عليه الإمام مالك، والإمام أحمد، وإسحاق، وغيرهم، ففي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع يد سارق سرق ترسًا من صُفَّة النساء قيمتُه ثلاثة دراهم، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي (¬2)، فهذا يدل على أن كل واحد من النقدين أصل؛ لأن ثمن المجن قُوِّمَ تارة بربع دينار؛ كما في حديث عائشة عند النَّسائيُّ (¬3)، وتارة بثلاثة دراهم؛ كما في حديث ابن عمر هذا، فلو كانت الدراهم هي الأصل، لاختص التقويم بها دون الذهب. قال في "شرح المحرر": والرواية الثانية: أن الدراهم هي الأصل؛ لقول عائشة -رضي الله عنها-: كان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهمًا (¬4)، فيدل على أحد شيئين: إما على أنه لا يريد بربع الدينار الذهب، وإنما يريد الدينار المصطلح عليه، وهو اثنا عشر درهمًا، وإما على أن قيمة الدينار كانت يومئذ كذلك، فعلى هذا تُقوم العروضُ به دون الذهب، ويبقى الذهب على أصله في القيمة بتقويم الشرع، الدينار باثني عشر درهمًا، لأن الدرهم أعم وجودًا، وأسهل في ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 182). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 145)، وأبو داود (4386)، كتاب: الحدود، باب: ما يقطع فيه السارق، والنسائي (4909)، كتاب: قطع السارق، باب: القدر الذي إذا سرقه السارق قطعت يده. (¬3) رواه النَّسائيُّ (4931)، كتاب: قطع السارق، باب: ذكر اختلاف أبي بكر بن محمد وعبد الله بن أبي بكر عن عمرة في هذا الحديث. (¬4) تقدم تخريجه قريبًا عند الإمام أحمد والشيخين.

التقويم؛ لأنها يندر دخول الكبير فيها، ولا كذلك الذهب، فيجب أن تكون أصلًا في التقويم. وفي رواية: أن الأصل الدراهم خاصة، فتقوم العروض، وكذا الذهب بذلك، فمتى بلغ المسروق ثلاثة دراهم فضة، قطعت اليد فيه (¬1). قال في "الفتح": قال الداودي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله السارق": يحتمل أن يكون خبرًا؛ ليرتدع من سمعه عن السرقة، ويحتمل أن يكون دعاء، قال: ويحتمل أَلَّا يراد به حقيقة اللعن، بل التنفير فقط. وقال الطيبي: لعل المراد باللعن هنا: الإهانة والخذلان، كأنه قيل: لما استعمل أعزَّ شيء في أحقر شيء، خذله الله حتى قطع. واعترض الخطابي على تأويل الأعمش من قوله: كانوا يرون أنه بيضة الحديد. . . . إلخ، بأن هذا غير مطابق لمذهب الحديث، ومخرج الكلام فيه، وذلك أنه ليس بالشائع في الكلام أن يقال في مثل ما ورد فيه الحديثُ من اللوم والتثريب: أخزى الله فلانًا، عرض نفسه للتلف في مال له قدر ومزية، وعرض له قيمة، إنما يُضرب المثل في مثله بالشيء الذي لا وزنَ له ولا قيمةَ، هذا حكم العرف الجاري، وإنما وجه الحديث وتأويله: ذمُّ السرقة، وتهجينُ أمرها، وتحذير سوء بغيتها فيما قل وكثر من المال، يقول: إن سرقة الشيء القليل الذي لا قيمة له كالبيضة المذرة، والحبل الخلَق الذي لا قيمة له، إذا تعاطاه، فاستمرت به العادة، ولم يتب، يؤديه ذلك إلى سرقة ما فوقها حتى يبلغ قدرَ ما تقطع فيه اليد، فتقطع يده، يقول: فليحذر هذا الفعل، وليتوقَّه قبل أن تملكه العادة ويمرنَ عليها؛ ليسلم من ¬

_ (¬1) وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 262).

سوء بغيه، ووخيمِ عاقبته، وهذا الذي أشار إليه ابن القيم. وسبق الخطابي إلى ذلك أبو محمد بن قتيبة فيما حكاه ابن بطال، فقال: واحتج الخوراج بهذا الحديث على أن القطع يجب في أقل الأشياء وكثيرها، ولا حجة لهم في ذلك (¬1)؛ لأن الآية لما نزلت، قال -عليه السلام- ذلك على ظاهر ما نزل، ثم أعلمه الله تعالى أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار، فكان بيانًا لما أجمل، فوجب المصيرُ إليه، قال: وأما قول الأعمش: إن البيضة في هذا الحديث بيضةُ الحديد الذي يجعل في الرأس في الحرب، وإن الحبل حبال السفن، فهذا التأويل لا يجوز عند من يعرف صحيح كلام العرب؛ لأن كل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة، وهذا تكثير لما يسرقه السارق، وليس من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلانًا عرّض نفسه للضرب في عقد جوهر، وتعرض للعقوبة بالغلول في جراب مسك، وإنما العادة في مثل هذا أن يقولوا: لعنه الله، تعرَّضَ لقطع اليد في حبل رَثّ، أو في كبة شعر، أو رداء خَلَق، وذكر نحو ما قدمنا عن الخطابي (¬2). وأيضًا: فالعار الذي يلحقه بالقطع لا يساوي ما حصل له ولو كان جليلًا، وإلى هذا أشار القاضي عبد الوهاب بقوله: [من البسيط] صِيَانَةُ الْعُضْوِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا ... صِيَانَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي وردَّ بذلك على قول المعري: [من البسيط] يَدٌ بِخَمْس مِئِين عَسْجدًا وُدِيَتْ ... مَا بَالُها قُطِعَتْ فِي رُبع دِينَارِ تَحَكُّمٌ مَا لَنَا إِلَّا السُّكُوتُ لَهُ ... وأَنْ نَعُوذَ بِمَوْلَانَا مِنَ النَّارِ ¬

_ (¬1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 149). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 82).

كما في "الفتح" (¬1): ما عدا ثاني بيتي المعري. والذي في الدميري وغيره ما لفظه: ولما نظم أبو العلاء المعري أحمدُ بنُ عبد الله بنِ سليمان بيته الذي شكك به على الشريعة، وهو: يَدٌ بِخَمْسِ مِئِين عَسْجدًا وُدِيَتْ، البيت، فأجابه القاضي عبد الوهاب: [من البسيط] صِيَانَةُ النَّفْسِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا ... خِيَانَةُ الْمَالِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي يعني: لما كانت أمينة، كانت ثمينة، فلما خانت، هانت، انتهى (¬2). والمحفوظُ من لفظ بيت عبد الوهاب: [من البسيط] عِزُّ الأَمَانَةِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا ... ذُلُّ الْخِيَانَةِ فافْهَم حِكْمَةَ الْبَارِي قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وشرح ذلك -يعني: بيت القاضي عبد الوهاب على ما أنشده من قوله: صيانة -بالصاد المهملة في الشقين- ما لفظه: وشرحُ ذلك: أن الدية لو كانت ربع دينار، لكثرت الجناية على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمسَ مئة دينار، لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين (¬3). تنبيهات: الأول: يشترط في قطع سارق: أن يكون مكلفًا مختارًا، وأن يكون المسروق مالًا محترمًا، ويكون السارق عالمًا به وبتحريمه، وأن يسرقه من ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (12/ 98). (¬2) وانظر: "تفسير ابن كثير" (2/ 57). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 98).

مالكه أو نائبه، ولو من غلة وقف، وليس من مستحقيه. ويشترط للقطع أن تكون السرقة من حرز، فحرزُ المال: ما جرت العادة بحفظه فيه، ويختلف باختلاف الأموال والبلدان، وعدل السلطان وجوره، وقوته وضعفه. فحرز الأثمان والجواهر والقماش في الدور والدكاكين في العمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة. والصندوق في السوق حرز، وثَمَّ حارس، وإلا فلا. فإن لم تكن الأبواب مغلقة، ولا فيها حافظ، فليست حرزًا. وكذا البيوت التي في البساتين والطرق والصحراء إذا لم يكن فيها أحد، فليست حرزًا، ولو مغلقة. وإذا كان لابسًا ثوبًا، أو متوسدًا له، نائمًا أو مستيقظًا، أو مفترشًا، أو متكئًا عليه في أي موضع كان من بلد أو برية، أو نائمًا على مجرِّ فرسه، ولم يزل عنه، أو نعله في رجله، فمحرز، وإن تدحرج عن الثوب، زال الحرز. ومتاع البزازين بين أيديهم بحيث يشاهدونه وينظرون إليه مُحرز، إلا إن نام، أو غاب عن موضع مشاهدته. وحرز كفن مشروع -خرج غير مشروع من حلي وفراش ونحوهما- في قبر على ميت، ولو بعد عن العمران، بشرط كونِ القبر مطمومًا الطَّمَّ الذي جرت به العادة (¬1). الثاني: يشترط للقطع: انتفاءُ الشبهة، فلا تقطع بسرقة مال ولدِه وإن سفل، وسواء في ذلك الأبُ والأم، ولا بسرقة مال والده وإن علا؛ خلافًا ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 251، 255، 259).

لمالك في سرقة الولد من مال والده، إذ لا شبهة له في مال أبويه، بخلاف سائر الأقارب، فيقطعون بالسرقة من مال أقاربهم؛ كالإخوة والأعمام. ولا يقطع العبد بسرقة مال سيده، ولا سيدُ المكاتَب بسرقة ماله، ولا مسلم بسرقة من بيت المال -ولو عبدًا- إن كان سيده مسلمًا، ولا يقطع أحد الزوجين بسرقته من مال الآخر، ولو من محرز عنه؛ خلافًا لمالك والشافعي (¬1). الثالث: يشترط ثبوتُ السرقة بشهادة عدلين يصفانها، والحرزَ، وجنسَ النصاب وقدرَه، ولا تُسمع البينة قبل الدعوى أو باعتراف مرتين؛ وفاقًا لأبي يوسف، يذكر في الاعتراف شروط السرقة من النصاب والحرز وغير ذلك، والحر والعبد في هذا سواء، ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع، فإن رجع قبلُ، فلا قطعَ؛ بخلاف ما لو ثبت ببينة، وإن شهدت البينة على إقراره بالسرقة، فجحد، وقامت البينة بذلك، لم يقطع، وعند الثلاثة: يثبت حد السرقة بإقراره مرة واحدة (¬2). الرابع: إذا وجب القطع، قطعت يده اليمنى من مفصل الكف، وحُسمت وجوبًا، وهو أن يغمس موضع القطع من مفصل الذراع في زيت مغلي، فإن عاد، قُطعت رجلُه اليسرى من مفصل الكعب، وحُسمت وجوبًا، وصفة القطع: أن يجلس السارق ويُضبط لئلا يتحرك، وتُشديده بحبل، وتُجَرُّ حتى يتبين مفصل الكفِّ من مفصل الذراع، ثم توضع بينهما سكين حادة، ويدق فوقها بقوة لتقطع في مرة واحدة، أو توضع السكين على المفصل، وتُمَرُّ مرة واحدة، وإن علم قطعًا أوحى منها، قطع به، ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 116). (¬2) المرجع السابق، (9/ 118 - 119).

ويُسن تعليق يد المقطوع في عنقه، زاد جماعة: ثلاثة أيام، إن رآه الإمام (¬1)، ففي "السنن الأربع" عن عبد الرحمن بن مُحيريز، قال: سألنا فضالةَ بنَ عُبيد عن تعليق اليد في عنق السارق، أمن السنة؟ قال: أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسارق، فقطعت يدُه، ثم أمر بها فعُلقت في عنقه (¬2). قال المجد في "المنتقى": وفي إسناده ابن أرطاة ضعيف (¬3). قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: لا يقطع في شدة حر ولا برد، ولا مريض في مرضه، ولا حامل حال حملها، ولا بعد وضعها حتى ينقضي نفاسها، وإذا قُطعت يده، فسرق قبل اندمالها، لم يقطع حتى يندمل القطع الأول، فإن عاد ثالثًا بعد قطع يده ورجله، حرم قطعه، وحبس حتى يتوب (¬4)، هذا معتمد الروايتين عن الإمام أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة. وعن أحمد رواية أخرى: أنه يقطع في الثالثة والرابعة، وهذا مذهب مالك والشافعي، فيقطع في الثالثة يُسرى يديه، وفي الرابعة يُمنى رجليه (¬5). قال في "الفروع": والمذهب: يحرم قطعه؛ يعني: بعد الثانية، فيحبس حتى يتوب كالمرة الخامسة. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 267). (¬2) رواه أبو داود (4411)، كتاب: الحدود، باب: في تعليق يد السارق في عنقه، والنسائي (4983)، كتاب: قطع السارق، باب: تعليق يد السارق في عنقه، والترمذي (1447)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في تعليق يد السارق، وابن ماجه (2587)، كتاب: الحدود، باب: تعليق اليد في العنق. (¬3) انظر: "المنتقى في الأحكام" للمجد بن تيمية (3/ 72)، حديث رقم (3142). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 266). (¬5) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 255).

وفي "الإيضاح": ويعذب، وفي "التبصرة": أو يغرب، وفي "البلغة" يُعزر ويُحبس حتى يتوب. وأما ما رواه مُصعب بنُ ثابت عن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن المنكدر عن جابر، قال: جيء بسارق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اقتلوه"، فقالوا: إنما سرق، فقال: "اقطعوه"، ثم جيء به ثانية، فأمر بقتله، فقالوا: إنما سرق، فقال: "اقطعوه"، ثم جيء به ثالثة، فأمر بقتله، فقالوا: إنما سرق، فقال: "اقطعوه"، ثم جيء به رابعة، فقال: "اقتلوه"، فقالوا: إنما سرق، فقال: "اقطعوه"، فأتي به في الخامسة، فأمر بقتله، فقتلوه (¬1). فقال الإمام أحمد، ويحيى بن معين: مصعبٌ ضعيف، زاد الإمام أحمد: لم أَرَ الناسَ يحمدون حديثه، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وروى حديثه أبو داود، والنسائي، وقال: حديث منكر، ومصعب ليس بالقوي. قال في "الفروع": وقيل: هو -أي: الحديث- حسن، وقتله لمصلحة اقتضته، وقد قال أبو مصعب المالكي: يقتل السارق في الخامسة. قال صاحب "الفروع": وقياس قول شيخنا ابن تيمية -قدس الله روحه- أنه كالشارب في المرة الرابعة يقتل إذا لم ينته بدونه (¬2). الخامس: معتمد المذهب: لا قطع عامَ مجاعة غلاء، نص عليه الإمام أحمد - رضي الله عنه - إذا لم يجد ما يشتريه، أو يشتري به. قال الإمام أحمد: ويروى ذلك -يعني: عدم القطع عام المجاعة- عن عمر - رضي الله عنه -. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 132 - 133).

قال في "الفروع": قال جماعة: ما لم يبذل له، ولو بثمن غال. وفي "الترغيب": ما يحيي به نفسه؛ يعني: لا يقطع به (¬1). السادس: اتفق الأئمة على أنه إذا كانت العين المسروقة قائمة، فإنه يجب ردها، واختلفوا هل يجتمع القطعُ والضمانُ مع تلف المسروق؟ فالجمهور: أنه يجتمع عليه القطع والضمان. وقال أبو حنيفة: لا يجتمعان، فإن اختار المسروق منه الغرمَ، لم يقطع، وإن اختار القطع، فقد استوفى حقه، ولا يغرمه قيمة المسروق. وقال مالك: إن كان السارق موسرًا، وجب عليه القطع، وإن كان معسرًا، لا يتبع بقيمتها، ويقطع. ودليل قول الجمهور: أنهما حقان لمستحقين: القطع حق الله تعالى، والضمان حق للآدمي، فجاز اجتماعهما؛ كالجزاء والقيمة في الصيد المملوك إذا أتلفه في الحرم والإحرام، ولأنه إذا كانت العين باقية، وجب ردها مع القطع بالإجماع، فكذلك يجب ردُّ بدلِها إذا كانت تالفة؛ كما لو لم يقطع (¬2). السابع: أن يطالِب المسروقُ منه مسألة، أو وكيلُه، فإن أقر بسرقة مال غائب، أو شهدت به بينة، حبس، ولم يقطع حتى يحضر (¬3)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (6/ 133). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 113). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 265).

الحديث الثالث

الحديث الثالث وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ قُرَيشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَخْزُومية الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيها رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِىءُ عَلَيْهِ إِلا أسَامَةُ بْنُ زيْدٍ حِب رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ: "أَتَشْفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟! "، ثُمَّ قام فَخَطَبَ فَقَالَ: "إِنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإذَا سَرَقَ فِيْهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ. وَايْمُ اللهِ! لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3288)، كتاب: الأنبياء، باب: حديث الغار، و (3526)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: ذكر أسامة بن زيد - رضي الله عنه -، و (4053)، كتاب: المغازي، باب: من شهود الفتح، و (6405)، كتاب: الحدود، باب: إقامة الحدود على الشريف والوضيع، و (6406)، باب: كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، ومسلم (1688/ 8 - 9)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، وأبو داود (4373)، كتاب: الحدود، باب: في الحد يشفع فيه، والنسائي (4895، 4899، 4903)، كتاب: قطع السارق، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر الزهري في المخزومية التي سرقت، والترمذي (1430)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في كراهية أن يشفع في الحدود، وابن ماجه (2547)، كتاب: الحدود، باب: الشفاعة في الحدود.

وَفي لَفْظٍ: قَالَتْ كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَطْعِ يَدِهَا (¬1). * * * ما أشار إليه بقوله: (وعنها)؛ أي: عن عائشةَ الصدِّيقةِ (-رضي الله عنها-: أن قريشًا) هم القبيلة المعروفة المشهورة، وهم ولد فِهْر -بكسر الفاء وسكون الهاء- بنِ مالكِ بنِ النضرِ بنِ كِنانةَ، ففهرٌ هو جماع قريش في قول الكلبي وغيره من العلماء في أنساب العرب، وسُمُّوا قريشًا؛ لأنهم كانوا يقرشون عن خَلَّة الناس -بفتح الخاء المعجمة-؛ أي: حاجتهم وفقرهم، ومعناه: ينقِّبون عنها، ويستعلمونها؛ ليُغنوهم ويسدُّوا خَلَّتَهم، وكان من قولهم: تقارشت الرماح: إذا تداخلت في الحرب؛ لأن المستعلم المستخبر يداخل أحوال الذي يطلب علمَ حاله؛ ليحصل له مقصوده. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1688/ 10)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره، وأبو داود (4374)، كتاب: الحدود، باب: في الحد يشفع فيه، و (4397)، باب: في القطع في العارية إذا جحدت، والنسائي (4894)، كتاب: قطع السارق، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر الزهري في المخزومية التي سرقت. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 300)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي، (6/ 209)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 501)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 77)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 186)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 132)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1481)، و"طرح التثريب" للعراقي (8/ 28)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 87)، و"عمدة القاري" للعيني (16/ 60)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 456)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 20)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 305).

وقيل: إنه مأخوذ من التقريش، وهو التعييش؛ لأنهم كانوا يعيشون الحاج، فيطعمون الجائع، ويكسون العاري، ويحملون المنقطع (¬1). وقال الجوهري: القرش: الكسب والجمع، وقد قرش يقرِش؛ يعني: بالكسر، قال الفراء: وبه سُميت قريش (¬2). وفي "القاموس": قرشه يقرُشه ويقرشِه: قطعه، وجمعه من هاهنا وهاهنا، وضمَّ بعضَه إلى بعض، ومنه قريش؛ لتجمعهم إلى الحرم، أو لأنهم كانوا يتقرشون البياعات فيشترونها، أو لأن النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يومًا، فقالوا: تقرَّش، وقيل غير ذلك (¬3). وفي "حياة الحيوان" للدميري: سميت قريش بالقِرْش -بكسر القاف وإسكان الراء-: دابة عظيمة من دواب البحر تمنع السفنَ من السير في البحر، وتدفع السفينة، فتقلبها فتكسرها، قال الزمخشري: هو مُدَوَّرُ الخِلْقة، وذكر من كبره وعظمه شيئًا مهولًا، قال الشاعر: [من الخفيف] وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحـ ... ـرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا تَأْكُلُ الْغَثَّ والسَّمِينَ وَلَا تَتْـ ... ـرُكُ فِيه لِذِي جَنَاحَيْنِ رِيَشا هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حيُّ قُرَيْشٍ ... يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا وَلَهُمْ آخِرَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ ... يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمُ وَالخُمُوشَا الخموش: الخَدْش، وأكلا كميشًا؛ أي: سريعًا. قال ابن سيده: قريش: دابة في البحر لا تدع دابة إلا أكلتها، فجميع الدواب تخافها. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (16/ 73). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1016)، (مادة: قرش). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 776)، (مادة: قرش).

وقال المطرزي: هي سيدة الدواب البحرية، وأشدها، وكذلك قريش هي سادات الناس (¬1). وقيل: إن جماع قريش النضرُ بن كنانة، وجزم به الجوهري في "الصحاح"، وكذا جزم به صاحب "القاموس"، وهذا الذي جزم به علماؤنا، والأكثر، قال في "الإقناع": قريش: بنو النضر بن كنانة، وقيل: بنو فهر بن مالك بن النضر (¬2). (أهَمَّهُمْ)؛ أي: أحزنهم، يقال: هَمَّه الأمر هَمًّا ومهمَّةً: حزنه؛ كأَهَمَّه (¬3) (شأن)؛ أي خَطْبُ، وأمر المرأة، والجمع شؤون (المخزومية) -بالخاء المعجمة والزاي- نسبة إلى مخزومِ بنِ يَقَظَةَ -بالمثناة تحت والقاف والظاء المعجمة المفتوحات- بنِ مرة بنِ كعب بنِ لؤيِّ بنِ غالبِ بنِ فهرٍ، وهو بطن كبير من قريش، وعامَّتهم بالحجاز (¬4)، واسم هذه المرأة المخزومية على الأرجح: فاطمةُ بنتُ الأسود بن عبدِ الأسد، وهي بنت أخي أبي سلمة عبدِ الله بن عبد الأسد الذي كان زوجَ أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها- قبل النبي (¬5) - صلى الله عليه وسلم -، وقد سبقت ترجمة أبي سلمة. قال ابن عبد البر: روى حديثَها وسماها حبيبُ بنُ أبي ثابت (¬6)، وهي (التي سرقت)، وكانت تجحد المتاع الذي تستعيره، وكانت قد أسلمت ¬

_ (¬1) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 706). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 114). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1512)، (مادة: همم). (¬4) انظر: "الأنساب" للسمعاني (5/ 225). (¬5) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 415 - 417). (¬6) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1892).

وبايعت، وقيل: إن التي سرقت وقطعها النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هي أمُّ عمرو بنت سيبان بن عبد الأسد بن هلال، خرجت [في] حجة الوداع، فمرت بركب، فأخذت عَيْبَةً لهم، وهي زنبيل من أَدَم، وما يُجعل فيه الثياب، فأتوا بها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقطع يدها. قال ابن شاهين: والمشهور أن قطع المخزومية إنما هو في عام الفتح، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مقيم بمكة (¬1). (فقالوا)؛ أي: قريش -يعني: بعض وجوههم وأشرافهم: (من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟)؛ يعني: يشفع فيها عنده -عليه السلام- بأَلَّا يقطع يدها، (فقالوا) في بعضهم، أو من كلموه من المسلمين في ذلك: (ومن يجترىء)؛ أي: يقدم ويتشجع في الإقدام (عليه)، أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو من الجراءة، والجراية -بالياء- نادر: الشجاعة (¬2)، (إلا أسامةُ بنُ زيد) بنِ حارثة (حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وابنُ حِبِّه، (فكلمه) - صلى الله عليه وسلم - (أسامةُ) بنُ زيد -رضي الله عنهما-؛ أي: شفع عنده - صلى الله عليه وسلم - بها، فلم يُشَفِّعْه، وأنكر عليه ذلك، (فقال) له - صلى الله عليه وسلم -: (أتشفع) بالاستفهام الإنكاري (في) إسقاطِ (حدٍّ من حدود الله) تعالى يا أسامة؟!. وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَحَدٌّ يُقام في الأرض خيرٌ لأهل الأرض من أن يُمْطَروا ثلاثين صباحًا" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 89)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" له أيضًا (8/ 268). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 44)، (مادة: جرأ). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 402)، والنسائي (4904)، كتاب: قطع السارق، باب: الترغيب في إقامة الحد.

وفي لفظ: "إقامةُ حد في الأرض خيرٌ لأهله من مطر أربعين ليلة" رواه النَّسائيُّ مرفوعًا، وموقوفًا، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" (¬1). وروى ابن ماجه أيضًا عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إقامةُ حَدٍّ من حدود الله خيرٌ من مطر أربعين ليلة في بلاد الله" (¬2). وفي "الطبراني" بإسناد حسن عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يومٌ من إمام عادلٍ أفضلُ من عبادة ستين سنة، وحدٌّ يُقام في الأرض بحقِّه أزكى فيها من مطر أربعين عامًا" (¬3). قال الإمام ابن القيم في "الهدي": لا يسقط القطع بعدَ رفعه إلى الإمام، وكذلك كلُّ حد بلغ الإمامَ وثبتَ عنده لا يجوز إسقاطُه، قال: وفي "السنن" عنه: إذا بلغت الحدود الإمامَ، فلعن الله الشافع والمشفّع (¬4). وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود الله، فقد ضادَّ الله -عز وجل-، ومن خاصم في باطل، وهو يعلم، لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله رَدْغَةَ الخَبال حتى يخرجَ ¬

_ (¬1) رواه النَّسائيُّ (4905)، كتاب: قطع السارق، باب: الترغيب في إقامة الحد، وابن ماجه (2538)، كتاب: الحدود، باب: إقامة الحدود، وابن حبان في "صحيحه" (4397). (¬2) رواه ابن ماجه (2537)، كتاب: الحدود، باب: إقامة الحدود. (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (11/ 337). وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 172). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2284)، وفي "المعجم الصغير" (158)، والدارقطني في "سننه" (3/ 205)، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، به. وانظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 55).

مما قال" رواه أبو داود، واللفظ له (¬1)، والطبراني بإسناد جيد نحوه، وزاد في آخره: "وليسَ بخارج" (¬2)، ورواه الحاكم مطوَّلًا ومختصرًا، وقال في كل منهما: صحيح الإسناد (¬3)، والرَّدْغَة -بفتح الراء وسكون الدال المهملة وتحريكها أيضًا وبالغين المعجمة-: هي الوَحَل، وردغة الخبال -بفتح الخاء المعجمة وبالباء الموحدة-: هي عصارة أهل النار وعرقُهم كما جاء مفسرًا في "صحيح مسلم" وغيره (¬4). وفي "الطبراني" من حديث أبي الدرداء مرفوعًا: "أَيُّما رجلٍ حالت شفاعتُه دون حد من حدود الله، لم يزل في غضب الله حتى ينزع" (¬5)، ونحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (¬6). (ثم) بعد إنكار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أسامة - رضي الله عنه - لشفاعته لإسقاط حد القطع (قام) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس خطيبًا؛ ليعرفهم حكمَ ذلك، ويحذرهم من غبه، (فخطب) الناسَ (فقال: إِنَّما أهلك)، وفي رواية: هلك (الذين من قبلكم) من بني إسرائيل: (أنهم كانوا) هذا -بفتح الهمزة- فاعلُ أهلك (إذا سرق فيهم الضعيف)؛ أي: الوضيعُ الذي لا عشيرة له ولا مَنَعَة و (أقاموا عليه الحد)؛ أي: قطعوه، (وإذا سرق فيهم الشريف)؛ أي: العالي ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3597)، كتاب: الأقضية، باب: فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها. (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (13435). (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" (2222، 8157). (¬4) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 137)، حديث رقم (3397). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/ 201 - "مجمع الزوائد" للهيثمي). (¬6) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (8552). وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 138).

المنزلة، الوجيهُ، (تركوه)، فلم يحدوه، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وايمُ الله!) قال في "الفتح": بكسر الهمزة وبفتحها والميم مضمومة، وحكى الأخفش كسرها مع كسر الهمزة، وهو اسم عند الجمهور، وحرفٌ عند الزجَّاج، وهمزته همزة وصل عندَ الأكثر، وهمزةُ قطع عند الكوفيين ومن وافقهم؛ لأنه عندهم جمع يمين، وعند سيبويه ومن وافقه أنه اسم مفرد، واحتجوا بجواز كسر همزته وفتح ميمه، واحتج ابن مالك بقول عروة بن الزبير لما أُصيب بولده وبرِجْله: لَيْمُنُك لئنِ ابتليتَ لقد عافيتَ (¬1)، فلو كان جمعًا، لم يتصرف فيه بحذف بعضه، قال ابن مالك: وفيه اثنتا عشرة لغة، ونظمها فقال: [من البسيط] هَمْزَ ايْمِ وَأيمَنَ فَافْتَحْ واكْسِرْ أوَ أم قل ... أُوْ قُلْ مَ أو مَن بِالتَّثْليثِ قَدْ شُكِلَا وَايْمُنَ اِخْتِمْ بِهِ وَاللهِ كلًّا أَضِفْ ... إِلَيْهِ فِي قَسَمٍ تَسْتَوْفِ مَا نُقِلَا (¬2) قال محمد بن أبي الفتح البعلي صاحب "المطلع" تلميذُ ابنِ مالك، وهو من علماء مذهبنا: فات ابنَ مالك: أَمْ -بفتح الهمزة-، وهَيْم -بالهاء بدل الهمزة-، وقال في "المطلع": وايم الله: همزته همزة وصل، تفتح وتكسر، وميمه مضمومة، وقالوا: ايمُنُ الله -بضم الميم والنون مع كسر الهمزة وفتحها-، وعند الكوفيين ألفها ألفُ قطع، يأتي: وهي جمع يمين، وكانوا يحلفون باليمين، فيقولون: ويمين الله، قاله أبو عبيد، وأنشد لامرىء القيس: [من الطويل] فَقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص: 371)، وابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات" (141)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (11144). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 521).

وهو اسم مفرد مشتق من اليمن والبركة. قال صاحب "المطلع": وفي استعمالها أربعةَ عشرَ وجهًا، قال: ذكرتها في كتابي "الفاخر في شرح جمل عبد القاهر" انتهى (¬1). وهي التي ذكرتها هنا، وهي يمينٌ عند الثلاثة، وعند الشافعية: إن نوى اليمينَ، فيمينٌ، وإن نوى غير اليمين، لم تنعقد، وإن أطلق، فوجهان: أصحهما: لا تنعقد عندهم، كما حكاه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (¬2). (لو أن فاطمة) سيدةَ نساء العالمين (بنتَ محمدٍ) خاتمِ النبيين، وإمام المرسلين -صلاةُ الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين- (سرقت، لقطعت يدها) أعاذها الله من أن تسرق. ذكر ابن ماجه عن محمد بنِ رُمْحٍ شيخِه في هذا الحديث: سمعت الليثَ يقول عقبَ هذا الحديث: أعاذها الله من أن تسرق، وكل مسلم ينبغي له أن يقول هذا (¬3)، ذكره في "الفتح" (¬4). قال: ووقع للشافعي أنه لما ذكر هذا الحديث، قال: فذكر عضوًا شريفًا من امرأة شريفة، واستحسنوا ذلك منه؛ لما فيه من الأدب البالغ، وإنما خص - صلى الله عليه وسلم - سيدتنا فاطمةَ ابنتَه بالذكر؛ لأنها -رضوان الله عليها- أعزُّ أهلِه عنده، انتهى (¬5). وهي أصغر بناته - صلى الله عليه وسلم - سنًا، تكنى بابنيها الحسنِ والحسينِ، وأمُّها ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 387). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 522). (¬3) انظر: "سنن ابن ماجه" (2/ 851)، عقب حديث (2547). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 95). (¬5) المرجع السابق، الموضع نفسه.

خديجةُ بنتُ خُويلد أمُّ المؤمنين، ولدتْها وقريش تبني البيت العتيق قبل البعثة بخمس سنين، تزوجها علي -رضوان الله عليه- في الثانية في شهر رمضان، وبنى عليها في ذي الحجة، وقيل: تزوجها في رجب، وقيل: في صفر، فولدت له الحسنَ، والحسينَ، وزينبَ، وأُمَّ كلثوم، ورُقية، وماتت بالمدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر وعمرُها إذ ذاك ثمانٍ وعشرون سنة، وقيل غير ذلك، وأهل البيت يقولون: ثمانية عشر [حديثًا]، وغسَّلَها علي، ودُفنت ليلًا بوصيتها بذلك، ونزل في قبرها علي، والعباس، والفضل بن العباس -رضوان الله عليهم أجمعين-. روى عنها: علي، وابناه الحسن والحسين، وابن عباس، وابن مسعود، وعائشة -رضوان الله عليهم أجمعين-. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر، اتفقا على حديث واحد في مسند عائشة (¬1). وقد روى الحاكم أبو عبد الله في فضائل فاطمة -رضوان الله عليها- بسنده إلى علي بن الحسين عن أبيه، عن علي -رضوان الله عليه-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة: "يا فاطمة! أتدري لم سُمِّيتِ فاطمةَ؟ إن الله -عز وجل- فطمك وقومَك عن النار". ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 19)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 334)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 39)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1893)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 9)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 617)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 247)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 118)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" (8/ 53)، و"تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (12/ 468).

وذكر أبو الحسن بن زنجويه عن أبي هريرة: إنما سميت فاطمة؛ لأن الله فطمَ من أحبها عن النار (¬1). وقالت عائشة -رضي الله عنها-: ما رأيت أحدًا أشبهَ كلامًا وحديثًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فاطمة، وكانت إذا دخلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قام إليها، فقبَّلها، ورحَّب بها (¬2). وكلمة "لو" هنا على حقيقتها حرف امتناع لامتناع، والله أعلم. وفي لفظ: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة: "أتشفع في حد من حدود الله؟ "، فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأثنى على الله -عز وجل- بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد: فإنما أهلك الذين من قبلكم" الحديث، وفيه: "وإني والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد" الحديث، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت -يعني: المخزومية-، فقُطعت يدها، قالت عائشة -رضي الله عنها-: فحَسُنت توبتُها بعدُ، وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك، فأرفع حاجتَها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وفي بعض ألفاظ البخاري: "يا أيها الناس! إنما ضَلَّ من [كان] قبلكم" (¬4) بدل "إنما أهلك الذين من قبلكم"، وفي أخرى: "إن بني إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، قطعوه" (¬5). ¬

_ (¬1) لم أقف عليهما. (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (6953)، والحاكم في "المستدرك" (4753). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4053)، وعند مسلم برقم (1688/ 9). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6406). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3526).

(وفي لفظ) رواه مسلم، وكذا رواه الإمام أحمد، والنسائي من حديث عائشة -رضي الله عنها- (¬1)، (قالت): (كانت امرأة) مخزومية، وهي فاطمة بنتُ الأسودِ بنِ عبد الأسد -كما تقدم- (تستعيرُ المتاع وتجحدُه). وفي رواية عند أبي داود، والنسائي (¬2)، قالت: استعارت امرأة -تعني: حليًا- على ألسنة ناس يعرفون، ولا تُعرف هي، فباعته، فأخذت، فأتي بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، (فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها)، وهي التي شفع بها أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-. ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي أيضًا من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- (¬3)، وقال أبو داود: ورواه ابن أبي نجيح عن نافع، عن صفية بنت عبيد، قال فيه: فشهد عليها (¬4). وفي مسلم من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فأتي بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فعاذت بأمِّ سلمةَ زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانتْ فاطمةُ، لقطعتُ يدها"، فقُطعت (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 162)، وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (1688/ 10)، وعند النَّسائيُّ (4894). (¬2) رواه أبو داود (4396)، كتاب: الحدود، باب: في القطع في العارية إذا جحدت، والنسائي (4898)، كتاب: قطع السارق، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر الزهريّ في المخزومية التي سرقت. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 162)، وأبو داود (4395)، كتاب: الحدود، باب: في القطع في العارية إذا جحدت، والنسائي (4887 - 4888)، كتاب: قطع السارق، باب: ما يكون حرزًا وما لا يكون. (¬4) انظر: "سنن أبي داود" (4/ 139)، عقب حديث (4395). (¬5) رواه مسلم (1689)، كتاب: الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره.

تنبيهات: الأول: قال بمقتضى هذه الرواية الصحيحة الصريحة الإمام أحمد، فوجب قطع يد جاحد العارية، لا المنتهب والمختلس، وهو نوعٌ من الخطف، ولا الغاصب والخائن في الوديعة، أو الخائن في العارية، ولا الجاحد للوديعة أو غيرها من الأمانات، إلا العارية، فيُقطع بجحدها (¬1)؛ لهذا الحديث. قال في "الهدي": قال الإمام أحمد بهذه الحكومة، ولا معارضَ لها، وقد حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسقاط القطع عن المنتهب والمختلس والخائن، قال: والمراد بالخائن: خائن الوديعة، قال: وأما جاحد العارِيَّة، فيدخل في اسم السارق شرعًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كلموه في شأن المستعيرة الجاحدة، قطعها، وقال: "والذي نفسي بيده! لو أن. . . ." الحديث، فإدخاله -عليه السلام- جاحدَ العاريَّة في اسم السارق كإدخاله سائرَ أنواع المُسْكِر في اسم الخمر، فتأمله، قال: وذلك تعريف للأمة بمراد الله من كلامه، والله الموفق (¬2). قال في "شرح المقنع": فأما جاحدُ العاريَّة، فقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - فيه، فعنه: أنه يقطع، وهو قول إسحاق؛ للحديث، قال الإمام أحمد: لا أعرف شيئًا يدفعه. وعنه رواية ثانية: أنه لا قطع عليه، وهو قول الخرقي، وأبي إسحاق بن شاقلا، وأبي الخطاب، وسائرِ الفقهاء، قال: وهو الصحيح -إن شاء الله تعالى-؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا قطعَ على الخائن". ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 251). (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 50).

وفي أبي داود، والترمذي، وغيرهما: "ليس على الخائن والمختلس قطع"، وصححه الترمذي، وفيهما: "ليس على المنتهب قطع" (¬1). قال في "الشرح": ولأن الواجب قطعُ السارق، والخائنُ ليس بسارق، فأشبه جاحدَ الوديعة، قال: وأما المرأة التي كانت تستعير المتاع، فإنما قُطعت بسرقتها، لا بجحدها، ألا تسمع قوله: "إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه"؟ وفي حديث: أنها سرقت قطيفة، فروى الأثرم بإسناده عن مسعود بن الأسود، قال: لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أعظمنا ذلك، وكانت امرأة من قريش، فجئنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: نحن نفديها بأربعين أوقية، فقال: "تطهر خيرٌ لها"، فلما: سمعنا لِينَ كلامِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أتينا أسامةَ، فقلنا: كَلِّمْ لنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث بنحو سياق عائشة (¬2)، وهذا ظاهر في أن القضية واحدة، وأنها سرقت، فقُطعت لسرقتها، وإنما عَرَّفتها عائشةُ بجحدها للعارية؛ لكونها مشهورة بذلك، ولا يلزم أن يكون ذلك سببًا كما لو عَرَّفتها بصفة من صفاتها. قال الشارح: وفيما ذكرنا جمعٌ بين الأحاديث، وموافقةٌ لظاهر الأحاديث والقياس وفقهاء الأمصار، فيكون أولى، انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4391 - 4393)، كتاب: الحدود، باب: القطع في الخلسة والخيانة، والترمذي (1448)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في الخائن والمختلس والمنتهب، وابن ماجه (2591)، كتاب: الحدود، باب: الخائن والمنتهب والمختلس. (¬2) رواه ابن ماجه (2548)، كتاب: الحدود، باب: الشفاعة في الحدود. (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 240 - 241).

قلت: الذي استقر عليه المذهب: أن جاحد العاريَّة كالسارق، قطع به في "الإقناع" (¬1)، و"المنتهى" (¬2)، وغيرهما، والله أعلم. الثاني: لو سرق ثمرَ شجر، أو جُمَّارَ نخل، وهو الكَثَرُ قبلَ إدخاله الحرز؛ كأخذه من رؤوس نخل وشجر من البستان، لم يقطع، ولو كان عليه حائط وحافظ، ويضمن عوضه مرتين على معتمد المذهب، وكذا الماشية تُسرق من المرعى من غير أن تكون محرزة، فإنها تضمن بمثلي قيمتها، ولا قَطْعَ (¬3)؛ لما رواه الإمام أحمد، وأهل السنن من حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه -، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا قطعَ في ثَمَرٍ ولا كَثَرٍ" (¬4). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الثمر المعلق، قال: "من أصاب منه بفمه من ذي حاجة غيرَ متخذٍ خُبْنَةً، فلا شيءَ عليه، ومن خرج بشيء منه، فعليه غرامة مِثْلَيه، والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجَرينُ، فبلغَ ثمنَ المِجَنِّ، فعليه القطع" رواه أبو داود، والنسائي (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 251). (¬2) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 145). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 261). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 463)، وأبو داود (4388)، كتاب: الحدود، باب: ما قطع فيه، والنسائي (4960)، كتاب: قطع السارق، باب: ما لا قطع فيه، والترمذي (1449)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء: لا قطع في ثمر ولا كثر، وابن ماجه (2593)، كثاب: الحدود، باب: لا يقطع في ثمر ولا كثر. وقوله: "ولا كَثَر" هو بفتح الكاف والثاء: جمار النخل، وضبطه صاحب "الجمهرة" بسكون الثاء. انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 336). (¬5) رواه أبو داود (1710)، في كتاب: اللقطة، والنسائي (4958)، كتاب: قطع السارق، باب: الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين.

وفي رواية قال: سمعت رجلًا من مزينة يسأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحريسة التي تؤخذ في مراتِعها، قال: "فيها ثمنها مرتين، وضرب نَكال، وما أخذ من عطنه، ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمنَ المجن"، قال: يا رسول الله! فالثمارُ وما يؤخذ منها في أكمامها؟ قال: "من أخذ بفمه، ولم يتخذ خُبنة، فليس عليه شيء، ومن احتمل، فعليه ثمنُه مرتين، وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه، ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمنَ المجن" رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه بمعناه، وزاد النَّسائيُّ في آخر: "ما يبلغ ثمنَ المجن ففيه غرامةُ مِثْلَيه وجَلدات نَكال" (¬1). والخُبْنَةُ: -بضم الخاء المعجمة وسكون الموحدة فنون فهاء تأنيث-: ما تحمله في حِضْنك، وخبنَ الطعام يَخْبِنُهُ: غَيَّبَهُ وخَبَّأَهُ للشِّدَّةِ، كما في "القاموس" (¬2). واحتج الإمام أحمد - رضي الله عنه - بأن عمر -رضوان الله عليه- أغرم حاطبَ بنَ أبي بلتعة حين نحرَ غلمانهُ ناقةَ رجل من مُزينة مِثْلَي قيمتها، رواه الأثرم (¬3)، وهو من مفردات المذهب. قال ناظمُها: [من الرجز] وَسَارِقُ الثِّمَارِ مِنْ أَشْجَارِ ... ضَمَانُهَا بِالقِيمَتَيْنِ جَارِي كَذَلِكَ النَّصُّ أَتَى فِي الزَّرع ... ما أَخْذُ هَذَا فَانْتِفَاءُ القَطْعِ كَذَاكَ فِي المَاشِيَةِ الضَّمَانُ ... مِنْ غَيْرِ حِرْزِ أَخْذُهَا عُدْوَانُ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 203)، والنسائي (4959)، كتاب: قطع السارق، باب: الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين، وابن ماجه (2596)، كتاب: الحدود، باب: من سرق من الحرز. (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1539)، (مادة: خبن). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 105).

لكن معتمد المذهب: وغير الشجر والنخل والماشية إذا سرقه من غير حرز، فلا يضمن عوضه إلا مرة واحدة (¬1)؛ لأن التضعيف فيها على خلاف القياس للنص، فلا يتجاوز به محل النص (¬2). واعتذر بعض محدِّثي الشافعية عن الخبر بأنه كان حين كانت العقوبة بالأموال، ثم نُسخ، وهذه دعوى لا دليلَ لهم عليها، ثم إن في حكم سيدنا عمرَ على ابن أبي بلتعة ما يرد عذرهم. قال الإمام المحقق ابنُ القيم في "الهدي": أسقط - صلى الله عليه وسلم - القطعَ عن سارق الثمر والكَثَر، وحكم أن من أصاب منه شيئًا بفمه، وهو محتاج، فلا شيءَ عليه، ومن خرج منه بشيء، فعليه غرامة مِثْلَيه، والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا في جَرينه، وهو بَيْدَرُه، فعليه القطعُ إذا بلغ ثمنَ المجن، قال: فهذا قضاؤه الفصل، وحكمُه العدل، قال: وقضى في الشاة التي تؤخذ من مراتعها بثمنها مرتين، وضرب نكال، وما أُخذ من عطنه، ففيه القطعُ إذا بلغ ثمنَ المجن، انتهى (¬3). الثالث: يسوغ التعريض للسارق بعدم الإقرار، أو بالرجوع عنه، ويُطلب من المسروق منه أن يعفو عن قطع السارق قبلَ رفعه إلى الحاكم، لا بعد ذلك، ففي أبي داود، والنسائي عن عبد الله بن عمر [و]-رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد، فقد وجب" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 261). (¬2) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (6/ 140). (¬3) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 50 - 51). (¬4) رواه أبو داود (4376)، كتاب: الحدود، باب: العفو عن الحدود ما لم تبلغ =

وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَقيلوا ذَوي الهيئاتِ عَثَراتِهم، إلا الحدودَ" (¬1). وفي "موطأ الإمام مالك" عن ربيعةَ بنِ عبد الرحمن: أن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - لقي رجلًا قد أخذ سارقًا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان، فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا حتى أبلغَ به السلطان، فقال: إذا بلغت السلطان، فلعن الله الشافعَ والمشفعَ (¬2). وقضى - صلى الله عليه وسلم - بقطع سارقِ رداءٍ نام صفوانُ بنُ أمية عليه في المسجد، فأراد صفوان أن يهبه إياه، أو يبيعه منه، فقال: "هَلَّا كان قبل أن تأتيني به؟ "، روى قصته الإمامُ أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، زاد في رواية للإمام أحمد، والنسائي: فقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، والله تعالى الموفق. ¬

_ = السلطان، والنسائي (4885)، كتاب: قطع السارق، باب: ما يكون حرزًا وما لا يكون. (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 181)، وأبو داود (4375)، كتاب: الحدود، باب: في الحد يشفع فيه. (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 835). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 401)، وأبو داود (4394)، كتاب: الحدود، باب: من سرق من حرز، والنسائي (4879)، كتاب: قطع السارق، باب: الرجل يتجاوز للسارق عن سرقته، وابن ماجه (2595)، كتاب: الحدود، باب: من سرق من الحرز.

باب حد الخمر

باب حد الخمر اعلم أن الخمر محرَّم بالكتاب والسنَّة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]، والآية التي بعدها إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. قال أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن": يستفاد تحريمُ الخمر من هذه الآية من تسميتها رِجسًا، وقد سمّى به ما أجمع على تحريمه، وهو لحم الخنزير، ومن قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]؛ لأنه لما كان من عمل الشيطان، حرم تناوله، ومن الأمر بالاجتناب، وهو للوجوب، وما وجب اجتنابه، حرم تناوله، ومن الفلاح المرتَّب على الاجتناب، ومن كون الشرب سببًا للعداوة والبغضاء للمؤمنين، وتعاطي ما يوقع ذلك حرامٌ، ومن كونها تصدُّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، ومن ختام الآية بقوله تعالى: {مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]؛ فإنه استفهام معناه الردع والزجر، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - لما سمعها: انتهينا انتهينا (¬1). وسبق الرازي إلى نحو ذلك الطبريُّ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير الرازي" (6/ 86). (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (2/ 361).

وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وصححه الحاكم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: لما نزل تحريم الخمر، مشى أصحاب رسول الله بعضُهم إلى بعض، فقالوا: حُرِّمت الخمر، وجُعلت عدلًا للشرك (¬1) -يشير إلى تسميتها: رجسًا من عمل الشيطان-، فعادلت قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] إلى غير ذلك (¬2). وأما السنة، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مسكر خمرٌ، وكلُّ خمر حرامٌ" رواه الإمام أحمد، وأبو داود (¬3). وفي "أبي داود" عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله الخمرَ وشاربَها وساقيَها، وبائعَها ومبتاعَها، وعاصرَها، ومعتصرَها، وحاملَها والمحمولَة إليه" (¬4). ورواه ابن ماجه، وزاد: "وآكلَ ثمنها" (¬5). ورواه ابن ماجه أيضًا، والترمذي من حديث أنس بمعناه، وزاد فيه: "وبائعَها وآكلَ ثمنِها والمشتريَ لها والمشترَى له"، وفي أوله قال: لعن ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (12399)، والحاكم في "المستدرك" (7227). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 31). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 29)، وأبو داود (3679)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن المسكر، وكذا رواه مسلم (2003)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬4) رواه أبو داود (3674)، كتاب: الأشربة، باب: العنب يعصر للخمر. (¬5) رواه ابن ماجه (3380)، كتاب: الأشربة، باب: لعنت الخمر على عشرة أوجه.

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الخمر عشرةً (¬1)، قال الحافظ المنذري: رواته ثقات (¬2)، وروى نحوه الإمام أحمدُ بإسناد صحيح من حديث ابن عباس، وكذا ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد (¬3). وأما الإجماع: فأجمعت الأمة على تحريمه، وإن ما حكي عن قدامة بن مظعون، وعمرو بن معدي كرب، وأبي جندل بن سهل: أنهم قالوا: هي حلال، فبين لهم علماء الصحابة معنى هذه الآية، وتحريمَ الخمر، وأقاموا عليهم الحدَّ لشربهم إياه، فرجعوا إلى ذلك، فانعقد الإجماع على التحريم، فمن استحلها الآن، فقد كذب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قد عُلِمَ ضرورة من جهة النقل تحريمُه، فيكفر مستحلُّه، ويُستتاب، فإن تاب، وإلا قتل. روى الجوزجاني بإسناده عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن قدامةَ بنَ مظعون شرب الخمر، فقال له عمر: ما حملك على ذلك؟ فقال: إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]؛ وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأُحد، فقال عمر للقوم: أجيبوا الرجل، فسكتوا عنه، فقال لابن عباس أجبه، فقال: إنما أنزلها الله تعالى عذرًا للماضين لمن شربها قبل أن تُحَرَّم، وأنزل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] حجةً على الناس، ثم سأل عمرُ عن الحدِّ فيها، فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: إذا شرب هَذى، وإذا هذى افترى، فاجلدوه ثمانين، فجلده عمر ثمانين. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1295)، كتاب: البيوع، باب: النهي أن يتخذ الخمر خلًا، وابن ماجه (3381)، كتاب: الأشربة، باب: لعنت الخمر على عشرة أوجه. (¬2) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 175). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 316)، وابن حبان في "صحيحه" (5356)، والحاكم في "المستدرك" (2234).

وروى الواقدي أن عمر قال له: أخطأتَ التأويل يا قدامة، إذا اتقيت، اجتنبْ ما حرم الله عليك. وروى الخلال بإسناده عن محارب بن دثار: أن أناسًا شربوا بالشام الخمر، فقال لهم يزيد بن أبي سفيان: شربتم الخمر؟ قالوا: نعم، يقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا نهارًا، فلا تنتظر بهم إلى الليل، وإن أتاك ليلًا، فلا تنتظر بهم نهارًا حتى تبعث بهم إليّ؛ لئلا يفتنوا عبادَ الله، فبعث بهم إلى عمر، فشاور فيهم الناس، فقال لعلي: ما ترى؟ فقال: إنهم قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه، فإن زعموا أنها حلال، فاقتلهم، فقد أحلوا ما حَرَّم الله، وإن زعموا أنها حرام، فاجلدهم ثمانين ثمانين، فقد افتروا على الله، وقد أخبرنا بحد ما يفتري بعضُنا على بعض، قال: فحدهم عمر ثمانين ثمانين. إذا عرف هذا، فالمجمَع على تحريمه عصيرُ العنب إذا اشتدَّ وقذفَ زبدَهُ، وما عداه من الأشربة، فهو محرم (¬1)، وسنبينُ الخلاف، وذكر الصحيح منه فيما يأتي في كتاب: الأشربة -إن شاء اللهُ تعالى-. وذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب حديثين: ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 135 - 136).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الخَمْرَ، فَجَلَدَ بِجَرِيدٍ نَحْوَ أَرْبَعِينَ. قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفُّ الحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6391)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في ضرب شارب الخمر، و (6394)، باب: الضرب بالجريد والنعال، ومسلم (1706/ 35)، واللفظ له، إلا أنه قال: "بجريدتين"، و (1706/ 36 - 37)، كتاب: الحدود، باب: حد الخمر، وأبو داود (4479)، كتاب: الحدود، باب: الحد في الخمر، والترمذي (1443)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في حد السكران، وابن ماجه (2570)، كتاب: الحدود، باب: حد السكران. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 338)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 221)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 540)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 127)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 215)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 135)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1487)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 322)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 63)، و"عمدة القاري" للعيني (23/ 268)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 448)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 28)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 314).

(عن) أبي حمزة (أنسِ بنِ مالك) الأنصاريِّ ثم النجَّاريِّ (- رضي الله عنه -) خادمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي) -بضم الهمزة مبنيًا للمجهول، ونائب الفاعل الضمير في أتي يرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (برجل)، يحتمل أن يفسر هذا الرجل المبهم بالنعيمان، أو بابن النعيمان. قال في "مختصر الاستيعاب" (¬1) في ترجمة نعيمان بن عمرو: وقال أبو عمر: كان نعيمان رجلًا صالحًا على ما كان فيه من الدعابة، وكان له ابن قد انهمك في شرب الخمر، فجلده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها أربع مرات، وقال - صلى الله عليه وسلم - للذي لعنه: "لا تلعنْه؛ فإنه يحبُّ الله ورسوله"، قال: وقد روي ذلك في النعيمان نفسه (¬2). ويحتمل أن يفسر بعبد الله الملقب بحمار، ففي البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن رجلًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا، فأمر به فجُلد، فقال رجلٌ من القوم: اللهم العَنْه، ما أكثرَ ما يُؤتى به! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلعنوه، فوالله! -ما علمتُ- أنه يحبُّ الله ورسوله" أخرجه البخاري في باب: ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج عن الملة (¬3). وأخرج عن أبي هريرة، قال: أُتي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بسكران، فأمر بضربه، فمنا ¬

_ (¬1) هو كتاب: "روضة الأحباب في مختصر الاستيعاب" لأبي العباس أحمد بن حمدان الأذرعي الشافعي، المتوفى سنة (783 هـ). انظر: "هدية العارفين" للبغدادي (1/ 61). (¬2) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1529 - 1530). (¬3) رواه البخاري (6398)، كتاب: الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة.

من يضربه بيده، ومنا من يضربه بنعله، ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف، قال رجل من القوم: ما له؟! أخزاه الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكونوا أعوانَ الشيطان على أخيكم" (¬1). قال القاضي جلال الدين بن البلقيني في كتابه "الإفهام فيما في البخاري من الإبهام": الذي قال: اللهم العنه هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (¬2). (قد شرب الخمر، فجلده) - صلى الله عليه وسلم - (بجريد) من جرائد النخل (نحوَ أربعين) جلدةً، (قال) أنس - رضي الله عنه -: (وفَعَلَه) يعني: كان يجلد الشاربَ بجريد النخل أربعين جلدة خليفةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أبو بكر) الصديق -رضوان الله عليه-، (فلما كان عمر) بن الخطاب؛ يعني: وَلِيَ الخلافة بعد الصديق -رضوان الله عليهما- (استشار) عمرُ - رضي الله عنه - (الناسَ) من وجوه الصحابة المكرمين من أعيان الأنصار والمهاجرين -رضوان الله عليهم أجمعين-، (فقال عبد الرحمن) بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة -رضي الله عنهم-: (أخفُّ الحدود ثمانون) جلدة؛ يعني: حد القذف، ولأن السكران قل أن يسلم من الفرية على المسلمين، فلما كان في مظنة ذلك، نقل إلى حده، (فأمر به) بأن يجلد الشاربُ للخمر ثمانين جلدة سيدُنا (عمر) بن الخطاب، وذلك لما تمادى الناسُ في شرب المسكر، فاستقر حدُّ المسكر على ثمانين جلدة. وبهذا قال الإمام أحمد في أصح الروايتين عنه، وهو مذهب مالك، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6399)، كتاب: الحدود، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر، وأنه ليس بخارج من الملة. (¬2) وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 67).

والثوري، وأبي حنيفة، ومن تبعهم؛ لإجماع الصحابة، فإن عمر - رضي الله عنه - لمّا استشار الصحابة، وقال له عبد الرحمن ما قال، ضرب عمر السكرانَ ثمانين، وكتب به إلى خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بالشام. وروي أن عليًا - رضي الله عنه - قال في المشورة: إنه إذا سكر، هذى، وإذا هذى، افترى، فحدوه حدَّ المفتري. وروى ذلك الجوزجاني، والدارقطني، وغيرهما (¬1). وفي رواية عن الإمام أحمد: أن حده أربعون، اختاره أبو بكر، وهو مذهب الشافعي؛ لأن عليًا - رضي الله عنه - جلد الوليدَ بنَ عقبة أربعين، ثم قال: جلد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحبُّ إليّ، رواه مسلم، ولفظ "صحيح مسلم" عن حصين: أن المنذر بن المنذر قال: شهدتُ عثمان بن عفان أُتي بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان -أحدهما حمران-: أنه شرب الخمر، وشهد آخر: أنه رآه يتقاياها، فقال عثمان: إنه لم يتقاياها حتى شربها. فقال: يا علي! قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسنُ فاجلدهُ، فقال الحسن: ولّ حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبدَ الله بنَ جعفر قم فاجلده، فجلده، وعليٌّ يعدُّ حتى بلغ أربعين، ثم قال: أمسك، ثم قال: جلد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحبُّ إلي (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 157)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 320)، من حديث عبد الرحمن بن أزهر - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (1707/ 38)، كتاب: الحدود، باب: حد الخمر. وانظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 137).

قال الحافظ عبد الحق: لم يخرج البخاري هذا الحديث، لكن ذكر أن عثمان جلد الوليدَ أربعين، وفي رواية: ثمانين، قال: والأول أصح، ذكره في هجرة الحبشة في مناقب عثمان، وقال: ثم دعا عليًا - رضي الله عنه -، فأمره أن يجلده، فجلده ثمانين (¬1). تنبيهات: الأول: لا يخفى أن صنيع الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- أن هذا الحديث من متفق الشيخين، وليس كذلك، بل خرجه الإمام أحمد (¬2)، ومسلم في "صحيحه"، وأبو داود، والترمذي، وصححه (¬3)، ولم يخرجه البخاري، بل وافق مسلمًا (¬4) في إخراج حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين. قال الحافظ عبد الحق في "جمعه بين الصحيحين": لم يذكر البخاري مشورةَ عمر، ولا فتوى عبد الرحمن بن عوف، وحديثه عن أنس، قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، ولم يقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أربعين (¬5). وأخرج الإمام أحمد، والبخاري عن عقبة بن الحارث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3493)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عثمان بن عفان. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 176). (¬3) وتقدم تخريجه عندهم. (¬4) في "ب": "مسلم". (¬5) انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (2/ 640)، حديث رقم (2932، 293).

أُتي بالنعيمان، أو ابن النعيمان وهو سكران، فشق عليه، وأمر مَنْ في البيت أن يضربوه، فضربوه بالجريد والنعال، فكنت فيمن ضربه (¬1). وأخرج الإمام أحمد، والبخاري أيضًا، عن السائب بن زيد، قال: كنّا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي إمارة أبي بكر، وصدرٍ من إمارة عمر، فنقوم إليه فنضربه به بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان صدرًا من إمارة عمر، فجلد فيها أربعين، حتى إذا عتوا فيها، وفسقوا، جلد ثمانين (¬2). الثاني: كلُّ شراب أسكرَ كثيرُ، فقليلُه حرام، من أي شيء كان، ويسمى: خمرًا، ولا يجوز شربه للذة، ولا لتداوٍ، ولا عطش؛ بخلاف ماءٍ نجس. والحاصل: أنه لا يجوز شرب المسكر بحال إلا لمكرَه، أو مضطر إليه لدفع لقمة غَصَّ بها، وليس عنده ما يُسغيها به، ويقدم عليه بول، ويقدم عليهما نجس (¬3). وفي "المغني" (¬4) وغيره: إن شربها لعطشٍ، فإن كانت ممزوجة بما يروي من العطش، أبيحت لدفعه عند الضرورة، وإن شربها صرفًا، أو ممزوجة بشيء يسير لا يروي، لم تبح، وعليه الحد، انتهى (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 8)، والبخاري (6392)، كتاب: الحدود، باب: من أمر بضرب الحد في البيت. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 449)، والبخاري (6397)، كتاب: الحدود، باب: الضرب بالجريد والنعال. (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 239). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 137). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 239).

الثالث: متى شرب المسلمُ المكلف شيئًا من المسكرات مختارًا عالمًا أن كثيره يُسكر، سواء كان من عصير العنب أو غيره من المسكرات، قليلًا كان أو كثيرًا، ولو لم يسكر الشارب، فعليه الحد ثمانون جلدة إن كان حرًا، وعلى الرقيق أربعون، ولا حدَّ ولا إثمَ على مكرَه على شربها، سواء أُكره بالوعيد، أو بالضرب، أو ألجىء إلى شربها بأن يُفتح فوه ويُصبَّ فيه، وصبرُه على الأذى أولى من شربها (¬1). وقالت طائفة: لا يُحد إلا إن سكر، منهم: أبو وائل، والنخعي، وكثير من أهل الكوفة، وأصحاب الرأي. وقال أبو ثور: من شربه معتقدًا تحريمه، حُدَّ، ومن شربه متأولًا، فلا حد عليه؛ لأنه مختلف فيه، فأشبه النكاح بلا ولي. ومعتمد المذهب: يُحد بكل حال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمر، فاجلدوه" رواه أبو داود (¬2)، وغيره، وقد ثبت أن كل مسكر خمر كما يأتي بيان ذلك في كتاب الأشربة مستوفى، فيتناول الحديث قليله وكثيره، ولأنه شراب فيه شدة مطرِبة، فوجب الحدُّ بقليله كالخمر، والاختلاف فيها لا يمنع وجوبَ الحد فيها؛ بدليل ما لو اعتقدَ تحريمها، وبهذا فارق النكاحَ بلا ولي وغيرَه من المختلَف فيه، وقد حَدَّ عمر - رضي الله عنه - قدامة بن مظعون وأصحابه مع اعتقادهم حِلَّ ما شربوه، والفرقُ بين هذا وبين سائر المختلَف فيه من وجهين: أحدهما: إن فعلَ المختلَف فيه هنا داعية إلى فعل ما أُجمع على ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4485)، من حديث قبيصة بن ذؤيب - رضي الله عنه -.

تحريمه، وفعل سائر المختلف فيه يصرف عن جنسه من المجمَع على تحريمه. الثاني: أن السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استفاضت بتحريم المختلَف فيه، فلم يبق فيه لأحد عذر في اعتقاد إباحته، بخلاف غيره من المجتهدات. قال أحمد بن قاسم: سمعت أبا عبد الله؛ يعني: الإمام أحمد - رضي الله عنه - يقول: في تحريم المسكر عشرون وجهًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في بعضها: "كل مسكر خمر"، وبعضها "كل مسكر حرام" (¬1)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجهما. وانظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 136 - 137).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، هَانِىءِ بْنِ نِيَارٍ البَلَوِيِّ: أَنَّهُ سَمعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إلا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ" (¬1). * * * (عن أبي بُرْدَةَ هانِىء) -بنون بعدها همزة- (بن) عمرو بن (نِيَارٍ) -بنون مكسورة فمثناة من تحت مخففة بلا همز- والأشهر تقديم نيار على عمرو؛ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6456، 6458)، كتاب: المحاربين، باب: كم التعزير والأدب، ومسلم (1708/ 40)، كتاب: الحدود، باب: قدر أسواط التعزير، واللفظ له، وأبو داود (4491)، كتاب: الحدود، باب: في التعزير، والترمذي (1463)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء في التعزير، وابن ماجه (2601)، كتاب: الحدود، باب: التعزير. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (3/ 341)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 249)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 247)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 138)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 221)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 137)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1493)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 176)، و"عمدة القاري" للعيني (24/ 24)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 34)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 37)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 328).

أي: هانىء بن نيار بن عمرو (البَلَوِيِّ)، نسبة إلى بَلِيّ -بفتح الباء الموحدة وكسر اللام وتشديد الباء-، وتقدمت ترجمته في الأضحية. (أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يُجلد) الشخصُ المؤمن من ذكر أو أنثى (فوق عشرة أسواط) جمع سوط، وهو المِقْرَعة، سميت بذلك؛ لأنها تخلط اللحم بالدم، وأصل السوط: الخلط، وهو أن تخلط شيئين في إنائك، ثم تضربهما بيدك حتى يختلطا، ويجمع على سياط أيضًا (¬1). (إلا في حَدٍّ من حدود الله) تعالى المقدَّرة، وقد اختلف السلف في مدلول هذا الحديث، فأخذ بظاهره الإمام أحمد في المشهور عنه، والليث، وإسحاق، وبعض الشافعية. قال علماؤنا، منهم صاحبُ "الشرح" وغيره: لا يزاد في التعزير على عشر جلدات إلا في مواضع: منها: إذا وطىء أمة امرأته، فعليه الحد، إلا أن تكون أحلتها له، فيجلد مئة، ولا يرجم، ولا يغرب، وإن أولدَها، لم يلحقه نسبُه، ولا يسقط الحدُّ بالإباحة في غير هذا الموضع. ومنها: إذا وطىء جارية مشتركة بينه وبين غيره، فيعزر بمئة إلا سوطًا. وعن الإمام أحمد رواية مرجوحة: ما كان سببه الوطء؛ كوطء جاريته المزوجة، وجارية ولده، أو أحد أبويه، والمحرَّمة برضاع، ووطء ميتة ونحوه عالمًا بتحريمه، إذا قلنا: لا يُحدّ فيهن، يعزر بمئة، والعبد بخمسين إلا سوطًا، واختاره جماعة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 868)، (مادة: سوط). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 245).

قال في "شرح المقنع": الرواية الثانية عن الإمام أحمد: يزاد على عشرة، ولا يبلغ الحد، وهو الذي ذكره الخرقي، فيحتمل أنه أراد: لا يبلغ به أدنى حد مشروع، وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي، فعلى هذا لا يبلغ به أربعين سوطًا؛ لأنها جلد العبد في الخمر والقذف، وهذا قول أبي حنيفة. وعلى القول بأن حدّ الخمر أربعون، لم يبلغ به عشرين سوطًا في حق العبد، وأربعين في حق الحر، وهذا مذهب الشافعي، فلا يزاد العبد على تسعة عشر سوطًا، ولا الحر على تسعة وثلاثين. وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف: أدنى الحدود ثمانون، فلا يزاد في التعزير على تسعة وسبعين. قال في "الشرح": ويحتمل كلام الإمام أحمد والخرقي أَلَّا يبلغ بكل جناية حدًا مشروعًا في جنسها، ويجوز أن تزيد على غير جنسها، وما كان سببه الوطء، لم يبلغ به أدنى الحدود (¬1). قلت: الذي استقر عليه مذهب الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أَلَّا يزاد في التعزير على عشرة أسواط، إلا في ثلاثة مواضع: الأول: فيما إذا وطىء أمةَ زوجته التي أحلتها له، فيجلد مئة سوط. الثاني: إذا وطىء أمة مشتركة، فيجلد مئة إلا سوطًا. الثالث: إذا شرب مسكرًا نهار رمضان، فيعزر بعشرين سوطًا مع الحد؛ اتباعًا للآثار، وما عدا هذه المواضع الثلاثة، فلا يزاد على عشر جلدات. ويجوز نقص التعزير عن العشر؛ إذ ليس أقله مقدرًا، فيرجع إلى اجتهاد ¬

_ (¬1) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 353 - 354).

الإمام أو الحاكم فيما يراه، وما يقتضيه حال الشخص (¬1). وقال الإمام مالك: يجوز أن يزاد التعزير على الحد إذا رآه الإمام (¬2)؛ لما روي أن معن بن زائدة عمل خاتمًا على نقش خاتم بيت المال، ثم جاء به صاحب بيت المال، فأخذ منه مالًا، فبلغ عمرَ بنَ عبد العزيز، فضربه مئة، وحبسه، فكلم فيه، فضربه مئة أخرى، فكلم فيه من بعد، فضربه مئة، ونفاه (¬3). وروى الإمام أحمد بإسناده: أن عليًا - رضي الله عنه - عندما أتي بالنجاشي وقد شرب خمرًا في رمضان، فجلده ثمانين الحد، وعشرين سوطًا لفطره في رمضان (¬4). ولنا: ما رواه الشافعي بإسناده، مع حديث أبي بردة المذكور: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من بلغ حدًا في غير حد، فهو من المعتدين" (¬5)، ولأن العقوبة على قدر الجريمة، والمعاصي المنصوص على حدودها أعظمُ من غيرها، فلا يبلغ في أهونِ الأمرين عقوبة أعظمِهما، وقصةُ مَعْنٍ، فلعله كانت له ذنوب كثيرة، أو تكرر منه الأخذ، ولأن ذنبه قد اشتمل على عدة ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 245). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 246). (¬3) ذكره ابن قدامة في "المغني" (9/ 148). (¬4) لم أقف عليه في "المسند"، ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (28691)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 321). (¬5) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 327)، من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -، قال: والمحفوظ مرسل. ولم يروه الشافعي كما ذكر الشارح -رحمه الله-، وانظر: "الدراية" لابن حجر (2/ 107).

جنايات، منها: تزويره، ومنها: أخذه لمال بيت المال بغير حقه، ومنها: فتحه لباب هذه الحيلة. وأما حديث علي مع النجاشي، فالإمام أحمد يقول به، ويذهب إليه، فمذهبه: أن من شرب الخمر في نهار رمضان أن يُحد حدَّ الشرب، ثم يُعزر بعشرين سوطًا (¬1)، والله تعالى الموفق. تنبيهان: الأول: التعزير هو: التأديب، وهو كل معصية لا حدّ فيها؛ كمباشرة دونَ فرج، وامرأةٍ لامرأة، وسرقةٍ لا قطعَ فيها، وجنايةٍ لا قودَ فيها، وقذفِ غيرِ ولدِه بغيرِ زنا، ولعنه، وليس لمن لُعن ردُّها، وكدعاء عليه، وشتمِه بغير فرية، وكَسَبِّ صحابيّ، وغيرِ ذلك. وقال شيخ الإسلام: لا نزاع بين العلماء أن غير المكلف؛ كالصبيِّ المميز يعاقَب على الفاحشة تعزيرًا بليغًا، وكذا المجنون يُضرب على ما فعل؛ لينزجر. وفي "الرعاية" وغيرها: ما أوجب حدًا على مكلف، عُزِّرَ به المميزُ؛ كالقذف. وقال القاضي أبو يعلى: إذا تشاتم والد وولده، لم يعزر الوالدُ لحق ولده، ويعزر الولد لحقه بطلبه، ولا يحتاج التعزير إلى مطالبة في غير هذه الصورة (¬2). الثاني: يكون التعزير بالضرب والحبس والصفع والتوبيخ والعزل من ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 148 - 149). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 243).

الولاية، وإن رأى الإمام العفو عنه، جاز، لا بقطع شيء منه، ولا بجرحه، ولا بأخذ شيء من ماله. قال شيخ الإسلام: وقد يكون التعزير بالنيل من عرضه؛ مثل يقال له: يا ظالم! يا معتدي! وبإقامته من المجلس. وقال أيضًا: التعزير بالمال سائغ إتلافًا وأخذًا. قال: وقول أبي محمد -يعني: الموفق-: لا يجوز أخذُ ماله؛ إشارة منه إلى ما يفعله الحكام الظلمة (¬1)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (4/ 246).

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنذور الأيمان: جمع يمين، وهو القسم، ويُجمع على أيمُن أيضًا، قيل: سمي بذلك؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا، ضرب كل امرىء منهم يمينه على يمين صاحبه. واليمينُ: توكيدُ الحكم بذكر معظَّم على وجه مخصوص، فاليمين وجوابها جملتان يرتبط إحداهما بالأخرى ارتباطَ جملتي الشرط والجزاء؛ كقولك: أقسمتُ بالله لأفعلنَّ، ولها حروف يُجَر بها القسم، وحروف يُجاب بها القسم، وأحكام غير ذلك (¬1). والنذور: جمع نَذْر، ويأتي الكلام عليه في الباب الآتي. وذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- في هذا الباب سبعة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 387).

[باب]

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ؛ فَإنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وُكلْتَ إِلَيْها، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6248)، كتاب: الأيمان والنذور، و (6343)، باب: الكفارة قبل الحنث وبعده، و (6727)، كتاب: الأحكام، باب: من لم يسأل الإمارة، أعانه الله عليها، و (6728)، باب: من سأل الإمارة وكل إليها، ومسلم (1652)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا، فرأى غيرها خيرًا منها، وأبو داود (3277 - 3278)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الرجل يكفر قبل أن يحنث، والنسائي (3782 - 3784)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الكفارة قبل الحنث، و (3789 - 3790)، باب: الكفارة بعد الحنث، والترمذي (1529)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء فيمن حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 50)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 10)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 116)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 141)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1499)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 325)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 609)، و"عمدة القاري" للعيني (23/ 164)، و"إرشاد =

(عن) أبي سعيد (عبدِ الرحمن بنِ سَمُرَةَ) -بضم الميم- بنِ حبيب بنِ عبد شمس بنِ عبد منافٍ القرشيِّ، أسلم يوم الفتح، صحب النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه، وكان اسمه عبدَ كلاب، وقيل: عبد كلوب، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: عبدَ الرحمن، عدادُه في أهل البصرة، وهو الذي فتح سجستان، وكابل لعبد الله بن عامر بن كُرْزِ، ولم يزل بها إلى أن اضطرب أمرُ عثمانَ بنِ عفان، فخرج عنها، واستخلف رجلًا من بني يشكر، ومات بالبصرة سنة إحدى وخمسين، وهو أول من دفن بها من الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-. روى عنه: ابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وابن المسيب، وغيرهم. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر حديثًا، اتفقا على واحد، وهو هذا الحديث الآتي ذكره، وانفرد مسلم بحديثين (¬1). (قال) عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه -: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عبد الرحمن!) ناداه بـ "يا" مع كونه حاضرًا، وهي لنداء البعيد؛ لأجل الاهتمام والاعتناء بذلك. (لا تسأل الإمارة) والإِمرة -بالكسر-، والأمير: الملك، وفلان أمير بين ¬

_ = الساري" للقسطلاني (9/ 363)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 158). (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 242)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 238)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 835)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (34/ 414)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 450)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 276)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 157)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 571)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 310)، و"تهذيب التهذيب" له أيضا (6/ 173).

الإمارة، وتفتح الهمزة كما في "القاموس"، والجمع: أمراء (¬1). وفي "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن قومًا دخلوا عليه، فسألوه ولاية، فقال: "إنّا لا نولِّي أمرَنا هذا من طلبه" (¬2). (فإنك إن أُعطيتها)، أي: الإمارة (عن مسألة) مقدمة منك لها (وُكلت إليها)، وقد قال -عليه السلام-: "من طلب القضاء، واستعان عليه، وُكِلَ إليه، ومن لم يطلب القضاء، ولم يستعن عليه -يعني: يستعين على طلبه بنحو شفاعة-، أنزل الله إليه مَلَكًا يسدِّده" رواه أهل "السنن" (¬3)، وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإن أُعطيتها)، أي: الإمارة (عن غير مسألة) منك لها (أُعِنْت) -بضم الهمزة وكسر العين المهملة مبنيًا لما لم يسمّ فاعله-؛ أي: أعانك الله (عليها) بتوفيق الله وتسديده، وإرشاده وتأييده. وفي "مستدرك الحاكم": أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ولي من أمر المسلمين شيئًا، وهو يجد من هو أصلحُ للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" (¬4). وفي رواية: "من قَلَّدَ رجلًا على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة من ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 439)، (مادة: أمر). (¬2) رواه البخاري (6730)، كتاب: الأحكام، باب: ما يكره من الحرص على الإمارة، ومسلم (1733)، كتاب: الإمارة، باب: النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، بلفظ: "إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه". (¬3) رواه أبو داود (3578)، كتاب: الأقضية، باب: في طلب القضاء والتسرع إليه، والترمذي (1324)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي، وابن ماجه (2309)، كتاب: الأحكام، باب: ذكر القضاة. (¬4) انظر: تخريج الحديث الآتي.

هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" (¬1). وروى بعضهم أن من قول عمر لابن عمر -رضي الله عنهما-: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: من ولي من أمر المؤمنين شيئًا، فولى رجلًا لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين (¬2). وعن عوف بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي"، فناديت بأعلى صوتي: وما هي يا رسول الله؟ قال: "أولُها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثُها عذابٌ يوم القيامة، إلا من عدل، وكيف يعدلُ مع أقربيه؟! " رواه البزار، والطبراني في "الكبير"، ورواته رواة الصحيح (¬3). ورواه الطبراني أيضًا بإسناد حسن من حديث أبي هريرة، ولفظه: "الإمارة أولُها ندامة، وأوسطها غرامة، وآخرها عذابٌ يوم القيامة" (¬4). ورواه الإمام أحمد من حديث أبي أمامة مرفوعًا، ولفظه: "ما من رجل يلي أمرَ عشرة فما فوقَ ذلك، إلا أتى اللهَ مغلولًا يوم القيامة يدُه إلى عنقه، فَكَّه بِرُّه، أو أوثقه إثْمُه، أولُها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (7023)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 352)، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 247)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) لم أقف عليه. (¬3) رواه البزار في "مسنده" (5/ 200 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 71)، وفي "المعجم الأوسط" (6747). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5616). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 267)، والطبراني في "المعجم الكبير" =

وفي "صحيح مسلم" عن أبي ذر - رضي الله عنه -، قال: قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؛ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: "يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزْيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها" (¬1). وفي "البخاري"، و"سنن النسائي" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنكم ستحرِصون على الإمارة، وستكون ندامةً يوم القيامة، فنِعْمَتِ المُرضعةُ، وبِئْسَتِ الفاطِمَةُ" (¬2). وفي "صحيح ابن حبان" عنه مرفوعًا: "ليوشكنَّ رجلٌ أن يتمنى أنه خَرَّ من الثريا، ولم يلِ من أمر الناس شيئًا" (¬3). والأخبار والآثار في مثل هذا كثيرةٌ جدًا (¬4). ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه -: (وإذا حلفت على يمين) منكرَةٍ, (فرأيت) من الرأي والعلم والاعتقاد؛ أي: علمت واعتقدت (غيرها)؛ أي: غيرَ إمضائها والتصميم على مقتضاها (خيرًا منها) بأن كان الحنث خيرًا من التمادي على اليمين، (فكفر عن ¬

_ = (7720)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (599)، وغيرهم. (¬1) رواه مسلم (1825)، كتاب: الإمارة، باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة. (¬2) رواه البخاري (6729)، كتاب: الأحكام، باب: ما يكره من الحرص على الإمارة، والنسائي (4211)، كتاب: البيعة، باب: ما يكره من الحرص على الإمارة. (¬3) رواه ابن حبان في "صحيحه" (4483)، والحاكم في "المستدرك" (7015)، واللفظ له. (¬4) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 111)، وما بعدها.

يمينك) التي حلفت حيث حنثت، (وائتِ) الفعلَ (الذي هو خيرٌ) من الذي حلفت عليه. قال الإمام ابن القيم: لو حلف على ترك شيء، لم يجزله هتكُ حرمة المحلوف به بفعله إلا بالتزام الكفارة، فإذا التزمها، جاز له الإقدام على فعل المحلوف عليه، فلو عزم على ترك الكفارة، فإن الشارع لا يُبيح له الإقدامَ على فعل ما حلف عليه، ولم يأذن له فيه، وإنما يأذن فيه ويبيحه إذا التزم ما فرض عليه من الكفارة، فيكون إذنه له فيه، وإباحته بعد امتناعه منه بالحلف أو التحريم رخصةً من الله له، ونعمةً منه عليه بسبب التزامه لحكمه الذي فرض له من الكفارة، فإذا لم يلتزمه، بقي المنع الذي عقده على نفسه إصْرًا عليه، فإن الله إنما رفع الآصار عمن اتقاه والتزم حكمه. وقد كانت اليمين في شرع مَنْ قبلَنا يتحتَّم الوفاء بها، ولا يجوز الحنثُ فيها، فوسَّع الله على هذه الأمة، وجوَّزَ الحنثَ بشرط الكفارة، فإذا لم يُكَفِّرْ، لا قبلُ ولا بعدُ، لم يوسَّع له في الحنث. وقال ابن القيم أيضًا في أثناء كلام له: لم يتضمن الحكم في اليمين هتكَ حرمة الاسم؛ فإنه تعليل فاسد جدًا؛ فإن الحنث إما جائز، وإما واجب، أو مستحب، وما جوَّزَ الله لأحد ألْبَتَّةَ أن يهتك حرمة اسمه، وقد شرع لعباده الحنثَ مع الكفارة، وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا حلف على يمين، ورأى غيرَها خيرًا منها، كَفَّرَ عن يمينه، وأتى المحلوفَ عليه، ومعلومٌ أن هتك حرمة اسمه -تبارك وتعالى- تَحِلَّةٌ، وهي تَفْعِلَةٌ من الحِلِّ، فهي تحل ما عقدته اليمينُ ليس إلا، انتهى (¬1). وهذا الحديث ونحوه ينظر إلى قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 315 - 317).

لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224] الآية، فإنها نزلت فيمن حلف أَلَّا يفعل شيئًا، وكان حنثُه أولى، والعُرْضَة أصلها الشدة والقوة، فمعنى الآية: لا تجعلوا الحلف بالله سببًا مانعًا من البر والتقوى، يُدعى أحدُكم إلى صلة رحم أو بر، فيقول: حلفت بالله أَلَّا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البر، وفي الآية التي في المائدة: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، ثم بين الكفارة، ثم قال تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وحنثتم، {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]، فلا تنكثوها إن لم تكن على ترك مندوب، أو فعلِ مكروه، فإن كانت على شيء من ذلك، فالأولى الحنثُ والتكفير، هذا معتمد المذهب، وعليه جماهير العلماء، وقطعَ به كثيرٌ من علمائنا وغيرهم. وقدم في "الترغيب" من علمائنا: أن بره وإقامته على يمينه أولى (¬1). قال في "شرح الكافي": وهذا ضعيف مصادم للأحاديث والآثار الواردة في ذلك. فائدة: يحرم الحِنْثُ إن كان معصية؛ بأن كانت اليمين على فعل واجب، أو ترك محرم، فحنثه حرام بلا نزاع، وإن حلف ليفعلن شيئًا حرامًا أو محرمًا، وجب أن يحنث، ويُكَفِّر، وإن فعله، أثم بلا كفارة كما قدمه في "الرعاية"، و"الحاوي"، وإن كان حلفه على فعل مندوب، أو ترك مكروه، فيحتسب بره، ويُكره حنثه، وحل اليمين في المباح مباح، وحفظها فيه أولى (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 310). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (11/ 28).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ، فَأَرَى غَيْرَها خَيْرًا مِنْهَا، إِلأَ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2964)، كتاب: الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، و (4124)، كتاب المغازي، باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن، و (5199)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحم الدجاج، و (6249)، كتاب: الأيمان والنذور، و (6273)، باب: لا تحلفوا بآبائكم، و (6302)، باب: اليمين فيما لا يملك، وفي المعصية وفي الغضب، و (6340)، كتاب: كفارات الأيمان، باب: الاستثناء في الأيمان، و (6342)، باب: الكفارة قبل الحنث وبعده، و (7116)، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، ومسلم (1649/ 7 - 10)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها، وأبو داود (3276)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الرجل يكفر قبل أن يحنث، والنسائي (3779)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، و (3780)، باب: الكفارة قبل الحنث، وابن ماجه (2107)، كتاب: الكفارات، باب: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 405)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 627)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 108)، و"شرح =

(عن أبي موسى) عبدِ الله بن قيسِ بنِ عامرِ الأشعريِّ (- رضي الله عنه -) -تقدمت ترجمته في السواك، (قال) أبو موسى: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني واللهِ إن شاء اللهُ) أتى بالاستثناءِ المأمور به في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23]، فكان عليه ذلك واجبًا. (لا أحلف على يمين) مكفَّرَةٍ، (فأرى غيرَها)؛ أي: غيرَ ذلك الذي حلفتُ عليه (خيرًا منها)؛ أي: من إمضاء اليمين التي حلفتها؛ بأن كان الحلف على ترك مندوب أو واجب، أو فعل مكروه أو محرم، (إلا أتيت الذي هو خير) من فعلِ المطلوب، وتركِ المكروه (وتَحَلَّلْتُها) -بفتح المثناة فوق والحاء المهملة واللام الأولى مشددة، وسكون اللام الثانية، وضم التاء المثناة فوق ضمير المتكلم-؛ أي: إلا اكتسب حلها بالكفارة؛ من قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَحِلَّة القسم" (¬1)؛ أي: تحليلها، قيل: هو قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم: 68] إلى قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]، وهو الجواز على الصراط، أو عليها وهي خامدة كالإهالة، وقيل: المراد: سرعة الجواز عليها، وقلةُ أَمَدِ الورود، يقال: ما فعلت ذلك إلا تحليلًا، ¬

_ = عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 143)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1506)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 609)، و"عمدة القاري" للعيني (15/ 57)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 376)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 135). (¬1) رواه البخاري (1193)، كتاب: الجنائز، باب: فضل من مات له ولد فاحتسب، ومسلم (2632)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

أي: تغريرًا، يضرب مثلًا لمن يقصد تحليل يمينه بأقلِّ ما يمكن (¬1). وسبب هذا الحديث كما في "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رهط من الأشعريين نستحمله، وفي رواية: أسأله لهم الحملان -إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك-، فقال: "والله لا أحملُكم، ولا عندي ما أحملكم عليه"، قال: فلبثنا ما شاء الله، ثم أُتي بإبل، فأمر لنا بثلاثِ ذَوْدٍ غُرّ الذرا، وفي رواية: بستة أبعرة ابتاعهن من سعد، وفي لفظ: فأمر لنا بخمسة ذود غر الذرا، فلما انطلقت، قلنا، أو قال بعضنا لبعض: لا يباركُ اللهُ لنا، أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نستحمله، فحلف لا يحملُنا، ثم حملَنا، فأتوها فأخبروه، وفي رواية: فرجعنا إليه فقلنا: يا رسول الله! إنا أتيناك نستحملك، وإنك حلفت لا تحملنا، ثم حملتنا، أفنسيت يا رسول الله؟ فذكر الحديث، وفي رواية: فقال: "ما أنا حملتُكم، ولكن الله حملكم، وإني والله لا أحلف على يمين، ثم أرى خيرًا منها، إلا كَفَّرْتُ عن يميني، وأتيتُ الذي هو خير" (¬2)، فذكر المصنف -رحمه الله تعالى- الحديثين، مع كون مدلولهما واحدًا؛ إشارة إلى كونه - صلى الله عليه وسلم - شرع ذلك بقوله كما في الحديث الأول، وبفعله كما في الحديث الثاني. تنبيهات: * الأول: لا تصح اليمين ولا تنعقد إلا من مكلَّف مختار، قاصدٍ اليمين، وتصح من كافر، وتلزمه الكفارةُ بحنثه، سواء حَنِث في كفره، أو بعده. ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 196). (¬2) تقدم تخريج سبب الحديث وألفاظه قريبًا.

وقال أبو حنيفة، ومالك: لا تنعقد يمين الكافر، وسواء عندهما حنث حال كفره، أو بعد إسلامه. وقال أبو حنيفة وحده: تنعقد يمين المكرَه (¬1). * الثاني: الحلفُ تعتريه الأحكام الخمسة: فيجب: مثل: أن ينجِّي به إنسانًا معصومًا، ولو نفسَه؛ مثل: أن تتوجه أيمان القسامة في دعوى القتل عليه، وهو بريء. ويندب: مثل: أن يتعلق به مصلحة من إصلاح بين متخاصمين، أو إزالة حقد من قلب مسلم من الحالف أو غيره، أو دفع شر، فإن حلف على فعل طاعة، أو ترك معصية، فليس بمندوب: ويباح: كالحلف على فعل مباح أو تركه، أو على الخبر بشيء هو صادق فيه، أو يظن أنه فيه صادق. ويكره: كالحلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب، ومنه: الحلف في البيع والشراء. ويحرم: وهو أن يحلف كاذبًا عمدًا، أو على فعل معصية، أو ترك واجب (¬2). واتفق الأئمة على أن من حلف على فعل طاعة، لزمه الوفاء بذلك، ثم اختلفوا هل له أن يعدل عن الوفاء بها إلى الكفارة مع القدرة على فعلها؟ فقال أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز. وقال الشافعي: الأولى أَلَّا يعدل، فإن عدل، جاز، ولزمته الكفارة. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 385). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 335 - 336).

وعن مالك روايتان كالمذهبين. قال الإمام أبو المظفر عونُ الدين بنُ هبيرة: اتفقوا على أنه لا يجوز أن يجعل اسم الله عرضة للإيمان يمنع من بر وصلة، فإن حلف، فالأولى له أن يحنث إذا حلف على ترك البر، ويُكَفِّر (¬1). وهذا كما قدمنا من شرح الحديث. قال في "الفروع"، وفي "الإفصاح": يلزم الوفاء بالطاعة، وإنه عند الإمام أحمد لا يجوز عدول القادر إلى الكفارة. قال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-: لم يقل أحد: إنها توجب إيجابًا، أو تحرم تحريمًا لا ترفعه الكفارة (¬2). * الثالث: اليمين التي توجب الكفارة إذا حنث: هي اليمين بالله تعالى، وبسائر أسمائه الحسنى ممَّا لا يُسمى به غيره تعالى، وبصفة من صفاته؛ كوجه الله، وعظمته، وعزته، وقدرته، وإرادته، وعلمه، وهذا باتفاق، إلا أن أبا حنيفة استثنى علم الله، فلم يره يمينًا (¬3). وأما ما يُسمى به غيره، وإطلاقُه ينصرف إلى الله؛ كالعظيم، والرحيم، والرب، والمولى، والرازق، فإن نوى به، أو أطلق، كان يمينًا، وإن نوى غيره، فليس بيمين. وما لا يعد من أسمائه، ولا ينصرف إطلاقه إليه، ويحتمله؛ كالشيء، والموجود، والحي، والعالم، والمؤمن، والواحد، والكريم، والشاكر، ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 320). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 311). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 320).

فإن لم ينو به الله، أو نوى به غيره، لم يكن يمينًا، وإن نواه، كان يمينًا، فإذا قال: وعلمِ الله لأفعلنَّ كذا، أو لا فعلتُ كذا، فهذا يمينٌ عند الثلاثة (¬1). وقال أبو حنيفة: لا يكون يمينًا استحسانًا. قال الوزير ابنُ هبيرة: الذي أراه في هذا: أن أبا حنيفة لم يكن مرتابًا في علم الله؛ فإنَّ علم الله صفة من صفات ذاته، فإذا حلف بها حالف، وحنث، لزمته الكفارة، وإنما الذي أراه في مقصده لذلك: أن العلم يتناول المعلوماتِ كلَّها، فإذا قال القائل: وعلمِ الله، فيجوز أن يصرف أن الله قد علم منه أنه ما أراد إلا عزمه وقصده وتصحيحه، ويجوز أن يكون قد حلف بصفة الله التي هي العلم، فلما تردد الأمر في احتمال هذا النطق بين هذين المعنيين، لم ير انعقاد اليمين به. قال الوزير: ثم إنني بعد كلامي هذا، علمت أن المروزي، وأبا زيد ذَكَرا نحوًا منه (¬2)، واختلفوا فيما إذا قال: وحقِّ الله، فقال الثلاثة: تنعقد يمينه. وقال أبو حنيفة: لا يكون يمينًا. واختلفوا فيما إذا حلف بالمصحف، فقال مالك وأحمد: تنعقد يمينه، فإن حنث، فعليه الكفارة، وهو مذهب الشافعي أيضًا. قال ابن هبيرة: وقد نقل في ذلك خلاف، لكن عَمَّن لا يُعتد بقوله. وكذا قال ابن عبد البر: إن المخالِف في هذا لا يُعتد بقوله، وبسط ابن عبد البر المقالة في ذلك في كتابه "التمهيد" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 337). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 322). (¬3) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (14/ 369)، وانظر: "الإفصاح" لابن هبيرة =

وقد قيل: إنه إذا حلف بالمصحف، وحنث، يلزمه بكل آية منه كفارة. وقيل: يلزمه بكل حرف، وهو وجه في "فصول" ابن عقيل (¬1). * الرابع: يشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط: أحدها: انعقاد اليمين، وهي التي يمكن فيها البر والحنث؛ بأن يقصد عقدَها على مستقبل، فلا تنعقد يمينُ النائم والصغير والمجنون؛ لعدم قصدهم المعتبر، وكذا ما عُدَّ من لغو اليمين. وأما اليمين على الماضي، فيأتي الكلام عليها في الحديث الخامس -إن شاء الله تعالى-. ولغو اليمين: هو سبقها على اللسان من غير قصد؛ كقوله: لا والله، وبلى والله في عرض حديثه، ولو على مستقبل، فلا تنعقد، ولا كفارة في ذلك. ثانيها: أن يحلف مختارًا، فلا تنعقد يمين مكرَه؛ خلافًا لأبي حنيفة -كما تقدم-. ثالثها: الحنث في يمينه؛ بأن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله -ولو معصية- مختارًا ذاكرًا، فإن فعله مكرهًا أو ناسيًا، فلا كفارة (¬2). وقال أبو حنيفة ومالك: يحنث مطلقًا، سواء كانت اليمين بالله تعالى، أو بالظهار، أو بالطلاق، أو بالعتاق. ¬

_ = (2/ 323)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 303). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 340 - 342).

وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يحنث مطلقًا، وهذا معتمد مذهبه، واختار القفال من الشافعية: أن الطلاق يقع، والحنث لا يحصل (¬1). ومعتمد مذهب الإمام أحمد: يقع الطلاق والعتاق ناسيًا وجاهلًا (¬2)، والله أعلم. * الخامس: كفارة اليمين تجمع تخييرًا وترتيبًا، فيخير من لزمته بين ثلاثة أشياء: إطعام عشرة مساكين مسلمين أحرار -ولو صغارًا- (¬3)، وقال أبو حنيفة: يجوز دفعها لفقراء الكفار من أهل الذمة (¬4)، وسواء كان المطعَم جنسًا، أو أكثر، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يجده، فصيام ثلاثة أيام. والكسوة: ما يجزىء لِسَتْرِ صلاة الآخِذِ في الفرض. ويجوز أن يطعم بعضًا، ويكسوَ بعضًا. وأما إن أطعم المسكين بعض الطعام، وكساه بعض الكسوة، أو أعتق نصف عبد، وأطعم خمسة، أو كساهم، أو أطعم وصام، لم يجزئْه كبقية الكفارات، ولا ينتقل إلى الصوم إلا إذا عجز عن الثلاثة؛ كعجزه عن زكاة الفطر (¬5). وقال مالك والشافعي -فيما إذا أطعم خمسة وكسا خمسة-: لا يجزئه. وكذا اختلافهم إذا أطعم من جنسين، فأطعم خمسة بُرًا، وخمسة شعيرًا، أو ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 328). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 342). (¬3) المرجع السابق، (4/ 346). (¬4) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 336). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 346 - 347).

خمسة تمرًا، فأبو حنيفة وأحمد يجيزان ذلك؛ خلافًا لمالك والشافعي (¬1). وقدر ما يطعم كل مسكين: مُدُّ بُر أو نصفُ صاع من تمر أو زبيب أو أقط أو شعير، هذا مذهبنا، وعند مالك: مُدٌّ بالمدينة إذا أخرج الكفارة فيها، وفي بقية الأمصار وسط من الشبع، وهو رطلان بالبغدادي، وشيءٌ من الأُدم. وقال أبو حنيفة: إن أخرج برًا، فنصف صاع، وإن أخرج شعيرًا أو تمرًا، فصاع، ولم يعتبر بلدًا دون بلد. وقال الشافعي: لكل مسكين مد (¬2). واتفق الثلاثة على اعتبار كون الرقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل، ولم يعتبر أبو حنيفة فيها الإيمان. وعند أبي حنيفة وحده: يجزىء إخراج قيمة الكفارة، وإذا كفّر بالصوم، فعليه التتابع، إلا من عذر؛ خلافًا لمالك. وعن الشافعي قولان: الذي استقر عليه مذهبه: عدم اعتبار التتابع (¬3). * السادس: تجب كفارة اليمين على الفور كنذر إذا حنث، وإن شاء كَفَّرَ قبلَ الحنث، فتكون محللة لليمين، وإن شاء بعده فتكون مكفِّرة، فهما في الفضيلة سواء، صومًا كانت الكفارة أو غيره، ولو كان الحنث حرامًا، وهذا معتمد المذهب؛ لتقدم أحد سببيها، ولا يصح تقدمها على اليمين؛ لعدم تقدم أحدهما؛ فإن سببيها الحلف والحنث (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 337). (¬2) المرجع السابق، (2/ 336). (¬3) المرجع السابق، (2/ 334). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 348).

وقال أبو حنيفة: لا تكون الكفارة إلا بعد الحنث بكل حال. وقال الشافعي: يجوز تقديمها على الحنث إذا كان مباحًا. وعن مالك روايتان: إحداهما: يجوز تقديمها قبل الحنث كمذهبنا، والأخرى: لا يجوز (¬1). ومعتمد مذهب الشافعي: له تقديم الكفارة على أحد سَبَبَيْها ما لم تكن صوما، فلا يقدمه، ومعتمد مذهبه: جواز ذلك، ولو كان حرامًا؛ كالحنث بترك واجب، أو فعل حرام كما في "شرح المنهج" للقاضي زكريا (¬2). السابع: اختلفوا فيما إذا كرر اليمين، وكان موجبها واحدًا على فعل واحد؛ كقوله: والله لا أكلتُ، والله لا أكلت، أو حلف أيمانًا كفارتُها واحدة؛ كقوله: واللهِ وعهدِ الله وميثاقِه وكلامِه، أو كررها على أفعال مختلفة قبل التكفير؛ كقوله: واللهِ لا أكلتُ، واللهِ لا شربتُ واللهِ لا لبستُ، فمذهب أحمد: عليه كفارة واحدة، ومثله الحلف بنذور مكررة. ولو حلف يمينًا واحدة على أجناس مختلفة؛ كقوله: واللهِ لا أكلتُ ولا شربتُ ولا لبستُ، فكفارة واحدة، حنث في الجميع، أو في واحدة، وتنحل البقية (¬3). وعند أبي حنيفة، ومالك: عليه بكل يمين كفارة، سواء كانت على فعل واحد، أو على أفعال، إلا أن مالكًا اعتبر التأكيد، فقال: إن أراد التأكيد، فكفارة واحدة، وإن أراد الاستئناف، فلكل يمين كفارة (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 324). (¬2) انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 345). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 348 - 349). (¬4) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 337 - 338).

وقال الشافعي: إن كانت على شيء واحد، ونوى الاستئناف، فهما يمينان، وفي الكفارة قولان: أحدهما: كفارة واحدة. والثاني: كفارتان. وإن كانت على أشياء مختلفة، فلكل شيء منها كفارة. وأما إن كانت الأيمان مختلفة الكفارة؛ كالظهار، واليمين بالله، فلكل يمين كفارة. تتمة: ليس للرقيق أن يكفر بغير صوم، ولو أذن له سيده في العتق والإطعام؛ لأنه لا يملك، وإن ملك، وليس لسيده منعُه من الصوم، ولو أضرَّ به، ولو كان الحلف والحنث بغير إذنه. ويكفِّرُ كافر ولو مرتدًا بغير صوم. والمبعَّضُ حكمه في الكفارة حكم الأحرار (¬1). وقال مالك والشافعي: إن كان سيد العبد الحالف الحانث أذن له في اليمين والحنث، لم يكن له منعه، وإن لم يأذن له فيهما، فله منعه. وقال أصحاب أبي حنيفة: للسيد منعه من ذلك، سواء كان أذن له أو لم يأذن، إلا أن في كفارة الظهار ليس له منعه. وقال مالك: إن أضرَّ به الصوم، كان لسيده منعُه، وإن لم يضرّ به، فلا، وأما الصوم في كفارة الظهار، فليس له منعه مطلقًا (¬2)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 349). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 338).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عُمَر بْنِ الخَطَّاب - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بَآبَائِكُمْ" (¬1). وَلِمُسْلِمٍ: "فَمَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ" (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ عُمَرُ: فَوَاللهِ! مَا حَلَفْتُ بهَا مُنْذْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا (¬3). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6271)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بآبائكم، ومسلم (1646/ 1)، كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى، وأبو داود (3250)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء، والنسائي (3765)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: التشديد في الحلف بغير الله تعالى، و (3766 - 3768)، باب: الحلف بالآباء، والترمذي (1533)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، وابن ماجه (2094) كتاب: الكفارات، باب: النهي أن يحلف بغير الله، من طريق سالم، عن ابن عمر، به. (¬2) رواه مسلم (1646/ 3)، كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى، وكذا رواه البخاري (5757)، كتاب: الأدب، باب: من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلًا، و (6270)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بآبائكم، وأبو داود (3249)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء. (¬3) تقدم تخريجه في رواية سالم، عن أبيه السابقة. =

آثرًا يَعْنِي: حَاكِيًا عَنْ غَيْرِي أَنَّهُ حَلَفَ بِهَا. * * * (عن) أمير المؤمنين أبي حفصٍ (عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله ينهاكم) معشر الخلق (أن تحلفوا بآبائكم) إذا حلفتم؛ لأن الحلف بشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة إنما هي لله وحده. ولا يعارضه حديث: "أَفْلَحَ وأَبيه" (¬1)؛ لأنها كلمة جرت على لسانهم للتأكيد لا للقسم (¬2). وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه أدرك عمر يحلف بأبيه، فناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" (¬3). ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 45)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 202)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 16)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 400)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 621)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 104)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 144)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1507)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 326)، و"طرح التثريب" للعراقي (7/ 140)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 530)، و"عمدة القاري" للعيني (22/ 160)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 374)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 101)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 121). (¬1) رواه مسلم (11)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، من حديث طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 105)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 107). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5757، 6270)، وعند مسلم برقم (1646/ 3).

(ولمسلم) في "صحيحه": (فمن كان) منكم (حالفًا) ولابد، (فليحلف بالله) تعالى، (أو ليصمت) عن الحلف، وأما أن يحلف بغير الله، فلا. قلت: بل هو في "الصحيحين"، وكذا رواه أهل "السنن" الأربع كذلك (¬1). وفي رواية لابن ماجه من حديث بريدة، قال: سمع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا يحلف بأبيه، فقال: "لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله، فَلْيَصْدُق، ومن حُلِفَ له بالله، فلْيَرْضَ، ومن لم يَرْضَ بالله، فليس من الله" (¬2). (وفي رواية) من حديث ابن عمر في "الصحيحين": (قال عمر) بن الخطاب - رضي الله عنه -: (فوالله! ما حلفت بها) -يعني: اليمين بغير الله- (منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها) -يعني في قوله: "لا تحلفوا بآبائكم" (ذاكرًا) لها، (ولا آثرًا) -بفتح الهمزة ومدها وكسر المثلثة-، قال في تفسير قوله: (آثرًا؛ يعني: حاكيًا عن غيري أنه حلف بها)؛ أي: حلف يمينًا بغير الله؛ كآبائه؛ تحرزًا وحرصًا منه أن يجري على لسانه الحلف بغير الله تعالى: لنهيه -عليه الصلاة والسلام- عن ذلك. وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أيضًا: "من كان حالفًا، فلا يحلف إلا بالله"، وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلفوا بآبائكم" (¬3). وروى الترمذي وحَسَّنه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، وقال: ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجه عندهم. (¬2) رواه ابن ماجه (2101)، كتاب: الكفارات، باب: من حُلف له بالله فليرض. (¬3) رواه البخاري (3624)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: أيام الجاهلية، ومسلم (1646/ 4)، كتاب: الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى.

صحيح على شرطهما، عن ابن عمر أيضًا: أنه سمع رجلًا يقول: لا والكعبة! فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حلف بغير الله، فقد كفر -أو: فقد أشرك-" (¬1). وفي رواية للحاكم: "كل يمين يحلف بها دون الله، فهو شرك" (¬2). وروى أبو داود عن بريدة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف بالأمانة، فليس منّا" (¬3). وعنه أيضًا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف قال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبًا، فهو كما قال، وإن كان صادقًا، فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما (¬4). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من حلف على يمين، فهو كما حلف، إن قال: هو يهودي، فهو يهودي، وإن قال: ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1535)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، وقال: حسن، وأبو داود (3251)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالآباء، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 69)، وابن حبان في "صحيحه" (4358)، والحاكم في "المستدرك" (7814). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (46)، من حلإيث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (¬3) رواه أبو داود (3253)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: في كراهية الحلف بالأمانة، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 352). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 355)، وأبو داود (3258)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: ما جاء في الحلف بالبراءة وبملة غير الإسلام، والنسائي (3772)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الحلف بالبراءة من الإسلام، وابن ماجه (2100)، كتاب: الكفارات، باب: من حلف بملة غير الإسلام، والحاكم في "المستدرك" (7818).

نصراني، فهو نصراني، وإن قال: هو بريء من الإسلام -يعني: فكذلك-، ومن ادعى دعاء الجاهلية، فهو من جثاء جهنم"، قالوا: يا رسول الله! وإن صام وصلى؟ قال: "وإن صام وصلى" رواه أبو يعلى، والحاكم، واللفظ له، وقال: صحيح الإسناد (¬1). واعلم أن من قال: هو يهودي، أو كافر، أو مجوسي، أو يعبد الصليب، أو يعبد غير الله، أو بريء من الله سبحانه، أو من الإسلام، أو من القرآن، أو النبي - صلى الله عليه وسلم -، إن فعل ذلك، فقد فعل محرمًا بلا نزاع، وعليه كفارة يمين إن فعل -على معتمد المذهب (¬2) -، ولا يكفر، ويحمل ما ورد على الزجر والردع والترهيب. واختار الإمام الموفق أنه لا كفارة على الحالف بذلك؛ لأنه لم يحلف باسم الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولا صفته، ولا أتى بصيغة اليمين، وإنما علق الكفر على الفعل، فلم تجب الكفارة بذلك، كما لو علق عليه الطلاق، لكن معتمد المذهب: الأول. قال في "الإنصاف": هو المذهب، سواء كان منجَّزًا، أو معلَّقًا (¬3). قال الزركشي: وهو أشهر الروايتين عن الإمام أحمد (¬4)، واختيار جمهور الأصحاب: القاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى في "مسنده" (6006)، والحاكم في "المستدرك" (7817)، وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 372 - 373). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 344). (¬3) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (11/ 31). (¬4) انظر: "شرح الزركشي على الخرقي" (7/ 165).

وابن عقيل، وغيرهم، وجزم به في "الوجيز"، و"المنور" (¬1)، و"منتخب الأدمي"، و"تذكرة ابن عبدوس"، وغيرهم (¬2)؛ لأن قوله هذه الأشياء توجب هتك الحرمة، فكان يمينًا؛ كالحلف بالله -سبحانه وتعالى-، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "المنور في راجح المحرر" للأدمي (ص: 386). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (11/ 31 - 32).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ -عَلَيْهمَا السَّلَامُ-: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إنْسَانٍ"، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ قَالَ: إنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ" (¬1). قولُه: "قِيلَ لَهُ: قُلْ: إنْ شاءَ اللهُ" يَعْنِي: قالَ لهُ المَلَكُ. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2664)، كتاب: الجهاد والسير، باب: من طلب الولد للجهاد، و (3242)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]، و (4944)، كتاب: النكاح، باب: قول الرجل: لأطوفن الليلة على نسائي، و (6263)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (6341)، كتاب: كفارات الأيمان، باب: الاستثناء في الأيمان، و (7031)، كتاب: التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة، ومسلم (1654/ 24)، واللفظ له، و (1654/ 22 - 25)، كتاب: الأيمان، باب: الاستثناء، والنسائي (3831)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حلف، فقال له رجل: إن شاء الله، هل له استثناء، و (3856)، باب: الاستثناء، والترمذي (1532)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في الاستثناء في اليمين. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 416)، =

(عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال سليمان بن داود -عليهما السلام-) تقدم ذكر داود -عليه السلام- في: أفضل الصيام، وأما سليمان -عليه أفضل الصلاة والسلام-، فلم يبلغ أحدٌ من الأنبياء ما بلغ ملكه، فإن الله سبحانه سخر له الإنس والجن والطير والوحش والريح، وآتاه ما لم يؤت أحدًا من العالمين، وكان ملكه من الشام إلى إِصطخر، وقيل: ملك الأرض، وكان عسكره مئة فرسخ، وكان مع ذلك يجالس المساكين، ويقول: مسكين جالس مسكينًا. وقد روي عن ابن عباس -رضي لله عنهما-: ملكَ الأرضَ مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود، وذو القرنين، والكافران: نمرود، وبخت نصر (¬1). وكان عمرُ سليمان -عليه السلام- يوم ملكَ ثلاثَ عشرة سنة، وابتدأ في عمارة بيت المقدس بعد ذلك بأربع سنين. وروى النسائي: أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس، سأل الله حُكْمًا يوافق حكمه، فأوتيه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فأوتيه، وسأله أَلَّا يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريدُ إلا الصلاةَ فيه، إلا خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمه (¬2)، ولهذا كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يأتي بيت ¬

_ = و"المفهم" للقرطبي (5/ 635)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 118)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 146)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1511)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 460)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 115)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 419)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 125). (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (13558). (¬2) رواه النسائي (693)، كتاب: المساجد، باب: فضل المسجد الأقصى والصلاة =

المقدس، فيدخل فيصلي ركعتين، ثم يخرج، ولا يشرب منه، وكأنه يطلب دعوة سليمان. وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا الحديث: "فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة" (¬1). فإن قيل: ما الحكمةُ من سؤال المُلك مع تنزُّه الأنبياء -صلوات الله عليهم- عن الدنيا؟ فالجواب: أن ذلك كان معجزة له، فليس الملك مقصودًا لذاته، بل لغيره، كما أن من الأنبياء من كانت آيتُه الناقةَ، ومنهم من آيتُه العصا والحية. وورث سليمانُ أباه داود في الملك والنبوة، وقام بشريعة موسى، وكل نبي جاء بعد موسى ممن بُعث أو من لم يبعث، فإنما كان يقوم بشريعة موسى إلى أن بعث الله المسيحَ عيسى بن مريم، فنسخ منها ما خالفها. وبينَ سليمانَ بنِ داودَ -عليه السلام- وبين الهجرة النبوية -على صاحبها الصلاة والسلام- نحو ألف سنة وثمان مئة سنة، واليهود يقولون: ألف وثلاث مئة واثنتان وستون، وعاش داود نيفًا وخمسين سنة. وجرى البرماوي على أنه عاش ثلاثًا وخمسين سنة، وذكر كلَّ ما تقدم. قلتُ: والذي ذكره في "الأنس الجليل" للحنبلي ما نصُّه: لما كان في السنة الرابعة من ملكه -أي: سليمان-، في شهر أيار، وفي سنة تسع ¬

_ = فيه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-. (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 176)، وابن حبان في "صحيحه" (1633)، وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.

وثلاثين وخمس مئة لوفاة موسى -عليه السلام-، ابتدأ سليمان -عليه السلام- في عمارة بيت المقدس حسبما أوصاه به أبوه داود -عليه السلام-، وفرغ منه في الحادية عشرة من ملكه، فيكون الفراغ من عمارة بيت المقدس في أواخر سنة ست وأربعين وخمس مئة لوفاة موسى -عليه السلام-، وكان من هبوط آدم إلى ابتداء سليمان ببناء بيت المقدس أربعة آلاف وأربع مئة وأربع عشرة سنة، وبين عمارة بيت المقدس والهجرة الشريفة النبوية المحمدية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- ألف سنة كاملة، هكذا في تاريخ الحنبلي المسمى بـ "الأنس الجليل" (¬1)، والله أعلم. (لأطوفن) هذا وما بعده مَقولُ سليمان -عليه السلام-، وفي رواية: "لأُطيفن" (¬2)، وهما لغتان، طاف بالشيء، وأطاف به: إذا دار حوله، وتكرر عليه، وهو هنا كناية عن الجماع، واللام في "لأطوفن" جواب القسم المقدر (¬3)، ولم أره إلا محذوف المقسم به في جميع الطرق. (الليلةَ على سبعين امرأةً)، وفي رواية: على مئة امرأة (¬4)، وفي أخرى: تسعين (¬5). قال في "الفتح": ومحصل الروايات: ستون، وسبعون، وتسعون، وتسع وتسعون، والجمع بينها: أن الستين حرائر، وما زاد عليهن كُنَّ سراري، أو بالعكس، وأما السبعون، فللمبالغة، وأما التسعون والمئة، ¬

_ (¬1) انظر: "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" لمجير الدين العليمي (1/ 120). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1654/ 24). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 460). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2664). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6263)، وعند مسلم برقم (1654/ 25).

فكنّ دون المئة، وفوق التسعين، فمن قال: تسعون، ألغى الكسر، ومن قال: مئة، جبَرهُ. وقد حكي عن وهب بن منبه في "المبتدأ": أنه كان لسليمان ألف امرأة: ثلاث مئة مهرية، وسبع مئة سرية (¬1). ونحوه ما أخرجه الحاكم في "المستدرك" من طريق أبي معمر محمد بن كعب، قال: بلغنا أنه كان لسليمان ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاث مئة صريحة، وسبع مئة سرية (¬2). (تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله) تعالى: هذا إنما قاله على سبيل التمني للخير، وإنما جزم به، لأنه غلب عليه الرجاء؛ لكونه قصد به الخير وأمر الآخرة، لا لغرض الدنيا. قال بعض السلف: نبّه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث على آفة التمني والإعراض عن التفويض، قال: ولذلك نسي الاستثناء؛ ليمضي فيه القدر (¬3). (فقيل)؛ أي: قال (له)، أي: لسليمان صاحبُه. وفي رواية معمر عن طاوس: "فقال له المَلَك" (¬4). وفي رواية هشام بن حجير: "فقال له صاحبه"، قال سفيان بنُ عيينة: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 460). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (4141)، عن محمد بن كعب قال: بلغنا أن سليمان بن داود .. ، فذكره. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 120)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 461). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4944).

يعني: الملك (¬1)، وفي هذا إشعار بأن تفسير صاحبه بالملك ليس بمرفوع، لكن في "مسند الحميدي" عن سفيان: "فقال له صاحبه، أو الملك" -بالشك (¬2) -، ومثلها لمسلم (¬3)، وفيه رد على من فسر صاحبه بأنه الذي عنده علم من الكتاب، وهو آصِفُ -بالمد وكسر المهملة بعدها فاء- بنُ بَرخيَا -بفتح الموحدة وسكون الراء وكسر الخاء المعجمة بعدها تحتانية- (¬4). وقال القرطبي في قوله: "فقال [له] صاحبه، أو الملك": إن كان صاحبه، فيعني به: وزيره من الإنس والجن، وإن كان الملك، فهو الذي يأتي بالوحي، قال: وقد أبعد من قال: المراد به: خاطره (¬5). وقال النووي: قيل: المراد بصاحبه: المَلَك، وهو الظاهر من لفظه، وقيل: القرين، وقيل: صاحب له آدمي (¬6). (قل: إن شاء الله، فلم يقل) قال عياض: وفي الرواية الأخرى: "فنسي" (¬7)، يعني: لم يقل: إن شاء الله بلسانه، لا أنه أبى أن يفوض إلى الله تعالى، بل كان ذلك ثابتًا في قلبه يُكنه، فكأنه اكتفى بما أضمر عليه قلبه أولًا، ونسي أن يُجريه على لسانه لما قيل له: قل: إن شاء الله؛ لشيء ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6341). (¬2) رواه الحميدي في "مسنده" (1174). (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1654/ 23). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 461). (¬5) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 637). (¬6) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 120). (¬7) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 418).

عرض له، فأشغله عن إجرائه على لسانه (¬1). (فطاف بِهِنَّ) كلِّهن في تلك الليلة (فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة) من بينهن (نصفَ إنسان)، وفي رواية: "جاءت بشق إنسان" (¬2)، وفي أخرى: "إلا واحدًا ساقطًا شِقُّه" (¬3)، وفي أخرى: "جاءت بشقِّ رجل" (¬4)، وقد حكى النقاش في "تفسيره": أن الشقَّ المذكور هو الجسدُ الذي أُلقي على كرسيه. وفي قول غير واحد من المفسرين: أن المراد بالجسد المذكور: شيطان، وهو المعتمد، والنقاش صاحب مناكير (¬5). (قال) أبو هريرة - رضي الله عنه -: (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو قال) سليمانُ بنُ داود -عليه السلام- بعدَ مقالته التي قالها: (إن شاء الله، لم يحنث) المراد: أنه لو كان، يحصل له ما طلب، ولا يلزم من إخباره -عليه الصلاة والسلام- بذلك في حق سليمان في هذه القصة أن يقع ذلك لكل من استثنى في أمنيته، بل في الاستثناء رجوى الوقوع، وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع، وأما إخباره - صلى الله عليه وسلم - أن سليمان -عليه السلام- لو قال: إن شاء الله، لم يحنث (¬6)، (وكان) ذلك (دَرَكًا) -بفتحتين-، من ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 461). (¬2) رواه الطبراني في "مسند الشاميين" (3317)، وتقدم تخريجه عند البخاري برقم (4944)، وعند مسلم برقم (1654/ 22)، وعندهما: "نصف إنسان". (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3242)، وعنده: "ساقطًا أحد شقيه". (¬4) تقدم تخريجه عند البخارىِ برقم (2664، 6263)، وعند مسلم برقم (1654/ 25). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 461). (¬6) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الإدراك (¬1) (لحاجته) وأمنيته التي تمناها، وهو كقوله تعالى: {لَا تَخَافُ دَرَكًا} [طه: 77]؛ أي: لحاقًا، لعله أخبر بذلك من جهة الوحي. وفيه جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناء على غلبة الظن؛ فإن سليمان -عليه السلام- جزم بما قال، ولم يكن ذلك عن وحي، وإلا، لوقع، كذا قيل (¬2). وقال القرطبي: لا يَظُنُّ بسليمان -عليه السلام- أنه قطعَ بذلك على ربه إلا مَنْ جهل حالَ الأنبياء وأدبَهم مع الله تعالى (¬3). وقال ابن الجوزي: فإن قيل: من أين لسليمان أن يخلق من مئة هذا العدد في ليلة؟ لا جائز أن يكون بوحي؛ لأنه ما وقع، ولا جائز أن يكون الأمر في ذلك إليه؛ لأن الإرادة لله! قال: والجواب: أنه من جنس التمني على الله تعالى، والسؤال له أن يفعل، والقسم عليه، كقول أنسِ بنِ مُعاذ: واللهِ لا تُكسر سِنُّها، ويحتمل أن يكون لما أجاب الله دعوته أن يهب له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، كان هذا عنده من جملة ذلك، فجزم به (¬4). قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: و (قوله) في الحديث: (قيل له: قل: إن شاء الله) -تعالى (يعني: قال له الملك) -كما تقدم من ذكر الخلاف في ذلك-. ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 418). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 462). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 636). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 462)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- كلام ابن الجوزي.

وفي الحديث: قصدُ فعل الخير، وتعاطي أسبابه، وأن كثيرًا من المباح والملاذ يصير مستحبًا بالنية والقصد. وفيه: استحباب نية الاستثناء لمن قال: سأفعل كذا، وأنَّ إِتباعَ المشيئةِ اليمينَ يرفعُ حكمَها، وهو متفق عليه في الجملة (¬1). قال علماؤنا: يصح الاستثناء في كل يمين مكفَّرة؛ كاليمين بالله، والظِّهار، والنذر، فإذا حلف فقال: إن شاء الله، أو إن أراد الله، وقصد بها المشيئة، لا من أراد محبته وأمره، وأراد التحقيق لا التعليق، لم يحنث، فعل أو ترك، قدم الاستثناء أو أخره، إذا كان متصلًا لفظًا أو حكمًا؛ كانقطاعه بنَفس أو سُعال أو عُطاس أو قيء أو نحوه. ويعتبر نطقه به، فلا ينفعه بالقلب إلا من مظلوم خائف، ولابد من قصد الاستثناء قبل تمام المستثنى منه، فلو حلف غيرَ قاصد الاستثناء، ثم عرض له بعدَ فراغه من اليمين، فاستثنى، لم ينفعه، ولو أراد الجزم، فسبق لسانه إلى الاستثناء من غير قصد، أو كانت عادته جارية به، فجرى على لسانه من غير قصد، لم يصح (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ينفعه تعليقُه الطلاقَ بمشيئة الله تعالى، فإذا حلف: لا يسكن هذه الدار إن شاء الله، فلا حنثَ عليه إذا سكن فيها، سواء كانت يمينه بالطلاق، أو بالله تعالى. قال: وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، قال: وكذا أحمد في مشهور مذهبه، وقول في مذهب مالك (¬3). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (6/ 461 - 462). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 342). (¬3) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 577 - 578).

وعند شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يعتبر له اتصال، ولا أن ينويه قبل تمام المستثنى منه، واحتج بعدة أحاديث، منها: الحديث المذكور الذي نحن بصدده، ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "والله لأغزونَّ قريشًا"، قاله ثلاثًا، ثم سكت، ثم قال: "إن شاء الله"، ثم لم يغزهم (¬1). وفي "الفروع": قال الإمام أحمد: قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: إذا استثنى بعد سنة، فله ثنياه، [و] (¬2) ليس هو في الأيمان، إنما تأويله قول الله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] فهذا استثناء من الكذب؛ لأن الكذب ليس فيه كفارة، وهو أشد من اليمين؛ لأن اليمين تكفَّر، والكذب لا يكفَّر. وقال ابن الجوزي: فائدة الاستثناء خروجه من الكذب، قال موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69]، ولم يصبر، فسلم منه بالاستثناء (¬3). وقد استدل من قال بعدم اعتبار نية الاستثناء قبل فراغه من المستثنى منه بهذا الحديث، فقال: الاستثناء إذا عقبَ اليمين، ولو تخلل بينهما شيء [و (¬4)] لا يضر؛ فإنه دل على أن سليمان -عليه السلام- لو قال: إن شاء الله عقب قول الملك له: قل: إن شاء الله، لنفعه ذلك، مع أنه تخلل بين كلاميه كلامُ الملَك. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3285)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الاستثناء في اليمين بعد السكوت، وابن حبان في "صحيحه" (4343)، وغيرهما من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) [و] ساقطة من "ب". (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 309). (¬4) كذا في "ب"، والصواب حذف الواو، والله أعلم.

وأجاب القرطبي باحتمال أن يكون الملَك قال ذلك في أثناء كلام سليمان (¬1)، وهو ممكن. وفي الحديث: دليل على اعتبار كون الاستثناء باللفظ دون النية، وهو متفق عليه إلا ما حكي عن بعض المالكية. وفيه: ما خُص به الأنبياء -عليهم السلام- من القوة على الجماع الدالِّ ذلك على صحة البنية وقوة الفحولية وكمال الرجولية، مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم، وقد وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك أبلغُ معجزة؛ لأنه مع اشتغاله بعبادة ربه وعلومه ومعالجة الخلق، مع كونه - صلى الله عليه وسلم - متقلِّلًا من المآكل والمشارب المقتضية لضعف البدن وقلة الجماع، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد، وهن إحدى عشرة امرأة، ويقال: إن كلَّ من كان أَتقى لله تكون شهوته أشدَّ؛ لأن الذي لا يتقي يتفرج بالنظر ونحوه. وأبعدَ من استدلَّ بالحديث على جواز الحلف مع غلبة الظن مع وجود القرينة المقوية لذلك. وفيه: جواز السهو على الأنبياء -عليهم السلام-، وأن ذلك لا يقدح في مراتبهم العلية. وفيه: جواز إضمار المقسَم به في اليمين، لقوله: "لأطوفَنَّ"، مع قوله -عليه السلام-: "لم يحنث"، فدل على أن اسم الله فيه مقدَّر، فمن قال بجواز ذلك، فالحديث حجة له (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 637). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 462).

قلت: ذكره في "الفروع" تخريجًا حيث قال: "عليَّ يمينٌ لأفعلنَّ". قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه لام القسم، فلا تُذكر إلَّا معه مظهَرًا أو مقدَّرًا (¬1). قال بعض علمائنا: ويؤيده قول سليمان بن داود -عليه السلام-: "لأطوفن الليلة على ستين امرأة"، وقال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو استثنى، لم يحنث"، ونسب إليه الحنث، فدل أنه يمين، انتهى. وهذا على معتمد المذهب: أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد تقريرُه على لسان الشارع، ولم ينسخ. وفي الحديث: حجةٌ لنا وللحنفية من عدم اشتراط التصريح بمقسَم به، فمن قال: أحلف، أو حلفت، أو أشهد، أو شهدت، إلخ، فإنه يكون يمينًا عند الحنفية، وقيده علماؤنا والمالكية بالنية، وقال بعض الشافعية: ليس بيمين مطلقًا. وفيه: استعمال لو ولولا. وفيه: رعاية الأدب مع التكنية عما يستقبح ذكرُه؛ لقول سليمان -عليه السلام-: لأطوفنّ، بدل قوله: لأجامعن (¬2)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 302 - 303). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 462).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطعُ بهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيَها فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ونَزَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2229)، كتاب: المساقاة، باب: الخصومة في البئر والقضاء فيها، و (2285)، كتاب: الخصومات، باب: كلام الخصوم بعضهم في بعض، و (2380)، كتاب: الرهن، باب: إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، و (2523)، كتاب: الشهادات، باب: سؤال الحاكم المدعي: هل لك بينة قبل اليمين، و (2525)، باب: اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود، و (2528)، باب: يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين، و (2531)، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]، و (4275)، كتاب: التفسير، باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]، و (6283)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: عهد الله -عَزَّ وَجَلَّ-، و (6299)، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]، و (6761)، كتاب: الأحكام، باب: الحكم في البئر ونحوها، و (7007)، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]. ورواه مسلم (138/ 220)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: وعيد من اقتطع =

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ حلف) من المكلفين (على يمينِ صَبْرٍ) (¬1) -بفتح الصاد المهملة وسكون الموحدة،- وفي رواية: "يمين مصبورة" (¬2)، وهي التي يلزم بها، ويُحبس عليها، وكانت لازمةً لصاحبها من جهة الحكم، وقيل لها مصبورة، وإن كان صاحبها في الحقيقة هو المصبور؛ لأنه إنما صبر من أجلها؛ أي: حُبس، فوصفت بالصبر، وأضيفت إليه مجازًا (¬3). (يقتطع): يفتعل من القطع، كأنه قطعه عن صاحبه (¬4). (بها)؛ أي: اليمين المذكورة (مال امرىءٍ مسلم): فيأخذه من صاحبه، ¬

_ = حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، وأبو داود (3243)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: فيمن حلف يمينًا ليقتطع بها مالًا لأحد، والترمذي (1269)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في اليمين الفاجرة يقتطع بها مال المسلم، و (2996)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة آل عمران، وابن ماجه (2323)، كتاب: الأحكام، باب: من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 435)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 351)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 158)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 147)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1520)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 559)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 257)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 383). (¬1) قال ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (9/ 278): يجوز تنوين "يمينٍ" على أن يكون "صبرٍ" صفة لها، ويكون من باب: رجلٌ عدلٌ، وتركُ تنوينه على الإضافة -أي: يمينِ صبرٍ، وهو المعروف المشهور في الرواية. (¬2) رواه أبو داود (3242)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: التغليظ في الأيمان الفاجرة، من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 8). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 559).

أو يأخذ قطعة من ماله باليمين التي (هو)؛ أي: الحالف (فيها)؛ أي: اليمين (فاجر)؛ أي: كاذب، ومنه حديثُ الصديقِ الأعظم: "إياكم والكذب؛ فإنه مع الفجور، وهما في النار" (¬1)، يريد: الميل عن الصدق وأعمال الخير، وحديثُ سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما استحمله أعرابي وقال: إن ناقتي قد نقبت، فقال له: كذبتَ، ولم يحمله، فقال: [من الرجز] أَقْسَمَ باللهِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرْ ... مَا مَسَّهَا مِنْ نَقَبٍ وَلَا دَبَرْ فَاغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فَجَرْ (¬2) أي: كذب، ومال عن الصدق (¬3). (لقي الله) -عَزَّ وَجَلَّ-، (وهو) -سبحانه وتعالى- (عليه)؛ أي: الحالفِ الفاجرِ (غَضبانُ): جملة حالية. وفي حديث وائل بن حجر عند مسلم، وأبي داود، والترمذي: "وهو عنه معرض" (¬4). وفي رواية الأشعث بن قيس عند أبي داود، وابن ماجه: "إلا لقي الله وهو أجذم" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (3849)، كتاب: الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 3)، وغيرهما. (¬2) رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (971). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 413 - 414). (¬4) رواه مسلم (139)، كتاب: الأيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، وأبو داود (3245)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: فيمن حلف يمينًا ليقتطع بها مالًا لأحد، والترمذي (1340)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه. (¬5) رواه أبو داود (3244)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: فيمن حلف يمينًا ليقتطع =

قلت: أصل حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على مال امرىءٍ مسلم بغير حَقٍّ، لقيَ الله وهو عليه غضبان". قال عبد الله: ثم قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقَه من كتاب الله -عز وجل-: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية، زاد في رواية بمعناه: قال: فدخل الأشعثُ بنُ قيسٍ الكنديُّ، فقال: ما يُحدِّثكم أبو عبد الرحمن؟ فقلنا: كذا وكذا، قال: صدق أبو عبد الرحمن، كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فذكر الحديث الآتي. قال: (ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 77])؛ أي: يستبدلون بما عاهدوا عليه الله -سبحانه وتعالى- من الإيمان بالرسول، والوفاء بالأمانات ({وأيمانهم}) [آل عمران: 77] الكاذبة ({وثمنًا قليلًا}) [آل عمران: 77] من حطام الدنيا ومتاعها (الآية) ويجوز نصب الآية على أنها مفعول لفعل محذوف؛ أي: قرأ الآية، أو تمم الآية، أو كمل الآية، ونحو ذلك، ويجوز رفعُها على أنها مبتدأ وخبر لمبتدأ محذوف. وبقية الآية: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]، قيل: إنها نزلت في أحبار يهود حيث حرفوا التوراة، وبدلوا نُعوتَ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وحكمَ الأمانة، وغيرها، وأخذوا على ذلك الرشوة، وقيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السوق، فحلف لقد اشتراها بما لم يشترها به (¬1). ¬

_ = بها مالًا لأحد. ولم يروه ابن ماجه في "سننه" بهذا اللفظ، والله أعلم. (¬1) رواه البخاري (4276)، كتاب: التفسير، باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ =

وظاهر سياق حديث ابن مسعود هذا: أنها كانت نازلة قبل ذلك كما لا يخفى، نعم في كتاب الشهادات من "صحيح البخاري" بعد قوله: "وهو عليه غضبان": ثم أنزل الله تعالى تصديق ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ} [آل عمران: 77] الآية، ثم ذكر قصة الأشعث (¬1)، والله أعلم. ¬

_ = وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] , من حديث عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -. (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2525).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ"، فَقُلْتُ: إذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ يَقْتَطعُ بِهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" (¬1). * * * (عن) أبي محمدٍ (الأَشْعَثِ) -بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: تقدم تخريج حديث الأشعث بن قيس - رضي الله عنه - في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - الماضي؛ إذ هو قطعة منه، فرواه البخاري برقم (2380، 2523، 2525)، وعند مسلم برقم (138/ 222)، وكذا برقم (138/ 221)، وانظر: تخريج الحديث السابق، حيث استوفينا طرقه عند أصحاب الكتب الستة، وبالله التوفيق. * مصَادر شرح الحَدِيث: انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 148)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1522)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 329)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 280)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 248)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 216). وانظر: مصادر الشرح السالفة الذكر في الحديث الماضي.

فعين مهملة مفتوحة فمثلثة-، (بنِ قيس)، وهو الأشجُّ كما قاله الذهبي في حاشية بخطه على "تاريخ ابن عساكر"، كما في البرماوي، بنِ معدي كرب بنِ معاويةَ بنِ جبلةَ بن عديِّ بنِ ربيعةَ بنِ معاوية بنِ الحارثِ الأصغرِ بنِ الحارثِ الأَكبرِ بنِ معاويةَ بنِ ثورٍ الكنديِّ، نسبة إلى كِنْدَة -بكسر الكاف وسكون النون-؛ لأنه من ولده، وكندة هو: ثور بن عقبة بن مرة بن أدد بنِ يَشْجُب، وسمي كندةَ؛ لأنه كندَ أباه نعمتَه؛ أي: كفرها، قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]. واسمُ الأشعث بن قيس - رضي الله عنه -: معدي كرب باسم جده، والأشعثُ لقبٌ له؛ لشعثٍ في رأسه، قاله ابن قتيبة (¬1). قدم الأشعث على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفد كندة سنة عشر، وكان رئيسهم؛ لأنه كان رئيسًا في الجاهلية مطاعًا في قومه. قال الحافظ ابن الجوزي وغيرُه: وهو أول من مشت معه الرجال وهو راكب. وقال أبو عمر بن عبد البر: كان من ملوك كندة، وكان أيضًا وجيهًا في الإسلام، وارتد لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم عاد إلى الإسلام في خلافة الصديق بعدما أَحضره من اليمن مأسورًا، فإنه قال للصديق لما أراد قتله: استَبْقِني لحربك، وزوِّجني أختَك، فزوَّجه أخته، وهي أم فَرْوة بنتُ أبي قحافة، لها صحبة ورواية، فولدت للأشعث محمدًا وغيرَه، واسمُها هند، ومنهم من يقول: فروة بإسقاط أم، وفي حاشية بخط الذهبي على "تاريخ ابن عساكر": أن الذي زوجه بها أبو قحافة، قال: ولعله وكّل ابنه أبا بكر في ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "المعارف" لابن قتيبة (ص: 333).

وخرج الأشعث مع سعد بن أبي وقاص إلى العراق، وشهد اليرموك بالشام، وبها أصيبت عينه، ثم القادسية بالعراق، والمدائن، وجلولاء، ونهاوند، وسكن الكوفة، ومات بها سنة أربعين بعد مقتل سيدنا علي - رضي الله عنه - بأربعين ليلة، وقيل: قبله بيسير، توفي سنة اثنتين وأربعين، وصلى عليه سيدُنا الحسنُ بنُ عليّ -رضوان الله عليهما-، نقله صاحب "أسد الغابة" عن ابن منده، وردّه بأن الحسن لم يكن بالكوفة سنة اثنتين وأربعين؛ لأنه قد كان سلم الأمر إلى معاوية، نعم من قال: كان ذلك سنة أربعين، لا يستشكل صلاةَ الحسن عليه. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة أحاديث، اتفق الشيخان منها على حديث واحد (¬1)، وهو الذي نحن بصدد شرحه. (قال) الأشعث بن قيس - رضي الله عنه -: (كان بيني وبينَ رجلٍ). قال النووي: اسم هذا الرجل: الجَنْشيش (¬2) -بالجيم-، وقيل: -بالحاء المهملة-، وقيل: -المعجمة-، وكنيته: أبو الخير (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 22)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 13)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 133)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (9/ 116)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 249)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 133)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 286)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 37)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 87)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (1/ 313). (¬2) قلت: كذا في الاْصل: "الجنشيش" -بالجيم ثم النون بعدها فشين-. وقد ضبطه ابن العطار في "العدة في شرح العمدة" (3/ 1524) -بالفاء بين الجيم والشين-، وهو الصواب. (¬3) ذكره أبو حاتم الرازي، كما في "الجرح والتعديل" لابنه (2/ 550).

قال الشيرازي في "الغاية": اسمه معدان بن النعمان، له صحبة (¬1). وقال الطبري: له صحبة، ولا رواية عنه. وفي رواية: رجل يقال له: الجَنْشيش بن حصين، وهو -بالشين المعجمة المكررة على كل حال- وأوله مفتوح على كل حال كما قاله النووي. لكن قال الذهبي في "تجريده" في باب الجيم: إنه مثلث الخاء بالحركات الثلاث (¬2). وحكى ابن عبد البر أنه -بضم الجيم (¬3) -، وحكى عن نسخ "العمدة" أنه ضبط فيها -بكسر الجيم-، وكل هذا دليل على أنه بالتثليث كما قاله الذهبي. قال الحافظ الذهبي في باب الجيم: الجنشيش، وبالحاء، والخاء، وهو الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أنت مِنّا، فقال: "أنا من ولد النضر بنِ كنانة لا نَقْفو أُمَّنا، ولا ننتفي من أبينا" (¬4). وقيل: اسمه جرير بن معدان، ويقال: إن اسمه معدان. (خصومةٌ) بالرفع -: اسم كان مؤخر (في بئر) متعلق بخصومة، وفي رواية عند البخاري، وأبي داود، والترمذي: أن الحكومة بين الأشعث وبين رجل من اليهود (¬5)، ويمكن بأن يجاب بأنهما واقعتان للأشعث. ¬

_ (¬1) كما ذكر الطبراني في "المعجم الكبير" (2/ 285). (¬2) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (1/ 86). (¬3) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 277). (¬4) تقدم تخريجه عند ابن ماجه (2612)، وعند الإمام أحمد في "المسند" برقم (5/ 211). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2285، 2523)، وعند أبي داود برقم =

قال الأشعث - رضي الله عنه -: (فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: رفعنا أمر خصومتنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (فقال - صلى الله عليه وسلم -: شاهداك)؛ أي: ليحضُر شاهداك على مقتضى دعواك، فإذا شهدا لك بالأرض أو البئر التي تدعيها، فهي لك، رفع شاهداك على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: المثبتُ لدعواك شاهداك، أو الحجةُ أو البينةُ لك شاهداك، ويجوز أن يكون شاهداك مبتدأ خبرٍ محذوف (¬1). (أو) كان لا بينة لك تشهد بمقتضى دعواك، فعليه (يمينُه) على نفي ما تدعيه عليه. وفي كتاب: الخصومات من "صحيح البخاري": لما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين. . . ." الحديث، فقال الأشعث: فيَّ واللهِ! كان ذلك، كان بيني وبين رجل من اليهود أرضٌ، فجحدني، فقدمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لك بينة؟ "، قلت: لا، فقال لليهودي: احلف (¬2)، (فقلت): يا رسول الله! (إذًا يحلف)؛ أي: حيث جعلت أن حلفه يخلصه مني، يحلف يمينًا وهو فيها كاذب، (ولا يبالي)؛ أي: ولا يكترث بتلك اليمين، تقول: لم أبل بالأمر، ولا أباله؛ أي: لا ألقي له بالًا، فمن قال: لم أبل حذفَ على غير قياس؛ لأن اللام متحركة، وأدخله صاحب "العين" في باب المعتل بالواو. وقال سيبويه: في بالت كأنها بالية؛ كعافية، فحذفت الياء، ونُقلت حركتها إلى اللام. ¬

_ = (3243)، وعند الترمذي برقم (1269). (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (12/ 198 - 199). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2285).

والبال: الاكتراث والاهتمام بالشيء، والبال أيضًا: الحال، ومنه: وما بال الناس؟ وفلان خليُّ البال، وناعمُ البال، كله راجع إلى الحال كما في "المطالع" (¬1). (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عند ذلك: (من حلف على يمين صَبْرٍ)، وهي الغموس (يقتطع بها)؛ أي: اليمينِ الغموسِ (مال امرىءٍ مسلم)، وكذا مال ذمي ومعاهد (هو)؛ أي: الحالف (فيها)؛ أي: اليمين (فاجر)؛ أي: كاذب (لقي الله) تعالى (وهو) -جل شأنه- (عليه)؛ أي: الحالفِ الكاذبِ (غضبانُ)، وهي جملة اسمية وقعت حالًا. وفي لفظ من حديث ابن مسعود في "الصحيحين": "من حلف على مال امرىء مسلم بغير حق" (¬2). وعن الأشعث بن قيس - رضي الله عنه -: أن رجلًا من كندة، وآخر من حضرموت اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسولَ الله! إن أرضي اغتصبها أبوه، فتهيأ الكنديُّ لليمين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتطعُ أحدٌ مالًا بيمينٍ، إلا لقيَ اللهَ وهو أجذَمُ"، فقال الكندي: هي أرضُه، رواه أبو داود، واللفظ له، وابن ماجه مختصرًا (¬3). وأخرج الإمام أحمد بإسناد حسن، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني في "الكبير" من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قال: اختصم رجلان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أرض، أحدُهما من حضرموت، قال: فجعل يمينَ ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 104). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (138). (¬3) وتقدم تخريجه.

أحدِهما، فضج الآخر، وقال: إذًا يذهب بأرضي، فقال: "إن هو اقتطعها بيمينه ظلمًا، كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب أليم"، قال: وورع الآخر، فردها (¬1). ورواه الإمام أحمد أيضًا بنحوه من حديث عدي بن عميرة، إلا أنه قال: خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عباس رجلًا من حضرموت، فذكره، ورواته ثقات (¬2). وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الكبائر: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس" (¬3). وفي رواية: أن أعرابيًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله"، قال: ثم قال: "اليمين الغموس"، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "الذي يقتطع مال امرىء مسلم"؛ يعني: بيمين "هو فيها كاذبٌ" رواه البخاري، والترمذي، والنسائي (¬4). قال العلماء: سميت اليمين الكاذبة التي يحلفها الإنسان متعمدًا يقتطع بها مال امرىء مسلم عالمًا أن الأمر بخلاف ما يحلف: غَمُوسًا -بفتح الغين ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 394)، وأبو يعلى في "مسنده" (7274)، والبزار في "مسنده" (3163)، والطبراني في "المعجم الكبير" (4/ 178 - "مجمع الزوائد" للهيثمي). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 191). (¬3) رواه البخاري (6298)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: اليمين الغموس. (¬4) رواه البخاري (6522)، كتاب: استتابة المرتدين، باب: إثم من أشرك بالله، وعقوبته في الدنيا والآخرة، والترمذي (3021)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النساء، والنسائي (4011)، كتاب: تحريم الدم، باب: ذكر الكبائر.

المعجمة-؛ لأنها تغمس الحالف في الإثم في الدنيا، وفي النار في الآخرة (¬1). وروى الترمذي وحسنه، والطبراني في "الأوسط"، وابن حبان في "صحيحه"، واللفظ له، والبيهقيُّ من حديث عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أكبر الكبائر الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدين، واليمينُ الغموسُ، والذي نفسي بيده! لا يحلف رجلٌ على مثل جَناح بعوضة، إلا كانت نكتة في قلبه يوم القيامة". ولفظ البيهقي: "ما حلف حالف بالله يمينَ صبرٍ، فأدخل فيها مثلَ جناح البعوضة، إلا كانت نكتةً في قلبه يوم القيامة". ولفظ الترمذي: "وما حلف حالف بالله يمين صبر" كلفظ البيهقي (¬2). تنبيهات: الأول: اختلف الفقهاء في اليمين الغموس هل لها الكفارة؟ فمعتمد مذهب الإمام أحمد، وكذا عند أبي حنفية، ومالك -رضي الله عنهم-: لا كفارة لها؛ لأنها أعظمُ من أن تكفَّر. وقال الإمام الشافعي، وكذا الإمام أحمد في الرواية الثانية: تُكَفَّر (¬3). احتج للأول بما رواه الحاكم في "صحيحه"، وقال: على شرطهما، عن ابن مسعود -رضي الله عنهم-، قال: كنا نَعُدُّ من الذنب الذي ليس له ¬

_ (¬1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 387 - 388). (¬2) رواه الترمذي (3020)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النساء، وابن حبان في "صحيحه" (5563)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (3237)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4843). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 320).

كفارة: اليمينَ الغموسَ، قيل: وما اليمينُ الغموس؟ قال: الرجل يقتطع بيمينه مال الرجل (¬1). وروى الإمام أحمد، وأبو الشيخ بإسناد حسن من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "خمسٌ ليس فيهن كفارة: الشركُ بالله، وقتلُ النفس بغير حق، وبَهْتُ المؤمن، والفرارُ يومَ الزحف، ويمينٌ صابرة يقتطعُ بها مالًا بغير حق" (¬2)، ولأنها لا يقصد بها الانعقاد، فلا تجب بها الكفارة؛ كاللغو، ولأن الكفارة شُرعت لرفع الإثم، وهذه لا يرتفع إثمها بالكفارة، فلا فائدة لإيجاب الكفارة، لأنه لا أثر لها (¬3). وفي "الفروع" ما نصه: وعنه -يعني الإمام أحمد-: تُكَفَّر؛ يعني: اليمينَ الغموس التي حلفَ بالله على فعل ماضٍ وهو كاذبٌ يعلم كذبه (¬4). وفي "شرح المحرر": والرواية الثانية عن الإمام أحمد: وتجب الكفارة مع الإثم؛ لأنه وجدت منه اليمينُ والمخالفةُ مع القصد، فلزمه موجبُها؛ كاليمين بالطلاق والعتاق والظهار والحرام والنذر؛ فإن هذه كلها يلزمه فيها موجبُها، كذلك اليمين بالله، انتهى. قال في "الفروع": واحتج غير واحد على عدم التكفير بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] الآية، فكيف يقال: إن الجزاء غير هذا؟ وإن الكفارات تمحِّص هذا؟ ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (7809). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 361)، وأبو الشيخ في "التوبيخ والتنبيه" (215)، قال المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 197): وفيه بقية بن الوليد. (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 392). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 306).

قال: وقال شيخنا؛ يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية -طيب الله ثراه-: من قال: تكفّر الغموس، قال: تكفّر الغموسُ في نحو طلاق وعتاق، وكذا كاذبٌ في لعانه. وأما من قال: لا كفارة في اليمين الغموس، وأن اليمين بالنذر والكفر وغيرهما يكفر، فلهم في اليمين الغموس بذلك قولان: أحدهما: يلزمه ما التزمه من نذر وكفر وغيرهما، قاله بعض الحنفية وبعض الحنبلية، وقاله محمد بن مقاتل -يعني: الحنفي- في الحلف بالكفر، وقاله جدنا أبو البركات في الحلف بالنذر ونحوه، وهؤلاء يحتجون بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف بملة غيرِ الإسلام كاذبًا، فهو كما قال" (¬1) -كما يأتي في الحديث الآتي-. وقول الأكثرين: إنه لا يلزمه ما التزمه في اليمين الغموس إلا إذا كان يلزمه ما التزمه في اليمين المستقبل؛ لأنه في جميع صور الأيمان لم يقصد أن يصير كافرًا ولا ناذرًا ولا مطلِّقًا ولا معتِقًا، وإنما قصدُه في الماضي التصديق أو التكذيب، وأكده باليمين؛ كما يقصد الحض والمنع في الأمر أو النهي، وأكده باليمين، ولهذا لم يَكْفُر الغموس إجماعًا؛ لأنه لم يقصد نفي حرمة الإيمان بالله، لكن فعل كبيرة مع اعتقاد أنها كبيرة (¬2). والحاصل: أن معتمد المذهب: عدمُ وجوب الكفارة في اليمين على أمر ماض؛ لأنه إذا كان كاذبًا يعلم ذلك، فهي الغموس، وإن كان يظن ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1297)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قاتل النفس، ومسلم (110)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 306 - 307).

صدقَ نفسه، فلم يكن، لم يحنث (¬1)، والله الموفق. الثاني: استدل بعض الكوفيين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "شاهداك، أو يمينه" على رد القضاء باليمين لإفادة الحصر، وأجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر بأن المراد بقوله -عليه السلام-: "شاهداك"؛ أي: بينتك، سواء كانت رجلين، أو رجلًا وامرأتين، أو رجلًا ويمينَ الطالب (¬2). واعترضه البدر العيني بأنه تأويل غير صحيح (¬3). قلت: وهذه مسألة اشتهر فيها الخلاف بين الفقهاء، فمذهب ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، وعطاء، والنخعي، والشعبي، والأوزاعي، والكوفيين، وغيرهم: عدمُ الالتفات للشاهد ويمين الطالب، ويقولون: نص الكتاب العزيز في باب الشهادة: رجلان، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان، قالوا: فالحكم بشاهد ويمين مخالفٌ للنص، فلا يجوز، والأخبار التي وردت بشاهد ويمين أخبار آحاد، فلا يُعمل بها عند مخالفتها للنص؛ لأنه لا يكون نسخًا، قالوا: ونسخُ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز. وقال الحافظ ابن حجر في الرد عليهم: النسخ: رفعُ الحكم، ولا رفعَ هنا، وأيضًا: الناسخُ والمنسوخ لابد أن يتواردا على محل واحد، وهذا غير متحقق في الزيادة على النص (¬4). واعترضه البدر العيني بما يطول ذكره من أقسام النسخ، وأن هذا من نسخ الوصف (¬5)، انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 341). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 283). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 248). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 281). (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 244).

وقال الإمام ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية": الحكم بالشاهد واليمين مذهبُ أهل الحديث وفقهاء المحدِّثين، ومذهبُ فقهاء الأمصار في المال، وما يُقصد به المال؛ كالبيع والشراء والجعالة والمزارعة والشركة وتوابعها، والإجارة والمساقاة والجنايات التي موجبها المال، ونحو ذلك، ما خلا أبا حنيفة وأصحابه، وقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث عمرو بن دينار، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بشاهد ويمين. قال عمرو: في الأموال (¬1). قال الإمام الشافعي: حديث ابن عباس ثابت، ومعه ما يشدّه. قال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعيَّ يقول: قال لي محمدُ بن الحسن: لو علمت أن سيف بن سليمان يروي حديث اليمين مع الشاهد، لأفسدته، فقلت: يا أبا عبد الله! وإذا أفسدته، فسد (¬2). وقال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد عن سيف بن سليمان، قال: هو عندنا صدوق ويحفظ، كان ثبتًا (¬3). ورواه أبو داود من حديث عبد الرزاق، أخبرنا محمد بن مسلم عن عمرو (¬4)، ورواه الشافعي (¬5)، وغيره (¬6). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1712)، كتاب: الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد، بلفظ: "قضى بيمين وشاهد". ورواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 149)، وعنده زيادة: "قال عمرو: في الأموال". (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 167). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) رواه أبو داود (3609)، كتاب: الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد. (¬5) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 149). (¬6) انظر: "الطرق الحكمية" لابن القيم (ص: 193 - 194).

قال في "التمييز": حديث ابن عباس صحيح لا يرتاب في صحته، وقال ابن عبد البر: لا مطعن لأحد في صحته ولا إسناده (¬1)، ورواه الترمذي، وأبو داود، والشافعي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد، قال الترمذي: حديث حسن غريب (¬2). قال ابن القيم: وقد روي القضاء بالشاهد مع اليمين من رواية عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسعد بن عبادة، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، وزيد بن ثعلبة، وجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-. وقال أبو بكر الخطيب في مصنف أفرده لهذه المسألة: روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قضى بشاهد ويمين، وذكرَ الصحابةَ المتقدَم ذكرُهم، وزاد: عمارة بن حزم، وسرق، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو، وأبا سعيد الخدري، وعامر بن ربيعة، وسهلَ بن سعد، الساعدي، وعمرو بن حزم، وبلال بن الحارث، وتميمًا الداري، ومسلمةَ بن قيس، وأنس بن مالك -رضي الله عنهم-، ثم ذكر أحاديثهم بأسانيده. وفي مراسيل مالك: عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد الواحد (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 282). (¬2) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 150)، وأبو داود (3610)، كتاب: الأقضية، باب: القضاء باليمين والشاهد، والترمذي (1343)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في اليمين مع الشاهد، وابن ماجه (2368)، كتاب: الأحكام، باب: القضاء بالشاهد واليمين وانظر: "تمييز الطيب عن الخبيث" لابن الديبع الشافعي (ص: 128). (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 721) دون قوله: "الواحد".

وقضى به عليٌّ بالعراق. وروى البيهقي من حديث جعفر الصادق بن محمد الباقر، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كانوا يقضون بالشاهد الواحد ويمين المدعي، قال جعفر - رضي الله عنه -: والقضاة يقضون بذلك عندنا اليوم (¬1). وذكر أبو الزناد عن عبد الله بن عامر، قال: حضرتُ أبا بكر، وعمرَ، وعثمان يقضون بشهادة الشاهد واليمين (¬2). وقال الزنجي: حدثني جعفر بن محمد، قال: سمعت الحكمَ بنَ عيينة يسأل أبي -وقد وضع يده على جدار القبر ليقوم-: أقضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باليمين مع الشاهد؟ قال: نعم، وقضى به عليٌّ بين أظهُرِكم (¬3). وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة: اقضِ بالشاهد مع اليمين؛ فإنها السنة، رواه الشافعي (¬4). قال الإمام الشافعي: واليمين مع الشاهد لا يخالف من ظاهر القرآن شيئًا؛ لأنا نحكم بشاهدين، وشاهد وامرأتين، فإذا كان شاهد، حكمنا بشاهد ويمين، وليس ذلك بمخالف للقرآن (¬5)؛ لأنه لم يُحرِّمْ أنه يجوز أقلُّ ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 173). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 173). (¬3) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 150). (¬4) رواه الإمام الشافعي في "الأم" (6/ 255)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 173). (¬5) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (7/ 21).

مما نص عليه في كتابه، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمُ بما أراد الله، وقد أمرنا الله تعالى أن نأخذ ما آتانا. قال الإمام ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية": وليس في القرآن ما يقتضي أنه لا يُحكم إلا بشاهدين، أو شاهد وامرأتين؛ فإن الله تعالى إنما أمر بذلك أصحاب الحقوق أن يحفظوا حقوقهم بهذا النصاب، ولم يأمر بذلك الحكامَ أن يحكموا به، فضلًا عن أن يكون قد أمرهم أَلَّا يقضوا إلا بذلك، ولهذا يحكم الحاكم بالنكول واليمين المردودة عند من يرى ذلك، والمرأة الواحدة، والنساء المنفردات لا رجلَ معهن، وبمعاقد القمط، ووجوه الأُجر عند الحنفية، ومن يرى ذلك، وغير ذلك من طرق الحكم التي لم تذكر في القرآن، فإن كان الحكم بالشاهد واليمين مخالفًا لكتاب الله، فهذا أشد مخالفة لكتاب الله تعالى منه، وإن لم تكن هذه الأشياء مخالفة للقرآن، فالحكمُ بالشاهد واليمين أولى ألا يكون مخالفًا للقرآن، وطرقُ الحكم شيء، وطرقُ حفظ الحقوق شيء، وليس بينها تلازم، فتُحفظ الحقوق بما لا يحكم به الحاكم مما يعلم صاحب الحق أنه يحفظ به، ويحكم الحاكم بما لا يحفظ به صاحب الحق حقه، ولا خطر على باله؛ من نكولٍ، وردّ يمين، وغيرِ ذلك، والقضاءُ بالشاهد واليمين مما أراه الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه سبحانه قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، وقد حكم بالشاهد واليمين، فهو مما أراه الله إيّاه قطعًا. ومن العجب ردّ الشاهد واليمين والحكم بمجرد النكول الذي هو سكوت، ولا ينسب إلى ساكت قول، والحكم لِمُدّعي الحائط إذا كانت إليه الدواخل والخوارج، وهو الصحاح من الآجر، أو إليه معاقد القمط في

الخص، كما يقوله أبو يوسف، فأين هذا من الشاهد الواحد العدل المبرز في العدالة الذي يكاد يحصل العلم بشهادته إذا انضاف إليها يمين المدعي (¬1)؟ قال في "الطرق الحكمية": ومعلوم أن الشاهد العدل واليمين أقوى في الدلالة والبينة من ثلاثة جذوع على الحائط الذي ادعاه، فإذا أقام جاره شاهدًا، وحلف معه، كان ذلك أقوى من شهادة الجذوع، وقد نسب إلى البخاري إنكار الحكم بشاهد ويمين؛ لقوله في باب: يمين المدعى عليه، من كتاب: الشهادات من "صحيحه": قال لي قتيبة: حدثنا سفيان، عن ابن شبرمة، قال: كلمني أبو الزناد في شهادة الشاهد ويمين المدعي، فقلت: قال الله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] ما كان يصنع بهذه الأخرى (¬2)، فترجمة الباب بأن اليمين من جهة المدعى عليه، وذكر هذه المناظرة وعدم رواية حديث أو أثر في الشاهد، واليمين ظاهر في أنه لا يذهب إليه، وهذا ليس بصريح في أنه مذهبه. ولو صرَّح به، فالحجة فيما رواه، لا فيما رَآهُ، وذكر أبو بكر في "الشافي" من رواية حنبل: سمعت أبا عبد الله؛ يعني: الإمام أحمد - رضي الله عنه - يقول في الشاهد واليمين: جاز الحكم به، فقيل لأبي عبد الله: أي شيء معنى اليمين؟ قال: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاهد ويمين؛ قال: وهم لعلهم يقضون في مواضع بغير شهادة شاهد في مثل رجل اكترى من ¬

_ (¬1) انظر: "الطرق الحكمية" لابن القيم (ص: 194 - 199). (¬2) انظر: "صحيح البخاري" (2/ 948).

رجل دارًا، فوجد صاحبُ الدار في الدار شيئًا، فقال: هذا لي، وقال الساكن: هي لي، ومثل رجل اكترى من رجل دارًا، فوجد بها دفونًا، فقال الساكن: هي لي، وقال صاحب الدار: هي لي، فقيل: لمن يكون؟ فقال: هذا كله لصاحب الدار. وقال في رواية طالب: هم -يعني: المانعين شهادة الرجل الواحد ويمينَ المدعي- يقولون: لا تجوز شهادة رجل واحد ويمين صاحب الحق، ويجيزون شهادة المرأة الو احدة، ويجيزون الحكم بغير شهادة، مثل الخص إذا ادّعاه رجلان، يعطونه للذي القمطُ مما يليه، فمن قضى في هذا، وفي الحائط إذا ادّعاه رجلان، نظروا إلى اللبنة للتي من هي، فقضوا به لأحدهما بلا بينة، والقابلة تُقبل شهادتها في استهلال الصبي، فهذا يدخل عليهم، والله أعلم. الثالث: إذا قضى بالشاهد واليمين، فالحكم بالشاهد وحده، واليمين تقوية وتأكيد، هذا منصوص الإمام أحمد - رضي الله عنه -، فلو رجع الشاهد، كان الضمان كله عليه، قال الخلال في "الجامع" من رواية ابن شيس: سئل الإمام أحمد عن الشاهد واليمين تقول به؟ قال: إي لعمري! قيل له: فإن رجع الشاهد؟ قال: تكون الألف على الشاهد وحده، قيل له: كيف لا يكون على الطالب؛ لأنه استحق بيمينه، ويكون بمنزلة الشاهد؟ قال: لا، إنما هو السنة -يعني: اليمين-. وقال في رواية الأثرم: ما تلف بالشهادة فعلى الشاهد، ليست اليمين من الشهادة في شيء. قال أبو الحارث: قلت لأحمد: فإن رجع الشاهد عن شهادته بعدُ؟ قال: يضمن المال كلَّه، بِهِ كان الحكم.

وقال مالك والشافعي: إنما يضمن النصف بناء على أن اليمين قامت مقام الشاهد، فوقع الحكم بهما. والإمام أحمد أنكر ذلك لوجوه: منها: أن يمين صاحب الحق لو كانت كالشاهد، لجاز تقديمها على شهادته؛ كالشاهد الآخر. ومنها: أن اليمين قول الخصم، وقوله ليس بحجة على خصمه، وإنما هو شرط للحكم، واتباع للسنة، فجرى مجرى مطالبة الحاكم به (¬1)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الطرق الحكمية" لابن القيم (ص: 199 - 205).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ ثَابتِ بْنِ الضَّحَّاكِ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بشِيءِ، عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَليْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُه" (¬1). وَفي رِوَايةٍ: "ولَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5700)، كتاب: الأدب، باب: ما ينهى من السباب واللعن، ومسلم (110/ 176)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، واللفظ له، وأبو داود (3257)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: ما جاء في الحلف بالبراءة وبملة غير الإسلام، والنسائي (3771)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الحلف بملة سوى الإسلام، و (3813)، باب: النذر فيما لا يملك، والترمذي (1533)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، و (1543)، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير ملة الإسلام، و (2636)، كتاب: الإيمان، باب: ما جاء فيمن رمى أخاه بالكفر، من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن ثابت الضحاك، به. (¬2) رواه البخاري (5754)، كتاب: الأدب، باب: من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، و (6276)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من حلف بملة سوى ملة الإسلام، ومسلم (110/ 176)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه.

وَفِي رِوَايةٍ: "مَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا، لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلَّا قِلَّةً" (¬1). (عن ثابت بن الضحاك) بنِ خليفةَ بنِ ثعلبةَ بنِ عديِّ بنِ كعبِ بنِ عبدِ الأشهلِ الأشهليِّ الأوسيِّ (الأنصاري - رضي الله عنه -). روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر حديثًا؛ اتفقا على هذا الحديث، وانفرد مسلم بحديث، وكان ممن بايع تحت الشجرة بيعة الرضوان، سكن بالشام، وانتقل إلى البصرة، ومات سنة خمس وأربعين، وقيل: إنه مات في فتنة ابن الزبير. قال ابن منده: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان وستين سنة (¬2). وقيل: إن راوي هذا الحديث ثابتُ بنُ الضحاكِ بنِ أميةَ بنِ ثعلبةَ بنِ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (110/ 176)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، والحديث رواه أيضًا: البخاري (1297)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قاتل النفس، ومسلم (110/ 177)، كتاب: الأيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، والنسائي (3770)، كتاب الأيمان والنذور، باب: الحلف بملة سوى الإسلام، وابن ماجه (2098)، كتاب: الكفارات، باب: من حلف بملة غير الإسلام، من طرق وألفاظ مختلفة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 389)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 312)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 119)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 149)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1525)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 537)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 190)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 130). (¬2) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 165)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 44)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 205)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (1/ 446)، و"تهذيب الكمال" للمزي (4/ 359)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 391).

جُشَمَ بنِ مالكِ بنِ سالمِ بنِ عمرِو بنِ عوفِ بنِ الخزرجِ الأنصاريُّ الخزرجيُّ، ورُدَّ بأن الخزرجيَّ له رواية، ولا رواية له، والخلاف في ذلك طويل، لكن الراجح ما ذكرناه ملخصًا. (أنه)؛ أي: ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - (بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة)، وهي سَمُرَة -بفتح المهملة وضم الميم- من شجر الطلح، وهو نوع من العضاه (¬1). ولم تزل تلك الشجرة إلى مدة خلافة أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فبلغه أن أناسًا يذهبون إليها، ويصلُّون تحتها، ويتبرَّكون بها، فأمر - رضي الله عنه - بها، فقطعت، والحكمة في قطعِها، وإخفاءِ مكانها: خشية أن يحصل بها افتتان؛ لما وقع تحتها من الخير، وكانت تسمى: شجرةَ البيعة، وشجرةَ الرّضوان، فلو بقيت، لما أمن من تعظيم الجُهَّال لها، حتى ربما أفضى بهم الجهلُ إلى أنه بها قوةَ نفع وضرّ، كما هو شأن أبناء الزمان من فرط التعظيم والافتتان بما هو دونها من الشجر والبقاع، ونحوها لمجرد رؤية منام، أو كذبة كذّاب أنه رأى هناك شيخًا أو رجلًا صالحًا ممن يعتقدونه، حتى لقد بنيت المشاهد والصوامع لزعم زاعم: أنه رأى الخضر، أو إلياس، أو غيرهما بمكان كذا، والله أعلم. قال ثابت - رضي الله عنه -: (وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال)؛ أي: سمعه يقول، وقوله: إنه بايع تحت الشجرة توطئة وتمهيد لإثبات صحبته - رضي الله عنه -: (من حلف على يمين بملَّةٍ) جمعها مِلَل -بكسر الميم جمعًا وإفرادًا-، وهي الدين والشريعة، وهي نكرة في سياق النفي، فتعم جميع ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (4/ 271).

الملل من أهل الكتاب وغيرهم (¬1) (غيرِ) ملةِ (الإسلامِ) الذي بعث اللهُ به نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - رحمة للأنام، وعصمةً من الكفر والآثام، حالَ كونِ الحالف بتلك الملة، وأطلق الحلف عليه لمشابهته الحلف، إذ الحلف بالشيء حقيقة هو القسَمُ به، وإدخال البعض حروفَ القسم عليه كقوله: والله، والرحمن، وقد يطلق على التعليق بالشيء يمين؛ كقوله: من حلف بالطلاق، والمراد: تعليق الطلاق؛ لأنه مثله في اقتضاء الحنث أو المنع، فالمراد هنا: المعنى الثاني؛ بدليل قوله: (كاذبًا) في حلفه (متعمدًا) لذلك (¬2). وفي بعض طرق البخاري: "من حلف بغير ملة الإسلام (¬3)، (فهو كما قال) "؛ يعني: أنه إن كان قال: هو يهودي، فهو يهودي، أو هو نصراني، فهو نصراني. وتقدم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند الحاكم وغيره (¬4). وحديث بريدة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من قال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذبًا، فهو كما قال، وإن كان صادقًا، فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا" رواه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، ورواه الإمام أحمد والنسائي بإسناد جيد (¬5). واعلم أن معتمد المذهب فيمن حلف بملة اليهود أو النصارى بأن قال: هو يهودي إن فعل كذا، أو نصراني إن لم يفعل كذا، أو نحو ذلك: أنه أتى ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 537). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 149). (¬3) تقدم تخريجه برقم (6276). (¬4) وتقدم تخريجه. (¬5) تقدم تخريجه.

محرَّمًا، وعليه كفارة يمين إن خالف؛ بأن فعل ما حلف على تركه، أو تركَ ما حلف على فعله حيث يحنث (¬1)؛ لما في حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو مجوسي، أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها، فيحنث في هذه الأشياء، فقال: "عليه كفارة يمين" رواه أبو بكر (¬2)؛ كقوله: إن كنت فعلت كذا، فهو يهودي. وتعلق من لم ير فيه كفارة بعدم ذكر الكفارة فيه، بل جعل المرتب على كذبه قوله: "فهو كما قال". قال ابن دقيق العيد: ولا يكفر في صورة الماضي إلا إن قصد التعظيم، وفيه خلاف عند الحنفية؛ لكونه تنجيز معنى، فصار كما قال: هو يهودي. ومنهم من قال: إن كان يعلم أنه يمين، لم يكفر، وإن كان يعلم أنه يكفر بالحنث به، كفر؛ لكونه رضي الكفر حيث أقدم على الفعل. وقال بعض الشافعية: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبًا. قال ابن دقيق العيد: والتحقيقُ التفصيل، فإن اعتقدَ تعظيمَ ما ذكر، كفر، وإن قصد حقيقة التعليق، فينظر، فإن كان أراد أن يكون متصفًا بذلك، كفر؛ لأن إرادة الكفر كفرٌ، وإن أراد: البعد عن ذلك، لم يكفر، ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 342 - 344). (¬2) ذكره ابن قدامة في "المغني" (9/ 401). وقال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (3/ 499)، قال شيخنا: هذا الحديث لا أصل له، والصحيح في هذه المسألة أنه لا كفارة عليه.

ولكن هل يحرم عليه ذلك، أو يكره تنزيهًا؟ الثاني هو المشهور، انتهى (¬1). لأن قوله ذلك فيه هتك الحرمة، فكان يمينًا؛ كالحلف بالله سبحانه؛ بخلاف: هو فاسق إن فعل كذا؛ لإباحته في حال. وكذا لا كفارة في قوله: عصيت الله، أو أنا أعصي الله في كل ما أمرني، أو محوت المصحف، لكن اختار الإمام المجد في "المحرر": أنه إذا قال: عصيت الله في كل ما أمرني به: أنه يمين؛ لدخول التوحيد فيه (¬2). وقال ابن عقيل في قوله: محوت المصحف: هو يمين؛ لأن الحالف لم يقصد بقوله: محوته إلا إسقاطَ حرمته، فصار كقوله: هو يهودي، لكن معتمد المذهب: لا كفارة (¬3). قال ثابت بن الضحاك: - رضي الله عنه -: (و) قال - صلى الله عليه وسلم -: (من)؛ أي: كل إنسان مكلَّف (قتلَ نفسه بشيء) زاد مسلم: "في الدنيا" (¬4) من أنواع ما يقتل به من سلاح أو طعام أو شراب من أجناس السميات، قاصدًا بذلك هلاك نفسه (عُذِّبَ) بالبناء للمفعول؛ أي: عذبه الله سبحانه (به)؛ أي: بالشيء الذي قتل به نفسَه (يومَ القيامة) زاد مسلم: "في نار جهنم" (¬5) جزاء وفاقًا. وفي "الصحيحين" وغيرِهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 149 - 150)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 539)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬2) انظر: "المحرر" للمجد بن تيمية (2/ 197). (¬3) وانظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 304)، و"الإنصاف" للمرداوي (11/ 33)، و"الإقناع" للحجاوي (4/ 344). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (110/ 176). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (110/ 177).

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تَرَدَّى من جبلٍ، فقتلَ نفسَه، فهو في نار جهنم يتردَّى فيها خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سُمًّا، فقتلَ نفسَه، فسُمُّه في يده يتحَسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدتُه في يده يتوجَّأُ بها في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا" (¬1). قوله في الحديث: "من تردى"؛ أي: رمى نفسه من الجبل أو غيره، فهلك، وقوله: "يتوجأ" -مهموزًا-؛ أي: يضرب بها نفسه (¬2). وفي "البخاري" عن أبي هريرة أيضًا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذي يخنقُ نفسَه يخنقُها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار، والذي يقتحم يقتحم في النار" (¬3). وفي "الصحيحين" من حديث جندب بن عبد الله - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كان رجلٌ به جراحٌ، فقتل نفسه، فقال الله: بَدَرني عبدي بنفسِه، فحرَّمت عليه الجنّة" (¬4). وفي رواية: "كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جرح، فجزع، فأخذ سكينًا، فَحَزَّ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله: بادرني عبدي بنفسه. . . ." الحديث (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5442)، كتاب: الطب، باب: شرب السم والدواء به، وبما يخاف منه والخبيث، ومسلم (109)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. (¬2) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 205)، عقب حديث (3697). (¬3) تقدم تخريجه، وأن هذا اللفظ ليس للبخاري وإنما هو للإمام أحمد. (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1298). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3276).

ومجمل هذه الأحاديث عند الجمهور على الزجر والتخويف، أو على طول اللبث في نار جهنم، أو على المستحِلِّ، والله الموفق. (و) قال - صلى الله عليه وسلم -: (ليس على رجل)؛ أي: شخص؛ إذ لا خصوص للرجل، بل مثله المرأة (نَذْرٌ) يعتبر شرعًا (فيما)؛ أي: في الشيء الذي (لا يملكه)؛ لعدم صحة تصرف الشخص في ملك غيره بغير إذنه من غير موجب شرعي؛ كما يأتي الكلام على النذر قريبًا. (وفي رواية) في "الصحيحين" من حديث ثابت - رضي الله عنه -: (ولعنُ) الشخصِ (المؤمنِ) من ذكر أو أنثى (كقتلِه)؛ أي: في التحريم، أو في الإبعاد؛ إذ اللعنةُ تبعيد من رحمة الله، والقتلُ تبعيد من الحياة الحسية (¬1). وقال في "الفتح": لأنه إذا لعنه، فكأنه دعا عليه بالهلاك (¬2)، واللعنُ كما في "النهاية": الطرد والإبعاد من الله تعالى، ومن الخلق السب والدعاء (¬3). وفي "القاموس": لعنه؛ كمنعه: طرده وأبعده، فهو لعين وملعون، والجمع ملاعين، والاسم اللَّعان واللَّعانية، [واللَّعنة - مفتوحاتٍ]، واللُّعْنة -بالضم-: مَنْ يلعنه الناس، وكهُمَزَة: الكثير اللعن لهم، وامرأة لَعينٌ، فإذا لم تذكر الموصوفة، فبالهاء (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فيض القدير" للمناوي (5/ 370 - 371). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 467). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 255). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1588)، (مادة: لعن).

وفي لغة الإقناع: لعنه لعنًا؛ من باب نفع: طرده وأبعده، أو سبه (¬1). وفي "الطبراني" بإسناد جيد من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -، قال: كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه، رأينا أنه قد أتى بابًا من الكبائر (¬2). وأما لعنُ الكافر، فيجوز عامًا، وفي لعن المعيَّنِ روايتان عن الإمام أحمد - رضي الله عنه -. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولعنُ تاركِ الصلاة على وجه العموم جائزٌ، وأما لعنةُ المعيَّنِ، فالأولى تركُها؛ لأنه يمكن أن يتوب (¬3). وقال في موضع آخر: في لعنِ المعيَّن من الكفار من أهل القبلة وغيرهم، ومن الفساق بالاعتقاد أو بالعمل، لأصحابنا فيها أقوال: أحدها: أنه لا يجوز بحال، وهو قول أبي بكر عبد العزيز. والثاني: يجوز في الكافر دون الفاسق. والثالث: يجوز مطلقًا (¬4). قال الإمام الحافظ ابن الجوزي: وقد لعن الإمام أحمد - رضي الله عنه - مَنْ يستحق اللعن، فقال في رواية مسدد: قالت الواقفية الملعونة، والمعتزلة الملعونة، وقال: على الجهمية لعنةُ الله. وكان الحسن البصري يلعن الحَجَّاج. ¬

_ (¬1) انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 554). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6674). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (22/ 63). (¬4) انظر: "منهاج السنة النبوية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 569).

والإمام أحمد يقول: الحَجَّاجُ رجل سوء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس في هذا عن الإمام أحمد لعنةُ معيَّن، لكن قول الحسن نعم. وقال في قول القاضي في كتابه "المعتمد": إن مَنْ حكمنا بكفرهم من المتأوِّلين وغيرِهم، فجائز لعنتُهم، نص عليه، وذكر أنه -يعني: الإمام أحمد- قال في اللفظية: على من جاء بهذا لعنة الله عليه، غضب الله، وذكر أنه قال عن قوم: هتك الله الخبيث، وعن قوم: أخزاهم الله، وقال في آخر: ملأ الله قبره نارًا: لم أره -يعني: القاضي- نقل عن الإمام أحمد لعنة معينة، إلا لعنة نوع، أو دعاء على معين بالعذاب، أو سَبًّا له. قال القاضي: فأما فساق الملة بالأفعال؛ كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس، ونحوهم، فهل يجوز لعنهم أو لا؟ توقف الإمام أحمد - رضي الله عنه - عن ذلك. وفي رواية صالح: قلت لأبي: الرجلُ يُذْكَرُ عنده الحَجَّاجُ أو غيرُه، يلعنُه؟ فقال: لا يعجبني، لو عَمَّ، ألا لعنةُ الله على الظالمين. وقال أبو طالب: سألت أحمد - رضي الله عنه - عَمَّنْ نال يزيدَ بنَ معاوية، فقال: لا تكلم في هذا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعنُ المؤمنِ كقتله"، قال: فقد توقف عن لعنة الحجاج مع ما فعله، ومع قوله: الحجاجُ رجل سوء، وتوقف عن لعنة يزيدَ مع قوله عنه في رواية مهنا: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل، قتلَ بالمدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونهبَها، لا ينبغي لأحد يكتب حديثه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المنصوص عن الإمام أحمد: اللعنُ

المطلقُ العامُّ، لا المعيَّنُ؛ كما قلنا في نصوص الوعيد والوعد، وكما نقول في الشهادة بالجنة والنار لمن شهد له الكتاب والسنة، ولا نشهد بذلك لمعين إلا لمن شهد له النص، وشهدت له الاستفاضة على قول؛ فالشهادة في الخبر كاللعن في الطلب، والخبر والطلب نوعا الكلام (¬1). ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الطعانين واللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة". وفي لفظ: "لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة" (¬2). قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد": لأن اللعن إساءة، والشفاعة إحسان، فالمسيء في هذه الدار باللعن يسلبه الله الإحسانَ في الآخرة بالشفاعة، فإن الإنسان إنما يحصد ما يزرع، والإساءة مانعة من الشفاعة التي هي إحسان. وأما منع اللعن من الشهادة، فإن اللعن عداوة، وهي منافية للشهادة، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سيدَ الشفعاء، وشفيعَ الخلائق؛ لكمال إحسانه ورأفته ورحمته بهم - صلى الله عليه وسلم - (¬3). (وفي رواية) لمسلم: (من ادعى دعوى)؛ كحُبلى وذِفْرى، تقول: ادعيت على فلان كذا ادعاءً، والاسم: الدعوى، وهي طلب الشيء زاعمًا ملكَه (¬4) (كاذبة) يشمل بعمومه سائر الدعاوى الباطلة؛ من المال والعلم ¬

_ (¬1) لم أقف على كلام شيخ الإسلام الذي ساقه الشارح -رحمه الله- والله أعلم. (¬2) رواهما مسلم (2598)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: فضل الرفق، من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 724). (¬4) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 403).

والتعلم، والنسب والحال والصلاح، وغير ذلك، وكلما زاد [ت] المفسدة بتلك الدعوى، زاد التحريم، ولابدّ من قيد العلم؛ بأن يكون عالمًا بأن تلك الدعوى التي ادعاها كاذبة، وظاهر الحديث يشعر بذلك؛ (ليتكثَّرَ)؛ أي: يطلب الكثرة والرفعة والتعاظم (بها)؛ أي: بتلك الدعوى على غيره (لم يزدْه اللهُ) -سبحانه وتعالى- (إلا قلَّة) وحقارةً؛ جزاءً منه -سبحانه-، وعقوبة له بعكس ما قصد؛ لإجراء عادته -جل شأنه- أن كل من طلب الرفعة والعز بمعصيته، كان جزاؤه الاحتقارَ والذلَّ. وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تواضعَ لله درجةً، يرفعْهُ الله درجةً حتى يجعلَه في أعلى عِلِّيِّينَ، ومن تكبَّرَ على الله درجةً، يضعْهُ الله درجةً حتى يجعله في أسفلِ سافلين. . . ." الحديث، رواه ابن ماجه، وابن حبان في [صحيحه] (¬1). وفي حديث أبي هريرة في "أوسط الطبراني" مرفوعًا: "من تواضعَ لأخيه المسلم، رفَعه الله، ومن ارتفع عليه، وضعَه اللهُ" (¬2). وفي الطبراني من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: "من يُراءِ يُراءِ اللهُ به، ومن يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللهُ به، ومن تطاولَ تعظيمًا يخفضْه الله، ومن تواضعَ خشيةً يرفعْه الله" (¬3). وفي حديث عقبة بنِ عامرٍ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) في الأصل: "صحيحيهما"، والصواب ما أثبت. والحديث: رواه ابن ماجه (4176)، كتاب: الزهد، باب: البراءة من الكبر، والتواضع، وابن حبان في "صحيحة" (5678). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (7711). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (8512).

"إن أنسابَكم هذه ليست نسباتٍ على أحد، وإنما أنتم ولدُ آدمَ طَفَّ الصاعِ لم تملؤوه، ليس لأحدٍ على أحد فضل إلا بدينٍ أو تقوى" (¬1). قوله: "طفَّ الصاعِ" بالإضافة؛ أي: قريب بعضكم من بعض (¬2)، والأحاديث في مثل هذا كثيرة متظافرة. وفي "مسند الإمام أحمد"، و"الصحيحين" من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: "من ادعى ما ليس له، فليس منا، وليتبوَّأْ مقعدَه من النار" (¬3)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 145)، والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 295). (¬2) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 375). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 166)، والبخاري (3317)، كتاب: المناقب، باب: نسبة اليمن إلى إسماعيل ومسلم (61)، كتاب: الإيمان، باب: بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم.

باب النذر

باب النذر وهو لغة: الإيجاب، وشرعًا: التزامُه لله شيئًا بقوله، لا بنية مجرَّدَةٍ (¬1). يقال: نَذَرْتُ أَنْذِرُ وأنذُر -بكسر الذال وضمها- نَذْرًا: إذا أوجبتَ على نفسك شيئًا تبرُّعًا من عبادةٍ أو صدقةٍ أو غيرِ ذلك (¬2). وذكر المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب خمسة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 353). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 38).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً -وَفِي رِوَايةٍ: يَوْمًا- فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ: "فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1927)، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف ليلًا، و (1938)، باب: إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم، و (6319)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانًا في الجاهلية ثم أسلم، ومسلم (1656)، كتاب: الأيمان، باب: نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم، وأبو داود (3325)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من نذر في الجاهلية ثم أدرك الإسلام، والنسائي (3820 - 3822)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا نذر ثم أسلم قبل أن يفي، والترمذي (1539)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في وفاء النذر، وابن ماجه (2129)، كتاب: الكفارات، باب: الوفاء بالنذر. وقد تقدم الحديث وتخريجه في باب: الاعتكاف، فلينظر في موضعه لاستتمام فوائده. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 424)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 644)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 124)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 154)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1535)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 582)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 146)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 115)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (4/ 359).

(عن) أمير المؤمنين أبي حفص (عمرَ) بنِ الخطاب (- رضي الله عنه -، قال: قلت: يا رسول الله! إني كنت نذرتُ في) أيام (الجاهلية) قبل أن أسلم (أن أعتكف ليلة، وفي رواية: يومًا في المسجد الحرام) المكي -زاده الله تشريفًا وتعظيمًا-، (قال) -عليه الصلاة والسلام- مجيبًا لعمر - رضي الله عنه -: (فأوفِ بنذرك) الذي نذرته، ولو كان نذرُك له في أيام الجاهلية، وتقدم الحديث وشرحه في باب الاعتكاف، وإنما أعاده هنا؛ لأنه ذكره هناك مستدلًا به على عدم اعتبار الصوم في الاعتكاف، وهنا مستدلًا به على صحة النذر من الكافر كما جزم به علماؤنا. قال في "الفروع" في النذر: ولا يصح إلا من مكلف -ولو كافرًا- بعبادة، نص عليه (¬1)؛ يعني: الإمام أحمد - رضي الله عنه -. قال ابن دقيق العيد: يَستدل به من يرى صحةَ النذر من الكافر. قال: وهو قول، أو وجه في مذهب الشافعي. قال: والأشهر أنه لا يصح؛ لأن النذر قربة، والكافر ليس من أهل القُرَب، ومن يقول بهذا يحتاج إلى أن يؤول الحديث بأنه أمر بأن يأتي باعتكاف يوم شبيه بما نذر لِئَلا يخل بعبادة نوى فعلها، فأطلق عليه أنه منذور؛ لشبهه بالمنذور، وقيامِه مقامَه في فعل ما نواه من الطاعة، وعليه: إما أن يكون قوله: "فأوف بنذرك" من مجاز الحذف، أو مجاز التشبيه. وظاهر الحديث خلافه؛ لعدم الملجىء إلى مثل هذا التأويل، وارتكاب ما هو خلاف الأصل (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 353). (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 258).

واعلم: أن معتمد المذهب: صحةُ النذر من الكافر، فإن كان المنذور يُعتبر له الإسلام؛ كالصوم والصلاة والحج والزكاة والاعتكاف وشبهها، فلا يصح فعلُه إلا بعد الإسلام، فينعقد من الكافر كالمسلم، ولا يُفعل إلا بسائر شروطه (¬1). وتقدم الكلام عليه في باب الاعتكاف، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 379).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ" (¬1). * * * (عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) بن الخطاب -رضي الله عنهما-، عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه) - صلى الله عليه وسلم - (نهى عَنِ النذر). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (6234)، كتاب: القدر، باب: إلقاء العبد النذر إلى القدر، و (6314 - 6315)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: الوفاء بالنذر، ومسلم (1639/ 4)، واللفظ له، و (1639/ 2 - 3)، كتاب: النذر، باب: النهي عن النذر، وأنه لا يرد شيئا، وأبو داود (3287)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: النهي عن النذر، والنسائي (3801 - 3802)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: النهي عن النذر، وابن ماجه (2122)، كتاب: الكفارات، باب: النهي عن النذر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 53)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 387)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 607)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 97)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 156)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1537)، و"فتح الباري" لابن حجر (11/ 576)، و"عمدة القاري" للعيني (23/ 153)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 404)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 110)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 138).

قال في "النهاية": وقد تكرر في أحاديثه ذكر النهي عنه، وهو تأكيد لأمره، وتحذير عن التهاون بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يُفعل، لكان في ذلك إبطالُ حكمه، وإسقاطُ لزوم الوفاء به؛ إذ كان بالنهي يصير معصية، فلا يلزم، وإنما وجه ذلك: أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجرُّ لهم في العاجل نفعًا، ولا يصرف عنهم ضرًا، ولا يردُّ قضاء (¬1)، (و) لذلك (قال: إنه)؛ أي: النذر (لا يأتي بخير)، ولا يرد من القدر شيئًا، (وإنما يُستخرج به)؛ أي: النذرِ (من البخيل)؛ فإن من عادة الناس تعليقَ المنذور على حصول المنافع ودفع المضار، فنهى - صلى الله عليه وسلم - عنه؛ لأنه من فعل البخلاء، وأما الأسخياء إذا أرادوا أن يتقربوا إلى الله تعالى بشيء، استعجلوا به، وأتوا به في الحال، والبخيل لا تطاوعه نفسه بإخراج شيء من يده إلا في مقابلة شيء (¬2). وفي بعض ألفاظ البخاري: "إن النذر لا يقدم شيئًا ولا يؤخره، وإنما يُستخرج بالنذر من البخيل" (¬3). قال في "النهاية": كأنه قال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئًا لم يقدِّرْهُ الله لكم، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاءُ عليكم، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا، فاخرجوا عنه بالوفاء؛ فإن الذي نذرتموه لازم لكم (¬4). قال الإمام العلامة ابن مُفلح في "فروعه": النذر مكروه وفاقًا لأبي ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 38). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 580). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6314). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 38).

حنيفة، لا يأتـ[ـي] بخير، قال ابن حامد: لا يردُّ قضاء، ولا يملك به شيئًا محدثًا. قال: وتوقف شيخنا في تحريمه، ونقل عبد الله -يعني: ابن الإمام أحمد-: نَهَى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن حامد: المذهب: أنه مباح، وحرَّمه طائفةٌ من أهل الحديث (¬1)، انتهى. ومعتمد المذهب: أنه مكروه؛ كما جزم في "المغني" (¬2)، و"الشرح" (¬3)، ومشى عليه في "الإقناع" (¬4)، و"المنتهى" (¬5). قال الناظم: ليس هو سنة، ولا محرم. قال في "الفروع": وظاهر ما سبق: يصلي النفل كما هو، لا ينذره ثم يصليه؛ خلافًا للأرجح للحنفية (¬6). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إيجابُ المؤمن على نفسه إيجابًا لم يحتج إليه بنذرٍ، وعهدٍ وطلبٍ وسؤالٍ جهلٌ منه، وظلمٌ (¬7). وينعقد في واجب؛ كَـ: لِلَّهِ عليَّ صومُ أمسِ ونحوهِ من المُحال (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 353). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 67). (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (11/ 331). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 379). (¬5) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 251). (¬6) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 353). (¬7) المرجع السابق، (6/ 355). (¬8) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 379).

قال علماؤنا: وأنواع منعقِدِ النذرِ ستة: أحدها: المطلق؛ كـ: للَّهِ عليَّ نذرٌ، أو: إن فعلتُ كذا، فعليَّ نذرٌ. ولا نيةَ تخصيصٍ بمحل، ولا زمن، وفعلَه، فكفارة يمين؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك (¬1)؛ لحديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفارةُ النذر إذا لم يسمَّ كفارة يمين" رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حسن صحيح غريب (¬2)، وهذا نص في المسألة، فلا يعدل عنه. الثاني: نذرُ لِجاجٍ وغضبٍ، وهو تعليقُه بشرط بقصد المنع من شيء، أو الحملِ عليه؛ كـ: إن كلمتُك، أو: إن لم أخبرك، فعليَّ الحجُّ، أو العتقُ، أو صومُ سنة، أو مالي صدقةٌ، فيخير بين فعل ما التزمه، أو كفارة يمين (¬3). وقال أبو حنيفة في إحدى روايتيه: يلزمه الوفاء بما قاله، ولا يلزمه كفارة، وفي الأخرى: يجزئه عن ذلك كفارة يمين. قال محمد بن الحسن: رجع أبو حنيفة عن القول الأول إلى القول بالكفارة. وقال مالك: يلزمه في الصّدقة أن يتصدق بثلث ماله، ولا يجزئه الكفارة عنه، وفي الحج والصوم يلزمه الوفاء لا غير. وعن الشافعي قولان: أحدهما: يلزمه الوفاء. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 353). (¬2) رواه الترمذي (1528)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في كفارة النذر إذا لم يسم، واللفظ له، وابن ماجه (2127)، كتاب: الكفارات، باب: من نذر نذرًا ولم يسمه. (¬3) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 252).

والآخر: هو مخير بين الوفاء بما قال، وبين كفارة اليمين (¬1)؛ كمعتمد مذهبنا. قال القاضي زكريا في "شرح المنهج": فيه -أي: نذر اللجاج والغضب- عندَ وجود الصفة ما التزمَه؛ عملًا بالتزامه، أو كفارةُ يمين؛ لخبر مسلم: "كفارة النذر كفارة يمين" (¬2)، وهي لا تكفي في نذر التبرر بالاتفاق، فتعين حملُه على نذر اللجاج (¬3). وعن ابن حصين - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين" رواه سعيد في "سننه" (¬4). الثالث: نذرٌ مباح؛ كـ: للَّه عليَّ أن ألبس ثوبي، وأركب دابتي، فيخير -أيضًا- على معتمد المذهب (¬5). وقال الثلاثة: لا ينعقد (¬6). الرابع: نذرٌ مكروه؛ كطلاق ونحوه، فيسن أن يكفِّرَ ولا يفعلَه. الخامس: نذرُ معصية؛ كشرب خمر، وصومُ يومِ عيدٍ وحيضٍ وأيامِ تشريق، فيحرم الوفاءُ به، ولا كفارة. ويكفِّر من لم يفعله، ويقضي صومَ ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 340). (¬2) رواه مسلم (1645)، كتاب: النذور، باب: في كفارة النذر، من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: "فتح الوهاب شرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 356). (¬4) ورواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 433)، والنسائي (3842)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كفارة النذر، وغيرهما من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 380). (¬6) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 341).

ما نذر غير يوم حيض مع الكفارة (¬1)؛ لحديث: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من حديث عائشة (¬2)، والنسائي، من حديث عمران بن حصين (¬3). وفي "المسند"، و"صحيح البخاري"، و"السنن الأربعة" من حديث عائشة -رضي الله عنها-: "من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يَعْصِه" (¬4). قال ابن هبيرة: اتفقوا على أن النذر منعقدٌ للناذر إذا كان في طاعة، فأما إذا نذر أن يعصي الله، فاتفقوا أنه لا يجوز أن يعصيه، ثم اختلفوا في وجوب الكفارة هل تنعقد؟ فقال الثلاثة: لا تنعقد. ¬

_ (¬1) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 253). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 247)، وأبو داود (3290)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان فيه معصية، و (3835)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كفارة النذر، والترمذي (1525)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا نذر في معصية، وابن ماجه (2125)، كتاب: الكفارات، باب: النذر في المعصية. (¬3) تقدم تخريجه قريبًا. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 36)، والبخاري (6318)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذر في الطاعة، وأبو داود (3289)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: ما جاء في النذر في المعصية، والنسائي (3806)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: النذر في الطاعة، والترمذي (1526)، كتاب: النذور والأيمان، باب: من نذر أن يطيع الله فليطعه، وابن ماجه (2126)، كتاب: الكفارات، باب: النذور في المعصية.

وقال الإمام أحمد: ينعقد النذر، ولا يحل له فعله، وموجبه كفارة، وعنه: لا ينعقد، ولا يلزمه كفارة (¬1). والمعتمد: عليه الكفارة، ومنه نذر ذبح ولده على المعتمد. وعنه: يلزمه أن يذبح شاة؛ وفاقًا لأبي حنيفة ومالك. وقال الشافعي: لا يلزمه شيء (¬2). السادس: نذرُ تَبَرُّرَ؛ كصلاة وصوم واعتكاف وصدقة وحج وعمرة بقصد التقرُّب بلا شرط، أو علق بشرط نعمة، أو دفع نقمة؛ كـ: إن شفى الله مريضي، أو سلم مالي، أو حلف بقصد التقرب؛ كـ: والله، أو: لئن سلم مالي، لأتصدقن بكذا، فوجد شرطه، لزمه، ويجوز إخراجه قبله (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية في إن قدم فلان، أصوم كذا: هذا نذر يجب الوفاء به مع القدرة، لا أعلم فيه نزاعًا. ومن قال: ليس بنذر، فقد أخطأ. وقال: قول القائل: لئن ابتلاني، لأصبرنَّ، ولئن لقيتُ عدوًا، لأجاهدنَّ، ولو علمت أي العمل أحبّ إلى الله، لعملته: نذرٌ معلق بشرط (¬4). ومن نذر فعل طاعة ومعصية، لزمه فعلُ الطاعة، وكَفَّر للمعصية (¬5). وفروع النذر وتقاسيمه كثيرة مذكورة في كتب الفقه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 339). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 358 - 359). (¬3) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 253). (¬4) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 622). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 381).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عُقْبهَ بْنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ: "لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ" (¬1). * * * (عن) ابن عامر (عقبةَ بنِ عامر) بن عَبْسٍ الجهنيِّ، تقدمت ترجمته في ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1767)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: من نذر المشي إلى الكعبة، ومسلم (1644)، كتاب: النذور، باب: من نذر أن يمشي إلى الكعبة، وأبو داود (3299)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، والنسائي (3814)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من نذر أن يمشي إلى بيت الله تعالى، والترمذي (1544)، كتاب: النذور والأيمان، باب: (16)، وابن ماجه (2134)، كتاب: الكفارات، باب: من نذر أن يحج ماشيًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 55)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 397)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 618)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 102)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 158)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1540)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 79)، و"عمدة القاري" للعيني (10/ 225)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 328)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 113)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 145).

كتاب: النكاح (- رضي الله عنه - قال: نذرت أختي)، قال ابن ماكولا: هي أم حِبّان بنتُ عامر الأنصاريةُ، أسلمت وبايعت. قاله محمد بن سعد (¬1). قال الذهبي: وهي -بكسر الحاء المهملة- من حِبَّان، بعدها موحدة (¬2)، وكذا ذكر القسطلاني (¬3) والبلقيني، وغيرهم (¬4) (أن تمشي إلى بيت الله الحرام) حال كونها (حافيةً)؛ أي: بلا نعل ولا خف، (فأمرتني أن أستفتي لها) في نذرها الذي نذرته على الصفة المتقدم ذكرُها (رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: أَستخبرَ لها عن حكم ذلك، وأَطلبَ بيانه وإظهاره من النبي - صلى الله عليه وسلم -، (فاستفتيته) -عليه الصَّلاة والسَّلام- في ذلك، (فقال) -عليه الصلاة والسلام-: (لتمشِ) أختك إن قدرت على المشي، (ولتركب) حيث عجزت عن المشي، وأرهقها التعب، وحيث عجزت عن المشي وركبت، فإنه تلزمها كفارة يمين. قال في شرح "الكافي" فإن تركَ المشيَ مَنْ نذر أن يمشي إلى بيت الله الحرام ماشيًا لعجز أو غيره، فعليه كفارة يمين، وهو المذهب. قال ابن منجا في "شرحه": هذا المذهب، وهو أصحّ، وجزم به في ¬

_ (¬1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 395)، وانظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (2/ 837). (¬2) انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (2/ 315). (¬3) انظر: "إرشاد الساري" للقسطلاني (3/ 328). (¬4) قلت: قد تعقب الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 80) ما قالوه، فقال: لا يعرف اسم أخت عقبة هذا، وما نسبه هؤلاء لابن ماكولا وهم، فإنه إنما نقله عن ابن سعد، وابن سعد إنما ذكر في طبقات النساء أم حبان بنت عامر بن نابي -بنون موحدة- بن زيد بن حرام -بمهملتين- الأنصارية، وأنه شهد بدرًا، وهو مغاير للجهني.

"الوجيز"، وقدمه في "المغني" (¬1)، و"المحرر" (¬2)، و"الشرح"، و"الفروع" (¬3)، و"الهداية"، و"المذهب"، و"المستوعب"، و"الخلاصة". وعنه: عليه دم. ووجوب كفارة يمين من مفردات المذهب، قال ناظمها: [من الرجز] لِمَكَّةٍ نَاذِرُ مَشْيٍ رَكِبَا ... مَعْ عَجْزِهِ التَّكْفِيرُ أَيْضًا وَجَبَا قال شارحها: يعني: إذا نذر المشيَ لمكة المشرفة، أو بيت الله الحرام، أو موضع من الحرم، لزمه المشي في حج أو عمرة؛ لأنه هو المشي إليه في الشرع، فإن عجز عن المشي، فركب، فعليه كفارة يمين. وقال أبو حنيفة: هدي، وأقله شاة، سواءً عجز عن المشي، أو قدر عليه. وقال الشافعي: يلزمه دم. وأفتى به عطاء؛ لما روى ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن أخت عقبةَ بنِ عامر نذرت المشيَ إلى بيت الله الحرام، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب، وتهدي هَدْيًا. رواه أبو داود (¬4)، وفيه ضعف. وقال مالك: يحجُّ مِن قابِل، ويركب ما مشى، ويمشي ما ركب، ويهدي. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 74). (¬2) انظر: "المحرر" للمجد بن تيمية (2/ 201). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 366). (¬4) رواه أبو داود (3296)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية.

ولنا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كفارة النذر كفارة اليمين" (¬1)، ولأن المشي مما لا يوجبه الإحرام، فلم يجب الهدي بتركه؛ كما لو نذر صلاة ركعتين فتركهما (¬2). وفي "الفروع": قال شيخنا: القادر على فعل المنذور يلزمه، وإلا، فله أن يكفر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كفارة النذر كفارة اليمين"، ولأمره لأخت عقبة بن عامر أن تمشي وتكفِّر (¬3)، انتهى. ولفظ هذا الحديث: أن أخت عقبةَ بن عامر نذرت أن تمشي حافيةً غير مختمرة، قال: فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، مرها فلتختمرْ، ولتركبْ، ولتصم ثلاثة أيام" رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربع (¬4). وفي رواية للإمام أحمد، ولأبي داود من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكره، وفيه: "لتخرج راكبة، ولتكفر يمينها" (¬5). تنبيهات: الأول: يلزم مَنْ نذرَ أن يمشي إلى بيت الله، أو إلى الكعبة، أو مكة، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 74). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 365). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 145)، وأبو داود (3293)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من رأى علية كفارة إذا كان في معصية، والنسائي (3815)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حلفت المرأة لتمشي حافية غير مختمرة. وتقدم تخرجه عند الترمذي برقم (1544)، وعند ابن ماجه برقم (2134). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 310).

وأطلق، أو قال: غيرَ حاجٍّ ولا معتمر، ألزمه، المشي في حج أو عمرة من مكان نذره، لا إحرام قبل ميقاته، ما لم ينو مكانًا بعينه، أو ينوي إتيانه، لا حقيقة المشي، فيلزمه الإتيان، ويخيّر بين المشي والركوب؛ لحصوله بكل منهما (¬1). وإن نذر المشي إلى موضع خارج الحرم؛ كعرفة، ومواقيتِ إحرام، لم يلزمه، ويخيّر بين فعله والكفارة (¬2). الثاني: يلزم من نذر المشيَ إلى مسجد المدينة النبوية -على صاحبها الصلاة والسلام-، أو نذر المشي إلى المسجد الأقصى ذلك، ويلزمه أن يصلي فيه ركعتين (¬3)؛ إذ القصد بالنذر القربة والطاعة، وإنما يحصل ذلك بالصلاة، فتضمن ذلك نذرها؛ كنذر المشي إلى بيت الله الحرام حيث وجب به أحد النسكين (¬4)، وهذا مذهبنا؛ كالمالكية، وأحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه ذلك، ولا ينعقد نذره (¬5). وكذا قال فيما إذا نذر أن يصلي في المسجد الحرام: إنه يجزئه أن يصلي حيث شاء من المساجد (¬6). وقال الثلاثة: يلزمه أن يصلي فيه، ولا تجزئه الصلاة في غيره (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 259). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 387). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 77). (¬5) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 341 - 342). (¬6) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 387). (¬7) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 341).

وإن عين بنذره مسجدًا في غير حرم؛ أي: وغير مسجد المدينة والأقصى، لم يتعين، فيخيّر بين فعله والتكفير، فإن جاءه، لزمه عند وصوله ركعتان (¬1). الثالث: ينتهي وجوبُ المشي فيما إذا نذر أن يحجَّ ماشيًا إذا رمى الجمرة. قال الإمام أحمد: إذا رمى الجمرة، فقد فرغ. وقال أيضًا: يركب في الحج إذا رمى، وفي العمرة إذا سعى. وقال في "الترغيب": لا يركب حتى يأتي بالتحللين، على الأصح؛ كما في "الفروع" (¬2)، و"شرح الكافي" وغيرهما، وكذا قال الشافعية. ولو أفسد الحج المنذور ماشيًا، لزم القضاء ماشيًا (¬3). الرابع: من نذر حجًا أو عمرة، لزمه ذلك، فإن لم يطقه، ولا شيئًا منه، حُجَّ عنه، وإلا أتى بما يُطيقه من الحجات المتعددة، وكفّر للباقي، ومع عجزه عن زاد وراحلة حالَ نذرِه، لا يلزمه، ثم إن وجدهما، لزمه بالنذر السابق، فينعقد النذر مع العجز (¬4)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 260). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 366). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 77). (¬4) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 258).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَباسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّهُ قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فَاقْضِهِ عَنْهَا" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2610)، كتاب: الوصايا، باب: ما يستحب لمن يتوفى فجأة أن يتصدقوا عنه، وقضاء النذر عن الميت، و (6320)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من مات وعليه نذر، و (6558)، كتاب: الحيل، باب: في الزكاة، وألا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة، ومسلم (1638)، كتاب: النذر، باب: الأمر بقضاء النذر، وأبو داود (3307)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: في قضاء النذر عن الميت، والنسائي (3657 - 3659)، كتاب: الوصايا، باب: فضل الصدقة عن الميت، و (3660 - 3663)، باب: ذكر الاختلاف على سفيان، و (3817 - 3819)، باب: من مات وعليه نذر، والترمذي (1546)، كتاب: النذور والأيمان، باب: ما جاء في قضاء النذر عن الميت، وابن ماجه (2132)، كتاب: الكفارات، باب: من مات وعليه نذر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 60)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 163)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 384)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 604)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 96)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 159)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1542)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 389)، و"عمدة القاري" للعيني =

(عن) أبي العباس حبر الأمة (عبدِ الله بن عباس -رضي الله عنهما-، قال: استفتى)؛ أي: طلب الفتوى، وهي الإخبار والكشف عن حكم المطلوب (سعدُ بن عبادة) سيدُ الخزرج - رضي الله عنه -، وهو بالرفع فاعل (رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -) بنصب رسول على المفعولية (في نذر كان) ذلك النذر (على أمه) عَمْرَةَ بنتِ مسعود بن قيسِ بنِ عمرو بنِ زيد مناة -رضي الله عنهما- (¬1) (توفيت) أمُّه (قبل أن تقضيه)، وتقدم في الصيام أنه قال: إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: "لو كان على أمك دَيْن، أكنت قاضيَه عنها؟ "، قال: نعم. قال: "فدينُ الله أحقُ أن يُقضى" (¬2). وفي رواية: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت، وعليها صومُ نذر، أفأصوم عنها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتِ لو كان على أمك دينٌ، فقضيتيه عنها، أكان ذلك يؤدّى عنها؟ "، قالت: نعم، قال: "فصومي عن أمك" (¬3). (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لسعد بن عبادة - رضي الله عنه -: (فاقضِه)؛ أي: النذر الذي كان على أمك (عنها)؛ لتبرأ ذمتها من تبعته، فمعتمد مذهب الإمام أحمد: أن من مات وعليه صوم منذور في الذمة، ولم يصم منه شيئًا مع إمكانه، ففُعل عنه، أجزأ عنه، وبرئت ذمته منه، فإن لم يخلف تركة، لم ¬

_ = (14/ 56)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 407)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 113)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 155). (¬1) وانظر ترجمتها في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1887)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 200)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 33). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه.

يلزم الوليَّ شيء، لكن يُسن له فعلُه عنه بنفسه؛ لتفرغ ذمته؛ كقضاء دينه. وإن خلّف تركة، وجب، فيفعله الولي بنفسه استحبابًا، فإن لم يفعل، وجب أن يدفع من تركته إلى من يصوم عنه عن كل يوم طعام مسكين، ويجزىء فعل غيره عنه بإذنه، وبدونه، وإن مات وقد أمكنه صومُ بعض ما نذره، قُضي عنه ما أمكنه صومه فقط، ويجزىء صومُ جماعة عنه في يوم واحد عن عدتهم من الأيام. وأما لو نذر صومَ شهر بعينه، فمات قبل دخوله، لم يصم، ولم يقض عنه. قال الإمام مجد الدين: وهذا مذهب سائر الأئمة، لا أعلم فيه خلافًا، وإن مات في أثنائه، سقط باقيه (¬1). هذا تحرير مذهب الإمام أحمد ومن وافقه؛ كالليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن نذر، قضى عنه وليُّه، والراوي أعلمُ بما روى (¬2). ولم يقل أحد من الأئمة الثلاثة بوجوب قضاء النذر على الولي، بل جعلوه كقضاء رمضان. ولنا: الأحاديث والأخبار الواردة في ذلك، وتقدم الكلام عليه في كتاب الصيام، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 506 - 507). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 70).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ مِنْ تَوْبَتي أَنْ أَنْخَلعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإلى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2606)، كتاب: الوصايا، باب: إذا تصدق أو أوقف بعض ماله أو بعض رقيقه أو دوابه، فهو جائز، و (4156)، كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك، و (4399)، كتاب: التفسير، باب: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117]، و (6312)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة، ومسلم (2769)، كتاب: التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، وأبو داود (3317)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: فيمن نذر أن يتصدق بماله، والنسائي (3823)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا نذر ثم أسلم قبل أن يفي، و (3824 - 3826)، باب: إذا أهدى ماله على وجه النذر، والترمذي (3102)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة التوبة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (8/ 274)، و"شرح مسلم" للنووي (17/ 96)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 160)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1546)، و"فتح الباري" لابن حجر (8/ 122)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 294)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (9/ 402)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 150).

(عن) أبي عبدِ الله، ويكنى بأبي عبد الرحمن، وبأبي بشير (كعبِ بنِ مالكٍ) الخزرجيِّ الأنصاريِّ السَّلَمِيِّ -بفتح السين واللام- نسبة إلى سَلِمة -بكسر اللام- بن سعد من بني جُشَم. شهد كعب (- رضي الله عنه -) العقبة الثانية، واختُلف في شهوده بدرًا، وشهد المشاهد كلَّها غيرَ تبوك، وكان أحدَ شعراء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحدَ الثلاثة الذين تاب الله عليهم، إذ تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فقال تعالى في حقهم: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] الآية. وهم: كعبُ بن مالك، وهلالُ بن أمية، ومرارةُ بن الربيع. وضبطوا بأن يجمع أول أسمائهم: مكة، وآخر آبائهم: عكة. روى عن كعب بن مالك هذا من أولاده: عبدُ الله، وعبد الرحمن. مات سنة خمسين، وقيل: ثلاث وخمسين، وقيل: مات قبل الأربعين. رُوي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانون حديثًا، اتفقا منها على ثلاثين، وللبخاري حديث، ولمسلم حديثان (¬1). (قال) كعب - رضي الله عنه -: (قلت: يا رسول الله! إن من) شكر (توبتي) التي تاب الله عليّ بعد أن ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، وضاقت ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 219)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 160)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 350)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 498)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1323)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (50/ 176)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 461)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 378)، و"تهذيب الكمال" للمزي (24/ 194)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 523)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 610)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 394).

عليّ نفسي، وعلمت أن لا ملجأ من الله إلا إليه (أن أنخلع)؛ أي: أنتزع (من مالي). قال في "القاموس": الخَلْع كالنزع، إلا أن في الخلع مهلة (¬1)، حال كون انخلاعي منه (صدقةً إلى الله) -سبحانه وتعالى-، وهو الغني الحميد (وإلى رسوله) محمد - صلى الله عليه وسلم - يصرفه حيث شاء من أوجه البر والخير، (فقال) له (رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسك عليك بعض مالك)، فلا تجعله صدقة، بل أبقه في ملكك، (فهو خير لك) من الصَّدقة بجميعه. قال كعب: فقلت: فإني سأمسك سهمي الذي بخيبر. وفي رواية: قلت: نصفه؛ أي: أجعله صدقة، قال: "لا"، قلت: فثلثه، قال: "نعم"، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر (¬2). وقد اختلف العلماء فيما إذا قال المكلَّف: إذا شفى الله مريضي، فمالي صدقة. فقال أصحاب أبي حنيفة: يتصدق بجميع أمواله الزكوية استحسانًا، قالوا: وهو القياس. ولهم قول آخر: يتصدق بجميع ما يملكه، وهذا قول الشافعي. ولم يحفظ عن أبي حنيفة نفسه فيها نص. وقال مالك: يتصدق بثلث جميع أمواله الزكوية وغيرها. وعن الإمام أحمد في ذلك روايتان: إحداهما: يتصدق بثلث جميع أمواله الزكوية وغيرها. ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 921)، (مادة: خلع). (¬2) رواه أبو داود (3321)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: فيمن نذر أن يتصدق بماله.

والأخرى: يرجع في ذلك إلى ما نواه من مال دون مال (¬1). قلت: الذي استقر عليه مذهبه لو نذر الإنسان الصَّدقة بكل ماله، أو بألف ونحوه، وهو كل ماله بقصد القربة، أجزأه ثلثه يوم نذره يتصدق به ولا كفارة. نص على ذلك الإمام أحمد. قال في "الروضة": ليس لنا في نذر الطاعة ما يفي ببعضه إلا هذا الموضع (¬2). وفي قصة توبة أبي لبابةَ - رضي الله عنه -: إن من توبتي أن أهجر دار قومي، وأساكنك، وأن أنخلع من مالي صدقةً لله -عَزَّ وَجَلَّ- ولرسوله. رواه الإمام أحمد، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي لبابة بن المنذر: "يجزىء عنك الثلث" (¬3). فظاهر قوله -عليه السلام-: "يجزىء عنك الثلث" أن أبا لبابة أتى بما يقتضي إيجاب الصَّدقة على نفسه؛ إذ الإجزاءُ إنما يستعمل غالبًا في الواجبات، ولو كان مخيّرًا بإرادة الصَّدقة، لما لزمه شيء يجزىء عنه بعضه (¬4). وإذا نذر الصَّدقة ببعض مسمًّى من ماله، لزمه، ولو أكثر من نصف ماله، وإن نوى ثمينًا، أو مالًا دون مال، أخذ بنيته (¬5)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 339 - 340). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 355). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 452)، وأبو داود (3319)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: فيمن تصدق بماله. (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 71). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 382 - 383).

باب القضاء

باب القضاء وهو لغة: إحكامُ الشيء والفراغُ منه، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12]، وبمعنى: أوجب، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، وبمعنى: أمضى الحكم، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4]؛ أي: أمضينا وأنهينا، وغير ذلك. وسمي الحاكم قاضيًا؛ لأنه يُمضي الأحكامَ ويُحكمها، أو لإيجابه الحكمَ على من يجب عليه (¬1). واصطلاحًا: تبيينُ الحكم الشرعي، والإلزامُ به، وفصلُ الخصومات. والأصلُ فيه قوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26]، وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، وقوله -عليه السلام-: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإن أخطأ، فله أجر" متفق عليه من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 2). وانظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 419). (¬2) رواه البخاري (6919)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: أجر الحاكم =

وقد أجمع المسلمون على نصب القُضاة للفصل بين الناس، وهو فرض كفاية كالإمامة، فعلى الإمام أن ينصّب بكل إقليم قاضيًا، وعليه أن يختار لذلك أفضل من يجد علمًا وورعًا، ويأمره بالتقوى وتحري العدل، ويأمره أن يستخلف في كل صُقْع أفضل من يجد. ويجب على من يصلح للقضاء -إذا طلب ولم يوجد غيره ممن يوثق به- أن يدخل فيه إن لم يشغله عما هو أهمُّ منه، ومع وجود غيره ممن يصلح الأفضلُ أَلَّا يجيب، وكره له طلبه إذًا، ويحرم بذلُ مال فيه، وأخذُه، وتصح توليةُ مفضول مع وجود أفضل منه، وتوليةُ حريصٍ عليها. وولايته رتبة دينية، ونصبة شرعية، وفيه فضل لمن قوي على القيام به. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والواجب اتخاذُها دينًا وقربة؛ فإنها من أفضل القُربات، وإنما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها، انتهى (¬1). وفيه خطر عظيم ووزرٌ كبير لمن لم يؤدِّ الحقَّ به، فمن عرف الحقَّ ولم يقض به، أو قضى على جهل، ففي النار، ومن عرف الحق وقضى به، ففي الجنّة. وكان من طريقة السلف الامتناع من الدخول فيه. وإذا لم يمكنه القيامُ بالواجب؛ لظلم السلطان أو غيره، حرم، وتأكد الامتناع (¬2). ¬

_ = إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، ومسلم (1716)، كتاب: الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. (¬1) انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 624). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 389 - 390).

وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من ولي القضاء، أو جُعل قاضيًا بين الناس، فقد ذُبح بغير سكين" رواه أبو داود، والترمذي، واللفظ له، وقال: حسن غريب، وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد (¬1). قال الحافظ المنذري: ومعنى قوله: "ذُبح بغير سكين": أن الذبح بالسكين يحصل به إراحةُ الذبيحة بتعجيل إزهاق روحها، فإذا ذُبحت بغير سكين، كان فيه تعذيب لها. وقال الخطابي: لما كان في ظاهر العرف وغالب العادة الذبحُ بالسكين، عدلَ - صلى الله عليه وسلم - عن ظاهر العرف والعادة إلى غير ذلك؛ ليعلم أن مراده -عليه الصَّلاة والسَّلام- بهذا القول ما يخاف عليه من هلاك دينه دون هلاك بدنه (¬2). وفي "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح ابن حبان" من حديث عائشة -رضي الله عنها-، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليأتينَّ على القاضي العدلِ يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقضِ بين اثنين في تمرة قط"، ولفظ ابن حبان: "في عمره" بدل "تمرة" (¬3)، والله تعالى أعلم. وذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- في هذا الباب ستة أحاديث: ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3571 - 3572)، كتاب: الأقضية، باب: في طلب القضاء، والترمذي (1325)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القاضي، وابن ماجه (2308)، كتاب: الأحكام، باب: ذكر القضاة، والحاكم في "المستدرك" (7018). (¬2) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 111)، عقب حديث (3282). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 75)، وابن حبان في "صحيحه" (5055)، وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 112)، عقب حديث (3285).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ منه، فَهُوَ رَدٌّ" (¬1). وَفِي لَفْظٍ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2550)، كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود، ومسلم (1718/ 17)، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، وأبو داود (4606)، كتاب: السنة، باب: في لزوم السنة، وابن ماجه (14)، في مقدمة "سننه". (¬2) رواه مسلم (1718/ 18)، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، وقد ذكره البخاري في "صحيحه" (2/ 753)، و (6/ 2675) معلقًا بصيغة الجزم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 576)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 171)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 16)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 162)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1551)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 332)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 301)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 274)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (4/ 421)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 69).

(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصدّيقة (-رضي الله عنها-، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحدث)؛ أي: اخترع (في أمرنا هذا)؛ أي: ديننا وشرعنا الذي شرعه الله -تعالى- (ما ليس منه)؛ أي: من جاء في هذا الدين بما لا يشهد له أصل من أصوله، فلا يلتفت إليه. وفي لفظ: "من أحدث في ديننا ما ليس فيه" (¬1)، فكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس هو من الدين في شيء (فهو)؛ أي: ذلك المحدَث (ردّ)؛ أي: مردود على صاحبه، من إطلاق المصدر على اسم المفعول؛ مثل الخلق بمعنى المخلوق، فكأنه قال: فهو باطل، وغير معتد به. (وفي لفظ) لمسلم: (من عمل عملًا) سواء كان ذلك العمل من العبادات أو المعاملات (ليس عليه)؛ أي: على ذلك العمل (أمرُنا) فيه إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، وتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها. فمن كان عمله جاريًا تحت أحكام الشرع، موافقًا له، فهو مقبول، ومن كان خارجًا عن ذلك، (فهو رد) أي: مردود على عامله. قال الحافظ ابن رجب: هذا الحديث أصلٌ عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث: "إنما الأعمال ¬

_ (¬1) كذا ذكره الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص: 59)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-، ولم أقف عليه بهذا اللفظ إلا ما رأيته في "الأحكام" للحافظ الإشبيلي؛ إذ ذكر في رواية: "من أدخل في ديننا ما ليس منه، فهو رد"، والله أعلم.

بالنيات" (¬1) ميزان الأعمال في باطنها، وكما أن كل عمل لا يراد به وجهُ الله فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله. فكل فعلة -وإن صغرت- ينشر [الله] لها يوم القيامة ديوانًا لِمَ؟ وكيف؟ فالسؤال الأول: عن الإخلاص والنية، والثاني: عن التأسي والمتابعة لصاحب الشرع، فكل عمل لا يجمعهما فهو مردود على عامله. قال ابن رجب: وهذا الحديث يدل بمنطوقه على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود؛ أي: سواءٌ كان من العبادات، أو المعاملات. فأما العبادات، فما كان منها خارجًا عن حكم الله ورسوله بالكلية، فهو مردود على عامله، وعاملُه يدخل تحت قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله اللهُ ورسوله قربةً إلى الله، فعملُه باطل مردود عليه؛ كمن تقرب إلى الله بسماع الملاهي، أو بالرقص، أو بكشف الرأس في غير الإحرام، أو ما أشبه ذلك من المحدَثات التي لم يشرع الله ورسوله التقربَ بها بالكلية، وليس كل ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقًا. فقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا قائمًا في الشمس، فسأل عنه، فقيل: إنه نذرَ أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل، وأن يصوم، فأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد ويستظل، وأن يتم صومه (¬2). فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة يوفي بنذرهما. وقد روي أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه.

المنبر، فنذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل مادام النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطُب إعظامًا لسماع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك قربة يوفي بنذره، مع أن القيام عبادة في مواضع أخر؛ كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة، والبروز للشمس قربة للمحرِم، فدل على أنه ليس ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن، وإنما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها، وكذلك من تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها؛ كمن صام يوم العيد، أو صلى في وقت نهي. وأما من عمل عملًا أصلُه مشروع وقربة، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، فهو أيضا مخالف للشريعة بقدر إخلاله بما أخلَّ به، أو إدخاله ما أدخل فيه. وهل يكون عمله من أصله مردودًا عليه أم لا؟ فهذا ينبغي فيه التفصيل: فإن كان ما أخلَّ به من أجزاء العمل أو شروطه، كان موجبًا لبطلانه؛ كمن أخلَّ بالطهارة للصلاة مع القدرة، وكمن أخلَّ بالركوع أو السجود، أو بالطمأنينة فيهما، فهذا عمله مردود، وعليه إعادته إن كان فرضًا. وإن كان ما أخلَّ به لا يوجب بطلانَ العمل، كمن أخلَّ بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها، ولا يجعلها شرطًا، فهذا لا يقال: إن عمله مردود من أصله، بل هو ناقص. وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع، فزيادته مردودة عليه، بمعنى: أنَّها لا تكون قربة، ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من أصله فيكون مردودًا، كمن زاد في صلاته ركعة عمدًا، أو تارة لا تبطله من أصله؛ كمن توضأ أربعًا أربعًا، أو صام مع النَّهار اللَّيلَ، وواصل في صيامه.

وقد يبدل بعض ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه؛ كمن ستر عورته في الصلاة بثوب محرم، أو توضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة غصب، فهذا مما اختلف العلماء فيه، هل عمله مردود من أصله، أو أنه غير مردود، وتبرأ به الذمة من عهدة الواجب؟ قال الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين": أكثرُ الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله. وقد حكى عبد الرحمن بن مهدي عن قوم من أصحاب الكلام يقال لهم: الشمريّة أصحاب أبي شمر: أنهم يقولون: إن من صلى في ثوب كان في ثمنه درهمٌ حرام: أن عليه إعادة الصلاة. قال: وما سمعت قولًا أخبثَ من قولهم، نسأل الله العافية. وعبدُ الرحمن بن مهدي من أكابر فقهاء أهل الحديث المطّلعين على مقالات السلف، وقد استنكر هذا القول، وجعله بدعة، فدل على أنه لم يعلم عن أحد من السلف القول بإعادة الصلاة في مثل هذا، ويشبه هذا الحجُّ بمال حرام، وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه، ولكنه حديث لا يثبت، وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا؟ وقريبٌ من ذلك الذبحُ بآلة محرمة، أو ذبحُ ما لا يجوز له ذبحُه؛ كالسارق، فأكثرُ العلماء قالوا: إنه تباح الذبيحة بذلك، ومنهم من قال: هي محرمة، وكذا الخلافُ في ذبح المحرِم للصيد، لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر؛ لأنه منهي عنه لعينه. ولهذا فرق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها، وبين أَلَّا يكون مختصًا فلا يبطلها. فالصلاة بالنجاسة وبغير طهارة أو ستارة أو إلى غير القبلة يبطلها؛

لاختصاص النهي بالصلاة؛ بخلاف الصلاة في الغصب، ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو جِنْسٌ الأكل والشرب والجماع؛ بخلاف ما نهي عنه الصائم، لا بخصوص الصيام؛ كالكذب والغيبة عند الجمهور، والله أعلم. وأما المعاملات؛ كالعقود والفسوخ ونحوهما، فما كان منها تغييرًا للأوضاع الشرعية؛ كجعل حدّ الزنا عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فمردود من أصله، لا ينتقل به الملك؛ لأنه غير معهود في أحكام الإسلام، ويدل على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنى بامرأته، فافتديته منه بمئة شاة وخادم، فقال له -عليه الصَّلاة والسَّلام-: "المئة شاة والخادم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلدُ مئة وتغريبُ عام"، وتقدم (¬1). وما كان منها عقدًا منهيًا عنه في الشرع، إما لكون المعقود عليه ليس محلًا للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يجعل به للمعقود معه أو عليه، أو لكون العقد يشغل عن ذكرِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- الواجبِ عند تضايق وقته، أو غير ذلك، فهذا العقد هل هو مردود بالكلية، لا ينتقل به الملك، أم لا؟ فيه اضطراب بين العلماء. والأقرب في مثل هذا: أنه إن كان النهي لحق الله -عزَّ وجلَّ-، فإنه لا يفيد الملك بالكلية، ونعني بكون الحق لله: أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه، وإن كان لحق آدمي معين بحيث يسقط برضاه به، فإنه يقف على رضاه، فإن رضي، لزم العقد، واستمر الملك، وإلا، فله الفسخ. ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجه.

وهذه القاعدة غير مطردة (¬1). والمقصود من إيراد هذا الحديث في هذا الباب: أن حكم الحاكم يزول به الشيء عن حقيقته في الباطن، فلو حكم لمن يعلم أنه لا حقَّ له فيما حكم له به، لم يجز له تناولُه، ولا شيء منه، ولو حكم له بنكاح من يعلم أنَّها ليست بزوجة له، لم يبح له وطؤها، وهلمَّ جَرًّا. فحكم الحاكم ظاهرًا لا يغير ما في الباطن مما هو عليه من إباحة وحظر، وهذا مذهب الثلاثة. قال الإمام أبو المظفر بن هبيرة: قال مالك، والشافعي، وأحمد: الحاكم لا ينفذ حكمه إذا حكم في الشيء مما هو الباطن على خلاف ما حكم في الباطن، ولا يحل حكمه في الشيء المحكوم فيه عما هو عليه، سواء كان ذلك في مال أو نكاح أو طلاق، أو مما يملك الحاكم ابتداءه وإنشاءه، أو مما لا يملكه على الإطلاق. وقال أبو حنيفة: إن كان المحكوم فيه مما يتيقن الحكم [فيه]، ينفذ فيه ظاهرًا وباطنًا (¬2)، انتهى. وفي "الفروع": حكم الحاكم لا يُحيل الشيء عن صفته باطنًا، وعنه: بلى في مختلف فيه قبل الحكم، قطعَ به في "الواضح" وغيره (¬3). وقال في موضع آخر: مَنْ حكم له ببينة زور بزوجيّة امرأة، حلت له حكمًا، فإن وطىء مع العلم، فكزِنًا، وإن حكم بطلاقها بزور، فزوجته ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 59 - 62). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 354 - 355). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 425).

باطنًا، ويكره له اجتماعه بها ظاهرًا خوفًا من مكروه يناله، ولا يصح نكاحها غيرَه ممن يعلم الحال. قال في "الفروع" أيضًا: وإن ردّ حاكم شهادة واحد برمضان، لم يؤثر؛ كملك مطلق وأولى؛ لأنه لا مدخل لحكمه في عبادة ووقت، وإنما هو فتوى، فلا يقال: حكم بكذبه، أو بأنه لم يره، ولو سلم أن له مدخلًا، فهو محكوم به في حقه من رمضان، فلم يغيره حكم؛ لأنه يعتقد خطأه؛ كمنكرة نكاح مدعٍ يتيقنه، فشهد له فاسقان، فردا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: أمور الدين والعبادات المشتركة بين المسلمين لا يحكم فيها إلا اللهُ ورسوله إجماعًا. وذكره غيره. قال في "الفروع": فدل أن إثبات سبب الحكم؛ كرؤية الهلال والزوال ليس بحكم (¬1). والحاصل: أن حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن حقيقته باطنًا، كما يأتي في الحديث الثالث، والله أعلم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (6/ 426).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْها -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدٌ بنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِن أَبَا سفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِيني مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِيني وَيَكْفِي بَنِيَّ، إِلأَ مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ في ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2097)، كتاب: البيوع، باب: من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم، و (2328)، كتاب: المظالم، باب: قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه، و (3613)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة -رضي الله عنها-، و (5044)، كتاب: النفقات، باب: نفقة المرأة إذا غاب عنها زوجها، ونفقة الولد، و (5049)، كتاب: النفقات، باب: إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، و (5055)، باب: نفقة المعسر على أهله، و (6265)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (6742)، كتاب: الأحكام، باب: من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة، و (6758)، باب: القضاء على الغائب، ومسلم (1714/ 7)، واللفظ له، و (1714/ 8 - 9)، كتاب: الأقضية، باب: قضية هند، وأبو داود (3532 - 3533)، كتاب: الإجارة، باب: في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، والنسائي (5420)، كتاب: آداب القضاة، باب: قضاء الحاكم على الغائب إذا =

(عنها)؛ أي: عن أم المؤمنين عائشة الصدّيقة بنت الصدّيق (--رضي الله عنها-)، وعن أبيها-، (قالت: دخلت هند بنت عتبة) بنِ ربيعةَ بنِ عبدِ شمسِ بنِ عبدِ منافٍ (امرأةُ أبي سفيان) صَخْرِ بنِ حرب بنِ أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، أُمُّ معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهم- أسلمت عام الفتح بعد إسلام زوجها، فأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - على نكاحها، وكان لها فصاحة وعقل، ولما بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - مع النِّساء، وقال لهن: "ولا تشركن بالله شيئًا"، قالت: قد علمت لو كان مع الله [إله] (¬1) غيره، لأغنى عنا، فلما قال: "ولا تسرقن"، قالت: وهل تسرق الحرة؟! وكذا قالت لمّا قال: "ولا تزنين"، فلما قال: "ولا تقتلن أولادكن"، قالت: قد والله ربيناهم صغارًا، وقتلتَهم أنت وأصحابُك كبارًا، فضحك عمرُ من قولها حتى مال. وهي التي مثلت بسيد الشهداء حمزة -أسدِ الله، وعمِّ رسوله-رضوان الله عليه-؛ لأنه قد قتل أباها يوم بدر. توفيت هند في خلافة عمر - رضي الله عنه - في اليوم الذي مات فيه ¬

_ = عرفه، وابن ماجه (2293)، كتاب: التجارات، باب: ما للمرأة من مال زوجها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 564)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 159)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 7)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 164)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1554)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 508)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 17)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 218)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (7/ 131). (¬1) في الأصل: "إلهًا"، والصواب ما أثبت.

أبو قحافة والد الصديق الأعظم -رضوان الله عليهم- في المحرم سنة أربع عشرة من الهجرة وله سبع وتسعون سنة. روى عن هند: ابنُها معاويةُ، وعائشةُ بنت الصديق -رضي الله عنهم- (¬1). روى الأزرقي وغيره: أن هندًا هذه لما أسلمت، جعلت تضرب صنمًا في بيتها بالقدوم فلذة فلذة، وتقول: كنا منك في غرور (¬2). قالت عائشة -رضي الله عنها-: دخلت هند (على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت) له: (يا رسول الله! إن أبا سفيان) بن حرب زوجي (رجل شحيح)، وفي رواية: لما قال لهن في المبايعة "ولا تسرقن"، قالت: يا رسول الله! أبو سفيان رجلٌ مِسِّيك (¬3) (لا يعطيني من النفقة ما يكفيني) -بفتح التحتية- من كفى (ويكفي بنيَّ): جمع ابن مضاف لياء المتكلم. وفي لفظ: وليس يعطيني ما يكفيني وولدي (¬4): مفرد مضاف، فيشمل جميع ولدها من الذكور والإناث، والشحّ: البخل مع شدة حرص، ¬

_ (¬1) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 235)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 439)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1922)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (70/ 166)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 281)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 620)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (8/ 155). (¬2) رواه الأزرقي في "أخبار مكة" (1/ 123)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 237)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (70/ 184)، من طريق الواقدي. (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 9)، عن ميمون بن مهران، مرسلًا. (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5049).

والمِسِّيك: رواه الأكثر -بكسر الميم وتشديد السين المهملة على المبالغة-، وقيل: بوزن شحيح (¬1). قال في "النهاية": مسيك: بخيل يمسك ما في يده، ولا يعطيه أحدًا، وهو مثل البخيل وزنًا ومعنى. وقال أبو موسى: إنه مِسِّيك -بالكسر والتشديد- بوزن الخِمِّير والسِّكِّير؛ أي: شديد الإمساك لماله، وهو من أبنية المبالغة. قال: وقيل: المسيك: البخيل، إلا أن المحفوظ الأول (¬2) (إلا ما أخذتُ من ماله) الذي له عندي في بيتي وتحت يدي (بغير علمه)؛ أي: علم أبي سفيان. وفي لفظ: إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم (¬3). زاد الإمام الشافعي في روايته: سرًا (¬4). فبإنضمام ما تأخذه بلا علمه إلى ما يعطيها إياه تحصل الكفاية لها ولولدها، (فهل عليَّ في ذلك)؛ أي: في أخذ تمام كفايتي وكفاية بنيّ من غير علم أبي سفيان (من جناح؟)؛ أي: من إثم وضيق. وفي رواية الزهري: فهل عليَّ حرجٌ أن أطعم من الذي له عيالنا (¬5)؟ (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لها: (خذي). وفي رواية: "لا حرج عليك أن ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 508). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 332). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5049). (¬4) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 288). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2328، 3613، 5044، 6742)، وعند مسلم برقم (1714/ 9).

تطعميهم (من ماله") (¬1)؛ أي: من مال زوجك أبي سفيان (بالمعروف ما)؛ أي: شيئًا (يكفيك ويكفي بنيك). قال القرطبي: أمرُ إباحة؛ بدليل قوله في الرواية الأخرى: "ولا حرج". والمراد بالمعروف: القدر الذي عُرف بالعادة أنه الكفاية. قال: وهذه الإباحة، وإن كانت مطلقة لفظًا، لكنها مقيدة معنى، كأنه قال: إن صحّ ما ذكرت (¬2). وقال غيره: يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - صدّقها فيما ذكرت، فاستغنى عن التقييد. واستدل بهذا الحديث على جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والشكاية ونحو ذلك، وهو أحد المواضع التي تباح فيها الغيبة. وفيه: جواز ذكر الإنسان بالتعظيم، كاللقب والكنية، وفيه نظر؛ لأن أبا سفيان إنما كان مشهورًا بكنيته. قالوا: وفيه جواز استماع كلام أحد الخصمين في غيبة الآخر. وفيه: جواز سماع كلام الأجنبية عند الحكم والإفتاء عند من يقول: إن صوتها عورة، وجاز هنا للضرورة. وأن القول قول الزوجة في قبض النفقة، وإلا لكُلِّفت هندٌ البينةَ على إثبات عدم الكفاية. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2328). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 160 - 161).

وأجاب المازري عن ذلك بأنه من باب تعليق الفتيا [لا القضاء] (¬1). تنبيهات: الأول: القصد من إيراد هذا الحديث في هذا الباب صحةُ الحكم على الغائب. قال علماؤنا: من ادَّعى على غائب عن البلد مسافةَ قصر بغير عَمَلِه، أو ادعى على مستتر إما بالبلد، أو بدون مسافةَ قصر، أو على ميت، أو غير مكلف، وله بينة، ولو شاهدًا ويمينًا فيما يقبل فيه، سُمعت دعواه، وحكم له بذلك (¬2)، واحتجوا بقصة هند هذه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قضى لها على أبي سفيان ولم يكن حاضرًا. قال أبو المظفر عون الدين بن هبيرة -رضوان الله عليه-: اتفقوا؛ أي: الأئمةُ الأربعة على أن الحاكم يسمع دعوى الحاضر وبينته على الغائب. ثم اختلفوا هل يحكم بها على الغائب؟ فقال أبو حنيفة: لا يحكم له عليه، ولا على من هرب قبل الحكم، وبعد إقامة البينة، فلا يحكم على الغائب بحال، إلا أن يتعلق الحكم للحاضر؛ مثل أن يكون للغائب وكيل أو وصيٌّ، أو يكون جماعة شركاء في شيء، فيدّعي على أحدهم وهو حاضر، فيحكم عليه وعلى الغائب. وقال مالك: يحكم للغائب على الحاضر إذا أقام البينة وسأل الحاكم. واستحسن مالك التوقف عن الرباع في رواية. وفي رواية أخرى قال: ¬

_ (¬1) في الأصل: "للقضاء"، والصواب ما أثبت. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 509). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 449).

يحكم فيها أيضًا، قال أصحابه: وهو النظر. وقال الشافعي: يحكم على الغائب إذا قامت البينة للمدعي على الإطلاق. قال: وعن الإمام أحمد روايتان: أظهرهما: جواز ذلك على الإطلاق؛ كمذهب الشافعي. والأخرى: لا يجوز ذلك؛ كمذهب أبي حنيفة، انتهى (¬1). ومعتمد المذهب: جواز ذلك إلا في حقوق الله تعالى، فلا تُسمع بينة ولا يُحكم بها على غائب ونحوه. فيقضى في سرقة ثبتت على غائب بغرم مال مسروق دون قطع؛ لحديث: "ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" (¬2). وهل يجب على المحكوم له على غائب ونحوه يمينٌ على بقاء حقه في ذمة الغائب أو الميت، أو لا؟ اختار المنقح وجوبها، قال: والعمل عليه في هذه الأزمنة (¬3)؛ لفساد أحوال غالب الناس؛ لاحتمال أن يكون استوفى ما شهدت له به البينة، أو ملكه العين التي شهدت له بها البينة (¬4). الثاني: إذا حضر الغائب، أو كُلِّف غيرُ المكلَّف، أو رشد غيرُ الرشيد، أو ظهر المستتر، فهو على حجته إن كانت له حجة؛ لزوال المانع، والحكم بثبوت أصل الحق لا يبطل دعوى القضاء أو الإبراء ونحوه مما يسقط الحق، ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 351 - 352). (¬2) تقدم تخريجه. وانظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (6/ 552). (¬3) انظر: "التنقيح المشبع" للمرداوي (ص: 412). (¬4) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 300)، و"الإقناع" للحجاوي (4/ 449).

وإن حضر قبل الحكم، وقف الحكم على حضوره، ولا تجب إعادةُ البينة، بل يخبره الحاكم بالحال، ويُمكِّنه من الجرح. فإنْ جرحَ البينةَ بأمر بعد أداء الشهادة؛ بأن يقول مثلًا: فلان قد شرب الخمر اليوم بعدما شهد، أو جرحها مطلقًا، لم يقبل جرحه لها؛ لأنه لابدّ من قبول جرحه لها بارتكاب أمر يرد الشهادة قبل أدائها (¬1). الثالث: احتجاجُ من احتجّ من العلماء بقصة هند لما اشتكت أبا سفيان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأذن لها أن تأخذ من ماله كفايتها وكفايةَ بنيها بالمعروف، فيه نظر بيّنٌ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا تلميذه ابن القيم: هذا الاستدلال ضعيف جدًا، فإن هذا إنما هو فُتيا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا حكم؛ لأن زوجها أبا سفيان لم يكن غائبًا عن البلد، قال: والحكم على الغائب عن مجلس الحاكم الحاضرِ في البلد غيرُ ممتنع من الحضور، وهو يقدر عليه، ولم يوكل وكيلًا، لا يجوز اتفاقًا. وأيضًا: هند لم تسأله - صلى الله عليه وسلم - الحكم، وإنما سألته: هل يجوز لها أن تأخذ ما يكفيها ويكفي ولدها؟ وهذا استفتاء محض، فالاستدلال به على الحكم سهو. وكذا استدلال من استدل بالقصة المذكورة على أن للحاكم أن يحكم بعلمه (¬2)؛ كما ذكرنا أنَّها من باب الفتيا لا من باب الحكم، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (6/ 552 - 553). (¬2) انظر: "الطرق الحكمية" لابن القيم (ص: 287 - 288).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ ببَابِ حُجْرَتهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالَ: "أَلَا إِنما أَنا بَشَرٌ، وَإنَّما يَأْتِيني الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنّهُ صَادِقٌ، فَأقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإنَّما هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ النَّارِ، فَلْيَحْمِلَها أَوْ يَذَرْها" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2326)، كتاب: المظالم، باب: إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه، و (2534)، كتاب: الشهادات، باب: من أقام البينة بعد اليمين، و (6566)، كتاب: الحيل، باب: إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت، و (6748)، كتاب: الأحكام، باب: موعظة الإمام للخصوم، و (6759)، باب: من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه، و (6762)، باب: القضاء في كثير المال وقليله، ومسلم (1713/ 5)، واللفظ له، و (1713/ 4، 6)، كتاب: الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، وأبو داود (3583)، كتاب: الأقضية، باب: في قضاء القاضي إذا أخطأ، والنسائي (5401)، كتاب: آداب القضاة، باب: الحكم بالظاهر، و (5422)، باب: ما يقطع القضاء، والترمذي (1339)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في التشديد على من يقضى له بشيء ليس له أن يأخذه، وابن ماجه (2317)، كتاب: الأحكام، باب: قضية الحاكم لا تحل حرامًا وَلا تحرم حلالًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 163)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (7/ 91)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 83)، و"إكمال =

(عن) أم المؤمنين (أم سلمةَ) هندٍ بنتِ أميةَ (-رضي الله عنها-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع جلبةَ خصم) بإضافة جلبة إلى خصم؛ أي: أصواتهم ولَغَطَهُم (بباب حجرته) -عليه الصَّلاة والسَّلام-، والجمع: حُجَر وهي البيوت، وكلُّ موضع حجر عليه حجارة، فهو حجرة، والحجار: الحائط (¬1)، (فخرج) النبي - صلى الله عليه وسلم - (إليهم)؛ أي: المتخاصمين بباب حجرته، (فقال) لهم: (ألا) أداة استفتاح (إنما) أداة حصر (أنا بشرٌ)؛ أي: لا أعلم الغيب وبواطن الأمور، كما هو مقتضى الحالة البشرية، وأنه إنما يحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، ولو شاء الله، لأطلعه على بواطن الأمور حتى يحكم باليقين. لكن لما أمر الله أمته بالاقتداء به، أجرى أحكامه على الظاهر؛ لتطيب نفوسهم للانقياد (¬2)، (وإنما يأتيني الخصمُ) منكم، (فلعل بعضَكم أن يكون أبلغَ)؛ أي: أفصح ببيان حجته (من بعض). قال الزَّجَّاج: معنى البلاغة: بَلَّغَ المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ. وقيل: الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضمار. وقال بعضهم: البليغ: أسهلُهم لفظًا، وأحسنهم بديهة. ¬

_ = المعلم" للقاضي عياض (5/ 560)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 153)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 4)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 166)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1558)، و"فتح الباري" لابن حجر (12/ 341)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 5)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 248)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 376). (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 181)، و"القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 475)، (مادة: حجر). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 177)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 5).

وقيل: هي أن يدل أولُ الكلام على آخره، وآخرُه على أوله (¬1). وفي حديث أبي هريرة عند ابن أبي شيبة: "ولعل بعضَكم أن يكون أَلحنَ بحُجَّته من بعض" (¬2)، (فأحسبَ) -بالنصب- عطف على قوله: "أن يكون أبلغ" وأدخل "أن" تشبيهًا للعلَّ بِعسى (أنه صادق) لبلاغة ألفاظه، وحسن احتجاجه ولحنه بدعواه. قال الخطابي: واللَّحَن -بالتحريك-: الفطنة، ولَحِن -بالكسر- يلحَن لَحْنًا -بسكون الحاء- في الإعراب (¬3). (فأقضي له) بما ادعاه (فمن)؛ أي: أَيُّ إنسان وكلُّ شخص (قضيتُ)؛ أي: حكمت (له بحق مسلم)؛ أي: أو ذمي، أو معاهد، وإنما خصّ المسلم تغليبًا أو اهتمامًا بحاله، أو نظر إلى لفظ "بعضكم"؛ فإنه خطاب للمؤمنين، (فإنما هي)؛ أي: القضية المحكومُ له بها من مال المسلم ونحوه. (قطعة من النار) المعهودةِ التي هي نارُ جهنم؛ أي: هو حرام، مآلهُ إلى النار. (فليحملها)؛ أي: تلك القطعة التي هي من نار جهنم، وتؤول بحاملها إلى النار. وفي لفظ: "فليأخذها" (¬4) أمر تهديد لا تخيير (¬5) (أو يذرْها) أي: يتركْها؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 5). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (22975)، ورواه ابن ماجه (2318)، كتاب: الأحكام، باب: قضية الحاكم لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 332). (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 163). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2326، 6759، 6762). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 174).

فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]. فيستفاد من الحديث: الحكمُ بالظاهر تشريعًا للأمة، وهو كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلا الله" (¬1)، وقوله في حديث المتلاعنين: "لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن" (¬2). وقال القرطبي: قد روي في هذا: "إنما أحكم بما أسمع"، و"إنما" للحصر، فكأنه قال: لا أحكم إلا بما أسمع (¬3). وقد اختلف في هذا، فمعتمد مذهب الإمام أحمد: أن الحاكم لا يسوغ له أن يحكم بإذنه إلا بما إذا أقر إنسان في مجلس حكمه، وإن لم يسمعه غيره على المعتمد. فأما حكمه بعلمه في غير ذلك مما رآه بعينه أو سمعه بأذنه، قبل الولاية أو بعدها، فلا يجوز إلا في الجرح والتعديل، فيعمل الحاكم بعلمه في عدالةِ بينةٍ وجرحِها. قال في "شرح المنتهى" للمصنف: بغير خلاف (¬4). وقال الإمام مالك في المشهور عنه: الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء، وبه قال إسحاق، وأبو عبيد، والشعبي، وروي عن شريح (¬5). قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية": مذهب الإمام مالك أن الحاكم لا يقضي بعلمه في المدعى به بحال، سواء علمه قبل ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. وانظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 5). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 155). (¬4) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (6/ 528). (¬5) انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 156).

التولية، أو بعدها، في مجلس قضائه، أو غيره، قبلَ الشروع في المحاكمة، أو بعدَ الشروع، فهو أشد المذاهب في ذلك. وقال عبد الملك، وسحنون: يحكم بعلمه فيما علمه بعد الشروع في المحاكمة. قالوا: فإن حكم بعلمه حيث قلنا: لا يحكم، فقال أبو الحسن اللخمي: لا يُنقض عند بعض أصحابنا، وعندي: أنه ينقض. قالوا: ولا خلاف أن ما رآه القاضي أو سمعه في غير مجلس قضائه أنه لا يحكم به، وأنه ينتقض إن حكم به، وينقضه هو وغيره، وإنما الخلاف فيما يتقارر به الخصمان في مجلسه، فإن حكم به، نقضه هو، ولا ينقضه غيره. قال اللخمي: وقد اختلف إذا أقر بعد أن جلسا للخصومة، ثم أنكر، فقال الإمام مالك، وابن القاسم: لا يحكم بعلمه. وقال عبد الملك، وسحنون: يحكم؛ لأن الخصمين إذا جلسا للحاكم، فقد رضيا أن يحكم بينهما بما يقولانه، ولذلك قصداهُ. هذا محصل مذهب الإمام مالك (¬1). وأما مذهب أبي حنيفة على ما في "الطرق الحكمية" لابن القيم، فقالوا: إذا علم الحاكم بشيء من حقوق العباد في زمن ولايته ومحلها، جاز له أن يقضي به؛ لأن علمه كشهادة الشاهدين، بل أولى؛ لأن اليقين حاصل بما علمه بالمعاينة أو السماع، والحاصل بالشهادة غلبة الظن، وأما ما علمه قبل ولايته، أو في غير محل ولايته، فلا يقضي به عند أبي حنيفة. وقال محمد، وأبو يوسف: يقضي به كما في حال ولايته ومحلها. ¬

_ (¬1) انظر: "الطرق الحكمية" لابن القيم (ص: 285 - 286).

قال المنتصرون لقول أبي حنيفة: هو في غير مصره وغير ولايته شاهدٌ لا حاكم، وشهادة الفرد لا تقبل، وصار كما لو علم ذلك بالبينة العادلة، ثم ولي القضاء، فإنه لا يعمل بها. قالوا: وأما الحدود، فلا يقضي بعلمه فيها؛ لأنه خصم فيها؛ لأنها حق لله تعالى، وهو نائبه، إلا في حدّ القذف، فإنه يعمل بعلمه؛ لما فيه من حق العبد، وإلا في السكر إذا وَجَدَ سكرانًا، أو رأى به أماراتِ السُّكر، فإنه يعزِّره. هذا محصل مذهب أبي حنيفة (¬1). وأما مذهب الشافعي، فيحكم الحاكم بعلمه في غير عقوبة لله تعالى من حَدٍّ أو تعزير. قالوا: وشروط الحكم به كما في "شرح المنهج" للقاضي زكريا: أن يصرح الحاكم بمستنده فيقول: علمت أَنَّ له عليكَ ما ادعاه، وحكمتُ عليك بعلمي، قاله الماوردي، والروياني، انتهى (¬2). قال ابن القيم: وأما أهلُ الظاهر، فقال أبو محمد بن حزم: وفرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء والأموال والقصاص والفروج والحدود، سواء علم ذلك قبل ولايته، أو بعدها. قال: وأقوى ما حكم: بعلمه، ثم بالإقرار، ثم بالبينة، واحتجوا لذلك بما لا يجدي (¬3). وهذا الحديث قاصم لظهورهم، ومبطلٌ لدعواهم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 286). (¬2) انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 369). (¬3) انظر: "الطرق الحكمية" لابن القيم (ص: 286).

ومما احتجوا به: قوله - صلى الله عليه وسلم - لهند في الحديث المتقدم: "خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف"، وقد قررنا أن الاستدلال به سهو؛ لأنه من باب الفتيا لا القضاء، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه" (¬1). وإذا رأى وحدَه عدوانَ رجل على رجل، وغصبه ماله، وسمع طلاقه لامرأته، وعتقه لعبده، ثم رأى الرجل مستمرًا على إمساك الزوجة، أو بَيْعِ من صرح بعتقه، فقد أقرَّ على المنكر الذي أمر بتغييره. والجواب عن هذا: أنه مأمور بتغيير ما يعلم الناس أنه منكر بحيث لا تتطرق إليه تهمة في تغييره، وأما إذا عمد إلى رجل مع زوجته وأَمَته، لم يشهد أحد أنه طلقها، ولا أعتقها أَلبتةَ، ولا سمع بذلك أحد قط، ففرق بينهما، وزعم أنه طلق وأعتق، فإنه ينسب ظاهرًا إلى تغيير المعروف بالمنكر، ويتطرق الناس إلى اتهامه والوقوع في عرضه. وهل يسوغ للحاكم أن يأتي إلى رجل مستور بين الناس غيرِ مشهورٍ بفاحشة، ولم يشهد عليه شاهد واحد بها، فيرجمه، ويقول: رأيته يزني، أو يقتله ويقول: سمعته يسبُّ، أو يفرق بين الزوجين ويقول: سمعته يطلق؟! وهل هذا إلا محض التهمة؟! ولو فتح هذا الباب، ولاسيما لقضاة الزمان، لوجد كلُّ قاض له عدوٌّ السبيلَ إلى قتل عدوه ورجمه وتفسيقه، والتفريق بينه وبين امرأته، ولاسيما إذا كانت العداوة خفية لا يمكن عدوه إثباتها حتى لو كان الحق هو حكم الحاكم بعلمه، لوجب منعُ قضاة الزمان من ذلك، وهذا إذا قيل في شريحٍ، وكعبِ بنِ سوار، وإياسِ بنِ معاوية، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

وحفص بن غياث، وأضرابهم، كان فيه ما فيه (¬1). هذا كلام ابن القيم في "الطرق الحكمية" وتنكيته على قضاة زمانه مع كون الملة الإسلامية محميةً بالدولة القرشية، والأئمةُ في تلك الأعصار موجودون، والحفاظ متظافرون، ورايةُ العلم منشورة، وسيوفه مشهورة، والدروس والمدارس عامرة متكاثرة. فكيف بزماننا هذا الذي لم يبق فيه من الدين إلا اسمُه، ومن العلم إلا رَسْمُه، ومن العدل إلا ما جرى على ظلم من تقدمه، ومن الفضل إلا ما تابع به من حاضره وقدمه، ومن الحزم إلا ما وافق رأي مخدومه، ومن العزم إلا ما جرى على قانونه ومرسومه، فغوثًا بك اللهم من زمان كَلَحَ في وجه أهل العِرْض والديانة، ورمى بِكَلْكَلِه على ذوي المروَّات والصيانة، واستعانةً بك اللهم من عصور دولتُها الذئابُ الضارية، وحكامها القرودُ العاتية، وسلاطينها الأُسود الجائعة، وتجارُها الفئران الجامعة، وعلماؤها الثعالبُ المختلسة، وعُبَّادها الشياطين المتلبسة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قال الإمام ابن القيم: وقد ثبت عن أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس، ومعاوية -رضي الله عنهم- المنعُ من ذلك؛ أي: من حكم الحاكم بعلمه. قال: ولا يُعرف لهم مخالف في الصحابة، فذكر البيهقي وغيرُه عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أنه قال: لو وجدت رجلًا على حدّ من حدود الله، لم أَحُدَّه حتى يكون معي غيري (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الطرق الحكمية" لابن القيم (ص: 290 - 291). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 144).

وعن عمران: أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أرأيت لو رأيت رجلًا يقتل أو يسرق أو يزني؟ قال: أرى شهادتك شهادةَ رجل من المسلمين، قال: أصبت (¬1). وعن علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- نحوه (¬2). وهذا من كمال فقه الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-؛ فإنهم أفقهُ الأمة، وأعلمُهم بمقاصد الشرع وحكمِه (¬3). وأطال في الرد على المخالف في الكتاب المذكور، والله ولي الأمور. وفي الحديث: دليل على حكمه - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد. قال القاضي عياض: وهو قول المحققين. قال الخطابي: وفيه: دليل على أنه ليس كل مجتهد مصيبًا، وأن إثم الخطأ مرفوعٌ عنه إذا اجتهد. وفيه: العملُ بالظن؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فأحسب أنه صدق"، وهو أمر لم يختلف فيه في حق الحاكم. وقال الطحاوي: ذهب قوم إلى أن كل ما يقضي به الحاكم؛ من تمليك مال، وإزالة ملك، أو إثبات نكاح أو طلاق، وما أشبه ذلك على ما حكم، وإن كان في الباطن على خلاف ما شهد به الشاهدان، وعلى خلاف ما حكم بشهادتهما على الحكم الظاهر، ولو لم يكن قضاء القاضي موجبًا، لما ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (15456)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 144). (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 144). (¬3) انظر: "الطرق الحكمية" لابن القيم (ص: 291).

حصل به فائدة تمليك ولا تحليل ولا تحريم. وممن قال ذلك: أبو يوسف. وخالفهم آخرون، فقالوا: ما كان من ذلك من تمليك مال، فهو على حكم الباطن، وما كان من ذلك من قضاء بطلاق أو نكاح بشهودٍ ظاهرُهم العدالة، وباطنُهم خلافها، فحكم الحاكم بشهادتهم على ظاهرهم، فإنه ينفذ ظاهرًا وباطنًا (¬1). وهذا قول أبي حنيفة، ومحمد (¬2). وتقدم أن المعتمد عند الجمهور: أن حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن حقيقته باطنًا، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 155). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 6).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: كَتَبَ أَبي، وَكَتَبْتُ لَهُ إِلَى ابنِهِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَهُوَ قَاضٍ بسِجِسْتَانَ، أَنْ لَا تَحْكُم بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ؛ فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ: "لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" (¬1). وَفي رواية: "لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (1717)، كتاب: الأقضية، باب: كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، والنسائي (5406)، كتاب: آداب القضاة، باب: ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه، والترمذي (1334)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء: لا يقضي القاضي وهو غضبان. (¬2) رواه البخاري (6739)، كتاب: الأحكام، باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟ وأبو داود (3589)، كتاب: الأقضية، باب: القاضي يقضي وهو غضبان، والنسائي (5421)، كتاب: آداب القضاة، باب: النهي عن أن يقضي في قضاء بقضاءين، وابن ماجه (2316)، كتاب: الأحكام، باب: لا يحكم الحاكم وهو غضبان. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 164)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 77)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 575)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 170)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 15)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 168)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار =

(عن) أبي بَحْرٍ -بالموحدة والحاء المهملة والراء-، وكناه النووي في "التهذيب" بأبي عمرو (عبدِ الرحمن بنِ أبي بكرةَ)، واسمه نُفَيع بنُ الحارث -كما تقدم في ترجمته-. ولد عبد الرحمن هذا بالبصرة سنة أربع عشرة حيث نزلها المسلمون، وهو أول مولود بها من المسلمين، وهو من أَجِلَّاء التابعين، كثيرُ الحديث، سمع أباه، وعليًا، وابنَ عمر، وغيرَهم. وروى عنه: محمدُ بن سيرين، وعبدُ الملك بن عُمير، وعليُّ بن زيد، وغيرُهم. توفي سنة ست وتسعين، وهي السنة التي توفي فيها إبراهيم النخعي على قول. أخرج له الجماعة (¬1). (قال) عبد الرحمن بن أبي بكرة - رضي الله عنه -: (كتب أبي) أبو بكرة نفيع بن الحارث؛ أي: أمرني أن أكتب له، ولهذا قال: (وكتبت له)؛ أي: أملى علي، فكتبت ما أملاه علي (إلى ابنه عبيد الله بن أبي بكرة، وهو)؛ أي: والحال أنه (قاضٍ) يكنى عبيدُ الله: أبا حاتم، وهو أحد الكرام المذكورين، والسمحاء المشهورين. ¬

_ = (3/ 1564)، و"فتح الباري" لابن حجر (13/ 137)، و"عمدة القاري" للعيني (24/ 233)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (10/ 228)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 120)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 177). (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 190)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 260)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 77)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (36/ 10)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 275)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 5)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 134).

روى عن: علي بن أبي طالب، وعن أبيه، وغيرهما. روى عنه: ابنه زياد بن عبيد الله، ومحمد بن سيرين، وغيرهما. ولي قضاء البصرة، وكان قليل الحديث، وكان عبد الرحمن المتقدم ذكرُه أكبرَ، ولكن عبيد الله هذا أجود وأشهر. مات سنة سبع وتسعين (¬1). ولما كتب له أبوه أبو بكرة كان قاضيًا (بسجستان)، وهي ناحية كبيرة واسعة عمرها سجستان بن فارس، أرضُها كلُّها سبخةٌ رملة، والرياح فيها لا تسكن أبدًا، حتى بنوا عليها أَرْحِيَتَهم، وكلُّ طحينهم من تلك الرياح، وهي -مع كونها شديدة الريح- بلادٌ حارة، وقلَّ أن يُرى فيها بيت إلا وفيه قُنفذ، وأهلها من خيار الناس، وأصح معاملة، وهم يسارعون إلى إغاثة الملهوف، ومواساةِ الضعيف، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وامتنعوا على بني أمية أن يشتموا سيدنا عليًا -رضوان الله عليه- على منابرهم (¬2). والذي كتب به أبو بكرة - رضي الله عنه - لابنه عبيد الله: (أَنْ لا تحكمْ بين اثنين) من الخصماء (وأنت غضبان)؛ أي: في حال غضبك، ثم علل ذلك بقوله: (فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يحكم أحدٌ بين) ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 190)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 375)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 64)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (38/ 129)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 138)، و"تعجيل المنفعة" لابن حجر (ص: 214). (¬2) وانظر: "الأنساب" للسمعاني (3/ 225)، و"معجم البلدان" لياقوت (3/ 190).

خصمين (اثنين وهو غضبان)؛ أي: في حال غضبه. (وفي رواية) في "الصحيحين": (لا يقضينَّ) نهي مؤكد بالنون الثقيلة (حكم بين اثنين) من الخصماء (وهو غضبان) غضبًا كثيرًا. قال علماؤنا: يحرم على الحاكم القضاء وهو غضبان كثيرًا؛ لأن الغضب الكثير يمنع فهم الحكم، وكذا في شدة جوع أو عطش، أو هم أو ملل أو كسل، أو نعاس أو برد مؤلم، أو حر مزعج؛ لأن ذلك كله يشغل الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، ويمنع حضور القلب (¬1). وفي "منهج" القاضي زكريا و"شرحه" له من الشافعية: وكُره قضاءٌ عند تغير خلقه بنحو غضب؛ كجوع وشبع مفرطين، ومرض مؤلم، وخوف مزعج، وفرح شديد. نعم إن غضب لله، ففي الكراهة [وجهان] (¬2): قال البلقيني: المعتمد: عدمها، انتهى (¬3). لكن معتمد مذهب الشافعية: الكراهة، ولو كان الغضب لله، وإن خالفَ وحكمَ في حالة لا يحل له الحكمُ فيها؛ كما لو حكم وهو غضبان ونحوه، فأصاب الحقَّ، نفذ حكمه في الأصح عندنا كالشافعية (¬4)، ومحل الحرمة عندنا، والكراهة عند الشافعية في غير حق النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ للعصمة المانعة من الغلط ونحوه. قال الإمام الناصر لدين الله أميرُ المؤمنين أبو العباس أحمدُ أحدُ خلفاء ¬

_ (¬1) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (6/ 490). (¬2) في الأصل: "وجهين"، والصواب ما أثبت. (¬3) انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 368). (¬4) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (6/ 490).

بني العباس في كتابه "تَرك الغضب وكَظْم الغيظ": اعلم أن الله -تعالى- لما خلق الحيوان معرضًا للفساد والموتان بأسباب في داخل بدنه، وأسباب خارجة عنه، أنعمَ عليه بما يحميه الفساد، ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم، سماه في كتابه. . . . إلى أن قال: والأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان كالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يُقصد بها، فافتقر إلى قوة وحمية تثور من باطنه، فتدفع المهلكات عنه، فخلق الغضب من النار، وغرزه في الإنسان، وعجنه بطينته، فمهما قصد في غرض من أغراضه، ومقصود من مقاصده، اشتعلت نار الغضب، وثارت ثورانًا يغلي به دم القلب، وتنتشر في العروق، وترتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدور، فلذلك ينصب إلى الوجه، فيحمر الوجه والعين والبشرة لصفائها، فيحكي لون ما وراءها من حمرة الدّم، كما تحكي الزجاجة لونَ ما فيها، وإنما ينبسط الدم إذا غضب على مَنْ دونه، واستشعر القدرةَ عليه، فإن صدر الغضب عَمَّنْ فوقه، وكان مأيوسًا من القدرة على الانتقام، تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، وصار حزنًا، ولذلك يصفر اللون، وإن كان على نظير يشكُّ فيه، تولد منه تردُّدُ الدم بين انقباض وانبساط، فيحمرُّ ويصفر ويضطرب. وبالجملة: فقوة الغضب محلُّها القلب، ومعناها غليانُ دم القلب لطلب الانتقام، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها، والانتقام قوةُ هذه القوة وثمرتُها، وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به. ثم إن الناس في هذه القوة على ثلاث درجات من أول الفطرة؛ من التفريط، والإفراط، والاعتدال.

فأما التفريط، فيفقد هذه القوة من أصلها، وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه: إنه لا حمية له، وقد وصف الله تعالى الصحابة الكرام بالشدة والحمية، فقال: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] وقال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]. وأما الإفراط، فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين، ولا يبقى للعقل مع الغضب بصيرة ونظر وفكر ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر، وسببه غلبة أمور غريزية وأمور اعتيادية، فرب إنسان مستعد لسرعة الغضب بالفطرة، حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان، ويعين على ذلك حرارةُ مزاج القلب؛ لأن الغضب من النار؛ كما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبرودة المزاج تطفئه، وتكسر سَوْرَته. وأمّا الأسباب الاعتيادية، فبمخالطة من يتبجَّح بتشفي الغيظ وطاعة الغضب، ويسمون ذلك شجاعةً ورجولية، حتى يقول قائلهم: أنا الذي لا أصبر على الضيم، ولا أحتمله من أحد، ومعناه: لا عقلَ لي ولا حلم، فيذكر ذلك في معرض الفخر بجهله، فربما رسخ في نفس من يسمعه حسّ الغضب، وكلما اشتدت نار الغضب، وقوي اضطرابها، أعمت صاحبه، أو أصمته عن كل موعظة؛ لأن نور عقله قد انطفأ وانمحى بدخان الغضب؛ فإن معدن الفكر الدماغ، ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخانٌ إلى الدماغ مظلمٌ يستولي على معادن الفكر، ويتعدى إلى معادن الحس، فتظلم عينه، وتسود عليه الدُّنيا بأسرها، فدماغه بمثابة كهف أُضرمت فيه نار، فاسود جَوُّه، وحمي مستقره، وامتلأ بالدخان جوانبه، وكان فيه سراج ضعيف، فانطفأ وانمحى نوره، فلا يثبت فيه قدم، ولا يسمع فيه كلمة، ولا يقدر على إطفائه، بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق.

وكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ، وربما تقوى نار الغضب، فتفني الرطوبة التي بها حياةُ القلوب، فيموت صاحبه غيظًا، كما تقوى النار في الكهف، فيتشقق وتنهدّ أعاليه على أسافله. وبالحقيقة، فالسفينة في ملتطم الأمواج عند اضطراب الرياح في لجة البحر أحسنُ حالًا وأرجى سلامةً من النفس المضطربة غيظًا. ومن آثار هذا الغضب في الظاهر: تغير اللون، وشدَّةُ الرعدة في الأطراف، وخروجُ الأفعال عن الترتيب والنظام، واضطرابُ الحركة والكلام، حتى يظهر الزبد على الأشداق، وتحمر الأحداق، وتنقلب المناخر، وتستحيل الخلقة. ولو رأى الغضبان في حال غضبه قبحَ صورته، لسكن غضبه [حياء (¬1)] من قبح ظاهره؛ فإن الظاهر عنوان الباطن، فهذا أثره في الجسد. وأما أثره في اللسان، فانطلاقه بالشتم والفحش وقبائح الكلام الذي يستحيي منه عند زوال غضبه، ولكل عضو من أعضاء البدن عند إثارة الغضب وشدته نصيبٌ من عدم الانتظام والتغير عن الفطرة. وثمرةُ تركِ الغضبِ بالكلية فقدُ الأنفة والحمية، والغيرةِ المحمودة المرضية. والمحمودُ من الغضب ما كان لله، فهو غضب ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعث حين تجب الحمية، وينطفىء حيث يحسن الحلم، فيحفظ صاحبه، ويوقفه على حدِّ الاعتدال، وخيرُ الأمور أوساطها، انتهى ملخصًا (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين، سقط من "ب". (¬2) قلت: وهذا الكلام بحروفه في "إحياء علوم الدين" للغزالي (3/ 260) وما بعدها.

وفي "مسند الإمام أحمد"، و"سنن الترمذي" من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة: "ألا إن الغضبَ جمرةٌ في قلب ابن آدم، أَفما رأيتم إلى حُمرة عينيه، وانتفاخ أَوْداجِهِ؟ فمن أحسَّ من ذلك شيئًا، فليلزقْ بالأرض" (¬1). وفي ذلك أخبار كثيرة وآثار شهيرة، والله الموفق. تنبيه: اشترط علماؤنا كون القاضي مجتهدًا. قال ابن حزم: إجماعًا، ولو في مذهب إمامه؛ للضرورة. واختار جمع: أو مقلدًا (¬2). وفي "الإنصاف": وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا لتعطلت أحكام الناس، وعليه فيراعي [القاضي (¬3)] ألفاظ إمامه، ومتأخرها، ويقلد كبار مذهبه في ذلك، ويحكم به -ولو اعتقد خلافه-؛ لأنه مقلد (¬4). وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: يُولى لعدمٍ أنفعُ فاسِقَينِ، وأقلُّهُمَا شرًا، وأعدلُ المقلِّدينِ، وأعرفُهُما بالتقليدِ (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 61)، والترمذي (2191)، كتاب: الفتن، باب: ما جاء ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 396). (¬3) [القاضي] ساقطة من "ب". (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 396). ولم أقف عليه في "الإنصاف"، للمرداوي، والشارح -رحمه الله- لا ينقل عنه غالبًا في شرحه هذا، والله أعلم. (¬5) نقله ابن مفلح في "الفروع" (6/ 376)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-.

وفي "الإفصاح": إن الإجماع انعقد على تقليد كلٍّ من المذاهب الأربعة، وإن الحق لا يخرج عنهم (¬1). قال الإمام الموفق: النسبة إلى إمام في الفروع كالأئمة الأربعة ليست بمذمومة؛ فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة قاطعة. ونظر فيه بعض العلماء بأن الإجماع ليس عبارة عن الأربعة وأصحابهم. ورد هذا في "الفروع" بأنه ليس في كلام الموفق ما فهمه المعترض (¬2). قال علماؤنا: فلو حكم القاضي ولم يجتهد، لم يصح، ولو أصاب الحق (¬3)، وهذا تفريع على اشتراط كونه مجتهدًا. وفي "الإفصاح" لابن هبيرة: واتفقوا على أنه لا يجوز أن يولَّى القضاء مَنْ ليس من أهل الاجتهاد، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: يجوز ذلك. قال أبو المظفر الوزير ابنُ هبيرة -قدّس الله روحه-: الصحيح في هذه المسألة أن قول من قال: بأنه لا يجوز تولية قاض حتى يكون من أهل الاجتهاد، فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما استقر من هذه المذاهب التي اجتمعت هذه الأمّة على أن كلًا منها يجوز العملُ به؛ لأنه مستند إلى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأطال في ذلك. وقال: إذا قصد؛ أي: الحاكم في مواطن الخلاف تَوَخِّيَ ما عليه الأكثرُ منهم، والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد، فإنه قد أخذ بالحزم والأحسن والأولى، مع جواز أن يعمل بقول الواحد (¬4)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 343). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 374). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 415). (¬4) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 343 - 344).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ " ثَلَاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "الإشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ"، وَكانَ مُتَّكئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: "أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ"، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا؛ حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سكَتَ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2511)، كتاب: الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور، و (5631)، كتاب: الأدب، باب: عقوق الوالدين من الكبائر، و (5918)، كتاب: الاستئذان، باب: من اتكأ بين يدي أصحابه، و (6521)، كتاب: استتابة المرتدين، باب: إثم من أشرك بالله، وعقوبته في الدنيا والآخرة، ومسلم (87)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، والترمذي (1901)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في عقوق الوالدين، و (2301)، كتاب: الشهادات، باب: ما جاء في شهادة الزور، و (3019)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النساء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (11/ 149)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 353)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 282)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 81)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 170)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1567)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 262)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 217)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 129)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 211).

(عن أبي بكرة)، نُفَيع -بضم النون- الثقفي (- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا) -بفتح الهمزة وتخفيف اللام- للتنبيه هنا لتدل على تحقيق ما بعدها (أنبئكم)؛ أي: أخبركم كما في لفظ (¬1) (بأكبر الكبائر) ليس هو على ظاهره من الحصر، بل "من" فيه مقدرة، فقد ثبت في أشياء أخر -غير المذكورة هنا- أنَّها من أكبر الكبائر؛ كقتل النفس، والزنا بحليلة الجار، واليمين الغموس، واستطالة المرء في عِرْض رجل مسلم، ومنعِ فضل الماء، ومنعِ الفحل، وسوءِ الظن بالله، إلى غير ذلك مما أطلق الشارع عليه أنه من أكبر الكبائر (¬2). قال ابن دقيق العيد: يستفاد من قوله: "أكبر الكبائر" انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، ويستنبط منه: أن في الذنوب صغائر وكبائر، لكن فيه نظر؛ لأن من قال: كل ذنبٍ كبيرة، فالكبائر والذنوب عنده متواردان على شيء واحد، فكأنه قيل: ألا أنبئكم بأكبر الذنوب؟ قال: ولا يلزم من كون الذي ذُكر أنه أكبرُ الكبائر استواؤها؛ فإن الشرك بالله أعظمُ من جميع ما ذكر معه (¬3) (ثلاثًا)؛ أي: قالها ثلاث مرات على عادته - صلى الله عليه وسلم - في تكرير الشيء ثلاث مرات تأكيدًا؛ لينبه السامعَ على إحضار قلبه وفهمه للخبر الذي يذكره. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه برقم (5918) عند البخاري. (¬2) قلت: قد نظم الشارح -رحمه الله- الموبقات السبع في بيتين ذكرهما في كتابه: "الذخائر لشرح منطومة الكبائر" (ص: 136) فقال: خذِ الموبقاتِ الشركَ والقتلَ والزنا ... وأكلَ الربا والسحرَ مع قذفِ نُهَّدِ وأكلَكَ أموالَ اليتامى بباطلِ ... تولِّيكَ يومَ الزحف في حرب جحَّدِ (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 170 - 171).

وفهم بعضهم منه أن المراد بقوله: ثلاثًا، عددُ الكبائر، وهو بعيد، ويؤيده رواية: "أكبرُ الكبائر الإشراكُ، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور" ثَلاثًا. وقد اختلف السلف، فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر، ومنها صغائر، وشذّت طائفة منهم: أبو إسحاق الإسفراييني، فقالوا: ليس في الذنوب صغيرة، بل كل ما نهى الله عنه كبيرة، ونقل ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- (¬1)، وحكاه القاضي عياض عن المحققين (¬2)، واحتجوا بأن كل مخالفة لله، فهي بالنسبة إلى جلاله كبيرةٌ، انتهى (¬3). ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية، فقال: انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء، وخالفهم الأشعرية؛ أبو بكر بنُ الطيب وأصحابه، فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال: بعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها؛ كما يقال: القُبلة معصية صغيرة بإضافتها إلى الزنا، وكلها كبائر. قالوا: ولا ذنبَ عندنا يغفر واجبًا باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة، غير الكفر؛ لقوله -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. وأجابوا عن الآية التي احتج بها الجمهور، وهي قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] الآية: أن المراد: الشرك. ¬

_ (¬1) سيأتي ذكر قوله وتخريجه قريبًا. (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 355). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 409).

وقد قال الفراء: من قرأ: كبائر، فالمراد بها: كبير، وكبير الإثم هو الشرك. وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد؛ كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، ولم يرسل إليهم غير نوح. قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة، انتهى (¬1). قال النووي: وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على القول الأول (¬2). وقال الغزالي في "البسيط": إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه. قال القرطبي: ما أظنه يصحّ عن ابن عباس: أن كلَّ ما نهى الله عنه كبيرة؛ لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] , وقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، فجعل في المنهيات صغائر وكبائر، وفرق بينهما في الحكم؛ إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطًا باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن (¬3)؟. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": ويؤيده من روى عنه في تفسيره اللممَ بصغائر الذنوب؛ كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا، رواه عنه طاوس. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 85). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 284).

والنقل المذكور عنه أولًا. أخرجه إسماعيل القاضي، والطبري بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عباس -رضي الله عنهما (¬1) -، فأولى أن يكون المراد بقوله: نهى الله عنه محمولًا على نهي خاص، وهو الذي قرن به وعيد؛ كما قيل في الرواية الأخرى عن ابن عباس، فيحمل مطلقه على مقيده جمعًا بين كلاميه. قال الطيبي: الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان، فلابد من أمر يضافان إليه، وهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة، أو المعصية، أو الثواب. فأما الطاعة، فكل ما تكفره الصلاة مثلًا، فهو من الصغائر، وكل ما يكفره الإسلام أو الهجرة، فهو من الكبائر. وأما المعصية: فكل معصية يستحق فاعلها وعيدًا وعقابًا أزيدَ من الوعيد أو العقاب لسبب معصية أخرى، فهي كبيرة. وأمّا الثواب، ففاعل المعصية إن كان من المقربين، فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة؛ فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية، انتهى (¬2). قال النووي: اختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافًا كثيرًا منتشرًا. فروي عن ابن عباس: أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (5/ 41)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (290). (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 85)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 410)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-.

قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصري. وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار في الآخرة، أو أوجب فيه حدًا في الدُّنيا (¬1). قلت: قد نصَّ الإمام أحمد - رضي الله عنه - على هذا، وهو معتمد ما استقر عليه المذهب. وزاد شيخ الإسلام ابن تيمية: أو ورد فيه وعيد بنفي الإيمان، أو لعن فاعله. وإلى هذا أشار ناظم الكبائر بقوله: [من الطويل] فَمَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنَا أَوْ تَوَعُّدٌ ... بِأُخْرَى فَسَمْ كُبْرَى عَلَى نَصِّ أَحْمَدِ وَزَادَ حَفِيدُ الْمَجْدِ أَوْجَا وَعِيدُهُ ... بِنَفْيٍ لإِيمَانٍ وَلَعْنٍ مُبَعِّدِ (¬2) وقال مثلما قال الإمامُ أحمد الماورديُّ من الشافعية، ولفظه: الكبيرةُ ما وجبت فيه الحدود، أو توجّه إليها الوعيد. وضبطها إمامُ الحرمين من الشافعية بضابط آخر، فقال: هي كل جريمة تؤذن بقلةِ اكتراثِ مرتكبها بالدين ورقَّةِ الديانة (¬3). والحاصل: أن الصحيح المعتمد: انقسامُ الذنوب إلى صغيرة وكبيرة، وانقسامُ الكبائر إلى موبقات، وهي الأكبر، وإلى كبيرة. ¬

_ (¬1) انظر: "الذخائر لشرح منظومة الكبائر للحجاوي" للشارح -رحمه الله- (ص: 112، 121). (¬2) انظر: "الذخائر لشرح منظومة الكبائر للحجاوي" للشارح -رحمه الله- (ص: 112، 121). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 410).

وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنه قال: لا صغيرةَ مع إصرار، ولا كبيرةَ مع استغفار (¬1). وروي مرفوعًا من وجوه ضعيفة (¬2). والتوبة واجبة من الكبائر، وكذا من الصغائر عند علمائنا وغيرهم من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم. وحكي عن طائفة من المعتزلة عدمُ وجوب التوبة من الصغائر؛ لوقوعها مكفَّرة، ومن المتأخرين من قال بوجوب أحد أمرين: إما التوبة، أو الإتيان ببعض المكفِّرات للذنوب من الحسنات (¬3). (قلنا: بلى) أنبئنا بذلك (يا رسول الله) - صلى الله عليه وسلم -، (قال: الإشراك بالله). وفي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: سُئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الكبائر، فقال: "الإشراك بالله" (¬4). قال ابن دقيق العيد: ويحتمل أن يراد به مطلقُ الكفر، ويكون تخصيصه بالذكر؛ لغلبته في الوجود، ولاسيما في بلاد العرب، فذكر تنبيهًا على غيره من أصناف الكفر، ويحتمل أن يراد به خصوصُه، إلا أنه يرد على هذا الاحتمال: أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم من الشرك، وهو التعطيل، فيترجح الاحتمال الأول (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 934). (¬2) رواه القضاعي في "مسند الشهاب" (853). (¬3) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 178). (¬4) رواه البخاري (2510)، كتاب: الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور، ومسلم (88)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها. (¬5) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 172).

(وعقوق الوالدين) -بضم العين المهملة- مشتق من العَقِّ، وهو القطعُ، والمراد به: صدور ما يتأذى به الوالدُ من ولده من قول أو فعل، إلا في شرك أو معصية، ما لم يتعنت الوالد (¬1). وتقدم الكلام عليه في حديث المغيرة بن شعبة في باب: الذكر عقب الصلاة. (وكان) - صلى الله عليه وسلم - (متكئًا)؛ أي: مضطجعًا. قال الخطابي: كل معتمد على شيء متمكِّنٍ منه، فهو متكىء عليه (¬2)، (فجلس)، وفي لفظ: وجلس وكان متكئًا (¬3). والجملة حالية؛ أي: للاهتمام بهذا الأمر، وهو يفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وسبب اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بذلك كونُ قول الزور أو شهادة الزور أسهلَ وقوعًا على الناس من غيرها، والتهاونُ بها أكثر؛ لأن الحوامل عليها كثيرة؛ كالعداوة والحقد والحسد وغير ذلك، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيم ذلك (¬4). (وقال) - صلى الله عليه وسلم - بعد جلوسه: (ألا وقول الزور، وشهادة الزور)، ألا وقول الزور وشهادة الزور، (فما زال) - صلى الله عليه وسلم - (يكررها حتى قلنا: ليته سكت)؛ أي: تمنينا أنه يسكت إشفاقًا عليه لما رأوا من انزعاجه في ذلك. وفي لفظ: فما زال يقولها حتى قلتُ: لا يسكت (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 406). (¬2) المرجع السابق، (11/ 66). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2511). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 263). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5631).

قال ابن دقيق العيد: اهتمامه -عليه الصَّلاة والسَّلام- بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهلُ وقوعًا على الناس، والتهاونُ بها أكبرُ، ومفسدتها أيسرُ وقوعًا؛ لأن الشرك ينبو عنه المسلم، والعقوقُ ينبو عنه الطبع، وأمّا قول الزور، فالحوامل عليه كثيرة، فحسُنَ الاهتمامُ بها، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها. قال: وأما عطفُ الشهادة على القول، فينبغي أن يكون تأكيدًا للشهادة؛ لأنا لو حملناه على الإطلاق، لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقًا كبيرة، وليس كذلك. وإن كان بعض الذنوب منصوصًا على عِظَمه؛ كقوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112]. وبالجملة: فمراتب الكذب متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده. قال: وقد نصّ الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة، والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به. فالغيبة بالقذف كبيرة، ولا يساويها الغيبة بقبح الخلقة والهيئة مثلًا (¬1). وقال غيره: يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام؛ لأن كل شهادة زور قولُ زور، بغير عكس، ويحمل قول الزور على نوع خاص منه. قال في "الفتح": والأولى ما قاله الشيخ ابنُ دقيق العيد، ويؤيدُه وقوع شكٍّ في ذلك في حديث النبي، فدل على أن المراد شيء واحد. قال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصَّل بها إلى ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 173).

الباطل؛ من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال، فلا شيء من الكبائر أعظمُ ضررًا منها، ولا أكثرُ فسادًا بعد الشرك بالله منها (¬1). وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث: الكفر؛ فإن الكافر شاهد بالزور، وهو ضعيف. وقيل: المراد: من يستحل شهادة الزور، وهو بعيد (¬2). ويدل على أن المراد بقول الزور: شهادة الزور: حديث خُرَيم -بضم الخاء المعجمة- بنِ فاتك -بالفاء والتاء المثناة فوق بينهما ألف ثم كاف- رضي الله عنه -، قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الصبح، فلما انصرف، قام قائمًا، فقال: "عدلَتْ شهادةُ الزورِ الإشراكَ بالله" ثلاث مرات، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30 - 31]، رواه أبو داود واللفظ له، والترمذي، وابن ماجه (¬3). وقد روى ابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لن تزولَ قدمُ شاهدِ الزور حتى يوجبَ اللهُ له النارَ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (1/ 282). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 412). (¬3) رواه أبو داود (3599)، كتاب: الأقضية، باب: في شهادة الزور، و (2299)، كتاب: الشهادات، باب: ما جاء في شهادة الزور، وابن ماجه (2372)، كتاب: الأحكام، باب: شهادة الزور. (¬4) رواه ابن ماجه (2373)، كتاب: الأحكام، باب: شهادة الزور، والحاكم في "المستدرك" (7042).

ورواه الطبراني في "الأوسط" ولفظه: قال: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الطير لتضربُ بمناقيرها، وتحرِّكَ أذنابَها من هولِ يومِ القيامة، وما يتكلم به شاهدُ الزور، ولا تفارق قدماهُ الأرضَ حتى يُقذفَ به في النار" (¬1). وفي الحديث من الفوائد: استحباب إعادة الموعظة ثلاثًا؛ لتفهم، وانزعاج الواعظ في وعظه؛ ليكون أبلغ في الوعي والزجر عن فعل ما ينهى عنه. وفيه: غلظُ أمر شهادة الزور؛ لما يترتب عليها من المفاسد، وإن كانت مراتبُها متفاوتة. وضابط الزور: وصفُ الشيء على خلاف ما هو به، وقد يضاف إلى القول، فيشمل الكذبَ والباطلَ، وقد يضاف إلى الشهادة، فيختص بها، وقد يضاف إلى الفعل، ومنه تسمية لابس ثوبي زور، ومنه الشعر الموصول زورًا. وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]؛ أي: لا يحضرون الباطل. وفيه: إشفاق التلميذ على شيخه إذا رآه منزعجًا، وتمنى عدمِ غضبه؛ لما يترتب على الغضبان من تغير المزاج (¬2). فائدة: قسم ابنُ العربي الكذبَ على أربعة أقسام: ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (7616). وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 156)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- هذه الأحاديث. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 412 - 413).

أحدها -وهو أشدها-: الكذبُ على الله، قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 32]. الثاني: الكذبُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وهو هو أو نحوه. الثالث: الكذبُ على الناس، وهي شهادة الزور؛ من إثبات ما ليس بثابت، أو إسقاط ما هو ثابت. الرابع: الكذبُ للناس، قال: ومن أشد الكذب الكذبُ في المعاملات، وهو أحد أركان المفاسد الثلاثة فيها، وهي الكذب، والعيب، والغش. والكذب وإن كان محرمًا، سواء قلنا: كبيرة أو صغيرة، فقد يباح عند الحاجة، وقد يجب في مواضع ذكرها العلماء -رحمهم الله تعالى (¬1) -، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 218).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى علَيْهِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2349)، كتاب: الرهن، باب: إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، فالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، و (2524)، كتاب: الشهادات، باب: اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود، و (4277)، كتاب: التفسير، باب: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا. . . .} [آل عمران: 77]، ومسلم (1711/ 1)، واللفظ له، و (1711/ 2)، كتاب: الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه، وأبو داود (3619)، كتاب: الأقضية، باب: اليمين على المدعى عليه، والنسائي (5425)، كتاب: آداب القضاة، باب: عظة الحاكم على اليمين، والترمذي (1342)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 86)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 555)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 147)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 2)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 174)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1578)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 280)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 74)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 132)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 219).

(عن) أبي العباس حبرِ الأمة عبدِ الله (بنِ عباس -رضي الله عنهما-: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: لو يُعطى) -بضم أوله مبنيًا لما لم يسم فاعله- (الناسُ) -بالرفع- نائب الفاعل (بدعواهم) ما يدعونه، (لادَّعى ناسٌ) أنهم يستحقون (دماءَ رجال) بأن يقولوا: قتلوا أبانا ونحو ذلك، (و) أنهم يستحقون (أموالَهم) التي في أيديهم بسبب من أسباب انتقال الملك، أو نحو ذلك، (ولكن) لا يعطون شيئًا من ذلك بمجرد دعاويهم، بل حيث فقد المدعي البينة الشرعية تكون (اليمين) المانعة من استحقاق ما ادعاه المدعي (على المدَّعى عليه) وهو المطلوب. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، وهو لفظ "الصحيحين"، وقد أخرجه البيهقي بلفظ: "لو يُعطى الناس بدعواهم، لادعى رجالٌ أموالَ قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" (¬1) حديث حسن. ورواه الإسماعيلي في "صحيحه" من حديث ابن عباس أيضًا، ولفظه: "لو يُعطى الناس بدعواهم، لادَّعَى رجال دماء رجال وأموالَهم، ولكن البينة على الطالب، واليمين على المطلوب" (¬2). وروى نحوه الإمام الشافعي (¬3). وقال قتادة: فصلُ الخطاب الذي أُوتيه داود -عليه السلام- هو أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 252). (¬2) ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 252). (¬3) رواه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 191). (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 253).

قال الحافظ ابن رجب: وقد استدل الإمام أحمد، وأبو عُبيد بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"، وهذا يدل على أن هذا اللفظ عندهما صحيح محتج به. وفي المعنى أحاديث كثيرة. قال ابن المنذر: ومعنى "البينة على المدعي" يعني: يستحق بها ما ادعى، لا أنَّها واجبة يؤخذ بها، ومعنى قوله: "اليمين على المدعى عليه"؛ أي: يبرأ بها، لا أنها واجبة عليه يُؤْخَذُ بها على كل حال، انتهى (¬1). قال الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين النووية": قد اختلف الفقهاء من أصحابنا، والشافعية في تفسير المدعي، والمدَّعى عليه، فمنهم من قال: المدَّعي: هو الذي يخلَّى بسكوته من الخصمين، والمدَّعى عليه: من لا يخلَّى بسكوته منهما. ومنهم من قال: المدعي: من يطلب أمرًا خفيًا على خلاف الظاهر والأصل، والمدَّعى عليه بخلافه، وبنوا على ذلك مسألة، وهي: إذا أسلم الزوجان الكافران قبلَ الدخول، ثم اختلفا، فقال الزوج: أسلمنا معًا، فنكاحُنا باقٍ، وقالت الزوجة: بل سبقَ أحدُنا إلى الإسلام، فالنكاح منفسخ. فإن قلنا: المدعي من يخلَّى بسكوته، فالمرأة هي المدَّعي، فيكون القولُ قولَ الزوج؛ لأنه مدَّعى عليه؛ إذ لا يخلى بسكوته، وإن قلنا: المدَّعي من يدَّعي أمرًا خفيًا، فالمدَّعي هنا الزوج؛ إذ التقارب في الإسلام خلافُ الظاهر، فَالْقَوْلُ قولُ المرأة؛ لأن الظاهر معها. ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 312).

وأما الأمين إذا ادَّعى التلف؛ كالمودع إذا ادَّعى تلفَ الوديعة، فقد قيل: إنه مدع؛ لأن الأصل يخالف ما ادعاه، وإنما لم يحتج إلى بينة؛ لأن المودع ائتمنه، والائتمان يقتضي قبول قوله. وقيل: إن المدعي الذي يحتاج إلى بينة هو المدعي ليُعطى بدعواه مالَ قوم أو دماءهم؛ كما ذكر ذلك في الحديث. وأما الأمين، فلا يدَّعي ليُعطَى شيئًا. وقيل: بل هو مدَّعًى عليه؛ لأنه إذا سكت، لم يترك، بل لابدّ له من رد الجواب. والمودعُ مدَّعٍ؛ لأنه إذا سكت، تُرك، ولو ادعى الأمينُ ردَّ الأمانة إلى من ائتمنه، فالأكثرون على قبول قوله؛ كدعوى التلف. وقال الأوزاعي: لا يقبل قوله؛ لأنه مدع. وقال مالك: إن ثبت قبضُه للأمانة ببينة، لم يقبل قولُه في الرد بدون بينة. وقد اختلف الفقهاء في هذا الباب على قولين: أحدهما: أن البينة على المدعي أبدًا، واليمين على المدَّعى عليه أبدًا، وهو قول أبي حنيفة، ووافقه طائفة من الفقهاء والمحدثين؛ كالبخاري، وطردوا في كل دعوى، حتى القَسامة، وقال: لا يحلف إلا المدَّعى عليه، ورأوا أَلَّا يقضى بشاهد ويمين؛ لأن اليمين لا تكون على المدَّعي، بل لا تكون إلا في جانب المنكرِ المدَّعى عليه، وتقدم الكلام على ذلك بما لعله يكفي ويشفي، واستدلالُ من استدلَّ بظاهر هذا الحديث على عدم قبول الشاهد واليمين مدخول؛ فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولكن اليمين على المدعى عليه" إنما أريد بها اليمين المجردة عن الشهادة، وأولُ الحديث يدل على

ذلك، وهو قوله: "لو يُعطى الناس بدعواهم، لادَّعى رجالٌ دماءَ رجالٍ وأموالَهم"، فدل على أن قوله: "اليمين على المدعى عليه" إنما هي اليمين، القاطعة للمنازعة مع عدمِ البينة، وأما اليمينُ المثبِتة للحقِّ مع وجود الشهادة، فهذا نوع آخر، وقد ثبت بسنَّة أخرى. واختلف أيضًا في ردِّ اليمين على المدعي، والمشهور عند الإمام أحمد موافقةُ أبي حنيفة، واستدل الإمام أحمد بهذا الحديث، وقال في رواية أبي طالب عنه: ما هو ببعيد أن يقال له: يحلف ويستحق، وأجاز ذلك طائفة من متأخري علمائنا، وهو قول مالك، والشافعي، وأبي عبيد، وروي عن طائفة من الصحابة، وقد ورد فيه حديث مرفوع خرجه الدارقطني، ونظر الحافظ ابن حجر في إسناده. قال أبو عبيد: ليس هذا إزالة لليمين عن موضعها؛ فإن الإزالة أَلَّا يُقضى باليمين على المطلوب، فأما ما قضي بها عليه، فرضي بيمين صاحبه، كان هو الحاكم على نفسه بذلك؛ لأنه لو شاء، لحلف وبرىء، وبطلت عنه الدعوى. والقول الثاني في المسألة: أنه يرجَّح جانبُ أقوى المتداعيين، ويُجعل اليمين في جانبه. هذا مذهب الإمام مالك، وكذا ذكر القاضي أبو يعلى في "خلافه": أنه مذهب الإمام أحمد، وعلى هذا تتوجه مسألة القَسامة، والشاهدِ واليمين؛ فإنَّ جانب المدَّعي في القسامة لما قوي باللوث جُعلت اليمينُ في جانبه، وحُكم له بها، وكذلك المدَّعي إذا أقام شاهدًا، فإنه قوي جانبه، فحلف معه، وقضى له. ولهؤلاء في الجواب عن قوله: "البينة على المدعي" طرق:

أحدها: أن هذا خُصَّ من العموم بدليل آخر. الثاني: أن قوله: "البينة على المدعي" ليس بعام؛ لأن المراد: المدعي المعهود، وهو من لا حجة له سوى الدعوى، وأما المدعي الذي معه حجة تقوي دعواه، فليس داخلًا في هذا الحديث. الثالث: أن المراد بالبينة: كلُّ ما بين صحةَ دعوى المدعي، وشهدَ بصدقه، فاللوث مع القسامة بينة، والشاهد مع اليمين بينة. الرابع: ما سلكه بعضهم، وهو الطعن في صحة هذه اللفظة؛ أعني قوله: "البينة على المدعي"، وقالوا: إنما الثابت قوله: "اليمين على المدعى عليه"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يُعطى الناس بدعواهم. . . ." إلخ يدل على أن مدَّعي الدم والمال لابدَّ له من بينة تدلُّ على ما ادَّعاه، ولا يدخل في عموم ذلك أنَّ من ادعى على رجل أنه قتل مُوَرِّثه، وليس معه إلا قولُ المقتول عند موته: جرحني فلان، لا يكتفى بذلك، ولا يكون بمجرده لوثًا في قول الجمهور؛ خلافًا للمالكية؛ فإنهم جعلوه لوثًا يُقْسِمُ معه الأولياء، ويستحقون الدم. ولو ادعت امرأة على رجل أنه استكرهها على الزنا، فالجمهور أنه لا يثبت بمجرد دعواها عليه شيء. وقال أشهب من المالكية: لها الصداقُ بيمينها. وقال غيره منهم: لها الصداقُ بغير يمين، هذا إذا كانت ذاتَ قَدْر، وادعت على رجل مُتَّهم تليق به الدعوى، فإن كان المرميُّ بذلك من أهل الصلاح، ففي حدها للقذف عن مالك رِوايتان، وقد كان شريحٌ، وإياسُ بنُ معاويةَ يحكمان في الأموال المتنازعِ فيها بمجرد القرائن الدالة على صدق أحد المتداعيين، قاله الحافظ ابن رجب.

قال: وقضى شريحٌ في أولاد هرة تداعاها امرأتان كلٌّ منهما تقول: هي ولد هرتي. قال شريح: ألقها مع هذه، فإن هي قَرَّتْ ودَرَّتْ واسْبَطَرَّتْ، فهي لها، وإن هي فَرَّتْ وهَرَّتْ وازْبَأَرَّتْ، فليس لها (¬1). قال ابن قتيبة: قولُه: اسبطرت، يريد: امتدت للإرضاع، وازبأرت: اقشعرَّتْ وتنفَّشَت (¬2). قال: وكان يقضي بنحو ذلك أبو بكر الشامي من الشافعية، ورجح قولَه ابنُ عقيل من أصحابنا، انتهى (¬3). قلت: وقد صنّف الإمام المحقق ابن القيم كتابه "الطرق الحكمية"، وذكر من ذلك أشياء كثيرة جدًا، ورجح الاعتماد على القرائن مع الفراسة، والله أعلم. واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اليمين على المدعى عليه" على أن المدعي لا يمين عليه، إنما عليه البينة، وهو قول الأكثرين. وروي عن علي -رضوان الله عليه-: أنه أحلف المدَّعي مع بينته: أن شهوده شهدوا بحق، وفعله شريح، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وابن أبي ليلى، وسوار العنبري، وروي عن النخعي. وقال إسحاق: إذا استراب الحاكم، وجب ذلك. وسأل مهنا الإمامَ أحمد عن هذه المسألة، فقال الإمام أحمد: قد فعله عليٌّ، فقال له: أيستقيم هذا؟ فقال: قد فعله علي - رضي الله عنه -، فأثبت ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (23/ 35). (¬2) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 507 - 508). (¬3) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 313 - 316).

القاضي أبو يعلى هذه الرواية عن الإمام أحمد، لكنه حملها على الدعوى على الغائب، والصبي، وهذا الحمل لا يصحّ؛ لأن عليًا إنما حلّف المدَّعيَ مع بينته على الحاضر معه، وهؤلاء يقولون: هذه اليمينُ لتقوية الدعوى إذا ضعفت باسترابة الشهود؛ كاليمين مع الشاهد الواحد. وقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في المرأة الشاهدة على الرضاع: إنَّها تُستحلف، وأخذ به الإمام أحمد كما في رواية عنه (¬1). تنبيه: ظاهر الحديث: أن اليمين تتوجَّه على كلِّ من ادُّعي عليه بحق، وهذا قول جمهور الأئمة وسلف الأمة، ولا فرق بين أن يكون بين المدعي والمدعى عليه اختلاط أو لا. وقال الإمام مالك، وجمهور أصحابه، والفقهاءُ السبعة فقهاءُ المدينة: إن اليمين لا تتوجه إلا على من بينه وبينه خلطة؛ لئلا يَبتذِل السفهاءُ أهلَ الفضل بتحليفهم مرارًا في اليوم الواحد، فاشترطت الخلطةُ دفعًا لهذه المفسدة. واختلفوا في تفسير الخلطة، فقيل: هي معرفته بمعاملته ومداينته بشاهد أو شاهدين، وقيل: تكفي الشهرة، وقيل: هي أن تليق به الدعوى بمثلها على مثله، وقيل: أن يليق به أن يعامله بمثلها، ذكره العلقمي في "شرح الجامع الصغير" (¬2)، وذكره -أيضًا- الحافظُ ابنُ رجب في "شرح الأربعين"، وعبارته: قال مالك: إنما تجب اليمين على المنكِر إذا كان بين ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 316). (¬2) وانظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 3).

المتداعيين نوعٌ من مخالطة؛ خوفًا من أن يبتذل السفهاء الرُّؤَساء بطلب أيمانهم. وعنده: لو ادعى على رجل أنه غصبه، أو سرق منه، ولم يكن المدَّعى عليه متهمًا بذلك، لم يُستحلف. وحكي أيضًا عن القاسم بن محمد، وحُميد بن عبد الرحمن، وحكاه بعضهم عن فقهاء المدينة السبعة فإن كان من أهل الفضل، وممن لا يُشار إليه بذلك، أُدِّبَ المدَّعي عند مالك (¬1)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 316).

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة جمع طعام، وهو عامٌّ في كل ما يُقتات من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك (¬1)، وربَّما خُصَّ به البُرُّ (¬2). وقال في "المطلع": والأطعمةُ جمعُ قلة، لكنه بتعريفه بالألف واللام أفادَ العموم (¬3). وفي "القاموس": الطعام: البُرُّ، وكلُّ ما يؤكل، والجمع أطعمة، وجمع الجمع أَطْعِمات (¬4). وذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب عشرة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 126). (¬2) قاله الجوهري في "الصحاح" (5/ 1974)، (مادة: طعم). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 380). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1462)، (مادة: طعم).

[باب]

الحديث الأول عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بإصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيهِ-: "إِنَّ الحَلَالَ بيَّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بيَّن، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَع فِيهِ، أَلَا وَإِن لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلْبُ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (52)، كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، و (1946)، كتاب: البيوع، باب: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات، ومسلم (1599)، كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، واللفظ له، وأبو داود (3329 - 3330)، كتاب: البيوع، باب: في اجتناب الشبهات، والنسائي (4453)، كتاب: البيوع، باب: اجتناب الشبهات في الكسب، والترمذي (1205)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في ترك الشبهات، وابن ماجه (3984)، كتاب: الفتن، باب: الوقوف عند الشبهات. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (5/ 198)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 284)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 488)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 27)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 182)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1581)، و"جامع العلوم والحكم" =

(عن) أبي عبد الله (النعمانِ بنِ بشير -رضي الله عن هـ) ـــــما-، (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول -وأهوى النعمان) بن بشير (بإصبعيه) السبابتين؛ أي: مدهما مشيرًا بهما (إلى أذنيه-): أنه سمعه - صلى الله عليه وسلم - بأذنيه هاتين يقول. قال الحافظ ابن رجب: وقد روي هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس -رضي الله عنهم-. قال: وحديث النعمان أصحّ أحاديث هذا الباب (¬1). (إن الحلال) المحض (بَيَّنٌ)، لا اشتباه فيه ولا خفاء، (وإن الحرام) المحض (بَيَّنٌ) واضح، لا اشتباه فيه، (و) لكن (بينهما)؛ أي: الحلال المحض والحرام المحض أمورٌ (مشتبهاتٌ) بوزن مفتَعِلات -بتاء مفتوحة وعين مكسورة-؛ أي: اكتسبت الشبهةَ من وجهين متعارضين، وفي رواية: "مُشَبَّهات" (¬2) بوزن مفعَّلات -بتشديد العين المهملة المفتوحة-؛ أي: شبهت بغيرها مما لا يتبين به حكمها على التعيين. وفي أخرى: "متشابهات" (¬3)؛ أي: ليست بواضحة الحِلِّ والحُرمة؛ لتعارض الأدلة، واختلاف العلماء (¬4)، (لا يعلمهنَّ)؛ أي: المشتبهات (كثيرٌ من الناس)، ¬

_ = لابن رجب (ص: 66)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 126)، و"عمدة القاري" للعيني (1/ 295)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (1/ 142)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 171)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 320). (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 67). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (52). (¬3) رواه أبو عوانة في "مسنده" (3/ 398)، وهي رواية للأصيلي، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 127). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 127).

وإنما يعلمها العلماء بنص، أو قياس، أو غيرهما من الأدلة، وهم بالنسبة لمن لا يعلمها قليل، فأكثرُ الناس أو كثير منهم تشتبه عليه، هل هي من الحلال، أم من الحرام؟ وأما الراسخون في العلم، فلا يشتبه عليهم ذلك، ويعلمون بالأدلة من أيِّ القسمين هي. والحاصل: أنه -عليه الصَّلاة والسَّلام- قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام: الأول: الحلال المحض، مثل: أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان والصوف والشعر، وكالنكاح والتسري، وغير ذلك، إذا كان اكتسابه بعقد صحيح؛ كالبيع، أو بميراث، أو هبة، أو غنيمة. الثاني: الحرام المحض؛ كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ونكاح المحارم، ولباس الحرير للرجال، ومثل الأكساب المحرمة؛ كالربا والميسر، وثمن ما لا يحل، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب، ونحو ذلك. الثالث: المُشْتَبه؛ كأكل ما اختُلف في حله وتحريمه، إما من الأعيان؛ كالخيل والبغال والحمير والضب، وشرب ما اختُلف في تحريمه من الأنبذة التي لا يُسكر قليلها، ولُبسِ ما اختُلف في لبسه من جلود السباع ونحوها، وكذا ما استُفيد من المكاسب المختلَف في تحريمها؛ كمسألتي العينة والتورق، ونحو ذلك. وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات سيدُنا الإمام أحمد، وإسحاقُ بن راهويه، وغيرُهما من الأئمة (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 67).

وحاصل الأمر: أن الله تعالى أنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - الكتاب، وبين فيه للأمة ما يحتاج إليه من حلال وحرام، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. قال مجاهد وغيره: لكل شيء أُمروا به، أو نُهوا عنه (¬1). وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تركتكم على بيضاءَ نقيةٍ ليلُها كنهارها لا يَزيغُ عنها إلا هالِكٌ" (¬2). وقال عمُّه العباس - رضي الله عنه - لما شكَّ الناسُ في موته - صلى الله عليه وسلم -: واللهِ ما مات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تركَ السبيل نهجًا واضحًا، وأحلَّ الحلالَ، وحَرَّمَ الحرام، ونكح وطلَّق، وحاربَ وسالم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوسَ الجبال يخبط عليها العضاه بخبطه، ويمدرُ حوضها بيده بأنصبَ ولا أدأبَ من رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان فيكم (¬3). وفي الجملة: فما ترك اللهُ ورسوله حلالًا إلا مُبَيَّنًا، ولا حرامًا إلا مبينًا، لكن بيان بعضه أظهرُ وأوضحُ من بعض. فما ظهر بيانُه واشتهر، وعُلم من الدين بالضرورة من ذلك، لم يبق فيه شك، ولا يُعذر أحدٌ بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام. وما كان بيانه دون ذلك، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة قاطبة، ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (5/ 1424). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 126)، وابن ماجه (43) في مقدمة "سننه"، من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -. (¬3) رواه الدارمي في "سننه" (83).

فأجمع العلماء على حله أو حرمته، وقد يخفى على بعض مَنْ ليس منهم. ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة، فاختلفوا في تحليله وتحريمه، وذلك لأسباب: منها: كون النص عليه خفيًا لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميعَ حملة العلم. ومنها: أنه قد يُنقل فيه نصان، أحدُهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ كلَّ طائفة أحدُ النصين دون الآخر، فتمسَّكَ كلُّ طائفة بما بلغها، أو يبلغ النصان معًا من لا يبلغه التاريخ، فيقف؛ لعدم معرفته بالناسخ. ومنها: ما ليس فيه نصٌّ صريح، وإنما يؤخذ من عموم، أو مفهوم، أو قياس، فتختلف أفهامُ العلماء في هذا كثيرًا. ومنها: ما يكون فيه أمر أو نهي، فتختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب، أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم، أو التنزيه (¬1). وأسباب الاختلاف كثيرة جدًا، وقد ذكر جميعها أو مجموعها شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في كتابه: "رفع الملام عن أئمة الإسلام". قال الحافظ ابن رجب: ولابدّ من عالم في الأمة يوافقُ قولُه الحقَّ، فيكونُ هو العالمَ بهذا الحكم، وغيرُه يكون الأمر مشتبهًا عليه، فلا يكون عالمًا بهذا؛ فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهر أهلُ باطلها على أهل حقها، فلا يكون الحق مهجورًا غيرَ معمول به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال -عليه السلام- في الشبهات: "لا يعلمهنَّ كثيرٌ من ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 67 - 69).

الناس"، فدل على أن من الناس مَنْ يعلمُها، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها، وليست مشتبهة في نفس الأمر، فدخل فيمن لم يعلمها نوعان: أحدهما: من يتوقف فيها؛ لاشتباهها عليه. الثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه. ودل على أن غير هؤلاء يعلمها، والمراد: أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر؛ من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله -عزَّ وجلَّ- في مسائل الاجتهاد المختلف فيها بين الحِلِّ والحُرْمَة واحدٌ، وغيره ليس بعالم بها؛ بمعنى: أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر، وإن كان يعتقد باستناده فيها إلى شُبَهٍ يظنها دليلًا، ويكون مأجورًا على اجتهاده، أو مغفورًا له خطؤه لعدم اعتماده. ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين؛ وقدَّمَ القسمَ الأول لشرفه، فقال (فمن)؛ أي: أي شخص ممن اشتبهت عليه، وهو مَنْ لا يعلمها، بخلاف العالمِ بها، المتتبعِ ما دلَّه علمُه عليها؛ فإنه على هُدًى واستبصار، فهذا ليس ممن الكلام فيه (¬1) (اتقى الشبهات)؛ أي: حَذر منها، وهي -بالضم- جمع شبهة؛ أي: من اجتنبها فقد (استبرأ) -بالهمز- بوزن استفعل من البراءة؛ أي: طلب البراءة (لدينه) من الذم والنقص (و) صيانة (عرضه) من الشَّين وكلام الناس، والعِرْض -بكسر العين المهملة وسكون الراء فضاد معجمة-: موضع المدح والذم من الإنسان؛ أي: ما يحصل له بذكره الجميل مدح، وبذكره القبيح قدح، وقد يكون ذلك تارة في نفس الإنسان، وتارة في سلفه، أو في أهله ومن يلزمُه أمرُه. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص: 69 - 71).

وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه، ويحامي عنه أن يُنتقص أو يُثلب. وقال ابن قتيبة: عرض الرجل: نفسه وبدنه، لا غير. قال في "النهاية": ومنه الحديث: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"؛ أي: احتاط لنفسه، ولا يجوز فيه معنى الآباء والأسلاف، ومنه حديث أبي ضمضم: "اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك" (¬1)؛ أي: تصدقت على من ذكرني بما يرجع إلي عيبه. قال: ومنه شعر حسان بن ثابت - رضي الله عنه -: [من الوافر] فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ (¬2) فهذا خاص بالنفس، ومنه حديث: "أقرضْ مِنْ عِرْضِكَ ليوِم عَرْضِكَ" (¬3)؛ أي: مَنْ عابَكَ وذَمَّك، فلا تجازِهِ، واجعلْه قرضًا في ذمته؛ لتستوفيه منه يوم عَرْضِك على مولاك، واحتياجك إلى جدواك (¬4). والحاصل: أنه يُراد به: المعنيان، والله الموفق. فمن اتقى الأمور المشتبهة، واجتنبها، فقد حَصَّنَ عرضَه من القدح والشَّين الداخلِ على من لم يجتنبْها. وفيه: دليل على أن من ارتكب الشبهات، فقد عَرَّضَ نفسَه للقدح ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4886)، كتاب: الأدب، باب: من ليست له غيبة. (¬2) انظر: "ديوانه" (1/ 18)، (ق 1/ 27). (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (7575)، وفي "مسند الشاميين" (1371)، من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -. وجاء موقوفًا عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (34596). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 209).

والطعن فيه؛ كما قال بعض السلف: من عرض نفسه للتهم، فلا يلومن من أساء به الظن. وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: "من تركها استبراءً لدينه وعرضه، فقد سلم" (¬1)، والمعنى: أنه تركها بهذا القصد، وهو براءة دينه وعرضه من النقص، لا لغرضٍ آخرَ فاسدٍ من رياءٍ ونحوه. وفيه: دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح؛ كطلب البراءة للدين، ولهذا ورد: أن ما وقى به المرءُ عرضَه، فهو صَدَقَة. وفي رواية في "الصحيحين" في هذا الحديث: "فمن تركَ ما يشتبه عليه من الإثم، كان لِما استبانَ أتركَ" (¬2)؛ يعني: أنّ من ترك الإثم مع اشتباهه عليه، وعدمِ تحقُّقه، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم، وهذا إذا كان تركه تحرُّزًا من الإثم، فأما من يقصد التصنُّعَ للناس، فإنه لا يترك إلا ما يظن أنه ممدوح عندهم (¬3). القسم الثاني: ما أشار إليه بقوله: (ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام) مع كونها مشتبهة عنده، فأما من أتى شيئًا مما يظنه الناس شبهة؛ لعلمه بحله في نفس الأمر، فلا حرج عليه من الله في ذلك. لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك، كان تركُها حينئذٍ استبراءً لعرضه، فيكون حسنًا، وهذا كما قال - صلى الله عليه وسلم - لمن رآه واقفًا مع صفية: "إنها صفيةُ بنتُ حُيَيّ" (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1205). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1946). (¬3) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 72). (¬4) رواه البخاري (3107)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، ومسلم (2175)، كتاب: السلام، باب: بيان أنه يستحب لمن رئي خاليًا بامرأة، من =

وخرج أنس إلى الجمعة، فرأى الناس قد صلَّوا ورجعوا، فاستحيا، ودخل موضعًا لا يراه الناس فيه، وقال: من لا يستحي من الناس، لا يستحي من الله. وخرّجه الطبراني مرفوعًا (¬1)، ولا يصح رفعُه. وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال، إما باجتهاد سائغ، أو تقليد سائغ، وكان مخطئًا في اعتقاده، فلا حرج عليه. فإن كان الاجتهاد ضعيفًا، والتقليد غيرَ سائغ، وإنما حمل عليه مجردُ اتباع الهوى، فحكمُه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه، وقد أخبر -عليه الصَّلاة والسَّلام- عن الذي يأتي الشبهات: أنه قد وقع في الحرام. وهذا -يعني: كونَ مرتكب الشبهة قد وقع في الحرام- يفسر بمعنيين: أحدهما: أن ارتكابه الشبهةَ مع اعتقاده أنَّها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقده أنه حرام بالتدريج والتسامح. وفي رواية في "الصحيحين" لهذا الحديث: "ومن اجترأَ على ما يشكُّ فيه من الإثم، أَوْشَكَ أن يواقعَ ما استبانَ" (¬2). وفي رواية: "ومن يخالطِ الريبةَ، يوشكْ أن يَجْسُر" (¬3)؛ أي: يقرب أن يقدم على الحرام المحض، والجَسُور: المقدامُ الذي لا يهاب شيئًا، ولا يراقب أحدًا (¬4). ¬

_ = حديث صفية بنت حيي -رضي الله عنها-. (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (7159). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (1946). (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3329)، وعند النسائي برقم (4453). (¬4) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 72 - 73).

ثم ضرب - صلى الله عليه وسلم - مثلًا، فقال: (كالراعي يرعى) ماشيته ودوابه (حول)؛ أي: جوانب (الحمى) وقربه الذي يحميه الملوك، ويمنعون غيرَهم من قربانه. وقد جعل - صلى الله عليه وسلم - حول مدينته اثني عشر ميلًا حمًى محرَّمًا، لا يُقطع شجرُه، ولا يُصاد صيدُه، وحمى عمرُ، وعثمان -رضي الله عنهما- أماكنَ ينبت فيها الكلأ لأجل إبل الصَّدقة، والله -سبحانه وتعالى- حمى هذه المحرمات، ومنع عباده من قُربانها، وسماها: حدودَه، فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]. وهذا فيه بيان أنه حَدَّ لهم ما أحل لهم وما حرم عليهم، فلا يقربوا الحرام، ولا يتعدوا الحلال، وكذا قال في الآية الأخرى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬1) [البقرة: 229] (يوشك)؛ أي: يقرب ويسرع (أن يرتع فيه)؛ أي: هو جدير بأن يدخل الحمى، ويرتع فيه. وفي بعض الروايات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وسأضرب لك مثلًا" (¬2)، ثم ذكر هذا الكلام، فمن تعدى الحلال، ووقع في الشبهات، فإنه قد قارب الحرامَ غايةَ المقاربة، فما أخلقَه وأجدرَه بمواقعة الحرام المحض. وفي ذلك تنبيه: إلى أنه ينبغي التباعدُ عن المحرمات، وأن يجعل الإنسانُ بينه وبينها حاجزًا. وقد أخرج الترمذي، وابن ماجه من حديث عبد الله بن يزيد -رضي الله ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (ص 73). (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3329)، والنسائي برقم (4453)، وعندهما: "وسأضرب لكم في ذلك مثلًا".

عنه-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يبلغ العبدُ أن يكون من المتقين حتى يدعَ ما لا بأسَ به حذرًا مِمَّا به بأسٌ" (¬1). وقال أبو الدرداء: تمامُ التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يتركَ بعضَ ما يَرى أنه حلال خَشية أن يكون حرامًا؛ حجابًا بينه وبين الحرام (¬2). وقال الحسن: مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام (¬3). وقال الثوري: إنما سُمُّوا المتقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يُتقى (¬4). وروي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: إني لا أُحبُّ أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب حقيقةَ الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال، وحتى يدع الإثمَ وما تشابهَ منه (¬5). واستدل بهذا الحديث مَنْ يذهب إلى سدِّ الذرائع إلى المحرمات، وتحريمِ الوسائل إليها (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2451)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: (19)، وابن ماجه (4215)، كتاب: الزهد، باب: الورع والتقوى، والحاكم في "المستدرك" (7899)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 335)، لكن من حديث عطية السعدي - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن المبارك في "الزهد" (ص: 19)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/ 212)، وغيرهما. (¬3) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 61) لابن أبي الدنيا. (¬4) ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (7/ 284)، عن سفيان بن عيينة. (¬5) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (7/ 288). (¬6) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 73 - 74).

(ألا وإنّ لكل ملك) من ملوك الدُّنيا من العرب وغيرهم (حِمًى) يحميه عن الناس، ويمنعهم من دخوله، فمن دخله، أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه، لا يقارب ذلك الحمى؛ خوفًا من الوقوع فيه (ألا وإن حمى الله) -سبحانه وتعالى- (محارمُه)؛ أي: المعاصي التي حرّمها؛ كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر وأشباهها، فكلُّها حمى الله، من دخل شيئًا منها بارتكابه المعاصي، استحق العقوبة، ومن قارب شيئًا منها، يوشك أن يقع فيه، فمن احتاط لنفسه، لم يقاربها، فلا يتعلق بشيء يقربه من المعاصي، ولا يدخل في شيء من الشبهات (¬1). (ألا وإن في الجسد مضغة) هي القطعة من اللحم، سميت بذلك؛ لأنها تُمْضَغ في الفم؛ لصغرها، قالوا: والمراد: تصغيرُ القلب بالنسبة إلى سائر الجسد (¬2) (إذا صلَحت) تلك المضغة، (صلَح الجسدُ كلُّه)، (وإذا فسَدَتْ) تلك المضغة، (فسدَ الجسدُ كلُّه). قال أهل اللغة: يقال: صلَح وفسَد -بفتح اللام والسين وضمهما- والفتح أفصح وأشهر (¬3)، (ألا وهي)؛ أي: تلك المضغة التي يصلح الجسد كله بصلاحها، ويفسد سائره بفسادها (القلبُ)، وهو الشكل الصَّنَوْبَرِيُّ في الجوف، أدقُّه إلى أسفل، وأغلُظه إلى فوق، وسُمِّي القلبَ؛ لتقلُّبه في الأمور، أو لأنه أخلص ما في البدن، وخالصُ كلِّ شيء فيه، أو لأنه وُضع في الجسد مقلوبًا، فصلاح حركات العبد بجوارحِه واجتنابه المحرمات، واتقائه الشبهات بحسب صلاح قلبه، فإن كان قلبه سليمًا، ليس فيه إلا ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 28). (¬2) المرجع السابق، (11/ 29). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

محبة الله، ومحبةُ ما يحبه، وخشيةُ الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه، صَلَحت حركات الجوارح كلِّها، ونشأ عن ذلك اجتنابُ المحرمات كلِّها، وتوقّي الشبهاتِ حذرًا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباعُ هواه، وطلبُ ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركاتُ الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والشبهات بحسب هوى القلب، ولهذا يقال: القلبُ ملك الأعضاء، وبقيةُ الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون، منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملِكُ صالحًا، كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسدًا، كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلبُ السليم كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]، وكان من دعائه -عليه السلام-: "أسألك قلبًا سليمًا" (¬1)، فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهاتِ كلِّها، وهو الذي ليس فيه سوى محبةِ الله، وما يحبُّه الله، وخشيةُ الله، وخشيةُ ما يباعد منه، والله الموفق (¬2). ¬

_ (¬1) رواه النسائي (1304)، كتاب: السهو، باب: نوع آخر من الدعاء، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 123). (¬2) وانظر: "غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب" للشارح -رحمه الله- (1/ 32) وما بعدها، حيث ذكر هناك ما قاله هنا عن القلب، والله الموفق.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى القَوْمُ فَلَغَبُوا، فأَدْرَكْتُهَا فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بهَا أَبَا طَلْحةَ، فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَرِكِهَا أوَ فَخِذَيْهَا، فَقَبِلَهُ (¬1). لَغَبُوا: أَعْيَوْا. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2433)، كتاب: الهبة وفضلها، باب: قبول هدية الصيد، واللفظ له، و (5171)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: ما جاء في التصيد، و (5215)، باب: الأرنب، ومسلم (1953)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الأرنب، وأبو داود (3791)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل الأرنب، والنسائي (4312)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الأرنب، والترمذي (1789)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في أكل الأرنب، وابن ماجه (3243)، كتاب: الصيد، باب: الأرنب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 392)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 238)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 104)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 184)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1588)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 661)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 103)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 265)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 76)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 290).

(عن) أبي حمزة (أنسِ بنِ مالك) النَّجَّاريِّ (- رضي الله عنه - قال: أنفَجْنا) - بفاء مفتوحة وجيم ساكنة؛ أي: أثرنا (أرنبًا) هي دويبة معروفة تشبه العَناق، لكن في رجليها طول، بخلاف يديها، والأرنب: اسم جِنْسٌ للذكر والأنثى، ويقال للذكر أيضًا: الخُزَز بوزن عمر بمعجمات-، الأنثى عِكْرِشَة، وللصغير: الخِرْنَق -بكسر المعجمة وسكون الراء وفتح النون بعدها قاف-، هذا هو المشهور (¬1). وقال الجاحظ: لا يقال أرنب للأنثى (¬2). ويقال: إن الأرنب شديدة الجبن، كثيرةُ السبق، وإنها تكون سنة أنثى، وسنة ذكرًا، وإنها تحيض، وتنام مفتوحة العين، كذا في "الفتح" (¬3). قلت: وكونها تكون سنة ذكرًا، وسنة أنثى لا يظهر له أصل. وفي رواية مسلم: استنفجنا، وهو استفعال منه، يقال له: نفج الأرنب: إذا ثار وعدا، وانتفج كذلك، وأنفجته: إذا أثرته في موضعه، ويقال: إن الانتفاج: الاقشعرار، فكأَن المعنى: جعلناها بطلبنا لها تنتفج، والانتفاج أيضًا: ارتفاع الشعر وانتفاشُه (¬4) (بمَرِّ الظهران) مَرّ -بفتح الميم وتشديد الراء-، والظهران -بفتح الظاء المعجمة- بلفظ تثنيه الظهر -: اسم موضع على مرحلة من مكة. وقد يسمى بأحد الكلمتين تخفيفًا، وهو المكان الذي تسميه عوام ¬

_ (¬1) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 29). (¬2) انظر: "الحيوان" للجاحظ (2/ 287). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 661). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

المصريين: بطن مرو، والصواب: مرّ -بتشديد الراء- كما في "الفتح" (¬1). (فسعى القوم)؛ أي: اشتدوا في الطلب متسابقين عليها؛ أي: الأرنب (فَلَغَبُوا) -بفتح الغين وكسرها-؛ أي: تعبوا كما وقع في رواية (¬2)، والتعب: الإعياء، (فأدركتُها) أنا، (فأخذتُها)، وفي لفظ: فأخذتها، بإسقاط أدركتها (¬3). وفي "مسلم": فسعيتُ حتى أدركتُها (¬4)، ولأبي داود: قال أنس: وكنت غلامًا حَزَوَّرًا (¬5)، وهو -بفتح المهملة والزاي والواو المشددة بعدها راء، ويجوز سكون الزاي وتخفيف الواو-: هو المراهق (¬6)، (فأتيت بها)؛ أي: الأرنب، (أبا طلحةَ)، واسمه زيدُ بنُ سهلِ بنِ الأسود الأنصاريُّ النَّجَّاريُّ زوجُ أم أنس -رضي الله عنهم-، (فذبحها) في رواية الطيالسي: بمَرْوةٍ (¬7). قال في "النهاية": المَرْوَةُ: حجر أبيضُ بَرّاق، وقيل: هي التي يقدح منها النار (¬8)، وزاد في رواية: فشويتها (¬9)، (وبعث) أبو طلحة - رضي الله عنه - (إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوَرِكها) -بفتح الواو وكسر الراء، وبكسر الواو وإسكان الراء-، وهو ما فوق الفخذ، (أو) قال: بعث إليه بـ (فخذيها). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. وانظر: "معجم البلدان" لياقوت (4/ 63). (¬2) كما في رواية الكشميهني، كما نقل الحافظ في "الفتح" (9/ 662). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5215). (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1953). (¬5) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3791). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 662). (¬7) رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" (2066). (¬8) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 323). (¬9) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3791).

وفي رواية: بوركها وفخذيها (¬1)، تثنية فَخْذِ، وهو -بكسر الخاء المعجمة وسكونها (¬2) -. قال في "المطلع": الفخذ مؤنثة، وهي -بفتح الفاء وكسر الخاء-، ويجوز فيها -كسر الفاء-، ويجوز -إسكان الخاء بفتح الفاء وكسرها-. قال ابن سيده وغيره من أهل اللغة: وهذه اللغات الأربع جارية في كل اسم أو فعل ثلاثي عينُه حرفُ حلق مكسور، انتهى (¬3). ووقع في رواية: بعجزها (¬4)، وقال شعبة: فخذيها، لا شك فيه (¬5). قال العيني: يشير بهذا أنه لا شك في فخذيها، وإنما الشك بين الوركين والفخذين، انتهى (¬6). (فقبله)، وفي رواية عند البخاري: وأكل منه (¬7)، وعند الترمذي من طريق أبي داود الطيالسي فيه: فأكله، قلت: أكله؟ قال: قبله (¬8). وأخرج الدارقطني من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أُهدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرنب وأنا نائمة، فخبأ لي منها العجز، فلما قمت، أطعمني (¬9). وهذا لو صح، لأشعر بأنه أكل منها، لكن سنده ضعيف (¬10). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5171)، وعند مسلم برقم (1953). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 131). (¬3) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 78 - 79). (¬4) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3791)، وعند ابن ماجه برقم (3243). (¬5) انظر: حديث رقم (2433) عند البخاري. (¬6) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 131). (¬7) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2433). (¬8) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1789)، وعند الطيالسي برقم (2066). (¬9) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 291). (¬10) انظر "فتح الباري" لابن حجر (9/ 662).

قال المصنف -رحمه الله تعالى ورضي عنه-: (لغبوا: أعيوا)، وتقدم شرحه. وفي الحديث: دليل على جواز أكل الأرنب، وهو قول كافة العلماء، إلا ما جاء عن عبد الله بن عمرو من الصحابة، وعن عكرمة من التابعين، وعن محمد بن أبي ليلى من الفقهاء، واحتج بحديث خزيمة بن جزء: قلت: يا رسول الله! ما تقول في الأرنب؟ قال: "لا آكله، ولا أحَرِّمه"، قلت: فإني آكل ما لا تحرمه، ولم يا رسول الله؟ قال: "نبئت أنَّها تدمي" رواه ابن ماجه (¬1)، وسنده ضعيف، ولو صح، لم يكن فيه دليل على الكراهة، وله شاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- بلفظ: جيء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يأكلها، ولم ينه عنها، زعم أنَّها تحيض، أخرجه أبو داود (¬2)، وله شاهد عن عمر عند إسحاق بن راهويه في "مسنده". وحكى الرافعي عن أبي حنيفة: أنه حرَّمها، وغلَّطه النوويُّ في النقل عن أبي حنيفة كما في "الفتح" (¬3). قلت: ذكر البدر العيني في "شرح البخاري" رواية عن أصحابهم بكراهة أكلها، ثم قال: والأصح قول العامة (¬4)، انتهى. قلت: وممن ذكر الاتفاقَ على إباحة أكل الأرنب: عونُ الدين بن هبيرة في "اختلاف الأئمة" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (3245)، كتاب: الصيد، باب: الأرنب. (¬2) رواه أبو داود (3792)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل الأرنب. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 662). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 132). (¬5) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 314).

وفيه دليل أيضًا: على جواز استثارة الصيد والعَدْو في طلبه. وأما ما أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث ابن عباس مرفوعًا: "من اتبع الصيد، غَفَل" (¬1)، فمحمول على من واظب على ذلك حتى يشغلَه عن غيره من المصالح الدينية وغيرها. وفيه: أنه إذا طلب جماعة الصيد، فأدركه بعضُهم، وأخذَ، ملكه، ولا يشاركه فيه من أثاره. وفيه: هدية الصيد وقَبولُها من الصائد، وإهداء الشيء اليسير إلى الكبير القدر إذا علم من حاله الرضا بذلك (¬2). وفيه -على ما في رواية الترمذي: فذبحها بمروة-: صحةُ الذبح بالمَرْوَة ونحوها إذا كان لها حدّ يذكَّى به الصيد ونحوه، فإن قتله بثقله، لم يحل (¬3)، وغير ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2859)، كتاب: الصيد، باب: في اتباع الصيد، والنسائي (4309)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: اتباع الصيد، والترمذي (2256)، كتاب: الفتن، باب: (69). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 662). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 131).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا، فَأَكَلْنَاهُ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: وَنَحْنُ بِالمَدِينَةِ (¬2). * * * (عن) أم عبد الله (أسماءَ بنتِ أبي بكر) الصدّيق (-رضي الله عنهما-) ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5191، 5193)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: النحر والذبح، و (5200)، باب: لحوم الخيل، ومسلم (1942)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: في أكل لحوم الخيل، والنسائي (4406)، كتاب: الضحايا، باب: الرخصة في نحر ما يذبح، وذبح ما ينحر، و (4420)، باب: نحر ما يذبح، وابن ماجه (3190)، كتاب: الذبائح، باب: لحوم الخيل. (¬2) رواه البخاري (5192)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: النحر والذبح، والنسائي (4421)، كتاب: الضحايا، باب: نحر ما يذبح. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 383)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 228)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 95)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 185)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1590)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 640)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 128)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 283)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 78)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 20).

تُدعى أسماءُ: ذاتَ النطاقين؛ لأنها شقت نطاقها ليلة هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجعلته نطاقين، شدّت بأحدهما سُفْرَتَهُ - صلى الله عليه وسلم -، وجعلت الثاني عِصامًا لقِرْبته؛ كما نقله ابنُ عبد البر عن ابن إسحاق وغيره، قالت: وقال الزبير - رضي الله عنه -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "بدَّلكِ الله بنِطاقك هذا نِطاقين في الجنة" (¬1)، فسميت: ذاتَ النطاقين، وقيل: إنها جعلت الثاني نطاقًا لها. تزوجها الزبيرُ بن العوام بمكة، فولدت له عبد الله بن الزبير، وهو أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، وولدت له أيضًا عُروةَ، والمنذرَ، والمهاجرَ، وعاصمًا، وخديجةَ، وأم حسن، وعائشة. وأسلمت أسماء -رضي الله عنها- بمكة قديمًا. قال ابن إسحاق: بعد سبعة عشر إنسانًا، وبايعته - صلى الله عليه وسلم -، وكانت إذا مرضت تُعتق كلَّ مملوك لها، نقله ابن سعد في "طبقاته" عن فاطمةَ بنتِ المنذر بسند صحيح (¬2). ونقل الواقدي: أن ابن المسيب كان من أعبر الناس للرؤيا، وأنه أخذ ذلك عن أسماء بنت الصديق، وهي أخذته عن أبيها الصديق الأعظم -رضوان الله عليهما-. ثم طلقها الزبير بالمدينة. قيل: إن عبد الله - رضي الله عنه - منع أباه الزبير أن يدخل البيت حتى يطلق أمه، وقال: مثلي لا تكون له أم توطأ، أو كما قال، فطلقها، وبقيت عند ابنها إلى أن قُتل. وهي أكبر من أختها عائشة أم المؤمنين بعشر سنين، وكانت أختَها من أبيها؛ لأن أمَّ أسماء قَتْلَة -بفتح القاف وسكون المثناة فوق-، قاله ابن ¬

_ (¬1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (69/ 6). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 251 - 252).

ماكولا وغيره. وقيل: قُتيلة -بالتصغير- ابنةُ عبد العزى بنِ عبد أسد (¬1)، وهي شقيقة عبد الله بن الصديق، وأمُّ عائشةَ أمُّ رومان بنةُ عامر بنِ عويمر بنِ عبد شمس من بني مالك بنِ كنانة. واختُلف في إسلام أم أسماء، والأرجح أنَّها لم تسلم. وماتت أسماء -رضي الله عنها- بعد ابنها - رضي الله عنه - بعشرة أيام، وقيل: بعشرين، وقيل: ببضعة وعشرين، بعد إنزال ابنها عن الخشبة التي صُلب عليها، وذلك سنة ثلاث وسبعين بمكة، وكان عمرها يومئذ مئة سنة، ولم يُنكر من عقلها شيء، ولم يسقط لها سن، غير أنَّها قد ذهب بصرها. روى عنها: ابناها: عبدُ الله، وعروةُ، وابنُ عباس، وغيرهم. روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وخمسون حديثًا، اتفقا على أربعة عشر، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بأربعة (¬2). (قالت) أسماء -رضي الله عنها-: (نحرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسًا)، وفي لفظ عند البخاري وغيره عنه: ذبحنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، (فأكلناه). ¬

_ (¬1) انظر: "الإكمال" لابن ماكولا (7/ 102). (¬2) وانظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (8/ 249)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 55)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1481)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (69/ 9)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 58)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 7)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 597)، و"تهذيب الكمال" للمزي (35/ 123)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 287)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 486)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 426). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5192).

(وفي رواية) عند البخاري: (ونحن) ساكنون (في المدينة)؛ أي: بعد الهجرة، والجملة حالية. وفي رواية الدارقطني: فأكلناه نحن وأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). واختلف شراح الحديث في توجيه قولها: نحرنا، وذبحنا، فقيل: يُحمل النحر على الذبح مجازًا، وقيل: وقع ذلك مرتين، وإليه جنح النووي (¬2)، ونظر فيه في "الفتح" بأن الأصل فيه عدم التعدد، والمخرج متحد، والاختلاف فيه على هشام، فبعض الرواة قال عنه: نحرنا، وبعضهم قال: ذبحنا، والمستفاد من ذلك جوازُ الأمرين، وقيامُ أحدِهما في التذكية مقامَ الآخر، وإلا لما ساغ الإتيان بهذا موضع هذا (¬3). قال في "الفتح" كغيره: النحر في الإبل خاصة، وأما غير الإبل، فيذبح. وقد جاءت أحاديث في ذبح الإبل، وفي نحر غيرها. قال ابن التين: الأصل في الإبل النحر، وفي الشاة ونحوها الذبح، وجاء في القرآن ذكر ذبحها (¬4). قال علماؤنا: والسنة نحر إبل، وذبحُ غيرها (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 290)، والطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 87). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 96). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 649). (¬4) المرجع السابق، (9/ 640). (¬5) انظر: "المحرر" للمجد بن تيمية (2/ 191).

قال في "الفتح": واختلف في ذبح ما يُنحر، ونحر ما يُذبح، فأجازه الجمهور، ومنعه ابن القاسم (¬1). وقال ابن هبيرة في "اختلاف الأئمة": اتفقوا على نحر الإبل، وذبحِ ما عداها، فإن ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح، فقال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد: يُبَاح، إلا أن أبا حنيفة مع الإباحة كرهه. وقال مالك: إن نحر شاة، أو ذبح بعيرًا من غير ضرورة، لم يؤكل لحمها. وقد حمله بعضُ أصحابه على الكراهة، وهو عبد العزيز بن أبي سلمة (¬2). وقد روي عن مالك: أنه قال: من نحر البقر، فبئس ما صنع، وتلا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]. وفي "الفتح" عن أشهب: إن ذبح بعيرًا من غير ضرورة، لم يؤكل (¬3). والنحر: طعنُ إبل ونحوها بمحدّد في لبتها، وهي الوَهْدة بين أصل الصدر والعنق (¬4). قال في "الفتح": اللَّبَّةُ -بفتح اللام وتشديد الموحدة-: هي موضع القِلادة من الصدر، وهي المنحر (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 640). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 312). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 641). (¬4) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 316). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 641).

ولابد من قطع حلقوم، وهو مجرى النفَس، وقطعُ مريء -بالمد-، وهو مجرى الطعام والشراب. ومعتمد مذهبنا: إباحة الذبيحة بذلك من غير فرق بين القطع فوق الغلصمة، وهي الموضع الناتىء، أو دونها، وأنه لا يعتبر قطع شيء غيرها؛ لأنه قطع في محل الذبح ما لا يعيش به الحيوان مع قطعه، أشبه قطعهما مع الوَدَجَين، وهما: العرقان المحيطان بالحلقوم، ولا يشترط -على معتمد المذهب- إبانةُ الحلقوم والمريء بالقطع، والأكملُ: إبانتهما، وقطع الودجين (¬1). وقال أبو حنيفة: يجب قطعُ الحلقوم والمريء وأحد الودجين لا بعينه، فمتى قطع هذه الثلاثة، حل أكله. وعنه رواية أخرى: إن قطع كل أوداجه إلا عرقًا من الأربعة، حل أكله، وإن قطع النصف فما دونه من الأربعة، لم يحل. وقال مالك: لابد من استيفاء قطع الحلقوم والودجين في قطع واحد. وقال الشافعي: إذا قطع الحلقوم والمريء، أجزأه، ويسن قطع الودجين (¬2). تنبيه: ساق المصنف -رحمه الله ورضي عنه- الحديث دليلًا على إباحة أكل لحوم الخيل. ويستفاد من قول أسماء -رضي الله عنها-: ونحن بالمدينة بكون ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 316 - 317). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 311 - 312).

بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها بعلة أنها من آلات الجهاد. ومن قولها في الرواية التي عند الدارقطني: نحن وأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - الردّ على من زعم أنه ليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد، لم يظن بآل أبي بكر أنهم قدموا على فعل شيء في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وعندهم العلمُ بجوازه؛ لشدة اختلاطهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله عن الأحكام. ومن ثم كان الراجح أن قول الصحابي: كنا نفعل كذا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في حكم المرفوع؛ لأن الظاهر اطلاعُه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وتقريرُه، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابة، فكيف بالصديق الأعظم (¬1)؟! قال أبو المظفر بن هبيرة في "اختلاف الأئمة": اختلفوا في لحوم الخيل: فقال أبو حنيفة: يحرم أكلها. وقال مالك: هي مكروهة، إلا أن كراهتها عنده دون كراهة السباع. وقال الشافعي، وأحمد: هي مباحة، انتهى (¬2). وفي "الفتح": ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل. قال أبو جعفر الطحاوي: وخالفه صاحباه وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها، ولو كان ذلك مأخوذًا من طريق النظر، لما كان بين الخيل والحُمُر الأهلية فرق. ولكن الآثار إذا صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى أن يقال بها مما يوجبه ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 649). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 314).

النظر، ولاسيّما وقد أخبر جابر: أنه - صلى الله عليه وسلم - أباح لهم لحومَ الخيل في الوقت الذي منعهم فيه من لحوم الحمر كما يأتي، فدلّ ذلك على اختلاف الحكم. قال في "الفتح": وقد نقل الحلَّ بعضُ التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد. أخرج ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح على شرط الشيخين، عن عطاء، قال: لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريج: قلت له: أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم (¬1). وأما ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- من كراهتها، فأخرجه ابن أبي شيبة (¬2)، وعبد الرزاق بسندين ضعيفين، والصحيح عنه خلافه. قال في "الفتح": وصحّ القول بالكراهة عن الحكم بن عتبة، وبعض الحنفية، وعن بعض المالكية والحنفية التحريم. قال الفاكهي: مشهورٌ عند المالكية الكراهةُ، والصحيح عند المحققين منهم التحريم. وقال أبو حنيفة في "الجامع الصغير" له: أكرهُ لحم الخيل، فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلي. وصحح أصحاب "المحيط"، و"الهداية"، و"الذخيرة" عنه التحريمَ، ¬

_ (¬1) ورواه عبد الرزاق في "المصنف" (8733)، ولم أقف عليه عند ابن أبي شيبة في "مصنفه". (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (24318)، ولم أقف عليه عند عبد الرازق، والله أعلم.

وهو قول أكثرهم، وعن بعضهم: يأثم آكله، ولا يسمى حرامًا. وقال أبو محمد بن أبي حمزة: الدليل على الجواز مطلقًا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها؛ لكونها تُستعمل غالبًا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة، لكثر استعماله، ولو كثر، لأدى إلى قتلها، فيفضي إلى فنائها، فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]. قال في "الفتح": فعلى هذا، فالكراهة لسببٍ خارج، وليس البحث فيه؛ فإن الحيوان المتفق على إباحته، لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح، لأفضى إلى ارتكاب محذور، لامتنع، ولا يلزم من ذلك القولُ بتحريمه (¬1)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 650).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لحُوُمِ الخَيْلِ (¬1). وَلِمُسْلِمٍ وَحْدَهُ: قَالَ: أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الخَيْلَ وَحُمُرَ الوَحْشِ، وَنَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الحِمَارِ الأَهْلِيِّ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3982)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، و (5201)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحوم الخيل، و (5202)، باب: لحوم الحمر الإنسية، ومسلم (1941/ 36)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: في أكل لحوم الخيل، وأبو داود (3808)، كتاب: الأطعمة، باب: في لحوم الحمر الأهلية، والنسائي (4343)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة أكل لحوم حمر الوحش، وابن ماجه (3191)، كتاب: الذبائح، باب: لحوم الخيل. (¬2) رواه مسلم (1941/ 37)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: في أكل لحوم الخيل. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 249)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 383)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 228)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 95)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 185)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1595)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 649)، و"عمدة القاري" للعيني (17/ 248)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 286)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 73).

(عن) أبي عبد الله (جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى) الناسَ (عن) أكل (لحوم) جمع لحم (الحُمُر) جمع حمار (الأهلية) دون الوحشية؛ فإنها مباحة إجماعًا، والأهلية -بفتح الهمزة- منسوبةٌ إلى الأهل، وهي الإنسية. وقد قال بتحريم أكل لحوم الحمر الأهلية أكثرُ العلماء من الصحابة فمن بعدهم. قال الإمام النووي: لم نجد في ذلك عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- خلافًا، إلا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وعند المالكية ثلاث روايات، ثالثها: الكراهة (¬1). قال ابن هبيرة: اتفقوا على أن البغال والحمير الأهلية حرام، إلا مالكًا؛ فإنه اختلف عنه، فروي عنه: أنها مكروهة، إلا أنها مغلظة الكراهة جدًا فوق كراهية أكل ذي ناب من السباع، وقيل عنه: إنها محرمة بالسُّنَّة دون تحريم الخنزير، انتهى (¬2). وقد اختلف عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، فروي عنه عدمُ تحريمها كما في "الصحيحين" وغيرهما محتجًا بقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145]. وقد أخرج ابن مردويه، وصححه الحاكم، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذُّرًا، فبعث الله نبيّه، وأنزل كتابه، وأحلَّ حلاله، وحرَّم حرامه، فما ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 91)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 656). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 314).

أحلَّ فيه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عفو، وتلا هذه الآية (¬1). قال في "الفتح": والاستدلال لهذا إنما يتم فيما لم يأت فيه نصٌّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريمه، وقد تواردت الأخبار بذلك، والتنصيص على التحريم مقدّم على عموم التحليل، وعلى القياس، وقد توقف ابن عباس في النهي عن الحمر الأهلية، هل كان لمعنى خاص، أو للتأبيد كما روى الشعبي عنه: أنه قال: لا أدري نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل أنها كانت حمولة الناس، فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرّمها أَلبتة يوم خيبر؟ (¬2) وقال بعضهم: إنما نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها لم تكن تخمست. وقيل: لأنها كانت تأكل العَذِرَة (¬3). قال في "الفتح": وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تُخَمَّس، أو كانت جَلَّالة، أو كانت انتُهبت حديثُ أنس في "الصحيحين" وغيرهما: "فإنها رجس" (¬4)، وكذا الأمر بغسل الإناء كما في حديث سلمة بن الأكوع، متفق عليه (¬5). قال القرطبي: قوله: "فإنها رجسٌ" ظاهر في عود الضمير على ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (7113)، ورواه كذلك: أبو داود (3800)، كتاب: الأطعمة، باب: ما لم يذكر تحريمه. (¬2) رواه البخاري (3987)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1939)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 655 - 656). (¬4) رواه البخاري (3962)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1940)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية. (¬5) تقدم تخريجه.

الحمر (¬1)؛ لأنها المتحدَّثُ عنها المأمورُ بإكفائها من القدور وغسلُها، وهذا حكم المتنجس، فيستفاد منه تحريم أكلها، وهو دال على تحريمها لعينها، لا لمعنى خارجي (¬2). وقال ابن دقيق العيد: الأمر ظاهر أنه بسبب تحريم لحم الحمر (¬3)، كما يأتي في الحديث الذي بعد هذا. (وأذن) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس (في) أكل (لحوم الخيل). وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عند الدارقطني: أمرَ (¬4)، وفي لفظٍ للبخاري: ورَخَّص (¬5)، (و) في رواية (لمسلم وحده)؛ أي: دون البخاري، من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- (قال: أكلنا) معشر الصحابة (زمنَ) فتحِ (خيبر)، وكانت في السابعة من الهجرة (الخيلَ)، ويشمل جميع أنواعها من عربي وهجين ومُقْرِف وبِرْذَوْن، فحكمُها واحد على ما قدّمنا بيانه، (و) أكلنا أيضًا في ذلك الزمن (حُمُرَ الوحش)، جمع حمار، ويسمى: الفرا، ويقال: حمارٌ وحشيٌّ، وحمارُ وحشٍ، بالإضافة، والنسبة، وهو العَيْر، وربما أُطلق العير عليه وعلى الأهلي أيضًا، والحمار الوحشيُّ موصوف بشدة الغَيْرة، ومن عجيب أمره: أنّ الأنثى إذا ولدت ذكرًا، كَدَمَ الفحلُ خصيتَه، لذلك تعمل الأنثى الحيلة في الهرب منه حتى يسلم، وربما كسرت رجل التَّوْلَبِ، وهو جحشها الذي ¬

_ (¬1) انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 224). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 656). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 187). (¬4) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 289). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3982، 5201، 5204).

ولدته، ويقال للأنثى: أم تَوْلَب؛ كيلا يسعى، ولا تزال ترضعه حتى يكبر، فيسلم من أبيه، ويُعَمَّر الحمار الوحشيُّ طويلًا. ذكر ابن خلكان في ترجمة ابن زياد: أن حمارًا وحشيًا عاش أكثر من ثمان مئَة سنة، كذا قال (¬1). (ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمار الأهلي)، أي: عن أكل لحمه، ولو توحش؛ كما أنّ أكل لحم الحمار الوحشي مباحٌ، ولو تأهل، من غير خلافٍ في ذلك، إلا ما روي عن مطَرِّف أنه قال: إذا أنس الحمارُ الوحشي، واعتلفَ، صار كالأهلي، وأهلُ العلم على خلاف قوله كما قاله الإمام الشافعي - رضي الله عنه - (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 275)، وما بعدها. وقد تقدم للشارح -رحمه الله- ذكر ما نقله هنا من قبل. (¬2) المرجع السابق، (1/ 294).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبي أَوْفَى، قَالَ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، وَقَعْنَا فِي الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتْ بهَا القُدُورُ، نَادَى مُنَادي رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنْ أَكْفِئُوا القُدُورَ، وَلا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُوم الحُمُرِ شَيْئًا (¬1). * * * (عن) أبي إبراهيم، (عبدِ الله بنِ أبي أوفى)، واسمُه: علقمةُ بنُ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2986)، كتاب: الخمس، باب: ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، و (3983)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1937/ 27)، واللفظ له، و (1937/ 26)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، والنسائي (4339)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: أكل لحوم الحمر الأهلية، وابن ماجه (3192)، كتاب: الذبائح، باب: لحوم الحمر الوحشية. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 380)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 225)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 187)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1597)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 463)، و"عمدة القاري" للعيني (15/ 77)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 281).

قيس بنِ خالدٍ الأسلمي، من ولد هوازن بن أسلم، شهد الحديبية وخيبر وما بعد ذلك من المشاهد، ولم يزل بالمدينة حتى قُبض النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تحول إلى الكوفة، وهو آخر مَنْ مات بها من الصحابة سنة سبع وثمانين كما رجحه ابن الأثير في "جامع الأصول"، ورجح النووي وجمعٌ أنه مات سنة ست، وقيل: سنة ثمان وثمانين، وكان قد كُفَّ بصره. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وسبعون حديثًا، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بحديث (¬1). (قال) عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -: (أصابتنا) معشرَ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - (مجاعةٌ)، وفي حديث سَلَمةَ بنِ الأكوع في "الصحيحين"، قال: أتينا خيبرَ، فحاصرناها حتى أصابتنا مَخْمَصَةٌ شديدة (¬2)؛ يعني: الجوع الشديد (لياليَ) حصارِ (خيبرَ)، (فلما كان يوم) فتح (خيبرَ، وقعنا في) ذبح (الحمر الأهلية)؛ لشدة المخمصة التي أصابتنا، (فانتحرناها)؛ أي: الحمر الأهلية لنأكلها، (فلما غلت)، أي: بسبب طبخ لحمِها (بها القدور). وفي حديث سلمة: ثم إنّ الله فتحها، أي: خيبر عليهم؛ أي: أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فُتحت عليهم، أوقدوا نيرانًا ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 21)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 24)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 120)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 870)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (31/ 30)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 181)، و"جامع الأصول" له أيضًا (15/ 564 - قسم التراجم)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 247)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 317)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 428)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 18)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (5/ 132). (¬2) تقدم تخريجه.

كثيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذه النيرانُ؟ على أي شيء توقدون؟ "، فقالوا: على لحم حمرٍ إنسية. فقال: "أهريقوها، واكسروا الدِّنان"، فقال رجلٌ: أو يهريقوها ويغسلوها؟ قال: "أو ذاك" (¬1). قال عبدُ الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -: لما علم - صلى الله عليه وسلم - بذلك (نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وفي حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن الرجل الذي أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنداء هو: أبو طلحة (¬2). ووقع عند مسلم أيضًا: أن بلالًا نادى بذلك. وعند النسائي: أن المنادي بذلك عبد الرحمن بن عوف (¬3). قال في "الفتح": لعلَّ عبد الرحمن بن عوف نادى أولًا بالنهي مطلقًا، ثم نادى أبو طلحة، وبلال بزيادة على ذلك، وهو قوله: "فإنها رجس" (¬4). وأما ما وقع في "الشرح الكبير" للرافعي أن المنادي بذلك خالد بن الوليد، فغلط؛ لأنه لم يشهد خيبر، وإنما أسلم بعد فتحها (¬5). فإن قلت: روى أصحاب السنن من حديث خالد بن الوليد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم برقم (1802). (¬2) رواه مسلم (1940/ 35)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية. (¬3) رواه النسائي (4341)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، من حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه -. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 655). (¬6) رواه أبو داود (3790)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل لحوم الخيل، والنسائي (4331)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الخيل، وابن ماجه =

قلت: هو حديث شاذ منكر، وفي سياقه أنه شهد خيبر، وهو خطأ، فإنه لم يُسلم إلا بعدَها على الصحيح، والذي جزم به الأكثرون أنّ إسلامه - رضي الله عنه - كان في سنة الفتح، والعمدة في ذلك كما في "الفتح" ما قاله مصعب الزبيري، وهو أعلمُ الناس بقريش، قال: كتب الوليدُ بنُ الوليد إلى خالدٍ حين فرَّ من مكة في عمرة القضية، حتى لا يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فذكر القصة في سبب إسلام خالد - رضي الله عنه -، وكانت عمرة القضية بعد خيبر جزمًا (¬1). وكان النداء: (أن أكفئوا القدور) بما فيها، أمرَ - صلى الله عليه وسلم - بإراقة القدور التي طُبخت فيها الحمر، مع ما كان بهم من الحاجة، ولهذا كان من جملة المنادى به قوله: (ولا تأكلوا من لحوم الحمر) الأهلية (شيئًا). وفي حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: أصابتنا مجاعة يوم خيبر ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أصبنا للقوم حمرًا خارجة من المدينة، فنحرناها، فإن قدورَنا لتغلي؛ إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَنْ أَكفئوا القدور، ولا تَطْعَموا من لحوم الحمر شيئًا. قال سليمان بن فيروز -ويقال: أبو عمرو الشيباني مولى ابن عباس-: فقلت: حرّمها تحريمَ ماذا؟ قال: كنا تحدثنا بيننا، فقلنا: أحرّمها أَلبتة، أو حرّمها من أجل أنها لم تُخَمَّس (¬2)؟ وفي رواية في "الصحيحين" في حديث ابن أبي أوفى: فقال أناس: إنما نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها لم تخمس. ¬

_ = (3198)، كتاب: الذبائح، باب: لحوم البغال. (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 651). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1937/ 26).

وقال آخرون: نهى عنها ألبتةَ (¬1)، وهذا الراجح، ولهذا أمر بإكفاء القدور، ثم بيَّن بندائه بأن لحوم الحمر رجس، فظهر منه أنّ تحريمه لذاتها. قال أبو جعفر الطحاوي: لولا تواترُ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الحمر الأهلية، لكان النظر يقتضي حلَّها؛ لأن كلَّ ما حرّم من الأهليِّ أُجمع على تحريمه إذا كان وحشيًا؛ كالخنزير الوحشيِّ، وقد أجمع على حِلِّ الحمار الوحشي، فكان النظرُ يقتضي حِلَّ الحمار الأهلي (¬2). قال في "الفتح": وما ادّعاه من الإجماع مردود؛ فإن كثيرًا من الحيوان الأهلي مختلَفٌ في نظيره من الحيوان الوحشي؛ كالهر (¬3). وفي الحديث: أن الذكاة لا تُطهر ما لا يَحل أكلُه، وأن المتنجس بملاقاة النجاسة يكفي غسلُه. وربما استدل بأن إطلاقه يصدق ولو بغسلةٍ واحدة، وأن الأصل في الأشياء الإباحة؛ لكون الصحابة أقبلوا على ذبحها وطبخها كسائر الحيوان من قبل أن يستأمِروا، مع توفر دواعيهم على السؤال عمّا يُشكل. وأنه ينبغي لأمير الجيش تفقُّد أحوال رعيته، ومن رآه فعل ما لا يسوغ في الشرع، أشاع منعَه، إمّا بنفسه؛ بأن يخطبهم، وإما بغيره؛ بأن يأمر مناديًا فينادي؛ لئلا يغتر به من رآه، فيظنه جائزًا (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2986، 3983)، وعند مسلم برقم (1937/ 27). (¬2) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 209). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 656). (¬4) المرجع السابق الموضع نفسه.

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لُحُومَ الحُمُرِ الأَهْلِيَّة (¬1). * * * (عن أبي ثعلبة) -بالمثلثة والعين المهملة. في اسمه واسم أبيه اختلافٌ كثير. قال الإمام أحمد، وابن معين: اسمُه جُرْهم -بضم الجيم وسكون الراء-، وقيل: جُرْثُوم -بضم الجيم والمثلثة وسكون الراء بينهما-، وقيل: جرثومة -بزيادة تاء التأنيث-، وقيل: عمرو، وقيل غير ذلك، واسم أبيه: ناشي -بالنون والشين المعجمة المكسورة-، وقيل: ناشر -بالراء-، ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2506)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحوم الحمر الإنسية، ومسلم (1936)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية، والنسائي (4342)، كتاب؛ الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 379)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 224)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 654)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 129)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 289).

وقيل: ناشب -بالموحدة آخره-، وقيل: ناشج -بالجيم- الخُشَنِيِّ -بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين فنون- نسبة إلى خُشينة -بضم الخاء- بوزن جُهَيْنَة، وهم بطن من قضاعة. وأبو ثعلبة مشهورٌ بكنيته، وهو ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان تحت الشجرة، وضرِبَ له سهمٌ يوم خيبر، وأرسله إلى قومه فأسلموا. قال النووي: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث. توفي في خلافة معاوية على الأرجح، وقيل: في خلافة عبد الملك بن مروان سنة خمس وسبعين، روى عنه: أبو إدريس الخولاني، وجُبير بن نُفير، ومكحول، وغيرهم (¬1). (قال) أبو ثعلبة - (رضي الله عنه) -: (حَرَّم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لحومَ الحُمُر الأهلية)، هذا تصريح بما أفهمه كلُّ واحد من حديث جابر، وعبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهما-؛ لأن النهي المطلق، وإن كان يفيد التحريمَ عند الأئمة الأربعة وغيرهم، إلا أن بعض العلماء زعم أنها تكون بين التحريم والكراهة، فتكون من المجمَل، وقيل: تكون للقدر المشترك بين التحريم والكراهة، فتكون حقيقةً في كلٍّ منهما. ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 416)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 250)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 63)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 29)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1618)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (66/ 84)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 43)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 487)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 167)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 567)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 58).

وقيل بالوقف؛ لتعارض الأدلة (¬1). وروى حديثَ أبي ثعلبة الخشنيِّ: الإمامُ أحمد أيضًا، وزاد عليه: ولحمَ كلِّ ذي ناب من السباع (¬2). ورواه النسائي عن أبي ثعلبة، وفيه قصة، ولفظه: غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر، والناسُ جياعٌ، فوجدوا حُمُرًا إنسية، فذبحوا منها، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الرحمن بنَ عوف فنادى: ألا إن لحومَ الحمر الإنسية لا تَحِلّ (¬3). فإن قلت: قد أخرج أبو داود عن غالب بن أبجر، قال: أصابتنا سَنَةٌ، فلم يكن في مالي ما أُطعم أهلي إلا سِمانُ حُمُر، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنك حرّمت لحومَ الحمر الأهلية، وقد أصابتنا سَنَةٌ، قال: "أطعم أهلك من سمين حُمُرك؛ فإنما حرمتها من أجل جوَّال القرية"؛ يعني: الجَلَّالة (¬4). وأخرج الطبراني عن أم نصر المحاربية: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحمر الأهلية، فقال: "أليس ترعى الكلأ وتأكلُ الشجر؟ "، قال: نعم، قال: "فأصب من لحومها" (¬5). وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرّة، قال: سألتُ، فذكره نحوه (¬6). ¬

_ (¬1) وانظر: "القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام (ص: 190). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 194). (¬3) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (4341). (¬4) رواه أبو داود (3809)، كتاب: الأطعمة، باب: في لحوم الحمر الأهلية. (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (25/ 161). (¬6) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (24337).

قلت: أما حديث غالب عند أبي داود، فإسناده ضعيف، ومتنه شاذ، مخالف للأحاديث الصحيحة، فالاعتماد عليها، وحديث الطبراني وابن أبي شيبة، ففي سنديهما مقال، ولو ثبتا، احتمل أن يكونا قبل التحريم (¬1)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 656).

الحديث السابع

الحديث السابع عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ الَّلاتِي فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ"، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكْلُتُه، وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ينْظُرُ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5076)، كتاب: الأطعمة، باب: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل حتى يسمَّى له، فيعلم ما هو، و (5085)، باب: الشواء، و (5217)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: الضب، ومسلم (1945)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الضب، وأبو داود (3794)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل الضب، والنسائي (4316 - 4317)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الضب، وابن ماجه (3241)، كتاب: الصيد، باب: الضب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 246)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 490)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 386)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 231)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 189)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1600)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 663)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 45)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 293).

المَحْنُوذُ: المَشْوِيُّ بِالرَّضْفِ، وَهِيَ الحِجَارَةُ المُحَمَّاةُ. (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: دخلتُ أنا، و) ابن خالتي (خالدُ بن الوليد) بنِ المغيرة بن عبد الله بن عمرَ بنِ مخزوم بن يقظة بنِ مرة بنِ كعب بن لؤيِّ بنِ غالبٍ القرشيُّ المخزوميُّ، يكنى: أبا سليمان، وأمه لُبابةُ الصغرى -بضم اللام وتخفيف الموحدة بعدها ألف فموحدة-، وأما لُبابة الكبرى، فأمُّ الفضلِ امرأةُ العباس، أمُّ أولاده، [وكلتاهما] (¬1) بنت الحارث أختُ أم المؤمنين ميمونةَ بنتِ الحارث زوجِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخالدٌ - رضي الله عنه - أحد أشراف قريش، كانت له في الجاهلية القبة، وأعنةُ الخيل، وتقدمت ترجمته - رضي الله عنه - في الزكاة. (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) متعلق بـ: دخل (بيتَ) خالتنا أمِّ المؤمنين (ميمونةَ) بنتِ الحارث -رضي الله عنها-. وفي رواية يونس الراوي عن ابن عباس: أن ابن عباس أخبره: أن خالد بن الوليد الذي يقال له: سيف الله، أخبره (¬2)، فيكون من مسند خالد - رضي الله عنه -، لكن ما ذكره المصنف -رحمه الله- صريحٌ في دخول ابن عباس وخالد، وهو لفظ مسلم في "صحيحه" (¬3). وفي حديث أبي أمامةَ بنِ سهل عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: أتي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت ميمونة عنده خالد بن الوليد بلحم ضَبّ، أخرجه مسلم أيضًا (¬4)، (فأتي) -بضم الهمزة- مبنيًا لما لم يسم فاعله، ¬

_ (¬1) في الأصل: "وكلاهما"، والصواب ما أثبت. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5076)، وعند مسلم برقم (1946). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 663). (¬4) رواه مسلم (1946/ 45)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الضب.

ونائب الفاعل الضمير العائد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بضَبٍّ) -بفتح الضاد المعجمة وتشديد الموحدة-: دويبة يشبه الحرذون، لكنه أكبر منه، ويكنى: أبا حِسْل -بمهملتين مكسورة ثم ساكنة-، ويقال للأنثى: ضبّة، وبه سميت القبيلة، وبالخيف من منى جبلٌ يقال له: ضب، والضبُّ داء في خف البعير. قال ابن خالويه: إن الضب يعيش سبع مئة سنة؛ فإنه لا يشرب الماء، ويبول في كل أربعين يومًا قطرة، ولا يسقط له سن، ويقال: بل أسنانه قطعة واحدة. وحكى غيره: أن أكل لحمه يذهب العطش. ومن الأمثال: لا أفعل كذا حتى يردَ الضبُّ، يقوله من أراد ألا يفعل الشيء؛ لأن الضب لا يرد، بل يكتفي بالنسيم وبرد الهواء، ولا يخرج من جحره في الشتاء (¬1). (مَحْنُوذٍ) -بحاء مهملة ساكنة بعد الميم فنون مضمومة وآخره ذال معجمة-؛ أي: مشوي بالحجارة المحماة. وفي رواية: بضبٍّ مشوي (¬2)، والمحنوذُ أخص، والحَنيذ بمعناه (¬3). زاد يونس في روايته: قدمت به أختها حُفَيْدَة (¬4)، وهي -بمهملة وفاء مصغرة-. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 663). وانظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 519) وما بعدها. (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5085). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 664). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5076)، وعند مسلم برقم (1946/ 44).

وفي رواية سعيد بن جبير: أن أم حفيد بنتَ الحارثِ بنِ حزنٍ خالةَ ابن عباس أهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - سمنًا، وأقطًا، و [أ] ضبًا (¬1). وقد قيل في اسمها: هُزيلة -بالتصغير-، وهي رواية "الموطأ" من مرسل عطاء بن يسار (¬2)، فإن كان محفوظًا، فلعل لها اسمين، أو [اسمًا ولقبًا] (¬3). وحكى بعض شراح هذا الكتاب الذي هو المعتمد في اسمها: حميدة -بالميم-، وفي كنيتها: أم حميد -بميم بغير هاء- وفي روايةٍ: -بهاء-، وفي رواية: عمير -بغير هاء-. قال في "الفتح": وكلها تصحيفات، انتهى (¬4). وفي رواية: قدمت به أختها حفيدة من نجد (¬5). قال البرماوي بعد ذكر نحو ما تقدّم: وقيل: إنها أم حصن، وقيل: أم عفين. (فأهوى إليه)؛ أي: إلى الضب ليأكل منه (رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيده) الشريفة، زاد يونس: وكان - صلى الله عليه وسلم - قلَّما يقدم يده لطعام حتى يُسَمَّى له (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5074)، كتاب: الأطعمة، باب: الخبز المرقق والأكل على الخوان والسفرة، ومسلم (1947)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الضب. (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 967)، لكن من مرسل سليمان بن يسار. (¬3) في الأصل "اسم ولقب"، والصواب ما أثبت. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 664). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5076)، وعند مسلم برقم (1946/ 44). (¬6) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5076)، إلا أن عنده: ". . حتى يحدث به ويسمى له".

وأخرج إسحاق بن راهويه، والبيهقي في "الشعب" من حديث عمر - رضي الله عنه -: أن أعرابيًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأرنب يهديها إليه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأكل من الهدية حتى يأمر صاحبها فيأكلَ منها؛ من أجل الشاةِ التي أُهديت له بخيبر (¬1). (فقال بعض النسوة اللاتي) كُنَّ حينئذٍ (في بيت ميمونة) بنتِ الحارث -رضي الله عنهنَّ-: (أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما)؛ أي: بالذي (يريد أن يأكل) منه، وبما يريد أكله، فقالوا: هو الضب. وفي رواية يونس: فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قدمتنَّ له، هو الضب يا رسول الله (¬2)، وكأن المرأة أرادت أن غيرها يخبره، فلما لم يخبروا، بادرت هي فأخبرت (¬3). وفي "مسلم" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنه بينما هو عند ميمونة، وعندها الفضل بن عباس، وخالد بن الوليد، وامرأة أخرى، إذ قُرِّبَ إليهم خِوانٌ عليه لحم، فلما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل، قالت له ميمونة: إنه لحمُ ضَبّ، فكفَّ يده (¬4). فعرف بهذه الرواية اسمُ التي أُبهمت في الرواية الأخرى. وعند الطبراني في "الأوسط" من وجهٍ آخر صحيح: فقالت ميمونة: أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هوَ (¬5)، فأُخبر -بضم الهمزة- مبنيًا لما لم يسم ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (6052). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5076)، وعند مسلم برقم (1946/ 44). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 664). (¬4) رواه مسلم (1948)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الضب. (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (8754)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 664).

فاعله ونائب الفاعل يعود للنبي - صلى الله عليه وسلم - (فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده) عن الضب كما في رواية يونس (¬1)، فيؤخذ منه أنه أكل من غير الضب مما كان قُدّم له مع الضب، وقد جاء صريحًا في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: فأكل الأقط، وشرب اللبن (¬2). قال ابن عباس، أو قال خالد -على الاختلاف-، والأولُ أظهر: (فقلتُ: أحرامٌ هوَ)؛ أي: الضبُّ (يا رسول الله؟ قال: لا)، بل هو مباح، وليس بحرام، (ولكنه لم يكن) الضبُّ (بأرض قومي)، وفي رواية: "هذا اللحم لم آكله قط" (¬3). قال ابن العربي: اعترض بعض الناس على هذه اللفظة -يعني: لم يكن بأرض قومي-، فالضباب كثيرة بأرض الحجاز. قال ابن العربي: فإن كان أراد تكذيبَ الخبر، فقد كذبَ هو، فإنه ليس بأرض الحجاز منها شيء، أو أنها ذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بغير اسمها، أو حدثت بعد ذلك (¬4). وكذا أنكر ابنُ عبد البر ومن تبعه أن يكون بأرض الحجاز شيء من الضباب (¬5). قال في "الفتح": ولا يحتاج إلى شيء من هذا، بل المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5076). (¬2) رواه البخاري (5087)، كتاب: الأطعمة، باب: الأقط، لكن بلفظ: "وشرب اللبن، وأكل الأقط". (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1948). (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 290). (¬5) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 491).

"بأرض قومي": قريشٌ فقط، فيختص النفي بمكة وما حولها، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز، وقد روى مسلم: دعانا عروس بالمدينة، فقرّب إلينا ثلاثةَ عشرَ ضبًا، فآكلٌ وتاركٌ، الحديث (¬1)، فهذا يدل على كثرة وجدانها بتلك الديار (¬2)، (فأجدني أعافه) -بعين مهملة وفاء خفيفة-؛ أي: أتكره أكله، يقال: عفتُ الشيء أعافه (¬3). ووقع في رواية سعيد بن جبير: فتركهنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كالمتقذر لهنَّ، ولو كان حرامًا، لما أُكلن على مائدة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما أمر بأكلهن (¬4)، كذا أطلق الأمر، وكأنه تلقاه عن الإذن المستفاد من التقرير؛ فإنه لم يقع في شيء من طرق حديث ابن عباس بصيغة الأمر إلا في رواية يزيد بن الأصم عند مسلم؛ فإن فيها: فقال لهم: "كلوا"، فأكل الفضل، وخالد، والمرأة (¬5). وكذا في رواية الشعبي عن ابن عمر: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلوا، وأطعموا؛ فإنه حلال"، أو قال: "لا بأس به، ولكنه ليس طعامي" (¬6)، وفي هذا كله بيان سبب ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأكله؛ لأنه غير معتاده. وقد ورد لذلك سبب آخر أخرجه مالك من مرسل سليمان بن يسار، فذكر معنى حديث ابن عباس، وفي آخره: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كُلا" -يعني: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1948). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 665). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) رواه البخاري (6925)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الأحكام التي تعرف بالدلائل. (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1948). (¬6) رواه البخاري (6839)، كتاب: التمني، باب: خبر المرأة الواحدة، ومسلم (1944)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الضب.

لخالد وابن عباس-؛ "فإنني يحضرني من الله حاضرة" (¬1). قال الماوردي: يعني: الملائكة، وكأن للحم الضبِّ ريحًا، فترك أكله لأجل ريحه كما ترك أكل الثوم مع كونه حلالًا. قال في "الفتح": وهذا -إن صح- يمكن ضمه إلى الأول، ويكون لتركه الأكلَ من الضب سببان (¬2). (قال خالد) بن الوليد - رضي الله عنه -: (فاجتررته) -بجيم وراءين- هذا هو المعروف في كتب الحديث، وضبطه بعض شراح "المهذب" -بزاي قبل الراء-، وقد غلّطه النووي (¬3)، (فأكلتُه ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر) إليّ؛ كما في رواية. قال الحافظ المصنف -رحمه الله ورضي عنه-: (المحنوذ: المشوي بالرضف، وهي الحجارة المحماة) -كما قدمنا في شرحه-. فدلّ هذا الحديث على حل أكل الضب، وهو المطلوب، وقد ذكر غير واحد الإجماع على ذلك، وحكى عياض عن قويمة تحريمَه، وعن الحنفية: كراهته. وأنكر ذلك النووي، وقال: لا أظنه يصح عن أحد، وإن صحّ، فهو محجوج بالنص، وبإجماع من قبله. قال في "الفتح": قد نقل تحريمَه ابنُ المنذر عن علي، فأيُّ إجماع يكون مع مخالفته؟! ونقل الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم. وقال الطحاوي في "معاني الآثار": كره قومٌ أكل الضبِّ، منهم: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 665). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، قال: واحتجّ محمد بحديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُهدي له ضب، فلم يأكله، فقام عليهم سائل، فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتعطيـ[ــــنـ]ــــــــه ما لا تأكلين؟! " (¬1). قال الطحاوي: ما في هذا دليل على الكراهة؛ لاحتمال أن تكون عافته، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أَلَّا يكون مما يتقرب به إلى الله تعالى إلا من خير الطعام؛ كما نهى أن يتصدق بالتمر الرديء، انتهى (¬2). وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن الضب، أخرجه أبو داود (¬3) بسندٍ حسن كما في "الفتح" (¬4). ورد على الخطابي قوله: ليس إسناده بذاك (¬5)، وعلى ابن حزم في قوله: فيه ضعفاء ومجهولون (¬6)، وكذا على البيهقي في قوله: تفرد به إسماعيل بن عياش، وليس بحجّة (¬7)، وقول ابن الجوزي: لا يصح (¬8). قال: ففي كل ذلك تساهلٌ لا يخفى؛ فإن رواية إسماعيل عن الشاميين ¬

_ (¬1) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 201)، وكذا الإمام أحمد في "المسند" (6/ 123)، وغيرهما. (¬2) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 200 - 201). (¬3) رواه أبو داود (3796)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل الضب، من حديث عبد الرحمن بن شبل - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 665). (¬5) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 247). (¬6) انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 431). (¬7) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (9/ 326). (¬8) انظر: "العلل المتناهية" لابن الجوزي (2/ 661).

قوية عند البخاري، وقد صحح البخاري بعضها، وأخرج أبو داود من حديث عبد الرحمن بن حسنة: نزلنا أرضًا كثيرة الضباب، الحديث، وفيه: أنهم طبخوا منها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ أمّةً من بني إسرائيل مُسخت دَوابَّ في الأرض، فأخشى أن تكون هذه، فألقوها" أخرجه الإمام أحمد، وصححه ابن حبان، والطحاوي (¬1)، وسنده على شرط الشيخين، إلا الضحاك، فلم يخرجا له، وللطحاوي من وجه آخر: فقيل له - صلى الله عليه وسلم -: إن الناس قدم اشتووها وأكلوها، فلم يأكلْ، ولم ينهَ عنه (¬2). والأحاديث الماضية، وإن دلت على الحل تصريحًا وتلويحًا، نصًا [و] تقريرًا، فالجمع بينها وبين هذا حَمْلُ النهي فيه على أول الحال عند تجويز أن يكون مما مُسخ، وحينئذ أمر بإكفاء القدور، ثم توقف، فلم يأمر به، ولم ينه عنه، وحمل الإذن فيه على ثاني الحال، لما علم أن الممسوخ لا نسلَ له، ثم بعد ذلك كان يستقذره، فلا يأكله، ولا يحرمه، وأُكِل على مائدته، فدل على الإباحة، وتكون الكراهة للتنزيه في حق من يتقذره، وتحمل أحاديث الإباحة على من لا يتقذره، ولا يلزم من ذلك أنه يُكره مطلقًا. وفي "مسلم" عن يزيد بن الأصم، قال: دعانا عروس بالمدينة، فقرب إلينا ثلاثة عشر ضبًا، فآكلٌ وتاركٌ، فلقيت ابنَ عباس من الغد، فأخبرته، فأكثر القوم حوله، حتى قال بعضهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا آكلُه، ولا أنهى عنه، ولا أحرمه". ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3795)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل الضب، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 196)، وابن حبان في "صحيحه" (5266)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 197). (¬2) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 197).

فقال ابن عباس: بئس ما قلتم، ما بُعث نبي إلا محرِّمًا أو محللًا (¬1). وفي الحديث زيادة لفظة سقطت من رواية مسلم عند أبي بكر بن أبي شيبة، وهو شيخ مسلم، ولفظه في "مسنده" بالسند الذي ساقه مسلم: "لا آكله، ولا أنهى عنه، ولا أُحله، ولا أُحرمه" (¬2)، وكأن مسلمًا حذفها عمدًا؛ لشذوذها؛ لأن ذلك لم يقع في شيء من الطرق، لا في حديث ابن عباس، ولا غيره، وأشهرُ من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا آكله ولا أحرمه" ابنُ عمر، وليس في حديثه: "ولا أحله"، بل جاء التصريح عنه بأنه حلال. وبعدما ساق الطحاوي الأحاديث المشعرة بكراهة أكله، قال: إنه لا بأس بأكل الضب، وبه أقول (¬3). واختلف في الكراهة عند الحنفية لأكل الضب، هل هي للتنزيه، أو للتحريم؟ المعروفُ عند أكثرهم أنها للتنزيه، وجنح بعضهم إلى التحريم (¬4). والحاصل: أن الصحيح المعتمد: طيبُ أكلِ الضب وحلُّه من غير كراهة، والله أعلم. وفي الحديث: دليلٌ على جواز الأكل من بيت القريب، والصهر، والصديق، وكأن خالدًا ومن وافقه في الأكل أرادوا جبر قلب التي أهدته، أو لتحقق حكم الحل، أو لامتثال قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلوا"، ومن لم يأكل، فَهِمَ أن الأمر فيه للإباحة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1948). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (24348). (¬3) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 202). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 666 - 667).

وفيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يؤاكل أصحابه، ويأكل اللحم حيث تيسر، وأنه كان لا يعلم من المُغَيبات إلا ما علمه الله تعالى. وفيه: وفورُ عقل ميمونة أمِّ المؤمنين، وعظيمُ نصيحتها للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها فهمت مَظِنَّة نفوره عن أكله بما استنفرت منه، فخشيَتْ أن يكون ذلك كذلك، فيتأذى بأكله؛ لاستقذاره له، فصدقت فراستُها. ويؤخذ منه: أنه من خشي أن يتقذر شيئًا، لا ينبغي له أن يدلس له؛ لئلا يتضرر به (¬1)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (9/ 667).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رضي الله عنه -، قَالَ: "غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبْعَ غَزَوَاتٍ، نَأْكُلُ الجَرَادَ" (¬1). * * * (عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -، قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات)، وفي "البخاري": سبع غزوات، أو ستًا، كذا للأكثر، وفي لفظ: أو ستَّ -بلا تنوين-. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5176)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: أكل الجراد، ومسلم (1952)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الجراد، واللفظ له، وأبو داود (3812)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل الجراد، والنسائي (4356)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الجراد، والترمذي (1821)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في أكل الجراد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 15)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 391)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 237)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 103)، و "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 190)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1602)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 621)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 109)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 271)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 75)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 25).

وفي توجيه ذلك وجهان (¬1): أجودهما: أن يكون حذف المضاف إليه، وأبقى المضاف على ما كان عليه قبل الحذف. الثاني: أن يكون المنصوب كُتب بغير ألف على لغة ربيعة. وهذا الشك في عدد الغزوات عن شعبة، وقد أخرجه مسلم من رواية شعبة بالشك أيضًا، والنسائي من روايته بلفظ: الستة، من غير شك (¬2)، والترمذي من طريق شعبة، فقال: غزوات، ولم يذكر عددًا، ورواه الإمام أحمد عن ابن عُيينة جازمًا بالست (¬3). وتقدم في ترجمة عبد الله بن أبي أوفى: أن أول مشاهده الحديبية، فشهدها وما بعدها، وكنا نأكل معه - صلى الله عليه وسلم - كما في "البخاري"، فيحتمل أن يريد بالمعيّة مجردَ الغزو دون ما تبعه من قوله: (نأكل الجراد)، ويحتمل أن يريد: مع أكله. ويدل على الثاني ما وقع في رواية أبي نعيم في الطب: ويأكله معنا، وهذا إن صح، يرد قول من قال: إنه - صلى الله عليه وسلم - عافه كما عاف الضب، ومستند هذا ما أخرجه أبو داود من حديث سلمان: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجراد، فقال: "لا آكلُه، ولا أحرمه" (¬4)، إلا أنه مرسل على الصواب. ولابن عدي في ترجمة ثابت بن زهير، عن نافع، عن ابن عمر: أنه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في الأصل: "وجهين"، والصواب ما أثبت. (¬2) رواه النسائي (4357)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الجراد. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 380). (¬4) رواه أبو داود (3813)، كتاب: الأطعمة، باب: في أكل الجراد.

سئل عن الضب، فقال: "لا آكله ولا أحرمه"، وستل عن الجراد، فقال مثل ذلك (¬1)، وهذا ليس بثابت. قال النسائي في ثابت: ليس بثقة. وقد نقل الإجماعَ على حل الجراد غيرُ واحد من العلماء؛ كالنووي (¬2)، والدميري (¬3)، وغيرهما، لكن فصَّلَ ابنُ العربي في "شرح الترمذي" بين جراد الحجاز، وجراد الأندلس، فقال في جراد الأندلس: لا يؤكل؛ لأنه ضرر محض (¬4). قال في "الفتح": إن ثبت أن أكله يضر؛ بأن يكون فيه سُمِّية تخصُّه دون غيره من جراد البلاد، تعين استثناؤه (¬5). وقال أبو المظفر عونُ الدين بنُ هبيرة في "اختلاف الأئمة": اتفقوا على إباحة الجراد إذا صاده مسلم، واختلفوا فيه إذا مات بغير سبب. فقال أبو حنيفة، والشافعي: يحل أكله. وقال مالك: لا يؤكل الجراد إلا أن يتلف بسبب، قال عبدُ الوهاب في "التلقين" من أصحابنا -أي: المالكية- مَنْ لا يراعي فيه السبب. وعن الإمام أحمد روايتان: أظهرهما: حلُّه من غير اعتبار السبب. ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (2/ 94). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 103)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 621 - 622). (¬3) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 220). (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 16). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 622).

والثانية: السبب في حلِّه (¬1). قلت: معتمد المذهب الذي لا شك فيه: إباحة السمك والجراد بدون ذكاة؛ لحل ميتتهما؛ لما روى الإمام أحمد، وابن ماجه، والحاكم، وغيرهم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُحِلَّ لنا مَيْتَتان ودَمان، فأما الميتتان، فالحوت والجراد، وأما الدمان، فالكبد والطحال" (¬2). قال علماؤنا كغيرهم: وسواء مات بسبب، أو بغير سبب، على الأصح المعتمد. وقيل في الجراد: يؤكل إلا أن يموت بسبب، ككبسه، ولا فرق على المعتمد بين أن يصيده ما تُباح ذبيحتُه أو لا، وعنه: يحرم سمك وجراد صاده مجوسي ونحوه، وهذا ضعيف في المذهب جدًا، ولا فرق في السمك بين الطافي وغيره، على الأصح (¬3). وقال الدميري: قال الأئمة الأربعة: يحل أكل الجراد، سواء مات حتف أنفه، أو بذكاة، أو باصطياد مجوسي، أو مسلم، قُطع منه شيء أم لا. قال: وملخص مذهب مالك: إن قطعت رأسه، حلّ، وإلا، فلا، والدليل: عمومُ حِلِّه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 311). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 97)، وابن ماجه (3314)، كتاب: الأطعمة، باب: الكبد والطحال. (¬3) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 384)، و"الإقناع" للحجاوي (4/ 315). (¬4) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 221).

وقد روى ابن ماجه عن أنس - رضي الله عنه -: أنه قال: كُنَّ أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يتهادَيْنَ الجراد على الأطباق (¬1). وفي "موطأ الإمام مالك" من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن عمر بن الخطاب سُئل عن الجراد، فقال: وددت أن عندي قُفَّةً آكل منها (¬2). وروى البيهقي عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن مريم بنة عمران -عليها السلام- سألت ربها أن يُطعمها لحمًا لا دمَ فيه، فأطعمها الجراد، فقالت: اللهم أَعِشْهُ بغير رَضاع، وتابع بينه بغير شياع"، قلت: يا أبا الفضل! ما الشياع؟ قال: الصوت (¬3). وكان يحيى بن زكريا يأكل الجراد وقلوبَ الشجر؛ يعني: الذي ينبتُ في وسطها غضًا طريًا قبل أن يقوى ويصلب، واحدها قُلْب -بالضم-، وكذلك قُلب النخلة (¬4). تنبيه: الجراد -بفتح الجيم وتخفيف الراء- معروف، الواحدة جرادة، الذكر والأنثى سواء؛ كالحمامة، ويقال: إنه مشتق من الجرد؛ لأنه لا ينزل على شيء إلا جرده، وخلقته عجيبة فيها صفة عشرة من الحيوانات، ذكرها ابن الشهرزوري في قوله: [من الطويل] لَهَا فَخِذَا بَكْرٍ وَسَاقَا نَعَامةٍ ... وَقَادِمَتَا نَسْرٍ وجُؤْجُؤُ ضَيْغَمِ حَبَتْها أَفَاعِي الرَّمْلِ بَطْنًا وَأَنْعَمَتْ ... عَلَيْهَا جِيَادُ الْخَيْلِ بِالرَّأْسِ وَالْفَمِ ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (3220)، كتاب: الصيد، باب: صيد الحيتان والجراد. (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 933). (¬3) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 258). (¬4) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (1/ 220 - 221).

قيل: وقد فاته عينُ الفيل، وعنق الثور، وقرن الإِيَّل، وذنب الحية. وهو صنفان، واختلف في أصله، فقيل: إنه نثرةُ حوت، فلذلك كان أكله بغير ذكاة، وهذا ورد في حديث أنس بن مالك، وجابر -رضي الله عنهما-، رواه ابن ماجه (¬1)، إلا أنه حديث ضعيف. وأخرج أبو داود، والترمذي، وابن ماجه بسند ضعيف عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: خرجنا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة، فاستقبلَنا رِجْلٌ من جراد، فجعلنا نضربه بنعالنا وأسواطنا، فقال: "كلوه؛ فإنه من صيد البحر" (¬2)، ولو صح، لكان فيه حجة لمن قال: إنه لا جزاء فيه إذا قتله المحرم، وجمهورُ العلماء على خلافه. قال ابن المنذر: لم يقل: لا جزاء فيه غيرُ أبي سعيد الخدري، وعروة بن الزبير، واختلف عن كعب الأحبار، وإذا ثبت فيه الجزاء، دلَّ على أنه بَرِّي. قال في "الفتح": وقد أجمع العلماء على جواز أكله بغير تذكية، إلا أن المشهور عند المالكية اشتراطُ تذكيته، واختلفوا في صفتها، فقيل: بقطع رأسه -كما قدمنا-، وقيل: إن وقع في قِدْرٍ أو نارٍ، حَلَّ، وقال وَهْبٌ: أخذُه ذكاته، ووافق مطرفٌ منهم الجمهور في أنه لا يفتقر إلى ذكاة (¬3)، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (3221)، كتاب: الصيد، باب: صيد الحيتان والجراد. (¬2) رواه الترمذي (850)، كتاب: الحج، باب: ما جاء في صيد البحر للمحرم، وابن ماجه (3222)، كتاب: الصيد، باب: صيد الحيتان والجراد. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 620 - 621)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- هذا التنبيه.

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ زَهْدَمِ بْن مُضَرِّبٍ الجَرْمِيِّ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه -، فَدَعَا بمَأَدُبَتِهِ، وَعَلَيْهَا لَحْمُ دَجَاجٍ، فَدَخَلَ رَجُل مِنْ بَنِي تَيْمِ اللهِ، أَحْمَرُ، شَبِيهٌ بالمَوَالي، فَقَالَ: هَلُمَّ، فَتَلَكَّأَ، فَقَالَ لَهُ: هَلُمَّ؛ فَإني قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْكُلُ مِنهُ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5199)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: لحم الدجاج، و (6273)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: لا تحلفوا بآبائكم، و (6342)، كتاب: كفارات الأيمان، باب: الكفارة قبل الحنث وبعده، و (7116)، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، ومسلم (1649/ 7 - 10)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا، والنسائي (4346 - 4347)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة أكل لحوم الدجاج، والترمذي (1826 - 1827)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في أكل الدجاج. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 20)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 405)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 191)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1603)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 646)، و"عمدة القاري" للعيني (15/ 57)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 284).

(عن) أبي مسلم (زَهْدَم) -بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الدال المهملة فميم- (بنِ مُضَرِّبٍ) -بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المشددة وآخره موحدة- (الجَرْمِيِّ) -بفتح الجيم وسكون الراء- نسبه إلى جَرْمِ بنِ رَبّان -بفتح الراء وتشديد الموحدة- من ولد إسحق بن قضاعة، واسمُ جَرْمٍ: عِلافٌ -بكسر العين المهملة وتخفيف اللام وبالفاء-، ويقال لزهدم أيضًا: الأزدي، الإمام التابعي، هو من ثقات التابعين ومشاهيرهم. سمع ابنَ عباس، وأبا موسى الأشعري، وعمران بن حصين، وغيرَهم، ليس له في البخاري سوى حديثين: هذا عن أبي موسى، وآخر عن عمران بن حصين، وروى عنه: قتادةُ وغيرُه. خرّج له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي (¬1). (قال) زهدم: (كنا عند أبي موسى) الأشعري (- رضي الله عنه -، فدعا بمأدُبته) -بفتح الدال المهملة وضمها-، وهي التي تصنع للقوم يدعون إليها (وعليها)؛ أي: المأدبة (لحمُ دجاج) اسم جنس مثلث الدال، ذكره المنذري في الحاشية، وابن مالك، وغيرهما، ولم يحك النووي الضمَّ، والواحدةُ دجاجة -مثلث أيضًا-. وقيل: إن الضم فيه ضعيف. قال الجوهري: دخلت الهاء للوحدة؛ مثل الحمامة (¬2). وأفاد إبراهيم الحربي في "غريب الحديث": أن الدجاج -بالكسر- اسمٌ ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 448)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 269)، و"تهذيب الكمال" للمزي (9/ 396)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 294). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (1/ 313)، (مادة: دجج).

للذُّكْران دون الإناث، والواحد منها ديك، و-بالفتح-: الإناث دون الذكران، والواحدة دجاجة بالفتح -أيضًا-، قال: إنما سمي بذلك؛ لإسراعه في الإقبال والإدبار؛ من دجَّ يدجُّ: إذا أسرع (¬1). قال في "الفتح": دجاجة أيضًا اسمُ امرأة، وهو بالفتح فقط، ويسمى بها أيضًا الكُبَّةُ من الغزل (¬2). (فدخل) مجلسَ أبي موسى الأشعري (رجلٌ من بني تيم الله)، وهم بطن من بني كلب، وبنو كلب قبيلة في قضاعة ينسبون إلى تَيْم الله بن رُفَيْدَة -بفاء مصغّر- بنِ ثور بنِ كلب بنِ وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فحلوانُ المذكور في هذا النسب عَمُّ جَرْمٍ (¬3)، وذلك الرجل (أحمر) اللون (شبيه بالموالي)؛ أي: العجم. قال في "الفتح": وهذا الرجل هو زَهْدَم الراوي، أبهم نفسَه؛ فقد أخرج الترمذي من طريق قتادةَ عن زهدم، قال: دخلتُ على أبي موسى وهو يأكل دجاجًا، فقال: ادنُ فكل؛ فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكله (¬4)، وقد أشكل هذا؛ لكونه وصفَ الرجلَ في روايته بأنه من بني تيم الله، وزهدمٌ من بني جَرْم، فقال بعض الناس: الظاهر أنهما امتنعا معًا: زهدم، والرجلُ التيميُّ، قاله في "الفتح"، وحمله على دعوى التعداد استبعادُ أن يكون الشخص الواحد يُنسب إلى تيم الله، وإلى جرم. قال: ولا بُعد في ذلك، بل قد أخرج الإمام أحمدُ الحديث المذكورَ عن ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 645). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) المرجع السابق، (9/ 647). (¬4) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1826).

عبد الله بن الوليد العدني، عن سفيان الثوري، فقال في روايته: عن رجلٍ من بني تيم الله يقال له: زَهْدَم، قال: كنا عند أبي موسى، فأتي بلحم دجاج (¬1)، فلعل زهدمًا كان ينسب تارةً إلى بني جَرْم، وتارة إلى بني تيم الله. وقد قدمنا أن حلوانَ عمُّ جرمِ بن زبان بنِ عمرانَ بنِ الحاف بن قضاعة. قال في "الفتح": ربما أبهم الرجل نفسه، فلابد أن يكون زهدمٌ صاحبَ القصة، والأصل عدمُ التعدد، وقد أخرج البيهقي عن زهدم قال: رأيت أبا موسى يأكل الدجاج، فدعاني، فقلت: إني رأيته يأكل نتنًا، قال: ادنه فكلْ، فذكر الحديث (¬2). قال في "الفتح" عن هذا؛ يعني: كونَ زهدم صاحب القصة: هو المعتمد، ولا يعكر عليه إلا ما وقع في "الصحيحين" بما ظاهره المغايرة بين زهدم والممتنعِ من أكل الدجاج (¬3). (فقال) أبو موسى - رضي الله عنه -: (هلمَّ)؛ أي: تعال: وفيه لغتان: فأهل الحجاز يطلقونه على الواحد والجمعِ والاثنين، والمؤنث بلفظ واحد، مبني على الفتح، وبنو تميم تُثني وتجمع وتُؤنث، فتقول: هلمَّ وهلمِّي وهلمَّا وهلمُّوا (¬4)، والكلُّ بمعنى: تعال فكلْ، (فتلكأ) الرجل؛ أي: توقف وتبطأ؛ من لكأ، مهموز. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 401)، إلا أنه ذكره من طريق عبد الله بن الوليد، عن أيوب، به. (¬2) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 333). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 646 - 647). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 271).

قال في القاموس: تلكأ عليه: اعتلَّ، وعنه: أبطأ (¬1). (فقال له) أبو موسى - رضي الله عنه - ثانيًا: (هلم) فكل منه، ثم علل ذلك بقوله: (فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل منه)؛ أي: من الدجاج. وقد أورد الحديثَ البخاريُّ في "صحيحه" في محلات متعددة مطوَّلًا ومختصرًا، مشتملًا على قصة الرجل الذي امتنع من أكل الدجاج، وحلف على ذلك، وفتوى أبي موسى بأن يكفر عن يمينه، ويأكل، وقص له الحديث في ذلك. وأخرج الحديثَ مسلم أيضًا بعدة ألفاظ، وأبو عوانة في "صحيحه"، وقال فيه: عن زهدم، وفيه: فقال لي: ادن فكل، فقلت: إني لا أريده (¬2). وأخرجه البيهقي، فقال: ادن فكل، فقلت: إني حلفت لا آكله (¬3)، وكذا رواه مسلم وغيره. وفي رواية في "الصحيحين": إني رأيته يأكل شيئًا، فقذِرْتُه -بكسر الذال المعجمة- (¬4). وفي رواية أبي عوانة: إني رأيتها تأكل قذرًا (¬5)، وكأنه ظن أنها أكثرت من ذلك، فصارت جَلَّالة، فبين له أبو موسى أنها ليست كذلك، أو أنه لا يلزم من كون تلك الدجاجة التي رآها كذلك أن تكون كل الدجاج كذلك (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 65)، (مادة: لكأ). (¬2) رواه أبو عوانة في "مسنده" (4/ 34 - 35). (¬3) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 31). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5199)، وعند مسلم برقم (1649/ 9). (¬5) تقدم تخريجه قريبًا. (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 647).

فدل الحديث على جواز أكل الدجاج إنسيِّه ووحشيِّه، وهو بالاتفاق، إلا عن بعض المتعمقين على سبيل الورع (¬1). تتمة: معتمد مذهب الإمام أحمد: تحريمُ لحم الجَلَّالة، وهي التي أكثرُ علفِها النجاسات، وكذا لبنها وبيضها، ويُكره ركوبها لأجل عرقها، حتى تحبس ثلاثًا، وتطعم الطاهر، وتُمنع من النجاسة، طائرًا كان أو بهيمة، ومثلُها خروفٌ ارتضعَ من كلبة، ثم تشرب لبنًا طاهرًا (¬2). وعند الثلاثة: يباح أكل لحمها ولبنها وبيضها، وإن لم تحبس، مع استحبابهم حبسَهَا، وكراهتِهم لأكلها من غير حبسها (¬3). ويجوز عندنا كغيرنا أن يعلف الحيوان النجاسةَ بشرط أَلَّا يذبح ولا يحلب قريبًا (¬4). وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شرب لبنِ الجَلَّالة، وصححه الترمذي (¬5). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الجلالة ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (9/ 648). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 307). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 314). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 307). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 293)، وأبو داود (3786)، كتاب: الأطعمة، باب: النهي عن أكل الجلالة وألبانها، والنسائي (4448)، كتاب: الضحايا، باب: النهي عن لبن الجلالة، والترمذي (1825)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها.

وألبانها، وهو في رواية ابن إسحاق، وقد حسنه الترمذي، وذكر أنه روي مرسلًا (¬1)، وذلك لأن لحمها يتولد من النجاسة، فيكون نجسًا كرماد النجاسة، والله أعلم. وروى ابن أبي شيبة بسند حسن عن جابر - رضي الله عنه -: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة أن يؤكل لحمُها، أو يُشرب لبنُها (¬2). والجلالةُ: عبارة عن الدابة التي تأكل الجِلَّة -بكسر الجيم والتشديد-، وهي البعر. وادعى ابن حزم اختصاصَ الجلالة بذوات الأربع، والمعروف التعميم. وقد أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثًا (¬3). وقال مالك، والليث: لا بأس بأكل الجلالة من الدجاج وغيره (¬4). قال في "الفتح": وأطلق الشافعية كراهةَ أكل الجلالة إذا تغير لحمُها بأكل النجاسة، وفي وجه: إذا أكثرت من ذلك، ورجح أكثرهم أنها كراهةُ تنزيه، وذهب جماعةٌ من الشافعية؛ كمعتمد مذهب الحنابلة: إلى أن النهي للتحريم، وبه جزم ابن دقيق العيد عَن الفقهاء، وهو الذي صححه ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3785)، كتاب: الأطعمة، باب: النهي عن أكل الجلالة وألبانها، والترمذي (1824)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها، وابن ماجه (3189)، كتاب: الذبائح، باب: النهي عن لحوم الجلالة. ولم أقف عليه في "مسند الإمام أحمد"، والله أعلم. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (24604). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (24608). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 648).

أبو إسحاق المروزي، والقفال، وإمام الحرمين، والبغوي، والغزالي، وألحقوا بلبنها ولحمِها بيضَها. وقد أخرج البيهقي بسند فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: أنها لا تؤكل حتى تُعلف أربعين يومًا (¬1)، وهذا رواية عن الإمام أحمد في الإبل والبقر والغنم إذا كان أكثرُ علفها النجاسة، والأصح أنها كالطير إنما تُحبس ثلاثةَ أيام فقط (¬2)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 333). وكذا الدارقطني في "سننه" (4/ 283)، والحاكم في "المستدرك" (2269). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 648). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 314). وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (10/ 366)، و"الإقناع" للحجاوي (4/ 307).

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَها -أو يُلْعِقَهَا-" (¬1). * * * (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أكل أحدكم) زاد مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وآخر عن سفيان (طعامًا) (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5140)، كتاب: الأطعمة، باب: لعق الأصابع ومصِّها قبل أن تمسح بالمنديل، ومسلم (2031/ 129)، واللفظ له، و (2031/ 130)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة، وأبو داود (3847)، كتاب: الأطعمة، باب: في المنديل، وابن ماجه (3269)، كتاب: الأطعمة، باب: لعق الأصابع. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 501)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 299)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 203)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 192)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1604)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 577)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 76)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 245)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 153)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 47). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2031/ 129).

وفي رواية ابن جريج: "إذا أكل أحدكم من الطعام (فلا يمسح يده) " (¬1). في حديث كعب بن مالك عند مسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ، لعقها (¬2)، فيحتمل أن يكون أطلق على الأصابع اليد، ويحتمل -وهو الأولى- أن يكون المراد باليد: الكف كلها، فيشمل الحكم من أكل بكفه، أو بأصابعه فقط، أو ببعضها (¬3). وقال ابن العربي في "شرح الترمذي": يدل على الأكل بالكف كلِّها: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعرق العظمَ، وينهشُ اللحمَ، ولا يمكن عادةً إلا بالكف كلها (¬4). ونظر فيه في "الفتح"؛ لأنه يمكن بالثلاث، سلَّمنا، لكن هو ممسك بكفه كلها، لا آكلٌ بها، سلمنا، لكن محل الضرورة لا يدل على عموم الأحوال. ويؤخذ من حديث كعب بن مالك: أن السنة الأكلُ بثلاث أصابع، وإن كان الأكل بأكثر منها جائزًا (¬5). وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان، عن عبد الله بن أبي زيد: أنه رأى ابن عباس -رضي الله عنهما- إذا أكل، لعق أصابعه الثلاث. قال عياض: والأكلُ بأكثرَ منها من الشَّرَهِ وسوء الأدب، ويكبر اللقم؛ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2031/ 130). (¬2) رواه مسلم (2032/ 132)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578). (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 307). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578).

لأنه غير مضطر إلى ذلك؛ لجمعه اللقمة وإمساكها من جهاتها الثلاث، فإن اضطر إلى ذلك؛ لخفة الطعام، وعدم تلفيقه بالثلاث، فيدعمه بالرابعة والخامسة (¬1). وقد أخرج سعيد بن منصور من مرسَل ابن شهاب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أكل، أكل بخمس (¬2)، فيجمع بينه وبين حديث كعب باختلاف الحال (¬3). وقد صرح علماؤنا باستحباب الأكل بثلاث أصابع (¬4)، والثلاث هي: الإبهامُ، والتي تليها، والوسطى؛ كما في حديث كعبِ بن عُجْرَةَ عند الطبراني وغيره، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بأصابعه الثلاث، فذكرها، وفيه: ثم رأيته يلعق الثلاث حين أراد أن يمسحها قبل أن يمسحها، ويلعق الوسطى، ثم التي تليها، ثم الإبهام (¬5). قال في "الفتح": قال شيخنا في "شرح الترمذي": كأن السر فيه أن الوسطى أكثر تلويثًا؛ لأنها أطول، فيبقى فيها من الطعام أكثرُ من غيرها، ولأنها لطولها أولُ ما ينزل في الطعام، ويحتمل أن الذي يلعق يكون بطنُ كفه إلى جهة وجهه، فإذا ابتدأ بالوسطى، انتقل إلى السبابة على جهة يمينه، وكذلك الإبهام، انتهى (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 502). (¬2) لم أقف على الأثرين اللذين ساقهما الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 578) فيما طبع من "سنن سعيد بن منصور". (¬3) انظر "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578). (¬4) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 307). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1649)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 381). (¬6) انظر "فتح الباري" لابن حجر (9/ 579).

قال في "الإقناع": ويكره بما دونها وبما فوقها ما لم تكن حاجة (¬1). وفي "الآداب الشرعية" للعلامة ابن مفلح: ويسن أن يأكل بثلاث أصابع، ويُكره أن يأكل بإصبع؛ لأنه مقت وبإصبعين؛ لأنه كِبْر، وبأربع وخمس؛ لأنه شَرَه. وكذا حكاه ابن البنا عن الشافعي، ولأن بإصبعين يطول حتى يشبع، ولا يفرح المعدة والأعضاء بذلك، لقلته؛ كمن يأخذ قليلًا قليلًا، فلا يستلذ به، ولا يمريه، وبأربع أصابع قد يغص به لكثرته. قال: ولعل المراد: ما لا يُتناول عادةً وعرفًا بإصبع أو بإصبعين؛ فإن العرف يقتضيه، ودليل الكراهة منتفٍ فيه (¬2). (حتى يلعقها) بفتح أوله من الثلاثي، أي: يلعقها هو، (أو يُلعقها) -بضم أوله من الرباعي-؛ أي: يُلعقها غيرَه (¬3). قال النووي: المراد: إلعاقُ غيره ممن لا يتقذَّر ذلك؛ من زوجة، وجارية، وخادم، وولد، وكذا مَنْ كان في معناهم، كتلميذ يعتقد البركة بلعقها، وكذا لو ألعقَها نحوَ شاة (¬4). وقال البيهقي: إن قوله: "أو" شكٌّ من الراوي، ثم قال: فإن كانا جميعًا محفوظين، فإنما أراد أن يُلعقها صغيرًا، أو من يعلم أنه لا يتقذر بها، ويحتمل أن يكون أراد أن يُلعق إصبعه فمَه، فيكون بمعنى يَلْعقها؛ يعني: فتكون "أو" للشك (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 408). (¬2) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 307). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 206). (¬5) انظر: "شعب الإيمان" للبيهقي (5/ 81)، عقب حديث (5856).

قال ابن دقيق العيد: جاءت علة هذا مبيَّنة في بعض الروايات: "إنه لا يدري في أي طعامه البركة" (¬1)، وقد يعلل بأن مسحَها قبل ذلك فيه زيادةُ تلويث لما يمسح به، مع الاستغناء عنه بالريق، لكن إذا صح الحديث بالتعليل، لم يعدل عنه (¬2). قال في "الفتح": الحديث صحيح، أخرجه مسلم في آخر حديث جابر، ولفظه من حديث جابر: "إذا سقطت لقمةُ أحدكِم، فليُمِطْ ما أصابها من أَذًى، وليأكُلْها، ولا يمسحْ يدَه حتى يَلْعقها أو يُلْعقها" (¬3). وللإمام أحمد نحوُه بسند صحيح (¬4). وللطبراني من حديث أبي سعيد نحوه بلفظ: "فإنه لا يدري في أي طعامه يبارك له فيه" (¬5). ولمسلم نحوه من حديث أنس (¬6)، ومن حديث أبي هريرة أيضًا (¬7). وقد أبدى عياض علةً أخرى، فقال: إنما أمر بذلك لئلا يتهاون بقليل الطعام (¬8). قال النووي: معنى قوله: "في أي طعامه البركة": أن الطعام الذي ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريبًا عند مسلم. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 192). (¬3) رواه مسلم (2033/ 134)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 301). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (5434)، وفي "المعجم الأوسط" (5380). (¬6) رواه مسلم (2034)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة. (¬7) رواه مسلم (2035)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة. (¬8) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 501).

يحضر الإنسان فيه بركة لا يدري أن تلك البركة فيما أكل، أو فيما بقي على أصابعه، أو فيما بقي في أسفل القصعة، أو في اللقمة الساقطة، فينبغي أن يحافظ على هذا كله؛ لتحصل البركة، انتهى (¬1). وقد وقع لمسلم من حديث جابر: "إن الشيطان يحضرُ أحدَكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمةُ، فلْيُمِطْ ما كان بها من أذى، ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان" (¬2). وله نحوه في حديث أنس، وزاد: وأمر بأن تُسْلَت القصعةُ (¬3). قال الخطابي: السَّلْت: تَتَبُّعُ ما بقي فيها من الطعام (¬4). قال النووي: والمراد بالبركة: ما يحصل به التغذية، وتسلم عاقبته من الأذى، ويقوي على الطاعة، والعلم عند الله (¬5). وفي الحديث: ردٌّ على من كره لعقَ الأصابع استقذارًا، نعم يحصل ذلك لو فعله في أثناء أكله؛ لأنه يعيد أصابعه في الطعام وعليها أثرُ ريقه (¬6). قال الخطابي: عاب قومٌ أفسدَ عقلَهم الترفُّهُ، فزعموا أن لعق الأصابع مستقبَحٌ، كأنهم لم يعلموا أن الطعام الذي لُعِق بالأصابع أو الصحفة جزءٌ من أجزاء ما أكلوه، وإذا لم يكن سائرُ أجزائه مستقذرًا، لم يكن الجزء ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 206). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578). (¬2) رواه مسلم (2033/ 135)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة. (¬3) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2034)، وعنده: "وأمرنا أن نسلت القصعة". (¬4) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 260). (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 206). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 578).

اليسير منه مستقذَرًا، وليس في ذلك أكثرُ من مصِّه أصابعَه بباطن شفتيه، ولا يشكُّ عاقل في أنْ لا بأسَ في ذلك، فقد يمضمض الإنسان فيُدخل أصابعه في فيه، فيدلك أسنانه وباطنَ فمه، ثم لم يقل أحد: إن ذلك قذارة أو سوء أدب (¬1). وفي الحديث: دليل على استحباب مسح اليد بعد الطعام. قال عياض: محلُّه فيما لم يحتج فيه إلى الغسل مما ليس فيه غَمَرٌ ولُزوجة مما لا يُذهبه إلا الغَسْل؛ لما جاء في الحديث من الترغيب في غسله، والحذر من تركه، كذا قال (¬2). والحديث يقتضي منع الغسل والمسح بغير لعق؛ لأنه صريح في الأمر باللعق دونَهما تحصيلًا للبركة، نعم قد يتبين الندبُ إلى الغسل بعد اللعق لإزالة الرائحة، وعليه يُحمل الحديث الذي أشار إليه عياض، وهو ما أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة، رفعه: "من باتَ وفي يده غَمَر، ولم يغسله، [فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه" (¬3)، وأخرجه الترمذي دون قوله: "لم يغسله"] (¬4). تتمة: في "صحيح مسلم" من حديث جابر - رضي الله عنه - مرفوعًا: "إذا وقعتْ لُقمةُ أحدكم، فَلْيُمِطْ ما كان بها من أَذًى، ولا يَدَعْها للشيطان، ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 260). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 502). (¬3) رواه أبو داود (3852)، كتاب: الأطعمة، باب: في غسل اليد من الطعام. (¬4) ما بين معكوفين ساقط من "ب". والحديث رواه الترمذي (1859 - 1860)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في كراهية البيتوتة وفي يده ريح غمر.

ولا يمسحْ يدَه بالمِنْديل حتى يَلْعَقَ أصابعَه، أو يُلْعِقَها؛ فإنه لا يدري في أيِّ طعامِه البركةُ" (¬1). المنديل -بكسر الميم- مأخوذ من الندل، وهو النقل؛ لأنه يُنقل، وقيل: لأن الوسخ يُندل به، يقال: تندَّلْت بالمنديل، ويقال أيضًا: تمندلت، وأنكرها الكسائي (¬2)، وفي "القاموس": المِنديل -بكسر الميم وفتحها-، وكمنبر: الذي يُتمسح به، وتندَّل به، وتمندل: تمسَّح (¬3). قال الإمام ابن القيم في كتابه "الهدي": كان - صلى الله عليه وسلم - لا يَرُدُّ موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، وما قرِّبَ إليه شئٌ من الطعام إلا أكل منه، إلا أن تعافَه نفسُه الشريفة، فيتركه من غير تحريم، وما عابَ طعامًا قَطَّ، إن اشتهاه أكل منه، وإلا تركَه، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من طعامه، لعقَ أصابعه. قال: ولم تكن لهم مناديل يمسحون بها أيديهم، ولم تكن عادتهم غسلَ أيديهم كلما أكلوا، انتهى (¬4). ودليل ما قاله -رحمه الله تعالى- في "صحيح البخاري" عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أنه سأله سعيدُ بنُ الحارث عن الوضوء مما مَسَّتِ النارُ، فقال: لا، قد كنا زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نجدُ مثلَ ذلك من الطعام إلا قليلًا، فإذا نحن وجدناه، لم تكن لنا مناديل إلا أكفُّنا وسواعدُنا وأقدامنا، ثم نصلي ولا نتوضأ (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2033/ 134). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 232). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1372)، (مادة: ندل). (¬4) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 147، 149). (¬5) رواه البخاري (5141)، كتاب: الأطعمة، باب: المنديل.

قال في "الفتح": وهذا صريح بأنهم لم تكن لهم مناديل. ومفهومه يدل على أنه لو كانت لهم مناديل، لمسحوا بها، فيُحمل حديثُ النهي على من وجد، ولا مفهوم له، بل الحكمُ كذلك لو مسح بغير المنديل. وذكر القفال في "محاسن الشريعة": أن المراد بالمنديل هنا: المنديلُ المعدُّ لإزالة الزهومة، لا المنديلُ المعَدُّ للمسح بعد الغسل (¬1). تكملة في ذكر طرف من آداب الأكل: * يكره النفخ في الغِذاء من طعام وشراب، والتنفسُ في الإناء قبل إبانته عن الفم؛ لما روى الترمذي، وصححه عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يُتنفس في الإناء، أو يُنفخ فيه (¬2). وروى عن أبي سعيد الخدري، وصححه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب (¬3). وأخرج أبو داود، وابن حبان في "صحيحه" عن أبي سعيد أيضًا، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من ثُلْمَةِ القَدَح، وأن يُنفخ في الشراب (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 577). (¬2) رواه الترمذي (1888)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية النفخ في الشراب. (¬3) رواه الترمذي (1887)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية النفخ في الشراب. (¬4) رواه أبو داود (3722)، كتاب: الأشربة، باب: في الشرب من ثلمة القدح، وابن حبان في "صحيحه" (5315).

وفي "الصحيحين"، والترمذي، والنسائي: النهيُ عن التنفس في الإناء من حديث أبي قتادة (¬1). وقد علم أن الكراهة تزول للحاجة. قال الآمدي، ونقله ابن مفلح في "الآداب الكبرى" وغيره: لا بأس بنفخ الطعام إذا كان حارًا، ويكره أكله حارًا (¬2). وفي "الإقناع": يكره نفخُ الطعام والشراب، والتنفُّس في إنائهما، وأكلُه حارًا، إن لم يكن حاجة، ويكره جولانُ اليد في الطعام إذا كان نوعًا واحدًا (¬3). وعبارة "الآداب": ويكره أكلُه مما يلي غيره، والطعامُ نوعٌ واحد (¬4). قال الآمدي: ولا بأس أن يأكل من غير ما يليه وهو وحده (¬5). ودليلُ كراهة جولان اليد في الطعام: قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعمرَ بنِ أبي سلمة: "كُلْ مِمَّا يليك" متفق عليه (¬6)، فإذا كان الطعام أنواعًا، فلا بأس. وفي حديث عِكْراشٍ عند ابن ماجه، والترمذي، وقال: غريب، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5307)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن التنفس في الإناء، ومسلم (267)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين، والنسائي (48)، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الاستنجاء باليمين، والترمذي (1889)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية التنفس في الإناء. (¬2) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 298). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 407). (¬4) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 298). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 407). (¬6) تقدم تخريجه.

وأبي بكر الشافعي في "الغيلانيات"، وفيه: ثم أُتينا بطبق فيه ألوانٌ من رطب أو تمر، قال عكراشٌ: فجعلتُ آكل من بين يديَّ، وجالت يدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطبق، ثم قال: "يا عِكْراشُ! كُلْ من حيثُ شئتَ؛ فإنه من غير لونٍ واحدٍ" الحديث (¬1). * ويُكره الأكل من ذِروة الطعام، ومن وسطه، بل يأكل من أسفله، وكذلك الكيل؛ لما روى الترمذي، وقال: حسن صحيح، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافَتَيْه، ولا تأكلوا من وَسَطِه" رواه النسائي، وابن ماجه (¬2)، ورواه أبو داود بلفظ: "إذا أكل أحدُكم طعامًا، فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن ليأكلْ من أسفلها؛ فإن البركةَ تنزل من أعلاها" (¬3). وفي حديث عبد الله بن بسر - رضي الله عنه - مرفوعًا: "كلوا من جوانبها، وذَروا ذُرْوتها، يبارَكْ فيها" رواه أبو داود، وابن ماجه (¬4). * ويكره أكل وشرب، وكذا أخذٌ وإعطاءٌ باليد اليسرى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1848)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في التسمية في الطعام، وابن ماجه (3274)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل مما يليك، وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (894). (¬2) رواه الترمذي (1805)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في كراهية الأكل من وسط الطعام، والنسائي في "السنن الكبرى" (6762)، وابن ماجه (3277)، كتاب: الأطعمة، باب: النهي عن الأكل من ذروة الثريد. (¬3) رواه أبو داود (3772)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة. (¬4) رواه أبو داود (3773)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة، وابن ماجه (3275)، كتاب: الأطعمة، باب: النهي عن الأكل من ذروة الثريد.

يأكلن أحدُكم بشماله، ولا يشربن بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها" رواه مسلم، والترمذي من حديث ابن عمر مرفوعًا (¬1)، وكان نافع يزيد فيه: "ولا يأخذْ بها، ولا يُعطِ بها" رواه مالك، وأبو داود (¬2). وفي حديث أبي سعيد الخدري عند ابن ماجه بإسنادٍ صحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليأكلْ أحدُكم بيمينه، ويشربْ بيمينه، وليأخذْ بيمينه، ولْيعطِ بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويعطي بشماله، [ويأخذ بشماله] (¬3) ". وأخرج الإمام أحمد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل بشماله، أكلَ معه الشيطان، ومن شرب بشماله، شربَ معه الشيطان" (¬4). قال في "الآداب": وحرمه ابن عبد البر، وابنُ حزم؛ لظاهر الأخبار (¬5). وقال القاضي، وابن عقيل، وسيدنا الشيخُ عبدُ القادر -قدس الله روحه-: تناولُ الشيء من غيره باليد اليمنى مستحبٌّ، قالوا: وإذا أراد أن يُناول إنسانًا كتابًا أو توقيعًا، فليقصد بيمينه (¬6). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2020)، كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، والترمذي (1799)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في النهي عن الأكل والشرب بالشمال. (¬2) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 922)، وأبو داود (3776)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل باليمين. (¬3) ما بين معكوفين ساقط من "ب"، والحديث رواه ابن ماجه (3266)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل باليمين. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 77)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬5) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 299). (¬6) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 106).

* ويكره الأكلُ والشربُ متكئًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أنا، فلا آكلُ متكئًا" رواه البخاري (¬1)، وغيره. قال الإمام أحمد: يكره الأكل متكئًا. وفي "الغنية" لسيدي عبد القادر: وعلى طريق (¬2). وفي "الآداب" لابن مفلح: يكره الأكل متكئًا، أو مضطجعًا (¬3). زاد في "الإقناع" كـ "الآداب": أو منبطحًا (¬4). قال ابن هبيرة: أكلُ الرجل متكئًا يدل على استخفافه بنعمة الله فيما قدم بين يديه من رزقه فيما يراه الله على تناوله، ويخالف عوائدَ الناس عند أكلهم الطعام من الجلوس إلى أن يتكىء عنه، فهذا يجمع بين سوء الأدب، والجهل، واحتقار النعمة، وأيضًا: إذا كان متكئًا، لا يصل الغذاء إلى قعر المعدة الذي هو محل الهضم، فلذلك لم يفعله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ونبه على كراهته (¬5). وفي "سنن أبي داود": عن أبي هريرة: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجلوس على مائدةٍ شُرب عليها الخمرُ، وأن يأكل وهو منبطحٌ على بطنه (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5083)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل متكئًا، من حديث أبي جحيفة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 409). (¬3) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 299). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 409). (¬5) نقله ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (3/ 318). (¬6) رواه أبو داود (3774)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الجلوس على مائدة عليها بعض ما يكره.

وذكر بعض مشايخ الحنفية: أنه لا بأس بالأكل متكئًا، قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل يوم خيبر متكئًا، كذا قالوا (¬1)، والحديث الذي استدلوا به رواه الطبراني من طريق بقية، وهو ثقة، إلا أنه مدلس، وفي إسناده أيضًا عمر الشامي مجهول، ولفظه: عن واثلة بن الأسقع -رضي الله عنهما-، قال: لما افتتح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، جعلت له مائدة، فأكل متكئًا، وأصابته الشمس، فلبس الظلة (¬2). قلت: وعلى فرض ثبوت هذا الحديث وصحته، فإنه منسوخ، يدل على ذلك ما روي عن واثلة نفسه - رضي الله عنه -، قال: أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئًا وقتًا يسيرًا، ثم تركه. ذكره أصحاب السير، منهم الشيخ محمد الشامي في "سيرته". هذا مع ما روى أبو داود عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: ما رئي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل متكئًا (¬3)، نعم، روى مسلم، وأبو داود عن أنس - رضي الله عنه -، قال: أُتي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر، فرأيته يأكل متكئًا (¬4)، وكأن هذا كان أولًا، ثم نُسخ، يدل له -مع ما قدمنا- حديثُ ابن عباس -رضي الله عنهما-: لما خُيِّرَ بين أن يكون عبدًا نبيًا، وبين أن يكون ملكًا، فأشار إليه جبريل: أن تواضَعْ، فاختار أن يكون عبدًا نبيًا، قال: فما أكل ¬

_ (¬1) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 319). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 62). (¬3) رواه أبو داود (3770)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الأكل متكئًا. (¬4) رواه مسلم (2044)، كتاب: الأشربة، باب: استحباب تواضع الآكل وصفة قعوده، وأبو داود (3771)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الأكل متكئًا، بلفظ: بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجعت إليه، فوجدته يأكل تمرًا وهو مُقْعٍ.

بعد تلك الكلمة طعامًا متكئًا، رواه النسائي (¬1). * ويُكره القِرانُ في التمرِ ونحوِه، وقيل: مع مشاركةٍ؛ لحديث "الصحيحين" عن ابن عمر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القِران، إلا أن تستأذن أصحابَك (¬2). * ويُسن الأكل جالسًا فوقَ اليسار من رجليه، ناصبًا الرجلَ اليمنى منهما؛ ليسندَ بطنه إلى فخذه اليمنى، فلا يحصل له الامتلاءُ المنهيُّ عنه لعدم افتراش البطن. وفي "الرعاية": أو يتربع (¬3). وفي "الفتح" للحافظ ابن حجر في صفة الجلوس للأكل: المستحبُّ أن يكون جاثيًا على ركبتيه، وظهورِ قدميه، أو يجلس وينصب الرجل اليمنى، ويجلس على اليسرى (¬4). وقال ابن القيم في "الهدي": ويُذكر عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يجلس مُتَوَرِّكًا على ركبتيه، ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر اليمنى؛ تواضعًا لله، وأدبًا بين يديه. قال: وهذه الهيئة أنفعُ هيئات الأكل وأفضلُها؛ لأن الأعضاء كلَّها تكون ¬

_ (¬1) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (6743)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬2) رواه البخاري (5131)، كتاب: الأطعمة، باب: القران في التمر، ومسلم (2045)، كتاب: الأشربة، باب: نهي الآكل مع جماعة عن قران تمرتين ونحوهما في لقمة إلا بإذن أصحابه، بلفظ: "نهى عن القران، إلا أن يستأذن الرجل أخاه". (¬3) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 305). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 542).

على وضعها الطبيعي الذي خلقها الله تعالى عليه (¬1). * ويسمي اللهَ تعالى عند إرادة الأكل قبل أن يضع يده في الطعام، وفي الشراب قبل أن يضع الإناء على فيه، فيقول: باسم الله، وهي بركة الطعام، فيكفي القليل معها، ولا يكفي الكثير بدونها؛ لما روى أبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح، عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكل طعامه في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي، فأكله بلقمتين، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أما إنه لو سَمَّى، كفاكم" رواه ابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، وزاد: "فإذا أكل أحدُكم طعامًا، فليذكرِ اسمَ الله عليه، فإن نسي في أوله، فليقل: باسم الله أوله وآخره"، وهذه الزيادة عند أبي داود وابن ماجه مفردة (¬2). قال النووي: والتسميةُ هنا -يعني: في الأكل والشرب- مجمَعٌ على استحبابها، انتهى (¬3). * وينبغي أن يجهر بالبسملة؛ لينبه غيره، وليسمع الشيطان ذكر الله، فيهرب. قال في "الآداب الكبرى": ولم يذكره الأصحاب، وله مناسبة، انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (4/ 221). (¬2) رواه أبو داود (3767)، كتاب: الأطعمة، باب: التسمية على الطعام، والترمذي (1858)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في التسمية على الطعام، وابن ماجه (3264)، كتاب: الأطعمة، باب: التسمية عند الطعام، وابن حبان في "صحيحه" (5214). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 188 - 189). (¬4) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 313).

وأقل ذلك أن يُسمع نفسَه حيث لا مانع. قال ابن أبي داود في كتابه "تحفة العباد وأدلة الأوراد": اتفق العلماء على أنه لا يُحسب للذاكر شيء من الأذكار الواردة حتى يتلفظ به بحيث يُسمع نفسَه إذا كان صحيحَ السمع. * فإذا انتهى الآكل من أكله، فيسن له أن يحمد الله؛ لما في حديث معاذ بن أنس - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من أكل طعامًا، ثم قال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام، ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة، غُفر له ما تقدَّمَ من ذنبه" رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه، وابن ماجه (¬1). وأخرج مسلم، والترمذي، والنسائي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكلَ الأكلةَ فيحمده عليها، ويشربَ الشربة فيحمده عليها" (¬2). والأكلة -بفتح الهمزة-: المرةُ الواحدة من الأكل، وقيل: -بضم الهمزة-، وهي اللقمة (¬3). وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل أو شرب، قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وجعلنا مسلمين" رواه الإمام أحمد، وغيره (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4023)، كتاب: اللباس، باب: (1)، والترمذي (3458)، كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا فرغ من الطعام، وابن ماجه (3285)، كتاب: الأطعمة، باب: ما يقال إذا فرغ من الطعام. (¬2) رواه مسلم (2734)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب، والترمذي (1816)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الحمد على الطعام إذا فرغ منه، والنسائي في "السنن الكبرى" (6899). (¬3) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 107)، عقب حديث (3271). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 32)، وأبو داود (3850)، كتاب: =

وفي "البخاري" عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع مائدته، قال: "الحمدُ لله كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيه غيرَ مَكْفِيٍّ ولا مُوَدَّع ولا مُسْتَغْنًى عنه" (¬1). وفي رواية: كان إذا فرغ من طعامه قال: "الحمدُ لله الذي كفانا وآوانا غيرَ مَكْفِيٍّ ولا مكفورٍ رَبّنا" (¬2). ومكفي -بفتح الميم وتشديد الياء- هذه الرواية الصحيحة الفصيحة. ورواه أكثر الرواة بالهمز. وقال النووي: وهو فاسد من جهة العربية، سواء كان من الكفاية، أو كَفَأْتُ الإناءَ، كما لا يقال في مَرْميّ: مرميء -بالهمز-. قال في "المطالع": المرادُ بهذا المذكور كلِّه: الطعام، وإليه يعود الضمير، ومعنى غير مكفورٍ؛ أي: غير مجحودةٍ نعمُ الله تعالى، بل مشكورة غيرُ مستورٍ الاعترافُ بها، والحمدُ لله عليها (¬3). وقال الخطابي: المرادُ بهذا الدعاء كلِّه: الباري -سبحانه وتعالى-، والضمير يعود إليه، ومعنى قوله: "غير مكفي": أنه يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ، وقوله: "ولا مُوَدَّع": أي: غير متروكٍ الطلبُ منه والرغبةُ إليه (¬4)، وينتصب ¬

_ = الأطعمة، باب: ما يقول الرجل إذا طعم، والترمذي (3457)، كتاب: الدعوات، باب: ما يقول إذا فرغ من الطعام، وابن ماجه (3283)، كتاب: الأطعمة، باب: ما يقال إذا فرغ من الطعام. (¬1) رواه البخاري (5142)، كتاب: الأطعمة، باب: ما يقول إذا فرغ من طعامه. (¬2) رواه البخاري (5142)، كتاب: الأطعمة، باب: ما يقول إذا فرغ من طعامه. (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 345). (¬4) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 261).

"رَبَّنا" على هذا بالاختصاص والمدح، أو بالنداء؛ كأنه قال: يا رَبَّنا اسمع حمدنا ودعاءنا"، من رفعه، قطعه، وجعله خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: ذلك هو ربُّنا، أو أنت ربُّنا، ويصح جره على البدل من اسم الجلالة في قوله: "الحمد لله" (¬1). وفي "سنن النسائي"، و"كتاب ابن السني" بإسناد حسن، عن عبد الرحمن بن جبير التابعي: أنه حدثه رجل خدمَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ثماني سنين: أنه كان يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قُرِّبَ إليه طعام يقول: "باسم الله"، فإذا فرغ من طعامه، قال: "اللهم أَطعمتَ وسقيتَ وأَغنيتَ وأقنيتَ وهديتَ واجتبيتَ، فلك الحمدُ على ما أعطيت" (¬2). * ويندب تصغيرُ اللقم، وإجادة المضغ (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما لم يكن ثَمَّ ما هو أهم من الإطالة. قال ابن تيمية: هذه المسألة لم أجدها مأثورة، ولا عن أبي عبد الله الإمام أحمد - رضي الله عنه - مذكورة، لكن فيها مناسبة. قال: ونظير هذا ما ذكره الإمام أحمد من استحباب تصغير الأرغفة، وذكر بعض أصحابنا استحباب تصغير الكبير، وذلك عند الخَبز، وعند الوضع، وعند الأكل (¬4). قلت: ويُستدل لتصغير الأرغفة بما رواه البزار بسندٍ ضعيف، والطبراني ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 345). (¬2) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (6898)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (465). (¬3) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 308). (¬4) المرجع السابق، (3/ 308 - 309).

عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: "قوتوا طعامكم يباركْ لكم فيه". قال إبراهيم بنُ عبد الله بنِ الجنيد أحدُ رواته: سمعت بعض أهل العلم يفسر هذا، قال: هذا تصغير الأرغفة (¬1). وفي "نهاية ابن الأثير": ويحكى عن الأوزاعي: أنه تصغيرٌ الأرغفة (¬2). قال في "السيرة الشامية": قال شيخُنا أبو الفضل أحمدُ بنُ الخطيب -رحمه الله-: تتبعت هل كانت أقراص خبزه - صلى الله عليه وسلم - صغارًا أم كبارًا، فلم أجد في ذلك شيئًا بعدَ الفحص، وأما حديث: "صَغِّروا الخبزَ، وَكثِّروا عَدَدَهُ يُبارَكْ لكم فيه"، فرواه الديلمي، وسنده واه (¬3)، انتهى. قلت: ذكره الحافظ ابن الجوزي في "الموضوعات" (¬4)، وقال: تتبعت هل كان خبز النبي - صلى الله عليه وسلم - صغيرًا أو كبيرًا، فلم أر فيه شيئًا. قال ابن الجوزي: ولا يمدُّ الآكلُ يدَه إلى اللقمة الأخرى حتى يبتلعَ ما قبلَها، ومثله في "الآداب" لابن مفلح (¬5). * ويستحبُّ للآكل أكلُ فُتاتٍ ساقطٍ من الطعام على مَحَلٍّ طاهر أولا، وكانا جافَّين؛ لما روى ابن ماجه، والحكيم الترمذي عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: دخل عليّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - البيتَ، فرأى كسرةً ملقاةً، فأخذها ¬

_ (¬1) رواه البزار في "مسنده" (5/ 35 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والطبراني في "مسند الشاميين" (1472). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 119). (¬3) ورواه أبو بكر الإسماعيلي في "معجم شيوخه" (2/ 569 - 570)، من حديث عائشة -رضي الله عنها-. (¬4) رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 292). (¬5) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 309).

فمسحَها، ثم أكلها، وقال: "يا عائشة! أَحْسِني جِوارَ نِعَمِ الله؛ فإنها ما نَفَرَتْ عن قومٍ فعادَتْ إليهم" (¬1). وأما حديث أبي سكـ[ـيـ]ـنة، عند الطبراني (¬2)، وحديثُ عبدِ الله بنِ أم حَرام عند الطبراني أيضًا، والبزارِ مرفوعًا (¬3): "أكرموا الخبزَ"، زاد أبو سكـ[ـيـ]ـنة: "فإن الله تعالى أكرمَهُ، فمن أكرمَ الخبزَ، أكرمه اللهُ"، زاد عبد الله: "فإن الله أنزله من بركات السماء، وسخّر له بركاتِ الأرض، ومن تتبع ما يسقط من السفرة، غفر له"، فأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" من حديث أبي موسى، وبريدة، وعبد الله بن أم حرام، وأبي هريرة، وحكم عليه بالوضع (¬4)، وتعقبه السيوطي بأن الحاكم أخرجه من حديث عائشة -رضي الله عنها-، وصححه، وأقره الذهبي، والبيهقي في "الشعب" (¬5)، ومن حديث أبي سكـ[ـيـ]ـنة أخرجه الطبراني في "الكبير" (¬6). وقال [ابن الديبع] (¬7) تلميذُ الحافظ السخاوي في كتابه "التمييز": حديث: "أكرموا الخبز" له طرق كلها ضعيفة مضطربة، وبعضُها أشدُّ من بعض في الضعف، قال: وقال شيخنا: لا يتهيأ الحكمُ عليه بالوضع، ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (3353)، كتاب: الأطعمة، باب: النهي عن إلقاء الطعام، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" (2/ 264). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 235). (¬3) رواه الطبراني في "مسند الشاميين" (15). (¬4) انظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (2/ 290 - 291). (¬5) رواه الحاكم في "المستدرك" (7145)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5869). (¬6) تقدم تخريجه قريبًا. وانظر: "اللآلىء المصنوعة" للسيوطي (2/ 213 - 217). (¬7) في الأصل: "الربيع"، والصواب ما أثبت.

ولاسيما في "المستدرك" للحاكم عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكرموا الخبز"، انتهى (¬1). * ويُستحَبُّ تخليلُ الأسنان من بقايا الطعام، فيتتبع ذلك بالخلال، ويلقيه. قال الإمام ابن القيم: الخلالُ نافعٌ لِلِّثَة والأسنان، حافظ لصحتها، نافع من تغيير النكهة. قال: وأجودُ [هُ]، ما اتخذ من عيدان الأخِلَّة، وخشب الزيتون، والخلات، انتهى (¬2). قال الشيخ عبد القادر -قدّس الله روحه-: يكره التخلُّل على الطعام، ولا يخلل بقصبٍ، ولا رمانٍ، ولا ريحان، ولا طرفاء، ونحو ذلك؛ لأنه مضر. وفي "الآداب" لابن مفلح: ويخلل أسنانه بعد الأكل إن علقَ بها شيء (¬3). روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنه قال: تركُ الخلال يوهِنُ الأسنان، ورفعه بعضهم (¬4). وروى أبو نُعيمٍ الحافظُ وغيرُه من رواية واصلِ بنِ السائب، وهو ضعيف، عن أبي أيوب مرفوعًا: "حَبَّذا المتخلِّلون من الطعام، وتَخَلَّلوا من ¬

_ (¬1) انظر: "تمييز الطيب من الخبيث" لابن الديبع (ص: 27). (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (4/ 307). (¬3) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 316). (¬4) ذكره السَّامري في "المستوعب"، كما نقله ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (3/ 316).

الطعام؛ فإنه ليس شيء أشدَّ على المَلَكِ الذي على العبد أن يجدَ من أحدِكم ريحَ الطعام" (¬1). وفي "الهدي" للإمام المحقق ابن القيم: ورد في الخلال حديثان لم يصحا، فذكر هذين الحديثين، انتهى (¬2). قال علي القاري: حديث "حبذا المتخلِّلون من أمتي". قال الصغاني: وضعُه ظاهرٌ، وفسره بتخليل الأصابع في الوضوء، وبالتخليل بعد الطعام (¬3). ويلقي ما يُخرجه الخلال من الخُلالة -كثمامة-. روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أكل، فما تخلل، فليلفظْه، ومن لاك بلسانه، فليبتلعْ، من فعلَ، فقد أحسنَ، ومن لا، فلا حرجَ عليه" (¬4). فيكره ابتلاع ما يُخرجه الخلال، لا ما يخرجه اللسان. * ويستحب غسلُ اليدين قبل الطعام وبعده؛ لما في آخر حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "بركةُ الطعام الوضوءُ قبله، والوضوءُ بعده" رواه أبو داود، والترمذي (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (4061)، وكذا ابن أبي شيبة في "مسنده" (2/ 291 - "المطالب العالية" لابن حجر)، وغيرهما. (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (4/ 306). (¬3) وانظر: "كشف الخفاء" للعجلوني (1/ 412). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 371)، وأبو داود (35)، كتاب: الطهارة، باب: الاستتار في الخلاء، وابن ماجه (337)، كتاب: الطهارة، باب: الارتياد للغائط والبول. (¬5) رواه أبو داود (3761)، كتاب: الأطعمة، باب: في غسل اليد قبل الطعام، =

قال الإمام أحمد: ما حدّث بهذا الحديث إلا قيسُ بنُ الربيع، وهو منكَر الحديث، وقد ضعّف قيسًا هذا جماعةٌ، ووثقه آخرون. قال الحافظ المنذري: ولا يخرج عن حَدِّ الحَسن (¬1). وعن أنس بن مالك مرفوعًا: "من أحبَّ أن يكثر الله خيرَ بيته، فليتوضأ إذا حضر غذاؤه، وإذا رفع" رواه ابن ماجه، والبيهقي بإسناد ضعيف (¬2)، والمراد بالوضوء: غسل اليدين (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدّس الله روحه-: لم نعلم أحدًا استحبَّ الوضوء للأكل إلا إذا كان جنبًا (¬4). واعلم: أن غسل اليدين بعد الطعام مسنون، رواية واحدة، ومعتمد المذهب: وقبله، لكن يتقدّم ربُّ الطعام به قبل الطعام، ويتأخر به بعده (¬5)، وقد ذكرنا في ذلك طرفًا صالحًا في كتابنا "غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب" (¬6)، والله الموفق. ¬

_ = والترمذي (1846)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الوضوء قبل الطعام وبعده. (¬1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 108 - 109)، عقب حديث (3274). (¬2) رواه ابن ماجه (3260)، كتاب: الأطعمة، باب: الوضوء عند الطعام، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5806). (¬3) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 109)، حديث (3275). (¬4) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 371). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 404). وانظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 371). (¬6) انظر: "غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب" للشارح -رحمه الله- (2/ 67).

باب الصيد

باب الصيد وهو في الأصل مصدر صاد يصيد صَيْدًا، فهو صائد، ثم أُطلق الصيد على المَصيد؛ تسميةً للمفعول بالمصدر؛ كقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، والصيد: ما كان ممتنعًا حلالًا لا مالك له (¬1). وذكر الحافظ -رحمه الله تعالى- في هذا الباب أربعة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 385).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّا بأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ في آنِيَتِهِمْ؟ وَفِي أَرْضٍ أَصِيدُ بقَوْسِي وَبكَلْبِيَ الَّذِي لَيْسَ بمُعَلَّمٍ، وِبكَلْبِيَ المُعَلَّمِ، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ فَقَالَ: "أَمَّا مَا ذَكرْتَ: مِنْ آنِيَةِ أَهْلَ الكِتَابِ، فَإنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا، فَلا تَأْكُلُوا فِيهَا، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا، فَاغْسِلُوهَا، وَكلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بقَوْسِكَ، فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بكَلْبِكَ المُعَلَّمِ، فَذَكرْت اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ المُعَلَّمِ، فَأَدْرَكْتَ ذَكاتَهُ، فَكُلْ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5161)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: ما أصاب المعراض بعرضه، و (5170)، باب: ما جاء في التصيد، و (5177)، باب: آنية المجوس والميتة، ومسلم (1930)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، وأبو داود (2855 - 2856)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد، والنسائي (4266)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: صيد الكلب الذي ليس بمعلم، والترمذي (1464)، كتاب: الصيد، باب: ما جاء: ما يؤكل من صيد الكلب وما لا يؤكل، وابن ماجه (3207)، كتاب: الصيد، باب: صيد الكلب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 291)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 364)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 213)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 81)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 194)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1606)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 605)، =

(عن أبي ثعلبة) جُرْهمِ بنِ ناشبٍ (الخُشَني) -بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين فنون- نسبةً إلى خُشينة؛ كجُهينة، بطن من قضاعة -كما تقدم- (- رضي الله عنه -، قال: أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب) يعني: الشام، وكان جماعة من قبائل العرب قد سكنوا الشام وتنصروا، منهم: آل غسان، وتنوخ، وبهرة، وبطون من قضاعة، منهم: بنو خُشَين آل أبي ثعلبة، (أفنأكل) معشرَ المسلمين (في آنيتهم) جمع إناء، والأواني جمع آنية، (و) أنا (في أرض) صيد، (أصيدُ) منها (بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم)، (و) أصيد (بكلبي المعلم، فما يصلح)؛ أَي: يحل (لي) من ذلك كله؟ فأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترتيب سؤاله الأول، (فقال: أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها)، فكلوا فيما وجدتم من الأواني غير آنية أهل الكتاب، ودعوا آنيتهم (فلا تأكلوا فيها) احتياطًا؛ لكثرة استعمالهم النجاسة، حتى إن منهم من يتدين بملامستها. وقد اختلف الفقهاء في ذلك بناءً على تعارض الأصل والغالب: فقال قوم بوجوب غسل آنية أهل الكتاب لمن أراد استعمالها. ومشى عليه ابن حزم معتمدًا ظاهريته، فقال: لا يجوز استعمالُ آنية أهل الكتاب إلا بشرطين: أحدهما: أَلَّا يجد غيرها، والثاني: غسلها. وقالوا في تعليل ذلك: إن الظن المستفاد من الغالب راجح على الظن المستفاد من الأصل (¬1). وأجاب من قال بأن الحكم الأصل حتى يتحقق النجاسة بجوابين: ¬

_ = و"عمدة القاري" للعيني (21/ 95)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 258)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 4). (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 194).

أحدهما: أن الأمر بالغسل محمول على الاستحباب احتياطًا؛ جمعًا بينه وبين ما دلّ على التمسك بالأصل. والثاني: أن المراد بحديث أبي ثعلبة: حال من تحقق النجاسة فيه، ويؤيده ما في بعض طرقه من ذكر المجوس؛ فإن آنيتهم نجسة؛ لكونهم لا تحل ذبائحهم (¬1)، كما عند الترمذي من طريقٍ أخرى عن أبي ثعلبة: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قدور المجوس: فقال: "أَنقوها غسلًا، واطبخوا فيها" (¬2). وفي لفظ من وجهٍ آخر عن أبي ثعلبة: قلت: إنا نمر بهذا اليهود والنصارى والمجوس، فلا نجد غير آنيتهم (¬3). وقال النووي: المراد بالآنية في حديث أبي ثعلبة: آنية من يطبخ فيها لحم الخنزير، ويشرب فيها الخمر؛ كما وقع التصريح به في رواية أبي داود: إنا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال، فذكر هذا الحديث (¬4). وأما الفقهاء: فمرادهم مطلق آنية الكفار التي ليست مستعملة في النجاسة (¬5)، فإنه يجوز استعمالها، ولو لم تغسل عندهم، وإن كان غسلُها أولى؛ خروجًا من الخلاف، لا لثبوت الكراهة في ذلك. ويحتمل أن يكون استعمالها بلا غسل مكروهًا، وهو الظاهر من الحديث، وأن استعمالها مع الغسل رخصة إذا وجد غيرها، فإن لم يجد، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 606). (¬2) رواه الترمذي (1796)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الأكل في آنية الكفار. (¬3) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1464). (¬4) رواه أبو داود (3839)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل في آنية أهل الكتاب. (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 80).

جاز بلا كراهة؛ للنهي عن الأكل فيها مطلقًا، وتعليق الإذن على عدم غيرها مع غسلها، وتمسك بهذا بعض المالكية (¬1). وفي "فروع" العلامة ابن مفلح: ثيابُ الكفار وآنيتهم مباحة إن جهل حالها؛ وفاقًا لأبي حنيفة. وعن الإمام أحمد: هي مكروهة؛ وفاقًا لمالك والشافعي. وعن الإمام أحمد: المنع فيما ولي عوراتهم، وممن تحرم ذبيحته، وكذا حكم ما صبغوه، وآنية من لابس النجاسة كثيرًا، وثيابه. وقيل للإمام أحمد عن صبغ اليهود بالبول، فقال: المسلم والكافر في هذا سواء، ولا تسأل عن هذا، ولا تبحث عنه، فإن علمت، فلا تصلِّ فيه حتى تغسله. واحتج غير واحد بقول عمر - رضي الله عنه -: نهانا الله عن التعمق والتكلف (¬2)، وبقول ابن عمر -رضي الله عنهما- في ذلك: نُهينا عن التكلف والتعمق. وسأل أبو الحارث الإمام أحمد عن اللحم يُشترى من القصاب، قال: يغسل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: غسلُه بدعة (¬3). (فإن لم تجدوا) غيرها، (فاغسلوها) غسلًا منقيًا، (وكلوا فيها) أمر إباحة. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 606). (¬2) رواه البخاري (6863)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، بلفظ: نهينا عن التكلف. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 72).

(و) أما ما ذكرت من صيدك بقوسك وكلبك، فـ (ما صدت بقوسك، فذكرت اسم الله عليه)؛ بأن تقول عند إطلاق السهم من القوس: باسم الله، (فكل). تمسَّك به علماؤنا ومَنْ وافقهم في إيجاب التسمية على الصيد بالقوس، وكذا بالكلب؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ثعلبة: (وما صدت بكلبك المعلم)، ويأتي محترزه في الحديث، (فذكرت اسم الله عليه)؛ بأن تبسمل، (فكل)، والعلماء مجمعون على مشروعيتها، إلا أنهم اختلفوا في كونها شرطًا في حل الأكل. فمعتمد مذهب الإمام أحمد على الراجح في مذهبه الذي لا يفتى بغيره، وهو مذهب أبي ثور وطائفة: أنها واجبة؛ يعني: لا تسقط عمدًا ولا سهوًا ولا جهلًا، فمن تركها عند إرخاء الآلة إلى الصيد، فوجد المصيدَ ميتًا، فهو ميتة لا يحل أكله؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - جعلها شرطًا في الحديث، ولأن الأصل تحريم الميتة، إلا ما أذن الشارع فيه منها، وما أذن فيه منها، يراعي صفته، فالمسمى عليها وافق الوصف، وغير المسمى باقٍ على أصل التحريم. وذهب الشّافعيّ وطائفة، وهو رواية عن مالك وأحمد: إلى أنها سنّة، فمن تركها سهوًا أو عمدًا، لم يقدح في حل الأكل. وذهب أبو حنيفة، ومالك، والثوري، وجمهور العلماء: إلى الجواز لمن تركها سهوًا لا عمدًا. لكن اختلف عن المالكية هل يحرم أو يكره؟ وعند الحنفية: يحرم. وعند الشّافعيّة في العمد ثلاثة أوجه:

أصحها: يكره الأكل. وقيل: خلاف الأولى. وقيل: يأثم بالترك، ولا يحرم الأكل؛ كما في "الفتح" (¬1). وفي الحديث: دليلٌ على إباحة الاصطياد بالكلاب المعلمة، لكن استثنى الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه الكلبَ الأسودَ البهيم، وهو ما لا لون فيه سوى السواد، فقال: لا يحل الصيد؛ لأنه شيطان. ونقل عن الحسن وإبراهيم وقتادة نحو ذلك (¬2). قال علماؤنا: ولا يخرج عن كونه أسود بهيمًا بالنكتتين اللتين تكونان بين عينيه. قالوا: يحرم اقتناؤه وتعليمه، ويسن قتله، ولو كان معلمًا؛ كالخنزير، ويحرم الانتفاع به (¬3). (وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت) المصيد حيًا حياة مستقرة، فقد أدركت (ذكاته)، فلا يحل إلا بالتذكية، فإذا ذكيته بالذبح الشرعي، (فكل)؛ لأنه حلالٌ طيب، لوجود تذكيته، فلو أدرك الصيد ميتًا، لم يحل؛ لعدم وجود شرطه، وهو كون الجارح غير معلم. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 601). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 330).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ هَمَّامِ بْنِ الحَارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أُرْسِلُ الكِلَابَ المُعَلَّمَةَ، فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ، وَأَذْكُرُ اسْمَ اللهِ، فَقَالَ: "إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ، فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ". قُلْتُ: وَإنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: "وَإنْ قَتَلْنَ، مَا لَمْ يَشْرَكْهَا كَلْبٌ لَيْسَ منها". قُلْتُ لَهُ: فَإنِّي أَرْمِي بالمِعْرَاضِ الصَّيْد، فَأصيبُ، فَقَالَ: "إذَا رَمَيْتَ بِالمِعْرَاضِ، فَخَزَقَ، فَكُلْهُ، وإنْ أَصَابَهُ بعرض، فَلَا تَأْكُلْهُ" (¬1). وحديثُ الشعبيِّ عن عديٍّ نحوُه، وفيه: "إِلا أَنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ، فَإنْ أَكَلَ، فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5160)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: ما أصاب المعراض بعرضه، و (6962)، كتاب: التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، ومسلم (1929/ 1)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، واللفظ له، وأبو داود (2847)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد، والنسائي (4267)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إذا قتل الكلب، و (4305)، باب: صيد المعراض، والترمذي (1465)، كتاب: الصيد، باب: ما جاء: ما يؤكل من صيد الكلب وما لا يؤكل.

مِنْ غَيْرِهَا، فَلا تَأْكُلْ (¬1)، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ" (¬2). وَفِيهِ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُكَلَّبَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإنْ أَمْسَكَ عَلَيْهِ، فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا، فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ، فَكُلْهُ (¬3)؛ فَإِنَّ أَخْذَ الكَلْب ذَكَاتُهُ" (¬4). وَفِيهِ أَيْضًا: "إذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ" (¬5). وَفِيهِ أَيْضًا: "فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ -وَفِي رِوَايَةٍ-: اليَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلا أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إنْ شِئْتَ، فَإنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي المَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي المَاءُ قَتَلَهُ، أَوْ سَهْمُك" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5166)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: إذا أكل الكلب، و (5169)، باب: ما جاء في الصيد، ومسلم (1929/ 2)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، وأبو داود (2848)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد، وابن ماجه (3208)، كتاب: الصيد، باب: صيد الكلب. (¬2) رواه البخاري (5168)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: إذا وجد مع الصيد كلبًا آخر، ومسلم (1929/ 3، 5)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، والنسائي (4264)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، و (4269 - 4273)، باب: إذا وجد مع كلبه كلبًا آخر. (¬3) رواه مسلم (1929/ 6)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، دون قوله: "المكلب". (¬4) رواه مسلم (1929/ 4)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، بلفظ: "فإن ذكاته أخذه"، والنسائي (4264)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه. (¬5) رواه مسلم (1929/ 6)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، وأبو داود (2849)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد، والترمذي (1469)، كتاب: الصيد، باب: ما جاء فيمن يرمي الصيد فيجده ميتًا في الماء. (¬6) رواه البخاري (5167)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: الصيد إذا غاب عنه =

(عن همام) -بفتح الهاء وتشديد الميم- (بن الحارث) بنِ قيسٍ الكوفيِّ النخعيِّ التابعيِّ، كان من العُبَّاد التقاة، سمع ابن مسعود، وجرير بن عبد الله، وعائشة، والمقداد، وحذيفة، وعمارًا، وعديَّ بنَ حاتم، وغيرَهم -رضي الله عنهم- (¬1). (عن عديِّ) يكنى: أبا طريف -بفتح الطاء المهملة وكسر الراء-، وقيل: أبا وهب (بنِ حاتم) بنِ عبدِ الله بنِ سعدٍ الطائيِّ، من ولد طيىء بن أدد. قدم عدي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان سنة ست، وقيل: سبع، وقيل: تسع، وقيل: عشر، فأسلم، وكان نصرانيًا. ¬

_ = يومين أو ثلاثة، ومسلم (1929/ 6 - 7)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 289)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 251)، و "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 356)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 212)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 73)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 198)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1614)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 341)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 610)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 45)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 81)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 5). (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 118)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 236)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (9/ 106)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 510)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 178)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 35)، و"تهذيب الكمال" للمزي (30/ 297)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 283)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (11/ 58).

روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وستون حديثًا، اتفقا منها على ثلاثة، وانفرد مسلم بحديثين. نزل الكوفة، وسكنها، وفقئت عينه يوم الجمل مع علي (- رضي الله عنه -)، وشهد مع علي أيضًا: صفين، وشهد النهروان. ومات عدي - رضي الله عنه - بالكوفة سنة ثمان وستين، أو سبع، أو ست، أو تسع، على خلافٍ في ذلك، وهو ابن مئة وعشرين سنة. وفي كتاب "المعمرين" لأبي حاتم السجستاني: أنه عاش مئة وثمانين سنة (¬1). قال ابن قتيبة: وكان عدي طويلًا، إذا ركب الفرس، تكاد رجله تخط الأرض، وأبوه حاتم هو المشهور بالجود، وكان هو أيضًا جوادًا، وثبت عدي وقوفه على الإسلام في أيام الردة، واحتال بحيلة ظريفة حتى أوصل صدقة قومه إلى الصديق، فحصل بها الانتفاع العظيم من تجهيز الجيوش للغزاة، ولهذا [لما] (¬2) قال عدي - رضي الله عنه - لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما في "الصحيحين": أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 22)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 43)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (7/ 2)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1057)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 189)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (40/ 66)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 7)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 301)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 524)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 162)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 469)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (7/ 150). (¬2) ما بين معكوفين سقط من "ب".

بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا. قلت: فلا أبالي إذًا (¬1). ولفظ البخاري: قال عدي: أتيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أناسٍ من قومي، فجعل يفرض [حتى] (¬2) للرجل من طي في ألفين، ويعرض عني، قال: فاستقبلته، فأعرض عني، ثم أتيته من حيال وجهه، فأعرض عني، فقلت: يا أمير المؤمنين! أتعرفني؟ قال: فضحك، ثم قال: نعم، والله! إني لأعرفك، آمنت إذ كفروا، فذكر نحوه وزاد: وإن أول صدقة بيضت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجوه أصحابه صدقة طيىء جئت بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أخذ يعتذر، ثم قال: إنما فرضتُ لقومٍ أجحفت بهم الفاقة، وهم سادة عشائرهم لما ينوبهم من الحقوق. فقال عدي: فلا أبالي إذن (¬3). (قال) عدي - رضي الله عنه -: (قلت: يا رسول الله! إني أرسل الكلاب ¬

_ (¬1) انظر: "المعارف" لابن قتيبة (ص: 313). والحديث رواه البخاري (4133)، كتاب: المغازي، باب: قصة وفد طيىء، وحديث عدي بن حاتم. (¬2) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬3) قلت: ما ساقه الشارح -رحمه الله- في هذا الحديث، وعزوه للبخاري، إنما نقله عن الإمام النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 302) حيث قال: روينا في "صحيحي البخاري ومسلم"، واللفظ للبخاري، عن عدي بن حاتم، قال .. فذكره، كما نقله الشارح هنا. ولفظ البخاري الذي ساقه في "صحيحه" هو ما تقدم آنفًا برقم (4133)، ورواه مسلم (2523)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل غفار وأسلم وجهينة، مختصرًا. والحديث بالسياق الذي ذكره النووي -رحمه الله- وعنه نقله الشارح، رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 45)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 10)، وغيرهما.

المعلمة) للصيد، (فيمسكن) الصيد (علي، وأذكر اسم الله) تعالى عند إرسالي لها بأن أقول: باسم الله، (فقال) - صلى الله عليه وسلم - مجيبًا لعدي عن سؤاله: (إذا أرسلت كلبك المعلم)، والمراد بالكلب المعلم، ومثله الفهد، وكل ما يصيد بنابه: ما اجتمع فيه ثلاثة أشياء: يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر. قال علماؤنا: لا في حال مشاهدته الصيد، وإذا أمسك لم يأكل (¬1)، والرابع من شروط حل صيد الكلب ونحوه: إذا ما لحقه إلا بعد الزهوق بما أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله لعدي بن حاتم - رضي الله عنه - مجيبًا له عن سؤاله: (وذكرت اسم الله عليه)؛ أي: كلبك المعلم، فإذا كانت هذه الشروط، (فكل) منه؛ فإنه حلال، ولابد للحل من كون الجارح جرح الصيد، فإنه قتله بصدمته، أو خنقه، لم يبح على معتمد المذهب (¬2). قال في "الفتح": المراد بالمعلمة: التي إذا أغراها صاحبها على الصيد، طلبته، وإذا زجرها، انزجرت، وإذا أخذت الصيد، حبسته على صاحبها. قال: وهذا الثالث مختلف في اشتراطه، واختلف متى يعلم ذلك منها؟ (¬3). فمعتمد مذهب أحمد: أنه لا يعتبر تكراره، بل يحصل بمرة، فإن أكل بعد تعليمه، لم يحرم ما تقدم من صيد، ولم يبح ما أكل منه، ولم يخرج ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 330). (¬2) المرجع السابق، (4/ 331). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600).

عن كونه معلمًا، فيباح ما صاده بعد الصيد الذي أكل منه، وإن شرب دمه، ولم يأكل منه، لم يحرم (¬1). وقال البغوي من الشّافعيّة في "التهذيب": أقل ما يعلم به كون الكلب صار معلمًا: أن يتكرر وقوع ما اعتبر منه ثلاث مرات فصاعدًا. وعن أبي حنيفة: يكفي مرتين. وقال الرافعي: لم يقدره المعظم؛ لاضطراب العرف، واختلاف طباع الجوارح، فصار المرجع إلى العرف (¬2). ووقع في رواية مجالد عن الشعبي، عن عدي - رضي الله عنه - في هذا الحديث عند أبي داود والترمذي ما لفظه عند أبي داود: "ما عَلَّمْتَ من كلب أو بازٍ، ثم أرسلته، وذكرتَ اسم الله، فكل (ما أمسك عليك) " (¬3)، ولفظ الترمذيّ: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيد البازي، فقال: "ما أمسك عليك، فكل" (¬4). قال عدي - رضي الله عنه -: (قلت) للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإن قتلنَ) الصيد [كلبي] (¬5)، فلم تدركه إلا بعد زهوق روحه، (قال) - صلى الله عليه وسلم -: (وإن قتلنَ) الصيد فلم تدركه إلا بعد زهوقه (ما لم يشركها)؛ أي: كلابك المعلمة التي سَمَّيْتَ عليها عند إرسالها [للصيد] (¬6) في قتل الصيد (كلبٌ ليس) هو (منها)، أي: ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 331). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600). (¬3) رواه أبو داود (2851)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد. (¬4) رواه الترمذي (1467)، كتاب: الصيد، باب: ما جاء في صيد البزاة. (¬5) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬6) ما بين معكوفين سقط من "ب".

من كلابك، فوجدتها وقد قتلت الصيد، فلا تأكله؛ لإعانة غيرها مما لا يحل صيدُه؛ لعدم استيفاء الشروط فيه على قتله تغليبًا لجانب الحظر. ومحل ذلك ما إذا كان المشارك قد استرسل بنفسه، أو أرسله مَنْ ليس من أهل الذكاة، فإن تحقق أنه أرسله مَنْ هو من أهل الذكاة، وقد أتى بالتسمية، وكان معلمًا، حل. ثم إن كان الكلبان قتلاه معًا، فهو لصاحبيهما، وإن علم أن أحدهما قتله، فهو لصاحبه، وإن جهل الحال، حل أكله. ثم إن كان الكلبان متعلقين به، فهو بينهما، وإن كان أحدهما متعلقًا به، فهو لصاحبه، وعلى من حكم له به اليمين. وإن كان الكلبان ناحيةً، وقف الأمر حتى يصطلحا، فإن خيف فساده، بيع، واصطلحا على ثمنه (¬1). قال أبو عيسى الترمذيّ: أهل العلم لا يرون بصيد البزاة والصقور بأسًا (¬2)، انتهى. وفي معنى البازي: الصقر، والعقاب، [والباشق] (¬3)، والشاهين. وقد فسر مجاهد الجوارح في الآية بالكلاب والطيور، وهو قول الجمهور، إلا ما روي عن ابن عمر، وابن عباس -رضي الله عنهم- بين صيد الكلب والطير (¬4). وفي "الفتح": فلو قتل -يعني: الجارح- الصيدَ بظفره أو نابه، حلَّ. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 327). (¬2) انظر: "سنن الترمذي" (4/ 66). (¬3) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600 - 601).

قال: وكذا بثقله على أحد القولين للشافعي، وهو الراجح عندهم (¬1). وهو قول عندنا اختاره ابن حامد، وأبو محمد الجوزي. وإن أدرك الصياد الصيد وفيه حياة غير مستقرة، بل متحركًا كحركة المذبوح، لم يحتج إلى ذكاة. وكذا لو كان فيه حياة مستقرة فوق حركة المذبوح، ولكن لم يتسع الوقت لتذكيته، فإن اتسع لها، لم يبح إلا بها، فإن خشي موته، ولم يجد ما يذكيه به، لم يبح، ولو امتنع الصيد على الصائد من الذبح بأن جعل يعدو منه حتى مات تعبًا (¬2)، حل. وفهم من قوله: "فكل ما أمسك عليك"، وفي لفظ: "مما أمسك عليك"، وهو كقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، فإن مقتضاها: أن الذي يمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضًا بالشواهد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عند الإمام أحمد: "إذا أرسلت الكلب، فأكله الصيد، فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، وإذا أرسلته، فقتل، ولم يأكل، فإنما أمسكه على صاحبه" (¬3)، وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس (¬4)، وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع، نحوه، بمعناه (¬5)، ولو كان مجرد الإمساك كافيًا، لما احتيج إلى زيادة {عَلَيْكُمْ}. قال الجمهور: معنى قول: {أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}: صدن لكم، وقد جعل ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (9/ 601). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 325 - 326). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 231). (¬4) رواه البزار في "مسنده" (4/ 31 - "مجمع الزوائد" للهيثمي). (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (19585).

الشارع أكله منه علامة على أنه أمسك لنفسه، لا لصاحبه، فلا يعدل عن ذلك. ولم يشترط مالك في التعليم عدم الأكل، والأحاديث الصحيحة دالة على اشتراط ذلك، فلا يعدل عنه (¬1). فائدة: استدل بعض أهل العلم بالحديث على طهارة سؤر كلب الصيد دون غيره من الكلاب؛ للإذن في الأكل من الموضع الذي أكل منه، ولم يذكر الغسل، ولو كان واجبًا، لبيّنه؛ لأنه وقت الحاجة إلى البيان. وقال بعضهم: يعفى عن بعض الكلب؛ ولو كان نجسًا لهذا الحديث. قلت: وقد صرح علماؤنا وغيرهم بوجوب غسل ما أصابه فم الكلب، وأجابوا عن ظاهر إطلاق الحديث بأن وجوب الغسل كان قد اشتهر عندهم حتى صار معلومًا لهم، فاستغنى عن ذكره (¬2). (قال) عدي - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فإني أرمي بالمِعْراض)، وهو -بكسر الميم وسكون المهملة وآخره ضاد معجمة-: سهم لا ريش له، ولا نصل، قاله الخليل، وتبعه جماعة. وقال ابن دريد، وتبعه ابن سيده: هو سهم طويل له أربع قذذ رقاق، فإذا رمي به، اعترض. وقال الخطابي: المعراض: نصلٌ عريض له ثقل ورزانة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 602). (¬2) المرجع السابق، (9/ 603). (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (290/ 4).

وقيل: عود رقيق الطرفين غليظ الوسط، وهو المسمى بالحذافة. وقيل: خشبة ثقيلة آخرها عصا محدود [رأسها] (¬1)، وقد لا تحدد (¬2). وقد جزم علماؤنا بأن المعراض عود محدود، وربما جُعل في رأسه حديدة (¬3). وقال ابن التين: المعراض: عصا في طرفها حديدة، يرمي الصائد بها الصيد، فما أصاب بحده، فهو ذكي، وما أصاب بغير حده، فهو وقيذ (¬4)، (الصيد) مفعول أرمي، (فأصيب) -بضم الهمزة- من أصاب؛ أي: أصيب الصيدَ، (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (إذا رميت) الصيد (بالمعراض، فخزق، فكله)، وفي لفظ: "كُلْ ما خَزَقَ" (¬5)، وهو -بفتح الخاء المعجمة والزاي بعدها قاف-؛ أي: نفذ، يقال: سهم خازق؛ أي: نافذ، ويقال: بالسين المهملة بدل الزاي، وقيل: الخزق -بالزاي-، وقد تبدل سينًا: الخدش، ولا يثبت فيه. فإن قيل بالراء، فهو أن يثبته (¬6). وفي "المطالع": وخزق المعراض: ثنى اللحم وقطعه (¬7). وحاصله: أن السهم وما في معناه إذا أصاب الصيد بحده، فجرحه، كانت تلك ذكاته (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600). (¬3) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 305). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600). (¬5) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5160). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600)، وعنده: "يثقبه" بدل "يثبته". (¬7) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 234). (¬8) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600).

(وإن أصابه)؛ أي: أصاب المعراض من الصيد (بعرض) المعراض، (فلا تأكله). وفي رواية: وما أصاب بعرضه، فهو وَقيذ (¬1). والوقيذ -بقاف وآخره ذال معجمة- وزن عظيم، فعيل بمعنى مفعول: ما قُتل بعصًا أو حجر، أو ما لا حدّ له، والموقوذة: التي تضرب بالخشب حتى توقذها فتموت، فإذا أصاب الصيد بعرض المعراض، لم يحل؛ لأنه في معنى الخشبة الثقيلة، والحجر، ونحو ذلك من الثقل (¬2). وقوله: "بعَرْض" أو "عرضه" هو -بفتح العين المهملة-؛ أي: بغير طرفه المحدود، وهو حجة الجمهور في التفصيل المذكور. وعن الأوزاعي وغيره من فقهاء الشام حلُّ ذلك (¬3). قال الحافظ المصنف -رحمه الله، ورضي عنه-: (وحديث) أبي عمرو عامر بن شراحيل بن عبد الله، وقيل: ابن عبد الله بنِ شراحيل (الشعبي) -بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة وبالياء الموحدة- منسوب إلى شَعْب، وهو بطن من همذان. وقال الجوهري: هذه النسبة إلى جبل باليمن يقال له شَعْب، نزله حسان بن عمرو الحِمْيَري هو وولدُه، ودُفن به، وهو ذو شعبين ممن كان بالكوفة، منهم قيل لهم: شعبيون، والواحد شعبي، و [من] كان بمصر والمغرب قيل لهم: الأشعوب، والواحد شعوبي، ومن كان منهم بالشام؛ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5158)، وعند مسلم برقم (1929/ 4). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 600). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه.

قيل: شعبانيون، والواحد شعباني، ومن كان منهم باليمن، قيل له: ذو شعبين. قال ابن خلكان عن الشعبي: عداده في همذان، وهو كوفي تابعي، جليل القدر، وافر العلم، روي أن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرّ يومًا وهو يحدث بالمغازي، فقال: شهدت القوم، وإنه أعلم بها مني. وقال الزهري: العلماء أربعة: ابن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام، ويقال: إن الشعبي أدرك خمس مئة -رضي الله عنهم- من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولد الشعبي كما في "تاريخ ابن خلكان" لأربع سنين بقين من خلافة عمر - رضي الله عنه -. قال خليفة بن خياط: ولد الشعبي والحسن البصري في سنة إحدى وعشرين. وقال الأصمعي: سنة سبع عشرة بالكوفة. وكان ضئيلًا، نحيفا، فقيل له يوما: ما لنا نراك ضئيلًا؟ فقال: زوحمت في الرحم، وكان قد ولد هو وأخ آخر في بطن، وأقام في البطن سنين كما في "معارف ابن قتيبة". وفي البرماوي، وابن خلكان أيضًا: أن ولادة الشعبي لست سنين خلت من خلافة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وقيل: سنة عشرين من الهجرة. وروي عنه أنه قال: ولدت سنة جلولاء، وهي -بفتح الجيم وضم اللام ¬

_ (¬1) فقد روى البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 450)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (25/ 349) عنه: أنه قال: أدركت خمس مئة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: علي وطلحة والزبير في الجنة.

ومد آخره-: قرية بناحية فارس، كانت بها الوقعة المشهورة زمن الصحابة -رضي الله عنهم- وكانت سنة تسع عشرة، وقيل سنة إحدى وثلاثين. وتوفي بالكوفة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وقيل: ست، وقيل: سبع، وقيل: خمس ومئة، وكانت وفاته فجأة، وكانت أمه من سبي جلولاء. روى عن: علي بن أبي طالب، وابنيه الحسن والحسين، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بنِ عمرو بنِ نُفيل، وعبدِ الله بن جعفر، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وأسامةَ بنِ زيد، وجابر بن سَمُرَة، وأنسِ بنِ مالك، وغيرِهم من الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-. وروى عنه خلائق، منهم: أبو حنيفة النعمان الإمام، وعبدُ الله بن بريدة، وقتادة، والأعمش سليمان بن مهران، وغيرُهم. وكان الشعبي كثيرًا ما يتمثل بقول مسكين الدارمي: [من الرمل] لَيْسَتِ الأَحْلَامُ فِي حَالِ الرِّضَا ... إِنَّمَا الأَحْلَامُ فِي وَقْتِ الْغَضَبْ (¬1) (عن عديِّ) بنِ حاتم - رضي الله عنه - (نَحْوُه)؛ أي: نحوُ حديثِ همام بن الحارث عن عدي، (وفيه)؛ أي: في حديث الشعبي عن عدي - ¬

_ (¬1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 246) و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 450)، و"المعارف" لابن قتيبة (ص: 449)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 323)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 185)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 310)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (12/ 227)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (25/ 335)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (3/ 75)، و"تهذيب الكمال" للمزي (14/ 28)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 294)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 79)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (3/ 12)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (5/ 57).

رضي الله عنه-، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: إنا قومٌ نصيد بهذه الكلاب، فقال: "إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله، فكل مما أمسكن عليكم، وإن قتلن، (إلا أن يأكل الكلب) من الصيد الذي اصطاده، (فإن أكل) منه، (فلا تأكل) من ذلك الصيد، وعلل ذلك بقوله: (فإني أخاف أن يكون) الكلبُ (إنَّما أمسكَ على نفسه) ليأكله، لا أنه أمسكه عليك، وحينئذٍ لا يحل صيد الكلب ونحوه إذا كان كذلك؛ لأنه غير معلَّم إذن، وأما إذا لم يأكل الكلب من الصيد الذي صاده، وتوفرت فيه الشروط -المتقدم ذكرها-، فيحل أكلُ ما أمسكه على صاحبه، ولو لم يذبح؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن أخذ الكلب ذكاة" كما في "الصحيحين" من حديث عدي - رضي الله عنه -. وتقدم أنه لو وجد فيه حياة مستقرة، لم يحل إلا بتذكيته، فإذا وجده حيًا، وذكاه، حلَّ، ولو كان الكلب غيرَ معلم؛ لأن الاعتماد في الإباحة إذن على التذكية، لا على إمساك الكلب. وأما إذا وجده قد مات، وقد أكل الكلب منه، لم يحل، ولو كان الكلب معلَّمًا؛ لأنه علل في الحديث بالخوف من أنه إنما أمسك على نفسه، وهذا قول الجمهور، والراجح من قولي الشّافعيّ. وقال في "القديم": هو قول مالك، ونقل عن بعض أصحابه الحل، واحتجوا بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: أن أعرابيًا يقال له: أبو ثعلبة، قال: يا رسول الله! إن لي كلابًا معلَّمة، فأَفتني في صيدها، قال: "كُلْ مِمَّا أمسكْنَ عليك"، قال: وإن أكل منه؟ قال: "وإنْ أكل منه" أخرجه أبو داود بسند لا بأس به (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2857)، كتاب: الصيد، باب: في الصيد.

وقد ارتبك الناس في الجمع بين الحديثين، فحمل القائلون بالتحريم -وهم الجمهور- من حديث أبي ثعلبة على ما إذا قتله وخَلَّاه، ثم عاد فأكل منه، وأيضًا رواية عدي في "الصحيحين"، ورواية أبي ثعلبة المذكورة ليست فيها، بل هي مختلَف في تضعيفها، وأيضًا: رواية عدي صحيحة وصريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم، وهو خوف الإمساك على نفسه، متأيدة بأن الأصل في الميتة التحريم، فإذا شككنا في السبب المُبيح، رجعنا إلى الأصل، وبظاهر القرآن أيضًا، وهو قوله -سبحانه وتعالى-: {أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]؛ فإن مقتضاه أنَّ الذي يمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضًا بالشواهد من حديث ابن عباس عند الإمام أحمد، وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع، وغيرهما؛ كما قدمنا ذلك. وأما القائلون بالإباحة، فحملوا حديثَ عدي على كراهة التنزيه، وحديثَ أبي ثعلبة على بيان الجواز، وأبدى بعضهم لذلك مناسبة بأن عديًا كان موسرًا، فاختير له الحمل على الأولى، بخلاف أبي ثعلبة؛ فإنه كان بعكسه، ولا يخفى ضعفُ هذا التمسك مع التصريح في الحديث بالتعليل بخوف الإمساك على نفسه. وقال ابن التين: هو عامٌّ، فيُحمل على الذي أدركه ميتًا من شدة العدو، أو من الصدمة، فأكل منه؛ لأنه صار على صفة لا يتعلق بها الإرسال ولا الإمساك على صاحبه. ولا يخفى ما في هذا من التعسف الذي لا يحتاج إليه. وقال ابن القصار: مجرد إرسالنا الكلب إمساكٌ علينا؛ لأن الكلب لا نيّة له، ولا يصح منه ميزها، وإنما يتصيد بالتعليم، فإذا كان الاعتبار بأن يمسك علينا أو على نفسه، واختلف الحكم في ذلك وجب أن يتميز ذلك

بنيّة مَنْ له نيّة، وهو مرسلُهُ، فإذا أرسله، فقد أمسك عليه، وإذا لم يرسله [ينقذه]، فلم يمسك عليه. كذا قال. ولا يخفى بعدُ هذا ومصادمتُه لسياق الحديث. وقد قال الجمهور: معنى: {أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]: صِدْن لكم -كما مر-، وجعل الشارع أكلَه منه علامة على أنه أمسك لنفسه، لا لصاحبه، ولا يُعْدَل عن ذلك (¬1)، والله الموفق. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم - رضي الله عنه -: (وإن خالطها)؛ أي: خالط كلابَك التي أرسلتها لتصطاد بها (كلابٌ من غيرها)؛ أي: من غير كلابك التي سميت عليها، وأرسلتها، [فوجدتها قد صادت، أو قد اشتركت جميعًا في اصطياده، (فلا تأكل) منه شيئًا، ومحله -كما تقدم- ما إذا استرسلت الكلاب نفسها، أو أرسلها] (¬2) مَنْ ليس من أهل الذكاة، أو من لم يُسم عليها حين إرسالها (¬3)، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - معللًا لذلك: (فإنما سميتَ على كلبك، ولم تسمِّ على غيره)؛ فإنه يدل على أنه لو أرسلها من فيه أهلية الذكاة، وسمى عند إرساله له، لحل -كما تقدم-. ويؤخذ من الحديث اعتبار كون التسمية على الآلة من سهم وجارح، فلو سمى على صيد، فأصاب غيره، حَلَّ أكلُه، لا إن سمى على سهم ثم ألقاه ورمى بغيره، فلا يحل ما قتله، وكذا لو سمى على كلب، ثم أرسل غيره؛ لأنه لمّا لم يمكن اعتبار التسمية على صيدٍ بعينه، اعتبرت على آلته (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 601 - 602). (¬2) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 601). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه.

(وفيه)؛ أي: حديثِ عدي بن حاتم - رضي الله عنه -: (إذا أرسلتَ كلبك المكلَّب، فاذكر اسم الله عليه)، وهذا أمر منه - صلى الله عليه وسلم - عند استفتاء عدي له -عليه السلام-، فأمره بالتسمية عند إرسال جارحه، ومثله عند السهم، فدل على وجوبها؛ لأن الأمر المطلق للوجوب، ولاسيما مع ما يؤيده من الأحاديث التي ذكرناها، وما لم نذكره أكثر. ولا يضرُّ تقديم البسملة على الإرسال بزمن يسير، وكذا لا يضر تأخرها عن إرسال الجارح -ولو بكثير- إذا زجره فانزجر، (فإن أمسك) الكلبُ الذي سَمَّيتَ عليه وأرسلته (عليك، فأدركته حيًا) حياة مستقرة، (فاذبحه) ليحل، فإذا ذبحته، حلَّ، سواء كان الكلب معلَّمًا، أو غيرَ معلم، وسواء أرسلته، أو استرسل بنفسه، وسواء سميت عليه حين الإرسال، أو لا؛ لأن اعتماد الإباحة إذن التذكيةُ الشرعية بشروطها دون غيرها، وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -: "فاذكر اسم الله عليه"، وقال: "فإن أمسك عليك" تمهيدًا لقوله -عليه الصلاة والسلام-: (وإن أدركته)؛ أي: الصيدَ (قد قتلَ)، ولم تجد فيه حياة مستقرة، (ولم يأكل) الكلبُ ونحوه (منه)؛ أي: الصيدِ شيئًا، فهو حلال، (فكله؛ فإنَّ أخذَ الكلبِ) المعلَّمِ بعد إرساله المصحوب بالتسمية (ذَكاتُه)؛ كما تقدم ذلك مشروطًا. (وفيه)؛ أي: حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - (أيضًا) مصدر آضَ: إذا رجع (¬1): (إذا رميت) الصيد (بسهمك، فاذكر اسم الله عليه) عند رميك السهمَ -على ما مر-. (وفيه أيضًا)؛ أي: حديث عدي - رضي الله عنه -: (فإن غاب) الصيدُ ¬

_ (¬1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 821)، (مادة: أيض).

(عنك) بعد رميك له، وإصابة سهمك له (يومًا أو يومين). (وفي رواية): فإن غاب عنك (اليومين والثلاثةَ) أيام، (فلم تجد فيه)؛ أي: الصيد الذي غاب عنك (إلا أثرَ سهمِك)، فالظاهر أن زُهوقه إنما كان به، (فكل) ذلك الصيدَ (إن شئت) أكلَه؛ فإنه حلال. ومفهومه: أنه إذا وجد فيه أثر غير سهمه، لا يؤكل، وهو نظير ما تقدم في الكلب من التفصيل فيما إذا خالط الكلبَ الذي أرسله الصياد كلبٌ آخر، لكن التفصيل في مسألة الكلب فيما إذا شارك الكلبَ في قتله كلبٌ آخرُ قبله، وهنا الأثرُ الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعمّ من أن يكون أثر سهم آخر، أو غير ذلك من الأسباب القاتلة، فلا يحلُّ أكلُه مع التردد، وقد جاءت فيه زيادة من رواية سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم عند الترمذيّ، والنسائي، والطحاوي، بلفظ: "إذا وجدتَ سهمَك فيه، ولم تجدْ به أثر سَبُعٍ، وعلمت أن سهمَك قتلَه، فكل منه" (¬1). قال في "الإقناع"، وغيره من علمائنا: وإن رمى صيدًا -ولو ليلًا-، فجرحه، ولو غير مُوحٍ، فغاب عن عينه، ثم وجده ميتًا، ولو بعد يومه، وسهمُه فقط فيه، أو أثره، ولا أثر به غيره، حلّ، وإن وجد به سهمًا، أو أثر سهم غير سهمه، أو شك في سهمه، أو في قتله به، أو أكل منه سبع يصلح أن يكون قتله، لم يحل، وإن كان الأثر مما لا يقتل مثله، مثل أكل حيوان ضعيف؛ كسنور وثعلب من حيوان قوي، أو تهشم من وقعته، فمباح (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1468)، كتاب: الصيد، باب: ما جاء في الرجل يرمي الصيد فيغيب عنه، والنسائي (4300)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: في الذي يرمي الصيد فيغيب عنه. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 611). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 329).

وذكر الرافعي عن الشّافعيّ: أنه إذا جرحه، ثم غاب، ثم جاء فوجده ميتًا: أنه لا يحل. قال النووي: الحِلُّ أصح دليلًا (¬1). وحكى البيهقي في "المعرفة" عن الشّافعيّ: أنه قال في قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: كُلْ ما أصميتَ، ودع ما أنميتَ. معنى ما أصميت: ما قتله الكلب، وأنت تراه، وما أنميت: ما غاب عنك مقتله. قال: وهذا لا يجوز عندي غيره، إلا أن يكون جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيءٌ، فيسقط كل شيء خالف أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقوم معه رأيٌ ولا قياس. قال البيهقي: وقد ثبت الخبر -يعني: حديث الباب-، فينبغي أن يكون هو قول الشّافعيّ، انتهى (¬2). قال أبو المظفر بن هبيرة -رحمه الله تعالى- في "اختلاف الأئمة": اختلفوا فيما إذا أرسل كلبه المعلم، أو رمى بسهمه بعد أن يسمي علي هـ[ــمـ]ـــا، ثم غاب عنه، فلم يدرك الصيدَ إلا بعد يومٍ أو يومين. فقال مالك: لا يباح في الكلب، وفي السهم عنه روايتان. وقال الشّافعيّ في "الأم" (¬3) في هذه المسألة: القياس أنه لا يحل أكله، إلا أن يكون ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك خبر، فيسقط كل ما خالفه. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 79). (¬2) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (13/ 449). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 611). (¬3) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (2/ 226 - 227).

وقال أبو حنيفة: إن تبعه، ولم يقصر في طلبه حتى أصابه، أكل منه، فإن قعد عن طلبه، ثم أصابه ميتًا، لم يؤكل (¬1). وقد ذكرنا -فيما تقدم آنفًا-: أن مذهب الإمام أحمد إباحةُ أكله، على التفصيل الذي ذكرناه، والله أعلم. وقال - صلى الله عليه وسلم - لعدي - رضي الله عنه -: (فإن وجدته)؛ أي: الصيدَ الذي رميته بسهمك، وغاب بعد أن أصبته عنك (غريقًا في الماء)، وفي رواية عندهما من حديث عدي: "فإن وجدته قد وقع في ماء" (¬2)، (فلا تأكلـ) ـــه، زاد مسلم: (فإنك لا تدري الماءُ قتلَه)؛ أي: الصيدَ (أو سهمُك) الذي كنت رميته به فأصابه، فلما وقع التردد هل قتله السهم، أو الغرق في الماء؟ لم يحل (¬3). قال علماؤنا: ولو رمى الصيد، فوقع في ماء يقتله مثلُه، أو تردّى تردِّيًا يقتله مثلُه، أو وطىء عليه شيء يقتلُه، لم يحل [أكله] (¬4)، ولو كان الجرح مُوحِيًا. وإن وقع في ماء، ورأسُه خارجه، أو كان من طير الماء، أو كان التردِّي لا يقتل مثلَ ذلك الحيوان، فمباح. وإن رمى طيرًا في الهواء، أو على شجرة، أو جبل، فوقع إلى الأرض فمات، حلّ؛ لأن سقوطه بالإصابة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 303 - 304). (¬2) رواه مسلم فقط (1929/ 7)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 611). (¬4) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 328).

قال ابن هبيرة: وأجمعوا على أنه إن وجده في ماء، أو تردى من جبل، فإنه لا يحل أكله؛ لجواز أن يكون الماء أو الجبلُ هما اللذان قتلاه (¬1). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": فلو تحقق أن السهم أصابه فمات، فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم، فهذا يحل أكله. وقال النووي في "شرح مسلم": إذا وجد الصيد في الماء غريقًا، حرم بالاتفاق، انتهى (¬2). وقد صرح الرافعي بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم مثلًا، فقد تمت ذكاته، ويؤيده زيادة مسلم؛ فإنها تُشعر بأنه إذا علم أن سهمه هو الذي قتله، فإنه يحل (¬3). تنبيهات: الأول: ذو المخلب من الجوارح؛ مثل البازي والصقر والعقاب والشاهين، تعليمُه أنه يسترسل إذا أُرسل، ويرجع إذا دُعي، لا بعد رؤيته الصيد، ولابدَّ من أهلية مرسله، ومن التسمية عند إرساله -على ما مرّ-، ولابدّ أن يجرح الصيد -كما مر أيضًا-، ولا يعتبر ترك الأكل في ذي المخلب. الثاني: تقدم لا يضر ولو غاب اليومين أو الثلاثة، وفي رواية: بعد يوم أو يومين، وفي أخرى: فيغيب عنه الليل والليلتين (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 306). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 79). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 611). (¬4) تقدم تخريجها.

ووقع عند مسلم في حديث أبي ثعلبة: "إذا رميت بسهمك، فغاب عنك، فأدركته، فكل ما لم ينتن" (¬1). وفي لفظ في الذي يدرك الصيد بعد ثلاث: "كله ما لم يُنتن"، ونحوه عند أبي داود (¬2)، فجعل الغاية أن ينتن الصيد، فلو وجده مثلًا بعد ثلاث لم ينتن، حلَّ، وإن وجده بدونها وقد أنتن، فلا. هذا ظاهر الحديث، وأجاب النووي بأن النهي عن أكله إذا أنتن للتنزيه (¬3). قلت: وجزم بهذا علماؤنا؛ كما في "الإقناع" (¬4)، و"المنتهى" (¬5)، وغيرهما. وفي "مختصر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ما لفظه: وإذا جرح الصيد، فغاب عنه، وليس به غير سهمه، فإنه يحل، على الصحيح من أقوالهم. قال: وبه أفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عديَّ بنَ حاتم، وأبا ثعلبة، وفي حديثه: فغاب عنه ثلاثة أيام، قال: "فإن أدركته، فكلْ، ما لم ينتن"، قال: وأما إذا أنتن، فيكره أكله (¬6). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1931/ 9)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إذا غاب عنه الصيد ثم وجده. (¬2) رواه مسلم (1931/ 10)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إذا غاب عنه الصيد ثم وجده، وأبو داود (2861)، كتاب: الصيد، باب: في اتباع الصيد. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 81). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 611). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 326). (¬5) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (5/ 204). (¬6) وانظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 201).

وفي "فروع العلامة ابن مفلح": لا بأس بلحم نِيءٍ، نقله مهنا، ولحم منتنٍ، نقله أبو الحارث. وذكر جماعة فيهما: يكره، وجعله في "الانتصار" في الثانية اتفاقًا (¬1). واستدل على جواز أكل اللحم المنتن مع الكراهة بحديت جابر في "الصحيحين"، وغيرهما في جيش الخبط، وقصة العنبر، وأكلهم من لحمه نصف شهر، وتزوُّدهم منه، وأنهم لما قدموا المدينة، وسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: "هو رزقٌ أخرجَهُ الله لكم، فهل معكم من لحمه شيءٌ فتطعمونا؟ "، فأكل منه - صلى الله عليه وسلم -، وإن الجيش كان ثلاث مئة رجل (¬2). وفي رواية: أنهم أكلوا منه ثمان عشرة ليلة (¬3). واللحمُ لا يبقى غالبًا بلا نتن هذه المدة، لاسيما في الحجاز مع شدة الحر. لكن قال في "الفتح": يحتمل أن يكونوا مَلحوه، وقَدَّدوه، فلم يدخلْه النتن. نعم، إن خيف من المنتن الضرر، حرم، كما ذكره النووي (¬4). وحمل المالكية النهيَ عن أكل اللحم المنتن على التحريم مطلقًا (¬5)، والله تعالى الموفق. الثالث: الصيد مباحٌ لقاصده، ويكره لهوًا، وإن كان فيه ظلم الناس بالاعتداء على زروعهم وأموالهم، فحرام (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 273). (¬2) رواه مسلم (1935)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر. (¬3) رواه البخاري (4102)، كتاب: المغازي، باب: غزوة سيف البحر. (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 81). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 619). (¬6) انطر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 323).

قال في "الفتح": يباح الاصطياد والانتفاع بالصيد للأكل والبيع، قال: وكذا اللهو بشرط قصد التذكية والانتفاع. وكرهه مالك، وخالفه الجمهور، وقال الليث: لا أعلم حقًا أشبه بباطل منه. ولو لم يقصد الانتفاع به، حَرُم؛ لأنه من الفساد بالأرض بإتلاف نفسٍ عبثًا. كذا قال في "الفتح"، ثم قال: وينقدح أن يقال: يباح، فإنْ لازمَهُ، وأكثرَ منه، كُره؛ لأنه قد يشغله عن بعض الواجبات، وكثيرٍ من المندوبات، وقد أخرج الترمذيّ من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، رفعه: "من سكن الباديةَ، جفا، ومن اتبع الصيدَ، غفل" (¬1)، وله شاهد عن أبي هريرة عند الترمذيّ أيضًا (¬2)، وآخر عند الدارقطني في "الأفراد" من حديث البراء بن عازب، وقال: تفرد به شريك (¬3)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2256)، كتاب: الفتن، باب: (69). وكذا أبو داود (2859)، كتاب: الصيد، باب: في اتباع الصيد، والنسائي (4309)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: اتباع الصيد. (¬2) قلت: أشار الترمذي إلى حديث أبي هريرة عقب حديث ابن عباس، ولم يخرجه، والله أعلم. وقد رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 371)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) ورواه الروياني في "مسنده" (383). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 602).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كَشْفُ اللِّثَامِ شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ

جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة الطَّبْعَةُ الأُولَى 1428 هـ - 2007 م رَقم الْإِيدَاع بمَكتَب الشؤون الفَنيَّة 22/ 2007 م قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة الكويت - الرقعي - شَارِع مُحَمَّد بني الْقَاسِم بدالة: 4892785 - داخلي: (404) فاكس: 5378447 موقعنا على الإنترنت www.islam.gov.kw قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة قَامَت بعمليات التنضيد الضوئي والتصحيح العلمي والإخراج الفني والطباعة دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالب سوريا - دمَشق - ص. ب: 34306 لبنان - بَيروت - ص. ب: 5180/ 14 هَاتِف: 2227001 (0096311) - فاكس: 2227011 (0096311) www.daralnawader.com

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، عَنْ أَبيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنِ اقْتنَى كلْبًا إلَّا كلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، فَإنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ" (¬1). قَالَ سَالِمٌ: وَكانَ أَبُو هُرَيْرَةْ يَقُولُ: أَوْ كلْبَ حَرْثٍ، وَكانَ صَاحِبَ حَرْثٍ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البُخاريّ (5163 - 5165)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو ماشية، ومسلم (1574/ 51) واللفظ له، و (1574/ 50 - 53، 55 - 56) كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، والنَّسائيُّ (4284)، كتاب: الصيد والذبائح، باب: الرخصة في إمساك الكلب للماشية، و (4286 - 4287)، باب: الرخصة في إمساك الكلب للصيد، و (4291)، باب: الرخصة في إمساك الكلب لحرث، والترمذي (1487)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في قتل الكلاب. (¬2) رواه مسلم (1574/ 54)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 282)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 240)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 237)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 200)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1621)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 609)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 98)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (8/ 260)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 2).

(عن) أبي عمرٍو، ويقال له: أبو عبد الله (سالمِ بنِ عبد الله بن) أمير المؤمنين (عمرَ -رضي الله عنهم-). وسالمٌ أحدُ فقهاء المدينة السبعة، ومن سادات التابعين وعلمائهم، سمع أبا هريرة، وأبا أيوب الأنصاريَّ، ورافعَ بَن خَديجٍ، وعائشةَ، وأباه، وغيرَهم، ومن التابعين كثيرًا. روى عنه: عمرُو بنُ دينار، والزهري، [ونافع مولى أبيه، وموسى بنُ عقبة، وغيرهم، وكان أشبهَ ولدِ عبدِ الله به] (¬1)، وهو إمامٌ جليل، روي له الجماعة، توفي في آخر ذي الحجة سنة ست ومئة، وقيل: سنة ثمان ومئة (¬2). (عن أبيه) عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، (قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من اقتنى)؛ أي: اتخذ (كلبًا) للقُنية، يقال: اقتنى الشيء: إذا اتخذه للادخار (¬3)، ويشمل سائر أنواع الكلاب (إلا كلبَ صيد)، وفي رواية: "إلَّا كلبًا ضاريًا لصيد" (¬4)، (أو) كلب (ماشية)، وفي رواية: "ليس بكلب ماشية" (¬5)؛ أي: من غنم ونحوها، لا اتخاذُه لها قبل ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ب". (¬2) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 195)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 115)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 184)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 305)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 193)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (20/ 48)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 90)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 145)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 203)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 457)، و"تذكرة الحفَّاظ" له أيضًا (1/ 88)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (3/ 378). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 609). (¬4) تقدم تخريجه عند البُخاريّ برقم (5164). (¬5) تقدم تخريجه عند البُخاريّ برقم (5163).

أن يشتريها، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "أو كلب زرع" (¬1)، وفي لفظ: "حرث" (¬2)، وكذا وقعت الزيادة في حديث عبد الله بن مغفل عند الترمذيّ (¬3). قال في "الآداب الكبرى": يجوز اقتناء كلبٍ كبيرٍ لصيدٍ يعيش به، أو لحفظ ماشية يروح معها إلى المرعى، ويتبعها، أو لحفظ زرعٍ، ولا يجوز اتخاذه لغير ذلك. وقيل: يجوز اقتناؤه لحفظ البيوت، وهو قول بعض الشّافعيّة. وفي "الرعاية": قيل: وبستان، فإن اقتنى كلبَ الصيد مَنْ لا يصيد، احتمل الجوازُ والمنع، وهكذا الاحتمالان فيمن اقتنى كلبًا يحفظ به ماشية، أو حرثًا إن حصلت، أو يصيد به إن احتاج، ويجوز تربيةُ الجَرْوِ الصغير لأجل الثلاثة في أقوى الوجهين، والثاني: لا يجوز. وفي "الرعاية": لا يكره -على الأصح- اقتناءُ جروٍ صغيرٍ حيث يقتنى الكبير (¬4). وأما اقتناء الكلاب لغير ما ذكرنا، فلا يجوز. وحكى الدميري: أن أصحَّ الوجهين عند الشّافعيّة جوازُ اتخاذ الكلاب لحفظ الدرب، والدور (¬5)، فإن اقتنى شيئًا من الكلاب غير ما ذكرنا، (فإنّه ينقص من أجره كلَّ يوم قيراطان)، وفي رواية: "قيراط"، وهي في ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1575/ 58)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب. (¬2) رواه مسلم (1575/ 59)، كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب. (¬3) رواه التِّرمذيُّ (1489)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء: من أمسك كلبًا ما ينقص من أجره. (¬4) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 526). (¬5) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 770).

"الصحيحين" أيضًا. وفي رواية البُخاريّ: "ينقص من عمله" (¬1)، وحُمل على نوعٍ من الكلاب كان بعضُها أشدَّ من بعض في الأذى، أو لمعنى فيها، أو يكون ذلك مختلفًا باختلاف المواضع، فتكون القيراطان في المدن ونحوها، والقيراط في البوادي، أو ذكر القيراط أولًا، ثم زاد في التغليظ، فذكر القيراطين. والمراد بالنقص: أن الإثم الحاصل باتخاذ الكلب يوازن قدرَ قيراط أو قيراطين من أجر متخذه، فينقص من ثواب عمل المتخذ قدر ما يترتب عليه من الإثم باتخاذه، وهو قيراطان. وقيل: سببُ النقصان: امتناعُ الملائكة؛ أي: ملائكة الرحمة والبركة من دخول بيته، أو ما يلحق المارين من الأذى. كما يروى أن المنصورَ ثانيَ خلفاء بني العباس سأل عمرَو بنَ عُبيد عن سبب هذا الحديث، فلم يعرفه، فقال المنصور: لأنَّه ينبحُ الضيف، ويروِّعُ السائل. أو سببُ النقصان؛ لأنَّ بعضها شياطين، أو عقوبة لمخالفة النهي، أو لولوغها في الأواني عند غفلة صاحبها، فربما ينجس الطاهر منها، فإذا استعمل في العبادة، لم يقع موقعَ الطاهر. وقال ابن التين: المراد: أنه لو لم يتخذه، لكان عمله كاملًا، فإذا اقتناه، نقص من ذلك العمل. وقد اختلف العلماء في محل نقصان القيراطين، فقيل: من عمل النهار ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (3146)، كتاب: بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، وتقدم تخريجه عند مسلم برقم (1575/ 58).

قيراط، ومن عمل الليل آخر، وقيل: قيراط من الفرض، وآخر من النفل (¬1). وفي "بدائع الفوائد": يحتمل أن يراد بهذا: نسبة القيراطين إلى عمل متخذ الكلب كلَّ يوم، ويكون صغرُ هذا القيراط وكِبَرُه بحسب قلة عمله وكثرته. قال: فإذا كانت له أربعة وعشرون ألف حسنة مثلًا، نقص منها كل يوم ألفا حسنة، وعلى هذا الحساب (¬2). وتقدم ذلك [مستوفًى] (¬3) في: الجنائز، فراجعه تظفرْ بما تريد. (قال سالم) بنُ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-: (وكان أبو هريرة) عبدُ الرحمن بن صخر أكثرُ المكثرين من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين- (يقول: أو كلبَ حرث)؛ يعني: يزيد على جواز اقتناء الكلب [الصيد] والماشية: جواز اتخاذه للحرث والزراعة -كما قدمنا-. قال سالم: (وكان) أبو هريرة - رضي الله عنه - (صاحبَ حرثٍ)، فكان قد جوّز اتخاذ الكلب لأجل الحرث (¬4)، ويستدل بالنص الذي سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حافظ الأمة، فصار العلماء إلى جواز اتخاذه للزراعة والحرث؛ أي: لحفظ ذلك، اعتمادًا على حديث أبي هريرة. وقد ذكرنا أنه روي أيضًا من حديث عبد الله بن مغفل، وسفيان بن أبي زهير، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 6 - 7). (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 657). (¬3) في الأصل: "مستوفيًا"، والصواب ما أثبت. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 6).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنْ رَافع بْنِ خَدِيجٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بذِي الحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إبِلًا وَغَنَمًا، وَكانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أخْرَيَاتِ القَوْمِ، فَعَجِلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا القُدُور، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالقُدور فَأكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ، فَعَدَلَ عَشْرَةً مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، وَكانَ فِي القَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ، فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بسَهْمٍ، فَحَبَسَهُ اللهُ، فَقَالَ: "إن لِهَذِهِ البَهَائِمِ أَوَابِدَ كأَوَابدِ الوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُم مِنْهَا، فَاصْنَعُوا بهِ هَكَذَا"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّا لَاقُو العَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى، أفنَذْبَحُ بِالقَصَبِ؟ قَالَ: "مَا أَنْهَر الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأحَدِّثُكمْ عَنْ ذَلِكَ: أَمَّا السِّنُّ، فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ، فَمُدَى الحَبَشَةِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البُخاريّ (2356)، كتاب: الشركة، باب: من عدل عشرًا من الغنم بجزور في القسم، و (2910)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم، و (5179)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: التسمية على الذبيحة، و (5184)، باب: ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد، و (5187)، باب: لا يذكى بالسن والعظم والظفر، و (5190)، باب: ما ندَّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش، و (5223) باب: إذا أصاب قوم غنيمة، فذبح بعضهم غنمًا أو إبلًا بغير أمر أصحابهم، لم تؤكل، و (5224)، باب: إذا =

(عن) أبي عبد الله (رافعِ بنِ خَدِيج) -بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة وبالجيم- الحارثيِّ الأنصاريِّ، الأوسيِّ (- رضي الله عنه - قال: كنا) معشرَ الصحابة (مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بذي الحُليفة)، زاد مسلم: (من تِهامةَ)، وهذه ليست بذي الحليفة الميقات المعروف، وإنما هي عند ذات عرق كما ذكره ياقوت وغيره. وذكر القابسي: أنها المُهَلُّ التي بقرب المدينة، وقاله أيضًا النووي. وفي "مسلم" ما يردُّ ذلك (¬1). وتِهامُة: كلُّ ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز، سُمي بذلك لتغير ¬

_ = ند بعير لقوم، فرماه بعضهم بسهم فقتله، فأراد إصلاحه، فهو جائز. ورواه مسلم (1968/ 20 - 23)، كتاب: الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلَّا السنن والظفر وسائر العظام، وأبو داود (2821)، كتاب: الضحايا، باب: في الذبيحة بالمروة، والنَّسائيُّ (4403)، كتاب: الضحايا، باب: النهي عن الذبح بالظفر، و (4404)، باب: الذبح بالسن، و (4409 - 4410)، باب: ذكر المنفلتة التي لا يقدر على أخذها، والترمذي (1491)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في الذكاة بالقصب وغيره، وابن ماجه (3178)، كتاب: الذبائح، باب: ما يذكى به. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 278)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 415)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 367)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 122)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 203)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1627)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 344)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 625)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 112)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 87)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 18). (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46).

هوائها، يقال: تهم الدهنُ: إذا تغير ريحُه، ومكةُ من تهامةَ معدودة كما في "المطالع" (¬1). وفي "القاموس": تهامة -بالكسر-: مكّة -شرّفها الله تعالى-، وبلاد معروفة (¬2). (فأصاب النَّاسَ جوع) في تلك الغزاة. قال ابن التين: وكانت سنةَ ثمان من الهجرة في قضية حنين (¬3). (فأصابوا)؛ أي: غَنِموا (إبلًا وغنمًا، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أُخْرَيات القوم)؛ أي: في أواخرهم وأعقابهم، وهي جمع أُخرى، وكان يفعل ذلك رفقًا بهم، وليحمل المنقطع منهم (¬4)، (فعجِلوا) -بكسر الجيم-، (وذبحوا) من المواشي المغنومةِ قبل قسمتها، (ونصبوا القدور) على الأثافِيِّ ليطبخوا لحم ما ذبحوه من مواشي الغنم، والقدور: جمع قِدْر -بالكسر- مؤنث، أو يؤنث كما في "القاموس"، وهو ما يطبخ فيه (¬5)، (فأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالقدور فأكفئت)؛ أي: قلبت وأُميلت وأُريق ما فيها، وهو من الإكفاء. قال ثعلب: كفأتُ القدرَ: إذا كببته، وكذا قال الكسائي وغيره، فعلى هذا إنما يقال: كُفِئَتْ، وأُكْفِئَتْ إنما يقال على قول ابن السكيت في "الإصلاح"، لأنَّه نقل عن ابن الأعرابي وأبي عبيد وآخرين: أنه يقال: أُكفئَت. ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 126). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1400)، (مادة: تهم). (¬3) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) انظر: "القاموس المحيط" للفيروأبادي (ص: 591)، (مادة: قدر).

وقال ابن التين: صوابه كُفِئَت بغير ألف؛ من كَفَأْتُ الإناءَ، مهموزًا. واختلف في إمالة الإناء، فيقال فيها: كفأت وأكفأت، وكذا اختلف في أكفأت الشيء لوجهه (¬1). واختلف في سبب أمره بإكفاء القدور، فقيل: لأنهم فعلوا ذلك من غير قسمة بلا حاجة إلى أكلها، ويشهد له قوله: فانتهبناها (¬2)؛ كما في بعض الروايات، لكن في قوله: بلا حاجة إلى أكلها نظر؛ لأنَّه يردُّه قوله في الحديث: فأصاب النَّاسَ جوع، وفي رواية: فأصابتنا مجاعة (¬3)، فهو بيان لوجه الحاجة. وقيل: لاستعجالهم في ذلك من غير إذن ولا تربص ليقدَمَ - صلى الله عليه وسلم - مع ما يعرض من مكيدة العدو، فأحرمهم الشارعُ ما استعجلوه عقوبةً لهم بنقيض قصدِهم؛ كما منع القاتلَ من الميراث. قال القرطبي: ويؤيده رواية أبي داود: وتقدَّمَ سرعانُ النَّاس، فتعجلوا، فأصابوا الغنائم، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر النَّاس (¬4). وقال النووي: إنما أمرهم بذلك؛ لأنهم كانوا قد انتهوا إلى دار الإسلام، والمحل الذي لا يجوز الأكلُ فيه من مال الغنيمة المشتركة؛ فإن ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46). (¬2) رواه ابن ماجه (3938)، كتاب: الفتن، باب: النهي عن النهبة، من حديث الحكم بن ثعلبة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (2/ 283)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (22323)، من حديث عاصم بن كليب، عن أبيه، عن رجل من أصحاب النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، به. (¬4) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2821). وانظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 375).

الأكلَ منها قبل القسمة إنما يُباح في دار الحرب، والمأمور به من الإراقة إنما هو إتلافُ المرق عقوبة لهم، وأما اللحم، فلم يتلفوه، بل يُحمل على أنه جُمِعَ ورُدَّ إلى المغنم، ولا يظن أنه أمر بإتلافه؛ لأنَّه مالُ الغانمين، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضاعة المال. فإن قيل: لم يُنقل أنَّ اللحم حمل إلى الغنيمة، فالجواب: أنه لم يُنقل أيضًا أنهم حرقوه ولا أتلفوه، فوجب تأويله على وفَقْ القواعد الشرعية؛ بخلاف لحم الحمر الأهلية يومَ خيبر؛ لأنها صارت نجسة (¬1). (ثم قسم) - صلى الله عليه وسلم - الغنيمةَ بين الغانمين، (فعدل عشرةً من الغنم ببعير). هذا محمول على أنه كان بحسب قيمتها يومئذٍ، ولا يود عليه كونُ السبع من الغنم يعدلُها واحد من الإبل في الأضحية (¬2)؛ لأنَّ النظر في القسمة إلى القيمة، ولا نظر لها في الأضحية، (فندّ) -بفتح النون وتشديد الدال المهملة-؛ أي: نفرَ وذهبَ على وجهه شاردًا، يقال: نَدَّ يَندُّ نَدًّا [ونَديدًا] ونُدودًا (¬3) (منها)؛ أي: من إبل الغنيمة (بعير، فطلبوه) ليردُّوه إلى الغنيمة، (فأعياهم)؛ أي: أعجزهم. يقال: أعيا: إذا عجز، وعيي بأمره: إذا لم يهتدِ لوجهه، ومنه حديث عليّ - رضي الله عنه - فِعْلُهم الداءُ العياء، وهو الذي أعيا الأطباء، ولم ينجع فيه الدواء. وحديث الزُّهريّ أن بريدًا من بعض الملوك جاءه يسأله عن رجلٍ معَهُ ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 127). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬2) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 203). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 411)، (مادة: ندد). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46).

ما معَ المرأة، كيف يورث؟ قال: من حيثُ يخرجُ الماءُ الدافق. قال في ذلك قائلهم: [من الكامل] وَمُهِمَّةٍ أَعْيَا القُضَاةَ عَيَاؤُهَا ... تَذَرُ الفَقِيهَ يَشُكُّ مِثْلَ الْجَاهِلِ عَجَّلْتَ قَبْلَ حَنِيذِهَا بِشِوَائِهَا ... وَقَطَعْتَ مَحْرَدَهَا بِحُكْمٍ فَاصِلِ أراد: أنك عجَّلت الفتوى فيها، ولم تستأنِ في الجواب، فشبهه برجل نزل به ضيفٌ، فعجَّل قِراه بما قطع له من عبد الذَّبيحة ولحمِها، ولم يحبسه على الحنيذ والشواء، وتعجيلُ القِرى عندهم محمود، وصاحبهُ ممدوح (¬1). (وكان في القوم)؛ أي: الغزاة؛ يعني: العسكرَ (خيلٌ يسيرة)؛ أي: قليلة، (فأهوى)؛ أي: قصد. قال الأصمعي: أهويتُ بالشيء إلى الشيء: إذا أومأت إليه (¬2) (رجل منهم)؛ أي: القوم (بسهمٍ) متعلق بـ: أهوى، فأصابَ البعير، (فحبسَه اللهُ) تعالى عن شروده ونفوره بما أصابه من جراحة سهم الرامي، (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: (إنَّ لهذه البهائمِ) من الإبل والغنم وغيرها، سميت بهيمة؛ لأنَّها لا تتكلم. وفي لفظ: "لهذه الإبل (أوابدَ) " (¬3) جمع آبِدة -بالمدِّ وكسر الباء الموحدة المخففة-، يقال منه: أَبَدَتْ تَأْبُدُ -بضم الباء وكسرها-، وهي التي نفرت من الإنس وتوحَّشت. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 334 - 335). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (3/ 102). (¬3) تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5184، 5190)، وعند مسلم برقم (1968/ 20).

وقال القزاز: مأخوذة من الأبد، وهو الدهر؛ لطول مقامها. وقال أبو عُبيد: أُخذت من تأبدت الدار تأبدًا، وأبدَت تأبِدُ أُبودًا: إذ خلا منها أهلها (¬1). وفي "المطالع": قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أوابد"؛ أي: نوافر، يقال: أبدت تأبِد، أو تأبُد أُبودًا فهي آبدة: إذا توحشت (¬2). ومن ثم قال: (كأوابد)؛ أي: نَفور (الوحش)، وهو ما لا يستأنس من دواب الأرض، والجمع وحوش. يقال: حمار وَحْش، وثور وَحْش (¬3). (فما غلبكم منها)؛ أي: البهائم النافرة، إما بِعَدْوِه، وإما باستصعابه، والجامعُ لذلك كلِّه عدمُ القدرة على المقصود عنه. (فاصنعوا)؛ أي: افعلوا (به)؛ أي: بالنادِّ والمتوحِّش منها ونحوِه (هكذا)؛ أي: ارموه بالسهم، فإذا نفر من البهائم الإنسية شيء، فهو بمنزلة الوحش في جواز عقره على أي صفة اتفقت (¬4)؛ كما أفاده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا غلبكم منها شيء، فافعلوا به هكذا" (¬5) كما في لفظ من ألفاظ هذا الحديث. وأما لفظ: "إن لهذه الإبل أوابد" إلخ، فالظاهر: أن تقديم ذِكْرِها كالتمهيد لكونها تشارك المتوحش في الحكم. وأما قول ابن المنير: فإنها تنفر كما ينفر الوحش لأنها تُعطى حكمَها، فيردُّه آخرُ الحديث، وهو قوله: "فاصنعوا به" إلخ (¬6)، فدل على أن ما نَدَّ ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 46). (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 11). (¬3) انظر: "لسان العرب" لابن منظور (6/ 368)، (مادة: وحش). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (21/ 119). (¬5) تقدم تخريجه عند البُخاريّ برقم (5190)، وعند مسلم برقم (1968/ 20). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 638).

من الحيوان الإنسي، ولم يُقدر عليه، جاز أن يذكَّى بما يذكَّى به الصيد، وبه قال الإمام أحمد. وهو مذهب أبي حنيفة، والشّافعيّ، وهو قول عليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر -رضي الله عنهم-، ومن التابعين: طاوس، وعطاء، والشعبي، والأسود بن يزيد، والنخعي. وذهب إليه الثوري، وداود، وغيرهم. قال النووي: ذهب الجمهور إلى حديث أبي العشراء عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلَّا في اللبة والحلق؟ قال: "لو طعنت في فخذها، لأجزأ عنك" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والتِّرمذيُّ، والنَّسائيُّ، وابن ماجه (¬1)، وغيرهم، ورواته ثقات إلَّا أبا العشراء، فمختلَف فيه. قال التِّرمذيّ بعد أن رواه: قال أحمد بن منيع: قال يزيد بن هارون: هذا في الضرورة، وقال: لا يعرف هذا الحديث إلَّا من حديث حماد بن سلمة، قال: ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث. واخْتُلِف في اسم أبي العشراء، فقيل: أسامة بن قِهْطم، وقيل: يسار بن برز، ويقال: ابن بلز، ويقال: اسمه عطارد (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 334)، وأبو داود (2825)، كتاب: الضحايا، باب: ما جاء في ذبيحة المتردية، والنَّسائيُّ (4408)، كتاب: الضحايا، باب: ذكر المتردية في البئر التي لا يوصل إلى حلقها، والترمذي (1481)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الذكاة في الحلق واللبة، وابن ماجه (3184)، كتاب: الذبائح، باب: ذكاة الناد من البهائم. (¬2) انظر: "سنن التِّرمذيُّ" (4/ 75)، عقب حديث (1481) المتقدم تخريجه.

وقال عليّ بن المديني: المشهور أن اسمه: أسامة بن مالك بن قهطم، فنسب إلى جده. وقِهْطم -بكسر القاف وسكون الهاء وبالطاء المهملة-، وقيل: قحطم -بالحاء المهملة- (¬1). قلت: ذكره ابن الأثير في "جامع الأصول"، فقال: أسامة بن مالك بن قهطم الداري، تابعي، روى عن أبيه، وروى عنه حماد بن سلمة، يُعد في البصريين، وفي نسبه واسمه اختلاف كثير، قال: وهذا أشهر ما قيل فيه، انتهى (¬2). وقال الإمام مالك، وربيعة، والليث بن سعد: لا يؤكل إلَّا بذكاة الإنسي بالنحر أو الذبح استصحابًا لمشروعية أصل ذكاته؛ لأنَّه، وإن كان قد أُلحق بالوحش في الامتناع، فلم يلتحق بها لا في النوع، ولا في الحكم، ألا ترى أن مُلْكَ مالكِه باقٍ عليه؟ وهذا قول سعيد بن المسيب أيضًا. قال مالك: ليس في حديث رافع بن خديج: أن السهم قتله، وإنما قال: حبسه، ثم بعد أن حبسه، صار مقدورًا عليه، فلا يؤكل إلَّا بالذبح أو النحر، ولا فرق بين كونه وحشيًا أو إنسيًا. وقال في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فاصنعوا به هكذا": نحن نقول بموجبه أيضًا؛ أي: نرميه ونحبسه، فإن أدركناه حيًا، ذكيناه، وإن تلف بالرمي، فهل نأكله أو لا؟ ليس في الحديث تعيينُ أحدهما، فلحق بالمُجْمَلات، فلا تنهض به حجة. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 47). (¬2) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 172 - قسم التراجم).

وقالوا في حديث أبي العشراء: ليس بصحيح، ولو سلمنا صحته، لاقتضى جواز الذكاة في أي عضوٍ كان مطلقًا، في المقدور على تذكيته وغيره، ولا قائل بذلك في المقدور عليه، فظاهره ليس بمراد قطعًا، وتخصيصُه بغير المقدور عليه تحكُّم. وحمل بعض العلماء أن الحديث خرج جوابًا لسؤال عن المتوحش أو المتردِّي الذي لا يقدر على ذبحه. وأما عمومُه، فلا عمل عليه، ولهذا نقل أبو الحسن الميموني: أنه سأل الإمامَ أحمدَ بنَ حنبل - رضي الله عنه - عن هذا الحديث، فقال: هو عندي غلط، فقلت: فما تقول أنت؟ فقال: أما أنا، فلا يعجبني، ولا أذهب إليه إلَّا في وضع ضرورة كيفما أمكنتك الذكاة لا تكون إلَّا في الحلق أو اللبة، انتهى (¬1). وقد روى ابن أبي شيبة من طريق أبي راشد السـ[ـلـ]ـماني، قال: كنت أرعى منائح لأهلي بظهر الكوفة، فتردَّى منها بعير، فخشيت أن يسبقني بذكاته، فأخذت حديدة، فوجأت بها في جنبه أو سنامه، ثم قطعته أعضاء، وفرّقته على أهلي، فأبوا أن يأكلوه، فأتيت عليًا، فقمت على باب قصره، فقلت: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين! فقال: يا لَبَّيْكاه! يا لَبيكاه! فأخبرتُه خبرَه، فقال: كل وأطعمني (¬2). وروى عبد الرَّزاق في أثر حديث رافع بن خديج، عن عباية بن رفاعة بن رافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن بعيرًا تردَّى في بئر ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 47 - 48). (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (19840)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 239).

بالمدينة، فلم يقدر على نحره، فوُجىء بسكين من قِبَلِ خاصرته حتَّى مات، فأخذ منه ابنُ عمر عشيرًا بدرهمين (¬1)، والعَشير: لغةٌ في العشر؛ كالنصف والنَّصيف (¬2). وفي لفظ: أن ناضحًا تردَّى بالمدينة، فذُبح من قبل شاكلته، فأخذ منه ابنُ عمر عشيرًا بدرهمين. وأخرجه ابن أبي شيبة عن عباية بلفظ: تردَّى بعيرٌ في رَكِيَّة، فنزل رجلٌ لينحرَه، فقال: لا أقدر على نحره، فقال له ابن عمر: اذكرِ اسمَ الله، ثم اطعن في شاكلته، ففعل، وأُخرج مقطَّعًا، فأخذ منه ابنُ عمر عَشيرًا بدرهمين أو أربعة (¬3). قال علماؤنا: إن عجز عن قطع الحلقوم والمريء مثل أن يندَّ البعير، أو يردى في بئر، فلا يُقدر على ذبحه، صار كالصيد، إذا جرحه في أي موضع أمكنه، فقتله، حلّ أكله، إلَّا أن يموت بغيره؛ مثل أن يكون رأسُه في الماء، فلا يباح، ولو كان الجرح موحيًا؛ كما لو جرحه مسلم ومجوسي (¬4). قال في "الفروع": نص عليه، وقيل: يحل إن كان جرحه موحيًا (¬5)، والله أعلم. ثم (قال) رافعُ بنُ خَديج - رضي الله عنه -: (قلت: يا رسول الله! إنا لاقو) من الملاقاة (العَدُوِّ) من أهل الشرك (غدًا، وليست معنا)؛ أي: مع ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (8481). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 48). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (19838). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (4/ 317). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 291).

كلنا، وإن كان بعضهم معه (مُدًى) -بضم الميم- جمع مدية، وهي السكين، والجملة حالية (أفنذبح بالقصب؟). وفي رواية لمسلم: فنذكِّي باللِّيط (¬1) -بكسر اللام وسكون الياء ثم طاء مهملة آخر الحروف-، وهي قطع القصب، قاله القرطبي (¬2). وقال النووي: قشوره، الواحدة ليطة (¬3). وفي "النهاية": اللِّيط: قشرُ القصب، والقناة، وكل شيء به صلابة ومتانة، والقطعة منه ليطة (¬4). وفي "سنن أبي داود": تُذَكَّى بالمَرْوَة (¬5)؟ وتقدم أنه الحجر. فإن قيل: ما معنى هذا السؤال عند ذكر لقاء العدو؟ فالجواب: لأنهم كانوا عازمين على قتال العدو، وصانوا سيوفهم وأسنتهم وغيرها عن استعمالها؛ لأنَّ ذلك يفسد الآلة، ولم يكن لهم سكاكين صغار معدَّة للذبح؛ كما أشار إليه العيني (¬6) وغيره. (قال) -عليه الصلاة والسلام-: (ما أنهرَ)؛ أي: ما أسالَ وأجرى (الدمَ) وكلمة "ما" شرطية، أو موصولة، والحكمة في اشتراط الإنهار دلَّ على تحريم الميتة لبقاء دمها. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1968/ 22). (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 367). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 127). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 286). (¬5) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2821). (¬6) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 47).

يقال: أنهر الدم: أساله، وصَبَّه بكثرة، وهو مشبه بجري الماء [في النهر] (¬1). وفي لفظ: "ما أنهز" -بالزاي-، وهو الدفع، لكنه غريب (¬2)، (وذكر اسمُ الله عليه)؛ بأن يقول: باسم الله عند حركة يده بالذبح، دل على اشتراط التسمية؛ لأنَّه قرنها بالذكاة، وعلق الإباحة عليها، فصار كل واحد منهما شرطًا، وهو حجة على من لم يشترطها؛ كالشافعيّ؛ فإن مذهبه حِلُّ متروكِ التسمية، ولو عمدًا. وعند الثلاثة: لا يحلُّ إن تركها عمدًا، وكذا عندنا لو تركها جهلًا، وأما إن نسيها، فلا تحرم على معتمد المذهب، وقد ذكره ابن جرير إجماعًا، ولا يعتبر كون البسملة بالعربية، ولو ممّن يحسنها. وقد ذكره بعض الحنفية إجماعًا، لأنَّه قد ذكر الله. ويُسن التَّكبيرُ معها، فيقول: باسم الله والله أكبر. ولا تُستحب الصلاة على النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليها، فإن كان أخرس، أومأ برأسه إلى السماء، ولو أشار إشارة تدل على التسمية، وعلم ذلك، كان كافيًا. وقال داود بن عليّ الظاهري: ويحرم متروكُ التسمية، ولو ناسيًا. قال الطبري: من قال: إن ما ذبحه المسلم، فنسي أن يذكر اسم الله عليه، لا يحل، فهو قولٌ بعيدٌ من الصواب؛ لشذوذه، وخروجِه عما عليه الجماعة. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 416)، وعنه النووي في "شرح مسلم" (13/ 123)، وابن حجر في "فتح الباري" (9/ 628)، والعيني في "عمدة القاري" (13/ 47)، وعن الأخير نقل الشارح -رحمه الله-.

وقال صاحب "الهداية" من الحنفية عن قول الشّافعيّ: يحلُّ متروكُ التسمية، ولو عمدًا: هذا القول من الشّافعيّ مخالفٌ للإجماع؛ لأنَّه لا خلافَ فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدًا، وإنما الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيًا (¬1). وأما الحديث الذي رواه الدارقطني عن ابن عباس: أن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلمُ يكفيه اسمُه، فإن نسي أن يسمِّي حين يذبحُ، فليسمِّ، وليذكرِ اسمَ الله، ثم ليأكل" (¬2)، فهو حديث ضعيف؛ لأنَّ في سنده محمدَ بنَ يزيدَ بنِ سنان، فهو وإن كان صدوقًا، لكنه شديد الغفلة. وفي سنده أيضًا مغفل بن عبد الله، وهو وإن كان من رجال مسلم، إلَّا أنه أخطأ في رفع هذا الحديث. وقد رواه سعيد بن منصور، وعبد الله بن الزُّبير الحُميدي عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، من قوله. وكذلك الحديث الذي رواه الدارقطني من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: سأل رجلٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: الرجلُ منا يذبح ثم ينسى أن يسمي الله، قال: "اسمُ الله على كل مسلم" (¬3)، فهو ضعيف؛ لأنَّ في سنده مروانَ بن سالم، ضعَّفه الإمام أحمد، والدارقطني. وأما ما رواه أبو داود عن الصَّلْت، عن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ذبيحةُ المسلم ¬

_ (¬1) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 63). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 48). (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 296). (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 295).

حلالٌ، ذكرَ اسمَ الله، أو لم يذكرْ" (¬1)، فهو مرسل، وفيه مع الإرسال: أن الصَّلْتَ السدوسيَّ لا يُعرف له حال، ولا يعرف بغير هذا الحديث، ولا روى عنه غيرُ ثور بن يزيد (¬2). وقد قال الغزالي في "الإحياء" في مراتب الشبهات: المرتبة الأولى: ما يتأكد الاستحبابُ في التورُّع عنه، وهو ما يقوى فيه دليلُ المخالِف، فمنه: التورعُ عن أكل متروك التسمية؛ فإن الآية ظاهرة في الإيجاب، والأخبار متواردة بالأمر بها. قال: ولكن لما صح قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمنُ يذبحُ على اسم الله، سمَّى أو لم يُسَمِّ"، احتمل أن يكون عامًا موجبًا لصرف الآية والإخبار عن ظاهر الأمر، واحتمل أن يخصَّصَ بالناسي، ويبقى من عداه على الظاهر، وهذا الاحتمال الثاني أولى (¬3). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": الحديثُ الذي اعتمد عليه، وحكم بصحته، بالغَ النوويُّ في "أذكاره"، فقال: هو مجمَعٌ على ضعفه، [قال] (¬4): وقد أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة، وقال: منكر، لا يحتج به (¬5)، والله الموفق. (فكلوه)؛ لإباحته، والفاء جواب الشرط، أو لتضمنه. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في "المراسيل" (378). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 48 - 49). (¬3) انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/ 155). (¬4) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬5) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 240). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 636).

وقال في "الفتح": "ما" موصولة في موضع رفع بالابتداء، وخبرها: "فكلوه"، والتقدير: ما أنهرَ الدمَ، فهو حلال، فكلوه، ويحتمل أن تكون شرطية. ووقع في رواية ابن إسحاق: "كل ما أنهر الدم ذكاة"، و"ما" في هذا موصولة (¬1)، (ليس السنَّ والظفر) بالنصب على الاستثناء بليس. قال في "الفتح": ويجوز الرفع؛ أي: ليس السنُّ والظفرُ مباحًا، أو مجزئًا. ووقع في رواية أبي الأحوص: "ما لم يكن سنٌّ أو ظفرٌ" (¬2). وفي رواية عمر بن عبيد: "غير السن الظفر" (¬3). وفي رواية داود بن عيسى: "إلَّا سنًا أو ظفرًا" (¬4). (وسأحدثكم عن ذلك). وفي رواية: "سأخبركم" (¬5)؛ أي: سأبين لكم العلة في ذلك، وليس السين هنا للاستقبال، بل للاستمرار، كما في قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} [النساء: 91]. وزعم الزمخشري أن السين إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه، أفادت أنه واقع لا محالة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 628). (¬2) تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5223). (¬3) تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5224). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (4386). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 628). (¬5) تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5179). (¬6) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 47).

وهل هذه الجملة من جملة المرفوع، أو مدرجة؟ جزم النووي بأن ذلك من جملة المرفوع، وأنه من كلام النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو الظاهر من السياق. وجزم أبو الحسن بن القطان في كتاب "بيان الوهم والإبهام": بأنه مُدْرج من قول رافع بن خَديج راوِي الخبر، وذكر ما حاصله: أن أكثر الرواة عن سعيد ومسروق أورده على ظاهر الرفع، وأن أبا الأحوص قال في روايته عنه بعد قوله: أو ظفر: قال رافع: وسأحدثكم عن ذلك، ونسب ذلك لرواية أبي داود، وهو عجيب؛ فإن أبا داود أخرجه عن مسدد، وليس في شيء من نسخ السنن قوله: قال رافع، وإنما فيه -كما عند البخاريّ وغيره- بدون قال رافع (¬1). والحاصل: أن المعتمد من ذلك أنه من جملة المرفوع. (أما السنُّ فعظمٌ)، قال البيضاوي: وهو قياس حُذفت منه المقدمةُ الثَّانية؛ لشهرتها عندهم، والتقدير: أما السنُّ، فعظم، وكلُّ عظم لا يحلُّ الذبحُ به، وطوى النتيجة؛ لدلالة الاستثناء عليها. وقال ابن الصلاح في "مشكل الوسيط": وهذا يدل على أنه -عليه السلام- كان قد قرر كونَ الذكاة لا تحصل بالعظم، فلذلك اقتصر على قوله: "فعظم". قال: ولم أَرَ بعد البحث مَنْ نقلَ المنعَ من الذبح بالعظم حتَّى يتعقل (¬2). وقال الحافظ ابن الجوزي في "المشكل": هذا يدل على أن الذبح بالعظم كان معهودًا عندهم أنه لا يجزىء، وقررهم الشارع على ذلك، وأشار إليه هنا. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 672). (¬2) وانظر: "فتاوى ابن الصلاح" (2/ 472).

قال التَّيميُّ: العظم غالبًا لا يقطع، إنما يجرح ويُدمي، فتزهق النفس من غير أن يتيقن وقوع الذكاة، فلهذا نهى عنه. وقال النووي: لا يجوز بالعظم؛ لأنَّه يتنجس بالدم، وهو زادُ إخواننا في الجن، ولهذا نهى عن الاستنجاء به (¬1). وقال الكرماني: السنُّ عظم خاص، وكذلك الظفر، ولكنهما في العرف ليسا بعظمين، وكذا عند الأطباء (¬2). (وأما الظُّفْر) -بضم الظاء المعجمة وسكون الفاء، وبضمها أيضًا-، وأما -كسر الظاء-، فشاذ، يكون للإنسان وغيره، كالأُظفور. والجمع أظفار، وأظافير (¬3)، (فمُدَى) جمع مُدية، وهي بالتثليث: السكين (الحبشة)؛ أي: وهم وكفار، وقد نُهيتم عن التشبه بهم، قاله ابن الصلاح (¬4)، وتبعه النووي (¬5). وقيل: نهي عنهما؛ لأن الذبح بهما تعذيبٌ للحيوان، ولا يقع به غالبًا إلَّا الخنق الذي ليس هو على صورة الذبح. وقد قالوا: إن الحبشة تدمي مذابح الشاة بالظفر حتَّى تزهق نفسُها خنقًا. واعترض على التعليل الأول بأنه لو كان كذلك، لامتنع الذبح بالسكين، وسائر ما تذبح به الكفار. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 124 - 125). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 629). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 633). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 132). (¬4) انظر: "فتاوى ابن الصلاح" (2/ 473). (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 125).

وأجيب: بأن الذبح بالسكين هو الأصل، وأما ما يلتحق بها، فهو الذي يعتبر فيه التشبيه؛ لضعفها، ومن ثم كانوا يسألون عن جواز الذبح بغير السكين وشبهها. وفي "المعرفة" للبيهقي من رواية حرملة عن الشّافعيّ: أنه حمل الظفر في هذا الحديث على النوع الذي يدخل في البخور، فقال: إن السنَّ إنما يذكَّى بها إذا كانت منتزعةً، فأما وهي ثابتة، فلو ذبح بها، لكانت منخنقة؛ يعني: فدل على أن المراد بالسن: السنُّ المنتزَعة. وهذا بخلاف ما نقل عن الحنفية من جواز التذكية بالسن المنفصلة. قال: وأما الظفر، فلو كان المراد به ظفر الإنسان، لقال فيه ما قال في السن، لكن الظاهر أنه أراد به الظفر الذي هو طِيبٌ من بلاد الحبشة، وهو لا يفري، فيكون في معنى الخنق. كذا قال (¬1)، ولا يخفى ما فيه من البعد (¬2). تنبيهان: * الأول: اتفق الأئمة الأربعة على أن الذكاة بالسن أو الظفر المتصلين لا تجوز، واختلفوا فيما إذا كانا منفصلين. فقال مالك، والشّافعيّ، وأحمد: لا تجوز أيضًا. وقال أبو حنيفة: تجوز (¬3). قال البدر العيني في "شرح البُخاري": ظاهر الحديث عدمُ جواز الذبح ¬

_ (¬1) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (13/ 454). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 629). (¬3) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 308).

بالسن والظفر، ويدخل فيه ظفرُ الآدميِّ وغيرِه من كلِّ الحيوانات، وسواء المتصل والمنفصل، والطاهر والنجس. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين، ويجوز بالمنفصلين. وعن مالك روايات: أشهرها: جوازُ الذبح بالعظم دون السنِّ كيف كان. والثانية: كمذهب أبي حنيفة. والثالثة: يجوز بكل شيء يُصنع من عظم وغيره بحيث يَفْري الأوداجَ، وينهر الدم. وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: يجوز الذبحُ بالظفر والقرنِ والسنِّ إذا كان منزوعًا، ويُنهر الدمَ، ويَفْري الأوداج (¬1). وذكر العيني عن محمد، عن يعقوب، عن أبي حنيفة: أنه قال: أكره هذا الذبحَ، وإن فعل، فلا بأس بأكله (¬2). والمراد بمحمد: ابن الحسن، ويعقوب: أبو يوسف -رحمهما الله تعالى-. * الثاني: يجوز الذبح بكل محدود من حجر وقصب وخشبة وعظم، إلَّا السنَّ والظفر. وفي "الفروع": وفي عظمٍ غيرِ سِنٍّ روايتان (¬3): ¬

_ (¬1) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 65). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 49). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 281).

قال في "تصحيح الفروع": أطلق الخلاف، وأطلقه أيضًا في "المحرر"، و"الرعايتين"، و"الحاويين"، وغيرهم. إحداهما: يحل، وهو الصحيح. قال في "المغني": مقتضى إطلاق الإمام أحمد إباحةُ الذبح به، قال: وهو أصح (¬1)، وصححه الشارح، والناظم، وهو ظاهر كلامه في "الوجيز". والرواية الثَّانية: لا يباح (¬2). قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" في الفائدة السادسة بعد ذكر الحديث: وهذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام، إما لنجاسة بعضها، وإما لتنجيسه على مؤمني الجن (¬3)، واختاره ابن عبدوس في "تذكرته"، وقدمه ابن رزين في "شرحه" (¬4)، وفي "شرح المنتهى" للمصنف (¬5). وأما الذبح بالعظم غير السن، فمقتضى إطلاق قول أحمد، والشافعي، وأبي ثور: إباحتُه، وهو قول عمرو بن دينار، وأصحاب الرأي؛ لأنَّ العظم دخل في عموم اللفظ المبيح، ثم استثنى السن والظفر خاصة، فتبقى سائر العظام داخلةً فيما يباح الذبح به، والمطلَق مقدَّم على التعليل، ولهذا علل الظفرَ بكونه مُدَى الحبشة. وجزم ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" بحمل الحديث على السن ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 316). (¬2) انظر: "تصحيح الفروع" للمرداوي (10/ 392 - 393). (¬3) انظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (4/ 162). (¬4) انظر: "تصحيح الفروع" للمرداوي (10/ 393). (¬5) انظر: "شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (6/ 333). ولا أدري ما قصد الشارح -رحمه الله- بقوله: "للمصنف".

والظفر المتصلين، ثم قال: واستدل به قومٌ على منع الذبح بالعظم مطلقًا، لقوله: "أما السن، فعظم"، فعلل منعَ الذبح به لكونه عظمًا، والحكم يعم بعموم علته (¬1). قال: وقد جاء عن مالك في ذلك أربع روايات: ثالثها: يجوز بالعظم دون السن مطلقًا. رابعها: يجوز بهما مطلقًا، حكاه ابن المنذر. وحكى الطحاوي: الجواز مطلقًا عن قومٍ (¬2)، واحتجوا بقوله في حديث عدي بن حاتم: "أَمِرَّ الدم بما شئت" أخرجه أبو داود (¬3). ولكن عمومه مخصوص بالنهي الوارد صحيحًا في حديث رافع عملًا بالحديثين (¬4). ولفظ حديث عدي بن حاتم: قلت: يا رسول الله! أرأيت أحدنا أصاب صيدًا، وليس معه سكين: أيذبح بالمروة، وشقة العصا؟ فقال: "أَمْرِرِ الدمَ بما شئت، واذكر اسم الله" رواه أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجه (¬5). ولفظ النَّسائي: "أنهرِ الدمَ" (¬6)، وكذلك رواه الإمام أحمد في "المسند" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 203 - 204). (¬2) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 183). (¬3) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 629). (¬5) رواه أبو داود (2824)، كتاب: الضحايا، باب: في الذبيحة بالمروة، وابن ماجه (3177)، كتاب: الذبائح، باب: ما يذكى به. (¬6) رواه النَّسائي (4401)، كتاب: الضحايا، باب: إباحة الذبح بالعود. (¬7) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 258).

وقال الخطابي: ويروى: " أَمِرَّ الدم"، قال: والصواب: أَمْرِرْ -بسكون الميم وتخفيف الراء- (¬1)، وبهذا اللفظ رواه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح على شرط مسلم (¬2). وقال السهيلي في "الروض الأنف": "أَمِر الدَّمَ" -بكسر الميم-؛ أي: أرسله، يقال: دم مائر: سائل، قال: وهكذا رواه النقاش، وفسره، ورواه أبو عبيد -بسكون الميم-، وجعله من مَرَيْتُ الضَّرْعَ، قال: والأول أشبه بالمعنى (¬3). وعند النَّسائي في "سننه الكبرى" في رواية: "أهرق" (¬4)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 280). (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (332)، والحاكم في "المستدرك" (7600). (¬3) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (1/ 51). (¬4) رواه النَّسائي في "السنن الكبرى" (4816). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 49).

باب الأضاحي

باب الأضاحي جمع أُضحية -بضم الهمزة، ويجوز كسرُها، ويجوز حذفُ الهمزة، فتفتح الضاد، كسَرِيَّة-، والجمع ضحايا، وهي: أضحاة، والجمع أضحى، وبه سمي يوم الأضحى، وهو يذكر ويؤنث، وكأن تسميتها اشتُقت من اسم الوقت الذي تشرع فيه (¬1). وقد ترجم له في البُخاري كتاب: سنة الأضاحي. قال في "الفتح": وكأنه ترجم بالسنة إشارة إلى مخالفة من قال بوجوبها. قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة (¬2)، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور، ولا خلاف في أنها من شرائع الدين. وهي عندنا كالشافعية والجمهور سنّة مؤكدة لكل مسلم، ولو ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 55)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 76)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 204). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 3)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬2) انظر: "المحلى" لابن حزم (7/ 355).

مكاتَبًا، بإذن سيده، وبغير إذن، فلا؛ لنقصان ملكه، ويكره تركُها لقادرٍ عليها. وعند الشّافعيّة سنّة على الكفاية، وفي وجه للشّافعيّة: أنها من فروض الكفاية (¬1). ومعتمد مذهبنا: أنها ليست بواجبة إلَّا أن ينذرها، وكانت واجبة على النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. وذكر في "الفروع" رواية عن الإمام أحمد بوجوبها. قال: ذكرها جماعة، قال: وذكره الحلواني عن أبي بكر، وخرجها أبو الخطاب، وابن عقيل من التضحية عن اليتيم، وعنه: على حاضر (¬2). وقال أبو حنيفة: تجب الأضحية على المقيم الموسر. وعن مالك مثله في رواية، لكن لم يقيد بالمقيم. ونُقل عن الأوزاعي، وربيعة، والليث مثلُه. وخالف أبو يوسف من الحنفية، وأشهب من المالكية، فوافقا الجمهور. وعن محمد بن الحسن: هي سنّة غير مرخص في تركها. قال الطحاوي: وبه نأخذ. وليس في الآثار ما يدل على وجوبها، انتهى (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 3). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 405). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 3).

وأقرب ما يتمسك به للوجوب حديثُ أبي هريرة [رفعه] (¬1): "من وجد سَعَةً، فلم يُضَحِّ، فلا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانا" أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه (¬2)، ورجالُ الإمام أحمد ثقات، لكنه اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره. ومع ذلك، فليس صريحًا في الإيجاب (¬3). وذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب حديثًا واحدًا، وهو: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بيَدِهِ، وَسَمَّى وَكبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صفَاحِهِمَا (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 321)، وابن ماجه (3123)، كتاب: الأضاحي، باب: الأضاحي واجبة هي أم لا؟. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 3). (¬4) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البُخاري (5238)، كتاب: الأضاحي، باب: من ذبح الأضاحي بيده، و (5244)، باب: وضع القدم على صفحة الذبيحة، و (5245)، باب: التكبير عند الذبح، ومسلم (1966/ 17 - 18)، كتاب: الأضاحي، باب: استحباب الضحية، وأبو داود (2794)، كتاب: الضحايا، باب: ما يستحب من الضحايا، والنَّسائي (4385 - 4388)، كتاب: الضحايا، باب: الكبش، و (4415)، باب: وضع الرجل على صفحة الضحية، و (4416) باب: تسمية الله -عز وجل- على الضحية، و (4417)، باب: التكبير عليها، و (4418)، باب: ذبح الرجل أضحيته بيده، والترمذي (1494)، كتاب: الأضاحي، باب: ما جاء في الأضحية بكبشين، وابن ماجه (3120)، كتاب: الأضاحي، باب: أضاحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. = .

الأَمْلحُ: الأَغْبَرُ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ سوَادٌ وبياضٌ. * * * (عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالكٍ) النجَّارِيِّ (- رضي الله عنه -، قال: ضَحَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكبشين) تثنية كبش، وهو فحل الضَّأْن في أي سنٍّ كان. واختُلف في ابتدائه، فقيل: إذا أَثنى، وقيل: إذا أربع، والجمع كُبُش وكِباش (أملحين) الأملح -بالحاء المهملة- الأغبر؛ كما قاله المصنف -رحمه الله تعالى-، وهو الذي فيه سواد وبياض، والبياض أكثر. وزاد الخطابي: الأبيض هو الذي في خلل صوفه طبقات سود (¬1). ويقال: الأبيض الخالص، قاله ابن الأعرابي (¬2)، وبه تمسك علماؤنا حيث قالوا: وأفضلُها لونًا: الأشهب، وهو الأملح، والأبيض، أو ما بياضُه أكثرُ من سواده، ثم أصفر، ثم أسود. قال: قال الإمام أحمد: يعجبني البياض، وقال: أكره السواد (¬3). وقيل: المراد بالأملح: الذي يعلوه حمرة. ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 290)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 411)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 361)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 119)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 207)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1635)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 10)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 154)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 90)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 211). (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 228)، ووقع في المطبوع: "طاقات" بدل "طبقات". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 10). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 41).

وقيل: الذي ينظر في سواد، ويأكل في سواد، ويمشي في سواد، ويبرك في سواد؛ أي: إن مواضع هذه منه سواد، وما عدا ذلك أبيض. وحكى ذلك الماوردي عن عائشة -رضي الله عنها-، وهو غريب، ولعله أراد الحديث الذي جاء عنها كذلك، لكن ليس فيه وصفه بالأملح (¬1). واختُلف في اختيار هذه الصفة، فقيل: لحُسْنِ منظره، وقيل: لشحمه وكثرة لحمه (¬2) (أقرنين) تثنية أقرن، وهو خلاف الأجَمّ، فيستحب أن يضحي بالأقرن، وهو أفضل من الأجم، مع الاتفاق على جواز التضحية بالأجم، وهو الذي لا قرن له. واستدل بالحديث على استحسان الأضحية صفة ولونًا. قال الماوردي: إن اجتمع حسنُ المنظر مع طيبِ المَخْبَر في اللحم، فهو أفضل، وإن انفرد، فطيبُ المخبر أولى من حسن المنظر (¬3). قال علماؤنا: وذكر وأنثى سواء (¬4). وربما استدل بالحديث على أفضلية الذكر. قال في "الفتح": وهو قول الإمام أحمد، وعنه رواية: أن الأنثى أولى. وحكى الرافعي فيه قولين عن الشّافعيّ: أحدهما: عن نصه في "البويطي": الذكر؛ لأنَّ لحمه أطيب، وهذا هو الأصح. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 10). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) المرجع السابق، (10/ 11). (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 41).

والثاني: أن الأنثى أولى. وقال ابن العربي: الأصحُّ أفضليةُ الذكر على الإناث في الضحايا (¬1)، وقيل: سواء هما (¬2)، (ذَبحهما)، وفي لفظ: فذبحهما (¬3) بزيادة الفاء؛ أي: ذبح الكبشين - صلى الله عليه وسلم - (بيده) الشريفة، (وسمّى) - صلى الله عليه وسلم - عند ذبحه لأضحيته، (وكبّر)؛ أي: قال على الذبح: باسم الله والله أكبر، (ووضع) - صلى الله عليه وسلم - (رجله) الشريفه اليمنى (على صفاحهما). قال أنس - رضي الله عنه - في رواية عنه عندهما: فرأيته؛ أي: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - واضعًا قدمَه على صفاحهما (¬4)؛ أي: على صِفاح كلِّ واحدٍ منهما عند ذبحه، والصِّفاح -بكسر الصاد المهملة وتخفيف الفاء وآخره حاء مهملة-: الجوانب. والمراد: الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثُنِّي؛ إشارةً إلى أنه فعل ذلك في كلٍّ منهما، فهو من إضافة الجمع إلى المثني بإرادة التوزيع. ففي الحديث: استحبابُ التكبير مع التسمية، واستحبابُ وضع الرجل على صفحة عنق الأضحية الأيمن. واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر، فتوضع رجلُه على الجانب الأيمن، فيكون أسهلَ على الذابح في أخذ السكين، وإمساكِ رأس الأضحية بيده اليسار (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 293). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 11). (¬3) تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5238). (¬4) تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5238)، وعند مسلم برقم (1966/ 18). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 18).

وفيه: استحباب ذبح المضحي أضحيته بيده، ولا خلاف في كون ذلك مشروعًا، وإنما الخلاف في وجوب ذلك. وقد اتفقوا على جواز التوكيل فيها، ولو للقادر، لكن عند المالكية رواية بعدم الإجزاء مع القدرة، وعند أكثرهم: يكره، لكن يستحب أن يشهدَها (¬1). ويجوز أن يوكِّل في ذبحها كتابيًا مع الكراهة عند الثلاثة. وقال مالك: لا يجوز أن يذبحها إلَّا مسلم (¬2). وذكر في "الفتح": يُكره أن يستنيب خَصِيًّا، أو صبيًا، أو كتابيًا، وأولهم أولى، ثم ما يليه (¬3). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويستحب أن يقول إذا ذبح: "وَجَّهْتُ وجهي للذي" إلى قوله: "وأنا من المسلمين". قال الإمام أحمد: يُسمِّي، ويكبِّر حين يحرك يده بالذبح، ويقول: اللهمَّ هذا منكَ ولكَ، ولا بأس بقوله: اللهم تقبل من فلان، نص عليه. وذكر بعضهم: يقول: اللهم تَقَبَّلْ مِنِّي كما تقبلت من إبراهيمَ خليلِك (¬4)؛ لما في حديث جابر عند ابن ماجه، قال: ضَحَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد بكبشين، فقال حين وَجَّهَهما: "وَجَّهْتُ وَجْهي للذي فَطَرَ السماواتِ والأرضَ حنيفًا وما أنا منَ المشركين، إنَّ صلاتي ونُسُكي ومَحْياي ومَمَاتي لله رَبِّ العالمين، لا شريك له، وبذلك أُمِرْتُ، وأنا من ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 307). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 18). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 400).

المسلمين، اللهم مِنْكَ ولكَ عن محمد وأُمَّتِه" (¬1). وفي "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح مسلم"، و"سنن أبي داود" عن عائشة -رضي الله عنها-: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبشٍ أقرنَ يَطَأُ في سواد، ويَبْرُك في سَواد، وينظر في سواد، فأتي به، ليضحي به، وقال لها: "يا عائشة! هَلُمِّي المُدْيَةَ"، ثم قال: "اشْحذيها بِحَجَر"، ففعلت، ثم أخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: "باسم الله، اللهم تقبلْ من محمدٍ وآلِ محمدٍ، ومن أمةِ محمدٍ"، ثم ضحى (¬2). وفي "مسند الإمام أحمد"، وأبي داود، والترمذي عن جابر - رضي الله عنه -، قال: صلّيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدَ الأضحى، فلما انصرف، أتي بكبشٍ، فذبحه، فقال: "باسم اللهِ واللهُ أكبر، اللهم هذا عَنِّي وعَمَّنْ لم يُضَحِّ من أمتي" (¬3). وروى الإمام أحمد من حديث عليّ بن الحسين، عن أبي رافع: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ضحى، اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلّى، وخطب النَّاس، أُتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه، فذبحه بنفسه [بالمدية] (¬4)، ثم يقول: "اللهمَّ هذا عن أُمَّتي جميعًا مَنْ شهدَ لكَ بالتوحيد، ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (3121)، كتاب: الآضاحي، باب: أضاحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 78)، ومسلم (1967)، كتاب: الأضاحي، باب: استحباب الضحية، وأبو داود (2792)، كتاب: الضحايا، باب: ما يستحب من الضحايا. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 356)، وأبو داود (2810)، كتاب: الضحايا، باب: في الشاة يضحى بها عن جماعة، والترمذي (1521)، كتاب: الأضاحي، باب: (22). (¬4) [بالمدية] ساقطة من "ب".

وشهدَ لي بالبلاغ"، ثم يؤتى بالآخر، فيذبحه بنفسه، ويقول: "هذا عن محمدٍ وآلِ محمدٍ"، فيعطيهما جميعًا المساكين، ويأكل هو وأهله منهما، فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي، قد كفاه الله المؤنةَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والغرمَ (¬1). قال الحافظ المصنف -رحمه الله ورضي عنه-: (الأملح)؛ أي: الواحد من قوله: أملحين: هو (الأغبر) -كما قدمنا- (وهو الذي فيه) أي: في لونه (سواد وبياض). وقال أكثر الشّافعيّة: أفضل الألوان البيضاء، ثم الصفراء، ثم الغبراء، ثم البلقاء، ثم السوداء (¬2). تنبيهات: الأول: لا يجزىء في الأضحية إلَّا الجَذَعُ من الضَّأْن، وهو ما له ستةُ أشهر، والثَّنِيُّ مما سواه، فثنيُّ الإبل: ما كَمُلَ له خمسُ سنين، وثني البقر: ما له سنتان، وثني المَعز: ما له سنة، وجذعُ الضأن أفضلُ من ثني المعز، وكلٌّ منهما أفضلُ من سبع بَدَنةٍ أو بقرةٍ، وسَبع شِياهٍ أفضلُ من بدنةٍ أو بقرة، وزيادةُ عددٍ في جنسٍ أفضلُ من المغالاة مع عدمه، فبدنتان بتسعةٍ أفضلُ من بدنةٍ بعشرة. ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية البدنةَ، ورجَّح الموفَّق الكبشَ على سائر النَّعَم، والخصيُّ راجحٌ على النعجة، هذا تحرير مذهب أحمد (¬3)، فعندنا: ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 391). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 120)، وعنه ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 11)، وعنه الشارح -رحمه الله-. (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 41 - 42).

أن الجذعَ من الضأن ما تَمَّ له ستةُ أشهرٍ، وطعنَ في السابع، وهو قول الحنفية أيضًا. وحكى صاحب "الهداية" منهم عن الزعفراني: أنه ما تم له سبعة أشهر (¬1). وحكى التِّرمذيّ عن وكيع: أنه ما تم له ستة أو سبعة (¬2). وعند الشافعية: أن جذع الضأن ما تم له سنة، ودخل في الثَّانية، هذا هو الأصح عندهم. وقال العبادي منهم: لو أجذعَ قبل السنة؛ أي: سقطت أسنانه، أجزأ؛ كما لو تَمَّتْ السنَةُ قبل أن يُجذع، ويكون ذلك كالبلوغ، إما بالسن، وإما بالاحتلام. وهكذا قال البغوي: الجذع من الضأن: ما استكملَ السنة، أو أجذع قبلها (¬3). وعند الشّافعيّة: ثنيُّ المعز: ما تم له سنتان، وطعن في الثالثة؛ كالبقر والإبل: ما تم له خمس سنين، وطعن في السادسة (¬4)، كمذهبنا، والله أعلم. الثاني: أول وقت [ذبح] (¬5) الضحية يومَ العيد بعدَ الصلاة، ولو قبل الخطبة، والأفضل بعدها، فإن تعددت الصلاة في البلد، فبعد أول صلاة، ¬

_ (¬1) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 75). (¬2) انظر: "سنن التِّرمذي" (4/ 88)، عقب حديث (1500). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 16). (¬4) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (3/ 193). (¬5) ما بين معكوفين سقط من "ب".

ولو سبقت صلاةَ الإمام، وإذا لم يكن في البلد صلاة، فبعدَ قدرها بعد حلِّها، فإن فاتت الصلاة بالزوال، ضَحَّى إذن، وأجزأه، وآخره: آخر ثاني أيام التشريق، وأفضلُها أول يوم من وقته، ثم ما يليه، ويجزىء في ليلتهما مع الكراهة (¬1). وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأهل الأمصار الذبحُ حتَّى يصلِّي الإمامُ العيدَ. فأما أهل القرى، فيجوز لهم بعد طلوع الفجر. وقال مالك: وقتُه بعدَ الصلاةِ والخطبةِ وذبحِ الإمام. وقال الشّافعيّ: وقتُ الذبح إذا مضى من الوقت مقدارُ ما يصلِّي فيه ركعتين، ويخطب خطبتين بعدهما (¬2)، ويمتد عند الشّافعىّ إلى انقضاء التكبير من ثالث أيام التشريق. ومذهب أبي حنيفة، ومالكٍ كمذهبنا في انتهاء وقت الذبح، إلَّا أن مالكًا لا يجيز ذبحَها ليلًا (¬3)، ودليل مذهبنا: قولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديث جُنْدُبِ بنِ سُفيانَ البَجَلِيِّ في "الصحيحين": "من ذبحَ قبلَ أن يصليَ، فليذبَحْ مكانَها أُخرى، ومن لم يكنْ ذبحَ حتَّى صلينا، فليذبحْ باسم الله" (¬4). وفي حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 45). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 307). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) رواه البُخاري (5181)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: قول النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "فليذبح على اسم الله"، ومسلم (1960)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها.

النحر: "من كان ذبحَ قبلَ الصلاة، فَلْيُعِدْ" متفق عليه (¬1). وللبخاري: "من ذبحَ قبلَ الصلاة، فإنما يذبحُ لنفسه، ومن ذبحَ بعدَ الصلاة، فقد تَمَّ نسكُه، وأصاب سنّة المسلمين" (¬2). وتقدم ذلك في باب العيدين. الثالث: يجوز الأكل من الأضحية، والادخار من لحمها فوقَ ثلاثة أيام، ونسخ تحريم الادخار فوق ثلاث كما في حديث جابر وغيره: كنا لا نأكل من لحوم بُدْننا فوق ثلاث بمنًى، فرخَّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "كلوا وتَزَوَّدوا وادَّخِروا" رواه مسلم، والنَّسائي (¬3). وفي "الصحيحين" من حديث عائشة -رضي الله عنها-، قالت: دَفَّ أهلُ أبياتٍ من البادية حضرةَ الأضحى زمانَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ادَّخِروا ثلاثًا، ثم تصدَّقوا بما بقي"، فلما كان بعد ذلك، قالوا: يا رسول الله! إن النَّاس يتخذون الأسقيةَ من ضحاياهم، ويحملون فيها الوَدَك، فقال: "وما ذاك؟ "، قالوا: نهيتَ أن تؤكل لحومُ الضحايا بعد ثلاث، فقال: "إِنَّما نهيتُكم من أجلِ الدافَّةِ، فكلوا، وادَّخروا، وتصدَّقوا" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البُخاري (911)، كتاب: العيدين، باب: الأكل يوم النحر، ومسلم (1962)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها. (¬2) تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5236)، من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما-. (¬3) رواه مسلم (1972/ 29)، كتاب: الأضاحي، باب: بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، والنَّسائي (4426)، كتاب: الضحايا، باب: الإذن في ذلك. (¬4) رواه البُخاري (5250)، كتاب: الأضاحي، باب: ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها، مختصرًا، ومسلم (1971)، كتاب: الأضاحي، باب: بيان =

قال في "المطالع": دَفَّ ناسٌ، ومن أجل الدافَّةِ، ودَفَّتْ دافَّةٌ، كله من الدَّفِّ، وهو سير ليس بالشديد في جماعة (¬1). وفي "القاموس": الدافة: الجيش يدفون نحو العدو (¬2). وفي "الصحيحين" من حديث سلمة بن الأكوع، قال: قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "من ضَحَّى منكم، فلا يُصبحنَّ بعد ثالثةٍ في بيته منه شيءٌ"، فلما كان العام المقبل، قالوا: يا رسول الله! نفعل كما فعلنا العام الماضي؟ قال: "كلوا وأطعموا وادخروا؛ فإن ذلك العام كان بالناس جهدٌ، فأردت أن تُعينوا فيها" (¬3). وفي "مسند الإمام أحمد"، و"صحيح مسلم"، و"سنن التِّرمذيُّ" عن بريدة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنتُ نهيتُكم عن لحوم الأضاحي فوقَ ثلاث ليتسعَ ذَوو الطَّوْلِ على مَنْ لا طَوْلَ له، فكلوا ما بدا لكم، وأطعموا وادَّخِروا" (¬4). ¬

_ = ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، واللفظ له. (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 261). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1047)، (مادة: دفف). (¬3) رواه البُخاري (5249)، كتاب: الأضاحي، باب: ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزود منها، ومسلم (1974)، كتاب: الأضاحي، باب: بيان ما كان من المنهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 356)، ومسلم (1977)، كتاب: الأضاحي، باب: بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، والترمذي (1510)، كتاب: الأضاحي، باب: ما جاء في الرخصة في أكلها بعد ثلاث، واللفظ له.

فمعتمد مذهب الإمام أحمد: إن أكل المضحي أكثرَها، أو أكلَها كلَّها، أو أهداها كلَّها إلَّا أوقيةً تصدقَ بها، جاز؛ لأنَّه تجب الصدقة ببعضها نِيئًا على فقيرٍ مسلم، فإن لم يتصدق بشيء، ضمنَ أقلَّ ما يقع عليه الاسمُ بمثله لحمًا، ويعتبر تمليك الفقير، فلا يكفي إطعامه. والسنّة أكلُ ثلثها، وإهداء ثلثها، ولو لغنيٍّ، ولا يجبان. ويجوز الإهداء منها لكافر إن كانت تطوعًا، والصدقة بثلثها، ولو كانت منذورة، أو معينة. ويُستحب أن يتصدق بأفضلها، ويهدي الوسط، ويأكل الأدون. وكان من شعائر الصالحين تناولُ لقمةٍ من الأضحية من كبدِها أو غيرِها تبركًا. وإن كانت الأضحية ليتيم، فلا يتصدق الوليُّ ولا يهدي منها شيئًا، بل يوفِّرها له (¬1). ومذهب أبي حنيفة: يأكل من أضحيته، ويطعم الأغنياء والفقراء، ويدَّخر، ويستحب له أَلَّا ينقص الصدقة عن الثلث. وقال مالك: يأكل منها، ويطعم غنيًا وفقيرًا، وحرًا وعبدًا، ونيئًا ومطبوخًا، ويكره أن يطعم منها يهوديًا أو نصرانيًا، وليس لِما يأكل منها ويطعم حَدٌّ، والاختيار أن يأكل الأقلَّ، ويقسم الأكثر، ولو قيل: يأكل الثلث، ويقسم الباقي، لكان حسنًا. وقال الشافعي في أحد قوليه: المستحب أن يأكل ثلثها، ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 52).

وقال في الآخر: يأكل النصف، ويتصدق بالنصف؛ كما في "الإفصاح" لابن هبيرة (¬1). قلت: معتمد مذهب الشّافعيّة: له أكلٌ من أضحيةِ تطوعٍ، وله إطعام أغنياء، ويجب تصدقٌ بلحم منها، وهو ما ينطلق عليه الاسم منه، والأفضل التصدقُ بكلها، إلَّا لقمًا يأكلها، وأما المنذورة، فلا يأكل منها شيئًا (¬2)، والله أعلم. الرابع: لا يجزىء في الأضحية مَعيبٌ يُنقص عيبُه لحمَه؛ كالعمياء، والعوراء، والعرجاء البينِ عرجُها، والمريضةِ، والعجفاءِ، وتجزىء ما خلقت بلا أذن أو قرن أو ذنب، وما ذهب نصف قرنها أو أذنها فأقل، أو قطع ذنبها عندنا (¬3). وعند الحنفية: إن كان الذاهب الأقل، جاز. وجوز الشّافعيّة فاقدة قرن ومكسورتَه كسرًا لم ينقص المأكول، لا مخلوقة بلا أذن، ولا مقطوعتها، ولو بعضها. وقال مالك في مكسورة القرن: إن كان يَدْمَى، فلا تجزىء (¬4). ومنع الشّافعيّة التضحيةَ بالحامل، وصحح ابن الرفعة منهم الإجزاء (¬5). وتصح الأضحية بالخَصِيِّ، وهو ما قطعت خصيتاه، أو سُلَّتا، أو ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 311). (¬2) انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 329). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 43). (¬4) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 308). (¬5) انظر: "فتح الوهاب" للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 328).

رُضَّتا، فإن قُطع ذكره مع ذلك، وهو الخصي المجبوب، ويقال له: الممسوح، لم يجزىء (¬1). وقد أخرج أبو داود من حديث جابر - رضي الله عنه -: ذبح النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كبشين أقرنين أملحين مَوْجوءَيْن (¬2). قال الخطابي: الموجوء؛ يعني: -بضم الجيم وبالهمز-: منزوع الأُنثيين، والوجاء: الخصاء (¬3). وفيه: جوازُ الخصيِّ في الضحية، وقد كرهه بعضُ أهل العلم لنقص العضو، لكن ليس هذا عيبًا؛ لأنَّ الخصي يُفيد اللحمَ طيبًا، وينفي عنه الزُّهومةَ وسوءَ الرائحة (¬4). وفي حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربعٌ لا تجوز في الأضاحي: العوراءُ البيِّنُ عَوَرُها، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، والعرجاءُ البيِّنُ ضلعُها، والكبيرةُ التي لا تُنْقي" رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، وصححه التِّرمذيّ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 43 - 44). (¬2) رواه أبو داود (2795)، كتاب: الضحايا، باب: ما يستحب من الضحايا. (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 228). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 10). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 284)، وأبو داود (2802)، كتاب: الضحايا، باب: ما يكره من الضحايا، والنَّسائي (4369)، كتاب: الضحايا، باب: ما نهي عنه من الأضاحي العوراء، والترمذي (1497)، كتاب: الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي، وابن ماجه (3144)، كتاب: الأضاحي، باب: ما يكره أن يضحى به.

وعن عليّ -رضوان الله عليه-، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُضَحى بأَعضبِ القرنِ والأذنِ. قال قتادة: فذكرتُ ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: العضب: النصف فأقل من ذلك، رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن، وصححه التِّرمذيّ. لكن ابن ماجه لم يذكر قول قتادة إلخ (¬1). ولا يجزىء في الأضحية الهَتْماءُ، وهي التي ذهبت ثناياها من أصلها (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الهتماء: التي سقط بعضُ أسنانها، تجزىء في أصح الوجهين (¬3). واتفق العلماء على أنه لا يجوز بيعُ شيء من الأضاحي بعدَ ذبحها، ثم اختلفوا في جلودها، فقال أبو حنيفة: يجوز بآلة البيت؛ كالغربال، والمنخل، فإن باعها بدنانير ودراهم وفلوس، كره ذلك، وجاز، إلَّا أن يبيعها بذلك، ويتصدق به، فلا يكره إذًا. وقال الإمام أحمد، وكذا الإمام مالك، والشّافعيّ: لا يجوز ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 127)، وأبو داود (2804)، كتاب: الضحايا، باب: ما يكره من الضحايا، والنَّسائي (4377)، كتاب: الضحايا، باب: العضباء، والترمذي (1504)، كتاب: الأضاحي، باب: في الضحية بعضباء القرن والأذن، وابن ماجه (3145)، كتاب: الأضاحي، باب: ما يكره أن يضحى به. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 43). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (3/ 398). (¬4) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (1/ 309).

فائدة: تجزىء الأضحية الواحدة عن الواحد. ونص الإمام أحمد: وعن أهل بيته وعياله مثل امرأته وأولاده ومماليكه. والبدنةُ والبقرةُ عن سبعة فأقل. قال الزركشي: يعتبر أن تشترى للجميع دفعة، فلو اشترك ثلاثة في بقرة أضحية، وقالوا: من جاء يريد أضحية، شاركناه، فجاء قوم فشاركوهم، لم تجزىء إلَّا عن الثلاثة، قاله الشيرازي، انتهى. والمراد: إذا أوجبها الثلاثةُ على أنفسهم، نصّ عليه الإمام أحمد - رضي الله عنه - (¬1). ودليل إجزاء الأضحية عن الواحد وعن أهل بيته: ما رواه ابن ماجه، والتِّرمذيُّ، وصححه من حديث عطاء بن يسار، قال: سألت أبا أيوبَ الأنصاريَّ: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كان الرجل في عهد النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون حتَّى تناهى النَّاس، فصار كما ترى (¬2)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 42). (¬2) رواه التِّرمذيُّ (1505)، كتاب: الأضاحي، باب: ما جاء أن الشاة الواحدة تجزىء عن أهل البيت، وابن ماجه (3147)، كتاب: الأضاحي، باب: من ضحى بشاة عن أهله. وفي الأصل: "تباهى" بدل "تناهى"، والصواب ما أثبت. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 6).

كتاب الأشربة

كتاب الأشربة جمع شَراب، والمراد: ما يَحْرُم منها؛ لكونه مسكرًا، وذكر الحافظ فيه ثلاثةَ أحاديث.

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَمَّا بَعْدُ: أَيُّها النَّاسُ! إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ؛ مِنَ العِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالعَسَلِ، وَالحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ. ثَلاثٌ وَدِدْتُ أَن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالكَلَالَةُ، وَأَبْوابٌ مِنَ أَبْوابِ الرِّبَا (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البُخاريّ (4343)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} [المائدة: 90] و (5259)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر من العنب، و (5266 - 5267)، باب: ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب، ومسلم (3032/ 32 - 33)، كتاب: التفسير، باب: في نزول تحريم الخمر، وأبو داود (3669)، كتاب: الأشربة، باب: في تحريم الخمر، والنَّسائيُّ (5578 - 5579)، كتاب: الأشربة، ذكر أنواع الأشياء التي كانت منها الخمر حين نزل تحريمها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 262)، و"المفهم" للقرطبي (7/ 340)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 210)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1641)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 46)، و"عمدة القاري" للعيني (18/ 211)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 57).

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ عمرَ) بنِ الخطاب (-رضي الله عنهما-: أن) أباه أميرَ المؤمنين (عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - قال) وهو يخطب (على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، فكان من جملة ما خطب به النَّاسَ أَنْ قال: (أما بعد: أيُّها النَّاس! إنه)؛ أي: الشأن والأمر قد (نزل)، وعند البيهقي: فحَمِدَ الله وأثنى عليه (¬1)، ثم قال: إنه قد نزل (تحريمُ الخمر) يومَ نزل، (وهي) تصنع (من خمسة) أشياءَ كما في لفظٍ لمسلم (¬2)، والجملة حالية؛ أي: نزل تحريمُ الخمر في حال كونها تُصنع من خمسة، والمراد: أن الخمر تُصنع من هذه الأشياء؛ لأنَّ ذلك مختص بوقت نزولها، ثم بيّن الخمسةَ، وبدأ بأشهرها وأكثرها، فقال: (من العنب) المعروفِ. وقد أورد هذا الحديث أصحابُ المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة؛ لأنَّه له عندهم حكمُ الرفع، لأنَّه خبر صحابيٍّ شهدَ التنزيل، أخبر عن سبب نزول، وقد خطب به عمر - رضي الله عنه - على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم، فلم يُنقل عن أحد منهم إنكارُه. وأراد عمر - رضي الله عنه - بنزول تحريم الخمر: آيةَ المائدة، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} [المائدة: 90] إلى آخرها، فنبه على أن المراد بالخمر في هذه الآية الكريمة ليس خاصًا بالمتخذ من العنب، بل تناول المتخذَ من غيرها. ويوافقه حديثُ أنس - رضي الله عنه -، قال: حُرِّمَتْ علينا الخمرُ حينما ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 288). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (3032/ 32).

حُرمت، وما نجد -يعني: بالمدينة- خمرَ الأعناب إلَّا قليلًا، وعامة خمرنا البُسْرُ والتمر (¬1). وفي الحديث الآخر عنه: حرمت الخمر، فقالوا: أكفئها، فكفأنا، قال معتمر: قلت لأنس: ما شرابهم؟ قال: رُطَبٌ وبُسْرٌ، فقال أبو بكر بن أنس: وكانت خمرَهم، فلم ينكر أنسٌ، متفق عليهما (¬2). فإن ذلك يدل على أن الصحابة فهموا من تحريم الخمر تحريمَ كلِّ مُسْكِر، سواء كان من العنب، أم من غيرها (¬3). وقد جاء ما قاله عمر - رضي الله عنه - عن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صريحًا، فأخرج أصحابُ السنن الأربعة، وصححه ابن حبان من وجهين عن الشعبي: أن النعمانَ بنَ بشير قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الخمرَ من العصيرِ والزبيبِ والتمرِ والحنطةِ والشعيرِ والدُّرَةِ، وإني أنهاكم عن كلِّ مُسْكِر" (¬4). ولأبي داود من وجهٍ آخر عن الشعبي، عن نعمان، بلفظ: إن من العنب خمرًا، وإن من التمر خمرًا، وإن من العسل خمرًا (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البُخاري (5258)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر من العنب، واللفظ له، ومسلم (1980/ 5)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر. (¬2) رواه البُخاري (5261)، كتاب: الأشربة، باب: نزل تحريم الخمر، وهي من البسر والتمر، ومسلم (1980/ 3)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 46 - 47). (¬4) رواه أبو داود (3677)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر مما هو؟ والنَّسائيُّ في "السنن الكبرى" (6787)، والترمذي (1872)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في الحبوب التي يتخذ منها الخمر، و (3379)، كتاب: الأشربة، باب: ما يكون منه الخمر، وابن حبان في "صحيحه" (5398). (¬5) رواه أبو داود (3676)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر مما هو؟

وأخرج الإمام أحمد من حديث أنس بسندٍ صحيح عنه، قال: الخمرُ من العنبِ والتمرِ والعسلِ والحنطةِ والشعيرِ والذرة (¬1). وفي "صحيح البُخاريّ" عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: نزل تحريمُ الخمر وإنَّ بالمدينة يومئذٍ لخمسةَ أشربةٍ ما فيها شرابُ العنب (¬2). (و) من (التمر)، وسواء أكان منه وحده، أو خُلط بفضيخ زَهْو، والفضيخ -بفاء ومعجمتين، وزن عظيم-: اسمٌ للبسر إذا شُدِخَ ونُبذَ، والزهو -بفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو-: هو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب، وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب، كما يطلق على خليط البسر والتمر، وكما يطلق على البسر وحده، وعلي التمر وحده (¬3). وعند الإمام أحمد عن أنس: وما خمرُهم يومئذٍ إلَّا البسرُ والتمرُ مخلوطَيْنِ (¬4). وفي مسلم عن أنس: أَسقيهم من مَزَادَةٍ فيها خليط بُسر وتمر (¬5). (و) من (العسل)، وهو البِتْعُ -بكسر الموحدة وسكون المثناة، وقد تفتح-، وهي لغة يمانية، وكان أهل اليمن يشربونه (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 112). (¬2) رواه البُخاري (4340)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ. . . .} [المائدة: 90]. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 38). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 217). (¬5) رواه مسلم (1980/ 7)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر. (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 42).

وفى "البُخاريّ" عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربةٍ تُصنع بها، فقال: وما هي؟ قال: البِتْع والمِزْرُ، فقيل لأبي بردة: ما البِتْعُ؟ قال: نبيذُ العسل، والمِزْرُ نبيذُ الشعير (¬1). وفي "مسلم" عنه، قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا ومعاذ إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله! إن شرابًا يُصنع بأرضنا يقال له: المزر من الشعير، وشرابًا يقال له: البتع من العسل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ" (¬2). وفي "سنن أبي داود" عنه: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شرابٍ من العسل، قال: "ذاكَ البِتْعُ"، قلت: ومن الشعير والذرة؟ قال: "ذاك المِزْر"، ثم قال: "أخبر قومَكَ أن كلَّ مسكرٍ حرام" (¬3). ففي هذا التصريح بأن تفسير البتع من كلام النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو مرفوع. (و) من (الحنطة)؛ أي: البُرِّ، (و) من (الشعير). وتقدم آنفًا تسميةُ المتَّخَذِ من الشعير والذرة بالمزر، والجميعُ يسمَّى خمرًا. (والخمر) المحرَّم شرعًا هو (ما خامرَ العقلَ)؛ أي: غطاه وخالطه، فلم يتركه على حاله، والعقلُ هو آلة التمييز، فلذلك حرم ما غطاه وغَيَّرَهُ؛ لأنَّ بذلك يزول الإدراك الذي طلبه الله من عباده ليقوموا بحقوقه، فكأن عمر ¬

_ (¬1) رواه البُخاري (4087)، كتاب: المغازي، باب: بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- إلى اليمن قبل حجة الوداع. (¬2) رواه مسلم (1733)، (3/ 1586)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام. (¬3) رواه أبو داود (3684)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن المسكر.

- رضي الله عنه - قال: الخمرُ الذي وقعَ تحريمُه في لسان الشرع هو ما خامر العقل. فإن قيل: إن بعض أهل اللغة يخصُّ اسمَ الخمر بالمتَّخذ من العنب. فالجواب: أن الاعتبار بالحقيقة الشرعية، وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر المتَّخَذ من غير العنب يسمى خمرًا، والحقيقةُ الشرعيةُ مقدَّمة على اللغوية، وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الخمرُ من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة" (¬1). قال البيهقي: ليس المراد الحصر فيهما؛ لأنَّه ثبت أن الخمر يُتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره، وإنما فيه الإشارة إلى أن الخمر شرعًا لا يختص بالمتَّخَذ من العنب، بل الغالب والأكثر اتخاذُ الخمر من العنب والتمر (¬2). قال الراغب في "مفردات القرآن": يسمَّى الخمر؛ لكونه خامرًا للعقل؛ أي: ساترًا له، وهو عند بعض النَّاس اسم لكل مسكرٍ، وعند بعضهم: للمتَّخَذ من العنب خاصة، وعند بعضهم: للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم: لغير المطبوخ، فرجح أن كل شيء يستر العقل يسمى خمرًا حقيقة (¬3). وكذا قال أبو نصر القشيري في "تفسيره": سُمِّيت الخمرُ خمرًا؛ لسترها العقل، ولاختمارها. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1985)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن جميع ما ينبذ مما يتخذ من النخل والعنب يسمى خمرًا. (¬2) انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (13/ 42). (¬3) انظر: "مفردات القرآن" للراغب الأصفهاني (ص: 298).

وكذا قال غير واحد من أهل اللغة، منهم: أبو حنيفة الدِّينوريُّ، وأبو نصرٍ الجوهريُّ (¬1). وفي "القاموس": الخمر: ما أسكرَ من عصير العنب، أو عامٌّ؛ كالخمرة، وقد يذكر، قال: والعمومُ أصحُّ؛ لأنها حُرمت وما بالمدينة خمرُ عنب، وما كان شرابهم إلَّا البسرَ والتمرَ، سميت بذلك؛ لأنها تخمر العقل وتستره، أو لأنها تُركت حتَّى أدركت واختمرت، أو لأنها تُخامر العقل؛ أي: تخالطه (¬2). ونقل عن ابن الأعرابي قال: سميت الخمر؛ لأنها تُركت حتَّى اختمرت، واختمارُها تغيرُ رائحتها. وقال صاحب "الهداية" من الحنفية: الخمر عندنا ما اعْتُصر من العنب إذا اشتد، قال: وهو المعروف عند أهل اللغة وأهلِ العلم، قال: وقيل: اسمٌ لكل مسكر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر خمرٌ"، ولأنه من مخامرة العقل، وهو موجود في كل مسكر، قال: وأما إطباقُ أهل اللغة على تخصيص الخمر بالعنب، فلأن هذا اشتهر استعمالُها فيه، ولأن تحريم الخمر قطعي، وتحريم ما عدا المتخذَ من العنب ظني، قال: وإنما سُمي الخمر خمرًا؛ لتخمره، لا لمخامرة العقل، انتهى (¬3). وينافي ما ادعاه ثبوتُ النقل عن بعض أهل اللغة بأن غيرَ المتخذ من العنب يسمَّى خمرًا. وقال الخطابي: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلَّا من العنب، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 47). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 495)، (مادة: خمر). (¬3) انظر: "الهداية" للمرغيناني (4/ 108).

فيقال لهم: إن الصحابة الذين سَمَّوا غيرَ المتخذ من العنب خمرًا عربٌ فصحاء، [فلو] لم يكن هذا الاسم صحيحًا، لما أطلقوه (¬1). وقال ابن عبد البر: قال الكوفيون: الخمرُ من العنب؛ لقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] قالوا: فدل على أن الخمر هو ما يُعصر، لا ما يُنبذ. قال: ولا دليل فيه على الحصر. وقال أهلُ المدينة، وسائرُ الحجازيين، وأهلُ الحديث كلُّهم: كلُّ مسكر خمر، وحكمه حكم ما اتُّخذ من العنب، ومن الحجة لهم أن القرآن لما نزل بتحريم الخمر، فهمَ الصحابة -وهم أهل اللسان- أن كل شيء يسمَّى خمرًا يدخل في النهي (¬2)، فأراقوا المتخذ من التمر والرطب، ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب، وعلي تقدير التسليم، فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمرًا من الشرع، كان حقيقة شرعية، وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية. وقوله: لا لمخامرة العقل، فيقال له: سبحان الله! كيف استجاز هذا مع قول عمر بمحضر الصحابة: الخمرُ ما خامرَ العقل؟! وكان مستنده ما ادعاه من اتفاق أهل اللغة، فيحمل قول عمر على المجاز (¬3). لكن قد اختلف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمرًا -كما قدمنا-. قال الحافظ ابن رجب: تواترت الأحاديثُ عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "كلُّ مسكر حرام، وكل ما أسكر عن الصلاة، فهو حرام، وكل خمرٍ حرام"، كما ¬

_ (¬1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 262). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (1/ 246). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 48).

في "الصحيحين" وغيرهما من حديث عائشة وابن عمر وغيرهما. وتقدم حديث جابر عند مسلم: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مسكر حرام". وإلى هذا ذهب جمهور المسلمين من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم من علماء الأمصار، وهو مذهبُ مالك، والليث، والأوزاعي، والشّافعيّ، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، وغيرهم، وهو مما اجتمع على القول به أهلُ المدينة كلُّهم. قال ابن رجب: وخالف فيه طوائفُ من أهل الكوفة، فخصوه بخمر العنب، قالوا: وأما ما عدا ذلك، فإن ما يحرم منه القدرُ الذي يُسكر، لا ما دونه. قال: وما زال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم، وإن كانوا في ذلك مجتهدين معذورين، وفيهم خلقٌ من أئمة العلم والدين. قال ابن المبارك: ما وجدتُ في النبيذ رخصةً عن أحد صحيح إلَّا عن إبراهيم النَّخعي. وكذلك أنكر الإمام أحمد أن يكون فيه شيء يصح. وقد صنف - رضي الله عنه - كتاب "الأشربة"، ولم يذكر فيه شيئًا من الرخصة، وصنف كتابًا في المسح على الخفين، وذكر فيه عن بعض السلف إنكاره، فقيل له: كيف لم تجعل في كتاب "الأشربة" الرخصةَ كما جعلت في المسح؟ فقال: ليس في الرخصة في المسكر حديثٌ صحيحٌ. وفي "مسند الإمام أحمد" عن المختار بن فلفل، قال: سألت أنسَ بنَ مالك عن الشرب في الأوعية، فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزفتة، وقال: "كلُّ مسكرٍ حرام"، قلت له: صدقت، المسكرُ حرام، فالشربةُ

والشربتان على طعامنا؟ قال: "المسكر قليلُه وكثيرُه حرام"، وقال: "الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة، فما خمرت من ذلك، فهو الخمر" (¬1). وإسناد هذا على شرط مسلم. وأخرج أبو داود، وابن ماجه، والتِّرمذيُّ وحسنه من حديث جابر - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ما أسكرَ كثيرُه، فقليلُه حرام" (¬2). وأبو داود، والتِّرمذيُّ من حديث عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا: "كلُّ مسكر حرام، وما أسكرَ الفرقُ، فملءُ الكفِّ منه حرام". وفي رواية: "الحَسْوَةَ منه حرام" (¬3). وقد احتج به الإمام أحمد، وذهب إليه، وسئل عمن قال: إنه لا يصح، فقال: هذا الرجل مُغْلٍ؛ يعني: أنه قد غلا في مقالته. وقد أخرج النسائيُّ هذا الحديثَ من رواية سعد بن أبي وقاص (¬4)، وعبدِ الله بن عمرٍو (¬5)، مرفوعًا. وروي عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ كثيرة يطول ذكرها. وقد كانت الصحابة تحتج بقول النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مسكرٍ حرام" على ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 112). (¬2) رواه أبو داود (3681)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن المسكر، والترمذي (1865)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء: ما أسكر كثيره، فقليله حرام، وابن ماجه (3393)، كتاب: الأشربة، باب: ما أسكر كثيره، فقليله حرام. (¬3) رواه أبو داود (3687)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن المسكر، والترمذي (1866)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء: ما أسكر كثيره، فقليله حرام. (¬4) رواه النَّسائي (5608)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم كل شراب أسكر كثيره. (¬5) رواه النَّسائي (5607)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم كل شراب أسكر كثيره.

تحريم جميع أنواع المُسْكِرات، ما كان مأخوذًا منها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما حدث بعده، كما سئل ابن عباس عن الباذِق، فقال: سبقَ محمدٌ الباذقَ، فما أسكر، فهو حرام. رواه البُخاري (¬1). يشير إلى أنه إن كان مسكرًا، فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة (¬2). والباذَق -بالباء الموحدة فمعجمة بعد الألف مفتوحة- كما ضبطه ابن التين، ونقل عن القابسي أنه حدّث به -بكسر الذال-، وسئل عن فتحها، فقال: ما وقفنا عليه. قال: وذكر أبو عبد الملك: أنه الخمر إذا طبخ. وقال ابن التين: هو فارسيٌّ معرَّب. وقال الجواليقي: أصلُه بادَهْ، وهو الطلاء، وهو أن يُطبخ العصير حتَّى يصيرَ مثلَ طلاء الإبل. وقال ابن قرقول: الباذق: المطبوخُ من عصير العنب إذا أسكرَ، أو إذا طُبخ بعد أن اشتد. وذكر ابن سيده في "المحكم": أنه من أسماء الخمر (¬3). وأعلم: أن المسكرَ المزيلَ للعقل نوعان: أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب، فهذا هو الخمر المحرَّمُ شربُه. وفي "المسند" عن طلق الحنفي: أنه كان جالسًا عند النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له ¬

_ (¬1) رواه البُخاري (5276)، كتاب: الأشربة، باب: الباذق، ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة. (¬2) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 422 - 423). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 63)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-.

رجلٌ: يا رسول الله! ما ترى في شراب نصنعُه بأرضنا من ثمارنا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ السائلُ عن المسكر؟ فلا تشربه، ولا تسقِه أخاك المسلمَ، فوَالذي نفسي بيده! أو بالذي يحلف به! لا يشربه رجلٌ ابتغاءَ لذةِ سُكْرِه، فيسقيه اللهُ الخمرَ يومَ القيامة" (¬1). قالت طائفة من العلماء: وسواء كان هذا المسكر جامدًا، أو مائعًا، وسواء أكان مطعومًا، أو مشروبًا، وسواء أكان من حَبٍّ، أو ثمرٍ، أو لبن، أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشةَ التي تُعمل من ورق القِنَّبِ وغيرها مما يؤكل لأجل لذته وسكره. وفي "سنن أبي داود" من حديث شهر بنِ حَوْشَب، عن أم سلمة -رضي الله عنها-، قالت: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كُلِّ مسكر، ومُفَتِّرٍ (¬2). والمفتر: هو المخدِّرُ للجسد، وإن لم ينته إلى حدِّ الإسكار. والثاني: ما يزيل العقل ويسكره، ولا لذة فيه ولا طرب؛ كالبنج ونحوه. فقال أصحابنا: إن تناوله لحاجة التداوي به، وكان الغالب منه السلامة، جاز. قال ابن رجب: وقد روي عن عروة بن الزُّبير: أنه لما وقعت الأكلة في رجله، وأرادوا قطعَها، قال له الأطباء: نسقيك دواءً حتَّى يغيبَ عقلُك ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد لكن في كتاب: "الأشربة" (32)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (23743)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 562)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 205). (¬2) رواه أبو داود (3686)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن المسكر.

ولا تحسَّ بألم القطع، فأبى، وقال: ما ظننتُ أن خلقًا يشربُ شرابًا يزولُ منه عقلُه حتَّى لا يعرفَ ربَّه (¬1). وروي عنه: أنه قال: لا أشربُ شيئًا يحوْلُ بيني وبين ذِكْر ربي -عزّ وجلّ-. قال الحافظ ابن رجب: وإن تناول ذلك لغير حاجة التداوي، فقال أكثر أصحابنا؛ كالقاضي، وابن عقيل، وصاحب "المغني": إنه يحرم؛ لأنَّه سبب إلى إزالة العقل لغير حاجة، فحرم، كشراب المسكر. وقالت الشّافعيّة: هو محرم. ولم يُحرمه الحنفية (¬2). تكملة: ممن قال: إن الخمر من العنب، ومن غير العنب: عمرُ، وعليٌّ، وسعد، وابن عمر، وأبو موسى، وأبو هريرة، وابن عباس، وعائشةُ -رضي الله عنهم-، ومن التابعين: ابنُ المسيب، وعروة، والحسن، وسعيدُ بن جبير، وآخرون (¬3). قال عمر - رضي الله عنه -: (ثلاث) هي صفة موصوف؛ أي: أمورٌ أو أحكامٌ (وَدِدْتُ) -بالكسر- وُدًا -بالضم والفتح-، ووِدادًا؛ أي: تمنيت (¬4)، وإنما تمنى ذلك؛ لأنَّه أبعد من محذور الاجتهاد، وهو الخطأ فيه على تقدير وقوعه، ولو كان مأجورًا عليه؛ فإنّه يفوته بذلك الأجر الثاني، والعمل ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات" (140). (¬2) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 423 - 424). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 49). (¬4) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 282).

بالنص إصابة محضة (¬1) (أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان) قبل وفاته وفراقه لنا (عهدَ)، وفي لفظ: لم يفارقنا حتَّى يعهد (¬2) (إلينا) معشرَ الأمة (فيهن عهدًا ننتهي إليه)، وهذا لفظ مسلم، ولم يذكر البُخاريّ: فيهن، ولا ننتهي إليه، وهذا يدل على أنه لم يكن عنده عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - نصٌّ فيها، ويشعر بأنه كان عنده عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به عن الخمر ما لم يحتج معه إلى شيء غيرِه، حتَّى خطب بذلك جازمًا به: (الجَدُّ) قدر ما يرث؛ لأنَّ الصحابة اختلفوا في ذلك اختلافًا كثيرًا، حتَّى إن عمر - رضي الله عنه - قضى فيه بقضايا مختلفة مع الإخوة (¬3)، وقد استقر الآن حكمُه، ولله الحمد. (والكَلالةَ) -بفتح الكاف وتخفيف اللام-، وقد استقر الكلام عليها بأنها أن يموت الرجل ولا يدع والدًا ولا ولدًا يرثانه، وأصلها من تَكَلَّلَهُ النسبُ: إذا أحاط به. وقيل: الكَلالة: الوارثون ليس فيهم ولد ولا والد، فهو واقعٌ على الميت، وعلي الوارث بهذا الشرط. وقيل: الأب والابن طرفان للرجل، فإذا مات ولم يخلفهما، فقد مات من ذهاب طرفيه، فسمي ذهابُ الطرفين كلالةً. وقيل: كل ما احتفَّ بالشيء من جوانبه، فهو إكليل؛ لأنَّ الوُرَّاث يحيطون به من جوانبه (¬4). وأراد عمر - رضي الله عنه - بيانَ إرث الكلالة في قوله تعالى: {وَإِن ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 50). (¬2) تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5266). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 50). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 197).

كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً} [النساء: 12] وفي قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]. (و) الثالث: (أبوابٌ من أبواب الربا)، ولعله أشار إلى ربا الفضل؛ لأنَّ ربا النسيئة متفق عليه بين الصحابة، وسياقُ كلامه يُشعر بأنه كان عنده نص في بعض من أبواب الربا دون بعض، فلهذا تمنى معرفةَ البقية (¬1). وقد سئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شكَّ فيه، فذكر ربا النسيئة، وهو أن يكون له دين، فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه، زاده في المال، وزاده هذا في الأَجَل، فيربو المال على المحتاج من غير نفعٍ حصل له، ويزيدُ مال المُرْبي من غير نفعٍ حصل منه للمسلمين، فحرَّمَ الله هذا؛ لما فيه من ضررِ المحاويج، وأكلِ المال بالباطل (¬2). وأما ربا الفضل، فلم تحرمه طائفة من العلماء، وإن كان الصحيح بل الحق الذي لا ريب فيه تحريمُه، وعدُم تحريمه مأثور عن قتادة، وهو قول أهل الظاهر، وابنُ عقيل في آخر مصنفاته مال إلى هذا القول، مع كونه يقول بالقياس. وممن قال بعدم تحريم ربا الفضل: ابن عباس في المشهور عنه، ويُروى عن ابن مسعود، ومعاوية -رضي الله عنهم-، وقد أنكر أبو سعيد الخدري على ابن عباس، وكذلك غير أبي سعيد من الصحابة (¬3). وروى أبو سعيد حديثَ يخبر لما قال له وكيلُه: إنما نبتاع الصاعَ من ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 50). (¬2) انظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (2/ 154). (¬3) المرجع السابق، (2/ 155 - 156).

التمر الجَنيب -وهو الجيد- بالصاعين من الجَمْع، وهو المخلوط، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أوَّه عينُ الربا" (¬1)، وتقدم ذلك في محله. وقد استقر الحال عند الأئمة على تحريم ربا الفضل كالنسيئة، والله الموفق. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ البِتع، فَقَالَ: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ، فَهُوَ حَرَامٌ" (¬1). البِتع: نَبِيذُ العَسَلِ. * * * (عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقةِ (-رضي الله عنها-، عن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه سئل عن البتع). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البُخاري (5263 - 5264)، كتاب: الأشربة، باب: الخمر من العسل، وهو البتع، ومسلم (2001/ 67 - 69)، كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام، وأبو داود (3682)، كتاب: الأشرية، باب: النهي عن المسكر، والنَّسائيُّ (5592 - 5594)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء كل مسكر حرام. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 265)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 20)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 55)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 462)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 169)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 211)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1648)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 42)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 170)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 57).

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": لم أقف على اسم السائل في حديثٌ عائشة هذا صريحًا، لكنني أظنه أبا موسى الأشعري؛ فقد روى الشيخان من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه، عن أبي موسى: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربةٍ تُصنع بها، فقال: "ما هي؟ "، قال: البِتْعُ والمِزْرُ، قال: "كلُّ مسكرٍ حرام"، قلت لأبي بردة: ما البتعُ؟ قال: نبيذ العسل (¬1). (فقال) - صلى الله عليه وسلم - في جواب السائل: (كلُّ شرابٍ أسكرَ)، وفي لفظٍ لمسلم: "كل شرابٍ مسكرٍ (فهو حرام) ". قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (البتعُ: نبيذُ العسل) كما تقدم في تفسير خمر العسل، وما تقدم يشعر في الأحاديث بأن التفسير من المرفوع. وقد صحح حديثَ عائشة هذا الإمامُ أحمد، وابنُ معين، واحتجا به. ونقل ابن عبد البر إجماعَ أهل العلم بالحديث على صحته، وأنه أثبتُ شيء يروى عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم المسكر (¬2). وأما ما نقله بعضُ فقهاء الحنفية عن ابن معين من طعنه فيه، فلا يثبت ذلك عنه (¬3)، ويكفي من ذلك كله اتفاقُ الشيخين البُخاريّ ومسلم على تصحيحه، وتخريجه، وتصريح إمامَيْ أهلِ الجرح والتعديل: أحمدَ بنِ حنبلٍ، ويحيى بنِ مَعينٍ على صحته، فلم يبق لمن زعم عدمَ صحته ما يتمسَّكُ به من عدم الثبوت، إلَّا ما هو أضعفُ وأوهى من خيوط بيتِ العنكبوت. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 42). (¬2) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (7/ 124). (¬3) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 422).

وظهر من متعدد روايات: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام" ما يفسرُ المرادَ بقوله في حديث عائشة هذا: "كلُّ شرابٍ أسكرَ"، وأنه لم يرد تخصيص التحريم بحالة الإسكار، بل المراد: أنه إذا كانت فيه صلاحية الإسكار، حَرُمَ تناولهُ، ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه. ويؤخذ من لفظ السؤال: أنه وقع عن حكم جنس البتع، لا عن القدر المسكِرِ منه؛ لأنَّه لو أراد السائل ذلك، لقال: أخبرني عمّا يحلُّ منه وما يحرُم، وهذا هو المعهود من لسان العرب إذا سألوا عن الجنس، فقالوا: هل هذا نافع أو ضار مثلًا؟ وإذا سألوا عن القدر فقالوا: كم يؤخذ منه؟ وفي الحديث: أن المفتي يجوز له أن يُجيب السائل بزيادة عمّا سأل عنه إذا كان ذلك مما يحتاج إليه السائل. وفيه: تحريم كل مسكر، سواء كان متخذًا من عصير العنب، أو من غيره. قال المازري: أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتدَّ حلال، وعلى أنه إذا اشتد وغلى، وقذف بالزبد، حَرُمَ قليلُه وكثيره، ثم لو تخلَّلَ بنفسِه، حَلَّ بالإجماع أيضًا، فوقع النظر في تبدل هذه الأحكام عند هذه المتجددات، فأشعر ذلك بارتباط بعضِها ببعض، ودل على أن علة التحريم الإسكار، فاقتضى ذلك أن كلَّ شراب وُجد فيه الإسكار حرم تناولُ قليلهِ وكثيرهِ، انتهى (¬1). قال في "الفتح": وما ذكره استنباطًا ثبت التصريح به في بعض طرق الخبر، فعند أبي داود، والنَّسائيُّ، من حديث جابر، وصححه ابن حبان، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن رجب (10/ 42 - 43).

قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أسكر كثيرُه، فقليلُه حرام"، وتقدم في الحديث الذي قبله (¬1)، وقد أخرج ابنُ حبان، والطحاوي من حديث عامرِ بنِ سعدِ بن أبي وقاص، عن أبيه، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أنهاكم عن قليلِ ما أسكرَ كثيرُه" (¬2). وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث، لكن قال: اختلفوا في تأويل الحديث، فقال بعضهم: أراد به جنسَ ما يُسكر، وقال بعضهم: أراد به ما يقع السكرُ عنده، ويؤيده أن القاتل لا يسمى قاتلًا حتَّى يَقتل، قال: ويدل له حديث ابن عباس، رفعه: "حُرِّمَتِ الخمرُ قليلُها وكثيرُها، والسُّكرُ من كلِّ شراب" (¬3). قال في "الفتح": أخرجه النَّسائي (¬4)، ورجاله ثقات، إلَّا أنه اختلف في وصله وانقطاعه، وفي رفعه ووقفه، وعلي تقدير صحته، فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ: المُسْكِر (¬5) -بضم الميم وسكون السين المهملة- لا السُّكْرُ -بضم فسكون-، أو بفتحتين، وعلى فرض ثبوتها، فهو حديث فرد، ولفظه محتمل، فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع صحتها وكثرتها؟ ¬

_ (¬1) وتقدم تخريجه. (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (5370)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 216). (¬3) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 221). (¬4) رواه النَّسائي (5683)، كتاب: الأشربة، باب: ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب السكر. (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (109)، ثم قال: يقول شريك: ربما حدث "المسكر"، وربما حدث: "السكر".

وقال أبو المظفر بن السمعاني، وكان حنفيًا فتحول شافعيًا: ثبتت الأخبارُ عن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في تحريم المسكر، ثم ساق كثيرًا منها، ثم قال: والأخبار في ذلك كثيرة، ولا مساغ لأحد في العدول عنها، والقول بخلافها، فإنها حجج قواطع، قال: وقد زل الكوفيون في هذا الباب، ورووا أخبارًا معلولة لا تعارض هذه الأخبار بحال، ومن ظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب مسكرًا، فقد دخل في أمرٍ عظيم، وباءَ بإثمٍ كبير، وإنما الذي شربه كان حلوًا، ولم يكن مسكرًا. وقد روى ثُمامة بن حَزْن القشيريُّ: أنه سأل عائشة عن النبيذ، فدعت جارية حبشيةً، فقالت: سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت الحبشية: كنت أنبذ له في سقاءٍ له من الليل، وأُوكيه وأغلقه، فإذا أصبحَ، شرب منه، أخرجه مسلم (¬1). وروى الحسن البصري عن أمه، عن عائشة، نحوَه (¬2)، ثم قال: فقياسُ النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والإطراب من أجلى الأقيسة وأوضحِها، والمفاسدُ التي توجد في الخمر توجد في النبيذ، ثم قال: وعلى الجملة، فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر قلَّ أو كثرَ مغنيةٌ عن القياس (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2005/ 84)، كتاب: الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذي لم يشتد، ولم يصر مسكرًا. (¬2) رواه مسلم (2005/ 85)، كتاب: الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذي لم يشتد، ولم يصر مسكرًا. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 43).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: بَلَغَ عُمَرَ - رضي الله عنه -: أَن فُلَانًا بَاعَ خَمرًا، فَقَالَ: قَاتَلَ اللهُ فُلَانًا! أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَجَملُوهَا فَبَاعُوهَا" (¬1)؟!. * * * (عن) أبي العباس (عبدِ الله بنِ عباس -رضي الله عنهما-، قال: بلغ) أميرَ المؤمنين (عمرَ) بن الخطاب - (رضي الله عنه-: أن فلانًا)، فلانٌ هذا ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البُخاريّ (2110)، كتاب: البيوع، باب: لا يذاب شحم الميتة، ولا يباع ودكه، و (2373)، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم (1582)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، والنَّسائيُّ (4257)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: النهي عن الانتفاع، بما حرم الله -عز وجل-، وابن ماجه (3383)، كتاب: الأشربة، باب: التجارة في الخمر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 256)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 467)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 211)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1649)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 414)، و"عمدة القاري" للعيني (12/ 36)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 235).

هو سَمُرَةُ بنْ جُنْدُب، وتقدمت ترجمته في الجنائز. قال الخطيب، وابن بشكوال: كان على البصرة، وكان يأخذ الجزية منهم خمرًا، ثم يبيعه منهم ظانًا أنه يجوز (¬1)، وقد جاء مصرَّحًا في "مسند ابنَ أبي شيبة"، وأخرجه مسلم من طريقه، وطريق غيره، فقال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، واللفظ لأبي بكر، قال: حدّثنا سُفيانُ بن عُيينة، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: بلغ عمرَ - رضي الله عنه - أن سمرةَ (باع خمرًا)، (فقال) عمر - رضي الله عنه -: (قاتل الله فلانًا)؛ أي: سمرةَ كما صرح باسمه في الرواية الأخرى؛ أي: قتله، فليست المفاعلة على بابها، ولكن عمر - رضي الله عنه - لم يرد الدعاءَ على سمرة بأن يقتله، أو يعاديه، وإنما أراد التنفيرَ عن فعلته، والتهويلَ لما ارتكبه من صفقته، وسبيلُ فاعلَ أن يكون بين اثنين في الغالب، وقد ترد من الواحد؛ كسافرتُ، وطارقتُ النعل، ومثل قصة سمرةَ خبرُ السقيفة: قتل الله سعدًا؛ فإنّه صاحب فتنة وشر (¬2)؛ أي: دفع الله شره، كأنه أشار إلى ما كان منه في حديث الإفك، لما حامى عن ابن سلول. وفي رواية: أن عمر - رضي الله عنه - قال يوم السقيفة: اقتلوا سعدًا قتله الله (¬3)؛ أي: اجعلوه كمن قُتل، واحبسوه في عِداد مَنْ مات ولا تعتدّوا بمشهده، ولا تعرِّجوا على قوله (¬4). ¬

_ (¬1) وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 415). (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (414). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (37043). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 12 - 13).

(ألم يعلم) سمرةُ بن جندب: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قاتل الله اليهود)؛ أي: قتلهم، أو لعنهم، أو عاداهم. قال الداودي: من صار عدوًا لله، وجب قتلُه. قال البيضاوي: قاتل؛ أي: قتلَ، أو عادى، وعبر بذلك عنهم لما هو مُسَبَّبٌ عنهم؛ فإنهم بما اخترعوا من الحيلة، انتصبوا لمحاربة الله تعالى، ومن حاربه، حورب، ومن قاتله، قُتل (¬1)، فقد (حُرِّمت عليهم الشحوم)؛ أي: أكلُها، وإلا فلو حرم عليهم بيعُها، لم يكن لهم حيلةٌ فيما صنعوه من إذابتها، (فَجَمَلوها) -بفتح الجيم-؛ أي: أذابوها، والجميلُ: الشحمُ المذاب. وفي "النهاية": جملتُ الشحمَ، وأجملْتُه: إذا أذبته، واستخرجتُ دهنهَ، وجَمَلْتُ أفصحُ من أجملت (¬2). وقال الخطابي: معناه: أذابوها حتَّى تصير وَدَكًا، فيزول عنها اسمُ الشحم (¬3). وفي هذا إبطال كل حيلة يُتوصَّل بها إلى محرَّم، وأنه لا يتغير حكمُه بتغيير هيئته، وتبديلِ اسمه؛ كما قدمنا في بيع العرايا وغيرها، (فباعوها)، فأكلوا أثمانها. وروى أبو داود حديثَ ابن عباس هذا، وزاد فيه: "وإن الله إذا حَرَّمَ أكلَ شيء، حَرَّم عليهم ثمنه" (¬4)، وأخرجه ابن أبي شيبة، ولفظه: "إن الله إذا حَرَّمَ شيئًا، حَرَّم ثمنَه" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (4/ 416). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 298). (¬3) انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 133). (¬4) رواه أبو داود (3488)، كتاب: الإجارة، باب: في ثمن الخمر والميتة. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (20381).

وفي "الصحيحين" عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: لمّا نزلت الآيات من آخر سورة البقرة، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاقترأهن على النَّاس، ثم نهى عن التجارة في الخمر (¬1). وفي رواية لمسلم: فحرم التجارةَ في الخمر (¬2). وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الله حرّم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده شيءٌ منها، فلا يشربْ ولا يَبِعْ". قال: فاستقبل النَّاس بما كان عندهم منها في طريق المدينة فسفكوها (¬3). وخَرَّجَ أيضًا من طريق ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رجلًا أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راوية خمر، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: "هل علمتَ أن الله قد حَرَّمَها؟ "، قال: لا، قال: فسارَّ إنسانًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بِمَ سارَرْتَه؟ "، قال: أمرتُه ببيعها، قال: "إن الذي حرّم شربَها، حرّم بيعَها"، قال: ففتح المزادة حتَّى ذهب ما فيها (¬4). والحاصل من هذه الأحاديث: أن الله -سبحانه وتعالى- إذا حرّم شيئًا، حرّم ثمنه، وهذه كلمة جامعة عامة تَطَّرد في كل ما كان المقصودُ من الانتفاع به حرامًا، وسواء في ذلك ما كان الانتفاع حاصلًا مع بقاء عينه؛ ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (1978)، كتاب: البيوع، باب: آكل الربا وشاهده وكاتبه، ومسلم (1580/ 69)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر. (¬2) رواه مسلم (1580/ 70)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر. (¬3) رواه مسلم (1578)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر. (¬4) رواه مسلم (1579)، كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر.

كالأصنام؛ فإن منفعتها المقصودة منها هو الشرك بالله، وهو أعظمُ أنواع المعاصي على الإطلاق كما قاله الحافظ ابن رجب (¬1). قلت: وعندي أن التعطيلَ ونفيَ المعبود بحق أعظمُ منه كما لا يخفى، ولكن مقصود الحافظ الإشارةُ إلى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وأنه من أعظم أنواع الكفر، أو أعظمُها، ويكون نافع واجبِ الوجود مشركًا؛ لأنَّه ينسب الفعل إما للدهر، وإما للطبيعة، وكلاهما شركٌ في الحقيقة. ويلتحق بالأصنام ما كانت منفعتُه محرمة؛ ككتب الشرك والسحر والبدع والضلال، وكذلك الصورُ المحرّمة، وآلاتُ الملاهي المحرمة، ومثله شراءُ الجواري للغناء (¬2). وفي "مسند الإمام أحمد" عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الله بعثني رحمةً وهدًى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات -يعني: البرابِطَ والمعازفَ- والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية، وأقسم ربي بعزته! لا يشربُ عبدٌ من عبيدي جرعةً من خمر، إلَّا سقيته مكانها من حَميم جهنم معذَّبًا أو مغفورًا له، ولا يسقيها صبيًا صغيرًا، إلَّا سقيته مكانها من حميم جهنم معذَّبًا أو مغفورًا له، ولا يدعُها عبدٌ من عبيدي من مخافتي، إلَّا سقيتها إياه في حظيرة القدس، ولا يحل بيعهن، ولا شراؤهن، ولا تجارة فيهن، وأثمانهن حرام -يعني: المغنيات-" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 415). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 257).

[وروى أبو بكر الطرطوشي المالكي حديثًا قال: "لا يحل بيعُ القيان ولا شراؤهنَّ"، وأخرجه التِّرمذيُّ، ولفظه: "لا تبيعوا القينات، لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهنَّ، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام"، وخرجه ابن ماجه أيضًا، وفي مثل هذا أنزل الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الآية (¬1)] (¬2). وقد روي نحوه من حديث عمر، وعلي، وفي الحديث مقال. ومن يحرم الغناء كأحمد ومالك يقول: إذا بيعت المغنية، تباع على أنها ساذجة، ولا يؤخذ لصناعة الغناء ثمنٌ، ولو ليتيم، نصّ عليه الإمام أحمد (¬3). ¬

_ (¬1) رواه التِّرمذيُّ (1282)، كتاب: البيوع، باب: ما جاء في كراهية بيع المغنيات، واللفظ له، وابن ماجه (2168)، كتاب: التجارات، باب: ما لا يحل بيعه. (¬2) ما بين معكوفين مثبت من النسخة الخطية الأصل، وفي النسخة "ب" بعد قوله في الحديث الذي ساقه عن الإمام أحمد في "المسند": "حظيرة القدس" قال: (قال أبو بكر الطرطوشي المالكي في القينات: لا يحل بيعهن ولا شراؤهن، ولا تعليمهن، ولا تجارة فيهن، وأثمانهن حرام -يعني: المغنيات. ذكره في كتابه: "النهي عن السماع" مرفوعًا، قال: وفيهن نزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، وأخرجه التِّرمذيُّ ولفظه: "لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام"، وخرجه ابن ماجه أيضًا، وفي مثل هذا أنزل الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الآية). ولا ريب أن عبارة الأصل هي الصواب، وما وجد في النسخة "ب" لا يخفى ما فيها من اضطراب السياق، والله أعلم. (¬3) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 415).

تنبيه: اختلف العلماء متى حرمت الخمر؟ ذكر ابن سعد وغيره: أن تحريم الخمر كان في السنة الثالثة بعد غزوة أُحُد. وقد روى الإمام أحمدُ من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: لما حرمت الخمر، قال أناس: يا رسول الله! أصحابُنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله -عزّ وجلّ-: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]. قال: ولما حُوِّلت القبلةُ، قال أناس: يا رسول الله! أصحابُنا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬1) [البقرة: 143]. وروى أبو داود الطَّيالسيُّ عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما-، قال: لما نزل تحريم الخمر، قالوا: كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم؟ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] ورواه الترمذي، وقال: حسن صحيح (¬2). قال العيني في "شرح البُخاريّ": وقول من قال: قُتل قوم؛ يعني: من استشهد من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- يوم أُحُد، وهي في بطونهم، صدرَ عن غلبة خوف، أو عن غفلة عن المعنى؛ لأنَّ الخمر كانت مباحة، أو ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 295). (¬2) رواه أبو داود الطَّيالسيُّ في "مسنده" (715)، والترمذي (3052)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المائدة.

لأنَّ من فعل ما أبيح له لم يكن له ولا عليه شيء؛ لأنَّ المباح مستوي الطرفين بالنسبة إلى الشرع (¬1). واستظهر الحافظ ابن حجر في "الفتح" في تفسير سورة المائدة: أن تحريم الخمر كان عام الفتح سنة ثمان؛ لما روى الإمام أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة، قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر، فقال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صديق من ثقيفٍ، أو دَوْسٍ، فلقيه يوم الفتح براوية خمر يُهديها إليه، فقال: "يا فلان! أما علمتَ أن الله حرّمها؟ " الحديث (¬2)، وتقدم. وروى الإمام أحمد أيضًا من طريق نافع بن كيسان الثَّقفيُّ، عن أبيه: أنه كان يتجر بالخمر، وأنه أقبل من الشام، فقال: يا رسول الله! إنِّي جئتُك بشرابٍ جيد، فقال: "يا كيسان! إنها حُرّمت بعدَك"، قال: فأبيعها؟ قال: "إنها قد حرّمت، وحرّم ثمنها" (¬3). وروى الإمام أحمد أيضًا، وأبو يعلى من حديث تميم الداري: أنه كان يهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلَّ عام راويةَ خمر، فلما كان عام حرّمت، جاء براوية، فقال: "أشعرتَ أنها قد حرمت بعدك؟ "، قال: أفلا أبيعُها وأنتفعُ بثمنها؟ فنهاه (¬4). فيستفاد من حديث ابن كيسان تسميةُ المبهم في حديث ابن عباس، ومن ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 12). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 230)، ولم يتقدم ذكره، كما قال الشارح -رحمه الله-. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 335). (¬4) رواه أحمد في "المسند" (4/ 227)، ولم أقف عليه في "مسند أبي يعلى"، والله أعلم.

حديث تميم تأييدُ الوقت المذكور؛ فإن إسلام تميم كان بعد الفتح (¬1). وقد روى أصحاب السنن من طريق أبي ميسرة عن عمر - رضي الله عنه -: أنه قال: اللهم بيّنْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في البقرة: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] فقرئت عليه، فقال: اللهم بينْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في النساء: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّنْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت التي في المائدة: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] إلى قوله تعالى: {مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فقال عمر: انتهينا، انتهينا (¬2). وصححه الإمام عليُّ بنُ المديني، والتِّرمذيُّ. وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة نحوَه دون قصة عمر، لكن قال عند نزول آية البقرة: فقال النَّاس: ما حرم علينا، فكانوا يشربون حتَّى أمَّ رجلٌ أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فنزلت التي في النساء، فكانوا يشربون، ولا يقرب الرجل الصلاة حتَّى يُفيق، ثم نزلت آية المائدة، فقالوا: يا رسول الله! ناسٌ قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم، وكانوا يشربونها؟ فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية [المائدة: 93]، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو حُرِّمَ عليهم، لتركوه كما تركتموه" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 279). (¬2) رواه أبو داود (3670)، كتاب: الأشربة، باب: في تحريم الخمر، والنَّسائيُّ (5540)، كتاب: الأشربة، باب: تحريم الخمر، والترمذي (3049)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة المائدة. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 351).

وذكر الحافظ الدمياطي في "سيرته" جازمًا به بأن تحريم الخمر كان سنة الحديبية، والحديبيةُ كانت في السادسة. وذكر ابن إسحاق: أنه كان في وقعة بني النضير، وهي بعد أُحُد، وذلك سنة أربع على الراجح، ونظر فيه في "الفتح" بأن أنسًا كان هو الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها، بادرَ فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع، لكان أنس يصغر عن ذلك، كذا قال (¬1). قلت: كان سنه إذ ذاك أربع عشرة سنة، وصاحب هذا السن، ولاسيما مع مداخلته الرسول، وخدمته له، وما لَهُ من التمييز على غيره بذلك لِما يكتب ويستفيد من العلم والحكم، لا يصغُر عن ذلك. فائدة: قال أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن": يستفاد تحريمُ الخمر من آية المائدة من تسميتها رجسًا، وقد سمي به ما أُجمع على تحريمه، وهو لحم الخنزير. ومن قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]؛ لأنَّ مهما كان من عمل الشيطان، حرم تناوله. ومن الأمر بالاجتناب، وهو للوجوب، وما وجب اجتنابُه، حرمَ تناولُه. ومن الفلاح المرتب على الاجتناب. ومن كون الشرب سببًا للعداوة والبغضاء للمؤمنين، وتعاطي ما يوقع ذلك حرام. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 31).

ومن كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة. ومن ختام الآية بقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]؛ فإنّه استفهام معناه الردع والزجر، فلهذا قال عمر - رضي الله عنه - لما سمعها: انتهينا انتهينا. وسبق الرازيَّ إلى نحو ما قال الطبريُّ (¬1)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-، وكان سبق له أن ذكر الفائدة التي ساقها هنا فيما مضى من هذا الشرح المبارك، وبالله التوفيق.

كتاب اللباس

كتاب اللباس وهو ما يلبسه الشخص ويستتر به، والأصل فيه الإباحة، وإنما يحرم حيث كان حريرًا، أو قُصد به الخُيَلاء، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسرافٍ ولا مَخِيلَةٍ" علقه البُخاري (¬1). ورواه موصولًا: أبو داود الطَّيالسيُّ، والحارث بن أبي أسامة في "مسنديهما" من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، زاد الحارث في آخره: "فإن الله يحبُّ أن يرى أثرَ نعمته على عباده" (¬2). ورواه ابن أبي الدنيا موصولًا أيضًا (¬3). وروى التِّرمذيّ أيضًا بعضه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ في "صحيحه" (5/ 2181)، معلقًا بصيغة الجزم. (¬2) رواه أبو داود الطَّيالسيُّ في "مسنده" (2261)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (571). (¬3) رواه ابن أبي الدنيا في "الشكر" (51). (¬4) رواه التِّرمذيُّ (2819)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء: أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، مقتصرًا على الزيادة التي ذكرها الشارح -رحمه الله- عن الحارث في "مسنده".

وهو مثل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. والإسراف: مجاوزة الحدِّ في كل فعل أو قول، وهو في الإنفاق أشهرُ، والمخيلة بوزن عظيمة بمعنى: الخيلاء، وهو التكبر. وقال ابن التين: هي بوزن مَفْعَلَة؛ من اختال: إذا تكبر، قال: والخُيلاء -بضم أوله- وقد -يكسر ممدودًا-: التكبر، وإنما ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه، والتخيُّل: تصوير خيال الشيء في النفس، ووجهُ الحصر في الإسراف والمَخيلة: أن الممنوع من تناوله أكلًا ولبسًا، وهما إما لمعنى فيه، وهو مجاوزة الحد، وهو الإسراف، وإما للتعبد، كالحرير إن لم تثبت علة النهي عنه، ومجاوزةُ الحدِّ تتناول مخالفةَ ما ورد به الشرعُ، فيدخل الحرام، وقد يستلزم الإسراف الكبير، وهو المخيلة. قال الموفق عبدُ اللطيف البغدادي: هذا الحديث جامعٌ لفضائل تدبير الإنسان نفسَه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة؛ فإن السرف كل شيء يضر بالجسد، ويضر بالمعيشة، فيؤدي إلى الإتلاف، ويضر بالنفس؛ إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمَخيلةُ تضر بالنفس حيث تكسبها العُجْبَ، وتضر بالآخرة حيث يكسب الإثم، وبالدنيا حيث يكسب المقت من النَّاس (¬1). وذكر الحافظ المصنف -رحمه الله- في هذا الكتاب ستة أحاديث. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 253).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ؛ فَإنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ" (¬1). * * * (عن) أبي حفصٍ أميرِ المؤمنين (عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تلبَسُوا الحرير) معروف، وهو عربي، سمي بذلك؛ لخلوصه، يقال لكل شيء خالص: محرور، وحَرَّرْتُ الشيء: ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البُخاري (5492، 5496)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير وافتراشه للرجال، وقدر ما يجوز منه، ومسلم (2069/ 11)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وخاتم الذهب والحرير على الرجل، واللفظ له، والنَّسائيُّ (5305)، كتاب: الزينة، باب: التشديد في لبس الحرير، والترمذي (2817)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في كراهية الحرير والديباج. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 574)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 385)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 38)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 213)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1651)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 287)، و"عمدة القاري" للعيني (22/ 12)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 72).

خَلَّصته من الاختلاط بغيره، وقيل: هو فارسيٌّ معرَّب، والمراد بالنهي: الذكورُ دون النساء (¬1)؛ لما روى الإمام أحمد، وأصحاب السنن، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريرًا وذهبًا، فقال: "هذان حرامانِ على ذكورِ أمتي، حِلٌّ لإناثهم" (¬2). وأخرج الإمام أحمد، والطحاوي، وصححه من حديث مَسْلَمة بن مُخَلَّد: أنه قال لعقبةَ بن عامر: قم فحدِّثْ بما سمعتَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سمعتُه يقول: "الذهبُ والحريرُ حرام على ذُكور أمتي، حِلٌّ لإناثهم" (¬3). قال ابن أبي حمزة: حكمةُ تخصيص النهي بالرجال: أنه -سبحانه وتعالى- علم قلةَ صبرهن عن التزين، فلطفَ بهن في إباحته، ولأن تزينهن غالبًا إنما هو للأزواج، وقد ورد: أن حُسنَ التَّبَغُّل من الإيمان، قال: ويستنبط من هذا أن الفحلَ لا يصلح له أن يبالغ في استعمال الملذوذات؛ لكون ذلك من صفات الإناث (¬4). قال ابن بطال: اختُلف في الحرير، فقال قومٌ: يحرم لبسُه في كل ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 285). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 96)، وأبو داود (4057)، كتاب: اللباس، باب: في الحرير للنساء، والنَّسائيُّ (5144)، كتاب: الزينة، باب: تحريم الذهب على الرجال، وابن ماجه (3595)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير والذهب للنساء، وابن حبان في "صحيحه" (5434). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 156)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 251). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 296).

الأحوال، حتَّى على النساء، نقل ذلك عن عليّ، وابن عمر، وحذيفة، وأبي موسى، وابن الزُّبير -رضي الله عنهم-، ومن التابعين عن الحسن، وابن سيرين. وقال قومٌ: يجوز لبسه مطلقًا، وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه خيلاء، أو على التنزيه، وهذا ساقط؛ لثبوت الوعيد على لبسه. وقد قال القاضي عياض: انعقد الإجماعُ بعدَ ابن الزُّبير ومن وافقه على تحريم الحرير على الرجال، وإباحته للنساء (¬1). ذكر ذلك في الكلام على قوله ابن الزُّبير في الطريق التي أخرجها مسلم: ألا لا تُلْبِسوا نساءكم الحرير، فإني سمعت عمر، فذكر الحديث. واختُلف في علة تحريم الحرير على رأيين مشهورين: أحدهما: الخيلاء، والثاني: كونه ثوبَ رفاهية وزينة، فيليق بزي النساء دون شهامة الرجال، ويحتمل علة ثالثة، وهي التشبُّه بالمشركين. وأما قوله الشّافعيّ في "الأم": لا أكره لباس اللؤلؤ إلَّا للأدب؛ فإنّه زيُّ النساء (¬2)، فقد استشكل بثبوت اللعن للمتشبهين من الرجال بالنساء، فإنّه يقتضي منعَ ما كان مخصوصًا بالنساء في جنسه وهيئته. وذكر بعضهم علة أخرى، وهي السرف. (¬3) وفي رواية: نهى عن الحرير (¬4)؛ أي: عن لبسه، (فإنّه)؛ أي: الشأن والأمر (مَنْ لبسَه)؛ أي: الحريرَ من الرجال (في الدنيا، لم يلبسه في ¬

_ (¬1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 582). (¬2) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 221). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 285). (¬4) سيأتي تخريجه في الحديث الأخير من كتاب: اللباس.

الآخرة)، وأخرجه النَّسائي، وزاد في آخره: ومن لم يلبسه في الآخرة، لم يدخل الجنة، قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (¬1) [فاطر: 33]. قال في "الفتح": وهذه الزيادة مُدْرَجة في الخبر، وهي موقوفة على ابن الزُّبير، بَيَّنَ ذلك النسائيُّ أيضًا من طريق شعبة، وفي آخره: قال ابن الزُّبير، فذكر الزيادة. ورواه الإسماعيلي من طريق عليّ بن الجعد، عن شعبة، ولفظه في آخره: فقال ابن الزُّبير من رأيه: ومن لم يلبس الحرير في الآخرة، لم يدخل الجنة، وذلك لقوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]. وقد جاء مثلُ ذلك عن ابن عمر - رضي الله عنه - أيضًا، أخرجه النَّسائي، ولفظه: فقال ابن عمر: إذًا واللهِ لا يدخلُ الجنة، قال الله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (¬2) [فاطر: 33]. وأخرج الإمام أحمدُ، والنَّسائيُّ، وصححه الحاكم من طريق داود السَّرَّاج، عن أبي سعيد، فذكر الحديث المرفوع مثل حديث ابن عمر هذا، وزاد: وإن دخل الجنة، لبسه أهلُ الجنة، ولم يلبسه هو (¬3). قال في "الفتح": وهذا يحتمل أن يكون أيضًا مُدْرَجًا، وعلي تقدير أن يكون رفعُه محفوظًا، فهو من العام المخصوص بالمكلفين من الرجال؛ للأدلة الأخرى بجوازه للنساء. ¬

_ (¬1) رواه النَّسائي في "السنن الكبرى" (9585). (¬2) رواه النَّسائي في "السنن الكبرى" (9586). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 23)، والنَّسائيُّ في "السنن الكبرى" (9607)، والحاكم في "المستدرك" (7404).

وفي لفظ: "من لبسه في الدنيا، لا يُكساه في الآخرة" (¬1). وفي آخر: "فلا كساه الله في الآخرة" (¬2). وفي آخر: "من لبس الحرير في الدنيا، فلا خَلاقَ له في الآخرة" (¬3). وفي هذه الأحاديث وأضعافها من الوعيد الشديد والزجر والتهديد بيانٌ واضحٌ لحرمة لبس الحرير على الرجال. وحاصله: أن الفعل المذكور مقتضٍ للعقوبة المذكورة، وقد يتخلف ذلك لمانع؛ كالتوبة، والحسنات الموازية، والمصائب المكفِّرَة، وكذا دعاءُ نحو الولد، وشفاعةُ من يؤذن له في الشفاعة، وأعمُّ من ذلك كله عفوُ أرحمِ الراحمين (¬4). ¬

_ (¬1) رواه النَّسائي في "السنن الكبرى" (9587). (¬2) رواه الإسماعيلي، كما عزاه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 290). (¬3) رواه النَّسائي (5306)، كتاب: الزينة، باب: التشديد في لبس الحرير، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 46). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 289 - 290). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 290).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ حُذَيفَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَب وَالفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا؛ فَإنَّها لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَة" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البُخاري (5110)، كتاب: الأطعمة، باب: الأكل في إناء مفضض، و (5309)، كتاب: الأشربة، باب: الشرب في آنية الذهب، و (5493)، كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير، و (5499)، باب: افتراش الحرير، ومسلم (2067/ 4 - 5)، كتاب: اللباس، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وأبو داود (3723)، كتاب: الأشربة، باب: في الشرب في آنية الذهب والفضة، والنَّسائي (5301)، كتاب: الزينة، باب: ذكر النهي عن لبس الديباج، والترمذي (1878)، كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية الشرب في آنية الذهب والفضة، وابن ماجه (3590)، كتاب: اللباس، باب: كراهية لبس الحرير. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (8/ 69)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 566)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 35)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 214)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1654)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 95)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 59)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 81).

(عن) أبي عبدِ الله (حُذَيفةَ) -بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة وسكون المثناة تحت ففاء فهاء، مصغر- بنِ اليمان (- رضي الله عنه -)، وهو صاحب سرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقدمت ترجمته في باب: السواك. (قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلبسوا الحرير)؛ لأنَّه محرم على ذكور أمتي، وسببه كما في "الصحيحين" عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكذا عبد الله بن عكيم، قال: كنا مع حذيفة بالمدائن، فاستسقى حذيفةُ، فسقاه مجوسي في إناء من فضة، فقال: إنِّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تلبسوا الحرير، (ولا الديباج) " (¬1). وفي رواية فيهما: فجاءه دهقانٌ بشراب في إناء من فضة، فرماه به، وقال: إنِّي أخبركم أني قد أمرته أَلَّا يسقيني فيه (¬2). وفي لفظ: فحذفه به (¬3). وفي آخر: فرمى به في وجهه (¬4). وللإمام أحمد من رواية يزيد عن ابن أبي ليلى: ما يألو أن يصيب به وجهه (¬5). زاد في رواية عند الإسماعيلي، وأصله عند مسلم: فرماه به، فكسره. وقال كما في "الصحيحين": إنِّي لم أرمه إلَّا أني نهيتُه فلم ينته (¬6). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البُخاريّ برقم (5110)، وعند مسلم برقم (2067/ 4). (¬2) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2067/ 4). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 400). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 397). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 408). (¬6) تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5309، 5493).

وفي رواية الإسماعيلي المذكورة: إنِّي لم أكسره إلَّا أني نهيتُه، فلم يقبل. وفي رواية يزيد: لولا أني تقدَّمْتُ إليه مرَّة أو مرتين، لم أفعل به هذا (¬1). والديباج: صنف نفيس من الحرير. قال في "القاموس": الديباج معروف معرَّبٌ، والجمعُ دَبابج، ودبابيج (¬2). وفي "المطالع": الديباج بكسر الدال وفتحها، قال أبو عبيد: والكسر مولدة (¬3)، انتهى. (ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة)، وفي رواية عن حذيفة - رضي الله عنه - في "الصحيحين"، وغيرهما: لأنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة (¬4). ووقع عند الإمام أحمد من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلى بلفظ: نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة (¬5). (ولا تأكلوا في صِحافها) تثنية صَحْفة، وهو إناء كالقَصعة المبسوطة ونحوِها، وجمعُها صِحاف (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 408)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 95). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 239)، (مادة: دبج). (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 252). (¬4) تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5309). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 396). (¬6) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 13).

وفي الرواية التي ذكرناها عند الإمام أحمد: نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة، وأن يؤكل فيها (¬1). وقد ورد في هذا المعنى عدةُ أحاديث، منها: ما رواه الحاكم وصححه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لبسَ الحرير في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة، ومن شربَ الخمرَ في الدنيا، لم يشربه في الآخرة، ومن شربَ في آنية الذهب والفضة، لم يشربْ بها في الآخرة"، ثم قال: "لباسُ أهل الجنة، وشرابُ أهل الجنة، وآنيةُ أهل الجنة" (¬2). وأخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة أيضًا، مرفوعًا: "إنما يلبسُ الحريرَ في الدنيا مَنْ لا يرجو أن يلبسَه في الآخرة". قال الحسن: فما بالُ أقوامٍ يبلغُهم هذا عن نبيِّهم يجعلون حريرًا في ثيابهم وبيوتهم؟! (¬3). وفي "الصحيحين" عن أم سلمة -رضي الله عنها-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذي يشربُ في آنية الفضة إِنَّما يُجَرْجِرُ في بطنه نارَ جهنمَ" (¬4). وفي رواية لمسلم: "الذي يأكلُ أو يشربُ في إناءٍ من ذهبٍ أو فضة، فإنما يُجَرْجِرُ في بطنه نارَ جهنمَ" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 404). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 95). (¬2) رواه الحاكم في "المستدرك" (7216). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 329). (¬4) رواه البُخاريّ (5311)، كتاب: الأشربة، باب: آنية الفضة، ومسلم (2065/ 1)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره. (¬5) كذا ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" (3/ 91)، حديث (3204)، وعنه =

وأخرج الطّبراني عن ابن عمر، مرفوعًا: "من لبسَ الحريرَ، وشربَ في الفضة، فليس مِنَّا، ومن خَبَّبَ امرأةً على زوجِها، أو عبدًا على مواليه، فليس مِنّا" (¬1). ومعنى قوله في حديث أم سلمة: "إنما يجرجر" هو من الجَرْجرة، وهو صوتٌ يردِّده البعير في حَنجرته إذا هاج نحو صوتِ اللجامِ في فَكِّ الفَرَس. قال النووي: اتفقوا على كسر الجيم الثَّانية من يُجرجِر (¬2)، وتُعقب بأن الموفقَ بنَ حمزةَ في كلامه على "المهذب" حكى فتحها. وحكى ابن الفركاح عن والده: أنه قال: يروى "يُجَرْجِرُ" على البناء للفاعل والمفعول، وكذا جوزه ابن مالك في شواهد "التوضيح" (¬3). نعم، ردّ ذلك تلميذُه ابن أبي الفتح صاحبُ "المطلع"، فقال في [جزء جمعه] (¬4) في الكلام على هذا المتن: لقد كثر بحثي على أن أرى أحدًا رواه مبنيًا للمفعول، فلم أجده عند أحد من حفاظ الحديث، وإنما سمعناه من الفقهاء الذين ليست لهم عناية بالرواية. وسألت أبا الحسين اليونينيَّ، فقال: ما قرأته على والدي، ولا على شيخنا المنذريِّ إلَّا مبنيًا للفاعل، قال: ويبعد اتفاقُ الحفَّاظ قديمًا وحديثًا على ترك رواية ثانية. ¬

_ = نقل الشارح -رحمه الله-. والذي رواه مسلم (2065/ 2)، قال فيه: "من شرب في إناء من ذهب أو فضة، فإنما يجرجر. . . ." الحديث. (¬1) رواه الطّبراني في "المعجم الأوسط" (4837)، وفي "المعجم الصغير" (698). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 27). (¬3) كذا في "الفتح" للحافظ ابن حجر (10/ 97). ولم أقف عليه في "شواهد التوضيح" لابن مالك، بتحقيق عبد الباقي. (¬4) في الأصل: "جرجره"، والصواب ما أثبت.

قال: وأيضًا: إسناده إلى الفاعل هو الأصل، وإسناده إلى المفعول فرع، فلا يصار إليه بغير حاجة، وأيضًا: فإن علماء العربية قالوا: يحذف الفاعل إما للعلم به، أو الجهل به، وإذا تخوف منه، أو عليه، أو لشرفه، أو لحقارته، أو لإقامة وزن، وليس هنا شيء من ذلك (¬1)؛ (فإنها)؛ أي: آنية الذهب والفضة، وفي لفظ: "هنَّ" (¬2)؛ أي: أواني الذهب والفضة، وفي أبي داود: "وهي" -بكسر الهاء ثم تحتانية (¬3) -، ووقع عند الإسماعيلي، وأصلُه في مسلم: "هو"؛ أي: جميع ما ذكر (لهم)؛ أي: المستعملين لها (في) الحياة (الدنيا). قال الإسماعيلي: ليس المراد بقوله: "في الدنيا" إباحةَ استعمالهم إياه، وإنما المعنى بقوله: "لهم"؛ أي: هم الذين يستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا، ويُمنعه أولئك جزاءً لهم على معصيتهم باستعماله. قال في "الفتح": ويحتمل أن تكون فيه إشارة إلى أن الذين يتعاطون ذلك في الدنيا، لا يتعاطونه في الآخرة، كما تقدم في شرب الخمر، ولبس الحرير، وكذا في آنية الذهب والفضة؛ كما تقدم في حديث أبي هريرة المتقدم آنفًا (¬4)، (و) إنها (لكم) معشرَ المسلمين التاركينَ لاستعمالِ ذلك امتثالًا، والكافِّين عنه اتخاذًا واستعمالًا (في الآخرة) في دار المقام والنعيم والإنعام، والتكريم والإكرام {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]، {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} [الإنسان: 15]. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 97). (¬2) تقدم تخريجه عند البُخاري برقم (5309). (¬3) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (3723). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 95).

وقد نقل ابن المنذر الإجماعَ على تحريم الشرب في آنية الذهب والفضة، إلَّا عن معاوية بن قرة أحدِ التابعين، فكأنه لم يبلغه النهي، وعن الشّافعيّ في "القديم"، ونص في "الجديد" على التحريم، ومن أصحابه من قطع به عنه. قال في "الفتح": وهذا اللائق به عنه؛ لثبوت الوعيد عليه بالنار. قال: وإذا ثبت ما نقل عنه، فلعله كان قبل أن يبلغه الحديث المذكور، انتهى (¬1). وفي "الفروع": يحرم -في المنصوص- استعمالُ آنية ذهب وفضة، على الذكر والأنثى؛ اتفاقًا، حتَّى الميل ونحوه، وكذا اتخاذها، على الأصح؛ خلافًا لأبي حنيفة (¬2). وفي الأحاديث المذكورة وغيرها مما لم نذكره تحريمُ الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف، رجلًا كان أو امرأة، ولا يلتحق ذلك بالحلي للنساء؛ لأنَّه ليس من التزين الذي أبيح لهن في شيء (¬3). قال القرطبي: ويلحق بالأكل والشرب ما في معناهما؛ مثل: التطيب، والتكحل، وسائر وجوه الاستعمالات. قال: وبهذا قال الجمهور، وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقًا، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب، ومنهم من قصره على الشرب؛ لأنَّه لم يقف على الزيادة في الأكل. قال: واختلفوا في علة المنع، فقيل: إن ذلك يرجع إلى عينهما، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (10/ 94). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 69). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 97).

ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هي لهم، وإنها لهم"، وقيل: لكونهما الأثمانَ وقيمَ المتلفات، فلو أبيح استعمالهما، لجاز اتخاذُ الآلات منهما، فيفضي إلى قلتهما بأيدي النَّاس، فيُجحف بهم، ومثَّله الغزاليُّ بالحكام الذين وظيفتُهم التصرفُ لإظهار العدل بين النَّاس، فلو مُنعوا التصرف، لأخلَّ ذلك بالعدل، فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين حبسٌ لهما عن التصرف الذي ينتفع به النَّاس، ولا يرد عليه جوازُ الحلي للنساء؛ لجواز الانفصال عنه بالإذن من الشارع، ولأن نفسَ النساء من أنواع المتصرَّف فيه، والحلي بالنقدين لهن مما يروج التصرف فيهن الذي هو [من] (¬1) أعظم، أو أعظم أنواع التصرفات. وقيل: علة التحريم: السَّرَفُ والخُيلاء، أو كسرُ قلوب الفقراء، وقيل: التشبيه بالأعاجم (¬2)، وفيه نظر؛ لثبوت الوعيد لفاعله، والتشبيه لا يصل إلى ذلك (¬3)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين ساقط من "ب". (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 345 - 346). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 98).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنِ البَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: مَا رأيت مِنْ ذِي لِمَّةٍ، فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لَهُ شَعْرٌ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ، بَعِيدُ ما بَيْنَ المَنْكِبَيْنِ، لَيْسَ بِالقَصِيرِ وَلَا بِالطَّوِيلِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البُخاري (3358)، كتاب: المناقب، باب: صفة النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، و (5510)، كتاب: اللباس، باب: الثوب الأحمر، و (5561)، باب: الجعد، ومسلم (2337/ 91 - 93)، كتاب: الفضائل، باب: في صفة النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو داود (4072)، كتاب: اللباس، باب: في الرخصة في ذلك، و (4183 - 4184)، كتاب: الترجل، باب: ما جاء في الشعر، والنَّسائيُّ (5060، 5062)، كتاب: الزينة، باب: اتخاذ الشعر، و (5232 - 5233)، باب: اتخاذ الجمة، و (5314)، باب: لبس الحلل، والترمذي (1724)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في الرخصة في الثوب الأحمر للرجال، و (3635)، كتاب: المناقب، باب: ما جاء في صفة النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن ماجه (3599)، كتاب: اللباس، باب: لبس الأحمر للرجال. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 193)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 227)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 304)، و"شرح مسلم" للنووي (15/ 91)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 216)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1656)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 305)، و"عمدة القاري" للعيني (16/ 107)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 90).

(عن) أبي عمارة (البَراءِ) -بفتح الموحدة وتخفيف الراء والمد على المشهور- (بنِ عازبٍ) -بالعين المهملة، والزاي المكسورة- الأنصاريّ، الأوسيِّ (-رضي الله عنهما-، قال: ما رأيت من ذي)؛ أي: صاحب (لِمَّة) وهو -باللام المكسورة والميم المشددة- من شعر الرأس دون الجمة، سميت بذلك؛ لأنها ألمَّتْ بالمنكِبين، فإذا زادت، فهي الجُمَّةُ، ومنه حديث أبي رمثة: فإذا رجلٌ له لِمَّة (¬1)؛ يعني: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وفي "القاموس": اللِّمة -بالكسر-: ما تشعَّب من رأس المولود بالقهر، والشعرُ المجاوز شحمةَ الأذن، والجمعُ لِمَم، ولِمام (¬3)، (في حلة)، وهي ثوبان أحدُهما فوق الآخر، وقيل: إزار ورداء، وهو الأشهر (¬4). وفي "المطالع": الحُلَّة: ثوبان غير لِفْقَين، رداء وإزار، سميا بذلك؛ لأنَّ كل واحد منهما يحل على الآخر. قال الخليل: ولا يقال حلة لثوب واحد (¬5). وقال أبو عبيد: الحُلَل: برود اليمن (¬6). وقال بعضهم: لا يقال له حلة حتَّى تكون جديدة، لحلها عن طَيِّها (¬7) (حمراء). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 163)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 280). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 273). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1496)، (مادة: لمم). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 432). (¬5) انظر: "العين" للخليل (3/ 28). (¬6) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 228). (¬7) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 196).

وفي لفظ من ألفاظ حديث البراء: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مربوعًا، ورأيته في حُلَّة حمراءَ ما رأيت (أحسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬1). ولأبي داود من حديث هلال بن عامر عن أبيه: رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب بمنًى على بعير، وعليه بُرْدٌ أحمرُ (¬2)، وإسناده حسن. وللطبراني بسند حسن عن طارق المحاربي، نحوُه (¬3)، لكن قال: بسوق ذي المجاز (¬4). والذي تلخص من أقوال السلف في لبس الثوب الأحمر سبعة أقوال كما في "الفتح". الأول: الجواز مطلقًا. جاء عن عليّ، وطلحة، وعبد الله بن جعفر، والبراء، وغيرِ واحد من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب، والنخعي، والشعبي، وأبي قِلابة، وأبي وائل، وطائفة من التابعين. الثاني: المنع مطلقًا. وفي حديث ابن عمر عند ابن ماجه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المفدم، وهو -بالفاء وتشديد الدال المهملة-: المشبع بالعصفر كما فسره في الحديث (¬5). وعن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان إذا رأى على الرجل ثوبًا معصفرًا، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البُخاريّ برقم (3358). (¬2) رواه أبو داود (4073)، كتاب: اللباس، باب: في الرخصة في ذلك. (¬3) رواه الطّبراني في "المعجم الكبير" (8175). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 305). (¬5) رواه ابن ماجه (3601)، كتاب: اللباس، باب: كراهية المعصفر للرجال.

ضربه، وقال: دعوا هذا للنساء. أخرجه الطبري. وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل الحسن: "الحمرةُ من زينة الشيطان، والشيطان يحب الحمرة" (¬1)، ووصله أبو علي بنُ السكن، وأبو أحمد بنُ عدي، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" من رواية أبي بكر الهذلي، وهو ضعيف، عن الحسن، عن رافع بن يزيد الثقفي، رفعه: "إن الشيطان يحب الحمرةَ، فإياكم والحمرةَ، وكلَّ ثوب ذي شهرة"، وأخرجه ابن منده (¬2). وأخرج أبو داود، والترمذي، وحسنه عن عبد الله بن عمرو، قال: مَرَّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ وعليه ثوبان أحمران، فسلَّم عليه، فلم يردَّ عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وعن رافع بن خديج، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فرأى على رواحلنا أكسيةً فيها خيوط عِهْنٍ حمر، فقال: "ألا أرى هذه الحمرةَ قد غلبتكم"، قال: فقمنا سراعًا، فنزعناها حتى نفر بعضُ إبلنا. أخرجه أبو داود (¬4)، وفي سنده راوٍ لم يُسم. وعن امرأة من بني أسد، قالت: كنت عند زينبَ أمِّ المؤمنين -رضي الله عنها-، ونحن نصنع ثيابًا لها بمغرة، إذ طلع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى المغرة، ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في "المصنف" لابن أبي شيبة. وقد رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (19975). (¬2) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 325)، ومن طريقه: البيهقي في "شعب الإيمان" (6327). (¬3) رواه أبو داود (4069)، كتاب: اللباس، باب: في الحمرة، والترمذي (2807)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجل والقسي. (¬4) رواه أبو داود (4070)، كتاب: اللباس، باب: في الحمرة.

رجعَ، فلما رأت ذلك زينب، غسلت ثيابها، ووارت كلَّ حمرة، فجاء فدخل. أخرجه أبو داود (¬1)، وفي سنده ضعف. الثالث: يكره الثوب المشبع بالحمرة، دون ما كان صبغه خفيفًا، جاء ذلك عن عطاء، وطاوس، ومجاهد، وكأنّ الحجة فيه حديثُ ابن عمر في المُفَدَّم. الرابع: يكره لبسُ الأحمر مطلقًا لقصد الزينة والشهرة، ويجوز في البيوت والمهنة. جاء ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنه -. الخامس: يجوز لبسُ ما كان صُبغ غزلُه ثم نسج، ويُمنع ما صُبغ بعد النسج. جنح إلى ذلك الخطابي، واحتج بأن الحلَّة الواردةَ في الأخبار في لبسه - صلى الله عليه وسلم - إحدى حلل اليمن، وكذلك البرد الأحمر، وبرود اليمن يصبغ غزلها، ثم ينسج. السادس: اختصاصُ النهي بما يُصبغ بالعصفر؛ لورود النهي عنه، لا ما صبغ بغيره من الأصباغ؛ ويعكِّر عليه حديثُ المغيرة. السابع: تخصيصُ المنع بالثوب الذي يُصبغ كلُّه، وأما ما فيه لون آخرُ غيرُ الأحمر من بياض وسواد وغيرها، فلا، وعلى ذلك تحمل الأحاديث الواردة في الحلة الحمراء؛ فإن الحلل اليمانية غالبًا تكون ذا [ت] خطوط حمر وغيرها. قال الإمام ابن القيم: كان بعض العلماء يلبس ثوبًا مصبغًا بالحمرة، ويزعم أنه يتبع السنة، وهو غلط؛ فإن الحلَّة الحمراء من برود اليمن، والبردُ لا يُصبغ أحمرَ صرفًا (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4071)، كتاب: اللباس، باب: في الحمرة. (¬2) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 137).

وقال في محل آخر: غلط من ظن أن الحلة كانت حمراء بحتًا لا يخالطها غيرُها، وإنما الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود كسائر البرود اليمنية، وهي معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من المخطوط، وإلا فالأحمر البحتُ نُهي عنه أشدَّ النهي (¬1). وقال الطبري بعد ذكره لغالب الأقوال التي حكيناها: الذي أراه: جواز لبس الثياب المصبغة بكل لون، إلا أني لا أحب لبسَ ما كان مشبعًا بالحمرة، ولا لبسَ الأحمر مطلقا ظاهرًا فوق الثياب؛ لكونه ليس من لباس أهل المروءة في زماننا، فإن مراعاة زي الزمان من المروءة، ما لم يكن إثمًا، وفي مخالفة الزي ضربٌ من الشهرة، وهذا يمكن أن يخلص منه قولٌ، فيضمَّ للسبعةِ أقوالٍ المتقدمةِ، فيكون ثامنًا (¬2). ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 305 - 306).

الحديث الرابع

الحديث الرابع عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بسَبْعٍ، وَنَهانَا عَنْ سَبْعِ: أَمَرَنَا بعِيَادَةِ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الجَنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ، وَإبْرَارِ القَسَمِ أَوِ المُقْسِمِ، وَنَصرِ المَظْلُومِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإفْشَاءِ السَّلَامِ، وَنَهانَا عَنْ خَوَاتِيمَ، أَوْ تَخَتُّمٍ بالذَّهبِ، وَعَنِ الشُّرب بالفِضَّةِ، وَعَنِ المَيَاثِرِ، وَعَنِ القَسِّيِّ، وَعَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ وَالإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (1182)، كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، و (2313)، كتاب: المظالم، باب: نصر المظلوم، و (4880)، كتاب: النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة، و (5312)، كتاب: الأشربة، باب: آنية الفضة، و (5326)، كتاب: المرضى، باب: وجوب عيادة المريض، و (5511)، كتاب: اللباس، باب: الميثرة الحمراء، و (5525)، باب: خواتيم الذهب، و (5868)، كتاب: الأدب، باب: تشميت العاطس إذا حمد الله، و (5881)، كتاب: الاستئذان، باب: إفشاء السلام، و (6278)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: قول الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]، ومسلم (2066)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره، واللفظ له، والنسائي (1939)، كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، و (3778)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إبرار القسم، والترمذي (2809)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في كراهية لبس المعصفر للرجل، والقسي. =

(عن البراء بن عازب) أيضًا (-رضي الله عنهما-، قال: أمرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع) من الخصال، (ونهانا عن سبع) بتقديم الأوامر على النواهي. قال ابن دقيق العيد: إخبارُ الصحابيِّ عن الأمر والنهي على ثلاث مراتبَ: الأولى: أن يأتي بالصيغة؛ كقوله: افعلوا، أو لا تفعلوا. الثانية: قولُه: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا، ونهانا عن كذا، وهو كالمرتبة الأولى في العمل به، أمرًا ونهيًا، وإنما نزل عنها؛ لاحتمال أن يكون ظنَّ ما ليس بأمرٍ أمرًا، إلا أن هذا الاحتمال مرجوح؛ للعلم به بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة. الثالثة: أُمِرْنا ونُهينا -على البناء للمجهول-، وهي كالثانية، وإنما نزلت عنها؛ لاحتمال أن يكون الآمرُ غيرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). (أمرنا) -عليه الصلاة والسلام- (بعيادة المريض)، وحمل الجمهور الأمرَ فيها على الاستحباب، فُيستحبُّ عيادةُ غيرِ مبتدِعٍ، ومثلُه مَنْ جهر بالمعصية. ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 565)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 389)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 31)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 218)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1657)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 350)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 315)، و"عمدة القاري" للعيني (8/ 6)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (9/ 129). (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 176). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 317)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-.

وقال ابن حمدان: عيادتُه فرضُ كفاية. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذي يقتضيه النص وجوبُ ذلك، واختاره جمعٌ، والمراد: مرةً، وظاهره: ولو من وجع ضرس، ورمد، ودُمَّلٍ؛ خلافًا لأبي المعالي بن المنجا من علمائنا، وتحرُم عيادةُ الذميِّ (¬1). قال في "الفروع": تُستحب عيادة المريض اتفاقًا، وقيل: بعد أيام، وأوجب أبو الفرج وبعضُ العلماء عيادتَه، والمراد: مرةً، واختاره الآجري. وقال أبو حفص العكبري: السُّنَّةُ مَرَّةً، وما زاد نافلة (¬2). روى الإمام مالك، بلاغًا، والإمام أحمد مسندًا، ورواته رواة الصحيح، والبزار، وابن حبان في "صحيحه" من حديث جابر - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عادَ مريضًا، لم يزل يخوضُ في الرحمة، فإذا جلسَ، اغتمس فيها" (¬3). ورواه الطبراني، ورواته ثقات، من حديث أبي هريرة، بنحوه (¬4). ورواه الإمام أحمد أيضًا، والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" من حديث كعب بن مالك، مرفوعًا، ولفظه: "من عاد مريضًا، خاضَ في الرحمة، فإذا جلس عنده، استنقع فيها" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 327). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 138). (¬3) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 946) بلاغًا. ورواه موصولًا: الإمام أحمد في "المسند" (3/ 304)، وابن حبان في "صحيحه" (2956). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (2205)، بلفظ: "عائد المريض يخوض في الرحمة، فإذا جلس عنده، اغتمس فيها". (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 460)، والطبراني في "المعجم الكبير" =

ورواه الطبراني فيهما أيضًا من حديث عمرو بن حزم - رضي الله عنه -، وزاد: "وإذا قام من عنده، فلا يزال يخوض فيها حتى يرجع من حيثُ خرج" (¬1)، وإسناده إلى الحَسَن أقرب. وأخرج الترمذي، وحَسَّنه عن علي - رضي الله عنه -، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من مسلم يعود مُسلمًا غُدْوَةً، إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبحَ، وكان له خريفٌ في الجنة" (¬2). ورواه أبو داود موقوفًا على عليٍّ، ثم قال: وأُسند هذا عن عليٍّ من غيرِ وجهٍ صحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ورواه الإمام أحمد، وابن ماجه مرفوعًا (¬4). والأحاديث في هذا كثيرة شهيرة (¬5). والعيادة: الزيارة والافتقاد، سميت عيادةً، قال عياض: لأن الناس يتكررون؛ أي: يرجعون، يقال: عدتُ المريض عَوْدًا وعيادةً، الياءُ منقلبةٌ عن واو (¬6). وأصرحُ من هذا الحديث في إيجاب عيادة المريض قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "خمسٌ ¬

_ = (19/ 102)، وفي "المعجم الأوسط" (903). (¬1) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (5296). (¬2) رواه الترمذي (969)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في عيادة المريض. (¬3) رواه أبو داود (3098 - 3099)، كتاب: الجنائز، باب: فضل العيادة على الوضوء. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 81)، وابن ماجه (1442)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في ثواب من عاد مريضًا. (¬5) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (4/ 164). (¬6) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 105).

تجبُ للمسلمِ على أخيه: رَدُّ السلامِ، وتَشْميتُ العاطسِ، وإجابةُ الدعوة، وعيادةُ المريض، واتباعُ الجنازةِ" متفق عليه (¬1). وفي لفظ: "حَق المسلمِ على المسلم خمسٌ. . . ." رواه الشيخان، وأبو داود، وابن ماجه من حديث أبي هريرة (¬2). ومن قال بعدم الوجوب، وهم الجمهور، يجيب بأن الأمر بذلك محمول على مزيد الترغيب في عيادة المريض، والاعتناء بها، والاهتمام بشأنها، (واتباع الجنازة)، وتقدم بيان ذلك في الجنائز، (وتشميت العاطس) إذا حَمِدَ الله تعالى. ومعنى شَمَّته -بالمعجمة والمهملة-: دعا له بقوله: يرحمُك الله، أو يرحمُكم الله. قال في "القاموس": والتسميت -بالمهملة-: ذكرُ الله تعالى على الشيء، والدعاءُ للعاطس، ولزومُ السَّمت (¬3). وقال: والتشميت -بالمعجمة-: التسميتُ، والجمعُ والتحنين (¬4)، انتهى. قال في "الآداب": التشميت -بالمعجمة- هي الفصحى، ومعناها: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2162/ 4)، كتاب: السلام، باب: من حق المسلم للمسلم رد السلام، ولفظ البخاري هو الآتي. (¬2) رواه البخاري (1183)، كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز، ومسلم (2162/ 4)، كتاب: السلام، باب: من حق المسلم للمسلم رد السلام، وأبو داود (5030)، كتاب: الأدب، باب: في العطاس، وابن ماجه (1435)، كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في عيادة المريض. (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 197)، (مادة: سمت). (¬4) المرجع السابق، (ص: 198)، (مادة: شمت).

أبعدَكَ الله عن الشماتة. قال ابن الأنباري: كل داع بخير فهو مُشمِّت (¬1). قال في "النهاية": هما الدعاء بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما (¬2)، وقالت طائفة: معنى شَمَّتُّ العاطسَ: أزلتُ عنه الشماتة (¬3). ومعتمد المذهب: أن تشميت العاطس فرضُ كفاية إذا حَمِدَ الله؛ كرد السلام إن كانوا جماعة، وعلى الواحد فرض عين. والحاصل: أن حمد الله تعالى سنة في حقِّ العاطس، وتشميتَه إذا حمدَ فرضُ كفاية، وإجابةُ المشمِّتِ فرضُ عين. وذكر بعض العلماء أن تشميتَ العاطس فرضُ عين. قال ابن القيم: ولا دافع له، ولفظُه في حواشي "السنن" جاء بلفظ: الوجوب الصريح، وبلفظ: الحق الدال عليه، وبلفظ: على الظاهر فيه، وبصيغة الأمر التي هي حقيقة فيه، وبقول الصحابي: أَمرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوبَ أشياءَ كثيرةٍ بدون مجموع هذه الأشياء (¬4). وقال بالوجوب: عليُّ بن مزين من المالكية، وجمهورُ أهل الظاهر. وقال ابن أبي جمرة: قال جماعة من علمائنا: إنه فرض عين، وذهب آخرون إلى أنه فرض كفاية، إذا قام به البعض، سقط عن الباقين. ورجحه أبو الوليد بن رشد، وأبو بكر بن العربي، وقال به الحنفية. ¬

_ (¬1) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (2/ 467). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 499). (¬3) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (2/ 467). (¬4) انظر: "حاشية ابن القيم على سنن أبي داود" (13/ 258).

وقال عبد الوهاب من المالكية، وجماعةٌ منهم: إنه مستحب، ويجزىء الواحد عن الجماعة، وهو قول الشافعيّة، والراجحُ من حيث الدليل القولُ الثاني الذي عليه الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة؛ فإن الأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا ينافي كونه على الكفاية؛ فإن الأمر بتشميت العاطس، وإن ورد في عموم المكلفين، ففرضُ الكفاية يُخاطَب به الجميعُ على الأصح، ويسقط بالبعض (¬1). (وإبرارِ القَسَم) إذا حلف (أو) قال: إبرارِ (المُقْسِم) إذا حلف على شيء، ما لم يكن الذي حلف أَلَّا يفعله فعلُه أحبُّ إلى الله ورسوله، أو يكون الذي حلف عليه ليفعلنه تركُ فعلهِ أحبُّ إلى الله ورسوله؛ فإن فعلَ المحبوب وتركَ المكروه أولى، وربما وجب؛ كما تقدم في الأيمان؛ لما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "من حلفَ على يمينٍ، فرأى غيرَها خيرًا منها، فليأتِ الذي هو خير، ولْيُكَفِّرْ عن يمينهِ" رواه أحمد، ومسلم، والترمذي (¬2). (ونصرِ المظلوم) بإعانته على ظالمه، وتخليصه منه. وفي حديث أنس - رضي الله عنه -: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، قيل: كيف أنصرُه ظالمًا؟ قال: "تَحجُزُهُ عن الظلمِ؛ فإن ذلك نصرُه" رواه الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي (¬3). (وإجابةِ الداعي) إلى وليمة العرس. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 603). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 99)، والبخاري (6552)، كتاب: الإكراه، باب: يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه، والترمذي (2255)، كتاب: الفتن، باب: (68).

وقد نقل ابنُ عبد البر (¬1)، ثم عياض (¬2)، ثم النوويُّ (¬3) الاتفاقَ على القول بوجوب الإجابة لها، وفيه نظر، نعم، المشهورُ من أقوال العلماء الوجوبُ، وصرح جمهور الحنابلة والشافعية: أنها فرض عين، ونصّ عليه مالكٌ، وعن بعض الحنابلة والشافعية: أنها مستحبة. وذكر اللخمي من المالكية: أنه المذهب، وكلامُ صاحب "الهداية" من الحنفية يقتضي الوجوبَ مع تصريحه بأنها سنة، فكأنه أراد: أنها وجبتْ بالسنَّةِ، وليستْ فرضًا كما عُرف من قاعدتهم. وعن بعض الحنابلة، والشافعية: أنها فرض كفاية (¬4). وفي "فروع" ابن مفلح: ويجبُ -في الأشهر عنه، يعني: الإمام أحمد، قاله في "الإفصاح"-: إجابةُ داعٍ مسلم يَحْرُم هجرُه، إن عَيَّنه، أولَ مرةٍ، والمنصوص: ومَكْسَبُهُ طيبٌ، ومنع في "المنهاج" من ظالم وفاسق ومبتدِع ومفاخرٍ بها، أو فيها مبتدعٌ يتكلم ببدعته، إلا لرادٍّ عليه، وكذا مضحك يُفحش (¬5)، وفروع ذلك كثيرة منثورة في كتب الفقه. (و) السابع: (إفشاء السلام)، وروى البخاري في "الأدب المفرد"، وأصحاب "السنن" الأربع، وابن حبان، وغيرُهم من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما-، مرفوعًا: "أفشوا السلامَ تسلموا" (¬6)، والحاكم من ¬

_ (¬1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 532). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (4/ 589). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 234). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 242). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 226). (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 286)، والبخاري في "الأدب المفرد" (787)، وابن حبان في "صحيحه" (491). ولم يروه أحد من أصحاب السنن =

حديث أبي موسى الأشعري: "أفشوا السلام بينكم تَحابُّوا" (¬1)، والطبراني في "الكبير" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "أفشوا السلام كي تعلوا" (¬2). قال النووي: السلامُ أولُ أسباب التآلف، ومفتاحُ استجلابِ المودة، ومعنى إفشاء السلام؛ أي: نشرُه وتكثيرُه، ففي إفشائه تمكينُ ألفة المسلمينَ بعضهم لبعض، وإظهارُ شعارهم؛ بخلاف غيرِهم من سائر الملل، مع ما فيه من رياضة النفوس، ولزومِ التواضع، وإعظامِ حرمات المسلمين (¬3). وفي لفظ: "ابذلوا السلام للعالم، والسلام على مَنْ عرفتَ، ومَنْ لم تعرف" (¬4)، وهما بمعنى إفشاء السلام. ومن ذلك لطيفةٌ أخرى: أنها تتضمن رفعَ التقاطع والتهاجر والشحناء، وفساد ذات البين التي هي الحالقة. وأن سلامه لله تعالى لا يتبع فيه هواه، ويخص به أحبابه (¬5). ¬

_ = الأربعة من حديث البراء - رضي الله عنه -. (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (7310). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (8/ 30 - "مجمع الزوائد" للهيثمي) لكن عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - وكان في الأصل: "تعلموا" بدل "تعلوا"، والصواب ما أثبت. (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 36). (¬4) روى البخاري (12)، كتاب: الإيمان، باب: إطعام الطعام من الإسلام، ومسلم (39)، كتاب: الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام وأي أموره أفضل، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: بلفظ: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 36).

وفي لفظ آخر من حديث البراء: "ورَدِّ السلام" كما في البخاري (¬1) وغيره. قال في "الفتح": ولا مغايرة في المعنى؛ لأن ابتداء السلام وردَّه متلازمان، وإفشاء السلام ابتداءً يستلزم إفشاءه جوابًا (¬2). وفي حديث أبي هريرة عند مسلم، مرفوعًا: "ألا أَدُلُكُم على ما تَحَابُّونَ به؟ أَفْشوا السلامَ بينكم" (¬3). قال ابن العربي فيه: إن من فوائد إفشاء السلام وحصولهِ المحبةَ بين المتسالمين. وكان ذلك؛ لما فيه من ائتلاف الكلمة؛ لتعم المصلحة بوقوع المعاونة على إقامةِ شرائع الدين، وإخزاءِ الكافرين، وهي كلمة إذا سُمعت، أخلصت القلبَ الواعيَ لها في النفور إلى الإقبال على قائلها (¬4). وعن عبد الله بن سَلَام، رفعه: "أَطْعِموا الطعام، وأَفْشوا السلام" الحديث، وفيه: "تدخلوا الجنةَ بسلام" أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وصححه الحاكم، والترمذي (¬5). والأحاديث في إفشاء السلام كثيرة. تنبيهان: الأول: ابتداءُ السلام سُنَّةُ كفاية من الجماعة، وسنةُ عين من الواحد، والأفضلُ إذا كانوا جماعة السلامُ من جميعهم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري (1182). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 18). (¬3) رواه مسلم (54)، كتاب: الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. (¬4) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (9/ 315 - 316). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 18 - 19)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله-. (¬5) تقدم تخريجه.

وردُّ السّلام حيث سُنَّ ابتداؤه فرضُ كفاية، وعلى الواحد فرضُ عين (¬1)؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، وعلم مما ذكرنا أن ابتداءه ليس بواجب. وذكره ابن عبد البر إجماعًا، وظاهر ما نُقل عن الظاهرية وجوبُه. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، وغيرِه. الثاني: استدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا يكفي السلام سِرًّا، بل يشترط الجهرُ به، وأقلُّه أن يُسمع المسلَّم عليه في الابتداء، وفي الجواب: أن يسمع المُسَلِّم، ولا تكفي الإشارة باليد ونحوِها (¬2). وقد أخرج النسائي بسند جيد عن جابر، رفعه: "لا تُسَلِّموا تسليمَ اليهود، فإنَّ تسليمَهم بالرؤوس والأَكُفِّ" (¬3). ويستثنى من ذلك حالةَ الصلاة، فقد وردت أحاديثُ جيدة أنه - صلى الله عليه وسلم - ردَّ السلام وهو يصلي إشارةً (¬4). قال علماؤنا: رفعُ الصوت بالسلام بقدرِ إبلاغٍ واجبٌ في رَدٍّ، ومندوبٌ في ابتداءٍ (¬5)، والله الموفق. قال البراء بن عازب -رضي الله عنهما-: (ونهانا) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عن ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 377). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 18). (¬3) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (10172). (¬4) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 454)، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. وفي الباب عن غيره من الصحابة -رضي الله عنهم-. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 19). (¬5) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 378).

خواتيمَ) جمع خاتِم، ويجمع -أيضًا- على خَواتم -بلا ياء-، وعلى خياتيم -بياء بدل الواو، وبلا ياء أيضًا-. وفي الخاتم ثمان لغات: فتحُ التاء وكسرُها، وهما واضحان، وبتقديمهما على الألف مع كسر الخاء: خِتَام، وبفتحها، وبفتحها وسكون التحتية، وضم المثناة بعدها واو: خَيتوم، وبحذف التاء والواو مع سكون المثناة: خَتْم، وبألف بعد الخاء، وأخرى بعد التاء: خاتام، وبزيادة تحتانية بعد المثناة المكسورة: خاتِيام، وبحذف الألف الأولى، وتقديم التحتية: خَيْتام، وقد جمعها في "الفتح" ناظمًا لها في قوله: [من البسيط] خُذ نَظْمَ عَدِّ لُغاتِ الْخَاتَمِ انتظَمَتْ ... ثَمَانِيًا مَا حَوَاها قَطُّ نَظَّامُ خَاتَامُ خَاتَمُ خَتْمٌ خَاتَمٌ وَخِتَا ... مٌ خَاتِيام وَخَيْتُومٌ وخَيْتَامُ وَهَمْزُ مَفْتُوحِ تَاءٍ تَاسِعٌ (¬1) وَإِذَا ... سَاغَ القِيَاسُ أَتَمَّ العَشْرَ خَأْتَامُ لكنَّ الخَتْمَ والخِتامَ مختصٌّ بما يُختم به (¬2). (أَوْ) قال البراء: نهانا عن (تختُّمٍ بالذهب). وفي رواية: عن حلقة الذهب (¬3)، وفي لفظ: عن خاتم الذهب (¬4)؛ أي: عن لبسه للرجال دون النساء. وقد نقل الإجماع في "الفتح" على إباحة خاتم الذهب للنساء (¬5). ¬

_ (¬1) أي: خَأْتَم. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 316). (¬3) رواه النسائي (5167)، كتاب: الزينة، باب: خاتم الذهب. (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5326، 5525، 5868)، وعند مسلم برقم (3/ 1636) رقم (2066). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 317).

وأخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن النجاشي أهدى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حلية فيها خاتمٌ من ذهب، فأخذه، وإنه لمعرضٌ عنه، ثم دعا أُمامةَ ابنةَ ابنته - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "تَحَلَّي به" (¬1). وظاهرُ النهي عن التختم بالذهب للتحريم، وهو قول الأئمة، واستقر الأمر عليه. قال القاضي عياض: وما نُقل عن أبي بكر بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حزم مِنْ تختُّمه بالذهب، فشذوذ، والأشبهُ أنه لم تبلغه السُّنة فيه، والناس بعده مُجْمِعون على خلافه، وكذا ما روي فيه عن خَبّاب، وقد قال له ابن مسعود: أما آنَ لهذا الخاتم أن يُلقى؟ فقال: إنك لن تراه عليَّ بعدَ اليوم (¬2)، فكأنه ما كان بلغه النهي، فلما بلغه، رجع. قال ابن دقيق العيد -بعد أن نقل الإجماع على تحريمه-: وقد ذهب بعضُهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهيةَ تنزيه لا تحريم؛ كما قال مثلَ ذلك في الحرير. قال: وهو يقتضي إثباتَ الخلاف في التحريم، وهو يناقضُ القول بالإجماع على التحريم، ولابدّ من اعتبار وصف كونه خاتمًا. قال في "الفتح": القائلُ بكراهة التنزيه انقرضَ، واستقرَّ الإجماعُ بعدَه على التحريم (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (25140). (¬2) رواه البخاري (4130)، كتاب: المغازي، باب: قدوم الأشعريين، وأهل اليمن. وانظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 603 - 604). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 317).

ومن أدلة النهي عن التختم بالذهب: ما رواه يونسُ عن الزهريِّ، عن أبي إدريسَ، عن رجل له صحبةٌ، قال: جلس رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي يده خاتمٌ من ذهب، فقرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدَه بقضيب، فقال: "أَلقِ هذا". ذكره في "الفتح" (¬1). وعموم أحاديث الوعيد؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الذهب والحرير: "هذان حرامان على ذكور أمتي، حِلٌّ لإناثها" (¬2). وحديث عبد الله بن عمر [و]، رفعه: "من ماتَ من أمتي وهو يَلْبَسُ الذهبَ، حَرَّمَ اللهُ عليه ذهبَ الجنة" أخرجه الإمام أحمد، والطبراني (¬3). وفي حديث ابن عمر الآتي ما يشعر بنسخ جواز لبس خاتم الذهب، واستدل به على تحريم الذهب على الرجال؛ قليلِه وكثيرِه؛ للنهي عن التختم، وهو قليل، وتعقبه ابنُ دقيق العيد بأن التحريم لم يتناول ما هو في قدر الخاتم، وما هو فوقه، فأما ما هو دونه، فلا دلالة من الحديث عليه، وتناول النهيُ جميعَ الأحوال، فلا يجوز لبسُ خاتم الذهب لمن فاجأه الجربُ؛ لأنه لا تعلُّق له به؛ بخلاف الحرير؛ من الرخصة في لبسه بسبب الجرب (¬4). (و) نهانا (عن الشرب) بآنية (الفضة)، وتقدم الكلام على ذلك قريبًا. (وعن المياثر) جمع مِيْثَرَة -بكسر الميم وسكون التحتية، وفتح المثلثة ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 166)، والطبراني في "المعجم الكبير" (5/ 146 - "مجمع الزوائد" للهيثمي). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 317 - 318).

بعدها راء ثم هاء، ولا همز فيها-، وأصلها من الوثارة، أو الوِثْرَة -بكسر الواو وسكون المثلثة-، والوثير: هو الفراش الوطيء، وامرأة وثيرة: كثيرة اللحم، كانت النساء تصنعه لبعولتهن مثلَ القطائف، يصفُّونها؛ أي: يجعلونها كالصفة، وإنما قال: يصفونها -بلفظ المذكر-؛ للإشارة إلى أن النساء يصنعن ذلك، والرجال هم الذين يستعملونها في ذلك. وقال الزبيدي اللغوي: الميثرة: مِرْفَقَة كصُفَّةِ السرج. وقال الطبري: هو وطاء يوضع على سَرج الفَرَس، أو رَحْل البعير، كانت النساء تصنعُه لأزواجها من الأرجوانِ الأحمر، ومن الديباج، وكانت مراكبَ المعجم. وقيل: هي أغشية للسروج من الحرير، وقيل: هي سروجٌ من الديباج. وقال أبو عبيد: المياثر الحمرُ كانت من مراكب المعجم من حرير أو ديباج (¬1). وقد أخرج الإمام أحمد، والنسائي، وأصله عند أبي داود بسند صحيح، عن علي - رضي الله عنه -، قال: نُهِيَ عن مياثر الأُرجوان (¬2)، هكذا عندهم بلفظ: نُهي -على البناء للمجهول-، وهو محمولٌ على الرفع. وحكى القاضي عياض في "المشارق" قولًا: أن الميثرة تشبه المِخَدَّة ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (10/ 293). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 121)، وأبو داود (4050)، كتاب: اللباس، باب: من كرهه، والنسائي (5184)، كتاب: الزينة، باب: حديث عبيدة.

تُحشى بقطن أو ريش، يجعلها الراكبُ تحته (¬1)، وهذا يوافق تفسير الطبري. وعلى كل تقدير، فالميثرة إن كانت من حرير، فالنهي عنها كالنهي عن الجلوس على الحرير، وتقدم حكم الحرير، ولكن تقييدها بالأحمر أخصُّ من مطلق الحرير، فتمتنع إن كانت حريرًا، ويتأكد المنعُ إن كانت مع ذلك حمراءَ، كان كانت من غير حرير، فالنهيُ فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم. قال ابن بطال: كلام الطبري يقتضي التسويةَ في المنع من الركوب عليها، سواء كانت من حرير، أم غيره، فكان النهي عنها إذا لم تكن من حرير للتشبه، أو للسرف، أو التزين، وبحسب ذلك تتفصل الكراهة بين التحريم والتنزيه. وأما تقييدها بالحمرة، فمن يحمل المطلق على المقيد، وهم الأكثر، يخصُّ المنع بما كان أحمر. والأرجوان المذكور في الرواية التي أشرنا إليها -بضم الهمزة والجيم بينهما راء ساكنة ثم واو خفيفة-. وحكى عياض (¬2)، [ثم] (¬3) القرطبي (¬4) -فتحَ الهمزة-، وأنكره النووي، وصوب أن الضم هو المعروف في كتب الحديث، واللغة، والغريب (¬5). واختلفوا في المراد به، فقيل: هو صِبغٌ أحمرُ شديد الحُمرة، وهو نَوْرُ ¬

_ (¬1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 279). (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 567). (¬3) في الأصل: "عن"، والصواب ما أثبت. (¬4) انظر: "المفهم" للقرطبي (5/ 389). (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 42).

شجرٍ من أحسن الألوان، وقيل: الصوف الأحمر، وكلُّ شيء أحمر فهو أُرجوان، ويقال: ثوب أرجوان، وقطيفة أُرجوان، وحكى السيرافيُّ: أحمر أرجوان، فكأنه وصفٌ للمبالغة في الحمرة؛ كما يقال: أبيض يَقَق، وأصفر فاقع، وأسود حالك. واختلفوا هل الكلمة عربية أو معرّبة؟ فإن كان النهيُ مختصًا بالأحمر من المياثر، فالمعنى في النهي عنها ما في غيرها، وإن كان النهيُ لا يختصُّ بالأحمر، فالمعنى في النهي عنها للترفُّه، وقد يعتادها الشخص فتُغوِزُه، فيشُقُّ عليه تركُها، فيكون نهيَ إرشادٍ لمصلحة دنيوية، وإن كان من أجل التشبه بالأعاجم، فهو لمصلحة دينية. لكن كان ذلك شعارهم حينئذٍ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص به شعارهم، زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة كما في "الفتح" (¬1). فائدة: قد قيل: إن المراد بالميثرة: جلودُ السباع. قال النووي: وهو تفسير باطل مخالِفٌ لما أطبقَ عليه أهلُ الحديث (¬2). قال في "الفتح": بل يمكن توجيهه، وهو ما إذا كانت الميثرة وطاءً، وصُنِعت من جلد، ثم حُشيت، والنهي عنها حينئذٍ إما لأنها من زِيِّ الكفار، وإما لأنها لا تعمل فيها الذكاة، أو لأنها لا تُذَكَّى غالبًا، فيكون فيه حجة لمن منعَ لبسَ ذلك، ولو دُبغ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 307). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 33). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 293 - 294).

وقد ثبت النهيُ عن الركوب على جلود النمور، أخرجه النسائي من حديث المقدام بن معدي يكرب (¬1). ولأبي داود: "لا تصحبُ الملائكةُ رُفْقَةً فيها جلدُ نَمِرٍ" (¬2)، وهذا يؤيد التفسير المذكور (¬3). (و) نهانا - صلى الله عليه وسلم - (عن) لبس (القَسِّيِّ) -بفتح القاف وتشديد السين المهملة بعدها ياء نسبة-. وذكر أبو عُبيد في "الغريب": أن أهل الحديث يقولون: بكسر القاف، وأهل مصر يفتحونها (¬4)، وهي نسبة إلى بلد يقال لها: القس، قاله في "الفتح"، قال: رأيتها، ولم يعرفها الأصمعي، وكذا قال الأكثر: هي نسبة للقس قريةٍ بمصر، منهم الطبري، وابن سيده. وقال الحازمي: هي من بلاد الساحل. وقال المهلبي: هي على ساحل مصر، ولها حصن بالقرب من الفَرَما من جهة الشام، والفَرَما -بفاء وراء مفتوحة-. قال النووي: وهي بقرب تَنِّيس (¬5). وقد أخرج الإمام أحمد، وأصحاب "السنن"، وصححه ابنُ حبان عن ¬

_ (¬1) رواه النسائي (2454)، كتاب: الفرع والعتيرة، باب: النهي عن الانتفاع بجلود السباع. (¬2) رواه أبو داود (4130)، كتاب: اللباس، باب: في جلود النمور والسباع. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 294). (¬4) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 226). (¬5) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 34).

علي -رضوان الله عليه-، قال: نهاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن خاتم الذهب، وعن لُبس القَسَيِّ، والميثرةِ الحمراء (¬1). ورواه مسلم من حديث علي، وقال علي - رضي الله عنه -: فأما القسيُّ، فثيابٌ مضلعة أتتنا من الشام، أو مصر. في رواية مسلم: من مصر والشام، مضلَّعة، فيها حرير (¬2)؛ أي: خطوط عريضة كالأضلاع. وحكى المنذري: أن المراد بالمضلع، ما نُسج بعضُه وتُرك بعضه، وفيها أمثال الأترج؛ أي: إن الأضلاع التي فيها غليظة معوجة (¬3). (وعن لبس الحرير)، وتقدَّم، (و) عن لبس (الإِستبرق)، (و) عن لبس (الديباج)، وهما -يعني: الديباج والإِستبرق- صنفان نفيسان من الحرير، وقد تقدم الكلام على الحرير، وأنه يحرم على غير أنثى اتفاقًا. قال علماؤنا: حتى تكَّةٌ وشُرَّابَةٌ، نص عليه الإمام أحمد، والمراد: شرابةٌ مفردةٌ كشرابة البريد، لا تَبَعًا؛ فإنها كزِرّ. ويحرُم على غير أنثى افتراشُ الحرير، واستنادٌ إليه؛ خلافًا لأبي حنيفة. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4051)، كتاب: اللباس، باب: من كرهه، والنسائي (1040)، كتاب: التطبيق، باب: النهي عن القراءة في الركوع، والترمذي (1737)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في كراهية خاتم الذهب، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 81)، وابن حبان في "صحيحه" (5440). (¬2) رواه مسلم (2078/ 64)، كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن التختم في الوسطى والتي تليها، بلفظ: فأما القسي، فثياب مضلعة يؤتى بها من مصر والشام فيها شبه كذا. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 292 - 293).

وما غالبه حرير ظهورًا، وقيل: وَزْنًا، ويُباح ما سُدِّيَ بالحرير، وأُلْحِمَ بغيره (¬1)؛ كما هو مستوفًى في كتب الفقه. وقد أنهيت الكلامَ عليه بما فيه كفاية في كتابي "غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب"، وبينت ما وقع من الخلاف بين شيخ مشايخنا بقيةِ السلف، وسلفِ الخلف مولانا أبي المواهب مفتي الحنابلة بدمشقَ المحمية، وخاتمةِ المحققين الشيخِ عثمانَ النجديِّ بما لعله يكفي ويشفي (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 307)، و"الإقناع" للحجاوي (1/ 141). (¬2) انظر: "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" للشارح (2/ 150 - 155). قال: فإن قلت: أي القولين أرجح ما فهمه النجدي أو أبو المواهب؟ قلت: مأخذ النجدي دقيق، وهو يوافق ما عللوا به، ولكن إن شاء الله تعالى ما قاله وفهمه أبو المواهب -وهو ما ذكره الشارح آنفًا- هو التحقيق وعليه العمل.

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اصطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهبٍ، وَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ إِذَا لَبِسَهُ، فَصَنَعَ النَّاسُ كَذلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ، فَنَزَعَهُ، وَقَالَ: "إِنِّي كُنتُ أَلْبَسُ هذَا الخَاتَمَ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ"، فَرَمَى بِهِ، ثُمَّ قَالَ: "وَاللهِ! لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا"، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُم (¬1). وَفِي لَفْظٍ: جَعَلَهُ فِي يَدِهِ اليُمنَى (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5527)، كتاب: اللباس، باب: خواتيم الذهب، و (5528 - 5529)، باب: خاتم الفضة، و (6275)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: من حلف على الشيء وإن لم يحلف، و (6868)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم (2091/ 53)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال، وأبو داود (4218 - 4220)، كتاب: الخاتم، باب: ما جاء في اتخاذ الخاتم، والنسائي (5164)، كتاب: الزينة، باب: خاتم الذهب، و (5214 - 5218)، باب: نزع الخاتم عند دخول الخلاء، و (5275)، باب: صفة خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونقشه، و (5290، 5292، 5293)، باب: طرح الخاتم وترك لبسه، والترمذي (1741)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في لبس الخاتم في اليمين. (¬2) رواه البخاري (5538)، كتاب: اللباس، باب: من جعل فص الخاتم في بطن كفه، ومسلم (2091) (3/ 1655)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال. =

(عن) أبي عبد الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ -رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اصطنع)؛ أي: أمر أن يصنع له (خاتمًا من ذهب) كما تقول: اكتتب؛ أي: أمر أن يكتب له، والطاء في اصطنع بدل من تاء الافتعال لأجل الصاد (¬1). وفي لفظ: أنه - صلى الله عليه وسلم - اتخذ خاتمًا من ذهب (¬2)؛ أي: أمر بصياغته، فصُنع له، فلبسه (¬3). (وكان) -عليه السلام- (يجعل فَصَّه)، أي: الخاتم الذي اتخذه، والفَصُّ -بفتح الفاء-، والعامة تكسرها (¬4)، وأثبتها غير الجوهري لغةً. وزاد بعضهم: الضم، وعليه جرى ابن مالك في "مثلثه" (¬5). وفي "القاموس": الفص للخاتم مثلثة، والكسرُ غيرُ لحن، ووهم الجوهريُّ، والجمع فصوص (¬6)، انتهى. (في باطن كفه) الشريف. ¬

_ = * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 248)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 603)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 409)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 66)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 220)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1167)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 319)، و"عمدة القاري" للعيني (22/ 30). (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 56). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5527). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 319). (¬4) قاله الجوهري في "الصحاح" (3/ 1048)، (مادة: فصص). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 322). (¬6) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 807)، (مادة: فصص).

قال بعضهم: والسرّ في ذلك أن جعلَه في باطن الكف أبعدُ من أن يُظن أنه فعله للتزيُّن به. قال ابن بطال: قيل لمالك: يُجعل الفصُّ في باطن الكف؟ قال: ما جاء في بطنها ولا ظهرها أمرٌ ولا نهيٌ (¬1). قال في "الإنصاف" (¬2) وغيرِه، وكذا في "الفروع" (¬3): والأفضلُ جعلُ فصه يلي باطنَ كَفِّه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك. وكان ابن عباس وغيره يجعلُه يلي ظهرَ كفه. فقد أخرجه أبو داود من طريق ابن إسحاق، قال: رأيت على الصَّلْتِ بنِ عبد الله خاتمًا في خنصره اليمنى، فسألته، فقال: رأيتُ ابن عباس يلبس خاتمَه هكذا، وجعل فَصَّه على ظهرها، ولا أخال ابنَ عباس إلا ذكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وأورده الترمذي من هذا الوجه مختصرًا (¬5). (إذا لبسه)؛ أي: في وقت لبسه له - صلى الله عليه وسلم -، (فصنع الناس) من الصحابة؛ أي: ذوي الثروة منهم (كذلك)؛ أي: خواتيمَ من ذهب. قال الخطابي: لم يكن لباسُ الخاتم من عادة العرب، فلما أراد ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 325 - 326). (¬2) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 142). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 354). (¬4) رواه أبو داود (4229)، كتاب: الخاتم، باب: ما جاء في التختم في اليمين أو اليسار. (¬5) رواه الترمذي (1742)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في لبس الخاتم في اليمين.

النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب إلى الملوك، اتخذ الخاتمَ، واتخذه من ذهب، ثم رجع عنه لِما فيه من الزينة، ولِما يخشى منه من الفتنة، وجعلَ فَصَّه مما يلي باطنَ كفه ليكونَ أبعدَ من التزين. قال الزينُ العراقي في "شرح الترمذي": دعوى الخطابي أن العرب لا تعرف الخاتم عجيبة، فإنه عربيٌّ، وكانت العرب تستعمله. قال في "الفتح": يحتاج إلى ثبوت لبسه، وإلا فكونُه عربيًا، واستعمالُهم له في ختم الكتب لا يرد على عبارة الخطابي (¬1). وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي عن أبي ريحانة، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الخاتم إلا لذي سلطان (¬2). قال الطحاوي: قد ذهب قوم إلى كراهة لبس الخاتم إلا لذي سلطان، وخالفهم آخرون، فأباحوه، ومن حجتهم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا ألقى خاتمَه، ألقى الناس خواتيمَهم، فإنه يدل على أنه كان يلبس الخاتم في العهد النبوي من ليس ذا سلطان، فإن قيل: هو منسوخ، فالجواب: أن الذي نُسخ منه لبسُ خاتم الذهب. ثم أورد الطحاوي عن جماعة من الصحابة والتابعين ممن ليس لهم سلطان: أنهم كانوا يلبسون الخواتيم (¬3). (ثم إنه) - صلى الله عليه وسلم - (جلس على المنبر، فنزعه). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 325). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 134)، وأبو داود (4049)، كتاب: اللباس، باب: من كرهه، والنسائي (5091)، كتاب: الزينة، باب: النتف. (¬3) انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (4/ 265). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 325).

وفي لفظ: فرقي المنبر، فحمِدَ الله، وأثنى عليه (¬1)، (وقال: إني كنتُ ألبسُ هذا الخاتمَ، وأجعلُ فَصَّه من داخِل) كفي؛ لأن ذلك أبعدُ من إرادة التزين به، (فرمى به)، فلا يدرى ما فعل. (ثم قال) بعدَ رميه: (والله لا ألبسُه)؛ أي: خاتم الذهب (أبدًا)، فجمع بين القول والفعل، ولم يجتزىء بمجرد رمي الخاتم ونبذه حتى أقسم على نفسه أنه لا يلبسه أبدًا. قال علماء السير: لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب للملوك، قيل له: يا رسول الله! إنهم لا يقرؤون كتابًا إلا إذا كان مختومًا، فاتخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من ذهب، فاقتدى به ذوو اليسار من أصحابه، فصنعوا خواتيم من ذهب، فلما لبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، لبسوا خواتيمهم، فجاءه جبريلُ من الغد، فأخبره بأن لبسَ الذهب حرام على ذكور أمته، فطرح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الخاتمَ، فطرح أصحابُه خواتيمَهم (¬2). وهذا يوافق رواية الزهري من حديث أنس: أنه رآه في يده يومًا واحدًا (¬3). وقيل: بل لبسه ثلاثة أيام؛ لما روى النسائي من حديث ابن عمر: اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من ذهب، فلبسه ثلاثة أيام (¬4). وطريق الجمع بين هذا وبين حديث أنس: بأن قول أنس: يومًا واحدًا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5538). (¬2) انظر: "السيرة الحلبية" للبرهان الحلبي (3/ 281). (¬3) رواه البخاري (5530)، كتاب: اللباس، باب: خاتم الفضة، ومسلم (2093)، كتاب: اللباس والزينة، باب: في طرح الخواتم. (¬4) رواه النسائي (5217)، كتاب: الزينة، باب: نزع الخاتم عند دخول الخلاء.

ظرفٌ لرؤيته له في يده، وقول ابن عمر: ثلاثة أيام ظرفٌ لمدة اللبس، أو يُحمل على يوم كامل، وطرفي يومين. فابن عمر راعى الجميع، وأنسٌ ألغى ما سوى الكامل، والله أعلم (¬1). (فنبذ الناس) ممن كان قد اتخذ من خواتيم الذهب شيئًا اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (خواتيمَهم) تبعًا له -عليه الصلاة والسلام-. قال ابن سيد الناس أبو الفتح اليعمري: اتخاذُه - صلى الله عليه وسلم - الخاتمَ كان في السنة السابعة، وجزم غيره بأنه كان في السادسة، ويجمع بأنه كان في أواخر السادسة، وأوائل السابعة؛ لأنه إنما اتخذه عند إرادته مكاتبةَ الملوك، وكان إرسالهُ الكتبَ في مدة الهدنة، وكانت في ذي القعدة سنة ست، ورجع إلى المدينة في ذي الحجة، ووجَّه الرسلَ في المُحَرَّم من السابعة، وكان اتخاذُ الخاتم قبل إرساله الرسلَ إلى الملوك (¬2). (وفي لفظ) عند مسلم: و (جعله)؛ أي: الخاتمَ في (يده اليمنى)، ولفظه عند البخاري: قال جويرية: ولا أحسبه إلا قال: في يده اليمنى (¬3). قال أبو ذر في روايته: لم يقع في "البخاري" موضع الخاتم من اليدين إلا في هذا. وقال الداودي: لم يجزم به جويرية، وتواطؤ الروايات على خلافه يدلُّ على أنه لم يحفظه. قال: وعملُ الناس على لبس الخاتم في اليسار يدلُّ على أنه المحفوظ، انتهى. وتعقبه في "الفتح" بأن الظن فيه من موسى شيخ البخاري؛ فقد أخرجه ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 321). (¬2) المرجع السابق، (10/ 325). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5538).

ابن سعد عن مسلم بن إبراهيم، وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن أسماء، كلاهما عن جويرية، وجزما بأنه لبسه في يده اليمنى، وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وفيه: فتختم به في يمينه، ثم جلس على المنبر، فقال: "إني كنت اتخذتُ هذا الخاتمَ في يميني"، ثم نبذه، الحديث (¬1). وهذا صريح من لفظه -عليه السلام- رافعٌ لِلَّبْس، [و] موسى بن عقبة أحد الثقاتِ والأثبات (¬2). وقد قال علماؤنا: إن كونَ الخاتم في خنصر يساره أفضلُ (¬3). وفي مسلم من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: كان خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى (¬4). قال علماء السير، وهو في "الصحيحين"، و"السنن" و"المسانيد"، وغيرِها: إنه - صلى الله عليه وسلم - لما طرح خاتم الذهب، وطرحه مَنْ كان قد اتخذه من أصحابه تبعًا له، اتخذ خاتمًا من الفضة، فاتخذ الناس خواتيم الفضة. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - في خاتم الفضة للرجل: ليس به بأس. قال في "الفروع": باتفاق الأئمة الأربعة، واحتج الإمام أحمد بأن ابن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند الترمذي برقم (1741). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 326). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 440). (¬4) رواه مسلم (2095)، كتاب: اللباس والزينة، باب: في لبس الخاتم في الخنصر من اليد.

عمر كان له خاتم؛ كما رواه أبو داود وغيرُه (¬1). وأخرج ابنُ عدي من طريق محمدِ بنِ عبد الرحمن بنِ أبي ليلى، وأبو داود من طريق عبد العزيز بن أبي رواد، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتختم في يساره. لكن قال أبو داود: رواه ابن إسحاق، وأسامةُ بن زيد عن نافع: في يمينه (¬2). وأخرجه أبو الشيخ، والبيهقي في "الشعب" عن أنس (¬3)، ولأبي الشيخ أيضًا عن أبي سعيد: كان - صلى الله عليه وسلم - يلبس خاتمه في يساره (¬4). وأخرجه البيهقي في "الأدب" من طريق أبي جعفر الباقر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمر، وعلي، والحسن، والحسين يتختمون في اليسار (¬5)، وأخرجه الترمذي موقوفًا على الحسن والحسين حَسْبُ (¬6). قال في "الفتح": ودعوى الداودي العملَ على التختم باليسار، فكأنه توهمه من استحباب مالكٍ التختمَ في اليسار، وهو يرجِّحُ عملَ أهل المدينة، فظن أنه عملُ أهل المدينة، ثم نظر فيه بأنه جاء عن أبي بكر، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4428)، كتاب: الخاتم، باب: ما جاء في التختم في اليمين أو اليسار. وانظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 353). (¬2) رواه أبو داود (4227)، كتاب: الخاتم، باب: ما جاء في التختم في اليمين أو اليسار، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (1/ 380). (¬3) رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (6369). (¬4) كذا عزاه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 327) وقال: في سنده لين. (¬5) رواه البيهقي في "الآداب" (541). (¬6) رواه الترمذي (1743)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في لبس الخاتم في اليمين.

وعمر، وجمعٍ جَمٍّ من الصحابة والتابعين بعدهم من أهل المدينة وغيرهم التختمُ في اليمين (¬1). وفي "الآداب" للبيهقي: يجمع بين الأحاديث بأن الذي لبسه في يمينه هو خاتمُ الذهب كما صرح به في حديث ابن عمر، والذي لبسه في يساره هو خاتم الفضة. قال: وأما رواية الزهريّ عن أنس التي فيها التصريح بأنه كان فضة، ولبسه في يمينه، فكأنها خطأ (¬2). وجمع غيرُه بأنه لبس الخاتم أولًا في يمينه، ثم حوله إلى يساره، واستدل له بما أخرجه أبو الشيخ، وابن عدي من رواية عبد الله بن عطاء، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تختم في يمينه، ثم إنه حوله في يساره (¬3)، فلو صحّ، لكان قاطعًا للنزاع، ولكن سنده ضعيف. وأخرجه ابن سعد من طريق جعفر بن محمد عن أبيه، قال: طرح رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمه الذهب، ثم تختم خاتمًا من وَرِق، فجعله في يساره (¬4). وقد جزم البغويُّ في "شرح السنة" بذلك، وأنه تختم أولًا في يمينه، ثم تختم في يساره، فكان ذلك آخرَ الأمرين (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 327). (¬2) انظر: "الآداب" للبيهقي (ص: 371 - 372)، عقب حديث (540). (¬3) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 261). (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 36). (¬5) انظر: "شرح السنة" للبغوي (12/ 66). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 327).

وفي المسألة خلافٌ بين العلماء، والأصحُّ عند الحنابلة اليسار، وكذا عند المالكية. قال في "الفروع"، و"الآداب الكبرى"، وغيرِهما: الصحيحُ من المذهب: أن التختم في اليسار أفضلُ، نصّ عليه في رواية صالح والفضل بن زياد. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: هو أقربُ وأثبتُ وأحبُّ إليّ، وجزم به في "المستوعب"، و"التلخيص" وغيرهما (¬1). قال الحافظ ابن رجب في كتاب "الخواتيم" له: وقد أشار بعض أصحابنا إلى أن التختم في اليمين منسوخ، وأن التختم في اليسار آخرُ الأمرين (¬2). قال الدارقطني وغيره: المحفوظُ أنه كان يتختم في يساره، وأنه إنما كان في الخنصر؛ لكونه طرفًا، فهو أبعدُ من الامتهان فيما تتناوله اليد، ولأنه لا يشغل اليد عما تتناوله. قال في "الفروع": وقيل: في اليمين أفضل؛ وفاقًا للشافعي؛ لأنها أحق بالإكرام (¬3). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد، فإن كان اللبس للتزين به، فاليمنى، وإن كان للتختم به، فاليسرى أولى؛ لأنه يكون كالمودَع فيها، ويحصل تناولُه منها باليمين، وربما ترجح ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 354)، و"الإنصاف" للمرداوي (3/ 143). (¬2) انظر: "أحكام الخواتم" لابن رجب (ص: 162). (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 354).

كونه في اليمين مطلقًا؛ لأن اليسار آلة الاستنجاء، فيصان الخاتم -حيث كان مكتوبًا- بوضعه في اليمين عن أن تصيبه نجاسة. وقد نقل النووي وغيره الإجماع على جواز الأمرين، قال: ولا كراهة فيه، وإنما الاختلاف في الأفضل (¬1)، والله تعالى الموفق. فوائد: الأولى: استحب في "المنتهى" (¬2) تبعًا لـ"المستوعب"، و"التلخيص"، وابن تميم، وما قدمه في "الرعاية"، و"الآداب" (¬3)، و"الفروع" (¬4) [التختم] (¬5) بالعقيق؛ كأمير: خرز أحمر يكون باليمين، وسواحل بحر رومية، جنس كَدِرٌ كما يَجْري من اللحم المُمَلَّح، وفيه خطوط خفيفة، من تَخَتَّم به، سكنت روعتُه عند الخصام، وانقطع [عنه] (¬6) الدمُ من أي موضع كان؛ كما في "القاموس" (¬7). وقد ورد بالتختمِ به وفضائلِ ذلك عدةُ أحاديث، رَدَّها كلَّها الحافظُ ابنُ رجب، وأعلَّها (¬8)، ولهذا جزم في "الإقناع" بالإباحة دون الاستحباب (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (14/ 72 - 73)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 327). (¬2) انظر: "منتهى الإرادات" للفتوحي (1/ 490). (¬3) انظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (4/ 183). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 361). (¬5) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬6) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬7) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1174 - 1175)، (مادة: عقق). (¬8) انظر: "أحكام الخواتم" لابن رجب (ص: 92)، وما بعدها. (¬9) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 440).

ويلزم مَنْ قال باستحباب التختم بالعقيق القولُ باستحبابِ التختم بالفضة. وقد جزم به في "الآداب الكبرى" وغيره من علمائنا. ومثل العقيق: الياقوتُ، والزبرجدُ، والزمردُ، والفيروزج، ونحوها، فيباح الخاتم من هذه المعادن ونحوها. وأما ما يروى من التختم ببعضها من الفضائل، فباطل لا يثبت شيء من ذلك. الثانية: يكره اتخاذُ الخاتم من صُفْر، وهو ضَربٌ من النحاس، وقيل: ما صفر منه، ورصاصٍ، وحديدٍ، وكذا يكره كونُ خاتم الرجل في إصبعه الوسطى والسبابة (¬1)؛ لما في "صحيح مسلم" من حديث علي - رضي الله عنه -: نهاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتختَّمَ في إصبعي هذه، أو هذه، فأومأ إلي الوسطى، والتي تليها (¬2). وفي غير "مسلم": السبابة والوسطى (¬3). الئالثة: ذكر علماؤنا أنه يكره أن يكتب على الخاتم ذكرُ الله تعالى؛ من قرآنٍ أو غيره، ولم يقيده في "الإقناع" (¬4)، و"الغاية" (¬5) بدخول الخلاء. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) رواه مسلم (2078/ 65)، كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن التختم في الوسطى والتي تليها. (¬3) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (5211)، وعند الترمذي برقم (1786)، وعند غيرهما. (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 440). (¬5) انظر: "غاية المنتهى" للشيخ مرعي (2/ 95).

وعبارة "الفروع": ويُكره أن يُكتب على الخاتم ذكرُ الله؛ قرآنٌ أو غيرُه. نقل إسحاق -أظنه ابن منصور-: لا يُكتب فيه ذكر الله. قال إسحاق بن راهويه: لما يدخل الخلاء فيه، هذا لفظه (¬1). قال ابن قندس في [حواشِي الفروع] (¬2): يحتمل أن تكون "ما" مصدرية، ويكون المعنى: لدخول الخلاء فيه، قاله في "الفروع " (¬3). ولعل الإمام أحمد كرهه لذلك. ومثل الخاتم الدراهم. وعن الإمام أحمد رواية ثانية بعدم كراهة دخول الخلاء بذلك، ومال صاحب "الفروع" إلى تصحيح هذا، وصوّب في "الإنصاف" عدمَ الكراهة (¬4)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 355). (¬2) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 355). (¬4) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 145).

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ، إِلا هكَذَا، وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إصبَعَيْهِ السَّبَّابةَ وَالوُسْطَى (¬1). وَلِمُسْلِمٍ: نَهى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ، إلَّا مَوْضِعَ إصْبَعَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (5490 - 5491)، كتاب: اللباس، باب لبس الحرير وافتراشه للرجال، ومسلم (2069/ 12)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، واللفظ له، إلا أن عنده: "لبوس" بدل "لبس" وكذا عنده: "الوسطى والسبابة" بدل "السبابة والوسطى"، ورواه النسائي (5312) كتاب: الزينة، باب: الرخصة في لبس الحرير. (¬2) رواه مسلم (2069/ 15)، كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، وأبو داود (4042)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في لبس الحرير، والترمذي (1721)، اللباس، باب: ما جاء في الحرير والذهب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 572)، و"المفهم" للقرطبي (5/ 394)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 48)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 221)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1670)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 287)، و"عمدة القاري" للعيني =

(عن) أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى) نهيَ تحريم؛ لتصريحه بقوله: "من لبسَه في الدنيا، لم يلبسْه في الآخرة" (¬1)، وبقوله فيه وفي الذهب: "إن هذين حرام على ذكور أمتي، حِلٌّ لإناثها" (¬2) -كما تقدم- (عن لبس) ثياب (الحرير)، ومثل اللبس الافتراشُ، والاستنادُ إليه؛ وفاقًا لمالك، والشافعي (¬3)، (إلا هكذا) زاد في رواية: وهكذا (¬4). (ورفع لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إصبعيه السبابة)، وهي التي تلي الإبهام، قيل: سميت سَبَّابة؛ لأنهم كانوا يشيرون بها إلى السب، والمخاصمة (¬5)، ويعضونها عندَ الندم كما قال قائلهم: [من الكامل] غَيْرِي جَنَى وَأَنَا المُعَذَّبُ فِيكُمُ ... فَكَأَنَّنِي سَبَّابَةُ المُتَنَدِّمِ (¬6) ويقال لها أيضًا: المُسَبِّحَةُ -بتشديد الباء الموحدة- اسمُ فاعل مجازًا؛ لأنهم يشيرون بها عند ذكر الله تنبيهًا على التوحيد (¬7)، (والوسطى) من أصابعه، وفي لفظ: وأشار بإصبعيه اللتين تليان الإبهام (¬8). ¬

_ = (22/ 8)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 85)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 79). (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 307). (¬4) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4042). (¬5) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 79). (¬6) انظر: "خزانة الأدب" للبغدادي (2/ 463). ونسبه إلى ابن شرف القيرواني. (¬7) انظر: "عمدة القاري" للعيني (22/ 11). (¬8) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (5490)، ورواه مسلم (2069/ 13).

وفي رواية عند مسلم: "إياكم والتنعُّمَ، وزِيَّ أهلِ الشركِ، ولَبُوسَ الحرير" (¬1). وزاد الإسماعيلي: أن أبا عثمان النهدي قال: أتانا كتابُ عمرَ ونحن مع عتبةَ بنِ فَرْقَدٍ، وكان عتبةُ هذا من الصحابة، فهو صحابيٌّ جليل، وكان أميرًا لعمرَ في فتوح بلاد الجزيرة بأذربيجان، وفتحها عتبةُ سنة ثماني عشرة، وروى شعبةُ عن حُصينِ بن عبد الرحمن السلميِّ، عن أم عاصم امرأةِ عتبة: أن عتبة غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوتين (¬2). وفي "معجم الصغير" من طريق أم عاصم امرأةِ عتبةَ، عن عتبة: أنه قال: أخذني الشَّرى، وهو كما في "القاموس": بثور صغار حمرٌ حَكَّاكَة مُكْرِبةٌ تحدث دفعة غالبًا، وتشتد ليلًا؛ لبخار حارٍّ يثور في البدن (¬3). قال عتبة: أخذني الشَّرى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرني، فتجرّدتُ، فوضع يدَه على بطني وظهري، فعبق لي الطيب من يومئذٍ. قالت أم عاصم: كنا عنده أربعَ نسوة، فكنا نجتهدُ في الطِّيب، وما كان هو يمسُّه، وإنه لأَطْيَبُنا ريحًا (¬4). وكان في كتاب عمرَ لعتبةَ بنِ فرقدٍ: أما بعد: فاتَّزِروا، وارتدوا، وانتعلوا، وألقوا الخِفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيلَ، وإياكم والنعمَ وزِيَّ العَجَم، وعليكم بالشمس؛ فإنها حَمَّاُم العرب، وتَمَعْدَدوا، واخْشَوْشِنوا، واخْلَولِقوا، واقطعوا الركب، وانزوا، وأنزوا، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (2069/ 12). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 286). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1676)، (مادة: شرى). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الصغير" (98).

وارموا الأغراض؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى. . . . الحديث (¬1). (و) في رواية (لمسلم: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس) ثياب (الحرير، إلا موضعَ إصبعينِ، أو ثلاثٍ، أو أربعٍ)، و"أو" هنا للتوزيع والتخيير. وروى أبو داود في هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحرير، إلا ما كان هكذا وهكذا؛ إصبعين أو ثلاثة أو أربعة (¬2). ورواه ابن أبي شيبة بلفظ: إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا، وهكذا، وهكذا؛ يعني: إصبعين وثلاثًا وأربعًا (¬3). ووقع عند النسائي في رواية سويد: لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربعة أصابع (¬4). ففي هذه الأحاديث حُجة على من أجاز العَلَم من الحرير مطلقًا، ولو زاد على أربعة أصابع كما هو منقول [عن بعض المالكية، وعلى من منع العَلَم في الثوب مطلقًا، وهو ثابت] (¬5) عن الحسن، وابن سيرين، وغيرهما. لكن يحتمل أنهم امتنعوا منه ورعًا، وإلا، فالحديث حجةٌ عليهم، وكأنهم لم تبلغهم الأحاديث في الرخصة في ذلك. ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (5454)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 14). (¬2) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (4042). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (24681)، بلفظ: "لا يصلح منه إلا هكذا؛ إصبعًا أو إصبعين أو ثلاثة أو أربعة". (¬4) رواه النسائي (5313)، كتاب: الزينة، باب: الرخصة في لبس الحرير. (¬5) ما بين معكوفين سقط من "ب".

قال النووي: وقد نُقل مثلُ ذلك عن مالك، وهو مذهب مردود (¬1)، وكذا قولُ من أجازه بغير تقدير (¬2). قال في "الفروع": ويباح منه -أي: الحرير- العَلَمُ إذا كان أربعَ أصابعَ مضمومةٍ فأقلَّ، نصّ عليه، ونقل عليه اتفاقَ الأئمة الأربعة، ثم قال: وفي "الوجيز": دونها، وفي "المحرر" (¬3) وغيره: قدر كَفٍّ وإن كثر في أثواب، ولبنة جيبٍ، وسجفِ فراء، ويُباح لبسُ الحرير الخالص لمرض، أو حكة، أو جرب، ويباح كيسُ مصحف، وأزرار، وخياطة به، وحَشْو جباب وفُرش، ولا يحرم لبسُ الحرير لحاجة (¬4)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 290). (¬3) انظر: "المحرر" للمجد بن تيمية (1/ 139). (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 310).

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد - بكسر الجيم-: مصدر جاهد جهادًا ومُجاهدة، وجاهدَ فاعلَ من جهد: إذا بلغَ في قتل عدوه وغيره جهدَه، ويقال: جهده المرضُ، وأجهده: إذا بلغ به المشقة، وجَهدتُ الفرسَ وأَجهدتُه: استخرجتُ جهدَه. والجَهْد -بالفتح-: المشقة، و-بالضم-: الطاقة، وقيل: -بالضم والفتح- في كل واحد منهما. فمادة جهد حيث وجدت، ففيها معنى المبالغة. وهو في الشرع: عبارةٌ عن قتال الكفار خاصَّةً لإعلاء كلمة الله (¬1). والجهاد في الله: بذل الجُهد في أعمال النفس وتذليلها في سبيل الشرع، والحملُ على مخالفة النفس؛ من الركونِ والدعةِ واللذَّات، واتباع الشهوات. والجهاد فرضُ كفاية على كلِّ مكلَّفٍ، ذكرٍ حرٍّ واجدٍ -ولو من الإمام- ما يحتاجه هو وأهلُه لغيبته، ومع مسافة قصر مركوبًا (¬2). وذكر في "الفروع" رواية عن الإمام أحمد: أنه يلزمُ عاجزًا ببدله في ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 209). (¬2) انظر: "الفروع" لابن أبي مفلح (6/ 179).

ماله، اختاره الآجريُّ، وشيخ الإسلام ابن تيمية؛ كحج على معضوب، وأولى (¬1). وإذا قام بالجهاد طائفةٌ، كان سُنة في حق غيرهم، صرح به في "الروضة". وفي "الفروع" أيضًا: يتوجَّه احتمال: يجب الجهادُ باللسان، فيهجوهم الشاعرُ، قال - صلى الله عليه وسلم - لحسانَ: "اهْجُ المشركين" رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وغيرهم (¬2). وللإمام أحمد بإسناد صحيح: أن كعبًا قال له: إن الله أنزل في الشعر ما أنزل، فقال: "المؤمنُ يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده! لكأن ما ترمونهم به نَضْحُ النَّبْل" (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الجهاد منه بالقلب، والدعوة، والحجة، والبيان، والرأي، والتدبير، والبدن، فيجب بغاية ما يمكنه، والحرب خدعة (¬4). وذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الكتاب تسعة عشر حديثًا: ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 286)، والبخاري (3897)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب، ومسلم (2486)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت - رضي الله عنه - من حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما-. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 387)، من حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه -. (¬4) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 179 - 180).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبي أَوْفَى - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ فِي بَعضِ أَيامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيها العَدُوَّ، انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَمسُ قَامَ فِيهِم، فَقَالَ: "يا أيها النَّاسُ! لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْألوا الله العَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُمُوهُم، فَاصبِرُوا، وَاعلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تَحتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ"، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ مُنْزِل الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهازِمَ الأَحزَابِ! اهْزِمهُمْ، وَانْصُرنَا عَلَيْهِم" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2804)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، و (2861)، باب: لا تمنوا لقاء العدو، ومسلم (1742/ 20)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، وأبو داود (2631)، كتاب: الجهاد، باب: في كراهية تمني لقاء العدو، ورواه الترمذي (1678)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في الدعاء عند القتال، وابن ماجه (2796)، كتاب: الجهاد، باب: القتال في سبيل الله، مختصرًا. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 267)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 44)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 524)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 45)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 223)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1673)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 156)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 227)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 122).

(عن) أبي إبراهيمَ (عبد الله بن أبي أوفى)، واسمه علقمة كما تقدم في كتاب: الأطعمة (- رضي الله عنه -) كتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحَرورية يخبره: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض أيامه التي لقي فيها العدوَّ) من الكفار لأجل القتال والجهاد لإعلاء كلمة الله (انتظر)؛ أي: أمسك عن القتال - صلى الله عليه وسلم - (حتى مالتِ الشمسُ) عن كبد السماء؛ لأنها إذا زالت، تَهُبُّ رياح النصر، ويتمكن من القتال بوقت الإبراد وهبوب الرياح؛ لأن الحرّ كلما اشتدَّ، حمي المقاتلون، وحركتهم الشياطين؛ لأنها لا تَقيل، ويحمى سلاحُهم، فإذا هبت الأرواح، بَرَّدَتْ من حَرِّهم، ونشَّطتهم، وخَفَّفت أجسامهم، فلا يثبتون لقتال المسلمين؛ لما حصل لهم من التأييد السّديد بهبوب الريح التي هي من نفس الرحمن، فارتاحوا لهبوبها، واشتد جأشُهم، وقوي عزمُهم بما أُيِّدوا به (¬1). وقد روى الترمذي من حديث النُّعمانِ بنِ مقرن، قال: غزوتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا طلع الفجر، أمسكَ حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت، قاتل، فإذا انتصف النهار، أمسك حتى تزول الشمس، فإذا زالت الشمس، قاتل حتى العصر، ثم يمسك حتى يصلي العصر، ثم يقاتل، وكان يقاتل في محلِّ الصلوات؛ أي: بعدها؛ لأنه عند ذلك تهيج رياح النصر، ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلواتهم (¬2). وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه عنه، قال: كان إذا لم يقاتل أول النهار، أَخَّر القتالَ حتى تزول الشمس، وتهبَّ الرياحُ، ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 227). (¬2) رواه الترمذي (1612)، كتاب: السير، باب: ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال.

وتحضر الصلواتُ، وينزل النصر (¬1). وأخرجه البخاري، وقال: انتظر حتى تهبَّ الرياح وتحضرَ الصلوات (¬2). وروى الإمام أحمد في "مسنده" من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ أن ينهض إلى عدوِّه عند زوال الشمس (¬3). وروى الطبراني من حديث عتبةَ بنِ غزوان السلميِّ - رضي الله عنه -، قال: كنا نشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القتال، فإذا زالت الشمس، قال لنا: "احملوا"، فحملنا (¬4). وروى الطبراني أيضًا من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يلقَ العدوَّ أولَ النهار، أَخَّرَ حتى تهبَّ الرياح، ويكونَ عند مواقيت الصلاة (¬5). ثم (قام) - صلى الله عليه وسلم - بعد الزوال (فيهم)؛ أي: في الصحابة ممن كان معه في تلك الغزاة، (فقال) -عليه السلام-: (أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو) وأصلُ التمني: أن يشتهي الإنسان حصولَ الأمر المرغوبِ فيه، وحديثُ النفس بما يكون، وما لا يكون. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2655)، كتاب: الجهاد، باب: في أي وقت يستحب اللقاء، والترمذي (1613)، كتاب: السير، باب: ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (5/ 444). (¬2) رواه البخاري (2989)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 356). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 116). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1003).

قال ابن بطال: حكمةُ النهي: أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه أمره، وهو نظير العافية من الفتن. وقد قال الصديق الأعظم: لأَنْ أُعافى فأشكرَ أحبُّ إليَّ من أن أُبتلى فأصبرَ (¬1). وقال غيره: إنما نهى عن تمني لقاء العدو؛ لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفوس، والوثوق بالقوة، وقلة الاهتمام بالعدو، وكل ذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم. وقيل: يُحمل النهي على ما وقع الشكُّ فيه في المصلحة أو حصول الضرر، وإلا، فالقتال فضيلة وطاعةٌ، ويؤيد الأولَ تعقب النهي بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (واسألوا الله العافية) (¬2). قال ابن دقيق العيد: لما كان الموت من أشق الأشياء على النفوس، وكانت الأمور الغائبة ليست كالأمور المحققة، لم يؤمَن ألا يكونَ عند الوقوع كما ينبغي، فكُره التمني لذلك، ولِما فيه من أن يقع ما يخالف الإنسان ما وَعَدَ من نفسه (¬3). والعافية: من الكلمات الجامعة لكل خير من دنيوي وأخروي. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الصديق الأعظم - رضي الله عنه - عند ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي الدنيا في "الشكر" (28)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 144)، وهناد بن السري في "الزهد" (442)، وغيرهم، لكن عن مطرف بن عبد الله. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 156). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 224).

الإمام أحمد، والترمذي: "سَلُوا الله العفوَ والعافيةَ؛ فإنَّ أحدَكم لم يُعْطَ بعد اليقين خيرًا من العافية" (¬1). وروى الإمام أحمد أيضًا، وابن ماجه من حديث أنس - رضي الله عنه -: "أفضلُ الدعاء أن تسألَ رَبَّكَ العفوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة؛ فإنك إذا أُعطيتَهما في الدنيا، وأعطيتهما في الآخرة، قد أفلحتَ" (¬2). قال الجلال السيوطي في تفسير العافية: هي أن تسلمَ من الأسقام والبلايا (¬3). وقال: هي من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات في البدن وغيره، من الظاهر والباطن، في الدين والدنيا والآخرة، والفلاح والبقاء، والفوز والظفر. (فإذا لقيتموهم)؛ أي: أعداءَ الله ورسولهِ، (فاصبروا)، ولا تخافوا، واثبتوا، ولا تفروا عند إرادة القتال، ولا عند الشروع فيه، ولا حال قتال عدوكم، فإذا صبرتم، فإن الله يؤيدكم، وينصركم، ويثبت أقدامكم، (واعلموا أن الجنة) المعهودةَ وهي جنةُ الخلد (تحت ظلال السيوف)؛ أي: ثوابُ الله والسببُ الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله تعالى. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 7)، والترمذي (3558)، كتاب: الدعوات، باب: (106). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 127)، وابن ماجه (3848)، كتاب: الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية. (¬3) وقاله ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" (3/ 265).

وقال الحافظ ابن الجوزي: المراد: أن دخول الجنة يكون بالجهاد (¬1). والظلال: جمع ظِلّ، فإذا دنا الشخص من الشخص، صار تحت ظل سيفه، فإذا تدانى الخصمان، وتلازما، صار كل واحد منهما تحت ظل سيف الآخر، والجنةُ تُنالُ بهذا (¬2)، وهذا المراد ببارقة السيوف. وفي حديث أبي موسى عند الحاكم: "الجنة تحت ظلال السيوف" (¬3). يقال: برق السيف: إذا تلألأ. وقد تطلق البارقةُ، ويراد بها: نفس السيوف (¬4). وأخرج الطبراني من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - بإسناد صحيح: أنه قال يوم صِفِّين: الجنة تحت الأبارقة (¬5)، وهي السيوفُ اللامعة. قال في "الفتح": الصواب: تحت البارقة (¬6). قال العيني: قال الخطابي: الأبارقة: جمع إبريق، وسمي السيف: إبريقًا. وكذا فسر ابنُ الأثير كلامَ عمار: الجنة تحت الأبارقة، أي: تحت ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 115). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" (2388). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 114). (¬5) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (7/ 240 - 241 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والحاكم في "المستدرك" (5687)، من حديث أبي عبد الرحمن السلمي. (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 33).

السيوف (¬1)، فلا وجه حينئذٍ لدعوى الصواب (¬2)؛ يعني: أنه لا وجه لقول الحافظ ابن حجر: الصواب: البارقة. (ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -) في مقامه ذلك داعيًا بالنصر والتأييد لعباده الأبرار، وبالهزيمة والخذلان والفرار لأعدائه الكفار: (اللهم)؛ أي: يا ألله! حذف منه حرف النداء تخفيفًا، وعوض عنه حرف الميم، ولهذا لا يُجمع بينهما في اختيار الكلام، (منزلَ الكتاب) وهو القرآن العظيم، (ومُجريَ السحاب) بين السماء والأرض مُسَخَّرا لحمل الماء، (وهازمَ الأحزاب) الذين تَحَزَّبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وساروا لمحاربته وقتاله، وهي وقعة الخندق. وكان رئيسَ قريش أبو سفيان صخرُ بنُ حرب، وكان عِدَّةُ قريش أربعةَ آلاف، فعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمانُ بنُ طلحة، وأسلمَ بعد ذلك، وقادوا معهم ثلاثَ مئة فرس، وكان معهم ألفٌ وخمسُ مئة بعير، ولاقتهم بنو سُليم بمرِّ الظهران في سبع مئةٍ يقودُهم سفيانُ بنُ عبد شمس بن أبي الأعور السلمي الذي كان مع معاوية بصفين، وسار مع الأحزاب بنو أسد بن خزيمة، وقائدها طليحة بن خويلد الأسدي، وأسلم بعد ذلك. ومن الأحزاب -أيضًا- غطفانُ من قيس عيلان من بني فزاره ألفٌ يقودهم عُيينة بنُ حِصن بن حُذيفةَ بنِ بدر، وأسلم بعد ذلك، وأشجعُ، وقائدها مسعودُ بنُ رُخَيْلَة -بضم الراء وفتح الخاء المعجمة- بنِ نويرة الأشجعي ثم الغطفاني، وأسلم بعد ذلك، وهم أربع مئة. ومنهم بنو مرة في أربع مئة أيضًا يقودُهم الحارثُ بن عوفٍ المريُّ، وأسلم بعد ذلك. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 120). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 114).

فكان جملة الأحزاب الذين وافوا الخندقَ من قريش، وسليم، وأسد، وغطفان عشرة آلاف. فهناك ابتُلي المؤمنون، وزُلزلوا زلزالًا شديدًا، فأتت المشركين ريحٌ شديدة وجندٌ عظيمة، فزلزت جمعَهم، وكسرت شوكتهم، وأخمدَت صَولَتَهم، فهُزموا راجعين إلى بلادهم، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25]. والوقعة مبسوطة، وأحوالُها مضبوطة في كتب السير (¬1)، وقد بينا ذلك في سيرتنا "معارج الأنوار شرح نونية الصرصري" بما يشفي ويكفي، ولله الحمد. وفي رواية فيهما: "اللهمَّ منزِلَ الكتاب سريعَ الحساب، هازم الأحزاب (¬2)! (اهزمهم) "؛ أي: اكسرهم؛ يعني: الكفار، "وبدِّدْ شملَهم". وفي لفظ: "اهزمهم وزلزلهم" (¬3)، دعا - صلى الله عليه وسلم - عليهم أَلَّا يسكنوا ولا يستقروا. وقال الداودي: أراد أن تطيش عقولُهم، وترعد أقدامهم عند اللقاء، فلا يثبتون (¬4). ¬

_ (¬1) وانظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 65) وما بعدها، و"الثقات" لابن حبان (1/ 264) وما بعدها. (¬2) رواه مسلم (1742/ 22)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو. (¬3) رواه البخاري (2775)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، ومسلم (1742/ 21)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 106).

فإن قيل: قد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن السجع، وهذا سجع؛ فإن السجع -بفتح المهملة وسكون الجيم بعدها عين مهملة-: هو موالاة الكلام على رَوِيٍّ واحدٍ، ويقال: هو تناسب أواخرِ الكلمات لفظًا، ومنه: سجعت الحمامةُ: إذا رددت صوتها. وقال الأزهري: هو الكلامُ المقفَّى من غير مراعاةِ وزنٍ، انتهى (¬1). وقال الجلال السيوطي: السجعُ: تواطؤ الفاصلتين على حرف واحد، وهو معنى قولهم: السجعُ في النثر كالقافية في الشعر. فالجواب: أن السجعَ المنهيَّ عنه سجعُ الجاهلية، وسجعُ الكهان، والأسجاعُ المتكلَّفة، وأما إذا صدرَ اتفاقًا من غير تكلُّف ولا قصد، فهو حسن. قال ابن التين: يكفي في حُسنه ورودُه في القرآن، ولا يقدح في ذلك حظرُه في بعض الآيات؛ لأن الحسن قد يقتضي المقام إلى ما هو أحسن منه. وقال الخطابي: السجعُ محمود لا على الدوام (¬2)، ولذلك لم تَجِىءْ فواصل القرآن كلُّها عليه، والله أعلم. وفي الحديث من الفوائد: انتظارُ الأمر بالقتال إلى بعد الزوال؛ لتهب رياح النصر، ويحصل عوده للمسلمين عقبَ الصلوات للغزاة والمجاهدين. وفيه: امتثال الجيش لأميرهم. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (11/ 139). (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 34).

وفيه: تعليم الأمير للجند ما ينبغي ويسوغ لهم من طرح الاعتماد على الكثرة والقوة، والتبري من الحول، والاعتماد على الله تعالى في جميع الأمور. وفيه: الحث على الصبر والترغيب في الأجر، وسؤال العافية الجامعة لكل خير، وتنهيض النفوس والهمم إلى ما يوصل إلى دار النعيم والكرم. وفيه: الدعاء على الكفار، والثناء على الله تعالى بما هو أهلُه مما يناسب المقام من الآثار، والدعاء بالمعونة والانتصار؛ كما في دعاء النبي المختار، - صلى الله عليه وسلم - ما تعاقب الليل والنهار (¬1). ¬

_ (¬1) وانظر: "العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1676).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْها، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُم فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْها، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُها العَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ الغَدوَةُ خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْها" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2735)، كتاب: الجهاد، باب: فضل رباط يوم في سبيل الله، واللفظ له، ومسلم (1881)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، مختصرًا، والنسائي (3118)، كتاب: الجهاد، باب: فضل غزوة في سبيل الله -عز وجل-، والترمذي (1648)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل الله، وابن ماجه (2756)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله -عز وجل-. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 300)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 709)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 26)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 225)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1676)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 85)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 176)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 89)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 24).

(عن) أبي العباس (سهلِ بنِ سعدٍ الساعديِّ) الخزرجيِّ الأنصاريِّ (- رضي الله عنه -)، وتقدمت ترجمته في باب: صلاة الجمعة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رباطُ يوم) من الأيام (في سبيل الله). الرباط: مصدر رابطَ رِباطًا ومُرابطة: إذا لزمَ الثغرَ مُخيفًا للعدوِّ، وأصلُه من ربطِ الخيل؛ لأن كلًا من الفريقين يربطون خيلَهم مستعدين لعدوهم (¬1). قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. قال زيد بن أسلم: أي: اصبروا على الجهاد، وصابروا العدو، ورابطوا الخيل على العدو (¬2) (خيرٌ من الدنيا)؛ أي: ثوابُها أفضلُ من نعيم الدنيا كلِّها لو تصور أن إنسانًا ملكَها وتنعَّم بها كلها؛ لأنه زائل، ونعيم الآخرة باقٍ. قال القرطبي: وهذا منه -عليه السلام- إنما هو على ما استقر في النفوس من تعظيم ملك الدنيا، وأما على التحقيق، فلا تدخل الجنة مع الدنيا تحت أفضل إلا كما يقال: العسلُ أحلى من الخَل. وقيل: معنى ذلك: ثوابُ رباطِ يوم في سبيل الله أفضلُ من الدنيا لو ملَكَها مالكٌ فأنفقَها في وجوه البِرِّ والطاعة غيرِ الجهاد. قال: وهذا أليق. والأول أسبق، انتهى (¬3). وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المُغَيَّب منزلةَ المحسوس؛ تحقيقًا له ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 210). (¬2) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (4/ 221). (¬3) انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 710).

في النفس؛ لكون الدنيا محسوسة في النفس، مستعظَمَة في الطباع، فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا، فمن المعلوم أن جميعَ ما في الدنيا لا يساوي ذرة مِمَّا في الجنة. الثاني: المراد: أن هذا القدرَ من الثواب خيرٌ من الثواب الذي يحصُل لمن لو حصلَتْ له الدنيا كلها، لأنفقها في طاعة الله تعالى (¬1). ويؤيد الثانيَ ما رواه الإمام عبدُ الله بن المبارك من مرسَل الحسن، قال: بعثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا، فيهم عبدُ الله بنُ رواحة، فتأخر ليشهدَ الصلاة مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده! لو أنفقتَ ما في الأرض جميعًا، ما أدركْتَ فضلَ غَدْوَتِهم" (¬2). والحاصل: أن المراد: تسهيلُ أمر الدنيا، وتعظيمُ أمر الجهاد، وأنَّ من حصلَ له من الجنةِ قدرُ سوط يصير كأنه حصل له أعظمُ من جميع ما في الدنيا، فكيف بمن حصلَ له منها أعلى الدرجات؟!. والنكتة في ذلك: أن سبب التأخير عن الجهاد الميلُ إلى سبب من أسباب الدنيا، فنبَّه المتأخرَ أن هذا القدرَ اليسيرَ من الجنة أفضلُ من جميع ما في الدنيا (¬3)، (وما عليها)؛ أي: على الدنيا. وفائدة العدول عن قوله: وما فيها: هو أن معنى الاستعلاء أعمُّ من ¬

_ (¬1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 225). (¬2) رواه ابن المبارك في "الجهاد" (ص: 34)، ورواه الترمذي (527)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في السفر يوم الجمعة، من وجه آخر من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-. (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 14).

الظرفية، وأقوى، فقصده لزيادة المبالغة. كذا قال العيني في "شرح البخاري" (¬1). (وموضع سوطِ)؛ أي: مِقْرَعَهِ (أحدِكم) معشرَ المسلمين، وسمي سوطًا؛ لأنه يخلط اللحمَ بالدم، وجمعه سِياط، وأسواط (¬2) (من الجنة)؛ أي: جنة الخلدِ (خيرٌ من الدنيا) الفانيةِ، (وما عليها)؛ لأنها فانية، وكل شيء في الجنة باقٍ، وإن صغر في التمثيل لنا، وليس فيه صغير، فهو أدومُ وأبقى من الدنيا الفانية المنقرضة، فكان الدائم الباقي خيرًا من المنقطع الفاني -كما قدمناه آنفًا (¬3) -. (والرَّوْحة) المرةُ الواحدةُ من الرواح (¬4)، وهي -بفتح الراء-، والرواح: المجيء (يروحها العبد). قال العيني: الروحةُ: من الزوال إلى الليل، قال: وهي -بالفتح-: المرةُ الواحدة من الرواح، وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها، كذا قال (¬5). وفي "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري: الروحة: المجيء، (أو الغَدْوة) -بفتح الغين المعجمة-: المرة من الغُدُوّ (¬6)، وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 176). (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 868)، (مادة: سوط). (¬3) وانظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 176). (¬4) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 274). (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 91). (¬6) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 154)، عقب حديث (1896). (¬7) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 14).

قال النووي: و"أو" هنا للتقسيم، لا للشك، ومعناه: أن الروحة يحصُل بها الثواب، وكذا الغدوة. قال: والظاهر أنه لا يختص في ذلك بالغدو والرواح من بلدته، بل يحصل ذلك بكل غدوة أو روحة (¬1) (في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها) كما مرَّ. [فإن قلت: من أفضل الرباط وإلا الجهاد] (¬2)؟ فالجواب: أنها مسألةُ خلاف، إلا أن الجهاد أفضلُ من الرباط؛ لأن الرباط يراد للجهاد، وهو من شُعبه وتَعَلُّقاته. والحديث ظاهر في تفضيل الجهاد عليه؛ لأنه رتب على رباط يوم من الثواب مثلَ ما رتَّب على الغدوة والروحة، مع كثرة العمل في اليوم، وقلَّته في الروحة والغدوة. قال علماؤنا: وأفضلُ ما يُتطوَّع به الجهادُ، وهو أفضل من الرباط؛ لأنه أشقُّ، وهو مقصود في نفسه، والرباطُ وسيلة، ولأن فيه حقنَ دماء المسلمين، وسفكَ دماء الكافرين (¬3). تتمات: الأولى: يُسن الرباطُ بثغر تقويةً للمسلمين، وإرهابًا للكافرين، وأقلُّه ساعةٌ، وتمامُه أربعون يومًا، وإن زاد، فله أجرُه، وهو بأشدِّ الثغور خوفًا ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 26). (¬2) ما بين معكوفين سقط من "ب"، والصواب في العبارة أن يقول: "فإنْ قلتَ: ما الأفضل، الرباط أو الجهاد؟ "، والله أعلم. (¬3) وانظر: "المبدع" لابن مفلح (3/ 312).

أفضلُ، وأفضلُ من المُقام بمكةَ المشرفةِ، والصلاةُ بمكةَ أفضلُ من الصلاة بالثغر، ويُكره لغير أهل الثغر نقلُ أهلِه من الذريَّةِ والنساء إليه، لا إلى غيرِ مَخوفٍ كأهلِ الثغر. ذكرَ أبو داودَ للإمام أحمد - رضي الله عنه - منعةَ طرسوس وغيرها، فكرهه، ونهى عنه. قلت: تخافُ عليه الإثمَ؟ قال: كيف لا أخاف يعرض بذريته للمشركين؟ قيل له: فأنطاكية؟ قال: لا ينقلهم إليها؛ فإنه قد أغير عليهم منذ سنين قريبة من ساحل الشام كلها إذا وقعت الفتنة، فليس لأهل خراسان عندهم قدر، يقوله في الانتقال إليها بالعيال. قيل: فالأحاديث: "إن الله تكفل لي بالشام" (¬1)؟ فقال: ما أكثرَ ما جاء فيه. قلت: فلعلها في الثغور. قال: إلا أن تكون الأحاديث في الثغور. وقال مرة: الأرض المقدسة أين هي؟ ولا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق هم أهل الشام. قال: قعوده عليهم أفضل، والتزويج به فضل، نص على ذلك. الثانية: في بعض ما روي في "الترغيب" في الرباط: روى الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه -، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رباطُ يوم وليلةٍ خيرٌ ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 33)، وابن حبان في "صحيحه" (7306)، وغيرهما من حديث عبد الله بن حوالة - رضي الله عنه -. وفي الباب عن غير واحد من الصحابة -رضي الله عنهم-.

من صيامِ شهرٍ وقيامهِ، وإن ماتَ، جرى عليه عملُه الذي كان عمله، وأُجري عليه رزقُه، وأمِنَ الفتانَ" (¬1). وروى الإمام أحمد، والنسائي أيضًا، من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خيرٌ من ألفِ يومٍ فيما سواه من المنازل" (¬2). وروى الإمام أحمد عن عثمان أيضًا - رضي الله عنه -: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "حرسُ ليلةٍ في سبيل الله أفضلُ من ألفِ ليلةٍ يُقام ليلُها ويُصام نهارُها" (¬3). وروى الترمذي، وحسَّنه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "عينانِ لا تَمَسُّهما النارُ: عينٌ بكتْ من خشية الله، وعين باتت تحرسُ في سبيل الله" (¬4). وأخرج أبو داود، والترمذي، وقال: حَسَنٌ صحيحٌ، والحاكم، وقال: صحيحٌ على شرط مسلم، وابن حبان في "صحيحه" عن فَضالة بن عُبيد - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلُّ ميتٍ يُختم على عمله، إلا ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 441)، ومسلم (1913)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الرباط في سبيل الله -عز وجل-، والنسائي (3168)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الرباط. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 65)، والنسائي في "السنن الكبرى" (4377)، وكذا الترمذي (1667)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل المرابط. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 61). (¬4) رواه الترمذي (1639)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله.

المرابطَ في سبيل الله، فإنه ينمى عملُه إلى يوم القيامة، ويؤمَنُ من فتنة القبر" (¬1). وروى الطبراني، ورواته ثقات، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "رباطُ شهرٍ خير من صيامِ دهرٍ، ومن ماتَ مرابطًا في سبيل الله، أَمِنَ من الفزعِ الأكبر، وغُدِيَ عليه برزقِه ورِيحَ من الجنة، ويجري عليه أجرُ المرابط حتى يبعثه الله -عز وجل-" (¬2). وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة جدًا (¬3). الثالثة: قال ابن التين: شرطُ الرباط أن يكونَ غيرَ وطنِ المرابطِ. قاله ابنُ حبيب عن الإمام مالك، ونظر فيه غيرُ واحد، بل المعتمدُ حصولُ هذا الثواب لمن نوى بإقامته في ثغر من ثغور الإسلام، ولو بأهله، الدفعَ للأعداء؛ لأن الرباط المقصودُ منه الإقامةُ في نحور العدو، وحفظُ ثغور الإسلام، وصيانتُها عن دخول العدو إلى حوزة بلاد المسلمين. وهذا حاصل بالمقيم بأهله كالآفاقِيِّ، بل الأولُ أولى كما لا يخفى (¬4)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2500)، كتاب: الجهاد، باب: في فضل الرباط، والترمذي (1621)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل من مات مرابطًا، وابن حبان في "صحيحه" (4624)، والحاكم في "المستدرك" (2417). (¬2) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، كما عزاه إليه المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 155)، حديث رقم (1899)، والهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 290). (¬3) وانظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 154) وما بعدها، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- ما سرده من أحاديث الترغيب في الرباط. (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 85).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "انْتدبَ اللهُ"، وَلِمُسْلِمٍ: "تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلأَجِهاد فِي سَبِيلِي، وَإِيمَان بِي، وَتَصدِيقُ برَسُلِي، فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِن أَنْ أدخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ أَرجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْر أَوْ غَنِيمَةٍ" (¬1). وَلِمُسْلِمٍ: "مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ -وَاللهُ أَعلَمُ بمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ- كمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِه بِأَنْ تَوَفَّاهْ أَنْ يُدخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (36)، كتاب: الإيمان، باب: الجهاد من الإيمان، و (2955)، كتاب: الخمس، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لكم الغنائم"، و (7019)، كتاب: التوحيد، باب: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171]، ومسلم (1876/ 103 - 104)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، والنسائي (3122 - 3123)، كتاب: الجهاد، باب: ما تكفل الله -عز وجل- لمن يجاهد في سبيله، و (5029 - 5030)، كتاب: الإيمان، باب: الجهاد، وابن ماجه (2753)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الجهاد في سبيل الله. (¬2) قلت: وهم المصنف -رحمه الله- في عزوه هذا اللفظ لمسلم، وإنما هو للبخاري (2635)، كتاب: الجهاد والسير، باب: أفضل الناس مؤمن يجاهد =

(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمنِ بنِ صخرٍ (- رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -): أنه (قال: انتدَبَ اللهُ) لمن يخرج في سبيله؛ أي: أجابه إلى غفرانه، يقال: ندبتُه، فانتدبَ؛ أي: بعثتُه ودعوتُه، فأجابَ (¬1). وفي "الفتح": انتدب -بالنون-؛ أي: سارعَ بثوابه وحسنِ جزائه، وقيل: معناه: تكفَّلَ بالمطلوب (¬2). ويُدلُّ له روايةُ البخاري في آخر الجهاد: "وتكفل الله" (¬3)، ووقع في البخاري في رواية الأصيلي: "ائتدب" -بياء تحتانية مهموزة بدل النون من المأدبة. قال في "الفتح": وهو تصحيف، وإنه تكلف توجيهه؛ لأن إطباقَ الرواة على خلافه دليل على أنه خطأ (¬4). ¬

_ = بنفسه وماله في سبيل الله، ورواه مسلم بلفظ نحوه (1878)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، والنسائي (3124)، كتاب: الجهاد، باب: ما تكفل الله -عز وجل- لمن يجاهد في سبيله، و (3127)، باب: مثل المجاهد في سبيل الله -عز وجل-، والترمذي (1619)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الجهاد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 293)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 705)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 19)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 226)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1679)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 354)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 93)، و"عمدة القاري" للعيني (1/ 228). (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثيرِ (5/ 33). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 93). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2955، 7019). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 93).

(ولمسلم) في "صحيحه": (تَضَمَّنَ اللهُ). وفي رواية لمسلم أيضًا: "تكفل الله" (¬1) (لمن خرج في سبيله). وفي لفظ: "لمن جاهد في سبيله وتصديق كلمته" (¬2) (لا يخرجه) من وطنه، ولا يزعجه من سكنه (إلا جهادٌ) -بالرفع- فاعل يخرج، والاستثناء مفرغ، وفي رواية لمسلم -بالنصب (¬3) -. قال النووي: هو مفعول له (¬4). (في سبيلي) لإعلاء كلمتي، فيه عُدولُ عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم، فهو التفات. قال ابن مالك: اللائق في الظاهر هاهنا: في سبيله، ولكنه على تقدير اسم فاعل من القول منصوب على الحال؛ أي: انتدب الله لمن خرج في سبيله قائلًا، ويعقب عليه بأن حذف الحال غير جائز، وأن اللائق غير لائق، فالأولى أنه من باب الالتفات (¬5). (وإيمان بي)، وبوعدي ووعيدي؛ من خوف ناري، ورغبة في جنتي، (وتصديق برسلي) الذين بعثتهم برسالتي، ومننت بهم على بريتي (فهو علي ضامن)؛ أي: ذو ضمان (أن أدخله الجنة)؛ أي: ضمن الله -جل شأنه- لمن توفي في سبيله أن يدخله الجنة (أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه) إن لم يستشهد (نائلًا)؛ أي: صائبًا (ما نال)؛ أي: ما أصاب؛ أي: الذي ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1876/ 104). (¬2) انظر: رواية مسلم المتقدمة. (¬3) تقدم تخريجه برقم (1876/ 103). (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 20). (¬5) حكاه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 93) واستوجهه.

صابه (من أجر)؛ أي: ثواب (أو غنيمة) من مال ونحوه. قال الكرماني: يعني: لا يخلو من الشهادة أو السلامة، فعلى الأول يدخلُ الجنة في الحال، وعلى الثاني: لا ينفك من أجر أو غنيمة، مع جواز الاجتماع بينهما، فهي قضية مانعة الخلو، لا مانعة الجمع (¬1). قال العيني في "شرح البخاري": لفظ الضمان والتكفل والتوكُّل والانتداب الذي وقع في الأحاديث كلها بمعنى تحقيق الوعد على وجه الفضل منه، وعبر -عليه السلام- عن الله -سبحانه وتعالى- بتفضيله بالثواب بلفظ الضمان ونحوه بما جرت به العادة بين الناس بما تطمئن به النفوس، وتركن إليه القلوب (¬2). ومن هذا حديث: "من مات في سبيل الله، فهو ضامنٌ على الله أن يُدخلَه الجنةَ"؛ أي: ذو ضمان؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]. هكذا أخرجه الهروي، والزمخشري من كلام علي -رضوان الله عليه- كما في "النهاية" (¬3). (ولمسلم) في "صحيحه". قلت: بل هو في البخاري أيضًا (مثلُ المجاهدِ في سبيل الله -واللهُ أعلمُ بمن يجاهد في سبيله) هذه جملة معترضة، يعني: الله أعلمُ بعقد نيته، إن كانت خالصة لإعلاء كلمة الله تعالى، فذلك هو المجاهد في سبيل الله، وإن كان في نيته حبُّ المال والدنيا، وحب الذكر والثناء، وأن يقال: فلان ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 84). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 102).

شجاع ومجاهد، فيكون قد أشرك مع سبيل الله سبيلَ الدنيا (¬1). وفي "المستدرك" على شرطهما: أَيُّ [المؤمنين] (¬2) أكملُ إيمانًا؟ قال: "الذي يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه" (¬3). (كمثل الصائم القائم). زاد النسائي: "الخاشع الراكع، الساجد" (¬4). وفي "الموطأ"، وابن حبان: "كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع" (¬5). وفي رواية عند الإمام أحمد من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره، القائم ليله" (¬6). (وتوكَّلَ اللهُ)؛ أي: ضمن (للمجاهد في سبيله). وفي رواية لمسلم من طريق الأعرج عن أبي هريرة: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلا جهادٌ في سبيله، وتصديق كلمته" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 84). (¬2) في الأصل: "المؤمن"، والصواب ما أثبت. (¬3) رواه الحاكم في "المستدرك" (2390)، وكذا أبو داود (2485)، كتاب: الجهاد، باب: في ثواب الجهاد، من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬4) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (3127). (¬5) رواه الإمام مالك في "الموطأ"، (2/ 443)، وابن حبان في "صحيحه" (4621). (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 272). (¬7) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1876/ 104).

وكذلك أخرجه مالك في "الموطأ" عن أبي الزناد (¬1). وفي رواية الدارمي من وجه آخر عن أبي الزناد بلفظ: "لا يخرجه إلا الجهادُ في سبيل الله وتَصْديقٌ بكلماته" (¬2). (بأن توفاه)، كذا في جميع النسخ المعتبرة من "الصحيحين"، و"العمدة"، وغيرها. إلا أن لفظ البخاري: "بأن يتوفاه" بصيغة المضارع (¬3). ورأيت في بعض هوامش نسخ "العمدة": "بأن إذا توفاه" بزيادة "إذا" (أن يدخله الجنة). قال العيني في "شرح البخاري": "أن" في الموضعين مصدرية، تقديره ضمنَ الله بتوفيته بدخوله الجنة. قال: وفي رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان: "إن توفاه" بالشرطيةِ، والفعلِ الماضي. أخرجه الطبراني (¬4). قال البدر العيني في قوله: "أن يدخله الجنة": أي: بغير حساب ولا عذاب، أو المراد: يدخله الجنةَ ساعةَ موته (¬5). وقال ابن التين: إدخالهُ الجنةَ يحتمل أن يدخلها إثرَ وفاته تخصيصًا للشهيد، أو بعد البعث، ويكون فائدة تخصيصه أن ذلك كفارة لجميع ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 443). (¬2) رواه الدارمي في "سننه" (2391). (¬3) وانظر: "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (10/ 291). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (7579)، من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -. (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 84).

خطايا المجاهد، فلا توزن مع حسناته (¬1)، (أو) إن لم يَتَوَفَه في تلك الغَزاة أن (يَرْجِعَه) -بفتح الياء ونصب العين المهملة عطفًا على: أن يتوفاه- (سالمًا) حال من الضمير المنصوب في يرجعه (مع أجر)؛ أي: ثواب عظيمٍ كما يرشد إليه التنكير، (أو غنيمة) إنما أدخل "أو" بين الأجر والغنيمة؛ لأنه قد يرجع مرة بأجر من غير غنيمة. قيل: وربما رجع بالغنيمة من غير أجر. وتقدم أنها مانعة الخلو دون الجمع. والحاصل: أنه إن رجع، يرجع بالأجر ولابُدَّ، سواء كانت غنيمة، أو لا، كما أشار إليه ابن بطال. وقال ابن التين، والقرطبي (¬2): إن "أو" هنا بمعنى الواو الجامعة على مذهب الكوفيين. وقد سقطت الألف في أبي داود، [و] (¬3) في بعض روايات مسلم (¬4)، وبه جزم ابنُ عبد البر (¬5)، ورجحه التوربشتي شارحُ "المصابيح"، والتقدير: أو يرجعه بأجر وغنيمة، وكذا وقع عند النسائي من طريق الزهريّ عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة بالواو (¬6)، وذهب بعضهم إلى أن "أو" على بابها، وليست بمعنى الواو؛ أي: أجر لمن يغنم، ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (3/ 706). (¬3) رواه أبو داوود (2494)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الغزو في البحر، من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -. (¬4) من رواية يحيى بن يحيى، كما ذكر النووي في "شرح مسلم" (13/ 21). (¬5) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 4). (¬6) تقدم تخريجه عند النسائي برقم (3124)، ووقع في المطبوع: "أو" بدل "و".

أو غنيمة ولا أجر، وهذا منظور فيه (¬1). وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- مرفوعًا: "ما من غازية تغزو في سبيل الله، فيصيبون الغنيمةَ، إلا تعجَّلوا ثُلُثَيْ أجرِهم من الآخرة، ويَبْقى لهم الثلثُ، فإن لم يصيبوا غَنيمة، تَمَّ لهم أَجْرُهم" رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه (¬2). وفي رواية لمسلم وغيرِه: "ما من غازيةٍ أو سَرِيَّةٍ تُخْفِقُ أو تُصابُ، إلا تَمَّ أُجورُهم" (¬3). قال أهل اللغة: الإخفاق: أن يغزوا فلا يغنموا شيئًا. وأصحُّ ما قيل في شرح هذا الحديث: أن معناه: أن الغُزاة إذا سلموا وغَنِموا يكونُ أجرُهم أقلَّ من أجرِ من لم يسلم، أو يسلم ولم يغنم، وتكون الغنيمةُ في مقابلة جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت لهم، فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المرتَّب على الغزو، فتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 8). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 169)، ومسلم (1906/ 153)، كتاب: الإمارة، باب: بيان قدر ثواب من غزا فغنم، ومن لم يغنم، وأبو داود (2497)، كتاب: الجهاد، باب: في السرية تخفق، والنسائي (3125)، كتاب: الجهاد، باب: ثواب السرية التي تخفق، وابن ماجه (2785)، كتاب: الجهاد، باب: النية في القتال. (¬3) رواه مسلم (1906/ 154)، كتاب: الإمارة، باب: بيان قدر ثواب من غزا فغنم، ومن لم يغنم. (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (13/ 52).

الحديث الرابع

الحديث الرابع وعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكلْمُهُ [يَدْمَى] (¬1)، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ" (¬2). ¬

_ (¬1) وقع عند الشارح -رحمه الله-: "ينبع" بدل "يدمى"، والصواب ما أثبت، وكأن الشارح -رحمه الله- نقله من نسخة غير معتمدة للعمدة كما أشار إلى ذلك. (¬2) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (235)، كتاب: الوضوء، باب: ما يقع من النجاسات في السمن والماء، و (2649)، كتاب: الجهاد والسير، باب: من ينكب في سبيل الله، و (5213)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: المسك، واللفظ له، ومسلم (1876/ 105)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، والنسائي (3147)، كتاب: الجهاد، باب: من كلم في سبيل الله -عز وجل-، والترمذي (1656)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء فيمن يكلم في سبيل الله. * مصَادر شرح الحَدِيث: "الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 97)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 157)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 294)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 21)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 230)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1684)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 20)، و"عمدة القاري" للعيني (21/ 135)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 43).

(وعنه)؛ أي: عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مكلوم)؛ أي: مجروح (يُكْلَمُ) -بضم التحتانية وسكون الكاف وفتح اللام على صيغة المجهول من الكَلْم -بفتح الكاف وإسكان اللام-. وفي الحديث: إنا نقوم على المرضى، ونداوي الكَلْمى (¬1)، هي جمع كليم، وهو الجريح، فَعيل بمعنى مفعول (¬2). وصدر الحديث كما في "الصحيحين": "والذي نفسُ محمدٍ بيده! ما من مكلومٍ يُكْلَم (في سبيل الله) " (¬3). زاد في البخاري وغيرُه: "واللهُ أعلمُ بمن يُكلم في سبيله" (¬4)، وهي جملة معترضة أشار بها إلى التنبيه على شرطية الإخلاص في نيل هذا الثواب (¬5). (إلا جاء) ذلك المكلومُ الذي كُلِمَ في سبيل الله (يومَ القيامة) ونشرِ العبادِ من قبورهم للحساب والجزاء من الكريم الوهاب، (وكَلْمُهُ)، أي: جرحُه (ينبع)؛ أي: يخرج ويشخب (دمًا) من نبعَ الماءُ ينبع -مثلثة- نبعًا ونُبوعًا: خرج من العين، والينبوع: العينُ والجدول الكثير الماء (¬6). وفي نسخة معتمدة من نسخ "العمدة": "وكلمه يَدمَى"، (لونه) من ذلك ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (318)، من حديث حفصة -رضي الله عنها-. (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 199). (¬3) هو لفظ البخاري فقط كما تقدم برقم (5213). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2649)، وعند مسلم برقم (1876/ 105). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 20). (¬6) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 988)، (مادة: نبع).

الخارج من الجرح (لونُ دَمٍ) من كونه أحمرَ، (والريح) الذي يفوح من ذلك الكلم والخارج منه (ريحُ مسك) أَذْفَرَ. وفي رواية: "كلُّ كَلْمٍ يُكْلَم في سبيل الله، تكونُ يومَ القيامةِ كهيئتها يومَ طُعنت تفجر دمًا، اللونُ لونُ دم، والعَرْفُ عَرْفُ مِسْكٍ" (¬1). قال المنذري وغيُره: العَرْفُ -بفتح العين المهملة وإسكان الراء-: هو الرائحة (¬2). وفي هذا دليل على أن الشهيد يُبعث في حالته وهيئته التي قُبض عليها. والحكمة فيه: أن يكون معه شاهد فضيلة ببذل نفسه في طاعة الله (¬3). وفيه: أن الشهيد يُدفن بدمائه وثيابه، ولا يُزال عنه الدمُ بغسلٍ ولا غيره؛ ليجيء يوم القيامة كما وصف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وفيه نظر؛ لأنه لا يلزمُ من غسل الدم في الدنيا أَلَّا يُبعث كذلك (¬4). واعترضه العيني بما حاصله: أنه ما ادعى القائل ذلك بالملازمة، بل المراد: لا تتغير هيئته التي مات عليها، انتهى (¬5). وقال في "الفتح": الحكمةُ في كون الدم يأتي يوم القيامة على هيئته ولونه: أنه يشهد لصاحبه بفضله، وعلى ظالمه بفعله. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (235)، ورواه مسلم (1876/ 106). (¬2) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (2/ 192) عقب حديث (2066). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 20). (¬4) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 100).

وفائدة رائحته الطيبة: أن ينشر في أهل الموقف إظهارًا لفضيلته أيضًا (¬1). تنبيهات: الأول: يجب بقاءُ دم الشهيد عليه باتفاق الأئمة الأربعة، واتفقوا على غسل نجاسة عليه، فلو لم تزل النجاسة إلا بغسل الدم، غُسلا. وقال أبو المعالي من علمائنا: لا، والمعتمد الأول (¬2). والثاني: شهيد المعركة -ولو غير مكلف؛ خلافًا لأبي حنيفة- لا يُغَسَّلُ، فيحرم غسلُه على معتمد المذهب، وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي، لأنه أثر الشهادة والعبادة وهو حَيّ. وفي "التبصرة": لا يجوز غسله، وهو المقتول بأيدي العدو، ولو غالا، رجلًا أو امرأة، إلا أن يكون جُنُبًا أو حائِضًا أو نُفَساء، طَهُرتا أو لا، فيغسل غُسلًا واحدًا، أو إن أسلم فاستُشهد قبل غُسل الإسلام، لم يغسل، وإن قُتل وعليه حدث أصغرُ، لم يُوَضَّأْ (¬3). الثالث: يجب دفنُه في ثيابه التي قُتل فيها، ولو كانت حريرًا؛ خلافًا للشافعي، فلا يزاد عليها، خلافًا لمالك، وأبي حنيفة، ولا ينقص منها؛ خلافًا لأبي حنيفة، وتنزع عنه لأْمَةُ الحرب، ونحوُ فَروٍ وخُفٍّ، نص عليه الإمام أحمد؛ خلافًا لمالك (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 345). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 166). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) المرجع السابق، (2/ 167).

فإن سُلب الثيابَ التي قتل وهي عليه، كُفِّن بغيرها (¬1). الرابع: المقتولُ ظلمًا، حتى من قتله الكفارُ صبرًا في غير حرب، يُلحق بشهيد المعركة على معتمد المذهب (¬2). وأما إذا قتله الكفار، ولو صبرًا، فباتفاق الأئمة (¬3)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 341). (¬2) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬3) انظر: "الفروع" لابن مفلح (2/ 167).

الحديث الخامس

الحديث الخامس عَنْ أَبِي أيوبَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "غَدوَةٌ فِي سَبيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمسُ وَغَرَبَتْ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (¬1). * * * (عن أبي أيوبَ) خالدِ بنِ زيدٍ (الأنصاريِّ) الخزرجيِّ (- رضي الله عنه -) تقدمت ترجمتُه في باب: الاستطابة. (قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غَدوَةٌ) -بالفتح-: المرةُ الواحدة من الغُدُوّ، وهو الخروجُ في أي وقت كان من أولِ النهار إلى انتصافه (¬2)؛ ليجاهد (في سبيل الله) تعالى، (أو روحة) -بالفتح-: المرة الواحدة من الرَّواح، وهو الخروجُ في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها (¬3). و"أو" هنا للتقسيم لا للشكّ (¬4). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (1883)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، والنسائي (3119)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الروحة في سبيل الله -عز وجل-. (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 14). (¬3) المرجع السابق، الموضع نفسه. (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 92).

(خيرٌ مما طلعت عليه الشمسُ وغَرَبَتْ) عليه؛ أي: ثوابُ ذلك خير مما لو ملكَ كلَّ شيء طلعت عليه الشمسُ وغربتْ، فتصدق بذلك، وأنفقه في وجوه البر والطاعة، ما عدا الجهادَ (¬1)، كما تقدم ذلك في الحديث الثاني. قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (أخرجه)، أي: حديث أبي أيوب الإمامُ (مسلم) بن الحجاج في "صحيحه"، ولم يخرج البخاري عن أبي أيوب في هذا شيئًا. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، الموضع نفسه.

الحديث السادس

الحديث السادس عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيها" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (¬1). * * * (عن) أبي حمزةَ (أنس بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "غَدوةٌ في سبيل الله) تعالى يغدوها ليجاهد أعداءَ الله لإعلاءِ كلمة الله، (أو روحةٌ) يَروحُها الشخصُ في سبيل الله (خيرٌ من الدنيا ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2639)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الغدوة والروحة في سبيل الله، و (2643)، باب: الحور العين وصفتهن يحار فيها الطرف، و (6199)، كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار، وكذا رواه مسلم (1880)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله، والترمذي (1651)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل الله، وابن ماجه (2757)، كتاب: الجهاد، باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله -عز وجل-. * مصَادر شرح الْحَدِيثين: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 300)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 709)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 26)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 14)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 91)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 40)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 24).

وما فيها)، أن لو ملكه وأنفقه في وجوه البر -كما تقدم آنفًا-. قال الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-: (أخرجه) الإمامُ محمدُ بنُ إسماعيلَ (البخاريُّ) في "صحيحه"، فظاهر صنيعه -رحمه الله- أن مسلمًا لم يخرجه، وليس كذلك، بل هو من متفق الشيخين (¬1). ولفظ مسلم: عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لغدوةٌ في سبيل الله أو روحةٌ"، فذكره (¬2). زاد في البخاري: "ولقابُ قوسِ أحدِكم من الجنة، أو موضعُ قيد -يعني: سوطه- خير من الدنيا وما فيها" (¬3)؛ يعني: أن الراوي يشك، هل قال: قابُ قوسِ أحدِكم، أو قال: قيد سوطِ أحدِكم. وهذا الحديث ورد عن عدة من الصحابة: عن أنس رواه الشيخان (¬4)، وعن سهل بن سعد الساعدي أخرجاه (¬5)، وعن أبي هريرة أخرجاه (¬6)، وعن ابن عباس أخرجه الترمذي (¬7)، وعن الزبير أخرجه البزار، وأبو يعلى ¬

_ (¬1) قال الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 357): قال المصنف -رحمه الله-: وأخرجه البخاري -يعني مع مسلم-، ويقع في بعض النسخ: "أخرجه البخاري" بحذف الواو، وقد رأيته في نسخة عليها خط المصنف، وليس بصواب. (¬2) كما تقدم تخريجه برقم (1880). (¬3) تقدم تخريجه عنده برقم (2643). (¬4) وهو حديث الباب الذي نحن فيه. (¬5) تقدم تخريجه في الحديث الثاني من كتاب: الجهاد. (¬6) تقدم تخريجه في الحديث الثالث من كتاب: الجهاد. (¬7) رواه الترمذي (1649)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الغدو والرواح في سبيل الله.

في "مسنديهما" (¬1)، وعن عمران بن حصين أخرجه البزار (¬2)، وعن أبي أمامة أخرجه الإمام أحمد، والطبراني في "الكبير" مطولًا، وفيه: "والذي نفسي بيده! لَغدوةٌ أو روحةٌ في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولمقامُ أحدِكم في الصفِّ خير من صلاته ستين سنة" (¬3)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) رواه البزار في "مسنده" (5/ 285 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، وأبو يعلى في "مسنده" (678). (¬2) رواه البزار في "مسنده" (3548). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 266)، والطبراني في "المعجم الكبير" (7868). وانظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 91 - 92)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- ما سرده من روايات الحديث.

الحديث السابع

الحديث السابع عَنْ أَبي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى حُنَيْنٍ، وَذَكَر قِصَّةً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بينةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ"، قالَها ثَلاثًا (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2973)، كتاب: الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب، و (4066 - 4067)، كتاب: المغازي، باب: قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25]، و (6749)، كتاب: الأحكام، باب: الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء أو قبل ذلك للخصم، ومسلم (1751)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل، وأبو داود (2717)، كتاب: الجهاد، باب: في السلب يعطى القاتل، والترمذي (1562)، كتاب: السير، باب: ما جاء فيمن قتل قتيلًا فله سلبه، وابن ماجه (2837)، كتاب: الجهاد، باب: المبارزة والسلب. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 301)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 59)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 60)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 540)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 57)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 232)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1686)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 247)، و"عمدة القاري" للعيني (15/ 68)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 90).

(عن أبي قتادةَ) الحارثِ بنِ رِبْعِيٍّ (الأنصاريِّ) السَّلَمِيِّ -بفتح السين المهملة-، وتقدمت ترجمته في باب: الاستطابة (- رضي الله عنه -، قال) أبو قتادة: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى) غزوة (حُنينٍ) -بحاء مهملة مضمومة ونونين بينهما مثناة تحتية مصغرًا-: هو وادٍ إلى جنب ذي المجاز قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعةَ عشرَ ميلًا. قال أبو عُبيد البكري: سُمي باسمِ حنينِ بن قانية -ويقال: ابن قينانَ- بنِ آنوش بنِ شيثِ بنِ آدمَ -عليه السلام-. والأغلبُ عليه التذكير؛ لأنه اسمُ ماء (¬1)، وربما أَنثته العربُ؛ لأنه اسمُ البقعة، فسميت الغزوةُ باسم مكانها. وكان خروجُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين من مكة المشرفة بعدَ الفتح الأعظم في السنة الثامنة لستٍّ خلت من شوال، وقيل: لليلتين بقيتا من رمضان، باثني عشرَ ألفًا من الصحابة -رضي الله عنهم-، وكان وصوله إليها في عاشر شوال (¬2). (وذكر) أبو قتادة - رضي الله عنه - (قصةً)، وهي: أنه قال: لما التقينا، كافت للمسلمين جولةٌ، فرأيت رجلًا من المشركين قد علا رجلًا من المسلمين (¬3). وفي لفظ: نظرت إلى رجل من المسلمين يُقاتل رجلًا من المشركين وآخَرَ من المشركين يختله (¬4)، فضربته من ورائه على حَبْل عاتقه بالسيف، ¬

_ (¬1) انظر: "معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (1/ 471). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 27). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2973، 4066)، وعند مسلم برقم (1751). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4067).

فقطعت الدرعَ، وأقبل عليَّ، فضمني ضمةً وجدتُ منها ريحَ الموت، ثم أدركه الموتُ، فأرسلني، فلحقتُ عمرَ بنَ الخطاب؛ أي: في الناس الذين انهزموا، فقلت: ما بال الناس؟ فقال: أمرُ الله، فرجعوا، وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: من قتل قتيلًا) كافرًا، وفي لفظ: "من قتل كافرًا" (¬1) بشرط أن يكون (له)؛ أي: القاتل (عليه)؛ أي: على قتيله (بينة)، وهي رجلان، نص عليه الإمام أحمد (¬2). ومعتمد المذهب: قبولُ رجل وامرأتين، ورجلٍ ويمينٍ كسائر الأموال (¬3). (فله)؛ أي: للقاتل (سَلَبُه). (قالها) - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: قال هذه المقالة أو الكلمةَ مكررًا لها (ثلاثًا) من المرات؛ ليفهم أصحابه الحكم، ولأنه كان ذلك عادته. والسَّلَبُ -بالتحريك-: ثيابه التي عليه، وكذا ما كان عليه من حُلِيٍّ وعِمامة وقَلَنْسُوَة، ومِنْطَقَة، ولو مذهبةً، ودرعٍ، ومغفرٍ، وبيضةٍ، وتاجٍ، وأَسورةٍ، ورانٍ، وخُفٍّ، بما في ذلك من حلية وسلاح؛ من سيفٍ ورمح ولتٍّ وقوسٍ ونُشَّابٍ ونحوِه، قلَّ أو كثر، وكذا دابته التي قاتل عليها بآلتها من السلب إذا قُتل وهو عليها. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2718)، كتاب: الجهاد، باب: في السلب يعطى القاتل، من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 89). (¬3) انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (3/ 72).

بخلاف نفقتِه ورحلِه وخيمتِه وجَنيبه؛ فإن ذلك غنيمة (¬1). ومثلُ القتل: ما لو أثخنَه، فصار في حكم المقتول؛ فإن له سلبه، وهو من أصل الغنيمة غير مخموس، ولو كان المسلم القاتل عبدًا بإذن سيده، أو امرأة، وكذا لو كان القاتل كافرًا بإذن، أو صبيًا، لا مُخَذِّلًا (¬2). والحاصل: أنه إن كان ممن يُسْهم له، أو يُرضَخ له، استحقَّ السَّلَبَ، سواء كان قال ذلك الإمام، أو لم يقله، حيث قتله حال الحرب، لا قبلها ولا بعدها، منهمكًا على القتال؛ أي (¬3): مُجِدًّا فيه، مقبلًا عليه. إلا إن رماه بسهم من صفِّ المسلمين، أو قتله مشتغلًا بنحوِ أكلٍ، أو منهزمًا. لكن إن كانت الحرب قائمة، فانهزم أحدُهم متحيزًا، فقتله إنسان، فله سلبه، كان قتله اثنان فأكثر، فسلبُه غنيمةٌ (¬4)، وهذا مذهبنا كالشافعية في الجملة. وقال أبو حنيفة: إنْ شرطَ الإمامُ السلبَ للقاتل، فهو له، وإلا، لم ينفرد به، بل يكون غنيمة. وقال مالك: إن شرطه الإمام، كان له من خمس الخمس، وسهمُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن كانت قيمته بقدر الخمس، استحق جميعه، وإن كانت قيمته ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 89 - 90). (¬2) المرجع السابق، (2/ 88). (¬3) من قوله: "منهمكًا على القتال، أي" وحتى قوله: "وفي حديث مسلم: "فأتى جمله" من الحديث الثامن، سقط من الأصل المحفوظ في الظاهرية، والاستدراك من النسخة "ب". (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 88 - 89).

أكثر منه، استحق منه بقدر الخمس، ولا يستحقه من أصل الغنيمة، وإن لم يشترط الإمام، فلا حقَّ له فيه (¬1)؛ لما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلًا له عليه بينةٌ، فله سلبُه"، قال أبو قتادة: فقمتُ فقلتُ: مَنْ يشهدُ لي؟ ثم جلست، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلَه، فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله، فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مالكَ يا أبا قتادة؟ "، فأخبرته، فقال رجلٌ: صدقَ، سلبُه عندي، فأرضه مني، أو قال: منه (¬2). ويروى: أنه شهد له بذلك الأسودُ بن خزاعي الأسلمي، وعبدُ الله بن أنيس، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: لا هااللهِ إذًا، لا يعمد أسدٌ من أسدِ الله (¬3)، وفي رواية: فقال أبو بكر: كلا لا يُعطيه أضيبعَ من قريش، ويدع أسدًا من أُسود الله تعالى يقاتلُ عن الله تعالى، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيعطيك سلبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صدق، فأعطه"، فأعطاني (¬4). ويروى: أن عمر قال ذلك، وهو غريب، والمشهور أن قائل ذلك أبو بكر، كما في "الصحيحين"، و"السنن"، وغيرها. قال الحافظ ابن حجر: الراجحُ أن الذي قال ذلك أبو بكر كما رواه أبو قتادة، وهو صاحب القصة، فهو أتقنُ لما وقع فيها من غيره، ويمكن أن يكون عمرُ قال ذلك أيضًا متابعةً لأبي بكر، ومساعدةً له وموافقةً (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 279 - 280). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2973، 4066)، وعند مسلم برقم (1751). (¬3) انظر: ما تقدم آنفًا عند البخاري ومسلم. (¬4) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1751). (¬5) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 40).

قال بعض العلماء: لو لم يكن من فضيلة الصدِّيقِ إلا هذا، لكفاه، فإنه بِثاقِب علمه، وشدةِ صرامته، وقوةِ إنصافه، في صحة توفيقه، وصدق تحقيقه، بادر إلى القول بالحق، فزجر وأفتى، وحكم فأمضى، وصدعَ بالحق المقطوعِ به في الشريعة الغراء عن النبي المصطفى بما صدقه - صلى الله عليه وسلم - فيه، وأجراه على ما بادر إليه. قال أبو قتادة كما في "الصحيحين": فبعتُ الدرع، فابتعتُ به مخرفًا؛ أي: بستاتا من بني سلمة، فإنه لأولُ مَالٍ تَأَثَّلْتُه (¬1)؛ أي: أَصَّلْتُه في الإسلام. وذكر الواقدي: أنه باعه بسبع أواقي، واسمُ المخرفِ الذي ابتاعه أبو قتادة الوديين كما في "مبهمات البلقيني على البخاري"، وأن الذي ابتاع السلاح حاطبُ بنُ أبي بلتعة - رضي الله عنه (¬2) -، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2973)، وعند مسلم برقم (1751). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 40 - 41).

الحديث الثامن

الحديث الثامن عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَيْنٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَهُوَ فِي سَفرٍ، فَجَلَسَ عِنْدَ أَصحَابهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اطْلُبُوهُ وَاقْتُلُوهُ"، فَقَتَلْتُهُ، فَنَفَّلَنِي سَلَبهُ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: "مَنْ قَتلَ الرَّجُلَ؟ "، فَقَالُوا: سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ، فَقَالَ: "لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ" (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2886)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان، وأبو داود (2653)، كتاب: الجهاد، باب: في الجاسوس المستأمن، وابن ماجه (2836)، كتاب: الجهاد، باب: المبارزة والسلب. (¬2) رواه مسلم (1754)، كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل، وأبو داود (2654)، كتاب: الجهاد، باب: في الجاسوس المستأمن. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 276)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 69)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 545)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 66)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 233)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1689)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 168)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 296)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 167)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 96).

(عن) أبي مسلمٍ (سلَمَةَ) -بفتح اللام- بنِ عمرِو (بنِ الأكوع) -بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الواو، ونُسِبَ لجده مجازًا، واسم الأكوع: سنانُ بنُ عبدِ الله بنِ قُشَير -بضم القاف وفتح الشين المعجمة وسكون الياء- بنِ خزيمةَ الأسلميُّ المدنيُّ، كان ممن بايع تحتَ الشجرة، وبايع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ثلاثَ مرات، في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم، وكان (- رضي الله عنه -) من أشد الناس وأشجعهم رَاجِلًا، ويُقالُ: إنه الذي كلمه الذئب. قال سلمةُ: رأيت الذئبَ قد أخذ ظَبْيًا، فطلبته حتى نزعتُه منه، فقال: وَيْحَكَ! مالي ومالك؟! عمدتَ إلى رزقٍ رزقنيهِ اللهُ تعالى تنزعُه مني قال: فقلت: يا عبدَ الله! إن هذا لعجيب، ذئب يتكلم! فقال الذئب: أعجبُ من هذا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في أصول النخل يدعوكم إلى عبادة الله تعالى، وتأبون إلَّا عبادة الأوثان، قال: فلَحِقْت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمت (¬1). قال ابن عبد البر وغيرُه: كلَّمَ الذئبُ من الصحابة ثلاثةً: رافعَ بنَ عَميرة، وسلمةَ بنَ الأكوع، وأهبان بن أوس. قال أبو بكر عبدُ الله بنُ أبي داود السجستاني الحافظ: فيقال لأهبان: مكلم الذئب، وأولاده: أولاد مكلم الذئب. قال ابن عدي: ولذلك تقول العرب: هو كذئب أهبان، يتعجبون منه، وذلك أن أهبان بن أوس [كان] في غنم له، فشدَّ الذئب على شاة منها، فصاح بن أهبان، فأقعى الذئب، وقال له: أتنتزعُ مني رزقًا رزقنيه الله تعالى؟! قال أهبان: ما سمعتُ ولا رأيتُ أعجبَ من هذا الذئب الذي يتكلم، فقال الذئب: أتعجب من هذا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ هذه النخلات - ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

وأومأ بيده إلى المدينة- يحدِّثُ بما كان ويكون، ويدعو إلى الله تعالى، وإلى عبادته، ولا يجيبونه؟! قال: فجئت إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته بالقصة، فأسلمت، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فحدِّثْ به" (¬1). واتفق مثلُ ذلك لرافعِ بنِ عميرةَ. سكن سلمةُ - رضي الله عنه - الرَّبَذَةَ، وتزوَّج هناك، ووُلد له، ولم يزلْ بها إلى قبل وفاته بليالٍ، فعاد إلى المدينة، وتُوفي بها سنة أربع وسبعين، وهو ابنُ ثمانين سنة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة وتسعون حديثًا، اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلمٌ بتسعة. وروى عنه: ابنه إياس، والحسنُ بن محمدِ بن الحنفية، وعبدُ الله، وعبد الرحمن ابنا كعب بن مالك، وأبو سلمةَ بنُ عبد الرحمن، ومولاه يزيدُ بنُ عبيد، وغيرُهم (¬2). (قال) سلمة - رضي الله عنه - (أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -) هو منصوبٌ مفعولُ أتى مقدَّم، والفاعل قوله: (عينٌ)؛ أي: جاسوس، واعتَانَ له: إذا أتاه بالخبر؛ كما في "النهاية" (¬3)، وقال في قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحديبية: "كان الله قد قطعَ عينًا من المشركين" (¬4)؛ أي: كفى الله منهم مَنْ كان يرصُدُنا ويتجَسَّسُ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم للشارح -رحمه الله- في كتاب: الصلاة ترجمة سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -، وتقدم هناك بيان مصادر ترجمته. (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 331). (¬4) رواه البخاري (3944)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الحديبية، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم.

علينا أخبارَنا (¬1) (من المشركين، وهو) - صلى الله عليه وسلم - (في سفر) من أسفاره، أي: في غزوة حنين، كما أفصح به مسلم في "صحيحه" عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هوازنَ -يعني: حنينًا-، فبينما نحن نتضحَّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: نأكل وقتَ الضُّحى، إذ جاء رجل على جملٍ أحمرَ، فأناخه، ثم انتزعَ طَلَقًا؛ أي: وهو بالتحريك: قيد من جلود (¬2) من حَقْبه -بفتح الحاء المهملة والقاف-: حبل يشدُّ به الرجل بطنه، والحِزامُ يلي حقوَ البعير (¬3)، فقيَّدَ به الجملَ، ثم تقدَّم فتغدى مع القوم، وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورِقَّة من الظهر، وبعضنا مشاة، إذ خرج يَشتدُّ، فأتى جملَه، فأطلقَ قيدَه، ثم قعدَ عليه، فاشتدَّ به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء؛ أي: في لونها بياضٌ إلى سواد، كما في "القاموس" (¬4)، قال: وهو من أطيب الإبل لحمًا .. الحديث (¬5). قال سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: (فجلس) ذلك الرجل الذي هو العين من المشركين (عند أصحابه)؛ أي: النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (يتحدث) معهم. وفي حديث مسلم: أنه تغدى معهم، (ثم) بعد غدائه وحديثه معهم (انفتل)؛ أي: انصرف من عندهم. وفي حديث مسلم: فأتى جمله، فأطلق قيدَه، ثم أناخه، ثم قعد عليه فأثاره، فاشتد به الجمل، (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اطلبوه)؛ أي: الرجل، (و) إذا أدركتموه، (اقتلوه). ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 331). (¬2) المرجع السابق، (3/ 134). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 97)، (مادة: حقب). (¬4) المرجع السابق، (ص: 1198)، (مادة: ورق). (¬5) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1754).

وفي رواية أبي نعيم في "المستخرج": أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أدركوه؛ فإنه عين". انتهى (¬1). وفي مسلم: واتبعه رجل من أسلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقة ورقاء. قال سلمة: فطلبتُه، وخرجت أشتدُّ، فكنت عندَ وَرِكِ الناقة، ثم تقدَّمْتُ حتى كنت عند وَرِكِ الجمل، ثم تقدمتُ حتى أخذتُ بخِطام الجمل، فأنخته، فلما وضعَ ركبته بالأرض، اخترطْتُ سيفي، فضربت رأس الرجل، فندر، (فقتلته)، ثم جئت بالجمل أقوده، وعليه رحلُه، وسلاحه، فاستقبلني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، والناسُ معه، (فنفلني)؛ أي: أعطاني (سلَبَهُ)، وهو مركوبُه، وثيابه، وسلاحه، وما معه على الدابة، كما تقدم. والنفل: ما يعطيه الإمام بعدَ الخمس الذي لله ورسوله، فيكون من أربعة أخماس الغنيمة، وهو الزيادة على السهم لمصلحة، وهو المجعول لمن عمل عملًا؛ كتنفل السرايا بالثلث والربع ونحوه. وقول الأمير: مَنْ طلعَ حصنًا، أوْ نَقَبَهُ، ومن جاء بأسيرٍ ونحوِه، فله كذا (¬2). ويأتي في الحديث السابع عشر، واختلاف الفقهاء في ذلك. (وفي رواية) عند مسلم في "صحيحه"، وهي تكملة الحديث الذي سقناه عن سلمة - رضي الله عنه - عند مسلم في "صحيحه"، (فقال) النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (من قتل الرجل؟)؛ أي: الذي أمر بطلبه وقتله، (فقالوا)؛ أي: بعض الصحابة -رضي الله عنهم-: قتله (سلمة بنُ الأكوع، فقال) -عليه ¬

_ (¬1) وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 169). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 101).

الصلاة والسلام-: (له)؛ أي: لسلمة بن الأكوع (سَلَبُهُ)، أي: الذي عليه، وعلى راحلته (أَجْمَعُ). وفي رواية: قام رجل من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبر أنه عين من المشركين، فقال -عليه السلام-: "من قتله، فله سلبه" (¬1). تنبيه: جاسوس الكفار إن كان مسلمًا، يُعاقب عقوبةً تردعه وأمثالَه عن مثل ذلك، وإن كان ذميًا أو معاهدًا، انتقض عهده. وكذا لو آوى جاسوسًا لهم، وهذا مذهب مالك، والأوزاعي. وعند الشافعية: لا ينتقض العهد من الذميِّ بكونه جاسوسًا للكفار، إلا إن شرط عليهم انتقاضه به، وهو مذهب الحنفية. وأما الجاسوس المسلم، فقال مالك: يجتهد فيه الإمام. وقال عياض: قال كبار أصحابه: يُقتل (¬2). وعند الحنفية، والشافعية: يُعَزَّر؛ كمذهبنا (¬3). ¬

_ (¬1) هي رواية الإسماعيلي، كما ذكرها الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/ 169)، وعنه أخذ الشارح -رحمه الله-. (¬2) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 71). (¬3) انظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 67)، وعنه العيني في "عمدة القاري" (14/ 297).

الحديث التاسع

الحديث التاسع عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً إلَى نَجْدٍ، فَخَرَجْتُ فِيها، فَأَصَبْنَا إبلا وَغَنَمًا، فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعِيرًا بَعِيرًا (¬1). * * * (عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (-رضي الله عنهما-، قال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سريَّةً)، وهو اسمٌ لطائفة من ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2965)، كتاب: الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، و (4083)، كتاب: المغازي، باب: السرية التي قبل نجد، ومسلم (1749/ 37)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الأنفال، واللفظ له، وكذا (1749/ 35 - 36)، وأبو داود (3741 - 3745)، كتاب: الجهاد، باب: في نفل السرية تخرج من العسكر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 310)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 41)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 56)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 537)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 54)، و "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 234)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1691)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 239)، و"عمدة القاري" للعيني (15/ 59)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 57)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 108).

الجيش يبلغُ أقصاها أربع مئة تُبعث إلى العدوّ، وجمعُها سرايا، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يكونون خلاصةَ العسكر وخيارَهم من الشيء النفيس (¬1). وقال ابن خطيب الدهشة في "المصباح": السَّرِيَّةُ: قطعةُ من الجيش، فَعيلة بمعنى فاعلة؛ لأنها تَسري في خُفْية، والجمع سَرايا وسَرِيَّات، مثل عَطايا، وعَطِيَّات، انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: السرية: قطعة من الجيش تخرج منه، وتعود إليه، وهي من مئة إلى خمس مئة، فما زاد على خمس مئة يقال له: مَنْسِر -بالنون والسين المهملة- أي: -بفتح الميم وكسر السين-، وبعكسهما، فإن زاد على الثمان مئة، يسمَّى جيشًا، فإن زاد على أربعة آلاف، يسمى جَحفَلًا، فإن زاد، فجيشٌ جَرَّارٌ، ويسمَّى الخميسَ أيضًا، وما افترق من السرية يسمى: بَعْثًا (¬2)، كما هو مبين في محاله من كتب السير والمغازي. (إلى نجد) تقدم في الحج: أنه اسم لما بين جرش إلى سواد الكوفة، وحَدُّه مما يلي المغرب على يسار الكعبة. ونجدٌ كلها من عمل اليمامة، وهي خلاف الغَوْر، فكل ما ارتفع من تِهامةَ إلى أرض العراق فهو نجد، وهو مذكر كما في "المطلع" (¬3)، و"القاموس" (¬4)، وغيرهما. قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: (فخرجت فيها) مع أميرها، وهو أبو قتادة بن رِبْعي في أربعةَ عشرَ رجلًا -رضي الله عنهم-، وستة عشر ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 363). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 56). (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 34). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 410)، (مادة: نجد).

رجلًا بأبي قتادة، وكان قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سيروا الليلَ، واكمنوا النهارَ، وشُنُّوا الغارةَ، ولا تقتلوا النساءَ والصبيان"، فخرجوا حتى أتوا ناحية غطفان (¬1). وفي لفظ عند الإمام أحمد: أنهم جاؤوا الحاضر ممسين، فلما ذهبت فَحمَة العِشاء (¬2). قال الواقدي: وخطب أبو قتادة، فأوصاهم بتقوى الله، وأَلَّف بين كل رجلين، وقال: لا يفارقْ كلُّ واحد زميله حتى يقتل، أو يرجع إليَّ فيخبرني خبره، ولا يأتين رجل فأسأله عن صاحبه فيقول: لا علم لي به، وإذا كبرت، فكبروا، وإذا حملت، فاحملوا، ولا تُمعنوا في الطلب. قال عبد الله بن أبي حَدرَدٍ - رضي الله عنه -: فأحطنا بالحاضر، فسمعت رجلًا يصرخ: يا خضرة! فتفاءلت: قلت: لأصيبن خيرًا، فجرد أبو قتادة سيفه وكبر، وجردنا سيوفنا وكبرنا معه، فشددنا على الحاضر، فقاتل رجال، ثم انكشفوا، واستاق أصحابُ أبي قتادة إبلًا عظيمة وغنمًا كثيرة. وعند الواقدي: أنهم غابوا الخمس عشرة ليلة، وجاؤوا بمئتي بعير وألف شاة، وسبوا سبيًا كثيرًا (¬3). قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: (فأصبنا إبلًا)؛ أي: كثيرة، (وغنمًا) كثيرة، فبلغت (سُهْماننا)، أي: نصيب كل واحد منا (اثني عشر ¬

_ (¬1) لم أقف عليه. (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 11)، من حديث عبد الله بن أبي حدرد - رضي الله عنه -. (¬3) وانظر: "السيرة الحلبية" للبرهان الحلبي (3/ 206).

بعيرًا)، أي: بعد أن قسم عليهم أميرهم أبو قتادة غنيمتهم بعد أن عزل الخمس، فخصَّ كل واحد منهم ما ذكر. قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: ونَفَّلَنا أميرُنا بعيرًا بعيرًا كل إنسان. قال: ثم قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما حاسبنا على الذي أعطانا صاحبُنا، ولا عابَ عليه ما صنع (¬1)؛ أي: بل علمه، واطلع عليه، وأقرهم على ذلك. وفي رواية: قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: (ونَفَّلَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -) كل إنسان منا (بعيرًا بعيرًا) فوق الذي استحقه من المغنم، فكان لكل إنسان ثلاثة عشر بعيرًا. فإما أن يكون عبد الله بن عمر نسب ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه أقر أبا قتادة على ما فعل، أو أنه قسم هو - صلى الله عليه وسلم -، ونفل كل واحد منهم بعيرًا بعيرًا زائدًا على سهمه. والأول أظهر وأولى؛ لأنه روي أنهم غابوا خمس عشرة ليلة، وجاؤوا بمئتي بعير وألف شاة، وسبوا سبيًا كثيرًا، وجمعوا الغنائم، فأخرج الخمس فعزلوه، وعدل البعير بعشرين من الغنم (¬2)، فهذا يدل للأول، وهو ظاهر، ويأتي الكلام على النفل في [الحديث] السابع عشر. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2743). (¬2) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 132). وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (2/ 193 - 194).

تنبيه: جعل كثير من أهل السير سرية أبي قتادة - رضي الله عنه - إلى غطفان غيرَ سرية عبد الله بن أبي حَدْرَد. وجعلها الواقديُّ واحدة، وتبعه الشامي في "سيرته"، وتبعته في "شرح النونية معارج الأنوار". ومشيت في "تحبير الوفاء" على أنهما اثنتان، والسياق يشعر بذلك. وكانت سرية أبي قتادة - رضي الله عنه - في شعبان سنة ثمان، والله أعلم.

الحديث العاشر

الحديث العاشر عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "إِذَا جَمَعَ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، يُرفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَيُقَالُ: هذِهِ غدرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ" (¬1). * * * (عنه)؛ أي أبي عبد الرحمن بن عمر -رضي الله عنهما- (عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا جمع الله الأولين) من خلقِه (والآخرين) منهم لفصل ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (3016)، كتاب: الجزية، باب: إثم الغادر للبر والفاجر، و (5823 - 5824)، كتاب: الأدب، باب: ما يدعى الناس بآبائهم، و (6565)، كتاب: الحيل، باب: إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت .. ، و (6694)، كتاب: الفتن، باب: إذا قال عند قوم شيئًا ثم خرج فقال بخلافه، ومسلم (1735/ 9)، واللفظ له، و (1735/ 10 - 11)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، وأبو داود (2756)، كتاب: الجهاد، باب: في الوفاء بالعهد، والترمذي (1581)، كتاب: السير، باب: ما جاء أن لكل غادر لواء يوم القيامة. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 39)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 520)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 43)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 235)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1694)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 284)، و"عمدة القاري" للعيني (15/ 106).

القضاء والحساب والجزاء (يُرفع)؛ أي: يأمر بعض ملائكته أن يرفع (لكل غادر)؛ أي: مغتال لذي عهد أو أمان. وفي رواية: "يُنصب" (¬1) بدل يُرفع (لواءٌ)؛ أي: علمٌ لأجل الاشتهار. (فيقال): أي يُنادى عليه يوم القيامة، ويُصاح خلفَه في ذلك المقام العظيم؛ تشهيرًا له بالغدر، وفضيحةً له على رؤوس الأشهاد: ألا (هذه) الفعلةُ والفضيحةُ (غدرةُ فلان بن فلان). قال في "النهاية": فلان وفلانة كناية عن الذكر والأنثى من الناس، فإن كنيت بهما عن غير الناس، قلت: الفلان والفلانة (¬2). قال بعض العلماء: ويُرفع الغادر عن غيره حتى يتميز ويشتهر، وسرُّ ذلك أنّ العقوبة تقع غالبًا بضد الذنب، والغدر خفي، فاشتهرت عقوبته بإشهار النداء عليه في ذلك الجمع العظيم (¬3). وفي رواية لمسلم: "لكل غادر لواءٌ يوم القيامة يُعرف به" (¬4). وفي البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمُهم يومَ القيامة: رجلٌ أعطى بي ثم غَدَرَ، ورجل باعَ حُرًّا ثم أكلَ ثمنَهُ، ورجل استأجرَ أَجيرًا، فاستوفى منه العمل، ولم يُوَفِّهِ أجرَه" (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (6694). (¬2) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 474). (¬3) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 235). (¬4) رواه مسلم (1736/ 13)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬5) رواه البخاري (2114)، كتاب: البيوع، باب: إثم من باع حرًا.

وفي مسلم وغيره من حديث علي - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذِمَّةُ المسلمين واحدةٌ يسعى بها أدناهم، فمن أَخْفَرَ مسلمًا، فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ، لا يقبلُ الله منه يومَ القيامة عدلًا، ولا صَرْفًا"، الحديث (¬1). يقال: أخفر بالرجل: إذا غدره ونقض عهده (¬2). وروى أبو داود عن صفوانَ بن سليم، عن عدة من [أبناء] (¬3) أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن آبائهم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ظلمَ معاهدًا، أو تَنَقَّصَه، أو كَلَّفَه فوقَ طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيبِ نفسٍ، فأنا حَجيجُه يومَ القيامة" (¬4). والأبناء مجهولون. وعن عمرو بن الحمق - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَيما رجلٍ أمن رجلًا على [دمه] (¬5)، ثم قتله، فأنا من القاتل بريءٌ، وإن كان المقتول كافرًا" رواه ابن حبان في "صحيحه"، واللفظ له (¬6). ورواه ابن ماجه، وقال: "فإنه يحمل لواءَ غدر يومَ القيامة" (¬7). وعن أبي بكرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل نفسًا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند مسلم برقم (1370)، وكذا عند البخاري برقم (1771). (¬2) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (4/ 7)، عقب حديث (4555). (¬3) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬4) رواه أبو داود (3052)، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في تعشير أهل الذمة، إذا اختلفوا بالتجارات. (¬5) في الأصل: "ذمة"، والصواب ما أثبت. (¬6) رواه ابن حبان في "صحيحه" (5982). (¬7) رواه ابن ماجه (2688)، كتاب: الديات، باب: من أمن رجلًا على دمه فقتله.

معاهدة بغير حَقِّها، لم يرَح رائحةَ الجنة، وإنَّ ريح الجنة ليوجدُ من مسيرة مئة عام" (¬1). وفي رواية: "من قتل معاهدًا في عهده، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لَيوجدُ من مسيرة خمس مئة عام" رواه ابن حبان في "صحيحه" (¬2). وهو عند أبي داود والنسائي بلفظ غير هذا (¬3). وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من قتل نفسًا معاهدة له ذمةُ الله وذمةُ رسوله، فقد أخفرَ بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحَها ليوجدُ من سبعين خريفًا" رواه ابن ماجه، والترمذي، واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح (¬4). وفي "الصحيحين" من حديث أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لكل غادر لواءٌ يومَ القيامة يُعرف به" (¬5)، وتقدم قريبًا من حديث ابن عمر. وفي "المسند"، و"صحيح مسلم" عن أبي سعيد مرفوعًا: "لكلِّ غادرٍ لواءٌ عندَ اسْتِهِ يومَ القيامة" (¬6). ¬

_ (¬1) رواه ابن حبان في "صحيحه" (7382). (¬2) رواه ابن حبان في "صحيحه" (7383). (¬3) رواه أبو داود (2760)، كتاب: الجهاد، باب: في الوفاء للمعاهد وحرمة ذمته، والنسائي (4747)، كتاب: القسامة، باب: تعظيم قتل المعاهد، بلفظ: "من قتل معاهدًا في غير كنهه، حرم الله عليه الجنة". (¬4) رواه الترمذي (1403) كتاب: الديات، باب: ما جاء فيمن يقتل نفسًا معاهدة، وابن ماجه (2687)، كتاب: الديات، باب: من قتل معاهدًا. (¬5) رواه البخاري (3015)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: إثم الغادر للبر والفاجر، ومسلم (1737)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر. (¬6) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 35)، ومسلم (1738/ 15)، كتاب: الجهاد =

وفي رواية: "لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة يُرفع له بقدرِ غدرته، أَلا ولا غادرَ أعظمُ غدرًا من أميرِ عامَّةٍ" (¬1). تنبيهات: الأول: يصير دم حربي حرامًا علينا بأحد ثلاثة أمور: بالأمان، أو الهدنة، أو عقد الذمة. إذا علمت هذا، فاعلم أن الأمان يصح من كل مسلم عاقل مختار، ولو مميزًا، حتى من عبد وأنثى وهرمٍ وسَفيهٍ، لا من كافر، ولو ذميًا، ولا من مجنونٍ وسكرانَ وطفلٍ ومغمًى عليه، وأَلَّا يكون ثَمَّ ضررٌ علينا، وأَلَّا تزيد مدته على عشر سنين، ويصح منجَّزًا، أو معلَّقًا، ويصح من إمام وأمير لأسير كافر بعد الاستيلاء عليه، وليس ذلك لأحد الرعية، إلا أن يجيزه الإمام، ويصح من إمام لجميع المشركين، وأمان أمير لأهل بلدة جُعل بإزائهم، وأما في حق غيرهم، فهو كآحاد المسلمين. ويحرم بالأمان قتلٌ ورقٌّ وأسر وأخذُ مال، ويكون ذلك أو شي منه من الغدر. ويصح أمان آحاد الرعية لواحد وعشرة، وقافلة وحصن صغيرين عرفًا؛ كمئة فأقل. وليس للإمام نقضُ أمانِ مسلم إلا أن يخاف خيانة من أُعطيه. ويصح بأنت آمن ونحوه، وإن قيل لكافر: أنت آمن، فرد الأمان، لم ¬

_ = والسير، باب: تحريم الغدر. (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 19)، ومسلم (1738/ 16)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم الغدر.

ينعقد، وإن قبله ثمَّ رده، ولو بصوْلهِ على المسلم أو جرحه، انتقض. ومن طلب الأمان ليسمعَ كلام الله، ويعرف شرائع الإسلام، لزمت إجابتُه، ثمَّ يُرَدُّ إلى مأمنه، وإذا أمنه، سرى الأمان إلى مَنْ معه من أهل ومال، إلا أن يقال: أمنتك وحدك ونحوه. ويجوز عقدُ الأمان لرسول ومستأمن، ويقيمون مدة الهدنة بغير جزية. ومن دخل منا دارهم بأمانهم، حرمت عليه خيانتهم، فإن خانهم، أو سرق منهم شيئًا ونحوه، وجب رده إلى أربابه. ومن جاءنا منهم بأمان، فخاننا، كان ناقصًا لأمانه، ومن دخل منهم دارنا بغير أمان، فادعى أنَّه رسول أو تاجر، ومعه متاع يبيعه، قُبل منه إن صدقتهم عادة؛ كدخول تجارهم إلينا ونحوه، وإلا، فكأسير. وليس لأحد منهم أن يدخل إلينا بلا إذن، ولو تاجرًا أو رسولًا. ويجوز نبذُ الأمان إليهم إن توقع شرهم، وإذا أمن العدو في دار الإسلام إلى مدة، صحّ، فإذا بلغها، واختار البقاء في دارنا، أدى الجزية، وإن لم يختر، فهو على أمانه حتى يخرج إلى مأمنه (¬1). الثاني: الهُدنة، وهي العقدُ على ترك القتال مدةً معلومة بعِوَضٍ وبغيرِ عوض، وتسمى: مهادنة، وموادعة، ومعاهدة، ومسالمة، ولا يصحُّ عقدها إلا من إمام، أو نائبه، ويكون العقد لازمًا، ويلزمه الوفاء به. ولا تصح إلا حيث صحَّ تأخيرُ الجهاد، فمتى رأى المصلحة في عقدها؛ لضعف المسلمين عن القتال، أو مشقة الغزو، أو لطمعه في إسلامهم، أو ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 117 - 122)، وعنه نقل الشارح -رحمه الله- هذا التنبيه.

أدائهم الجزية، أو غير ذلك، جاز، ولو بمال منا ضرورة مدة معلومة، ولو فوق عشر سنين. وإن نقضوا العهد بقتال، أو مظاهرة، أو قتل مسلم، أو أخذ مال، انتقضَ عهدُهم، وحلت دماؤهم وأموالهم وسبيُ ذراريهم، وإن نقض بعضُهم دونَ بعض، فسكت باقيهم عن الناقض، ولم يوجد منهم إنكار، ولا مراسلة الإمام، ولا تبرأ، فالكل ناقض (¬1). الثالث: عقدُ الذِّمَّة، ولا يصح عقدُها إلا من إمام أو نائبه، ويجب عقدُها إذا اجتمعت الشروط، ما لم يخف غائلة منهم، وصفةُ عقدِها: أقررتكم بجزية واستسلام، أو يبذلون ذلك، فيقول: أقررتكم على ذلك، ونحوهما، ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين: * أحدهما: التزامُ إعطاء الجزية كلَّ حول، وهي مالٌ يؤخذ منهم على وجه الصَّغار كلَّ عام بدلًا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا. * الثاني: التزامُ إحكام الإسلام، وهو قبول ما يُحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم. ولابد من كون المعقود لهم الذمةُ من أهل الكتابين اليهودِ والنصارى، ومن وافقهم بالتدين بالتوراة؛ كالسامرة، فإنهم فرقة من اليهود، ومن تدين بالإنجيل؛ كالفرنج، وتُعقد الذمةُ أيضًا لمن لهم شبهةُ كتاب؛ كالمجوس، والصابئين، وهم -يعني: الصابئين- جنس من النصارى، نص عليه الإمام أحمد - رضي الله عنه -. وأما مَنْ عداهم من بقية الكفار، فلا تُعقد لهم ذمة، ولا تؤخذ منهم ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 123).

جزية، بل لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل. قال علماؤنا: ومن انتقل إلى أحد الأديان الثلاثة من غير أهلها، فإن تهوَّدَ أو تنصَّرَ أو تمجَّس قبل بعثة نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ولو بعد التبديل، فله حكمُ الدين الذي انتقل إليه؛ من إقراره بالجزية وغيره. وقالوا: وكذا بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - (¬1). التنبيه الثاني: اعتبر الشافعية كونَ مدة الأمان أربعةَ أشهر فأقلَّ، وشرطوا في المعقود له الذمةُ، كونَهُ متمسكًا بكتاب؛ كتوراةٍ وإنجيلٍ، وصُحُفِ إبراهيمَ وشيثٍ، وزَبورِ داودَ، سواء كان المتمسِّكُ كتابيًا أو مجوسيًا. وعندهم في الهدنة إذا لم يكن بنا -معشرَ المسلمين- ضعفٌ، جازت، ولو بلا عوض إلى أربعة أشهر؛ لآية: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]، وإلا، فإلى عشر سنين بحسب الحاجة (¬2)، كمذهبنا. الثالث: اتفقت الأئمة الأربعة على أن الجزية تُضرب على أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وكذلك على المجوس، وإن اختلفوا فيهم. والمعتمد عندهم: أنهم ليسوا بأهل كتاب، وإنما لهم شبهة كتاب. وأما من ليس من أهل الكتاب، ولا له شبهة كتاب؛ كعبدة الأوثان من العرب والعجم، فعندنا كالشافعية: لا تعقد له الذمة مطلقًا. وعند أبي حنيفة: تعقد للعجمي منهم دون العربي. ¬

_ (¬1) المرجع السابق، (2/ 127 - 128). (¬2) انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 311).

وعند مالك: تعقد لكل كافر، عربيًا كان أو عجميًا، إلا من مشركي قريش خاصة (¬1). الرابع: من انعقدت له، وجب حفظُه، وحفظُ ماله وعياله؛ كالمعاهد والمستأمن. واختلفوا فيما ينتقض به عهده: فقال أحمد، ومالك، والشافعيُّ: ينتقض عهده بمنع الجزية، وبإبائه أن تَجري عليه أحكام الإسلام. وقال أبو حنيفة: لا ينقض عهدُ أهل الذمة إلا أن تكون لهم منعةٌ يحاربونا بها، أو يلحقوا بدار الحرب، وأما إذا فعل آحادُ أهل الذمة ما يجب عليه تركُه والكفُّ عنه مما فيه ضررٌ على المسلمين أو آحادِهم في مالٍ أو عرضٍ أو نفس، وذلك أحد ثمانية أشياء: الاجتماع على قتال المسلمين، وأن يزني بمسلمة أو يصيبها باسم نكاح، أو يفتن مسلمًا عن دينه، أو يقطع عليه الطريق، أو يؤوي إلى المشركين جاسوسًا، أو يعاون على المسلمين بدلالة، أو أن يكاتب المشركين بأخبار المسلمين، أو يقتل مسلمًا أو مسلمة عمدًا. فمعتمد مذهب الإمام أحمد: أنه ينتقض عهدُه بذلك كله، وبذكر الله أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء. وكذا لو امتنع من الصَّغار، أو لحق بدار الحرب مقيمًا بها، ولو لم يُشترط عليهم. وقال أبو حنيفة: لا ينتقض عهدُهم إلا بما ذكرناه عنه آنفًا. ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 292).

وقال الشافعي: متى قاتل المسلمين، انتقض عهده، سواء شُرط عليهم تركُه في العقد، أو لا، وأما إن فعل شيئًا مما سوى ذلك، فإن امتنعوا من الجزية، أو إجراءِ حكمنا عليهم، انتقض، وإن كان غير ذلك؛ من زنا ذميٍّ بمسلمة، أو إصابتِها بنكاح، أو دلَّ أهل حرب على عورة لنا، أو دعا مسلمًا لكفر، أو سب الله، أو نبيًا له، أو الإسلام، أو القرآن، انتقض عهده به إن شُرط انتقاضُه به، وإلا، فلا، هذا معتمد مذهبهم؛ كما في "شرح المنهج" (¬1) وغيره. وقال مالك: لا ينتقض من ذلك بالزنا بالمسلمات، ولا بإصابةٍ لهن باسم النكاح، وينتقض بما سوى ذلك، إلا في قطع الطريق؛ فإن ابن القاسم خاصة من أصحابه قال: لا ينتقض عهده بذلك. وقال الإمام مالك فيمن ذكر الله تعالى بما لا يليق بجلاله، أو ذكرَ كتابه المجيدَ، أو ذكرَ دينه القويمَ، أو رسولَه الكريم بما لا ينبغي، إذا فعلوا ذلك بغير ما كفروا به، فإنَّه ينتقض عهدهم بذلك، سواء اشترط عليهم ذلك، أو لم يشترط (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" للشيخ زكريا الأنصاري (2/ 316). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 298 - 299).

الحديث الحادي عشر

الحديث الحادي عشر وَعَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ في بَعْضِ مَغازِي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَتْلَ النساءِ والصِّبْيانِ (¬1). * * * ما أشار إليه بقوله: (وعنه)؛ أي: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: (أن امرأة) من الكفار (وجدت في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم -)، وهي غزوة حُنين ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2851)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل الصبيان في الحرب، و (2852)، باب: قتل النساء في الحرب، ومسلم (1744/ 24 - 25)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، وأبو داود (2668)، كتاب: الجهاد، باب: في قتل النساء، والترمذي (1569)، كتاب: السير، باب: ما جاء في النهي عن قتل النساء والصبيان، وابن ماجه (2841)، كتاب: الجهاد، باب: الغارة والبيات وقتل النساء والصبيان. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 47)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 527)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 48)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 236)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1696)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 147)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 263)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 147)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 50)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 71).

(مقتولةً، فأنكر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قتلَ النساء والصبيان). وفي لفظ: فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان (¬1). ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وابن ماجه (¬2). وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود عن رباح بن ربيع - رضي الله عنه -، قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها، وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمر رباحٌ وأصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها؛ يعني: ويعجبون من خلقها، حتى لحقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما كانت هذه لِتقاتلَ"، فقال لأحدهم: "الحَقْ خالدًا فقل له: لا تقتلْ ذريةً ولا عَسيفًا" (¬3). العسيف: كالأجير لفظًا ومعنى، وهو أيضًا المملوك. قال الإمام النووي: أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا، فقال جمهور العلماء: يقتلون. وأما شيوخ الكفار، فإن كان فيهم رأي، قُتلوا، وإلا ففيهم وفي الرهبان خلاف، فقال مالك، وأبو حنيفة: لا يقتلون، والأصح من مذهب الشافعي قتلُهم، انتهى (¬4). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2852)، وعند مسلم برقم (1744/ 25). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 22). وتقدم تخريجه عند أبي داود، والترمذي، وابن ماجه قريبًا. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 178)، وأبو داود (2669)، كتاب: الجهاد، باب: في قتل النساء. (¬4) انظر: "شرح مسلم" للنووي (12/ 48).

قلت: معتمد مذهب الإمام أحمد: متى ظُفر بهم، حَرُمَ قتلُ صبي وامرأة وخنثى وراهب، ولو خالط الناس، وشيخٍ فانٍ، وَزَمِنٍ، وأعمى. وفي "مغني" الإمام الموفق: وعبد، وفلاح لا رأي لهم، إلا أن يقاتلوا، أو يحرضوا عليه (¬1). وأما المريضُ، فيُقتل مَنْ لو كان صحيحًا، لقاتل؛ كالإجهاز على الجريح، وإن كان ميئوسًا من برئه، فَكَزَمِنٍ فانٍ، فإنْ تَتَرَّسوا بهم، جاز رميهم، ويقصد المقاتلة. ولو وقفت امرأة في صف الكفار، أو على حصنهم، فشتمت المسلمين، أو تكشفت لهم، جاز رميُها والنظرُ إلى فرجها للحاجة إلى رمِيها، وكذلك يجوز رميُها إذا كانت تلتقط لهم السهام، أو تسقيهم الماء (¬2). والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 244). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 73).

الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ عَبْدَ الرّحمَنِ بْنَ عَوْفٍ، والزُّبَيْرَ بْنَ العَوَّامِ، شَكَيا القَمْلَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في غَزاةٍ لَهُما، فَرَخَّصَ لَهُما في قَمِيصِ الحَرِيرِ، وَرَأَيْتُه عَلَيْهِما (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2762 - 2764)، كتاب: الجهاد، باب: الحرير في الحرب، و (5501)، كتاب: اللباس، باب: ما يرخص للرجال من الحرير للحكة، ومسلم (2076/ 24 - 26)، كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها، وأبو داود (4056)، كتاب: اللباس، باب: في لبس الحرير لعذر، والنسائي (5310 - 5311)، كتاب: الزينة، باب: الرخصة في لبس الحرير، والترمذي (1722)، كتاب: اللباس، باب: ما جاء في الرخصة في لبس الحرير في الحرب، وابن ماجه (3592)، كتاب: اللباس، باب: من رخص له في لبس الحرير. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 585) و"المفهم" للقرطبي (4/ 398)، و"شرح مسلم" للنووي (14/ 52)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 236)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1697)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 101)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 195)، و"إرشاد الساري" للقسطلاني (5/ 103)، و"سبل السلام" للصنعاني (2/ 85)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 81).

(عن) أبي حمزةَ (أنسِ بنِ مالك - رضي الله عنه -: أنَّ) أبا محمَّد (عبدَ الرحمن بنَ عوفِ) بنِ عبد الحارث بنِ زهرة بنِ كلاب بنِ مرة بنِ كعب بنِ لؤي بنِ غالب القرشيَّ الزهريَّ، كان اسمه في الجاهلية عبدَ عمرو، وقيل: عبد الكعبة، فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: عبد الرحمن، وأمُّه الشفاءُ بنتُ عوفِ بنِ عبد الحارث بنِ زهرة، أسلمت وهاجرت. أسلم عبد الرحمن بن عوف قديمًا على يد أبي بكر الصديق. وقدّم البرماوي أن أم عبد الرحمن صفيةُ بنتُ عبد مناف بن زهرة، ثمَّ ذكر بقيل: أنها الشفاء -بكسر الشين المعجمة وبالفاء- بنتُ عوف، قال: ويقال: إن الشفاء بنتَ عوف إنما هي أختُهُ. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحابِ الشورى، هاجر للحبشة، وشهد المشاهد كلها، وثبت يوم أحد، وصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - وراءهُ في غزوة تبوك؛ كما في "صحيح مسلم" (¬1)، وأتَمَّ ما فاته، وبعثه - صلى الله عليه وسلم - إلى دومة الجندل، وعَمَّمَه بيده، وسَدَلَها بين كتفيه، وقال: "إن فتحَ الله عليك، فتزوج بنتَ ملكِهم أو عريفِهم" (¬2)، فتزوجَ بنتَ شريفهم، وهي تُماضِرُ بنتُ الأصبغِ بنِ ثعلبةَ بنِ ضَمْضَم، فولدت له أبا سلمة الفقيه، وهي أولُ كلبيةٍ نكحها قرشيٌّ. أصاب عبدَ الرحمن يوم أحد نحوُ العشرين من الجراحة، أو أكثر، وبعضها في رجله، فعرج. ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، قاله المدائني وغيره، ومات سنة اثنتين ¬

_ (¬1) رواه مسلم (274)، كتاب: الصلاة، باب: تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام، من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (69/ 79 - 80).

أو إحدى، أو ثلاث وثلاثين، وصلَّى عليه عثمانُ بن عفان، ودُفن في البقيع وله اثنتان وسبعون سنة، وقيل: خمس، وقيل: ثمان. كان - رضي الله عنه - طفلًا رقيقَ البشرة أبيضَ مشربًا بحمرة، ضخمَ الكتفين، أقنى، وقيل: كان ساقط الثنيتين، أعرجَ؛ لما أصابه من الجراحة يومَ أحد، ويجتمع نسبُه مع نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلاب بن مرة. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر حديثًا، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بخمسة. وقال الحافظ ابن الجوزي في "مشكل الصحيح": روى خمسة وستين حديثًا، اتفقا على سبعة. قلت: وكذا في "منتخب المنتخب" له، إلا أنَّه قال: أخرج له في "الصحيحين" سبعة أحاديث، المتفق عليه منها حديثان، وباقيهما للبخاري. قال ابن الأثير في "جامع الأصول": روى عنه ابن عباس، وابنه إبراهيم، وبجالة بن عبيد (¬1)، ويقال: ابن عبدة التميمي، كان كاتبَ جَزْءِ بنِ معاويةَ عمِّ الأحنفِ بن قيس، مكيّ ثقةٌ، ويعد في أهل البصرة (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 129 - قسم التراجم). (¬2) قلت: قد تقدم للشارح -رحمه الله- ترجمة عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - فيما سبق، وتقدم هناك بيان مصادر ترجمته. وقد جاء على هامش الأصل المخطوط عند قوله. "بجالة بن عبيد" ما يلي: كان كاتب جزء بن معاوية، وهو -بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة على الصحيح، وكذا يرويه أهل اللغة، وأما أهل الحديث، فيقولونه: بكسر الجيم وسكون الزاي وبعدها ياء، قاله في "جامع الأصول" (14/ 266)، وهو جزء بن معاوية بن حصين بن عبادة من تيم سعد بن زيد بن مناة بن تميم عم الأحنف بن قيس. =

(و) أبا عبد الله (الزُّبَير) -بضم الزاي- (بنَ العَوَّام) -بفتح العين المهملة والواو المشددة فألف فميم- بن خُوَيْلِد -بضم الخاء المعجمة وفتح الواو- بن أسد بن عبدِ العزى بنِ قصيِّ بنِ كلابِ بنِ مرةَ القرشيَّ الأسديَّ المدنيَّ، أُمه صفيةُ بنتُ عبد المطلب عمةُ المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، أسلمت، وهاجرت إلى المدينة. أسلم الزبير - رضي الله عنه - قديمًا، وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: ست عشرة، وقيل: إنه أسلم وهو ابن ثمان سنين، وكان إسلامه بعد إسلام الصديق بقليل، قيل: إنه كان رابعًا أو خامسًا، على يد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فعذبه عمه بالدخان ليترك الإسلام، فلم يفعل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة. هاجر - رضي الله عنه - الهجرتين، وهو أول من سَلَّ سيفًا في سبيل الله، وثبتَ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وشهد اليرموكَ وفتحَ مصر، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لكل نبيٍّ حَوارِيُّ، وحَوارِيَّ الزبيرُ" (¬1). وكان أبيضَ طويلًا، ويقال: إنه لم يكن بالطويل ولا بالقصير، يميل إلى الخفة في اللحم. ويقال: كان أسمر خفيف العارضين. كان الزبير يومَ الجمل قد تركَ القتال، وانصرفَ لأمرٍ ذَكَّرَه به أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب، فلما ذكره، اعترف به، وانصرف، فلحقه عُمير بن جرموز بسفوان من أرض البصرة، فقتله بوادي السباع، وقبرُه هناك مشهور، وذلك في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وكان عمره يومئذٍ ¬

_ = قلت: لا أدري معنى استطراد الشارح -رحمه الله- فيما ذكر؛ إذ لا مناسبة له، والله أعلم. (¬1) تقدم تخريجه.

أربعًا وستين سنة، وقيل: سبعًا، وقيل: ستًا وستين سنة، وقيل غيرُ ذلك. روي له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية وثلاثون حديثًا، منها في "الصحيحين" تسعةُ أحاديث، المتفق عليه منها حديثان، وباقيها للبخاري (¬1). ومالُ الزبيرِ وعبدِ الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- وكثرتُه وشهرتُه وسعةُ تركتهما وعظيم نفقتهما معلومٌ مشهور، وهو في تواريخ الإِسلام وكتبهم مسطور ومذكور، فلا حاجة إلى ذكره (شكيا)؛ أي شكا كلُّ واحد منهما (القمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)؛ أي: ما يلقاه من كثرته، والتألم به. والقملُ واحدته قملة، وهو يتولد من العرق والوسخ إذا أصاب ثوبًا أو ريشًا أو شعرًا حتى يصير عفنًا (¬2). قال الجاحظ: وربما كان الإنسان قَمِلَ الطباع، وإن تنظَّف وتعطَّر وبدَّل الثياب (¬3)، واستدل بالزبير، وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما-، وكان ذلك (في غزاة لهما). وفي رواية: شكوا بالواو (¬4)، وهي لغة، يقال: شكوت وشكيت -بالواو والياء (¬5) -. (فرخص) - صلى الله عليه وسلم - (لهما)؛ أي: لكل واحد منهما (في) لبس ¬

_ (¬1) تقدم للشارح -رحمه الله- أيضًا ذكر ترجمة الزبير بن العوام - رضي الله عنه - فيما سبق من شرحه هذا، ويجدر التنبيه هنا: أن الشارح أصبح يكثر من تكرار ما تقدم له ذكره من تراجم وأحكام وتنبيهات وغيرها في القسم الأخير من شرحه، ولعل طول هذا الشرح كان له النصيب في وقوع هذا التكرار، والعصمة لله وحده. (¬2) انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميري (2/ 720). (¬3) انظر: "الحيوان" للجاحظ (5/ 372). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2763). (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 196).

(قميص الحرير)؛ لأجل القمل والحكة، فلبساه. قال أنس - رضي الله عنه -: (ورأيته)؛ أي: قميص الحرير (عليهما)؛ أي: على كل واحد منهما. من الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف قميصًا من الحرير. فيستفاد من الحديث: جواز لبس الحرير للرجال للقمل، وكذا للحكة؛ لأن في لفظ من حديث أنس عندهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لعبد الرحمن بن عوف وللزبير بن العوام في قميص من حرير من حكة كانت بهما (¬1). قال علماؤنا: يباح لبس الحرير لحكة، ولو لم يؤثر لبسه في زوالها، وكذا لقمل، ومرض. وفي حربٍ، مباحٌ إذا تراءى الجمعان إلى انقضاء القتال، ولو لغير حاجة (¬2). وقد ترجم البخاري في "صحيحه" لذلك باب: الحرير في الحرب (¬3). قال أكثر الشراح: -بالحاء المهملة-، وقيل: -بالجيم-، لكن ذكر ذلك في أبواب الجهاد يؤيد الأول (¬4). وكذا ذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى-[له] في كتاب الجهاد يشعر به. وترجم الترمذي باب: ما جاء في لبس الحرير في الحرب (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2762)، وعند مسلم برقم (2076/ 24). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 142). (¬3) انظر: "صحيح البخاري" (3/ 1069). (¬4) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 101). (¬5) انظر: "سنن الترمذي" (4/ 218).

والحاصل: أنَّه حصل من مجموع الروايات ثلاث علل: الحكة، والقمل، والحرب -المفهوم من قوله: في غزاة- تصلح كل واحدة منها أن تكون علة للإباحة، فأباح علماؤنا لبس الحرير لكل واحد من الثلاثة كما مر في اللباس. قال القرطبي: يدل الحديث على جواز لبس الحرير للضرورة. وبه قال بعض أصحاب مالك. فأما مالك، فمنعه في الحكة والضرورة، والحديث واضح الدلالة عليه، إلا أن يدعي الخصوصية لهما، [ولا يصح] (¬1)، ولعل الحديث لم يبلغه (¬2)، انتهى. وقال ابن العربي: اختلف العلماء في لباسه على عشرة أقوال: الأول: حرام بكل حال. الثاني: يحرم إلا في الحرب. الثالث: يحرم إلا في السفر. الرابع: يحرم إلا في المرض. الخامس: يحرم إلا في الغزو. السادس: يحرم إلا في العَلَم. السابع: يحرم على الرجال والنساء. الثامن: يحرم لبسُه من فوق دون لبسه من أسفل، قاله أبو حنيفة، وابن الماجشون. ¬

_ (¬1) ما بين معكوفين سقط من "ب". (¬2) انظر: "المفهم" للقرطبي (4/ 398).

التاسع: مباح بكل حال، وهذا ساقط بالمرة. العاشر: محرم، وإن خلط مع غيره؛ كالخز (¬1)، وتقدم ذلك في اللباس بما فيه غُنية. وقال ابن بطال: اختلف السلف في لباس الحرير في الحرب، فكرهته طائفة، منهم: عمر بن الخطاب، وابن سيرين، وعكرمة، وغيرهم، وقالوا: الكراهة في الحرب أشدُّ؛ لما يرجون من الشهادة، وهو قول مالك، وأبي حنيفة. وممن أباحه في الحرب: أنس. قال ثابت: رأيت أنس بن مالك - رضي الله عنه - لبس الديباج في فزعة فزعَها الناس (¬2). وقال عطاء: الديباج في الحرب سلاح (¬3). وأجازه محمَّد بن الحنفية، وعروة، والحسن البصري. وهو قول الإمام أحمد، والشافعيُّ، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف. وذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون: أنه استحب الحرير في الجهاد، والصلاة به حينئذٍ؛ لترهيب العدو، والمباهاة على العدو (¬4)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 220 - 221). (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (19942)، ومن طريقه: البيهقي في "شعب الإيمان" (6113). (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (24672 - 24673). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 196).

الحديث الثالث عشر

الحديث الثالث عشر عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه -، قَالَ: كانَتْ أَمْوالُ بَني النَّضِيرِ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بخَيْلٍ وَلَاْ رِكابٍ، وَكانَتْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً، فَكانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يعْزِلُ نفَقَةَ أَهْلِهِ سَنة، ثُمَّ يَجْعَلُ ما بقِيَ في الكُراعِ والسِّلَاحِ عُدَّةً في سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (¬1). * * * (عن) أمير المؤمنين (عمرَ بنِ الخطاب - رضي الله عنه -، قال: كانت ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2748)، كتاب: الجهاد، باب: المجن، ومن يتترس بترس صاحبه، و (4603)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7]، ومسلم (1757/ 48 - 50)، كتاب: الجهاد والسير، باب: حكم الفيء، وأبو داود (2965)، كتاب: الخراج، باب: في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال، والنسائيُّ (4140)، كتاب: قسم الفيء، والترمذي (1719)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في الفيء. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 215)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 75)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 69)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 237)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1698)، و"فتح الباري" لابن حجر (9/ 503)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 185)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 63)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 230).

أموال بني النَّضِير) -بفتح النون وكسر الضاد المعجمة فياء مثناة تحت ساكنة فراء-: حيّ من يهود دخلوا في العرب، وهم على نسبهم إلى هارون -عليه السلام-، وكانوا من سبطٍ لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله تعالى قد كتب عليهم ذلك (¬1). وسبب جلائهم من أرضهم: أنهم هَمُّوا بالفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومكيدتِه والغدرِ به، فسار -عليه الصلاة والسلام- في أصحابه إليهم، واستخلف على المدينة ابنَ أمِّ مكتوم، فلما رأوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قاموا على جدر حصونهم معهم النبلُ والحجارة، واعتزلهم بنو قريظة، فلم يعينوهم بسلاح ولا رجال، ولم يقربوهم، وجعلت بنو النضير يرمون بالنبل والحجارة، فحاصرهم - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر يومًا. وقال ابن إسحاق، وابن عبد البر: ستَّ ليال. وقال سليمان التيمي: قريبًا من عشرين ليلة. وقال ابن الطَّلاع: ثلاثًا وعشرين ليلة. وعن عائشة: خمسة وعشرين، حتى أجلاهم، ووليَ إخراجَهم محمدُ بن مسلمة - رضي الله عنه -، فلما أجلاهم، كانت أموالهم من الأرض والنخيل وكل شيء من الحلقة والسلاح والكراع (مما أفاء الله) -سبحانه وتعالى- به (على رسوله) محمَّد - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأصل الفيء: الرجوع، يقال: فاء يفيء فيئة وفَيْئًا (¬3)، كأنه كان في الأصل له - صلى الله عليه وسلم -، فرجع إليه؛ لأنَّ الله لم يبح النعم للخلق إلا بشرط الشكر، ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 330). (¬2) وانظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 127 - 128)، و"السيرة الحلبية" للبرهان الحلبي (2/ 560) وما بعدها. (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 165).

فإذا لم يشكروا، لم يُبِح لهم من نعمه شيئًا، فيكونون قد استولوا على ما ليس لهم به حق (مما لم يوجف المسلمون) من أصحابه الكرام -عليهم الرضوان والسلام- (عليه)؛ أي: مال بني النضير؛ أي: لم يسرعوا؛ لأنَّ الإيجاف: سرعة السير. وقد أوجف دابته يوجفها إيجافًا: إذا حثها (¬1) (بخيل) مسومة (ولا ركاب) من الإبل. قال في "المطالع ": الركاب: الإبل، وتجمع على ركائب (¬2)، (وكانت) أموالُ بني النضير التي جلوا عنها وخلَّوها (لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -) خصَّه بها الله تعالى (خاصة) دون غيره من الصحابة الكرام. (فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعزل) في كل سنة (نفقةَ أهله)؛ أي: من أزواجه وخدمهن وما يلحق بذلك (سنة) عند حصول التمر والبر والشعير، (ثم) بعد ادخاره لأهله نفقة سنتهم، (يجعل ما بقي) من الغلال والثمار (في) تحصيل (الكراع). قال في "النهاية": الكراع: اسم لجميع الخيل (¬3). وكذا قال في "القاموس" (¬4). (والسلاح) من السيوف والرماح والدروع وسائر آلات الحرب، يَتَّخِذُ ذلك، وُيِعُّده (عدة في سبيل الله -عَزَّ وَجَلَّ-)؛ نصرة لأوليائه، وعونًا على أعدائه من أهل الكفر والشرك والنفاق. ¬

_ (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 156). (¬2) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 289). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 167). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 980) (مادة: كرع).

قال أهل السير: لما قَبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أموال بني النضير والحلقةَ، وجدَ خمسين درعًا، وخمسين بيضة، وثلاث مئة وأربعين سيفًا، فقال عمر -رضي الله عنه -: يا رسول الله! لا تخمس ما أصبت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا أجعلُ شيئًا جعلَه الله تعالى لي دون المؤمنين بقوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الآية كهيئة ما وقع فيه السهمان"، فكانت أموال بني النضير من صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جعلها حبيسًا لنوائبه، وكانت له خاصة، فأعطى مَنْ أعطى منها، وحبس ما حبس. ولما تحول - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء هجرته من بني عمرو بن عوف إلى المدينة، تحول المهاجرون معه، فتنافست فيهم الأنصار -رضي الله عنهم- أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان، فما نزل أحد من المهاجرين على أحد من الأنصار إلا بقرعة بينهم، فكان المهاجرون في دور الأنصار وأموالهم، فلما غنم - صلى الله عليه وسلم - بني النضير، دعا ثابتَ بنَ قيس بن شماس، فقال: "ادعُ لي قومَكَ"، قال ثابت: الخزرج يا رسول الله؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأنصار كلها"، فدعا الأوسَ والخزرجَ، فتكلم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فحَمِدَ الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثمَّ ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إياهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على أنفسهم، ثمَّ قال: "إن أحببتم، قسمتُ بينكم وبينَ المهاجرين ما أفاء الله عليَّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هُمْ عليه من السُّكنى في مساكِنِكم وأموالِكم، وإن أحببتم، أعطيتهم، وخرجوا من دورِكم، ورَدُّوا عليكم أموالَكم". فتكلم سعدُ بنُ عبادة، وسعدُ بنُ معاذ -رضي الله عنهما، وجزاهما الله خيرًا-، فقالا: يا رسول الله! بل تقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار -رضي الله عنهم-: رضينا وسلَّمنا يا رسول الله.

فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم ارحم الأنصار، وأبناءَ الأنصار". فقسم - صلى الله عليه وسلم - ما أفاء الله تعالى عليه من أموال بني النضير، فأعطى المهاجرين، ولم يعط أحدًا من الأنصار من ذلك الفيء شيئًا، إلا رجلين كانا محتاجين: سهلَ بنَ حُنيف، وأبا دجانة، وأعطى سعدَ بنَ معاذ - رضي الله عنه - سيفَ أبي الحقيق، وكان سيفًا له ذِكْر عندهم (¬1). وذكر البلاذري في "فتوح البلدان": أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار: "ليس لإخوانكم من المهاجرين أموال"، وذكر نحو ما تقدم، وأجابوه بنحو ما تقدم، قال: فنزل قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬2) [الحشر: 9]. وروى الآجري في كتاب "الشريعة" عن قيس بن أبي حازم، قال: قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: جزاكم الله يا معشرَ الأنصار خيرًا، فوالله! ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال الغنوي -وهو بالغين المعجمة والنون-: [من الطويل] جَزَى اللهُ عَنَّا جَعْفَرًا حِين أَزْلَقَتْ ... بِنا نَعْلُنا في الواطِئِينَ فَزَلَّتِ أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونا وَلَوْ أَنَّ أُمَّنَا ... تُلَاقي الَّذِي يَلْقَوْنَ مِنَّا لَمَلَّتِ (¬3) والله الموفق. ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الواقدي في "مغازيه" كما عزاه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (3/ 441). (¬2) انظر: "فتوح البلدان" للبلاذري (1/ 21). (¬3) رواه الآجري في "الشريعة" (1107).

الحديث الرابع عشر

الحديث الرابع عشر عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-، قَالَ: أَجْرَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما ضُمِّرَ مِنَ الخَيْلِ مِنَ الحَفْياءِ إِلَى ثَنِيةِ الوَداعِ، وَأَجْرَى ما لَمْ يُضَمَّر مِنَ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ. قَالَ ابنُ عُمَرَ: وَكنتُ فِيمَنْ أَجْرَى. قَالَ سُفْيانُ: مِنَ الحَفْياءِ إلَى ثَنِيَّةِ الوَداعِ: خَمْسَةُ أَمْيالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَمنْ ثَنِيَّةِ الوَداعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ: مِيلٌ (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (410)، كتاب: المساجد، باب: هل يقال: مسجد بني فلان، و (2713)، كتاب: الجهاد والسير، باب: السبق بين الخيل، واللفظ له، و (2715)، باب: غاية السبق للخيل المضمرة، و (6905)، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض على اتفاق أهل العلم، ومسلم (1870)، كتاب: الإمارة، باب: المسابقة بين الخيل وتضميرها، وأبو داود (2575)، كتاب: الجهاد، باب: في السبق، والنسائيُّ (3583)، كتاب: الخيل، باب: غاية السبق التي لم تضمر، و (3584)، باب: إضمار الخيل للسبق، والترمذي (1699)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في الرهان والسبق، وابن ماجه (2877)، كتاب: الجهاد، باب: السبق والرهان. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 254)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (5/ 137)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 188)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 284)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 700)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 14)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق =

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبد الله بن) أمير المؤمنين (عمرَ -رضي الله عنهما- قال: أجرى)؛ أي: أمر بالإجراء والمسابقة (النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ما ضُمِّر)، والإضمار والتضمير: أن يظاهر على الخيل بالعلف حتى تسمَنَ، ثمَّ لا تُعْلَف إلا قوتًا لتخفَّ، وقيل: تُشَدُّ عليها سروجُها وتُجَلَّلُ بالأَجِلَّةِ حتى تعرقَ تحتَها، فيذهبَ دهنُها، ويشتدَّ لحمُها (¬1). ويقال: تضمير الخيل: أن تدخل في بيت، ويُنقص من علفها، وتُجلل حتى يكثر عرقه، فينقص لحمُه ليكون أقوى لجريه. وقيل: ينتقص علفه، ويجلل بجلٍّ مبلول (¬2)، فلهذا أجرى -عليه السلام- ما ضمر (من الخيل من الحفياء) -بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء ممدودًا-. قال في "المطالع": وضبطه بعضهم -بضم الحاء والقصر-، وهو خطأ (¬3)، انتهى. وفي "القاموس": الحفياء، وتقصر، ويقال بتقديم الياء: موضع بالمدينة (¬4)، انتهى. (إلى ثنية الوداع) أصل الثنية: الطريق في الجبل. ¬

_ = (4/ 239)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1702)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 361)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 71)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 158)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 70)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 238). (¬1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 99). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 159). (¬3) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 220). (¬4) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1646)، (مادة: حفي).

قال في "المطالع": ومنه ثنية الوداع، قال: والثنية أيضًا: على مسيل من رأس الجبل، وأما إضافتها إلى الوداع، فاختلف فيه، فقيل: لأنه موضع وداع المسافرين من المدينة إلى مكة، وقيل: لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ودَّع بها بعض من خلفه بالمدينة في آخر خرجاته، وقيل: في بعض سراياه المبعوثة عنه، وقيل: الوداع اسمُ وادٍ بمكة، حكاه ابن المظفر، وزعم أن نساء المدينة قلنه في رجزهم عند لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح. قال في "المطالع": وهذا قلب للمعلوم المشهور من أن نساء المدينة ارتجزنه عند ورود النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهو اسم قديم جاهلي لهذه الثنية؛ لأنه موضع للتوديع كما تقدم (¬1)، انتهى. وفي كلامه نظر يظهر بالتأمل. (وأجرى) -عليه الصلاة والسلام-؛ أي: أمرَ بإجراء (ما لم يُضمر) من الخيل (من الثنية) المذكورة، وهي ثنية الوداع (إلى مسجد بني زُريق) -بضم الزاي-، والنسبة زُرقي، وزريق هو ابن عبد حارثة بن ثعلبة بن مالك بن غَضْب -بفتح الغين وسكون الضاد المعجمتين- بن جُشَم -بضم الجيم وفتح الشين المعجمة- بن الخزرج الأكبر (¬2). (قال) أبو عبد الرحمن عبدُ الله (بنُ عمر) -رضي الله عنهما-: (وكنتُ) أنا (فيمن أجرى) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي لفظ: كان ابن عمر ممن سابق فيها (¬3). (قال سفيان) كما في "البخاري" -يعني: ابن عُيينة-: (من الحفياء إلى ¬

_ (¬1) وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 136). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (4/ 159). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2715).

ثنية الوداع خمسةُ أميال، أو ستة) أميال (ومن مسجد بني زُريق إلى ثنية الوداع ميلٌ). قال موسى بن عقبة: من الحفياء إلى ثنية الوداع ستة أميال، أو سبعة. وقد أجمع العلماء على جواز المسابقة بلا عوض. قال علماؤنا: تجوز المسابقة بلا عوض على الأقدام، وبين سائر الحيوانات من إبل وخيل وبغال وحمير وفيلة وطيور، حتى حَمام، وبين سفن ومزاريق ونحوها، ومجانيق، ورمي أحجار بيد، ومقاليع، ويكره كلُّ ما يسمى لعبًا، إلا ما كان مُعينًا على قتال العدو، فيكره لعب بأرجوحة. وكلام الشيخ تقي الدين يقتضي تحريم اللعب بالطاب والنقلية. وقال أيضًا: كلُّ فعل أفضى إلى محرم كثيرًا، حرمه الشَّارع إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة؛ لأنه يكون سببًا للشر والفساد. وقال أيضًا: ما ألهى وشغل عما أمر الله به، فهو منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه؛ كبيع وتجارة ونحوهما. وأما اللعب بآلة الحرب، فمستحب، وليس من اللهو المحرَّم ولا المكروه تأديبُ فرسِه، وملاعبتُه أهلَه، ورميُه عن قوسه. وأما اللعب بالنرد والشطرنج، فلا يباح بحال، وهي بالعوض أَحْرَمُ. وأما المسابقة بعوض، فلا تجوز على معتمد المذهب إلا في الخيل والإبل والسهام بشروطها المذكورة في كتب الفقه (¬1). وحكي عن مالك المنعُ؛ لأنه قمار. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 541 - 542).

واختلف العلماء في المسابقة على الأقدام بعوض. فمذهب أحمد، ومالك: عدم الجواز، وهو منصوص الشافعي أيضًا. ومذهب أبي حنيفة: يجوز، وهو وجه عند الشافعية (¬1). وحجة من منع: حديثُ أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: "لا سَبْقَ إلا في خُفٍّ أو حافِرٍ أو نَصْل"؛ أي: لا يسوغ أخذُ السبق الذي هو العِوَضُ المجعولُ في المسابقة إلا في الثلاثة المذكورة، والحديث رواه الإمام أحمد، وأصحاب "السنن" الأربع، إلا أن ابن ماجه لم يذكر فيه: "أو نصل" (¬2). وروى الإمام أحمد من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بالخيل، وراهن (¬3). وفي لفظ له: سابق بين الخيل، وأعطى السابق (¬4). وروى الإمام أحمد عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّه قيل له: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أكان - صلى الله عليه وسلم - يراهن؟ قال: نعم، والله! لقد راهن على فرس يقال له: سبحة، فسبق الناس، فابتشَّ لذلك وأعجبه (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 318). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 474)، وأبو داود (2574)، كتاب: الجهاد، باب: في السبق، والنسائيُّ (3585)، كتاب: الخيل، باب: السبق، والترمذي (1700)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في الرهان والسبق، وابن ماجه (2878)، كتاب: الجهاد، باب: السبق والرهان. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 67). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 91). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 160).

وروى الإمام أحمد، والبخاري عن أنس - رضي الله عنه -، قال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة تسمى العَضْباء، وكانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قَعود له، فسبقَها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: سُبقت العضباءُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ حَقًّا على الله أَلَّا يرفعَ شيئًا من الدنيا إلا وَضَعَهُ" (¬1). تنبيه: يشترط لإباحة أخذ الرهن على مسابقة الخيل والإبل خمسة شروط: الأول: تعيينُ المركوبين بالرؤية، وتساويهما في ابتداء العدو وانتهائه، لا تعيينُ الراكبينِ. الثاني: كونُ المركوبين من نوع واحد، فلا يصح بين عربيٍّ وهَجينٍ. الثالث: تحديدُ المسافة والغاية بما جرت به العادةُ. الرابع: كونُ العوضِ معلومًا بالمشاهدة، أو بالقدر، أو بالصفة، ويجوز أن يكون حالًّا ومؤجلًا، وبعضه حالًّا، وبعضه مؤجلًا. الخامس: الخروج عن شبهة القمار بأَلَّا يُخْرِجَ جميعُهم، فإن أخرجا معًا، لم يَجُزْ، وكان قمارًا؛ لأنَّ كل واحد لا يخلو عن أن يغنم أو يغرم، وسواء كان ما أخرجاه متساويًا، أو متفاوتًا، إلا بمحلل لا يُخرج شيئًا، ويكفي واحد، ولا تجوز الزيادة عليه، تكافىء فرسُه فرسيهما، أو بعيرُه بعيريهما، فإن سبقهما، أحرزَ السبقين، وإن سبقاه، لم يأخذا منه شيئًا، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 103)، والبخاري (6136)، كتاب: الرقاق، باب: التواضع.

وإن سبق أحدهما، أحرز السبقين، وإن سبق معه المحلل، أحرز السابق مال نفسه. وسَبْقُ المسبوقِ بين المحلِّلِ والسابق نصفين. وإن جاء الغاية دفعة واحدة، أحرز كل واحد منهما سبق نفسه، ولا شيء للمحلل (¬1). ولم يعتبر شيخ الإسلام محللًا، وقال: كون السبق من كل واحد منهما أولى بالعدل من كون السبق من أحدهما، وأبلغُ في تحصيل مقصود كل منهما، وهو بيان عجز الآخر. وقد انتصر تلميذه الإمام المحقق لهذا في كتابه "الفروسية"، وأجلب عليه من الأدِلَّة وأطنب، وأتى من الاستدلال لذلك ما يقضي له بالعجب (¬2)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 542 - 544). (¬2) انظر: "الفروسية" لابن القيم (ص: 164)، وما بعدها.

الحديث الخامس عشر

الحديث الخامس عشر وَعَنْهُ، قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنا ابنُ أَربَعَ عَشْرَةَ سَنةً، فَلَمْ يُجِزْني، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَأَنا ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجازَني (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2521)، كتاب: الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم، و (3871)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، ومسلم (1868)، كتاب: الإمارة، باب: بيان سن البلوغ، وأبو داود (2957)، كتاب: الخراج، باب: متى يفرض للرجل في المقاتلة، و (4406)، كتاب: الحدود، باب: في الغلام يصيب الحد، والنسائيُّ (3431)، كتاب: الطلاق، باب: متى يقع طلاق الصبي، والترمذي (1361)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في حدّ بلوغ الرجل والمرأة، و (1711)، كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في حدّ بلوغ الرجل ومتى يفرض له، وابن ماجه (2543)، كتاب: الحدود، باب: من لا يجب عليه الحد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 280)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 696)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 12)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 240)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1706)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 277)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 240)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 57)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (5/ 370).

ما أشار إليه بقوله: (وعنه)؛ أي: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، (قال: عُرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم -) لأخرجَ للجهاد وقتال الكفار (يوم أحد) -بضم الهمزة والحاء والدال المهملتين-. قال ياقوت في "معجمه": هو جبل أحمر ليس بذي شناخب، بينه وبين المدينة أقل من فرسخ، وهو في شمالها (¬1). وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في أحد: "هذا جبل يُحِبُّنا ونُحِبُّهُ" رواه الشيخان وغيرُهما من حديث أنسٍ (¬2)، وغيرِه. وقال - صلى الله عليه وسلم - عنه: "إنه ركنٌ من أركانِ الجنةِ" رواه الطبراني من حديث سهل بن سعد (¬3)، وقال: "إنه على باب من أبواب الجنة" (¬4). قال ياقوت: وهو اسمٌ مرتَجَل لهذا الجبل (¬5). وقال السهيلي: يسمى أُحدًا؛ لتوحُّده وانقطاعه عن جبال أُخر هناك، أو لِما وقع لأهله من نصرة التوحيد (¬6)، والمراد: الواقعةُ المشهورة في أُحد، وكانت في شوال سنة ثلاث من الهجرة باتفاق الجمهور. ¬

_ (¬1) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (1/ 109). (¬2) رواه البخاري (2732)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الخدمة في الغزو، ومسلم (1393)، كتاب: الحج، باب: أحد جبل يحبنا ونحبه. (¬3) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (5813)، وكذا أبو يعلى في "مسنده" (7516). (¬4) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6505)، من حديث عبد المجيد بن أبي عبس بن جبر، عن أبيه، عن جده. (¬5) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (1/ 109). (¬6) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (3/ 240، 242).

وقال في "الفتح": كانت الوقعة لإحدى عشرةَ ليلة خلت في شوال نهار السبت. قال الإمام مالك: أول النهار. وشذّ من قال: سنة أربع (¬1). (وأنا) يومئذٍ (ابنُ أربع عشرة سنة)؛ أي: كَمُلَ لي من السن منذ ولدت ذلك، (فلم يُجزني) - صلى الله عليه وسلم -، بل رَدَّني. قال الإمام الشافعي فيما نقله الشيخ نجم الدين القَمُولي -بفتح القاف وضم الميم- في "بحره" (¬2): إنه - صلى الله عليه وسلم - رد يومئذٍ سبعةَ عشرَ شابًا عُرضوا عليه، وهم أبناء أربع عشرة سنة؛ لأنه لم يرهم بلغوا، وعرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة، فأجازهم. انتهى (¬3). وهم: عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، ورافع بن خديج، وأُسيد بن ظُهير -بضم الهمزة، وأبوه بضم الظاء المعجمة-، وعَرابة بن أوس -بفتح العين المهملة وتخفيف الراء والموحدة-، ووقع عند بعضهم: أوسُ بن عَرابة، والصواب الأول، وأبو سعيد الخدري، وأوسُ بن ثابت الأنصاري، وسعد بن بَحِيرة -بفتح الموحدة وكسر الحاء المهملة-، قاله الدارقطني، وقال ابن سعد: ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 346). (¬2) للإمام أحمد بن محمَّد أبي العباس القمولي المكي المخزومي الشافعي، المتوفى سنة (727 هـ) كتاب: "البحر المحيط في شرح الوسيط للغزالي"، ثم لخصه وسماه: "جواهر البحر" في ستة أجزاء. وانظر: "هدية العارفين" للبغدادي (1/ 55). (¬3) نقله الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 166).

-بضم الموحدة وفتح الجيم- بنُ معاويةَ البجليِّ حليف الأنصار، وهو سعد بن حَبْتَةَ -بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة فوقية مفتوحة فتاء تأنيث-، وهي أمه (¬1). ولما رآه يوم الخندق قاتل قتالًا شديدًا، فدعاه، ومسح على رأسه، ودعا له بالبركة في نسلهِ وولده، فكان عمًا لأربعين، وخالًا لأربعين [(¬2) وأبًا لعشرين، ومن ولده أبو يوسف القاضي -يعقوب صاحب الإمام أبي حنيفة-، وسعد بن عُقيب -وزان زبير-، وزيد بن جارية -بالجيم والمثناة التحتية-، وجابر بن عبد الله، وليس هو بالذي يروى عنه الحديث، وسمرة بن جندب (¬3). ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - أجاز رافعَ بن خَديِجِ لمَّا قيل له: إنه رام، فقال سمرة بن جندب لزوج أمه مُرَيِّ -بالتصغير- بن سنان: أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رافعَ بنَ خَديج، وردّني، وأنا أصرعه، فأعْلَم بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "تصارعا"، فصرع سَمُرَةُ رافعًا، فأجازه (¬4). وذَكرُوا النعمان بن بشير، ولا يصح ذلك، لأنه ولد في الثانية قبل أحد بسنة. وذكروا أيضًا أوس بن قَيْظِي -بفتح القاف وسكون التحتية وبالظاء ¬

_ (¬1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 52). (¬2) من قوله: "وأبًا لعشرين. . ." إلى قوله: "للفرس سهمان وللرجل" من الحديث السادس عشر، سقط من الأصل المحفوظ بالظاهرية، والاستدراك من النسخة "ب". (¬3) انظر: "الأنساب" للسمعاني (3/ 228). (¬4) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 219).

المعجمة المشالة-، وهذا معدود من المنافقين. قال عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: (وعرضت عليه)؛ أي: على النبي - صلى الله عليه وسلم - (يومَ) وقعة (الخندق) الذي خندق به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وعلى أصحابه من أعداء الله لما ساروا إليه، وهم الأحزاب، وكانوا عشرة آلاف، وكان الذي أشار بحفر الخندق سلمان الفارسي - رضي الله عنه -، قال: يا رسول الله! إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل، خندقنا علينا، فأعجبهم ذلك (¬1)، وأحبوا الثبات في المدينة، وأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجدِّ، ووعدهم النصرَ إن هم صبروا واتقوا، وأمرهم بالطاعة، ولم تكن العرب تُخنْدِقُ عليها. ثمَّ إنه - صلى الله عليه وسلم - ارتادَ له موضعًا ينزله، فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سَلْعًا الجبل خلفَ ظهره، ويخندق من المَذَادِ إلى ذُباب إلى راتج. فالمَذاد: أطمٌ بني حرام غربي مسجد الفتح -وهو بميم مفتوحة فذال معجمة فألف فدال مهملة-. والذِبَاب: -كغراب وكتاب-: اسم جبل بالمدينة. وراتِج: -براء فألف ففوقية مكسورة فجيم-: أطم سميت به الناحية. فعمل الصحابة في الخندق مستعجلين يبادرون قدوم العدو عليهم، واستعاروا آلة للحفر من بني قريظة، ووكل - صلى الله عليه وسلم - بكل جانب من الخندق قومًا يحفرونه، فكان المهاجرون من ناحية راتِج إلى ذباب، وكانت الأنصار يحفرون من ذباب إلى جبل أبي عبيدة. وتنافس المهاجرون والأنصار في سلمان -رضي الله عنه وعنهم ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ الطبري" (2/ 91)، و"السيرة الحلبية" للبرهان الحلبي (2/ 631)، و"فتح الباري" لابن حجر (7/ 392 - 393).

أجمعين-، وكان رجلًا قويًا، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سلمانُ مِنَّا أهلَ البيت" (¬1)، وكان سلمان يعمل عمل عشرة رجال، فعمل المسلمون في الخندق حتى أحكموه. قال محمَّد بن عمر الواقدي، وابن سعد: في ستة أيام، وكان بسطة أو نحوها. قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: (وأنا ابن خمس عشرة) سنة؛ أي: وسنِّي يوم الخندق المقدار المذكور. (فأجازني) يومئذ، ولم يردَّني. قال محمَّد بن عمر، عن أبي واقد الليثي - رضي الله عنه -، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض الغلمان، وهو يحفر الخندق، فأجاز من أجاز، وردَّ من رد، وكان الغلمان الذين لم يبلغوا يعملون معه، ولم يجزهم، ولكنه لما لحم الأمر، أمر من لم يبلغ أن يرجع إلى أهله إلى الآطام مع الذراري والنساء (¬2)، وممن أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب -رضي الله عنهم-، وهم أبناء خمس عشرة سنة. وكانت غزوة الخندق -كما قال ابن إسحاق ومتابعوه- في شوال. وقال محمَّد بن عمر، وابن سعد: في ذي القعدة (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 82 - 83)، من حديث كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده، به. (¬2) وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 393). (¬3) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 65).

قال الجمهور: سنة خمس. قال الإمام ابن القيم في "الهدي": إنه الأصح (¬1). قال الذهبي: وهو المقطوع به. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وهو المعتمد (¬2). وقال مالك: إنها كانت سنة أربع، وصححه النووي في "الروضة" (¬3)، وهو عجيب. واحتجوا بظاهر حديث ابن عمر هذا؛ ولا حجة فيه؛ لاحتمال أن يكون ابن عمر في أُحُد كان هو أول ما طعن في الرابعة عشرة، وكان في الأحزاب قد استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي، وقد بيّن البيهقي سبب هذا الاختلاف: وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة، ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول (¬4)، وعلى ذلك جرى الحافظ يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى، وأن غزوة أحد كانت في الثانية، والخندق كانت في الرابعة (¬5)، وهذا عمل صحيح على ذلك البناء، لكنه بناء واهٍ، مخالف لما عليه الجمهور من جَعْلِ التاريخ من المحرم سنة الهجرة، وعلى هذا تكون بدر في الثانية، وأحد في الخامسة، وهو المعتمد (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3/ 269). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 393). (¬3) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (10/ 207). (¬4) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 56). (¬5) انظر: "المعرفة والتاريخ" ليعقوب بن سفيان (3/ 285). (¬6) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 393).

تنبيه: قال علماؤنا: على الإمام أو الأمير أن يمنع صبيًا لم يشتد من الخروج للقتال (¬1). ومفهومه: أنه يأذن لمن اشتد من الصبيان، وكأنهم أخذوا ذلك من إجازته - صلى الله عليه وسلم - لرافع بن خديج، وسمرة بن جندب -كما تقدم آنفًا-، وصرح به الإمام الموفق في "المغني" (¬2)، وابن أخيه في "شرح المقنع" (¬3)، وصحح في "الإنصاف" وغيره: أنه يمنع الصبي (¬4)، وقدمه في "الفروع"، قال: وذكره جماعة. قال: وفي "المغني" و"الكافي" و"البلغة" وغيرهما طفلًا (¬5)، وهذا ظاهر كلام الإمام مالك؛ فإنه قال: إذا المراهق أطاق القتال، وأجازه الإمام، كمّل له السهم، وإن لم يبلغ. وقالت الشافعية: له -أي: الإمام- أو نائبه الاستعانةُ بمراهق بإذن وليه (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 83). (¬2) انظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 166). (¬3) انظر: "شرح المقنع" لابن أبي عمر (10/ 426). (¬4) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (4/ 142). (¬5) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 192). (¬6) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 286).

الحديث السادس عشر

الحديث السادس عشر وَعَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: قَسَمَ في النَّفَلِ: لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّجُلِ سَهْمًا (¬1). * * * ما أشار إليه بقوله: (وعنه)؛ أي: عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم النفل: للفرس سهمين) من الغنيمة، (و) قسم (للرجل ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2708)، كتاب: الجهاد، باب: سهام الفرس، و (3988)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (1762) كتاب: الجهاد والسير، باب: كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين، واللفظ له، وأبو داود (2733)، كتاب: الجهاد، باب: في سهمان الخيل، وابن ماجه (2854)، كتاب: الجهاد، باب: قسمة الغنائم. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 308)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 92)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 558)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 83)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 241)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1708)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 67)، و"عمدة القاري" للعيني (14/ 154)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 58)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 115).

سهمًا) واحدًا منها، ولم يذكر في رواية: النفل (¬1). وقال البخاري: يوم خيبر (¬2)، وقال في آخر: للفرس سهمين، ولصاحبه سهما (¬3)، ولم يقل: في النفل، قال: وفسره نافع، قال: إذا كان مع الرجل فرس، فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن له فرس، فله سهم (¬4). وروى الإمام أحمد، وأبو داود من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: له سهم، ولفرسه سهمان (¬5). وفي لفظ: أسهم للفرس سهمين، وللرجل سهمًا، متفق عليه (¬6). وفي لفظ: أسهم يوم حنين للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان، وللرجل] (¬7) سهم، رواه ابن ماجه (¬8). وأخرج الإمام أحمد عن المنذر بن الزبير، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه أعطى الزبير سهمًا، وأمه سهمًا، وفرسه سهمين (¬9). ¬

_ (¬1) وإنما هي لمسلم فقط، كما نبه عليه الحافظ الإشبيلي في "الجمع بين الصحيحين" (3/ 29)، حديث رقم (3034). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3988). (¬3) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2708). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (3988). (¬5) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 41)، وتقدم تخريجه عند أبي داود برقم (2733). (¬6) لم يخرجه الشيخان في "صحيحيهما" بهذا اللفظ، وهو لابن ماجه برقم (2854) -كما تقدم-. (¬7) إلى هنا ينتهي الخرم المُشار إليه سابقًا من النسخة الظاهرية. (¬8) تقدم تخريجه برقم (2854). (¬9) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 166).

وفي لفظ: ضرب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ خيبر للزبير أربعةَ أسهم: سهمًا للزبير، وسهمًا لذي القربى لصفية أم الزبير، وسهمينَ للفرس، رواه النسائي (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إني جعلتُ للفرس سهمين، وللفارس سهمًا، فمن نقصَهُما، نقصهُ اللهُ" رواه الدارقطني من حديث أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه (¬2) -. وعن خالد الحذاء، قال: لا يختلف فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "للفارس ثلاثةُ أسهُمٍ، وللراجل سهمٌ" رواه الدارقطني (¬3). والأحاديث في هذا كثيرة جدًا، وبه قال جمهور العلماء محتجين بهذه الأحاديث وأضعافها مما لم نذكره، منهم: إمامنا الإمام أحمد، والإمام مالك، والشافعيُّ، وبه قال محمَّد بن الحسن، وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: لا يُسهم للفارس إلا سهم واحد، ولفرسه سهمٌ، واحتج بحديث فيه الواقدي عن المقداد بن عمرو - رضي الله عنه -: أنه كان يوم بدر على فرس يقال له: سبحة، فأسهم له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سهمين: لفرسه سهم واحد، وله سهم. رواه الطبراني (¬4). قال في "التوضيح": خالف أبو حنيفة عامةَ العلماء قديمًا وحديثًا، ¬

_ (¬1) رواه النسائي (3593)، كتاب: الخيل، باب: سهمان الخيل. (¬2) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 101). (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 107). (¬4) لم أقف عليه عند الطبراني. وقد رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (659).

فقال: لا يسهم للفرس إلا سهم واحد، وقال: أكره أن أفضل بهيمةً على مسلم. وخالفه أصحابه، فبقي وحده. وقال ابن سحنون: انفرد أبو حنيفة بذلك دون فقهاء الأمصار. واحتج البدر العيني للإمام أبي حنيفة بظاهر قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]، قال: فإنَّه يقتضي المساواة بين الفارس والراجل، وهو خطاب لجميع الغانمين، وقد شملهم هذا الاسم. قال: وما ورد مما تقدم محمول على وجه التنفيل (¬1)، انتهى. ولا يخفى بعدُ هذا الحمل، وما في استدلاله بالآية الكريمة من النظر الواضح الذي لا يخفى على آحاد العلماء، فضلًا عن أئمتهم. تنبيه: الفرسُ الذي يستحقُّ السهمين إنما هو العربي، ويسمى: العتيق، وهو الرابع الكريم، والعربُ تسمي كل شيء بلغ الغاية في الجودة: عتيقًا. وأما إن كان الفرس هجينًا، وهو ما أبوه عربي وأمه غيرُ عربية، أو مقرفًا، وهو عكس الهجين، أو بِرْذَوْنًا، وهو ما أبواه نبطيان، فله سهم واحد، ولفارسه سهم، على الصحيح المعتمد. ومعتمد مذهبنا: لا يُسهم لأكثر من فرسين مع فارس واحد، ولا لغير خيل (¬2). وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعيُّ: لا يُسهم لأكثرَ من فرس واحد، ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 155). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 102 - 103).

واتفقوا أنَّه لا يسهم لغير الخيل على المعتمد. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعيُّ: الهجين كالعتيق. إلا أن مالكًا يشترط إجازة الإمام. وكذلك قولهم في المُقْرِف، والبِرْذَون (¬1). وقول الليث كقول إمامنا: يسهم للفرسين، وكذا قال الأوزاعي، والثوري، وأبو يوسف، وإسحاق. وهو قول ابن وهب، وابن الجهم من المالكية. قال ابن المناصف: أول من أسهمَ للبرذون سهمه رجلٌ من همدان يقال له: المنذر الوادعي، فكتب بذلك إلى عمر - رضي الله عنه -، فأعجبه، فجرت سنة للخيل والبراذين، وفي ذلك يقول الشاعر: [من الطويل] وَمِنّا الَّذِي قَد سَنَّ في الْخَيْلِ سُنَّةً ... وَكانَتْ سَواءً قَبْلَ ذاكَ سِهامُها وروى أبو داود في المراسيل عن مكحول: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هَجَّنَ الهجينَ يوم خيبر، وعَرَّبَ العربيَّ، للعربيِّ سهمان، وللهجين سهمٌ (¬2). وقال الحافظ الإشبيلي: وروي موصولًا عن مكحول، عن زياد بن جارية، عن حبيب بن مسلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، والمرسَلُ أصحُّ. وقال ابن المناصف: وروي أيضًا عن الحسن، وبه قال الإمام أحمدُ بن حنبل. انتهى. ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 278). (¬2) رواه أبو داود في "المراسيل" (287). (¬3) رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (1/ 171)، وتمام الرازي في "فوائده" (2/ 174).

وقال ابن حزم: للراجل وراكب البغل والحمار والجمل سهمٌ واحد فقط، وهو قول مالك، والشافعيُّ. قال: وقال أحمد: لراكب البعير سهمان، انتهى (¬1). قلت: وهذا مرجوح في مذهب الإمام أحمد. قال في "الفروع": ولا شيء لغير خيل. وعنه؛ أي: الإمام أحمد: لراكب بعير سهمٌ. وعنه عند عدم غيره. واختار جماعة: يسهم له مطلقًا، منهم: أبو بكر، والقاضي، وظاهر كلام بعضهم: كفرس، وقيل: له ولفيلٍ سهمُ هجين، انتهى (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 155 - 156). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 215).

الحديث السابع عشر

الحديث السابع عشر وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خاصَّةً سِوَى قَسْمِ عامَّةِ الجَيْشِ (¬1). * * * ما أشار إليه بقوله: (وعنه)؛ أي: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفِّلُ) هذه تقتضي كثرةَ وقوع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - (بعض من يبعث) لجهاد أعداء الله تعالى (من السرايا) جمعُ سرية. وتقدَّم أنها اسمٌ لطائفة من الجيش تُبعث إلى العدو (لأنفسهم) متعلِّق بـ: ينفل (خاصَّة) يختصون به (سوى) سهامهم التي يستحقونها كـ (قسم) ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2966)، كتاب: الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، ومسلم (1750/ 40)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الأنفال، وأبو داود (2746)، كتاب: الجهاد، باب: في نفل السرية تخرج من العسكر. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (2/ 310)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (6/ 58)، و"شرح مسلم" للنووي (12/ 56)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 243)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1713)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 239)، و"عمدة القاري" للعيني (15/ 60)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 108).

غيرهم من (عامة الجيش) بل كل واحد منهم يساوي كل واحد من الجيش، ويُزادون على غيرهم بالنفل الذي كان ينفِّلُهم به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. والنَّفْل -بالسكون، وقد يحرك-: الزيادة على السهم يعطيه الإمام أو نائبه لمصلحة. قال علماؤنا: يجوز أن ينفل سرية من جيشه تُغير أمامه بالربع فأقلَّ بعد الخمس، أو خلفه إذا قفل بالثلث فأقل بعده؛ أي: بعد الخمس (¬1). قال في "الفروع": ولا يعدل شيءٌ عند الإمام أحمد الخروجَ في السرية مع غلبة السلامة؛ لأنه أنكى، وأن يجعل لمن عمل ما فيه غَناء جُعلًا كمن نقب، أو صعد هذا المكان، أو جاء بكذا، فله من الغنيمة، أو منه كذا، ما لم يجاوز ثلث الغنيمة بعدَ الخمس، نص عليه الإمام أحمد (¬2). وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن حبيب بن سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل الربعَ بعدَ الخمس في بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته (¬3). وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل في البدأة الربعَ، وفي الرجعة الثلثَ (¬4). وفي رواية عند الإمام أحمد: كان إذا أغار في أرض العدو، نفل الربعَ، ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (6/ 212). (¬2) المرجع السابق، (6/ 212 - 213). (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 160)، وأبو داود (2750)، كتاب: الجهاد، باب: فيمن قال: الخمس قبل النفل. (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 319)، والترمذي (1561)، كتاب: السير، باب: في النفل، وابن ماجه (2852)، كتاب: الجهاد، باب: النفل.

وإذا أقبل راجعًا وكُلَّ الناسِ نفل الثلثَ. وكان يكره الأنفال، ويقول: "ليردَّ قويُّ المؤمنين على ضعيفهم" (¬1). وقيل: إن النفل من خمس الخمس، وهذا مقتضى كلام الفقهاء غيرِ أصحابنا. والأحاديث مصرِّحة بأن النفلَ من أصل الغنيمة بعدَ الخمس الذي لله ورسوله ولذي القربى؛ كما في الآية الكريمة. قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية": للإمام أن ينفِّل من ظَهَرَ منه زيادةُ نكاية؛ كـ: سريةٍ سرت من الجيش، أو رجلٍ صَعِد على حصن ففتحه، أو حمل على مقدَّم العدو فقتله، فهزم العدو، ونحو ذلك؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءَه كانوا ينفِّلون لذلك، وكان - صلى الله عليه وسلم - ينفل السرية في البدأة الربعَ بعدَ الخمس، وفي الرجعة الثلثَ بعدَ الخمس. قال: وهذا النفل قال بعض العلماء: إنه يكون من الخمس. وقال بعضهم: إنه يكون من خمس الخمس؛ لئلا يفضل بعض الغانمين على بعض. قال: والصحيح: أنَّه يجوز من أربعة أخماس الغنيمة، وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض لمصلحة دينية، لا لهوى النفس؛ كما فعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - غيرَ مرةٍ. قال: وهذا قول فقهاء الثغر، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم، وعلى هذا فقد قيل: له أن ينفل الربعَ والثلثَ بشرطٍ وغيرِ شرطٍ، وينفل الزيادة على ذلك بالشرط؛ بأن يقول: من دَلَّني على قلعة، فله كذا، وقيل: ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 323).

لا ينفل زيادةً على الثلث، ولا ينفِّلُه إلا بالشرط. قال: وهذان قولان للإمام أحمد وغيرِه. قال: وكذلك على القول الصحيح للإمام أن يقول: من أخذ شيئًا، فهو له (¬1)، انتهى. قال الإمام صدرُ الوزراء ابنُ هبيرة: إذا قال الإمام: من أخذ شيئًا، فهو له، فأبو حنيفة يقول: هو شرط صحيح يجوز للإمام أن يشرطه، إلا أن الأولى أَلَّا يفعل. وقال مالك: يكره له ذلك. وقال الشافعي: ليس بشرط لازم، في أظهر القولين عنه. وقال أحمد: هو شرط صحيح، وهو من الخُمس، لا من أصل الغنيمة (¬2)، انتهى. قلت: الذي استقر عليه مذهب الإمام أحمد - رضي الله عنه -: أنَّه يحرم قول الإمام: من أخذ شيئًا، فهو له، ولا يستحقه، وقيل: يجوز لمصلحة، ويجوز تفضيل بعض الغانمين على بعض؛ لغَناء فيه؛ كشجاعة ونحوها، وإلا حرم (¬3)، والله تعالى الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 31 - 32). (¬2) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 281). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (2/ 103).

الحديث الثامن عشر

الحديث الثامن عشر عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنا السِّلَاحَ، فَلَيْسَ مِنَّا" (¬1). * * * (عن أبي موسى عبد الله بن قيس) الأشعريِّ (- رضي الله عنه -)، وتقدمت ترجمته في باب: السواك، (عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: من حمل علينا السلاح) لقتالنا، (فليس) هو (مِنَّا)؛ أي: على طريقتنا وتمام شريعتنا؛ لما في ذلك من إدخال الرعب على المسلمين؛ بخلاف ما إذا حمله لحفظهم وحراستهم؛ فإنَّه يحمله لهم لا عليهم. ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري: (6660)، كتاب: الفتن، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حمل علينا السلاح، فليس منا"، ومسلم (100)، كتاب: الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حمل علينا السلاح، فليس منا"، والترمذي (1459)، كتاب: الحدود، باب: ما جاء فيمن شهر السلاح، وابن ماجه (2577)، كتاب: الحدود، باب: من شهر السلاح. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 245)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 375)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 107)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 245)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1715)، و"فتح الباري" لابن حجر (13/ 24)، و"عمدة القاري" للعيني (24/ 186).

وأطلق اللفظ على احتمال إرادة: أنَّه ليس على الملة؛ للمبالغة في الزجر والتخويف، أو على من استحل ذلك (¬1). وقد ورد هذا الحديث من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، رواه مالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وغيرهم مرفوعًا (¬2). وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يُشِر أَحَدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنَّه لا يدري لعلَّ الشيطانَ يَنْزِعُ في يده، فيقعُ في حفرةٍ من النار" (¬3). ومعنى "يَنْزِع في يده" -بالعين المهملة وكسر الزاي-: أي: يرمي، وروي -بالمعجمة مع فتح الزاي-، ومعناه أيضًا: يرمي ويفسد، وأصلُ النزع: الطعن والفساد (¬4). وفي "مسلم" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضًا، قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "من أشار إلى أخيه بحديدةٍ، فإن الملائكةَ تلعَنُه، حتى وإنْ كان أخا لأبيه وأمه" (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (12/ 197). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 3)، والبخاري (6480)، كتاب: الديات، باب: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} [المائدة: 32]، ومسلم (98)، كتاب: الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حمل علينا السلاح، فليس منا". ولم أقف عليه عند الإمام مالك في "الموطأ"، والله أعلم. (¬3) رواه البخاري (6661)، كتاب: الفتن، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حمل علينا السلاح، فليس منا"، ومسلم (2617)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم. (¬4) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 319)، عقب حديث (4249). (¬5) رواه مسلم (2616)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم.

ولا ريب أن المحاربين وقطاعَ الطريق الذين يعترضون الناسَ بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوا المال مجاهرة؛ من الأعراب، أو التركمان، أو الأكراد، وفسقة الفلاحين، أو فسقة الجند، أو مردة الحاضرة، أو غيرِهم. وقد روى الإمام الشافعي في "مسنده" في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قطاع الطريق: إذا قَتَلوا وأخذوا المال، قُتلوا وصلبوا، وإذا قَتَلوا ولم يأخذوا المال، قُتلوا ولم يُصلبوا، وإذا أخذوا المالَ ولم يقتلوا، قُطعت أيديهم وأرجلُهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالًا، نُفوا من الأرض (¬1). وهذا قول كثير من أهل العلم؛ كالشافعي، وأحمد، وهو قريب من قول أبي حنيفة. ومن العلماء من يسوغ للإمام أن يجتهد فيهم، فيقتل من رأى قتلَه مصلحةً منهم، وإن كان لم يقتل؛ مثل أن يكون رئيسًا مُطاعًا فيهم، ويقطع من رأى قطعه مصلحةً، وإن كان لم يأخذ المال، والأولُ قول الأكثر. فمن كان من المحاربين قد قتل، فإنَّه يتحتَّم على الإمام قتلُه حَدًّا، ولا يجوز العفو عنه بحال، بإجماع العلماء؛ كما ذكره ابن المنذر، وشيخ الإسلام ابن تيمية في "السياسة الشرعية"، فلا يكون أمره إلى ورثة المقتول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا -يعني: قتلَ القاتل من قطاع الطريق- ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

متفقٌ عليه بين الفقهاء، حتى ولو كان المقتول غيرَ مكافىء للقاتل (¬1). قال: والصواب الذي عليه جماهير المسلمين: أن من قاتل على أخذ الأموال بأي نوع كان من أنواع القتال، فهو محارِبٌ قاطعٌ، كما أن من قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع كان، فهو حربي، ومَنْ قاتل الكفارَ من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو عصي، فهو مجاهد في سبيل الله تعالى (¬2)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "السياسة الشرعية" لشيخ الإِسلام ابن تيمية (ص: 66 - 67). (¬2) المرجع السابق، (ص: 71 - 72).

الحديث التاسع عشر

الحديث التاسع عشر وَعَنْهُ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الرَّجُلِ يُقاتِلُ شَجاعَةً، وَيُقاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقاتِلُ رِياءً، أَيُّ ذَلِكَ في سَبِيلِ اللهِ؟ فَقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قاتَلَ لِتكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيا، فَهُوَ في سَبِيلِ اللهِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (123)، كتاب: العلم، باب: من سأل وهو قائم عالمًا جالسًا، و (2655)، كتاب: الجهاد والسير، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، و (2958)، كتاب: الخمس، باب: من قاتل للمغنم، هل ينقص من أجره؟ و (7020)، كتاب: التوحيد، باب: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171]، ومسلم (1904/ 149 - 151)، كتاب: الإمارة، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، وأبو داود (2517)، كتاب: الجهاد، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، والنسائيُّ (3136)، كتاب: الجهاد، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، والترمذي (1646)، كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا، وابن ماجه (2783)، كتاب: الجهاد، باب: النية في القتال. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (7/ 150)، و"المفهم" للقرطبي (3/ 742)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 49)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 246)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1717)، و"فتح الباري" لابن حجر (6/ 28)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 196)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 43)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 32).

ما أشار إليه بقوله: (وعنه)؛ أي: عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، (قال سئل) -بضم السين المهملة على صيغة ما لم يُسم فاعله- (رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -) مرفوع نائب الفاعل. وفي لفظ: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وفي آخر: جاء أعرابي (¬2). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": ظاهره أن القائل هو أبو موسى، ويحتمل أن يكون من دونه (¬3). قال العيني: رواية: جاء أعرابي تدلُّ على وهم ما وقع عند الطبراني: عن أبي موسى: أنَّه قال: يا رسول الله! وذكره (¬4)؛ فإن أبا موسى، وإن جاز أن يُبهم نفسه، لكن لا يصفها بكونه أعرابيًا. قال: وقيل: هذا الأعرابي يصلح أن يفسر بلاحق بنِ ضمرة. وحديثه عند أبي موسى المديني في "الصحابة" من طريق عفير بن معدان: سمعت لاحقَ بنَ ضميرةَ الباهلي، قال: وفدتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألته عن الرجل يلتمسُ الأجرَ والذكرَ، فقال: "لا شيء له" الحديث، وفي إسناده ضعف (¬5). وروى أبو داود، والنسائيُّ من حديث أبي أمامة بإسناد جيد، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله! أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكرَ، ماله؟ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (123، 2655، 7020). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2958)، وعند مسلم برقم (1904/ 149). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 222). (¬4) لم أقف عليه عند الطبراني، والله أعلم. (¬5) انظر: "عمدة القاري" للعيني (14/ 108).

قال: "لا شيء له"، فأعادها ثلاثًا، كُلَّ ذلك يقول: "لا شيء له"، ثمَّ قال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم - "إن الله لا يقبلُ من العمل إلا ما كان له خالِصًا، وابتُغي به وجهُه" (¬1). (عن الرجل يقاتل شجاعة) هي مَلَكَة تقتضي شدةً في القلب، وقوة في البأس، والشُّجاع؛ كسحاب، وكتاب، وغُراب، وأمير، وكتف: الشديد القلب عند البأس (¬2)، (ويقاتل حمية)؛ أي: لأجل الحمية؛ يعني: أنفًا وغضبًا، يقال: حَمِي أنفُه (¬3)، (ويقاتل رياء) وسمعة. وفي رواية: "ليرى مكانه" (¬4)؛ أي: مرتبته في الشجاعة (أيُّ: ذلك) المذكور [من] القتال يكون (في سبيل الله)؟ (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) مجيبًا للسائل بكلمة جامعة في غاية البلاغة والإيجاز، وهي من جوامع كلمِه - صلى الله عليه وسلم -: (من قاتل) الكفارَ (لتكونَ كلمةُ الله)، وهي دعوة الله تعالى إلى الإِسلام؛ يعني: كلمة التوحيد (هي العليا، فهو في سبيل الله). وفي لفظ في "الصحيحين" و"السنن" الأربعة من حديث أبي موسى أيضًا - رضي الله عنه -: الرجلُ يقاتل للمغنم، والرجلُ يقاتل للذكر، ¬

_ (¬1) رواه النسائي فقط (3140)، كتاب: الجهاد، باب: من غزا يلتمس الأجر والذكر. ولم يروه أبو داود كما ذكر الشارح -رحمه الله-، وهو في ذلك تبع المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 23 - 24)، وعنه أخذ -رحمه الله-. (¬2) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 945)، (مادة: شجع). (¬3) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 201). (¬4) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2655، 2958)، وعند مسلم برقم (1904/ 149).

والرجلُ يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من قاتل" الحديث (¬1). ويحتمل أن يكون المراد: أنَّه لا يكون في سبيل الله إلا مَنْ كان سببُ قتاله طلبَ إعلاء كلمة الله فقط؛ بمعنى أنَّه لو أضاف إلى ذلك سببًا من الأسباب المذكورة، أخلَّ بذلك. ويحتمل أَلَّا يخل إذا حصل ضمنًا، لا أصلًا ومقصودًا، وبذلك صرح الطبري، فقال: إذا كان أصلُ الباعث هو الأول، لا يضره ما عرض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور، ويحمل ما مر من حديث أبي أمامة على من قصد الأمرين معًا، أو يقصد أحدَهما صرفًا، أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضِمْنًا، فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمنًا، وقد لا يحصل، ففيه مرتبتان. قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إن كان الباعثُ الأولُ قصدَ إعلاء كلمة الله، لم يضرَّه ما انضاف إليه. ويدلُّ على أن دخولَ غيرِ الإعلاء ضمنًا لا يقدح في الإعلاءِ إذا كان الإعلاءُ هو الباعثَ الأصليَّ: ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة: قال: بعثَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنمْ شيئًا، فقال: "اللهمَّ لا تَكِلْهُمْ إِلَيَّ" الحديث (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2655، 2958)، وعند مسلم برقم (1904/ 149). (¬2) رواه أبو داود (2535)، كتاب: الجهاد، باب: في الرجل يغزو يلتمس الأجر والغنيمة.

واشتمل طلبُ إعلاء كلمة الله على طلب رضاه وثوابه، وطلبِ دَحض أعدائه، وكُلُّها متلازمة. وحاصل ما ذكر يرجع إلى أن منشأ القتال القوةُ العقلية، والقوةُ الغضبية، والقوةُ الشهوانية، وليس في سبيل الله إلا الأول. وقال ابن بطال: إنما عدل - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك إلى لفظ جامع، فأفاد رفعَ الإلباس، وزيادةَ الإفهام. وفيه: بيان أن الأعمال إنما تُحسب بالنية الصالحة، وأن الفضلَ الذي ورد في المجاهدين يختصُّ بمن ذُكر. وفيه: جوازُ السؤال عن العلة، وتقدمُ العلم على العمل (¬1). لطيفة: ذكر ابنُ عرب شاه في "تاريخ تمرلنك" الذي أنشأه، وابنُ الشحنة في "تاريخه": أن تمرلنك لما أخذ حلب الشهباء، واستأصل أهلَها قتلًا وأسرًا ونهبًا، وذلك سنة ثمان مئة وثلاث في شهر ربيع الأول، قال ابن الشحنة: لما كان يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول، صَعِد تمرلنك لقلعة حلب، وآخرَ النهار طلب علماءها وقضاتها. قال: فحضرنا إليه، فأوَقَفنا ساعةً، ثمَّ أمر بجلوسنا، وطلب مَنْ معه من أهل العلم، فقال لأميرهم عنده، وهو المولى عبدُ الجبار بنُ العلامةِ نُعمانِ الدينِ الحنفيّ، ووالده من العلماء المشهورين بسمرقند: قُلْ لهم: إني سائلُهم عن مسألة سألتُ عنها علماءَ سمرقند وبخارى وهراةَ وسائر البلاد التي افتتحتُها، فلم يفصحوا عن الجواب، فلا تكونن مثلهم، ولا يجاوبني ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 28 - 29).

إلا أعلمُكم وأفضلُكم، وليعرفْ ما يتكلَّم به؛ فإني خالطتُ العلماء، ولي بهم اختصاص وأُلفة، ولي في العلم طلب قديم. قال: وكان يبلغنا عنه أنَّه يتعنت العلماء في الأسئلة، ويجعلُ ذلك سببًا لقتلهم أو تعذيبهم. فقال القاضي شرفُ الدين الأنصاري الشافعي: هذا شيخُنا، ومدرس هذه البلاد ومفتيهًا، سلوه، وبالله المستعان. فقال لي عبد الجبار: سلطانُنا يقول: إنه بالأمس قُتل منا ومنكم، فمن الشهيدُ، قتيلنُا أم قتيلُكم؟. فقلنا في أنفسنا: هذا الذي يبلغنا عنه من التعنت. وسكتَ القوم، ففتحَ اللهُ عليَّ بجواب سريع بديع، وقلت: هذا سئل عنه سيدنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأجاب عنه، وأنا مجيبٌ بما أجاب به سيدُنا رسولُ الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. قال لي القاضي شرفُ الدين الأنصاري بعد أن انقضت الحادثة: والله العظيم! لما قلتَ: هذا سؤالٌ سُئل عنه سيدُنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأجاب عنه، وأنا محدث يا مولانا هذا عالمنا قد اختل عقله، وهو معذور، فإن هذا السؤال لا يمكن الجواب عنه في هذا المقام، ووقع في نفس عبد الجبار مثلُ ذلك. وألقى تمرلنك إليَّ سمعَه وبصرَه، وقال لعبد الجبار: سله كيف سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا، وكيف أجاب؟ قلت: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! الرجلُ يقاتل حَمِيَّةً، الحديث.

فقال تمرلنك: خوب، وقال عبد الجبار: ما أحسن ما قلت! ومعنى خوب: جيد (¬1)، والله الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "عجائب المقدور في نوائب تيمور" لابن عربشاه (ص: 48).

كتاب العتق

كتاب العتق قال أهل اللغة: العِتْقُ: الحرية؛ يقال: عتق يعتق عِتقًا -بكسر العين وفتحها- عن صاحب "المحكم" (¬1) وغيره، وعتاقًا وعتاقة، فهو عتيق، وعاتق، حكاها الجوهري (¬2). وفي "القاموس" العِتْق -بالكسر-: الكرم، والجمال، والنجابة، والشرف، والحرية، و-بالضم-: جمع عتيق (¬3). وفي "شرح البخاري" للعيني: العتق لغةً: القوة؛ من عتق الطائر: إذا قوي على جناحيه (¬4). انتهى. وفي "المطلع": قال الأزهري: هو مشتق من قولهم عتق الفرس: إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ: إذا طار واستقل؛ لأنَّ العبد يتخلص بالعتق، ويذهب حيث شاء (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "المحكم" لابن سيده (1/ 100)، (مادة: عتق). (¬2) انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1520)، (مادة: عتق). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 117)، (مادة: عتق). (¬4) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 76). (¬5) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" للأزهري (ص: 427).

والعتق شرعًا: تحريرُ الرقبة وتخليصها من الرق (¬1). والرقُّ عجز حُكميٌّ سببه الكفر. قال في "المطلع": إنما قيل لمن أعتق نسمة: إنه أعتق رقبةً، وفكَّ رقبةً، وقول الفقهاء: تحرير الرقبة، فخصت الرقبة دون سائر الأعضاء، مع أن العتق يتناول الجميع؛ لأنَّ حكم السيد عليه وملكه له كحبل في رقبته، وكالغُل المانع له من الخروج، فإذا أعتق، فكأن رقبته أُطلقت من ذلك (¬2). قال العلماء: والعتقُ من أفضل القُرَب، والأصلُ فيه قبلَ الإجماع قولُه تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13]، وخبر "الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّما رجلٍ أعتقَ امْرَأً مسلِمًا، استنقذَ اللهُ بكلِّ عضوٍ منه عضوًا منه من النار" (¬3)، حتى الفَرج بالفرج. قال علماؤنا: أفضلُ الرقاب أَنْفَسُها عندَ أهلها، وأَغلاها ثمنًا، وعتقُ الذكرِ ولو لأُنثى أفضلُ من عتق الأنثى، وهما في الفكاك من النار إذا كانا مؤمنين سواء (¬4). واختلف فيما إذا كان النصرانيُّ أو اليهوديُّ أو غيرُهما أكثرَ ثمنًا من المسلم. فقال مالك: عتق الأغلى أفضل، وإن كان غيرَ مسلم. ¬

_ (¬1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 253). (¬2) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 314). (¬3) رواه البخاري (2381)، كتاب: العتق، باب: ما جاء في العتق وفضله، ومسلم (1509)، كتاب: العتق، باب: فضل العتق. (¬4) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 253).

وقال أصبغ: عتقُ المسلم أفضلُ (¬1). قال في "الفروع": ولعله -أي: كون عتق المسلم أفضل- مرادُ أحمدَ، لكن يثُاب على عتقِ غير المسلم (¬2). وصريحُ العتق: لفظُ عتق، وحرية، كيف صرفا، غيرَ أمرٍ ومضارع واسم فاعل. ويقع من هازل، لا نائم. وكناياته: خَلَّيْتُكَ، والحقْ بأهلك، وفككتُ رقبتك، وأنت مولاي (¬3)، ونحوها كما في كتب الفقه. فائدة: أعتق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا وستين نَسَمَةً، وعاش ثلاثًا وستين سنةَ، وأعتقت عائشة -رضي الله عنها- تسعًا وستين، وعاشت كذلك، وأعتق عبدُ الله بنُ عمرَ ألفًا، وأعتق حكيمُ بنُ حزام مئة في الجاهلية، ومئة في الإِسلام مطوَّقين بالفضة، وأعتق ذُو الكلاع الحِمْيَرِيُّ في يوم ثمانيةَ آلاف، وأعتق عبدُ الرحمن بنُ عوف ثلاثين ألفًا -رضي الله عنهم- (¬4)، والله الموفق. وذكر الحافظ المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث: ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 80). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 57). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 254 - 255). (¬4) نقله الصنعاني في "سبل السلام" (4/ 139)، عن "النجم الوهاج لشرح المنهاج للنووي" للدميري المتوفى سنة (808 هـ).

الحديث الأول

الحديث الأول عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِركًا لَهُ في عَبْدٍ، فَكانَ لَهُ مالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدلٍ، فَأَعْطَى شُرَكاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ العَبْدُ، وَإلا، فَقَد عَتَقَ مِنْهُ ما عَتَقَ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2359)، كتاب: الشركة، باب: تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل، و (2369)، باب: الشركة في الرقيق، و (2385 - 2389)، كتاب: العتق، باب: إذا أعتق عبدًا بين اثنين، أو أمةً بين الشركاء، و (2415)، باب: كراهية التطاول على الرقيق، ومسلم (1501)، كتاب: العتق، وأبو داود (3940، 3943)، كتاب: العتق، باب: فيمن روى أنَّه لا يستسعي، والنسائيُّ (4698)، كتاب: البيوع، باب: الشركة بغير مال، و (4699)، باب: الشركة في الرقيق، والترمذي (1346)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه، وابن ماجه (2528)، كتاب: العتق، باب: من أعتق شركًا له في عبد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (6/ 92)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 97)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 309)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 135)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 249)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1723)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 152)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 51)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 207).

(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ عمرَ -رضي الله عنهما-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعتق شِركًا له في عبد). وفي رواية في "الصحيحين": "من أعتق عبدًا بين اثنين" (¬1)، والشِّركُ -بكسر الشين المعجمة-: النصيب، (فكان له)؛ أي المعتِق (مالٌ يبلغ ثمنَ العبد) الذي أعتقَه. وفي لفظ: "فكان له ما يبلغ" (¬2)؛ أي شيءٌ يبلغ، وإنما قيد بقوله: "يبلغ"؛ لأنه إذا كان له مال لا يبلغ ثمنَ العبد، لا يقوم عليه مطلقًا؛ يعني: عند بعض أهل العلم، ومنهم الحنفية. ومعتمد مذهبنا كالشافعية: أن العتق يسري إلى القدر الذي هو موسر به، فتفيد العتق بحسب الإمكان، وهو قول مالك أيضًا. والمراد بقوله: ثمن العبد؛ أي: ثمن بقيته؛ لأنه موسر بحصته (¬3). وقد أوضح ذلك النسائي في رواية عن نافع، عن ابن عمر، بلفظ: "وله مالٌ يبلغُ قيمةَ أَنْصِباءِ شركائِه، فإنَّه يضمَنُ لشركائِه أنصباءَهم، ويعتقُ العبدُ" (¬4)، والمراد بالثمن هنا: القيمة، (قُوِّمَ) على صيغة المجهول (عليه)؛ أي: الذي أعتقَ نصيبَه (قيمةَ عدلٍ)، وهو أَلَّا يُزاد على قيمته، ولا يُنقص. وفي رواية لمسلم والنسائيُّ: "قُوِّمَ عليه قيمةَ عدلٍ لا وَكْسَ ولا شَطَطَ" (¬5)، والوَكْس -بفتح الواو وسكون الكاف، وبالسين المهملة-: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2385). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2359). (¬3) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 153). (¬4) رواه النسائي في "السنن الكبرى" (4951). (¬5) رواه مسلم (1501/ 50)، (3/ 1287)، كتاب: الأيمان، باب: من أعتق شركًا =

النقص، والشطط: الجور (¬1)، (فأعطى) الذي باشرَ العتقَ (شركاءه) كذا في رواية الأكثرين أن لفظ "أَعْطَى" علي بناء الفاعل، و"شركاءَه" بالنصب على المفعولية. وروي "فأُعطي" على صيغة المجهول، و"شركاؤه" بالرفع نائب فاعل (¬2) (حصصهم)؛ أي: قيمتها (وعَتَقَ عليه) أي: على المعتِق (العبدُ)، وفهم من كونه يعتق عليه: أن ولاءه له دون غيره. وسواء كان العبد والشركاء مسلمينَ أو كافرينَ، أو بعضُهم مسلمًا وبعضهم كافرًا، فلو أعتقه الشريكُ بعد ذلك، ولو قبل أخذِ القيمة، أو تصرَّفَ فيه، لم ينفذ، وإن اختلفوا في القيمة، رجع إلى قول المقوِّمين، فإن كان العبد المعتَق قد مات، أو غاب، أو تأخر تقويمُه زمنًا تختلف فيه القيمُ، ولم يكن بَيِّنة، فالقولُ قولُ المعتِق؛ لأنه غارم، وإن اختلفوا في صناعة في العتيق توجب زيادةَ القيمة، فقول المعتِق، إلا أن يكون العبدُ يحسن الصناعة في الحال، ولم يمض زمن يمكن تعلُّمها فيه، فقول الشريك، كما لو اختلفوا في عيب ينقصه (¬3)، (وإلا) بأن لم يكن للمعتِق مالٌ يبلغُ قيمةَ باقي العبد؛ بأن لم يكن موسرًا، (فقد عتقَ منه)؛ أي: من العبد (ما)؛ أي: نصيبُه الذي (عتق)، دون نصيب شريكه؛ لعدم إيساره بقيمته. وبهذا الحديث قال ابنُ أبي ليلى، ومالك، والثوري، والشافعيُّ، ¬

_ = له في عبد، والنسائيُّ في "السنن الكبرى" (4942). (¬1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 138). (¬2) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 153). (¬3) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 257).

وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن في أن وجوب الضمان إنما هو في الموسِرِ خاصة، دون المعسِرِ؛ لقوله: "وإلا فقد عتق منه". وقال زفر من الحنفية: يضمنُ قيمةَ شريكه، موسِرًا كان أو معِسرًا، أو يخرج العبد كلُّه حرًا؛ لأنه جنى على مال غيره، فوجب عليه ضمانُ ما أتلف بجنايته، ولا يفترق الحكم فيه بالإيسار والإعسار (¬1)، وهذا قياس مع النص، فلا يُعَوَّل عليه، وأيضًا هو قياس منظور فيه. والأحاديث في هذا كثيرة جدًا. وفي "البخاري" عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنَّه كان يُفتي في العبد أو الأَمَة يكون بين شركاء، فيعتق أحدُهم نصيبه منه، يقول: قد وجب عليه عتقه إذا كان للذي أَعتقَ من المال ما يبلغ أن يُقَوَّم من ماله قيمةَ العدل، ويَدفع إلى الشركاء أنصباءهم، ويخلِّي سبيلَ المعتَق، يخبر بذلك ابنُ عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال أبو حنيفة: إذا كان المعتِق موسِرًا، فالشريكُ بالخيار، إن شاء أعتق، والولاء بينهما، وإن شاء استسعى العبدَ في نصف القيمة، فإذا أداها، عتق، والولاء بينهما نصفين، وإن شاء ضمن المعتِقُ نصفَ القيمة، فإذا أداها، عتق، ورجع بها المضمن على العبد، فاستسعاه فيها، وكان الولاء للمعتق، وإن كان المعتق معسِرًا، فالشريك بالخيار، إن شاء أعتق، وإن شاء استسعى العبدَ في نصف قيمته، فأيّهما فعل، فالولاء بينهما نصفين. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 83). (¬2) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (2389).

وحاصل مذهب أبي حنيفة: أنَّه يرى تجزيء العتق، وأن يسار المعتِق لا يمنعُ السعاية (¬1). قال ابن مفلح في "فروعه" في تعليل العتق على المذهب، قال: للخبر، ولأن الرق لا يتجزأ؛ كنكاح، فلو قال إمام لأسير: أرقيت نصفك، لم يصح (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 82 - 83). (¬2) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 63).

الحديث الثاني

الحديث الثاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ مَمْلُوكٍ، فَعَلَيهِ خَلَاصُه في مالِهِ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مالٌ، قُوِّمَ المَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدلٍ، ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ" (¬1). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه البخاري (2360)، كتاب: الشركة، باب: تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل، و (2370)، كتاب: الشركة، باب: الشركة في الرقيق، و (2390)، كتاب: العتق، باب: إذا أعتق نصيبًا في عبد وليس له مال، ومسلم (1503/ 3 - 4)، كتاب: العتق، باب: ذكر سعاية العبد، وأبو داود (3937 - 3938)، كتاب: العتق، باب: من ذكر السعاية في هذا الحديث، والترمذي (1348)، كتاب: الأحكام، باب: ما جاء في العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه، وابن ماجه (2527)، كتاب: العتق، باب: من أعتق شركًا له في عبد. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 69)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 98)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 310)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 137)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 256)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1740)، و"فتح الباري" لابن حجر (5/ 156)، و"عمدة القاري" للعيني (13/ 54)، و"سبل السلام" للصنعاني (4/ 140)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 208).

(عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: مَنْ) أَيُّ بالغ عاقلٍ راشدٍ (أعتق شِقْصًا)، وهو -بكسر الشين المعجمة وسكون القاف فصاد مهملة-: السهم، والنصيب؛ أي: أعتق نصيبه (من مملوك) له فيه شريك فأكثر، (فعليه)؛ أي: المعتِقِ (خلاصُه) من الرق بإعتاق باقيه (في ماله) إن كان له مالٌ يفي بعتق جميعِ بقيته، وإن كان موسِرًا ببعضه، يعتق بقدره؛ كما نص عليه الإمام أحمد، وتقدم. وهذا الحديث يقتضي أن نصيب شريكه إنما يعتق بدفع قيمته؛ كمذهب أبي حنيفة، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية بينهما، فعليه: لو أعتق شريكُه نصيبَه قبلَ الدفع: أنه يعتق عليه، ويكون ولاؤه بينهما. ولنا فيه وجهان: أصحهما: الذي قدمناه أولًا: أنَّه يعتق جميعُه لمجردِ عتقِ الموسرِ لنصيبه، ولشريكه نصفُ قيمته، قاله الإمام أحمد، لا النصف (¬1). تنبيه: قال في "المغني": المعتبر في الإيسار في هذا الباب: أن يكون له فضلٌ عن قوت يومه وليلته، وما يحتاج إليه من حوائجه الأصلية؛ من الكسوة والمسكن وسائرِ ما لابدَّ له منه؛ كما ذكره الإمام أحمد في رواية ابن منصور، وهو قول الإمام مالك. وقال الإمام أحمد: لا يباعُ فيه دار، ولا رباع، ومقتضى ذلك: أَلَّا يباع له أصل مال. ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 63).

وقال مالك، والشافعيُّ: يباع عليه سِوارُ بنته، وما لَهُ مالٌ من كسوته (¬1). انتهى. قال العلامة ابنُ نصر الله في "حواشي الكافي": ومقتضى هذا اشتراط كفاية يومه وليلته اعتبار ذلك بزكاة الفطر؛ فلا يعتبر كون ذلك فاضلًا عن وفاء دينه، إلا أن يكون مطالبًا له. ولو كان مالُه غائبًا عن بلد العِتْق، فهل يسري عتقه؟ قال ابن نصر الله: لم أر فيه نصًا. قال: والظاهرُ عدمُ السراية، ودليلُه: المشتري إذا كان الثمن غائبًا، فللبائع الفسخُ. وظاهر الحديث: السراية؛ لقوله فيه: "فكان له مال يبلغ ثمن العبد"، وهذا مالَهُ مالٌ يبلغُ ذلك. ولم يفرق في الحديث بين كونِ ماله حاضرًا، أو غائبًا. انتهى (¬2). (فإن لم يكن له)؛ أي: المُعْتِقِ الشقصَ (مال)؛ بأن كان معسرًا، عتق نصيبه الذي أعتقه فقط، و (قُوِّمَ) بالبناء للمجهول (المملوكُ) بالرفع نائب الفاعل (قيمةَ عدلٍ) لا نقصَ فيها ولا جَوْرَ، (ثمَّ اسْتُسْعِيَ) المملوكُ؛ أي: كَلَّفه من العمل ما يؤدِّي به بقيةَ قيمةِ نفسه ليعتقَ به ما بقي. يقال: سعى سعيًا؛ كرمى: قصد، وعمل، ومشى، وأسعاه: جعله يسعى، والسعاية -بالكسر-: ما كلف من ذلك العمل (¬3) (غيرَ مشقوق)؛ ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" لابن قدامة (10/ 285). (¬2) وانظر: "الإنصاف" للمرداوي (7/ 405 - 406). (¬3) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1670)، (مادة: سعي).

أي: غيرَ مضيَّق (عليه)، بحيثُ لا يوقعه في المشقة مما يصعُب عليه ويُجهضه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - شفيق رفيق، وقد أوصى بالمملوك خيرًا. فعلى مقتضى هذا الحديث: أنَّه إذا كان المعتق معسِرًا، عتقَ كلُّه، أما نصيبُ المعتِق، فبإعتاقه له، وأما باقيه، فيعتق أيضًا؛ لأنَّ الحرية كالرق لا تتجزأ. ويُلزم العبدُ بالاستسعاء في قيمة بقيته، فيدفعها لمالكه، وهو رواية أبي داود عن الإمام أحمد، نصر هذا القول في "الانتصار"، واختاره أبو محمَّد الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية. وفي كونه قبلَ أداء قيمةِ باقيه كحرٍّ أو معتَقٍ بعضُه وجهان: أصحهما على القول بالاستسعاء: أن حكمَه حكمُ الأحرار، فلو مات وبيده مال، كان لسيده ما بقي من السعاية فقط، والباقي إرث، ولا يرجع العبد على أحد، قدمه في "الرعاية". وقال الزركشي: هو ظاهر كلام الأكثرين، وصوبه في "الإنصاف". والوجه الثاني اختاره أبو الخطاب في "الانتصار"، وقدمه ابن رزين في "شرحه" (¬1). قال البدر العيني: وعند أبي يوسف، ومحمد: يسعى العبدُ في نصيب شريكه الذي لم يعتق إذا كان المعتِقُ معسرًا، ولا يرجع على العبد شيء. قال: وهو قول الشعبي، والحسن البصري، والأوزاعي، وسعيد بن المسيب، وقتادة، واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة المذكور. انتهى (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (5/ 64). (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 82).

قال الإمام موفق الدين في "الكافي": والأول -يعني: أنه إن كان الشريك المعتِقُ موسرًا، عتق، وإلا لم يعتق منه إلا نصيبُه، ويكون باقيه رقيقًا يقاسم السيدُ العبدَ في كسبه؛ لأنه مُبَعَّض، أو يخدمه يومًا، ويخلَّى لنفسِه يومًا -أصحُّ من القول بعتقه كلِّه في حال إعسار المعتِق لبعضِه، وإلزامِه بالاستسعاء. قال: لأنَّ خبر ابن عمر -رضي الله عنهما- أصحُّ، ولأن الإحالة على السعاية إحالةٌ على وهم، وفيه ضرر بالعبد بإجباره على الكسب من غير اختياره. انتهى (¬1). تنبيه: حديثُ ابن عمر رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬2)، وغيرهم، وقد تعددت طرقُه، وتباينت مخارجُه، وأفتى به ابن عمر. وقد روى الإمام أحمدُ عن إسماعيلَ بنِ أميةَ، عن أبيه، عن جده، قال: كان له غلام يقال له: طهمان، أو ذكوان، فأعتقَ جدُّه نصفَه، فجاء العبدُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعتق في عِتْقِكَ، وترقُّ في رِقِّكَ"، قال: فكان يخدم سيدَه حتى مات (¬3). وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، فرواه الإمام أحمد (¬4)، ¬

_ (¬1) انظر: "الكافي" لابن قدامة (2/ 577). (¬2) كما تقدم تخريجه عندهم. (¬3) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 412). (¬4) رواه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 426).

والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه (¬1)، لكنه ضعفه الإمام أحمد وغير واحد من الحفاظ؛ لانفراد سعيد بن أبي عروبة بزيادة الاستسعاء عن قتادة وغيره، ومشاهيرُ أصحاب قتادة لم يذكروا الاستسعاء؛ كشعبةَ، وهشامٍ الدستوائيِّ، وهمّام، وهم أقعد في قتادة، وذكر همام: أن ذكر الاستسعاء من فتيا قتادة، لا من الحديث (¬2). وفي حديث ابن عمر من رواية الدارقطني زيادة ليست في غيره، وهي: "وإلَّا فقد عتقَ عليه ما عتق، ورقّ ما بقي" (¬3). فعلى كل حال: مذهبُ الجمهور على مقتضى حديث ابن عمر، والله الموفق. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عندهم. (¬2) انظر: "عمدة القاري" للعيني (13/ 55). (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 123).

الحديث الثالث

الحديث الثالث عَنْ جابرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-، قَالَ: دَبَّرَ رَجلٌ مِنَ الأَنْصارِ غُلَامًا لَهُ (¬1). وَفِي لَفْظٍ: بَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصحابِهِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مالٌ غَيْرُهُ، فَباعَهُ بِثَمانِ مِئَةِ دِرهَمٍ، ثُمَّ أَرسَلَ ثَمَنَهُ إلَيْهِ (¬2). ¬

_ (¬1) * تَخْرِيج الحَدِيث: رواه مسلم (997/ 59)، (3/ 1289)، كتاب الأيمان، باب: جواز بيع المدبر، وابن ماجه (2513)، كتاب: العتق، باب: المدبر. (¬2) رواه البخاري (6763)، كتاب: الأحكام، باب: بيع الإمام على الناس أموالَهم وضياعَهم، ومسلم (997/ 58)، (3/ 1289)، كتاب: الأيمان، باب: جواز بيع المدبر، وأبو داود (3957)، كتاب: العتق، باب: في بيع المدبر، والنسائيُّ (2546)، كتاب: الزكاة، باب: أي الصدقة أفضل، و (4652 - 4653)، كتاب: البيوع، باب: بيع المدبر، و (5418)، كتاب: آداب القضاة، باب: منع الحاكم رعيته من إتلاف أموالهم وبهم حاجة إليها. * مصَادر شرح الحَدِيث: "معالم السنن" للخطابي (4/ 75)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (5/ 444)، و"المفهم" للقرطبي (4/ 358)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 141)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (4/ 263)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (3/ 1743)، و"فتح الباري" لابن حجر (4/ 421)، و"عمدة القاري" للعيني (11/ 260)، و"سبل السلام" للصنعاني (3/ 9)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (6/ 212).

(عن) أبي عبد الله (جابرِ بنِ عبدِ الله) الأنصاريِّ الخزرجيِّ (-رضي الله عنهما-، قال: دَبَّرَ) من التدبير، وهو أن يعلِّق عتقَ عبده بموته؛ لأنه يعتق بعد ما يدبره سيده، والممات دبر الحياة، يقال: أعتقه عن دُبُر؛ أي: بعد الموت، ولا يستعمل في كل شيء بعد الموت من قضية وقف وغيره، فهو لفظ خُصَّ به العتقُ بعد الموت (¬1). وفي لفظ: أعتق (رجل من الأنصار). قال النوويّ: يقال له: أبو مذكور (¬2)، ونقله ابن بشكوال عن رواية مسلم (¬3)، (غلامًا له)، وهو يعقوب القبطي. (وفي لفظ) من حديث جابر عندهما: (بلغَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رجلًا من أصحابه)، وهو أبو مذكور (أعتق غلامًا له) قبطيًا مات في إمارة ابن الزبير (عن دُبُرٍ) من حياته. (ولم يكن له)؛ أي: لأبي مذكور (مالٌ غيرُه)، أي: غير يعقوبَ القبطيِّ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يشتريه مني؟ "، فاشتراه نعيم بن عبد الله -رضي الله عنهما-، (فباعه) له النبي - صلى الله عليه وسلم - (بثمان مئة درهم)، الظاهرُ: بالدراهم البغلية، أو الطبرية؛ لأنَّ الدراهم كانت مختلفة: بغلية: منسوبة إلى ملك يُقال له: رأس البغل، كلُّ درهم ثمانية دوانق. وطبرية: منسوبة إلى طبريا الشام، كل درهم أربعةُ دوانق، فجمعوا ¬

_ (¬1) انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 315 - 316). (¬2) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 141). (¬3) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 474 - 475).

الوزنين، وهما اثنا عشر، وقسموها على الاثنين، فجاء الدرهم ستةَ دوانق، وأجمعَ أهل العصر الأول على هذا. قيل: كان ذلك في زمن بني أمية، وقيل: في زمن عمر، والأول أكثر وأشهر (¬1). (ثمَّ أرسل) النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثمنه)؛ أي ثمن ذلك العبد الذي دَبَّرَه، وهو القبطي؛ يعني: الثمان مئة درهم (إليه)؛ أي: إلى أبي مذكور المذكور. ونعيم المشتري هو ابنُ عبدِ الله بنِ أسد بنِ عبد يغوث القرشيُّ العدويُّ من ولد عديِّ بن كعب بن لؤي النحام، وسمي النحام؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "دخلتُ الجنةَ فسمعتُ نَحمَةً من نعيم" (¬2). والنّحمَة -بفتح النون وسكون الحاء المهملة وفتح الميم-: صوتٌ يخرج من الجوف، وهو السعلة، وقيل: النحنحة (¬3). ووقع في بعض طرق البخاري: نعيم بن النحام (¬4). قال القاضي عياض: والصواب إسقاط ابن (¬5). يقال: إنه أسلم بعد عشرة أنفس قبلَ إسلامِ عمرَ بن الخطّاب، وكان يكتُم إسلامه، ومنعه قومه لشرفه فيهم، ولأنه كان ينفق على آرامل بني عدي ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (3/ 131)، و"كشاف القناع" للبهوتي (2/ 229). (¬2) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 138)، والحاكم في "المستدرك" (5128). (¬3) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 29)، وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (5/ 166). (¬4) رواه البخاري (2284)، كتاب: الخصومات، باب: من رد أمر السفيه والضعيف العقل. (¬5) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 94).

وأيتامهم، ويمونهم، فقالوا: أقمْ عندنا على أي دين شئت، وأَقِمْ في رَبْعك، واكفِنا ما أنت كافٍ من أمر أراملِنا، فوالله! لا يتعرض لك أحد إلا ذهبتْ أنفسُنا جميعًا دونك. وزعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له حين قدم عليه: "قومُك يا نعيم كانوا خيرًا لكَ، من قومي لي". قال: بل قومُك يا رسول الله. قال: "قومي أخرجوني، وأقرك قومُك". زاد في رواية: فقال نعيم: يا رسول الله! قومك أخرجوك إلى الهجرة، وقومي حبسوني عنها. وكانت هجرة نعيم - رضي الله عنه - عامَ خيبر، وقيل: أيام الحديبية، وقيل: أقام بمكة إلى يوم الفتح، واستشهد بأجنادين سنة ثلاث عشرة في آخر خلافة الصديق. وقيل: يوم اليرموك في رجب سنة خمس عشرة في خلافة عمر -رضي الله عنهم أجمعين (¬1) -. تنبيهات: الأول: معتمد مذهب الإمام أحمد كمذهب الشافعي: القول بمضمون هذا الحديث من صحة بيع المُدَبَّر، ولو أمةً، ولو في غير دين، وله هبتُه، ووقفُه، وسواء كان التدبيرُ مقيدًا؛ كإن متُّ من مرضي هذا، فأنت حر، أو مطلقًا (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1507 - 1508). (¬2) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (12/ 187)، و"الإقناع" للحجاوي (3/ 268).

وقال أبو حنيفة: لا يصح بيعه إذا كان التدبير مطلقًا، وإن كان مقيدًا من سفر أو مرض بعينه، فبيعه جائز. وقال مالك: لا يجوز بيعه في حال الحياة، ويجوز بيعُه بعدَ الموت إن كان على السيد دَيْن، وإن لم يكن عليه دَيْن، وكان يخرج من الثلث، عَتَقَ جميعُه، وإن لم يحتملْه الثلث، عتقَ ما يحتملُه، ولا فرق عند مالك بين المطلق والمقيد (¬1). الثاني: يعتبر خروجُ المُدَبَّر من الثلث بعدَ الديون ومُؤَنِ التجهيز يومَ موت السيد، سواء دَبَّرَه في الصحة، أو في المرض. فإن لم يفِ الثلثُ بها، أو بولدها، أقرع بينهما، فأيهما خرجت القرعة له، عتقَ إن احتملت الثلث، وإلا عتقَ منه بقدره، فإن فضل من الثلث بعد عتقه شيء، كمل من الآخر. وإن اجتمع العتق والتدبير في المرض، قُدِّمَ العتقُ (¬2). الثالث: لو باع المدبرَ، أو زال ملكه عنه بنحو هبة مثلًا، ثمَّ عاد إلى ملكه، عاد التدبير بحاله؛ لأنه علّق العتق بصفة، فلم يبطل هذا التعليق بالبيع حيث عاد إلى ملكه؛ كالتعليق بدخول الدار (¬3). وعند الشافعية: لا يعود التدبير بعَوْده إلى ملكه (¬4)، والله سبحانه الموفق. ¬

_ (¬1) انظر: "الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 373). (¬2) انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 267). (¬3) المرجع السابق، (3/ 268). (¬4) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (12/ 194).

خاتمة الكتاب

قال شارحه العلامة الشيخ المحرر السفاريني: هذا آخر ما قصدت جمعه على عمدة الأحكام. وكان الفراغ من جمعه في نابلس المحمية لليلتين بقيتا من شعبان سنة سبع وستين ومئة وألف، وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة في اليوم الثالث عشر من ذي القعدة الحرام سنة تسع وستين ومئة وألف، أحسن الله ختامها (*). ¬

_ (*) جاء في آخر النسخة الخطية "ظ": "نقلت من مسودة بخط المؤلف -فسح الله في مدته-، وذلك بقلم العبد الفقير الراجي عفو ربه القدير، حسن بن السيد هاشم بن السيد عثمان بن السيد سليمان بن السيد حسن، الحنبلي، الجعفري، النابلسي، غفر الله له ولوالديه ولإخوانه المسلمين بمنه وكرمه، وصلَّى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم". وجاء في آخر النسخة الخطية "ب": "وكان الفراغ من كتابته على يد الفقير المعترف بذنبه عبدِه: محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن محمَّد النجدي الحنبلي، غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ومعلميه، ولمن دعا له بالمغفرة، ولكل المسلمين، في يوم السبت تاسع شهر رجب، سنة أربعين ومئتين وألف من الهجرة النبوية، والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على محمَّد".

§1/1