كتاب الفنون لابن عقيل

أبو الوفاء ابن عقيل

خطبة الكتاب في فضل علم الأصول وعلم الفقه

بسم الله الرحمن الرحيم والحمـ[ـــد لله حق] حمده وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم. أما بعد، فإن خير ما قطع به الوقت، وشغلت به النفس، فتقرب به إلى الرب -جلت عظمته - طلب علم أخرج من ظلمة الجهل إلى نور الشرع، واطلع به على عاقبة محمودة يعمل لها، وغائلة مذمومة يتجنب ما يوصل إليها. وليس ذلك إلا العلم الذي يصلح الاعتقاد ويخصله من الأهواء، ويصلح الأعمال ويصفيها من الأدواء. وهما علمان: علم الأصول، ومبناه على التأمل والاعتبار؛ وعلم الفقه، ومبناه على استخراج معاني الألفاظ الشرعية وأخذ الأحكام من المنطوق به للمسكوت عنه. وذلك الذي شغلت به نفسي وقطعت به وقتي. فما أزال أعلق ما استفيده من ألفاظ العلماء، ومن بطون الصحائف، ومن صيد الخواطر التي تنثرها المناظرات والمقابسات في مجالس العلماء ومجامع الفضلاء، طمعًا في أن يعلق بي طرف من الفضل أبعد به عن الجهل، لعلي أصل إلى بعض ما وصل [إليه] الرجال قبلي؛ ولو لم يك من فائدته عاجلًا إلى تنظيف الوقت عن الاشتغال برعونات الطباع التي تنقطع بها أوقات الرعاع. وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل.

شذرة وعظية [في شؤم المعاصي]

1 - شذرة وعظية ما أشد شؤم المعاصي! بينا يسمع قول الله لملائكته {اسجدوا لآدم}، حتى سمع النداء {اهبطوا منها جميعًا}! بينا يرفل في حلل من السندس والإستبرق، حتى طفق يخصف على عورته من الورق! وإذا أردت أن تتلمح القدر السابق، فانظر إلى قوله السابق: {إني جاعلٌ في الأرض خليفة}؛ -خليفة في الأرض، ما يصنع في الجنة؟ ساقته الكلمة السابقة والعلم السابق إلى المستقر: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}. 2 - جرى في مسألة عتق الكافر في كفارة الظهار قال ... المصرف مواعا: ومعلوم أن الكافر فيه سبب الرق وهو مصر عليه. وليس ((تملك المال بالكتابة بإجماع، ومن غير كتابة على أكثر المذاهب قول للشافعي وراوية عن أحمد. وذلك يزول بالعتق كما يزول حبس النكاح ورقه بالطلاق. وهو فك حجر مبني على التغلب والسراية. فمن هذا الوجه يصح أن يستعد له. قال: الطلاق حل لقيد. فهو كحل القيد المحسوس، لا يكون أخذًا بالقوة، بل القدرة مع القيد موجودة. ولذلك لا يقال للمقيد عاجز، بل مقيد. وهنا العتق إحداث قوة. لأن الرق جعل محله كسائر الأملاك. ولذلك جمع جزاء عن اكتساب إنشاء الأب للابن.

جرى بمجلس نور الهدى ذي الشرفين الزينبي مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب

3 - جرى بمجلس نور الهدى ذي الشرفين الزينبي مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب استدل فيها حنبلي فقال: الأمر بالمجمل والعموم مفيد قبل البيان فائدة مستقلة. وهي ما يحصل للمكلف من تلقي أمر الله سح بالتصديق والاعتقاد والالتزام وتوطين النفس على أداء الحق قل أو كثر. حتى إنه يعتقد أنه لو كان الحق إخراج تسعة أعشار المال، لأخرج؛ ولو كان الأمر بالذبح بذبح ولده، لذبح. فإذا وطن نفسه على ذلك، حصل له ثواب توطين النفس بعد الاعتقاد. فكان سبق هذا الاعتقاد وهذا العزم على الأشد يوفي على ثواب ما يحصل به البيان، ولعله يسير وقليل. فإذا جاء البيان بعد ذلك بالمراد، حصل ثواب الامتثال. وإذا لم يخل من مثل هذه الفائدة، جاز واستقل به عن أن يتبع بالبيان. اعترض عليه معترض فقال: إن ما ذكرت من الاعتقاد والعزم وتوطين النفس على الامتثال ليس من خصائص الأمر؛ لكنه من موجبات الإيمان الذي هو أصل. بدليل أنه متى آمن فلابد أن يكون معتقدًا أنه مهما أمر به امتثله واعتقده وعزم عليه. وإنما الذي يختص الأمر، فإنما هو الفعل المأمور به المستدعى من المكلف. فأما الاعتقاد والعزم، فذلك ((سابق للأمر؛ فلا يكون من موجباته وخصائصه. الثاني أنه يورث المكلف جهلًا، والجهل قبيح؛ فلا يعرض الحكم بالقبيح. وهو خطر أيضًا. فإنه قد

يجوز أن يكون الحق كبيرًا فيقول في نفسه: إن أطعت الحق وسهل، أخرجته وأتيت به؛ وإلا تركته. والتعريض بالمخاطرة في الدين ليس بأصلح ولا حسن. ولأنه لو صح ما ذكرت، لحسن تأخيره عن وقت الحاجة. فلما لم يحسن، بطل به جميع ما عولت عليه. ولأن التخصيص والتفسير كالاستثناء. ثم الاستثناء لا يجوز تأخيره عن المستثنى منه؛ كذلك البيان مع المتبين. أجاب الحنبلي عن الاعتراضات، فقال: أما قولك إن الاعتقاد والعزم وتوطين النفس ليس من خصائص الأمر، ليس كذاك. لأن اعتقاد الحق المأمور به الخاص لم يستفد إلا بهذا الأمر. وذاك الأول الذي أوجبه التصديق فإنه اعتقاد معلق؛ إن ورد أمر بشيء، اعتقد به. وورود الأمر بعد ذلك أوجب اعتقاد ما ورد به. فليس هذا الاعتقاد ذاك الاعتقاد، بل هو اعتقاد يخص الأمر. وينتزل الاعتقاد ثلاث منازل. الأول: وهو الذي ألزمتني اعتقاده بالإيمان، أنه متى أمر بشيء التزمه وامتثله. والثاني: لما ورد الأمر بحق فحمل أنه اعتقد وجوب حق والتزمه، وأنه أي شيء كان مما يثقل أو يخف امتثله. الثالث: بعد البيان، أنه اعتقد والتزم عين الحق الذي فسره الشرع وبينه. فقد بان بهذا أن الأمر أفاد فائدة مجددة. وأما قولك إنه يورث المكلف جهلًا، والتعريض بالجهل قبيح لأن الجهل قبيح، فهذا لا يصح لوجوه. أحدها أن الجهل قبيح؛ وهو

وجرت مسألة العارية

أن يقصد إلى من حصل له العلم بشيء فيجهله. وأما في مسألتنا فإنه فتح له باب العلم بأن ذمته قد اشتغلت بحق في ماله، وأنه قد أوجب عليه وكلف ما لم يك قد كلفه. فهذا نوع إعلام وإفادة لما لم يكن عنده، ولا أحاط به علمًا، وإنما لم يستقص في ((جميع الذمة. 4 - وجرت مسألة العارية قال حنفي: إن قبض العارية كان بإذن، والاستعمال بإذن. ثم إن الاستعمال إذا تلفت به العارية جزءًا بعد جزء، لم يوجب ضمانًا. فالتلف مع دوام الحفظ؛ والكون الذي في يده يكون لأجل الاستعمال. فإذا كان الاستعمال لا يوجب ضمانًا لكونه استعمالًا بإذن، فكذلك القبض إذا كان قبضًا بإذن. فلا وجه للضمان. قال حنبلي: إن الاستعمال إذا تلف به الأجزاء كان إتلافًا حصل بالمقصود من العارية. وذلك مقصود المعير والمستعير. فأما الكون في يده والقبض للاستعمال، فهو قبل الاستعمال قابض لمنفعة نفسه منفردًا بها. ومروره إلى الاستعمال قبل الاستعمال كإخراجه من يده بالرد بعد الاستعمال. ومعلوم أن المالك، حيث أعاره، إما أن يكون حمله متبرعًا بالنقل إلى المستعير، أو أخذه المستعير من يد المعير بإذن المعير. فحيث حصل في يده وانتقل بإذنه، لم يك ذلك مؤذنًا بقطع المسافة في رده من ضمان المعير،

وجرت مسألة الوديعة هل يملك المسافرة بها

بل كان من ضمان المستعير خارجًا عن حكم ما كان عليه حين كونه مستعملًا له، وفي يده، عندك. فإذا جاز أن يكون هذا حاله في حال الرد، ويجعل الإذن الأول كالمنعدم، كذلك يجعل الإمساك قبل الاستعمال عدمًا في حق الإذن؛ إذا لم يتحقق الاستعمال، وقلت في يده، لا بما أذن أو قصد به. ولم يقل للمالك: أنت أذنت في حصوله بالبصرة، من حيث أغرق السفينة لركوبها إلى البصرة، فرجوعها إلى بغداد من هناك والتبعيد لها بإذنك، لكن في منافع وشغل المستعير، فنظرنا إلى ذلك. وإن كان بإذنك، فلم يقل ترجع بمالك ومؤونتك حيث بعدت بإذنك، بل ترجع إليك بمال المستعير ومؤونته. وكذلك مؤونة الأجزاء إذًا ((باقية، وإن كانت بتلفها في الاستعمال لا يكون على المستعير. 5 - وجرت مسألة الوديعة هل يملك المسافرة بها قال حنبلي: يملك السفر بها. لأن قوله ((احفظها)) نص على الحفظ به؛ وقوله يتضمن إطلاق الحفظ بكل حال. وإذا سافر بها، فقد حفظها بإذن المالك ونصه وعموم لفظه. وإذا حفظها في البلد لا بنفسه، عمل ببعض العموم؛ وترك النص يعم. وليس يملك المسافرة به إلا إذا كان الغالب من السفر السلامة. فلا يبقى شيء يعول عليه. إلا أن الحضر في الغالب أحفظ؛ فيخير المفاضلة بكون يده عليها، وكونه بنفسه حافظًا

وجرت مسألة السلم في الحيوان

لها. فيكون الحضر الذي هو أحفظ مع عدم مدة أنقص. والسفر الأنقص حفظًا في الغالب مع كون يده عليها أحفظ، فصارا سواء. وليس يمكن أن يقال أن الغالب السفر التلف والعطب. لأن السفر إذا كان مأمونًا [يكون مأمونًا] في الغالب بحشمة السلطان وقلة القطاع للطريق واتصال القوافل وكثرة الخفراء. وانتشار الخلل [ ... ] فلا يبقى إلا أن السفر أقل حفظًا بالإضافة إلى الحضر لكثرة الغوث. فيصير كإخراجها من داره إلى دار أخرى لتحويله ونقله. وكان صاحبها أطلق للإيداع، ولم ينهه عن الإخراج ولا عن المنفعة. فإن في حال إخراجها إلى الطريق جعلها في مكان ليس بحرز. ولهذا لا يقطع بالأخذ منه السراق. ثم لا يجعل ذلك تفريطًا ولا تضييعًا. كذلك السفر بالإضافة إلى الحضر. 6 - وجرت مسألة السلم في الحيوان قال حنبلي فيها: ما ثبت في الذمة مهرًا ثبت في الذمة سلمًا؛ كالمكيل والموزون. اعترض عليه حنفي فقال: إن المال في عقد النكاح تابع، والبضع متبوع. والصفات في السلم والمالية التي تحصل بكثرة الصفات متبوعة، والأعيان تابعة. وقرر ذلك بأنه إن بالغ في صفات الحيوان، ((اقتطعه الاستقصاء عن النظائر. فلم يك وجوده سائغًا يؤمن مع التعذر. فيصير

وجرت مسألة البيع بشرط الخيار هل ينقل الملك

كالمعين من الصنجة والمكيال. والشجرة والنخلة لا يصح السلم [فيها] لسرعة التعذر بهلاكها وعدم الشياع واتساع محل السلم فيه للتضييق بالتعيين في ذلك المحل المعين. وإن قصر في الوصف على المقصود من الحيوان الذي به يجعل اختلاف المالية من الجواهر الكامنة الغامضة فيه؛ مثل الثقة والأمانة والفراهة والذكاء والفطنة والهملجة والقوى والصبر والحمل، وما شاكل ذلك. فإن تعطل هذا النوع عن السلم فيه، فليس بأول متعطل لعدم الإحاطة بمقاصده؛ كما في الجواهر والقسي والغالية، وما شاكل ذلك من المركبات. 7 - وجرت مسألة البيع بشرط الخيار هل ينقل الملك قال شافعي: سبب لنقل الملك، فوجب أن ينقل الملك، كالمطلق. قالوا له: ولم إذا كان ناقلًا مع إطلاقه، نقل مع تقييده؟ ونحن نعلم أن العتق والطلاق مطلقه يزيل، ومقيده لا يزيل. وينقل التصرف مطلق هذا، ولا ينقل التصرف مقيده. فأين الإطلاق من التقييد؟ قال: إذا أمكن الإطلاق بحسب اللفظ والتقييد بحسب اللفظ، فلفظ التمليك يقتضي نقل الملك، فنقلناه. والخيار يقتضي تملك الفسخ والتأثير في لزوم العقد، فأزلنا اللزوم وأجزناه، وهذا جمع بين مقتضى اللفظين. قال الحنفي: إن الخيار يعود إلى العقد، لأنه هو المنطوق به. فإذا

جرت مسألة الجدة أم الأب هل ترث مع وجوده

عاد إليه، أعاقه. وقد كان ينبغي أن يمنع انعقاده. لكن الإجماع أوجب أنه ينعقد مع الخيار. فصرفنا التأثير إلى حكمه، وهو نقل الملك. فأعاقه عن نقل الملك به. 8 - جرت مسألة الجدة أم الأب هل ترث مع وجوده ((فاستدل فيها شافعي فقال: كل شخص أدلى بالأب لم يرث معه من فوق، كالجد؛ ومن أسفل، كالأخ. وعلى هذا كل من أدلى بشخص؛ كالجدات مع الأم، وبنات الابن مع الابن، وبني الإخوة مع الأخ. فهذا هو الأصل في الفروض. اعترض حنبلي فقال: إن الجدة أم الأب أدخلها الشرع في قبيل الأمومة بدليل شيئين. أحدهما أنها دخلت في قبيل الجدات من الأم فهي كواحدة منهن وسقطت بالأم كما تسقط جدات الأم ولو لم تجعل من قبيل الأمومة ما أسقطها من هو أقرب في الأمومة. وما ادعيته في الأصل فما يستمر ولا يطرد. فإن أولاد الأم بها يدلون ومعها يرثون ويحجبونها من الثلث إلى السدس. وأما الجد والأخ فإنهما يرثون بالتعصب مع الأب. والعصبة أبدًا تحجب من هو مدلٍ به ومن هو أبعد منه. فأما الجدة أم الأب فإنها ذات فرض خاصة بخلاف بنت الابن فإنها تتعصب بابن الابن أخيها وابن أخيها. وكذلك الأخوات للأب تتعصب. فأما الجدة فلا تتعصب.

فهي بذكر الأم أشبه. لما كانوا على محض فرض بغير تعصب ورثوا مع من يدلون به. فلما كان فيها معنى العصوبة سقطت بمن تدلي به. وكذلك الأخوات للأب. قال الشافعي: أما كونها تدلي بالأب فأصل مستقر. ولذلك متى كانت الجدة تدلي بأب لا تعصيبًا لم ترث ولم تدخل مع أمهات الأم في قبيل الجدات. وذلك مثل أم أبي أم أو تكون الجدة أم أبي أم أب، فإنها لا ترث. فلما وقف ميراث الجدة ... على أن تكون أم أب أو أم أبي أب أو أم أم أو أم أم أم. ومتى دخل الجد بين أمين لم ترث الجدة التي تدلي به علم أن المغلب في حقها، والأصل الإدلاء بالأب. وإذا كان كذلك كان إدخالها في قبيل الأمهات عارضًا، ((وكان عارضًا يضعفها؛ لأنه عارض أوجب الإسقاط بالأم، وليست من تدلي بها. فكان سقوطها بمن تدلي بها أحق. قال الحنبلي: إذا كان معدولًا به عن قرابة الأب شرعًا بخلاف الجد والأخ عولنا على إرثها بحسب ما ألحقت به وأدخلت فيه دون الأصل الذي عدل بها عنه. وسقوطها بغير من تدلي به، وإرثها مع الجدات اللواتي لا يدلين بمن تدلي به، لا يوجب ضعفًا؛ لكن يوجب أن يكون حكمها حكم الأمهات. ألا ترى أن أولاد الأم أسقطهم من لا يدلون به، وهو الجد والأب والبنات، ولم يورثهن ذلك ضعفًا بحيث تسقطهم الأم التي بها يدلون وعنها ينزعون.

جرت مسألة ذوي القربى

9 - جرت مسألة ذوي القربى قال مالكي: إن أحدهم مع الغناء لا يشبه قانون شريعتنا. فإن الشريعة جعلت كل مال لله مصروفًا إلى من يحتاج إليه أو نحتاج نحن إليه. فالمحاويج كالمساكين والفقراء والأيتام، ومن حاجتنا نحن إليه كالفقهاء والقراء والمجاهدين والأئمة والقضاة. فإذا كان الأغنياء من ذوي القربى لا حاجة بنا إليهم، ولا حاجة بهم إلى المال، فإن الملة على هذا. وإلا متى كانوا يبلون في الحرب أو العلم أو غير ذلك من الأمور التي تسد في المصالح مسدًا استحقوا. وإلا صار الدفع إليهم صولة دولة. وقد نهي الله عن ذلك فقال: {كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم}. وقال على سبيل الذم لقومه: واتخذوا مال الله دولًا وعند الله حولًا. والأشبه بقرابة رسول الله أن لا يحصون مع الغناء فيكون ذلك موجبًا للتهمة، وإن طلب للغنائم لأهله وعشيرته. وهو ممن تجنب كل أسباب التهمة حتى إنه لما طلبت منه فاطمة وعلي -عليهما السلام -عبدًا يرفههما عن العمل الذي أثر في كيفهما طحنًا واستقاء للماء قال: ألا أدلكم على ما هو خير لكم من ذلك: تسبحون الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمدانه ((ثلاثًا وثلاثين، وتكبرانه أربعًا وثلاثين. اعترض عليه حنبلي فقال: إن أهل بيت رسول الله صلعم من أعلام الدين وإليهم قصد المسير مدون وفيهم الخلافة. ومن كان كذلك لا يخص بالمال لأجل الفقر لكن لأجل الإعانة على التجمل وتجمل المكلف ونزول

وجرت مسألة من أقر على نفسه بالقتل فكذبته شواهد دلت على كذبه

الأضياف والوفود. فلا يكفي في حقهم الإغناء عن الناس بل يجب أن يصرف إليهم من يستغني به الناس. قالوا له: فكان يجب أن يجعلهم له وارثين. قال: إنما لم يورث لئلا يتمنى متمن من أقاربه فيهلك بذلك في دينه وينحبط عمله. 10 - وجرت مسألة من أقر على نفسه بالقتل فكذبته شواهد دلت على كذبه مثل أن قال ((أنا قتلت فلانًا أمس)) فشهدت البينة أن فلانًا مات منذ شهر. فإنه لا يؤخذ بقوله وإقراره على نفسه ولا يقتل. ويصير رفض قوله على نفسه كرفض قوله على غيره. لأن قول على نفسه يقبل مما لا يقبل على غيره لنفي التهمة. فإذا تحقق كذبه فلا وجه لتصديقه. ألا ترى أن مدعيًا لو ادعى عليه الزنا بأمته فقال ((صدق)) وكان مجبوبًا كان في بطلان الإقرار بمثابة قوله ((أنا قتلت زيدًا منذ عشر سنين)) وعمر زيد خمس سنين. ولذلك قرر النبي صلع على ما عز تحقيق قوله ((زنيت)) بمراجعته من تأويل إلى تأويل. اعترض عليه فقيل: هلا قطعت قوله ((أمس)) عن قوله ((قتلت)) لأنه محال، وجعلته كأنه قال ((قتلت)) فقط؛ كما إذا قال ((أنت طالق أمس))؟

وجرت في مسألة المأذون له في بعض التجائر هل يقضي ذلك إطلاقه في سائر التجائر

قيل: لا وجه لذلك في الإقرار كما لو قال ((قتلته خطأ)) أو قال ((قتلته صائلًا علي فدفعته)). 11 - وجرت في مسألة المأذون له في بعض التجائر هل يقضي ذلك إطلاقه في سائر التجائر قال حنفي: إنه يتصرف في ((الأصل لأنه حي. وكل حي تقع تصرفاته باختياره. وهو حر تقع باختياره. وهو حر في باب النفس، بدليل أنه يملك الإقرار عليها بالقتل العمد ولا يملكه السيد. ويتحمل في ذمته ما يزيد على أضعاف قيمته. ولا يملك السيد إشغال ذمة العبد بحبة واحدة. وهذا يشهد لما ذكرنا. فإذا ثبت أنه كذلك كان إطلاق السيد له في التصرف مطلقًا له. فيتصرف في التجارة بحكم أنه حر. وذلك يفيد التصرف المطلق. 12 - فصل قال حنبلي: اعلم أنه سح قد نبهك على حفظ حرمك، وإلغاء الثقة عليهم بمن طالت صحبته وحسنت تربيته وسيرته؛ حيث أعلمك أن كريمًا من أولاد خيار الأنبياء كان بين عزيز رباه، وسيدة كريمة أكرمت مثواه، حانت منه معها خلوة، ثارت بينهما همة، قارب بها حصول المحنة والفتنة، لولا تدارك الباري له بالعصمة وإقامة البرهان لصرف الهمة. من أين لك اليوم مثل ذلك الكريم؟ ومن أين لمن يخلو بأهلك عصمة تطرد الهمة،

وجرت شذرة في ذوي القربى هل يعتبر في استحقاقهم الفقر

وبرهان يحول بينه وبين الفتنة؟ فالله الله على الثقة بإنسان مع نصح القرآن بهذا البيان! أما رأيت صاحب شريعتك كيف قال لزوجتين كريمتين خليا بأعمى من كرام الصحابة، فقال لهما في ذلك. فقالا: يا رسول الله! إنه أعمى. فقال: أفعمياوان أنتما، لا تبصرانه؟ وأمر الغلام الوضيء الوجه أن يدور من ورائه. فإذا كان الشرع على هذا الاحتياط، فما هذا الاسترسال منكم والانبساط؟ يقول الواحد منكم في الركابي والفراش إن كان شيخًا: ((هذا ربى أهلي))، وإن كان حدثًا ((هذا رباه أهلي)). كذا يكون الفطناء. هل قصد الباري الإزراء على أولاد الأنبياء، حيث قص لك قصصهم في المكر والعداوة وإطلاق القول بما كان الباطن خلافه؟ لا! ولكن قصد بذلك إيقاظك عن الإصغاء والاسترسال إلى قول بالبادرة لحسن الثقة، وأمرك بالتوقف عند كل شبهة، والتحرز عن حسد الحاسدين، وكتم النعم عن السعاة في إزالتها من المفسدين. 13 - وجرت شذرة في ذوي القربى هل يعتبر في استحقاقهم الفقر فقال حنفي: إن النبي صلعم حرم قرابة دون قرابة مع المساواة. حيث قال له عثمان وجبير بن مطعم: ((لم أعطيتهم وحرمتنا؟ )) وأشارا إلى بني المطلب. فقال: ((إنهم لم يفارقونا في جاهلة ولا إسلام.)) وعنى كونهم معه في الشغب. وهذا إشارة إلى التعليل بالنصر.

في القضاء والقدر

قال حنبلي: فهذا لا يضرني. لأنه يجوز أن يكون إنما أبعدهم مع القرابة لحق له. وقد يحرم الإنسان حقًا له لأجل إساءة؛ كما حرم القاتل الإرث والمفارقة وقت قصد الأعداء خذله والإغراء به. وهذا لا يمنع كون القرابة علة. ولهذا لم يعط من كان معه من تيم وزهرة، وإن كانوا لم يفارقوه. فأبو بكر ما فارقه؛ لكن لما عدمت القرابة لم يعطه. وذكر فيها مالكي أيضًا، فإنه يوافق الحنفي في اشتراط الفقر: إن النبي صلعم قال للفضل حيث طلب العمالة على الصدقات: ((أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس؟ )) فجعل الخمس إغناء. فالظاهر أنه للقرابة كالزكاة للأجانب. ثم الزكاة جعلت لإغناء الفقراء. كذلك الخمس المأخوذ من الخمس جعل إغناء على سبيل البدل عن الإغناء بالزكاة. 14 - قال قائل: لو أن الله سح عذب الأنبياء وأدخل الكفار النار، لكان منه حسنًا. قال له معترض عليه: يا هذا! ما تعرف عوار ما تقول ومقدار الكفر الذي تحته! فإن القرآن كلامه. ومن حيث كان كلامه يستحيل عليه الكذب. وقد يضمن الخبر عن نعيم أقوال معينين وتخليدهم الجنة. وتجويز إخلاف الوعد تجويز للكذب. وحاشا كلامه من الكذب، لا محاشاة مدح

جرى بمجلس نور الهدى ذي الشرفين الزينبي مسألة الأب إذا زوج ابنته بدون مهر مثلها

مسعان، بل محاشاة إحالة. كما يستحيل على علمه الجهل، وحياته الموت، ((وقدرته العجز، كذلك يستحيل على صفته، التي هي الكلام، الكذب. فكما أنه لا يجوز على كلامه الكذب، كذلك لا يجوز إدخال النار من أخبر أنه سيدخله الجنة. فبهت المتكلم بذلك. وجعل أقوام يحتجون بذكر الأقدار على مبالغ في الوعظ والإزعاج بذكر آي الوعيد. وكان الواعظ حنبليًا محققًا في الفروع والأصول يدري ما يقول. فقالوا له: كلامك كلام قدري، لا حنبلي! فقال: أنا لا أدري من القدر ما يقيم لكم الحجة، ويقطع لساني عن خطابكم وعتبكم على إهمال الأعمال. والذي قدر القدر هو الذي أمر الأنبياء بالبلاغ؛ ويهدد على تركه، حتى قال: {وإن لم تفعل فما بلغت}. وقال: تركتم علمًا نافعًا ألجمه الله بلجام من نار. فلما جاء إلى القدر قال: إذا ذكر القدر فأمسكوا. فدل على أنه ليس من العلم النافع. ولما قالوا له: ((ألا نتكلم؟ )) قال: ((لا! اعملوا وسددوا وقاربوا.)) ثم تلا: {فأما من أعطى واتقى} {وصدق بالحسنى} {فإن الجنة هي المأوى}، وتلا إلى آخر الآيات. 15 - جرى بمجلس نور الهدى ذي الشرفين الزينبي مسألة الأب إذا زوج ابنته بدون مهر مثلها فاستدل فيها حنبلي بأن النكاح ليس المال فيه أصليًا في القصد، بل تابع، والأصل إنما هو طلب الكفاءة والحظ الأكبر ذلك. والأب هو الغاية في الإشفاق، فلا تذهب نحوه تهمة. فإذا نقصها من الصداق،

علم أنه رفع ذلك وسد الخلل فيه بزيادة في الجمال والكمال الذي تدوم به العشرة، وتصفو به الألفة، من أخلاق تنضم إلى كرم الأصل وشرف النسب. فلا يعيرها ولا يؤذيها ولا ينقصها حقًا من حقوقها. والثقة بهذه الخلال والحظوة بتحصيلها أنفع لها من التوثق بالمهر الذي غاية ما فيه ارتهانه به وخوفه من نقله والمطالبة به؛ وبخوفه من الطلاق خوفًا من كثرة نصفه ((قبل الدخول، ومن ثقل حملته بعد الدخول. فإن التوثق بكرم الطباع أحرى من التوثق بالخوف من المطالبة بالمال. اعترض عليه شافعي فقال: لا أسلم أن المهر تابع، بل أصل ومقصود قصد الأعواض في سائر المعاوضات. يفسخ العقد عند أبي حنيفة لأجل الجب والعنة لعدم استقراره وتعذر ما يقرره. ويفسخ عندنا وعندك، يا حنبلي، لأجل الإعسار به وبالنفقة. ويثبت شرعًا وتسميةً ويرد بالعيب ويحبس عليه الزوج وتحبس الزوجة نفسها عن التسليم إلى الزوج لأجله. وأما قولك إن الأب كامل الشفقة، لكنه غير معصوم في نظره. فإذا تحققنا بحبسه لحظها من المال تردد الأمر عندنا بين ما ذكرت من الخير وبين الخطأ والزلل في حقها. وكم ممن لا يدهى من جهة الإشفاق لكن يدهى من الخطأ في النظر، كالأب الفاسق أو المبذر! ولأن هذا لو صح، فهلا جعلته في المال علة إذا جاء بأموالها في الأشربة والبياعات، وحملت ذلك على أنه طلب؟ فالمحاباة تحصيل حظ إما من جهة سلطان بقصد حمايته وحراسته

لأموالها، أو إفاضة جاهه عليها. ولعله اشترى لها المعيب محصلًا لقيمة فيه توفي على العيب. فلا توجب عليه فسخ العقد لأجل العيب وتجعل عقده على المعيب الذي ابتاعه لها لازمًا في شرى الأب. ولا تملك به الرد ثقة بنظره لها. قال الحنبلي: أما جحدك أن المهر تابع، ودعواك أنه متبوع وأصل ومقابل، لا يصح. لأن فساده لا يفسد العقد، وترك ذكره وإخلاء العقد من تسميته أيضًا لا يمنع انعقاد العقد، وامتهان حبسه وقدره لا يعترض به على المرأة، وامتهان جانب الزوج بين مفسد أو معترض. فلو رضيت بحب القطن وقشور الجوز وكسار الزجاج وخلقان النعال كل ذلك حبس يزرى. وقلة القدر أيضًا يزرى. ولا يعترض عليه فيه. ولو أراد الأب الاعتراض عليها فيه، إذا كانت ((بالغًا، ما ملك؛ ولا ولاية للأب مع بلوغها ورشدها وحسم أمر الزوج في حقها. حتى إنها لو تلفظت بتزويج نفسها لم يصح. وذلك خوفًا من تزوجها من بعض من نسبها. ولو عدم في جانب الزوج الشرف ووجد فيه خساسة الحسب أو النسب أو الدين أو الصناعة، كان ذلك بين اعتراض يفسخ لأجله أو إبطال للعقد من أصله. فبان أن المهر بهذه الجملة تابع، لا مقصود أصل. والمسامحة به ممدوحة، والمسامحة بالكفاءة مذمومة. وقد بعد العوض فيه عنه، حتى قيل إنه كالعقد المنفرد بنفسه. فأين حكم العوضية فيه؟ وأما الخطأ الذي

تجارى قوم فتوى وردت في طائر يطير ويعود إلى برجه. باعه مالكه ممن رآه في برجه وجره. وكان بيعه له حال كونه في الجو

تعلقت به فإنه وإن كان مجوزًا، إلا أن الأمر لا يحمل إلا على الظاهر. وليس النكاح مما يعقد عن بادرة كبادرة البياعات في الأسواق. ولا هو كبيع السلع التي تتعاطى السوقة. بل هو عقد تجمع له الآراء وتحمد، وتجتمع له العشيرة، وتبسط فيه المشاورة؛ ويجمع الأب رأيه في بغاية الجهد مع كمال إشفاقه. فأين الخطأ مع هذا الاحتياط؟ وجرت عادة الناس أن لا يعقد إلا بعد الإطالة والمراجعة. ولهذا لم يدخله الخيار المتأخر عنه. لأنه لا يؤخر رأيه عن عقده، بخلاف سائر المعاوضات. ويخالف ما ذكرته من محاباته في عقود الأموال. لأن تلك لا يلحقه بها عار في نفسه، ولا يتحصل بها نفع في نفس مقصود العقد. ومتى كان في العين المبتاعة غرض جاز بذل المال في مقابلته، كمسألتنا. 16 - تجارى قوم فتوى وردت في طائر يطير ويعود إلى برجه. باعه مالكه ممن رآه في برجه وجره. وكان بيعه له حال كونه في الجو فقال الجماعة: يصح بيعه؛ لأنه بعوده إلى برجه على اطراد العادة لا يخرج بطيرانه عن القدرة على تسليمه؛ ويصير بمثابة الشاة التي في القطيع ترعى وتعود. وأنكر من لم يحقق ذلك فقال: ((هذا طائر في الهواء.

شذرة جرت في مسألة المرتد هل يرثه أقاربه من المسلمين ما كسبه حال إسلامه

قيل له: لا تنظر إلى الصورة. فإن العبد في الصحراء في صورة الآبق. لكن إذا أنس منه الرجوع في العادة انقاد أن كان صورته في الصحراء صورة الآبق. وكذلك الجمل في العريب والمرعى صورته صورة الشارد. لكن إذا كانت عادته مستمرة بالرعي، ثم يأويه الليل إلى معاطن الإبل، جاز بيعه ممن شاهده وإن وقع البيع عليه قبل رجوعه إلى المربد. كذلك هذا ولا فرق. 17 - شذرة جرت في مسألة المرتد هل يرثه أقاربه من المسلمين ما كسبه حال إسلامه قال حنفي: الردة كالموت. فبقدر إرثه منه في آخر جزء من أجزاء إسلامه طولب بكونه كالموت من أي وجه، فقال: موقع للفرقة، مزيل لملك الأبضاع، والأموال مانعة من تملكه للبضع بكل حال. وإن كان امرأة لا يملك بضعها، لا مساويها ولا مخالفها. فلا مسلم ولا كافر يملك بضعها. فصارت الردة كالموت. وإذا صارت كالموت، كان من حين ارتد على ما كان كسبه حال الإسلام كالمتوفى عما كسبه حال الحياة. فكان لوارثه المسلم. قال له شافعي: لو كان مقدرًا موته في آخر أجزاء إسلامه، لكان إذا كان له ابن في تلك الحال وأخ، فمات الابن ثم مات المرتد، أن لا يرثه أخوه، لأن المال انتقل إلى ابنه.

جرى بجامع القصر مسألة الكنايات هل تثبت معها الرجعة

وقال فيها شافعي: لما لم يرث أحدًا من أقاربه المسلمين إذا مات بعد ردته بما كان فيه من استمام، لم يرثه المسلم ما كسبه حال إسلامه. لأنه لما لم يتوزع حاله فيرث بحال إسلامه في حال ردته، لم يتوزع حاله فيورث ما كان اكتسبه حال إسلامه. على أن المال المكتسب لا عبرة به، بل العبرة بالملك للمال. وقد تغيرت حال فصار ممن لا يرث. ولا عبرة بالمال مع ((تغير حال ذي المال بحيث صار على حال لا يملك المال بالإرث. فما الذي يبقى من حكم المال مع تغير حال مالكه إلى هذا الحد الذي خرج به من كونه وارثًا إلى كونه لا يرث من أحد بحال؟ فقال: وهذا دل على أنه لا يرثه أحد بحال. 18 - جرى بجامع القصر مسألة الكنايات هل تثبت معها الرجعة قال حنبلي: لفظ البينونة يقتضي من طريق الوضع القطع في الحسيات من طريق المشاهدة. فينبغي إذا أضيف إلى الحكميات [أن] يقتضي قطعًا حقيقة. وليس مع الرجعة قطع. لأن الرجعية زوجة يملك الزوج استدامة نكاحها بلفظ يخصه من غير رضا الزوجة ولا عوض. ويقع طلاقه عليها، ويرثها وترثه. وهذا كله من خصائص الوصلة وقطع حقيقة لا تبقى معه وصلة ولا صلة. قالوا له أصحاب الشافعي: فلفظ موضوع على زعمك لمعنى. فلماذا

اعتبرت النية؟ ألا ترى أن لفظ الطلاق لما كان موضوعًا للإطلاق من حبس الزوجة كيف لم يفتقر إلى النية؟ وعلى أن هذا باطل بلفظ الطلاق فإنه يقتضيا لإطلاق على الإطلاق من غير بقاء وصلة وعلقة يكون معها نوع حبس. ومع ذلك فإنه تثبت معه رجعة. ولأنه يبطل بمن قال لزوجته ((أنت طالق لا رجعة لي عليك)) فإنه يقتضي بصريح لفظه نفي الرجعة. ثم لا ينبغي الرجعة. أجاب الحنبلي بأن قال: أما اعتبار النية فلم يكن لكون البينونة قاطعة، بل ذاك مستفاد من اللفظ، لكن ليقطع ((بينونة عن بينونة. وذلك أنها مشتركة بين ((بان)) انقطع من الخير والشر والنكاح، و ((بان)) بمعنى انكشف، و ((بان)) بعدما بان الخليط. فالنية يحتاج إليها ليبين أنها منقطعة من النكاح، لا أنه يحتاج إليها ليجعل الكلمة ويخصها بالقطع، بل ليميز قطعًا عن قطع. وأما لفظ الطلاق فإنه غير مشترك. ولم يوضع إلا للزوجة. فلا يرد في لفظه ولا معناه. وأما قولك إن لفظ الطلاق يقتضي الانطلاق بالكلية، فكذلك نقول. ولذلك الطلقة قبل الدخول والثلاث تمنع بقية حبس، بل تنطلق به الزوجة كل الانطلاق. وأما الطلقة الواحدة بعد الدخول فإن الرجعة جاءت من قبل الشرع تحكمًا. فإن التقييد عن الانطلاق بالشرع مخرجًا لها عن حكم الأصل. وأما قوله ((أنت طالق لا رجعة لي عليك)) فيقع بها طلقة بائن، أو ثلاثًا على خلاف الروايتين. لأن هذا صفة وصف بها الطلقة، كما لو قال ((أنت بائن)).

وجرت مسألة تصرفات الصبي

لأن معنى وصف الطلقة بأنه لا رجعة معها هو أنها بائن. وأما إذا قال ((ولا رجعة لي عليك)) فإنه عطف بالواو، فلم يلحق. كما قلنا إذا قال في حق غير المدخول بها ((أنت طالق طلقة معها طلقة)) وقع طلقتان. ولو قال ((طلقة وطلقة)) لم تقع الثانية. لأن الواو جعلتها جملة أخرى. هذا هو الصحيح عندي، خلاف أصحابنا. وإلى هذا ذهب أصحاب الشافعي، وأنه لا يقع المعطوفة بالواو. 19 - وجرت مسألة تصرفات الصبي قال حنفي: يعقل البيع؛ فصح بيعه، كالعبد البالغ. اعترض شافعي فقال: إلا أنه عقل لا عبرة به. ولذلك لم يعلق عليه التكليف، ولا لزم به البيع، بل وقف على مشارفة الولي. ولذلك لم يصح جميع ما يصدر عنه من الأقوال. ((فأجاب الحنفي بجواب الفقهاء، فقال: أعطيت أصل العقل حقه، وهو الصحة للعقد، وسلبت وصف العقد بفقد وصف هو كمال العقل. وحقق حنبلي ساعده لأجل موافقته له وخلافهما للشافعي، فقال: إذا قلت ((إلا أنه من عقل من حاله كذا)) كان ذلك تسليمًا منك أنه عاقل وأن له عقلًا. والعقل، على مذهب المحققين -وهم أهل السنة والفقهاء، لا يقبل النقص، كما لا يقبل التزايد، لأنهم عندهم ضرب من العلوم

وجرت مسألة قتل الصبي لغيره هل يوجب في ماله كفارة القتل

الضرورية؛ والعلم لا يقبل التزايد ولا التناقص. وإنما لم يعلق الباري التكليف على صاحبه لطفًا كما رأى وحكم. ألا ترى أنه لم يكلف بدنه الصلاة والطهارة والصوم لأن ابن خمسة عشر سنة يقصر عن قواة في بدنه ابن أربعة عشر سنة وتسعة أشهر. ولا ماله يقصر عن مال البالغ. ولربما أربت قوى بدنه على قوة الشيخ الهرم. فليس الضعف على لإسقاط التكليف حتى يصح قولك إن عقله مقصر عن عقل التكليف. 20 - وجرت مسألة قتل الصبي لغيره هل يوجب في ماله كفارة القتل قال حنفي: الكفارة جزاء عن الفعل، وفعل الصبي لا يجازى عليه. ولهذا لا يجب عليه مأثم في الآخرة، ولا عقوبة في الدنيا، ولا يجب بقتله القتل. اعترض عليه حنبلي فقال: هو من أهل الغرامة. فإن وافقت أن الغرامة جزاء، وإلا كفاني أنه من أهل الغرامة. والكفارة فيها معنى الغرامة؛ بدليل أن كفارة صيد الحرم تجب ويقوم الصيد فيها على الصبي إذا قتله. وفي حق البالغ، إذا قتل صيدًا مملوكًا، وجب عليه قيمتان. فعلى حد ما وجبت القيمة للآدمي وجبت لله. وإنما وجبت للآدمي غرامةً، فكذلك لله سح. قال الحنفي: ليس الغرامة من الجزاء بشيء. لأن الغرامة لا يجب

إلا جبرًا لمن فوت عليه ((ملكه. والله سح وتع لا يقدر أحد على تفويته شيئًا من أملاكه. فلا يقع ما يجب له إلا عبادة أو جزاء. فأما غرامة فلا. وأما قيمة الصيد، فإنما يجب حقًا للصيد، لا الله تع. وقد وجبت الدية غرامة عن جميع المتلف؛ فلا وجه لغرامة أخرى. ولو كانت غرامة لما وجب في حق كل واحد من المشتركين في القتل الخطأ كفارة كاملة؛ كما لم يجب قيمة عن العبد كاملة، ولا دية عن الحر كاملة. قال الحنبلي: ولم لا يقع التفويت من العبد على الله، وهو يقتل عباده المسبحين له، ويهلك الصيود في حرم الله، ويخرب بيوت العبادات لله، ويتلف أموال الزكوات والغنائم التي هي الله؟ فإن نزهت الله سح عن إتلاف الآدمي وتفويته عليه، نزهته عن معصيته له وتمرده وعتوه عن أمره. وليس يقف التفويت على الإعجاز والغلبة، بل إذا أخرج الشيء المملوك عن منافعه أو عن صفاته أو ماليته فقد فوت ذلك منه وفيه. والقدرة على إعادته لا يخرج الفعل الأول أن يكون إفسادًا. كما لو خرب جدارًا على بناء، وسلمًا على نجار، وكسر سكينًا على حداد، فإنه لا يخرج أن يكون فعله ذلك تفويتًا، وإن كان المالك قادرًا بصناعته وجدته أن يعيده إلى ما كان منه. وقولك إن الصيد مضمون لنفسه وغرامته لعينه، لا الله، كلام بعيد. فإن الله سح حرمه لحرمة حرمه، لا لأجله في نفسه. ولهذا نفسه معه خارج الحرم، وحرمه حيوانيته معه؛ ولا يضمن،

تتمة رقم 623 ص 664

بل يباح قتله وأكله. وداخل الحريم ينشؤ فيه الضمان والغرامة. وليس ذلك إلا لأجل حرم الله. فكان ما يجب من الغرامة لله سح. ثم قال الحنبلي: إن استبعدت أن يكون العبد قادرًا على التفويت على الله سح، فاستبعد أن يكون محصلًا لله سح. وإذا جاز أن يكون بيده والتزامه في ذمته لله هدى وصدقة، ثم إنه يشرع في الاكتساب [ ... ] 21 - [ ... ] ((العقلي. ودليل العقل يوجب القطع بلا خلاف بين من قال بتحسينه وتقبيحه، ومن لم يقل. لأن بدليله ثبت حدث العالم والصانع. وجاءت أخبار الآحاد بإيجاب الأحكام. فانتقلنا إلى العمل بها عن ذلك الأصل القطعي، وسوينا بينهما وبين الإعجاز، حيث كان الأصل أن لا يقبل قول أحد على الله. ثم لو جاءنا مدعي النبوة، لم نقبل قوله؛ فإذا جاء المعجز، قبلنا. فقد صار خبر الواحد في وجوب الانتقال إليه عن الأصل الذي أوجبه العقل سواء. على أن تشريع الأحكام أخف من إثبات أعيان الأحكام. وقد قبلنا أخبار الآحاد نحن على الاقتناع بالعدالة؛ وأنت تقول ((إذا عملت به الصحابة، وإذا كان الرواة فقهاء.)) ونفس الحد أكبر من تشريع الحد. ثم قبلنا فيه الآحاد تارة أربعة وتارة اثنين. وأما

اعتبار عمل الصحابة، فأين ثبوت الزنا حتى يعمل به؟ والذي ثبت حد، أو حدان، ما عروا العامل به وقد عملوا به. فاما فهات كثرة وحد عملا. وقد أبعد الشرع إثبات الحد حيث اعتبر الإقرار الذي لا ينزع عنه إلى حين إقامة الحد. وزدنا أنا وأنت باعتبار التكرار أربعًا. والمقر على نفسه يقول [((قتلت))]، والنبي يعترض ويقول: ((لعلك قتلت؛ إنك خبل، استنكهوه. انكتها والأربعة بغير أن يشهدوا بأنهم رأوا ذاك منه في ذلك منها؛ كالمرود في المكحلة، والرشاء في البئر. وأين من ينشط لذلك؟ لاسيما مع قول النبي: ((هلا سبرته نبوتك؟ )) ويقول: ((من أتى من هذه القاذورات شيئًا، فليستتر بستر الله.)) فمتى أقيم حد بإقرار أو بشهادة حتى تطالب أنت بعمل الصحابة به؟ فقال الشيخ الإمام أسعد: أما الآي التي تلوتها فلا تعطي أن التعويل في التصديق على أولئك. وإنما عول على ما أوحي إليه. وكيف يحال بإثبات النبوة على أخبار أحبار اليهود وإن أسلموا؟ وأما الشهادة فآحاد. ولكن الأصل يقتضي أن لا تقبل. لكن لو وقف ذلك على التواتر وطريق قطعي لا يسع ذو الدين. واستهانوا بالإقدام على الفساد حيث اطمأنوا أنه لا طريق مقطوع يكشف عن سخائفهم، فشاع الفساد. وأما تعويلك على أن الأصل ((الذي هو براءة الذمة قطعي، وجاز أن ينتقل عنه إلى شغل

الذمم وإباحة الفروج وإراقة الدم، فهذا لا يدل على أنه قطع بدليل القياس. فإنه ينتقل بالقياس عنه، وإن كان غير موجب للقطع ولا العلم. أجاب الحنبلي عن هذا فقال: أما الآي التي ذكرتها، وإن لم تكن موجبة إثبات أصل النبوة، فإنه يكفي أن يحال عليها بتصديق النبي صلع في خبر من أخباره. ودلالة صدقه في ذكره في التوراة وشعبة من شعب الأصل. القطع لا يثبت إلا بدليل قطعي. وأما القول بأنه إنما ثبت عند صدقهم بالوحي بما ذكروه عن التوراة فهذا تعبد. لأن النبي صلعم لو كان تعويله على غير سؤالهم لبينه، لئلا يقطع هذا النظر الفاسد عندك. وهو أن خبرهم عما سئلوا عنه هو المعول عليه. وأما قولك إن خبر الواحد كالقياس فليس كذلك. لأن القياس يترك لخبر الواحد؛ وخبر الواحد لا يترك للقياس. ولأن القياس إنما هو استنباط، وهو عرضة الخطأ؛ والخبر نطق المعصوم. وأما قولك على الشهادة إن القياس يقتضي أن لا تقبل لكن قبلناها لئلا ينفتح باب السخائف والفجور، فهذا منك يعطي أنك احتطت بقبولها. والشرع لا يحتاط في شيء. ثم تبنيه على الدرء والإسقاط؛ وقد بينا ما بني عليه الحد، وأنه على غاية ما يكون من الإسقاط بعد الوجوب، والإغفال عنه قبل الوجوب. ومن بنى شيئًا على الإسقاط لا يعتمد فيه على الاحتياط؛ لأن هذا مناقض لا يليق بالشرع.

جرى بالمدرسة النظامية مسألة المرتدة

22 - جرى بالمدرسة النظامية مسألة المرتدة فعول على من نصر مذهب أبي حنيفة على أن القتل إفساد لبنية الآدمي، وهو الغاية في العقوبة؛ فلا يقابل الإفساد إذًا إلا نادرًا. وإفساد الاعتقاد الصحيح بعد ثبوته وترسخه في القلب لا يكاد يقع إلا [نا] درًا. وإنما الذي يدوم به الفساد الحراب والمرأة؛ وليست صالحة ((لهذا النوع. فاعترض شافعي فقال: لا شك أن هذا يعطي تعظيم شأن الاعتقاد الإسلامي لوضوح دلائله وبراهينه. والعادل عنه لنوع شبهة مرتكب للعناد، وهو الغاية في الفساد. والفساد العظيم، وإن لم يدم، يستحق به الإفساد. والدليل عليه الزنا؛ وإن كان فيما أوسع الله من النكاح وملك اليمين ما لا يبقى لطلبه إلا النوادر الذين هم العادون. كما قال الله تع {فمن ابتغى وراء ذلك} -يعني وراء النكاح وملك اليمين. ومع ذلك وجب به إفساد البنية بالرجم. قال من نصر مذهب أبي حنيفة: ذاك يفسد الأنساب والفرش بخلط المياه؛ فما وقف على كونه جريمة بالفرج. قال الشافعي المعترض: فالكفر هو الغاية في الفساد. ومضرته بإفساد الدين توفي على إفساد الحراب. والنساء سريعات الانخداع للشبهة. فلو قلنا لا يقتلن لما احدسهن إلى الشبهة. وكفى بإفساد الدين مخزية لا تحتاج

إلى انضمام الحرب. ثم هذا يجوز أن يقال في الكفر الأصلي قبل الالتزام. فأما في الكفر جاء على التزام إيمان فكلا، بدليل العميان والشيوخ العتاة والرهبان كففنا عن قتلهم لا نكفافهم. ولو ارتد عن الإسلام أمثال هؤلاء قتلوا. ولو وقع في الأسر أحد هؤلاء لم يقتلوا. ولا تحبس المرأة من أهل الحرب على الإسلام. ولو ارتدت حبست. والحبس عذاب إلى أن تسلم. فأين كفر الأصل من كفر الردة؟ وهذا لأنه كفر بعد التزام؛ والكفر الأصلي قبل الالتزام. على أن جميع ما أشرت إليه يعطي أن القتل يحصل لأجل الفساد، وأن الأصل في بني آدم أنهم خلقوا للعبادة لا للإفساد لذواتهم ولا لقتلهم، إلا أن يفسدوا. والرجال أهل للإفساد بالحراب، والنساء بخلاف ذلك. وهذا ليس بصحيح لأن أكبر الفساد والإفساد الكفر. ونحن لا نقتل الرجال لأجل قتالهم، بل لأجل كفرهم. والله تع صرح بذلك ونص عليه؛ فقال في المنع من القتال والقتل في الحرم: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين}. ثم ((قال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}. والفتنة هنا الكفر. وقال: {والفتنة أشد من القتل}؛ ولأن الكفر إفساد للدين والقتال إفساد للدنيا والعقوبة تعلو أكبر الجريمتين ولا تعلق على أدناهما إذا اجتمعا. قال حنبلي يساعد مذهب أبي حنيفة: فقط أسقط القتل لما عاد بمصلحة الدنيا وهو بذل الجزية. وليس في بذل الجزية صلاح للدين ولا

23 - [حديث]

كف عن الكفر. وإذا أسقط القتل والقتال مع الإصرار على الكفر لأجل الجزية، وليس فيها إلا صلاح الدنيا، جاز أن تضاف عقوبة القتل والقتال إلى إفساد أمر الدنيا دون مجرد الكفر. وإذا تأمل المنصف وضع الشرع في القتال والقتل، لاح [له] صحة ما قاله أبو حنيفة. وذلك أن الكفر يعم الأطفال والنساء والرجال. جعل النساء والصبيان عبيدًا وآماء. وذلك نوع تمول ومصلحة لأمر الدنيا. وكف عن الرهبان والمشايخ لقصورهم عن القتال الذي هو إفساد. وإذا بذل الرجال الجزية كف عنهم القتل والقتال، لكونها من مصالح الدنيا، مع قيام عين الكفر فيهم. 23 - روى أبو بكر الصديق عن النبي صلعم قال: لا يدخل الجنة بخيل ولا خائن ولا سيء الملكة؛ يعني -والله أعلم -المسيء إلى رقيقه وبهائمه بمنع ما يجب لهم أو تأديبهم بما لا يطيقونه من الجذم. ويدل على هذا اهتمامه صلعم عند الموت: الصلاة! الصلاة! أوصيكم بما ملكت أيمانكم خيرًا. 24 - ركب أبو عبيد الله كاتب المهدي الدين يصاف مرتعيا بباب الطاق التي فيها مولدي، فعرض له في طريقه معاذ بن مسلم وخالد بن برمك، فترجل له معاذ، ولم يفعل ذلك خالد؛ فحقدها أبو عبيد الله في نفسه.

من أخبار علي بن أبي طالب - ومثل سائر

فلما نزل أقبل على معاذ وأكرمه، وجفا خالدًا. فلما سخط المهدي على أبي عبيد الله قعد عنه معاذ وأتاه خالد. فبذل له مالًا جليلًا، وأعانه بنفسه وماله وجاهه كل المعونة. فلما رأى خالد أبا عبيد الله قد عجب من ذلك، مع ما ستر من جفائه، قال له: يا أبا عبيد [الله]: إن النفس التي منعتني من ((النزول لك [ذلك] اليوم هي التي بعثتني على ما ترى من وفائي لك في هذا الوقت؛ وإن النفس التي بعثت معاذًا على نزوله لك هي التي أقعدته عنك الآن. قال حنبلي: هذه -والله -المكارم التي عاش الناس في بحبوحتها قديمًا وعدمناها في أواخر أعمارنا، لموت الكرماء، حاشى ظهير الدولة خازن إمامنا. 25 - قيل لأمير المؤمنين علي عم: لم لا تلبس الجديد وأنت تقدر عليه؟ قال: هو أخشع لقلبي. وقيل له: لم لا تجعل لدرعك ظهرًا؟ قال: لأني لم أدخل الحرب فأحدث نفسي بالفرار والتولي. يقال: من ذل للعلم طالبًا عز مطلوبًا. 26 - قال أبو زيد: قلت للخليل: لم قالوا في تصغير واصل ((أويصل)) ولم يقولوا ((أوويصل))؟ قال: كرهوا أن يشبه كلامهم نبح الكلاب.

حكم للأحنف

27 - قال الأحنف لابنه: يا بني! ثمانية إن أهينوا فلا يلاموا إلا أنفسهم: من أتى مائدة لم يدع إليها؛ والمتأمر على أهل البيت في بيته؛ ومن جلس مجلسًا لا يستحقه؛ والداخل بين اثنين في شيء -أو قال: في أمر -لم يدخلاه فيه؛ وطالب الخير من اللئام؛ وطالب الفضل من أعدائه؛ والمقدم بالدالة على السلطان. 28 - سأل سليمان بن علي أبا عمرو بن العلاء عن شيء، فصدقه عما سأله. فلم يرضه الصدق فيما سأله، فغضب. فخرج أبو عمر وهو يقول: [المتقارب] أنفت من العار عند الملوك ... وإن أكرموني وإن قربوا إذا ما صدقتهم خفتهم ... ويرضون مني أن يكذبوا 29 - قال الحسن يومًا: اعتبروا المنافق بثلاث خلال: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان. فبلغ قوله عطاء بن أبي رياح، فقال: قد كانت هذه الثلاث خلال قد كملت ((في ولد يعقوب: حدثوه فكذبوه، ووعدوه فأخلفوه، وائتمنهم فخانوه. فأعقبهم الله التوبة. فبلغ ذلك الحسن، فقال: وفوق كل ذي علم عليم.

وصية والد لولده في تعلم الأدب

30 - وقال رجل لولده: تعلم الأدب فإنه زيادة في العقل، وعون على المروءة، وصلة في المجلس وصاحبه في الغربة. 31 - قال بعض أهل الحكمة: أدخلنا الدنيا جاهلين، وعمرنا فيها غافلين، ونحن مفارقون لها كارهون. قال الشاعر: [الوافر] دخلنا كارهين لها فلما ... ألفناها خرجنا كارهين 32 - قالوا: إساءة المحسن مع جدواه، وإحسان المسيء كف أذاه. 33 - قيل للحسن: ما التوكل؟ قال: أن لا يكون شيء أوثق من قلب العبد من ربه. 34 - خرج قوم الشام فرأوا في طريقهم قليبًا. فأنزلوا أحدهم ليفجر الماء. فوجد صخرة مكتوب عليها: يا ابن آدم! تصبح ناعسًا ولم تقم، وتمسي جائعًا ولم تصم؛ تنوي التوبة بطول الأمل، [ ... ]؛ تحب المحسنين ولست منهم، وتبغض المسيئين وأنت منهم.

من مناقب أبي بكر الصديق

35 - كان لأبي بكر الصديق عم أربع خصال لا يشاركه فيها أحد: ثاني اثنين في الغا [ر]؛ وثاني اثنين في الدار؛ وثاني اثنين في المشورة؛ وثاني اثنين في العريش. 36 - كانت لأم كلثوم بنت علي عم ثلاثة أشياء. زوجها أبوها من عمر رضه ولم يستأمرها. واستشهد عمر رضه، فلم ينقلها أبوها من منزله الليلة التي أصيب فيها، وقال: ((الدار للمسلمين وليست لعمر، ولو كانت ملكًا له لنقلتها.)) وتوفيت وابنها زيد بن عمر في ليلة؛ فصلى عليها ابن عمر؛ فجعل الابن مما يليه، وجعلها مما وراء الابن. وعرف بذلك كيف السنة في الصلاة على المرأة إذا اتفق معها رجل. قال الحنبلي: فما أجهل من يقول لم يكن من فقهائهم! 37 - جرى في مسألة هل يحسن في العقل تكليف من يعلم أنه يخالف ولا يطيع قال متكلم محقق: أنه يحسن. لأن المعلوم تابع للعلم، فبحسب المعلوم يدرك العلم. فأما أن يقع المعلوم بحسب العلم فلا. وما العلم في المثال إلا بمثابة المرآة لإظهار صورة الوجه. إن كان حسنًا أظهرته ((حسنًا، وإن كان قبيحًا ظهر فيها قبيحًا. فأما أن يقع الحسن والقبل لأجلها فلا.

وكذلك المصباح الكاشف عما سترته الظلمة: هو تابع لما يظهره، حسنًا كان أو قبيحًا. اعترض عليه معترض فقال: هذا لا يحسن لأجل ما ذكرت. ألا ترى أن إنسانًا لو هوى في بئر، فعلم من خارج البئر أنه إذا دلى إليه حبلًا خنق به نفسه، فدلى إليه الحبل فخنق نفسه، لم يكن مدلي الحبل على الصفة المذكورة محسنًا، بل كان مسيئًا. فالحبل كالشرع، والخنق كالكفر. قال المستدل: فهذا قد كان في الشرع. فإن كنت متكلمًا على الشرع فلا وجه لكلامنا في هذا الفرع. بل تعال نتكلم في أصل الشرع. لأن من خالف في أصل الشرع لا يحسن أن يتكلم في هذه المسألة. على أن العالم -جلت عظمته -إنما يفعل بقدرة وعن إرادة. فإذا قلت بأنه لا يحسن الأمر بما علم بخلافه، لأنه إذا وجب المعلوم بوجوب العلم فلا أثر للقدرة الإرادة، فهذا ليس بصحيح. لأنا لو قدرنا رفع العلم لم يتعطل لما ارتفع الفعل مع وجود مصححه وهو القدرة والإرادة. على أنه ينقلب هذا في الباري سح لأنه إذا أوجب ما علم كونه لم يدخل تحت قدرتنا فيصير العلم هو المؤثر دون الله تع ودوننا. قال المعترض: والعلم مؤثر؛ بدليل أن الفعل المحكم إنما يصدر عنه ولا حكمة. ولولا العلم لصدرت الأفعال مثبطة.

من كلام علي بن أبي طالب

38 - من كلام أمير المؤمنين علي عم: كم من مستدرج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه. وما ابتلى الله أحداً بمبلٍ إلا ملاكه. 39 - أنشدونا لبعض المحدثين: ضحكت وكانت قبل غير ضحوك ... وتعجبت من أشيبٍ صعلوك ? لا تعجبي من شيب رأسي إنه ... عظة السفيه وعصمة المهتوك من عاش مات ومن تشيب أصداعه ... يلقى القيان بذلة المملوك 40 - أنشد النعيمي لبعضهم في ثقل الردف: من رأى مثل حبتي ... تشبه البدر إن بدا تدخل اليوم ثم تد ... خل أردافها غدا 41 - وأنشد النعيمي لنفسه في غلام نصراني: لما رأيت معذبي ... تشقى بهجرته القلوب ناديت بين صحابتي ... يا قوم قد غلب الصليب

شعر لابن جعفر الرسول

42 - أنشد أبو طاهر أحمد بن محمد بن جعفر بن الخضير الحراني المعروف بابن جعفر الرسول من ساحى الكرخ: ولي صديقٌ ما مسني عدمٌ ... مذ وقعت عينه على عدمي قام بأمري لما قعدت به ... ونمت عن حاجتي ولم ينم أغنى وأفنى ولم يكلفني ... تقبيل كفٍّ له ولا قدم 43 - قال أكثم بن صيفي: السؤال وإن قل، يهون له كل نوال وإن جل. 44 - لبعضهم: ليس في كل ساعةٍ وأوان ... تتهيا صنائع الإحسان فإذا أمكنت فبادر إليها ... حذراً من تعذر الإمكان 45 - روى ابن دريد قال: أخبرنا السكن بن سعد الجرموزي قال: أخبرنا علي بن نصر الجهضمي عن أشياخ من الأزد، ممن أدرك من شهد الجمل، قال: لما رجع ابن الزبير من البصرة إلى المدينة مر بمنازل بني مجاشع

من بني تميم ليلاً. فبينا هو يسير، ومعه مولى يقال له زيد، إذ سمع صهيل البسام، فرس الزبير. فقال له مولاه: أشهد بالله أنه لصهيل البسام! وكان ابن جرموز قد أخذه؛ فقال له ابن الزبير: ويحك! والله إنه لصهيل الأشقر. والله لا أرجع الليلة حتى آخذه، أو تعيقني دونه? العوائق! فقال له مولاه: أذكرك الله لما إن تركته وانطلقت بنا فإني أخاف أن تقتل. والله ما نجوت من الموت إلا بما بقي من أجلك، وقد عاينته عياناً. فقال عبد الله لمولاه: اثبت لي مكانك، ويحك، ما بينك وبين نصف الليل. فإن جئتك فسبيل ذلك، وإلا فانطلق وانعني إلى أسماء. ثم ترجل واشتمل سيفه وصمد لصوت الفرس. فعرض له رجل من الحي في جنح الليل حتى انتهى إلى الفرس. فضربه ابن الزبير فقتله، وأخذ الفرس من رباطه، فجاء به يقوده حتى انتهى إلى مولاه، فانطلقا جميعاً. فقال ابن الزبير رضه في ذاك: يذكرني الزبير صهيل طرفٍ ... تناوله ابن جرموز بغدر فقلت لصاحبي أرود قليلاً ... لأقضي حاجتي ووفاء نذري فإن أرجع فذاك رجوع جنحي ... وإلا فانعني أو بح بسري فجئت أقوده والنجم عالٍ ... وما هي من أبي بكرٍ بنكر وقد كان الزبير فتى معدٍّ ... إذا فزعوا وفارس حي فهر وأجودهم على العلات كفاًّ ... وأعودهم على عسرٍ بيسر

من أخبار شريك بن الأعور الحارثي

وأقومهم ممر الحق فيهم ... وأتركهم لشبهة كل أمر وقالوا قد هوت لأبيك أمٌّ ... فقلت لهم ألا لا لست أدري أرى أمرين في عرفٍ ونكر ... ولست بعاذرٍ إلا بعذر فإن تكن المنية أقصدته ... فكل فتى إلى الغابات يجري 46 - روى ابن الأنباري قال: أخبرني أبي قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن عمران الضبي قال: لما أكثر أصحاب الحديث على شريك، قالوا له: يا عبد الله! حدثنا بحديث رسول الله صلعم: ((تقتل عماراً الفئة الباغية)). فغضب وقال: أترون فخراً لعلي أن يقتل عمار معه؟ إنما الفخر لعمار في أن يقتل مع علي رضهما. 47 - قال ابن الأنباري: ? وحدثني أبي عن شيخ له قال: دخل صالح المري إلى عبيد الله بن الحسن العنبري، وكان قاضي البصرة وأميرها، يعزيه عن أمه. فقال له: إن كانت مصيبتك بأمك ما أحدثت لك عبرة في نفسك، فمصيبتك بنفسك أعظم من مصيبتك بأمك. ثم نهض. فقيل لعبيد الله: من هذا؟ فقال: طبيب من أطباء الآخرة. وحضر مجلسه سفيان الثوري، فقال، لما سئل عنه: ما هذا قاص، هذا نذير من النذر.

من أخبار عمرو بن العاص مع معاوية

48 - وروي عن ابن عباس أن عمرو بن العاص قال يوماً لمعاوية: رأيت فيما يرى النائم أبا بكر رضه كئيباً حزيناً، قد أخذ بضبعيه رجلان، فقلت: ((بأبي أنت وأمي، يا أمير المؤمنين! ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ )) قال: ((وكل بي رجلان ليحاسباني. وإذا صحف ليست بالكثيرة)). ورأيت عمر بن الخطاب كئيباً حزيناً، قد أخذ بضبعيه رجلان، فقلت: ((بأبي أنت وأمي، يا أمير المؤمنين! ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ )) قال: ((وكل بي هذان رجلان ليحاسباني. وإذا صحف مثل الجزوزة.)) ثم رأيت عثمان ابن عفان كئيباً حزيناً، وقد أخذ بضبعيه رجلان، فقلت: ((بأبي أنت وأمي، يا أمير المؤمنين! ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ )) فقال: ((وكل بي هذان ليحاسباني بما ترى. وإذا صحف مثل الخندمة جبل، إذا دخلت الطول على يسارك. ورأيتك يا معاوية، وقد اخذ بضبعيك رجلان، وقد ألجمك العرق، فقلت: ((ما لي أراك حزيناً؟ )) فقلت: ((وكل بي هذان ليحاسباني بما ترى. وإذا صحف مثل أحد وثبير.)) فقال معاوية: ((أما رأيت ثم دنانير مصرية؟ )) 49 - لابن الحجاج في شريف آذاه، فقال: رأيتم قط أحمق من شريف ... يصير على أذى رجلٍ سخيف فكان كمثل عطارٍ تدلى ... فنكس رأسه جوف الكنيف

من أخبار أبي جعفر المنصور

50 - روى أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري قال: حدثنا محمد ابن داذ الكاتب قال: لما ولى أبو جعفر المنصور الفنجر الساني عملاً، فألزم مالاً فمنعه. فأمر المنصور أن يحبس. فحبس في دار العذاب؛ وكانت إلى جانب المطبق. قال: فعذب؛ فلم يقر بشيء. فلما طال ذلك، كلم معي فيه? المنصور فقال: ((إني عزمت أن لا يخرج من حبسه وهو مقيم على هذه المراغمة، ولكن لأجل شفاعتك أنفذ إليه بمال يؤديه وأطلقه.)) فبعث إليه بمقدار ذلك، وهو مائة ألف درهم، وهو القدر الذي كان يطالب به. فلما صار ذلك إليه حمله إلى منزله. وقال له المستخرج: ((احمل الآن المال.)) فقال: ((أي مال؟ )) وجحد ما حمل إليه. فأعيد عليه العذاب. فلم يقر بشيء. فبلغ ذلك المنصور، فقال: ((هذا شيطان! أردنا أن نأخذ منه مالنا، فأخذ مالاً ثانياً وجحده.)) فخلى سبيله، ولم يوله شيئاً. فكان يضرب به المثل، ويقال: أصبر من الفنجر. 51 - روي أنه قدم عقيل بن أبي طالب على علي أخيه وهو بالكوفة يسأله مالاً. فقال للحسن: ((اكس عمك.)) فكساه قميصاً من قمصانه، ورداء من أرديته. فلما حضر العشاء، دعا علي العشاء. فإذا كسر تتقعقع يبوسة، فقال عقيل: ((أوليس عندك إلا ما أرى؟ )) قال علي: ((أوليس هذا من نعمة الله كثيراً؟ فله الحمد والشكر.)) فقال عقيل: ((يا أمير المؤمنين! لا

ضير إذ كان هذا، أعطني ما أقضي ديني، وعجل سراحي لأرحل عنك.)) فقال علي: ((فكم دينك؟ )) فقال: ((أربع مائة ألف درهم.)) فقال علي: ((فما هي عندي، ولا أملكها، ولكن تصبر حتى يخرج عطائي فأقاسمك.)) فقال عقيل: ((بيت المال في يدك، وأنت تسوفني؟ )) قال: ((والله يا أخي ما أنا وأنت في هذا المال إلا بمنزلة رجل من المسلمين.)) وجعلا يتكالمان في هذا وهما فوق قصر الإمارة مشرفين على صناديق أهل السوق. فقال علي: ((إذا أبيت ما أقول، فانزل إلى بعض هذه الصناديق، فاكسرها وخذ ما فيها.)) قال عقيل: ((أتأمرني أن أكسر صناديق قوم قد توكلوا على الله وجعلوا أموالهم فيها واتكلوا عليها؟ )) قال: ((أفتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين وقد توكلوا على الله، وهم يرجون قبضها، وأنا متقلد أحدها من وجوهها ووضعها في حقوقها؟ فإن أبيت ما أقول أخذت سيفاً، ثم أخذت سيفاً، ثم انطلقنا إلى الجير، فإن فيها تجاراً مياسير، فدخلنا على بعضهم وأخذنا أموالهم.)) قال عقيل: ((أسارقاً جئت؟ )) قال علي: ((فلئن تسرق من واحد خير من أن تسرق من كافة المسلمين.)) قال عقيل: ((فائذن لي أن آتي هذا الرجل? - يعني معاوية- غير متهم لي أني إليه هجرت، ولا عنك صدرت، ولا به انتصرت.)) قال: ((قد أذنت لك.)) قال: ((فاعني على سفري إليه.)) قال: ((يا حسن! أعط عمك أربع مائة درهم.)) فأعطاه إياها. فخرج من عنده، وهو يقول: سيغنيني الذي أغنى علياًّ ... فيدركه إلى الرحم الطلوب

كلام الحسن البصري في الإيمان

ويغنيني الذي أغناه عني ... ويغني ربنا ربٌّ قريب ثم وصل إلى معاوية. فوصله بأربع مائة ألف لقضاء دينه، ثم [وصـ]ـله بمثلها. قال حنبليٌ: فكيف استحل أن يأذن لأخيه في الأخذ من مال يعتقده مسروقاً أيضاً؟ لأن معاوية أخذه عنده وفي اعتقاده بغير حق. فأجاب بأنه اعتقد أن الذي بيد معاوية مال بيت المال. وأنه ليس بإمام، ولا متصرفاً بإذن الإمام. فأذن لأخيه بحكم أنه المتصرف بحق أن يأخذه بإذنه. فيصير أخذاً بحق- والله أعلم. 52 - عن كثير بن مرة قال: رأيت كأني أدخلت الجنة. فأدخلت درجة عالية. فجعلت أطوف بها وأتعجب منها. وإذا بنسيات من نساء المسجد في ناحيتها. فذهبت إليهن، فسلمت عليهن، ثم قلت: بم تلقين هذه الدرجة؟ قلن: بسجدات وكسيرات. 53 - قيل للحسن: ما الإيمان؟ قال: الصبر عن معاصي الله، والسماحة بفرائض الله. 54 - قال بعضهم: من استغفر لمن ظلمه أمن من عذاب الله.

مسألة في صول الفحل

55 - جرى في صول الفحل أن قال حنبلي: إن هذا صار في حال صياله كالسبع في حال دوامه. فهو كالصيد في الحرم والإحرام في إسقاط الضمان، وكالسبع في الحرم والإحرام. وصار الصيد في أمده كالسبع في أبده. ومثل هذا ما قلناه في حق الذمي مع المستأمن، لا يقتل بواحد منهما المؤمن. اعترض عليه حنبلي آخر فقال: هذا ليس يستقيم. لأن السبعية الخلقية تخالف الصيال الطارئ على ما خلق? لا على طريق السبعية. بدليل أن هذا في حال صياله لو قتله غير المصول عليه، لا لدفع، ضمنه. ولو صال ثم ترك الصيال وخاس، حتى يقتله المصول عليه الذي صال عليه ثم كف عنه، ضمنه. والسبع في خيسه، إذا قتل، لم يضمن. واستشهادك بالذمي مع المستأمن دعوى على دعوى. والفساد هناك باعتبارك كفساد هذا، ولا فرق. 56 - قال أبو الحسن محمد بن عمر الأنباري في ابن بقية الوزير لما صلب: لم يلحقوا بك عاراً إذ صلبت بلى ... باءوا بعارك ثم استرجعوا ندماً وأيقنوا أنهم في فعلهم غلطوا ... وأنهم نصبوا من سؤددٍ علما فاستدركوه وواروا منك طور على ... بدفنه دفنوا الأفضال والكرما

شعر لأبي نواس

لئن بليت فما يبلى نداك ولا ... تنسى وكم هالكٍ ينسى إذا قدما تقاسم الخلق حسن الذكر منك كما ... ما زال مالك بين الخلق مقتسما بقية الجود فينا كنت فانقرضت ... فليس نعدم مذ فارقتنا العدما وكنت لله فينا أنعماً سلبت ... ولو بقيت لنا لم نسلب النعما وكيف ينساك حرٌّ لم يجد عوضاً ... مذ مت عنك ولا يبكي عليك دماً 57 - وجدت هذه الأبيات بخط ابن الأنباري وقد رواها بالإسناد عن أبي نواس: أيا من بين باطيةٍ وزقٍ ... وعودٍ في يدي علقٍ مغني إذا لم تنه نفسك عن هواها ... وتحسن صونها فإليك عني فإني قد سئمت من المعاصي ... ومن إدمانها وسئمن مني ومن أسوأ وأقبح من لبيبٍ ... يرى متطرباً في مثل سني 58 - جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلعم: خمسة لهم أجران. رجل كان مؤمناً بالكتب كلها، ثم أدرك الإسلام

من كلام بزرجمهر

فدخل فيه؛ فله أجران: أجر الكتاب الأول، وأجر? الكتاب الآخر. ورجل اشترى جارية فأدبها وعلمها، ثم أعتقها وتزوجها؛ فله أجران اثنان. ورجل أمر بصدقة في ذوي قرابته؛ فله أجر الصدقة، وأجر ما وصل قرابته. ورجل علمه الله علماً فعمل به وعلمه الناس؛ فله أجران اثنان. ورجل مملوك أدى إلى الله- عز وجل- ما افترض عليه، وأدى إلى مواليه الحق مما أفاء الله عليه؛ فله أجران اثنان. 59 - من كلام بزرجمهر: لم أر ظهيراً على تنقل الدول كالصبر، ولا مذلاً للحساد كالتجمل؛ ولا مجلبة للإجلال كتوقي المزاح؛ ولا مجلبة للمقت كالكبر والعجب؛ ولا مخلقة للمروءة كاستعمال الهزل في مواطن الجد. 60 - وقال غيره من الحكماء: التجني رسول القطيعة، وداعي الغل، وسالب السلو؛ وهو أول منازل الهجران. 61 - قد ورد: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وورد المنع من اليقين أو الظن بما يوجب الشك ليبقى على حكم الأصل. فإن قوله صلع لما سألوا

حديث وتفسيره للشافعي

الراعي عن الماء، هل ورد عليه ما ينجسه: لا تعلمهم. وقال عمر للسائل عن الميزاب: يا صاحب الميزاب! لا تعلمهم. وأمر بأخذ كف من الماء للميزر عقيب الاستنجاء. كل ذلك دفع للظن، أو العلم، بما يوجب البقاء على الأصل. فكيف الجمع. قال حنبلي: يحمل قوله الأول على الاستحباب؛ أو في المأكول والمشروب والمنكوح، دون الطهارات والتعبدات التي طريقها المسامحة. 62 - سئل الشافعي رحته عن معنى قول النبي صلعم: ليس الغنى من كثرة العرض؛ إنما الغنى غنى النفس. فقال: كان النبي صلعم يتعوذ من نفس لا تشبع. فمعنى غنى النفس أنها إذا كانت شاكرة لأنعم الله فهو غناها. وإذا كانت غير قانعة، فكثرة العرض لا يغنيها أبداً. ولهذا كان من دعاء? النبي صلعم: اللهم قنعني بما رزقتني. فإذا من الله بالقناعة، فهو غني النفس. قال الشافعي رحته: وابن آدم الذي قال النبي فيه ((لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً)) هو الذي حرم غنى النفس. 63 - قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه: الفتنة من ثلاثة وجوه: حب النساء، وهن سيف إبليس المرهف؛ وحب الأشربة، وهو فخ إبليس الصيود؛ وحب الدنيا والدرهم، وهو سهم إبليس المسموم.

فصل في توديع

فمن أحب النساء لم يمتع بمعاشه؛ ومن أحب الأشربة خرج من الدنيا والآخرة؛ ومن أحب الدنيا والدرهم عبد الدنيا. 64 - فصل في توديع وقد استعجلت الاستيحاش له، وتسلفت الاشتياق إليه، والركاب مناخة، والدار بعد جامعة. فكيف حالي إذا نسا الفراس، وانقطعت العلائق، فضربت النوى بيننا سياجها، وزحمت بعضاً على بعض بمناكبها. وتعللنا بعد العين بالأثر، وبعد اللقاء بالخبر. وإلى الله أرغب في أن يفيض عليك جلباب السلامة راحلاً ونازلاً، ويجعلك في ضمان الكفاية مقيماً وظاعناً، ويوردك المقصد الذي تقصده، والمرمى الذي ترمى نحوه، محفوظاً بيده الطولي، ملحوظاً بعينه اليقظي، إنه سميع الدعاء سابغ النعماء. 65 - كان أبو الهذيل العلاف، شيخ وقته في المعتزلة، يرى أن ليس فعل مباح؛ بل الأعمال الواقعة منا لا تخلوا أن تقع طاعة أو معصية. فقال له رجل كوفي: ألست تقول إن أفعالك لا تخلوا من طاعة أو معصية؟ قال: بلى. قال: فلبسك ثيابك هذه الجدد طاعة لله أو معصية له؟ فقال: إن كنت لبستها لأظهر بها نعمة الله علي، وأؤدي فيها فرائضه،

من كلام داود النبي (فصل ناقص آخره)

فذلك داخل تحت قوله: {خذوا زينتكم عند كل مسجدٍ}، {وأما بنعمة ربك فحدث}؛ فذلك طاعة الله. وإن كنت لبستها لأباهي? بها الأغنياء، ولأغايظ بها الفقراء، فهي معصية. ولا يمكنني أن أقول مفصحاً ((إني لبستها أريد بلبسي لها الجهة المحمودة))، فأكون مزكياً لنفسي؛ والله تع يقول: {فلا تزكوا أنفسكم}. ولا أقول ((لبستها للجهة المذمومة))، فأكون قد فضحت نفسي، وقد نهاني الله عن ذلك بقوله: لا يزال العبد في ستري ما ستر على نفسه؛ وقال النبي صلعم: من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله. قال حنبلي: قد أخل أبو الهذيل في تقسيمه بقسم يخلو من طاعة ومعصية. وهو أن يلبسها للذة نفسه: إما لدفع البرد، أو الحر؛ من غير أن يخطر بباله ستر عورة، أو قصد زينة لمسجد، أو إظهار نعمة الله، أو مباهاةً لأحدٍ، أو قصداً لمغايظة أحد. ولا يمكنه أن يقول إنه ليس لنا فيما يقع من أفعالنا حالة ذهول عن الأمرين اللذين ذكرهما؛ مثلك حالة الطلاق. اللهم إلا أن يقول لا يجوز له أن يلبس إلا بنية، وأن لا يخلو من قصد المباهاة. فذلك مكاثرة لما نجده من نفوسنا من الحال الثالثة: وهي حال غفلتنا عن القسمين اللذين ذكرهما. 66 - أخبرنا شيخنا القاضي الإمام أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء بالإجازة، وهي عندي عظة مع سماعي منه كثير ما عنده، قال: أخبرنا عيسى

تتمة فصل 740 ص 752

ابن علي قال: حدثنا أبو عبد القاسم بن إسماعيل المحاملي قال: حدثنا محمد بن الوليد القرشي قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت عبد الرحمان بن أبزي قال: 67 - كان داود عم يقول: كن لليتيم كالأب الرحيم. واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد. وأن الخطيب الحمق في نادي القوم كالمغني عند الميت. ولا تعد أخاك ثم لا تنجز له فيورث بينكما العداوة. وأن المرأة السوء عند الرجل كالشيخ الكبير على ظهره الحمل الثقيل، والمرأة الصالحة الذلول كالملك الشاب على رأسه التاج المخوص بالذهب. وسل الله [ ... ] 68 - [ ... ] وأومأ إليها- يعني حتى تقوم الجارية. قال الحنبلي: استعارة تليق بالحال. 69 - ومن كلامه المختار: مع كل منظر حسنٍ رقيبٌ ينقص بهجته وينغص لذته. 70 - ومن كلامه في صفة الدنيا: لا يسوغ خلافتها، تزرع الهيبة في القلوب.

جرى في الجزية هل تسقط بالإسلام

كم من يوم أغر، كبير الأهلة، قد أصبحت سماؤه وامتدت علي أفياؤه. 71 - جرى في الجزية هل تسقط بالإسلام قال حنبلي: عقوبة تجب بالكفر. فسقطت بالإسلام، كالقتل. قال الشيخ الإمام جمال الإسلام أسعد: إن أردت أنها في الأصل عقوبة، مسلم؛ وأما إن أردت أنها تستوفي عقوبة، فلا. وكيف تكون عقوبة وهي قد جعلت الذمي محقون الدم، مبسطاً في دارنا، وثبوت عبادته في دارنا وهو محمي الجانب بنا. حتى لو قصد قريته أو حلته قوم من أهل الحرب جهزنا إليهم عساكر الإسلام حامية له، ذابة عنه، مخاطرة بأنفسها، منفقة لأموالها في ضمانته. فهذه من أكبر الكرامات. فكيف يدعيها عقوبة وقد جلبت هذه الكرامة؟ فإن نظرت إلى أنها تخسير في المال، فانظر إلى من بذل الأيمان الخطيرة الكثيرة في ثمار يأكلها، وثياب يلبسها، وسمى الأيمان عقوبة. فأجاب الحنبلي المحقق عن هذه الجملة، فقال: أنا أرثي له من هذه الكرامة. فإنك إذا خلفت إقامته في دار الإسلام، رأيته مذلة لا كرامة. فأقول: نصراني جاء من بلاد الروم، من دار الحرب، وهو حرب، فأعطي الأمان. وكان معه تجارة. وله قريب ذمي في دارنا. فقال: ((كيف أنت

ههنا؟ حتى إن كان مقامك كريماً عقدت معهم الذمة وأقمت عندك.)) وأنا أوازن بما ذكرت من ومن ومن ما أذكره، هل هو مخرج لما ذكرت عن كونه كرامة أو لا. فقال: ((حدثني، أنا رجل أتجر هناك في الخمر والخنازير وأنجر الصلبان. هل ههنا سوق أبيع فيها هذا؟ )) قال: ((لا؛ ومتى أظهرتها ... لتتجر فيها? أهرقت، وقتلت الخنازير، وكسرت الصلبان، [و] صفعت الصفع الوجيع.)) قال: ((هذه واحدة في المال. حدثني، فإن أردت أن أقعد على دكاني لبيع البقالة، لا الخمر، أتلو الإنجيل بصوتي، أقر على ذلك؟ )) قال له: ((في نية الذمي لا، بل تصفع الصفع الوجيع.)) قال: ((أردت أن أخرج من فواضل أموالي ما أبني إلى جنب بيعتكم هذه بيعة أخرى، أو في محلة أخرى، أمكن من ذلك؟ )) قال: ((بل تصفع وتضرب ويهدم ما بنيت.)) قال: ((أنا رجل أضرب بالناقوس هناك. فهل إن ضربت به ههنا، أمكن من ذلك؟ )) قال: ((بل تصفع وتضرب ويكسر الناقوس على رأسك.)) قال: ((فإن مات لي صديق فأخرج جنازته بالقرابين والشموع نهاراً، أمنع من ذلك؟ )) قال: ((وأي منع! صفع، وضرب، وتكسير الشموع، وتفريق الجموع، وصفع القرابين.)) قال: ((فإن كنت على دكاني، فأردت أن أتناول قدحاً من خمر كما أتناول قدح سكنجبين، أمنع من

حديث (انظر التتمة فصل 748 ص 755)

ذلك؟ )) قال له: ((وتصفع ويكسر قدحك على رأسك.)) قال: ((فإن أردت أدفن ميتي في مقبرة من مقابرهم، أو أبني قبة في تلك المقبرة، أمنع من ذلك؟ )) قال: ((وأي منع! ينبش ميتك فيرمى به عليك، وتصفع أنت وتضرب.)) قال: ((فإن دخلت إلى دار كتبهم فوجدت قوماً يتفاوضون ويتناظرون في المذاهب، فأفضت في نصرة التثليث، أمكن من ذلك؟ )) قال: ((تصفع. وربما رأى بعض المسلمين قتلك، وبعضهم نفيك إلى دار الحرب.)) فإنه إذا كان صحيح العقل قال: ((هذه الكرامة التي أشرت إليها، إما أنك ضعف عقلك فتمنيت الحبس والحصر والذل والإهانة كرامة، أو أنك رجل رأيت نفسك قد سلت من السيف، يسهل عندك ضنك العيش. وإلا فجميع ما ذكرت مما سألتك عنه فهو الحصر والكمد ونغصة العيش. والله لقد ضيقت أنفاسي، فضاق علي المقام إلى حين خروجي، بهذا العيش الذي وصفته.)) 72 - عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلعم قال: المؤمن لا يذل نفسه. وروي: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قيل: ((يا رسول الله فكيف يذل نفسه؟ )) [ ... ] 73 - ? ولو أنس ملكت يدي وقلبي ... لكان علي للقدر الخيار

شعر لبعضهم

ثم قال الأصمعي: قال لي المعتمر بن سليمان معتذراً: إنما روى هذا الخبر لهذا البيت الأخير: ولو أني ملكت يدي وقلبي ... لكان علي للقدر الخيار 74 - قال سفيان بن عيينة: الناس كلهم جميعاً يحبون أن يموتوا فجأة ولا يدرون. ألا تراهم كلهم يعلم أنه يموت ولا يحب أن يمرض. قال حنبلي: صدق؛ لأن الموت بغير مرض هو الفجاءة 75 - قال الشاعر: وكل مصيبات الزمان وجدتها ... سوى فرقة الأحباب هينة الخطب 76 - فصل قال حنبلي: من فتح عينه على هذا الفضاء الفسيح، ورأى هذه الدار الواسعة العريضة، ذات الجبال الراسية، والبحار الزاخرة، والأشجار الباسقة، والأودية العميقة، والأنهار العذبة الجارية، والرياح الناشبة، والسحب الثائرة وفي خلالها البروق اللامعة؛ وسمع زمجرة الرعود الزاجرة،

في الملائكة وفضل الآدميين عليهم

السائقة للعموم إلى القيعان الداثرة، المنشئة للأزهار المتنوعة؛ ورأى المعادن المعدة للحوائج العارضة؛ ورفع رأسه إلى الأفلاك الدائرة، والنجوم الزاهرة؛ ثم لا يمعن النظر ويحقق الفكر في هذه الأمور المشحونة بدلائل العبر؛ ثم لا يخرج من [هذه] الدار إلى الأخرى وما علم ولا خبر؛ - هذا بمثابة طين عمل لبناء، ثم سال عائداً إلى المقلع بصوت المطر. إذ لم يستفد بالوجود فائدة، بل ذاق مرارة الموت التي لم تقاومها حلاوة الوجود. غاية ما حصل من الدار ما عبلت به بنيته من الطعام والشراب، واستعادته إليها مع تطاول الأعصار والأحقاب. 77 - سأل سائل حنبلياً له قدم في التحقيق: ? ما بال الملائكة شغلوا بالتسبيح والتقديس؟ وهل هم مع ذلك أفضل من الآدميين أم لا؟ فقال الحنبلي: أما علة تسبيحهم واستدامة تقديسهم فإنهم أمة لا شغل لهم يقطعهم، ولا حاجات تمنعهم؛ قد كفوا مؤونة الأغذية والأدوية والتكسب لتحصيلها. والآدميون مغموسون في الاشتغال بالصنائع والأعمال التي يكتسبون بها الأموال لتحصيل الأقوات التي لا قوام لهم إلا بها، والأدوية لما يعرض من الأمراض والأعلال، وغير ذلك مما لا يستغنى فيه عن الأدوية التي لا يظفرون بها إلا بالأموال المحصلة لهم بالكد والاجتهاد. ثم في تناولها أكد شغل وأطول زمان. ثم طلب الراحة بعد ذلك التعب بالاستطراح للمنام.

ومع ذلك كله فلا يخلون بالطاعات في أوقاتها، ووظائف الأعمال والمناسك، وإخراج الأموال في وجوه الإخراج. والملائكة مع خلوهم من الأعمال، وتعطلهم من الأشغال، يشهدون من جلال الله وعظمته وملكوت السماوات ما يوجب لهم التهليل والتسبيح والتقديس. والآدميون مع ما ذكرنا من انقطاع أزمانهم بأشغالهم، لو لمع برق، أو دمدم رعد، أو عصف ريح، أو تحركت أرض، أو انقض كوكب، أو خسف قمر، أو كسفت شمس، فزعوا إلى التهليل والتسبيح والصلاة والتوبة عن الذنوب. ثم ما يعانونه من المصائب بفقد الأولاد، بعد تمكن محبتهم من القلوب والأكباد، ومجاهدة الأعداء في ذات الله ولإعلاء كلمة الله، وهجران ما تتوق إليه النفوس لأجل نهي الله، ولما امتحن بعضهم بما سلط على بني آدم من تكليف بترك ما تميل إليه الطباع في حق هاروت وماروت، أفلسوا عما صمخ عليه بنو آدم. فقد تضمن هذا الجواب بيان علة دوام تسبيحهم وأن أفضل الآدميين عليهم.- والله أعلم. 78 - لعلي بن محمد بن نصر: ? بعانة والحديثة أو بهيت ... دساكر للصبوح وللمبيت

شعر لعلي بن هشام بن إبراهيم صاحب المأمون

وراح كالشعاع إذا دبرت ... شممت روائح المسك القنيت معتقة يفر الهم منها ... كما فر الطريف من المقيت يطوف بها أغر غضيض طرفٍ ... سباك بحسن سالفه وليت وأسود فأحمر وبياض ثغرٍ ... نقي اللون لماع شتيت أعيذك أن تلين إلى ملامٍ ... فإن الخير مجتمع بهيت ألا يا ليتني فيها مقيماً ... وإن لم ألف فيها غير قوتي 79 - لعلي بن هشام بن إبراهيم صاحب المأمون؛ كان على حرسه: يعرض للنزاع الوجه حتى ... لصفحة خده منه تذوب طوى الدنيا ولذتها وأضحى ... وهمته نزول أو ركوب إذا الأبطال في خمسٍ تداعوا ... لحربٍ كان أول من يجيب وما شابت ذوائبه لسنٍ ... ولكن شيبتهن الحروب 80 - وليس يجهل العبد أن أوقات الموقف الأشرف المقدس- دام جلاله- كلها مصروفة إلى برد غلة ظمآن، أو سد خلة لهفان؛ فلا جرم أن عنايات الله تع بها تامة.

فصل في الرد على الظاهرية

81 - فصل قال حنبلي: إني لأعجب من قوم ينتمون إلى مذهب تسميةً، ثم يخرجون منه معنىً، فيدعون السنة والظاهر، فيقولون: ((نحن لا نتخطى النطق إلى تأويل ولا تفسير.)) حتى إنهم? تحرجوا من تسميته سح سخياً، ولغن سمى نفسه سح كريماً؛ من حيث علموا أن العرب عنوا بالسخاء والرخاوة، من قولهم: ((أرض سخية كالسبخة)) فإنها لا تتمسك بما يقع فيها من الماء، وتحرج بعضهم من تسميته ذاتاً. وقالوا: ((هو اسم تأنيث))؛ بل يسميه ((ذو)) وإن كان قد جاء بمعنى ((الذي)). قال الفراء لرجل سأل عنه في مجمع فقال: ((أين الفراء؟ )) فقال الفراء: ((أنا الفراء ذو سمعتَ.)) ولا يحسن إبداله بـ ((ذات))، بأن يقول: ((أنا الفراء ذات سمعت بي.)) وأثر ما يجيء ((ذو)) مضافاً مثل قوله سح: {رفيع الدرجات ذو العرش}، {ذو العرش المجيد}، أنا الله ذو ثلة خلقت الخير والشر وطوبي لمن جعلت الخير على يديه والويل لمن جعلت الشر على يديه، وقوة {ذو القوة المتين}. ولم تجيء ((ذات)) كذا إلا في الأنثى. فقولهم ((أسماء ذات النطاقين)) أضيفت إليها المكرمتين وهي إعانة النبي صلع بخيطين شد بهما مزوده. فأضيفت إلى ذلك لا لمحل الخيط في نفسه لكن لمحل الإعانة على الكربة

العظيمة. وكان الإسكندر يخاطب أمه بـ ((ذات الحلم)). فلما مرِض مرَض الموت كتب إليها: ((يا ذات الحلم! إذا وصل كتابي هذا فاعملي طعاماً واستدعي إليه من النساء من لم تصبها مصيبة.)) فتأملت ذلك فقالت: ((نعي والله إلى نفسه.)) وإذا كان يقال ((ذو)) في المذكر ((وذات)) في المؤنث لا يحسن أن نقول في الباري ((ذات)) لأنه لاسم ناقص، واسم التأنيث بالإضافة إلى اسم التذكير اسم ناقص. ولهذا تأول ابن عباس قوله سح وتع: {تعلم ما في نفسي}، قال: في علمي. وقد اعترض على هذا الحنبلي الذي أنشأ هذا الفصل فقال: من دخل على هذا يجب عليه أن لا يقول ((لله صفة هي قدرة وحياة)) لأنهما مؤنثان. كما أنه لا يجوز عليه نقص، لا يجوز على صفاته نقص. قال الحنبلي: وهذا الفصل أخرجته مخرجاً يخرج القوم عن التوسع في الأسماء. وإنما عرض لي في الكلام? في ((ذات)) و ((ذو)) فلم أغفل عن سطر لئلا يشذ عني. فإذا ثبت هذا، كيف يحسن بهذه الطائفة أن تتوسع في قوله سح: {ثم استوى على العرش} ((استقر)) أو ((جلس)) فقالت: ((استواء استقرارٍ))؟ وهذا يصرف من أخذ الاستواء في حقه ما اعتقده من استواء الملك على السرير، ونوح على سفينته، واستواء السفينة على الجودي، والراكب على مطيته وسرجه. وهذا بعينه هو التشبيه الذي لا يليق بمذهب من تجعد عن التصرف في الأسماء بالمعنى.

وحيث تجاسروا هذا التجاسر كان يجب ألا يتجعدوا عن تصريفهم لقوله تع {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} أن يقولوا: ((نفخ بفيه إلى ذات آدم المجوفة صفته التي هي الروح. وكذلك نفخ في فرج مريم إذ لا يعقل من النفخ إلا ذلك. بدليل نفخ عيسى في الطائر حيث قال: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير}، فينفخ فيه فيكون طيراً. فلما وجب أن لا ينصرف في النفخ المضاف إليه، ولا الروح التي أضافها إليه، أنه إخراج هواء وبعثه من فم إلى مجوف، ولا أن الروح المنفوخ منها أو المنفوخة صفة لله أولجها بذلك النفخ في جثة آدم ولا فرج مريم؛ لكن تفسير هذا ما جمعه الباري في كلمة تليق به فقال: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم}. ثم ذكر المماثلة في المادة التي خلقه منها وهي التراب، ثم ذكر معنى الخلق وما خلقه عنده أو به فقال: {ثم قال له كن فيكون}، {الحق من ربك}، أي هذا هو الحق من ربك، {فلا تكن من الممترين} في أن بيني وبين عيسى الوصلة التي توهمتها النصارى من أن كلمتي حلت، أو صفتي ولجت، أو أنه تولد عن كلمتي، أو أنه متعلق علي تعلقاً يزيد على آدم. فوجب على من سلك طريقة التحرج وفهم ما تحت قوله {استوى على العرش} ((استقر)) ولا {لما خلقت بيدي} ((عجنت طينة بجارحتين ذات أصابع فانسل الطين من بين أصابعي))، على ما توسعوا به. وتوسع الهروي? الأنصاري في قوله، {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}، {في كتابٍ مكنونٍ}، أنه حال في الصدور والصحف. وكان هذا من أعظم التجرؤ على القديم سح.

فتوى في مؤونة تنقية بئر

وإنني لأعجب من هؤلاء القوم المدعين أنهم أهل سنة، لا يتعدون من اسم إلى غيره مما هو مثله في المعنى، ثم ينبسطون في وصف الله تع بما يوجب إضافة الحوادث إليه، ويتنصلون من التشبيه. وهم بهذه المقالة مضاهين للنصارى ومربين عليهم حيث جعلوا كلمة الله حالة في كل أعمى وكل جلد ورق وكاغد. والنصارى كفروا بالقول بحلول كلمته في مريم وعيسى. 82 - جاءت مسألة رجل له خان، في وسطه بئر هي مصب جميع مياه الخان من سطحه وأرضه. وإلى جنب الخان حجرة لآخر. وإجراء ما سطح الحجرة، بحق ورسم قديم، إلى سطح الخان. وتجري إلى تلك البئر التي في وسط الخان. وقد تفنت بطول السنين، واحتاجت في هذه السنة إلى تنقية. فقال صاحب الخان لصاحب الحجرة: ((عليك تنقية البئر وحدك، ولا أساعدك فيها.)) فكيف الحكم في ذلك؟ فأجاب الحنبلي له فهم وإصابة في غالب أحواله: إن جميع مؤونة التنقية على صاحب الخان؛ ليس على صاحب الحجرة من ذلك شيء. قال: ورأيت أن ما يتجدد من شعث سطح الخان من جري ماء الحجرة بالحق والرسم إما بأن يحفر السطح أو؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ أو يعلو بما تمتع ماء الحجرة من كدر كل ذلك على صاحب الخان. فكذلك تفن البالوعة ولا فرق بينهما. من

في قتل حمزة بن عبد المطلب وتأويل معاملة معاوية قاتله

جهة أن كل واحد منهما شعث يحدث من جري مائه.- والله أعلم. 83 - ? روي أنه كان أنصاري شارك وحشياً في قتل حمزة. فقال الأنصاري في ذلك: يسائلني الناس عن قتله ... فقلت ضربت هذا وطعن فنحن شريكان في قتله ... كما شارك الروح هذا البدن قالي وحشي: فلما قدمت المدينة، وقد ولي أبو بكر، سألني: ((كيف قتلت حمزة؟ )) فأخبرته؛ فقال لي: ((غيب وجهك عني.)) فكنت أخالفه الطريق، فإذا سلك طريقاً سلكت طريقاً أخرى؛ حتى توفي وولي ابن حنتمة- يعني عمر بن الخطاب.- قال حنبلي: وقوله ((ابن حنتمة)) يدل على ما يدل عند العقلاء.- فأرسل إلي فدعاني، فقال: ((كيف قتلت حمزة؟ )) فأخبرته؛ فقال لي: ((لا تساكني في المدينة)) فخرجت إلى الشام. فلما ولي أمير المؤمنين معاوية، أنزلني داراً وأجرى علي رزقاً من بيت المال.)) قال حنبلي: فافتقد الناس على معاوية ذلك، كما افتقدوا على عثمان رد طريد رسول الله، وهو الحكم الذي كان سيحلف النبي صلع يحكي مسبته،

من أخبار هشام بن الكلبي

فنفاه. فكان رده له من بعض ما أخذوه عليه من الذنوب. فهذه الفلتات من بني أمية معدودة عند أقوام من نفاق كان متخمراً معهم. قال الحنبلي: وهي عندي من غلبات الطباع التي لا تمنع صحة العقائد. فقد كانت تغلب على الأنبياء- صلوات الله عليهم. فمن ذلك أن النبي صلع قبل إيمان هند. وكا يكره أن ينظر إليها حتى عاتبه الله فيها وشهد لها بالإيمان. ولم يغلب علمه بإيمانها على طباعه صلع في كراهية نظره إلى وجهها حيث يراها وقد أكلت كبد عمه وبذلت حليتها في قتله. وكان عمه أبو طالب على ما كان وطبعه يغلب رقة عليه وميلاً إليه حتى يكاد يستغفر له. فعوتب في ذلك بغلبات الطباع لا ينكرها إلا من لا يتأمل? حقائق الأحوال. فهذا رق عليه مع الكفر، وهذه يقسو عيها مع الإيمان. فلا ينبغي للعاقل أن يأخذ من فلتات الكلام الصادر عن الطباع نفي الإيمان ولا إثبات النفاق، لاسيما مع شواهد الوحي بإيمان القوم. قال الحنبلي: فهذا قدر تأويلي وجهدي.- والله أعلم؛ وهو الطريق الأسلم. 84 - عن هشام بن الكلبي قال: قال لي أبي: حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد. كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن. فدخلت بيتاً وحلفت ألا أخرج منه حتى أحفظه. فحفظت في ثلاثة أيام. فأما

شعر لماني الموسوس

نسياني الذي لا ينسى مثله أحد، فإني نظرت يوماً وجهي في المرآة. فأردت أن آخذ ما ... القبضة. فأخذت ما فوق القبضة، فصرت مثله. قال حنبلي: وهذا بعيد عندي. وكأنه من خرق العادات. 85 - لماني الموسوس: عجبت لبرق لاح في فحمة الدجى ... فذكرني الأحباب والمنزل الرحبا فلما رأت عيني التي كاد حبها ... يتيمني شرقاً ويقتلني غرباَ طرحت عناني في يد الشوق مطلقاً ... وفتشت عن قلبي فلم أجد القلبا يغني به. 86 - يقال إن أول من قال الشعر، من ولد آدم، يعقوب، حين فقد يوسف، قال: فصبر جميل في الذي جئتم به ... وحسبي إلهي في الملمات كافيا [ ... ] 87 - [ ... ]? من الحكماء. فإن الصبي بطبعه، والأب يمنعه عما طلب،

حديث

ويعطيه ما يراه، لا ما طلبه. فكذلك الطبيب؛ وكذلك المؤدب. وما كان ذلك إلا لمرتبة المعرفة من الطبيب، والأدب من المؤدب، والإشفاق من الأب. فحكمة الله جامعة لما يفرق في هؤلاء. وهو الممد لهؤلاء بالإشفاق والآداب والحكم. فهو أحق بالتسليم وترك التمني عليه والتجني. فمن عاش مع الله كذا تعجل الراحة في الدنيا، وسلمت عاقبته في الأخرى. 88 - روي أن رسول الله صلعم سأل وفد عبد القيس: ((ما المروءة فيكم؟ )) قالوا: العفة والحرفة. فقال صلعم: ((خير الكسب كسب اليد لمن نصح.)) ثم قال: ((إن من الكف لأمان من الفقر.)) 89 - بعث زياد إلى معاوية رجلاً من بني تميم يقال له أنجد بن قيس. وكان له غناء يوم صفين مع أمير المؤمنين علي عم. فقال له معاوية: ((أنت القائم في الفتنة علينا والمكثر عدونا.)) فقال: ((يا أمير المؤمنين! إنها كانت فتنة عمياء نزل فيها الرضيع، وخف الرفيع؛ فاحتدمت، وأكلت علينا ثم شربت؛ حتى إذا حسرت ظلماؤها، وكشف غطاؤها، وآل الأمر إلى مآله، وصرح الحق عن محضه، عرفنا خليفتنا، وتركنا فتنتنا، ولزمنا عصمتنا؛ ومن يحدث متاباً، لم يرد الله به عقاباً.)) فقربه معاوية وأحسن إليه.

من أخبار المحامد الأربعة

90 - ذكر الشيخ أبو بكر الخطيب رضه في تاريخه في ترجمة محمد أن [جمعت الرحلة بين] محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، بمصر. ولم ينكشف اجتماعهم لأحد. فأصر بهم الجوع. فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه. فاتفق رأيهم على أن يستهموا فيضربوا بالقرعة؛ فمن خرج اسمه سأل لأصحابه طعاماً. فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق؛ فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أصلي? صلاة الخير. قال: فاندفع في الصلاة. فإذا هي بالشموع، وخصي من قبل وإلى مصر، فدق الباب، ففتحوا الباب، فنزل عن دابته، فقال: ((أيكم محمد بن نصر؟ )) فقيل: ((هذا.)) فأخرج إليه صرة فيها خمسون ديناراً، فدفعها إليه، ثم قال: ((أيكم محمد بن جرير؟ )) فقالوا: ((هذا.)) فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً، فدفعها إليه، ثم قال: ((أيكم محمد بن هارون؟ )) فقالوا: ((هذا.)) فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً، فدفعها إليه، ثم قال: ((أيكم محمد بن إسحاق؟ )) فقالوا: ((هذا، يصلي.)) فلما فرغ، دفع إليه الصرة وفيها خمسون ديناراً. ثم قال: ((إن الأمير كان نائماً بالأمس، فرأى في المنام خيالاً قال: ((إن المحامد طووا كشحهم جياعاً)) فأنفد إليكم هذه الصرار، وأقسم عليكم ((إذا نفدت فأبعثوا إلى أمدكم))

فيما للمنام من الروعة والحشمة

91 - سأل سائل حنبلياً: ما بالنا نجد للمنام روعة وحشمة ليست لليقظة؟ حتى إن أحدنا يقطع بأن اليقظة أوفى، ويجد من المنام ما يوفي على اليقظة. قال الحنبلي: للمنامات روعة؛ إذ كان فيها ما هو إشعار من جهة الله تع، وجزء من الوحي والنبوة؛ وفيها رموز وإشارات مضمرات. ولهذا يعبر عنها بغير ما يرى. وفي اليقظة لا يعبر بالبقرة السمينة عن سنة خصبة، ولا بالبقرة العجفاء عن سنة جدبة. ولا بأكل الطير من حامل خبز على رأسه بأنه مصلوب يأكل الطير من رأسه. وعلى هذا أبداً لا يعبر عما يشاهد بأنه خلاف ما شاهد. فاعترض السائل على الحنبلي المجيب بأن الاقتضاء الصريح من نص الكتاب المقطوع بأنه كلام الله يقول: {لا تقربوا الزنا}، {لا تأكلوا الربا}، {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}، {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر}. والناس على ذلك مصرون، وللمخالفة مرتكبون، لا يتوبون ولا يقلعون. فإذا رأى أحدهم مناماً كأن خيال النبي يعتبه، أو ملكاً يوبخه، أو شخصاً يقول له ((ما هذا الإصرار على هذه الذنوب الكبار؟ )) أصبح متوجعاً متفزعاً، ونهض إلى جاره الصالح أو العالم بالتوبة على يده مسرعاً، ولازم المحراب، وتخشن بعد التنعم، واجتمع بعد التبسط، وخشع بعد البطر والأشر. أليس هذا من عظيم المحن أن لا تعمل فيه القطعيات، وتعمل فيه النخيلات، مع توحد

من أخبار معاوية وعمرو بن العاص وعلي وابن العباس

القرآن بالحق الذي لا يشوبه تبديل ولا تغيير، ولا يعتريه شك؟ والمنام يدخله التخاليط بين وقوعه عن سوداء ومرة وبلاغم، وبين شياطين تخيل إليه. والنجوى من الشيطان! فأجاب بأن الخطاب العام يهون على كثير من الناس؛ كالواحد في الزحام. والمنام تخصيص للرأي. وللتخصيص من التأثير والواقع ما ليس للخطاب العام. ولهذا كثير من الصحابة لما أخبرهم النبي صلعم بذكر من جهة الله تع كالداهش: أو قد ذكرت هناك. وقد علم أن الخطاب قد تناوله حيث قيل {يا أيها الناس} الخطاب الجملي الذي يدخل فيه المسلم والكافر. والخطاب الذي تحته {يا أيها الذين آمنوا}. فإذا جاء خاص في شخص بعينه ارتاع حتى قال: أو قد ذكرت هناك. وأيضاً فإنه يكون مسوفاً نفسه بالتوبة والاعتذار. فإذا جاء المنام استشعر الإزعاج والإزهاق والتخويف من سرعة اللقاء وقرب الأجل. 92 - وجد بخط نطاحة أن معاوية قال لعمرو بن العاص رحمتهما: إن رأس الناس، ? مع علي، ابن عباس. فلو كتبت ترفقه؛ فإن علياً لا يخرج عما يراه ابن عباس. قال له عمرو: إن ابن عباس لا يخدع، ولو ظننت فيه ذلك ظننت في علي، وأنا أكتب. فكتب: ((أما بعد، فإن الذي نحن وأنتم فيه ليس

بأول أمر قاده البلاء وساقته العافية. وأنت رأس هذا الجمع مع علي. فانظر فيما بقى غير نظرك فيما مضى. فما أبقت الحروب لنا ولكم جلداً ولا صبراً. ولن تهلك الشام إلا بهلاك العراق؛ ولن تهلك العراق إلا بهلاك الشام. فما خبرنا بعد عذاركم، وما خبركم بعد عذارنا؟ وفينا من يكره الفناء، ويحب الحياة؛ وفيكم مثل ذلك. وإنما هو أمير مطاوع ومشاور مأمون وهو أنت. فأما السفيه فلا يؤمن على الشر، ولا يرجى للنصيحة.)) وكتب في أسفل كتابه: طال البلاء فما يرجى لمبغضةٍ ... بعد الإله سوى رفق ابن عباس قولاً له قول مستعفٍ بحظوته ... لا تنس حظك إن التارك الناسي يا ابن الذي زمزم يسقى الحجيج له ... أحظى بذلك في فخرٍ على الناس لسنا بأصبر من أهل العراق ولا ... أهل العراق بدون القوم في البأس كل لصاحبه قرب معادله ... أسد لقين أسوداً بين أخياس ? لو قيس بينهم في الحرب لاعتدلوا ... العجز بالعجز ثم الرأس بالرأس فانظر فداؤك نفسي قبل قاصمة ... للظهر ليس لها راقٍ ولا آس فلما وصل الكتاب عرضه ابن العباس على أمير المؤمنين علي: ما أغر عمراً بك؟ أجبه وأرد الفصل عن الشعر. فكتب إليه: ((إنك بعت دينك باليسير، وخبطت خبط عشواء. وليس معاوية في هذه الحرب كعلي: علي

من أخبار الفرزدق

بدأ فيها بالحق وانتهى إلى الغدر؛ ومعاوية بدأ بالبغي وانتهى إلى الشرف. وليس أهل الشام كأهل العراق: علي بايع أهل العراق وهو خير منهم؛ ومعاوية بايع أهل الشام وهم خير منه. ولست أنا وأنت سواء: أنا أريد الدين، وأنت تريد الدنيا؛ وقد عرفت الشيء الذي باعدك مني ولا أعرف الشيء الذي قربك. فإن كنت أردت شراً لم تنشأ به وإن كنت أردت خيراً لم تسبقنا إليه. وأجابه الفصل عن الشعر: يا عمرو حسبك من خدعٍ ووسواس ... واذهب فمالك في ترك الهدى آس ولأقكم عن طعنٍ في نحوركم ... تسخي النفوس في ضرب إبلاس ? بالسمهري وضرب في سراتكم ... نلقى الرقاب ونذري فروة الرأس هذا لدينا الذي يشفي جماجمكم ... حتى تطيعوا علياً وابن عباس إن تغفلوا الحرب نغفلها مخلسةً ... أو تبعثوها فإنا غير أنكاس قتلى العراق بقتلى الشام كافية ... هذا بهذا وما بالحق من باس 93 - روي أنه دخل الفرزدق على بلال بن برد وجلساؤه يرفعون من شأن اليمن ويضعون من بني تميم. فأفاض معهم الفرزدق، فقال: ((لو لم يكن لليمن إلا واحدة، التي كانت لأبي موسى، ما احتاجوا إلى غيرها.)) قال بلال: ((إن مناقب أبي موسى كثيرة، فما الواحدة التي ذكرت؟ )) قال: ((ما

من أخبار ابن الأحنف مع معاوية

ولي من رسول الله ىلخي حمل. فقال: أفتراني أرفع أبا موسى عن أن يحج رسول الله صلعم؟ أجل، فقد فعل ذلك به، ولم يفعله بمن قبله ولا بعده. قال القرزدق: كان الشيخ أتقى لله من أن يقدم على نبيه بغير حذق، وأعقل من أن يجرب على رسول الله.)) وكان هذا من الفرزدق مدحاً، وهو الغاية في القدح؛ لأن بلالاً كان قد جعلها فعلة واحدة، لا قبلها ولا بعدها، ليزيل عنه بذلك وصمة صناعة الحجامة، وأنها بدرت منه لرسول الله خاصة. والفرزدق? يقصد بقوله ما كان للشيخ أن يقدم على رسول الله بغير إدمان ولا صناعة، وأن يجرب على رسول الله، كل ذلك ليقرر عليه أنه كان حجاماً، فيضع منه بالصناعة؛ فيزول حكم فضله بحجمه رسول الله صلعم. فإن صناعة الحجامة رذيلة عند العرب والعجم. فانظر هذه الفطنة. 94 - وفد ابن الأحنف على معاوية فوصله. فلما انصرف إلى أبيه قال له: ((ما صنعت؟ )) قال: ((وصلني بكذا.)) قال له: ((ما أطبت إذا قللت ولا اجتنبت إذا أكثرت.)) 95 - قال أعرابي لضيف نزل عليه: ((نزلت بوادٍ ممطور، وفناء معمور؛ فحط رجلك، صادفت أهلك.))

قول الحسن بن علي بن أبي طالب لحبيب بن مسلمة الفهري

96 - قال الحسن بن علي بن أبي طالب لحبيب بن مسلم الفهري: "لرب مسير لك في غير طاعة الله." قال: "أما مسيري إلى أبيك فلا." قال: "بلى؛ ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة. فلئن كان قام بك في دنياك، لقد قعد بك في آخرتك. فلو كنت إذ فعلت شرًا قلت خيرًا، كنت كما قال الله تع: {خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا}. ولكنك كما قال الله تع: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}. 97 - يقال: الغبن غبنان: غبن الغلاء، وغبن الرداءة. فإذا اشتريت فاستجد، تزح أحد الغبنين. 98 - روي أنه أبطأ كتاب معاوية عن عتبة وهو والي مصر. فأرجف أهل مصر بموت معاوية. ثم ورد كتابه. فصعد عتبة المنبر والكتاب في يده، فقال: "يا أهل مصر! قد طالت معاتبتنا أياكم بأطراف الرماح وطبات السيوف. فأصبحنا سحا في لهاكم ما تسيغها حلوقكم، وأقذاء في أعينكم ما تطرف عليها جفونكم. أفحينما اشتدت عرى الحق عليكم عقدًا، واسترخت عقد الباطل فيكم حلا، أرجفتم بالخليفة وأردتم توهين الخلافة، وخضتم الحق إلى الباطل وأقدم عهدكم به حديثًا، فاربحوا أنفسكم إذا

خطبة أخرى له

خسرتم دينكم. فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السار عنه || والعهد القريب منه. واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم. فأصلحوا لنا ما ظهر، نكلكم إلى الله فيما بطن؛ وأظهروا خيرًا وإن أسررتم شرًا؛ فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون. وبالله أستعين وعليه أتوكل." 99 - وخطبهم يومًا فقال: "يا أهل! إن لله فيكم ذبحًا أرجو أن يوليني الله نسكه. إن الله جمعكم بأمير المؤمنين بعد الفرقة؛ فأعطى كل ذي حق حقه. فكان أذكركم إذا ذكر سخطه، وأصفحكم بعد المقدرة عن حقه، نعمة من الله عليكم بحقه. وقد بلغنا كم قول منكم أظهره عفو تقدم منا. فلا تصيروا إلى وحشة الباطل بعد أنس الحق بإحياء الفتن وإماتة السنن، فأطاكم، والله، وطأة لا رفق معها، حتى تنكروا مني ما كنتم تعرفون، ويغلظ عليكم ما كنتم تستلينون. فلا تكونوا للسيف حصيدًا. وأنا أشهد عليكم الذي يعلم خافية الأعين وما تخفي الصدور." 100 - جرت مذاكرة في صفات الله -عز وجل قال معتزلي لسني: أتقول، حيث أثبت لله علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا، هذه الصفات في جهات من ذاته كما في حقنا؟ قال: بالبادرة لا؛ لكن أقول كل ذاته قادرة عالمة سميعة بصيرة.

من أخبار وشعر عدي بن نضلة

قال حنبلي لهما: الكلام في الله وصفاته صعب. فقد جاء في كلامكما "كل؛ " والله لا يوصف بكل، كما لا يوصف بالبعض. ولا توصف ذاته بالجهات. فهذه كلها ألفاظ هي مخاطرة. 101 - عن محمد بن إسحاق قال: أنبئت أن عدي بن نضلة بن عبد العزى ممن هاجر إلى أرض الحبشة ومات بها؛ وهو الذي استعمله عمر على ميسان. فقال أبياتًا من الشعر، فعزله لأجلها، وهي: [الطويل] ألا هل أتى الحسناء أن خليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم [ ... ] 102 - [ ... ] || وأولى من بذل العين. قال له معترض في أثناء الكلام: إن النماء من عين ملك الراهن؛ فإنه أحق بأن يبيع ملكه دون حبس من له حبس. قال الحنبلي: النماء منبعث من عينٍ الملك أخص بها وبالانتفاع. والرهن أخص بها حبسًا واستيثاقًا. فإذا تجدد النماء، كان للمالك ملكه وعينه. وإذا جاء النماء تجدد لكل منهما بحبسه. فكان النماء للمالك ملكًا، وللمرتهن توثقًا وحبسًا. وأما الجائفة فإنها لا يشارك فيها من لم

مسألة في الطلاق

يباشرها. وأما ههنا فإن النماء من الرهن. وهو صالح أن يقع العقد عليه ابتداءً دون الثاني. فدخوله مع الثاني تبعًا دأب الأصول. 103 - استدل حنفي في مسألة من نوى الثلاث بقوله "أنت طالق" فقال: قوله "طالق" نعت لها. والمنعوت فرد غير متعدد. فكذلك النعت وجب أن لا يكون متعددًا. وذلك مثل قوله "قائم" ولفظه لفظ الخبر. ولا يصح أن يقع به ولا طلقة. وإنما أوقعنا الواحدة لمكان الضرورة حيث جعله الشرع إيقاعًا، وإن كان لفظه لفظ الخبر. فأما التعدد فلا ضرورة بنا إليه. اعترض عليه شافعي فقال: هذا من النعوت التي حكم الشرع بتعددها. كما قلت إنه خبر، وحكم الشرع بكونه إيقاعًا. فإذا كان لا يصح في اللغة أن يقول "قائم" إلا لمن ثبت في حقه القيام، و"طاهر" إلا في حق من ثبت في حقه الطهر، وههنا يقول "أنت طالق" وليست على تلك الصفة قبل قوله كذلك، أخرجه عن النعوت بالعدد كما أخرجه عن سبق الحصول للفظة. ولهذا حسن أن يقول "ثلاثًا"، ولم يحسن أن يقول "طاهر" أو "حائض" أو "قائم ثلاثًا." قال الحنفي: إنما حسن قوله "ثلاثًا" لتقدير المصدر؛ والمصادر تحتمل العدد؛ فتقديره "طلاقًا ثلاثًا." || قال الله سح: {لا تدعوا اليوم ثبورًا واحدًا وادعوا ثبورًا كثيرًا}.

حديث قدسي وآيات قرآنية وتفسيرها

قال حنبلي إعانة للشافعي: إن المصادر إنما تقتضي العدد فيما يتكرر ويتقضى. فأما ما يكون نعتًا للذات حاصلاً ومحصلاً في الحال، فلا؛ مثل "طاهر". والطلاق محصل في الزوجة في حال وهو نعت، فلا يحتمل التعدد. 104 - سأل سائل عن قول النبي صلع إن الله سح يقول: "ادخلوا الجنة برحمتي" كيف يقول ذلك، ولهم الأعمال السابقة؟ وقد كان ابتلاهم بالتكاليف الشاقة، وقال {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}، و {تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون}. كيف يجمع بين الخبر وهذا؟ أجاب حنبلي بأن من رحمته مجازاتهم على الأعمال. وإلا فكثير لهم أن يكونوا عبيد عمل بقوت وكسوة وسكنى ومؤونة. ليس في أعمالكم أن يستحق عليها أكثر من مؤونتكم. كثير لك أن تكون عبد استخدام بالكسوة والطعام. فمن أين لك جنة لولا الرحمة؟ على أن معاملته لك ومتابعته رحمة. أنت معه كالمكاتب مع سيده اشترى نفسه منه بما له عليه من الكسب. فصار بائع ماله بماله. فجعله منعمًا يستحق عليه بذلك الولاء لما كان نفس معاملته برحمة وإنعامًا. 105 - وسأل سائل عن قول النبي صلع: "خيركم القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يبقي قوم لا خلاق لهم" -وروي:

فصل في استخراج حكمة الله وقدرته

"حثالة كحثالة التمر؛ " وقوله: "أمتي كالغيث أو كالمطر، لا يدرى أوله خير أم آخره؛ " كيف يجمع بين هذين؟ فأجاب حنبلي بأنه لا شك أنه لم يرد كل القرن الذي بعث فيه، بل يخرج منهم المنافقون والكفار ويبقى || الأخيار. فكذلك خير أمته الذين أشار إليهم هم الذين قال فيهم: "واشوقاه إلى إخواني! " قالوا: "ألسنا إخوانك؟ " قال: "أنتم أصحابي؛ إخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني." -وروي: "قوم يصلحون إذا أفسد الناس." -الهراب بذنبهم من شاهق إلى شاهق. فهؤلاء الذين يدعون إلى الصلاح عند فساد الناس. وهم الذين لا يدرى أهم خير، أم الذين كانوا يقاتلون على أن تكون كلمة الله هي العليا. 106 - فصل في استخراج حكمة الله وقدرته أنظر إذا أردنا نحن أن نؤلم الفيل لم يمكنا ذلك. إلا أن نعمل له آلة كبيرة لنوصل بها الألم. كالدافوقة الكبيرة، والمطرقة الثقيلة، والعاقوس الكبير المسقي. والباري إذا أراد إيلامه خلق البقة والجرجسة. والجرجسة حيوان لا يتحصل لنا منه شكل نقدر أن نصوره ولا نشكله، بل يصغر عن أن نعمل برأس القلم مثله. فوصل الألم به إلى تلك الخلقة العظيمة، والجثة الجافية الكبيرة، ليعلم العالمون أنا نقوى بالعمل لا بالآلات. وإنما

جرى بمجلس شرف الدين في جملة سماعاتنا منه حديث عن النبي صلع: من مس الحصى فقد لغا

الآلات علامات ظاهرة. ولو كانت أعمالنا بها لكانت بحسبها. فلما كبرت عليها علم أنها بنا جاءت، لا بها. -والله أعلم. 107 - جرى بمجلس شرف الدين في جملة سماعاتنا منه حديث عن النبي صلع: من مس الحصا فقد لغا ومعناه -والله أعلم: من عبث جرى عبثه مجرى اللغو. وذلك لأنه مما يلهي عن السماع، كما يلهي عن السماع الكلام. ويحتمل أن يكون أراد بمسه تقليبه، بحيث يسمع له صوت فيكون صوته بمثابة اللغو. 108 - جرى بجامع القصر مسألة إباحة الرجعية قال فيها حنفي: هذه باقية على ملك النكاح. فكانت على ظل النكاح، كما بعد الرجعة. اعترض عليه حنبلي ينصر تحريم الرجعة، فقال: لا نسلم لك بقاء الملك على ما كان. بل قد تشعث || بزوال ملكه الطلقة وصحة الرجعة. وهي نوع تلافٍ يدل على شعث وصحة الشروع في العدة. 109 - قال الحنفي: ليس ملك النكاح بحيث يقبل الشعث. لأن ملك النكاح ليس بأكثر من ملك الحل؛ إذ لا شيء من خصائص الملك فيه.

وجرت مسألة من غصب شاة فذبحها وشواها

فلا يملك نقله بعوض، ولا مجانًا، ولا ينتقل إرثًا. ولا يستحق عوضه بالإتلاف بأن ملك النكاح باقيًا. لم يكن لقولك متشعثًا معنى. قال الحنبلي: لا يجوز أن يكون الملك في النكاح للحل؛ بل الملك مفرد، والحل حكم الملك. إذ لو كان الملك هو الحل، لما جاز أن يطرأ سبب يوجب تحريم البضع مع بقاء الملك. ومعلوم أن الإحرام والظهار والصوم والحيض عوارض توجب التحريم، ولا يزول بها الملك. فعلم أن الملك ليس يخص الحل. 110 - وجرت مسألة من غضب شاة فذبحها وشواها قال حنبلي: إن ما بقي من مالية الشاة بقية مالية المالك. والذي أتلفه الغاصب من مالية الشاة يجب ضمانه. فأما الذي بقي فالمالك أحق به من الغاضب. إذ ليس للغاصب إلا أثر هو تعد؛ وللمالك عين ملك. فلا وجه لاستتباع ملك المالك بآثار تعدي الغاضب. بل أصل الذات يجب أن يستتبع الأعراض الحادثة فيها بفعل الغاصب. وما انعدم بفعل الغاصب إلا رابطة حشر ونماء، وهي الحياة. وما بقي فهو ذات وعين هي مال. فكانت على ملك المالك لأصل الذات؛ كما بعد الذبح، وقبل الشي، فإنه أتلف مالية الشاة الحية من النماء والحركة والحس والبقاء

وجرت مسألة الرهن هل هو أمانة أو مضمون

من غير فساد، وبقي نفس ذات الشاة. فيجب أن يكون ما مضى مضمونًا له على الغاصب، وما بقي ملك له لكونه عين ماله. 111 - وجرت مسألة الرهن هل هو أمانة أو مضمون قال حنبلي: هذه العين بعضها أمانة؛ وهو ما زاد على قدر الدين. فكان جميعها أمانة. || اعترض عليه حنبلي آخر فقال: هذا قول لا تشهد له الأصول؛ بل تشهد بفساده. فإن العارية أجزاؤها غير مضمونة بالإتلاف بالاستعمال. وما بقي فقد تلف. مثل المنشفة والطبقة من عين العارية مضمون بالتلف. فقد انقسمت هذه العين بين أمرين متضادين؛ بعضها لا يضمن بإتلافه، ويعضها يضمن بالتلف. وكذلك إذا نذر أضحية. فإنها عين، ثلثها هدية، وثلثها صدقة، وثلثها بأكلها وبها. ولا يقال: يجب أن تكون كلها هدية، ولا كل ما يصدقه، ولا كلها مأكولة للمالك. ولأن في مسألتنا خاصة لو كان الرهن خمسين ومائة دينارًا والدين مائة، فإن الخمسين زائدة تكون أسوة الغرماء؛ بحيث لو كان لهذا المرتهن دين آخر بغير رهن، لا نجعل هذه الزيادة رهنًا بذلك الدين، بل تكون أسوة جميع الغرماء. ولا يقال: لما كان بعض الرهن أسوة الغرماء، يكون كله كذلك.

جرت مذاكرة بين معتزلي وآخر يدعي مذهب الأشعري

أخذ المستدل يعتذر عن العارية، فقال: أما الأجزاء فإنه بالتلف باستعماله لا يضمنها. لأن الإذن له في الاستعمال إذن في ضمنه الإذن في إتلاف الأجزاء. لأن استعمال الأعيان على الدوام لا ينفك عن إتلاف الأجزاء. فأما إذا تلفت بغير استعمال، فذاك تلف بغير ما أذن فيه. قال الحنبلي المعترض: فلا فرق بين تلفه وإتلافه بالاستعمال. ألا ترى أن من دفع إلى إنسان طعامًا، فقال له "كله"، أو شرابًا فقال له "اشرب هذا"، أو حطبًا فقال له "أشجره في تنورك"، إرفاقًا له وإباحة بهذه الأعيان، كما أرفقه بمنافع العارية، فإنه إن أكل الطعام وشرب الشراب وشجر الحطب، لم يضمن. ولو لم يفعل ذلك، لكنه تلف الطعام بأن سقط عليه غراب أو جارح فأخذه، أو استلبه كلب، فإنه لا يضمنه أيضًا. لأنه أخذه للإتلاف؛ فلا يضمنه بالتلف، وهو إتلاف العين. وهل يجوز لعاقل أن يقول "إذا أتلفت العين، فلا ضمان عليك؛ وإن تلفت العين بفعل || الله، فعليك الضمان"؟ 112 - جرت مذاكرة بين معتزلي وآخر يدعي مذهب الأشعري فقال الأشعري: إن الكلام من كمال صفات الحي. والله سح حي، قادر، عالم. فمن كمال الصفة له أن يكون متكلمًا. اعترض عليه الآخر، فقال: نعم. ولكن المتكلم من كان فاعلاً

وجرت مسألة هل المغلب في الزكاة أنها حق لله تعالى أو حق للآدمي

للكلام المخرج ما في النفس من جميع ما يسنح فيها. ومتى لم يكن قادرًا على إظهار ما في نفسه من سوانحه، وما يعرض له من الشؤون العارضة في النفس، [لم يكن متكلمًا]. والباري قادر على إظهار ما يريده من خلقه بما يفعله من الكلام، فكما القادر منا كذلك. إلا أن الكلام مفعول في أدواتنا من حيث أن دوات الكلام فينا. وذاتنا قابلة للانفعال من الاصطكاك. والباري منزه عن ذلك؛ إذ ليس بجسم. فاختلافنا وإياه من حيث أدوات الكلام. فأما أصل الكلام والغرض به فحاصل في حقه على ما يليق به، وحاصل في حقنا على ما يليق بنا. وصار الكلام، من جهة كونه مخرجًا ومظهرًا ما في النفس، كالإشارة باليد والرمز بالعين. والخط بالكتب. والله سح قادر على إيصال ذلك إلى الأحياء بفعله هذه الأشياء، كما أن الواحد منا قادر على ذلك. فقد ثبت الكلام كمالاً في حقه. ولم يقف على ما يقوله الأشعري من الكلام القائم في النفس الذي لا يحصل به غرض المتكلم في أصل الوضع. 113 - وجرت مسألة هل المغلب في الزكاة أنها حق لله أو حق للآدمي فقال حنبلي: الذي يليق بأصولنا أنها للآدمي. لأنها [تدفع] إليه يتصرف بها وينتفع؛ ولأجل حاجته إليها يجوز تقديمها على وقت إيجابها. وما طريقه حق لله لا يحتمل تغيير الأوقات؛ لأن المصالح معذوقة بتقاديره

جرى في عين الأعور

ومواقيته. لاسيما ومن أصل أبي حنيفة، || وفي رواية لنا، جواز العدول عن عين المال إلى القيمة، نظرًا إلى ما هو قصد الآدمي من الإغناء. وسد الخلة بالقيمة لا بنفس العين؛ لأن المالية هي المغنية السادة للخلة. اعترض عليه حنفي فقال: ليس كلامنا إلا في الإيجاب. والحول إنما هو معتبر لتنمية المال، إذ كان من شرط الزكاة ن يكون المال ناميًا. فجعل الحول كعين النماء؛ كما جعلت المدة المعتبرة في السفر كعين المشقة في تعلق الرخص بها. فإذا انقضى الحول بينا أن التقديم كان على عين الحول، لا على الإيجاب. بل بينا أن الإخراج كان بعد الإيجاب. قال حنبلي آخر: والذي ينبغي أن يقال في كونها حقًا لله أنه يجب لها النية. ولو تحقق حقًا لآدمي لما احتيج إلى النية لله سح والدفع إلى الإمام الذي هو نائب عن الله سح في القصر، ولا تصرف إلا إلى مصارف تليق بأن يكون الحق لله. فلا يجري دفعها إلى كافر. 114 - جرى في عين الأعور قال حنبلي: إن الضوء يتوفر على عينه بالسنة الواردة في ذلك، وبما يقوله أهل الطب، من وجهين. أحدهما أن العمل والإدمان في جارحة يقويها. كالذي يعمل بيسرى يديه تصير كاليمين. ولأن الضوء إذا خرج من جهتين تمحق؛ فإذا انبعث من روزنة واحدة توفر. كقوله تع: {كمشكاة

وجرى من حنبلي في التلاوة

فيها مصباح}، وهي الكوة المتدانية الأقطار. فإذا كان كذلك صار كأنه أذهب ضوء العينين جميعًا. فأجاب حنبلي على هذا وقال: إن الشرع لم يبن الزيادة في الدية على التزايد في القوى والتوفر فيها. بدليل أنه سوى بين اليمنى واليسرى في كل جارحتين، وإن كانت اليمنى أقوى. وكذلك كل جارحة صحيحة مع مريضة، وضعيفة مع قوية، تتساويان في البدل. وهذا لمعنى. || وذلك أن المغلب الصورة، لا الصفة والقوة. وهي، وإن قوي ضوؤها، جارحة واحدة من جارحتين، وواحدة من اثنتين. 115 - وجرى من حنبلي في التلاوة قال: "هي الصوت." قال له محقق: "هي صوت الآدمي؟ " قال: "نعم." قال: "فكان يجب أن يكون على الوجه الذي سمعه الأنبياء -صلوات الله عليهم -. هذا يقول: "كالرعد الذي لا يترجع"؛ وهذا يقول: "كالصواعق"؛ وهذا يقول: "كجر السلسلة". ونبينا صلع يقول: (أسمعه أحيانًا كصوت الجرس). فإذا سمعنا صوت التالي لا على هذا الوجه، ولا بهذا الوصف، علمنا أنه ليس هذا ذاك." ثم قال له: "هل تتجاسر أن تقول عند قراءة القارئ "هذا صوت الله وليس بصوت للقارئ"؟ فإن قلت "نعم" وركنت، أستفت عليك

وجرى يوما بالمدرسة النظامية ذكر الاجتهاد في مسألة تولية القضاء للعامي

الفقهاء؛ فلا تجد إلا إجماعهم على تخطئتك. ولست بحيث يلتفت إلى قولك ويترك الإجماع لأجلك، أو ممن يقف الإجماع على موافقتك." 116 - وجرى يوماً بالمدرسة النظامية ذكر الاجتهاد في مسألة تولية القضاء للعامي فقال المتكلم الناصر لمذهب أبي حنيفة: وأين المجتهد؟ هذا أمر يعود فيسد باب القضاء. قال له حنبلي بسرعة جوابين قاطعين. أحدهما أن قال: إن انسد باب القضاء بقولنا من حيث قلنا "يحتاج الحاكم أن يكون مجتهدًا" انسد باب القضاء ووقف من حيث قولكم إنه لا ينفذ حكم الحاكم العامي إلا باستفتاء مجتهد. فإذا كنت تدعي تعذر المجتهد، ولابد لك من مجتهد يقلده الحاكم، ولست ممن يقول اليوم لا يصح الحكم، بل تقول يصح، فالمجتهد الذي وجدته لنفاذ حكم الحاكم بفتواه أبطل قولك في دعوى تعذر المجتهد لصحة حكمه في نفسه باجتهاده. على أن هذا قول باطل من وجه آخر. وهو أنه يقال لك "هل يتعطل الإجماع في عصر من الأعصار؟ " || فإن قلت "نعم" أبطلت دليلاً من أدلة الشرع، وزعمت أن الله قد رفع دليلاً معصومًا من أدلة الشرع. لا سيما في شريعة لا يتداركها نبي معصوم، كالأمم السالفة. وسمعت بعض الأئمة يقول: لا يتحقق قول النبي صلعم "العلماء ورثة الأنبياء" إلا في هذه

شذرة في الذي قطع أصبع إنسان فتآكلت إلى جنبها أخرى وسقطت

الشريعة. وإلا ففي سائر الشرائع الأنبياء ورثة الأنبياء. فإن قلت: "لا بل لنا إجماع، " قيل لك: "وهل يثمر الإجماع باتفاق المجتهدين من أهل العصر؟ وأنت تقول "ما لنا مجتهد واحد"؛ فأين اتفاق المجتهدين وما لنا واحد منهم؟ " فبطل هذا. فأفحم ذلك الإنسان، وجعل يهذي بهذيان لا ينسبك منه إلا الاستعباد لتكثير شروط لا تعتبر الاجتهاد. فيقول: من الذي يتسع له العمر لفهم اللغة والعربية والفقه وأحكام القرآن وأصول الفقه؟ وإنما كان أصحاب رسول الله والسلف الأول -رضوان الله عليهم -أهل لسان لا يحتاجون أن يتعلموا اللغة العربية. فخفف ذلك وسهله عليهم كونهم من أهل ذلك. 117 - شذرة في الذي قطع أصبع إنسان فتآكلت إلى جنبها أخرى وسقطت قال مستدل شافعي: إن الأطراف مباشرة بالجنايات. والنفوس لا يمكن مباشرتها. فجعل القصاص واجبًا في النفوس من طرائق السراية حتى لا تهدر الدماء. ولا حاجة بنا إلى وضع القصاص في الأطراف من طريق السراية. لأن قصد الجناية عليها لا يقع إلا من طريق المباشرة غالبًا. والسراية أمر نادر لا يقع غالبًا. والقصاص مما يسقط بالشبهة. اعترض حنبلي فقال: إن النفوس لها طريق يجري مجرى المباشرة لها.

مسألة العارية

وهي مواضع المقاتل والجراحات الموجبة. ولم يقصر إيجاب القصاص على مباشرتها؛ بل أوجبت القصصاص بالجراحة || في مواضع الغالب منها السلامة. ولهذا شرع الله سح وتع القصاص فيها. ولو كان الغالب تلف النفس، لما جاز أن يضع القود بالجناية عليها. لأن بناء الأمر في القود على تجنب الحيف؛ بدليل إسقاطه للقود في الجائفة والمأمومة والهاشمة. فبطل ما ذكرت. وإن القود يقع على طريق واحد، وهو الأخص في باب النفس. كذلك في الأطراف وجب أن لا يقف على الأخص بها، وهو المباشرة. 118 - قال حنفي في العارية: معلوم أن ما أباحه الإنسان من طعامه لغيره إذا سلمه إليه وقال له "كل هذا" فأكله، لم يضمن. كما إذا سلم إليه العارية فاستعملها فتلفت بعمله فيها، لم يضمن. ولو أنه تلف الطعام الذي أعطاه ليتلفه بأكله، فلم يتلف بأكله، بل تلف بآفة سماوية، لم يضمن. كذلك يجب أن تكون العارية، ولا فرق. قال حنبلي: إن العارية قبضها ليردها. ولو بقي منها بقية كان عليه فيها ضمان الرد. والطعام لا يجب عليه في بقيته ضمان الرد. فكل فرق لك بين ضمان الرد في العارية، وسقوط ضمانه في الطعام الذي أباحه له، هو فرقنا في أصل ضمانها.

جرى بمجلسنا في الظفرية مسألة آلة اللهو هل يجب ضمان إحراقها

119 - جرى بمجلسنا في الظفرية مسألة آلة اللهو هل يجب ضمان إحراقها قال الشافعي: صناعة لم تخرجها عن المالية؛ فلا تسقط قيمتها بالإتلاف. كالصور المرصوعة في الساج وعلى الحيطان المجسمة. فإنه لو نقض الحائط أو غرقه وأحرق الساج أو غرقه ضمنه ساذجًا. كذلك أخشاب الطنابير والمزمار والعيدان. اعترض عليه حنبلي فقال: لا أسلم، بل قد زالت المالية بما صرفت إليه من الصورة المعدة للهو. كما سقطت || مالية المرتد بردته في إسقاط ضمانها بالإتلاف؛ وكما سقطت مالية العصير بشدته؛ وكما سقط ضمان مالية المنبوذات من الأشياء. وإن كان مثلها يتمول في العادة ويضمن، لكنه لما نبذها سقط حكم ضمانها على متلفها؛ كذلك من صرف الأخشاب والرق والوتر، كل ذلك في صورة موضوعة للهو. فقد نبذها فيما لا ضمان له، فصار غير مضمون في نفسه. قال الشافعي: إن الصورة عرض عارض على هذه المالية الثابتة. وما استحال بها عن كونه على صورته المحسوسة وماليته المرغوبة. ويمكن فصل الصورة عن هذه الأعيان المتمولة. وذلك يزيل التهيؤ للهو عنها، ويخرجها عما يفسد. ومن أمكنة دفع المضرة بهذا القدر اليسير، فجاوزه إلى المضرة الكبيرة بإتلاف أصل المادة، فقد أسرف إسرافًا يوجب الضمان. كما قلنا

وجرت مسألة إذا كان بعض أولياء الدم صغيرا

في دفع الصائل بالأصعب المفضي إلى نفسه، مع إمكان دفعه بالأسهل الذي لا يفضي إلى نفسه. قال الحنبلي: هذا يلزم عليه ما ذكرت من الأصول. فإن المرتد يمكن في الثلاثة أيام المهلة أن تزال شبهته. فلو عدل العالم القادر على علاج شبهته إلى قتله كان مفتاتًا، لكن لا ضمان عليه. فكذلك ههنا، لو خلع لم يضمن، ولو عدل إلى الإحراق لم يضمن. وفارق الصائل. فإنه بالصول لم يصر في حكم السباع. فإن صار عقورًا معروفًا بذلك لم يضمن؛ وصار بمثابة نفس الكلب العقور والأسد والحية والعقرب. 120 - وجرت مسألة إذا كان بعض أولياء الدم صغيرًا قال حنفي: هذا الكبير، وكل واحد من الكبار، يستحق الدم على الكمال؛ لأن الدم لا يتبعض. والسبب الذي يستحق به ولاية القصاص لا يتبعض؛ وهو القرابة. والاستيفاء لا يتبعض. فلا || بد من قولنا باستحقاق كل واحد منهم الحق بكماله؛ فجاز له الاستيفاء. كما قلنا في عقد النكاح، لما كانت القرابة التي تستحق بها الولاية لا تتبعض، والبضع لا يتبعض، والعقد لا يتبعض، كان الحق في الولاية على الكمال لكل واحد من الأولياء. اعترض عليه حنبلي فقال: إن دعواك أن الحق كله لكل واحد منهم، واستدلالك عليه بأن السبب المستحق به والدم والاستيفاء كل واحد من

هذه الأشياء لا يتبعض، فحيث لم يتبعض ألجئت إلى أن جعلت لكل واحد منهم كل الحق، كلام لا يصح. لأنك إذا أحلت تبعيض ذلك، فقد انتقلت من محال إلى ترك حقيقة أيضًا ومحال. لأنك جعلت للشيء الواحد كلات عدة. وليس للشيء الواحد، والحقيقة الواحدة، إلا كل واحد. فكيف تنتقل عن أمر محال إلى محال مثله؟ وإنما ينتقل الإنسان من محال إلى ممكن. ولا يمكن أن يكون للحكم الواحد والحقيقة كلات عدة. ولربما أمكن أن يجعل الدم أجزاء معددة من حيث عدد المستحقين. ولهذا قسم على الوارث قسمة الميراث، فقيل "للزوجة ثمن الدم" ولم يقل "كل الدم." ولذلك خرج عند بذلة المنقسم، وهو الدية، إلى انقسام المواريث على ما بينا. نعم، ثم إنه انقسم انقسامًا لا يشهد لما ذكرت. ثم إن [ليس] لكل واحد كل الحق بكماله. لأنه لو كان كذلك لكان يوجب التساوي في الذمة لتساويهم في الكلات التي ادعيتها. ولم يجز أن يترجح حق أحدهم بزيادة. فلما تفاضلوا بطل ما ادعيت. على أن بعد هذا كله يقال إنك حيث تركت الحقيقة، وادعيت أن لكل واحد من الأعداد والآحاد من القرابات والأولياء كل الحق بكماله، فقد أقررت بهذه المقدمة أنه ليس كل المستحقين، وجعلت من ليس كل المستحقين له استيفاء كل الحق. فيقال لك: فقد تعوق غرضك حيث فزعت من عدم التبعيض إلى جعل كل الحق لواحد جعلته كأنه كل المستحقين، || وليس هو في الحقيقة كل المستحقين. فإذا تركت الحقيقة

هكذا، وجعلت الواحد كأنه الجماعة، جعلنا نحن الواحد كأنه جزء بعض، وأن الجماعة كأنهم واحد؛ وكنا نحن بهذا التقدير وهذا الترك للحقيقة أسعد، لأنا ضاهينا به أصل وضع القصاص. وهو أن أصله أنه لا يثبت مع الشبهة؛ وأنه إذا ثبت فإنه على التعرض للإسقاط بالندب إلى العفو؛ وبسقوطه بعفو واحد من الجماعة يسقط بعفوه حق الباقين. ولو كان لكل واحد جميع الحق، لكان الكل الذي جعل لمن لم يعف كأنه كل آخر. ووجه ترجيح ما ذهبت أنا إليه أنه إذا كان جميع الأولياء كالواحد في الحق، وهذا الواحد كالبعض، صار الاستيفاء لا يجوز إلا عند اجتماع الكل ومع اختلاف الآراء. فهذا رقيق لا يستوفي، وهذا قاسٍ يطلب التشفي بترجيح الإسقاط. لأن رقتنا لواحد منهم على القاتل يوجب إيقاف الحق، وعلى الإيقاف وضع على البدار. ويشهد لذلك إجماعنا على أنه لا يستوفي مع غيبة غائب طلبًا للبدار. فكذلك لا يجعل الواحد الكبير كالمنفرد بالحق طلبًا للبدار وتحصيل الاستيفاء. ووجب الصبر حتى يبلغ الأصاغر. بخلاف النكاح، فإنه أمر بني على البدار. فتزويج البنت عورة تستر. ولهذا جعلت في الندب إلى تعجيل نكاحها كمواراة الميت وتجهيزه إلى قبره. ولو أوقفنا النكاح على جميع العصبات، لوقف وخرج عن أصله. فالعلة التي لأجلها راعيت اجتماع الجماعة ههنا، راعيت عدم اجتماعهم على النكاح. لأن ههنا راعيت الاجتماع ليقف، وراعيت عدم اجتماعهم هناك في النكاح لئلا يقف.

وجرت بيع عروض المفلس وقضاء دينه منها إذا متنع من البيع

121 - وجرت بيع عروض المفلس وقضاء دينه منها إذا امتنع من البيع فجرى فيها أن امتداد اليد إلى المال قضاءً منه عند امتناعه غير مبتدع من الحكام. كبيع || الدراهم بدنانير، وبيع الدنانير بدراهم. يوضح هذا أن اليد إذا قصرت عن مال العين قصرت عن كل مال. وإذا امتدت امتدت إلى كل مال. بدليل مال الميت ومال الصغير والمجنون. قال الحنفي: لو كان الإفلاس موجبًا للحجر لأوجبه حكمًا من غير قضاء، كالجنون. والدراهم والدنانير كالجنس الواحد في كونهما أثمان للأشياء. قال: ولأن الإنسان أقدر على نفسه من غيره؛ فلو ملك الحاكم أن يحجر عليه في أمواله، لملك أن يحجر هو على نفسه في أمواله. قال الشافعي: الدراهم والدنانير جنسان؛ بدليل جواز التفاضل بينهما. ويتعين عندك أحدهما بحيث يملك الامتناع من دفع الآخر عنه إذا جعل ثمنًا في بيع أو إجارة أو مهر. وإنما لم يصر محجورًا بغير قضاء، بخلاف الجنون والصغر. لأن ذاك غير مختلف فيه، وهذا مختلف فيه. فالقضاء لهذا ليزيل الخلاف وصار حجرًا لجنون. كفرقة الرضاع والارتداد والطلاق لا يفتقر إلى الحكم. وهذا لأجل الاختلاف وسوغان الاجتهاد، كالفرقة في حق العنين، يفتقر إلى حكم الحاكم. وقولك إنه أقدر على نفسه قول غير صحيح. لأن الإنسان لا يملك من نفسه ما يملكه الحاكم عليه؛ كفرقة العنين وفرقة اللعان عندكم. ولأن الإنسان يشفق على نفسه؛ فقد لا يمنعها، ولا يحجرها لحقوق الغير. والحاكم نائب عن الله، فهو

في الزمان وأهله

المستوفي من غير ميل إلى أحد؛ فكان أحق بالقدرة والتسلط في اتقاء الحقوق. والمغلب ههنا في بيع هذا المال، إن كان من عليه الدين، فلا يراد منه؛ وإن كان لمن له الدين، فلاتقائه حقه ممن عساه لا يوفيه. والظاهر بامتناعه أنه لا يوفيه. والتصرف في ماله أقرب تناولاً من التصرف في ذاته بجنسه. لأن المال إلى القضاء منه أقرب من ذات الحر إلى الجنس. 122 - قال بعض الخبراء بالزمان وأهله: إن حسن الظن في هذا الزمان وأهله عجز، والرجاء لهم طمع، والثقة بهم فساد تصور. ومن تكشفت له أحوالهم، وأنس بهم وإليهم، فما يؤتى إلا من قبل نفسه. والله سح وتع يرى || من عهدة بلائه ومصابه. لأنه سح قص قصص الأوائل، وما تم منهم وعليهم، وكشف أحوال الثواني بالملابسة لهم ممن لم يردعه الخبر، ولا حذره النظر. فهو كالفراشة تطيش في الضياء وتنغمس في اللهبة فتحرق نفسها. فلا رحم الله من هذه صفته، يقتحم النار بصره. 123 - جرى بمجلسنا بدرب الكرد مسألة تلف المال بعد حلول الحلول قال حنبلي: قد أجمعنا على وجوب الزكاة بوجود سببها، وهو الغناء بالنصاب

في حولها. فلا يعتبر بقاء المال لاستقرار الوجوب؛ كما لو أتلفها هو بنفسه. اعترض حنفي فقال: أنا أستفسرك ما الواجب. قال الحنبلي: شاة من خمس من الإبل، أو من أربعين شاة. قال: ولم قلت إن الواجب شاة؟ قال: لقول النبي صلع: في أربعين شاة شاة. قال الحنفي: ليس فيه نص وجوب. قال الحنبلي: لا يجوز أن يكون أراد بقوله فيها إلا بيان قدر الزكاة، حيث قال: "خذ من أموالهم صدقة." فكأنه قال: "الذي أمرت بأخذه من كل أربعين شاة شاة." قال الحنفي: الوجوب يتعلق بما هو الواجب. والواجب على المكلف إنما هو أفعاله التي يجعل بها ممتثلاً. وهي التي تدخل عليه الابتلاء والاختيار. وبها تستخرج جواهر النفوس في طاعة أمر باريها. وليس ذلك إلا الإخراج للمال ومفارقته، دون أن يكون الواجب الأعيان. أجاب الحنبلي عن هذا، فقال: إن الذي يشهد له وضع الزكاة أن الوجوب تعلق بالمال، لا بالإخراج. لأن الله سح أوجب شكر النعمة عن المال؛ وجعل الغناء المعتبر لأجل المؤاساة منه غناء بمال مخصوص نام؛ واعتبر له زمانًا بتكامل النماء في مثله. وجبر نقصان السنن في || المخرج بمال يصير به تمامًا. وهذا كله يدل على أن الواجب مال، لا عمل.

في [في الصلاة]

ألا ترى أن عبادات البدن اعتبر لها صفات، وصحة تتعلق بالأبدان، ورفاهية، وما شاكل ذلك. ومما يدل على صحة هذا أن الواجب يزيد بزيادة المال، وينقص بنقصانه؛ وأن تنقيص المال بالإخراج هو الذي يشق دون العمل، وهو الأداء؛ وأن الأداء ينوب فيه الإمام عندنا إن امتنع رب المال، ولا ينوب عنه بمال غير ماله. وعندكم يحبسه ليخرج المال. فالمال هو الذي يحصل به غناء أرباب الزكوات وإغناء الأصناف والجهات. وهو الذي جعل كالمعوض الذي يزيد العوض به وينقص بنقصانه. فعدد المضاعفة في الأجر بحسب عدده، لا بحسب العمل فيه. وصار الواجب من المال كالمبيع، والثواب كالثمن، وإخراج الزكاة كالتسليم. والتسليم طريق لدفع الواجب بالعقد، لا أنه الواجب بالعقد. فالإيجاب من الشرع كالعقد، والمزكي والله سح وتع كالمتبايعين، والمخرج كالمبيع، والثواب كالثمن. ومما يوضح أن الواجب المال، وأنه المغلب لا الإخراج، أن الإخراج والأداء، لو ناب فيه نائب تطوعًا، لأجزأ رب المال. وبمثله لا يجري إخراج مال الغير تطوعًا عن زكاة هذا رب المال. 124 - فرع قال حنبلي: قد ثبت من مذهب أصحابنا أنه إذا أدرك الإمام في تشهد الجمعة أنه يصلي أربعًا. واختلفوا ماذا ينوي، الجمعة أو الظهر؟

ذكر حنبلي محقق لما يقول شذرة في الجلالة

فإن كان الإمام أقامها على مذهب أحمد قبل الزوال، فهل يصليها أربعًا؟ وهل ينوي الظهر؟ قال الحنبلي: لا يجوز أن يصليها ولا ينويها ظهرًا. وينعدم الوجه الآخر. لأن الوقت لا يصلح لفعل الظهر ولا لإيجابها تقديمًا ولا أداءً، ولا لعذر ولا لغيره. فإذا ثبت ذلك فإن دخل ||نوى جمعة وصلاها ركعتين. ولا يعتد بها جمعة، لأنه لم يدرك منها ما يعتد به. 125 - ذكر حنبلي محقق لما يقول شذرة في الجلالة فقال: إن التغذية قد يحصل بها التغذي والتغذية. والدليل عليه أن التحريم الحكمي في الأمر صير المرتضعة بلبنها كأن فيها جزء من أجزاء الأم، أو كأنها جزء منها. فصارت أختًا لابن المرضعة. فالتحريم الذي في عين النجاسة جاز أن يجعل المتغذي به من الحيوان الطاهر كأن فيه جزءًا من أعيان النجاسة. وهذا أجود من كل ما ذكره أصحابنا. 126 - استدل حنبلي لصحة رواية إسقاط العدد في غسل النجاسات ما عدا الولوغ بقول النبي صلعم لأسماء، لما سألته عن دم الحيض يصيب الثوب: "حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء." فوجه الدلالة أنه أمرها بالحت

[في أن الأجساد لا تعذب إلا عند إعادة الروح إليها]

والقرص لكونهما معينين على الغسل الواجب، ومقربين إلى الإزالة، وليسا واجبين. وبعيد من المبعوث للبيان المهيأ للإيضاح أن يغفل صلعم ذكر الواجب في قصة عنى فيها بذكر المستحب. وهذا غاية الإيهام: أن الحت والقرص واجبين، والدفعة الثانية والثالثة غير واجبة. اعترض عليه حنبلي آخر فقال: غير ممتنع أن يذكر المستحب، ويكل الواجب إلى دليل آخر. ألا تراه لما سألته أيضًا السائلة عن غسل الجنابة، فقال: "أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء." ومعلوم أن العدد في غسل الجنابة ليس بواجب إجماعًا. وتعميم الجسد لازم واجب. فذكر التكرار وأغفل الاستيعاب اعتمادًا على قوله: "تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر وأنقوا البشرة." 127 - استدل حنبلي على أن الأجساد لا تعذب إلا وقت إعادة الروح إليها، وهو وقت المساءلة، بآية عجيبة في هذا المعنى. وهي قوله سح ||إخبارًا عن تعذيبه لأهل النار: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب}. قال: فوجه الدلالة أن الله سح أخبر أن جلودهم إذا نضجت، ونضجها اختلال صفتها التي بتكاملها يحصل الحس، فإن تجديدها جلودًا غير نضيجة فعل لذوق العذاب. فلو كان ذوق العذاب مع

فصل [في واعظ يزري على الدنيا ونعيمها]

النضج حاصلاً، لما كان لتعليله بذوق العذاب بتجديدها معنى. فلما ربط التبديل بذكر ذوق العذاب، دل على أن ذلك علة لذوق العذاب، أو شرط لذوقه. وإذا كان النضج يقلل الذوق للعذاب، ويختل به الحس، دل على أن بعدم الروح وزهوقها عنه أولى أن ينعدم الحس. 128 - فصل قال حنبلي ــــــ وسمع واعظًا يزري على الدنيا ونعيمها، ويزعم أنها كالميتة، وأهلها كالكلاب عليها، وأغرق في هذا وأمثاله: بيني وبين هذا المزري على أبناء الدنيا، والمستخف بخير منها، جوعة تذله وتصرعه؛ حتى أوقفت الكليم عم يقول في ظل شجرة: {رب إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقير}. ويترك أمثالنا اليوم على أبواب أرباب الأموال الأنذال، بذل الطلب، مع التحجب عنا، والإيقاف لنا على الدهاليز، كالأيتام على أبواب الأوصياء. وأدنى شبق وعشق يبذلنا بقول العزل، والوقوف في أقبية البيوت والروازن، واليتيم والهيمان واللهج بالنساء والمردان، حتى يخلع العذار، ويرفض الوقار، ويكشف الأسرار، في النثر والأشعار. وأدنى مصاب يصيبنا في الأموال والأولاد يجعلنا كالنسوة الثواكل نتفًا للشعور، وتخريقًا للجيوب، وصكا للخدود. وأيسر شبهة تعرض، إما من طريق

الأفعال، أو الاشتباه في الأقوال، ننطق بالاعتراض، ونخرج عن طريق الاستسلام، والتسليم إلى التسخط على من لنا طريق إلى الاعتراض عليه. يشهد لذلك يوم عمر. والقضايا دأب الصحابة، وطرحهم في الشكوك الموبقة بما كان تحته شبهة تزيلها كلمة أقال لكم العام وحشوه من خمر اوترنه وترا، ونفخة في مزمار، ويختل || الوقار. وبقلبه خلاعة. وأدنى غضب يعترض يهيج من غليان دم القلب، طلب الانتقام على الذنب، حتى يصير كالسبع الضاري، والأسد الصائل، ممن تحيله الحاجات. والغناء كذا؛ كيف يزري على أهل الدنيا. كان لنا شيخ بدرب الديوان يعرف بابن زيدان، له حلقة بجامع المهدي يتكلم فيها بالمعارف والمواجيد ولسان التصوف، وكان شطاحًا بالإضافة إلى أصحاب الأحوال. وإلى جنب حلقته حلقة الشيخ الدياب من أصحاب عبد الصمد. فقال ابن زيدان له: أقوام الجواري عندهم كهذه السواري. فقال الدياب: والله إن هذاك بلي بعشق مغنية حمل وراءها طبلها. أما رأيت صاحب الشرع كيف عزل وأبعد عن مقامات الرأي والعقل والتعبد للرب؟ فقال: "إذا حضرت الصلاة والعشاء، فابدوا بالعشاء." ليس هذا لما يعتقده البله من أنه تقديم لحظ النفس على حق الرب؛ لكن لعلمه بأن الجائع لا يصلح لخدمة الحق. فاشتغال الشيء الذي يحتاج إلى اجتماعه

بتلك الكسرة هو الذي أبعده عن الحضرة، ليكون همه مجموعًا في تلك اللحظة. فإن الدواعي المتوثبة مشوشة للهم. وكذلك قوله: "لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان، " كرامةً للمنصب أن يقوم فيه مشوش الأدوات. وعلى هذا أبدًا. حتى إنه عزل الآباء عن شهادتهم للأبناء لمكان شغفهم بالأولاد. ومغلوب بالطبع لا يجعل معيارًا في الشرع. فعلى هذا كل مهون في الشرع عظيم في الطبع. وتهوين الشرع له علاج ومداواة. فلا ينبغي للواعظ والناهي أن يدخل فيه مدخل المقاواة. فإن الحمية مقاومة للطبيعة. ولا تقاوم إلا بما هو أقوى. وليس عند هؤلاء من اليقين ما يهون عندهم المحسوسات العاجلة. فينبغي أن يسلك معهم مسلك اللطف والمداراة، وتعظيم أمر الآخرة، ولذاتها الموفية على لذات الدنيا. فأما أن تحقر اللذات، وتجعل كالمزابل والميتات، ويجعل أهلها كالكلاب، فهذا لا يقوله إلا من أتلفته الحمية وجعلته شلوًا. فأما من يزاحمهم على اللذات والاستكثار بما يوفي || على الكفايات، لا يحسن به أن يستخف ويستزري بمن يطلب ما يطلب، ويرغب فيما يرغب. إذا رأونا العوام على أبواب أرباب الموال مطرحين، ولعل أكثرهم بما يقتنعون به من أجور أعمالهم وأكسابهم عنهم يتعففون، فإذا لم يزروا علينا، فأولى أن لا نزري عليهم. لأن العلوم توجب علينا ظلف النفوس عن الدنايا. فإذا لم تقيدنا العلوم عن طلب

جرى في مسألة من أدرك التشهد من صلاة الجمعة

الدنيا، فأولى أن لا نزري على العوام الذين لا رابط لهم ولا ضابط. 129 - جرى في مسألة من أدرك التشهد من صلاة الجمعة قال حنفي: هذا إدراك يلزم به المسافر صلاة الإقامة إذا أدركه في التشهد؛ فلزم به المسبوق صلاة الجمعة، كإدراك ركعة. يوضح هذا أن المتابعة هي الموجبة والملزمة لهذا الإتمام؛ يجب أن تكون المتابعة ههنا موجبة لصلاة الإمام، وهي الجمعة. قال حنبلي: إن المغلب هو الإتمام دون الإتباع. ولهذا لو اتبع المقيم المسافر لم يصل صلاة مسافر تبعًا للإمام؛ بل يصلي صلاة المقيم تغليبًا للإتمام. وكذلك لو دخلت به السفينة، وقد بقي عليه من صلاة التشهد، لزمه الإتمام تغليبًا للإتمام، بحكم الحال التي صار إليها، لا بحكم الإتباع لإمام. قال حنبلي آخر نصر مذهب الحنفي وساعده، حيث أفحمه هذا الاعتراض من الحنبلي: يا هذا! إن صلاة الجمعة هي الإتمام في الحقيقة وإنما أنت تنظر إلى قلة ركعاتها، وكونها على النصف. وهي في الحقيقة الأوفى والتامة الكاملة على الظهر. والدليل عليه أن الشرع أجراها مجرى صلاة الحضر في لزوم الإتباع للإمام فيها، وزادها عليها؛ حتى إن من فرضه الظهر في يوم الجمعة، وهم النساء والعبيد والمسافرون، إذا دخلوا مع إمام الجمعة، أجزأهم الركعتان وسقط عنهم الظهر. || فإذا جرت الجمعة

فصل [في المبتدع في الأديان كالخارج على الملك لا ينبغي أن يعفى]

في لزوم المتابعة مجرى الصلاة التامة في حق الإمام المقيم، وكانت صلاة المقيم إدراك التشهد منها كافٍ في إلزام، كذلك إدراك التشهد مع الإمام في الجمعة يجري مجرى إدراك ذلك المقدار من صلاة المسافر في لزوم الإتباع للإمام. 130 - فصل كما لا يحسن في سياسة الملك العفو عمن سعى على الدولة بالخروج على السلطان، لا يحسن أيضًا أن يعفى عمن ابتدع في الأديان. لأن فساد الأديان بالابتداع كفساد الدول بالخروج على الملك والاستتباع. فالمبتدعون خوارج الشرائع. 131 - جرت بباب المراتب المرحوس أدام الله ظله ببقاء الإمام العباسية والإمامة المستظهرية مسألة الكتابة بعد موت المكاتب قال مالكي: مذهب مالك أنها تبقى بشرط أن يخلف وفاء، وهو بشرط أبي حنيفة. ويزيد عليه بأن يكون قد بقي من يؤدي، إما ولد المكاتب، أو عبد كان شاركه في عقد الكتابة. واستدل على ذلك بأنه قد بقي علقة من علق العقد؛ وهي الوفاء في حق الميت، وإمكان الأداء في حق الحي.

وهذا عقد وضع لتحصيل الحرية المغلبة المبنية على التحصيل دون التعطيل. ولهذا لم يعتبر لحصول العتق في هذا العقد كمال السبب، وهو الصحة؛ بل حصلناه جميعًا بالكتابة الفاسدة. ولم نحصله بالبيع الفاسد، بحيث يقع منه العتق، حيث لم يكن البيع موضوعًا للعتق؛ وكان عقد الكتابة موضوعًا للعتق. اعترض حنبلي فقال: هذا، وإن كان طريقًا لتحصيل العتق، إلا أنه إذا أدى بعض نجوم الكتابة، وعجز عن الباقي، أو مات، فإنه لا يعتق منه بإزاء ما أدى من النجوم. ومعلوم تكامل || السبب؛ وهي الكتابة الصحيحة مع بعض الأداء. ولكنا أحبطنا ما أدى، وأسقطنا حكمه، واعتدناه رقا قنا كما كان لأجل العجز، ولو عن درهم من نجم. فهلا نظر الشرع ههنا إلى تحصيل الحرية وإلغاء التمام في باب العوض. فلما لم يفعل ذاك، علم بطلان المعنى الذي عليه عولت. ولأن العتق يستحق بالأداء، لا بالوفاء، لأن يختلف الوفاء لحصول المال في اليد. وحصوله في يد المكاتب قبل أدائه لا يكون سببًا لعتقه، ولا شرطًا تامًا. ولا يجوز أن يبقى شرطًا لأجل تحصيل العتق في العين، وهو الولد أو الشريط، إلا بعد أن يكون سببًا صالحًا لعتق الأصل. فإذا كان الأصل -وهو الأمة لو ماتت وخلفت وفاء -لم يحصل عتقها بما خلفته، فأولى أن لا يحصل الوفاء الذي خلفه شرطًا لعتق الولد أو الشريك، وهو عين للأصل أو فرع للأصل. والعتق بالأصل أخص. فإذا لم يحصل العتق للأخص، فأولى أن لا يحصل للأبعد.

وجرت مسألة عين الأعور وهل يوجب كمال الدية

132 - وجرت مسألة عين الأعور وهل يوجب كمال الدية فاستدل شافعي يخالف مذهب مالك وأحمد، ويوافق مذهب أبي حنيفة، في إيجاب النصف، فقال: كل شيئين كان الواجب بإتلافهما معًا الدية، وجبت في أحدهما بعد ذهاب الآخر نصف الدية؛ كاليدين والرجلين. طولب بصحة العلة، فقال: لأن ما في البدن منه اثنان، فإن الغرض الذي لأجله خلقا لا يتم إلا بتساعدهما وتعاضدهما. وهذا يعطي أن كل واحد منهما بحدته ناقص عن تحصيل الغرض بنفسه. فلا يعطى كمال العوض مع كونه لا يعطي كمال الغرض. بخلاف الأنف والذكر، فإن كل واحد منهما مستقل بالغرض الذي خلق له. أخذ الحنبلي يقول: إن عثمان قضى بذلك؛ وهو مذهب عمر، وعلي، وابن عمر. وليس مما يقتضيه القياس. فالظاهر || أنهم عملوا بذلك توقيفًا. وقد روي في ذلك حديث يعطي أنه ليس من قبيل اليدين؛ وأن النبي صلع قال: إن الله، إذا أذهب ضوء إحدى العينين، نقله إلى الأخرى. ولهذا يبلغ بإحداهما من الأغراض ما يبلغ بالعينين من النظر بالحذاء، ونقط المصاحف، وانتقاد الدراهم، وغير ذلك، بخلاف إحدى اليدين والرجلين.

فأجاب الشافعي بأن القضايا لا تدل على الحكم؛ بل يكون مددها لمن ذهب إليها، وليس بحجة علي. إذ كل مجتهد يجوز عليه الخطأ. والخبر يدل على توفير الضوء، لا على أن لها حكم العينين. وتقوية الغرض لا يوجب كمال العوض؛ كقوة اليمنى على اليسرى. وكل جارحتين، إذا زالت إحداهما، توفرت القوة، وذهبت الأغذية إلى الأخرى؛ كما إذا كثرت أغصان الشجرة وأعذاق الشجرة وأعذاق النخلة، تمحق الطعم فيها. ولذلك يقلل ويخفف بإزالة بعضها، ليتوفر الماء والسماد على الباقي. وذلك لا يعطي أن يكون لها حكم العينين؛ كما لا يعطى يدًا قوية حكم اليدين. ولأن الغرض الأكبر قد اختل، وهو حراسة الجانب الذي كانت فيه. ولو كان الغرض يوفي الضوء في الوضع لخلق ذلك في غير واحدة. وإنما جعلها عينين لحكمة واضحة وهي أن ينظر من جهتين فيحرس الجانبان بهما. والذي يتضح به هذا ما يحدث من الاختلال بذهاب إحداهما من اختلال رعي السوائم وحراسة الجانب. فإن الأعور يصاب كثيرًا من الجانب الذي انطفأ سراجه وذهب ضوؤه. فالتوفر لو صح لما نفع لما اختل به تعطل إحدى الجانبين من التصرف به والانتفاع بكونه.

وجرت مسألة المعتق نصفه هل يرث بمقدار ما فيه

133 - وجرت مسألة المعتق نصفه هل يرث بمقدار ما فيه قال حنفي: لا يرث. ثم إنه فرض الكلام في الملك، فقال: إن الحرية لم تكمل. وأنت تكمل الملك في النصف. || حتى إنه لا يكون في يده بغرض الإزالة، ويتصرف حتى بالتبرعات. فلم تدع للرق الذي فيه أثرًا. ومحال حصول الملك الكامل في حق شخص ناقص. يوضح هذا أن الرق الذي فيه وصمة توجب نقصه، فكييف يكمل بها ملكه؟ وليس يكفي أن يقع التأثير بالتنصيف فقط؛ لأن الشركة في العبد بين الجزئين الكاملين توجب التنصيف أيضًا. لكن لا بد من خصيصة في هذا المكان، الرق فيه، ووصمة الرق يمنع هذا الحكم الذي نسبه أنت. وهذا الملك التام الذي يتصرف به التصرف التام. قال الحنبلي: إن الحرية التي فيه مستقرة تامة في نفسها، وإن لم تعم رقبته. فيجب أن يعطى بها بحسبها تنصيفًا. فأما أن ينقص نقصانًا آخر، فلا. ولذلك إذا هابا المولى كان في يومه تام التصرف، كما يتصرف الأحرار، وفي يوم سيده عبد. فأما نقصان تصرفه مع تنصيفه، فلا وجه له. قال الحنفي: فلا أسلم فيه حرية مستقرة. قال الحنبلي: أريد به أنه لا يعود نصفه إلى الرق قط؛ ولا يقف

سأل سائل: هل يأثم الرجل بتلاوة القرآن على وجه من الوجوه

حصول الحرية في النصف على معنى يتأخر؛ بخلاف أم الولد، والمعتق نصفه، والمدبر، أو المكاتب الذي يعود إلى الرق. 134 - سأل سائل: هل يأثم الرجل بتلاوة القرآن على وجه من الوجوه؟ قال حنبلي: نعم، إن الرجل ليقصد بالتلاوة شرًا، فيأثم بها لقصده. كما يؤجر بصورة المعصية، يأثم بصورة العبادة. قال له السائل: كانت مسألة صارت مسألتين: أخبرني ما صورة الطاعة التي يأثم بها، وما صورة المعصية التي يؤجر عليها. قال: الآيات يتلوها ليدعو بإشكالها إلى بدعة. كمشبه يتلو آيات ||الإضافات. مثل قوله: {بل يداه مبسوطتان}، {تجري بأعيننا}، {ويبقى وجه ربك}، {يكشف عن ساقٍ}، يوهم بذلك ثبات الأعضاء؛ أو حلولي يوهم بقوله: {فنفخنا فيه من روحنا}، {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي}. ألا ترى أن آدم، لما كان طينًا، لا قديم فيه، لم يسجد له؛ لما ولجته الروح القديمة، أسجد له الملائكة. فهذا كله تلاوة لكتاب الله. وكله صار وبالاً على تاليه للإضلال به، حيث أنزله الله لهدى خلقه. فأضل به هذا الخلق. ومثل ما روي في الحديث: إن الرجل ليقول "لا إله إلا الله" فيدخله النار؛ أو كما قال. فقيل: "وكيف ذلك، يا رسول الله؟ " قال: "هو أن يذكره أخوه المسلم عنده بسوء، فيقول "لا إله إلا الله" تعجبًا يستطعم الزيادة، فيعاقب على ذلك."

جرت مسالة في يهودي مات وخلف إخوة أحدهم مسلم [هل يصح أن يرث]

وأما صورة المعصية الذي يثاب عليه، فالكذبة يصلح بها بين الزوجين ويطفي بها النائرة بين الجنبين. فافهم هذا فأنه من فقه الأعمال. ثم قال الحنبلي: الرجل كل الرجل من قرر من نعم الله ما يخفي على كثير من خلفه ليشكروا، ومن قرر حكمة الله ليسلموا البلاية ولا يضجروا. فهذا أبدًا يصلح الخلق لله. وهذا مقام النبوة. 135 - جرت مسألة يهودي مات وخلف أخوة أحدهم مسلم هل إن رأي الحاكم المصلحة في العمل بمذهب معاذ ومعاوية وعائشة وغيرهم من التابعين بتوريث الأخ المسلم- هل يكون حكمه نافذًا صحيحًا؟ فأجاب حنبلي، فقال: هذا ينبني على أصل: هل يجوز تقليد الميت من المجتهدين أم لا؟ وفيه خلاف بين الأصوليين. ولأصحاب الشافعي فيه وجهان. ولأصحابنا أيضًا فيه وجهان .. وأجاب بعد هذه الجملة بما ينظره، بأنه إن كان الحاكم [مجتهدًا] فوافق اجتهاده اجتهاد السلف المذكورين، فذهب إلى هذا الحكم بدليلهم، لا ||بتقليدهم، جاز وشاع ونفذ حكمه. وكذلك إن لم يكن الحاكم مجتهدًا، لكنه وجد في عصره مجتهدًا يقلده، فحكم بذلك، صح ونفذ. فأما أن يحكم بتقليد هؤلاء المذكورين، فلا.

وجرى بجامع القصر مسألة تحالف المتبايعين

واجتمعوا وتذاكروا. فقال من نصر جواز تقليد الموتى: إن حكم مذاهبهم باقٍ؛ حتى إنه لا يجوز إحداث مذهب يخرج عن إجماع الموتى؛ كما لا يجوز إحداث مذهب يخرج عن إجماع الأحياء. ولأن الميت استقر مذهبه استقرارًا لم يبق يرجى رجوعه عنه. ولهذا اعتبر قوم في ثبوت الإجماع انقراض علماء العصر. وقال الذي منع تقليد الموتى: إن الموت يبطل حكم الشهادة. فلا يشهد على شهادة ميت. وذكر أشياء لم تتحصل فأذكرها. 136 - وجرى بجامع القصر مسألة تخالف المتبايعيين استدل فيها حنفي بقول النبي صلع: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر. وليس يتحقق في مسألتنا مدع إلا البائع، ولا يتحقق فيه إنكار إلا صورة. واليمين لا تثبت إلا في جنبه منكر حقيقة، لا منكر صورة. وليس من حيث كان منكرًا للعقد الذي يدعيه المشتري يكون منكرًا حقيقة. لأنه يحصل لنفسه بقوله شيئًا هو زيادة يدعيها من الثمن. والمشتري يدفع تلك الزيادة. والدفع هو المغلب في حقه. وصار بمثابة من أودع رجلًا وديعة، فأدعى المودع أنها تلفت؛ فقال صاحبها إنها لم تتلف؛ فإنه منكر، لكن لما لم يكن إنكارًا حقيقة، بل صورة، لم يخلف. ولما كان المودع منكرًا حقيقة، ثبتت اليمين في حقه حقيقة

وصورة. وثبتت اليمين في حقه، لأنه مدعٍ صورة، واليمين تثبت أبدًا في حق المدعي صورة. قال الحنبلي: ما الدعوى في حق كل واحد إلا معنى، لا صورة. وكذلك الإنكار. لأن كل واحد يدعي عقدًا، وينكره الآخر. لأنه لا يمكن أن تكون العين الواحدة بمائة، بخمسين، فيكون كل ||ثمنها مائة، وكل ثمنها خمسين. وإذا كانت الدعوى لعقد بمائة، ليس بقي الدعوى لعقد بخمسين؛ فكل واحد مدعٍ عقدًا، وكل واحد منكر للعقد الذي يدعيه الأخر. وأما قولك إن الإنكار صورة لا يوجب إثبات اليمين في جنبه المنكر صورة، فإنك قد أثبت البينة في جنبه من الدعوى في جنبته صورة، وهو المشترى. وإذا جاز أن تكون الدعوى صورة تثبت في جنبتها البينة، جاز أن يكون الإنكار صورة تثبت بها اليمين. وأما الوديعة فإن المودع أمين في جنبه المودع. فلذلك قبلت يمينه، لقوة جنبته بكونه أمينًا؛ وقبلت بينته، لأنه يدعي إثبات أمرٍ الأصل عدمه. لأنه أقر بالوديعة وادعى تلفها. والأصل البقاء الذي يخالف قوله؛ بخلاف المنكر الذي يدعى براءة ذمته، وينكر إثبات الحق، والأصل يوافق قوله. وإنما لم يسمع يمين صاحب الوديعة. لأنه يريد إثبات حق على غيره بقوله ما تلفت؛ وهو أمينة، فلا يقبل قوله عليه.

وجرت مسألة الزنا هل يثبت تحريم المصاهرة

137 - وجرت مسألة الزنا هل يثبت تحريم المصاهرة قال حنبلي: الموجب للتحريم البغضة. وذلك يحصل بالحرام، كما يحصل بالحلال. فهو بمثابة الرضاع، لما أنشر العظم وأنبت اللحم، وإن كان اللبن غصبًا، أو كانت الظئر مغصوبة، أو كان اللبن نجسًا. والبعضية حقيقة وحسًا لا تحتاج في تحصيل التحريم إلى إباحة، بدليل جانب الأم. قال شافعي: أما البعضية، فإنها غير محكوم بثبوتها؛ بدليل أن القصاص يجري بين هذا المولود من الزنا وبين الزاني. والبعض لا يقبل به أصله. والنفقة غير واجبة. والإنسان يجب عليه مرمة أبغاضه وإمدادها بما تقوم به. وهذا صحيح. فإن التردد بين أن يكون بعضًا، ||وبين أن لا يكون، مسقط لما يسقط بالشبهة، وهو القود. ألا ترى أن قاتلًا لو اختلط بين جماعة غير قاتلين، فإنه لا يقتل واحد منهم؟ فما بالك ههنا قتلت الزاني بالمخلوق من الزنا؟ قال الحنبلي: إن سقوط القود ووجوب الأنفاق من أحكام النسب. والنسب لم يثبت ههنا. وهو أقصى ما يثبت من أحكام الوطء. وليس

وسئل حنبلي عن تصرفات الصبي

إذا لم يثبت الأعلى من أحكام البعضية لم يثبت الأدنى. ألا ترى أن اللعان يزيل النسب ولا يقوى على إزالة التحريم؟ فيخرج باللعان أن يكون ثبتًا، ولا يخرج إلى حيز الأجانب المباحات. وكذلك الرضاع، يجعلها ثبتًا في باب التحريم، ولا يجعلها ثبتًا في وجوب الإنفاق، وعدم جري القصاص بين الأب والأم جميعًا من الرضاع. 138 - وسئل حنبلي عن تصرفات الصبي فقال: يصح. لأنه بلغ به التمييز العقلي إلى الرضا بأن يكون مصليًا وحاجًا. ومن بلغ به التمييز هذا المبلغ: لا يجوز أن يصان عن تصرفه المال. اعترض عليه بأن الصلاة لم يتحقق فيها ما تحقق في البيع من الحجر، بل وسع الشرع فيها. لأن عندك يؤمر بها لسبع، ولا يصح من الولي عنه. وهنا تحقق معنى الحجر بحيث لو باع الولي عليه وهو مراهق صح بيع الولي. ولا يصح بيع الولي لمال الصبي إلا وهو محجور. لأن غير المحجور لا تباع أمواله عليه؛ ولأن العبادات المالية أشبه بالبيع. وما صح أن يتولاها إخراجًا إن كان عينًا، ولا قبضًا للمال فيها إن كان فقيرًا. ولأن الشرع يبيح بالمال، وظن به في حق الأطفال، ومر بهم في باب العبادات.

جرت مسألة الإمام المسافر إذا حدث به ما أحوجه إلى استخلاف غيره واستخلف مقيما هل يجب على المسافرين الإتمام بحكم متابعة هذا الإمام الثاني أم يكونون بحكم القصر بمتابعة الأول

139 - جرت مسألة الإمام المسافر إذا حدث به ما أحوجه إلى استخلاف غيره واستخلف مقيمًا، هل يجب على المسافرين الإتمام بحكم ||متابعة هذا الإمام الثاني، أم يكونون بحكم القصر بمتابعة الأول قال حنفي: إن حكم الأول وحكم إمامته باق بعد خروجه، والثاني تبع له. ومحال أن يسقط حكم متابعة الأول تغليبًا للثاني، مع كونه تابعًا له. والدلالة على بقاء تبعيته أنه لو كان قد سها سهوًا يوجب الجبران، لكان السجود الجابر لازمًا للمأمورين. ومن كان ملتزمًا لجبران تبعه فيه، لم يقطعه عنه تبعية الثاني الذي لم يدخل على صلاته نقصان. كذلك في باب تبعيته في قصر الصلاة. قال حنبلي مجيبًا عن هذا: إن الأول بقيت تبعتيته حكمًا فيما ذكرت من حكم الإمام وسد الخلل. وذلك الإمام قد خرج. ولعله نائم يغط. وهذا الإمام قد طرأت إمامته، وصار المأموم تابعًا له، بحيث لو يعمل الحدث بطلت صلاتهم؛ ولو سها، دخل النقض بسهوه على صلاتهم أيضًا. فلم يلغ حكم تبعيته وهي الطارئة. وأبدًا إنما يبني الحكم على الإتمام فيما يتجدد من الأحوال. بدليل دخول المسافر في صلاة المقيم، وقدوم

[مسألة رجل حلف بالطلاق أنه ليس كل الناس ولد آدم هل بر في يمينه]

المسافر بعد شروعه في القصر إذا دخلت به السفينة؛ كل ذلك يوجب الإتمام. كذلك تجدد إتباع هذا الإمام. 140 - حادثة رجل حلف بالطلاق أنه ليس ولد آدم؛ لأنه قد قال بعض المفسرين إن قوله تع {والله أنبتكم من الأرض نباتًا} أنه كان في بعض الأزمان يخلق الله من الطين قومًا لا بالتوالد. فقال حنبلي هذا ليس طريفا صحيحا. لأنه لو كان ذلك كذلك، لكان نسل آدم انقطع، وصار هؤلاء المخلوقون آباء من بعدهم، حتى انقطع نسل آدم. وهذا أمر يحتاج إلى نقل متواتر، لا يكفي فيه قول بعض المفسرين. ولكن الخلاص لهذا الخلاف من وجه آخر. وهو أن آدم وحواء إنسانان؛ وليس واحدا منهما ولد آدم ولا غيره؛ إذ لا والد لهما. فقد خرج من الناس ||اثنان ليسا بولدين لآدم. فبر في يمينه- والله أعلم. 141 - قال بعض أهل العلم من المغاربة: قولهم "نسخت الكتاب" ليس من نسخ القرآن والأحكام في شيء. لأن الناسخ للكتاب يكتب مثل ما فيه؛ فيحصل بكتبه كتابان؛ فزيد كتاب إلى كتاب.

[في النسخ]

قال بعض أهل العلم: فلا بد أن يكون فيه معنى. ليكن على أقل الأحوال مجازًا؛ لأنهم لا ينطبقون بما لا حقيقة له ولا هو مجاز. ولا سيما والقرآن قد ورد بقوله: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}. ولا شك أنه ورد في التفسير، بالنقل الصحيح، أن الملائكة النازلة لرفع الأعمال تنقل مثال ما في اللوح، مما يلقيه إليهم الحفظة وملائكة اللوح. فإذا نزلوا وجدوا أعمال المكتوبة أعمالهم على ما نقلوا وسطروا. والعرب والقرآن جميعًا لا يتفق تسميتهم ذلك استنساخًا إلا وفيه معنى الرفع. فلابد لذلك من معنى يستخرج منه. وليس ذلك إلا لأن الناسخ يتصور صورة المحكي، فإذا سطرها سبق يسطره لها تصورها في نفسه. وذلك رفع للمثال، ونقل له من محله إلى النفس، ثم إلى الطرس. فاستعاروا لرفع المثال رفع الشيء بأصله. ولهذا صرحوا باسم النقل، فقالوا ((نقلت العلم عن فلان)) أي ((قلت مثاله تعلمًا وتلقفا)) إذ لو كان نقلا حقيقة، لعاد المنقول عنه علمه جاهلًا. 142 - وذكر بعض أهل العلم في قول عائشة رضها إن فيما أنزل الله تع عشر رضعات معدودات نسخن بخمس معلومات. فمات رسول الله وهي مما يتلى في القرآن. قال: ولا يجوز أن يتلى في كتاب الله بعد وفاة رسول

جرى بمجلس الظفرية عمد الصبي هل هو خطأ في الحكم أم له حكم العمد

الله، لأنه لم يبق بعد وفاته صلع وحي ينزل. فبم ينسخ الحكم المتلو؟ فلا بد من أن يكون المراد به (يتلى) في حق من لم يسمع النسخ) كما صليت ركعتين في مدينة رسول الله معا || في حق من لم يسمع نسخ القبلة. فلا وجه له إلا ذلك؛ إذ كان العدد في الرضاع ليس بمتلو في كتاب الله لفظًا ولا معنى. 143 - جرى بمجلس الظفرية عمد الصبي هل هو خطأ في الحكم أم له حكم العمد قال شافعي: له حكم العمد في إيجاب تغليظ الدية وتعلقها في ماله، لا متحملة ولا مؤجلة ولا مخففة بالسن. ثم استدل على ذلك بأنه من أهل القصد، ويتعلق على أفعاله الضمان والغرامات والكفارات؛ فكان عليه الدية المغلظة كالبالغ. اعترض عليه مالكي يري مثل مذهب أبي حنيفة، إذ هو مذهب مالك وأحمد، فقال: هذا يعطي أصل الضمان الذي لا على وجه العقوبة. وذلك يتعلق بفعل المخطئ من البلغ. وكلامنا في تغليظ لا يجب إلا عقوبة عندي. ولذلك أحرم الإرث بالقتل وأضر به على الصلاة. وأنا وأنت جميعًا نعززه على هذا الفعل. والتعزيز عقوبة على البدن قائمة بنفسها. فلئن يكون من أهل العقوبة بوصف في المال وهو التغليظ، بوصفه ستًا وحلولًا أولى.

قال المالكي، وحنفي إمام ساعده لموافقته، وحنبلي أيضًا ساعده: إن العقوبات أكد من اللوم. واللوم والعقوبة فرعان على الخطاب بالأمر وارتكب النهي، قوبل باللوم والتوبيخ، ثم العقوبة. فإذا كان الصبي غير مخاطب شرعًا، كيف يكون معاقبًا شرعًا؟ لم يبق إلا أ، ما يقع من الضرب له يقع أدبا لا عقوبة، كما يحسن ضرب البهيمة على النفار دون العثار. كما روى: ويضرب الطفل والمجنون. والفرق بين الأدب والعقوبة واضح بين المحققين. وذلك أن الأدب يقع منبها على الفعل والترك؛ والعقوبة تقع عن المؤاخذة والمجازاة. وبيني في حق الآدمي أنها تقع لتشفي الغيظ والغضب عن || المسيء الذي وقعت به العقوبة؛ وفي حق الله سح يوقع العقوبة موصيا بنفي الرحمة، بدليل قوله: {ولا تأخذكم رأفة بهما في دين الله}. فالعقوبة مؤاخذة ومكافأة على الإحرام والغرامات جبرًا للمحل الذي أختل بالجناية. والأدب إصلاح للمحل المؤدب. وما الأدب من العقوبة إلا كالمداواة للمحل المريض من الحدود. فإن الحدود واقعة موقع المجازاة. والتعليل والتمريض واقع موقع المداواة. كذلك الأدب مع العقوبة. وأما الكفارات فقد يجب في حق البالغ في فعل يستحق بمثله العقوبة، وهو الخطأ.

وجرت مسألة الشفعة هل يستحقها الكافر على المسلم

144 - وجرت مسألة الشفعة هل يستحقها الكافر على المسلم قال شافعي: حق وضع لدفع الضرر عن المال، فكان ثابتًا في حق الذمي على المسلم؛ كخيار الرد بالعيب. اعترض عليه حنبلي فقال: هذا ساقط بالسنة. وهو قول النبي صلعن: ((لا شفعة لنصراني)) ولأنه لا يجوز اعتبار الكافر بالمسلم في حق العقار. بدليل الاستعلاء في البنيان، هو انتفاع بالمال، ولا يجوز، تقصيرا لشأنه في خالص ملكه. وكذلك إحياء الموات في دار الإسلام. ولأنه في حكم الساكن، عند الشافعي، بدليل إيجاب الجزية عنده عن الذمي بعد الإسلام، عند الشافعي، بدليل إيجاب الجزية عنده عن الذمي بعد الإسلام، وفي تركته بعد الموت. وكل ذلك لأنه سكن في الإسلام حولًا. ومن يكون سكناه بأجرة لا يقاوم أرباب الأملاك للدار وينتزعها منهم والنبي صلعم يقول: ((لا تتركوا لهم سروات الطرق؛ وإذا لقبتموهم في طريق فألجثوهم إلى أضيقة)) وهذا يعود إلى معنى؛ وهو أنهم نار تكون علينا بحكم العهد. فوجب أن يكونوا في الدار وأملاكها قاصري التسلط، مجموعين عن التبسط. بخلاف المنقولات، فإنهم يجوز أن يمتازوا بتحسينها، أعني الأقمشة والرحل والحري وسائر ||المستعملات. ولا يملكون الاستعلاء. وما ذلك إلا لأمر يختص العقار. وهو ما ذكرنا من أن الأصل الدار، وهم ساكنون لا مالكون حقيقة. والاستعلاء من حقوق الملك الحاضر. فمنع منه لما فيه

جرى بمجلسنا بدرب الكرد مسألة الشيوخ والرهبان هل يقتلون

من حظ المسلم صورة. فالمنع له من إزالة يده وملكه عن الشقص المنيع أولى. 145 - جرى بمجلسنا بدرب الكود مسألة الشيوخ والرهبان هل يفتلون استدل شافعي بأنه حر مكلف، فقتل بالكفر، كالثاب. طولب بصحته، فقال: لأن القتل لأجل الكفر؛ وهذا موجود في حق الشيخ والزمن والأعمى. اعترض حنبلي لمذهبه، ولأحدى الروايتين عن مالك، فقال: إنك لما طولبت بصحة الدلالة ذكرت لما لم يتضمنه الدليل. لأن وصفي دليلك الحرية والتكليف. وبدلالتك على الصحة تضمنت قيام الكفر وتعليلك به. وإذا كانت علتك الكفر بالله، فلماذا تذكر الحرية والتكليف، وتعتبر أيضًا البلوغ والذكورية؟ ومنعت قتل الذمي وهو كافر، والمستأمن وهو كافر. فهذه العلة لو كانت عاملة مؤثرة لهذا الحكم لأوجبت القتل في كل محل. ألا ترى أن كفر الردة أثر عندك في إيجاب القتل للنساء والعبيد والإماء حيث قتل به الشيوخ والعميان؟ قال الشافعي المستدل: إنما لم أقتل النساء والصبيان لأنهم يصيرون لنا أموالًا بنفس السبي. فكان الحكمة في ذلك مع الكفر أنه يتعجل

الانتفاع برقهم، والاستمتاع بالنساء، والاستخدام والتمول للصبيان. ثم الانتفاع بالذمة بأخذ الجزية. فهذا عاجل، ويرجى في الآجل أن يستجيبوا للإسلام. لأن الأطفال إذا مرنوا على مشاهدة جموع المسلمين، وسمعوا ما يتلى من آيات الله، استجابوا للإسلام. وكذلك النساء سريعات الانقياد ... لم توضع إلا ... ، فقد سمعوا بالنبوات ||والكتب، وعرفوا سماء النبوة وحلاوة الأتباع للشرائع. فهذا علة إسقاط القتل عنهم مع قيام الكفر فيهم. والله سح صرح بتعليق القتال والقتل على الكفر. ثم جعل زوال الكفر بالإسلام غاية لرفع القتال والقتل عنهم بقوله: ((حتى يقولوا لا إله إلا الله)) وأما الشيوخ والعميان وأصحاب الصوامع فإنهم كفار. ولم يوجد في حقهم مانع من القتل؛ بدليل أن أكثر ما فيهم أنهم تعطلوا عن القتال. وليس القتال علة لقتل الكفار، ولا شرطا؛ بدليل المرتدين من الشيوخ والرهبان والعميان. أجاب الحنبلي بأن قال: أما الكفر، إن جعلته علة، لم يحسن بك أن تعتبر له محلًا مخصوصًا. لأنه الغاية في الهتك، حيث كان كفرًا بالخالق المنعم بالإيجاد، ثم الإرشاد. فاعتبار الذكورية والحرية والبلوغ لا وجه له.

فأما اعتذارك عن النساء والصبيان والمعاهدين بالمنفوع والأموال، فليس بصحيح. لأن نظرنا نحن إلى التعطل بالشيخوخة والزمانة والرهبنة عن الفساد والقتال أشبه وأحسن. لأن الشر والفساد والحرب علل القرآن به، والتمول والانتفاع لم يعلل به. فقال سح: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم}؛ {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة}. ولو كان الكفر علة لما حسن أن تذكر معه هذه الأمور التي هي دون الكفر؛ كما لا يحسن أن يعلل في زان وجب رجمه بقبلته للأجنبية ومسه لها ونظرة إليها؛ ولا في بيع الحرير بكونه ع=غانيا، ولا في إبطال نكاح الأخت من الرضاع بإحرامها. ولأن النبي صلع صرف عن هذه العلة ولم يقل في المرأة التي وجدها مقتولة [ ... ] وقال ((ما بالها تقتل وهي لا تقاتل؟ )) ولم يقل ((ما بالها قتلت وهي تصير مالًا ورقيقا للمسلمين؟ )) وأبو بكر الصديق قال: ((ستجدون أقواما غلقوا على نفوسهم الأبواب، فدعوهم وما ندبوا نفوسهم له.)) وفي الرواية المشهورة || ((واستبقوا- وروى ((واستحيوا)) - شرخهم)) والحديث في الصحيحين: ((إذا لقيتم عدوا لله، فاستعينوا عليهم بالله وادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن أجابوكم، وإلا فقاتلوهم)) وساق الحديث: ((ولا تحرقوا نخلا، ولا تغرقوا نخلا، ولا تقتلوا شيخا هما، ولا امرأة)) وإذا تقابل تعلينا في إسقاط قتل النساء والصبيان وتعليلكم، كان تعليلنا بأنهم ليسوا من أهل

وجرت مسألة التعدي في الوديعة إذا أزاله هل يزول الضمان

الحراب أحسن، لما ذكرنا من النطق وتلونا من كتاب الله وسنة رسوله، ولما يذكر من المعنى، وأن الفساد يصلح أن يكون علة. ولذلك تقتل به المسلم. والكف عنه يصلح أن يكون علة للمنع من القتل. فأما النفع بالمال، فلا يسوي أن يكون علة لمنع القتل الواجب بالكفر. ألا تراه بعد تمكنه من المحل بقتل به المرتد. قال الشافعي: فقد تكرر: قد تكرر ذكرك للمرتد. ولا يجوز أن يدخل ذكره فيما نحن فيه، لأننا فيه سواء. فأنت لا تقتل شيخًا ولا أعمى ولا زمنا؛ ونحن لا نقتل امرأة ولا عبدًا، ونقتل الأعمى. وجميعا نقتل بالردة من لا نقتله بالكفر الأصلي. فأنت تقتل الشيوخ والرهبان والزمني والعميان. فليس كفر الردة مما نحن فيه بشيء. فكما أنك ما أسقطت قتل المرتد عن الأعمى والشيخ الهم، بل قتلته مع كونه مأمون الجنية بتعطله، بأن أنك قتلته بالكفر واطرحت كفاية شره. ونحن قتلنا العبد والأمة مع تمكن المالية فيهما؛ ولم تعصم دمه بمنقوعة. هذا يعطي أن كفر الردة ليس من كفر المحاربين بسبيل. 146 - وجرت مسألة التعدي في الوديعة إذا إزالة هل يزول الضمان قال الشافعي: إن المعقود عليه زال وانعدم. فلا يعود العقد إلا بعد إعادته من جهة عاقدة. كما لو جحدها، ثم عاد وأقر بها.

اعترض عليه مالكي فقال: إن الذي زال إنما هو حفظ في حال، وهو مما يقبل التجزئة، بأن يقول ((أودعتك يوما ويوما لا. ((||ولم إذا زال الحفظ يرتفع العقد؟ ونحن نعلم أنه قد تختل أحكام في العقود، لكنها لا ترتفع إلا بما وضع لحلها. وما الجناية والتعدي إلا ضد الحفظ، لا ضد العقد، وهو الاستحفاظ، بل الاستحفاظ عام في جميع الزمان. ولا يجوز أن يكون قوله ((أحفظ)) مقدرا بالحفظ: ((فإذا أزلت الحفظ فلا تحفظ.)) بل يكون المقدر: ((فإن تركت الحفظ، فعاوده ولا تستدمه)). قال الشافعي: إنه إذا ترك الحفظ صار ضامنا. والضمان حكم يضاد الحفظ، فضاد الاستئمان. وهذا هو غاية. لأن الاستئمان مقيد: ((ما دمت حافظا، فإذا أزلت الحفظ فردها إلي)). وتجدد الحفظ في المستقبل لا يجوز أن يقضي بإعادة ما زال بالتعدي. وقولك ((أن العقد ما زال))، وهل العقد إلا التزام عدة جميله، والاستئمان إلى عهد المودع؟ فإذا زال ما كان مضمون العدة، ولم يحصل الوفاء، فأي عقد بقى مع حقر الذمة وإخلاف العدة؟

وجرت مسألة الإفطار في رمضان بالأكل هل توجب الكفارة

147 - وجرت مسألة الإفطار في رمضان بالأكل هل توجب الكفارة قال حنبلي: إن الوطء تأكد والجماع تغلظ، بحيث لا يجوز أن يجتمع هو وغيره في عبادة أو ملك العين إلا ويتأكد؛ كما انفرد من بين سائر محظورات الإحرام بإفساد الحج وإيجاب الكفارة العظمى .. وفي ملك العين إذا اجتمع مع غيره انفرد بإيجاب الحد. فهذا في الأحكام. ومن ذلك أنه حرم الخلوة بالأجانب من النساء، والتعرض والتحرش بالآماء والزوجات في نهار رمضان. ولم يمنع من الخلوة بطعام غير المشتهي مع الجوع الذي بلغ الغاية والمنتهى؛ ولا الخلوة بالماء البارد مع شدة الحر والعطش. وما ذلك إلا لأن هوائج الطبع عند شهوة الجماع لا يقنع فيها بضابط الحظر، حتى ينضم إليه زاجر من خارج، وهو تخير في مال أو عقوبة في بدن. ولذلك تيم العشاق، وقالوا في هذا الشأن الأشعار؛ وجن به مجنون ||بين عامر، ولم يشاهد. وما سمعنا برجل تاه في القفار، وبالغ في الأشعار، لأجل شمه لرائحة هريس، أو كبيس، أو سكباج وبطيخ! ولا نصب الله على أكل ذلك رادعًا، ولا قامعًا. ولهذه الخصيصة تترفع بإيجاب الكفارة دون الأكل.

حديث وتفسيره

148 - قال حنبلي في قوله صلع ((إذا حضرت الصلاة والعشاء فابدوا بالعشاء وإذا حضرت الصلاة والخلاء فابدوا بالخلاء)) ما أبله قومًا قالوا: ((بدأ بحظوظنا قبل حقوقه.)) فأعدوا هذا رفقًا بطباعهم وتقديمًا لحظوظهم. وكلا أن يكون الشرع قصد ذلك. وإنما الفقه أنه أحب أن لا يدخلوا الصلاة بقلوب مشغولة بطلب الغذاء، أو دفع الأذى؛ فلا يتكامل الخشوع ولا تحضر القلوب. فدفع المشغلات توفرًا على قيام الإنسان بحقوق العبادات. مثل قوله ((لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان)) طلبًا للاعتدال، لئلا يحصل الميل لمكان نفور الطبع، لأنه معيار الحق. ونحن نصون معيار الأثمان والمأكولات عن العين التي تخل بحقيقة وزنه. فكيف بميزان الشرائع والحقوق؟ فهذا فقه الحديث، وعليه قاس الناس صيانة الشاهد عن أن يكون عدوًا، وان يكون أبًا. لأن تمثل الغضب غير لابث، ولكنه نفور يمنع تحقيق النظر. فكيف بهوى النفس في الأولاد ومحبة إيصال الخير إليهم؟ فلم يبق الشرع تمسكه الأديان والعدالات العارضة عن أن يوقع التهمة بأربابها لأجل الطباع الموضوعة فيهم. فافهم هذا؛ فإنه من أحسن فقه الحديث.

في التسليم لله ولتعاليل شرعه

149 - ذكر بعض أهل العلم أن تعاليل القائسين للأحكام والمعللين للأفعال أفسدت من الشريعة أكثر مما أصلحت، ونبهت العقول على ما لم تكن به شعرت. ولم يك في القياس والتعليل ما يرضي العقول من هذه || الإقناعيات التي قامت بإزائها اعتراضات الأوائل وجدل المتكلمين. قال له قائل: فما الحيلة في ذلك؟ قال حنبلي: يكفي أن يكون الإنسان مستطرحًا على باب التسليم للحكيم الأزلي - جلت عظمته - بلا اعتراض يحوج إلى الاعتلال. قال له العالم: يا هذا! تطلبون من الناس الإمساك عما لم يستطع الأنبياء الإمساك عنه! أليس هذا الكليم يقول لعالم قد اعلمه الباري أنه آتاه علمًا من لدنه: {أخرقتها لتغرق أهلها}، {أقتلت نفسًا زاكية بغير نفس}. ليس في العقول أن تصبر عن الاعتراض وهي معايير التحسين والتقبيح. والباري سح لم يقل له ((ليس لك هذا، ولا جواب لاعتراضك)) بل عدل إلى إجابته بمثل ما نطق به العلماء من التعاليل الإقناعية التي لا ترضي هؤلاء الذين زعمت أنهم يعترضون. فإنا إذا قلنا لهم: ((كسر السفينة لئلا تؤخذ في الصخرة))، و ((قتل الغلام لئلا يبلغ فيكفر ويكفر أهله))، تضاحكوا بهذه التعاليل، وأخلدوا إلى التعطيل، وقالوا: ((أليس كان في سعة القدرة منع الفساد بغير فساد؟ فما بال هذا العلاج بالإفساد؟ )) ومعلوم أن الله سح قنع به بيانًا لحكمة الكسر والقتل؛

وموسى قنع به عذرًا لما وقع. فإذا لم يقنع به آحاد أهل وقتنا، كان ذلك تعطيلًا لتعاليل الشرع. فإذا عاد الواحد بعد هذا الرد للتعليل يقول ((أنا أرجع إلى الرضا والتسليم)) قلنا له: ((إنما يكون هذا منك حسنًا إذا كان اطراحك لكل علة نطق بها مخلوق واستخرجها متكلم. فأما إذا كنت تقول ((أنا لا أرضى بهذا التعليل الذي صرح به الشرع)) وكان عدم رضاك، لأنه عذر غير شاف في العقل، فلا فرق بين قولك هذا لرد تعليل الشرع وبين قولك هذا في أفعاله التي لم يكشف عن التعليل لها. فإما أن تسلم الكل، الأفعال المعللة بعلل الشرع وغير المعللة، وترضي بعلل الشرع وبيان وجه الحكمة التي بينها، وإما أن لا ترضي بالكل، ثم تقول (أنا أسلم). فلا تسليم مع ردك التعليل؛ || كما لا تسليم مع ردك للأخبار. لأن الجميع منه سح. فأما أن تقول (أنا أسلم أفعاله، وأرضي بها كيف كانت، ولا أرضي بتعليله)، فلا فرق بين ردك لفعله، أو لمصلحة فعله التي بينها وكشف عنها ورضي بها.)) ومثال أذكره لإبطال هذا المذهب: إن قائلًا لو قال ((أنا أثق إلى حكمة هذا الطبيب، فأي شيء طبني به من دواء أو فصد سلمته لحكمته))، حسن هذا القول منه. فإذا فصده ذلك الطبيب فصدة منكرة، فقال له هذا المسلم ((لم فصدتني هذه الفصدة؟ )) فقال ((لكذا وكذا)) - أمر ذكر به من الأمراض وادعى أنه يصلح له الفصدة المنكرة، فقال المدعي الثقة إلى حكمته ((ما هذا تعليل يرضي ولا يقوم لك به عندي العذر، )) لعد مناقضًا في قوله، حيث ادعى جملة الحكمة والتسليم لها، ثم إنه اعترض

على التعليل الصادر عن الفاعل بالحكمة. فيعطي هذا أن من وجبت الثقة به في الفعل وجب أن تحصل الثقة به في تعليل الفعل. - والله أعلم. وهذا كثير مما يجيء في اعتراضات أهل الظاهر المبطلين للمعاني والأقيسة. فإذا قال القائل ((إن الله أوجب قطع القلفة لئلا تجتمع تحتها النجاسات، )) فيقول الواحد منهم ((أليس قولنا نحن إن هذا ابتلاء أحسن من قولكم هذا؟ من جهة أنكم إذا عللتم بمثل هذا، تطرق عليكم قول المعترض بالعقول: (فقد كان يعلم ذلك، فهلا خلق البشرة مكشوفة بلا قلفة، أو الجلدة مقلصة كمن طهرته القمرة؟ ) فبقيتم ولا جواب لكم.)) ثم يؤكد ذلك عليهم بأن يقول: ((أليس غاية ما كان لنا من الاستدلال على أن الله تع عالم هو إعداد كل شيء من الأشياء لحاجة؟ فمن اعتد الأشياء بحسب الحاجات المركبة في الأحياء [لا] يغرب عنه إعدام أشياء تحتاج الأحياء إلى إزالتها.)) فيقال لهذا الظاهري العاتب على المعنوي: ((أليس قد صح في الآثار فروي أن النبي صلعم فلق صدره وأخرج قلبه وغسله وأخرج منه مثل النكتة السوداء فقيل (هذا حظ شيطان)؟ أو ليس يمكن أن يقال - وقد كان عالمًا وقادرًا: || (فلم خلق ما احتيج إلى إزالته)؟ )) وكذلك ورد في تفسير {فمحونا آية الليل} أن القمر كان كالشمس في الإشراق. فأمر جبريل فمسحه برائشة من جناحه. فذلك قوله: {فمحونا آية الليل}، وهذا هو النمش الذي يوجد في بهجة القمر.)) يقال: ((فهلًا

فصل في قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)

خلقه قبل ذلك على صفة لا تؤذي أهل الليل؟ )) فإن كان هذا وأشباهه مما روى وصح، حسن أن يقال في القلفة ما قيل ويعلل فيها بما علل. ولا ينبغي أن يمتنع من تعليل قد ورد بمثله الكتاب. (على أنه قد قيل إن البشرة محل لذة الجماع، واللطافة فيها تورث لطافة الحس. ولو كانت مكشوفة منذ خلقت لحشت وخشنت فتعذر الإدراك فيها. ولذلك قيل إن الروم ألذ جماعًا من غيرهم، لأنهم يجدون لذة الجماع بكمرة لم تنكشف لمباشرة الهواء. فيه ألطف إدراكًا. - والله أعلم.). 150 - فصل في قوله تع {لقد خلقنا الإنسان في كبد} قال حنبلي: نقول جملة، ثم نشرح ذلك تفصيلًا يكشف عن ذلك. فالجملة أنه مخلوق في مكابدة الخروج من الأم إلى الفساح؛ ثم مكابدة اجتذاب اللبن من البدن؛ ثم مكابدة الرضاع والتربية؛ ثم مكابدة الأعراض والأمراض؛ ثم مكابدة الآداب؛ وبعد ذلك مكابدة المعاش. فبينما تراه في صورة بهيمة يحرث، ثم يسني ويسدف، ثم يسمد ويسقي، ثم يراعي وينظر، ثم يحصد، ثم يدوس، ثم يذري وينقي، ثم يطحن، ثم يعجن، ثم يخبز. فلو رآه من لا يعرف الغرض الأقصى لأدهشه ذلك، وظن أنه من الأغراض الفاخرة. فإذا به لأكلة غايتها

معالجة خروج الأذى. وقد سبقها تشكله وتصوره بصورة أنواع من البهائم؛ تارة بصورة بقرة، وتارة بصورة حمار، وتارة بصورة سبع، وتارة بصورة طائر. وخروجه في أبواب من الحيل وضروب من الخداع والمصاولة والذل || والضراعة. فهذا نوع من المكابدة في نوع من الأغراض، وهو الأكل. فكيف بمقاساة الخلق: بين حاسد وباغض، وغاصب وناهب، ومواثب ومواشي، وكاذب وخادع؛ والبهيم: بين لاسع وناهش، ورافس وناطح؛ ومضار الأغذية: بين مسهل وعاصم وقابض، ومحمي ومبرد، ومرطب ومجفف، ومورم ومدقق؛ والأزمنة: بين حار وبارد ومعتدل؟ فهذا مبسوط الكبد. ومجموعه أنها حياة منغصة، مشوبة بالأذايا. ثم إنها منقطعة. فالعاقل من طلب من الله العافية الصافية الدائمة. فلا يغسل هذا الكبد، إلا ذلك العيش الدائم على الأبد. وما هذا إلا كما قال الشاعر: كما قال الحمام لقوس راٍم ... لقد جمعت من شتى لأمري فإن الصائد جمع بين خشب وعصب وعظم وغرًا وتوز ووتر. والغرض كله صيد حمامة. وكما قدروا من القول إن لو كانت الوحوش قائلة: ((إن هذا الملك الواسع الملك، الكثير العساكر، الشديد البطش، جمع عساكره، وأخرج زينته، وبرز أكلبه وفهوده وصقوره وبزاته، وبث خيله ورجله، وملأ الصحاري والفضاء، وترك ما وراءه من النعيم والقصور وكثرة الأموال ولذيذ الأطعمة والأغذية وقصدنا، ونحن حيوان لا نؤذي أحدًا،

جرى مجاراة ومقابسة في معنى تفضيل الرفاهية والدعة والراحة على التعب والكلف ومعاناة أثقال المخالطة

لا مخلب ولا منسر ولا ناب ولا ظفر، بل مصورون بصور الأنعام السائمة، ولا نضايق في طعام ولا شراب، نرعى نبات البر ونشرب ماء الغدران المجتمع من القطر. فهل الخروج إلينا بالأسلحة، وتخريش الجوارح والسباع، إلا عين البغي ومحض الظلم؟ )) فإذا عمل أمثال هذه التوبيخات على ألسنة البهائم، فانقطع العذر، فكيف بتوبيخات القرآن في العدول عن الأمر الإلهي؟ وعلى هذا كل تصاريفكم، معاشر الناطقين، خارجة عن نمط الشرع ومقتضى العقول. والبهيم معكم متعب لسوء تصاريفكم فيه. ثم لا تقنعون مع هذه التصاريف القذرة والحياة المشوبة المنغصة حتى تستكثرون من الأثقال المزيدة في الأذايا والمكثرة من البلايا. 151 - جرى مجاراة ومقابسة في معنى تفضيل || الرفاهية والدعة والراحة على التعب والكلف ومعاناة أثقال المخالطة فقال عالم: ملاك الأمر الرفاهية والدعة والراحة، إذ ليس في الوجود ما يسوي التعب ومدارة الخلق. وقال آخر: ليس العيش النطقي الخارج عن طباع التراب والجمادية إلا المخالطة والمعالجة. والراحة كسب العطلة. وما خلق الإنسان على هذه الصفات الشريفة والأعضاء المهيأة للأعمال النفيسة للتعطل. فتعطيل

الله سح كتعطيل نعمة كلها من الأموال والحيوان والنبات، وكتعطيل القلوب عن الأفكار والاعتبار والتأمل. ومعلوم أن الله سح ما مدح إلا على الأعمال العائدة بصلاح الأديان والأحوال. ولو أراد إجمام الناس عن العمل لتولى لهم الجزئيات، كما تولى لهم الكليات. فلما وكلها إليهم ومدحهم بما منحهم، فقال: {وعلمناه صنعة لبوٍس لكم لتحصنكم من بأسكم}، كما قال في حق سليمان: {فسخرنا له الريح تجري بأمره}، وقال في حق الآخر: {وأسلنا له عين القطر}، فتارة علم وتارة سخر وتارة سهل بقوله: {وألنا له الحديد} {أن اعمل سابغات وقدر في السرد}، {قل سيروا في الأرض فانظروا}، وهذا عمل {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله}، {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه}، وأشباهه من الآي الحاثة على إعمال الأدوات لتحصيل الفضائل وتحصيل الكفايات. وكما أنه أراد إظهار حكمته في آثار صنعته أراد أن يظهر ما طوى من الجواهر في خليقته. وغاية ما يتعلق به قائل: ((أفضل أنه يعدم كد الجسم وأتعابه في درك الفضائل. وما يفي إجمام الجسم عن الأتعاب وحظوته بالرفاهية عن الاكتساب ببقائه على طبيعته الأولى شكلًا ممثلًا من طين مودعًا عن الأعمال.)) انظر كم بين سيف في غمده، وفرس في قيده، ولسان في فمه، وقلم في دواته، وماء في مصنعه؛ وبين سيف في يد كمي يضرب به الهام حماية لجانبه، ونصرتة لعشريته، وفرس يجول بين الصفين كرًا وفرًا بفارس كاشف

|| لكربة قومه، أو جالب لنفع أهله، معظمًا لحرمة الله، ناصرًا لدعوة الله، ولسان ناطق بحق لا يكشفه إلا بيانه، أو يمدح ممدوح يهذبه كرمه أو ذامًا به من ارتكب مفسدة يكسره عنه ذمه أو وعيده، وقلم بخط زجرًا عن فساد، ويصلح بين طائفتين بما يجريه من لطافة وعذوبة تخرج عن الضمائر الصحيحة في تخاطيط المداد. فإذا كانت الأعضاء والأدوات إنما يتضح شرفها بالأفعال، فكيف بشرف هذا الحيوان الفاضل بالتعطل عن الأعمال؟ انظر ما بين السوائم والعوامل، وبين الراعي والمرعي، وبين الزاق والمزقوق، وبين العائل والمعول، وكيف قال النبي صلعم حيث وصفت صلاة رجل صحب أصحابه في سفر بكثرة صلاة وصيام فقال: ((ومن أين يأكل؟ )) قالوا: ((كلنا كنا نعوله.)) فقال: ((كلكم خير منه.)) انظر محل المعيشة من الزوجة والبكر من البنت في باب فضيلة الحد توفي على فضل المعطل عن أسباب النسل. انظر ما بين الساج والزراع، وما بين الغمام الهاطل والعاطل. انظر ما بين العقم والولود. انظر محل الشمس وقت كسوفها إلى محلها في شروقها. وجملة هذا وتفصيله أن الباري سمي العاطل عبثًا وباطلًا. وذكر لكل خلق 5 حكمة ليخرجه بها عن حكم التعطل عن الفائدة. والله إن البحر إذا ركد عد جوبة. والجبل لو لم يعلق عليه أنه وتد لصار صكه ومعرا. والريح لما خلت من لقاح قيل فيها العقيم. والجنة وصفت بما وصفت، ثم حملت حال عطلتها عن التنعم بها بأن قيل أعدت فإعدادها تجميلها.

وخلقت الملائكة خلقة الاستقلال عن الأعمال التي يحتاج إليها الآدميون من التسكع للقوام واللذات والحاجات. ربطوا بأعمال بين حملة للعرش، وقبض لأرواح الخلق، وكيل لماء السحاب، وتسليطًا على بلاد مسخوطة بأنواع العذاب، وحفظًا لأعمال المكلفين، وكتبة للأقدار، وهابطين بالوحي، وخزنة || للجنان، وزبانية للنيران. فمتى خلق جوادًا أو حيوانًا للعطلة حتى تكون العطلة فضيلة؟ والله ما سمت العرب المائدة إلا بالطعام، ولا الرمح إلا بالسنان، ولا الكأس إلا بالشراب؛ وإلا فالمائدة المعطلة خوان، والرمح بلا سنان قناة، والكأس بلا شراب زجاجة. فافهم ذلك والسلام. ولا يحملك حب الراحة لأجل رذيلة الكسل على تفضيل التعطل على الأكساب والعمل. فإنك لا تجد لذلك شبهة، فضلًا عن حجة. اعترض على هذه الجملة آخر، فقال: والله ما الأعمال في العمال إلا امتهان وابتذال. وما العامل حال عمله أو استعماله إلا بمثابة هذه الآلات من الرحى والجاون والمنجل والفأس والسيف، وما شاكل ذلك من أدوات الأعمال. والإجمام للأنفس عن الابتذال أفضل. وإنما فضلت الصناعة في حق القديم سح لأنه سح فاعل لا ينفعل ولا يبتذل. وإلى ذلك أشار سح بقوله: {وما مسنا من لغوب}. فأما من كانت الأعمال تنهكه والأفعال تحلله وتهدمه فأي فضل له في الأعمال؟ وإنما المنافع لغيره به. ولذلك لما كانت الجنة أكمل، قال سح: {لا يمسهم فيها نصب}. وإنما مدحت الأعمال لمكان الحاجات؛ والغناء أفضل. ولذلك

حكمة

جعل الباري الحاجة وصمة دلت على الخلق. قال سح- في صفة عيسى ومريم: {كانا يأكلان الطعام}. ومدح نفسه بالغناء فقال: {سبحانه هو الغني}. قال العالم المفضل للأعمال على البطالات والراحات: دعنا من ذكر الغني، فإن الغناء تمام وكمال. لكن كلامنا في مخلوق على الحاجة، تمم نفسه بطلب العناء. وليس العجب من غني وجب له صفة الغناء؛ العجب من مخلوق على الحاجة وهو يكتسب الغناء بأفعاله ويسد خلله بأعماله واحتياله. فبمثل هذه الأعمال يشرف الرجال. وهل يكون أحسن ممن خلق ناقصًا فتمم نفسه، || ومحتاجًا فأغناها؟ وهل أحال الباري المحاويج إلا على الأغنياء؟ فإذا صان الفقير نفسه عن الحوالة على غيره، واستعمل جوهره الذي أودعه الله فيه في استغنائه عن المحال عليه، كان أحسن حالًا وأكثر جمالًا ممن قنع لنفسه بقبول الحوالة، وكونه من جملة من تكون يده السفلى، ويد المعطي العليا. 152 - حكمة ((لا ينبغي للملك، ولا لصدر من الصدور، أن يظهر من الغضب إلا بحسب ما أعد له من العقوبة. فإن كانت بطشته دون غضبه، حقر غضبه واستهين بسخطه وانكشف عجزه. وقد قال الناس في ذلك: ((إذا ما غضب السوقي، فالحبة ترضيه.))

جرى في مسألة المتعدي في الوديعة إذا أزال التعدي هل يزول الضمان

153 - جرى في مسألة المتعدي في الوديعة إذا أزال التعدي هل يزول الضمان قال حنفي: إن العقد قول والتزام بالقول. فلا ينحل بفعل؛ وإنما ينحل بالقول، وهو الجحد. قال حنبلي: وما الذي يوجب حل القول بالقول؟ ولم لا ينحل ويزول بالفعل، والفعل آكد من القول؟ أو لا يعلم أن الإحرام ينعقد بالتلبية والنية، ولا يفسد بقوله ((فسخت)) وهو قول، ويفسد بالوطء وهو فعل؟ والنكاح ينعقد بقول وينحل بقول هو الردة والطلاق وشرى الزوجة؛ ويزول بفعل هو الرضاع ووطء أم الزوجة. 154 - جرى بجامع القصر مسألة شرى القريب إذا نواه عن كفارته هل يجزيه قال حنبلي: إن الله جعل انعتاق الأب بابتياع الابن جزاء. وعتق الكفارة يقع جزاء أيضًا ليكفر الذنب ويطهر المكفر، أو عقوبة له. والانعتاق أحق بالسبق المانع من وقوع العتق. لأنه يتخصص ويتعين بالمحل؛ ولأنه يقع حكمًا لا يحتاج إلى لفظ ولا نية. فصار الانعتاق ||عند وجود شرطه، وهو البيع، وتقدم علة الانعتاق، وهو الأبوة، إنعام وقوعه عن الكفارة.

اعترض حنفي فقال: الانعتاق بالأبوة والقرابة في الجملة إنما يحصل عند الشرى أو بالشرى المطلق. فأما الشرى المقيد بنية العتق عن الكفارة، فما ثبت به الانعتاق ولا يثبت. ولا نسلم لك أن الانعتاق يقع جزاء. ولا يصح من أصلك أن يقع جزاء. لأنه حكم من جهة الشرع. والجزاء ما كان فعلًا أو كسبًا من جهة المجازي. فأما فعل الله سح في حق شخص، كيف يقع جزاء عن إنعام منعم على شخص؟ ومعلوم أن الطفل، إذا كان أبوه مملوكًا لأخيه من أمه، فمات وورثه الطفل عتق عليه. فأي كسب حصل من الطفل حتى يقع عتق الأب عليه جزاء؟ قال الحنبلي: أما قولك إن الابتياع إذا كان مطلقًا انعتق به القريب، وهذا مقيد، فليس بصحيح، لأن التقييد لا يصح؛ لأن النية ليس من قواها أن تمنع انعتاقًا يقع حكمًا عند شرطه. كما إذا صرفه بالنية عن الشرط اللفظي؛ وهو إ ذا قال له ((إذا ابتعتك فأنت حر)) ثم ابتاعه بنوي به عن كفارته، فإنه ينعتق بالشرط، ولا ينصرف إلى الكفارة بالنية. وأما منعك أن يكون الانعتاق بالشرى شرطًا، فلا يمكن. لأن النبي صلعم قال: لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا، فيشتريه، فيعتقه. وهذا حسن. لأن الوالد تسبب إلى وجود الابن بالنكاح والجماع، والله خلق. وههنا ابتاع أباه. وهذا تسبب منه، والله أعتق. وكما أن الابن كان في العدم، فوجد عند كسبه، فالأب حال رقه كان عدمًا في الحكم

والتصرفات، فانعتق فصار وجودًا عقيب تسبب الابن بكسبه. ولا يمكن رد الخبر، ولا جحد المجازاة. فالابتياع على مذهبينا نفي الإرث. فليس من حيث كان ليس له فيه كسب، لكن هو تخسير في ماله بإزالة ملكه عن الأب. فيجوز أن يجعله الشرع جزاء من حيث أنه خسره في ماله لحصول عتق || الأب. فيجوز أن يعتد الشرع له بذلك جزاء عن إنعام أبيه؛ كما اعتد للسيد مع أخذ العوض في الكتابة إنعامًا جازاه عليه بالولاء. وكذلك النفقة تجب في مال الطفل العي لأبيه المحتاج، وهي نوع مكافأة، وإن كان لا يقصد الولد بذلك، ولا له فيه كسب، بل قنع بالتخسير في ماله. وكذلك لحوق الولد بالمشرقي من المغرب حكمًا. فجاز أن تكون العتاقة حكمًا جزاء. وألا فبينهما من المسافة ما يمنع تحقق اكتسابه للولد. لأنك لا تعتبر مدة السير، وما من يقدر لتقع من شخص في شخص، وبينهما مسافة، إلا بتقدير مسيرة إليه واجتماعه به. مثل مداواته إن كان طبيبًا، وجنايته عليه إن كان جانيًا، ورميه نحوه إن كان راميًا. فإنه لا يتحقق حسًا ولا حكمًا يؤاخذ به ويجازى، إلا إذا قدرت بينهما الصلة والاجتماع ووصول السهم. وههنا ما اعتبرت في لحوق الولد ذلك. فيجوز أن يكون الإرث مع عدم الكسب فيه جزاء مع عدم التسبب. والكسب في مقابلة لحوق ولد المشرقية بالمغربي حكمًا لا تقديرًا معتادًا. وكذلك اعتد الباري بزكاة إعطاء وأداء مع أخذنا لها على مذهبنا، وحبسكم له حتى

وجرت مسألة الصغير والكبير إذا اجتمعا في استحقاق الدم

يخرجها. والجميع يعدم الاكتساب؛ لأنه يخرج الأخذ عن أن يكون عطاء على هذا الوجه بالعلة على المال عندنا، وبلزوم الحبس والإخراج عندكم. 155 - وجرت مسألة الصغير والكبير إذا اجتمعا في استحقاق الدم قال مالكي: لا يستحق صغير ولا مرأة دم العمد، ولا ولاية لها، وإن انفرد الآن. هذا على أصل لنا؛ وهو أن ذلك ولاية. فأقول: إن الدم من أعظم الحقوق التي للآدمي. فلا يجوز أن يملكها ولا يرثها قاصر الرأي؛ فكيف بعديم الرأي، وهو الصبي. لأنه أمر يحتاج إلى نظر ومهلة ورأي صحيح. ونذلك ينعدم كماله في الإناث والمراهقين. وأحله في حق الأطفال، || فصار كولاية النكاح. اعترض حنبلي فقال: إن الدم يقبل الاستحقاق. فأنت تقول ولاية، ونحن نقول ملك وإرث. والذي نقوله أقرب. لأن الدم يستوفى تارة، ويصالح عنه بمال أخرى، ويستحق بعفو المستحق له. كما تسقط الديون والصغار من أهل الاستحقاق لأنهم نهيه يصيرون إلى الرأي والنظر إن كان يقصد النظر، والتشفي إن كان المغلب التشفي. والمرور إلى ذلك يجعل كالحصول. بدليل عزل الإرث له، وصحة الوصية له وبه، ولحوق العتق تنجيزًا وتعليقًا، تعويلًا على التهيؤ والمرور إلى التمام.

وجرت مسألة من طلع عليه وهو مخالط لأهله

والدم حق؛ والحقوق حبس يقف. والاستيفاء حق؛ وهو أيضًُا يصح أن يقف على انفصال الحمل من المرأة القابلة. وكان السائل عنها قابلًا لخبر ابن ملجم. فقال حنبلي: وأي حجة في فعل من كان فعله حيفًا، شهد به الإجماع، وأقر بكونه حيفًا وتعديًا فاعله؟ أما الإجماع فإن الحديث لا يكون لك فيه حجة، حتى تقرر أنه كان قصاصًا، حتى ثبت لك فيه حجة في استيفائه مع صغر البعض. والناس في القود قائلان: قائل يقول ((لا يمثل في القود ممن مثل))، وقائل يقول ((يمثل يه جزاء حيث مثل)). ولا قائل يقول: ((يمثل بمن قتل بغير مثله.)) فهذا وجه مخالفة الإجماع ويديه وحجه حاسرًا حافيًا مشهور. وإذا كان قد أقدم على هذا الوصف حيفًا، وكان غلبه طبعه ونفسه، أي ثقة تحصل به من أن يكون بادر بالقتل مع العلم بوجود مستحقه وشريكه فيه. 156 - وجرت مسألة من طلع الفجر عليه وهو مخالط لأهله قال حنبلي: أقول إن الصوم ينعقد ولا يمنع انعقاده كونه مخالطًا. فتكون استدامته بعد طلوع الفجر مفسدة لصوم انعقد. فطولب بالدلالة على ذلك، وقيل له: هذا أصعب من المسألة الأولى.

فقال: لأنها عبادة غلب فيها حظر || الترك، يجب بالوطء فيها الكفارة الكبرى، وهو عتق الرقبة. فجاز أني نعقد مع الفساد؛ كالحج الذي يجب بإفساده البدنة. ولأنها بعد الإفساد يجب الإمساك عن محظوراتها. قال: ولان أوان الوطء مباح، وحصول العضو في المحل المخصوص كان على وجه مباح في زمن الإباحة، وهو الليل، فلا وجه لمنع الانعقاد بحصول مباح. فإذا ثبت الانعقاد، جاء بالدوام الإفساد؛ فوجبت الكفارة. أخذ المعترض عليه يقول: إن الانعقاد، مع المعنى الذي يوجب الفساد بعد الانعقاد، بعيد جدًا، إن لم يكن داخلًا في المحال، إن شئت في المحسوسات، وإن شئت في الشرعيات. لأن إيجابه للإفساد في الدوام. وهو آكد حالتي الشيء المنعقد، عبادة كان أو عقدًا من العقود يدل على غاية الضمادة والمنع. فكيف يثبت معه العقد، وهو في أضعف حالتيه؟ ألا ترى في المحسوسات أن ما يوجب الهدم بعد البناء لا ينحصل مع وجوده البناء؟ والحدث لا تنعقد معه الصلاة. وعلى ذلك لا ينعقد الإيمان مع اعتقاد الشرك الذي لو طغى لرفع الإيمان. وأما قولك ((إنه كان مباحًا)) فما علينا مما كان. ومعلوم أنه لما طلع الفجر أخذ بالنزع بالإجماع؛ وحظر عليه اللبث على تلك الحال. فلا وجه لبقاء الانعقاد مع هذه الحال. على أنه لو كان مباحًا، فإن الإباحة

لا تؤثر في صحة ولا منع قضاء. بدليل من أكل للضرورة جاز، وعليه القضاء، وحصل مفطرًا بالأكل. وأنجز الكلام إلى أن ادعى الحنبلي أن النزع جماع؛ من حيث أن الجماع لا يتم إلا بنزع وإيلاج، وإدخال وإخراج. فقال حنبلي آخر: إن النزع الذي يكون معه نية الرجوع، ذلك جماع. فأما من نزع، لا بنية الرجوع، لا يكون إلا تركًا للجماع. وما هو إلا بمثابة غسل الطيب عن إحدى يديه بإمرار يده الأخرى عليه. وكذلك الخارج من المسجد مع الجنابة مع طول المسافة، فإنه قطع لأكوان المسجد كالدخول؛ لكنه لما لم يكن بنية الرجوع كان تركًا. والذي يوضح هذا أن بعد حصول الذكر في الفرج وطلوع الفجر، أجمعنا على أنه مكلف لإخراجه ونزعه. ومحال أن يكلف ترك الجماع بما هو جماع. لمي بق إلا أن صورته صورة من يجامع. لكن ليس كل صورة يكون لها حكم الصورة الأخرى. كالنازع للثوب الذي حلف لا يلبسه، والخارج من الدار التي حلف لا يدخلها، هو في سعيه فيها خارجًا بصورة الداخل؛ لكن ليس حكمه مع نيته للانفصال عنها حكم الداخل. قال: أليس يحصل في النزع ما يحصل في الإيلاج من لذة الجماع؟ قال حنبلي: إلا أنه داخل في ضمن فعل هو ترك. فهو كما يحصل من تطييب اليد التي يزيل بها المحرم طيبه عن اليد الأخرى التي كان طيبها. وكذلك ما يحصل له من التصرف في المسجد، وتكرار الخطو

وجرى فصل فيمن علم أن الفجر قد قارب طلوعه هل يباح له الوطء أو يحرم عليه وهل يحرم عليه الأكل

فيه عند خروجه من أقصاه، حيث أصابته الجنابة، لما كان تاركًا لم يضره تكرار الخطاء حين كونه خارجًا عنه، وكذلك في حق الرجل المخالط لأهله، إذا جرى من جهتها حال جماعه ما أثار منه الحلف بالطلاق البائن أنه لا وطئها، فغنه لا مخرج له إلا بالنزع، إذ لا يحل له الدوام مع كونه موجبًا لوطء في بائن، على الخلاف المعروف بين الفقهاء من أصحاب الشافعي واحمد رحمتهما. فإذا نزع لم يك بد من حصول لذة داخلة؛ لكنه لا يكون بذلك واطئًا، بل محض التارك وعين الهاجر. 157 - وجرى فصل فيمن علم أن الفجر قد قارب طلوعه هل يباح له الوطء أو يحرم عليه، وهل يحرم عليه الأكل، وهذا فصل جاء في أثناء هذه المسألة، وهو يجيء أبدًا في مسألة صوم الشك فقال أحد المناظرين، وهو الذي نفى أن يكون الجماع مع المقاربة محرمًا: إن هذا جزء من الليل؛ وليس لنا صوم يجب في الليل. قال: وإنما الورع يقتضي ذلك. قال الآخر: معاذ الله! بل يجب. الإمساك في كل جزئين من الطرفين، حتى يتيقن استيعاب جميع النهار بالإمساك. وهذا كما يقول في || غسل

وجرى فصل مع مالكي ذكر أن ولاية القصاص لا يدخلها لا امرأة ولا طفل

قصاص الشعر من الرأس في غسل الوجه ليتحقق استيعابه، ومسح شيء من بياض الوجه مع الرأس إذا قلنا يوجب استيعابه مسحًا، ووجوب فعل خمس صلوات في حق من نسي واحدة من المكتوبات لا يعيها. فكل ما لا يتحقق فعل الواجب إلا به، فإنه يجب فعله. وما لا يتحقق هجران المحظور إلا بهجرانه، يجب هجرانه. وما هذا إلا مستند إلى قول النبي صلعم: ((لكل ملك حمى، وإن محارم الله حمى، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.)) 158 - وجرى فصل مع مالكي ذكر أن ولاية القصاص لا يدخلها لا امرأة ولا طفل وعلل بأن الله سح عظم شأن الدم، وجعل استيفاءه والعفو عنه على قدر المصلحة. وإذا كان في الأولياء ذكور يحمون العشيرة برأيهم وأسيافهم، فرأوا من الرأي قتل القاتل، لما لمحوا من حاله أنهم إن عفوا عنه استلاصهم قتلًا، فاخترطوا أسيافهم عزمًا على قتله حين ظفرهم به. وقد أباحهم الحاكم قتله بما ثبت عنده من القتل بإقرار القاتل أو البينة. وكان في جملة الأولياء عجوز حاضرة، فرأت أم القاتل ولهى خائفة على ولدها من القتل فرقت، فبادرت بالعفو. فإن من حكم الشريعة أن يعول على عفو يفضي

إلى مفسدة عن مجرد رقة، لا رأي صحيح. بل أخرج النساء عن ذلك لهذه العلة. فقال حنبلي: إن الله سح جاء إلى القساة الطالبين للقود. فرقق طباعهم بالندب إلى العفو، وضمن لهم الأجر. فبان لهم رغبته، وهو المالك للأعيان والمنعم بالإيجاد، أنه يحب العفو، وعللوا قلوبهم بقوله: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله}. وهذا يعمل في الطباع انقلابًا على الحنق والغضب وطلب الثأر إلى الرقة. فمن يفعل كذا، كيف يخرج من الاستحقاق من خلقه في أصل الخلقة ترقيقًا، وهم النساء؟ فلو لم يرد الرحمة والعفو لما سكن الطباع عن الاشتطاط || بغاية التسكين، وهو مقتضى الحكمة أن يكون المراد رد هذا الأمر إلى من يمضيه بقوة قلب؛ ثم يشرع فيما يلين الطبع ويرقق القلب ويرغب في إسقاطه بالعفو. ثم لو كان قصده ذلك، كيف كان يعمد إلى إخراج النساء، لأنهن رقيقات مهيآت للعفو، ويقصد الرجال بالترغيب والحث على الرقة والرأفة والعفو؟ وما يفعله الترغيب في العفو في حق الرجل مفزوع منه طبعًا في حق النساء، فكيف يستقيم هذا الموضع؟

[في الفرق بيننا وبين البهائم]

159 - قال بعض أهل العلم: ليس بيننا وبين البهائم إلا عدم الفهم لما ينطق به وفهم ما ينطق به. وإلا فلو وضح لنا منطقها ووضح لها منطقنا، لكانت لنا كما يكون بعضنا لبعض، وصدر عنها ما يصدر عنا من الأفعال المحكمة. والدلالة على ذلك أنه لما كشف لسليمان عن معاني مرادها بما أوزعه الله سح من فهم منطقها أخبرنا بما لا يستطيع الواحد منا، بل الحكيم منا. فمن ذلك قوله سح {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون}؛ {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} - أمر لهن- {لا يحطمنكم سليمان وجنوده}، بيان علة الأمر، وهي توقيتهن من الضرر. وقوله عن الهدهد {ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين}. وهذا صرف الآية إليه بتأخره عما ندب له. ثم قال: {لأعذبنه}، وهذا وعيد، والوعيد لا يلحق إلا بمكلف لأمر يمتنع منه، {أو ليأتيني بسلطان مبين}. وهذا يعطي أن ليس بيننا وبينهم إلا إيهام الألفاظ؛ فيصير كالعجمة في حق الآدمي. وإذا لم يكن بيننا وبينهم إلا العجمة، ثبت أنهم مكلفون. ولهذا قال سليمان للهدهد: {اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم} - يعني توار. وهذه أوامر مصروفة نحو الهدهد ومناه. وقد قال الله تع ما يدل على ذلك، وهو قوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم

أمثالكم}. ومعلوم أنه لم يرد أمثالًا || في الصور؛ لم يبق إلا أنها في خاص من خصائص الإنسانية، وهي الفهوم والفطن. وقال: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}. وقال: {إلا أمم أمثالكم}. وقال [صلعم]: لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها. قال حنبلي: هذا كلام يفوح منه القول بالتناسخ. وما تعلقتم به من هدهد سليمان فذاك يجوز أن يخص كرامةً له وتسخيرًا له؛ كما قال في حق داود: {يا جبال أوبي معه}. وقال {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق}. وقال: {وألنا له الحديد}. فإذا كانت الأشياء تخرج عن طباعها تسخيرًا جاز أن يخص بعض الحيوان البهيم بأن يخلع عليه ما يخرجه عن البهيمة تسخيرًا وكرامة؛ كما سبح الحصا في يد نبينا صلع، وحن إليه الجذع، وجاءته النخلة منقادة. ولا يدل ذلك على أن جنس النخيل مكلف مستجيب مأمور، ولا الأجذاع حنانة كلها. قال الحنبلي: وقد نطق الكتاب العزيز بذلك، فقال: {فسخرنا له الريح تجري بأمره}. ترى صارت مكلفة، أم مسخرة، خارجة عن سمت النار والماء الذي لم يسخر له؟ والتسخير هو أن الباري يتولى إجراءها عند أمره فيتبع أمر سليمان تكوين الرحمن لجريها؛ كذلك في حق البهائم.- والله أعلم.

استدل شافعي في مسألة الآجل هل يحل بالموت

160 - استدل شافعي في مسألة الآجل هل يحل بالموت فقال: إن الدين قضاؤه من حقوق الميت. وحقوق الميت مقدمة على حقوق الورثة. ولو نفينا الآجل، لما كان نفعًا للميت، بل مضرة عليه؛ ولا نفعًا للورثة، لأن الدين لا ينتقل إلى ذمتهم والمال فلا يتأجل. فإن تصرفوا، كان خطرًا بأن يتلف وينقاد منه مرتهنه أبدًا. وإن تأخر طال ارتهانها. قال صلع: وما يغنيه صلاة عليه وذمته مرتهنة في قبره بدينه. اعترض حنبلي فقال: إن ضرره لا وجه له؛ لأنه لا يطالب في الآخرة بما لم يطالب به في الدنيا. ولا تتعجل مطالبته به في الدنيا. وأما || الخبر فحجة لي؛ لأنه لما قبل الضمان وهو موسع لمحل الحق، لا أنه ناقل عن ذمة الميت، لكن بكون الذمة مشغولة، ولهذا قال بعد قضاء الدين ((الآن بردت عليه جلده، الآن فككت رهانه)) فبان بذلك أن الحق كان مؤخرًا إلى حين أداء الدين من جهة الضامن. ولم يوقف صلاته عليه على الأداء. فقد بان أنه جعل الضمان المتأخر قضاء الدين بعده إلى حين الأداء، بحيث جوز صلاته له وجعلها نافعة له. فإذا كان حصول احه

واستدل حنفي في مسألة نماء المبيع المنفصل هل يمنع الرد

هي ذمة الغير مع تأخير تحققه، ولم يسأل عن ذمة الضامن ولا عن حاله أواجد هو أم معسر، وتقدم وصلى، علم أن تأخير الدين مع وجود احه هي التركة أولى أن يجوز التأخير معها. ولو كان التأخير مضرة عليه مع الأجل، لكان مضرة عليه من غير آجل؛ بل بمجرد كون ذمته مرتهنة. والضمان قد يتأخر معه الأداء. 161 - واستدل حنفي في مسألة نماء المبيع المنفصل هل يمنع الرد فقال: إن الأم ثبت لها حكم هي كونها مملوكة بالبيع وهي مبيعة، وإن بعد العهد بالملاقطة بالبيع. وإذا كانت مبيعة، فذلك حكم يظهر بجواز الإقالة. وليست الإقالة إلا فسخ للبيع. فلو لم يكن البيع متمكنًا، لما حصل الفسخ. وكل حكم يمكن في الأم كذا كان ساريًا إلى الولد. فالولد مملوك بالبيع. فلا يجوز أن يفسخ في الأم دونه. اعترض الحنبلي فقال: إن الأمة قد انعدم في حقها البيع حقيقة، وبقي حكم البيع فيها، كما ذكرت. والولد أبعد، لأنه ما تناوله البيع. والأم إن لم تكن الآن مبيعة حقيقة، فقد كان تناولها البيع. وقد ظهر حكم بعده عن الأم لو تلفت أو تلف بعضها منع ذلك التلف الرد بالعيب. والولد لو تلف لم يمنع تلفه رد الأم بالعيب. فقد بان بهذا تبعيده عن الأم في معنى تقرر حكم البيع || فيه. على أنك إن جعلته في حكم المملوك

جرى في مسألة المكره على القتل

بالبيع، أو بحكم البيع، بحيث يمنع الرد استيفاءه، فاجعله في حكم المملوك بحكم البيع في جواز رده مع الأم. فأما من يمنع الرد مع إمساكه، ويمنع الرد مع رده، فلا وجه له. أخذ الحنفي يقول: لو رددته مع الأم لما خلا أن ترده تبعًا لها، فلا يجوز؛ لأنه يصلح أن يكون أصلًا في البيع، وأصلًا في الفسخ. ولا يجوز أن يكون أصلًا في الفسخ، لأنه لم يتناوله العقد حقيقة. قال له الحنبلي: ولم لا يتبع في الفسخ لكونه نازعًا عن أصل تناوله البيع حقيقة، وانحطت رتبته عن أصله من حيث أنه لم يتناوله البيع حقيقة؟ فإذا كان مع تبليغك به حد الأم في كونه مملوكًا بحكم البيع، هلا جعلته بحيث يكون كالأم من حيث يفسخ عليه البيع مع الأم؟ فإن قصرته ههنا ورفعته هناك، فليس لك هذا المتصرف والتخير. 162 - جرى في مسألة المكره على القتل قال حنفي: لما قتل المكره مع كونه لا يباشر القتل، لم يقتل القاتل مع كونه باشر؛ لأننا بينا أن الفعل منه صار فعلًا للمكره حكمًا. قال حنبلي: لا يجوز أن يصير فعلًا له حكمًا مع كون القاتل مأثومًا ظالمًا. وأكثر ما فيه قتل غير القاتل. لأنه تسبب إلى إثارة دواعي من

أكرهه وأحفزه. وذلك لا يمنع وجوب القتل عليهما، كما قلنا. وأبو حنيفة في الرد والمباشر بكونه ناصرًا له ومكثرًا واجبه له إن عجز عن أهل العاقلة. فجعل هذا القدر موجبًا لعموم القتل على الجميع، وإن تقاصر فعل أحدهما على الآخر. كذلك ههنا. أخذ الحنفي يقول: أنا لا أقتل إلا بقطع الطريق لا بالقتل. ولذلك أقتل وإن كان القتل لمن لا يكافي فيتقدم شرط القود. وأنا أوجب القتل. قال الحنبلي: إلا أنك لا تقتل بالإجماع والنهب حتى يوجد قتل ينضم إلى ذلك، سواء جعلته || أصلًا في السبب أو شرطًا. ومع ذلك سويت بين المباشرة والمكره. وقرر ذلك فقال: كما أن المكره بإكراه وإزعاج دواعيه بما هدد به من القتل أو أزعج به من الإيلام بالضرب، كذلك هذا المكثر بقوته وسلاحه أنشأ في قلب المباشر للقتل قوة لم تكن له مع الواحدة. كما أنشأ هذا المكره في طباع المكره حذرًا على نفسه، فوقاها بقتل الغير شحًا بنفسه وتوقية لها بأيسر الأمرين، وهو صرف القتل عنها إلى غيره. وهذا القتل مما بني على قتل المتساعدين، حتى قتلنا الجماعة بالواحد. فأخذنا بكل جراحة من واحد نفسًا تامةً؛ لأن الأمر فيه بني على التناصر. ولذلك قال عمر: ((لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأفديتهم به.)).

[مسألة شهادة العبيد هل تقبل أو ترد]

وكان قد قرر الحنفي أن القتل من المكره بتقرير ضمان المال إذا أكره على إتلافه عليه، دون المباشر لإتلاف المال. فقال الحنبلي: عندي على أحد الوجهين يشتركان في الضمان حسبما جعلتهما شريكين في القتل. وإن سلمت على الوجه الآخر، فلأن المال لا يكمل فيه الضمان على كل واحد من الجمعين، حتى في المحاربة التي بني الأمر فيها على التعاضد والتناصر لا يغرم الرد والمباشر أو جماعة المباشرين كل واحد مالًا كاملًا. والنفوس تتكمل القتل بأيسر جراحة توجد من الشريك في القتل. كل ذلك حسمًا لمادة القتل؛ بخلاف المال الذي هو أهون من أمر الدم. 163 - سئل حنبلي عن شهادة العبيد، فقال: عدل ومكلف؛ فلا ترد شهادته، كالحر. قالوا له: لم اكتفيت بهذين الوصفين؟ قال: العدالة لصحة القول والثقة إليه، والتكليف يوجب كونه أهلًا. والزيادة احتياط لا يحتاج إليه ركنًا، كالورع والعلم. قالوا له: أما علمت أن الرق وصمة في المروءة، فهو كالحر المبتذل

المسقط للمروءة؟ وإنما لا تتم له مروءة، لأنه بحكم غيره استخدامًا وابتذالًا. وموضع الوصمة والنقص أنه لم يجعل محصنًا؛ فلا حد حدًا كاملًا، ولا حد قاذفه، ولا رجم، ولا جلد مائة، ولا || حصى ولا إقامة، وهو أثر من آثار الكفر. قال الحنبلي: أما البذلة بالخدمة فهي بذلة بطاعة تجب عليه بحكم إلزام الشرع له طاعة سيده. وذلك لا يجعل وصمة بنقصه إن لم يجعل قربه تكملة. فإن في الحديث: ثلاثة يؤتهم الله أجرهم مرتين. ذكر منهم من كان على دين نبي ثم أدركه الإسلام فأسلم، وعبد أطاع الله، وأطاع سيده. وما هذا سبيله، فهو ملزوم إليه بإيجابه عليه. فيصير بمثابة بذلة الحج تجردًا في الطرقات، وهرولة في السعي. ولو فعل مثل ذلك على رؤوس الأشهاد وخذف بالحصى في مجامع الناس، كما يخذف بسوق منا عند العقبات، لطعن ذلك في مروءته ولا يطعن في الحج، لما كان واجبًا على المحرم. وأما الوقار بترك قانون العبيد هو المعصية، فكيف بغير شيء لو تركه لإثم. ألا ترى أن الأمة، لما تقنعت، قال لها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: ابرزي واكشفي عنك القناع ولا تشهي بالحرائر. فالبذلة، إذا وافقت الشرع، كالوقار؛ بل هي عين الوقار.

وأما كونه أثر الكفر لكنه في الإسلام مستدام ابتلاءً ومحنة. والمحن الإلهية لا تطعن في الديانة. وأما كمال الحد يتطلب له الكمال الذي لا يطعن عدمه في الشهادة بدليل إحصان الرحم وهو السوية عدلها أثر الرحم. وما أثر في الشهادة. والحدود وقعت بحسب تأثرها نقضًا في الفضل وطعنًا في القدر. ورتبة العبد منحطة عن رتبة الحر. ولا يعتبر الفضل الشهادة ولا هي من قبالها؛ بدليل أن الفاسق الثيب يرجم ويكمل حده إذا كان حرًا، ولا تقبل شهادته. وأما الولايات فليس عن صاحبنا فيها رواية أعرفها. ولو سلمتها كان القضاء يعتبر له الذكورية ولا تعتبر الشهادة. والإمامة يعتبر لها الشرف والاجتهاد وغير ذلك من الأوصاف. وإنما كان كذلك لأن المقام مقام حشمة وهيبة وطاعة. وإلى هذا أشار قائل السلف إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش لأن العرب لا تدين إلا لهم. || والعبد محقور أبدًا. وبهذا الطريق منعنا قضاء المرأة وإمامتها، لأنها إن برزت حقرت، وإن اختفت واستترت خفيت عليها الأنوار وأبهمت. وأما مسألتنا فإن طريق هذا الأمر صحة القول، وهذا بهذه الصفة. ولذلك قبل خبره وفتواه. وقد قال النبي صلعم: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالبين وانتحال المبطلين.))

استدل الشيخ الإمام شمس الإسلام عماد الدين كيا رسول الملك بكيارق إلى الإمام المستظهر بالله –أدام الله سلطانهما- في مسألة المكره هل يقتل؟

164 - استدل الشيخ الإمام شمس الإسلام عماد الدين كيا رسول الملك بكيارق إلى الإمام المستظهر بالله- أدام الله سلطانهما- في مسألة المكره هل يقتل فقال: هذا قاتل حكمًا، فوجب عليه القود. اعترض عليه الإمام الشاشي، فقال: لا نسلم لك أنه قاتل حكمًا، بل مباشرة فقط. فإن الدليل عليه أنه أثم، وما أثم إلا بالقتل الحكمي؛ إذ الإثم من أحكام القتل. قال: لا أسلم أنه أثم مأثم القتل، لكن أثم بتوقية نفسه به. قال: التوقية للنفس محثوث عليها ومندوب إليها؛ فلا ينصرف المأثم إليها، بل إلى القتل المنهي عنه. 165 - واستدل مالكي في مسألة الأدب إذا وطئ أمة ابنه السرية وأه يلزمه كمال قيمتها، ولا يقف على استيلادها، بناءً على أصلهم؛ وأن كل جناية عطلت المقصود أوجبت كمال القيمة؛ كقطع ذنب بغل القاضي، أو زكاته التي تجعل ركوبه له شهرة لا جمالًا، وما شاكل ذلك. فقال: فوت عليه المقصود من التسري، فكان عليه كمال القيمة.

وجرى في مسألة الكفارة هل تجب بالقتل بالأسباب

اعترض عليه حنبلي فقال: ليس هذا تفويتًا لمقصود المحل، بل تفويت مقصود الإضافة إلى الابن خاصة. واليم لا يراعى فيها إلا المالية الراجعة إلى العين. والأمة، بعد الوطء، فيها مالية المتعة|| والخدمة، تستباح تمليكًا وتزويجًا، ويؤخذ عنها الأعواض. والعبرة في التقويم بأهل الخبرة. وأهل الخبرة إنما يقومون بحكم الرغبات العامة، لا الخاصة؛ بدليل أن المقوم لا يقول: ((إن هذا الحمار المقطوع ذنبه لمن؟ )) ((وهذه الأمة الموطوءة من وطئها؟ )) بل يقوم بحكم ما فيها. لأن التقويم جبر وموازنة. ولهذا لا يقوم الماء بحكم عطش صاحبه، ولا السكنجبين بحكم مرض صاحبه، ولا بحكم غناء صاحبه بالعافية، بل بحكم رغبة عموم الناس فيه. وكذلك الرمح الذي بيد الكمي ويحمي به ويذب عن حلته وحرمه، والقلم يكتب به حساب معاملة، إذا كسره كاسر قوم بحكم ما يساوي سائر الرماح المماثلة له، ولا يقوم بحكم الحال الحاضرة، ولا بحكم المالك، بل بحكمه في نفسه. 166 - وجرى في مسألة الكفارة هل تجب بالقتل بالأسباب قال شافعي: قتل يوجب ضمان الدية، فأوجب الكفارة؛ كقتل الخطأ. قال حنفي: إن الكفارة تتعلق بالقتل؛ والحافز ليس بقاتل، فلا

وجرت مسألة ذكاة الجنين بتذكية أمه

قتل. والدية تتعلق بعين القاتل، وهم العاقلة. والكفارة تتعدد بعدد القاتلين، والقتل واحد. والدية لا يتكون إلا واحدة، بحسب توحد القتل. والذي يوضح أن الحفر ليس بقتل أنه لا يصلح لقصد إنسان معين؛ بل ربما حفر البئر، فوقع هو فيها. فأمر يصلح لفاعله، كما يصلح لغيره، كيف يكون قتلًا؟ 167 - وجرت مسألة ذكاة الجنين بتذكية أمه قال حنفي: له حياة تخصه، فلم يتبعه غيره في الذكاة. قالوا له: لكنه لا يستقل بالحياة التي تخصه؛ لأنه مستمد لقوى الحياة من الأم؛ فهو كالعضو. ولذلك يستقل بالعتق ويتبع ويستقل بالإيصاء به؛ ومع ذلك يتبع. ولأنه ذو حياة لا يقدر على حلقه ولبته. والذكاء بحسب القدرة موسعة. بدليل أنه أقيم الطرف منها الذي بمكان التوجيه مقام الحلق واللبة في غير || المقدور عليه. وهذا دأب الزكاة. إذا توحش الأهلي، صار في حكم الوحشي؛ وإذا كان الرأس منحيًا، عقر الحيوان في غيره. فإذا كانت جملة الجنين خافية كامنة، وكان مستورًا بكمية من حلقة الأصل، والشرع نسخ بإتلاف المال على أربابه، حتى

فصل [في الصبر على سفهاء العشيرة وصلحائهم]

إنه أمر باستصلاح الجلود الميتة بأخذ ما حول الفأرة الميتة في السمن وتخليل الخمر، كل ذلك للمال واستصلاحًا. ثم [لما] وجدناه أباح ذبح الأم، مع العلم بأنه لا بقاء للجنين بعد أمه، علم أنه أباح الجنين. 168 - فصل قال بعض العقلاء: الصبر على سفهاء العشيرة والطائفة خير من استئصالهم. فإنه لا عز لقوم قل سفهاؤهم، فكيف إذا عدموا؟ والصبر على الصلحاء من العشيرة. فإن الحشمة بهم توجب الصبر عليهم. فلا حشمة لقوم لا صلحاء لهم. والجاهل من أفنى سفهاء قومه ضيقًا عن حملهم، وكسر صلحاء قومه خوفًا من استطالتهم. 169 - جرى بدار هندوجا الشاطئية مسألة شهادة العبيد فاستدل فيها شمس الأئمة عماد الدين، رسول الملك إلى المستظهر بالله أمير المؤمنين- حفظ الله مجده- فقال: المروءة بإجماعنا معتبرة مشترطة لقبول الشهادة. ولا مروءة للعبيد لتمرنهم على البذلة والخدمة فيما يوقرون سادتهم. فيصير ذلك دأبهم. ومن لا مروءة له لا يؤمن إقدامه على الكذب. اعترض عليه حنبلي فقال: إن البذلة التي تعتري العبد لا ينبغي أن

تسقط المروءة، فلا تطعن في العدالة؛ لأنها بحكم ما دفع إليه امتحانًا من الشرع بطاعة المولى. والدفوع إليه من البذلة شرعًا أو إلزامًا ظلمًا لا يخرج عن العدالة ولا يطعن في المروءة. بدليل العدل الذي يوجد في الأسر من عسكر الإمام، إما أن يتسلط عليه أهل البغي، أو قطاع الطريق؛ والمبتذل في الحج تكشفًا عن المحيط، || وهرولة بين الناس، وخذفًا بالحصار في مجامع الناس- كل ذلك لما كان نسكًا بحكم إيجاب الشرع، والأول تعديًا بطريق البغي، لا جرم لم يطعن في المروءة ولا العدالة. وهذا المعنى واضح. وذلك أن المبتذل المطرح لقانون المروءة إنما ترد شهادته لأنه لا يؤمن أن لا يأنف من الكذب، كما لم يأنف من الدنايا التي سلكها بطوع نفسه. فأما إذا حمل عليها وكان فاعلًا لها بحكم غيره لا بطوع نفسه، فإنه لا يظن به أنه يفتعل الكذب بطوع نفسه حيث ظلم أو التزم. ألا ترى أن من أكره على الردة نطقًا وأكره على أكل الخنزير وشرب الخمور بأن كان أسيرًا في دار الحرب، لا يقال إنه لما دام على ارتكاب محظور دينه حملًا عليه وإلجاءً إليه، يظن به أنه يفعل ذلك طوعًا حتى يسيء ظننا فيه وتقوى تهمتنا له في شهادة أو خبر؛ بل بقينا على الثقة به لما كان عليه من العدالة الأصلية. قال الرسول الإمام وهو المعروف بكيا الهراس: إن اضطراب المروءة لا يختلف الحال فيها بين الواجب والمباح. ولذلك جعلنا الصنائع الزرية،

كالحياكة والحجامة، طاعنة في المروءة، وإن كانت مباحة في حق الحر، مانعة من المروءة، طاعنة في العدالة. وكذلك جعلناها طاعنة في حق العبد، وإن كانت طاعة سيده واجبه في ذلك. قال: وهذا يعود إلى معنى. وهو أن الشرع جعل الشهادة مضبوطة بشاهدين عدلين حرين إجماعًا. والعدد يزيد على غلبة الظن. فإن الواحد يكفي بدليل الخبر في باب الديانات. فإذا ضبط الشهادة بذلك، ارتفعت عن جواز التوسع بها والتصرف، بحسب المقايسة والعدول من جنس إلى جنس. أجاب الحنبلي فقال: وكيف لا يختلف ذلك بالمباح الذي إذا أقدم الإنسان عليه بطوع نفسه دل على أنه قد يقدم بطوع نفسه على ما يلائمه من النسخ في الخبر والتجريب في باب الشهادة. فأما ما يحمل عليه [فإنه] || لا يدل على أنه قد يقدم عليه. وأما الصنائع الزرية، إذا حمل العبد عليها في خدمة السيد، فلا يطعن في عدالته. وأما قولك ((في الشهادة نوع تعبد)) فإنه محروس مع قبولنا شهادة العبيد. إذ لا يطعن ذلك في قانونه. لأن النساء دخلن في الشهادة، مع شهادة الشرع عليهن بقلة عقلهن ونقصانه ونقصان دينهن. والعبد نقصه محنة من الله لا يعتريه نوع تهمة. وإنما نقصه نقص هو مدفوع إليه، وبذلته كذلك هو مدفوع إليها.

جرى بدار هندوجا الشاطئية مسألة صول الفحل

170 - جرى بدار هندوجا الشاطئية مسألة صول الفحل قال حنفي: أتلف مالًا معصومًا. قال الشيخ الإمام كيا: لا أسلم أنه أتلف. قال الحنفي: إنما أريد به الإتلاف حقيقة وحسًا. ولا مزية في إتلاف هذا الجمل الصائل بهذه الآلة الصادرة عن هذا المصول عليه. فلا يظن بمنصف أدرك ذلك أو علمه أن يجحده حقيقة. اللهم إلا أن يريد جحد الإتلاف حكمًا. فمدعي ذلك يحتاج إلى دليل. وإلا فأنا لا أنكر أن الإتلاف قد ينتفي حكمًا. قال الشيخ الإمام كيا الهراس الملقب بشمس الأئمة عماد الدين: فإذا كان هذا مرادك، وأنه أتلف حسًا، فهذا باطل بمن أكره على إتلاف مال غيره. فإنه هو المتلف حسًا وحقيقة؛ لكن لا يستقر عليه الضمان. وبالحربي إذا أكره مسلمًا على إتلاف مال مسلم، فإنه أتلف حقيقة وحسًا. ولا ضمان رأسًا، لا على المتلف، ولا على المكره وهو الحربي. قال: وهذا صحيح في الانطباق على وصفك. لأن الفعل من المكره صدر عن انبعاث دواع أهاجها من أكرهه على الإتلاف. وهذا الجمل الصائل أهاج دواعي من صال عليه لدفعه عن نفسه. وهذا آكد في الإهاجة. لأن هذا أهاج الدواعي بفعله، || طلبًا لأذية النفس، والمكره أهاج الدواعي بتهدده. وفي مسألتنا يصول عليه.

جرى بالمدرسة النظامية يوم حضر رسول الملك إلى الإمام المستظهر بالله –حفظ الله مجده وأعز نصره وخذل أعداءه- المعروف بشمس الإسلام كيا الهراس –حفظه الله- وكافة مشايخ أهل العلم رضي الله عنهم – مسألة النية في الطهارة

قال الحنفي: أما أصل تعليلي فصحيح. وإن كل إتلاف لمال الغير حقيقة لا يعرى عن ضمان. فإذا قامت الدلالة في موضع على إسقاط الضمان، لم يجز أن يبقى الضمان ههنا مع كون الإتلاف لمال الغير حقيقة. وكان أورد في هذه المسألة آخر فصولًا، منها أن قال: إن المالية التي كانت في الجمل زالت بالصيال؛ كما زالت مالية الله سح في صيد الحرم إذا صال؛ وكما سقط حق الله من ضمان الظفر إذا قام فآذى؛ والشعر إذا نبت في العين، لما صار مؤذيًا، زالت حرمته. ولما صار الصيد صائلًا زالت ماليته المضمونة لله سح، فكذلك حق الآدمي وماليته في الصيد. وعلى كل هذا أذى متناشئ من محل تسقط حرمته إن كان ذو حرمة، كالآدمي، والمالية إن كان مالًا، كالصيد. والشعر لما كان غير مؤذ، يضمن؛ لأن إزالته برفه ضمن. فإذا صار دفعًا للأذى والإضرار خرج عن حيز الضمان، وفارق أذية الاضطرار والجوع، لأنها ناشئة من الإنسان لا من المحل المأكول؛ فلذلك كان ضامنًا. 171 - جرى بالمدرسة النظامية يوم حضر رسول الملك إلى الإمام المستظهر بالله- حفظ الله مجده وأعز نصره وخذل أعدائه- المعروف بشمس الإسلام كيا الهراس- حفظه الله- وكافة مشايخ أهل العلم رضهم- مسألة النية في الطهارة استدل فيها الشيخ الإمام أبو الحسن العبدري- حفظه الله- فقال:

تطهير حكمي؛ فافتقر إلى النية، كالحدود والكفارات. يوضح هذا أنه تعبد لله تطهر به المحل. فإذا لم يحصل في أحدهما إلا بالنية، كذلك الآخر. اعترض الشيخ الإمام إبراهيم الدهستاني || فقال: لعمري إنه تطهير. وكفي بحصوله مجرى الماء الذي جعله الشرع طهورًا بطبعه عن أن ينضم إليه قصد قاصد أو نية ناو لتحصيل التطهر به. كما أنه لما وضع للري طبعًا لم يحتج في حصول الري به إلى نية، كذلك التطهير؛ لأنه فعل الماء وتأثيره الذي وضعه الشرع فيه وخلقه الله له. قال الشيخ العبدري: إن جاز أن يقال إنه يفعل بما وضع فيه، فهو التنظيف وإزالة العين المستقذرة شرعًا والمنجسة؛ كالإيلام في سوط الإمام، والإشباع في صاع المتصدق بالطعام تكفيرًا وزكاة. لكن تطهير الذنوب لا يحصل إلا بنية من الإمام وتوبة المحدود. فما تمشى السوط ولا الطعام في التطهير من الذنوب إلا بأعمال القلوب. كذلك تطهير الجسم ههنا من الأحداث لا يحصل إلا بالنيات والقصود. قال الشيخ إبراهيم: المجلود يتطهر بمضي سوط الإمام عليه. فإن لم يتطهر لعدم التوبة، لم يخرج أن يكون الجلد مضرًا به لا يحتاج إلى إعادته. فليكن ههنا وقوع الماء وجريه على محل الحدث مسقطًا فرض الغسل، محصلًا

وجرت مسألة العبد هل يضمن بقيمته بالغا ما بلغ

للإجزاء والاعتداد المغني عن الإعادة. فإن أردت الثواب الذي تتطهر به الذنوب، فذلك لا يتحصل عندي إلا بالنية، كما لا يتحصل عندك إلا بالصلاة في الثوب المباح والتطهر المباح. فإن توضأ بالماء المغصوب، فلا ثواب على الطهارة؛ لكن يرتفع الحدث ويحصل الاعتداد. 172 - وجرت مسألة العبد هل يضمن بقيمته بالغًا ما بلغ فاستدل فيها كيا، وهو الشيخ الإمام الرسول من جهة الملك إلى الإمام- أعز الله نصرهما- فقال: في العبد مالية مضمونة بالإتلاف. فكان ضمانها بالغًا ما بلغت في تقويم المقومين، كالثوب والفرس. اعترض عليه الشيخ الإمام زين الإسلام أبو عبد الله || الطبري فقال: ضمانه ضمان دم ونفس. والإتلاف إنما باشر النفس؛ وإنما تلفت المالية ضمنًا. ولذلك دخل القصاص على إتلاف العبيد؛ إذ لا يجري القصاص في الأموال. فإذا كان القصاص من خصائص النفوس والدماء، علم أن الضمان بالتقويم عارض دخيل. فوجب أن يكون محصورًا في ضمن الدم، لا يزيد على ما قدره الله في بذل الدم. كما قلنا في الموضحة في الخبر، إذ قوم المقوم ما دونها من الشجاج التي لا مقدر فيها تقويمًا يبلغ المقدر حظيناه. كذلك ههنا.

قال الشيخ الإمام كيا: دع يكون المتلف نفسًا؛ فكأن النفس ليست مالًا للسيد. بل هي مال السيد؛ إذ المالية لا تتم في العبد وسائر الحيوانات إلا بحصول النفس متمولة. وتقدير الشرع لنفس الحر في الأكثر لا يوجب تقديرها في حق العبد. كما أن ما نقص عن الدية في باب العبد لا يتقدر، وإن كان الأقل والأكثر يتقدر. قال له قائل: النفس رباط للمالية التي في العبد يتصرف في مالية العبد بشرط قيام النفس. فأما أن تكون النفس مملوكة له، فلا؛ بدليل أنه لا يتصرف فيها بإتلاف، ولا يقبل إقراره عليها. فقال: وليس من خصيصة الملك الإتلاف ولا الإقرار. بدليل أن أرواح البهيم لا يملك إزهاقها إلا المأكول منها على وجه واحد، وهو المأكلة. والبضع يملك؛ ولا يملك الروح بمليكه، ولا يصح إقراره به لغيره إذا ادعي غيره الزوجية؛ ولا يملك سوى الاستمتاع به؛ ولا على الإطلاق، بل في وقت تخلو فيه المرأة من حيض ونفاس وإحرام وصيام وعدة. وكان حنبلي قد قال ههنا ما هو أقضى من هذا في باب تمول النفس وتملكها. وهو أن الرق المضروب على الآدميين إنما كان لكفرهم نعمة خالقهم. إذ جعلهم مالكين لكل شيء، وهو المالك لهم ولكل الأعيان. فلما صرفوا || العبادة إلى غيره، جعلهم كالبهائم مملوكين لغيره. وذلك إنما كان بنفوسهم، وهي الأصل في الشكر والكفر، فكانت هي الأصل في العقوبة

ورجت مسألة تخليل الخمر

والإذلال والاسترقاق. فكانت بالتمول أحق من سائر الأشياء والأعيان، وصار غيرها تبعًا لها. 173 - وجرت مسألة تخليل الخمر استدل فيها حنبلي بحديث أبي طلحة وأن النبي صلع قال: ((أرقها.)) قال: ((أفلا أخللها؟ )) قال: ((لا، أرقها.)) اعترض معترض لمذهب أبي حنيفة فعارض بالحديث وأن النبي صلع قال: ((يطهر الدباغ الجلد كما يطهر الخل الخمر؛ )) وبما روي عن النبي صلع: ((تخلل الخمر أو تخل فتطهر كما يدبغ الجلد فيطهر.)) فشبهها بالجلد وذلك يطهر بالمعالجة؛ كذلك ما شبهه به. قال: ولأني أحمل خبرك على أنه كان في مبدأ الأمر، وذلك يقتضي التغليظ والتشديد. ولذلك أمر بشق الزقاق وكسر الدنان؛ وكان كذلك. ثم زال التعليظ بإتلاف الأموال. ويكون حملي له على هذا بدليل، هو أنه استصلاح فاسد وتطهير نجس. فأشبه مكاثرة الماء ودباغ الجلد. قال الحنبلي: أما الحديث الأول فمطعون به في رواته. والثاني والأول جميعًا قال فيهما أحمد: ((ليس في الدباغ حديث يصح، وأصحهما حديث ابن عكيم.))

على أني أقول: ليس في جميع ما ذكرت ما يصلح لنسخ ما رويت في حديث أبي طلحة؛ لأنه في الصحاح والمسانيد والسنن صحيح، عمل به سادات الفقهاء وأصحاب الحديث. والخبران مع ضعفهما، فالتأويل متسلط عليهما وسائق إليهما. فإنه يحتمل [أن يطهر الدباغ] كما يطهر التخليل. وسمي الفعل باسم الفاعل، كما سمى القائل قوًا سمى المخلل خلا. وإنه كما قال قائلهم في الظبية التي اصطيد خشفها: ((وترتع أحيانًا حتى إذا أذكرت، فإنما هي إقبال وإدبار.)) وتقديره: ((فإنما هي مقبلة ومدبرة.)) || فسمى الفاعل بالفعل. وأما الخبر الثاني فإنه لم يسم فاعله. ويجوز أن يكون المراد بالفاعل للتخليل هو الله سح. وكيف يجوز أن ينسخ مع التأويل وإمكان الجمع؟ وأما قولك ((أحمله على أنه كان في مبدأ الأمر)) فأنا أوافقك على أن هذا كان في أول الأمر، ويكفيني هذا منك. ولكن الذي تجدد بعد هذا الحكم الثابت ما يصلح للنسخ. فإن عولت على الاحتمال، وأن الأمر تراخى بعد ذلك، وعولت في ذلك على نسخ شق الزقاق وكسر الدنان، فما أبعد هذا! وهل ثبت ذلك عن النبي؟ لا، بل هم سارعوا وشقوا وكسروا حرصًا على طاعته ومسارعة إلى موافقة أمره. فخافوا على أنفسهم وأتلفوا أوعيتها زهدًا فيها وفي ظروفها، وبيان أنهم لا عودة لهم إليها، فاستأصلوا ظروفها كسرًا وشقًا. وهذا دأب كل نادم على فعله. كما مسح سليمان أعناق

الخيل وأطرافها. ولم يثبت أن النبي عم آمر به. ولو ثبت، لما صح نسخ ذلك، بدلالة أن ينسخ قرينة. والقرائن لا يعمل بها في الإيجاب، فيكف يعمل بها في النسخ؟ فقال: لما نسخ الشق والكسر نسخت الإراقة. وقولك إنه كان يحتاج في ذلك الوقت واستغنى عنه الآن فليس كذاك. لأن الحكم بتنجيسها وإقامة الحد على شاربها باق وتفسيق شاربها وتكفير مستحلها. هذه كلها أحكام التغليظ، وهي باقية. فلا وجه لدعواك. وأما القياس الذي ذكرته فلا يصلح أن يعترض على الحديث. فإن النبي صلع يقول: ((أرقها)). وإن لو كنت أبا طلحة لما حسن بك أن تقول ((هذا استصلاح فاسد وتطهير نجس فيكف أريقها؟ )) فإذا [جاء] عنه صلع ما قال لأبي طلحة، وجب عليك الانقياد بالإراقة وترك المعارضة. على أن ما ذكرته ليس بقياس صحيح؛ لأن إصلاحه طريق لإفساد المستصلح. فإن للخمر رائحة ساحرة للشراب، ساخرة بعقول الشيوخ والشباب، متحكمة في الطباع. حتى قيل ما سمع من الأشعار، حتى وصف || ريحها ولونها، وسميت شقيقة الروح والنفس. فلا يؤمن أن تدعوه ملابستها إلى أن يكرع منها، فيفسد هو قبل أن يصلحها. وما ذلك إلا بمثابة خلوة المعلم للقرآن بجارية أجنبية حسناء، والمداوي من الطب للمريضة من الأجانب

الحسان. فإننا نمنعه من ذلك لما فيه من التغرير بنفسه. فلا يفي صلاح الخمر بفساد مسلم وإزالة عدالته.- والله [أعلم]. 174 - تجارى قوم ذكر الاستدلال على كون الباري عالمًا بإحكام أفعاله وإتقان صنائعه فوجه عليه بعض الأصوليين أربعة أسئلة. أحدها أن بعض الأفعال المحكمة قد تصدر على وجه الإتقان في بعض الأحيان. مثل خروج خط يخرج بحروف صحيحة عن يد غير كاتب، والإصابة بالسهم من غير رام، كما يقال: ((رمية من غير رام)). والثاني أنه قد تصدر الأفعال المحكمة [ممن لا حكمة له]. وحقيقة الإحكام مناسبة الأفعال والإعداد لما يكون سادًا لما يعرض من الحاجات في ثاني الحال. مثل العناكب والنحل والنمل، في إحكام أعشاش وأجحرة وأقوات لأزمان مستقبلة، كالمسدير وبيوت النمل التي تحفظ فيها أقواتهن عن المياه والعفن، ونفرهن موضع نبات الحبة لئلا تنبت. ومثل عش العقعق ببابين، وبيت اليربوع بباب لخروجه ودخوله، وباب لفراره وهربه، وإلى أمثال ذلك. ولا حكمة لهذه الحيوانات. السؤال الثالث، قالوا: لا يخلو أن يكون الباري قادرًا على فعل الفعل المثبط، أو قادرًا على الحكم المتقن فقط، غير قادر على غير المحكم.

فإن قلتم ((لا يقدر إلا على المحكم)) صار كالملجأ، أو كالطبع الذي لا يصدر عنه إلا فعل على وجه واحد. وإن قلتم ((يقدر على المثبط غير المحكم)) فإذا صدر غير المحكم عنه، على أنه عالم. السؤال الرابع أنه قد صدر إلى الوجود غير المحكم من الأفعال؛ فهلا دل المثبط منها على النقيض، وهو الجهل أو عدم || العلم؟ أجاب حنبلي فقال: أما الإتقان، فليس لنا، على من أثبت أن أفعال الآدميين خلق فيه. وخروج الفعل المحكم بغير قصد من أحد أدلتنا على كون الأفعال خلقًا لله سح. و [مقالة] أهل الإتقان أخس المقالات عندنا. وأما ما يصدر عن الهوام والبهائم فإنه يصدر عن أحد طريقين: إما إلهام من الله وهو الحكيم العالم فما صدرت إلا عنه، ويشهد لذلك قوله تع: {وأوحى ربك إلى النحل}، بمعنى ألهمها. وأما قولكم: ((هل ما يصدر منه المحكم لا يقدر على غيره)) كلا! بل الباري قادر على أن يفعل المثبط؛ غير أنه إذا فعله لم يصدر عن جهل ولا عدم علم وحكمة؛ لكنه قصد به المعنى المحكم، وإن كانت صورته من طريق الحس مثبطة. ودلك مثل المرض العارض على الصحة، والتشويه المضاد للتحسين، إما محنة وابتلاء ليعوض عليه بالنعيم الدائم، أو ليعلم به ضده وهو الإحكام، ويعرف العباد مقدار النعمة بالإحكام والإتقان. ولو لم يكن قادرًا على المثبت لما بان فضل الحكمة وهو المنع منه بالحكمة.

[مسألة في حمل المطلق على المقيد]

وأما وجود المثبط وما دل على نقيض العلم، فإنه ما خلا من معنى محكم متقن؛ مثل مصلحة توفي على ذلك في الدنيا، من الاعتبار والاختيار وظهور النعمة والشكر على السلامة في حق من سلم من تفاوت الخلق ونقصان الأعضاء؛ كما يحصل من تنقيص البنية في حق الطب طلبًا لسلامة الأصل. 175 - تعلق من يرى حمل المطلب على المقيد بقوله تع: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}، وقوله في موضع آخر: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، وقوله: {ممن ترضون من الشهداء}. فحملنا المطلق على المقيد فجعلناه كالقائل: ((واستشهدوا عدلين مرضيين من رجالكم.)) فاعترض حنبلي بأن قال: ومن أين لكم أن اعتبار العدالة كان لأجل التقييد؟ ولم لا يكون للإجماع || على اعتبارها في سائر الشهادات؟ قال المستدل: فالإجماع إنما فضل لأجل حملهم المطلق على المقيد. قال الحنبلي: هذا من أبعد الدعوى. وكيف يكون الإجماع حاصلًا على ذلك، واختلاف الأمة ثابت في هذه المسألة؟ ولم لا يقال إن المعتبر للعدالة إنما اعتبرها لاستنباط معنى أوجب اعتبارها في المطلق؟ وهو أن العدالة إنما اعتبرت لتبعد عن الكذب وقول الزور؛ وإن الفاسق لارتكابه

[قول بعض الأصوليين في أن الأشعري لم يترك لنفسه دلالة على موضع الصانع وصحة الشرائع]

محظور دينه في أفعاله لا يؤمن منه ارتكاب محظور دينه في أقواله. ويحتمل أن يكون اعتبارهم العدالة لسنة رويت عن النبي صلعم. 176 - قال بعض الأصوليين: إن الأشعري لم يترك لنفسه دلالة على الصانع، ولا دلالة على صحة الشرائع. فأما إثبات الصانع فإنه مبني على احتياج المحدث وافتقاره إلى محدث. وليس في الشاهد عنده محدث لبناء ولا نجارة ولا غير ذلك. وصحة إرسال الرسل مبني على الثقة بالمعجز. ووجه الثقة أن الله لا يقم الإعجاز دلالة إلا على يدي صادق غير كاذب عليه. وما ترك لنفسه ثقة بالرسل حيث قال ((لا يقبح شيء صدر من جهة الله من إضلال وسد لباب العلم بمعرفة صحة الرسالة.)) فلم يبعد تجويز تأييد الكذب بالمعجز، لأن ذلك ليس بأكثر من الإضلال. 177 - رأيت في بعض الأحاديث المأثورة أن العباس- رضوان الله عليه- دخل إلى النبي صلع وإلى جنبه أبو بكر الصديق. فقام أبو بكر ورفع العباس بأن جعل له فرجة جلس فيها بينه وبين النبي صلع. فقال له النبي: ((إنما يعرف الفضل لأهله أهل الفضل.)) ثم جعل يكلم العباس خفية بصوت خفي. فقال أبو بكر لمن يليه: ((قد عرض بالنبي علة.)) فلما

نهض العباس قال: ((يا رسول الله! ما هذا الذي عرض بك؟ )) قال: ((ما عرض بي شيء.)) قال: ((رأيتك تتكلم ضعيفًا.)) قال: ((إن جبريل أمرني أن لا أرفع صوتي على العباس، كما أمركم أن لا ترفعوا أصواتكم فوق صوتي.)) 178 - قال شافعي في مسألة بيع || ما لم يره: الصفات مقصودة، فالجهالة بها تؤثر في صحة العقد، كالأعيان. قال له حنفي فاضل: الصفات مقصودة في العادة، لكن ليست مقصودة بالعقد. إنما القصد بالعقد بيع العين. فالجهالة بالمقصود في العادة، لكن ليس بمقصود بالعقد، لا تؤثر؛ كالمنافع، لا شك أنها مقصودة، لكن لم يكن عقد البيع مقصودًا بالمنافع ولا على المنافع الجهالة، لأنها لا تمنع صحة العقد، ولأنه ليس الصفات بأكثر قصد به من الأعيان والأجزاء في مواضع العيوب. قال له حنبلي: المنافع تدرك بمعرفة الأوصاف ومشاهدة الأعيان. ومواضع العيب معلوم ما فات بها من السلامة بما فيه سليم. فيصير السليم يصف بمعرفة صفته صفة الجزاء الفائت بالعيب. لأن ذراعًا من ثوب يعلم مقداره وصفته وجودته ورداءته بما بقي منه. فيصير كأنه وصف موضع العيب وشاهد ما بقي. والصفة في جميع المبيع توجب ما توجبه الرؤية في صحة العقد عندنا. وهو أحد القولين فيها للشافعي. فوصف مواضع الصحة لمواضع العيب نفت الجهالة. فهو كما لو اشترى صبرة على

أنها عشرة أقفزة، فباتت تسعة، لم يبطل البيع وثبت الخيار لأن القفيز المقصود كلية الموجود منها؛ فيوجب الفسخ ولا يوجب بطلان البيع. ثم أجاب عن قوله إن الاعتبار بجهالة مقصود البيع لا مقصود العرف، كالمنافع. فبمشاهدة العين تعرف منافعها غالبًا. يبين صحة هذا أن عقد الإجارة الذي يختص المنافع يكفي فيه مشاهدة المحل المنتفع به، وهو الأعيان. ولأن الأوصاف من الاختصاص بهذا العقد ما ليس للمنافع وغيرها من المقاصد أنه جعل لها عقد بيع يخصها، وهو السلم. ولأن الإحاطة بالصفات مع الجهالة بالعين لهدم تعيينها يوجب صحة العقد، كبيع قفيز من صبرة؛ فإنه مجهول العين لعدم التعيين. لكنه لما كان معروف الصفات بالمشاهدة لجملة الصبرة صح، والصفة لباطنها بظهور ظاهرها|| ورأسها صححت البيع في باطنها. لأن الظاهر من بيع المسلم عدم التدليس ونزهه من التزوير. فظاهرها يصف باطنها. ولذلك لم يوجب فقد الرؤية فقد صفة البيع وهو لزومه. 179 - وجرت مسألة بمجلس القاضي الأجل الإمام أبي جعفر البخاري المعروف بقاضي حلب بباب المراتب إذا حضر الحاكم في غير موضع ولايته فجاءه رجل له محبوس في

موضع ولايته يحكمه فقال له ((أيها الحاكم قد استوفيت ديني أو أبرأته فأطلقه))، فقال لصاحبه ((امض معه وأطلق خصمه))، هل ينفذ أذنه ويجوز له ذلك الإطلاق؟ فقلت أنا: لا يجوز. وقال غيري: يجوز. فقلت: الإطلاق للمحبوس حكم منه فلا يجوز في غير موضع ولايته؛ كالتحليف، وسماع الدعوى. فقال حنبلي: إلا أنه بتأخير الإطلاق ظالمًا. لأن الحبس عقوبة ومع زوال سبب العقوبة لا يجوز استدامتها، بخلاف الحكم باليمين وسماع الدعوى. ولأن المغلب في الحبس حق صاحب حق؛ فإذا طلب إطلاقه لم يجز للحاكم تأخير إطلاقه. قلت: أما تسميته ظالمًا بعد الإطلاق، لا يجوز؛ لأنه لم يوجد شرط الإطلاق. وإنما يكون ظالمًا إذا وجد شرط الإطلاق ولم يطلق. ومن شرط الإطلاق أن يكون في موضع ينفذ منه الحكم بالحبس والحكم بسائر وجوه الأحكام. ومعلوم أنه متى أخر الحبس أو الاستدعاء لمن استدعى عليه خصم كان ظالمًا بشرط أن يكون في موضع ولايته، فأما في غيره فلا. وأما قولك ((المغلب في الحبس حق صاحب حق)) فليس كذلك. بدليل أنه لو كان كذلك، لملك أن يمضي ويطلقه إذا استوفى منه أو أبرأه. قال: إنما لم يملك أن يطلقه وحده، لأنه يكون افتياتًا على الحاكم. قلت: وهنا متى أطلقه في غير موضع حكمه، || كان مفتاتًا على صاحب الولاية في الوضع الذي حكم بالإطلاق فيه؛ ولا يكون ظالمًا- لانتظاره حصول

وجرت مسألة في الصوم

الشرط في نفوذ حكمه، كما إذا انتظر بقوله ((حكمت بكذا)) أن يصير إلى موضع حكمه. 180 - وجرت مسألة في الصوم وهي إذا وطئ في يوم من أيام رمضان وهو صائم صحيح، ثم مرض، أو جن، أو حاضت الممكنة من نفسها. فقال حنبلي: صادف وطؤه صومًا محترمًا في زمان رمضان، فلزمته الكفارة. قيل له: ليس يكفي على هذا القدر في استدعاء الحكم حتى يصادف ما يتم صومًا بانقضاء اليوم وسلامة صفاته، وهو أن يكون صومًا متعينًا، وهو بالمرض. فبينا أن الصوم ما تعين عليه، وبالجنون والحيض علمنا أنه ما تم صومه ولا صح. فصار المحل الذي تجب بهتكه العقوبة مختلًا. واختلاله أنه صار إمساكه في أول النهار باطلًا بجنونه وخارجًا عن كونه صومًا، وكذلك بحيضها. فهو كالواطئ لأمه يختل ملك العين فيها، إما نملك الواطئ جزءًا منها مشاعًا كالثلث والربع، أو كشبهة ملك له فيها، كأمة ابنه أو مكاتبه، فإنه تسقط عقوبة الجماع، وهي الحد. كذلك الكفارة عقوبة تسقط بالشبهة، وقد اختل محل سببها بما ذكرنا. يبين صحة هذا أن ههنا الإخلال أكد أن ملك العين مع العين يسمى ملكًا، ولا يسمى الإمساك في بعض يوم صومًا مع فساد باقيه بالحيض أو الجنون.

[مسألة في دعوى العموم في المضمرات هل يجوز أم لا]

181 - استدل حنفي على أنه لا يجوز دعوى العموم في المضمرات بأن الله سح حيث قال {الحج أشهر معلومات}، فقال قوم: تقديره (إحرام الحج في أشهر معلومات)، )) وقال قوم ((أفعال الحج في أشهر معلومات، )) صار التفسيران مضمرين. فلو قال قائل: أنا أحمل الأمر عليهما، قيل له: الضرورة داعية إلى الإضمار؛ لأن الحج عبادة والأشهر زمان؛ فلا يجوز أن || يكون الزمان عبادة، بل العبادة في زمان. فاحتجنا أن نضمر شيئًا يكون في الشهر. فلا حاجة بنا إلى إضمار شيئين. فلذلك لم يجز دعوة العموم ههنا. قيل له: الحج إحرام وأفعال. فإذا أضمرهما صار كأنه أضمر الحج في أشهر معلومات، الذي هو مجموع إحرام وأفعال. ولو صرح فقال ((الحج الذي هو إحرام وأفعال أشهر معلومات)) كان كلامًا صحيحًا؛ كذلك إذا أضمرهما جميعًا. قال: ليس هذا كلامًا صحيحًا. لأن الحج، وإن كان مجموع إحرام وأفعال، فما ذهب ذاهب إلى أن أفعاله وإحرامه جميعًا مراده بالآية. بل إضمار كل واحد منهما لمذهب خاص لا يضمر الآخر. فأما أن جعلت الأمرين جميعًا حجًا وأضمرته، كان إضمارًا واحدًا، هو الحج؛ فلا يكون عمومًا.

شذرة في تحليل الخمر

182 - شذرة في تخليل الخمر قال حنبلي: الخل، إذا لاقى الخمر، نجس. فإذا زالت الخمرية، بقي نجاسة الخل. قال له حنبلي آخر مقررًا لمذهب أبي حنيفة: معلوم أن الخل، إذا نجس بالملاقاة، كان ذلك. وعندك أن الخل قد يدفع النجاسة، حال الكثرة، عن نفسه. فكان، من قود قولك، أنه إذا لاقت قلتان من الخل الخمر، أن لا ينجس؛ فإذا زالت الشدة به بقي خلًا، لا علة لنجاسته؛ فكان على أصل طهارته؛ والخمر زالت علة نجاسته، وهي الشدة. وإنما يقول هذا من يجعل الخل ينجس بنفس الملاقاة. فلا يكون زوال الشدة مانعًا من بقاء الخل نجسًا. كما إذا نجس بملاقاة عظم الخنزير، ثم أزيل عنه، فإنه ليبقى نجسًا وإن زال ملاقيه. كذلك أكثر ما في زوال الشدة زوال علة نجاسة الملاقي. والملاقاة قد سبقت؛ فيجوز أن تتخلف النجاسة في الخل، وإن زالت علة نجاسة الملاقي؛ كما تتخلف نجاسته مع زال عظم الخنزير. فأما وأنت تقول على الرواية التي يدفع الخل النجاسة بكثرته، فينبغي أن لا تتخلف نجاسة في الخل؛ لأنه لم يوجد أكثر من الملاقاة. وإلا فالشدة ما حصلت فيه ولا انتقلت إليه، بل زالت عنه وعن الخمر الملاقية || له. فعاد الخمر إلى طهارة أصله،

[مسألة في إكراه المكره على القتل هل يبيح القتل ويسقط القود عن المكره]

وهو العصير، وبقي الخل على طهارة أصله حيث لم يتغير بشدة ولا غيرها. فصار كالماء، إذا انفصل عن النجاسة التي لاقته، غير متغير. مثل أن لاقاه عظم خنزير أو نجاسة لم تظهر عليه صفة من صفاتها. قال الحنبلي: فأنا لا أنصر تلك الرواية ولا أذهب إليها. وإنما علقت الكلام لأنه يجيء على من نصر تلك الرواية مليحًا، يبين أنه لا تنتصب له هذه الطريقة في مسألة تخليل الخمر. 183 - استدل شافعي في مسألة المكره على القتل بأنه إكراه لا يبيح القتل، فلا يسقط القود عن المكره؛ كالإكراه بالتهدد بإتلاف المال. قيل: قد يجوز أن يضعف المعنى عن تحصيل الإباحة ولا يقصر عن إسقاط القود، كالأبوة والملك والإسلام, فإن هذه الثلاثة تنتصب لإسقاط القود ولا يحصل بها الإباحة؛ ولأن المأثم قد يحصل مع نوع قصور في السبب الموجب للقتل؛ ولا يجب القود مع خلل وقصور في السبب. بدليل أن العصا، مع القصد للفعل، لما قصرت عن أن تقتل مثلها، لم يجب القود، وحصل المأثم. والعصا آلة الفعل. والعمدية ههنا علة إيجاب القود. قال النبي صلعم: العمد قود كله- يعني موجب للقود. وإذا ثبت أن العمدية هي العلة، ففيها قصور؛ لأن من جرد عليه السيف، وهدد بسفك

شذرة في مسألة النكاح الموقوف

دمه، لا يقصد إلا دفع الشر عن نفسه. وشاهد الحال يدل على أنه ما قصد قتل من أكره على قتله، بل لو أمكنه الترك لترك. وإذا كان قصده لم يكتمل ويكمل في القتل، فالعمد هو القصد. قال المستدل: ليس في عمد القتل خلل، لأنه قصد دفع الشر عن نفسه بقتله لمن أكره على قتله. قيل له: كونه كارهًا لقتل من أكره على قتله ظاهر؛ لأنه يتألم ويجد في نفسه من ألم الفعل ما يستدل به على كراهيته. ويحسن نفي إرادته فيقول: ((والله ما أردت، لكن حملت وجبرت)). || فلا أظهر من هذا الخلل؛ لأن الكراهة إن لم تزل القصد وتفقد هو تعدمه، فلا أقل من أن تعدم كماله وتمامه، وهو تقصيره وخلله. وذلك كافٍ في إسقاط ما يسقط بالشبهة. 184 - شذرة في مسألة النكاح الموقوف قال الشافعي: عقد أوقعه على الملك العين من غير ولاية ولا استنابة، فلم يقف على الإجازة، أو فلم يصح. قيل له: هو وإن كان على ملك العين، إلا أنه ملك صالح للعقد عليه. فأهلية العقد في العاقد والمعقود معه والمعقود عليه موجودة. فلم يمنع وقوفه على أذن يوجد في الثاني يستند إليه؟

قال الشافعي: لأن الإذن شرط، والشرط في النكاح لا يجوز تأخيرها عنه؛ كعدم العدة ... والإحرام والخلو من نكاح رابعة. قيل له: ولم جعلت هذا الإذن من شروط الصحة والشروط على ضربين: شرط للزومه، وشرط لصحته؟ فما أنكرت أن يكون هذا من شروط لزومه، فلا يمانع تقدم صحته؟ قال: النكاح لا يقع إلا لازمًا. قيل: ليس كذلك لا النكاح ولا البيع. أما البيع فإنه يقف على الخيار الشرطي والشرعي، وهو خيار العيب والمجلس. والنكاح خيار العيب، فكيف تدعي أنه لا يقع جائزًا؟ قال: أدل على أنه من شروط الصحة أنه لا يتعقبه بحسبه شيء من خصائصه. قيل له: يتعقبه يحسبه جميع خصائصه موقوفة. ولأنه إنما لم يستبح خصائصه فعلًا كيلا يسقط حق الرجوع. ومثل ذلك في البيع المشروط فيه الخيار. فإنه لا يتعقبه التصرف، ومع ذلك فهو صحيح. قيل له: قد تعقبه الملك، وههنا بخلافه.

[مسألة إقرار أحد الأخوين بثالث]

185 - قال حنبلي في مسألة إقرار أحد الأخوين بثالثأقر بحق له وحق عليه؛ فإذا لم يثبت الحق الذي له، ثبت الحق الذي عليه؛ وهو المقاسمة له بما في يده من المال. قيل له: لم يقر إلا بالنسب؛ لأنه قال ((هذا أخي)). ومعلومة أنه لم يثبت كونه ابنًا لأبيه، فكيف يثبت كونه أخًا له؟ وإذا لم يثبت فلا وجه لثبوت المشاركة. وهل المشاركة إلا فرعًا لثبوت النسب؟ قال: إنما لم يثبت النسب لكونه إثبات حق || على غيره. وهو واحد لا تثبت به الحقوق، ولا يتم قوله في إثباتها. فأما المشاركة فيجوز أن تثبت؛ لأن ما ذكره ليس بمحال، بل هو مجوز كونه. والمال مما يستحق بالإقرار. فهو كما لو ادعى أنه باع الشقص من غيره وقبل البيع فأنكر المدعى عليه، لا يثبت البيع مع الإنكار بمجرد دعواه، وتثبت شفعة الشريك وإن كانت الشفعة فرعًا للابتياع. 186 - قال القاضي أبو زيد في ضمان المنافع: لما لم تتحقق المماثلة بين المنافع والأعيان من جهة أن المنافع لا تبقى والاعيان ثابتة، وجب على القاضي أن لا يقضي بالتغريم بل بتأخير الحق إلى الآخرة. ولهذا ما لا تتحقق المماثلة

فيه يسقط فيه رأسًا؛ كالضرب والشم لا يمكن مماثلته، فيتعذر المماثلة بتأخير الاستيفاء إلى الأخرة. لأن الله سح يقدر على وزن حقه ومواراته، والقاضي لا يجد للشتم مثلًا يسيغه الشرع. فلا جرم يسقط ضمانه إسقاط ما لا وزن له ولا ضمان. قال: فإن قيل: المظلوم يجب الانتصاف له والنظر بخلاف الظالم، قيل: إلا أن ما وراء ظلمه لا يجوز التحيف فيه، ولا إسقاط حقه؛ وأخذ الثابت من الأعيان في مقابلة التالف تحيف له. قال: فإن قيل: يجبر نقص المنافع بكثرة أجزائها. فإن منافع شهر أكثر من دينار، وثبات دينار أكثر من ثبات منافع شهر. فقابلنا الكثرة بالثبات، فانجبر نقص المنافع بكثرتها. قيل: الكثرة لا عبرة بها مع تفاوت ما بين الذاتين. ككثرة الحبات وأعدادها في أحد الكرين. بل لو أتلف كرًا رزينًا فأخذ في مقابلته كرًا خفيفًا كثير الحب، كان كثرة الحب ملغي مع حراسة التساوي في الذاتين؛ ولا يساوي بين الأعيان والمنافع. فبطل أن تكون الكثرة جابرة، كما لا تجبر كثرة الحب نقصان الكيل والوزن. ولهذا حرم الشرع الربا في الجنس لتساوي أنواع الجنس؛ ولم يحرمه

[قوله أيضا في القطع والغرم لأصحاب الشافعي]

في الجنس لتفاوت ما بين الذاتين، وإن كانت زيادة الوزن والكيل هي الربا؛ لكن لم تكن في عين الجنس ربا، وكانت في ||الجنس ربا. 187 - وقال في القطع والغرم لأصحاب الشافعي: إن الضمان لإتلاف الأموال لعصمة المال بمالكه. وما زالت عصمة المالك بوجوب القطع. بل وجوب القطع للعصمة وتأكيدها. فكيف يسقط ما وضع للعصمة؟ قال: صار الحق لله سح حيث جعل القطع واجبًا، وهو أكبر في العصمة من التضمين. فصار كالقود وجب بدلًا للنفس، هو أكبر من الدية. فلا تثبت الدية مع العصمة به. كذلك ههنا. 188 - فصل جرى في الحج هل هو مالي أو بدني فقال فقيه: هو مؤدي بالبدن. وأركانه كلها بدنيه. والمال متسبب به، فلا يترك نفس الأركان البدنية؛ فلا يضاف إليها ويعدل إلى المتسبب به، وهو المال، فيقال مالي؛ كما لا يقال ذلك في الطهارة والصلاة التي لا تنفك عن ثمن ماء واستتار بثوب. فقال فقيه يرد عليه ذلك ويقول بأن الحج مالي لا بدني، بدليل أن بدن المغصوب والميت لا يصلح للإيجاب ولا الفعل، ولوجود مال يؤدى

به وجب عند قوم وصح عند آخرين: مع أن قولك المال متسبب به غلط، لأنه جعل أصل وجوبه لوجود المال. وإنما يحسن أن يقول هذا مالكي، حيث أوجبه بمجرد وجود البدن. فأما أصحاب أبي حنيفة وأحمد والشافعي فقد اتفقوا أن شرط المال شرط للوجوب، لا لإمكان أداء ولا غيره، دل على أنه مالي حيث وجب على البدن لأجل المال وتأدية البدن، لا يدل على أنه بدني كالزكاة. فإن إعطاء الزكاة فعن البدن، والنية لإخراجها فعل جارحة من جوارح البدن. لكن لا نقول الزكاة بدنية حيث وجب الإخراج والنية لأجل المال. فأضفنا الزكاة إلى ما وجبت لأجله وهو المال، لا إلى ماأخرجت به وهو البدن. ولو غلبن فيها البدن، لسقطت عند تعذر الفعل به. فلما غلب الإيجاب لوجود المال حتى جعلنا بدن النائب كبدن المالك في الداء وألغينا عجزه عن || أن يؤثر في إسقاطها، دل على أن الصحيح ما ذكرنا. 189 - قال القاضي أبوزيد في الاستجمار: ليس أصله المسح، وإنما هو موضوع للإزالة؛ ولهذا. الغسل هو الأصل فيه، وهو أفضل من التجفيف ويخالف هذا مسح الرأس. لأن الأصل فيه المسح. ولهذا لا يقوم الغسل مقامه، بل الغسل ينقضبه الفضل. والتكرار ربما جعله غسلًا، والغسل مكروه، والتكرار يؤكد الإزالة.

[قول القاضي أبي زيد الدبوسي في الاستجمار]

190 - وذكر احترازًا مليحًا في الدم إذا لم يسل، فقال: ذاك لا يقال خارج؛ لكنه ظاهر، وظهور الشيء لا يكون خروجًا. كمن فتح باب داره الذي يستره، يظهر للعيون، يقال ((ظاهر)) ولا يقال ((خارج)). وكذلك إذا نقض عليه أحد حيطان الدار. فكذلك الدم في العرق إذا فتح العرق وظهرت حمرة الدم؛ ولا يقال ((خارج)) إلا إذا انتقل من محله؛ ولو انتقل لسال؛ لأن من طبعه السيلان. 191 - وذكر أيضًا أن الريح لا توجب الاستنجاء. لأن الرائحة، وإن كانت دالة على أجسام لطيفة، إلا أنها تابعة مخرجة لا خارجة. وغسل المحل لا يجب إلا عن خارج. ولهذا إذا كان الدم يسيرًا في أثناء بصاق أو مخاط، لا يوجب غسل المحل، لأنه مخرج؛ لأنه تبع البصاق والمخاط. ولو كان هو الأكثر، وجب؛ لأنه خارج. 192 - وقال: الغسل في الرأس محرم. فالتكرار يقرب إلى المحرم؛ وما قرب إلى المحرم مكروه. كقبلة الصائم، لما قربت من الجماع، وهو محظور في الصوم، صارت مكروهة. وفارق الاستجمار؛ يستحب تكراره لأنه يؤدي إلى المقصود، وهو الإزالة. فالتكرار مستحب لتقريبه من المستحب والأفضل.

قوله أيضا في أن السبب ينعقد سببا وإن امتنع حكمه لمانع

193 - وقال أيضًا: قد ينعقد السبب سببًا وإن امتنع حكمه لمانع. وله شواهد من الأصول. من ذلك التضمين في الغضب سبب، عند أبي حنيفة، للملك؛ ولكنه امتنع من المدبر إذا غصبه فأبق، ضمنه ولم يملكه. فلم يمتنع الحكم الذي هو ملكه بالتضمين؛ لأجل أن السبب ما تم، لكن لعارض منع الحكم، وهو حق المدبر من العتق. وكالبيع بشرط الخيار، البيع سبب للملك، لكن الخيار اعترض، فامتنع || الحكم لأجله. قال: وكذلك إذا باع عبدًا قنًا ومدبرًا بثمن. فإنه يأخذ العبد بحصته من الثمن بحسب القيمة؛ ولو لم يكن العقد قد وقع عليهما، لما جاز أن يصح العقد على القن؛ كما لو عقد عليه بحسب قيمته من الثمن. 194 - وذكر في قولهم ((مسح الرأس ركن في الطهارة فسن تثليثة كالمغسولات)) فقال: نقول بموجب؛ لأن الغرض عندنا الربع والاستيعاب للثلاثة أرباع سنة. فقد سن تثليثه. 195 - وقال على قول الشافعي في شهادة النساء على النكاح ((ليس بمال)): هذا نفي، والنفي ليس بشيء؛ فلا يوجب ما ليس بشيء حكمًا.

من كلام الحسين بن علي بن أبي طالب

196 - قال علي بن الحسين عم: لدرهم أدخل به السوق أشتري به لحمًا أدعو عليه إخواني أحب إلي من أن أعتق نسمة. 197 - وقال النبي صلعم: أهون الناس عذابًا عند الله - عز وجل - عبد الله بن جدعان، لأنه كان يطعم الطعام. 198 - وعن الحسين بن علي عم أنه قال: لئن أطعم أخًا لي مسلمًا أحب إلى من أن أعتق أفقًا من الناس. قيل: وكم الأفق؟ قال: عشرة آلاف. 199 - وقال: أحب الأعمال إلى الله - عز وجل - إدخال السرور على المسلم أو إشباع جوعته أو تنفيس كربته. 200 - قال القاضي الدبوسي: الوصف لا يكون مؤثرًا؛ لأن الوصف قول القائل. وليس قول يوجب الحكم بمجرده إلا قول من قوله حجة، وهو قول صاحب الشريعة.

قوله أيضا في أن الإيجاب من الله جبر لا يقف على محل يصح منه الأداء حال التكليف

201 - قال القاضي أبو زيد: الإيجاب من الله سح جبر لا يقف على الرجاء من المكلف، ولا على القدرة على الأداء. بدليل الحائض والنائم، لما كانا من أهل الالتزام في الذمة، لزمهما التكليف وتأخر الأداء إلى حين الإمكان. فقد بان بهذا أن تكليف الله للعبد وإيجابه عليه لا يقف على محل يصح منه الأداء حال التكليف، بل يجوز أن يسبق الخطاب والإيجاب وإن تراخى الأداء إلى حين تجديد حال تصلح للإمكان. وهذا يصلح لنا في إيجاب الصلاة والزكاة واستقرارهما. ولا يعتبر الإمكان بمضي زمان يمكن الفعل فيه، ويجعل مستقبل || الزمان لإمكان الفعل والإيجاب والاستقرار سابق للإمكان بمجرد وجود ذمة المكلف صالحة للإلزام. ولهذا صح أن يكون من أهل الالتزام بالنذر في حال لا يصح فعله؛ كالحائض تنذر الصوم، والمعسر ينذر الصدقة بالمال. 202 - وحكى القاضي أبو زيد لأصحاب الشافعي في أن العلة الطعم. وذلك أنه نوع معاملة تعلق جوازها بشرط زائد، وهي المماثلة في المعيار الشرعي. فوجب أن يكون ذلك الشرط معلولًا، بمعنى أنه أثر وحظر في المحل، كالنكاح. وبيان ذلك الشرط في النكاح الشهادة. والمعنى له حظر وأثر حفظ نشوء

شذرة ذكرها أبو زيد الدبوسي في الثمن وأنه لا يتعين

العالم. والطعم به حفظ الموجودين. وهو قوام العالم. فأحدهما للإنشاء والخلق، والثاني لقيام الأود وحفظ الجسد. فأجاب بأن هذا يعطي ضد ما وضعت الليل لأجله؛ لأن الحظر في النفس للطعم لحاجة كل حي إليه، والحاجة انتصبته في الشرع علة لتحصيل الإباحة، لا للحظر. فهذا فساد وضع. 203 - شذرة ذكرها القاضي أبو زيد في الثمن وأنه لا يتعين فقال: وضعية الثمن إيجادًا بالعقد وإيجابًا في الذمة. كما أن وضعية المثمن على أنه عين معينة. إلا أن في السلم صار المثمن دينًا. والثمن معتبر القبض لأجل الضرورة. وليس الثمن ما يثبت في الذمة للضرورة. بدليل أن من دراهمه حاضرة كثيرة يشتري في ذمته، وبعد ثبوت الثمن في الذمة لا يحصل له حكم الدين من المثمن؛ حتى إن المسلم فيه يصير دينًا لا يجوز تصرفه إلى غيره. والثمن في الذمة يجوز صرفه إلى غيره. فيكون له في ذمة إنسان ثمنًا، مائة درهم مثلاً ما، فيعاوضه عنها قبل القبض بعشرة دنانير. ولا يجوز مثل ذلك في المسلم فيه وإن كان دينًا. فعلم أن محل الثمن هو الذمة في أصل الوضع؛ ولا يجوز إخراجها عن وضعها بتعيين المكلف.

جوابه لأصحاب الشافعي في تعليق حرمة المصاهرة على الزنا

204 - وذكر أيضًا في تعليق حرمة المصاهرة على الزنا لأصحاب الشافعي || أن الزنا عدوان محض، ولهذا أوجب الحد. والنكاح مباح محض، ولهذا يحمد عليه. وتحريم المصاهرة كرامة ترتيب على النكاح، فكيف يتعلق بما هو عدوان؟ فأجاب بأن الزنا، من حيث هو عدوان، لا يتعلق عليه تحريم المصاهرة، بل وجوبالعقوبة، وهو اقتضاء شهوة الفرج. ومن حيث هو حرث للنسل تعلق عليه حرمة المصاهرة. وهذا الحرث يحصل بالوطء وإن لم يقصده الزاني. فحيث لم ينفك الحرث من قضاء شهوة الفرج، لا جرم تعلق تحريم المصاهرة على الحرث، وتعلق الحد بقضاء وطر الفرج. 205 - وجرى في أثناء كلام يتعلق بمسألة الفسخ بإفلاس المشتري بالثمن فقال: يقول أصحاب الشافعي ((تعذر أحد العوضين يوجب الفسخ لتعذر التسليم في المبيع بتلفه)) فقال: على ذلك محينا التعذر لتسليم المبيع بمنع انعقاد البيع. والقدرة على دفع الثمن ليس بشرط. فلم يعتبر ما القدرة عليه شرط في صحة العقد مما ليس القدرة عليه شرط في صحة العقد.

مسألة التملك بتضمين الغصب للغاصب

206 - وقال القاضي الدبوسي، قيما نقلت من كتابه حين قرأه على الشيخ أبو عمرو الفقيه، في مسألة التملك بتضمين الغصب للغاصب: قال أصحاب الشافعي ((الغصب عدوان محض فلا تملك به)). فأجاب بأن استيلاد أمة ابنه والأمة المشتركة عدوان محض وتملك به. قال: فإن قالوا ((ذاك لنوع شبة في الملك)) قيل: والتضمين سبب للملك لأنه لما ملك عليه القيمة ملك المقوم. وبعضهم يقول ((الملك حصل بالاستيلاد وليس بعدوان)). فقال: ومثله الملك عندهم يحصل بالتضمين وليس بعدوان. إنما التضمين حكم الشرع، كما أن العلوق فعل صاحب الشرع سح. 207 - فصل في نسخ الحكم قبل وقت فعله قال معتزلي || في مجلس حضرناه للنظر بحضرة القاضي الأجل أبي جعفر البخاري: هذا يؤدي إلى البداء، ويعرض المكلف باعتقاد الجهل، ويقتضي أن يأمر بفعل يقتضي بالأمر أن يكون حسنًا، وينهي عنه فيقضي أن يكون قبيحًا. قال: وفارق هذا إذا أمر به، ثم فعل، فنهى عن فعله دفعة أخرى. لأنه لا يمتنع أن يكون حسنًا في الوقت الذي أمر به ففعل، ويصير

قبيحًا بحكم أنه مفسدة في وقت آخر. فأما أن يأمر به، فقبل أن يفعل ينهي عنه فيصير قبيحًا، فمحال. قيل له: لا يمتنع أن يكون الأمر به لاختيار المكلف وحصول إضمار الطاعة له بتحصيل الاعتقاد للإيجاب والعزم على الفعل عند مجيء الوقت. وذلك كله طاعة. ولهذا قال الله تع لإبراهيم بعزمه وتصميمه على ذبح ابنه: {قد صدقت الرؤيا}. وأما اعتقاد الجهل لنوع مصلحة، فلا يمتنع؛ لأن الجهل إنما هو قبيح لا لنفسه. فهو كالكذب قبيح، لكن يحسن لدفع ما هو أقبح منه. كمن سأل عن نبي ليقتله. فإن القائل ((ها هوفي البيت)) صادق؛ لكن الصدق حسن إلا في هذا الموضع. وقوله ((ليس هو [في البيت])) مع كونه في البيت كذب؛ لكن الكذبقبيح إلا لدفع ما هو أقبح منه، وهو قتل النبي، فكذلك الجهل قبيح؛ لكنه إذا حصل به طاعة الله، واندفعت به معصيته، وصمم معه على عزم الطاعة، صار حسنًا، لتحصيل ما يوفي على قبح الجهل. على أن الله سح إذا أمر بصلاة موقتة، وأمات المكلف لها قبل وفيها، فإنه كان يعتقد الفعل والحياة إلى وقت الفعل؛ ولما قطع عنه، بإن أنه اعتقد جهلًا؛ لكنه كان حسنًا لإثابته على إضمار الطاعة، واعتقاد وجوبها، والعزم على فعلها.

قول القاضي أبي زيد الدبوسي في علة القياس الذاتية

208 - قال القاضي أبو زيد: ومتى كان أحد وصفي القياس علة ذاتية في جلب الحكم، كان الوصف الآخر لغوًا. وهذا مثل قول من قال في مس الذكر، وأنه ينقض الوضوء لأنه مس ذكره، فأشبه لو مسه وبال. فإن البول لما كان علة للنقض كافية، لم يجز أن يعلق الحكم على وصف معها. قال: || المعلل لالنفي، مثل قوله ((ليس بمال)) و ((وليس بكذا)) فهذا تعليل بنفي، فلا يصح؛ لأنه ليس بشيء في نفسه. قيل له: أليس محمد صاحبكم - أعني ابن الحسن - قال في العنبر ((ليس مما أوجف عليه بخيل ولا ركاب فلا يخمس))، وقال في ولد المغصوبة ((ليس بمغصوب))، فاستدل بالنفي؟ فقال: إن محمدًا أخرج ذلك مخرج الدلالة، ويجوز أن يستدل على نفي الشيء بنفي شواهده؛ كقول القائل ((ليس زيد في الدار، لأنه لا دابة على الباب))؛ و ((لا مطر، لأنه ليس على الأرض بلل))؛ إلى ما شاكل ذلك. كذلك يقال: ((إذا لم ينفذ الطلاق المكلف، دل على أنه لا عقد))؛ و ((إذالم يوجف على العنبر بخيل، فليس بغنيمة)). فأما التعليل بالنفي، فلا يجوز. وقال أيضًا بأن السبب يأخذ تارة حكم العلة في تحصيل الحكم،

وتارة يأخذ حكم الشرط. فأما العلة فإنها موجبة. وشبه السبب بالطريق، والعلة بالمشي. فالطريق سبب من حيث كان موصلًا إلى الغرض، كالحبل؛ والمشي هو العلة لأن به حصل الوصول حقيقة. فهو بين الشرط والعلة، وهو إلى العلة أميل في بعض الأحكام. قال: والعلة ما حل المحل بغير اختيار، فغيره. منه سموا المرض علة، لأنه حل المحل فتغير به. ولهذا سموا الشرب عللًا، فقالوا ((سقيته عللًا بعد نهل)). قال: ولهذا سميت المرأة علة لكثرة الحوادث المختلفة فيها، كالحيض والنفاس والولادة؛ والكلام معلل ومعتل إذا كان يعتريه التغيير. وقال: إن العلل الشرعية إنماهيعللبفعل الفاعل لا بذاتها، حتى لا يكون شركًا مع الله. وهذا الكلام منه يعطي أيضًا في العقليات أنها غير موجبة بذاتها؛ لأن النار لا تحرق بطبعها، لكن بفعل الله سح الإحراق فيها؛ لأن هذه الأشياء أعلام، والله الفاعل حقيقة. ولو جعلناها فاعلة حقيقة، لكان الله سح علمًا، وهي الفاعلة. ومعاذ الله أن نقول ذلك! وهذا يدل على أن الرجل لم يكن قدريًا. || قال: ولا يجوز أن نجعل العلل موجبة، لأنه شرك؛ وإنما نجعلها موجبة بفعل الله فيها أعلامًا على الأحكام في أنفسها. واستشهد على ذلك بالأجزية من الحدود والتعزيز والقصاص وثواب الجنة وعذاب النار؛ لا يقول وجب بفعل العبد، ولا أوجبه العبد، بل الله سح أوجب الثواب.

فصل كلامي على جاحدي النبوات

وفعل العبد مستحق به الجزاء؛ فالفعل يوجب الجزاء بمعنى أنه يستحق به. وفعل الله سح أوجبه بمعنى فعله وخلقه وأصار إليه. فالباري موجب من حيث أنه فاعل؛ والعبد مستوجب من حيث أنهاستحق من الله العقاب وسائر الأجزية. 209 - فصل كلامي على جاحدي النبوات إن جاء الحكماء بما واطأ العقل، كقول القائل منهم للتلاميذ استثارة للرحمة والرأفة: ((يا هؤلاء! لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان! ألا تستحون؟ هذا الحيوان البهيم أسير في أيديكم، يحب الحياةكما تحبون، ويؤلمه من الحديد والحجر والخشب ما منه تألمون، وأنتم عليه متسلطون! )) فقد قابل ذلك ما جاءت به الرسل مما أبهر العقل من الأمور الخارقة. وليس حكمة المخلوق بأكثر من حكمة الخالق. والحكيم سح قد آلم الحيوان البهيم ولم يطعن ذلك عند الحكماء في حكمته. فتشريعه لإيلام الحيوان لا يكون طاعنًا في حكمته؛ لأن التعليلي لإماتة الحيوان بحكمة إما ظاهرة أو باطنة؛ وكذلك تشريع ذبحه. فإذا لم يطعن في الحكمة عندكم إماتة الحيوان يفعله، لم يطعن في الشرع عندنا تشريع قتل الحيوان وذبحه.

مسألة جرت في مجلس بباب المراتب [في الأعذار المعلومة هل يفسخ بها عقد الإجارة]

210 - مسألة جرت في مجلس بباب المراتب سئل حنبلي عن الأعذار المعلومة هل يفسخ بها عقد الإجارة. فقال: المحل متهيئ ممكن. فقال حنفي فاضل قدم من بخارى: ولم اكتفيت في لزوم العقد|| بإمكان المحل وتهيئه للانتفاع؟ قال الحنبلي: هذا العقد في الأصل مما لا يقتضيه القياس، لأنه على معدوم. والمعدوم ليس بشيء فتقابله الأعواض، ولا يقدر على تسليمه. وإنما يوجد، فيعدم عقيب الوجود. وإنما سوغ الشرع العقد عليه لأجل الحاجة من جانبي المتعاقدين؛ لأن لأرباب الأموال أعيان لا تتسع جاتهم إلى منافعها، وبهم حاجة إلى العوض عنها، فيوجدونها. ومن لا قدرة له على شرى الأعيان يحتاج إلى الكري. فإذا كان كذلك، وكان المحل متهيئًا للانتفاع، فقد وجد ما عقد لأجله العقد، وهو تمكين المحل من الإيجاد للمنافع التي وقعت الحاجة إليها. قيل له: فقد عدمت الحاجة في جانب المستأجر، حيث تجدد عذره المانع له من الاستيفاء وأغناه عن ملك المنفعة، فزال الشرط الذي لأجله جوز العقد. قال الحنبلي: ليس العقد موضوعًا لحاجة تخص. لكنه في الأصل

مجوز لحاجة تعم. وبالعذر تجدد غناء يخص، فلا يؤثر في الحاجة العامة التي وضع لأجلها العقد. قيل له: لا يجوز أن تكون الإباحة في حق غني لا يوجد في حقه؛ لأن حاجة غيري لا توجب الإباحة في حقي لما وضعت إباحته لأجل الحاجة. قال الحنبلي: ليست العلة حاجة تخص، بل حاجة تعم. يبين صحة هذا أن من يملك ألف خان، وإن كان غنيًا، فما يملكه من منافع الأعيان مراعاة للحاجة العامة. ولو كان الاعتبار بما يخص من الحاجة، لما ساغ له العقد من الغنى الذي يخصه. ألا ترى أن الإباحة لأجل الضرورة، لو كانت عمت في بادية أو برية، أباحت الميتة في حق كل المضطرين؟ فلو نذر واحد من أهل البادية بالغنى عن أكلها، لما أبيح له الأكل لضرورة غيره. ولما جاز ههنا للغني عن المنافع أن يكتري ويستأجر مع غنى يخصه دل على أنه ما أباحه ذلك إلا للحاجة العامة التي ذكرناها. وهذا يشير الأصول || كلها، المعاوضات والعبادات. فإن عقد السلم أبيح على المعدوم لحاجة أهل الثمار إلى الثمن وحاجة أهل الثمن إلى استرخاص الثمر. ثم يجوز ذلك في حق الأغنياء بالأثمان أن يسلفوا على ثمارهم، ولأهل الثمار أن يسلموا في ثمار غيرهم. وكذلك رخصة السفر تعم المتودع والمتبذل مراعاةً

للكل دون الجزء. وكذلك سائر المصالح الجزئيات بقطع اليد بسرقة ربع دينار أو دينار لحراسة سائر الأموال. قال الحنبلي أيضًا: ولأن العقد في الأصل وضع للحاجة، ثم بعد انعقاده لم يوقف الانتفاع على المحتاج، ولا على تصرف الحاجة وهو الانتفاع؛ بل يجوز لغيره الانتفاع به استنابة أو إعارة إجارة. ويجوز فيه طلب المرابحة، كما يجوز في الأعيان الموجودة. وليس هذا من صفات ما يقف على الحاجة الخاصة. ألا ترى أن عقد النكاح، لما عقد عليه لأجل الحاجة إلى النشوء والانتفاع الذي لا يمكن إلا في الملك، وقف على الزوج، ولم تدخله عقود المرابحات ولا دخله التجارات. وكذلك الفرض، لما أمر [به] لأجل الحاجة لم تدخله الأرباح. فلما جعل هذا بعد انعقاده تراعى فيه الحاجة الأصلية التي لأجلها وضع العقد، وهي الحاجة العامة، يجب أن لا يراعي في ثبوت نسخة زوال الحاجة الخاصة، سيما في حال استدامته بعد انعقاده. قال: فإذا ثبت هذا، فأكثر ما أوجب العذر غناؤه بنفسه عن الاستيفاء بنفسه. وذلك ليس بأكثر ممن استأجر ليربح في المنافع بإجارتها بأكثر مما استأجرها، أو ليبذلها لغيره طلبًا للمنة بإعارتها والتبرع بها. وإذا كان الأمر على هذه الصفة، فلا حاجة بنا إلى إثبات الفسخ مع كون المنافع

شذرة في مسألة آلة اللهو

مملوكة، والمحل باذل ممكن متهيئ، والاستيفاء بغيره ممكن، والمعاوضة صائرة. فإذا أخلدنا إلى الفسخ، أخلدنا إلى الخروج من العقد بما لا يكون مثله موجبًا للفسخ. قال: ولأنك إن راعيت || جانب المستأجر حيث تعذر عليه، راعينا جانب المؤجر حيث لم يتعذر منه الإيفاء. والمراعى جانب المؤجر في إمكان التسليم. لا جانب المستأجر في تعذر التسليم. كالبيع ما دام المبيع على صفة يمكن تسليمه وهو سليم، فلا يفسخ لأجل تعذر التسليم؛ سيما في طعام اشتراه إنسان ليأكله، فاعتل ومرض، فإنه لما كان الطعام على صفة المالية والتسليم، لم يفسخ العقد لأجل تعذر التسليم المبيع لا بفسخ العقد. 211 - شذرة في مسئلة آلة اللهو قال شافعي: لو خلع الملاهي وقلع الأوتار صار الباقي مضمونًا. فدل على أن فيها مالية ظهرت بالضمان بعد تفكيكيها. فوجب أن يضمن بإتلاف التأليف والأعيان معًا. بدليل أن كل غير مضمون لا فرق بين جمع الإتلاف فيه وتفريقه، كالخمر والميتة والدم. وكل مضمون لا فرق بين إتلافه ضربة واحدة وبين تفريق إتلاف أجزائه. قال له حنبلي: اعتبار الجمع بالتفريق فاسد. لأن التفريق يجعل الباقي بعد تقديم التفكيك مالًا مخلصًا من اللهو. وإذا أتلفه ضربة واحدة، لم يتخلص المال عن الصفة التي توجب كون الذات آلة للهو، وفرق

بينهما. بدليل أن من دبغ جلد الإنسان، فأزال الرطوبة عنه، بقي الجلد مالًا؛ فلو أتلفه، ضمنه؛ ولو أتلفه وهو ميت، لم يضمنه؛ لأنه لم يتخلص عنه ما أخرجه عن حيز المالية. وكذلك لو خلط الماء النجس حتى كثر وزال تغييره، وأتلفه، ضمنه؛ ولو أتلفه ابتداءً لم يضمنه. وكذلك الخمر إذا أتلفها فانتقلت خلًا وأتلفها، ضمنها، ولو أتلفها ابتداءً لم يضمن. ولو باعها على ما هي عليه، لم يصح البيع، ولو فككها وباع، صح البيع. قال الشافعي: هي آلة للهو بتأليف مميز عن المالية. فهو أشبه شبهًا بالجارية المغنية. فإن الغناء، لما كان صفة || فيها، لم يمنع بيعها ساذجة وضمانها ساذجة. وكذا أقول إن بيعها لأجل التأليف بثمن يوازي التأليف لا يصح. وبيعها بثمن يوازي أعيانها ساذجة يصح. وكذلك إتلافها تضمن به ساذجة. وإذا كان في هذه العين مالية فارق مسائل الاستشهاد. فإن الخمر كلها ليست مالًا، بل عينها محرمة نجسة؛ فلذلك لم تضمن؛ لأن الضمان إنما يقابل مالية، ولا مالية في الخمر. وكذلك الجلد؛ وإنما إذا استحال انقلبت العين فضمنت. والخل عين أخرى. قال الشافعي أيضًا: ولأن إتلاف آلة اللهو إنما هو حسبه وإنكار. ومهما أمكننا دفع المنكر بالأسهل، فدفعناه بالأشد، ضمنًا. بدليل من صال على أنسان، وأمكنه أن يدفعه عن نفسه بالأسهل فدفعه بالأشد، كالحجر

والحديد، فمات، ضمنه. كذلك ههنا يمكن حل الأوتار والملاهي وإبقاء العين الصالحة لغير اللهو. فإذا عدل عن التفكيك إلى الإتلاف بالكلية، يجب أن يضمن. قال الحنبلي: ليس التأليف متميزًا عن المالية؛ لأن الصليب والوثن والطنبور لا مالية فيه عندي؛ لأن الخشب تابع للصنعة، والمقصود الصنعة والتابع لا عبرة به في باب الضمان. كالكلب فيه منفعة مقصودة، لكن عينه نجسة. والماء فيه نوع استصلاح. والجلد كذلك، ولا يضمن ما فيه من المالية. والعبد المرتد فيه مالية يكشف عنها البيع. فإن بيعه يصح، والملك عليه ثابت. والملك في حق المالك لا يثبت إلا على ما هو مال. ومع ذلك إذا أتلفه متلف، لا يضمن. وقولك ((إذا أمكنه أن يفكك فأتلف، ضمن)) باطل بالمرتد. فإن الاستتابة واجبة، وهي استصلاح. والقتل لا يملكه إلا الإمام. فلو جاء عامي من آحاد الرعايا قبل استصلاحة بالاستتابة، ترك الرفق والأسهل وقتل، لم يضمن. وقتل آحاد الرعايا قبل الاستتابة للمرتد، ومن غير استتابة من الإمام، تقدم للأصعب على الأسهل، ولا يضمن. وفارق المغنية؛ لأن الأمة لا معصية في حقها إلا فعل الغناء. || فأما هي، فإنها في نفسها ذات خالية من صفة المعصية. وهذه الآلة صورتها على صورة اللهو، لا تنفك الصورة عن المادة.

شذرة القسامة هل يسمع فيها أيمان المدعين

212 - شذرة القسامة هل يسمع فيها أيمان المدعين استدل حنبلي بأن النبي صلعم، لما رفع إليه شأن الأنصاري الذي وجد تقليب خيبر، قال لهم: ((تحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ )) فقالوا له: ((كيف نحلف على ما لا نعلم؟ )) قال: ((فتبرئكم يهود بأيمانها.)) فقالوا: ((كيف نرضى يمين من لا إيمان له؟ )) قال: ((ليس لكم إلا ذلك.)) ووداه بمائة ناقة. فوجه الدلالة أنه عرض الأيمان على المدعين. ولا يعرض على قوم ما ليس بحجة في حقهم. 213 - نقلت من بعض الكتب أن غسل الوجه بالماء البارد، عقيب الخروج من الحمام، يبقي طراوة الوجه مع كبر السن. 214 - شذرة قال بعض الفقهاء: النكاح يخالف سائر العقود، بدليل تنصف العوض فيه قبل الدخول وتكميله بالموت. قال له قائل: ما خالف بكماله بالموت الإجارة؛ لأن بالموت كملت المدة وانتهت. فهو كما تستقر الأجرة وتتكمل بإنتهاء مدة الإجارة.

شذرة فيمن دخل عليه وقت الصلاة ومعه ماء قادر على استعماله من غير أن يكون محتاجا إليه فأهراقه وتيمم وصلى

قال: إنما تكمل الأجرة بانقضاء مدة الإجارة بعد التمكين والتسليم. وفي النكاح، لو ماتت المراة في بيت أبيها وما سلمت إليه، كمل المهر؛ ولو ماتت طفلة مثلها، لا يصح تسليمه كذلك؛ بخلاف الإجارة، فهو عقد على المفارقة لسائر العقود في عوضه وشروطه كلها. 215 - شذرة فيمن دخل عليه وقت الصلاة ومعه ماء قادر على استعماله من غير أن يكون محتاجًا إليه فأهراقه وتيمم وصلى قال: يعيد؛ لأنه لما أراقه مع قدرته على استعماله، كان كالموجود في حقه؛ بمثابة من قتل موروثه، لا يرثه، ويجعل كالحي في حقه. إلا أننا أوجبنا عليه التعذر للتيمم، وبقينا الصلاة ||في ذمته لتعديه في حصول التعذر. 216 - قوله تع: {بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق}. يدل ذلك على أن لنا استكبارًا بحق. وهو الاستعلاء والتعاظم على أهل البغي والكفر والظلم. فذلك استكبار بحق. ولهذا لما رأى النبي صلع رجلًا يخطر بين الصفين في مشيته، فقال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا المقام

حديث وتفسيره

أو المكان. وكان من أسماء الله ((المتكبر)) اسم مدحة؛ لأنه عظيم متكبر بالحق؛ لأنه يتكبر على العصاة والكفار. 217 - سمعت في بعض الأحاديث عن النبي صلعم: لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله يطعمهم ويسقيتهم. وهذا محمول على الأغني؛ كما قال صلعم: لست كأحدكم؛ إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني. 218 - أخبرنا القاضي الإمام أبو جعفر محمد بن أحمد بن حامد بن عبيد البخاري قال حدثنا أبو محمد إسماعيل بن الحسين بن علي البخاري إملاءً في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة قال حدثنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان المروزي قال حدثنا أبو عمران موسى بن سهل الوشاء قال حدثنا يزيد بن هرون عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عند عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله! كيف تعرف من لم تر من أمتك يوم القيامة؟ قال: هم غر محجلون بلق من آثار الوضوء. 219 - وأخبرنا القاضي الإمام أبو جعفر قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن العباس العصمي قال حدثنا أحمد بن إسحاق بن البهلول القاضي قال حدثنا أبي عن منصور بن عكرمة عن أبي عروبة عن

قتادة عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلعم وأبو بكر وعمر وعثمان علي جري. فتحرك الجري؛ فضربة رسول الله صلع برجله وقال: اسكن، جري، فأنما عليك نبي وصديق وشهيدان. 220 - وأخبرنا القاضي أبو جعفر أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن خلف العدل إملاءً سنة تسع وتسعين وثلاثمائة قال حدثنا أبو سعيد الهيثم بن ||كليب بن شريح بن معقل الشاشي قال حدثنا محمد بن عبيد الله بن المنادي قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا شعبة قال حدثنا عثمان بن المغيرة عن فلان بن أسماء ويقال أسماء بن حلم الفزازي قال: قال علي بن أبي طالب: كنت إذا سمعت من رسول الله صلعم حديثًا نفعني الله به ما شاء أن ينفعني فإذا حدثني رجل من أصحاب رسول، الله استحلفته؛ فإذا حلف لي، صدقته. وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أن رسول الله صلعم قال: ما من عبد مسلم يذنب ذنبًا، ثم يقوم فيتوضأ، ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر الله من ذلك الذنب، إلا غفر الله له. ثم لا قوله - عز وجل: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا}. وتلا: {والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله}.

خطبة عمر بن الخطاب في الجابية

221 - وأخبرنا القاضي أبو جعفر حدثنا إبراهيم قال حدثنا الهيثم قال حدثنا عيسى بن أحمد العشاري قال حدثنا شبابة بن سوار قال حدثنا يونس بن إبي إسحق عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الزبير قال: خطبنا عمر بن الخطاب بالجابةي فقال: إن رسول الله صلع قام فينا مقامي فيكم فقال: أكرموا أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. وينشؤ الكذب؛ حتى إن الرجل يحلف من غير أن يستحلف، ويشهد قبل أن يستشهد. فمن سره أن ينال بحبوحة الجنة، فعليه بالجماعة؛ فإن يد الله تع على الجماعة؛ وإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد. ألا لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهم الشيطان. ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن. 222 - أخبرنا القاضي أبو جعفر حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن حمزة الشاذكوني إملاءً قال حدثنا أبو حفص أحمد بن أحمد بن حمدان قال حدثنا محمد بن علي قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الملقب براهويه قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا أبو حبيب عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلعم: دعاء الوالد لولده مثل دعاء النبي لأمته.

223 - أخبرنا || القاضي أبو جعفر حدثنا أبو نصر أحمد بن الحسن بن الحسين البخاري المعروف بالكلاباذي إملاءً في سنة سبع وتسعين وثلاثمائة حدثنا أحمد بن أحمد قال حدثنا أبو عمرو أحمد بن نصر بن إبراهيم قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال حدثنا النضر بن شميل قال حدثنا شعبة عن توبة العنبري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلعم يصل شعبان برمضان. 224 - أخبرنا القاضي أبو جعفر أخبرنا إسماعيل بن محمد بن أحمد بن صاحب الكائي في سنة سبع وتسعين وثلاثمائة إملاءً قال أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن نصر بن عنبر بن جرير قال أخبرنا أحمد بن مصعب قال حدثنا وكيع بن الجراج قال حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه عند ابن عباس قال: قال رسول الله صلعم: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الفراغ والصحة. 225 - وأخبرنا القاضي [أبو جعفر أخبرنا] إسماعيل قال حدثنا محمد بن يوسف الفربري قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى

عن علي أن فاطمة شكت ما تلقى في يدها من الرحى. فأتت النبي صلعم تسأله خادمًا، فلم تجده؛ فذكرت ذلك لعائشة. فلما جاء، أخبرته. قالت: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا. فذهبت أقوم، فقال: ((مكانك.)) فجلس بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: ((ألا أدلكما على ما هو خير لكما من الخادم إذا أويتما إلى فراشكما؟ )) أو قال: ((إذا أخذتما مضاجعكما؟ فكبرا أربعًا وثلاثين، وسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين. فهذا خير لكما من خادم.)). 226 - وأخبرنا القاضي قال أخبرنا محمد بن يوسف الفربري قال أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا هشام قال حدثني أبي عن عائشة قالت: كان يوم عاشوراء يومًا تعرفه قريش في الجاهلية. وكان النبي صلعم يصومه. فلما قدم المدينة، صامه وأمر بصيامه. فلما نزل رمضان، كان من شاء صامه ومن شاء لا يصومه. 227 - وأخبرنا || القاضي حدثنا إسماعيل أخبرنا الفربري أخبرنا البخاري حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن خالد - يعني بن يزيد - عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال: رقيت مع أبي هريرة على ظهر المسجد. فتوضأ، وقال: إني سمعت رسول الله صلع يقول: إن أمتي يدعون يوم

من أخبار أبي بكر الصديق مع الرسول

القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء. فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. 228 - أخبرنا القاضي قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا أبو عبد الله الفربري قال أخبرنا أبو عبد الله البخاري قال حدثنا عبد الله بن رجا قال حدثنا إسرائيل عن البراء قال: اشترى أبو بكر الصديق من عارب رحلًا بثلاثة عشر درهمًا وقال له: ((مر ابنك فليحمل إلي رحلي.)) قال عارب: ((لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلعم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم.)) قال: ((ارتحلنا من مكة فأحيينا)) - أو قال: ((سرينا)) - ((ليلتنا ويومنا حتى ظهرنا. وقام قائم الظهيرة. فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه. فإذا صخرة. فأتيتها، فنظرت بقية ظل لها. فسويته، ثم فرشت للنبي صلعم. ثم قلت له: ((اضطجع، يا نبي الله! )) فاضطجع. ثم انطلقت أنظر ما حولي هل أرى من الطلب أحدًا. فإذا أنا براعٍ يسوق غنمًا إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا. فسألته، فقلت: ((لمن أنت يا غلام؟ )) فقال: ((لرجل من قريش)) - سماه فعرفته. فقلت: ((هل في غنمك من لبن؟ )) قال: ((نعم)) قلت: ((فهل أنت جالب لنا؟ )) فقال: ((تعم)) فأمرته، فاعتنق شاة من غنمه. ثم أمرته أن ينفض، ضرعها من الغبار؛ ثم أمرته أن ينفض كفيه.)) - وقال: ((هكذا)). وضرب إحدى

في مناقب أبي بكر الصديق وبلال

كفيه بالأخرى. - ((فحلب لي كثبة من لبن. وقد جعلت لرسول الله أداوة في فمها خرقة. فصببت على اللبن حتى برد أسفله. فانطلقت به إلى النبي صلعم؛ فوافيته قد استيقظ. فقلت: ((اشرب، يا رسول الله! )) فشرب حتى رضيت. ((فقت: قد آن الرحيل، يا رسول الله! )) فارتلحنا والقوم يطلبوننا؛ فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له. فقلت: ((هذا الطلب قد لحقنا، يا رسول الله! )) فقال: ((لا تحزن إن الله معنا)). 229 - || أخبرنا القاضي قال حدثنا أبو سهل أحمد بن محمد بن أحمد المكي قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن موسى بن علي بن عيسى الرازي قال حدثنا أبو محمد جعفر بن محمد بن برهان قال حدثنا أبو يوسف قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث بعد سعد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: ذكر عمر بن الخطاب ذات يوم فضل أبي بكر. فجعل يذكر مناقبه، ثم قال: وهذا سيدنا بلال حسنة من حسنات أبي بكر. 230 - أخبرنا القاضي بإسناد ذكره قال حدثنا أبو حاتم محمد بن أدريس الرازي قال حدثنا سعيد بن أبي مريم قال أخبرنا نافع بن يزيد قال حدثنا يحيى بن أبي سيد المصري عن الفضل بن عيسى عن عمه أنه سمع أنس

مسألة في الحرم هل يعصم عن القصاص

بن مالك يقول: ((يا رحمان! يا رحيم! يا أرحم الراحمين! )) فقال له رسول الله صلع: ((سل ربك، فقد نظر إليك.)) 231 - سئل حنفي عن المحرم هل يعصم على القصاص. فأجاب بأنه يعصم، لقوله تع: {إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين}، {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنًا}. فأجيب بأنه لا حجة في الآية؛ لأن البيت هو نفس الكعبة. وعندنا تعصمه الكعبة عن القتل. قال: بل هل الكناية في قوله تع: {دخله} راجعة إلى ما فيه {مقام إبراهيم}؟ لأنه قال: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم}، وليس مقام إبراهيم في البيت، لكنه في الحرم. قيل له: لا يجوز أن يكون المراد به مكة لوجهين، لأنه قال: {للذي ببكة}؛ ومحال كون مكة ببكة، فيكون الشيء ظرفًا لنفسه. ولأن الحرم أكبر من مكة، لأنه من جهةٍ سبع فراسخ، ومن جهةٍ أربع فراسخ؛ ومحال كون ما هو أكبر من مكة بمكة. ولأنه ليس ههنا مذكور سوى البيت؛ فكيف نرجع الهاء إلى غير مذكور، وفي الآية مذكور ترجع الهاء إليه. 232 - وجرى فصل في قتل || المسلم بالذمي أن الإيمان آكد الحاقنين، والذمة

استدل حنفي في مسألة المسلمة نفسها هل لها الامتناع بعد الدخول بها لقبض صداقها

أضعفهما. والمسبب بحسب السبب. فدل على أنه مقصر في الحقن؛ والكفر هو علة الإباحة. قال: لا تسلم أن الكفر علة الإباحة، ولا الإيمان حاقن. وإنما المبيح للقتل الحراب، ولا الأمن والعصمة بالإيمان، بل بالدار. قيل له: الدار بجري أحكام الإسلام عصمت. فأما الدار فهي منزل، فظرف؛ وإنما بجري أحكامنا فيها صار حكمًا. 233 - استدل حنفي في مسألة المسلمة نفسها هل لها الامتناع بعد الدخول بها لقبض صداقها فقال: إنما قررنا الصداق في الوطأة الأولى وإن كانت الوطآتكلها مستحقة في جميع العمر. لأننا لو أوقفنا استقرار الصداق على استيفاء جميع الوطآت المستحقة، لما استقر لها عمرها كله. فعجلنا الاستقرار لهذه العلة تمييزًا لهذا العقد عن تمييز العقود التي لا تستقر الأعواض فيها إلا بتسليم جميع العوض. وبقي ما عدا هذه الوطأة الأولى على حكم العقود كلها، وأنه لا يسلم إلا بقبض. قيل له: إذا جعلت التسليم الأول مقررًا كتسليم جميع المبيع، فهلا جعلت الوطآت الباقية مقررة للزوج حتى إنها لا تملك الامتناع؟ قال: الذي يلزمني أن أجعل التقرير في مقابلة التقرير. فالصداق

مسألة المرتد هل يجب عليه قضاء الصلوات التي تركها حال كفره

مستقر عليه بالوطأة الأولى، وجميع الوطآت مستقرة له. فإذا منع هو ما تقرر عليه، جاز أن تمنع هي ما تقرر عليها. قيل له: إلا أنه هو ما رضي بإسقاط حقه من الوطآت الباقية. وهي رضيت بإسقاط حقها، حيث سلمت قبل القبض. وحقه متعلق بعين البضع؛ وحقها متعلق بالذمة. قال: هي إنما رضيت بتسليم نفسها في الوطأة الأولى لتقرير حقها. والوطء الثاني ليس لها فيه منفعة إلا مجرد الضرر. لأنها لا تزال تسلم، وهو يمتنع. ومتى أوجبنا التسليم في الوطآت الباقية، || عدنا على الأصل الذي مهدناه في الوطأة الأولى بالإبطال. لأنا قد قررنا أن الوطئ الأول إنما قررنا به كيلا يتأخر استقرار صداقها إلى الوفاة. ومتى قلنا ((سلمي فيما بعد من الوطآت)) حصل تسليم لا يقابله تقرير عوض. فحرسنا ما نقرر لها في الوطأة الأولى لحصوص التسليم فيه بإضرار الزوج بإسقاط التسليم عنها ليسلم هو ما تقرر عليه. وأما قولكم ((إن الحق للزوج متعلق بالعين، فلهذا لم [يجز] لها الامتناع من التسليم)) باطل بما قبل تسليمها. فإن حق الزوج في العين، وحقها في الذمة. ولها أن تمتنع من التسليم حتى تتسلم الصداق كيلا يستمتع بها؛ فلا يجوز الرجوع في عين ما تسلمه، بخلاف المبيع. 234 - قال حنبلي في مسألة المرتد: كافر؛ فلا يقضي الصلوات التي تركها حال كفره، كالأصلي.

قيل له: لا تسلم العلة في الأصل. قال: الدليل قوله تع: {قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}. وهذا عام في كل حق سبق عليه. قالوا له: قولك ((كافر)) بمعنى حاجد، ومشرك، وتارك لحق النعمة وهذا يقتضي التغليظ عليه لا التخفيف عنه. وإيجاب القضاء أشبه بالتغليظ. قال: إلا أنه إذا أسلم فقد عادو الحق وشكر النعمة. فهو أهل أن يخفف عنه. ويتحقق على كافر أسلم، لأن الخلاف في القضاء بعد إسلامه. وجرى في المسألة أن قالوا له: الأصل بطول يشق القضاء، والردة عارض لا يدوم فلا يطول؛ فلا يشق القضاء. وصار الأصل في طوله وتكرر العمليات فيه كالحيض، والردة في سرعة زوالها كالاستخاضة. قال: لا فرق بين ما يطول وما لا يطول؛ كالإغماء مع الجنون عند الشافعي لا يلزم القضاء فيهما، وإن كان الإغماء لا يطول غالبًا. قالوا له: فحكم المرتد حكم المسلم؛ بدليل أنه لا يقر بالجزية ولا يسترق. فإن كان هذا تغليظ عليه بالقضاء يضاهيه. || وإن كان لأنه في حكم المسلمين فالمسلم إذا ترك وجب عليه القضاء.

مسألة العبد هل يصح أمانه

وجرى فيها أيضاً أنها جحود بعد الإقرار. ومن جحد بعد إقراره كان مخاطباً بحكم الإقرار لا الجحود، بدليل إنكار سائر الحقوق بعد الإقرار. قال: إلا أنه خرج بإنكاره عن صحة أداء ما أقر به. فصار كالمنكر الأصلي في منع صحة الأداء. فصار كالأصلي في نفي القضاء. وجرى فيها أيضاً أن حكمه حال الردة كحكم المسلم في ضمان حقوق الآدميين. كذلك في حقوق الله. قال: هذا لا يصح لوجهين. أحدهما أن أصلي ينتظم كل كافر أصلي، ومن جملتهم الذمي. وذاك يخاطب بحقوق الآدميين. ومعارضتك في الحربي أنه ليس من أهل ضمان حقوق الآدميين إذا أتلفها. وعكسك في المرتد يبطل علة الفرع؛ وهي عكسك بالذمي. فإنه يضمن حقوق الآدميين بالإتلاف. ولا يقضي ما ترك من الصلاة في حال كفره. 235 - قال حنفي في أمان العبد: هو ليس من أهل القتال؛ والامان من مصالح القتال؛ وليس من أهل الولايات والشهادات. قال حنبلي: المرأة ليست من أهل القتال، ويصح أمانها. وإذا أذن له سيده، لم يصر بإذنه من أهل القتال. لأن المانع للأهلية إنما هو الرق، وبإذن سيده ما زال الرق. ومع ذلك يصح أمانه بإذن سيده له في القتال. والولايات آكد، ولهذا يعتبر لها العدالة؛ ولا تعتبر العدالة للأمان.

في الإيمان

236 - وجدت في تعاليق بعض العلماء: لا يكون الرجل مؤمناً حتى يندرج في مدارج كل واحدة منها تبين عند معرفته كفراً لكن غير مؤاخذ به لتركه والخروج عنه. قال: وذلك أن الباحث يترامى به النظر كل مرمى كإبراهيم قال عند رؤية النجم {هذا ربي} وكذلك القمر والشمس، حتى انتهى به النظر إلى إثبات الفاطر. قال ابن عباس: عبد، عبد، عبد، أثر كل مذكور، وكفر البحث وزلات النظر مغفورة. وأول الإيمان خطور الباري بالبال بحسب الحال التي تكون في المكلف في أول وهلات نظره، بإخطار النظر بباله عليها. وموسى أول قوله {أرني} وآخر قوله {سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}. 237 - استدل حنبلي في مسألة سراية القصاص بأن السراية مبنية على الجراحة حكماً، والقطع والجراح قصاصاً غير مضمون؛ يجب أن تكون السراية غير مضمونة. قال حنفي: لا أسلم؛ بل الجراحة مضمونة بما قبلها من الجناية؛ كالمبيع مضمون بالثمن. وهذا تحقيق لمذهبي، وأنا قائل بموجبه. وذلك أن السراية مبنية على الجراحة في إيجاب الضمان. قال: ولأنه لو كان جائزاً متعرياً عن ضمان في نفسه، لما أوجب ذلك أن يقع ما يؤول إليه ويتعدى منه مضموناً. بدليل الرمي عن قوس

فصل جرى في مسألة الواجب بقتل العمد

نفسه في فضاء الله سح، وهي الأبعاد الخالية، إلى الصيد المباح الرمي إليه، بعد افتقاده لمكان لا يجتاز فيه جائز. كما أن هذا العد لسفره، وفصد المفصل بعد الخلع، وحسم وكوى بعد القطع. ومعلوم أن هناك مرمي مع الاحتياط كله بشرط السلامة. حتى لو أصاب سهمه إنساناً، ضمنه، أو بهيمة لإنسان. كذلك يجب إذا تعدى القطع هنا إلى إصابة النفس بالإتلاف، يجب أن يضمن. ولا يبنى حكم الإصابة على جواز الرمية. قال الحنبلي: إلا أن بينهما فرقاً. وهو أن القطع وقع في محل مملوك، والرمي لا إلى محل مملوك. ومحال أن ينشؤ الضمان من التصرف في الملك. قيل له: هذا يلزم عليه العتق الذي باشر به المالك حصته وملكه. فإنه تصرف في نفس ما يملكه بعتق يجوز له فعله. ولكنه لما سرى إلى ملك غيره، غرم قيمة ما سرى إليه وتلف بعتقه، وهو حصة شريكه. وهما سواء؛ لأن العتق صادف نفس حقه وحصته وسرى حكماً، فضمن؛ كما أنه باشر الطرف الذي ملك قطعه. فإذا سرى من المباشرة إتلافاً حسياً، أولى أن يضمن. يبين صحة هذا أن ملكه لحصته من العبد آكد من ملكه للطرف، حيث كان ذاك ملكاً حقيقياً. ومالية الحصة من العبد مالية يعاوض عنها ويتصرف فيها بأنواع التصرفات. والسراية منه حكماً؛ والسراية ههنا حساً. فإذا ضمن هناك، أولى أن يضمن هنا.

238 - فصل جرى في مسألة الواجب بقتل العمد استدل حنفي فاضل فقال: الحكمة إيجاب المثل في المتلف مهما أمكن. والمماثلة من طريق الصورة لا يمكن. فاعتبرنا إتلاف النفس مقابلة لإتلاف النفس، اشتفاء للوارث حسبما اشتفى من وليه، حفظاً لجانب أوليائه عن التكلب عليهم. والباري سح سماه حياة لما فيه طيه من حفظ الدماء. وذلك إنما تتحقق الحكمة فيه إذا تحقق البدل قتلاً ودماءً، لا ديةً ومالاً. فإن غرضية المال الغناء وسعة الحال. وما ثلم مالهم، بل ثلم شملهم، وقلت عشيرتهم وعدتهم. فالفل أشبه بالفل، والقتل أشبه بالقتل. ومهما أمكن مراعاة ذلك، فلا ينتقل عنه إلا للضرورة؛ كعفو أحد الأولياء، أو شلل اليد، أو نقصان الأصابع. فتتحقق ضرورة تنقل إلى الدية، كما تنقل ضرورة التعدد لمثل ذوات الأمثال إلى القيمة. قال حنبلي: الوضع الشرعي، كما أنه حقق ما ذكرت، لم يحصل منحتماً انحتاماً يحقق القود، حتى شرعه مما يسقط بالشبهة في أصل الوضع؛ حتى لو رجع الشاهدان به، سقط القتل بعد أن كان واجباً في الظاهر؛ بخلاف وضع إيجاب الأموال. وبعد إيجابه وتحققه وسلامته من خلل الشبهة يسقط بالعفو. وسقوطه بالعفو مع الندب إلى العفو، بقوله: {وأن تعفوا أقرب للتقوى}. وهذا يزيل تحقق إيجاد القتل

شذرة [في الصيد هل يتضاعف الضمان فيه]

وانحتامه وتشريعه على وجهٍ تردد بين الإيجاب والإسقاط رأساً؛ لئن يسقط الحكمة في وضعه وتردده بين إيجاده وبين أخذ المال، أولى أن لا يخرجه عن الحكمة في وضعه، لما ذكرت أولاً. وأما تشبيهك له بذوات الأمثال، غلط. وقولك إنه لا ينتقل إلا لضرورة غلط أيضاً. لأنك قد كان يمكنك استيفاء ما وجدت من الإيضاح بمقدار الرأس الصغير، وإيجابك بحصة ما فات مالاً وأرشاً، كما يأخذ ما يجد من المثل في الطعام، ويعدل إلى قيمة ما فات. فلما أسقطت القصاص في الموجود من المحل المقدور عليه، ولم تدع الضرورة إلى ذلك، ولم يكن ذلك طاعناً في الوضع الشرعي والحكمة المقصودة، وهي الحياة، كذلك إيجاب أحد أمرين لا يكون كذلك. 239 - شذرة قال حنبلي في ضمان الصيد إذا قتله القارن: إن الصيد واحد، والضمان ضمان مال، فلا يتضاعف الضمان فيه. قال له حنفي: إذا جاز أن يكون ضمان مال، ويكبر بكبر النسك الذي يضمن لأجله، حتى إن إفساد الحج فيه بدنة، وفي العمرة شاة، جاز أن يتغلظ باجتماع إحرامين. قال الحنبلي: الصيد واحد، والمضمون له واحد، والمتلف واحد. فلم ثنينا الضمان؟

فصل آخر في المسألة

قال الحنفي: لنثني الحرمة التي فيه. وهذا كما غلظت الدية بالحرمات التي اجتمعت فيه من حرمة الإجرام والشهر الحرام والمحرمية. 240 - وجرى فصل تقابلا فيه؛ فقال الحنفي: حرمة القرآن حرمتان، فيجب أن تعطى في قتل الصيد كل واحدة حكمها. فقال الحنبلي: محرمة الحرم والإحرام لا يزيد باجتماعهما الضمان، وإن كانت كل واحدة حال الإقدار يضمن لأجلها الصيد ضماناً يخصها. قال الحنفي: حرمة الإحرام تابعة للإحرام. وأخذ يعظم شأن الإحرام بتحريم الطيب والترفهات. قابله الحنبلي فقال: بل حرمة الحرم آكد وأعظم، بدليل تحريم الشجر. قال الحنفي: الإحرام حرم الشعر الذي هو في جسد المحرم؛ كما حرم الحرم الشجر، وزاد الإحرام بتحريم الترفهات. ووطء الزوجة والأمة وطء في الملك، وحرمه الإحرام؛ ولم يحرم الاستمتاع في الحرم ولا الترفهات فيه بأن كونن حرمة البقعة تبعاً. وحرم قطع الشجر لكونه معاقل الصيد. وكان ينبغي أن يقرر على الحنفي أن حرمة الإحرام متبوعة، لا تابعة، في باب ضمان الإتلاف للصيد. لأن الله جعله حرماً وأمناً يعصم به الدماء

مسألة قتل المسلم بالذمي

المستحقة عندنا جميعاً. والإحرام لا يعصم سوى الصيد. وإذا كان في باب الأمر كذلك، لم يجعل تبعاً في عصمة الصيد. فأما المحظورات من الترفهات، فتلك حرمت كيلا يدعو إلى الوطء المفسد للحج. وذلك لا يتصور في الحرمة الحاصلة للبقعة. فأما حرمة الصيد، فإنهما جميعاً عاصمتان: الإحرام أمن، والحرم أمن للصيد. فلا ينبغي أن يتداخل الضمان على قولك. فإن تداخلا، تداخلا في باب الإحرام بتسكين. 241 - قال حنفي في مسألة قتل المسلم بالذمي، وقد أنجز الكلام فيها إلى فصل أن سبب الحقن فيها يختلف، فهذا أمان وهذا إيمان، فقال: لكنهما في الحقن سواء، وهو عصمة الدم المؤيدة. وتعليق الحكم على الحقن أولى من تعليقه على سبب الحقن. فإن الغرض الحقن، والسبب متطرق به إلى المقصود والغرض. وصار هذا بمثابة العلة، وعلة العلة. فإن الحكم يعزى إلى العلة التي هي إلى الغرض أقرب، وبالحكم ألصق. كالقتل عمداً هو علة إيجاب القود على المكافئ، وإن كان إيجاب القود حكماً يستند إلى القتل العمد. والقتل العمد أوجب لعلة هي الحكمة؛ وهي عصمة الدماء وإحياء النفوس. ويبين أن هذه الحكمة علة العلة أنه يحسن أن يقال للحاكم: ((لم يقتل هذا؟ )) فيقول: ((أقتله لأنه قتل

ولي هذا عمداً)). فيقال له: ((ولم إذا قتل عمداً يقتل؟ )) فيقول: ((لأن في قتل هذا قوداً حيث قتل عمداً حياة)). ويتلو الآية: {ولكم في القصاص حياة}. ثم لا يعلق إيجاب القتل قوداً على الحكمة، بل على القتل عمداً، وتعلق العلة على الحكمة. كذلك لا يغير التساوي ههنا الذي هو شرط القصاص إلى سبب الحقن، بل إلى الأقرب، وهو الحقن نفسه. قال الحنفي: ولأن إسناد هذا إلى سبب فاسد. لأن هذا لو كان صحيحاً، لوجب أن لا يقطع المسلم بسرقة ماله. لأنه كما يشترط لمساواة الدم والنفس سبب الحقن على ما قررت، يعتبر لكمال الحرز السبب العاصم للمال. ثم العاصم لمال الذمي في دار الإسلام إنما هو أمان وعهد إلى أن يجيء إلى الحرز الموضوع عرفاً. ثم إنك تركت اقترافهما في العاصم الأول. فإن مال المسلم انعصم بإيمان، ومال الذمي انعصم بعهد وأمان؛ لكنهما لما تساويا في الحرز الثاني، وهو المتواضع عرفاً لإحراز الأموال، قطعت المال بسرقة مال كل واحد منهما لاستوائهما في الحرز الثاني، وهو الذي وضع حرزاً للمال عرفاً، وألغيت اختلافهما في الإحراز الأول، والعاصم الأول وهو الإيمان في هذا، والأمان لهذا. كذلك، بحكم هذا التقرير، يجب عليك أن تلغي السبب الأول، وهو الحاقن الأول، وهو إيمان هذا وأمان هذا، وتعتبر في التساوي حقنهما المؤيد.

مسألة في الوقف هل يحتاج إلى حكم الحاكم بأنه إزالة ملك

قال: مع أن التساوي الذي حصل في الحقن يؤذن بحصول التساوي في الحاقن. لأن الحكم يتبع السبب. فإذا قررت وسلمت أن الذمي والمسلم قد تساوياً في الحقن، فهو إذعان منك أن السببين متساويين؛ إذ محال أن يوجب السببان المختلفان حكماً متفاوتاً أو مختلفاً. 242 - استدل حنبلي في الوقف، لا يحتاج إلى حكم الحاكم بأنه إزالة ملك، فلا يقف على حكم الحاكم؛ كسائر الإزالات. قال له حنفي فاضل قدم علينا: لا أسلم أنه إزالة؛ لأن الإزالة لا تكون بحسب شرطه، وتحتاج إلى رضا من يزول الملك إليه. ومحال دخول المال في ملك العين بإدخال العين؛ ولأن لفظه لفظ التحبيس، فلا يصلح للإزالة. قال الحنبلي: هو إزالة بدليل أنه لا تنصرف قيمته عند الإتلاف إليه. واللفظ يقتضي التمليك، وهو الصدقة المحبسة والمؤيدة. فهي صدقة على صفة. والتحبيس إنما هو بمعنى أنه حبس من صار إليه ووقف عليه عن إزالة الملك فيه والمعاوضة عليه. ولهذا قال النبي صلعم لعمر، لما قال له ((إني ملكت حائطاً)): ((حبس الأصل وسبل الثمرة)). وأما رضا من يوقف عليه، فليس يلزم؛ لأنني ما قلت ((انتقل الملك إلي)) ولا

قلت ((زال إلي)) وإنما قلت ((إزالة ملك)). وليس من ضرورة الإزالة أن تزول إلي؛ بدليل ما قال أبو حنيفة في البيع بشرط الخيار للمشتري دون البائع: يزيل ملك البائع إيجابه البات ولا يدخل في ملك المشتري لقبوله مع استيفاء الاستدراك. جواب آخر، قال: ولأنك إذا راعيت في انتقال الملك إلى الغير رضاه، فكيف تلغي قول المكلف في إخراج ملكه؟ بل يجب من حيث اعتبرت دخول الملك برضا من نقل إليه أن يكتفي بالإيجاب من المالك برضاه في إزالة ملكه. جواب آخر: إن الحاكم أيضاً غير، فكان يجب أن حكمه أيضاً لا ينقل؛ لأن حكم الحاكم تنفيذ لقول صالح للحكم الذي هو زوال الملك عن الرقبة. فأما إذا لم يكن صالحاً في نفسه للإزالة، لم يحصل بتنفيذ الحاكم إزالة؛ لأن التنفيذ والحكم يظهران ما في قوة الكلمة من الحكم. ألا ترى أن لفظ الإباحة والإعارة وغير ذلك، لما لم يكن في قوتها إزالة الملك، لم يزل الملك؟ فلو انضم إليها أي شيء انضم من حكم وغيره.

شذرة في الماء المزال به النجاسة

243 - شذرة في الماء المزال به النجاسة قال حنبلي: المنفصل عنه، وهو البلل الباقي في الثوب، طاهر. أبطله عليه حنفي بالمنزوح: فإنه نجس، والمنزوح منه طاهر. كذلك المذي ينفصل عن المني، لأنه جزؤه؛ وهو نجس، والمني طاهر. فبطل ما قلت. قال الحنبلي: إنما يكون ذلك في نزح ماء من نابع، وهو الآبار والعيون. ولا يتصور ذلك في ماء واقف أن يكون كله متغيراً، فينزح منه، ويبقى الباقي لا بصفته. لأن الصفة، وهي التغيير، إذا عمت الواقف، كان محالاً أن يزول التغيير بنزح بعضه. وإذا ثبت هذا، فالمنزوح لما استتبع المتغير وبقي الباقي غير متغير، علمنا أن المتغير زال. فإن بقي منه شيء، غلبه النابع بالمكاثرة. فالمكاثرة بالنابع ظهر فيما عساه بقي؛ والمنزوح هو النجس كله؛ وفارق الثوب. فإن الماء الذي نزل وقطر عنه يغض البلل الذي تخلف في الثوب، ومحال كون البعض طاهراً والبعض نجساً. قال الحنفي: فالإزالة لا يمكن إلا كذا. فعفونا عن البلل استحساناً. وأما المنفصل، فلا حاجة بنا إلى تطهيره.

قول القاضي أبي زيد الدبوسي في علة العلة وسبب السبب

قيل: بل الحاجة داعية في الأراضي إلى ذلك بمثل ما احتجنا إليه في الثوب. وهو أن البلل في الثوب حكم بطهارته، لأنه يشق اعتبار عصره، بل لا يمكن إخراجه عن الثوب بالكلية. وكذاك في الأرض؛ حاجتنا إلى تطهيرها يمنع من حكمنا بنجاسة المنفصل عن بعضها إلى بعض، وعن بقعة منها إلى بقعة. فنكون كأننا ما عملنا شيئاً؛ إذ طهرنا محلاً منها، ونجسنا محلاً آخر. فالعلة واحدة. 244 - قال القاضي أبو زيد: فأما علة العلة وسبب السبب فمثاله الشرى لذي الرحم. الشرى سبب للملك، والملك سبب للعتق؛ فصار العتق بواسطة الملك مضافاً إلى الشرى؛ فصار الشرى إعتاقاً. قال في المنقل: الحجر والعصا موضوعان لغير القتل. كما أن الحديد موضوع للقتل. فإذا صنع من الحديد إبرة، والإبرة لا تكون وضعاً منا للقتل بل للخياطة، لم يكن في قوى صنعتنا وفعلنا أن نخرجها عن وضع الأصل. حتى إنك أوجبت القتل بها عبرة بالوضع، لا بصنعتنا. فكذلك إن وجد القتل بالحجر، لم يوجب القود، تمسكاً بالوضع في الأصل، وتركاً لفعلنا. بل نحن أسعد؛ لأن القصاص تسقط بالشبهة، وغلبت الإيجاب

في الإبرة تغليباً لحكم الوضع الأصلي، دون الصناعة؛ فلئن نتعلق نحن بالأصل في وضع الحجر لغير القتل، فبسقط القتل أولى. قال: ولأنه لو قال ((لله علي أن أعتكف صائماً)) للزمه الصوم. وقوله ((صائماً)) صفة للشخص المعتكف، لا الاعتكاف. مثل قوله ((راكناً وقائماً)). ولو قال (قائماً وراكناً)) لم يلزم. لأنها حال الشخص، لا حال الاعتكاف. والالتزام إنما هو من الناذر التزام للعبادة التي هي الاعتكاف؛ فلا يلزم بصفة ترجع إلى الشخص. فلما لزم أن يوقعه صائماً، علمنا بأن الصوم شرط للاعتكاف أو صفة له. ألا ترى أنه إذا قال ((شهر كذا)) و (في المسجد الحرام)) و ((في بيت المقدس)) لزم، لكون المكان والشهر الحرام صفة للاعتكاف. ولما كان القيام والركون صفة للناذر لم يلزم الاعتكاف صائماً، علمنا أن الصوم صفة من صفات الاعتكاف اللازمة. إذ لا يلزم بالنذر إلا ما يتحقق تعبداً في الشرع. بدليل أصل النذر، لا يصح إلا فيما يكون متعبداً به شرعاً. وكذلك الأوصاف لا تلزم في النذر إلا بأن تكون واجبة فيه شرعاً. قال: وفي إسناد الحكم إلى علته وسائط كثيرة. معلوم أن الرمي يتوسط بينه وبين الإصابة الوتر والقوس والاعتماد، وخروجه من كون إلى كون، إلى أن ينتقل إلى محل الإصابة. لكن لما كانت الوسائط فيها مختارة، وإن كان حز رقبة الصيد وقتله حصل بعلة حد السهم واعتماده،

لكن جعلنا الحكم متعلقاً بعلة هذه العلة، وهو الرمي. فصار كأنه هو الذي حز رقبة المرمي، صيداً كان أو غيره. وعلى هذا أبداً يعلق الحكم على علة العلة، ما لم يكن تعليقها على ما يباشر الحكم من العلة. بخلاف القود يجب بالقتل عمداً وهو العلة، ولا يعلق حكمه على العلة، وهي قصد الحياة. لأنه ممكن تعليق الحكم على قتل العمد، لكونها صادرة عن مختار هو القاتل. بخلاف قطع السهم، ليس بمختار؛ فاحتجنا أن نلجئ الحكم إلى الرمي، لأنه من مختار. وعقد الباب في ذلك فقال: فأبداً نضيف إلى علة العلة إذا لم يكن تعليق الحكم على العلة؛ كالسفر علة المشقة، لأنه هو الموجب لها؛ والرخصة تتعلق بالمشقة، لكنا لما رأينا المشقة تتفاوت بنتفاوت الناس منعاً، ولا يتقدر، علقنا الرخصة على السفر الذي يتقدر ويتحقق. وكذاك المرض يوجب الخوف على النفس ويبيح الفطر؛ فعلقنا الإباحة للفطر على المرض، لأن الخوف لا يتحقق لنا علمه. غير أنا لما علمنا أنه سبب للخوف علقنا الحكم عليه، وهو الترخص بالإفطار. قال: وكذلك النوم يوجب النقض للطهارة، لا لكونه علة معنىً؛ لكن العلة معنى هي خروج الخارج بواسطة استطلاق الوكاء بالنوم. لكنا لما لم يكن لنا طريق إلى استطلاقه، علقنا النقض على النوم الذي تحققناه،

فصل [فيما ينبغي للمذاهب أن تنتصر به]

دون الخارج الذي لا نتحققه. لكن جعلنا تعليق النقض على النوم لغالب وجود علة النقض من طريق المعنى، وهو الخارج. قال: وكذلك الاستبراء، علته المعنوية هي كون الماء في الرحم بوطء السيد الأول، لا حدوث الملك. لكنا لما لم يمكن أن نقف على شغل الرحم، جعلنا حدوث الملك علة لإيجاب الاستبراء للرحم، كيلا تختلط المياه. فصار الملك علة حكماً، لا معنىً، وشغل الرحم علة معنىً. 245 - فصل إذا كانت المذاهب تنتصر بوصلة هي الدولة والكثرة، أو حشمة الإنعام، فلا عبرة بها. إنما المذهب ما نصره دليله؛ حتى إذا انكشف بوحدته ساذجاً من ناصر محتشم ومال مبذول، كان طاهراً بصورته في الصحة والسلامة من الدخل والاعتراضات؛ كالجوهر الذي لا يحتاج إلى صقالة وتزويق، والحسن الذي لا يحتاج إلى تحسين. ونعوذ بالله من مذهب لا ينتصر إلا بوصلة. فذاك الذي إذا زال ناصره أفلس الذاهب إليه من الانتصار بدليل، أو وضوح تعليل. والدين من خلص الدلالة من الدولة، والصحة من النصرة بالرجال، وقلما يعول في دينه على الرجال.

فصل [في الاسم والمسمى]

246 - فصل ما أكثر المدعين في الأسماء، والمتنطعين فيها، ويلهجون بها ويقولون ((الاسم هو هو))، أو ((غيره)) أو ((صفة له)) ولا يحققون القول. وتحقيق الكلام في هذا الباب أنهم إن كانوا يعنون بالأسماء قول القائل فما أبعد هذا! وهل عاقل يقول إن القول هو القائل؟ وقولنا الله هو الذات الأزلية، الخالق، الباري. وإنما القول التسمية. والقول لقائله؛ فإن كان كلام الله، كان قديماً، بما ثبت من قدم كلامه. وإن كان الاسم كلام آدمي، مثل تسميات المسميات، كانت محدثة، من حيث هي كلام محدث. وإنما يتكلم الناس في الاسم هل هو المسمى، ويخلطون التسمية بالاسم بالمسمى. فنقول: الأسماء، من حيث كونها كلاماً لله سح سمى بها نفسه، صفة لله، من حيث كونها كلامه. ثم هي منقسمة في معانيها التي تحتها على ثلاثة أقسام: منها ما يعبر به عن الذات؛ كذات، وشيء، وموجود. فهذا معناه الذات نفسها. وهذا مثل قولهم: الحد هو المحدود. فقولنا العلم [هو] معرفة المعلوم على ما هو به؛ فمعرفة المعلوم على ما هو به هي العلم. والحيوان الناطق المنتصب الضحاك البكاء هو الآدمي؛ والآدمي هو الحيوان الناطق الذي ينتظم ما ذكرنا من الأوصاف. ولا يمكن أن يدعى في قولنا ذات، وموجود، وشيء، أنه صفة ولا غير؛ لأن من قال ((الاسم

صفة ((للمسمى)) لو قال ((الذات صفة للذات)) كان قائلاً إن الشيء صفة لنفسه. ولو قال ((هو غيره)) لكان الشيء غيراً لنفسه. فالجميع لا يصح. لم يبق إلا أن الاسم الراجع إلى نفس الشيء هو الشيء؛ كما أن حد الشيء هو الشيء، والمحدود هو الحد. ولهذا حدوا الحد بأنه قول وخبر ينبئ عن حقيقة الشيء. وقال قوم حققوا القول: لا يكون حداً للشيء لكن عبارة عن الحد. لكن حد الشيء هو ما أثبت منه ذات وتركبت منه طبيعة. وقيل: ما تركبت منه طبيعة الشيء وأثبت منه ذاته. فخلافهم في الحد والمحدود نحو من خلافهم في الاسم والمسمى؛ إلا أن الحد أخص بالمحدود من الاسم بالمسمى، حيث كان الحد. فهذا حكم الاسم الراجع إلى الذات. فأما القسم الثاني من الأسماء، فاسم دال على صفة ومشتق منها؛ كعالم، وقادر، وحي، مشتق من علم، وقدرة، وحياة؛ أو من حال هو سح عليها، على قول من يثبت الأوصاف والأحوال. فهذا اسم صفة؛ إلا أن ((عالم)) لا يقال هو نفس العلم، بخلاف ما قلنا في الأول. لأن العالم اسم لمن وصفه العلم، أو من ثبت كونه عالماً. فهو اسم لحال هو عليها أو صفة هو عليها. فهذا يحسن أن يقال اسم صفة للمسمى. وأما القسم الثالث من الأسماء، فهو المشتق من فعل؛ كخالق، ورازق. فهذا اسم مشتق من فعل هو الخلق والرزق. وإلى هذا أشار أحمد

[في آيات الإضلال في كتاب الله]

رضه بقوله ((الله هو الله)) يخص هذا الاسم- والله أعلم- لكون اسماً لا مشتقاً من فعل ولا من صفة؛ بل هو اسم خاص. 247 - استدل بعض أصحاب الحديث علي بآيات الإضلال في كتاب الله سح. فأجابه شيخ معتزلي متقدم إليهم بالجانب الغربي يعرف بابن التبان في الكرخ بمجلس عقد ببعض دروبها، فقال: آيات الإضلال مطلقة؛ أعني التي استدللت بها. ولنا آيات مقيدة تقضي عليها. وحقق فصلاً مليحاً، فقال: قد سمعنا، كما سمعت، آي الإضلال المطلق، وآي الإضلال المقيد. وأنا أتلو بعضها. وسمعنا كما سمعت آي التوبيخ والتعنيف والزجر والتهديد والنهي والذم على من أعرض وضل عن الهدى. ولاشك عندي وعندك في أن كلام الله سح وتع لا يتناقض. فلابد لي ولك من تخليص أنفسنا عن القول بتناقض كتاب الله بضرب من الجمع بأدلة الجمع. إما أن تكون دلالة الجمع في قوة اللفظ ومعاني الآي، أو في سياقها قبلها أو بعدها، أو تكون بعضها شاهداً لبعض بمعنىً يستخرجه العلم؛ فتوجبه اللغة أو دلالة العقل. ووجدنا أنه قال- عز وجل: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين}. ثم وصف الفاسقين {الذين ينقضون

مسألة الزيادة في دين الرهن هل تلحق به

عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض}. ولو لم تكن شواهد الآية، لكفى العاقل عذراً؛ لأنه سح لما كرر ذكر الإضلال في كتابه، تبين بنفيه الإضلال عن كل أحد إلا من كانت هذه صفته. فثبت أن الإضلال نوع جزاء ومقابلة إلى أن يجيء تبين ما الإضلال. ولا يجوز أن يكون المراد به الإضلال عن الهدى، وهو قد بين أنه أصل الهدى؛ وهو الكتاب الذي سماه نوراً وضياءً وهدى. لم يبق إلا أنهم ضلوا به وفيه. وسماه إضلالاً ... هذا لو لم يكن إلا هذه الآية. فكيف وهناك آيات كثيرة، مثل قوله {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة}؟ 248 - استدل حنبلي في أن الزيادة في دين الرهن لا تلحق به. فقال: إن الرهن اشتغل بالحق، وبكل جزء منه؛ حيث تناوله العقد، وتناول كل جزء منه. والشغل يمنع من فراغ محل يتعلق عليه الحبس الثاني. فصار محل العقد الثاني منعدماً بالعقد الأول. قال له حنفي ناصراً لمذهب أبي يوسف: الشغل لا يمنع الشغل، وإن كان مستوعباً؛ كتعلق الجناية على الرهن، وهو إذا كان عبداً فجنى بعد رهنه، والجناية على الجناية، وإن كان محبوساً بالأولى. ولأنه، إن

كان محبوساً بالأولى، إلا أنه يتسع كما أنه يصح أن يرهنه بدرهم في الأول. ثم يصح أن يرهنه بعشرة. وهذا يدل على أنه يتسع في الثاني. ألا ترى أن في الحسيات لما كان المحل لا يتسع إلا لحجر واحد، أو لجوهر واحد، لا يصح أن يقبل حجرين وجوهرين. فلما قبل في الأول عشرة، كما قبل واحداً في عقد وحد، كذلك جاز أن يقبل الحبس بدرهم بعد درهم. ألا ترى أن المحل الذي يضيق عن جسم مخصوص، والمكان الذي لا يتسع إلا لدرهم من طريق الحس، لا يتسع في الحال لدرهم ولا في الثاني. قال: ولأنك ما تنكر على من قال لك إن العقد الثاني أوجب تفريغاً ليقبل الشغل بالدين الثاني، وهو إن صار فسخاً. وهذا قولنا في الزيادة في الثمن إنها أوجبت فسخاً للعقد الأول، وانعقد بها عقد ثان. قال الحنبلي: الشغل يمنع الشغل حساً وحكماً. وذلك أن الشغل هو استيعاب المحل بحكم الحبس هنا، وبالملك في البيع، وبالكتابة في المكاتب، وبالحل في النكاح، إلى أمثال ذلك من أحكام العقود المعلقة على الأعيان في الحسن. إذا امتلأ محل بجسم امتنع أن يحله جسم آخر. لأن المكان مشغول، والجسم لا يدخل على الجسم. وعلة ذلك أن المداخلة إنما هي دخول الجسم في بعد خالٍ؛ والجسم ليس بخالٍ، وإن كان بعداً؛ والملأ لا يملأ، كما أن الفراغ لا يفرغ؛ لكن الملأ يفرغ، والبعد الفارغ يمتلئ.

وأما الجناية فتتعلق برقبة الجاني حكماً، وهي أقوى مما يتعلق بالمحل عقداً. فصار حق الجناية في قوته كالحجر. والرهن بمثابة الهواء، ولو ملى الزق هواءً لم يمنع دخول الحجر لتخلخل الهواء أو اصطكاك الحجر. قيل: إلا أن الحجر لا يدخل على المحل المملوء بالهواء إلا ويخرج هواء يحل محله. وإلا فليس يداخل الحجر الهواء، ولا يداخل الهواء الحجر. وهنا لما طرأت الجناية من المرهون، لم يخرج العبد عن شغله بحق الرهن ودينه، بل كان على ما هو عليه من الشغل؛ وتعلق حق الجناية به، فاشتغل شغلاً ثانياً. ولأنه لو كانت العلة ما ذكرت من ضعف حق الرهن وقوة الجناية، لوجب أن لا يصح طروء حق جناية على جناية؛ كما لا يصح في الحسيات، ودخول حجر على محل قد اشتغل بحجر لتساويهما. فلما صح دخول شغل على شغل مع تساويهما في القوة، وهو شغل العبد الجاني بجناية طارئة، بطل ما ذكرت. قال الحنبلي: والعقد الأول ثبت لرمزية السبق وشغل المحل وطروء العقد الثاني. وهو مساوي العقد الأول لفظاً ومعنىً؛ إن لم يوجب شغلاً لا يوجب تفريغاً، وإن أوجب شغلاً فلا فراغ؛ فيقبل الشغل بما قررت. وإن قلت إنه يوجب تفريغاً، فيجب أن يوجب تفريغ جميع المحل، ويصير محبوساً بالثاني. لأنه كما كان المرهون في الأول قبل العقد فارغاً،

قبل الاشتغال كله لما طرأ عقد الحبس عليه. فإذا كان جمعه بالرهن الأول مشغولاً، وجاء العقد الثاني، وهو صالح للتفريغ، كان يجب أن يفرغ جميعه حيث كان الشغل عاماً لجميعه. قال الحنبلي: ولأن لفظ الرهن عقد صالح للاشتغال بالحبس. هذا هو الوضع بأصل الشرع واللغة. ولا يجوز إخراجه عن وصفه إلى الفسخ والتفريغ الذي هو ضد الشغل. ومن ادعى ذلك فعليه الدليل. قال الحنفي في أثناء كلامه: ولأن هذا كما قلت في الزيادة في الصداق، فإنه يكون فسخاً لعقد الصداق الأول. قال الحنبلي: أنا أقول إن عقد النكاح لحقت فيه زيادة الصداق. ولأن المهر جعل تحلة، لا عوضاً حقيقة. وإنما كان تحلة لنص القرآن وتحته معنى التحلة. لأن الزوجين تساوياً في الانتفاع؛ والحل بكل واحد منهما حل لصاحبه. يدل على ذلك تسوية القرآن بينهما {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} فصار العوض من قبل الزوج زيادة للمرأة على انتفاعها واستمتاعها؛ فكان تحلة لها. وتنصفه قبل الدخول بالطلاق تعليل التحلة بحسب ما حصل في حقها من البذلة. وهي في الجملة تحلة يقابلها ما ليس بمال.

فصل جرى في مسألة شرى الكافر العبد المسلم

249 - فصل جرى في مسألة شرى الكافر العبد المسلم قال حنفي: الكافر أهل للإيجاب، والعبد أهل للتملك [لأ] جل المالية التي فيه. والقابل أهل للقبول والاستيجاب. ولا وجه لمنع صحة العقد. إلا ان الذل الداخل ببذله الاستخدام منعنا منه بمنع الاستدامة. قال له حنبلي: الأهلية منوطة بالإضافة؛ كما يمتنع لمعنى يرجع إلى نفس العين الموصوفة بالأهلية. بدليل أن الخمر ليست مالاً في حق المسلم، وكانت عندك مالاً للكافر بحكم الإضافة. والصيد ليس بمال في حق المحرم؛ وإن كان مالاً في حق المحل، وفي نفسه، لكنا جعلنا عقد المحرم عليه. وعقد المسلم على الخمر كعقد المجنون، ليس بأهل للعقد. كذلك جاز أن يجعل هذا. قال: وأجود من هذا التحقيق أني أقول بأنه أهل لدوام الملك. والعبد المسلم فيه مالية تصلح لدوام الملك، وأهلية لدوام الملك. ثم انتصب الصغار والذل بابتذالة مانعة من الاستدامة في محل هو أهل لدوام ملكه في حق شخص هو أهل أن يدوم ملكه. جاز أن يكون في الابتداء كذلك. وأما تعويلك على أن الذل يحصل بالاستخدام الحاصل بالدوام، غلط. بل صورة الاستخدام وحقيقته مع عدم الملك لا يمنع منها بأن يكون المسلم

أجيراً للكافر. وأما الملك نفسه وصحة العقد الذي يترتب عليه ملكه هو الإذلال. وذلك أن الرق أصله إذلال وصغار؛ ولهذا لا يثبت إلا إثر الكفر. فيكون عقوبة في البالغ، محنةً وابتلاءً في الطفل؛ إما له في نفسه، أو لأبويه. والتملك بنقل الملك فيه إذلال؛ لأن نقل الملك فيه يوجب ذلاً بالمساومة، وبصفقات الأسواق، وانتقال الأيدي واختلافها عليه. ولهذا لما كان الاستمتاع ذلاً، كان نفس عقد النكاح ذلاً؛ وكان العقد آكد من الدوام. لأنه قد يدوم العقد على المسلمة، ما دامت في عدتها، إذا كان إسلامها تحت الكافر ويمنع من ابتداء العقد لحظة. قال الحنفي: ملك الكافر للعبد المسلم بخلاف الخمر والصيد في حق المسلم والمحرم. بدليل أنه لا يملك بيع الصيد لما لم يملك قبوله، ولا يملك بيع الخمر لما لم يملك قبوله. وهنا يملك البيع للعبد المسلم. ولأنه لو كان نفس الملك ذلاً، لما ثبت بحكم الشرع، وهو الإرث. ولما ثبت بحكم الشرع بطل أن يكون ذلاً. لأن الشرع لا يحكم بإذلال الكافر للمسلم. فلما لم يمنع من ابتداء الملك بالإرث ومنع الاستدامة دل على ما ذكرنا من أن الذل إنما هو في الاستدامة دون الابتداء.

وجرى فيها فصل تملك الأب على الدوام

250 - وجرى فيها فصل تملك الأب على الدوام فقال الحنفي: الدليل على أن الذل إنما هو الدوام، لا نفس الملك، أن شرف الأبوة لم يمنع تملك الابن لأبيه؛ ولكن منع من دوامه، بحيث أنه حكم الشرع بملكه له، وزوال ملكه عقيب تملكه. قال الحنبلي: ذلك شراء موضوع للعتق، لا للإذلال؛ فهو يخرجه به من الذل. قال له الحنفي: هذا نفس إلزامي. لأنه إذا كان شراء الأب صحيحاً، ولا يملك الدوام، علم أن الملك نفسه ليس بذل. وإنما صار ليس بذل لأنه لا يدوم. ومعنى قولك إنه عتق، وإنه وضع للعتق، بمعنى أنه ملك وضع على وجه لا يدوم، فانتفى عنه الذل لعدم الدوام. قال الحنبلي: لا بل لأنه يعتق، وعندك هنا يباع. قال الحنفي: فالبيع لا يمنع منه عندك في حق الكافر للعبد المسلم؛ بل يجوز عندك. فهو كعتق الأب عقيب الملك. قال الحنفي: ولأنك قد قررت أن نفس التملك ذل، فكيف يذل أباه وهو لحظة؟ بل لا يجوز أن يذله لحظة، ولو أعزه بها أبداً، ولو أفضت إلى عز الأبد. ألا ترى أنه لو كان أبوه عبداً لرجل فقال السيد ((إن صفعت أباك عبدي فهو حر)) فإنه لا يحل للابن أن يصفع أباه ليعتق

مسألة الأمر هل يقتضي الإرادة

بوجود الشرط، لما كان الشرط إذلالاً واستقلالاً لأبيه. فلو كان التملك ذلاً، لكان ممنوعاً منه في حق أبيه. كما منع من إيجاد شرط يعتق عقيبه أبوه، إذا كان الشرط في نفسه ذلاً وإن كان مفضياً إلى عز. 251 - استدل شافعي في مسألة الأمر، وأنه لا يقتضي الإرادة، بإن قال القائل ((أمرت ولم أرد)) لم يعد مناقضاً؛ ولو كان من متقضاها ذلك، لعد مناقضاً؛ كما إذا قال ((أردت ولم أرد)) أو ((أمرت ولم آمر)). قال له حنبلي معترضاً لمن خالف فيها: هذا يلزم عليه الإيجاب على أصلك. فإنه يحسن أن يقول ((أمرت ولم أوجب)) وإن كان مقتضى الأمر المطلق الإيجاب. قال الشافعي: الأمر عندي يقتضي الإيجاب. والندب تحته. فإذا نفى الإيجاب نفى أمراً ندب في أحد الوجهين. لأن عندي في أحد الوجهين أن المندوب مأمور به. قال الحنبلي: قد بطلت الطريقة بما ذكرنا. وعذرك أطم من الأول. لأن الندب إذا كان أمراً، وهو أقل أحوال الأمر، حملك للفطة الأمر مع الإطلاق على أعلى مقتضاها إقدام على غير متحقق. لأن الإطلاق مما له محتملان، أعلى وأدنى، يجب أن يحمل على الأدنى منهما. كالإقرار

شذرة في الزيادة في الثمن

بعدد مبهم بأن يقول له ((علي دراهم)) فإنه يحمل عند تعذر التفسير بموت المقر على ثلاثة، وهي أقل الأعداد. ولأن الندب، إذا كان أمراً، فلا يخلو أن يكون الإيجاب حقيقة. وهو مجاز لما فيه من نوع استدعاء؛ أو يكون الأمر صيغة تقتضي استدعاء تبين، كالأسماء المشتركة. فإن كان كالأول، فإنه مصروف مجازاً؛ فلا يقال بأنه أمر حقيقة. وليس هذا مذهبك؛ بل في العموم والندب يكون بعد التخصيص حقيقة. فما بقي على خلاف في الباقي. ويكون حقيقة في الندب بعد الصرف إليه. ولا يجوز أن يكون من الأسماء المشتركة، لأنه كان يجب مع الإطلاق أن يقف. كما قال غيرك أنها تقتضي الوقف، كما لو قال: يتربصن بأنفسهن ثلاثة، فرووا: لم تترجح القروء في الطهر على الحيض. 252 - شذرة في الزيادة في الثمن قال حنفي: تلحق بأن قول المكلفين وتراضيهما لا يلغى مهما أمكن. ومن ضرورة تنفيذ قولهما أن تجعل الزيادة فاسخة للعقد الأول؛ ثم تلحق الزيادة بالثمن، وينعقد العقد حكماً على الزيادة والمزيد. قال له حنبلي: فقولنا الأول يجب أن يتأكد بحكم أنه السابق، وقد انبرم. فتنفيذ الثاني لفسخه لا وجه له، سيما واللفظ غير صالح

فصل تذاكرنا به في بعض المجالس وأن الإفراط في الاحتياط تضييع في الحقيقة عقلا وفقها وعادة

للفسخ لأنه ليس بإقالة، وإنما هو إلحاق. وما دعواك في أن الزيادة في ثمن البيع تقتضي الفسخ إلا لدعواك أن الزيادة في العبادة تقتضي الفسخ. وليس في اللفظين جميعاً صلاحية للرفع والإزالة. وإنما فيهما إثبات. إلا أن الشرع قبل الإثبات بلفظة؛ لأنه ما دامت النبوة باقية فالشريعة للزيادات والرفع قابلة. فأما البيع، فبعد انبرامه لا يجوز أن يفسخ إلا بلفظ صالح للفسخ. فإن راعيت قول المتعاقدين وتراضيهما في الثاني لينفذه فسخاً، فراع قولهما في العقد وتراضيهما بحيث لا يجيئك فيه ما يفسخه، سيما بقول لا يصلح ولم يوضع للفسخ. 253 - فصل تذاكرنا به في بعض المجالس وأن الإفراط في الاحتياط تضييع في الحقيقة عقلاً وفقهاً وعادةً أما [في] العقل، فإن الإنسان إذا دقق في تحري الاحتياط، كثر شكه واستشعاره في الناس؛ ففاتته الأرباح في التجارات، والنصرة في الحروب. لأن الإقدام على الذمم، وبيع النسيئة، والأسفار، أسباب لمصادفة الأرباح الجمة. ومن تجعد واستشعر الجنايات في المداينات، والغرق في البحر، وقطع الطريق على الظهر، قلت نهضاته، فوقفت تجاراته، ففاتته الأرباح.

من استشعر في الحرب من قلة العدو، كميناً وراء الصف، وأعداداً ممدة للعدو في الحرب، فاته باستشعاره اختلاس الفرصة في النكاية في العدو مع القلة؛ فصار عليه كميناً من نفسه)). وأما في الفقه، فمن أودع وديعة في صندوق فقفله بقفلين، فقال بعض أصحاب الشافعي: يضمنه بالسرق. لأنه لما أكد الإحراز، أوهم نفاسة المحرز وعظم قيمته. لأن اللص يعلم أنه لا يزاد الإحراز إلا على الأنفس. فيكون إغراءً له بالأخذ من القافل بزيادة قفل. وأما في العادة والحس، فإن الحزام، إذا شد يده على بعض الحزمات الأخيرة، استرخت التي قبلها؛ لأن المحزوم يلطف. وقد قالت العامة: ((شدة الشد يرخي)). وهذا كلام سخيف اللفظ خطير المعنى، أتيت به أنا في صورة حسنة، وهي قولي: ((الإفراط في الاحتياط تضييع)). وذلك أن الوصية للمحارب بالتحرز من خصمه وبيان فضله في الحرب يوجب إيقاظاً له؛ لكنه إذا أكثر، أوجب جوراً في الطبع. فإن النفس، كما أنها قد تغلب بترك التحرز، قد تقدم مع الجهالة بحال الخصم، وتجبن عند

التعريف. ولو لم تعلم ذلك حكماء العرب، لما انتسبت عند البراز واللقاء. ولاشك أنها لم تقصد إلا إضعاف قلوب المبارزين. فإن الإنسان، إذا عرف الصور المبارزة، [استولى عليه] الانخذال والاسترسال، واستشعر الهزيمة لما يلحظ من أيام المنتسب ووقعاته، وما تقدم له من سوابق الغلبة. ومن ذلك ما يفعله العقلاء من تهوين بعض الأمور. فإنما يقصدون فيها الوسط، لا الغاية والإفراط. كتأخرهم لقفز النهر. فإنه كما يتهيأ للقفز من جانب النهر حتى يفسح وراءه للتحمي، كذلك لا ينبغي أن يبعد حتى يفزع نفسه ويقطع قلبه عن الإقدام. لأن الإنسان، كما أنه يحتاج أن يتهيب ليحترز، يحتاج أن لا يفرط فينقطع. وتخليص الاعتدال والمقاومة طب العقل. وما أصعب هذا الأمر عند من خبر تغالب الأشياء وتقاومها، وانتهى كل شيء إلى ضده! وما أحسن ما بين الحق سح سلوك الوسط بقوله {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً} فهو الذي ركب في الطباع الغالب، وجعل بينها واسطة تنهى عن الإسراف والإضاعة والبخل والإمساك، وهو الشرع المؤدب والعقل المجرب سح وتع. ومن فهم هذا الفصل من كلام النبي عم أيضاً كما فهمه من الآية علم أن الأدلة متناصرة. قال النبي صلع: صادق صديقك هوناً ما، عسى أن يكون عدوك يوماً ما؛ وعاد عدوك هوناً ما، عسى أن يكون صديقك يوماً ما.

فصل [في ذم الدنيا ومدحها]

254 - فصل إن ذممت الدنيا بالغرور، فهلا مدحتها بما وعظت به من تصاريفها على مر الدهور. والله لقد تكشفت عن معايب توجب الزهد فيها، كما أبرزت عن محاسن توجب الرغبة فيها. 255 - قال النبي صلع: من استنجى من ريح فليس منا. 256 - ذكر بعض المحققين أن الريح الخارجة من السبيلين لا ينفك عن خروج خارج من نجاسة المعدة. قال: ومذهب الرافضة في نجاستها مذهب لا بأس به. لأن الخارج من السبيل إنما هو بخار؛ لأنه هواء يتبعه إنداء من المعدة. وكل هواء خرج من محل فيه رطوبة وحرارة، فلابد أن يكون بخاراً رطباً. والبخار الرطب هو أجزاء مائية ترقى به أجزاء نارية، فترتفع في الهواء. وتبين البخارية فيه بانعكاسه على الأجسام الصقيلة إنداءً؛ وما حتى أن يعود فيقطر. بخلاف الدخان الذي يترقى جسماً يابساً رمادياً في أجسام هوائية، فيستحيل رماداً يابساً، وهو الدخان الذي ينعقد في سقوف الأياوين وكل موقد. ورأينا بأن الريح الخارجة من

السبيل من محل يكون الخارج منه والمترقي بخاراً لا رماداً ولا هواءً محضاً، فذلك الأجزاء الرطبة بمجالسه لطيفة خارجة من المعدة. وكل رطوبة خرجت من المعدة من هذا المحل نجسة وإن قلت. 257 - شذرات في تملك الكافر العبد المسلم. قررها بعض الحنفية، فقال: لو كان ممنوعاً من الشرى، لمنع من الإيجاب والبيع؛ كما منع من تزويج المسلمة حيث منع من تزويجها، فلا يكون ولياً لها في عقد النكاح ولا زوجاً قابلاً. وكان يجب أن لا يرث المسلم؛ وتمنع حرمة الإسلام من تمليكه بالإرث، حيث منع من تملكه بالقبول. قال له حنبلي: الإيجاب إزالة للصغار عنه، كما يقطع به الاستدامة عندك. وهي صغار يزيل به الملك عندنا. ولا يزال عنه صغار الدوام بأن يعتق عليه. كذلك لا يمنع من الإيجاب عندي. وأما التملك فهو بالقبول منسوب إليه واستدعاءً منه. فهو إذلال مخالف للإيجاب في بيعه والإرث له من موروثه. فإنه دخل حكماً لا استدعاءً. قال الحنفي: فهذا باطل على أصل أحمد بتملك الحربي مال المسلم. فإنه وإن كان تملكاً للمال، لكن على سبيل القهر والاستطالة والاغتنام. قال الحنبلي: ذاك جانب من مسألتنا، لأنهما في تملك المال سواء.

مسألة حادثة [في غدير فيه كلب ميت هل يكون نجسا]

وربما كان الحربي آكد. ولهذا يستديم ملك الأموال؛ ولا تكون استدامته لتملك المال بالقهر إذلالاً. ويسقط ضمان ما أتلف من النفوس عفواً عنه وتركاً للاعتراض عليه فيما كان حال الحراب. إنما نسأله بالرجوع إلى الإسلام والدخول فيه. 258 - مسألة حادثة قال: غدير فيه كلب ميت؛ أيغتسل ويتوضأ منه؟ قيل- وبالله التوفيق: إن كان قليلاً، فلا. وكذلك إن كان متغيراً، فلا. وإن كان سليماً من القلة والتغير، لكنه أكثر من قلتين، فإن شئت فاغتسل فيه أو منه؛ وإن كان فوق القلتين، فاغتسل فيه بلا تفصيل وتوضأ فيه بلا تفصيل. فأما منه، فلا ترفع الماء أوزاعاً، فينقص بما رفعت منه أولاً ويبقى الباقي نجساً، لكن خذ ما يكفيك ضربة واحدة. 259 - شذرة في قتل المكره قال حنبلي: لما خير هذا بين أمرين- قيل له ((إن لم تقتل قتلناك)) _ ختار إحياء نفسه بقتل غيره. وهذا اختيار ترجيح. وإذا تعقب القتل

اختيار القتل وتعلق عليه المأثم، فقد اجتمعت موجبات القود في حقه. قال له حنفي: إذا كان هذا اختياراً، فهلا وقع طلاقه وبيعه وردته؟ لأن القابل للطلاق مختاراً يطلق زوجته. فإذا لم ينفذ طلاقه ولا بيعه لأجل الإكراه، بطل ما اعتمدت عليه من الاختيار. وإذا كان اختياره بهذا القدر من الحكم بحيث أنه لا ينفذ معه الطلاق المبني على التغلب والسراية، كيف تحصل به العمدية المحضة التي توجب القود الذي مبناه على السقوط والدرء بالشبهة؟ ولأن صورة القتل التي وجدت منه باختيار كلا اختيار؛ لأنه محمول على الفعل. فصار بمثابة رمي رجل بحية على رجل، فقتلته. فإن صورة القتل وجدت بنهش الحية، وللحية اختيار؛ لأن كل حي إنما يقع فعله باختيار؛ لكن اختيارها، لما كان مقصراً، جعلت صورة القتل كأنها وجدت من الرامي بها على المنهوش. كذلك صورة القتل هنا مثله، ولا فرق. وأما المأثم، فإنه بحسب إيثار توقية نفسه. فهو بمثابة رجل رمى إلى رجل سهماً، وبقربه صبي؛ فرأى أنه [إن] ترك السهم ولم يتلفه بالصبي، أصابه فقتله لا محالة؛ فأخذ الطفل، واتقى به السهم، فقتله، فإنه يأثم، وإن كان القاتل إنما هو رامي السهم لا

[مسألة الطهارة هل تفتقر إلى النية]

المتقي. لكن الرامي يأثم مأثم القتل، والمتقي يأثم بإثم الاتقاء عن نفسه. كذلك هذا وقى نفسه بنفس المقتول. 260 - استدل حنفي في أن الطهارة لا تفتقر إلى النية بأن الله سح خلق الماء على صفة الطهورية. قال له شافعي: لا أسلم أنه بصفة الطهورية، بل حكم الطهورية؛ والحكم يحصل بعلته؛ وعلته لا أعلم أنها قد حصلت. قال الحنفي: إن الله سح يقول {وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به}. وقوله ((يطهر)) إضافة لفعل التطهير إليه. فلا يحتاج إلى نية في حصول ما عزي إليه من التطهير. قال حنبلي مذنباً على الشافعي: إن الله سح وتع، كما جعل الماء طهوراً، جعل التراب طهوراً، ومروره على الأعضاء لم يوجب طهارة إلا بشرط هو النية. قال الحنفي: لا أسلم، على قول بعض أصحابنا. قال الحنبلي: ولأن كونه طهوراً إنما هو آلة للتطهير فقط. فأما أن يكون مطهراً بنفسه، فلا معنى في اللفظ يدل عليه. قال الحنفي: المحل يقبل التطهير. والماء مطهر. وما وراء ذلك لا يحتاج إليه في حصول التطهير؛ كما أنه لما كان مروياً؛ حساً ولا

فصل [في العارف المتبذل في الله]

يحتاج إلى شيء في حصول الري، ولما كان الخبز مشبعاً، كذلك فلما وصفه الباري بصفة الطهورية، والمحل يقبلها، فلا وجه لتأخير حصول التطهير مع مروره على بدن المتطهر. 261 - فصل ما أعجب شأن العارف، وأعجب شأن الخلق معه! تبذل التجار منهم في طلب الأرباح وتعبئة الأموال، ولم يعابوا، وتبذل المحبون والعشاق والمتيمون في محبة الأشخاص، ولم يلاموا؛ وتبذل قوم في محبة الخيل والطيور والصيد، ولم يعابوا؛ تبذل قوم في عبادة بارئهم، فكير اللوام والعذال، واستهجنت منهم الأحوال والأقوال؛ وقيل فيهم كل مقول، ونسبوا إلى كل عظيم من الخطأ ومهول، وقيل ((مالهم عقول)). ومعلوم أن المتبذل في الله لا يلام عقلاً، لأنه ليس فوق إنعامه إنعام، ولا على إحسانه إحسان؛ نعمة تنهال، وبره لم يزل ولا يزال؛ يمدح على القيل وهو المعطي، ويرضى باليسير وهو الموفي. إنكم لفي قول مختلف. لا أرى لك ثبات قدم على ندم، ولا وجود، ولا موجود. ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت. فارجع وأنب واستغفر وتب؛ فقد رحل إخوانك سابقين، وبقيت أنت مع المتخلفين!

[مسألة المسح على الخفين]

262 - ذكر القاضي أبو زيد في كتاب الأسرار الكبير: قال أبو حنيفة في أخبار المسح على الخفين: هي سنة قريبة من التواتر، حتى قال أبو يوسف يجوز نسخ القرآن بمثل أخبار المسح. وقال القاضي أبو زيد: مشقة خلع الخف آكد من مشقة غسل الرأس. ثم غسل الرأس سقط تخفيفًا إلى المسح، كذلك غسل الرجل. وقال أيضًا: ||الشريعة جعلت الخف بدلًا من الرجل في سراية الحدث إليه. قال: ولم تسقط المسح غسلًا واجبًا بحال؟ حتى إنه إذا أحدث وهو متخفف، فالحدث ما تعدى عن الخف، بل حل حال اللبس كما تحل الرجال حال انكشافها. وهذه دعوى منه لا بد من دليل يرجحها على قول من قال: إن الحدث في الرجل، لكن مسح الخف يسري إلى رفع حدثها. وترجيحها على ما يقع أن الحدث أبدًا يسري و ... 263 - وذكر القاضي أبو زيد في مسألة نية الطهارة فصلًا جيدًا فقال: إن الله سح جعل الماء طهورًا، كما قال سح: {وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا}. والطهور اسم لما يحصل به الطهارة؛ فإذا أصاب الأعضاء النجسة طهرها،

لأنه حكمه بخلق الله سح. ولا يتبدل بقصده وعدم قصده. كما إذا شرب روي، قصد أو لم يقصد؛ وكما يطهر عن النجاسة الحقيقية، قصد أو لم يقصد؛ وكما يطهر عن النجاسة الحقيقية، قصد أو لم يقصد؛ وكما يحصل في الجائع شبع بأكل الطعام، قصد أو لو يقصد. قال: فإن قيل: نعم، هذا مستقيم في المشاهدات؛ فأما في الحكميات، فلا. لأن الأحكام تثبت شرعًا وتنتفي شرعًا. ألا ترى أنكم إذا قلتم ((إن الخل يزيل النجاسة ولا يزيل الحدث)) عللتم بأن الحدث أمر شرعي لا قياسي؟ قيل في الجواب عن هذا: إن ثبوت طهارة النجس باستعمال الطهورية أمر حقيقي؛ كحصول الري بشربه، وكما في نجاسة ترى. قال: فإن قيل: عضو المحدث ليس بنجس، وإنما هو حكم غير معقول؛ قيل في الجواب عنه: هو في حكم النجس عرفًا وشرعًا؛ لأن حكم النجاسة في حق صلاة مانعة عنها يزول بالماء، وهذا الحكم ثابت بالحدث. ولما ثبت، صار الزوال إلى الطهارة بالماء حكمًا بطبع الماء الطهور. فإن الخل طهور لا لعينه. فإن الله تع لم يمسه طهورًا لعينه، بل لمعناه، وهو إزالة عين النجاسة. ولم يثبت ذلك بعضو المحدث. ||قال: وهذا سر المسألة وموضع مزل القدم. قال: فإن قيل: في الوضوء مسح، والمسح

مذاكرة في المفاضلة بين غلامين خدما سيدهما كان أحدهما متهافتا والآخر متماسكا

غير مطهر بنفسه، قيل: الماء مطهر بنفسه، لأنه يغسلها؛ إلا أنه إذا قل حتى لم يكن شيئًا ضعف عن التطهر للنجاسة الحقيقية، لأن تطهيرها إزالة عينها؛ وفيما نحن فيه النجاسة ضعيفة، لأنه حكم دون العين، فاستغنى عن الإزالة. فصار البلل كالماء الذي يقدر على الإزالة في إفادة الطهر. 264 - تذاكرنا في بعض مجالس الفضلاء في شأن غلام بلغ من خدمة سيد كان يخدمه جهده. ثم وقع سيده في ورطة. وكان يتهافت ويخاطر في محبته وخدمته بنفسه وماله وولده، ولا يتستر ولا يراقب. وآخر من غلمانه كان يخدمه ويتعهده في شدته وحال طلب السلطان له. غير أنه كان يتستر ويتصاون، ولا يظهر ما يفعله. ثم إن السيد زالت عنه الشدة، وعادت إليه النعمة. أيهما ينبغي أن يزيد في إكرامه: المتهافت، أم المتماسك؟ [فقلت: المتماسك] لأنه أنبأ تماسكه في الخدمة عن عقل وحكمة، حيث أكرم غيره، وحفظ نفسه. وهذا القول اختياري. والحكمة والعقل يوجبان إكرامًا بحسبهما. وقال غيري: ينبغي أن يكرم المتهافت، ويزيده إكرامًا على المتماسك. وعلل من نصر هذه الطريقة بأن تهافته أنبأ عن إفراط محبته، وحصل في طي ذلك المخاطرة بنفسه. ومن خاطر بعصمته في حقه وجب له بحسب ما بذل.

فبينما نحن كذلك إذ دخل الموضع حشوي جاهل. فحكينا له ما جرى بعد أن سأل ((فيم أنتم؟ )) فقال: عندي غير ذلك. فقلنا: أفدنا. فقال: اتركوا الناس مع الله فإنهما جميعًا فضوليان، الذي تهافت والذي تماسك. والله المنعم بما يشاء، المانع ما يشاء، يقضي الآجال وقت ما يشاء. ||فطلب المفاضلة فيما أدخلا أنفسهما فيه طلب باطل. إذ لا فضل فيما فعلاه جميعًا. فدهشنا من كلامه. وسكتوا؛ فبادرت أنا لأعلمه مقداره من الحمق، لئلا يظن أنه قال شيئًا، ولئلا يغتر بكلامه بعض الحاضرين ممن يناسب عقله فيوهمه كلامه أنه صالح أن يعد جوابًا ثالثًا: فقلت: يا شيخ! هذا كلام من يسقط الخطاب الشرعي والحكم العقلي، ويرى أن الأمر سدى؛ ولا عقل يرجح به بين فضل الفاضل ونقص الناقص؛ ولا حقيقة يميزها العقل بفضل أو نقص. فما أشبه أن تكون مسفسطًا! وإلا فأين الرأي عن أبي بكر وتركه لنبي الله مع الله، لا يحرسه، ولا يحوطه، ولا يهاجر، ولا يدخل معه الغار، ولا يسد كوة الحريش برجله معه، ولا يذب عنه؟ وأين هذا الرأي عن الأنبياء حيث بلغوا وألحوا، وطالت مدة بلاغهم؟ وأين الله سح عن هذه الحكمة حيث أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وحذر وأنذر، ونهى وأمر، وفضل السابقين بالإنفاق والقتال على الذين لحقوا

في ذلك بمن تقدمهم فيه حيث يقول: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا}؟ وقدم العقلاء أهل الفضل والتفضل، وأخر أهل التقصير والتعطل. وهلا تركتنا مع الله في حالنا، ولم تسل عما كنا فيه؟ ولعل كلامك في هذا فضول، وأنت فيه منقوص مفضول. فسكت هنية، وقال: ما قرأت من الهندسة شيئًا! فضحك الجماعة به، وتفرقنا لرقاعته عن المجلس، لئلا ينقطع بما لا ينفع. وقلت لما نهضنا: سبحان من لا يخلي مجلسًا من ثقيل ينغصه، أو أحمق يفسده، أو محتشم يقبض أهله عن الانبساط! فقال لي قائل كان طيب: ((المجالس عندك على الحقيقة ما هي؟ )) قلت: ((هي المجالس الجامعة للعقلاء المتحابين المتناصفين؛ حتى إذا جرت مذاكرة، أو حدثت حادثة، لم يشبها ضغينة فتفسد، ولا تحاسد فتخرج عن التحقيق وتبعد. وإنما اعتبرت العقل لأنه أداة التمييز؛ ||وإنما اعتبرت التحاب لأنه يزيل العنت والعناد، فخرج الكلام صافيًا.)) قالوا: ((فهل وجدت ذلك قط، أم تقوله بالاستدلال دون الوجدان؟ )) قلت: لا يجوز أن يصح هذا في الدنيا، لأنها دار الشوائب والنوائب.

وتذاكرنا يوما آخر ملازمة أهل الميت لقبره

وإنما هي أمنية لأمر لا يستحيل كونه. وما كان أحق بذلك أهل العلم الذين يتطلبون الحقائق ويرومون رضا الخالق! 265 - وتذاكرنا يومًا آخر ملازمة أهل الميت لقبره فقلت أنا عذرًا لهم: إنهم أحباب فارقوا بمعانٍ، وهي الأرواح والأخلاق والنطق والحس. ولم يبق عندنا منهم أثر سوى الصور التي في الحفر. ولو أمكن تركها على وجه الأرض لتركت؛ ولكنها منعت بسوء الرائحة والاستحالات الجثثية. فأودعت في الترب، وبه حفظت. والذي بلغ إليه الجهد والطاقة والوسع ملازمة تلك الوهاد، التي تضمنت تلك الأجساد، من الأسلاف والأولاد. ولا عيب على عاقل ألف كلاً، ففاته معظم ذلك الكل، ووجد بعضه، فلزم ما وجد لعجزه عما فقد؛ ولم يترك ما قدر على وصاله وقربه، لما عجز عن وصله ببعده. وكيف لا يعذر من تمسك ببقعة تضمنت قالب الروح وهيكل النفس، وهو وطن لتلك الجوهرة العجيبة والنكتة الغريبة؟ ومعلوم تمسك النفس بآثار الظاعنين، كالديار والجدار. وقد شببت الشعراء في أشعارها بآثار القدور والأحواض وتخاطيط البيوت ومراتع النعم. وما ذلك إلا لوجد في النفس وشغف في القلب بآثار المألوفين. ومن أنكر ما اصطلح عليه العقلاء، فقد قال النكر وأبدع في القول.

فأما مذهبي أنا الملازمة لباب من أخذ المألوف مني وسلبني، وهو الذي أعطاني في الأول ووهبني، ملازمًة أطلب منه فيها جمع ما شت من الشمل، ووصل ما قطع من الحبل، تعويلًا على وعد ... السلام|| الجامعة لشمل أهل الإسلام. وأقول، بدلًا من تعداد المعددين على القبور، ما يسلي قلبي ويروح روحي: سيدي! لا أعرف بولدي أو والدي سواك. من عندك جاء وإليك رجع. وفيما بين وهبته وسلبته قد ألفته وألفني وأنست به وأنت آنستني. وأنا أعلم قدرتك على الإعادة حسبما ابتدأت. فبعزتك ألا سكنت نيران شوقي إليه بجمعي وإياه على ما كنا من طيب العيش! فطالما كنا نتذاكر الثقة بوعدك حتى تركنا كثيرًا من نقود العيش، ونتذاكر وعيدك حتى خفنا فهجرنا ملذوذ الطبع. فيا كامل الحكمة! بلغنا آمالنا فيك! ويا كامل القدرة! أعدنا إعادةً تظفرنا فيها بما رجوناه من فضلك! وها أنا على بابك أيها الكريم أقتضيك بما لا يعزب عنك، ولا غناء لي عنه. فلا تخيب قصدي في وعدي، ولا قصد سعيي في عقدي. واحفظ لي عندك روح هذا المفقود الذي كنت بالأنس معه على أكمل لذة وأتم نعمة. وها هو اليوم

فصل تذكير [في أن تعظيم الله ليس في كثرة الأذكار باللسان بل يحسن الاستجابة والامتثال]

رهين هذه الحفرة، وأنا في أثره. فلا أزال أطالبك بما أتيني من أدوات الطلب حتى تنفذ أو تقف بي على المطلب. يا ملك الدنيا والآخرة! ارحم هذه الأعظم الناخرة. يا حنان، يا منان! يا من منّ بالإيجاد قبل الإشاقة بالوعد! من بالإعادة، فقد شوقتنا إلى البعث. 266 - فصل تذكير من كان عبقًا بالأذكار بحيث إن عطس قال ((الحمد لله))، وإن مات له ميت قال ((إنا لله، )) وإن قدم بين يديه طعام ليأكل قال ((بسم الله، )) وإن أخبر فلم يصدق قال ((أقسم بالله، )) وإن عرضت له حاجة قال ((يارب، )) وإن مسه الضر نادى، وإن أظلم عليه الليل ناجى، لا يكون في الأفعال كذا، [بل] عن الأوامر متخلف، وبالنواهي كلف شغف، ومع الرسم لا يقف. المؤذن ينادي إلى الصلاة وأنت معرض؛ وحول الزكاة قد حال وأنت في وجه الفقير معبس، وللزكاة غير مخرج. وإن اتجه نحوك حق، كنت بالتأويل مسقطًا. وما هذه حال من صدرت|| تلك الأقوال عنه بحقيقة وجد، لكن باستعارة لفظ. وهذا لا يعمل مع الله عملًا، لأنه كالتملق؛ وذلك إنما ينفق على من لا يعول إلا على الظاهر. وهو بالعكس في حق الباري؛ لأنه لا ينظر إلا إلى المقاصد والسرائر. الظواهر عنده صور منحبطة

إن لم تصدر عن مقاصد صافية خالصة. ألم تسمعه يقول: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}؟ من يسمعك عبق اللسان بذكره في القسم والدعاء والأكل والشرب وعند الحاجة وعند كل حركة وسكنة يحسبك محبًا أو متخصصًا؛ فإذا خبرك في باب التكليف عرفك. ليس تعظيم الله كثرة اذكاره باللسان. إنما التعظيم لله سح بحسن الاستجابة والامتثال. ليس تعظيم شعائر الله أن تسمن البدن للهدايا والنحر بمنا؛ تعظيم شعائر الله أن تحك البدن في خلوة، فتخاف بحك الموضع قطع شعرة، فتحكه بباطن كفك. نعم، وتكون أفعالك متناسبة. من يحترم لله في الإحرام بحيث لا يشفي نفسه من حك جسده، لا يشتفي من أخيه المسلم حال غضبه، ولا يشفي النفس من محظورات الشرع في الخلوة. حرمة الاحترام آكد من حرمة الإحرام. من هجر المحيط في الإجرام لا يلبس إذا رجع إلى بيته لباس الفجور والآثام: الابريسم المحض، أو الثوب الغصب، أو المبتاع بالمال الغصب. الباري موجود بكل معنى وبكل حال. ولا تخصص حشمته ومواقيته ببعض الأماكن والأحوال. من يلصق جبهته بالأرض في القبلة، ويقبل حجرًا في الله، ويعدو حول بيته من غير أن يظهر له في ذلك حكمة وعلة،

مسألة لبن الميتة هل هو طاهر

لا يتعجرف على الحاكم إذا دعاه إلى استخلاص حق عبد الله، ولا يجور سنة في أهواء نفسه مع مخالفة الله. هذه أفعال مصانع أو صانع. وإلا فالإخلاص يوجب تسوية الأحوال في حق العمال. إذا نظرت إلى حقائق التكليف، عرفت أنه كلفك ضد ما تميل [إليه] الطباع بالكلية. استعبد عقلك بالتسليم والتحكيم فيما تحتك عندك فيه الشبه || المعترضة، ليخضع العقل له بكونه عبدًا حكمه خالقه وكلفه الاستدلال عليه بآثار صنعته. وكلف [النفوس] الرقة والرأفة أن تذبح الحيوان وتتقرب إليه بإزهاق النفوس في أجل؛ فكلفها الرقة في بعض الحيوان الذي اطمأنت على اصطياده في كل مكان. وكلف الأعضاء الخضوع والسجود والكف عما تميل إليه عبثًا وتناولًا وكمشًا. وأعد للطاعة أوفى جزاء وأسبغ عطاء. 267 - استدل حنفي على طهارة لبن الميتة بأنه لاقى نجاسة معفوًا عنها، وهي نجاسة الباطن. وقد قال الله سح وتع {من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين}. فأجاب حنبلي بأن نجاسة الباطن معفو عنها ما دامت باطنة بمعنى

فصل في مسألة الأمر

تصح الصلاة فيها محمولة. فأما أن تحكم بطهارة ما لا فيها وانفصل. فكلا؛ بدليل المخ في العظم. والآية لا حجة فيها للطهارة. لأنها خرجت مخرج التمدح بالقدرة على إخراج اللبن توكيدًا من بين مستقذرين مستجنبين. ولهذا قال {سائغًا للشاربين}، ولم يعرض لذكر الطهارة والتمدح بالفضل، كما قال {يخرج الحي من الميت}، وكما قال {يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل}. وإلا فالتمدح بالحكم والوضع الشرعي فلا وجه له؛ لأنه ليس بمعجز في حقنا أن نقول، إذا لم يعترضنا معترض: ((هذا نجس، وهذا طاهر.)) 268 - فصل في مسألة الأمر قال حنبلي: إن العرب وضعت الأسماء للأعيان، ووضعت الملفوظات للأفعال. فكما وضعت للأسد والبعير والحمار أسامي هي حقائق فيها مستعارة لما يوجد فيه بعض معانيها، كذلك وضعت للإخبار ((زيد في الدار، )) وللأمر ((ادخل || الدار، )) وللنهي ((لا تدخل الدار.)) والوضع بنفسه كاف عن القرائن في باب الأسماء، وهي الأوضاع على الأعيان؛ كذلك في أوضاع الأفعال. قال: ولأنا رأينا شيوخ العرب تحسن عقوبة من توقف عن لفظة الاستدعاء من سيده، فعلمنا أن الاستدعاء موضوع للأمر من غير قرينة.

قال أشعري: هذا إثبات اللغة بالقياس؛ وذلك لا يجوز. وأما السيد من العرب، إذا قال لعبده، فهناك قرينة دلت على أنه استدعاء، وهي حاجة الحي إلى ما يستدعيه. ومتى خلا من حاجة كان غير معلوم أمرًا، على ما بينا. وكلامنا في الصيغة المتجردة. قال الحنبلي: ليس هذا قياسًا؛ لكنه استقراء لكلام العرب وأوضاعها. والاستقراء ليس بقياس؛ لكنه استدلال بلغة العرب. والقياس هو وضع اسم لمعنىً عدم نص اللغة فيه، ووجد معنىً يضمها على غيره فيه. ولهذا من استقرأ أوامر النبي فرآها متبعة بمعنى، فعلم أن ذلك مقتضاها، لا يكون قائسًا. بيانه لو قال النبي صلع لرجل ((صل)) فقام وكبر وقرأ وركع وسجد، والنبي عم يراه ويقره، علمنا أن الصلاة هي ما فعل، لا الدعاء الموضوع في اللغة. كذلك لما رأينا أهل اللغة ضربوا العبد وحسنوا ضربه عند امتناعه من طاعة السيد فيما استدعاه منه، علمنا أن الاستدعاء هو ما وجد من اللفظ خاصة. وأما قولك إن الحاجة قرينة، فلا استدعاء في حق حكيم عاقل إلا لحاجة إذًا، فاستحال تجرد الصيغة عن قرينة. ولأن أوامر الله سح، إن عريت عن حاجة منه سح لاستحالة الحاجة عليه، فما عريت عن حاجة عباده إلى طاعته لما يؤول إليه من إثابتهم ونفعهم بذلك. وما أحوجهم إلى بقاء الأبد في نعيم لا ينفد، فكان ذلك قرينة؛ فما يخلو الاستدعاء من قرينة تفيد || فائدة. وكيف لا، والباري تمدح بأن أفعاله لا تتعطل عن الفوائد، حتى {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلًا}.

شذرة [في الزكاة المعجلة إلى المسكين إذا ارتد أو مات أو استغنى من غيرها قبل الحول هل يحصل الإجزاء]

وقال: {عبثًا}. والعبث والباطل ما خلا عن فائدة للفاعل أو لغيره. والباري منزه عن الفوائد لنفسه؛ لأنه الغني الذي لا تتصور عليه الحاجة. لكن خلقه يحتاجون إلى فوائده. فاستحال خلو الاستدعاء عن قرينة؛ فوجب أن يستحيل مذهبك، وهو القول بالوقف. 269 - شذرة قال حنبلي في الزكاة المعجلة إلى المسكين إذا ارتد أو مات أو استغنى من غيرها قبل الحول: معلوم أن القصد من الدفع إغناء الفقير. فإذا حصل المقصود وجب أن يحصل الإجزاء؛ كما لو استغنى بها وبأرباحها. ولا يكون مانعًا من وقوع الفرض؛ لأنه من المحال أن يمنع المقصود حصول المقصود. قال حنبلي معترضًا عليه لأصحاب الشافعي وناصرًا لقولهم: فرق بين أن يحصل الغناء بها وبين حصول الغناء بغيرها. بدليل أن نقصان النصاب في حق الغني، إذا كان بالمخرج، لم يمنع وقوع المعجل موقعه. ولو كان بتلف بعض المال وبغير المخرج في الجملة، كان مانعًا. فإذا افترق الحال بين نقصان المال بما قدمه وعجله، وبين نقصانه بغيره، جاز أن يفترق الحال بين غناء الفقير بها وبين غنائه بغيرها.

فصل آخر في المسألة

270 - وجرى في المسألة من الحنبلي المستدل فيها أن قال: أليس لو قدم عتق العبد في الكفارة وهو مسلم -أعني العبد -حين العتق، ثم ارتد قبل حنث المكفر، أو قبل موت المخروج، وبعد خرج الخارج له، فإنه لا يمنع ردته في الثاني وقوع العتق عن التكفير؟ كذلك ههنا. قيل له: العتق إتلاف للرق. وما أتلف في العبادة لا يسترجع! بخلاف المخرج ههنا؛ فإنه نقل، وهو على حكم الملك عندك. بخلاف ما قال أبو حنيفة؛ فإن عنده ليس على حكم الملك. ولهذا اعتبر أبو حنيفة أن يكون المعجل غير منقص للنصاب. ولم تعتبر || ذلك، بل قلت يجوز تعجيل ما ينقص به النصاب عند حؤول الحول. وإذا كان على حكم الملك، جاز أن يرجع فيه عند فوات الشرط، بدليل ما لو عجل الأرش؛ وهذا أشبه. فإنه لو عجل أرش السن أو ضوء العين، فعادت السن ونبتت وعاد ضوء العين، رجع فيه؛ كذلك ههنا؛ لأنه أخذه بحكم الظاهر، وهنا أخذه بحكم الظاهر أخذا غير قاطع لملك الدافع بالكلية. 271 - شذرة في الكلب للماء الطاهر من الإبدال إنها تساوي المبدلات؛ لأنها جعلت سادة تسدها. والموازنة من الشرع في البدلية لا تخطئ المماثلة. فإن تعذرت المماثلة، أبدلها بخير بنوع زيادة؛ كإعداد الإبل في الدية لما عدمت المماثلة وتعذرت بكون القتل

غير صالح لإيجاب القصاص. وخبر التيمم عندهم بالنية، وعندنا بالتعيين؛ وخبر الكتابة بدلالة حال أو نية. 272 - شذرة في الأمر هل يدل على الوجوب أو يقتضيه قال معتزلي في بعض مجالس النظر: ليس في قوة اللفظة إلا الاستدعاء. ومعنى الإيجاب هو استحقاق الذم والعقاب بالترك، واستحقاق الإثابة بالطاعة والامتثال. ولو كان ذلك من مقتضى اللفظة، لوجب أن لا يصح نقلها من الأعلى إلى الأدنى. ومعلوم أن الأدنى يأتي بالصيغة، فيكون سؤالاً للأعلى. ولو كان مقتضاها ما ذكرتم، لما صح نقلها رأسًا، وكان متى أتى بها الأدنى استهجنت واستحال معناها. فكانت تصير بمثابة قول الأدنى والواحد من الرعية الحاكي من ولاية حكم الأعلى: ((حكمت عليك، )) و ((فرضت، )) و ((أوجبت، )) و ((ألزمتك.)) فإنه لما كانت قوة اللفظة الإلزام والحتم والحكم، وفيها استدعاء، لا جرم لم نقل، إذا جاء بها الأدنى، ((كانت في حقه سؤالاً واستدعاءً خاليًا من إلزام وانحبط الإلزام منها؛ )) بل نقول ((يكون لغوا من الكلام.)) وكذلك إذا نقلت ألفاظ المدحة من عالم وشريف وجليل وحكيم ||إلى سفيه وضيع، استحالت عن وضعها وصارت مجانة وهزؤًا. فلما جئنا إلى هذه اللفظة، وكانت من الأدنى استدعاء أيضًا على صفة، هو السؤال، ومن النائب استدعاءً على صفة، علم أنه

ليس في قواها الإيجاب، لكن في قواها الاستدعاء. ألا ترى أنه لما لم يكن في معناها ومقتضاها الترك ولا الكف، لا جرم إذا نقلت بدلالة الحال إلى المهدد والمعجز، صارت زجرًا عن الفعل في حقه، فاستحالت إلى ضدها. قال له مجيب حنبلي من أهل العلم بالأصول: أنا لا أقول إن في قوة اللفظة وجوب العقاب على المخالفة. لكن ذاك حكم يترتب على كونها تقتضي الاستدعاء الحتم. فلما نقلت إلى الدني الرتبة، وليس في قوة حاله وتسلطه أن يحتم أمره واستدعاءه على سلطانه وأبيه وسيده، كانت اللفظة بمقتضاها الأول في الوضع، وهو الاستدعاء خاصة دون الإيجاب، وانحبط الإيجاب لمكان عدم الرتبة. قال المعتزلي: الله أكبر! فهذا الكلام منك شاهد عليك بأن الصيغة في أصل وضعها للاستدعاء والإيجاب زائد من زوائدها الصالح لها بدلالة وقرينة هي غيرها. قال: وأنا أوضح ذلك. وهو أن السامع إذا سمع هذه الصيغة من وراء جدار، ولا شاهد حال من لفظ ولا قرينة ولا علم، لم يدر أسؤال هي أم أمر، أو تهديد، أو تعجيز. فإنه يحملها على ظاهر محتملاتها من الاستدعاء. ولا يوجب ذلك توقفه بإجماع منا جميعًا؛ خلاف الأشاعرة. وأما الإيجاب، فأمر زائد على الاستدعاء؛ فعلم أنه لا يثبت بمجرد الصيغة، لكن بدلالة.

قال له الحنبلي: من حيث حملت الصيغة على الأمر مع احتمالها السؤال، وهو أقل ما يحتمله من رتب الاستدعاء، جاز أن تحمل على الإيجاب دون الندب، وإن كان الإيجاب أعلى محتمليها. قال المعتزلي: ||هذا كلام من يظنني أقول بأني أحكم على الصيغة التي أسمعها من شخص من وراء جدار بأنها أمر. كلا؛ بل تقتضي الاستدعاء؛ إذ لا علم لي بالرتبة. والرتبة من شروط كونها أمرًا. قال: وإنما أقول إنني، بعد علمي بأنها أمر بالرتبة، لا أحملها على الإيجاب إلا بدلالة. قال له الحنبلي: فإذا عدمت العلم بالرتبة لعدم شاهد حال، أو قرينة من لفظ، لم حكمت بكونها استدعاء ومعلوم أنها مستعملة بنفسها في ضده، وهو الزجر؟ قال المعتزلي: هذا لا ينفعل. لأنا أجمعنا على فساد ذلك، وأنه لا تقتضيه اللفظة، لكن القرينة تخرجه إلى الضد بدلالة. فأما كون الأمر أمرًا لا بد فيه من الرتبة ليتحقق أمرًا، فإذا تحقق أمرًا، لم نعلمه أمرًا على صفة زائدة، وهو الحتم، إلا بقرينة تدل؛ ومع الإطلاق لا قرينة. قال الحنبلي على أصل القاعدة: الاستدعاء المطلق يقتضي إيجاب المستدعى. وذلك لا يحصل إلا باستدعاء على صفة هو الحتم والإيجاب.

قال له المعتزلي: ولم قلت ذلك، وما أنكرت على من قال إن الندب والحث يكفي في اقتضاء إيجاب المستدعى؟ قال له الحنبلي: لو كفى ذاك في الأمر لكفى التنزيه في النهي، ولم يحتج إلى الحتم وإيجاب الترك. ولم نقل إن التنزيه والكراهة كافية في كف المكلف، فنحمله على أقل محتمليه؛ كذلك لا نقول الندب كافٍ في استدعاء المأمور به، ولا نحمله على الإيجاب. قال الحنبلي: وأما وصف السفيه بالحكمة والجاهل بالعلم يكون استهزاء ويستحيل؛ لأن اللفظ موضوع للمدحة، لكن لا بد من محل صالح يعلق عليه. فصار مع عدم المحلية مستحيلاً إلى التهزؤ؛ كوزانه من مسألتنا قول الباري لنا: {كونوا حجارةً أو حديدًا}، {لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون}، {ذق إنك أنت العزيز الحكيم}. هذا تعجيز، لا استدعاء؛ وهو بصيغة الاستدعاء. وإنما صار تعجيزًا لاستحالة معنى الاستدعاء ||من المحل. جئنا إلى مسألتنا. معلوم أن الصيغة صالحة للاستدعاء إيجابًا إذا كانت من الأعلى للأدنى. والأدنى صالح أن يوجب عليه الأعلى. فإذا نقلناها إلى الأدنى وعلقناها على الأعلى فهي استدعاء. لكن المحل لا يصلح لإيجاب من هو دونه عليه. فحملناها على استدعاء على صفة يكون الأعلى مخيرًا

شذرة في الأمر هل يدل على الوجوب أو يقتضيه

بين إجابته وبين تركه. فأعطينا اللفظة حقها، وأعطينا اللافظ بها والمستدعى منه حقه. فإن كان أهلاً أن يوجب أوجبنا، وإلا لم نوجب. ولا يدل ذلك على أن الإيجاب من زوائد معاني اللفظة، لكن من مقتضاها الذي يحتاج إلى محل؛ كما أن أصل الصيغة هي استدعاء، ولا يتحقق أمرًا إلا بالرتبة. ولا نقول نحن، ولا أنت، إن الرتبة قرينة جعلت اللفظة بعد أن لم تكن أمرًا أمرًا، بل قلنا هي شرط لكون الصيغة أمرًا. كذلك إذا علقت على الأعلى كانت سؤالاً، لا أنها خرجت بالقرينة عن موضوعها فاستحالت سؤالاً. 273 - فصل وعظي من معنى المسألة أنت أبدًا تنسى نفسك وقدرك عند كلامك في الله واعتراضك عليه. ولو ذكرت مقدارك بالإضافة إليه، تكلمت كلامًا صغيرًا بحسبك، ولا تتكلم كبارًا بقول ((لم)) و ((كيف))، و ((لو صنع هذا لكان أحسن وأتقن، )) و ((لو قال كذا لكان أفصح.)) العامة تقول: ((لعن الله صبيًا أكبر من أبيه.)) ولكن ما أوقع اللعن في حق عبد أكبر من سيده، ومخلوق يتكبر على خالقه، ومحكم يتحاكم على محكمه! ما بلغ علمك إلى الحد الذي يزري على علوم الشرع، وتدابير هذا الرب سح. ولكن هذا كله وأمثاله دخل من باب جهلك بنفسك. ولو علمت مقدارك لعلمت مقدار

فصل وعظي من معنى المسألة

صانعك، إما تعظيمًا لنفسك، فعظم من صنعها، أو استزراءً بها، فلا تتحاكم على محكمها. فأنت في ||كلا الحلين معظمًا لنفسك أو مقللاً لها. لا ينبغي أن تبدر منك بادرة اعتراض عليه ولا تحكم؛ لكن يجب عليك بحكم الصيغة أن تسلم لأفعاله وتحكم حكمته. 274 - || فصل عجبي ممن ينتحل نحلة الإسلام، ويزعم أنه على دين محمد صلعم، وهو يعلم محل الصديق من الدين، وتأثيره في الإسلام، بالسبق إلى التصديق والإنفاق بالهجرة والنصرة وما أيد به هذه الملة، حتى عجز الأهل عن مقامه وتقاعدوا عن إقدامه، ثم إنه يقدم عليه شخصًا أو يفضل عليه أحدًا. ما هو -والله -إلا الزندقة التي أوجبت بغض من اختبر هذا الأمر. ومحال محبة شخص أو ملة مع التقاصر بمقيمهما وناصرهما. ما أثر -والله -بغضه أو تنقصه إلا بغض ما قام به. ولا معيار التدين عندي إلا نحل ذلك الشيخ الكريم والشخص النبيل العظيم. وما أثق من نفسي بخلة ربما كانت منجية لي إلا تعظيمه وتوقيره؛ ولا قويت -والله -منتي في أمر ديني وأنست إلى معجزات نبي عم إلا حيث كان مثل ذلك الشيخ

فصل [في تعظيم أبي بكر الصديق وتوقيره]

ناظرًا لي. وكفاني به ناظرًا ومعتبرًا ومنتقدًا. فهو -والله -لي أكثر من نظري وعيني. 275 - فصل من أعظم الذنوب وأقبحها أن تغر أخاك بفعل، حتى إذا فعله عدت بفعله ذامًا ومعيرًا. وهذا عقوبته من الله عظيمة، ومقابلته سريعة. لأن الله سح جعلك أهدى إلى الخير والشر بقوة الرأي. فصرفت القوة التي هي نعمة الله عليك إلى إغواء أخيك وغروره؛ حتى إذا وقع في ورطته، واستحكمت مصيبته بما دلست عليه من أمر، زدته بالمعيرة بلاء. والله مطلع، وهو المعطي السالب. ومن أحد عقوباته استرجاع نعمته وتركك تتعثر في أمورك وتتخبط عشواء في آرائك. فالله الله في أذية عباده! فإنه بالمرصاد. 276 - ||فصل سيدي! قد تدبرت الخلق فما رأيت منهم إلا صانعًا أو مصانعًا. ورأيت جل غرضهم وأكبر همهم الدنيا. وكل منهم قد اعتمد على ذخيرة. فهذا يذخر العقار، وهذا يذخر العقار؛ فهذا يقتني الدرهم والدينار، وهذا يذخر معارف الرجال. ورأيت كلاً منهم عند الموت يفزع إلى اسمك

وتوحيدك والتعلق بأذيال عفوك. فرأيتهم بعين الإفلاس من الرأي، حيث لم يقدموا من أمرهم ما أخروا، وتعجلوا من التعلق بك ما أجلوا. فكنت، إذا فرح الناس بموجودهم منك وعنوا بما آتيتهم من لدنك، غنيًا بوجودك، معولاً على شهودك، مذخرًا لك في شدائدي، معولاً عليك في أوابدي. فما خاب قط أملي فيك، ولا رجائي في لطفك؛ بل وجدتك في شدائد الدنيا آخذًا بضبعي؛ إن عثرت أنعشت، وإن افتقرت أغنيت وإن سقمت عافيت وشفيت، وإن تشردت آويت، وإن عطشت أرويت، وإن جعت أطعمت، وإن ضللت هديت. فأنبأني عنك عاجل أمري، وحدثتني آمالي فيك عن تواني أحوالي معك. فها أنا لا أرجو سواك، ولا آمل غيرك، ولا تعبد أطماعي أحدًا من خلقك. وطالما عبدت لأنني كنت بصورة من استقرئ طرق الطلب حتى وجدت، وأنحت عن طريق سليم إليك حتى ظفرت، ولم أجد ذلك إلا في خبري بخلقك وأنهم مفاليس من كل ضر ونفع. ومع ذلك فأنا أستغفر الله من وقوفي معهم حال تصفحي لأحوالهم، وأنا أشهد ان لا إله إلا الله من شركي حال الاعتماد عليهم اختبارًا لهم، وأقطع زنانير الإضافات إليهم.

فصل في المندوب

277 - فصل في المندوب 1. استدل حنبلي ناصرًا لمذهب الكرخي والرازي، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وأنه ليس بأمر، وإنما يتجوز به في الأمر، فقال: خصيصة الأمر في حق من يعتقد ||أن مقتضاه الوجوب استحقاق الذم والعقوبة على مخالفته وتسمية التارك عاصيًا. ومحال أن تزول الخصيصة وتبقى حقيقة الاسم. قال له حنبلي ينصر مذهب أحمد: ما أنكرت على من قال بأن الوجوب غايته وأن الأمر مستقل بما تحته ودونه. كالعموم يقتضي استغراق الجنس بالكلية، ويبقى عمومًا وإن أخرج منه ما يخرج. قال المستدل: فقد بان بكلامك هذا أن الأمر يستقل بالندب مع حذف الإيجاب عنه وإسقاطه منه. وهذا متى حققته على نفسك، أوجبت عليك أن لا تجعل مطلق الأمر يقتضيه. لإنه قد بان أنه صفة زائدة على كونه أمرًا. ولو كان زائدًا، لاحتاج في أصل ثبوته إلى قرينة. كالجودة والبياض في الدراهم، لما كان صفة زائدة على المقدار في عشرة دراهم، احتاج إلى أن يقول ((عشرة نقية أو بيضاء.)) فتكون الدراهم جملة تلزم بقوله ((عشرة، )) والصفة فيها من البياض والنقاء تثبت بالقرينة، ومع الإطلاق لا يقتضي إلا ما فسرته من القدر إذا لم يكن قرينة من لفظ ولا عرف، كنقد بلد

أو غيره. فإذا زالت الصفة بقرينة، لم يختل من اسم الجملة شيء. فإذا زال درهم، اختل اسم العشرة. فلما كان الوجوب مقتضى إطلاق هذه الصيغة من غير قرينة، علم أنه ليس من زوائدها. وإذا لم يكن من زوائدها، فمحال أن تخرج عن كونها موجبة إلى كونها نادبة إلا وتختل عن الاسم، فتخرج عن أن تكون أمرًا حقيقة. إذ لو كان الوجوب من زوائدها التي تزول وهي بحالها حقيقة في الأمر، لكان يثبت بإطلاقها الندب؛ إذ هو حقيقة أمر. وفارق العموم، لأن الصيغة الصالحة لجميع الجنس ابتداءً تصلح لبعض الجنس في الابتداء، فجاز أن تبقى على بعض الجنس في الانتهاء. وليس بموضوع حقيقة بجماعة مخصوصة. ولهذا يحسن أن يقال ((من عندك، )) و ((من)) من حروف العموم، فتقول ((عندي زيد وعمرو)) ويكون جوابا صحيحًا. قال الآخر: العموم لازم لك إذا سلمته. فإنه لا يقع في ||الابتداء من غير قرينة إلا على العموم والشمول في جميع الجنس. وإذا أزالت القرينة بعضه، بقي في بعض من الجملة. وما هو تحت الجملة كمال حقيقة. ولا يكون ما انتقص منه جاعلاً فيما بقي مجازًا، وإن كان قد أخرج التخصيص ما كان به شاملاً لكل جنس وبقاه على بعض الجملة. والبعض تحت الكل، كما أن الندب تحت الإيجاب.

فصل [في تفسير آية قرآنية]

278 - فصل قال الله سح وتع: {واجعلوا بيوتكم قبلةً}، قبلة جهة للطاعات ومستقبلاً لله سح في العبادات. ومن كان مأمورًا أن يجعل بيته قبلة، وهو موضع الغفلة ومناخ البطالة، أولى أن يعقل عن الله أن يجعل مواطن العبادات محترمة عن تبديلها بأمور الدنيا. وأرى أهل زماننا جعلوا مساجدهم متاجر وأشواقًا، وجعلوا بيوتهم قبورًا. 279 - شذرة في الأمر إذا صرف عن الوجوب إلى الندب قال أصولي ينصر مذهب من بقاه على كونه أمرًا: معلوم أن صيغة الأمر تقتضي الثواب على الفعل والعقوبة على الترك. فإذا زال بالقرينة استحقاق الذم والعقاب بالترك، بقي كونه يقتضي الإثابة. فبقي على بعض ما اقتضاه. وذلك لا يمنع كونه حقيقة فيما بقي. كالعموم يقتضي، في قوله {اقتلوا المشركين}، مثلاً ما، قتل الكتابيين والوثنيين. فإذا جاء التخصيص فأخرج بعض ما دخل تحته واقتضاه، وهم أهل الكتاب، بقي متناولاً لبعض ما اقتضاه ودخل تحته، وهم الوثنيون، بقي حقيقة في الباقي غير مجاز فيه.

قال المتكلم له: لا أسلم، وأقول بما قال عيسى بن أبان والمعتزلة: يصير مجازًا فيما بقي. وكيف يكون الخصوص، وهو ضد العموم، حقيقة؟ وبالدليل الذي جعلت الندب مجازًا أجعل الخصوص مجازًا. وإن ||سلمت نظرًا في العموم لا أسلم أن مقتضى صيغة الأمر الإثابة؛ بل العقاب على الترك هو مقتضاها. لأن الإيجاب هو الأمر الحتم الملزم للمستدعى منه المستدعى من الفعل، والعقاب على تركه من خصيصة إلزامه وإيجابه وانحتامه. فأما الإثابة فلا تلزم. فإن طاعة الأدنى للأعلى فيما استدعاه منه، سيما إذا كان في حق العبد مع سيده، والابن مع أبيه، وحق المكلف مع الله سح، فإنه بالمخالفة يستحق العقاب، وبالطاعة لا يستحق عليه الثواب؛ لكن الإثابة تابعة للاستجابة تفضلاً. فليس من ضرورة الأمر الإثابة، ومن ضرورته العقوبة والذم على المخالفة لاستحقاق الطاعة على المستدعى منه. وفارق العموم. فإن كل واحد من المشركين مستحق دخوله في صيغة قوله {اقتلوا المشركين}؛ لأنها صيغة جمع تشمل كل من اتصف بهذه الصفة، وهو الشرك. فإذا أخرج الخصوص بعض الأشخاص بقي الجمع برمته في ثلاث، وفي كل جملة تصلح للابتداء أن تسمى مشركين. ولم يبق بعد إخراج اللفظة عن أن يستحق الذم على مخالفتها ما يقتضي نوعًا من العقاب والذم، فلا يبقى حقيقة.

فصل [في وجوب الاتعاظ بكتاب الله]

قال: ولأن التقرير الذي ذكرت ببطل به إذا زالت الرتبة بمزيل، وهو إن صار اللافظ بها أدنى والمستدعى منه أعلى بأن انحطت رتبة المستدعي وعظمت رتبة المستدعى منه، فإنها تبقى أيضًا على بعض ما اقتضت، وهو كونها استدعاء، وتخرج عن حقيقة الأمر؛ بخلاف العموم، فإنه لا يخرج عن الحقيقة إلى المجاز، مهما بقي جملة يقال فيها ((عم يعم.)) فلما لم يبق بعد زوال الرتبة من الاستدعاء أمر حقيقة، كذلك لا يبقى بعد زوال استحقاق الذم بمخالفة الصيغة أمر حقيقة. قال: إنما لم يبق استحقاق اسم الأمر بعد صرفه إلى السؤال، لأنه لم يبق ما يكون الاستجابة له طاعة. قاله له: إلا أنه بقي ما يكون الاستجابة له موافقة واستجابة ومتابعة وإعطاء. وذلك من آثار ||الاستدعاء. 280 - فصل قد عرف محل الأقوال والأفعال بالوحي في حق أقوام عاصروا النبوات. هذا يقول في عظم نخر ((هذا يحيا)). فينزل الله تع فيه {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه}. وهذا يقول: {أنى يحي هذه الله بعد موتها}، فيميته الله مائة عام ثم يبعثه فيقول: {أولم تؤمن}. وهذا يرفع صوته، فيقال: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} إلى قوله: {أن تخبط أعمالكم}. فلو كان الوحي متصلاً، لساءك ما ينزل فيك عند فرطاتك وغلطاتك وتهجمك بالاعتراض والقول الذي لا تحتمله الحكمة منك. فإن

[مذاكرة في سبب تنافر الناس في مقادير الإكرام عند التلاقي]

فاتك الوحي في جواب كلماتك وتصرفاتك، فلا تفوتك موازنة ما تقول وتفعل بما نزل في مثله العتبى أو العقوبة. فإذا وازنت علمت أن لك عند الله جوابًا لم يفتك منه إلا تعجيله، وأنه مؤجل لك إلى وقت يسوءك الموافقة فضلاً عن المقابلة. ولو أنصفت نفسك اليوم، لكان في حوادث الأيام من دلائل القدرة ومتقنات الحكمة ما يكون لك جوابًا ولشبهتك مزيلاً. فإذا خطر على قلبك أو جرى في قولك {أنى يحي} كانت سحائب السماء بوابلها ألسنا ناطقة بالتهجين لك، حيث حيا بها عشب الأرض ونباتها وزهرها، حتى عادت عيونًا محدقة وذواتًا محققة تشهد لصانعها بالقدرة، ولمحكمها ومتقنها بالحكمة. وما أغناك عن التدبر بسواك! يكفيك ما أحيا منك وأمات فيك من أعضاء وصفات وقوى وأخلاق. تمسي على صفة فتصبح بغيرها؛ وتصبح بخلق فتمسي وقد عدمته. ذاك الذي أمات الأشخاص، وفرق الأجزاء، وأعدم الصفات. وهو المعيد لما أمات، والمفيد لما أفات. 281 - تذاكرنا في بعض مجالس المذاكرات والمقابسات من أين يجيء تنافر

الناس في مقادير الإكرام من الهشاشة والقيام، ||إلى ما شاكل ذلك، عند التلاقي. وما ينبوع التنافس في المجالس والتشاجر في المناصب عند الاجتماع. قال عالم: أقول -وبالله التوفيق لإصابة الغرض: إن الناس متفاوتون في الأقدار بحسب أسباب الأقدار. وكل منهم يرى السبب الذي يمت به بعين التعظيم. كالنسيب يرى نسبه فيرفعه في عين نفسه فيمتلئ به، حتى إنه يرى انحطاط كل من دونه؛ سيما إن أعانه على ذلك توحده بالنسب في محلته أو دربه الذي يسكنه. فيخاطب بالسيد والشريف. ويتقاصر له من دونه في نسبه تقاصرًا يوجبهم انحطاط رتبهم عن نسبه. فيألف الإكرام من أولئك الأقوام. فيخرج إلى من يرى نفسه بنوع آخر من الفضل. كعالم بين جهال يدأب نفسه في العلوم ويجهدها في تخليص الفهوم. فيتقاصر عنه جيرته وأهل محلته وعشيرته تقاصر الجهال للعالم. فيرى لنفسه حقًا على من جهل علمه. وإن كان نسيبًا فيخرج إلى ذلك النسيب. وآخر ينقطع إلى عبادة ربه، ويتصور بإدمان الخلوة أن لا رتبة تستحق الإكرام دون رتبته، ويخل بإدمان آداب المخالطة فيخرج على ما به. وآخر يتميز بنوع حده، وغني بين فقراء ربما واساهم فأكرموه لمواساته أو للطمع فيه، فيضرعون له ضرع الطامعين للمطموع

فيه، فيخرج على ما به. حتى إذا جمع هؤلاء مجلس ترفع كل واحد بامتلائه بخصيصته فيقع التنافر بينهم. والمعدل لهذه الأحوال هو العقل الذي يحصل به الإنصاف لمن أنصف، أو المسامحة لمن قصر في الحق وطفف. فالعاقل يزن نفسه بزنتها. فإن اجتمع به منصف رضي بما ظهر من إنصافه، فقد زال الخلاف بينهما. وإن اجتمع به متحيف متعجرف جاهل بمقدار غيره لامتلائه برؤية نفسه، ألان له هذا العاقل جانبه وسامحه، فترك الاقتضاء بحق نفسه، ووفى ذلك الجاهل حقه وزاده ما يرضيه به من الإكرام. فالعقل سكان كل شغب وفساد اعتدال. ورأى العاقل، إن كان ذا سلطان ويدان، ||لا يسامح، بخلاف الأمثال ممن لا سلطان له. وإنما فرقت بين السلطان المتسلط وبين المماثل لأن المماثل استحببنا له التواضع والمسامحة، كيلا يقع الخلف وينشأ الشغب والفساد. فأما السلطان، فإنه إذا قوم المتأود، وحقق على المتعجرف، ورد كل إنسان عن استطالته إلى حده ورتبته، أمنت غوائل تحقيقه على رعاياه لقوته وتسلطه. فكما أنه يحقق مقادير الرجال، يقوم من تعدى عند تحقيق هذه الحال، وينتفع بتقويمه جماعة المستطيلين والمستطال عليهم. لأن المستطيل بجهالته لا يخلو من مغالب له ومصاول. وصول السلطان أحب إلينا من صول الرعايا. لأن صول السلطان يمنع المنافرة بين الرعايا.

[فصل في تفاوت أحوال الناس فيما يخص العقل والشرع]

وصول بعضهم على بعض بفضي إلى التهارج. وما أقبح بالعاقل أن يحوج إلى تقويم السلطان. لأنه يفضي إلى دوام تأديبه. لأنه حال الطفولة تحت أدب الوالدين مقوم بتقويمهما. وبعد أن شب وترعرع صار تحت حجر المعلم والأستاذ. فإذا كبر وشاب، صار تحت حجر السلطان، لا يستغني عن تقويمه. فمتى يخرج هذا من حجر الرجال؟ ومن كان كذا لا يكون راعيًا لنفسه قط، بل غيره يرعاه. فهذا كالسوائم. فما الذي أفاده العقل؟ وما الذي هذب منه الشرع؟ نعوذ بالله من خذلان يحمل على ترك الانحياش لله، والكون تحت تصريفع وتأديبه، والرضا بالكون تحت حجر المخلوقين والأمثال! 282 - ما أعظم تفاوت الأحوال! بعض الحكماء الإلهيين يقولون ((في الحكمة ما يغني عن السفراء.)) فعطلوا الشرائع واقتنعوا بما توديهم إليه العقول وتؤديهم به الألباب والنهي. وبعض الفطناء جعلوا العقول مستبعدة للشرع حاكمة على أمر الدنيا وسياساتها التي لم يوجد فيها نص من شرع. وبعض السفاف عطلوا الشرائع طلبًا للراحة من الحجر والتكلف، وعطلوا العقول. فهم أبدًا في الدنيا بين استطالة الشرعيين عليهم بإقامة الحدود والإهانة بسائر العقوبات، وبين استطالة العقلاء عليهم في تقويمهم عند شطحهم وخروجهم عن سمت سياسات || العقل. فهم كالبهائم، إن خليت أكلتها الوحوش، وإن صمدت

[مذاكرة في المصاب هل الأفضل تخفره عن الناس أو ظهوره]

للأعمال وحمل الأثقال أتى عليها الكد بالهلاك والاستئصال. فسبحان القسام بين الخلق حظوظهم من المنافع والمضار! 283 - وتذاكرنا في بعض المجالس أمر المصاب، هل الأفضل تخفره عن الناس واعتزاله، أو تكشفه وظهوره. فقال بعض الحاضرين: بل ظهوره، ليتسلى بكلام المعزين ويتشاغل عن أن يخلو به الحزن فيعمل في نفسه وينكي قلبه، خير من الانفراد. فإن المنفرد يخلو بمصابه، ويتشكل له المصاب به نصب عينيه. فلا يزال يعمل في صفاته حتى يأتي على مقاتله. وقال آخر: بل انفراده؛ ليستريح من كلفة التجمل والتعمل. لأنه ربما أراد إظهار التجلد لحاسد، والتعمل لحكيم ناه له عن الجوع، والتباكي في غير أوان البكاء، خوف عياب له على الصبر. فإن كما في الناس عائب على الحزن والجزع، وهم أعداد من أهل الشرع والحكمة، كذلك فيهم عياب على التماسك؛ لأنهم يعدون ذلك قلة وفاء وألف وحباسة طبع وقساوة قلب؛ وكلاهما عيب. وما أشغل المصاب المحزن بحزنه عن تكلف هذه الأمور وتحمل هذه الأثقال! نعم، وفي خلال ذلك إن قصر بحق قاصد، فالويل له من القاصد ينسبه في ذلك إلى الكبر والخيلاء والعجرفة. وجرى بين الفريقين تخليط كثير ومداخلة وشغب. فقالت الجماعة

آيات قرآنية وتفسيرها

لي: ماذا تقول أنت؟ قلت -وبالله التوفيق: أنا أفصل تفصيلاً يصلح بين الفريقين، لا يقتضي الجواب سواه. وإنما يقتضي الجواب تفصيلاً لاختلاف أحوال الناس في ذلك. وجواب الإجمال فيما يقتضي التفصيل، كالتفصيل لما لا يقتضي التفصيل. فأقول: من علم من نفسه الجزع، وعلم من القاصدين له إعانة النفس على الجور والجزع دون إعانة الدين على الصبر والسلوة، فالاعتزال أولى به. لأن العزلة تقطع عادته تثوير التسخط على الله سح وإنهاض النفس على جزعها. ومن علم أنه إذا خلا خلا به الشيطان ||وهاجت أحزانه، كان اجتماعه بمن يعلم منه التسلية والتعزية أحرى من وحدته. لأن المخالطة لبعض الناس دواء، ولبعض الناس إدواء. وفي الجملة العزلة عن الأخيار مذمومة، وعن العلماء مشؤومة، والاجتماع بهم بركة واستشفاء. 284 - ذكر بعض العلماء في أحكام القرآن قوله تع: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}، {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق}. قال: فذكرها بكونها شعائر، ثم أثبت المنافع بها. وهذا يدل على جواز الانتفاع بلبنها مما يفضل عن ولدها.

فصل في الأمر بعد الحظر

285 - فصل في الأمر بعد الحظر قال أصولي: مقتضيات الأمر مع عدم القرائن الصارفة له عن مقتضاه معروفة، قد أجمعنا عليها؛ كالتهديد والتعجيز والتكوين. فمن ادعى أن تقدم صيغة النهي عليها قرينة صارفة لها، فعليه الدليل. وجرى فيها أيضًا أن قال: صيغة الحظر النهي، وصيغة الإيجاب الأمر. فإن جاز أن يدعى أن تقدم الحظر على صيغة الأمر يخرجها عن المقتضى الذي أجمعنا عليه، جاز أن يدعى أن تأخير الأمر عن صيغة النهي يخرجها عن مقتضاها، ويكون على التنزيه. وإذا تكافيا في كون كل واحدة على مقتضى في أصل الوضع مع الإطلاق، ولم يجعل كون الأمر بعد الحظر قرينة صارفة للنهي عن مقتضاه، كذلك لا يكون تأخير الأمر عن لفظ الحظر صارفًا عن مقتضاه. يوضح ذلك أن المتأخرة تقضي على المتقدمة؛ كالنسخ والتخصيص والاستثناء وغير ذلك. فإذا لم يكن ورود لفظة الأمر بعد الحظر تنبئ بها أن لفظة النهي لم تكن على الحظر، كذلك لا يكون تقدم لفظ الحظر على صيغة الأمر مخرج لها عن وضعها. وجرى فيها أن قال من خالف هذا ودل على أنها تقتضي الإباحة،

[مسألة النية للوضوء]

||قال له: لو كان كذلك، لكان الحظر بعد الأمر يقتضي أول مراتيه، وهي الكراهية. فلما اقتضى مقتضاه الأصل، بطل ما ذكرت. 286 - استدل حنفي خراساني في مسألة النية للوضوء، فقال: في الماء طهورية تزيل المانع من النجس وحكم النجس، بدليل قوله {وأنزلنا من السماء ماءً طهورًا}؛ وفي جريه على المحل، مع كونه معد للطهورية، كفاية تغني عن النية، كما أغنى عن تحريك الأعضاء مع الماء وتمشية الماء. قال له حنبلي: في الماء طهورية كما ذكرت؛ لكن في المحل تعبد حكمي يحتاج إلى زيادة على طهورية الماء، وهو ما يحصل بمثله تعبد المحل. قال الحنفي: تسليمك أن في الماء طهورية يغني عما ذكرت من النية. لأن الطهورية وصف للماء حكمي، كما أن الري الذي في الماء طبعي. والري يحصل بنفسه حيث كان طبعه الري أروى؛ وإذا كان وصفه التطهير الحكمي طهر. قال الحنبلي: من المال إغناء؛ وقد قال: ((أغنوهم.)) وفيه تطهير. قال في صدقة الفطر: ((طهره للصائم من الرفث.)) وقال في الزكاة: ((خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها.)) ولم يحصل ذلك من اتصاف المال به إلا بنية. قال الحنفي: ذكر التطهير في المال بكونه صدقة. ولا يصير صدقة

شذرة في الأمر بعد الحظر

إلا بنية. وهنا وصفه طهورًا من حيث هو ماء، لا بصفة أخرى من قبل المكلف. 287 - شذرة في الأمر بعد الحظر استدل مستدل على أنه يقتضي الإيجاب، كما لو لم يتقدمه حظر. لأن لفظة الحظر والأمر، كل واحدة منهما، مستقلة بنفسها. فلا تتغير عن مقتضاها بتقدم الأخرى عليها؛ كلفظة ((أوجبت)) بعد قوله ((حرمت.)) قال معترض حنبلي: ذاك صريح، وقوة الصريح تمنع أن تغيره القرينة. وهنا الأمر يقتضي ||الوجوب، لكن بظاهره. فجاز أن تصرفه عن ظاهره القرينة. قال المستدل: معلوم أن قوله ((غسل الجمعة واجب على كل محتلم)) صريح في الإيجاب. وقد أخرجته القرائن والأدلة إلى الحث والندب عن الإيجاب. فلو كان تقدم الحظر قرينة، لعمل في تغيير هذه الصيغة، وإن كانت صريحة. وكذلك الوعيد على ترك الماعون، وما شاكل ذلك، صرف عن الوعيد، وإن كان نصًا فيه إلى الحث بدلائل وقرائن.

فصل [في أنه لا مستفاد إلا بإنفاق حاصل ولا لذة إلا بنوع نغصة]

288 - فصل أستشعر أنك غير منفك من تحمل أثقال الخلق. في حال الشبيبة مكايدة الآداب للمشايخ؛ وفي حال كبرك تحمل أثقال الصبر على الأصاغر. وهل وجد الصدور حلاوة التصدر إلا بالصبر على مرارة التخلق بالحكمة؟ وهل خلو الحكمة إلا تجرع مرارة الأدب في الصغر، ومكابدة غصص الحلم عن السفهاء حال الكبر؟ وقال أن تحصل الرئاسة لمن لا يتحمل أثقال السياسة. وفي الجملة والتفصيل، لا مستفاد إلا باتفاق حاصل. وإنما يترجح الحاصل على الإنفاق بنوع من ربح فيسهل. وإلا فالعلوم المكتسبة إنما تتحصل بإنفاق الأعمال، كما أن الرئاسة تتحصل ببذل الدرهم والدينار. وما نالت النفس قط لذة إلا بنوع نغصه. ولو علم العقلاء ما في الزهد من الراحة، لكسدت سوق الدنيا عن راغب، وتعنست بهجتها عن خاطب. وما أخذ بالعزم ولا الحزم من خاطر بنفيس ما تحصل فيما عساه لا يتحصل. وإن كانت المخاطرة علو همة، فالبخل بالحاصل نوع من الحزم 289 - فصل إن امرأ لو تتحصل له العبرة بين منازل الأسلاف والأحباب الدائرة، وبين رممهم في التراب عظاما ناخرة، لكشف الحجاب عن الدنيا والآخرة.

[مسألة المتعة هل تجب في حق المفوضة المطلقة قبل الدخول]

لو كان الحزن مكتسبا، لكان هذا من أكد أسباب الاكتساب. فكيف وهو طبع غريزي، وخلق طبعي، ولا ||يحركه مثل هذا المزعج المهول؟ نعم هذا ولا خلف به يتسلى، ولا عوض عنهم به يتعزى؛ بل ديار من الأهلين خالية، وأجساد في أعماق الأرضين بالية، وآثار تستحضر للنفوس وتشكل للقلوب شخوصهم مائلة. فواها على عمر مضى ليس له رجوع، وذنب ثابت ما عنه نزوع! أف لحسرة وعبرة لا تعقب يقظة وعبرة! 290 - استدل حنبلي في إيجاب المتعة في المفوضة المطلقة قبل الدخول بقوله تع: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين}. فاعترض علية مالكي، لأن مالكا يقول ((المتعة مستحبة ومنحة، ولا تجب أصلا))، والشافي في أحد قوليه يوجبها مع المهر، والحنبلي يوجبها في حق المفوضة، فقال: قرينة الآية تدل على الاستحباب، لأنه قال {على المحسنين}، والإحسان ما كان تبرعا. قال الحنبلي أولا: ليس الإحسان منافيا للإيجاب، فيكون من القرائن المانعة من الإيجاب. بل كل فعل واجب إحسان، وكل فاعل للواجب محسن. وقد يرد مثل ذلك ولا يدل على نفي الإيجاب، كما قال {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}؛ فسمى المهر باسم الهبة، ولم يدل

شذرة في الملتجيء إلى الحرم

على عدم وجوبه. ولأنك إن تعلقت بـ {المحسنين}، تعلقنا بقوله {حقا على}؛ وهذا من أصرح ألفاظ الوجوب. وكان جرى من المالكي أن قال: المتعة لم يتراضيا عليها، فيكون عوضا مسمى، ولا قابلت معوضا ولا متلفا. ولا نجد في الأصول عوضا على هذه الصفة. وإذا بطل أن يكون عوضا، صار صلة. قال الحنبلي: ||النكاح في باب العوض منفرد وعوضه شرعي. ولهذا يتكمل بالموت، ويثبت مع عدم التسمية ومع فساد التسمية، ويتنصف بالطلاق قبل الدخول، ويجب مختصا بالزوج مع تساويهما في الاستمتاع. ومعلوم أن تنصفه بالطلاق قبل الدخول، لما يدخل من المعيرة؛ والمطلقة مع التفويض يلحقها من المعيرة أكثر مما يلحق غيرها؛ لأنها سمحت ببذل نفسها من غير عوض. فإذا ردها بالطلاق، ظهر زهده فيها ما يوفي على كل زهد، حيث رد إليها ما بذلته بغير عوض. فجاز أن تجب المتعة شرعا، وتقديرها بالوسع والإقتار لا يمنع وجوبها. كالنفقة الواجبة للأزواج والأقارب، فإنها صلة واجبة، جاز أن تكون المتعة لأجل الطلاق صلة واجبة. 291 - شذرة في الملتجئ إلي الحرم قال حنبلي: حيوان مضمون بالكفارة، فجاز أن يؤثر الحرم في عصمة دمه؛ كالصيد.

قال له حنبلي ناصرا لمذهب الشافعي، ومذنبا على بعض المتفقهة بجامع القصر: الصيد مضمون بالكفارة في الجملة، والآدمي في الجملة. وللصيد حالة لا يضمن فيها بالكفارة، فيخرج عن عصمة الحرم، وهو إذا صال. ينبغي أن يكون الآدمي، إذا خرج في حق هذا، ولي الدم، عن وجوب الكفارة، أن يخرج عن عصمة دمه عنه. ولأن الصيد آكد عصمة، فلا يستدل بعصمته بالحرم على عصمة القاتل؛ بدليل أن الصيد لا يحل تنفيره وإحواجه إلى الخروج ليصاد؛ وهذا يجوز تنفيره ليخرج فيقتل. والصيد يعصمه إحراج في غيره؛ والقاتل لا يعصمه إحرام في غيره، وهو الولي، ولا إحرام التجئ إليه، وهو إذا أحرم بالحج بعد أن قتل عمدا من يكافئه. ولأن الحرم، إن عصم دم الصيد، فقد حصل محلا للقرب بدم الأنعام هدايا وضحايا وقرانا ومتعة. فليس لك أن تلحق القاتل بعصمة الصيد إلا وتلحقه بسفك دم الهدي، وهو به أشبع. لأن سبب ||الإيجاب جاء من قبله. ولأن الشرع أوجب قتل الزاني المحصن والمرتد، وفي قتل هؤلاء مصالح دنيوية ومصالح دينية؛ كما أن في قتل الهدايا مصالح وطاعات. بخلاف الصيد، لأن دمه لا يجب [سفكه]، ولا وجود من جهته ما اوجب قتله. ومتى وجد منه الصول، زالت عصمته، فنفي وجوب القتل في حق الآدمي بعد فراغه من القتل لحق الصيال في حق الصيد. وذلك يسقط عصمة الصيد؛ كذلك هذا.

[مسألة عقد النكاح هل يبطل مع عدم الكفاءة]

292 - استدل حنبلي في اشتراط الكفاءة على شافعي بأننا وإياك شرطنا لصحة النكاح ولاية العصبات والحكام، وأعدمنا الصحة من الأناث احتياطا للكفاءة، خوفا من تفويتها بسوء نظر المرأة وشدة شهوتها. فإذا تحقق فقد الكفاءة، أولى أن يبطل العقد. فأجاب حنبلي آخر مذنبا على الشافعي بأنه ليس إذا شرط الاحتياط لمعنى باعتبار شخص يمثله يحصل الاحتياط بفوت صحة العقد مع توليه للعقد، وإن فات الاحتياط المشروط لأجله. كالسفيه، منعنا أن يلي العقد، حتى لم يصح منه، لأجل ما يفوت من المال بسفه. ولو تحقق العين ونقص المال بالتجريف والتفريط في بيع الرشيد، لم يبطل عقده، وإن تحقق منه ما لأجله أبطلنا عقد السفيه. 293 - قال حنفي: في الماء طهورية. فلا يحتاج في تطهير المحل إلى نية من جهة المكلف. فصارت الطهورية الحكمية، في غنائها عن معنى من جهة المكلف، كالري الطبعي الذي ينفعل بالماء ولا يقف على معنى من جهة الشارب. قيل له: لا نسلم لا الدعوى ولا استشهادها. لأن الماء لا يطهر بنفسه ولا يروي بطبعه. وإنما ذلك مذهب أبي حنيفة في الحكم، ومذهب الطب

فصل [في تفسير الحديث "كفى بالمرء فتنة أن يشار إليه بالأصابع"]

في الري. وإنما الله سح يحدث الري عند شربه، كما يحدث الولد عند حصول الماء في الرحم، والنبات ||عند حصول الحبة في الأرض. وأما الحكم في الماء، فانه أن صادف عينا فأزالها، زالت. وذلك أمر لا يختص الماء، لأن كل مزيل ناقل للنجاسة يطهر المحل الذي زالت عنه. وأما في الطهارة الحكمية، فإنها طهارة يعتريها تعبد لتخصصها بمحل يفيد التعبد، وعدم صحتها في محل لا تعبد فيه. فقولك إن فيه طهورية في هذا المكان دعوى غير مبرهنة ببرهان 294 - فصل قال النبي صلع: كفى بالمرء فتنة أن يشار إليه بالأصابع. قيل: ها الفتنة في ذلك؟ قلت- وبالله التوفيق- إشارة إلى المثال: الإشارة إلى الإنسان بالزهادة تفتنه بالرغبة في الاسم، وتخرجه عن قانون الزهد، وتسلخه عن حقيقته. فانه يزهو بذلك زهو المتوجد. وذلك قاتل للإنسان من طريق الأنفة من الخلق ورؤية النفس. ذلك سبب لكل بلاء، وطريق أي كل محنة؛ متى تخربق الإنسان به قبل أن يخرج من رأسه.

ترى الواحد من المشار إليهم إذا قيل ((هذا فلان مريض نعوده)) أو ((مات، نصلي على جنازته)) - وقد جاء في العيادة من السنن ما قد جاء، وفي صلاة الجنازة قيراط من الأجر- استراح في التقاعد عن أسباب الثواب بقوله ((عادتي)) وبقول أتباعه ((ما عادة الشيخ ذلك)) يا سبحان الله! ما أقبح عادة خرجت بصاحبها عن سمت السنة! وهل جاءت الشريعة إلا بدحض العوائد لتحصل الفوائد؟ وإن عرضت مشكلة من الحوادث الفقهية، فسئل عنها، انف أن يقول ((لا اعلم؛ )) بل قال ((يقع لي كذا وكذا.)) وهل الشريعة بالواقع؟ هيهات ما كان أحوج هذا المسكين إلي نفس طائعة خاضعة منقادة لطاعة الله كيف جاءت، وسائلة عن إحكام الله عند من كانت، حتى يعلم أن بالعزلة والانقطاع قد تقع. فأما إذا كانت يورث كبرا وأنفة من فوائد الشرع ومقامات الطلب لها، فما أخبث هذه من طريقةّ! إنما الطريقة للرجال هي رياضة ||النفوس ودعكها للاستجابة لأوامر الله، والصبر على عباد الله، وإعطاء الحق من النفس لكل واحد [من] هؤلاء المساكين سعالهم من النفوس، ما لو كان على أحدهم دين حتى يستدعيهم رسول الحاكم تعجرفوا، ولو خاشنهم المستحق بالمطالبة صالوا. فأرباب الأموال عملت فيهم الأموال زهوا، وأرباب السلطنة أثرت فيهم السلطنة تسلطا، وأصحاب الزوايا كذا [بون]، والعلماء متجبرون. فأين من يرث النبوة بالحمل لأعباء الأمة وثقال الخلق وينهض

تذاكرنا في بعض المجالس أخبار التواتر هل توجب علما

بحقول الحق؟ أين من يدعو إلى الله ولا يدعو إلى نفسه قاطعا للخلق عن الله؟ أين من لم يمنعه إكرام الخلق له، ورويتهم إياه بعين [ ... ] كامل رأى النقص في نفسه، أن يتعلم ممن هو منه أعلم، ويتبع من هو بقانون الأدب أقوم، وإن انحط في عيون المتعصبين طلبا للكمال بحقائق العلم، وإن نقص في عيون الخلق الظانين فيه التمام؟ أين من خاف النقص في الفضل حسبما يخاف غيره النقص في الفرض؟ نعوذ بالله من شخص يقنع بسوق الوقت، وما يصلح لأهل زمانه، دون ما يتهيأ له من الفضل! 295 - تذاكرنا في بعض المجالس أخبار التواتر هلي توجب علما فقال قائل محقق: أراها لا توجب. لأن كل واحد من المخيرين لا يحصل بخبره العلم. ومحال أن يتجدد العلم بجملة كل واحد منها لا يتحصل به العلم. وهل الجملة إلا آحادها؟ قال له محقق: ولم إذا لم يثبت بخبر الواحد علم، لم يثبت بالجملة ونحن نعلم من نفوسنا بتزايد العدد سكونا بعد سكون لم يكن. وما نجده من نفوسنا لا ينفعه إنكارك. قال: فهؤلاء النصارى واليهود ينقلون قتل عيسى؛ وهم عدد لو أخبرونا عن بلد أثبتناه. وجاء القرآن بتكذيبهم، فقال {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم}.

فصل [في أن صفو الود لا يطالب من ممزوج الخلق]

قال له قائل: فما كذبهم القرآن إذا. لأن الشبه إذا ألقي على الجثة صارت كعيسى. فما كذبوا في الصورة وما يدركه|| العيان؛ لكن كذبوا في الاسم، والاسم لا عبرة به. قال له قائل من الحاضرين: هذا يسد علينا طريق العلم والثقة بالإحساس. لأنه إذا كان يجوز تقليب الصور إلى أمثالها، فما الثقة والأمن من جهة الحاسة؟ ونحن مع هذا القول في عيسى [ما الذي يؤمنا من] أن يكون الله سح قد قلب صورة زيد وعمرو إلى أمثال ذلك. قال له رجل عالم: يؤمنا من ذلك أن الله لا يفعل ذلك في غير زمن النبوات، لئلا يسد علينا باب العلم بالحقائق. وفعله في بعض الأحايين على طريق اللطف لا يسد علينا باب العلم؛ كقلب الأعيان في حق الأنبياء لا يسد علينا باب العلم في غير زمنهم. 296 - فصل من الظلم الصرف والبغي البحت مطالبتك صفو الود من ممزوج الخلق. إن علمت أن في العالم من هو صرف، فاطلب منه الصرف. هذه الأطعمة والأشربة، حلوها وحامضها ومرها، لا يعطيك ما يشهيك أو يشفيك، إلا ويكسبك ما يمرضك أو يوهنك، لما في مطاوي اللذة من الطبع الأصلي والمزج العنصري. فما بالك تطلب من يحلو لك شهي مودته وطيب أنسه ودعة رضاه، ولا يمرك سورة غضبه وغائلة ملله وقوارص حده

وفورة سخطه؟ تريد في مزاجه نار ولا يحرق، وما فيه ماء لا يلين، وما فيه طين ولا يثقل، وما فيه هواء لا يبرد. بلى- والله- إن أهاجته النار وحركته السخونة برده الهواء، وإن برده الهواء سخنته النار، وإن خف بالروح ثقل بالجسد، وإن عدل بالعقل جار بالهوى، وإن صفا بالجوهر تكدر بالمدر، وإن تواضع بالطين تكبر بالنار. وليس خيار الناس بأكثر من الأدوية، ولا شرارهم بأدون من السموم، ولا متوسطهم بخارج عن طبع الأغذية. فما خلص من مركبات النبات والحيوانات دواء وشفاء أعقب علة وداء. فالمقبض من الحبوب والنبات، إن قطع الذرب، أورث القولنج؛ والمسهل من الحموضات|| المحتدة، إن دفع وسهل، أعقب السحوج؛ والحار الرطب، إن أزال التقليص والبنج، أورث الإرخاء والتمدد. فإذا كانت الأدوية كذا، فكيف بالسموم؟ وأما المتوسط من الأغذية، فهي من معفن أو مبرد أو مسخن. فإذا كانت الأغذية كذا، وهى القوت، ومنها البناء مع المزج في أصل الخلقة، فما وجه مطالبتنا بالصفو؟ وهذا الخالق الكريم المنزه الذات عن التركيب والأخلاط، لأنه واحد، لكن لا وصلة بيننا وبين ذاته، وإنما انتفاعنا بأفعاله، وما خلصت لنا أفعاله، بينا يغني يفقر، وبينا يعافي يمرض، وبينا يضحك يبكي، وبينا يحيي يميت، إلى أمثال ذلك من أفعاله المختلفة في العالم. لسنا منها

على ثابت ولا لابث. في زمان الإنشاء في كل يوم تجدد وصفا، وفي أيام الكبر وعلو السن في كل يوم تهدم ساقا وتحيل نعتا وتغير وصفا. فهذا حكم الصانع الفرد الممد؛ فكيف بالمصنوع المركب المستمد؟ ثم دع الأغيار وتعال إلى نفسك. بينا تجود عليها بدرهمك ودينارك تشهيا وإلذاذا، وتطعمها الشهي، وتسمعها الأصوات والنغم، وتمرحها في سوابغ النعم، حتى تبخل عليها بالحبة وتكسرها بالبخل والشح عن أيسر شهوة. وكأنك بهذه الحال الطارئة غير تلك الأفعال الأولة. ومن كان مع نفسه كذا، أيحسن أن يطالب غيره له بما لا يجده من نفسه ولا ربه ولا أبيه ولا ابنه؟ وأني لك أن تأخذ صفو الناس عفوا عن كدرهم وتقنع منهم بالمجاملة غير مطالب بصدق ودهم، ثم انسب التغيير إليك؟ فإن الملل علة معلومة وطبيعة معروفة. فإذا وجدت نفسك لا تسمح بعد المسامحة، ولا تقنع بالمجاملة بل تقتضي المخالصة، فاعلم أن مللا طرأ. فاستقصيت بعد أن كانت مسامحا في ابتداء ودك. ومن لم يثبت هو مع نفسه على حال، عذر غيره في تقلب الأحوال. وأول الفوائد لك في هذا قلة المبالاة والمناقشة؛ فإنها تنغص العيش وتمره. واعلم أن العيش كل العيش إدراج المودات درجا، والنغصة كل النغصة ||البحث والاستقصاء. فما بقى مع الاستقصاء صديق قط.

[مذاكرة في سبب تفضيل رائحة اللفاح على رائحة البطيخ الشمام]

وما لم تجده من غيرك، فلا تتشاغل بالتعجب من عدمه حتى تجده من نفسك. فإن لم تجد خلفا تحمده في غيرك، ووجدت نفسك تتطلبه، فاكتسبه لنفسك. فما أحسن أن تكون الفضائل لك! فإن عجزت نفسك عن تحصيل ذلك، فكن عاذرا لمن عدمتها فيه ومنه. لأنك تجده قد أجهد نفسه في طلبها، فعجز كعجزك. واعلم أن المطالب أقل من الطلب. ففي نفوس العقلاء أمور تعتلج واقتضاءات تختلج، لا يقفون منها على طائل، ولا يجدون إليها مع توفر حيلهم وجودة آرائهم سبيلا. فكن أسوتهم، وتسل بهم. فما منهم إلا من رام الحياة الدائمة فما حظي، ورام دوام الوصلة بأحبابه فما ملي، وأحب استقامة الأحوال والصحة والاعتدال فما أعطي؛ فكن واحدا منهم أو كن جانبا عنهم. وقال بعض المشايخ: أرفق، يا هذا، فالاستقصاء فرقة. 297 - تذاكرنا في رائحة اللفاح والبطيخ الشمام، فوجدنا أن رائحة اللفاح أطيب، فقلنا: هل هذا الأمر يعود إلى اللفاح في نفسه؟ فقال قائل: لا، بل لأنه في البطيخ شهوتين، شهوة غذائية وشهوة الشم؛ وهما يتجاذبان؛ وشهوة الغذاء أقواهما، لأن النفس للغذاء أطيب منها لشم الريح. ففي الشهوتين تجاذب تنقض إحداهما بالأخرى. وليس كذلك اللفاح؛ لأن هناك شهوة واحدة؛ فتوفر درك الحس فيها، فوجدت متوفرة.

[مذاكرة في شرف الآدمي وسرعة هلاكه وفساده بعد كونه]

298 - كنا في بعض الخلوات نتذاكر شرف الآدمي وسرعة هلاكه وفساده بعد كونه. فقال بعض من حضر: أليس حجر لا يحس ولا يدري بالوجود وبالموجود يبقى عشرة آلاف سنة حجرا، وهذا الحيوان الشريف يبقى سنوات ويتحلل؟ فقال له إنسان ينتحل علم الأوائل ويعجبه البحث عن الحقائق، وهو متدين، جيد الاعتقاد في الشرائع: يا هذا! || ذاك السريع الفساد هو الدائم البقاء بعينه. والذي عجبت من سرعة تحلله هو الذي عجبت من طول مكثه. فعجب الرجل من كلامه. فاستقل عقله حيث لاح من كلامه أن الإنسان هو الحجر. فبان للقائل تعجب السامع. فأخذ يبين عن حقيقة ما قال ويبرهن دعواه، فقال: إن الماء القاطر من الجو مطرا ونداء، هو المتصاعد بخارا. وإن الخمر المشتهى المسكر هو الخل الحامض، والجميع عصير العنب. فالأعيان كذلك؛ تارة بالاستحالة شيء، وبالأفراد شيء. فالعصير بما هو مشتد، خمر؛ وبما هو حامض، خل؛ وبما هو مستحيل غذاء للمتغذي به وشرابا، لحم ودم. والأثقال بما هي أثقال، رجيع؛ وبما هي مطعومة الزروع والثمار. ثمار. والطين بالنشافة والطبخ، فخار؛ وباستحالة الدهر وتكرر طلوع الشمس، أحجار. فكذلك جسد الآدمي بمرور الأيام،

مدر؛ وبتكرر الأمطار والشموس، حجر. فالإنسان، بما هو صورة مخصوصة وصفات مخصوصة، فاسد قليل اللبث؛ وبما هو حجر، طويل اللبث. فبان صحة ما ذكرت، وهذا الذي أردت. ثم قال: وهل لنا إلا هذه الكرة الطين، فهي التربة للزرع، وهى أجساد الحيوانات، وهى الإزهار والنباتات، وللشمس والهواء والماء إمدادات وإعانات. فالصور المختلفة، والصفات مستحيلة، والأصول بما هي أصول باقية لابثة. فإن كانت نياحة من ينوح على الصور والأشكال، فحق له أن ينوح على قلة اللبث وقصر زمان البقاء والمكث. فأنا مصيب في قولي ((الإنسان هو الحجر)) كإصابتي في قولي ((الخل والخمر هو عصير العنب، )) حيث كانت العين واحدة. وتأسفك إصابة أيضا حيث تلهفت على فساد ما كان الإنسان به إنسانا. فهو بما هو إنسان غير لابث، وبما هو حجر لابث. فالتأسف إذا على الصورة والهيئة. 299 - وذكر آخر في بعض بروزنا إلى المقابر والصحراء: هل الجسد ||بعد الموت منتفع أو مستضر؟ فقال بعض القوم: هو بحكم ما صار جزءا له، وهي الأرض. فما يتسلط على الأرض من إنبات أو يبس أو خصب أو جدب تسلط عليه. وما انتفى عن الأرض، فهو منتف عنه. هذا بحكم البرهان العقلي، حيث

مسألة الجسد بعد الموت هل هو منتفع أو مستضر

وجدنا ما بان من الأطراف حال الحياة مع ما بقى من الجملة، كحجر بالإضافة إلى إنسان. فلا الإنسان يحس بألم إن ضرب الحجر أو أحرق، ولا بلذة إن قرب من الحجر ما يوجب لذة للحي. فالعضو البائن مع بقاء الجملة أقرب من الروح إلى الجسد مع خروجها من الجثة. وقال آخر: ولم نحكم بهذا ولا نسلم إلى الله سح وتع القدرة على إيلامه، وإن بانت عنه الروح، ألما يخصه؟ قال: اعتقاد هذا جهل. والجهل يبعد عن الله. والتقرب إلى الله بالحكمة. وإن جاز أن اعتقد ذلك، فتحت على نفسي تجويز إحساس الأرض. وهل الميت إلا أرض؟ وهل الأرض إلا أجساد الأموات؟ فما لنا واعتقاد الجهالات والمحالات؟ قال له قائل: الحكم قد أيد صادقا بالإعجاز. فقال في القبرين إنهما يعذبان وما يعذبان بكبيرة. فتصديقي للصادق في خبره أولى بي من تصديقك في حدسك أو استدلالك. قال: صدق الصادق. ولعله أراد الحقيقة، ولعله أراد المجاز. فالقول يدخله المجاز، والعقول لا يدخل عليها المحال. فلعله أراد أنهما يعذبان ((سيعذبان)) كقوله: {إنك ميت}؛ وقوله {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا}. ومعلوم أن ما أكلوه أطايب الطعام دون النار، لكنه لما كان ماله إلى النار سماه نارا. قال له المعترض: في الحديث ما ينفي هذا؛ لأنه أخذ جريدة فوضعها

في القبر، وقال: سألت الله أن يخفف عنهما العذاب حتى تيبس الجريدة. وروي: لعل الله أن يخفف عنهما إلى أن تيبس. قال: إنما|| تكلمت مسامحة؛ وإلا فنحن في أصول وأدلتها أدلة العقول. فلا نترك الأدلة القاطعة لأخبار مظنونة. ثم عادوا إلى المنافرة بالمعقولات. فقال الناصر للسنة: وإذا كان الباري يوصل الآلام إلى المزدوجات والمركبات فما المانع من إيصالها إلى الآحاد المفردات؟ قال له المستدل بالمعقولات: ما قولك هذا إلا كقول من قال ((إذا كان الزامر ينفخ في الزمر فيخرج ذلك الصوت الملهي المشهي، فلم لا يزمر الزمر بنفسه؟ )) ولا يتحدد صوت المزمار بنفخ الإنسان بنفسه من غير زمر. وإذا كان لكل حقيقة بنية مخصوصة، فلا يجوز تصور وجود مانع إخلال البنية. وهذا يشير إلى معنى. وذلك أنا كما نحرص على إثبات كونه سح قادرا، نحن أحرص على إثباته حكيما. ولو كانت الآلام واللذات والأصوات وغير ذلك تتصور من غير هذه الأبنية المخصوصة، ثم بناها الباري على هذه الصورة، لكان فعله للصورة عبثا؛ إذ كان المراد يستقل دونها. وليس العبث إلا ما لم يقتض وجوده حكمة. قال له المجيب عن شبهة: قد يفعل الباري ما يستقل الفعل دونه،

شبهة [في قدرة الله وحكمته]

ولا يكون عبثا؛ لأنه لا يخلو من حكمة، إنما في الفعل، أو مصلحة للمكلفين. هذا بمثابة خلقه للسماء بغير عمد بحسب القدرة، ودحو الأرض بأوتاد هي الجبال بيان الحكمة. ولهذا قال: {أن تميد بكم}؛ وقد قال: {يمسك السماوات والأرض أن تزولا}. 300 - شبهة قال بعض الخلعاء يوما معترضا بحضرة قوم خلعاء: قادر على نفعي، لم يؤخره ولا يضره أن ينفعني؟ قلت- وبالله التوفيق: إن كانت قدرته سح متأتية، فحكمته مطلقة. فلم تعترض عليه وأنت مقيد بالجهل بمصالحك؟ ثم إن كانت المنافع لا تضره، فقد كانت مضرة بك إذا عجلت. ومصلحتك حالك التي أنت عليها. وقد رأيت أحوال أقوام ||عجلت لهم منافعهم كيف تسلطوا وانبسطوا. 301 - قال حنبلي متكلم محقق يوما: إنما اشتد جحد الناس أو تأكدت شبهتهم في البعث لمحبتهم لنفوسهم وحب الحياة. وكل ضنين بشيء، إذا خرج عن يده، لا تخوفا من الفقد، وتمسكا من النفس، واستعجالا للرد. هذا إذا كان الأخذ نقلا مع السلامة. ألا ترى الشقيق الأول كيف قال في حق المحبوب، وهو مع الإخوة بني الأب: {وأخاف أن يأكله

الذئب وأنتم عنه غافلون} أخرجه وما يحدث نفسه بالرجوع. وقال في الأخير: {بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل}. فكيف إذا رأى الناس هدم البنية وبشاعة النقلة مع تقطيع الأوصال والتلاشي والانهدام؟ فمن ههنا كثرت شبهتهم في البعث. فينبغي أن يعالج هذا الشك بترك النظر إلى التحلل وفساد المادة، وينظر إلى قوة الفاعل وما صنعه في المبدأ، كيف دفع إلينا صورا محبوبة من تراب بحكم النظر الفكري، ومن نطفة وعلقة بحكم النظر الحسي. فمن أهدى لنا من نطف أولادا قرة أعين قادر أن يرد علينا من رمم قرة أعين؛ بل الرجعة أولى، لأن الكريم تبرع بالهبات؛ فأما الرجعة فوعدا عليه حقا، كما قال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعملون}. فينبغي للعاقل إذا غلب عليه الإياس من الرجعة، أو خامره فيها شك، أن يفزع من مطالعة البنية المهدومة إلى القوة البانية لها في أول وهلة، ويستحضر المني المستحيل في الرحم وينظر حاله. فإذا رأى استبعاد تصويره، نظر إلى بنية الأطفال من ذلك الماء الذي كاد أن يظن أن تصويره محال. فإذا رأى تسلط القدرة على البدأة، سهل عليه الإيمان بالرجعة. والله أعلم بدواء كل شبهة. سبحان {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} - {أعطى كل شيء خلقه}، أقام الصورة والبنية. ثم أخطر بالبال عند الكمال السبب في الإيجاد تطلب المصور الخالق، فوجده بآثار الصنعة. فهدايته تقويم،

[آيات قرآنية وتفسيرها]

ثم تعليم إيجاد، ثم إيجاد تركيب، ثم تهذيب تصفية، ثم تعلية. {أعطى كل شيء خلقه}، صورته، {ثم هدى}، إلى الجهة التي سالت منها الصور وجاءت من عندها الخلق؛ {كل شيء خلقه}، خلقه، إقامة الصحة والأدوات، {ثم هدى}، لطرق الاستدلالات؛ {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}، منه البداية، ومنه الهداية. فالطلب من غيره ضلال، والإجابة من سواه محال. 302 - شذرة في قوله سح: {فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري}، {قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا}، {ألا تتبعن أفعصيت أمري}، {قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن يقول}. فموسى عتب، وهارون اعتذر، لا بالقدر. ما جرى على لسان موسى عذر لأخيه بقدر باريه، ولا جرى على لسان هارون اعتذار بالقدر. والسامري لما قال له {فما خطبك يا سامري}، قال: {وكذلك سولت لي نفسي}. فتعلموا من الأنبياء، ولا تحدثوا ما لم يسمع من ذكر القضاء والقدر. 303 - فصل في قوله سح: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون}. انتقد أهل المسكنة والضعف عن المال لبقية كانت معه من القوى حيث فقد المال. فوجد من دون تلك الأمة امرأتين معهما ذود من الغنم

شذرة في المماثلة والقصاص

في أواخر الناس. {قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء}، إذا شرب أهل السقاية وصدروا عنها رووا، {وأبونا شيخ كبير}. كذا من ضعف ناصره. وغاب آخر عن بلوغ الأغراض والآداب. ||حركته أخلاق النبوة، فرفع الصخرة ومد واستقى فأمد. {ثم تولى إلى الظل} فاستمد طلبا للكسر، وما عنده من البعثة خبر. فلما رجعنا إلى الشيخ قبل أوانهما، أنكر شأنهما. فلما وصفاه، عرفه بالوصف وشهده بالنعت فاستدعاه. فلما أضافه وأدناه وخطبه واصطفاه وقضى الأجل فوقاه، سار بأهله وناداه مفاجأة من غير مواعدة ولا مواطأة: ((يا راعي غنم كنعان! يا موسى بن عمران! )) وما دار بخلده ما جرى من ذلك الشأن. سبحان من يختص برحمته من يشاء، ولا يضيع أجر المحسنين! سبحان من تحجب بنعوت جلاله عن أن ينال ويتحلى بأفعاله وتأثيراته بكل حال! قلب العصا، ودك الجبل، وقلب اليد بيضاء، وأظهر نارا حمراء على عوسجة خضراء، ليعلم موسى أن الكلام لمن هذه أفعاله. 304 - شذرة في المماثلة بالقصاص ذكرها حنبلي في مناظرة بعض الشافعية، فقال: طلب المماثلة في الآلة يفضي إلى التفاوت البين. وإذا خيف فيه الحيف، وجب أن يعدل عنه إلى المحدد الذي يزيل الحيف. قال: ووجه الحيف أنك تعدل عن طلب إزهاق النفس إلى طلب الآلة

التي تحصل بها الآلام. وقد علم أن الآلات الموجبة تتقارب في الإزهاق. فأما الحجر والنار والتغريق فليس تتحقق المماثلة فيه؛ لأن بين فدغ حجر وفدغ حجر، وطرح في ماء وطرح في ماء، وإلقاء في نار وإلقاء في نار أخرى، تفاوت في التعذيب. فالمساواة في التعذيب لا يمكن؛ وإنما المساواة في المأخوذ ممكن؛ وهو إزهاق النفس. فعدلنا نحن إلى أوحى الآلات، لأن فيه إزهاقا للنفس. وغاية ما يكون في ذلك أن تسقط بعض الآلام؛ والإسقاط مندوب إليه. وما عدا المحدد الموحي لا نأمن فيه الحيف. إذ ليس لنا آلة تنصف في الآلام وتسوي. لنا آلة تسوي فيما قصدناه؛ وهو الإزهاق وإبانة العضو. ومن سلك القصاص مع أمن الحيف كان أسلم ممن سلك القصاص مع خوف الحيف. || والزيادة في الاستقصاء. ولهذا لم يجعل الشرع القصاص جاريا إلا في إبانة عضو من مفصل، أو جراحة تنتهي إلى عظم؛ فلا تنقل ولا تهشم. وألغى القصاص في الهاشمة والجائفة وفيما قبل الموضحة من الدامية والناشرة والمتلاحمة والسمحاق، لما فيها من خوف الحيف. وإن كنا نعلم أن ولي الدم يريد الاشتفاء ولا يقنع بالدية، لكن نقلناه إلى الدية عما فيه الاشتفاء، خوفا من مقابلة الظلم وهو الجراح بمثله، وهو الحيف في القصاص، كذلك ههنا تتعذر المساواة في الآلام لاختلاف الآلات في ذلك حدا. ألا ترى أن القاتل أولا، وهو المتعدي، إذا ضرب ضربة بسيف، فأبان الرأس، فضرب ولي الدم، أو حداد الإمام، ضربة كضربته في القوة وبالسيف نفسه في الموضع فلم يقطع، كرر

فصل في أن المخاصمة موازنة

الضربات، وفي تكرارها من الآلام ما يوفي على الضربة الواحدة. لكنا ألغينا الآلام جانبا وعولنا على طلب إزهاق النفس. فإذا فعلنا في حق القاتل، ينبغي أن نلغي في حق المقتول قصاصا ولا نعتمد المماثلة في الآلام وأسبابها، بل نقصد ونعتمد إزهاق النفس وتقويتها لنكون قد عدلنا. قيل: إنما ضربنا ضربات ضرورة، لأن النفس لم تزهق بواحدة. قال: لو كان الاعتبار بالآلام والمساواة فيها، لوجب إذا ضربنا ضربة مثل ضربته في القوة وبمثل السيف وبيد مثل يد القاتل في التعود للضرب والقوة، فلم تزهق النفس وكانت مثلها في سعتها ومساحتها، أن نعدل بعد ذلك إلى الدية، لتعذر التساوي وما يفضي إلى زيادة والحيف باستئناف ضربات أخرى، كما عدلنا عند الإجابة والقطع من غير مفصل إلى الدية خوف الحيف وتشظية العظام. فلما ألغينا مقدار الضرب والآلام اعتمادا على إزهاق النفس في حق المقتول قصاصا، وإن كان القاتل ما ضرب إلا ضربة واحدة، بطل اعتبارهم لتساوي الآلام وصح اعتبارنا للتساوي ||في إزهاق النفس وإبانة العضو. 305 - فصل المخاصمة موازنة. فمتى خاصم الإنسان قبل موازنة الحال بالحال، غلب وخسر. فمن أشكال الرجال ما يكون مخاصمة عنه، ومن أشكالهم

ما يكون وبالا عليه. فمن الناس من يكون له سمت وعليه مسحة من تواضع وذل. فمتى خاصمه من عليه سيماء الجلادة، كان الناس كلهم مع صاحب السمت، لما يغلب على ظنهم من ضعف ذلك السمتيت ووقاره وفورة ذلك الجلد وتسلطه. فمخاصم ذلك السمتيت معينا على نفسه، حيث حمل الناس بخصومته على ظهره. ومن خاصم الناس خصم. ومن اعتمد على ما يعمله من نفسه وبراءته، لم يكد ينفعه علمه ما لم يجعل عليه شاهد من برائته. وكم وقعت التهم بالصور والأشكال، وبعدت عن المجرمين لصور وأشكال! فالعاقل من لم يقنع في الأحكام بفراسته. وقد خوفنا الله من الحكم بالفراسة والظاهر بما ذكره لنا من قصة صواع العزيز، ودم قميص يوسف، وبكاء إخوته عند دعواهم أنه أكله الذئب. فأي حكم يبقى عند العاقل لهذه الظواهر مع إيقاف الباري لنا على مخالفة البواطن؟ ولقائل أن يقول: إن كانت هذه القصص تمنع من الحكم بالظواهر، فالحكم بتخريق القميص من دبر يحمل ويحث على أخذ الجنايات من الأمارات والدلائل الظاهرة. ولو سلم لأحد الحكم بما يقع له، لكان رسول الله يحكم بها. وقد قال: إنكم لتختصمون إلي، ولعل أحدكم ألحن بقصته من صاحبه؛ فمن قطعت له بشيء فلا يأخذه، إنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها.

مسألة السلم في الحيوان هل تضبط مقاصده بالصفات

306 - استدل حنفي في مسألة السلم في الحيوان بأنه مما لا تضبط مقاصده بالصفات؛ فهو كالوالي. قال حنبلي: لا نسلم؛ بل تضبط غالب مقاصده ومعظمها التي لا يبقى بعدها إلا معفو عنه، وهو ||ما وراء المشاهدة في بيع الأعيان. قال الحنفي: معلوم أن الصفات لا تنتظم جواهر الرجال. وقد يذكر الطول والضخامة والهزال، ويكون بين رجل بهذه الصفات وبين آخر مثله تفاوت يأخذ من العوض مأخذا عظيما؛ كما يصف القد والوزن في اللؤلو، ويكون بين مثل لولؤتين في ذلك المقدار ما يعظم قدره من العوض. بخلاف الأطعمة والأشربة والثياب؛ فإنه لا يكون بين النوع الجيد الموصوف بأقصى صفاته تفاوت إلا بقيمة تافهة، لا بتطلب النفس ذلك القدر. قال الحنبلي: القدر الذي تشير إليه يفوت الناظر أيضا. فإن الأمانة والثقة والدماثة وجودة العمل لا يجعل اختياره إلا باستعمال الحيوان، ليظهر جوهر الخيل في شيرها وعدوها، وجوهر العبيد في امتحانهم بالأعمال وحفظ الأموال. ثم لا يعتبر وراء الرؤية معرفة لهذه الأحوال والجواهر. ومعلوم أنا لسنا نطلب بالصفات إلا أن تأتي على ما يدركه العيان. فمن يتطلب ما وراء ذلك، يوقف هذا العقد؛ وهو عقد تدعو الحاجة إليه.

فصل [في الاعتبار بعجائب الموجودات والاستدلال بها إلى وجود الصانع]

قال الحنفي: قد تطلب في أوصاف السلم ما لا نطلب في الرؤية. بدليل أن الرؤية لا تدرك من الرمان والبطيخ حلاوة وحموضة، ولا من الجوز بقشرة صحة وزنوخة. ولا من الجوهر في حق الناظر، وليس من أهل الصناعة، ما يدركه أهل الخبرة. ثم العقد صحيح في بيوع الأعيان بالرؤية ولازم عندنا. ومع ذلك لا يصح السلم على وجه يجهل فيه ما جهله مع العيان. ولأنه قد صح بيع اللؤلؤ بالعيان وما صح السلم فيها وإن كان وصف المعترف أولى من نظر غير المعترف. ويصح بيع اللؤلؤ من غير الخبير بصفاته المعترف أولى من نظر غير المعترف. ويصح بيع اللؤلؤ من غير الخبير بصفاته وجوهره، ولا يصح السلم فيه لتقصير الواصف عن مقصوده. قال الحنبلي: ||أما اللؤلؤ فإنه قل من يشتريه إلا البطرين الطالبين لزوائد العيش؛ بخلاف الحيوان، فإن الحاجة إليه داعية. قيل: فيجب أن لا يصحح العقد عليه، لقلة حاجة الناس إليه، إلا ممن يخبر جواهر. 307 - فصل ما علم من سافر ورأى عجائب البحار واتساعها، وعواصف الرياح وشدة هبوبها وجريانها، وشوامخ الجبال وعظم علوها وتصاعدها في أجوائها، وعمق الأودية وأسفالها، وشدة جري السيول إليها، واكفهار البراري وتضوح قيعانها، وصعود السحاب وانتشاره في أعالي الأجواء وظلمتها به وانطباقها،

وزمجرة الرعود في خلالها، وتبعق الصواعق ولمعان البروق عند احتداد حركاتها واصطكاكها، وغرائب الوحوش والطيور واختلاف خلقها، وتراجع نغمها وأصواتها، - بمثابة من لم ير سوى نفسه وبيته وسماء داره وفساح بلده. {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}. فإذا رأى المسافر أو اطلع العالم على هذه الموجودات، عظم في عقله السبب الذي صدرت هذه الأشياء عنه وعن فعله، وتصاغرت عنده نفسه بإضافتها إلى هذه الكليات، وعلم أنها جزء من كل، وقليل من كثير، وعظم الله سح بآثاره، وعلمه بآثاره وأخباره. يا ذاكري بالدلائل! تلمح آثاري وحقق النظر في صناعي وإتقاني، فأرجع البصر، هل ترى من فطور؟ ثم أرجع البصر كرتين. بحقي عليك إن فاتتك العبرة من أول نظرة، فكرر النظر مع إحضاره قوة الفكر. انظر ماذا تدرك من الخير بحياتك، سائل الأشياء عني وتسمع جوابك بمسامع الفكرة تدرك الجواب، وتسمع بلسان العبرة. قل للأرض الفسيحة الأريضة ((من دحاك؟ )) وللجبال ((من أرساك؟ )) وللمياه والرياح ((من أجراك؟ )) فإن تعاظمت عليك فسولت|| لك نفسك بتعاطيها أنها كائنة بنفسها ومكونة لما لطف عنها، فارم بطرفك نحو العوار الذي فيها، والاستحالات التي تطرقت عليها. فإن قال لسان الشبهة عن الشمس ((أنا هو)) فأجبه بلسان الحكمة الذي إذا تعاظم الشيء عند النفس حقق مقداره،

فقل ((فما بال الأفول بعد الشروق؟ )) وإن تجبرت الريح في عيان النفس المسولة، فقال لسان الشبهة ((أنا هو)) قل بلسان العبرة ((فما بال الركود؟ )) ما أشد محنة التكليف! والناظر إلى أسباب التعريف، إن قصر عن مطالعة الآثار، قصرت عنده الأخبار، وإن حقق في النظر، تعاظمت الأشياء عنده فكاد أن يقف معها عن المؤثر. ولا خلاص إلا بلزوم طريق التحقيق لكل منظور فيه. وما أوقع الشبه للعقلاء إلا البوادر والقنوع بالأوائل عن الأواخر. فتعلم من الحكماء المتقدمين كيف أداموا النظر حتى انكشف لهم الخبر. {رأى كوكبا}، فبادره نظره، و {قال هذا ربي}، لمكان علوه وإشراقه وتشعشع أنواره والكمال الذي نظر فيه ببادرة النظر إليه. ثم استدام النظر فما لبث أن وقف على العوار وتغيير الأحوال. وهو أن أفل بعد شروقه، وغاب بعد طاوعه. فرجع إلى نفسه، فرأى أن الأسباب التي كانت له ثابتة من العلو والشروق قد عادت زائلة. كما أن الناظر، وهو إبراهيم الخليل- صلوات الله عليه، رأى نفسه خارجا من حال كان عليها إلى حال يؤول إليها. فرأى أحوال الطالع غير ثابتة، كما أن أحواله غير ثابتة، فقال: {لا أحب الآفلين}، لا أرضى أن يكون إلهي مثلي في بعض أوصافي. وعاد يطلب له ولذلك الكوكب صانعا لا يدخل عليه من التغير والاستحالة ما دخل عليهما. فاستقرأ القمر والشمس، فرأى الحال فيهما حال الكوكب، فنطق نطق المستدل بما شاهد على ما غاب، فقال: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض}. ||فتعلم، أيها المستدل، ولا يمنعك ضلال قوم في أفكارهم لقصور

اعتبارهم أن تهتدي بحسن الطلب؛ فلابد أن يهجم بك على حقيقة المطلب. لأن من أنصف، وقف على الغرض؛ ومن سامح النظر، أو سامح نفسه أو غيره في النظر، لم تلح له حقيقة الأمر والخبر. إن كانت هذه الكليات تتعاظم بالقوة القسرية والعظم الذاتي عليك، فقد عظم شأنك عليها بما أودعته من العقل الحاكم عليها، حتى تسلطت عليها من حيث تسلطت. حبست الرياح والمياه عن جريها بحيلك، وسخنت البارد وبردت المسخن، وسكنت المتحرك وحركت الساكن، وعليت المتقاصر وقصرت المتعالي، وسقت الرياح والمياه والنيران والأراضي سياقة المستخدم لها فخدمتك. فإن جاز أن يكون لك آلهة من حيث قهرها ما منك من العقل فانطاعت لك. فإذا كان الأمر كذا فيك وفيها، فاطلب لنفسك ولها صانعا يتسلط عليك وعليها بالبناء والهدم، والتفريق والجمع؛ وأعلم أن ما شابهك من وجه، شاركك من ذلك الوجه. يا مجموعا من هذه الكليات! انظر إليك وإليها، وانتقد ما فيك، هل فات شيء منها؟ فيا مجموع تربة وماء، وحرارة وهواء! كيف يعبد الشيء نفسه؟ وجب- والله- عليك بحكم الانتقاد، وأنك مجموع هذه الشداد، إن طالبتك بلسان الشبهة أن تسجد لها وتصرف العبادة نحوها، أن تطلب منها العبادة لك بما زدت به عليها من جوهر العقل القاضي عليها. فإذا تكافيتما في الذوات، وزدت عليها بالحكمة المودعة فيك التي تقضي [على] هذه الموجودات ولا يقضي عليها شيء منها طلبت، إذا كان ولا

بد أن يكون عائدا ممن يستحق أن يعبده العقل. وما ذاك إلا من جمعك من هذه الأشياء، وأطلعك بالمعنى على امتلائها بالصنعة ونطقها بالحاجة إلى صانع صنعها، وعدم انفكاكها من الاستحالات. فإن وراءها محيلا يحيلها ||ومميزا يميزها بعد اختلاط بعضها ببعض. بينا ترى الماء سائلا هابطا، حتى تراه بخارا صاعدا. وبينا تراه بخارا صاعدا، حتى تراه ندا قاطرا هابطا. وبينا تراه في أعماق الأرض عابرا، حتى تشهده بساطا من الوشي على وجه التربة مائلا. وكان أديم الأرض صحائف، قد ملئت بفنون الطرائف، من الأخبار بالسالف والآنف، زهرها ونباتها ينطق بالفاعل، ويشهد بكونها على الصانع دلائل. فنعوذ بالله من عيون شاخصة غير بصيرة، وقلوب ناظرة غير خبيرة، صور لا يتصور مبدأها ومنتهاها، وأشكال لا يعرف ممرها من مقرها، ولا اجتيازها من مأواها، ولا المتميز عنها ممن ساواها! فما الذي استفدنا من الوجود بعدم إذا أنكلت كل وجود لم أجد فيه سبب إيجادي وهو موجدي، وعدمت نفسي يوم أن كنت عادما لما وراء حسي؟ ما أحسن ما قال شيخنا أبو القاسم العارف عبد الصمد: ((إن كنت لا أنظر فيما أنظر إلا ما أنظر، فلا نظرت! وإن كنت لا أسمع إلا ما أسمع، فلا سمعت! )) وهذا كلام من درجت له العبرة في النظر، والخبرة في الخبر؛ ودرج الطرق حتى أسرف، واستعمل أدوات المعارف حتى عرف. فهذا مقام الإنسانية. وإلا فالبهائم تسمع وترى، وإنما تميز الإنسان عنها بفهم ما جرى.

شذرة في عتق الراهن

رزقنا الله وإياكم قلبا عارفا، ونظرا ثاقبا! - وأيضا فأني النظر يمنعنا من الوقوف مع هذه الأشكال والصور المعطلة من كل نفع وضرر، الناطقة بما وراءها من الخبر؟ - وجنبنا الاستهانة بها بحيث لا نأخذ منها أدلة العبر، والتعظيم لها حتى لا تجعل إليها ما هي معطلة عنه، ولا نعطلها عما دلت عليه. 308 - شذرة في عتق الراهن قال حنبلي: العتق من أنفذ التصرفات. ومحله الملك. والعبد المرهون مملوك. فإذا تقابل الحق والملك، ||كان الملك مقدما. والملك متحقق بالعين، متخصص بها لا بملك أحد نقله عنها. وأما حق المرتهن، فإنه في معنى العين. ولهذا يملك المرتهن إعطاءه الدين من غير الرهن. فليس في قوة هذا الحق الضعيف أن يمنع المالك تصرفه بالعتق، وهو من أنقذ التصرفات. ولهذا يسري إلى ملك العين بالتصرف في ملك الإنسان نفسه. فأولى أن يسري إلى حق الغير من تصرف الإنسان في خاص ملكه. 309 - شبهة ذكرنا شافعي، فقال: الملك مشغول بحق المرتهن، محبوس به عن تصرف الراهن. فمتى نفذنا تصرفه، أسقطنا معنى الحبس. قال:

[فصل في قول الصحابي هل يقدم على القياس]

وفارق الشريك، إذا أعتق حصته؛ فإنه باشر ملكا غير مشغول بحق، فنفذ. والسراية إنما تكون عن شيء ثبت، ثم سرى. فإذا كان الحق في نفس الرقبة، كما منع حق الحبس فيها من البيع. قال الحنبلي: الملك غير الحبس، وإزالة الملك غير إزالة الحبس. فهو بالعتق يزيل ملكه ويترتب إزالة الحبس سراية. قال الشافعي: بين إزالة الملك وبين الملك حائل يمنع نفوذ العتق، وهو الحجر والحبس. والملك للرقبة، والحبس للرقبة. والحبس والحجر المتمكن في الرقبة منع مباشرة محل الحق بالتصرف والحبس من نفوذ التصرف المسقط له. 310 - قال بعض الفقهاء: إذا قلتم ((قول الصحابي حجة مقدم على القياس)) فمعلوم أنه ليس يجوز أن يكون حجة بنفسه من غير اجتهاد. ولو كان كذلك، لما ترجح قول بعضهم على بعض. وإذا كان عن اجتهاد، فهو قياس الأصول. فما القياس الذي يقدم عليه إذا؟ 311 - شبهة ||قال: إذا كانت جثث الأحياء بعد الموت تعود إلى الكلأ، ورطوبتها إلى الماء، وجسميتها اليابسة إلى التراب، وأنفاسها الهوائية إلى الهواء، يجب أن

قول القاضي أبي زيد الدبوسي في النكاح هل هو أفضل من التخلي لعبادة الله

تعود الروح كلا إلى السماء. قيل: هذه حدوس غير معلومة. ولا يعلم هل تعود كلا أم لا. فإن صح لك ذلك، ففي القدرة الإلهية تخليص الأجزاء وإعادة كل منها للحي جسما وروحا ورطوبة ونفسا. وهذه شبهة إبراهيم حيث رأى الجيفة تأكل منها السباع والسمك والطيور. ثم طار الطير عنها وسرح الوحش وغاص السمك، وكل منهم قد أخذ شيئا من تلك الجيفة؛ وتصير من جملة جسم ذلك الحي. فقال الله له: {خذ أربعة من الطير فصرهن إليك} الآية. فدل على أنه يخلص الأبعاض من الكليات ثم يعيدها. ولأنه روي في السنة أنه يحفظ الأرواح بحدتها، فجاز أن يكون بها من العناية ما لا يصرفه إلى غيرها. لأنها الجوهر اللطيف النفيس، فجاز أن تكون محفوظة عن الاختلاط، بخلاف الأجساد. 312 - نقلت من كتاب الأسرار للقاضي أبي زيد الدبوسي مسألة، قال: قال علماؤنا: النكاح أفضل من التخلي لعبادة الله. وقال الشافعي: التخلي للعبادة أفضل، إلا أن تتوق نفسه إلى النساء، ولا يجد الصبر على التخلي. واحتج بقوله تع في قصة يحيى: {وسيدا وحصورا}. ((الحصور)) الذي لا يأتي النساء مع القدرة. فمدحه الله به. ولو كان النكاح أفضل، لما كان الحصر عنه مدحا ولا فضلا. والاستدلال الفقهي

أن النكاح عقد معاملة. فيكون الاشتغال بالعبادة أفضل من الاشتغال به في الأصل، قياسا على عقود التجارات وسائر المعاملات. لأن المعاملات شرعت لنا، والعبادات شرعت لله تع. والدليل على أن النكاح معاملة أنه مشروع صحيح من الكافر والمسلم. والعبادات لا تتأدى من الكافر. ولأن النكاح عقد شرع لقضاء|| الشهوة، فيكون الاشتغال بالصلاة أولى منه، قياسا على الأكل والزراعة ونحوها. وهذا لأن اقتضاء الشهوة عمل بهوى النفس، والعبادة عمل بطاعة الله. وما بعث الأنبياء إلا بخلاف هوى النفس، والدعوة إلى الطاعة. وهوى النفس حرام، وما أبيح منه إلا ما كان قواما لطاعة الله تع. إلا أنه إذا تاقت نفسه إلى النساء، جعلنا النكاح أفضل، اغتناء عن الزنا بالحلال. فإن ترك الزنا وجميع المعاصي فريضة، والاحتزاز عنها واجب، فيكون أولى من نفل العبادات. وهذا كما إذا اضطر إلى الأكل افترض عليه، وإذا زاد في مرضه كان الفطر أولى. وهذا كمن خاف السؤال لو لم يكتسب، فيكون الكسب أولى من نفل الصلاة. ولعلمائنا ما روي عن أم حبيبة أنها قالت: سمعت رسول الله تع يقول: من كان على ديني ودين داود وسليمان وإبراهيم فليتزوج؛ فإن لم يجد إليه سبيلا، فليجاهد في سبيل الله. وروى هذا الحديث ابن [أم] حبيبة. فجعل النكاح من الدين؛ وجعله مقدما من الجهاد، وقال صلعم: النكاح سنتي؛ فمن رغب عن سنتي، فليس مني. فجعله سنة مطلقة. والخصم يجعله سنة إذا تاقت نفسه. ولأنه جعله سنة بوعيده عن الرغبة

عنه. و ((رغب عنه)) بمعنى ((تركه)) لا اللغة. وقال الخصم: تركه أولى من فعله إذا لم تتق نفسه. وقال عم: تناكحوا وتناسلوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة وهذا أمر ظاهر للإيجاب أو الندب؛ وبين حكمته، وهو تكثير الأمة وعبادة الله. فيكون السبب لخلق عبد هو من أمة الرسول فوق دعوة عبد موجود إلى الإيمان به. ومعلوم ما جاء من الثواب في داعي عبد إلى الإيمان. فالتسبب إلى وجود مؤمن أولى. فإن قيل: النكاح عندنا سنة مرغوب فيها لا مرغوب عنها، ولكنا نقول التخلي خير منه وأفضل، وليس في هذين الخبرين بيانه، قلنا: ||النكاح عندنا سنة مرغوب فيها لا لوصفه. فقد جعلته من المعاملات في تعللك. وإنما نجعله سنة مرغوبا فيها لمعان تتصل بها. وعندنا النكاح في نفسه سنة، كنفل العبادات، وإن كان يتم معاملة محضة. وفي الحديث إشارة إلى أنه سنة لنفسه لا لغيره. ووجه آخر أن النبي صلع تزوج، وأنهى العدد المباح له، واشتغل بهن عن التخلي للعبادة. فثبت أنه أفضل من التخلي. فقد اختار الله تع لرسوله صلعم أفضل مناهج الدين. وكذلك رسول الله يجتهد لسلوك أفضل طريق الدين. وهم قوم من أصحابه بالتخلي وفراق زوجاتهم، فرد عليهم رسول الله صلعم بطريقه، ثم قال: وأرجو أن أكون أحشاكم الله وأعلم بما يتقي عنه. فإن قيل: كانت نفسه تواقة إلى النساء، فكان النكاح له أفضل،

قلنا: ولما ثبت أن الله تع خلق رسول الله على أحمد صفات عبيد الله وأوعاها لما همه، فلو كان الأفضل هو التخلي للعبادة، لخلقه غير تواق إلى النساء ليكون منهاجه في الدين على أعلى سبيله. ولأن النبي عم رد على من أراد التبتل، وغضب، وأخبر أنه [لا] رهبانية في الإسلام، ولأن في الواحدة كفاية عن الزنا، فثبت أن الزيادة إلى كمال العدد لم يكن إلا لأنه أفضل من التخلي للعبادة، إلى أن يخاف المنكر. وبهذا نطق كتاب الله تع. فإن الله تع أمر بالثلاث والأربع؛ وشرط خوف الجور، فصبر على الواحدة. فثبت أن الترك مشروع يشرط في الفعل. وفي نهي النبي عم الذين أرادوا التبتل عن التبتل والثبات عن النساء دليل واضح على فضل حال النكاح على التبتل. وجه آخر ما روي عن النبي صلعم أنه قال: من أحب المباحات إلى الله تع النكاح، وأبغضها إلى الله تع الطلاق. والطلاق مشروع لقطع النكاح، فصار مبغضا شرعا في نفسه ووصفه، لا بعارض. فعلم أن النكاح في وصفه ||وأصله محبوب لله، إلا بعارض جور فيه، لا أنه من المعاملات المباحة إلا لعارض. والفقه فيه أن النكاح في أصل وضعه شرع لمصالح دينية عامة. فيكون أولى معنى بنفل العبادة، قياسا على السلطنة بحق والجهاد في سبيل الله. وإنما قلنا ذلك لأنه شرع للقيام على النساء وحفظهن والنفقة عليهن. والازدواج فيه صلاح العالم، وسبب لبقائه

إلى يوم القيامة، وصلة بني الأقارب، وتأسيس للقرابات المحترمة بدليل قوله سح {فجعله نسبا وصهرا}، وتكثير عباد الله وأمة الرسول، وتحقيق مباهاة الرسول بهم إلى يوم القيامة. فيكون الاشتغال به أولى من التخلي للعبادة حكما وشرعا. فتكون المصلحة العامة الدينية أولى من التخلي للعبادة؛ إلا أن يخاف الجور، فيدعه فرارا عن المعصية؛ كالخلافة والحكومة ونحوهما من أمور العامة، وكما إذا تاقت نفسه إلى النساء. وإنما قلنا ذلك لقول الله تع: {الرجال قوامون على النساء}، وهم الأزواج. لأنه قال: {وبما أنفقوا من أموالهم}. والنفقة على الأزواج دون الأجانب. ولأنه بالإجماع الزوج هو الذي يحفظ امرأته ويمسكها حيث شاء بحق الملك لها إلا بإذنه. والنساء في جبانتهن يضعن- يعني بغير رجل يحفظهن. وإنهن لحم على وضم إلا ما ذب عنهن. وما يتم الحفظ إلا بالازدواج عادة. وكذلك النفقة لهن يلزمهم من مالهم صلة لهن. فهذه أحكام تثبت شرعا بنفس العقد قيد قضاء الشهوة والوصول إليه. وكذلك النسب. وكذلك الله تع حكم ببقاء العالم إلى يوم القيامة وعلقه بالتناسل. ولا نسل إلى ما شرع الله إلا بملك. ولا ملك على أصل ما خلق الله تع من الحرية إلا بالنكاح. فيكون النكاح هو سبب بقاء العالم شرعا، لأن غيره منهي عنه شرعا. والبقاء حكم ماض، لأنه ... شرعه لنا، علم أنه طلب منا الإيفاء بذلك السبب. إلا أنه ||لا ... فيصير فرضا أصله. وفيه تكثير عباد الله وأمة رسول الله وتحقيق مباهاة الرسول بالكثرة، على ما

قاله الرسول عم. وهذه الأمور كلها أحمد من أمور الإمارة. والأمير يقوم بمصالح الناس التي بها سكون الفتنة وقيام المعدلة. وإنه سبب لبقاء النفوس القائمة لا لوجود ما لم يوجد بعد؛ فلا يتعلق به البقاء إلى القيامة. وكذلك يرزقهم من مال بيت المال، لا ملك نفسه. ويعدم فيه صلة الأجانب وتأسيس القرابة وحفظ النساء عن الزنا. فإن قيل: الأمير [يدافع] عن الناس في مصالحهم، فكانت حسنة وضعًا، ما يملك لنفسه شيئًا. والزوج بالنكاح يملك المرأة، ويقضي شهوته منها، وسائرها التي ذكرت زوائد فيه. فتكون العبرة الأصل. فتصير من جملة المعاملات التي شرعت لحظوظنا، أو الأفعال التي أبيحت لضرورة دعوة طباعنا؛ كالأكل والشرب والنعوظ والتنفس ونحوها.- قلنا: إن الإمارة ترغب فيها النفوس لاقتضاء شهوة الجاه والولاية ونفاذ الأمر أكثر مما يرغب في النكاح لاقتضاء شهوة الفرج. ألا ترى أن الإمارة مطلوبة بين الناس بالقتال وجر العساكر بهوى النفس دون رغبة في الآخرة وطاعة الله، ولا يرغب في النكاح إلا لاقتضاء شهوة الفرج؟ ... وشهوات كبار النفوس في الجاه، ونفاذ الأمر فوق شهوات النفس في الجماع. إلا أن الشرع ما شرع الإمارة بحكمة اقتضاء الجاه والعلو في الأرض، بل ذلك إنما يكون لأهل الجنة في الآخرة؛ ولكن شرعها لإقامة مصالح الناس

وحفظهم والتزام أحكام الله. فصارت بما عليه لله تع طاعة لله وحسنة على ما شرعها الله تع. إلا أن الله تع جعل شهوات النفوس داعية إلى الإمارة ليتولاها المطيع والعاصي. وجعل ركنها على نهج أركان المعاملات، لئلا تفوت مصالح العامة بعدم النية، ولا تفسد الأمور التي بها قوام العالم. فكذلك النكاح || مشروع من الله تع لا لاقتضاء الشهوة؛ بل شرعه للازدواج، والقيام على النساء وحفظهن. فهن على الضياع بدون تتمة من الرجال وكمال النفقة؛ فإنهن عاجزات عن التكسب والنسل الذي علق به بقاء العالم ووجود عباد الله الذين منهم الأولياء. فصار بما عليه من الأعمال لله تع طاعة وحسنة. غير أن الله تع سلط شهوات النفوس داعية ليتولاه العاصي والمطيع. وجعل ركنها ركن المعاملات. فلا تفوت هذه المصالح ولا تبدل ما حكم الله من البقاء بفساد قصد العباد. فيكون المنكر لطاعته متخلفًا عنه والعامل له كالمطيع. دل عليه إذا تاقت نفسه. فإنه إن اعتذر بأن فيه حفظًا عن الزنا، ففي نكاح الذي لا تتوق نفسه حفظ المرأة عن الزنا؛ فلا يختلفان فيه. وقد سئل رسول الله صلعم عن الجماع: أنقضي شهواتنا ونثاب عليها؟ فقال نعم؛ الحكمة التي قلناها. ألا ترى أن التسبب لرفع الهلاك عن الحي خير من صلاة النفل؟ والتسبب للوجود يكون فوقه. ثم نفضل الإمارة والنكاح على التخلي للعبادة لمعانٍ معقولة. منها أن المتخلي للعبادة عامل

لنفسه، والمتسبب لإقامة المصالح عامل لله تع. لأن إقامة مصالح عبيد الله على الله سح؛ كالرزق والحياة ونحوهما. والعبد نائب عن الله -عز وجل- في إقامتها. فأما العبادة فعلى العبد. فيصير عاملًا لنفسه لا نائبًا عن ربه. فتكون النيابة فوق عمل الابتداء. كمن يقضي دين إنسان عنه محتسبًا، ويصل بصلة؛ فيكون القضاء عنه فوق الصلة له. ولأن ما على الله تع من الرزق، وبقاء العالم إلى حينه، وإقامة مصالحه، حق واجب؛ فيصير من الفروض الشرعية، لما فيه من ضروب الحسبة، على ما ذكرنا. والحسبة مما أمر بها الشرع حقًا لله سح. فيكون فوق النافلة المشروعة؛ إلا أنه من فروض الكفاية. وإذا قام المقصود من أنكحة البعض سقط عن الباقين. ولن يتصور اجتماع العالم على التبتل. ولأن التخلي للعبادة || خير يخصه وخير المحتسب يتعدى إلى غيره. ولا خلاف أن في ديننا أن ولي العشرة أفضل من ولي العزلة، وولي العشرة في المخالطة والتحبب إلى الناس بالخلق خير. ونفس العشرة والمخالطة توجد من الكافر والمسلم. ولأن خيره في العادة ينقطع هو به، وخير النكاح يبقى بعد موته بولد صالح يدعو له بعد موته على ما جاء به القرآن: {فهب لي من لدنك وليا} {يرثني ويرث من آل يعقوب}؛ والسنة: كل عمل ابن آدم ينقطع بموته إلا ثلاثة. وذكر ولدًا صالحًا يدعو له، وصدقة دارة؛ فقرن الولد بالصدقة. فالخصم نظر إلى ظاهرة وصف النكاح، فوجده من معاملات الناس، وإلى الحكمة الظاهرة للنفوس من فائدة اقتضاء الشهوة والصرف عن الزنا،

فجعل العبادة خيرًا منه، وجعله من نظير الأكل والكسب. ونحن نظرنا إلى باطن حكمه، على ما [كان] عليه دائبًا، ودأبه في تعليلات النصوص. دل عليه أن فطر المريض، إذا خاف التلف على نفسه، خير من الصوم. ففي الفطر اقتضاء شهوة. وفي الصوم خلاف لهوى النفس وطاعة الله في أصله. لأنه في حال المرض سبب تلف، والفطر سبب بقاء. فصارت الطاعة في النسل سبب. وكذلك لا يجعل صوم الوصال افضل من الصوم والفطر. لأن الوصال يضعفه عن الجهاد والقيام بمصالح الناس. إلا أنه لما وجب حين الخوف دفعًا لضرر الطبيعة توقى الضرر، على ما ذكرنا. فأما قصة يحي، فليس بحجة فيها أن التخلي لعبادة الله والصبر على النساء أمر ممدوح. وإنا لا نذمه؛ ولكن نقول النكاح على إقامة شروطه أفضل منه. كما مدح في الشرع العزلة عن الإمارة لمخالفة الحق؛ ثم كان المتولي بشروطها أفضل من العزلة عنها، أو يقول نحتمل العزلة. والترهب كان أفضل من العشرة في تلك الشريعة. ونسخ ذلك في شريعتنا. وصارت العشرة خيرًا من العزلة. وعن الفقه أنا نجعل الصلاة أولى ... لا نفضل || النكاح لأنه معاملة، بل لأمور أخر بيناها. فصرنا قائلين بحكم علتهم. وكذلك الجواب عن الثاني. ولهذا المعنى جعلنا نحن الطلاق أصله مكروهًا إلا لعارض. لأنه لقطع ما هو محبوب في نفسه. وجعل الشافعي أصله مباحًا إلا بعارض ذمه الشرع يقترن إليه؛ كفسخ البيع.

شذرة في جمع الطلاق

لأنه لقطع ملك مباح، كملك الثمن. دل على صحة ما قلناه أن الله تع قال: {وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا}. فمن بالنسب والصهر كما من بأصل الخلق. وسبب النسب والصهر هو النكاح. وقد ألحق المنة بالخلق. فصار بمنزلة ما لو جعل إلينا خلق البشر. ولو تصور ذلك، كان الاشتغال به أولى من نفل العبادات. ألا ترى أن الاشتغال بدفع أسباب الهلاك عن الأحياء أولى من التخلي للعبادة، لأنه في الشرع ملحق، والإحياء قد جعل إلينا دفع أسباب الهلاك. فصار بمنزلة ما لو جعل إلينا إحياؤه. فمال الكلام فيه إلى أن النكاح أصله لقضاء [الشهوة] وغرض المصالح تبع فيه، وأصله للمصالح الشرعية، وقضاء الشهوة تبع. 313 - شذرة في جمع الطلاق قال حنفي علوي إمام، قدم إلينا حاجًا، يعرف بمحمد السمرقندي: الطلاق في الأصل مكروه عند الله مبغوض؛ كما أن النكاح محبوب ممدوح. فإذا ثبتت هذه القاعدة، فيجب أن لا نبيح منه إلا ما يحتاج الزوج إليه. والذي يحتاج إليه طلقة، فإنها تنتهي إلى إزالة الملك بانقضاء العدة. فينبغي أن يكون ما زاد عليها بحكم نفي الحاجة المبيحة على حكم الأصل من الكراهة.

قال شافعي: لا أسلم. بل الطلاق في الأصل مباح؛ وإنما يحرم أو يكره لعارض؛ كحيض، أو إضرار بالإلجاء || إلى دفع العوض عنه لتخليص النفس، أو ما شاكل ذلك. فقد خولفت في أصل القاعدة، والحديث الذي تستدل به يدل عليك. لأنه قال: لا مباح أبغض إلى الله من الطلاق، ولا أحب إليه من العتاق. ومحال أن يجتمع له الحظر والبغض والإباحة في حالة واحدة. لم يبق إلا أنه مباح على الإطلاق، مكروه على صفة، لاستحالة بغضه على الإطلاق، وإباحته على الإطلاق، أو بغضه على صفة مباح عليها. لم يبق إلا ما ذكرنا. قال الحنفي: بل يكون مبغوضًا على الإطلاق، مباحًا على صفة هي الحاجة. بدليل أنه لو كان مبغوضًا على صفة هي الإضرار، لما اختص بذلك، ولبطل فائدة تخصيصه بذلك. لأن البيع والإجارة وسائر العقود، إذا وقعت على وجه الإضرار بالغير، كانت مبغوضة عند الله. لم يبق لتخصيص الطلاق فائدة. إلا أنه إذا طلق بغير سبب يحوجه إلى الطلاق، كان مجرده مكروهًا. فإذا احتاج، فالذي يسد حاجته طلقة. فإذا زاد ثانية صارت كالطلقة التي تغيرت في الابتداء عن حاجة، فكرهت. كما لو دخل على امرأته وهي على غاية الطاعة والمحبة والغفلة عن المضرة، فأضرها بطلاقه، فإنه يكون مكروهًا؛ كذلك الطلقة التي تزيد على قدر الحاجة. وهذا فصل جيد، فافهمه.

من الأسرار لأبي زيد الدبوسي مسألة [في الحرة العاقلة البالغة هل لها ولاية التزويج] (انظر التتمة فصل 413)

314 - من الأسرار مسألة قال القاضي أبو زيد الدبوسي: وأما الحرة العاقلة البالغة، إذا زوجت، فيجوز عند أبي حنيفة، وقول أبي يوسف الآخر. كذلك تثبت لها ولاية تزويج قرابتها، إذا لم يبق ولي من جهة الرجال. وكذلك الخال، تثبت له ولاية التزويج، إذا لم يبق من جهة الأب قريب، في قول أبي حنيفة، وقول أبي يوسف الآخر. احتج أبو حنيفة في الأصل لجواز نكاحها لنفسها بنفسها: إن هذا العقد وهذا النكاح بمهر المثل خالص حقها قبل الولي؛ بدليل || أنها إذا طلبت، لزم الولي إيفاؤه إياها؛ وإذا أبت، لم تكره عليه؛ كدين الإنسان قبل آخر. فثبت أنه خالص حقها. لأن الشرع جعل المباشرة إلى الولي، كمباشرة إيفاء الدين. فكانت مباشرة الولي للخروج عما عليه لصاحب الحق. فإذا كان صاحب الحق ممن يجب الإيفاء بطلبه، فإذا استوفاه صاحب الحق بنفسه، من غير طلب بعد الاستيفاء، لم ينقض عليه؛ كصاحب الدين إذا دخل حرز الغريم واستوفى حقه بغير إذنه. وهذا لأنه في الحقيقة ما أبطل من حق الغريم شيئًا؛ إنما أسقط عنه مباشرة كانت تلزمه. فكذلك في مسألتنا هذه. ألا ترى إن تبرع عنه بقضاء الدين، يصح؛ لأنه لم يبطل من حقه شيئًا. وكذلك الإبراء

يصح من غير قبول، لهذا المعنى. بخلاف الصغير، لو فعل ذلك بنفسه؛ لأن الإيفاء لا يجب تطلبه. فعلم أن الصغير مولى عليه لنقصان رأيه، وأنه لا عبرة به وإن وجد، إلا بدلالة الخطاب أو إذن الولي الذي جعل إليه النظر في أمره. فلم يبطل تصرفه بغير رأي معتبر شرعًا. وبالبلوغ يزول حجر الشرع. فتصير العبرة لمن كان يعرف الرأي به في العقل والتمييز. ألا ترى أن طلبها يصح، فيبقى الحجر بعد ذلك، كما ثبت للولي حق المباشرة، وأمرت المرأة بالطلب منه، وذكرنا أنه غير مانع. فإن قيل: استيفاء الدين يكون من حبس حقه وأنه شيء محسوس ثبت بالعقل، فاستقام أن يقال إنه حصل بفعل صاحب الدين. فأما النكاح، فإنه يتم حكمًا شرعيًا والمباشر حسًا لا يوقف على الحكم.- قلنا: إن استيفاء الدين، لو حصل من الصبي، لم يصح؛ لأن التمليك بذلك الاستيفاء أمر حكمي لا حسي. كذلك في النكاح والقبض حسي، كالقول في باب العقد حسي؛ فثبت أنه لا فرق بينهما. فإن العلة ما قلنا: إن الحجر بحق الغير إنما يثبت إذا كان حقًا له، لا حقًا عليه. فإن قيل: أصل النكاح للمرأة. وإنما نقل إلى الولي لنقصان فيها، كما في الصغيرة. بخلاف الدين لأنه نقص || بالعين، وإنه ملك الغريم، فكان الإيفاء إليه أنه ملكه في الأصل، لا أنه ملك صاحب الدين ونقل إليه لنقصان حاله. هذه شبهة المسألة.-قلنا: لم تنقل إلى ولاية المباشرة لنقصانها، بدليل أن الإيفاء يجب بطلها ويبطل بردها. والرأي

لا يحتاج إليه للمباشرة نفسها. فإنه عبارة عما لا يوجب حكمها باختلاف الناس. وإنما احتيج إلى الرأي لاختيار الزوج الذي يقع به التفاوت في أغراض النكاح. فلما كان ولاية الاختيار إليها، علم أن الناقل ليس نقصان رأيها صيانة لباب النكاح وأغراضه، لكن الغضاضة تلحق الولي بأن تنسب إلى الرعونة والوقاحة بمباشرة العقد على نفسها غارة؛ كما منع الرجل من الخطبة على خطبة أخيه، كي لا تلحق الأول وحشة. ولأن نهينا عن لمباشرة لمعنى لا يتصل بالعقد؛ فلم يدل على فساد المباشرة. ولم يكن الحجز عن النكاح بذهاب الولاية عنها أصلًا، بل لمراعاة حق الغير، لا يتعلق به الجواز. فكذلك فيما نحن فيه. والدليل عليه ما ذكرنا أن النكاح من جملة مصالح النساء، كما هو في جانب الرجال، وكما في المال. فثبت ولاية التصرف لصاحبها بالبلوغ عن عقد، كما في جانب الرجل. ثم الحجر إنما يثبت قياسًا من الوجه الذي ثبت في المال والنكاح. وذلك من الوجه الذي قلناه، وهو الشرى على سوم أخيه، كما أشرنا. فالحجر من ذا الجانب، لا أن يثبت بنقصان فيها بعد البلوغ عن عقل أو رأي، بل لمراعاة حق الغير. فتبين أن الحرة البالغة، على أصل أبي حنيفة رحه، يكون مولًى عليها نكاحًا بنقصان الأنوثة، وأن الولاية تنتقل إليها. ولكنها منعت عن التصرفات بها بنفسها، وأمرت بالطلب من الولي، وجعلت له ولاية المباشرة لصيانتها عن الرقاحة. وللولي مراعاة لحق المولى عليه ودفع الغضاضة الحاصلة بالوقاحة. فصارت مولًى عليها بباب من أبواب|| المروءة. فكانت بالاجتهاد. وإذا

ثبت لها ولاية المباشرة بالبلوغ، ثبت التعدي إلى الغير عند شروطه، وهو بحجر المولى عليه كما في الذكر. لأن الولايات على الغير لا تثبت بعلة في المولى عليه، بل هي الولاية التي ملكها الإنسان بحريته على نفسه وماله. ثم يصلح شرعًا للتصرف على غيره، إذ عجز الغير بنفسه. وليكن التعين لذلك بأسباب مخصوص من سلطنة أو قرابة ونحوها. وليس النكاح كالطلاق. لأن ولاية العقد بحكم ملك الإنسان؛ والحر والحرة فيه سواء. والطلاق بحكم ملك النكاح. وذلك للرجل دون المرأة، على ما نذكر بعد حين، إذا كان تعريفًا بسبب آخر يشتركان فيه. كالعيب عند الخصم، وإسلام أحدهما عندنا. قال أبو حنيفة -رحمة الله عليه- في الأصل: أرأيت لو أعتقت الحرة امرأة، تملك تزويجها، والولاء ثابت لها كما للرجل؛ ووافق محمد عليه. فكذلك باب النسب؛ وإذا مات الرجل، تعينت به. فأما عذر محمد أنه لا يكون عصبة، ساقط. فإنها تستحق جميع المال، إذا لم بكن عصبة، بحكم القرابة. كالعصبة، على ما بينا، في باب المواريث. وتبين بهذا أن الحجر ليس لعظم خطر النكاح. فإنها ملكت إنكاح معتقتها لما لم تثب فيه إلى الوحاقة، ولم يلحق الولي بذلك غضاضة. وأما الجواب عن فساد يقع بمباشرتهن، وأن ذلك الوهم ثابت للولي

تتمة فصل 688 ص 723

في حق الاعتراض والمرافعة إلى القاضي حتى يبرئ مما صنعت، فإن كانت استوفت شروط النكاح، أقرها على ذلك؛ وإن أخلت، رده. ولما ارتفع الفساد بضرب هذا الأمر، ثم ثبت أمرًا زائدًا، بخلاف حال عدم الشهود، فإنا متى جوزنا النكاح لدونهم لم يبق لأحد ولاية الموافقة لأجل عدم الحجة. فأما فيما نحن [فيه]، فدعوى الولي الخلل في باب نشوء اختيارها مسموع، والقاضي يحضرها ويتأمل في ذلك. لأن الشهود شرط على المتعاقدين حقًا للشرط، صيانة للعرض. ومباشرة الولي العقد حق جعل لها قبله، بدليل ما ذكرنا، حتى لا تثب إلى الوقاحة فتملك الإبطال [ ... ] 315 - [ ... ] || آكد في تحصيل التكليف وثواب اعتناق الأمر من حيث يحصل به تقدم التوطين للنفس على أداء الحق، أي حق كان، فيقع الثواب بذلك. ثم يجيء البيان بمقدار المأمور به، فيحصل ثواب الامتثال. قالوا له: إلا أنه يتعجل الجهل. وما ذكرته من الاعتقاد فليس من خصائص الأمر، بل يجب قبل الأمر بطريق الإيمان. فإن الإيمان يوجب ذلك. فيجب على كل مؤمن أن يوطن نفسه [على] أن أي شيء أمر به من قبل الله سح أطاعه فيه وسارع إليه. وكلامنا فيما يختص الأمر، وليس إلا المستدعى من الفعل. فأما الاعتقاد والعزم، فلا. على أن ما يورث من الجهل لا يفي به ما ذكرت من الاعتقاد والعزم. قال الحنبلي: أما قولكم إن الاعتقاد والعزم ليس من خصائص الأمر،

لكنه يحصل ويسبق بنفس الإيمان، فليس بكلام صحيح. لأن الإيمان أصل، وتوطين النفس على أن ما يرد من الأوامر يمتثله فرع من فروعه. وذاك اعتقاد جملي، فعلق على ما عساه يكون من الأمر في الثاني. ونحن نتكلم في أمر قد ورد بفعل مجمل أوجبه اعتقاد وجوبه. فأين هذا من ذاك؟ وهذه الطريقة أحسن طريقة تجيء على أصلنا، من حيث إنما يجوز ورود النسخ للشيء قبل وقت فعله. فإذا نسخ، علمنا أنه ما كان المقصود بالأمر به إلا ما يحصل للمتكلف؛ وما يحصل له مع النسخ قبل وقت الفعل إلا الاعتقاد والعزم. فعلى هذا قد بان أن العزم والاعتقاد مقصودان بالأمر، حيث أجزنا النسخ قبل وقت فعل المأمور به، وقولكم إنه من حكم الإيمان. فهذا يؤكد ما ذهبنا إليه. لأنه إذا جاز أن يكون بأصل الإيمان يجب الاعتقاد لاعتناق ما يرد به الأمر، فكيف لا يجب مع ورود الأمر اعتقاد ما يحصل من بيان المأمور به؟ وأما قولكم إنه يفضي إلى التجهيل، فليس بتجهيل له عن علمٍ علمه؛ وإنما هو تدريج في تحصيل العلم له. والتدريج هو إعلام لشيء بعد شيء. وليس من شرط العلم أن يقع جملة واحدة؛ بل الاستدلالي يقع بمقدمة بعد مقدمة. فأول ما يقع العلم بالنظر || الأول في حال العالم، حدث العالم؛ ثم إثبات الصانع بنظر ثاني. وكذلك النظر في إحياء الميت، أنه دال على صدق من قام ذلك على يديه. ثم النظر الثاني أن لا يجوز أن يكون هو الفاعل له، بل هو مؤيد به. وعلى هذا أبدًا.

فصل جرى بجامع المنصور في مسألة غرامة الذمي بإتلاف المسلم

316 - فصل جرى بجامع المنصور في مسألة غرامة خمر الذمي بإتلاف المسلم استدل فيها حنبلي، فقال: مائع نجس؛ فلا يجب غرامته على متلفة، كالدم. اعترض عليه حنبلي، فقال: أي تأثير لقولك ((مائع؟ )) وكم جامد لا يجوز بيعه، ولا يجب ضمانه؟ وكم مائع طاهر لا يجب ضمانه؟ كلبن الآدميات. وسائر الحشرات جامدة طاهرة ولا يجوز بيعها. فإذا لم يكن له تأثير، لم يجلب الحكم. على أنه لو كان عدم الضمان يتبع النجاسة، والنجاسة تجلب نفي الضمان، لكان الحمار والبغل وسباع البهائم التي يصطاد بها، كالفهد وجوارح الطير، مضمونة، في إحدى الروايتين، ولا تكون مبيعة رواية واحدة ومذهبًا واحدًا. فلما كان حكمها في النجاسة والطهارة مختلفًا فيه على مذهبين، وبيعها وضمانها مذهبًا واحدًا، بطل أن يكون أخذك لإسقاط الضمان من النجاسة أخذًا صحيحًا. فإذا ثبت بهذه الجملة أن علتك لا تؤثر الحكم، قابلناك الآن بما يؤثر إيجاب الضمان. وذلك أن هذه الخمر، وإن كانت نجسة، إلا أنها شراب يعتدونه مالًا وشرابًا، ويقرون عليه، ويحمي الإمام عنه كما يحمي عن سائر أموالهم بالضرب والتعزير لمن يقصد التفتيش عليها والتنفير ويريقها. ومن حفظ الذمة في إقرارهم عليها أن يضمن مريقها ومتلفها.

قال المستدل: لا عبرة باعتقادهم؛ وإنما الاعتبار باعتقادنا. ونحن لا نعتقدها مالًا، ولا نعتدها شرابًا. قال الحنبلي المعترض: لا شك أن من مذهب أحمد تحريم عوض كل محرم. حتى إنه حرم أعواض بعض المباحات، لكونها دنايا. واستدل في تحريم عوض الحرام بقول النبي صلع: لعن الله اليهود! حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، إن الله إذا حرك شيئًا حرم ثمنه. وفي تحريم عوض الدنايا قوله: كسب الحجام خبيث، ومهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث. ومعلوم أن عمر رضه لما وضع على جواز أموال أهل الحرب العشر، وعلى أموال أهل الذمة نصف العشر، قال في الخمر إذا خير بها العشارين: لا تأخذوا منها؛ لكن ولوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها. ولا يجوز أن يكون جواز ذلك في حقنا إلا وقد أجريت مجرى الأموال المباحة في حقهم؛ إذ لا إباحة في حقنا. فلا يبقى موافقة بين قول النبي ((إن الله إذا حرم شيئًا حرم ثمنه)) وقول عمر ((ولوهم بيعها وكلوا العشر من أثمانها، )) إلا أن يكون تقدير ذلك ((وكلوا العشر من أثمانها، فإنه ثمن ما هو مباح عندهم.)) فالعبرة باعتقادهم؛ إذ لو كان الاعتبار ياعتقادنا، لكان حملًا من عمر للمهاجرين والأنصار على استباحة شيء هو ثمن ما حرم الله. وذلك حمل لهم على ما يدخلون به تحت اللعن. وحاشاه! قيل له: فما الذي يكون جوابك عن هذا إن ألزموكه أصحاب أبي حنيفة؟ وكيف تجمع بين الخبر وقول عمر؟

[مسألة الجمع في الصلاة لأجل المرض]

قال: إنا لا نأخذه ثمنًا، لكن نأخذه بحكم الخراج. وذلك كما نأخذ الغنائم، وإن كانت أثمان الخنازير ومهور الزواني. وهذا لا يعطي مناقضة لقول النبي صلعم ((إن الله إذا حرم شيئًا على قوم حرم ثمنه عليهم)) وأما أن تعطي ((حرم ثمنه على غيرهم)) فليس وعمر يقول ((ولوهم بيعها حتى إذا أخذوا هم أثمانها خذوا العشر من أثمانها.)) فسماه ثمنًا بالإضافة إلى بيعهم؛ وهي بالإضافة إلينا ليست ثمنًا. 317 - استدل حنبلي في مسألة الجمع لأجل المرض، فقال: عذر يؤثر في صفة الصلاة، فأثر في وقتها؛ كالسفر والخوف. فاعترض عليه حنبلي آخر، || فقال: إن المرض جعل الله سح وتع الصلاة بحسبه. كيف أمكن المريض أن يصلي، صلى. فالصلاة إذا قدمت أو أخرت أخل فيها بوظيفة الوقت. وما ذلك إلا تعجيل الإخلال بمقصود، لأجل ما أسقطه الله عن المكلف في وقته. وذلك لا يجوز؛ كما لا يجوز الجمع بين صلاة الظهر والعصر في الحضر، تقديمًا لصلاة العصر إلى الظهر؛ حتى لا تدخل العصر عليه في السفر، فيحتاج إلى تغييرها. كذلك أكثر ما في هذا التعجيل اغتنام صلاة جالسًا، خوفًا من أن يكون في وقتها ضعيفًا لشدة المرض بنوبة ثانية، فيصلي مضطجعًا. وذلك ترك لحق الشرع من الوقت لأجل حق الشرع من التمام. والشرع لا يوجب في الوقت الذي يضعف به عن القعود أو القيام إلا الصلاة بحسب حاله. فكيف يسقط وقتًا خوطب بإشغاله بعبادة وتخلية فيها لأجل انتهاز عمل

[من كلام علي بن أبي طالب في الحرب وتفسيره]

كامل بعدما توجه نحوه؟ وإنما يتوجه نحوه في الثاني بحسب حاله، فيسقط وقتًا واجبًا إشغاله لاغتنام تمام لا يجب ولا وجب بعد. وإنما الواجب منه بحسب الحال والاستطاعة. والوقت أكبر مراعى في الشرع. بدليل أنه إذا عدم الماء والتراب صلى على حسب حاله إشغالًا للوقت. وكذلك إذا أكل ثم قامت الشهادة برؤية الهلال؛ أو أكل للمرض أو السفر، فزال المرض وقدم إلى بلده، كان عليه إتمام ما بقي من الوقت إمساكًا لحرمة الوقت، ولا صوم. وإذا كان الوقت بهذه المثابة من الحفظ له والاعتناء به، بطل تفويته مع القدرة على حفظه وإيقاع وظيفته فيه، لأجل مراعاة إتمام أفعال بعدما تحقق وجوبها، فضلًا عن إتمامها. وأنا أعتقد، بعد هذه الطريقة، أن الجمع لا يجوز لأجل المرض. فإنها طريقة وقعت لي في الباطن. وللمستدل أن يقول: إذا جاز أن نفوت الوقت الذي قد عظمته وتتقدم عليه لأجل فضيلة الجماعة، فتفويته لمراعاة كمال الأركان وحفظ هيئاتها أولى. فجميع ما ذكرته باطل بتجويزك الجمع اغتنامًا || لفضيلة الجماعة. 318 - قول علي عم: ((اطعنوا الوخز واضربوا البتر وغضوا أبصاركم وأصواتكم؛ فإن الصوت في الحرب فشل.)) فما قصد بقوله ((الوخز؟ )) قيل: لا تبالغوا

جرى بمجلس الظفرية مسألة المسلم من الأقارب قبل قسمة الميراث

بالطعن في قتال أهل الإسلام، لئلا يستقصى فيه. ولذلك نهى الشرع عن اتباعهم مدبرهم، والتجهز على جريحهم. ولا يتبع مدبرهم. فلذلك أمر بضرب البتر وطعن الوخز لئلا يستقصى [فيه]. 319 - جرى بمجلس الظفرية مسألة المسلم من الأقارب قبل قسمة الميراث استدل فيها شافعي، فقال: زوال المانع من الإرث بعد الموت لا يؤثر في استحقاق الإرث؛ كعتق العبد. اعترض حنبلي لمذهبه، وهي مفردة له في إحدى الروايتين عن أحمد، فقال: هذه المسألة معولي فيها على قضية عثمان. وهي الظاهر من مذهب على عم. فإنه ذكر أهل الفرائض من مذهبه أن كل مانع زال قبل القسمة، فإنه يورث الشخص الذي زال عنه؛ كالعبد يعتق، والكافر يسلم. وليس يقتضى القياس ذلك. فكان الظاهر أنه نقل منهما، لا رأي لهما. وأما القياس، فإن تكلمت عليه، فإنه ليس إذا لم يكن من الإرث، وتجدد له الأهلية، لم يستحق؛ بدليل أن الحمل قد يكون نطفة، أو علقة، أو مصورًا، لكن لم تجر فيه الروح، ثم إذا ولد كان له حظ من الإرث مضافًا إلى وقت كان ليس بأهل أن يملك رأسًا. وكذلك عند الشافعي أن ما يصير إلى بيت المال من مال من لا وارث له يكون إرثًا. ثم إنه قد تجدد

إسلام، وعتق قوم، ويكون الاستحقاق حاصلًا من حين الوقت الذي بم يكونوا أهلًا، أو ولاة بسند، ويكون مستحقًا في الحال. وكلاهما يوجب أن يكون ما عولت عليه ليس بمعول. قال الشافعي: أما القضايا من الصحابة، فلا حجة. لأنه قضاء ممن يجوز عليه الخطأ. وقول النبي صلعم || ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم [اهتديتم])) يريد به في الفتوى لمن ليس بمجتهد من العوام؛ والاقتداء بهم من طريق العمل بالاجتهاد للمجتهدين، وهم الذين كانوا لا يقلد بعضهم بعضًا. فالاقتداء بهم من المجتهدين أن لا يقلد أحد منهم أحدًا من الصحابة ولا غيرهم. والنبي صلع يقول: نصر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها؛ فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. فنهى عن نقل حديثه بالمعنى. فكيف يظن بأصحاب رسول الله أن يخلون بألفاظ الرسول صلع، ثم يقضون، مع كونه آخذًا عليهم أن لا يخلوا بصفة الألفاظ في نقلهم؟ وأما الحمل، فإنه لما ورث، عزل له واستوفي بالمال لأجله. والكافر لا يعزل له، ولا لو كان مرتدًا توقف البركة له ليسلم، وإن كان إسلامه مرجوًا. وإنما وقعت المال لأجل الحمل لأن الشرع جعله في حكم الموجود، لأنه مار إلى الحياة والكمال؛ ولم يجعل الكافر في حكم المسلم في باب الإرث. ولهذا جعل من أهل أن يوصى له، ويوقف عليه، ويعتبر له، ويجب النفقة له ولأجله في حق المطلقات البوائن الحوامل، وحصل له حكم العتق بعتق

وجرت مسألة القاتل إذا التجأ إلى الحرم

أمه، وإن لم يكن على حال متحقق ولوج الروح فيه. وحكم الإسلام من إسلام أحد أبويه لا يعتبر له كمال الخلقة. وأما بيت المال، فهو مأخوذ له التركات إعدادًا لأهل الإسلام، ولكل مصلحة، وما تتسلسل المصلحة به. ويكون الدوام لا يراعي فيه من وجد ولم يوجد. لأن ذلك لا ينضبط؛ ولعدم الضبط أثر في الإرث. كالمجهول موته، مثل الغرقى والهدمى، لما جهل فيه قبل وبعد، كانت مذاهب الناس فيه بحسب الحال. كذلك ههنا؛ يموت قوم، ويسلم قوم، ويولد قوم؛ وليس الأيام بحيث ينضبط له ذلك مع اتساع أقطار الإسلام. فجعل المال معدًا للكل، وسقط فيه حكم السابق والمسبوق. وهذا عاونه به حنبلي يفهم ما يقول، وساعده على مذهبه بحكم ما وقع له من المداخلة للحنبلي والمساعدة || للشافعي. 320 - وجرت مسألة القاتل إذا التجأ إلى الحرم فاستدل مالكي، فقال: أفرض الكلام في قتل المرتد، فأقول: إن إراقة دم المرتد إراقة دم لحق الله تع. فلا يكون الموضع المختص به سح مانعًا منه؛ كدم الهدايا والضحايا. اعترض حنبلي فقال: بئس الاعتبار اعتبرت، حيث جمعت بين دم إذا أريق في الحرم، وطعن في أحد مناريه وشرفيه وهو الأمن، ودم إذا لم يرق، سقط أحد شرفيه وهو كونه توسعة على أهل الحرم، وكالضيافة

لأهله والنازلين فيه. وهذا هو الشرف المعتد به عند العرب، الذمام والضيافة. والمعنى الذي انعصم به دم الصيد والمرتد. والواجب إراقته في غير الحرم. فيحفظ بذلك أمنه وتوسعته. وإراقة الدماء المعرف بها احترام، وإجمامه عن قتل الملتجئ احترام أيضًا؛ فجمعنا بينهما. والصيد مذعور مطلوب، تطلبه الملوك بخيلها ورجلها وجوارحها والقانصون تارةً حاجةً وتارةً مرحًا وبطرًا. فإذا صار إلى الحرم، كان ملتجئًا. بخلاف الأنعام التي هي في القبضة بعد الأكل محروس بمالكه فاستغني عن حراسته بأمن الحرم. قال المالكي: الطالب بالدم مستجير يستحق؛ فهو أحق بإجابته إلى قضاء حقه واستيفائه من ظالم مستجير. قال الحنبلي: الاستجارة يمكن العمل بها، وهو إيقاع العصمة ما دام في الحرم مراعاة لحرمته؛ كما يراعى حرمة الحمل إلى أن ينفصل من الأم، يراعى حرمة الحرم إلى أن ينفصل هذا القاتل منه. ويقضى حق المستحق للدم إذا خرج. فتحصل قضاء الحقين أولى من إسقاط || حق الأمن ومراعاة حق ولي الدم. ولهذا روعي حرمة الحرم بعصمة الصيد عن القتل المباح في الأصل. فصار في الحرم ذا حرمة كحرمة الناطق محقونًا مضمونًا بالكفارة؛ فلئن يعصم الحرم حرمة دم الآدمي المحقون في الأصل، ويعيده إلى أصل الحقن عن إباحة دم عرض عليه، أولى.

وجرى فيها فصل [أي فصل آخر في المسألة]

321 - وجرى فيها فصل وذلك من بعض أجوبة الحنبلي للمالكي، قال: إن الأمان من طريق اللفظ حقن الدماء الواجب إراقتها. وهي دماء أهل الحرب المقبلين على القتال والقتل. فكذلك ما وضعه علماً وملجأً وأمناً. جبان يعمل في تأخير القتل أولى؛ لأن الأمن يحصل من جهة القول على التأبيد، فأمن الله أولى أن يحصل على التأقيت. 322 - وجرت مسألة من كرر الطعام على مسكين واحد عشرة أيام في كفارة اليمين وستين يوماً في كفارة الظهار فقال حنفي ينظر الإجزاء على الإطلاق، ويخالف مذهب الشافعي الذي منع على الإطلاق؛ ومذهب أحمد يجوز مع الإعواز، ولا يجوز مع وجود عدد المساكين: إن الحق لله، والفقر المصرف، والمصرف لا يراعى استيعابه؛ كالكعبة في استقبالها في الصلاة لا تستوعب؛ كذلك المساكين. اعترض عليه شافعي فقال: إن مانعتك أن الحق لله، وقلت إن المغلب المساكين ماذا تقول؟ قال الحنفي: أقول إن التكفير جزاء ومقابلة لهتك حرمة قسم باسم الله، أو هتك صوم وجب لله، أو كلمة تزوير نهى عنها الله. فلم تكن المقابلة على ذلك إلا الله.

جرى بمجلس الشيخ الإمام إبراهيم الدهستاني مسألة عقد النكاح وثبوته بشاهد وامرأتين

قالوا له: فلو كان لله كما ادعيت، وقد أحال لحقه تصرفاً معدداً، لم لا يراعى المصرف كما روعي في تعداد الأيام بالإعطاء، دون أن يعطيه الإطعام كله في وقت واحد لعشرة || أيام؟ وهذا فيك تعرض بالعدد، ومراعاتنا نحن أحسن، حيث تعرضنا لمراعاة عدد نطق به الشرع. وليس العدد خلواً من معنى، حتى يلغيه ويعول على كون المصرف واحداً. والدليل على ذلك أن التعداد يحصل به اتساع المؤاساة بإشباع عدة أكباد. ولربما أخطأ الواحد باطناً عن أن يكون مستحقاً لنوع من الأنواع يخرج به عن الإستحقاق. ولئن أخطأ هذا في الواحد، لم يخطئ في ستين. وبكثرة الأعداد أخذ في باب التجزيء أبو حنيفة. قال الحنفي: إنما راعيت الأيام ولم أجوز إعطاءه حالة واحدة. لأن المسكنة تتحقق في كل يوم، ولا تتحقق فيه إذا أسلف إطعام عدة أيام. لأنه لا يكون مسكيناً إلا في يوم واحد. قالوا له: فلو كان هذا صحيحاً لوجب أن يمنعه من أخذ مذاخر من كفاة أخرى لأنه قد استغنى. 323 - جرى بمجلس الشيخ الإمام إبراهيم الدهستاني مسألة عقد النكاح وثبوته بشاهد وامرأتين قال شافعي: هذا له حظر يترقى به عن رتبة المال، فلا يثبت إلا

بشهادة الرجال؛ كالحدود والقصاص، وكشف انحطاط المال عنه. وحظره بترتيبه أنه لا يستباح بالإباحة، والمال يستباح بالإمالة والبذل. اعترض عليه حنبلي لنصرة إحدى روايتيه، فقال: هذه طريقة فاسدة؛ حيث اقتضت أن تجعل طبقات الشهادات بحسب طبقات الثابت بها والمشهود به. وليس الأصول على ذلك. بدليل أن الحدود والقصاص طبقات. فحد السرقة يسقط بالرجوع بعد الإقرار، ويسقط بالرجوع من الشهود بعد الشهادة والحكم جميعاً؛ بحيث لا يستوفى بعد رجوع المقر|| والشهود. واستحقاق اليد أو النفس قصاصاً لا يسقط بالرجوع بعد الإقرار، ولا رجوع الشهود؛ وهما في رتبة البينة سواء. على أني أشاركك في حجتك، فأقول: إن غلبت رتبة النكاح عن المال طلباً لرفع الشهادة فيه، فقد سلكت سلوكاً تفسد به على نفسك هذه الطريقة؛ حيث وقعت النكاح إلى الرتبة التي لا يستحقها، وهي رتبة الحدود والقصاص وهي قبيل يسقط بالشبهة كلها، والنكاح يثبت مع الشبهة، وهو إذا رجع الشهود عنه بعد أن شهدوا به. فإن طلبت ترقيته عن المال، لأجل ما ذكرت به من علو رتبة النكاح عن المال، منعتك من ترقيته إلى العقوبات لأجل انحطاط النكاح عن رتبتها. على أن الشبهة التي أوردتها أنا في باب الرجوع أمس وألصق من شبهة الأنوثة؛ لأن التردد تارة شهادة بالإثبات، وتارة رجوع آكد من شبهة الأنوثة. وقولك إن البضع لا يستباح بالبذل، بل هو بالمال أشبه من

[فصل آخر في المسألة]

العقوبات. لأن البضع يستابح بالبذل، لكن بذلاً على صفة؛ وهو بذل بعوض. وفي الأصل العقوبات لا تستباح ببذل عوض، ولا بغير عوض. ولا سيما عندك يحصل بذلاً بالتفويض بغير مهر. فلا يبق لك، مع كون البضع ساوي المال في البذل بعوض، إلا تميزه بما ذكرت، وأنه لا يستباح بغير عوض؛ فيبطل بطبقات المال. فالربونات والأثمان المختصة بالصرف تختص بما يحجر الشرع به. ولم نختلف في باب الشهادة على أن النكاح قد أعطيته حقه من التمييز بالشهادة، وهو اشتراطها. فأما اعتبار مزية أخرى هي الذكورية، فلا وجه له. 324 - وجرى في هذه المسألة أن قال حنبلي: ولعمري إن الشهادات، وإن كانت مراتب، إلا أنها بحسب الحاجة. فإن اشتدت حاجة الناس، وشق إقامة بينة عليا في أمر تعم البلوى به، [فإنه] يحتاج إلى إثباته ببينة سهلة، لأجل || غموض المشهود به؛ مثل مسامحة الشرع في شهادة النساء في الولادة، والعيوب تحت الثياب، ومثل شهادة الواحد في الهلال، ومثل قول المقومين في الغرامات، وقبول كل فريق فيما يعانيه، لئلا يضيق الأمر وتقف الأحكام. فأما النكاح، فإنه ليس من قبيل لا يحتاج إلى إثباته. بل هو مما تدعو الحاجة إلى إثباته، والشهادة فيه مشروطة. فلا وجه لإيقاف انعقاده على الرجلين ولا الحرين. ولهذا عقدته

فصل في قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)

أنا بالعبدين، وعقده الجماعة ممن اعتبر الشهادة [بالأنوثة] وبالذكورية بالمستورين دون المعدلين. 325 - فصل في قوله تع {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} ذهب كثير من الوعاظ والقصاص إلى أنها خاصة في صلحاء عباده والأنبياء. وليس على ما وقع لهم. لأن ظاهر القرآن يشهد بأنه لا سلطان له على الكفار، حيث قال سح: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان}. فأقر في آخر الأمر بنفي السلطان تصديقاً لقوله سح في أول الأمر: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}. ولأن السلطان الذي نفاه يعم؛ إذ ليس كل مستجيب له يكون له عليه سلطان. لأن الشيطان يسول ويغير ويخلف فيكذب. ومن كان أمره كذا لم يك سلطاناً. إنما السلطان من أمر وكشف أمره وحرمه فأطيع، دون أن يدلس ويلبس. فإن من سول كان متلصصاً وخادعاً وغاراً، لا سلطاناً. 326 - وذكر فيها أيضاً- أعني مسألة النكاح بشاهد وامرأتين- أن تميزه على سائر الأموال لا يعطي تميزه في الشهادة. بدليل الأموال بعضها مع بعض، كالصرف والسلم. وأموال الربا ميزها الشرع بنوع شرط وحجر.

جرى في مجلس درب الدواب مسألة من جار في الوديعة ثم عاود الحفظ هل يعود مودعا أو يكون على ضمان الوديعة

واستوت في باب الثبوت بشهادة رجل وامرأتين. وكان شافعي يعلق فيها بأن النكاح له حظر، || وميزه على غيره. فألزمه حنبلي هذا الفصل. وهي طبقات عقود الأموال فضل بعضها على بعض. ومع ذلك لم يفضل بعضها على بعض في باب الشهادة، بل ثبت كلها على اختلاف درجاتها بشاهد وامرأتين. وقال أيضاً: إني قد أعطيت النكاح حقه، وهو أن جعلنا الشهادة شرطاً في انعقاده. قال الشافعي: هذا ميزه في حال العقد؛ فأين الميزة في حال إثباته؟ قال حنبلي: حال عقده هو أقوى حالتيه في باب الشروط؛ وحال إثباته تابع. ولذلك ثبت بالإقرار من الزوجين؛ ولا ينعقد بتراضيهما فقط. فإذا أعطى العقد الميزة في الشهادة حال انعقاده، كفى وأغنى؛ وصار حال الإثبات تبعاً. 327 - جرى في مجلس درب الدواب مسألة من جار في الوديعة ثم عاود الحفظ هل يعود مودعاً أو يكون على ضمان الوديعة قال حنفي إمام: إن الإيداع عقد هو قول، والتعدي في العين المودعة فعل. والقول لا يرتد بالفعل؛ إذ ليس بينهما مناسبة فيكون مثله، ولا مضادة فيكون رده. وإنما رد القول جحد العقد، أو رده بالقول بأن يقول

((فسخت الوديعة ورددتها)) أو يقول المودع ((استرجعتها.)) ولذلك لا يزيد الإيمان بفعل يخالف أوامر الشرع، ويحصل الرد من طريق القول. فاعترض عليه حنبلي فقال: لا أسلم لك. ولا يصح لك أن توقف الرد على القول؛ بل الفعل يصلح أن يكون رداً. لأن العبرة في العقد بالمقصود به، لا بصورة اللفظ. ومعنى قول القائل ((أودعتك))، ((استحفظتك لاختياري لك لمعان فيك، وأكبر مقاصدها سداد فعلك وعفة يدك عن الخيانة؛ )) وقول المودع ((قبلت)) أي ((التزمت لك حفظ مالك.)) فصار خروجه بالتعدي الفعلي || هو القادح في الغرض والرافع له بالكلية. ولذلك لو استرد العين مالكها كان رفعاً للوديعة. وأي فرق بين فعل المودع وفعل المودع وأنت عقدت على نفسك عقداً أن ما طريقه الفعل لا يرتد به القول؟ وهذا الأخذ للوديعة فعل من المالك زال به إيداعه. وأما الإيمان، فإنه على المنصور من مذهبنا أنه يزول بالفعل والترك وإن لم يوجد القول، في رواية؛ وإن سلمت، في الواية الأخرى. فإن هناك اعتقاداً يتخلف بعد ترك الفعل ووجود الأفعال. فلو ترك الصلاة وارتكب الزنا، كان اعتقاده لإيجاب الصلاة وتحريم الزنا كافياً في بقاء الإيمان، لأنه الأصل. فأما في مسألتنا، فإنه إذا ترك الحفظ، وادرع التعدي والخيانة، لم يبق على شيء من الويعة سوى صورة يد هي متعدية ضامنة؛ فلا عبرة بها.

قال الحنفي: إن الإيداع بالقول مطلق. ولا يجوز أن يحمل كلام العاقل على أنه أراد بقوله للمودع ((احفط ما دمت حافظاً، فإذا تعديت فضيع ولا تحفظ؛ )) بل يريد بعد التعدي الحفظ من طريق الأولى. قال له الحنبلي: ما ضاق الأمر علي إلى حد يكون الأمر على هذا الوجه؛ بل أنا أبين وأوضح كيف الأمر، فأقول: إن مطلق أمره يقتضي الحفظ المقيد بما دخل عليه من اختياره لحفظه، وما عرفه من أمانته. والإنسان لا يختار لماله المائع إلا إناء لا يرشح، ولجامد ماله إلا وعاء لا يشف بما فيه ولا يكشف سر ماله، ولا يختار من البيوت إلا ما يكون في وسط العمران وثيق الجدران والأبواب. فإذا عين إناءً وبيتاً ووعاءً لمتاعه، كان تعيينه مقيداً بقصد العقلاء. ثم إنه متى خرب ما حول البيت الذي كان وسط العمران فصار عرضة السراق، وأخلق الوعاء الذي فيه المائع والجامد الذي يتبدد ويضيع، جاء من تقييده اقتضاء النقلة من ذلك البيت وذلك الوعاء إلى غيره. وكذلك متى تغيرت صفات المودع || من عقل وضبط إلى خرق وفساد عقل وضعف عن حفظ، تغير الأمر. وكذلك إذا حصلت الخيانة. فعلم أن الأمر بالحفظ يقيد هكذا. وإذا كان مقيداً بالعرف، زال الإيداع بتغير الحال. فلا يعود إلا بإيداع من قبل المالك. ثم قال الحنبلي: إن الخيانة والتعدي، وإن كانت لا تضاد الإيداع، وهو القول، فإنها تضاد ما هو شرط في بقاء العقد، وهو الأمانة والحفظ.

[مسألة من وقف على امرأتين بشرط]

وقد يرفع الشيء ما يضاد شرطه، وإن لم تضاده نفسه. وذلك أن العلم إنما ضده الجهل دون الموت؛ لكن الموت، لما ضاد شرط العلم وهو الحياة، لا جرم إذا وجد الموت في المحل المضاد للحياة التي هي مشروطة للعلم بزوال الحياة كأنها ضده، كما يزول العلم بحلول الجهل الذي هو نفس ضده. 328 - قال بعض المفتين في مسألة من وقف على امرأتين، وشرطه أن من مات منهما رجع حقها وحصتها إلى الأخرى دون ورثة المتوفاة، وهذا الوقف له ريع ونماء يحصل منه شيء من زرع وثمر، فقبل أن يجد ويحصد ماتت إحداهما. فسارع وأفتى ألا شيء لورثة المتوفاة؛ وإن كانت الأخت ممن لا يتحجب كان لها من الريع بحصتها؛ وجميع رقبة الوقف لها بحكم شرط الواقف. فكان الصواب ما أفتى به الحنبلي. 329 - وسأل سائل عن حالنا مع إبليس، كيف يكون لنا به قوة وهو يرانا ونحن لانراه. فأجاب حنبلي بأنه لو كانت معاداته تحتاج إلى مناضلة ومضاربة، أضر بنا عدم رؤيته. فأما وأذيته إلقاء إلى القلوب وسوسة في الصدور، فجواب المسألة منها كما يقال. فكما أن سهامه كالخواطر العارضة يلقيها

[مسألة الوديعة إذا تعدى فيها المودع ثم ردها]

بالأفكار الصحيحة الصادرة عن العقول الصاحية السليمة من الهوى، فإذا ألقى إلى النفوس ما ليس بصواب، رده الفعل بأحسن جواب. 330 - ذكر حنبلي في الوديعة، إذا || تعدى فيها ثم ردها، أن قال: نفس العزم على التعدي عندي في أحد الوجهين تضمن به الوديعة. فإذا خرج العزم إلى الفعل تميز زيادة تمييز؛ لأنه تتحقق به الخيانة. وهذا صحيح؛ لأن المودع إنما اختاره لحفظ ماله، وهو على صفة الأمانة. فإذا تغيرت حاله عن المقصود فهو كبيت اختاره لنفسه لكونه في وسط العمران، فتغيرت حاله بخراب ما حوله، فإن الحال تتغير حتى يجب على من عنده الوديعة أن يعدل عن صريح تعيين المالك، فينقلها من ذلك البيت إلى غيره. 331 - جرى في مسألة خيار الأربع قال شافعي لحنبلي: الأول من الأيام ليس غيره بأولى أن يكون هو الرابع من كون الأول رابعاً؛ لأن الجملة واحدة؛ فلا يتخصص الأمر بكونه الرابع حتى يقف فساد العقد على مجيئه. قال حنبلي مجيباً عن الحنفي: إنما الأربع التي يبعد أ [نه] بها كان رابعاً هي الأربعة الموجودة. فإنما إن أشرنا إلى واحد منها بأنه الأول،

فصل جرى في المدرسة [النظامية] هل القبض شرط في لزوم المعاوضات لإدخال المعوض في ضمان مشتريه وجواز تصرفه فيه

جاز من قلب العدد كيف شئنا لاجتماع الأربعة في الوجود. فأما الأيام، فإنها سائلة إلى الوجود سيل الأزمنة فلا يتحقق الرابع إلا الأخير، كما لا يتحقق الأول إلا الموجود أولاً؛ كما أن الثالث الذي يلزم العقد به هو الأخير وجوداً، لا أي الأيام كان. 332 - فصل جرى في المدرسة هل القبض شرط في لزوم المعاوضات لإدخال المعوض في ضمان مشتريه وجواز تصرفه فيه قال حنفي يدل على منع حنبلي ومالكي لذلك، ويدعي أن التغيير كاف: إن القبوض في الأجل جعلت شيئاً لحصول الملك. بدليل الإغتنام وأخذ الحطب والحشيش والصيد. وليس لنا قول مجرد يحصل به الملك. فكيف يسقط حكم القبض مع هذه الحال؟ || قال حنبلي: إن الحشيش والحطب تقدم أخذه إذن مالكه، وهو الله سح. وجعله شركة بين الناس. فلما أخذه، تخير به وتميز به. والإيجاب المجرد من البائع في عقد البيع وفي الإجارة والهبة إنما لم يحصل به الملك، لأن الرضا معتبر في ذلك. والرضا من طريق النطق لا يعتبر في أخذ الحشيش؛ لأن أخذه لأجل الحاجة، والحاجة لا يكون إلا معها رضا. فاستغنينا بدلالة الحال. وإن تعلقت بهذا، فإن لنا أقوالاً تعمل ما لا

مسألة جرت من شبهات القرآن، قوله تعالى: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء)

تعمل الأفعال. فإن العتق يزيل الأملاك، وتخلية العبد لا يزيل ملكه عنه. والوقف بالقول يزيل الملك، وترك الأملاك لا يكون إيقافاً. 333 - مسألة جرت من شبهات القرآن، قوله تع {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء} وجه السؤال أن التشبيه بالضيق كيف يكون بسلوك أفتح وأوسع طريق، وهو الفضاء؟ والسماء لا يرتقي إليها إلا في بحبوحة الفضاء؛ وهذا تشبيه الشيء بما يضاده. فقال الشيخ الإمام أبو محمد بن مسلم المغربي رضه: إنما شبهه بذلك لأن مكابدة الصعود إلى أبعد مرتقى. دع السعة، فإنها لا تغني لجسم طبعه الهبوط بثقله. ومكابدة ما يضاد الطبع بالصعود لجسم طبعه الهبوط من أعظم التشبيه في الآية من هذا الوجه. لأن ضيق القلب من المكابدة في الصعود كضيقه من المكابدة في الجحود. 334 - وجرى بمجلس نور الهدى الزيني ذي الشرفين مسألة انعقاد النكاح بشهادة فاسقين قال حنفي: هذا الفاسق من أهل الشهادة؛ فانعقد بحضوره النكاح؛ كالمستور.

اعترض عليه حنبلي بالمنع، ثم قال له: ومع دعواك أنه أهل، فاذكر خصيصة الأهلية؛ وإلا فأنت على مجرد دعوى. قال الحنفي: الدلالة على أهلية الشهادة فيه قوله تع: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}. والأمر بالتثبت دلالة || على أنه أهل. إذ لو لم يك أهلاً، لقال ((فردوا ولا تقبلوا)) كما قال في القذف: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم [ثمانين جلدة] ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً}. فلما قال ههنا {تبينوا} دل على أن الفاسق أهل للشهادة. وإنما أمر بالتثبت لمكان الشبهة بالتهمة. وذلك لأن الفسق لا يوجب قطعاً بكذب الفاسق. لكن يتردد الأمر في قوله. فذلك أوجب التثبت والتوقف، وليس ذلك إسماً للرد بحال. قال الحنبلي: أما الآية، فإن لم تكن حجة لنا، فلا وجه لكونها حجة لكم. لأن التثبت ورد في الخبر؛ لأن النبأ الخبر. والفاسق لا خلاف أنه يزدجره، فما يقول بها فيما وردت فيه. ثم قوله: {فتبينوا}؛ وذلك لا يخلوا أن يكون لبيان الأمر من الفاسق، فلا أحد يقول به، أو من غيره، فلا يكون ذلك إلا إلغاء لقوله. وقوله {أن تصيبوا قوماً بجالة}؛ فسمى العمل بخبره، إن عمل به، جهالة. وما كان العمل به جهالة، لا يكون صاحبه أهلاً لذلك العمل. وقال الحنبلي: معلوم أن لنا من نبحث عنه ويجب علينا [أن] نتبين أمره؛ وهو المستور، إذا شهد في الحدود والقصاص عندنا جميعاً،

جرى بجامع القصر مسألة ابتياع الكافر العبد المسلم

وفي المال عندنا. والعدل، إذا طعن فيه الخصم وقال ((لي بينة بالطعن)) فإنه إذا كشف عن حاله، فكان الكشف مظهراً لفسقه، رددنا وإياك شهادته. فما يكون ظهوره عن الكشف عن حال المستور موجباً للرد، كيف لا يكون ظهوره ومعرفة الشخص به في أول وهلة موجباً للرد؟ قال الحنفي: ليس ظهور الفسق هو الموجب للرد، بل المشهور حظر عظيم. قال الحنبلي: فوجب، إذا كان قد بان فاسقاً بعد البحث، أن لا ترد شهادته في المال. فإن قلت بذاك، أفضى إلى الوقف بعد الكشف، كما كان قبله؛ فلا يكون للكشف معنى. 335 - جرى يجامع القصر مسألة ابتياع الكافر العبد المسلم قال شافعي: أجمعنا على أن استدامة الملك أجد حالتيه، أعني آكد من حالة ابتدائه. ثم إن دوام || ملك الكافر يزال إذا أسلم عبده. فكان المنع من ابتداء تملكه من طريق الأولى. اعترض عليه حنفي فقال: لا أستدل عليك إلا بالدوام. فإنه نهي عنه ودام الملك. وكذلك لم ينهى عن الإبتداء ويحصل الملك. قال الشافعي: إنما دام حكماً. ومثله في الإبتداء يحصل حكماً وهو الإرث. وهو في الحقيقة كأنه مبني على ملك الميت. وأمر بأن آلة الملك فعلاً إما ببيع أو هبة أو عتق. ومثله نهي عن تحصيل ملكه فعلاً بابتياع أو إيهاب. ومثل ذلك قد وجد في البضع حكماً، وهو بقاؤه مدة العدة.

وجرت مسألة بيع لبن الآدميات

336 - وجرت مسألة بين لبن الآدميات قال شافعي: لبن يجوز شربه، فجاز بيعه؛ كلبن الأنعام. قال له حنفي: جواز شربه واقف على حال هي كالضرورة إليه. فمن ذلك أن الجنين يعيش ويتغذى برطوبات من الأم مخصوصة. فإذا كان في حال خروجه لطيف الخلق، محتاجاً إلى غذاء لطيف، لينبني أوائل حال خروجه ولطافة مزاجه على أواخر أحوال كمونه، فيتصل الغذاء الألطف بالألطف. وذلك مقصود كبير في الشرع؛ ولأجله منع الأب من منع الأم من أجرة الرضاع اكتفاءً بلبن شاة، وإن كان لبن الشاة يقوم به ويغذيه؛ لكن لما لم يكن حافظاً للقانون، ولا حافظاً للطباع والأخلاق، لم يجز. ولا يحل للأم ترك إرضاع الولد اعتماداً على لبن الشاة؛ بل يأثم الأب بترك التعويض للأم، أو لظئر ترضع، والإقتناع بلبن الشاة. فإذا كان كذلك، صارت الألبان، ما عدا لبن الآدميات، كالمتعدية حكماً. فأباحت ألبان الآدميات بهذه الشريطة. فصارت كالميتة التي لا تباح إلا بعدم المغذيات حساً. قال حنبلي يساعد الشافعي على الحنفي: إن غاية ما بان في لبن الآدميات أنه غذاء القبيل من الآدميين، بل لحالة من أحوالهم. فهو كالأدوية التي تصلح || لحال أمراضهم، وتكون في حالة الصحة سموماً قاتلة؛

وجرت مسألة الآمر هل يدخل في الأمر

كالسقمونيا، والأفيون، والإهليلج. ثم لا يمنع كونه مخصوصاً بحالة من أحوال الآدمي جواز بيعه وأخذ العوض عنه. 337 - وجرت مسألة الآمر هل يدخل في الأمر قال حنبلي: إن النبي صلعم إنما يأمر من قبل الله سح فيما يتعلق بالأحكام الشرعية والأوامر والنواهي. ولهذا قال: {قل هو الله}، {قل إنما أعظكم بواحدةٍ}، {قل إنما حرم ربي الفواحش}. ولو كان آمراً من قبل نفسه، لأسقط كل ((قل)) في القرآن. فكما تلاها دل على أنه عن غيره يقول، وهو واحد من المكلفين، فدخل فيهم. قال له السائل: كيف يكون آمراً مأموراً والرتبة لا توحد في الواحد؟ قال الحنبلي: إنما يتعذر ذلك إذا لم يك نائباً عن غيره؛ مثل الإنسان يخاطب نفسه. فأما إذا كان مخبراً وآمراً عن غيره، صح أن يجمع الأمرين شرعاً وعزماً. ألا ترى أن النبي صلع صافح يده بيده لما أقام اليسرى من يديه مقام يد عثمان. فكانت يسراه لعثمان خيراً من يمين عثمان لنفسه. والإنسان لا يصافح نفسه. وكذلك يشتري من نفسه لابنه فيكون بائعاً مشترياً، لكن لولده وهو غيره من نفسه، كما كان متابعاً لنفسه لكن مع غيره. كذلك ههنا الأمر من الله على لسانه؛ فيكون داخلاً تحت الأمر نظراً إلى الأمر الأعلى سح، لا نظراً إلى نفسه في الأمر. فلا يبقى إلا مأموراً.

جرت مسألة الخراج هل يجمع معه العشر

338 - جرت مسألة الخراج هل يجمع معه العشر قال حنبليّ: إن الخراج يجب لأجل التمكين من الانتفاع بالأرض؛ فهو كالأجرة. والعشر يجب في عين الخارج، فلا يتنافى وجوبها؛ كربع عشر مال التجارة، وأجرة المتجر. ((اعترض حنفي فقال: هذا يسقط مع النص، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: لايجتمع عشر وخراج في أرض المسلم. والواجب من العشر لأجل الأرض؛ وكذلك العشر؛ فلا يجب حقان لسبب واحد. قال الحنبلي: أما الخبر فضعيف؛ لأنه يرويه يحي بن عنيسة؛ وقيل إسحق بن عنيسة. ولو صح فإنما نحمله بالقياس ونصرفه عن ظاهرة إلى أنه لا يجب ابتداء على أرض المسلم، فلا يجتمع مع العشر. وأما قولك يجب لأجل سبب واحد، فليس كذاك. لأن الخراج يجب لأجل التمكين في الزرع، والعشر لا يجب إلا في عين الزرع. 339 - جرى في مسألة اعتبار المقدار لنفي نجاسة الماء قال حنبلي: لما اعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم- الرائحة والطعم، وتارة اعتبر المقدار، علم أنه ما عول على كثرة الماء. وهذا دلالة على فساد مذهب أبي حنيفة.

[مسألة القصر من الصلاة (انظر التتمة فصل 410 ص 459)]

فاعترض حنبلي لمذهب أبي حنيفة، فقال: لما اعتبر، إنما نص على الرائحة والطعم فقط، فقال: ((خلق الماء طهورًا لا ينجسه شئ، إلا ما غير طعمه أو ريحه.)) ولم يذكر اللون. فقست اللون على الطعم والريح لكونه عرضًا دالًا على المزج، وعلى كونه شائعًا في الماء ظاهرًا عليه. وقد كان ينبغي أن تبنيه على زيادة الثقل أيضًا، لأنه دال على جسم الماء وذاته. والذات آكد من الصفة. والمقدار من الثقل شاهد آكد من الريح والطعم واللون؛ لأن الريح والطعم قد يتغير لأجل المجاورة. وأما الثقل والوزن، فلا يتحصل إلا بزيادة جسم النجاسة وذاتها. فأما إن كنت تقف على نفس المنصوص، وهو الطعم والريح، ولا تتعدى إلى اللون الذي لم ينطق به، فتبنيه أيضًا بالطعم والريح على الثقل والوزن، لأنه أدل من الأعراض. 340 - واستدل حنبلي في القصر وأنه رخصة - بقوله تعالى-: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا [من الصلاة] إن خفتم}. فوجه الدلالة [ ... ] 341 - [ ... ] ((إذا كانت إعانة على المقاصد الشرعية، لا نطعن في فضائلها المشروعة. والله - سبحانه وتعالى- جعل شهوة الطبع حاثة لحصول ما هو طريق النسل.

فلا مطعن بها على المقصود الشرعي، كالتطيب واللباس وإظهار التجمل بين الناس لصلاة الجمعة والعيدين؛ وكذلك الأكل والشرب والبعال في أيام التشريق، والسحور وتأخيره، وتعجيل الإفطار، وأخذ الغنائم في الجهاد. وكان استعمال ذلك مساويًا للعبادات التي فيها الشقاء والتعب وتهجر فيها الراحة. وذلك لأن التعبد هو سلوك ما يندب العبد إليه من مشقة أو رفاهية. وكذلك الولايات، من الإمامة والقضاء والإمارة، لها من اللذة الطبيعية في طاعة الرعايا وامتثال الأوامر وسرعة الاستجابة والاستطالة؛ كل ذلك من لذات النفوس. ومع ذلك لما كان فيها من حفظ الحوزة وحماية البيضة وغير ذلك من المصالح، كان الحظر فيها ساقطًا. ولم تكن حرمة من ولي من الصحابة وفضله بأنقص من رتبة من اعتزل منهم؛ بل علي عم، مع تكشفه بقتاله في الفتنة، أفضل من ابن عمر، مع اعتزاله عنها. والنصرة لدين الله، والحرب لإعلاء كلمة الله، أفضل من الرهبانية التي لم تأت بها شريعتنا. وليلة من ليالي أبي بكر أيام الردة أفضل من كل ليلة لمتعبدي الصحابة ومنقطعيهم إلى الزوايا. وصارت لذات النفوس في ذلك ساقطة الحكم؛ ومجاهدتها لتحصيل الإخلاص لله فيه زيادة ثواب. وهو جهادهم للنفس.

وجرت مسألة الأجير المشترك

342 - وجرت مسألة الأجير المشترك قال فيها شافعي: إن السلعة التي يقصرها في يده أمانة، وعمله مأخوذ عليه بحسب طاقته وبحسب عرف الناس. فما لم يحكم أهل الصناعة أنه مفرط، فلا وجه لإيجاب الضمان. قال له حنفي: ليس الضمان هنا من باب التفريط حتى تقول هو أمانة. وما تعدى؛ بل يجب أن يعول على أنه قد أوفى ما ضمن ((العمل. ومعلوم أنه لم يوف ما ضمن من العمل، لأن الضمان كان لعمل سليم من خرق؛ وما سلم ذلك. وليس يخلو أن يكون الضمان لعمل هو الدق المعتاد، أو لثقل الثوب وبياضه بالدق المعتاد. ولا هذا حصل في مواضع التخريق، بل زال أصل الثوب ولم تحصل فيه الصفة التي هي بياضه وصقالته. فأين ما ضمنه من العمل مع هذا الخلل؟ وما هو إلا بمثابة من باع صبرة نقية الظاهر دغلة الباطن، فيها من المدر والدغل ما يخالف. وكذلك إذا رأى في الثوب المبيع خروقًا لم يعلم بها البائع، فإن ذلك كله مضمون. ولا يقال إنه لما لم يتعد البائع لا يستحق المشتري الرجوع. كذلك في العمل مثله. لأنه في البيع ضمن سلامة المبيع من العيوب، وفي العمل ضمن سلامة العمل؛ وما سلم العمل. وكيف يسلم وقد ذهب المحل؟ وأشبه من المبيع مسألة المفضاة، وضرب المعلم الصبي. فإنه يضمن أرش الإفضاء، ويقدر فيه أن الزوج زاد في النكاية والاعتمادات. فهلا قدرت

ههنا أنه توالى الدق على محل واحد بغفلة أو سهوة، ويتوالى الدق بجماء الثوب فيحترق. لأن الاحتكاك يورث التهاب المتحاكين من الأخشاب والحديد والحجارة. فكيف مما يكون بينهما من الثوب الذي يصير بينهما، كحراق المقادح في سرعة الاحتراق. قال الشافعي: ولعله لضعف محل من الثوب لم يحتمل الدق. قيل له: وهل يجب العمل إلا بحسب المحل؟ فإذا أعطى المحل الذي لا يحتمل [الدق] دقًا لا يحتمله، كان جناية. وليس من شرط الضمان أن يكون معتمدًا ذلك. بل نفس إيقاع الفعل على وجه لا يسلم معه المحل من جناية يكفي في الضمان؛ كالرمي إلى الهدف، والوطء، وضرب الصبي في المكتب، لا يقال ((لعل ذلك لرخاوة المحل، وضعف جسم الصبي، )) لكن يجعل نفس الضرب مضمونًا فيه السلامة. قال الشافعي: فيقابل هذا موت الدابة المستأجرة وسلخ ظهرها بالركوب، والأجير المنفرد ((إذا جنى في عمله. قال الحنفي: أما المنفرد، فإن العقد على الزمان دون العمل. ولهذا لو مضى الزمان بلا عمل، استحق الأجرة. والدابة مستوفى منها، لا موفى فيها. قالوا له أصحاب الشافعي: العقد على العمل والزمان مكنى له. وكيف يعقد الناس على مضي الزمان؟ ولهذا يقول ((استأجرتك يومًا للخياطة)) فيذكر اليوم ظرفًا، والخياطة هي المعقود عليها. والدابة معقود على منافعها، استوفى استيفاء معتادًا. فإذا انسلخ ظهرها، ولم يقدر فيه أنه اعتمد أو

[مسألة شهادة الزوج مع ثلاثة أجانب بالزنا هل تتحقق التهمة]

فعل ما يقتضي الجناية، علم أنه لما استوفى العمل لم يضمن ما تجدد به. كذلك ههنا، لما قال أهل الخبرة بالدق ((دق مثل هذا الثوب)) سقط حكم ما جناه الدق. 343 - وسئل مالكي عن شهادة الزوج مع ثلاثة أجانب بالزنا، فقال: شهد بخيانة له على أمينة، فصار كما لو شهد على المودعة مالًا بالخيانة فيه مع شاهد؛ فإنه لا يتم بشهادته بينة. كذلك ههنا. اعترض عليه شافعي، فقال: قد بينا على سائل مخالف في المسألة أن التهمة تتحقق في المودعة؛ ولئن تتحقق ههنا [أولى]، لأن معه رادع بردعه عن الكذب؛ وهو ما يلحقه من عار قذفها بالزنا، فضلًا عن تحقيق الزنا عليها، وباطل به إذا لاعنها. فإن اللعان قوله، سواء كان شهادة أو متنًا. ومع ذلك يسمع في حقها ويبنى عليه حكم نفي الفراش والنسب. قال المالكي: أما الحرص على نفي معيرة النسب، وبيان الخيانة عليها التي توجب غاية المعيرة عليه إن ساكنها، وإلحاق النسب الكاذب به فمثل هذا لا يقاومه الإشفاق عليها، لكونها زوجه، كما لا يقاوم تهمة الأبوة ((تهمة العداوة. فإنه يسمع من الأب، ولا يقال هناك عداوة. ولا يقاوم إشفاق الأبوة تهمة الفسق، بحيث إنه يشهد على ابنه مع فسقه. قالوا له: أين العداوة مع الأبوة؟ ومتى اجتمعا قط؟ وإذا أردت أنه لا تتأتى عداوة من أب لابنه، فانصر الأب على ابنه بكلمة مؤدبة، ولو

شذرة في الربوبية

دعوة أو لطمة، وانظر ما يظهر من الأب في حقك من المقت والعتب والنفور! إنما هو سخط بحكم فورة غضب ووراءها إشفاق الطبع، مثل ما يظهر من الإنسان من لطم أو صك في صدر. فإذا جاء إنسان وفعل ما يقتضي مساعدته، مثل أن لطمه أخرى، ظهر الغضب والسخط على فاعل ذلك. وقال هو: أما قولكم إنه لا تساعده نفسه على الشهادة على زوجته، لما يدخل عليه من الأنفة والغيرة والعار، فمثل هذا لا يدفع التهمة الحاصلة؛ كإشفاق الأبوة لا يمنع تهمة الفسق في الأب، حتى إنه إذا شهد على ابنه لا يقال إن غاية ما يتهم به في الشهادة عليه مع الفسق أن يكذب على من يشهد عليه. ومعلوم أن طبعه وإشفاقه الطبيعي يمنعه من الكذب. ثم لم يعمل هذا القدر من الإشفاق في مقاومة تهمة الفسق حتى تجبر الشهادة على الابن. كذلك لا يقاوم ما تعلقت به من إشفاق العار على نفسه بزنا زوجته ما يحصل من تهمته في شهادته عليها بالخيانة له في أمانته، حيث [هي] محل إيداع مائه وحفظ أولاده وتحصين فرجها الذي هو محل استمتاعه. 344 - شذرة هو رب حقيقة. هل كنت أنت عبدًا له حقيقةً؟ هل في الوجود من كان لله قط كما كان الله له؟

شذرة في التخلي [فصل ناقص آخره]

345 - شذرة في التخلي ما صار هذا التخلي قط عزيمة معينة، ولا واجب على وجه الإمارة والنكاح. لأن النكاح له حالة وجوب وتعيين. فإن من لم يصلح للقضاء والإمارة، غيره تعين عليه الولاية. من وجد السعة وخاف العنت وجب عليه [ ... ] 346 - [ ... ] ((فيكون ذلك محصلًا بكسبه لله، جاز أن يكون مفوتًا على الله بكسبه. ولا يكون ذلك معجزًا لله - سبحانه وتعالى-، بل يكون بحسب سائر المخالفات لله، هي معاصٍ وخروج عن طاعته. ولا تعجزه لقدرته - سبحانه وتعالى- على المنع قبل إيقاع الفعل وقدرته على الانتقام بعد الفعل. فالتفويت على الله - سبحانه وتعالى- من العبد اسم ذم يستحق به منه السخط والعقوبة؛ لا أنه يقدح في قدرته، أو ملكه؛ على حسب طاعته يكون موافقة لأمره - سبحانه وتعالى-، لا يزيده على ما له من ملكه وغنائه. إذ لا يتحقق في حقه نفع ولا ضر. 347 - فصل تجاراه قوم من أهل الفطنة وليس علم دراسة ذكروا القضاء والقدر، وتناوشوا فيه، وكاد يجري مخاشنة. فقال لهم حنبلي من أهل العلم: يا هؤلاء! أنا أكشف لكم القدر من علومكم، وما لا تزالون تلهجون

فصل تجاراه قوم من أهل الفطنة وليس علم دراسة [في القضاء والقدر]

به في كلامكم. وهو ما جاء لا بمقدار قدركم، ولا بزنة اجتهادكم وجنائكم. وهو الذي يسمونه في حق النساء بختًا، وفي حق التجار رزقًا، وفي حق السلاطين نصرًا. وما يجئ بمقدار الاستطاعة واطراد العادة لا تسمونه بشئ يقتضي الإضافة إلى الله. فإذا جاء الحظ من الزوج لوحشة الخلق، بلا جهاز ولا رشوة، قلت ((بختها.)) وما يجئ من الأرباح، بغير سفر ولا موسم ولا جودة سلعة ولا تصنيعها ولا تحسينها، قلتم ((رزقًا.)) وما يجئ من ظفر من مقل بمكثر قوي، تقولون ((هذا نصر.)) وما يجئ من سلامة، مع سقطة من شاهق وجراح خارق وغرق وحرق، بخلاف ما تقع معه السلامة، تقولون ((هذا أجل.)) فكأنكم قلتم ((رزق الله لا يقدر أحد يمنعه، وأجل لا يقدر أحد يقطعه.)) فهذا قدر وقضاء تنطقون به بألسنتكم. ثم إذا قيل لكم (([ما] القدر)) قلتم ((لا ندري ما القدر.)) فاستحسن ((الجماعة ذلك واذعنوا به. ثم قال: هذا منثور في سور القرآن وآياته بأحسن نطق وأفصحه وأبينه. 348 - احتج بعض من لا يرى الكرامات بان قال: معلوم أن الأعصار لا تخلو من صلحاء. فّا شاعت الكرامات، وهي ما يخرج عن العادات، صارت بكثرتها وشياعها عادات؛ فطعنت في المعجزات. لأن عماد العجز هو الخرق للعادة. فما يصير عادة، يخرج عن كونه خارقًا.

[فصل في أن كل ما يرد من وراء القدر والعادات فهو منبه على الله]

قال له حنبلي: هذا باطل بالمعجزات نفسها. فإنها كثرت بكثرة الأنبياء- صلوات الله عليهم. ثم لم تصر عادات، بل كانت مع كثرتها قبيلًا خارقًا ونمطًا خارجًا عن العادات. قال له المتكلم الأول: هذا القبيل، وهو المعجز، لا يجئ إلا بالتحدي؛ والكرامة تجئ من غير تحد. فإذا كثرت، صارت عادة مستقرة؛ فتطعن في المعجزات، إذ تصير صادرة عن وجود مستمر، لا تخرج عن كونها عادة بذلك الاستمرار. ووجدت لبعض من جحد الكرامات أنها متى وجدت أفسدت اعتقاد المكرم وغيره. فإنه يزول تعظيم المعجزات من النفوس، لأنها تصير مألوفة. ومتى صارت مألوفة، خرجت عن الدهش بها والتعظيم لها. 349 - قال حنبلي: كل ما يرد من وراء القدر والعادات فهو منبه على الله - سبحانه وتعالى- وألطافه. ولقد روي أن البقر، حيث أجدبت أرض بيت المقدس، خارت نحو السماء. فأنبع الله لها العين المعروفة بعين البقر. وروي فيما صحت به الرواية أن سليمان - عليه السلام- خرج للاستسقاء. فوجد نملة رافعة قوائمها نحو السماء، وهي تقول: اللهم! إنا خلقك، ليس بنا غناء عن رزقك؛ فاسقنا. فقال: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم. فإذا كان الله - سبحانه وتعالى- يأتي بالألطاف بطلب البهائم، فلا يحسن إنكار ألطافه بالخواص من عباده،

جرى بمجلسنا بالظفرية مسألة من قطع أصبعا من يد غيره فسرت الجناية إلى أصبع أخرى فسقطت هل يجب القصاص فيهما

((إيقاظًا للقلوب وتبينًا للإيمان في النفوس. فلا معنى لقولكم تبرد في القلوب بدوامه، بل تحقق الإيمان باستمراره. فكل ما جاء من الله - سبحانه وتعالى- منبه عليه - جل جلاله-. 350 - جرى بمجلسنا بالظفرية مسألة من قطع أصبعًا من يد غيره فسرت الجناية إلى أصبع أخرى فسقطت هل يجب القصاص فيهما والناس على ثلاثة مذاهب. فأبو حنيفة لا يوجب فيهما؛ والشافعي يوجب في المقطوعة دون الساقطة بالسراية؛ وأحمد يوجب القود فيهما. قال شافعي: إن الخلاف فيها، وفي الذي يقطع نصف الكوع، ثم تسقط اليد بالآكلة سراية، فأقول لم يبن يده، فلم يقطع يده؛ كما لو قطع البعض، وقطع غيره ما بقي؛ ولا فرق. لأنه لم يبن فعل غيره عن فعله في باب الأطراف مع تمييز القطع والتجزئة. اعترض حنبلي فقال: إن كان ما باشر بالقطع، فقد سقطت اليد بمباشرته وسراية قطعه. وذلك يبنى بعضه على بعض؛ لأن سراية فعله كعين فعله. بدليل الجراحة، إذا سرت إلى النفس، وكذلك إذا ضرب رأسه فأوضحه، أو لم يوضحه، فذهب ضوء بصره، فإنه يجب القود في الموضحة التي باشرها، وفي ضوء العين الذي لم يباشر محله بالجناية.

قال الشافعي: إن الجراحة في أي موضع كانت من البدن فصادفت محل النفس. وذلك كافٍ في إيجاب القود في النفس. إذ كانت النفس لا يمكن مباشرتها. وحكم البصر كذلك؛ لأنه لا يباشر، وإنما يذهب بالجناية على محله؛ فهو كالنفس. وقد يقصد ذهاب البصر بضرب الرأس؛ كما يقصد إزهاق النفس بجراحة البدن أي موضع صادفه منه، ((لمعنى؛ وهو أن من قصد قطع السباحة، فما قصد قطع الوسطى. وإذا عدم القصد، زال معنى العمد. قال الحنبلي: العمد إلى أصل الجناية معتبر دون عينها وتفاصيلها. ولذلك جرى القصاص بين الجاني والمجني عليه، إذا ضرب يده فقطعها ولم يقصدها. وهو إذا قصد ضربه بالسيف، يومى إلى رأسه، فاتقى المضروب بيده فانقطعت، قطعت يد الضارب بقصده أصل الضرب، لا كيفية الضرب ومحله. وأما قولك إن الضوء كالنفس، ليس بصحيح. لأن النفس جميع البدن محل لها. فأي موضع جرح أصابها وأنكى فيها، أو سرى إليها. والحدقة محل مخصوص بالبصر. فكان يجب أن تخص بالقصاص الجناية التي يعتمد بها محل البصر، دون ما يتعدى إليه ويسري من مباشرة الرأس .. على أن النفس لا يصح عذرك فيها، وأن إزهاقها لا يمكن إلا من طريق

وجرى في مسألة يمين الكافر هل ينعقد

السراية. لأن لها محالًا موحية ومقاتل مخصوصة. وما أوقفت القود على تلك الجنايات، مثل قطع الرأس وإخراج الحشوة وقطع الشرايين؛ بل جعلت القطع والإيضاح قتلًا. وما جعل الشرع الأمرين سواء. فإنه منع أن تقع عقوبة في مقتل إذا لم توجب نفسًا؛ بل قصد بقطع السارق مفصلًا يكون الغالب معه السلامة، وحرر الإيضاح قصاصًا، لأنه لا يتعدى إلى غيره ولا يتجاوز إلى ما لا يستحق. فكان يجب، لما لم يوضع هذين - أعني قطع الطرف والإيضاح- لإزهاق النفس، أن لا يجري فيه القصاص، بل يقف القصاص على الجراح الموحي إما للمحل، مثل المقاتل، أو كقطع الحلقوم والأوداج، كما اختص الذبح. فلما لم يقف إيجاب القود في النفس على هذا، علم أن القود في النفس بسراية القطع، والقود في العين بسراية ((دق الرأس أو إيضاحه، لازمان لك؛ حيث لم يكن العدول عن محل البصر وعن محل توحية النفس شبهة، لكونهما مقصرين عن المباشرة كتقصير الآلة. 351 - وجرى في مسألة يمين الكافر هل ينعقد قال حنفي: لا ينعقد يمينه لإيجاب الكفارة. لأن الكفارة [ ... ] بدليل افتقارها إلى النية ودخول الصوم، وكونها مطهرة كما تطهر الزكاة.

وما كان سببًا لعبادة لا ينعقد سببًا في حق الكافر؛ كدخول الوقت لإيجاب الصلاة، وحؤول الحول لإيجاب الزكاة. اعترض حنبلي فقال: أنت معول في هذه الطريقة على موجب حلها. وهو غير صحيح على أصلك. فإن المغلب في الكفارة عندك الحنث دون اليمين. ومقتضى اليمين الوفاء والبر، دون النقض والحنث. والدليل عليه أنها تأكيد خبره بقسم معظم. ومن أخبر، فالظاهر من خبره الصدق، لا الكذب. ولو تردد بينهما، رجحه القسم إلى جانب الصدق. وهو، مع كفره، من أهل الوفاء؛ بدليل أنه يعقد الأمان، ويعقد له الأمان. والذمة ثقة بوفائه؛ كما يوثق بالوفاء له. ويصح يمينه بمجالس حكام المسلمين ثقة بقوله وتعويلًا على قسمه لإسقاط دعوى خصمه. وإن كان مسلمًا، حتى لو كان مجوسيًا يعظم الشمس لم نحلفه بها، بل بالله تعالى. فإن نظرت إلى الحنث كان نظرًا ثانيًا، وترك النظر إلى الأول والأقصد، دون الآخر والتابع. على أن مراعاة الكفارة والحنث لو صح، لكان في الكفارة من ثبوت العقوبة ما يصلح أن ينعقد يمين الكافر لإيجابه. لأنها وإن كان فيها تعبد، إلا أنه ليس يتمحض. وما كان بهذه المثابة لا يغلب عليه غيره ويسقط هو في نفسه. بدليل أن الحد وضع زجرًا وعقوبة. فإن صادف ((محلًا مصرًا على الجريمة، أقيم بحكم أنه عقوبة. وإن صادف محلًا تاب وغفرت جريمته وزال جميع أحكامها من الفسق والهجران

وانحطاطه عن الولايات، أقيم الحد بحكم أنه محنة، مع كون الحد يسقط بالشبهة، ولا يستوفى مع أقل شبهة عارضة؛ كهبة النصاب في السرقة. أجاب الحنفي فقال: أما الانعقاد فحاصل، لكن لا لإيجاب الكفارة. حتى إنه لو حلف كافرًا وحنث مسلمًا، لم يجب كفارة اليمين التي عقدها حال كفره بمخالفته لها حال إسلامه. وأما الحد، فإنه وجب لله - سبحانه وتعالى- لمعالجة إقامته في هذه الدار سياسةً وصرفًا عن المفاسد، لا على طريق الجزاء الذي يستحقه في مقابلة الحربة. لأن هذه دار تكليف لا يشوبها جزاء. والجزاء للآخرة التي [هي] دار جزاء لا يشوبها تكليف. وذلك لأن الله - سبحانه وتعالى- لا يخاف الفوت فيعجل الجزاء في دار تكليفه. وإنما عجل الحدود للصرف، وحفظ الكل عن إفساد الأنساب والفرش. والذي يشهد لذلك أنه عرضها للإسقاط بالشبهة، وجعل وعيده مؤجلًا إلى دار الآخرة. فإذا تاب المجرم من جريمته، بقي استيفاء الحد زجرًا لعين المحدود، محنة للمحدود. والزجر يحصل بإقامته مع التوبة أكثر. أجاب الحنبلي عن هذا، فقال: أما الحدود فجزاء معجل؛ ودار الدنيا صالحة لاستيفاء بعض حق الله - سبحانه وتعالى- من العقوبة. فإنه تواعد ووعد. فإذا أذاقنا طائلًا من العذاب كان أبلغ، وطائلًا من النعيم بتمليك الغنائم والمنافع، ونفر بالخسف والمسخ والاستئصال بأنواع [العذاب]، وتواعد هذه

الأمة بأنه لا تقوم الساعة حتى تكون ريح صفراء وخسف ومسخ، فأي وجه لإنكار تعجيل عقابه في دار تكليفه؟ وقولك إنه ((لا يخاف الفوت، )) فإن تعلقت في ذلك بتعليل، أفلست من تعليل تنصبه لعذاب الآخرة. فإنه لا ممن يشتفي، ((ولا ينتفع بالمقابلة، ولا يستضر بترك الآلام والعقاب. وهو غني عن التعذيب، والعصاة محتاجون إلى العفو. فلا يبقى لتعذيبه وجه من وجوه تعود إليه. فإذا أسقطت التعجيل، لأجل أنه لا يخاف الفوت، وجب عليك إسقاط أصل التعذيب، لأنه لا يستدرك به أمرًا من الأمور التي وضع العقلاء التعذيب لأجلها. ولأنك إن قنعت بأن إقامة الحدود زجرًا لعين المحدود، وهو الزجر الكلي، فقل ههنا يجب التكفير تخسيرًا في المال، يرتدع به عن الحنث غير الحانث من الكفار. ولأنه لا يجوز أن يراعى في عقوبة محل قد عفي عن جريمته زجرًا للغير. والاعتبار في العقوبات بالمحل الجاني. فإذا عفا الله عن الجناية، والحد حق لله، هدر جانب غير المحدود. ألا ترى أن القصاص وضع لإحياء النفوس عمومًا، ولاشتفاء الولي خصوصًا؟ ولو عفا الولي، سقط حقه وسقط الزجر المحيي للكل تبعًا. وعفو الله - سبحانه وتعالى- في باب التائب، كعفو الولي في حق القاتل. وأما قولك إن الحدود سقطت بالشبهة، فهو الحجة. لأنه إذا أسقطها

بالشبهة، ومنع إيجابها مع الشبهة، ولم يراع إقامتها مع الشبهة، ولا أقامها بعد إعراض الشبهة لأجل الزجر، بل أسقطها عن المحل رأسًا، كذلك وجب أن لا يقال: أسقط عقوبته بالتوبة، ثم جعل إقامة الحد على المحل بعد التوبة لأجل الكل ولأجل الزجر العام. ولو جاز أن يزجر العموم بإقامة حد على محل لا يستحق، لجاز أن يقيم الحد مراعاة لإقامته، لمكان الزجر في محل عرضت عليه شبهة. إذ ليس تعمل الشبهة العارضة أكثر من عمل التوبة الماحية. والتوبة كالإسلام أسقطت ووجبت ما قضى. فلم يبق إلا ما ذكرنا، وأنه ابتلاء للمحل ومحنة. وبمل حسن محنة التائب بالحد، كما حسن إمراضه بأنواع الأمراض، حسنت الكفارة تخسيرًا للكافر وإن أسقط جانب التعبد لكونه ((لا يليق به، توفيرًا على اليمين حقها، أو على الحنث حقه، حيث ما خلت من هتك لحرمة القسم. قال الحنفي: فما هو عليه من الكفر أكثر من أن يحتمل عقوبة لما ينحط مأثمه عن رتبة الكفر. قال الحنبلي: الإيمان أعلى رتبة في باب الأجزية بالثواب. ثم لا يمنع ذلك من التحاق طاعات به ينحط ثوابها عنه. كذلك لا يمنع التحاق مأثم ينحط عن مأثم الكفر بعذاب الكفر ومأثمه.

جرى بمجلسنا عند الشيخ الإمام إبراهيم الدهستاني حفظه الله مسألة شهادة الأعمى وتحمله للشهادة بالصوت

352 - جرى بمجلسنا عند الشيخ الإمام إبراهيم الدهستاني - حفظه الله- مسألة شهادة الأعمى وتحمله للشهادة بالصوت قال شافعي: إن الأصل أن لا يجوز قول الغير على الغير. لكن قبلت الشهادة لأجل الحاجة. واحتيط فيها، حتى اعتبرت العدالة، ونفي كل تهمة، من عداوة، وقرابة توجب التهمة، وشركة. ثم اعتبر العدد. ولم يقنع بواحد حسبما قنع في باب أخبار الديانات. وليس شهادة الأعمى على الصوت إلا إهمالًا وإغفالًا. لأن الصوت قد يشبه بالصوت ويشتبه. فتارة يتعمل المصوت لتغييره، وتارة يشتبه بصوت غيره. والمشاهدة بخلاف ذلك. فالصوت كالخط. قال حنبلي قولًا يعضد قول الشافعي. وهو أن تحلية الشاهد للنساء لم يقنع فيه بالصوت، حتى استفضى إلى كشف الوجه وافتقاد حليته، مع كون المرأة مصونة. فلو كان الصوت مقنعًا، لقنع به في باب تحلية الشاهد والمعامل. اعترض عليه حنبلي، فقال: بل الأصل ضد ما ذكرت. لأن الأصل في الناس السلامة في الخلقة وصحة الفطرة. ((والكذب عور وعيب يتجدد من سوء الظن ووسخ الجيب. وإذا ثبت هذا، كان قبول كل قول هو الأصل. لأن الأصل أنه حق وصدق، لا باطل وكذب. ولو انحططنا رتبة فقلنا إن القياس ما ذكرت، فإن قبول قول الغير على الغير على مراتب لا يلزم

الوقوف في القبول على أعلاها، وهو الاختيار وطول المخالطة، بحيث لا تنسى الصورة ولا يختل العلم؛ ولم نعتبر ذلك. ثم إن مراتب الشهادات أعلاها أربع، وأدناها قول الواحد والمرأتين، أو الواحد ويمين. فليس بين الصوت والمشاهدة من التفاوت في إدراك المشهود عليه بأكثر من تفاوت ما بين الشاهد واليمين، والشاهد من الذكرين. فقد تساويا في قبولهما على المال وفي حقوق الأموال. وقال له أيضًا: أليس عندك، يا شافعي، أن ما يتحمله في حال بصره يؤديه حال ضرره، ووقت الأداء هو المغلب والآكد؟ قال شافعي: إن التحمل هو الحال التي تحتاج إلى تحقق المشهود به. فإذا عرفت المشهود عليه، وتحقق الأمر الذي يشهد به، لم يحتج وقت الأداء إلا [إلى] ذكر اسمه. ونسبه يرفع من اسمه ونسبه ما لا يبقى معه اختلاط ولا اشتباه بغيره. ولا يحتاج إلى الإشارة إليه، ولا النظر إليه. إذ ذلك سبق حال التحمل. فمتى بقي اشتباه، بحيث كان في البلد من يجتمع معه في اسمه واسم أبيه وجده، ولم يكن الشاهد قد حلاه بحلية تخصه، كان ذلك تعذرًا. وليس نضمن على أنفسنا أن الحقوق لا يتعذر إثباتها؛ بل قد تتعذر طرق الإثبات فتقف الحقوق.

وجرت مسألة شريك الأب

353 - وجرت مسألة شريك الأب فقال حنفي: زهقت نفس المقتول عن فعلين لا يجب القود بأحدهما، فلا يجب القود على الآخر؛ كما لو كان أحدهما مخطئًا. اعترض عليه شافعي، فقال: ((بل فعلهما موجب. وإنما في الأب شرف نبا الاستيفاء عنه لأجله. فصار كاثنين عامدين رميًا بسهمين نحو رجل، ومات أحد الراميين قبل وقوع السهمين فيه؛ ثم وقعا، فمات المرمي. فإن الحي يجب قتله قودًا. ولا يسقط قتله لأجل سقوط القتل عن شريكه؛ حيث كان سقوط القود للموت، وهو معنى نبا عن المحل الاستيفاء لأجله. قال الحنفي: لا معنى للقول بوجوب القود على محل لا يستوفى منه الواجب. وإنما الوجوب للاستيفاء. ولأن وجوب القود في الأصل إنما كان لحياة النفس. وفي طبع الأب المركوز فيه، وحنوه على الولد، ما يغنيه عن رادع من خارج يمنعه من قتله. وما ذلك إلا بمثابة ما ركز في الطبع من معافة المستقذرات المغنية عن صارف عقوبة أو حد يردع به الإنسان عن ربه؛ بخلاف الخمور التي ركز في الطبع الميل إليها. 354 - وجرت مسألة الإكراه على الطلاق قال مالكي: لا يقع؛ لأنه قارن بلفظه بالطلاق ما يشهد بعدم القصد، فصار كالنوم.

اعترض عليه حنفي، فقال: إن أردت أنه قارنه ما دل على عدم قصده للحكم، فمسلم. لكنه ليس يحتاج حكم الطلاق إلى قصده؛ فلا يؤثر عدم القصد. وإن أردت ما دل على عدم قصده للفظ الطلاق، فلا نسلم؛ ولا يمكنك تحقيق ذلك. فإن اللفظ لا يصدر عن لافظ إلا عن قصد. وكذلك كل فعل صدر عن حي. قال المالكي: لا قصد للمكره. فإن الإكراه أحفزه وأزعج دواعيه إلى القول. فصار كأنه إنما نطق بما صدر عن المكره له، لا باختيار نشأ من قبل طبعه ونفسه. قال الحنفي: إن إثارة الدواعي بما فعله المكره أوجبت أن إنشاء المكره ((قول صانع به؛ فهو كما يبذله عند الإكراه من المال، فإنه يكون يدفعه مصانعًا. كذلك ما يبذله من القول إنما يقصد به إرضاء المكره ودفع شره. ومن قصد دفع الشر بشئ فقد قصده؛ ولا يبقى ما لم يقصده إلا الوقوع؛ وذلك هو الحكم. والدلالة على أنه قاصد أنه يحسن أن يصوب أو يلام. فمن يصوبه يقول له ((نعم ما فعلت! كيف آثرت طلاق زوجتك على قتل نفسك، ودفعت بالشر الشرين أكبرهما.)) ومن يلومه يقول له ((هلا قلت (زوجتي طالق) وقلت سرًا بحيث تسمع نفسك (إن شاء الله)؟ )) وإذا كنت بحيث يصوب ويلام، علم أنه قاصد. ألا

ترى أن المدفوع على مال إنسان أو نفسه لا يلام على ما يجنيه بنفسه، حيث صار كالآلة لدافعه؟ قال المالكي: أما الإكراه فإنه يقصر قصد المقاصد، ويجعله كأنه يقول حاكيًا ما يقول له المكره. ويكفي في نفي الوقوع قصور القصد، لا سلبه رأسًا. كما نقول في قصد الصبي والمجنون؛ فإن له قصدًا في اللفظ، بحيث إذا تلفظ بالبيع صح، وتكون مشارفة الولي لإلزامه. ولا يكفي ذلك القصد القصير الضعيف لإيقاع الطلاق، مع كونه قصد اللفظ. قال الحنفي: أما أن تعول على عدم القصد، فلا يصح لك، لما قدمنا لك من الكلام. وإن قلت بقاصر القصد، فلا يطلب لوقوع الطلاق كمال القصد، ويكفيه القصد القاصر؛ بدليل الهازل. وإن غلبت فعل المكره كما غلبت في باب الإكراه على إتلاف المال، فاجعل للافظ آلة. ولا يصح لك ذلك؛ لأن لسان القائل لا يجوز أن يكون آلة وأداة للمكره بأن يدفعه على أواني زجاج فيكسرها. فلا جرم، لما كان كذلك، [أن] يقرر ضمان المال على المكره دون المكره. قال المالكي: ((في باب المال يكفي القصد القاصر، بدليل إتلاف الصبي. ويكفي عدم القصد، بدليل النائم. وفي مسألتنا لا ينفذ إلا من قاصد تام القصد؛ وهذا ناقص القصد. وأما الإكراه على إتلاف المال، فإن المغلب المكره. فهو كالدافع مع الحافر.

جرى بمجلس درب الدواب مسألة من قال هو يهودي إن فعل كذا

قالوا له: فإذا كان ضمان المال يتأتى في باب الفعل القاصر، فهلا كان المكره والمكره سواء في باب الضمان؟ 355 - جرى بمجلس درب الدواب مسألة من قال هو يهودي إن فعل كذا قال شافعي: لم يحلف بالله، ولا بصفة من صفاته، ولا باسم من أسمائه؛ فلم يك حالفًا، كما لو حلف بالرسول والكعبة. قال له مذنب على حنفي: لا نسلم؛ بل تقدير كلامه ((هتكت حرمة اسم الله، وقلت في الله ما لا ينبغي أن يقال، إن فعلت كذا.)) والأصل لا يعود إلى الله، بل إلى خلق من خلق الله. 356 - وجرت مسألة قتل المسلم بالذمي استدل حنبلي مجود فقال: الكفر في الأصل هو الموجب للقتل. والذمة حاقنة، ولكن لأجل الضرورة. ويجب أن تعطى بمقدارها وحدها. وليس من حدها أن يقتل المسلم لأجل المحقون بها، كالمستأمن. اعترض عليه حنبلي ذنب عن حنفي، وله قدم في النظر وتجويد طريقتي العراق وخراسان، فقال: لا أسلم أن الكفر موجب للقتل. وإنما

الموجب للقتل الحراب والفساد في الأرض. وذلك بعينه إذا وجد في حق المسلمين، وجب القتال لهم والقتل. ولو انحطت عن هذه الرتبة إلى مرتبة أخرى، وهو أن الكفر أوجب، لكن في قوة الذمة ما يعصم عصمة ويحقن حقنًا، فوجب قتل القاتل الذمي وإن كان مسلمًا؛ إذ كانت تحقن الذميين مع قيام الكفر. والإسلام لا يحقن إلا مع زوال الكفر ((عندك، على ما ذكرت. ولأن الذمة كما عصمت المال عصمت الدم؛ وكما عصمت الدم عصمت المال. لكن عصمة المال إنما كانت لأجل احترام المال بمالكه، لا لحرمته في نفسه. فإذا بلغ الحق للمال الغاية، وهو إيجاب قطع يد المسلم بسرقته، فأولى أن يبلغ حقن النفوس الغاية في حقنها بقتل المسلم بقتله. فالطرق للمال كالنفس للنفس. أجاب المستدل بأن قال: إن الله - سبحانه وتعالى- علق القتل بوصف الشرك. فالظاهر أنه علة له. فقال: (اقتلوا المشركين) وقال [صلعم]: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.)) والغاية تدل على أن ما قبلها بخلافه. فلما قال ((فإذا قالوها عصموا مني دماءهم)) دل على أن إراقة دمائهم كانت للجحد بها. ولأن الفساد والحراب الذي تشير إليه هو نتيجة الكفر، والكفر أصله وموجبه. وأبدًا إنما يعلق الحكم على الأصل والناتج والمؤثر؛ كالحد يعلق على الشرب الذي هو المثير للمفسدة والعربدة،

دون أن يعلق على العربدة والمفسدة نفسها. وقولك إن الذمة حقنت مع عين الكفر، فإنما كان كذلك للضرورة. وأبدًا ما يحصل للضرورة يكون مع السبب الموجب للتحريم؛ كالميتة، على نجاستها، تؤكل للضرورة. وأما القطع بالمال فلحرمة المال، لا لحرمة مالكه، وعرضًا؛ حتى إنه يقطع ثبوته مال المستأمن. أجاب الحنبلي المعترض [على] الحنبلي بأن قال: أما الشرك، فلا يجوز أن يكون سببًا ولا علة لإيجاب القتل، لوجوه أذكرها. احدها أن القرآن نطق بتعليل يشهد لما ذكرت. فقال - سبحانه وتعالى: (ألا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرةٍ)، (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق). ثم أبان عن فساد الكفر، فقال: (يخرجون ((الرسول وإياكم)؛ وقال: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم). فهذه الآي أصرح بالتعليل من جعل اسم الشرك علة. ومما يدل على أن الكفر لا يجوز أن يكون علة أن الكفر محض حق الله - سبحانه وتعالى-، وهو أكبر حرم في حق الله. فكيف يعجل جزاءه في دار التكليف، ودار التكليف دار لا يصلح إلا للمصالح وإقامة السياسات للمكلفين؟ وذلك ليخلص اجتناب المحظورات لأجل عقاب الآخرة والائتمار بالعبادات رجاء ثواب الآخرة. والذي يكشف عن صحة هذا أن المكلف لو صرح

فقال ((لا أرى خوفًا من جلدكم أو رجمكم، ولا أطيع إلا طمعًا في سعة الرزق، ولا أقاتل في الجهاد إلا لأجل الغنيمة، )) انحبط ثواب طاعته، ولم يحصل له ثواب في اجتناب المعصية. وبمثله لو قال ((والله إنني لا أطيع الله إلا رجاء ثوابه، ولا أترك المعاصي إلا خوفًا من عقابه، )) وهي ناره، لكان ذلك من أحسن ما تقرب به إليه، دون ما يقوله شطاح الصوفية: ((لا نعبد الله ولا نطيعه لأجل جنته، ولا خوفًا من ناره.)) فلو جعل العقوبات في الدنيا وسعة الأرزاق والغنائم قطعة من عقابه وطرفًا من ثوابه، لكان ذلك أغرى بأن تصير المقاصد منصبة إليها ولأجلها. وذلك يطعن في معتقد المكلفين ويسقط أحكام تعبداتهم؛ ولأنه يصير إيقاع عقابه في الدنيا على الأعمال كالإلجاء والسياقة إلى الطاعة بنوع من الإكراه. قال المستدل معترضًا على هذا: أليس قد خسف ومسخ في الدنيا، وعذب بأنواع العذاب؟ قال الحنبلي المعترض: ذاك في حق الأمم السالفة التي علم أنه لم يبق منهم وفيهم ذرية تكون مسلمة. وهذه الأمة أمنها من عذاب الاستئصال. وعذاب الأمم السالفة عند إياس الأنبياء من إيمانهم وإيمان ذرياتهم نطق به القرآن. فقال لنوح: (أنه لن يؤمن من قومك ((إلا من قد آمن)، حينئذٍ فقال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا). وكان المعنى فيه أنهم لما صاروا إلى العناد، أخرجهم إلى الدار الآخرة بعذاب. فأوصل العذاب بالعذاب. فلم يتخلل أعمال بين الموت والحياة. فلا يفضي

إلى الإجبار. وما لم يستأصل فيه الأمم، بل بقوا بعده، كان من معجزات الأنبياء صلعهم، ليبين صدقهم فيما وعدوا به الأمم. وأما قولك إن الذمة حقنت الدم مع الكفر ضرورة، فأي ضرورة ألجأت إلى إدخال المشركين إلى بلادنا، وصرن نساؤهم زوجات لنا؟ ما ذلك إلا لأجل الانتفاع بالجزية وكثرة الأرباح بمعاملاتهم والتجائر. ولذلك قال - سبحانه وتعالى-: (فلا تدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله). دل على أن دخولهم كان لأجل التجائر والأرباح. فلما صان البقعة عنهم، ضمن خلف ما يفوت منهم وبهم. قال الحنبلي المعترض: ومما يشهد لما ذكرت، وأن الكفر ليس بعلة لكن الحراب علته، أن الكفر يعم الصبيان والنساء والشيوخ العتاة والعميان. فلا يقتل إلا الشباب والمتهيئين للقتال. حتى أرباب الآراء في الحرب من الشيوخ، لما كان لهم تأثير في الحرب، قتلوا. فإذا جئنا إلى ما عللت أنا به للقوم من الحراب، متى وجد من النساء والعبيد والمشايخ والعميان، قتلنا الكل ولم نحترم مع الحراب لأحد. وصار الحراب كالصيال الذي تسقط فيه موازين المكافأة. فنجوز للابن مع أبيه، والعبد مع سيده، أن يدفعه، ولو أفضى إلى قتله، وإن كان بعد القتل تظهر الموازنة وإلغاء المجازفة.

قال المستدل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يبدأ بالدعاية؛ فدل على أنها هي الأصل؛ ولا يبدأ بالقتال ولا القتل. قال له المعترض: هذا عليك، لا لك. لأنهم قد كانوا كفارًا، وتكاملت علة القتل فيهم، ولم يقتلهم. وإنما بدأ ((بالدعاية لأن الأسهل فالأسهل هو الذي يبدأ به. وهم في الأصل آدميون، معهم أدوات النظر والاستدلال المانع من الإصرار على الجحد والكفر. فهو منهم، على هذه الحال، على رجاء الاستصلاح وإزالة سبب الحراب. فإذا حصل الإياس بالعناد منهم، حينئذٍ قتل. ولذلك أسقط البداية بالدعاية لمن بلغه الدعوة، وجوز البيئات. وأما قولك أن عصم بالذمة ضرورةً، فليس كذاك. لأنه ما حقن الدماء إلا بما عاد نفعًا لنا. وبه أستدل عليك على أنه ما قتل إلا لما كان ضررًا لنا، وهو الحراب. والدلالة على أنه ما عصم إلا بما عاد نفعًا لنا هو أن الحقن بأحد أمور كلها نفع، إما هدنة على كف شرهم، أو دفع أموال. وعقد الذمة بالجزية أو الاسترقاق. وهو جعل رقابهم متمولة متبذلة في أنواع الانتفاع. وإذا [كان] الحقن للنفع لنا، تحقق أن الإراقة لدفع الضرر عنا، لا لأجل حق الله - سبحانه وتعالى- الخالص له. وأما قولك إن القطع في السرقة لأجل أن الأموال في نفسها محترمة، فمن أبعد ما يكون. وهل رأينا مالًا قط ليس له مالك، ولا يضاف إلى

وجرت مسألة الإكراه على القتل

جهة محترمة؟ كالصيد يحترم لأجل الحرم، أو الأحرام والأملاك لحرمة المالكين. وأما الأحطاب في الدحال والقصب في الآجام لو أحرقها محرق، والمياه لو بددها مبدد، لا ضمان ولا عقوبة. فبطل كون الأموال محترمة لنفسها. 357 - وجرت مسألة الإكراه على القتل فقال حنفي: إن الإكراه سلب اختيار المكره. لأن المكره جعل المكره بأخفاره، وحمله على إعمال سلاحه في المكره على قتله كالآلة له. وما صار كالآلة إلا لأن المكره قائل، وليس بفاعل ولا مباشر. ونحن جميعًا نقول إنه يجب عليه القود. وما وجب عليه القود إلا والإكراه لغيره فعل تام لإيجاب القتل. إذ لو لم يكن ((تامًا، لما وجب قتله. ألا ترى أن أبا يوسف أسقط القتل عنهما لما رأى من قصور فعل المكره بكونه كالمسبب بقوله وتهديده، وقصور فعل القاتل لعدم اختياره وقصده؟ وزفر أوجب القتل على المباشر خاصة. ولما اجتمعنا جميعًا، أعني أبا حنيفة والشافعي وأحمد، على أن المكره تام الفعل لوجوب القتل عليه، علمنا أن فعله ما تم لوجوب القتل، مع كون المباشر غيره، إلا لأن المباشر صار كالآلة في الفعل. قالوا له: فما باله أثم؟

[في أن المفسرين أدخلوا في النسخ كثيرا مما ليس منه]

قال: لأن القتل تعلق به حق الآدمي، وما خلا من استيفاء من جانب المكره، وبقي حق الله؛ فإذا لم نؤثم القاتل، أخللنا بحقه. قالوا له: فكما جعلت المكره مستحقًا للقتل من حيث إنه القاتل حكمًا، وإن المباشر كالآلة، كان يجب أن تعود بإلحاق المأثم على من أوجبت عليه القود، دون من جعلته كالآلة، وتجعل حق الله - سبحانه وتعالى- وحق الآدمي جميعًا واجبين على من نشأ سبب القتل منه وهو المكره. ومباشرة، هو آلة فيها، لا يجوز أن يصرف حق الله - سبحانه وتعالى- إليها. وحق الله لا يثبت إلا في محل تم السبب فيه لإيجاب الحكم. ألا ترى أن حقوق الآدمي تجب مع الجنون والصغر والنوم، وحق الله - سبحانه وتعالى- يسقط في مثل هذه الأحوال؟ فإذا جعلنا المباشر كالآلة لحق الآدمي، بحيث لا يخاطب به، فأولى أن يكون كالآلة في حق الله - سبحانه وتعالى- الذي يسقط بالشبهة. 358 - قال بعض الفقهاء: ما أكثر ما أدخل المفسرون في النسخ ما ليس منه! كقولهم: (اتقوا الله حق تقاته). قالوا: نسخت بقوله: (فاتقوا الله ما استطعتم). وقوله، لما عظم ذلك عليهم، لما قال: (حق تقاته)، فكان نسخًا. والعلماء من الفقهاء والأصوليين أنكروا ذلك إنكارًا شديدًا وقالوا: مهما أمكن أن يكون تفسيرًا فلا يجعل نسخًا، وقد أمكن أن يكون القوم ظنوا أن (حق تقاته) يزيد على ما يدخل تحت استطاعتهم، حيث سألوه

قول النبي صلعم عند العقبة "إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض" ما معناه

فقال {حق تقاته} أن يطاع|| فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. فلما انضم هذا القول إلى ظنونهم، أزال الباري سح الإشكال، وفسر كلامه بما أرد من الحق وعناه، مثلما فسر قوله: {وآتوا حقه يوم حصاده}. ولم يكن ذلك نسخًا، بل كان تفسيرًا وبيانًا لمقدار الحق. كذلك ذكر مقدار الحق ههنا بالاستطاعة. فبطل ما ادعوه من النسخ. 359 - قول النبي صلعم عند العقبة ((إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض)) وما معناه؟ قال العلماء: إنما أراد ما شهد به سياق الخبر. وهو أنه قال إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، منها أربعة حرم، فأخبر أن الشهور اثنا عشر شهرًا، وأن منها أربعة حرم. والجاهلية بدلت وغيرت بما كانوا وضعوه من النسيء، وغيروا شهرًا، فكان شهر. فلما جاءت شريعته صلعم أزال تغييرهم وأعاد تحريم ما حرمه الله من غير تبديل ولا تغيير. فعادت الشهور على ما كانت يوم خلق الله السماوات والأرض.- والله أعلم. 360 - استدل حنبلي في مسألة الخلوة بقوله: قضت السنة أن من أغلق بابًا أو أرخى سترًا فعليه المهر، دخل أو لم يدخل.

[حكمة]

فاعترض حنبلي لسائل شافعي ذنب عليه، فقال: فلابد من إضمار. أنت تضمر ((أرخى سترًا وراءه خلوةً بها، )) ونحن نضمر ((أرخى سترًا واستمتع بها)). وليس إضماركم بأولى من إضمارنا. وجرى إلزام التسليم من جهة من عليه الدم لنفسه إلى ولي الدم، وأنه يمكن ولا يكون جاريًا مجرى الاستيفاء. فقال حنبلي: ليس التسليم بغير العقد، من تسليمٍ صدر عن عقد، بشيء. لأن القاتل، لو مكن من نفسه ثم مات، أو لم يمكن منها لكن أجاب، لما أنفذ إليه الولي يطالبه بالتسليم، بـ ((أنني مستجيب لتسليم نفسي)) ثم ما يسلم، يسقط عندنا وعند الشافعي بموته البدل، بل عدلنا من القود|| المتعذر بموت الجاني إلى البدل الآخر، وهو المال. وهنا لو مات الزوج أو الزوجة، كما العوض واستقر لكمال الألفة مع عدم المتعة، كذلك جاز أن تكون خلوته بها مع البدل يقرر المهر، لمكان كمال البذلة منها وإن عدمت المتعة. 361 - قال عالم ينطق بالحكمة: لنا أمران، أحدهما لا تحمد عاقبته إلا بالكثرة والشركة، والآخر لا يصلح إلا بالوحدة، وتفسده الشركة. فالأول

جرى فصل في مسألة الزكاة في مال الصبي

الرأي. فإن المشورة أمر بها القرآن، واتفق العقلاء أجمع على الاجتماع لها والمشاركة فيها. والثاني الإمارة والملك، لا يتم صلاحه ويؤمن فساده إلا بالوحدة. والقرآن شهد بذلك حيث قال: {لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا} وقال قائلهم يوم السقيفة، لما قالت الأنصار ((منا أمير ومنكم أمير)): ((سيفان في غمدٍ لا يصطلحان أبدًا)). 362 - جرى فصل في مسألة الزكاة في مال الصبي قال حنبلي: الصبي من أهل المؤاساة في ماله، بدليل نفقة الأقارب، فكان في مؤاساة أهل دينه كذلك، لقرب ما بين الدين والقرابة من جهة الرحم. قال له حنفي: أنا لا أمنع معنى المؤاساة في صرفها، لاعتبار الحاجة والفقر الذي هو أهل للمؤاساة. لكن المغلب التعبد، لأنه مال يستحقه الله سح. ولذلك نعتبر له إخلاص النية، ويتعقب ذلك التطهير، بقوله: {تطهرهم وتزكيهم بها}. والتطهير فعل الله وهو نفع ديني لا يتحصل إلا من الله وهو سابق لنفع النفقة. لأن التطهير يحصل بالدفع، ولو إلى ساعي الإمام. ثم يتعقب ذلك نفع الفقراء بالإغناء ورم الشعث. فدل على أن المغلب التعبد. فإذا كان هذا هو المغلب، بطل التعلق بالمؤاساة لكونه من أهل المؤاساة، ووجب إخراجه منها لخروجه من أهل التعبد الذي قد بينا أنه هو المغلب دون المؤاساة.

وجرت مذاكرة في مسالة الأعيان قبل ورود الشرع ما حكمها

363 - || وجرت [مذاكرة] في مسألة الأعيان قبل ورود الشرع ما حكمها قال حنبلي ينصر أحد الوجوه الثلاثة: إن أصلنا أن العقل لا يبيح ولا يحظر. فإذا كان الشرع لم يرد بإباحة ولا حظر، تعذر طريق الإباحة والحظر. فإذا تعذر طريقهما، فلا وجه للفتوى بواحد منهما، لأنه لا يبقى لنا طريق إلا الحدس والحزر. ولا يرضى ذلك لأحكام الله سح طريقًا. اعترض معترض، فقال: لا أسلم هذا الأصل، بل العقل لا قضايا، من جملتها الإباحة والحظر. ومما قضى به العقل، مما لا خلاف فيه، ولا يمكن المخالفة فيه لأهل الإثبات، قضاؤه بحدث العالم وأن له حادثًا وصانعًا. ومن قضاياه أن كل محدث فلابد له من محدث. ومن قضاياه أن إحكام الصنعة لا يحدث إلا من عالم، لأن من الإتقان إعدادًا لمستقبل، ولا بعد المستقبلات إلا عالم بالثاني والمآل. ومما قضى به تصديق الرسل- صلوات الله عليهم- بما أوجبته دلالة صدقهم، وهي المعجزات. فلابد بعد هذا كله أن يترتب على قضائه بالصانع بكونه عالمًا وبتصديق الرسل أن يقضي على أقل الأحوال بحسن تصديقهم. لأن الصحة حكم والحسن حكم. فكيف يرضاه لأحد الحكمين، ولا يرضاه للآخر؟ وكيف يعطل قضاياه في أحكام أفعالنا، وما عطلناه بل أعملناه في أحكام أفعال الصانع؟

ولأن هذه المقالة تقرب من السفسطة. لأن أصحاب سوفسطا عطلوا الحواس عن دركها. وأنتم عطلتم العقل عن دركه. وخصيصة العقل الفرق بين الجائز والمحال، والواجب الجائز، والحسن والقبح. ومعنا كلام يدل على أن إجماع العقلاء على ما قلنا. وذلك أنهم أجمعوا على أنه ما ورد الشرع بما يخالف العقل. فلو لم يكن للعقل قضايا، ففي أي شيء تحصل الموافقة أو المخالفة؟ إذ لا موافقة ولا مخالفة إلا لما له حكم وقضية. ألا|| ترى أن قائلًا لو قال ((إن فلانًا الفقيه لا يفتي إلا بما يوافق فلانًا)) لم يعط ذلك إلا موافقته لمن له فتوى ومقالة. ومن كان عاطلًا عن الحكم فلا موافقة له ولا مخالفة. ولو لم يكن في العقل حسن وقبح، من أين كنا نعلم التنبيه؟ وليس الأولى في النهي عن التأفيف إلا كون العقل عالمًا بطبقة قبح الضرب والشتم، وأنها طبقة عليا تنبه عند نهي الشارع عن طبقة التأفيف وهي دونها في القبح. قال الحنبلي: إنني لم أعطل العقل عما له وعما يجب له، ولا أعطيه ما لا يستحقه. فحده درك المعلومات، لأنه عندي ضرب من العلوم الضرورية. وليس من ضرورة العلم أن يدرك الوجوب والحسن والقبح، كما أنه ليس في قوى الحواس المدركة للمطاعم والمشارب والعقاقير، فتعلم

ألوانها وطعومها وأراييحها، أن تدرك مضارها ومنافعها وخواصها، بل تدرك مداركها منها، وتقف في حدها إلى أن يجيئها [الحكم] من قبيل معنىً زائدٍ عليها: وهي التجارب، أو النقل من المجربين، أو الوحي والإلهام للمرسلين. فالإباحة والحظر ليست بأكثر من المنع لمضرة ومفسدة وغائلة غير محمودة أو سلامة عاقبة في تناوله. وهذه الأحكام للأعيان، كالمضار والمنافع والخواص في العقاقير. وكما لا نكون بسلب علم ذلك بدرك الحواس باخسين للحواس حظها ولا مسفسطين فيها، كذلك إذا وفينا العقول حظها من قضاياها العلمية لما تدركه من الاستدلال، ولم نعطها فوق حقها من التحريم والإباحة والإيجاب، لا نكون مسفسطين، بل نكون آخذين بالجزم، حيث جرينا في موضع الجري، ووقفنا في موضع الوقف. قال المعترض: فقد بخست العقل حظه. فإن في قواه أن يخبر ويعلم بالنظر الذي قضى به على إثبات الصانع، والقول بأنه عالم، والعلم بصدق الصادق عنه. ويمثل ذلك النظر الصحيح نظر في هذه الأعيان، مأكولة ومشروبة، ومركوبة وملبوسة، وجالبة للنفع ودافعة للضر. فقسم الأمر فيها|| ثلاثة أقسام، فقال: لا يخلو أن يكون خلقها لنفسه، أو لنا، أو عبثاً. لا يجوز أن يكون لنفسه، إذ لا يليق بذاته الضر ولا النفع- تعالى عن ذلك! ولا يجوز أن يكون عبثاً، لما ثبت من حكمته وما نطق

به كتابه العزيز: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلًا}. لم يبق إلا أنه خلقها لنا. وشاهد خلقها لنا ظاهر. وهو أنها بحسب حوائجنا وأمزجتنا حامض وحلو ومر، ومسهل ومقبض، ومروٍ ومشبع، وإلى ما شاكل ذلك. فكل شيء معد لمعنى من أمزجتنا وعوارض أحوالنا. والإناث للذكور كالحلقة للزرفين. والبهائم كلٌ منها لمعنى من مركب ومحلب، على ما ذكره الله سح. ثم نطق بذلك وصرح به، فقال: {خلقها لكم}، {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض}. وساق الآيات. وما كان في النظر كذا لا يعطل. وما جلبه الاستدلال العقلي لا يهمل ويطرح. فقد بان أنه من قوى العقل. فأجاب الحنبلي المستدل بأنك فرطت في التقسيم، وأسقطت قسمًا هو الذي علقنا عليه الحكم. وهو الوقف. وهو أنه خلقها كذلك بلوى لنا وامتحاناً. والدليل على ذلك أنه لو كان دليلك ونظرك الذي أبديته موجباً كونها مباحةً لنا، حيث كان الباري لا ينتفع ولا يستضر، ولا ينتقص ولا يفتقر وأنه غني، لكان هذا موجبًا قبح منعه لنا. لأن المانع منا للاستظلال بظل جداره، والاصطلاء والاستضاءة بناره، وغرفة من نهره لبل رمق عطشان، يكون بخيلاً مذموماً، لما ذكرت من غنائه عن ذلك وعدم استضراره بالانتفاع به.

وكل الأعيان بالإضافة إلى قدرته وغنائه أحسن وأهون من ضوء النار وظل الجدار، بالإضافة إلى آحادنا. لكنه، مع ذلك كله، جاء الشرع عنه على ألسنة الصادقين بتحريم أعيان، وكراهة أعيان، وإباحة أعيان. فقد بان بذلك أنه لم يبق وجه للمنع إلا أحد أمرين. إما امتحانًا وابتلاءً، أو لمصالح علمها في المنع والحظر لبعضها، والإباحة لبعضها، || وتحريم بعضها في وقت، وإباحته بعينه في غير ذلك الوقت، ونقل الأحكام بالنسخ من إباحة إلى حظر، وإيجاب إلى إسقاط، وإلى أمثال ذلك. فإذا كان كذلك، وقد ورد على هذا الوجه، صارت الدنيا وما فيها من العقار والأعيان كدكان عطار فيه أنواع من الأشربة والأدوية التي لا تصلح إلا لنا، غير أنا بالمضر منها من النافع غير عالمين، والصالح المزاج بعضنا دون بعض جاهلين، وبالإقدام على تناول بعضها غير آمنين. فلم يك بد لنا من الوقف إلى أن يجيء الإذن من جهة العالم بالضار منها من النافع، كما لا يجوز الإقدام على عقار من تلك العقاقير إلا بإذن طبيب حاذق وصيدلاني عارف يعرف هذا عين الدواء، ويعرف هذا ما يصلح له.- والله أعلم. قال المعترض: فهذا يوجب أن نتوقف في زمن النبوات عن الإقدام على مداومة الأفعال، خوفًا من التحريم بالنسخ، ولأن العقل قد قطع على أن الماء البارد والخبز المشبع نافع بعاجل الحال، ويتوهم الضرر والتحريم، فلا يعطل العقل عن قضية عاجلة لتجويز قضية تخالفها آجلة.

جرى بمجلس الشيخ الإمام إبراهيم الدهستاني مسالة تقديم الزكاة قبل حؤول الحول

قال الحنبلي: أما التمسك بالحكم الذي ثبت شرعًا، فذلك متحقق بطريقة المعصوم. والترك له والعدول عنه لا يجوز إلا بنطق مثله. ولو اطرحناه بالتوهم لتعطل أكثر أحكام الشرع. وأما قولك إن الماء متحقق منفعته، فلا عبرة بطلب النفس وحنينها إلى الماء وعلمنا بأنه يروي. لأن الماء الذي تتطلبه النفس لحاجتها إليه قد يكون مسمومًا سم ساعة. فيحصل الضرر عاجلًا، وتقطع المنافع الآجلة. ولو جاز أن ننظر إلى مثل هذا، لنظرنا إليه بعد نهي التسارع عن التناول، فنقول: نحن نتحقق نفع الماء البارد في نهار آب، فلا نتعجل الامتناع منه بالصوم المقشف للأكباد|| لأجل ثواب آجل ودفع عذاب آجل. فلما لم يجز الاعتماد على ذلك بعد النهي، كذلك لا يجوز مع تجويز الحظر من جهة الشرع.- والله أعلم. 364 - جرى بمجلس الشيخ الإمام إبراهيم الدهستاني مسألة تقديم الزكاة قبل [حؤول] الحول قال شافعي مستدل على مذهبه، وهو مذهب الجماعة سوى مالك، فقال الشافعي: إن القصد بالزكاة في أول وضعها المؤاساة. بدليل أنه قصد بها محال الإرفاق والحاجة بين فقر ومسكنة وصاحب جعالة لفك رقبته من الرق. وإذا امتنع من أدائها، أخذت منه قهرًا عندنا جميعًا،

وعند أبي حنيفة يحبس حتى يخرجها، فغلب فيها طريق المؤاساة. فالتعجيل أحسن في المؤاساة وأنفع للفقراء. وإنما جعل للتأخير رفقاً برب المال إلا الرفق بالفقراء، كان ذلك أحسن. فلا وجه للمنع منه. اعترض مالكي فقال: إن المؤاساة آخر أمرها. وإلا فالتعبد هو أول وهلاتها وأكبر مقاصدها. ولذلك تجب النية وإخلاص القصد، ولاسيما على قولكم. وإنه لا يجوز إخراج القيم، بل يقف على ما ورد به النص مع حصول المؤاساة بالقيم ولهذا لو دفع المال إلى الفقير، فقبل ارتفاقه به هلك، لم يجب على رب المال غرامة. ولو كان المغلب المؤاساة، لغرمها، ما لم يتحقق سد خلله بها، كما نقول في نفقة الأقارب. وقال من ينصر طريقة أبي زيد- أن المغلب سياسة الدنيا في الحدود، وأنها ليست آخرته لله سح: إن مراعاة الشرع في العبادات صورها لإقامة سياسة الدين. لأننا نضرب المكلف ليصلي، وقوم ينخسونه بالحديد إلى أن يموت أو يصلي. وهل هذا إلا عناية بصور|| العبادات ليظهر امتثال أمر الشرع؟ وإلا فلو كان المغلب التعبد، كان متى امتنع، تركناه إطراحًا له، حيث لم يحصل طائعًا باعتقاده ونيته.

وجرت مسألة المماثلة

365 - وجرت مسألة المماثلة قال حنبلي ينصر إحدى الروايتين: إن الأطراف إذا قطعت، وزهقت النفس، صارت نفسًا وسقط حكم الأطراف. بدليل أن الدية تكون واحدة. ويمثله لو تفرقت واندمل كل طرف، وجبت ديات. وإذا ثبت هذا في الدية، كان في باب البدل الآخر، وهو القصاص الذي يسقط بالشبهة، أولى. اعترض عليه حنبلي آخر، للرواية الأخرى ولمذهب الشافعي، فقال إن القصاص وضع مجازاةً وعقوبةً حافظًا للدماء، كما قال سح: {ولكم في القصاص حياةٌ}. وكما أن بنا حاجة أن نحقن أصل الدم، بنا حاجة أن نعصم عن وصفه، وهو المثلة. وقد أشار النبي إلى ذلك، فقال: من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه. وهذا تخصيص منه للصفة بالمقابلة. 366 - وجرت مسألة من استحق دمه فقطع ولي الدم يده ثم عفا وفيها المذاهب الأربعة. الشافعي يسقط الضمان في اليد، وأحمد يوجب الدية- أعني دية اليد، وكل عضو يقطعه، ثم يعفو عن النفس، ومالك يوجب القود فيه، وأبو حنيفة، إن عفا، أوجب الدية. قال فيها حنفي: قطع محرم، فأوجب الضمان.

اعترض شافعي فقال: باطل بقطع يد المرتد، فإنه لا يحل للإمام ولا لآحاد الرعية، ومع ذلك فلا ضمان فيه. وكذلك إذا قطع المستحق عليه القود في التعزيز، ثم عفا عنه، ثم قتله، || فإنه قطع لا يجوز ولا يجري فيه الضمان. قال حنبلي: مذهب أحمد أحسن المذاهب. لأنه جعل التصرف في طرف نفس مستحقة شبهة لإسقاط القود، ووضعه الحديدة في غير المحل المستحق. لأن من له النفس ليس له أخذها واستيفاؤها بقطع الطرف، وكان هذا تعد يوجب مثله الضمان. قال مالكي حاضر: مذهبنا أحسن المذاهب. لأن الطرف جملة بنفسه، ليس بعضًا للنفس، بخلاف الأصبع من اليد المستحق قطعها، لأنه بعضه. وإذا لم يكن بعضًا للنفس، كان قطع الطرف استيفاء أو إتلافًا لمحل يقبل إتلافه إيجاب القصاص من غير استحقاق له، فوجب القصاص. قال له الحنبلي: هو وإن لم يكن بعضًا، إلا أنه في محل لا يخلو من نفس. ولهذا لو تلفت النفس، كان قتلًا حصل به استيفاء القود المستحق في النفس. فلا يجوز أن يكون في محل مستحق. وهو وإن لم يكن بعضًا، إلا أنه تبع له يتلف بتلف النفس، ولا يتخلف بعدها. ثم مع هذه الشبهة يستحق القود فيه. قال الشافعي: القطع وجد في حالٍ أنتج لهذا القاطع إتلاف النفس،

آيات قرآنية وتفسيرها

فلا وجه لضمانه، كما لو لم يعف. ولأن العفو الذي حقن طرأ بعد قطع اليد، فلم يوجب ضمان اليد، كإسلام المرتد بعد قطع يده، ودخول الصيد الحرم بعد أن قطع قاطع طرفه. فإنه لما كان دخول الصيد إلى الحرم وإسلام المرتد بعد قطع الطرف غير موجب للضمان، كذلك العفو هنا بعد قطع اليد. قالوا له: الإسلام ودخول الحرم لم يوجد من جهة القاطع. قال الشافعي: إلا أنه، وإن كان من جهته، لا يوجب، كما لو قطع الطرف، ثم عفا، ثم مات المقطوع. قال الحنفي: الطرف تابع للنفس، وقد صارت النفس مضمونة بالعفو. ولهذا، لو قتله بعد العفو، || ضمنه. وإذا صارت النفس مضمونة، تبعها الطرف. قال الشافعي: هو تابع للنفس قبل القطع. فأما بعده، فلا. لأنه حصل مثبتًا له، ثم طرأ العفو، فعاد العفو إلى ما بقي دون الطرف. وما سقط قبل العفو لم يؤثر فيه العفو، كالإبراء بعد الاستيفاء. 367 - فصل في قوله تع: {فبظلمٍ من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا}، {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل}. فأخبر سح وتع أنه يحرم المباحات في زمان النبوات عقوبة على أكل المحرمات. والآن، فلم يبق طريق

آيات قرآنية وتفسيرها

للنسخ، فيحرم عليك، لكن احذر لا يحرمك. فإنه، كما يمنع بالتحريم منعًا شرعيًا، يمنع بالفقر تارة، مع وجود المشتهيات وتعذر الأثمان، وتارة يوجد المال، ثم يسلط على الأبدان أنواع الأمراض المانعة مع تأتي الأثمان وإباحة الشرائع. هذا من بعض عقوباته العاجلة. احذر لا يوقع فيك علة تستقذرك الزوجات والأولاد. من بعض أجناده الجذام القاطع بينك وبين سائر الأنام. قال سح: {يمحق الله الربا}، ومن محقه إخراج المال في غير وجهه بجمعه، وبثمنه بالربا يخرجه من يدك على أحلى ما يكون في قلبك إلى العطارين والصيادلة والأطباء، لا في مستحليً، ولكن في حشائش مرة وتقطيع العروق وفتح الدمل. وتخرج ما جمعت منه في أكره مكروه. هذا من بعض محقه للربا. وإلا فيقلب الأسعار حتى لا يعود إليك رأس المال. هو إذا محق، محق، كما أنه إذا بارك، بارك. تطلب الزيادة بالطريق الذي نهاك عنه، يحرمك الزيادة من حيث جرت العادة به. لا زرع يزكو، ولا بضاعة تربح. || هذا جزاء عبد خالف مولاه بشهوة، لا حاجة. 368 - سأل سائل: كيف ساغ لعيسى أن يقول: {والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًا}؟ قيل له: أولًا، ليس هذا نطقه، وإنما نطق، لأن لسان مثله في

في نجاسة مني الخصي وطهارة مني الفحل

السن التي كان فيها ليس بآلة للنطق. وإنما هو كاليد والرجل التي تستنطق يوم القيامة. وإذا كان مستنطقاً، كان الباري هو الذي أخبر عن حاله في المستقبل، وأنه يموت، ويوم يبعث يكون على حال السلامة، وما هو إلا كقول النبي نطقا من طريق الوحي: أنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر. هذا نطق عن الوحي، إذ لا اطلاع له بنفسه، ولا استدلال له على حاله يوم البعث. 369 - وسئل حنبلي عن قول بعض أصحاب الشافعي من المجتهدين ((إن مني الخصي نجس)) مع قولنا ((مني الفحل طاهر)) وما وجه ذلك. فقال الحنبلي: إن شيخنا أبا الفضل الهمذاني ذكر أنه يحتمل أن يكون يختلط مخرج البول والمني، فينجس بملاقاة مجرى البول. وأنا أقول إن المني إنما كان طاهرًا، لأنه صار إلى حالة يخلق منه الآدمي، وهو طاهر. وإذا كان في حق الخصي، لم ينطبخ كما يجب، فيكون مبتدأ، فهو كالمذي والدم الذي لم يستحل منيًا، والعلقة، على قول من يقول بنجاستها، قبل أن تستحيل مضغة. فإذا كان لنا مبادئ نجسة، فهذا لعدم الانطباخ

حادثة رجل اشترى جارية فوجد بعض أسنانها مقلوعا واشترى عبدا فوجده أقلف

أقرب إلى الدم وأبعد من المني. فكان إلى نجاسة الدم أميل منه إلى طهارة المني. ولهذا لا يخلق منه في الغالب ولدًا. 370 - حادثة رجل اشترى جارية فوجد بعض أسنانها مقلوعاً واشترى عبدًا فوجده أقلف فقال شافعي: ذلك عيب يوجب الرد. وأجاب حنبلي بأنهما إن كانا صغيرين، فلا يملك المشتري الفسخ. وعلل بأن الصغير|| جرت العادة بأنه يثغر ويعود سنه، وجرت العادة بأن يكون غير مجبوب. والغالب منه، في حق الأطفال، السلامة. فهو كما لو ابتاع عبدًا، فبان سارقًا، أو ممن يأبق أو يبول في الفراش. فإنه إذا كان صغيرًا، لم تك هذه عيوبًا يفسخ بها البيع، ويملك بها الرد، بخلاف ما لو كان كبيرًا. قالوا له: أكثر ما في الصغر أنه يعود. وهذا لا يمنع أن يكون عيبًا بعاجل الحال، كما لو اشتراه فوجد به جرحًا يندمل غالبًا، ويبرأ عن غير شين. وكذلك إذا اشتراه فوجد به حمى أو صداع، فإنه يملك الفسخ. وذلك اعتبارًا بحاله. لا بثاني حاله. قال الحنبلي: إنما الاعتبار بما ذكرت من الثاني دون الحال، وإلا فالبول في الفراش عيب في الحال في الجارية والغلام. والدليل عليه في

فصل [في فائدة الأمراض عند العقلاء]

حق البالغ، عندنا وعند الشافعي، وفي الجارية خاصة، عند أبي حنيفة، ثم كان لأجل الصغر، وأنه يرجى زواله في ثاني الحال بحكم العادة، ليس بعيب يرد به المبيع. وكذلك عدم النطق في حق الصغير جعل في حق الصغير، عند أبي حنيفة، مانعًا عن كمال القصاص وجري القصاص، ولا يكون عيبًا يوجب الرد في حق الطفل وإن منع كمال الدية في حقه. وكذلك إذا قلع سن صغير لم يثغر، فإنه يجب دية السن المقدرة، لأنه يعود في العادة نظرًا إلى ثاني الحال، وإن كان جناية، وتعييبًا في الحال، وتشنيعًا للخلقة، وتقبيحًا للفم والمبسم، ومشعثًا لآلة النطق، ومخلًا بصحة الكلام، لفساد حروف الصغير، وهي السين والصاد. 371 - فصل الأمراض مواسم العقلاء يستدركون بها ما فات من فوارطهم وزلاتهم، إن كانوا من أرباب الزلات، ويستزيدون من طاعاتهم إن لم يكونوا أرباب زلات، ويعتدونها، إن خلصوا منها بالمعافاة، حياة بعد الممات. فمن كانت أمراضه كذا، اغتنم في|| الصحة صحة، فقام من مرضه سليم النفس والدين. والكامد ينفق على الأدوية، ويعالج الحمية، ويوفي الطب الأجر، وليس عنده من علاج دينه خبر. فذاك ينصرع بالمرض انصراع السكران، ويفيق من مرضه إفاقة الإعداد لسكر ثانٍ.

فصل [في الحذر من معاشرة المتلون]

372 - فصل احذر ممن إذا غلبت عليه حال من الأحوال، استحال حتى لم يظهر فيه تقييد العقل عن الشطح، وإن غضب، تأسد، فلم يبق فيه ما يكفه عن الصول، وإن اعتراه النهم، خرج بصورة رخم ساقطًا على ما وجد من المطاعم، لا يلوي عن تناول المستقذرات في الطبع والمكروهات في الشرع، وإن عرض بها طالب الحق ومقتضي الشرع راغ روغان الثعلب، لا يمزج روغانه ثبات، ولا إصغاء إلى إذعان، ولا استجابة لهذا الشأن. فهذا لا يدخر عنده الإحسان، لأنه كالوعاء المخترق، ولا يرجى منه الخير. فاحذر معاشرة أمثاله، فإنها من أعظم الأخطار. ومجموع هذا في كلمة: لا تعاشر متلونًا. 373 - جرى في بعض مجالس المذاكرة أن قال قائل: الحمار حرام. فقال له حنبلي: ليس كل حمار، ولا عند كل مفتٍ. فحمار الوحش حمار، وليس بحرام. ومالك مفتٍ وإمام، ويفتي بإباحته على الإطلاق. قال قائل: فهل كل من يفتي بتحريم الحمار يفتي بتحريم البغل؟ قال الحنبلي: لا، بل لنا بغل مباح، على مذهبنا ومذهب الشافعي وأبي حنيفة، مع قولنا بأن الحمار الأهلي حرام. وذلك يتصور في بغل مخصوص، وهو فرس نزا على أتان وحشية فأولدها. فإنه يولدها بغلًا

[مسألة الدين هل يسقط الزكاة]

مركباً بين حيوانين مباحين، الفرس وحمار الوحش. 374 - قال حنفي في مسألة الدين يسقط الزكاة: إنا أجمعنا على أن عبد خدمته وثوب بذلته ودار سكناه، كل هذه، لما كانت معدة لحوائجه، || إذ كان المخلوق مناط الحاجات، كان المعد لحاجته، لما استوعبته حاجته، لم يجب فيه زكاة. وهذا الدين مشغل لذمته بحقين له في دنياه وآخرته. فكان ما في يده من المال مستوعباً في هذه الحاجة، فلا وجه لإيجاب الزكاة فيه. 375 - وجرى فيها أيضًا أن قال الحنفي: هذا يأخذ الزكاة بحكم الحاجة. فكيف يؤخذ منه الزكاة بحكم الغناء؟ قال الشافعي: ليس يمتنع أن يكون غنيًا بما في يده، بحكم أنه مال زكائي حال عليه الحول. ويأخذها بحكم أنه يبرئ ذمته، وهو إلى إبراءٍ محتاج. وهذا، كما قال أبو حنيفة، يأخذ العشر ويخرج العشر ولو من عشر بسرات. فيخرج العشر بحكم ما له من القليل الذي لا يوجب له الغناء، ويخرج عشره بحكم أنه ملك مالًا له عشر. وكذلك ابن السبيل يأخذ العشر وريع العشر، ويخرج من ماله في بلده ذلك من سائر أمواله. قال الحنفي: فالمعنى الذي حققت به حاجته إلى إبراء ذمته من عزمه

فصل [في بواعث التعجب ومدلولها]

ودينه هو الذي جعل ماله وغناءه كلا مال ولا غناء. من حيث إن إبراء ذمته حاجة ماسة، أمس وأوحى وأسرع من حاجته إلى استخدام عبيده في مستقبل الحال. وقولك إنه غني بماله لا يمكن أن يعود فيجعله غنيًا بما حاجته مستوعبة أو ماسة إليه. وهل يجوز أن يقال إنه غني بعبيده وخدمه ومراكبه ودوره، بحيث يجب فيها زكاة مع وجود حاجته إليها وإعداده لها لخواص أغراضه؟ وأما العشر فليس بزكاة، عند أبي حنيفة. ومن كان عنده، وهو أحمد، فإنه لا يوجب فيه مع الدين، في إحدى روايتيه. وابن السبيل فقير يدًا، غني مالًا. وهو أن جسده في بلد الغربة وماله في بلده. فيأخذ ما يتبلغ به لفقر يده، ويخرج عن المال. وههنا المال والبدن مجتمعان، وهو على ماله يعول في قضاء دينه وإبراء ذمته، فيجده. ولو عول على ماله في بلد الغربة، لما وجده مرفقًا ولا معينًا. فأين هذا من ذاك؟ 376 - فصل || إذا عجب من أمر أخبر به عن الله تعجب استبعاد، كان ذلك قادحًا في المعرفة. فإن كان التعجب في حق نفسه بأن يكون الخبر بإكرام، وهو يرى نفسه دون ذاك، فليس بنقص قادح. مثال الأول: {أنى يكون لي

جرت مسألة تولي ابن العم طرفي العقد: تزويجها لنفسه

غلامٌ وقد بلغني الكبر}، {أنى يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشرٌ}، {ءألد وأنا عجوزٌ وهذا بعلي شيخًا}، {أنى يحيي هذه الله بعد موتها}. هذا كله قادح. وقد بان من جوابه حيث قبل العجبين من أمر الله. وقال الآخر: {هو على هينٌ وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئًا}. وقال الثاني: أو قد ذكرت هناك. 377 - جرت مسألة تولي ابن العم طرفي العقد تزويجها لنفسه فقال مالكي: فيه السببان: القرابة الصالحة لتزويجها، وكونه أهلًا لنكاحها. فوجب أن يصح. اعترض عليه حنبلي، فقال: غاية ما تدعي من القرابة أنها سبب لتزويج بنت عمه من الأجنبي. وكونه سببًا هناك لا يعطي كونه سببًا لتزويجها من نفسه. لأنه لا يكمل النظر لها مع كونه مزوجًا لها من نفسه. لأن طلبه للحظ لنفسه لمحبته لها يوفي على النظر لغيره، بل يعمي عن عيوب نفسه، فلا يزال يستر عيوب نفسه ويتغاضى عنها لتحصيل الغرض لها. فكمال القرابة لا يغني مع وجود سبب التهمة. ألا ترى أن الأب العدل تكامل فيه سبب الشهادة في حق غيره، ولا تقبل شهادته لولده لكونه متهمًا بإشفاق الأبوة للبنوة؟

وجرت مسألة شهود القتل إذا رجعوا

378 - وجرت مسألة شهود القتل إذا رجعوا قال حنبلي: لا يخول أن يكونوا مسببين والولي المباشر، فكان يجب أن لا يضمنوا. لأن أصحاب السبب لا ضمان عليهم مع أرباب المباشرة، كما لا قصاص عليهم مع وجود المباشرين. وإن كانوا في حكم المباشرين، فلم لا يقتلون؟ ومعلوم أن عند أبي حنيفة أن الولي لو قال ((عمدت||إلى الكذب في الدعوى))، وقال الشاهدان ((عمدنا الكذب في الشهادة))، وقال الحاكم ((علمت ذلك وحكمت)) فلا يقتل واحد من الجميع. ولو أن الولي أقام على الدعوى ورجع الشهود غرم الشهود الدية، ولم يغرم الولي شيئًا. 379 - وجرت في مسألة جنين الأمة قال حنفي: يعتبر بنفسه. فإن كان ذكرًا، وجب عليه نصف عشر قيمته، لو كان حيًا، وإن كان أنثى، وجب عليه عشر قيمتها في نفسها. وذهب أحمد رضه والشافعي- رحمة الله عليه- إلى ضمانه بعشر قيمة الأم. ولا يعتبر بأمه، لأنه مجني عليه. فكان الاعتبار في الجناية بمحل الجناية، كسائر محال الجنايات. قال حنبلي معترضًا عليه: أنا أقول إن الجناية أول ما صادفت الأم،

فأثر فيها قبل تأثيرها في الجنين ما حصل من الآلام التي أثرت في أعضائها الشريفة. وهو، في كونه لطيفًا باطنًا، يروي بريها ويعطش بعطشها ويتدنق بتدنقها. ويؤثر ذلك أثرًا ظاهرًا. حتى إنه يسقط غير كامل، قبل أوان خرجوه. وما ذاك إلا لشدة تعدي التدنق والتشوق إلى الرائحة، مثل رائحة البطيخ والسكباج والشواء الحار. وإذا حميت الأم، حمي الجنين. وإذا كان جاريًا من هذا الوجه مجرى الأعضاء الباطنة فيها، ونحن في جناية، أول ما تقع المباشرة بالأم فيها. فكيف يتحقق كون الجنين محلًا للجناية وغاية ما ينتهي إليها إنما هو كالسراية؟ فلا تتحقق العبرة بالجناية على الجنين وأول ما أصابت وباشرت الأم. وهذا فصل حسن يجبر خاطر الحنبلي. وهو من أفقه الفقه. وإذا جرى مجرى الأعضاء كانت العبرة بأصله. فهذا من جهة الحقيقة. ومن حيث الأحكام، سراية العتق منها إليه ومنه إليها في باب الاستيلاد أعتقها ولدها. وإذا ضربها ضارب فماتت، وسقط الجنين ميتًا، فعمهما الموت، يقطع بأن الجناية قد عمت. ومع ذلك لا يختص الجنين عندهم||بضمان. وخالفونا في ذلك. ولا يعتبر بقيمته بالغة ما بلغت، بل ينقص من قيمته عندهم. ولنا ما يعتبر بنفسه في باب تقويمه عند إتلافه ينقص ويحط من قيمته إلى بعضها. ولنا ما يعتبر بغيره فيحط من قيمة ذلك الغير، وهي الأعضاء. قال الحنفي: هو نفس قائم بذاته. بدليل ضمانه بالكفارة، وكونه

يورث عنه، وأن ضمانه يكون لورثته لا لأمه خاصة. ولو كان كالأعضاء، لكان ضمان جنين الحرة لها، كما أن الأمة لسيدها، ولكان يدخل في ضمان غيره، كالأعضاء. فلما لم يدخل بدله في بدل غيره، بخلاف الأعضاء، فإنه لا يجب لها كفارة ولا تملك. والجنين حكم تملكه لبدله، حيث كان موروثًا عنه. ثم إن بدله لا يدخل في بدل غيره. وهذه أحكام كلها تشهد بأن له حكم النفس والذات المنفردة، لا حكم الأعضاء التابعة. ولست أقول في جنين الحرة أنه يجب فيه عشر دية أمه، ولا نصف عشر دية أبيه، لكن أوجب فيه نصف عشر دية نفسه. قال الحنبلي: لو اعتبر بنفسه، لاعتبر بقيمته بالغًا ما بلغ. فلما لم يعتبر بقيمته، دل على أنه لا عبرة به، ولا تحقق حكم المحلية فيه، ولوجب أن تكون الأنثى على النصف من الذكر، كالحرين، أو يكون ضمانها سواء بالغًا ما بلغ، كالعبد والأمة. فلا بحكم النفوس الحرة ألحقته، ولا بحكم العبيد والإماء جعلته. فأين العبرة به، وبكونه محلًا متلفًا، وأنت تضمنه ببعض قيمته؟ وأما إيجاب الكفارة والإرث عنه ضمان نفسه، فلا عبرة به في باب الضمان. ألا ترى أنه تجب الكفارة بإلقائه ميتًا إذا ماتت الأم، ولا ضمان فيه عندك؟ وهب أنه كان له حكم النفس المستقلة، من حيث ذكرت أنت، وكان له حكم الأبعاض والأجزاء، من حيث ذكرت أنا، فقد أعطيته أنا حكم الأمرين، حيث قلت بالتردد، لأنني

فصل جرى أيما آكد التعصيب أو الفرض

ضمنته في الجملة كما يضمن||الأحياء وبمقدر. ثم أعطيته حكم الأعضاء حيث اعتبرته بغيره. 380 - فصل جرى أيما آكد التعصيب أو الفرض فقال فقيه: التعصيب آكد. لأنه يستوعب التركة كلها تارة. وليس الذي فرض استيعاب التركة والعصبة يعصب غيره، فيتعدى تعصيبه إلى غيره. فيعصب الإخوة والبنين وبني الابن، والبنات يعصبن الأخوات ويتعصبن. وليس يتعدى فرض ذي فرض إلى غيره، ولا يجعل ذو فرض عن ذي فرض ذا فرض. قال فقيه آخر: الفروض آكد. ولذلك إذا استوعبت كانت الفضلة للعصبة. فهم بمثابة الغلمان، لهم فضلات الموائد. بهذا نطق الشرع. فقال صلعم: ما أثبت الفرائض، فلا ولي عصبة ذكر. ولذلك تسقط أقوى عصبة، وهي البنوة، عند استيعاب ذوي الفروض. فإذا اتفق زوج وابنتان، وأبوان وابن ابن، لم يرث ابن الابن شيئًا، إذا لم يبق له شيء.

جرى بباب المراتب المحروس زاده الله شرفا وعزا في مسألة الحد في القذف هل هو حق لآدمي

381 - جرى بباب المراتب المحروس زاده الله شرفاً وعزًا في مسألة الحد في القذف هل هو حق لآدمي قال شافعي: عقوبة تقف على مطالبة آدمي بها، فكانت حقًا لآدمي، كالقصاص. اعترض حنبلي ذنب على حنفي فقال: إيقافه على مطالبة آدمي به، ما الذي يمنع من كونه حقًا لله سح وجعل إلى بعض عبيده المطالبة به، كما أن حد السرقة حق لله وجعل مطالبة الآدمي بالمال شرطًا؟ على أنني أقابل هذا الذي ذكرته من الخصيصة بخصائص حقوق الله فيه، وهو كونه حدًا ومنع الآدمي من استيفائه بنفسه، وكونه لا يسقط حده إذا أذن الآدمي في سبه بأن يقول له ((اقذفني))، بخلال القصاص الذي يسقط بقوله ((اجرحني)) و ((اقطع طرفي)) و ((اقتلني)). وإنه يختلف بالرق والحرية||كما تختلف الحدود والديون. والقصاص لا يختلف باختلاف المستوفى منه. قال الشافعي المستدل: إن الحقوق قد انقسمت. فعلامة ما كان منها لله كون المتولي له والمطالب به هو الإمام نائبه في سياسات الشرع، وعلامة حقوق الآدمي كون الآدمي هو المطلب بها المستوفي لها المبرئ منها، وإن تعاوض عنها صلحًا بالمال، كما قلنا جميعًا في القصاص، وكما قال مالك حيث جعله حقًا للآدمي تعاوض عنه بالمال. وأما إنه [للآدمي]، لو كان حقًا لله تع، لما كان لوقوفه على مطالبة الآدمي به وجه.

جرت مسألة الطول

قال الحنبلي: قد أنكرت هذا منك، وإنما وقف على مطالبة الآدمي به، لأن هذا الحد مما يسقط بالشبهة. وعساه إذا سكت، يعلم من نفسه أنه في الباطن على ما قاله القاذف. فإن الزنا أمر يستسر به، ولا يعلمه إلا الله سح. وإذا سكت، لم يعلم أن الحد واجب لجواز أن يكون القاذف غير كاذب. اعترض معترض على هذا، فقال: فهذا ليس بصحيح. لأن سكوته يجوز أن يكون لأن المطالبة تحوج الإمام إلى إقامة الحد. وإقامة الحد يشيع به القذف. ولعل أكثر أهل [الزنا] يؤثرون العفو والصفح، حتى لا يشيع ويذيع الطاعن في عرضهم والقذف لهم بالقبيح والفاحش. قال الحنبلي المعترض: فالإشكال حاصل في الشبهة متمكنةً بكونه يجوز أن يكون سكوته لهذا أو لغيره. 382 - جرت مسألة الطول فقال مالكي: هذا قادر على صيانة جزئه وبعضه عن الاسترقاق، فأشبه من تحته حرة. اعترض عليه حنبلي تذنيبًا على حنفي، فقال: إن قدرته على صيانة ما به من الاسترقاق لا تحرم عليه نكاح الأمة التي عساه ينعقد ولده منها

رقيقًا. كما أن قدرته على إزالة وصمة الرق عن نفسه وأبيه وابنه، مع تحقق وصمة الرق فيهم وفيه، ||لا يجب بها صرف المال في ابتياع نفسه من سيده، لا بكسبه ببذل الكتابة وابتغائها، ولا بفعل شرطٍ جعل السيد عتقه موقوفًا عليه. فلو قال له سيده، ((إن دخلت الدار فأنت حر))، وقال سيد أبيه له، وهو حر غني، ((إن دفعت إلي دينارً فأبوك حر))، لم يلزمه ذلك. فإذا كانت هذه الوصمة وهذه الرذيلة، إذا تمكنت في ذاته أو في أبيه وابنه، لم يلزمه التوصل إلى إزالتها، فأحرى أن لا يلزمه تجنب ما يفضي إلى حصولها في بعضه. أولا ترى أن الشرع حكم بإزالة الرق عن أبيه وذي رحمه أجمع عند قوم إذا ملكهم، وأوجب عليه الإنفاق إذا كانوا محاويج، ولم يجب التسبب إلى إزالة وصمة الرق عن نفسه وولده، فكذلك لم يحرم عليه عقد يفضي إلى استرقاق ولده. ولأن هذا أمر يشترك به المعسر والموسر والعبد، ثم المعسر لا يحرم عليه نكاح الأمة مع كون ذلك مفضيًا إلى استرقاق ولده، فإن عللت واعتذرت بحاجته، فكان يجب أن لا تبيحه إلا من يستمع بها فيقضي وطره منها دون أن تكون محلًا للعلوق. وذلك دأب الضرورات، كالضرورة إلى الأكل والشرب لا تبيح إلا قدر ما يقوت دون الشهوات. فلو أكل الميتة للضرورة، وأراد أن يتحلى مع أكل الميتة بفالوذج عقد بشحم الميتة، أو بعسل نجس، لم يبح ذلك. وهنا

يباح له التزويج بالأمة الشابة مع إمكانه أن يعف نفسه بمن جازت سن الحمل، وبمن لم تبلغ أوان الحمل، ويأتي في الموضع المكروه، على رواية عن مالك. إذ ليس ذلك محلًا للحراثة، وهو محل للمتعة. فهلا أوجبت عليه تجنب محل الحراثة، وقنعت في حقه بمجرد ما يعفه؟ قال: العجوز تهيج الشهوة ولا تعف. قال الحنبلي: لو كان كذلك لما وجب الحد بوطء العجز، كما لم يجب بشرب البول والماء والنجس. فلما وجب بالزنا بالعجائز من الحدود ما يجب بالزنا بالشواب، بطل ما ذكرتم. قال الحنبلي: ||وكان يجب، إذا كان تحته أمه كان تزوجها لعدم طول الحرة، ثم إنه وجد الطول، أن يبطل نكاح الأمة أو يجب طلاقها أو اعتزالها، حيث كان غنيًا بما تجدد من الطول عن إرقاق ولده. وهذا مما لا محيص عنه ولا عذر. ألا ترى أن من عدم الحلال من الطعام، ثم وجد الميتة، فإنه يأكلها، فلو وجد بعد أكلها والشروع في تناول قدرة على الطعام الحلال، وجب رفض الميتة؟ وكذلك جميع الأبدال التي تباح لأجل الضرورة. أخذ المستدل يغير العبارة على المعترض ويقول: إن الحرية فضل، والفضائل لا يجب تحصيلها. فكذلك لم يجب أن يتسبب لتحصيل الحرية لنفسه ولأبيه وابنه. فقال المعترض: إذا كان الفضل لا يحصل إلا بإزالة وصمة ورذيلة،

وجب باندراجه في طي إيجاب إزالة الرذيلة. ألا ترى أنه لما وجب إزالة الفسق، وجب وإن كان لا ينفصل عن تحصيل فضل هو العدالة؟ وهذا الرق رذيلة لا يزول إلا ويحصل فضل الحرية. وأكثر ما في الفرق بين تجنب نكاح الإماء لتوقي رذيلة الرق في ولده وجزئه، وبين إزالة الرذيلة عنه وعن ولده، أن الإزالة رفع للرذيلة بعد حصولها. ومنع نكاح للأمة توقي من رذيلة تحلق ببعضه. والشريعة سوت بين الأمرين، بدليل أنها أوجبت التترس من السهام قبل وقوعها، وأوجبت إزالتها عن الأبدان بعد وقوعها، إذا قيدت وعطلت. فلو وجب توقي الرق في البعض، لأوجبت الشريعة إزالته عن الكل والبعض والنفس ومن يجري مجرى النفس. 383 - استدل حنفي بجامع القصر في مسألة إضافة الطلاق إلى اليد قال: أضاف الطلاق إلى غير محله، فلم يقع، كما لو أضافه إلى الشعر. اعترض عليه حنبلي، فقال: إن أردت به أن اليد غير محل بنفسه، فلم لا تقول بوقوعه من طريق التقدير||لإيقاعه على الجملة الفائض على الأطراف منها؟ فيكون التقدير في اللفظ ((يدك طالق لطلاق أوقعته على جملتك)). وذلك التقدير في الطلاق غير ممتنع، كما إذا قال ((اعتدي))، وكان تقديره ((اعتدي لطلاق أوقعته عليك))، وقوله ((استتري))، ويكون تقديره ((لطلاق أوقعته عليك)). ولأن أكثر ما في قولك أنه إضافة إلى

غير محله المعتاد، وليس يقف وقوع الطلاق على المحل المعتاد، كما لا يقف وقوعه على الزمان المعتبر شرعًا، وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه، بل وقع في حال الحيض والطهر المجامع فيه، ووقع مع جميعه، مع كون هذه الأحوال أحوال بدعة لا أحوال سنة. قال الحنفي: أنا اعتبرت محلًا يصلح لإيقاع الطلاق أصلًا. والجزء المعين لا يصلح للعقد ولا للطلاق. وإنما أوقع الطلاق بإضافته إلى ما يجري مجرى الجملة، كالجزء السابع، أو يعبر به عن الجملة. وأنا لما جعلت تقدير الطلاق في قوله ((اعتدي))، اعتبرت النية، وأنت لا تعتبر النية. فبطل اعتبار التقدير عندك في هذه الصورة، بخلاف ما ألزمتني من قوله ((اعتدي)). وأما قولك إن الطلاق لا يعتبر له حال، فكذلك لا يعتبر له محل مخصوص من الزوجة، فغير صحيح. لأن ذاك يختص الطلاق، لأن بيع الأمة في حال الاستبراء والبيع المحرم أو المكروه في وقت النداء يصح وينفذ. قال الحنبلي: أما قولك في مذهبي لا أحتاج إلى النية، وتحتاج أنت في قوله ((اعتدي)) إلى النية، فماذا علتك من مذهبي؟ إنما أنا ألزمتك حيث نفيت وقوع الطلاق أن يوقعه الوجه الذي ذكرته. وهو لازم لك وإن لم أقل أنا بذلك على الوجه الذي تقوله أنت في ((اعتدي)). وكون الطلاق لا يختص بذلك، بل البيع مثله، لا يمنع إلزامي لك ذلك في الطلاق. ||فالجوابان جميعًا لا يفصل بينهما على قانون الجدل.

واستدل حنفي في وجود بعض ماء الطهارة هل يلزم استعماله مع التيمم

384 - واستدل حنفي في وجود بعض ماء الطهور هل يلزم استعماله مع التيمم فقال: عدم الماء الذي يحصل به المقصود باستعماله، فلم يجب استعماله؛ كما لو كان محتاجًا إلى شربه لعطشه. اعترض عليه حنبلي، فقال: ينتقض بالماء المشكوك في طهارته، وهو سؤر الحمار. فإنه لا يتحصل به الغرض، وهو يقين رفع الحدث لاستباحة الصلاة. ويلزم استعماله مع التيمم. وهل يفرق الحال بين قصور الماء عن رفع الحدث لعدم يقين طهارته، أو لقلته وقصور مقداره؟ ولأن رفع الحدث يجب بحسب القدرة، بدليل أنه إذا كان بعض أعضائه مجبورًا، أو بعضها بالخف مستورًا، أو بعضها مكشوفًا، وجب الغسل في المكشوف ومسح المستور؛ كذلك ههنا يجب غسل ما وجد له الماء، والمسح بالتراب عما لم يمسه الماء. وكذلك لو عدم بعض الأعضاء، فإنه لا يسقط غسل ما بقى منها، وإن كان الحدث لا يتبعض. لكن لما تبعض محل الحدث غسل ما وجد، كذلك إذا كان الماء يتبعض يجب أن يستعمل منه ما وجد. وهذا صحيح. لأن الحدث، وإن كان لا يتبعض، إلا أنا جعلنا ما يتبعض من محله موجبًا غسل ما بقي منه، كذلك الماء الطهور المستعمل فيه، إذا كان متبعضًا ووجد بعضه، وجب استعماله وإن كان الحدث في نفسه لا يتبعض. على أن الحدث بنفسه قد يتبعض

بتبعض محله. وهو إذا مسح على الخفين، ثم نزعهما، حصل الخلع لحدث يختص الرجلين. وكان الحنبلي ألزم الحنفي إذا أهريق الماء في أثناء الطهارة فإنه يتيمم بناء على ما يحصل من رفع الحدث عن بعض أعضائه. فقال الحنفي: لا أسلم. بل لا يكون التيمم عما بقي، بل عن جميع الأعضاء. لأنه لما أهريق تبينا أنه لم يرتفع حدث ما غسل من أعضائه. كما تبين في كل جملة لا يتم ((إلا بكمالها، ولا يسقط عن المكلف إلا بانقضائها. مثل الصلاة إذا أتى ببعض ركعاتها، والزكاة إذا وجد بعض أجزاء نصابها، والحد إذا وجد بعض شروط أداته الزاد دون الراحلة أو الراحلة دون الزاد. والبينة إذا وجد بعض شهودها، وكل علة ذات أوصاف، وكل جملة ذات أجزاء وأبعاض، لا يكون بعضها في الغرض عاملًا كل الغرض ولا بعضه، كذلك ههنا. والجامع بينها وبين هذه الأصول التي ذكرتها أنه لو غسل جميع أعضاء حدثه إلا لمعة، كان جميع الموانع باقية ببقاء تلك اللمعة. فلا صلاة، لا مس مصحف، ولا قراءة، إذا كان جنبًا. وحكم الحدث باقٍ فيما غسل لأجل اللمعة التي لم يغسلها؛ كما أن إيجاب الزكاة غير حاصل بوجود أربعين من الغنم سوى جزء في شاة منها لا يملكه، لم يتحصل له ملكه؛ وشاهد وامرأة بالحق لا يفوته إلا شهادة امرأة أخرى لا يثبت به شيء من الحق. وعلى هذا. وإذا كان حكم الطهارة كذا،

جرى بمجلسنا بالظفرية مسألة مفردة وهي من وجد مضطرا إلى الطعام، فطلب منه الطعام الفاضل، أو الماء الفاضل فمنعه فمات، هل يجب عليه الضمان

صار تكليفنا له استعمال الماء في بعض الأعضاء، مع عدم حصول الغرض أو بعضه، عبثًا؛ فلا وجه لتكليفه. بخلاف إزالة بعض النجاسة عن المحل بما يجده من بعض الماء الذي يخص ذلك المحل. وكذلك بعض الستارة؛ لأن ذلك مما يتبعض. ولهذا يرتفع المانع عن المحل الذي ستره بعض السترة ويثبت حكمه. قال الحنبلي: قولكم ((إنني لا أسلم رفع الحدث عما غسله من الأعضاء)) باطل بما لو وجد الماء فإنه ينبني على ما غسل؛ ولو لم يكن قد ارتفع الحدث عنها، لما صح البناء عليها بغسل ما وجد. 385 - جرى بمجلسنا بالظفرية مسألة مفردة وهي من وجد مضطرً إلى طعامه، فطلب منه الطعام الفاضل، أو الماء الفاضل، فمنعه فمات، هل يجب عليه ضمان قال شافعي: حفظ ماله؛ فلا يضمن ((تلف المضطر إلى ماله. كما لو احتاج إلى مائه لإطفاء حريق وقع في داره. وهذا لمعنى؛ وهو أنه أكثر ما فيه أنه منع تخليصه من الضرر الذي هو فيه. فأشبه إذا كاد يغرق فلم يخلصه مع قدرته على تخليصه، أو رأى أعمى يتردى في بئر، وهو قادر على توقيته منها، فلم يوقه حتى تردى وغرق في البئر. اعترض عليه حنبلي ينفرد بهذه المسألة، فقال: إنه إن حفظ هذا المالك ماله، فقد منع هذا المضطر إلى الطعام والشارب حقه وواجبه؛ ولذلك

يأثم. ولذلك جاز للمضطر مغالبته على فاضل طعامه ومائه ويأخذه. وإن دافعه عنه، فآل الدفاع إلى نفسه، لم يضمن لمضطر نفس رب الماء والطعام. وإن تعلقت لإسقاط الضمان بحفظ المالك لماله، تعلقت في إيجاب الضمان في منع المضطر من حقه الذي أحاله لله به عليه. ومثل هذا المنع سبب إتلاف النفس. وليس هو بأقل من نفث في عقد وعقد وتر وتسليك إبر، وهو السحر الذي يموت عقيبه؛ ولا بأقل من حفر بئر في طريق هو شرط في هوي الواقع فيها، وثقله علة هبوطه، وخلاء أعماق البئر شرط لذلك، وكان سببًا للضمان. ومن علق الضمان على الأسباب، ولم يجعل منع الماء من الظمآن سببًا صالحًا لإيجاب الضمان، فقد أبعد النجعة وأسقط القياس. ولأن الشافعي قد قال لو حبس إنسانًا في بيت فلم يمكنه من طعام ولا شراب حتى مات أقيد به. فأي فرق بين حبسه عن القوام وبين حبس القوام عنه؟ وأما ما ورددت إليه من المسائل والأصول فلا أسلمه. فإن من كان معه قوى فاضلة يمكنه التخليص بها من الغرق والوقوع، كمن معه أموال فاضلة يستنقذ من العطش وفرط الجوع. فلابد من بذلها للمضطر إليها؛ فإن منعها ضمن. وأما إطفاء الحريق، واستسقاء البساتين، فتلك أموال لا يجب بذل الماء والرفق والسماد لها. والحيوان يجب له البذل؛ ومتى لم يبذل أثم. -والله أعلم.

386 - ((وجرت مسألة المخالع إذا شرط على الزوجة الرجعة قال مالكي: إن الزوجة إنما تبذل العوض لانخلاع عاجل، وهو المطلق، ولانخلاع يتقرب إليه ونية في الآجل بانهدام ملك الزوج بالطلاق. فإذا شرطت لها الرجعة علمنا أنها قصدت هذا النوع من الانخلاع؛ وهو قربها من الخروج عن ملكه؛ إذ الراجعة لا تمنع هذا المقصود. ألا ترى أن العبد يبذل العوض عن زوال رق السيد ناجزًا وآجلًا بالكتابة. فالناجز شرى نفسه من سيده، والآجل إيقاف عتقه على تخوم مخصوصة. اعترض عليه حنفي فقال: إن استخلاص نفسها منه بلفظ الانخلاع يقتضي الناجز لا الأجل. وما الانخلاع في اللغة إلا الانفصال، كخلع اللباس والخف. والاستثناء بالرجعة تخرجه عن الانخلاع، لأنها تكون زوجه. فهو بمثابة ذكر البينونة مع استثناء الرجعة. فإن البينونة كما تحصل ناجزة بإيقاع العدد في الحال تقع آجلة؛ فهدم العدد المقرب إليها في المال. ثم إن الاستثناء لا يعمل في البينونة، هذا بحيث تقع وتثبت الرجعة بالاستثناء. وهو أن يقول ((أنت بائن، ولي الرجعة.)) كذلك قوله ((خالعتك، ولي الرجعة.))

وجرت مسألة المخالع إذا شرط على الزوجة الرجعة

387 - وجرت مسألة من قال ((واحدة من نسائي طالق)) التي [اختلفت] فيها المذاهب فمذهبنا أنه يقع الطلاق على واحدة لا يعينها، وتخرجها القرعة. ومذهب مالك: يعق على الكل. كما نقول نحن فيمن قال ((امرأتي طالق)) يقع على الكل. ومذهب الشافعي: يقع على واحدة، ويعين من شاء منهن. ومذهب أبي حنيفة: يكون طلاقًا معلقًا، فيصح طلاقًا غير نافذ في محل. كأنه قال ((طلاقي واقع على من أعينه من زوجاتي.)) فإذا عين، نفذ في ((المحل بعد أن كان معلقًا؛ كقوله ((إن دخلت واحدة من زوجاتي الدار فهي طالق.)) قال فيها حنفي: إن الطلاق المضاف إلى محل منكر لا يجوز أن يكون واقعًا. لأن وقوعه ونفوذه لا يكون إلا معرفًا للمحل الذي نفذ فيها ووقع عليه. إذا لا يكون التنكير في محل مخصوص إلا إذا كان غير قائل للتعليق؛ كقوله ((بعتك قفيزًا من هذه الصبرة.)) فإنه لما لم يكن وقوع البيع معلقًا على محل يقع فيه في الثاني، تعجل نفوذه في قفيز منها. وههنا يصح إيقاع الطلاق معلقًا على دخول الدار وقدوم زيد؛ كذلك يقف معلقًا ويصح موقوفًا على نفوذ في محل بالتغيير لذلك المحل، على التقدير الذي بينا. قال الحنبلي: لفظ الإيقاع موجود من أهله في محل يحتمل النفوذ

حادثة [في الطلاق]

ويقبله. وليس في اللفظ أكثر من تنكير المحل. وذلك لا يقتضي إلا بيان المحل الذي وقع فيه. فأما أن يقتضي وقوف النفوذ عليه، فلا. بدليل أنه لو كان له زوجتان، فماتت إحداهما، تعين الطلاق في الأخرى عند أبي حنيفة. ومعلوم أنه لو كان النفوذ موقوفًا على تعيين الزوج، لتعذر الوقوع والنفوذ بتعذر تعيينه. فلما تعين النفوذ في الباقية، ولا تعيين وجد من جهة الزوج، بطل دعواك. ولا يجوز أن يكون التنكير لمحل الوقوع كالتعليق الذي ذكرت على الشروط. بدليل أن ذاك لا يمنع الوطء، وهذا يمنع وطء واحدة منهن. فإن وطئ، تعين النفوذ في الأخرى، إن كانتا اثنتين؛ وإن وطئ الثلاث، تعين في الرابعة. ولأن التعيين إنما هو كالميزة والقسمة والإقرار؛ فإذا عين، كان التعيين لبيان النافذ فيها طلاقه. والذي يوضح أن هذا اللفظ كقوله ((بعتك قفيزًا من هذه الصبرة، )) أنهما استويا في تخصص البيع بما يبقى من الفقزان بعد تلف جميع قفزان الصبرة ويبقى قفيز واحد؛ كما يتخصص بالزوجة الباقية إذا تلف جميع من عداها. 388 - حادثة ((رجل قال لزوجته: ((قد حلفت أن لا أدخل المحلة الفلانية.)) فقالت له: ((كيف قلت؟ )) فقال: ((قلت زوجتي طالق ثلاثًا إذا دخلتها.)) وكان

[حديث وتفسيره]

كاذبًا. فاستفتي في ذلك. فقال فقيه شافعي: يقع. وقال الجماعة: لا يقع؛ إنما هو حاكٍ؛ فهو كما لو حكاه عن غيره. 389 - وسأل سائل عما روي في الحديث وأن عمر رضه خرج وقد جمعهم على قارئ واحد بعد أن كانوا [ ... ]. فقال: نعم البدعة؛ والتي تنامون عنها خير من التي تقومون. فما مراده بذلك وصلاة الجماعة خير من صلاة الفرادى؟ قال حنبلي: إنما أراد بذلك أن صلاة آخر الليل أفضل؛ وهي الناشئة بعد الهجعة، ويحصل فيها تاليًا، والتالي بنفسه أفضل من السامع لتلاوة غيره. 390 - استدل شافعي لإباحة الجلالة، فقال: الأصل جواز أكل الأنعام. فمن ادعى تحريمها بعد الحل، فعليه الدليل. فاعترض من نصر مذهب أحمد لتحريمها، فقال: الأصل أن لا إباحة لأكل الحيوان. فمن ادعى إباحة هذه، فعليه الدليل. قال الشافعي: بعد ورود قوله {وأحلت لكم الأنعام} لم يبق منه ولا حظر ولا توقف. فمن ادعى تحريمه بعد ورود هذه الإباحة، فعليه الدليل. قالوا له: الإباحة التي وردت مجمع على تقييدها بشروط وأسباب تنضم إلى ذبحها. فمن ادعى الإطلاق بعد التقييد، فعليه الدليل.

جرى بمجلس الشيخ الإمام إبراهيم الدهستاني مسألة الحلي

391 - مما ورد في استصحاب الحال هل هو الدليل أو مجرد يجحف وبقاء على حال نفي أو إثبات وأنه مخبر عن نفسه بأنه على تلك الحال لما أوجبه المقام عليها من دليل أو عدم دليل. فالنفي يكفي فيه البقاء على حكم الأصل. والأصل النفي. والإثبات إذا ثبت بدليل، حصل التمسك به؛ فلا يجوز تركه إلا بصارف يصرف عنه من نسخ. وما هو إلا بمثابة ((قول المتصرف في الأملاك: ((هذا الملك تصرفي وتصرف آبائي؛ فمن ادعى استحقاقه، فعليه الدليل.)) 392 - جرى بمجلس الشيخ الإمام إبراهيم الدهستاني مسألة الحلى فقال مالكي: لا تجب فيه الزكاة. لأنه أعد للاستعمال والتجمل. فلو وجبت الزكاة فيه، لاقنه؛ إذ لا فائدة ولا نماء فيه. واعترض حنفي، فقال: هذا لا يصح على مذهب مالك. لأن عنده أن الإعداد لا يمنع وجوب الزكاة، بدليل أن العوامل لا تجب في الزكاة السوم، ولا يمنع إعدادها للاستعمال من وجوب الزكاة في العين. والذهب والفضة تنميان بهما أحق بإيجاب الزكاة لأجل العين، ولا يمنع من إيجابها الإعداد.

وجرت مسألة القرض هل يتأجل والحال من الديون بتأجيل المتداينين والمتقارضين

أجاب المالكي بأن قال: إن الأنعام تنمي بنفسها، فلا يمنع العمل نماءها. والذهب والفضة لا تنمي بذاتها، بل بتقليبها، والإعداد للبس والزينة يمنع التقليب. قالوا له: هذا كلام من لا يعرف العوامل. فإن العوامل يشغلها العمل عن النزو. ولهذا ترى ألف فدان في قرية لا تنمي عجلًا واحدًا. والجمالون يكون مع الأغنياء منهم ألف جمل وألف ناقة لا يتبعها فصيل واحد. كل ذلك لكون العمل مشغلًا ومعجفًا. وكذلك جمال البزازين نوق وجمال، ولا ترى فيها ما يولد؛ وإن ولدت، فالعمل [لا] يورثها من نقصان ذواتها مالًا تفي به ما نمت من نتاجها وأولادها. والبهائم بخلاف الآدميين. فإن العوام وأهل المهن والصنائع يولدون ويكثر أولادهم؛ والمترفون وأرباب الرفاهية يتحسرون على الأولاد فلا يرزقون. 393 - هل يتأجل والحال من الديون بتأجيل المتداينين والمتقارضين قال شافعي: لا يتأجل. لأنه تبرع مطلق، فلا يمنع من الرجوع فيه قبضه والتصرف فيه؛ كإباحة الطعام وعارية الأعيان. يوضح هذا أن القرض في الحقيقة ((ليس بتمليك عندنا. ولهذا يسترجعه؛ ولهذا لا يملك به

وجرت مسألة نقصان النصاب في وسط الحول

الإماء لئلا يطأ بإعطاء ليس فيه حقيقة التمليك. والعارية كذلك. وإن قدرها بمدة رجع قبل انقضاء المدة. 394 - وجرت مسألة نقصان النصاب في وسط الحول قال حنبلي: اختل السبب الموجب للزكاة، وهو الغناء. ومعلوم أن نقصان الحول الذي هو أجل ورفق، وليس بسبب، يمنع إيجاب الزكاة. فالنصاب الذي به يحصل الغناء أولى أن يمنع ويخل بإيجابها. اعترض إمام حنفي فقال: لا عبرة باختلاله بعد انعقاده. ولا شك أنه انعقد عليه الحول؛ وهو سبب تام. وجاء وقت الحكم، وهو الإخراج؛ وهو سبب تام. فلماذا تعتبر إتمامه وكماله في الوسط؟ ألا ترى أن المضاربة على ألف إذا خسرت فبقي منها درهم واحد لم يؤثر في بطلانها، وبقيت عبرةً بانعقادها. ولأن العدد أحسب أنه أوصاف لعلة، فإذا اختلت، ولم يتبعض الحكم ببقاء ما بقي منها، وجب بقاؤها؛ ولم يجز انعدام الحكم مع بقاء بعض أوصاف العلة. وإنما اعتبرنا كون النصاب تامًا في الابتداء لأنه وقت الانعقاد، ووقت حؤول الحول وتمامه لأنه وقت الإخراج. فأما وسط الحول، فلا وقت وجوب إخراج ولا وقت انعقاد، فلا عبرة به. ولذلك لم يعتبر عموم السوم في جميع الحول؛ بل كان إذا أسامها أكثر السنة وجبت زكاة السوم. وكذلك لو اختل العدد في السوم بأن علف شاة أو شاتين في أثناء الحول، لم يمنع إيجاب الزكاة؛ كذلك النقصان.

أجاب الحنبلي: وأي انعقاد حصل والشرط ما تم، وهو مرور الحول على المال؛ وإنما هو مراعى. فإن تم الحول، وهو تام في الحول، علمنا أنه كان انعقد الحول على النصاب. وإن لم يكمل الحول على نصاب تام تبينا أنه ما انعقد. وما ذلك إلا بمثابة اختلال شروط الصلاة ((في إثباتها، واختلال شروط العقود قبل تمامها. وقولك إن الاختلال حصل إقرار منك بأن السبب حصل ثم اختل، كلام لا يلزم. لأن السبب قد يسمى سببًا بظاهر دوام شرطه؛ مثل قولكم: قد وجد السبب في أول الحول. وإن كان موقوفًا على أن يكون تامًا في آخر جزء من أجزائه، فكل ما يصح به قولكم من وجود السبب، وهو كمال النصاب في أوله مترقبًا به تمامه في آخره، يصح به قولنا إنه وجد السبب في أوله بشرط دوام التمام في جميع الحول ودوامه. وأما قولك ((لماذا يعتبر تمام النصاب في الوسط مع تكامله في الطرفين حال الانعقاد وحال الإخراج، )) فهذا عندي من أعظم الغفلة. فإن الفقيه إذا تأمل وضع الزكاة رأى أن الشرع عني بأرباب الأموال باعتبار مقدار من المال يحصل به الغناء ويحتمل المؤاساة. ثم اعتبار صفة يكون المال عليها ناميًا؛ وهو التجائر في العروض والمواشي النامية بذاتها دون الأموال التي لا نماء لها ولا هي مرصدة للنماء. ثم لم يكفه ذاك كله حتى اعتبر قلة المؤنة. فتارة أسقط الزكاة لمؤنة العلف، وتارة قلل الزكاة للمؤنة والكلف، بحيث أوجب نصف العشر في الزرع والثمر. فإذا كان على

هذا الوصف، بطل نظرك للفقراء باكتفائك لتمام النصاب في الطرفين دون الوسط، وتركك للنظر لأرباب الأموال، بحيث تعفو عن تمام النصاب في الوسط؛ والوسط الزمان الأطول. فإن أول الحول لحظة، وآخره لحظة، ومرور الزمان أكثره على شاة أو شاتين لا يبقى رفقًا؛ لأن الرفق بطول الزمان المار على مال كالآجال إنما تتم رفقًا إذا مرت على ديون في الذمم. فأما أن تمضي الأزمان والآجال على غير المقدار، فإنها تمضي خالية من ارتفاق، فتقع فارغة من مقصودها، فتخرج عن الآجال. فهذا من أهم ما روعي؛ وهو المعول عليه، من حيث إن الله سح علم أن الأموال مواسم ((لكل مال، ونوع من الأموال موسم تتحصل فيه الأرباح. وأنا عندي بأن المقومات والأثمان سواء في اعتبار كمال النصاب لهذه العلة. فإذا كان وضع الحول لهذا، وجب أن يقع رفقًا إذا مضى على نصاب. وفارق ما ذكرت من السوم الذي إذا انحرم أثناء الحول لم ينحرم وجوب الزكاة. لأن المواشي لا تخلوا في كل حول من أيام تحبس لأجل السيل، أو غارة الخيل، أو الريح العاصف؛ فتمكن في البيوت وتحفظ في الأديار. والآحاد منها قد تتخلف لثقل حملها أو مرض يعتريها؛ فلا تلحق الغنم في السعي إلى المرعى. فلو أننا اعتبرنا دوام العلف في جميع الجوامع هذه القواطع، لسقطت الزكاة رأسًا عن كل نصاب من الماشية.

[فصل آخر في المسألة]

فأما نقصان النصاب فإنه فقير. وحول يمضي على مال فقير لا يرفع مضيه المال فيجعله كالسام. وكيف يكون ذاك؟ ولو كان النصاب تامًا حتى لا يتم الحول ولو بقي منه يوم، لم تجب الزكاة. وأما مسألة المضاربة، فإن ما بقي من البضاعة، ولو درهم، صالح أن تعقد عليه المضاربة ابتداء؛ فجاز أن يبقى عليه. والدوام آكد من الابتداء. فأما الناقص عن المائتين والعشرين دينارًا، والأربعين شاة، لا يبتدأ عليه انعقاد الحول؛ فلا يبقى ما يصلح لانعقاد الحول عليه ابتداء. ولو بقي من مال المضاربة درهم واحد، صلح لانعقاد المضاربة عليه. وأما قولك إن العدد كأوصاف العلة، فهب أن الأمر كذلك، إلا أنها في مسألتنا مشروط. وإذا اختل الوصف الواحد، فوجد الشرط مع اختلال الوصف، لم يجد نفعًا ولم يحصل معلول العلة؛ كما لو حصل تكامل الإحصان على وطء لم يكمل بأوصافه زنا؛ فإنه لا يجلب حكم الزنا. 395 - وجرى في أثناء المسألة أن قال حنفي: أليس لو علق عتق عبده بدخول الدار فباعه، فزال ملكه عنه بالبيع، ثم عاد ودخل في ملكه بابتياع أو إرث أو هبة، ودخل الدار، وقع العتق، لما وجد انعقاد الصفة في ملكه، لم يضره توسط زوال الملك؟ كذلك لما تكامل النصاب ((في طرفي

وجرت مسألة المال المغصوب والضمان في الجملة

الحول لم يضر اختلال الغناء وتشعث النصاب في الوسط؛ وهو ما بين الطرفين: الأول للانعقاد، والأخير للإخراج. قال الحنبلي المستدل: أما العتق فإنه ينعقد وصفه وشرطه على ملك يوجد في الثاني، على الحطر والعرى، وعلى ما بعد زوال الملك وهو التدبير والوصية، وعلى حمل ما خلق. ومبنى الزكاة على تكامل شروطها واستيفاء أسباب وجوبها. فليس اختلال نصابها والملك فيها من اختلال الملك في العتق بشيء؛ هذا مع التسليم لمسألة العتق، وأن كان لي في عود الصفة روايتان، ولأن الغرض هناك ((لا دخلت الدار وأنت في ملكي.)) وإلا فالعاقل لا يمنع ما لا يملكه، إذ لا فائدة له في ذلك. ومخرجه مخرج الأيمان. والأيمان لا يقع إلا على المستقبلات. فأما الماضيات، فلا تنعقد عليها الأيمان عندنا، ولا عندك. وهي أيمان الغموس. 396 - وجرت مسألة المال المغصوب والضمان في الجملة فقال حنفي: يجب أن يحقق قبل الكلام مذهبنا. فعندنا أن كل مال كان المالك قادرًا على التوصل إلى أخذه وجبت فيه الزكاة. إنما المسألة في غاصبٍ لا يقدر المالك على انتزاع المال من يده، وبحر لا وصول إلى قعره، وما شاكل ذلك. فيكون المال كالهالك بالإضافة إلى المالك؛ حيث انقطعت علاقة تسلط المالك عليه. فليس بملك له من كل وجه؛

جرى بمجلس نور الهدى الزينبي مسألة فسخ النكاح بالإعسار بالنفقة

بل هو ملك حكمًا، لا مملوك يدًا ولا تصرفًا. والملك المجرد لا يكفي في إيجاب الزكاة؛ كمال مكاتبه، والمال الذي في يد من عليه من الدين ما يستوعبه، والذي يوضح قصور ملكه بانعدام تصرفه بعدم القدرة على توصله. قال الحنبلي المعترض، وهو المستدل ((في المسألة التي قبلها، فقال: معلوم أن كون الملك الذي تجب لأجله الزكاة لا يعتبر كون المالك مالكًا له من كل وجه؛ بدليل أن ابن السبيل لا يمكنه التصرف في ماله، وهو قاصر اليد عن التصرف فيه. ومع ذلك تجب فيه الزكاة مع كونه جعل فقيرًا في استحقاق أخذ الزكاة. وليس تعتبر الزكاة إلا أصل الملك دون التصرف. مع أنه يمكنه التصرف ببيعه لمن له قدرة عليه، وإن كانت قدرة المشتري ليست قدرة المالك. وكذلك المال الذي ضل عنه في نفس داره وملكه؛ فإنه لا تسلط له عليه، وتجب فيه الزكاة. 397 - جرى بمجلس نور الهدى الزينبي مسألة فسخ النكاح بالإعسار بالنفقة قال حنبلي: إنما يراد النكاح لدوام العشرة والألفة. ولا ألفة ولا عشرة مع العسرة بالقوام. فلا مخلص لها منه إلا بالفسخ عليه. اعترض إمام حنفي، فقال: هذا نظر إلى جانب الزوجة. وقد تقابل ضرران. ضرر الزوج وهو بالفسخ أكثر من ضرر الزوجة بالصبر والمهلة

والإنظار، لأمور أربعة. أحدها أن الزوج له ملك ناجز حاضر؛ وحق الزوجة مستقبل منتظر. والثاني أن ملك الزوج يزال عن البضع؛ والبضع أنفس من المال؛ بل بينه وبين المال من الرتبة ما بين الدم والمال. والبضع لا مندوحة له من غيرها؛ ولها مندوحة عن ماله إلى ما يفرضه الحاكم ويستدينه لها من مال غيره. والبضع لا يمكن بعد إزالته أو يستدرك بالقضاء. والمال يمكن استدراكه بقضاء ما فات منه. فلا يجوز أن يلحق بالزوج هذا الإضرار العظيم لأجل ضرر يسير في حق الزوجة. أجاب الحنبلي، ((فقال: أما إنك إذا رجحت بين البضع والمال بهذا، رجحنا بأن الضرر اللاحق بتعذر النفقة يضره بما لا غنى عنه. ولهذا وجب للأقارب والأرحام ومضرة الزوج بما عنه مندوحة، وهو الإبضاع. وذلك لم يجب للأقارب كما لم تجب الزوائد من الشهوات. ولأن الزوج حابس، والزوجة محبوسة، والضرر مزال عنها من جانب الزوج؛ وأبدًا المزال عنه الضرر يقنع في حقه بأيسر ضرر، والمزال ضرره يزال ضرره وإن كثر لحوق الضرر به. بدليل الصائل على المال يدفع ضرره عنه ولو آل إلى النفس. ولا يقال إن من صال لطلب النفس يدفع بالسلاح، ومن صال لطلب المال يدفع بتخريق الثياب وكسر الأسلحة، ولا يدفع بإضرار في النفس، ولا يقف الإضرار بنفسه على إضراره بالنفس. بل لو علم منه القوة ببدن على أخذ بيضة من يد صاحبها ومالكها، ولم

جرى بجامع القصر مسألة الشرط الفاسد إذا حذف وأسقط هل يتخلف العقد صحيحا

يمكن صاحب البيضة دفع ذلك القوي عنه بيده ومحض بدنه حتى يأخذ الأسلحة، تناول السلاح دفعًا لذلك الصائل. وكذلك من له سهم من مائة سهم من ضيعة، يأخذ به بقية الضيعة بالشفعة لدفع الضرر اليسير. والمتبرع ملكه، وهو المشتري ضرره، أوفر. حتى إن أبا حنيفة زاد علينا وعلى أصحاب الشافعي بأن قال: وإن كان أحدث شيئًا، أزاله الشفيع من غير جبر ولا غرامة؛ كل ذلك نظرًا إلى الضرر المدفوع دون الضرر الداخل على المدفوع ضرره. فكذلك ههنا. على أن هذا المال الذي تزدريه هو الذي عظمت البضع بإيجابه وتقديره. والذي رضي به الشرع عوضًا عن إبضاع، ونقل إبضاع النساء إلى الرجال به؛ وفي مقابلته لم يحقره إلى حد يمنع من إعادته إليهن الإعسار به ولتعذره. فهو عظيم خطير في تملك الإبضاع به، حقير في باب منع الإزالة للأملاك عن الإبضاع لتعذره. ثم إنك مقابل بما ذكرت ((من إزالة يد الزوج عن الآجل، وهو البضع، لفوات الزوجة الأقل مما تتناوله من النفقة، وهو المال. فكل فرق ذكرته باطل بهذا. 398 - جرى بجامع القصر مسألة الشرط الفاسد إذا حذف وأسقط هل يتخلف العقد صحيحًا قال حنفي: إن النهي عاد إلى غير العقد، وهو الشرط، فأثر في

غير العقد، وهو الوصف؛ ولم يقدح في الأصل. وهذه موازنة صحيحة. وهي أن النهي إنما يعدم الوصف ولم يعدم الأصل. فأعدم الوصف، ولم يعدم الأصل. اعترض عليه حنبلي فقال: إن هذه الموازنة تعطي أن ينقطع الشرط عن العقد، كما قال أحمد صاحبنا في إحدى روايتيه. فأبطل الشرط ونفى العقد على أصل الصحة. فأما أن يقول بأن النهي صدم الشرط فأبطل الوصف، فلا وجه له. على أن أصول الشريعة لم تعتمد هذه الموازنة؛ بل جعلت العوارض من الأوصاف مبطلة للعقود مخرجة للعاقدين والمعقود [عليه] عن أهلية الصحية. فالعصير أصل والصيد أصل في باب المالية وأهلية العقد، والآدمي أصل في صحة العقد والتملك والتمليك. جاءت أوصاف غيرت الأصول. فالتخمير جعل العصير كالبول؛ والدم والصيد صار بدخوله الحرم كالخنزير في امتناع أهلية العقد؛ والإحرام إذا طرأ على المحل جعله كالميت بالإضافة إلى امتناع ابتياع الصيد؛ وكذلك الكفر بالإضافة إلى نكاح المسلمة كالميت أو البهيمة. وإذا كانت الأوصاف العارضة على الأصول الثابتة، وهي الآدمية في العاقدين، والجواهر المنتفع بها في المعقود عليه، تجعلها كأنها عدم، فلا وجه لاحتقار الوصف. وكيف تقول ذلك ((والأعيان لا تصير مالًا إلا بالصفات، ولا تنعدم ماليتها إلا بخروجها عن الصفات المخصوصة؟

وجرت مسألة تعيين النية لصوم شهر رمضان

399 - وجرت مسألة تعيين النية لصوم شهر رمضان فقال حنبلي ينصر أصح الروايتين عن أحمد، فقال: الصوم عبادة تنقسم نفلًا وفروضًا وقضاءً وأداء؛ فافتقر إلى تعيين النية، كالصلاة. فقال له حنبلي يحقق ما يقول: أنت سئلت عن صوم رمضان في حق المقيم السليم. وهذا الصوم المسؤول عنه لا ينقسم. فكيف تعلل لأصل الصوم وأنت مسؤول عن نوع من الصوم مخصوص؟ فما مثلك إلا مثل من سئل عن كفارة صوم رمضان، فعلل لأصل الكفارات؛ أو عن حد القذف، فعلل لجنس الحدود. على أنه حيث انقسم واحتمل التردد احتاج إلى التعيين، عند أبي حنيفة. فكل صوم كان بالصفة التي ذكرت من انقسامه وتردده كان لأجل ذلك التردد والانقسام مفتقرًا إلى نية معينة؛ كصوم القضاء والكفارة والنذر. والعلة منتقضة بالحج. فإنه عبادة تنقسم إلى فرض ونفل وقضاء وأداء، ولا تفتقر إلى تعيين النية. وأما الصلاة فإنها انقطعت عن هذه العبادة من جهة أنه ليس لها وقت تتعين فيه تعيينًا لا يصح فيه، حتى لو ضاق وقتها فأتى فيه بالنافلة صحت. قال الحنبلي على هذا الأخير: لا أسلم؛ لأنه يكون كالغاصب للوقت

وجرت مسألة الماء المتغير بالزعفران

والمصلي فيه. فإن الوقت لما ضاق بحيث لا يتسع إلا لفرضه، فوضع فيه غير فرضه، كان غاصبًا لوقته، فلم يصح فيه النفل. 400 - وجرت مسألة الماء المتغير بالزعفران قال حنبلي ينصر إحدى الروايتين: أفرض الكلام في الماء الذي يقع فيه الباقلاء، وأقيس على ((الماء المطبوخ فيه البقلاء، فأقول إن المنقوع [الذي] انتشرت فيه أجزاء الباقلاء أشبه المطبوخ فيه الباقلاء. اعترض عليه معترض فقال: المطبوخ استحال وصار أدمًا؛ فوزانه أن يستحيل الماء باللون صبغًا، أو بالريح طيبًا؛ فلا يجوز الوضوء به عندي. قال: ليس يقف المنع على الاستحالة. بدليل النجاسة، إن أحالت الطعام أو العصير، نجسته؛ وإن غيرت نجست وإن لم تحصل الإحالة. ولأنه ما من متغير إلا وهو يغير الثوب إلى لون تغييره. كما أنه ما من طبخ لمأكول في الماء إلا ويصطبغ به؛ كالأرز والباقلاء والعدس. فإن منعت الوضوء بالمطبوخ لكونه أدمًا، فامتنع هذا لكونه صبغًا. على أن كون المائع أدمًا ليس يمنع أن يبقى معه كونه طهورًا؛ كما أنه في أصل وضعه خلق شرابًا، ولم يمنع إعداده شرابًا من كونه طهورًا في أصل الوضع، جاز أن يخرج إلى كونه أدمًا ولا يخرج بذلك عن بقاء طهوريته. فلا وجه لإزالة طهوريته لأجل الائتدام به. -والله أعلم.

فصل جرى فيه القدر

401 - فصل جرى فيه القدر قال قدري: إن كان القدر موجبًا فعل المقدور في حق الخلق فإنه، على ما تحقق بين العلماء، ما علمه الله من أفعال العباد. وكما أنه علم ذلك، كتبه في اللوح ليظهر لملائكته علمه للأمر قبل كونه، فتسبح بحمده وتعلم مقدار ما اتصف به سح وتكلم به في كتبه التوراة والإنجيل والقرآن. وكلامه صفة، ومن صفته الصدق الذي لا يجوز عليه سواه. وكما أنه لا يمكن الخلق أن يفعلوا خلاف ما علمه لئلا ينقلب عليه سح جهلًا، ولا يفعلوا خلاف ما أخبر به لاستحالة أن يعود خبره كذبًا، كذلك لا يجوز أن يفعل هو ما علم سواه ولا يفعل إلا ما أخبر به فيفضي إلى أنه ما تم له الوصف إلا بالخلق، وأن فعله في حجر علمه وخبره. فالقدر قاض على أفعاله وأفعال خلقه. 402 - ((فصل العذر لا يقوم إلا لقصور في المعتذر بأن يقول إن جنى: ((ما علمت، )) أو تقاعد عن حق ((لم أعلم بتوجهه علي، )) أو ((علمت لكن ما استطعت.)) قال هذا لقائل: وأرى الرزق عني كالمتقاعس، والحظ في حقي وسنان أو ناعس، والدنيا والآخرة نعما، وأنا وأمثالي نتدبق قوما. والمالك يقول: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}؛ ويقول: {وله كل شيء}. فإذا سد باب العذر ببيان قدرته وسلطانه وغنائه، لم يبق عندي إلا السخط يمنعني.

فكيف أداوي هذا الداء العضال في إزالة السخط عن مانعي مع الغناء والكمال؟ قال حنبلي: قد دخل عليك السهو عن قسم هو الدواء لمثل هذا الداء. فظننت أنه لا يقوم العذر إلا بالعجز من جهة المانع، ونسيت أن أجد ما يقوم به العذر الحكمة البالغة التي هي عائدة بالمنع لمكان إصلاح الممنوع. ألا تراه لو أفصح بالقول بذلك، فقال ((ما منعتك عن إعواز مني، لكن لمصلحة لك، )) فإن فات القصور في المانع لم يفت القصور في الممنوع. كالأب الغني يمنع ولده الحلواء والزهومات تطيبًا، فلا يلام. والأب الفقير يمنع فلا يلام. فيجتمعان في عدم اللوم، ويختلفان في العلة التي لأجلها قام العذر. فمن هذه الغلطات يدهى الناس. والخليع العامي، لسرعة جرأته على الله وقلة مبالاته، يتسخط لمكان أنه لم يلحظ إلا الغناء والمنع، والقدرة والمنع. فجعل أوصاف الله سح عللًا لتسخطه؛ ولم يتعرض للوصف الأعظم، وهو الحكمة، ليداوي سخطه أو يعدمه. وصفة المداواة أنه إذا سولت له النفس أنه ممنوع مع الغناء فما العذر، قال لها ((هو حكيم في منعه لي، فمن أين يجيء الاعتراض مني واللوم؟ )) هذا هو قانون العقلاء المتمسكين بالأديان، إذا صح منهم العرفان. فهو بوصف الغناء أهل أن يبطل منه كل شيء، وهو بوصف الحكمة أهل أن يسلم له كل شيء.

[حديث وتفسيره]

403 - ((سئل سائل عن الحديث الذي سأل وفد من وفود العرب رسول الله صلعم، وكانوا قد أتوه بزكاة أموالهم: ((إن لم ندركك، يا رسول الله، فإلى من ندفع زكاة أموالنا؟ )) فقال: ((إلى أبي بكر.)) فقالوا: ((إن لم ندرك أبا بكر؟ )) قال: ((إلى عمر بن الخطاب.)) قالوا: ((فإن لم ندركه؟ )) قال: ((إلى عثمان.)) قالوا: ((فإن لم ندرك عثمان؟ )) قال: ((فإن لم تدرك عثمان، فاستطعت أن تموت، فمت.)) وكان السائل يشير إلى أن أيام علي غير محمودة، أو أنه ليس بأهل لدفع الزكاة. فقال الحنبلي المسؤول عن ذاك: يجب أن تعلم أنه إنما أراد بقوله ((إن استطعت أن تموت فمت)) ((لئلا تكون ممن يكون في الفتنة عليه)) لا ((لئلا تدفع زكاتك إليه.)) ونعوذ بالله ممن يعتقد ذلك مع ما شهد له النبي صلع بأنه على الحق، وكفر الخوارج وجعلهم مارقة، وحكم على قاتل عمار الفئة الباغية؛ فكيف يعتقد مسلم ذم أيامه وولايته؟ 404 - جرى بمجلسنا بالظفرية مسألة المأذون له في بعض التجارات قال حنفي: معلوم أن ما عاد بنفع السيد لا يحتاج فيه إلى إذنه؛ كالاتهاب، والاصطياد، وغير ذلك من الاحتطاب والاحتشاش. وإنما يحتاج إلى إذن السيد فيما فيه ضرر عليه. فيكون إذنه إطلاقًا فيما لا يملك عليه من الإضرار إلا بإذنه. وهذا أصل واضح تشد له الأصول. فإنه

لا يحتاج إلى إذنه في ترويحه عند الكرب، وإسبال الظل عليه عند طلوع الشمس في شدة الحر، ولا في استقائه الماء إذا ظمئ واستطرح في القصر، ولا إيقافه على الطريق إذا ضل. ولا يفتقر إلى إذنه في أخذ يده أو بجمته إذا كان يغرق في البحر، ولا في جذبه عن بئر يقع فيها، أو ترديه من عال إلى سفل. كل ذلك لا يحتاج إلى إذنه فيه لما كان محض النفع. ويحتاج ((إلى إذنه في أكل طعامه، وشرب شرابه، وركوب دابته، ولبس ثيابه، لما كان فيه نوع إضرار. فإذا ثبتت هذه القاعدة، فالإذن في التجارة أفاد إطلاق العبد في رقبته وتصرفه، فسواء حصل في البز أو العطر، هما سواء. والعبد يتصرف بعقله وآدميته. وإنما علقة الملك كانت مانعة له، عارضة عليه. فإذا فك السيد حجره فيما ضرره معلوم، وهو رقبته وتصرفه، كان البز والعطر سواء. فلا فائدة في العمل بالتقييد بتصرف مخصوص. قال حنبلي اعترض على هذه الجملة: إني قائل بموجب ما تعلقت به. فإن السيد إنما يأذن فيما فيه ضرر، لا لعين الضرر؛ إذ ليس ذلك من دأب العقلاء؛ بل يعتمد النفع الموفي. ولو أنه وجد مجتلبًا من غير ضرر لاجتلبه، لكن لا يمكن اجتلاب النفع بعبده مع تقييده. كالجوارح من الطير والسباع الكواسب التي لا يمكن أن تصطاد وترتاد إلا بتخلية أرسانها وأسباقها. كذلك العبد يزيل عنه نوعًا من الحجر ليجلب

وجرت مسألة الإجارة هل تبطل بالموت

بذلك طرفًا من الخير والكسب. فإذا كان أصل إذنه كذا، بما يليق بحال العقلاء، وجب أن يكون تخصيصه لنوع معتمدًا لما يعرف من حذق العبد في ذلك النوع فيوفي نفع ما عرف من حذقه على إطلاقه وضرره بتمليكه تصرفه. فإذا أخرجنا التخصيص إلى العموم، والتقييد إلى الإطلاق، فوتنا السيد غرضه الذي قصده، فصيرنا إنما قصد الضرر. وإذا كان أصل الإذن معتبرًا لما ذكرت، كان وصف الإذن معتبرًا إذ كلام المكلف لا يلغى. وإذا تعلقت بأن العبد يتصرف بآدميته، قابلناك بأن السيد يتصرف الإذن المخصوص المقيد بآدميته وملكيته. فإذا لم يلغ تصرف العبد لمكان عقله، فأولى أن يلغى تخصيص السيد لمكان عقله، وملكيته أولى. 405 - وجرت مسألة الإجارة هل تبطل بالموت قال شافعي: عقد لازم، فلا يرتفع مع بقاء المعقود عليه؛ كالبيع. قال ((له حنفي: أنا لا أسلم أن ههنا عقدًا على المنافع رأسًا؛ فكيف أسلم وصفه باللزوم؟ وإنما لم يكن منعقدًا على المنافع لأنها معدومة، على طريقة قوم من أصحابنا، وعلى طريق آخر، لأنها عقيب وجودها تعدم؛ لأنها لا بقاء لها لمصادفة العقد لها. فأوقعت على محلها وبموت المؤجر انتقل المحل إلى الوارث، وتجددت المنافع من ذلك المحل على ملكه.

جرى بمجلسنا بدار الشيخ الإمام الدهستاني بدرب الشاكرية مسألة الزكاة هل تجب على المضارب فيما يحصل له من الربح قبل القسمة

فلا وجه لاستحقاق المستأجر لها، ولا وجه لتجددها على ملكه. قال له شافعي: المنافع يقع العقد عليها، وهي صالحة لانعقاده عليها. بدليل إنها توجد متعاقبة يخلف الشيء منها الشيء. والماضي منها ليس بينه وبين المتجدد فصل من عدم؛ بل المتجدد إثر المنعدم كجريان الماء وذؤابة الذبالة في السراج. والعقد أيضًا إنما هو قول القائلين المتعاقدين. ولا بقاء للإيجاب عند وجود القبول. لكن لما وجد القبول عقيب الإيجاب بلا فصل يقطع، صار كأنه قول متصل غير منفصل. فانطبق القول عل المنافع انطباق الشيء على نظيره. والذي يوضح انعقاد العقد عليها جواز عقد المؤجر على ما استأجره، وجواز شرط تعجيل العوض. ولو كان كما ذكرت منقضيًا، لجاز أن نقدم بقاءه لوقوع العقد عليه، كما قدرنا كون الجنين حيًا لوقوع الأحكام عليه، لكنه جعل كالحي لمروره إلى الحياة، كذلك جعل المنافع كأنها حية ناطقة. قال: والذي يوضح أن الشرط لتعجيل العوض لا يجوز أن يجعل العوض معجلًا في مقابلة شهر لا يليه شهر الإجارة، بل يعقد على شوال في شعبان بعوض شرط يعجله، فإنه لا يتعجل. 406 - جرى بمجلسنا بدار الشيخ الإمام الدهستاني بدرب الشاكرية مسألة الزكاة هل تجب على المضارب فيما يحصل له من الربح قبل القسمة قال حنبلي: تجب؛ لأنه ((لما ملك المطالبة بالقسمة وبجبر حقه.

وجرى في مسألة الإسلام هل يعتبر في إحضان الرجم

دل على أنه مالك؛ إذ لا تجب القسمة لملك انفرد عن ملك الغير. اعترض حنبلي لمذهب الشافعي وأنه لا يملكه، فقال: إن تعلقت بهذا المقدار في حصول الملك، تعلق عليك في نفي الملك بخصيصتين أخص من هذا يدل على نفي الملك. وهي أن القدر من الربح معد وقاية لرأس المال متى خسر بتقلب الأسعار وقى به وجبر. ولو كان ملكًا للمضارب، لما وقى به ملك غيره، وهو رب المال. فلما جعل وقايةً له، علم أنه ليس بملك له. ولأنه لو كان قد حكم بملكه له فوجب، إذا مضى عليه الحول، زكاة، لكان إذا تجدد ربح في الربح يكون شريكًا في ذلك، يستحق بقسط ملكه من الربح بحكم الشركة، منضمًا إلى ما يستحقه من الربح بالعمل في المضاربة. وليس يقف استحقاق الربح بالشركة على عقد، بل لو أخلط مالان، وتجدد فيهما ربح، كان الربح بينهما بحسب المقدار من غير عقد. وههنا على زعمك شركة بين المضارب ورب المال في هذا المقدار من الربح. فما بال النماء لا يكون بينهما بحسبه؟ فقد دل إعداده لتوقية مال العين، بحيث لا يستحق إلا بعد تمام رأس المال، على أنه ليس بملك للمضارب. ولما لم يكن ما يتحصل من الربح مستحقًا، علم أنه لم يتم ملكًا. -والله أعلم. 407 - وجرى في مسألة الإسلام هل يعتبر في إحصان الرجم قال حنفي: إن كمال العقوبة يعتبر لها كما الأحكام. ومن كمال

فتوى في الوقف

الأحكام رتبة الدين. والأصول تشهد لذلك. فمن ذلك أن حرمة البنوة وزوجات البنوة جعل الوعيد لمكان الحرمة متضاعفًا، وجع القتل العمد مغلظ الدية، وجعل حد الحر ضعف حد العبد. وإذا كانت الفضائل على هذه الصفة، ففضيلة الإسلام لكمال حد الرجم وكمال الإحصان أحق ما كان معتبرًا فيه وله الإسلام الذي هو أصل الكلام. قال له ((شافعي: إلا أن تأثير الحرية آكد في هذا الباب؛ فعملت ما لم يعمل الإسلام. وذلك أن الإسلام في حق العبد موجود وحده لا يكمل جلدًا، والكفر موجود في حق الحر وحده يكمل جلدًا. فإذا كان الإسلام، مع ما قررت من تعاظمه، وكونه الأقصى في الفضل، ما عمل مع الرق، وهو أثر الكفر، ما يزيل نقصه، فكيف يدعى أنه هو المؤثر؟ بل قد بان أنه لا أثر له في باب تكمل العقوبات، وأن الأثر كله للحرية. 408 - جاءت فتوى في رجل حضر مجلس حاكم، وفيه جماعة من الشهود، فحكم بإقرار بوقف وأشهد على نفسه بحكمه. واتفق أن لذلك الرجل الحاضر خط بشرط وقضية قبل ذلك الوقف. كتبه بحكم الصناعة، ولم يك شاهدًا. واتفق أنه صار شاهدًا، أو احتاج من له علقة بالوقف وحق فيه إلى شهادته ما شهده من حكم الحاكم وقضيته. فطالبه بإقامة شهادته. فهل يتعين عليه ذلك، وهل إن امتنع من الشهادة لأجل خطه الذي كتبه

بالشرط المتقدم أم لا؟ فأجاب بالبادرة جماعة أن ذلك يتعين عليه، وإن لم يجبه إلى ما سأل كان ذلك قادحًا في شهادته وعدالته. فقال حنبلي: في هذا الإطلاق خطأ من ثلاثة أوجه. أحدها أنهم أطلقوا تعيين الشهادة عليه، وكيف يتعين ولا تفصيل؟ ويقال: إذا لم تتم بينة المدعي إلا بشهادته، تعين؛ فأما إن كان هناك غيره ممن يشهد عند الحاكم، لم يتعين. وهو بمثابة فروض الكفايات التي إن كان من يقوم بها، فلا يتعين؛ فإذا امتنع الكل، أو كان لهم عذر، تعين عليه. وإن امتنع هو بعد ذلك، فسق، وفسق الكل؛ كما يقال: إذا ترك أهل القرية جميعهم فرض الكفاية، فلا يعتد بشهادتهم إن استجابوا بعد ذلك، إلا بعد إحداث توبة. فهذا من هذا الوجه. الوجه ((الثاني أنه قد يكون عاميًا يعتقد أن خطه بالشرط يمنه من إقامة الشهادة بما ينافي ذلك الشرط. فلا يطلق عليه الفسق والخطأ بذلك حتى يقيد بالعلم. وإنه إذا بان له بالفتيا أنه لا يمنع الخط الأول شهادته، فامتنع بعد بيان الفقهاء له ذلك، أثم وفسق. الوجه الثالث أنه قد لا تجب عليه الشهادة ما لم يكن الحاكم أشهده. فإن العادة أن الحاكم يشهد على حكمه وإمضائه من حضره من شهوده. وفي اعتبار الاسترعاء مذهبان. أحدهما أنه يعتبر، ومذهب قوم أنه لا يعتبر؛ حتى إنه يقبل شهادة المستحفي.

جرى بالمدرسة النظامية مسألة نماء الرهن المنفصل (انظر التتمة رقم 102 ص 81)

409 - جرى بالمدرسة النظامية مسألة نماء الرهن المنفصل قال حنبلي: هذا الرهن حبس، هو حق تمكن في الرقبة. والولد من أجزائها فتبعها فيه وفي البيع عند المحل؛ كما قلنا في السمن، وكل نماء متصل. قال له شافعي: وكم من حق يتمكن من الرقبة ولا يستتبع الولد! فلم جعلت هذا تابعًا؟ ونحن نعلم أن الإجارة حق تمكن من الأم، وهي العين المستأجرة، ولا يتبع فيه الولد. وكذلك الجناية حتى تتعلق برقبة الجانية، ولا تستتبع الولد. ولأن العقد في الحقيقة وقع على بذل العين دون العين، وما تجدد من نماء العين المنفصل، لم يكن موجودًا حين العقد، فكيف يجوز أن يدخل تحته وما كان حين العقد موجودًا أصلًا ورأسًا. قال الحنبلي: أما بيع الولد للأم من المكاتبة وأم الولد والمدبرة والأضحية، مع كون السخال والأولاد غير صالحة لما تعلق بالأمهات، لأن الطفلة لا تكون في نفسها أم ولد، ولا السخلة تكون أضحية، ثم تبعت الأم، والتبعية ههنا أحق، حيث صلحت السلخة والطفلة لوقوع العقد عليها ابتداء، والأجزاء إلى العين أقرب من بذل العين، فوجب أن تكون الأجزاء بالبيع أحرى [ ... ]

تتمة فصل 340 ص 368

410 - [ ... ] ((أنه بدأ باشتراط الضرب في الأرض، وهو سبب لحصول مشقة تحتاج إلى نوع رفاهية ورخصة. ثم ثنى بنفي الجناح. وهذا لا يكون إلا للتخفيف دون العزائم والإيجاب. وقوله {أن تقصروا} لفظ موضوع لتقليل كثير وتقصير طويل وتخفيف ثقيل. ثم ختم بعذر فقال {إن خفتم}؛ فصار إيجاب فعل بين رخصتين: سفر، وخوف. فلما نسخ الخوف، دهش عمر من ذلك؛ حيث رأى النبي يقصر مع الأمن. فسأله عن ذلك؛ فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم. وهذا في الإيجاب سهولة وإسقاط؛ كما قال سح في حق الدم: {فمن تصدق به فهو كفارة له} -يعني عفا عنه وأسقطه. استدل حنبلي في أن الماء الكثير الذي هو الغدران هو المعتبر دون التغيير؛ خلافك. وإحدى الروايات عن أحمد هو أن الماء القليل يمكن حفظه في الأوعية وبالأغطية. وقد ثبت أن الكثير لا يمكن حفظه؛ لعدم إمكان الحفظ تأثير في الطهارة. بدليل أن الهر علل النبي صلع في طهارتها بأنها طوافة. ومعنى ذلك ومحصوله أنه لا يمكن حفظ المائعات منها. وهذا موجود في الماء الكثير الذي لا يمكن حفظه من النجاسات وورود الحيوانات تتريا منه وتولى فيه. 411 - قال بعض المنتقدين: إن الله، إذا أعاد الخلق. أعاد أذكارهم معهم؛

جرى بمجلس الشيخ الإمام الدهستاني مسألة الواجب بقتل العمد (النص ناقص آخره)

حتى أخبر عنهم أن القائل منهم يقول: {إني كان لي قرين}. لماذا أعاد الأذكار؟ فقال حنبلي بسرعة جواب: إنه كان وعدهم بالبعث بعد إياسهم وشكوكهم فيه. فلو أنساهم لما علموا عند البعث صدق الوعد، وظنوا أنه، أو اعتقدوا أنه، ابتداء خلق. وإنما طاب العيش بتحقيق الوعد. ويعذب الكفار بحسرة الفوت، وما سبقوا به من موجبات الوعيد بالتكذيب. فكان ذكر ((مضافرة لعيون الأبرار، وحسرة في قلوب الكفار. ثم قال: سبحان الله! لا يحسن أن نتكلف استخراج علة ذلك مع كون الباري فصح بالتعليل، فقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدًا عليه حقًا ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. ثم قال: {ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين}. وهذا لا يحصل إلا بإحياء أذكارهم؛ إذ لو أنساهم لما علموا ما فيه اختلفوا، ولا علموا أنهم كانوا كاذبين. 412 - جرى بمجلس الشيخ الإمام إبراهيم الدهستاني مسألة الواجب بقتل العمد قال مالكي: الأصل في المقابلة المماثلة. ولا مماثلة بين المال والنفس. فثبت أن المال لا يجب عن الدم على سبيل الأصل في البدلية. اعترض عليه حنبلي ينصر إحدى روايتيه: أين ضمان الدم من ضمان

تتمة فصل 314 ص 341

الأصول كلها؟ وإنما تشير بالأصل إلى ضمان الأموال ذوات الأمثال. وتلك تضمن بالأمثال جبرًا وأخذًا، لا إتلافًا. وهذا يوجد إتلافًا وزجرًا. ثم إنه ينقطع عن الزاجرات في الأصول، وهي الحدود، لكونه لا ينحتم كانحتامها. فتلك لا يحل بعد ثبوتها إسقاطها؛ وهذا، الأفضل إسقاطه؛ والمندوب إليه العفو عنه. وتلك لا يصالح عنها بالمال، ولا يجب المال في مقابلة ما وقع منها شبهة وخطأ؛ ولا يقابلها مال لحق الله سح كما يقابل هذا، وهو الكفارة. وإذا كان كذلك لم يتمحض مالًا كذوات الأمثال ولم يتمحض زجرًا كالحدود والزواجر الموضوعة للصرف عن الفساد. فكان ما ذهبنا إليه من التردد بين بدلين، مال ودم، أولى من مذهبك المتمحض للعقوبة. لأن الواجب المتردد أشبه بالموجب المتردد. ولو كان الله سح قد بناه على الزجر، لما ندب إلى العفو، ووعد عليه بجزيل الأجر. ثم جعل أقل أولياء الدم، إذا عفا، سقط [ ... ] 413 - [ ... ] ((وحق الولي صيانة عن الغضاضة، وأنه لا يتصل بالنكاح فلا يفسد النكاح لتركه. والقياس ما قاله أبو حنيفة رحه، والاحتياط فيما قاله محمد. والدليل في ذلك أن المنع من الجواز ابتداءً إلا بإذن الولي أصوب من التعويل على الصيانة بالمرافعة إلى الحاكم. وربما يشعر الولي، وربما لم يشعر بحسب المرافعة، وربما لا. فيصير المنع على هذا الطريق إلا بإذن الولي لصيانة العقد. كالشهود. وهذا الفساد لا يقع في صحة الطلب من

الولي. فكانت الولاية من الولي أهلًا للطلب. والنصوص تدل من كتاب الله تع على ما قاله أبو حنيفة، قوله تع: {حتى تنكح زوجًا غيره}؛ {أن ينكحن أزواجهن}؛ {أن يتراجعا}؛ {فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف}. وحقيقة هذه الإضافات على المباشرة، دون الطلب والأمر. ومن ذلك قوله: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها}. وهذه دلالة واضحة؛ لأنه ليس في الآية ذكر ولي. وكذلك الأخبار. فما روي عن عائشة رضها نص لا يحتمل التأويل. وإنه صحيح؛ رواه محمد وأثبته ي التصانيف. فلا يكون ما روي من الطعن فيه مقبولًا. ويحتمل أن الطاعن لم يثبت عنده بطريقة؛ وجهل طريقة مجيئه لا يدل على فساد طريق الثبوت عند من أثبته بطريقة. ويروى لأبي حنفية أخبار أخرى أنه خطب أم سلمة، فقالت: ((إن أوليائي غيب.)) فقال عم: ((ليس منهم من يكرهني.)) ثم قال لعمر ابنها: ((قم فزوج أمك مني.)) ففعل. فيكون بغير ولي. وعند محمد يحتمل أنه كان بالغًا؛ ويحتمل أن رسول الله كان مخصوصًا بالولاية، على ما نص عليه القرآن: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}؛ ولأنه كان سلطانا؛ وكان مخصوصًا بالإشفاق، معصومًا عن الخيانة والتهمة. والولاية تثبت بالسلطنة كما تثبت بالقرابة؛ والتقدم يثبت بالشفقة وانتفاء تهمة الخيانة لا باسم الأبوة والأخوة.

مسألة [في شروط النكاح]

414 - مسألة قال القاضي أبو زيد الدبوسي في الأسرار: ومن شرط النكاح الشهود. وقال مالك: الشرط هو الإعلان؛ لأن الله تع ما شرط الشهود في النصوص المبيحة. وقال النبي صلعم: أعلنوا النكاح ولو بضرب الدفوف. فصار الإعلان شرطًا بأمر النبي صلع. ورفع إلى عمر رضه نكاح الشهادة رجل وامرأة، فقال: هذا نكاح السر، ولا أجيزه. فعلل في فساده بأنه سر؛ ولأن الشهادة حجة يحتاج إليها لفصل المنازعات. ولا منازعة في النكاح حال الوقوع؛ بل هو عقد تمليك بلا شهود؛ كالبيع والهبة. ولعامة العلماء قول النبي صلعم: لا نكاح إلا بشهود؛ وحقيقة، لا لنفي أدخل عليه عامًا. وعن عمر: أيما امرأة نكحت بغير بينة فاضربوها، الحد. قال القاضي أبو زيد: والمعنى فيه أن النكاح مخصوص من بين سائر التمليكات، والمعاملات بشرط الإعلان، وأن لا يقع سرا. إلا أنا نقول هذا الإعلان بالشهود، وعندك بالإفشاء. والصحيح ما قلناه؛ لأن شرط الحد ما يقاربه، كحل المرأة، وعدم العدة، والردة؛ والشهادة تقاربه وتجتمع معه؛ والإفشاء والإساغة تتعقبه. ولأن المطلوب من الإعلان الصيانة عن التجاحد لعظم خطره. والصيانة عن ذلك إنما يكون بالشهادة. فإنها تكون حجة المدعي على الجاحد. والخبر الثابت هو المقصود، لا الخبر الذي لا يثبت. فعلم أن الأصل في إفشاء هذا ما كان بالشهود؛ إذ كان

مسألة [في الرضاع هل يثبت الحرمة]

القصد به الثبوت عند الجحود. هذا لأن النكاح حكمه حكم النفوس، لا حكم الأموال. وله زيادة خطر ليست بملك المال. والشروط الزائدة لجوازه تعلق بهذه الزيادة، لا بمطلق التمليك. فلا يبقى لهم شيء إلا أن يسعوا لإبطال الزيادة، وأنها غير مؤثرة. -والله أعلم. 415 - مسألة قال القاضي أبو زيد: قال علماؤنا -رحمة الله عليهم -: عدد الرضعات ليس بشرط لإيجاب الحرمة. وقال الشافعي: العدد خمسًا، وهي خمس رضعات، ما يكتفي بها الصبي، لا خمس مصات، لما روى عبد الله بن الزبير عن النبي صلعم أنه قال: لا تحرم المصة والمصتان ولا الإملاجة والإملاجتان؛ وعن عائشة رضها أنها قالت: وإن مما أنزل الله في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فينسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن. وأما المعنى فهو أن الرضاع إنما كان يثبت الحرمة؛ لأنه سبب النشوء. فإن الولد لا يكاد ينشؤ بغيره. فيصير معنى بعضها صفة لحمًا وزيادة. فأشبه الماء الذي خلق منه، فصار بعضًا منه أصلاً. وإليه أشار النبي صلعم فقال: الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم. والرضاع ما فتق الإمعاء ولهذا نسخ رضاع الكبير. لأن بدنيته لا تقوم بالرضاع عادة، ولا يكتفي؛ كما لا يكتفي الصغير بدون اللبن. فلا يثبت حكم الجزئية برضاع الكبير.

وتبين أن الحكم غير متعلق بنفس اللبن، ولكن بما يقع به النشؤ. ثم نفس اللبن لا يتعلق به النشؤ، ولا بمقدار. وعادات الصبيان في الرضاع بالمصة. واللبن نفسه في المصات يجري؛ فلا يمكن التقدير به. فقدرنا بالسبب الظاهر، وهو الرضعات؛ كما أقيم الوطء مقام الماء في إثبات الحرمة. لأن الماء أمر خفي فأقيم سببه مقامه. ولما قام الارتضاع الذي هو سبب ظاهر مقام اللبن، قيل: إذا كثر فعل الصبي ارتضاعًا، تعلقت به الحرمة، قل اللبن أم كثر؛ وإذا قل الفعل لم تتعلق به الحرمة، وإن كثر اللبن؛ كما في باب الرخص، لتعلقه بالمشقات. فإن السفر في مشقة الحركة، لما أقيم بكونه سببًا له مقام المشقة، تعلقث به الرخصة، بحقيقة المشقة أم لا. وقد ذكرنا أمثلته في غير موضع. فأما اللبن إذا خلط بالماء والماء غالب، فإن الحرمة لا تثبت عندي إلا بشرب الصبي مع اللبن قدر ما لو شربه وحده ثبتت الحرمة. إنما قول لا يسقط حكمه تغليبًا لما عليه وإن تغير جنسه؛ لأن ذاته لا يتبدل؛ ولكن يختفي لغلبة غيره عليه. فهو كما لو شرب اللبن، ثم ماءً كثيرًا بعده. وكذلك الحرمة تثبت وإن جعل اللبن أقطًا أو جبنًا مثلاً؛ لأنه ليس إلا بعين الجنس وحكم العين الأول عندي لا يسقطه. حتى لو كان غصبًا لا ينقطع المغضوب منه. ولعلمائنا قول الله تع: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة}.

وتأويلها وأمهاتكم تسبب الإرضاع، كما قال في الأخوات؛ كما قال "أستاذك الذي علمك" -يعني سبب التعليم. كان ولا خلاف في تأويل الآية أن المراد به الأمهات بالرضاعة كالأخوات. وهذا الوصف ثبت بنفس الفعل دون الكثير منه. فإن الإرضاع فعل، كالضرب والإعطاء؛ فيتصف الفاعل به وإن قل الفعل. فإن قيل: هذا هكذا لغة، ولكن بالشرع اسم لفعل مقدر؛ كالسفر قدر بثلاثة أيام شرعًا، وما كان يتعارف لغة. فالحيض بعشرة عندك وما يتعارف لغة. -قلنا: نعم؛ هنا جائز بدليله، ويكون زيادة على النص لأن الوصف بفعل لا يقتضي تكرار الوصف لغةً. كالقائم يسمى به بقومة واحدة، لا بقومات؛ والضارب، ونحوه. والزيادة تجري مجرى النسخ؛ فلا يجوز إثباتها بخبر الواحد، ولا بالقياس. وعن النبي عم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. والحرمة من جهة النسب لا تتعلق بتكرار سببه، وهو الوطء؛ بل يثبت بنفس الوطء وبالنكاح الذي يقصد للوطء عند الإمكان، بلا خلاف. وإن عدم، فبدل السببية به، لا غيره، لتكرار المضاف في الباب. على أن نفس الرضاع لا يقتضي عددًا، والعدد تارة علته. وأما حديث عبد الله بن الزبير فقد رده عبد الله بن عمر، فقال، لما بلغه: قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير -يعني ليس في الآية ذكر

العدد. وشرط العدد يجري مجرى النسخ؛ فلا يجوز بخبر الواحد. ولأن العدد يثبت شرطًا ثم نسخ بالآية على ما روي عن ابن مسعود رضه إلى أمر الرضاع إلى أن قليله يحرم. والرضاع اسم الفعل. وعن علي رضه: قليل الرضاع وكثيره سواء في إيجاب الحرمة. وقيل لابن عباس رضه: الناس يقولون الرضعة تحرم ... وكان ظاهرًا شرط العدد حتى كان رضاع الكبير ثابتًا. وكان ذلك في الابتداء. ثم نسخ رضاع الكبير بقوله: الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم. وأما حديث عائشة فمداره على عبد الله بن أبي بكر. وعن سفيان بن عيينة: كنا نسخر ممن يكتب عن عبد الله بن أبي بكر. ولأن من مذهب عائشة أنها كانت تشترط عشرًا، فقد روي أن أم كلثوم أخت عائشة أرضعت رجلاً رضعات، فلم يبلغ عشرًا؛ فكان لا يدخل على عائشة، لأنها كانت تشترط العشر لإثبات الحرمة. فلو كانت الرواية ثابتة، لكانت لا تعمل بالمنسوخ. وتبين بهذا أن العدد كان شرطًا في رضاع الكبير، وذلك لا يوجب في رضاع الصغير، لأن الصغير محل التربي بالرضاع دون الكبير. والعلة أعمل في محلها منها في غير محلها. وزيادة شرط العمل في غير المحل ليلتحق بالمحل لا يدل على ثبوته شرطًا في المحل. ولأن أكثر ما في الباب أن يكون في القرآن خمس رضعات يحرمن؛ وفيه أن الرضاع نفسه

محرم. ولا يحمل المطلق على المقيد. بل إذا تم حرمت بالاثنتين؛ وتحرم بنفس الرضاع بالآية المطلقة، على ما عليه مذهبنا في أصول الفقه. وجواب آخر ما ذكرنا في الجواب عن عبد الله بن الزبير. وأما المعنى ما ذكرنا أن اللبن في حق الصغار الذين تربيتهم به جعل بمنزلة الماء في إثبات الحرمة، يسند لبعضه. ثم الحرمة لم تتعلق بالرضاع في جميع المدة. ولأن ما يروي الصبي به، ويرد جوعه، كله. فثبت أنه متعلق بأدنى ما ينطلق عليه الاسم ذو عدد معين منه. لأن الاسم لا يحتمل العدد، على ما قلنا في الطلاق. وإذا نوى عددًا فيه لم يصح. ولأن سببه الماء والحكم فيه متعلق بعينه وبسببه، وهو الوطء، وبسبب الوطء، وهو النكاح، احتياطًا لأمر الحرمة. لئن لا تتعلق الحرمة فيما نحن فيه بمقدار بعد وجود الأصل، لأن القليل تيسر بقدره، أولى وأحرى. ولهذا قلنا جميعًا إن الحرمة تثبت من الرجل، لأن سبب اللبن الولاد؛ وكان بالمائين جميعًا. فتعدت الحرمة إلى من هو سبب اللبن وإن لم يوجد منه اللبن. فثبت بأن العبرة بنفس اللبن، وسببه الرضاع متعلق بنفس الرضاع. فإن قيل: إن الرضاع أمر مندوب إليه للصيان، وهو من باب الحسبة، وهو متعارف أيضًا، فلو قيل "إن نفسه يحرم"، لضاق الاحتراز عنه؛ فقدر بفعل صيانة، لا من النكاح المحرم. فالإنسان قد يذهب عليه ابتداؤه، ثم يتذكر أنه محرم فيزجر. ولا كذلك الحرمة

مسألة منقولة من أسرار الدبوسي [في رضاع الكبير هل يوجب الحرمة]

بسبب الماء. فإنه مما لا يقع غفلة في العادات. فاحتيط في باب الماء لإيجاب الحرمة. وههنا لا يفيد الحل. ولهذا جعل الطلاق. فإن الزوج يطلقها تارة غضبًا وتارة غيرة. ثم يندم، فيجعل عددًا احتياطًا. فلم يحرم حتى يكون ثلاثًا. قلنا: حرمة الرضاع ليست نظير حرمة الطلاق. فإن حرمة الطلاق تنتهي بزوج آخر؛ وحرمة الرضاع لا. وهذا لأن حرمة الطلاق الثلاث ثبتت عقوبة وزجرًا للزوج عن التعدي عن الواحدة إلى الذي يقطع الملك، لأنه مبغض إلى الله سح وتع. إلا أن أصله أبيح للخلاص من النكاح إذا خاف التعدي عن حدود الله فيه إن حل أو حد به عدد، فلم تقرن الإباحة بزاجر. فأما استيفاء كله بلا حاجة إليه فلم تجعل الآية آخر تعليلاً لما ببعضه وإن أبيح له بحق ملكه. فأما حرمة النسب والرضاع فإنما تثبت بحكم البعضية. وقد تثبت على الاحتياط لإيجابها أو احترازًا عن التمتع من نفسه كرامة له. فكان المرور على هذا الاحتياط أولى من إثبات التقدير للرضعات، لمكان أنها معتادة دفعًا للحرج؛ لأنه لا يخرج فيما يثبت كرامة؛ إنما هو مما يثبت عقوبة وزجرًا. -والله أعلم. 416 - مسألة منقولة من أسرار الدبوسي قال: لا رضاع في الكبير. وقال بعض الناس: الكبير والصغير سواء. واحتجوا بحديث سالم بن عبد الله، وهو قول عائشة رضها؛ وبظاهر

النصوص لهم تعلق. ولنا أن الرضيع في اللغة اسم الصغير، دون الكبير. لأنه سمي به لتربيته باللبن، لا لوجود الفعل. ألا ترى أن الكبير لا يسمى رضيعًا، وأنه كاسم الصبي يزول بالكبر وإن كان الكبير قد يتصابى. وروي أن أبا موسى الأشعري سئل عن رضاع الكبير، فأوجب الحرمة. ثم أتوا عبد الله بن مسعود فسألوه عن ذلك، فقال: أترون هذا الأسمط رضيعًا فيكم؟ فلما بلغ أبا موسى الأشعري حلف أن لا يفتي ما دام عبد الله فيهم. فعبد الله علمهم. وجه الفتوى بفوات الوصف الذي تتعلق به الحرمة. هذا، كاسم المأكول، لا ينطلق على ما لا يتغذى به وإن أكل، بل يقال "فلان أكل غير مأكول." وينطلق على المأكول وإن لم يؤكل؛ لأنه صالح للتغذي به، لسببه كان فعل الأكل حكمه. فكذلك الرضيع اسم للصغير الذي تربيته باللبن لضعفه، وإن ربي بشيء آخر. وإذا لم يصر الكبير بشرب اللبن رضيعًا لا تصير مرضعةً. وهو مذهب ابن عباس وعمر وابن عمر وأزواج النبي صلعم عن عائشة. وكن يقلن: ما نرى رضاع الكبير إلا رخصة لسالم بن عبد الله. وقال عم: الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم وفتق الإمعاء. وهذا لا يكون إلا في الصغير الذي يسوغ طعامه اللبن بسائر الأخبار التي ذكرناها في بيان مدة الرضاع. -والله أعلم.

مسألة [في لبن الميتة هل تثبت به الحرمة]

417 - مسألة إذا حلب لبن ميتة فشربه صبي، أو ارتضع، كذلك ثبتت الحرمة. وقال الشافعي: لا تثبت. وهذه تنبني على أصل قد مر في الزنا بنشر تحريم المصاهرة. وقد يتكلم فيها ابتداءً بأنها بالموت لا تتصف بالحل والحرمة. فكذلك اللبن المتولد منها. وصار لبنها بمنزلة لبن البهيمة. ألا ترى أنها لو وطئت، لم تثبت له الحرمة، كوطء البهيمة؛ كذا رضاعها. إلا أنا نقول إن اللبن كما كان قبل الموت صورة ومعنى، ثم الحرمة كانت تتعلق به قبل الموت، فكذلك بعده لعدم التغير بالموت في حقه. أما الصورة، فذلك محسوس؛ وأما المعنى، فالغذاء على ما ذكرنا أن الشرع حرم؛ لأنه غذاء الصغير، ويقع به النشؤ. ومعنى الغذاء باقٍ بعد موت الأصل لدليلين. أحدهما أن اللبن لا يموت بموت الأصل؛ كالشعر، والعظم، وجميع ما يبان من الحي، فلا يحس ولا يتألم به الحي، على ما قررناه في موضعه. وعن عمر رضه: اللبن لا يموت. فإن حلة الموت، فما فيه إلا النجاسة. فأما سقوط معنى الغذاء، فلا. فإن لحم الميت يغذي؛ ولهذا حل عند الضرورة. ولأنه لا فرق بين جرح الصيد وبين جرح الشاة، والصيد يحل بالجرح للغذاء، فدل على أن الجرح في الشاة لا يمنع الغذاء. وكذلك السمكة ميتة وتؤكل للغذاء. وإذا ثبت أن الموت لا يحدث إلا النجاسة، ولا يمنع الغذاء، صار بمثابة ما لو حلب حال الحياة في قارورة نجسة.

وهذا بخلاف الوطء. لأنه إنما يوجب المحرمية لما كان بمنزلة الماء؛ لأنه سبب الولاد الموجب للبعضية؛ ويكون سببًا في محل الحرث، وبالممات لا يكون محلا للحرث. ألا ترى أن المحل مما يستباح بالعقد. ولأنه لا يتصور على الميتة، فصار وطوها كاللواطة. ولأن الوطء إنما يكون سببًا للماء عادة في محل الشهوة. والإيلاج بلا شهوة لا يكون سببًا للماء قط. وبالماء يخرج عن حال الاشتهاء؛ بل تصير الطباع تنفر عن مقاربة الميت استيحاشًا منه قبل الوطء. وإنما إن ندر ذلك من بعض الأحياء، كان لغلبة الشهوة وفرط السبق؛ كما يكون بالاحتلام عن فكرة وبالنظر. ولا يكون هذا إيلاج وطء على المتعارف منه؛ ويكون كوطء صغيرة لا يشتهى مثلها. وذلك لا يوجب الحرمة عند أبي حنيفة ومحمد؛ بل أبعد. لأنها تنكح، وهذه لا تنكح. بل هو أشبه بالولد يخرج من بطنها بعد الموت، فإن الحرمات تتعلق بهذا الولد، كما لو ولدت في حال الحياة. لأن الولد لم يتغير عن حاله بموتها. وأم قوله اللبن فرعها، وهي لا توصف بالحل والحرمة، لا يحل للرجال غسلها، ولا النظر إلى عورتها، ويحل للنساء؛ فكذلك المحارم؛ هم يدفنونها، وكذلك هم يتهمونها بلا حرمة بين الأجانب؛ إلا أنها لا يعقد [عليها] العقد، لخروجها عن محل الوطء. فإنما خرجت عن محل الوطء لأنها ليست تحرث كالرجل؛ ولأن اللبن لا يتولد بعد الموت، وإنما يتولد حال الحياة، كالبيضة. والولد يتولد في الضرع وعاء له؛ واتصف بصفة

مسألة من الأسرار [للدبوسي في تزويج الفضولي لم يتوقف]

الأصل؛ وصار بمنزلة ما لو حلب اللبن منها وهي حية، ثم شرب الصبي بعد موتها. ألا ترى أنا نقول إذا وهب اللبن في الضرع، وأمره بالحلب فحلب، صحت الهبة. وكذلك إذا اشترى شاة لبونًا تلبن. فإن كان اللبن المنفصل أكثر مما في الضرع جاز ليكون اللبن بمثله والزيادة بأن الشاة ولو لم يعتبر ما في الشاة من اللبن قائمًا لم يثبت حكم الزنا. فثبت أن اللبن بمنزلة المودع فيه [من] وجه ومن وجه صفة قائمة للشاة، يقال شاة لبون. وعلى هذا يجب الاعتبار حال الفصل عوضًا. إلا أنا نترجح الشبه الأول احتياطًا لباب الحرمة كما لو جعل صلة في باب الربا احتياطا لأمر الربا. فهذه المسألة فرع الحقيقة لمسألتين. إحداهما أن الابن يموت، على أصل الشافعي، فيصير حرام التناول لعينه؛ كالمرأة بغير عقد حرام الوطء بعينه. ثم قد ثبت من مذهب الشافعي أن حرمة الصهر لا تثبت بالزنا. فكذلك الحرمة بلبن الميتة لا تثبت عنده. لأن هذه الحرمة تثبت كرامةً للنسب، كالنسب والصهر. وعندنا تثبت به الحرمة، ولئن سلمنا أن اللبن يموت، لأن معنى التربية باق، وذلك بخلق الله تع. ولا حرمة فيه، على ما قلناه في مسألة الزنا. -والله أعلم. 418 - مسألة من الأسرار فضولي زوج رجلاً امرأةً، أو زوجها من نفسه بشهود، لم يتوقف؟ وقال أبو يوسف في قوله الآخر: يتوقف لأن قوله "زوجت فلانةً فلانًا"

عقد تام متى كان عن إذن بينهما، على ما عرف. فإذا لم يكن عن إذن، توقف؛ كما إذا وجد عن اثنين. وهذا لأن كل تصرف، لو صدر عن ولاية، نفذ. فإذا صدر عن غير ولاية وله تخير، توقف، على أصول علمائنا. وتبين بالنفاذ إذا كان عن ولاية أن قول الواحد عقد تام وليس بشطر؛ بخلاف ما إذا حضر المتعاقدان فأوجب أحدهما ولم يقبل الآخر حتى تفرقا، بطل الإيجاب. ولو كان عقدًا تاما لبطل وراء المجلس. كما لو قبل عن الآخر رجل أجنبي ثم تفرقا. لأن كلام الواحد إنما يكون عقدًا تامًا إذا قام مقام العاقدين، عبارة عنهما. وإنما يقوم أحدهما مقام الآخر عند غيبة الآخر أو توكيله. فأما إذا حضر بنفسه للعبارة بنفسه، فالآخر لا يقوم مقامه. فيصير شطر العقد بدلالة المال. ولنا أن قول الفضولي "زوجت فلانةً فلانًا" أو تزوجت فلانة" شطر العقد، فلا يتوقف على الإجازة؛ كما إذا حضر الآخر، وكما في البيع. وهذا لأن شطر العقد ليس بعقد. فكيف يتوقف على الجواز بالإجازة ولا جواز له بحال؟ وإنما يتوقف على التمام بالجواز. والجواز إنما يصح من حاضر في المجلس ما بقي المجلس. والدليل على أنه شطر العقد أنه شطر إذا حضر الآخر. وصيغة الكلام لا تتبدل بحضرة الآخر وغيبته. ولأنه عقد معاوضة يحتاج إلى الإيجاب من الجانبين، كما في البيع، كما قاله الشافعي في المسألة الأولى. إلا أن عند الولاية يقوم مقامها في العبارة عنها، على ما تبين. فيكون كلامه كلامها، فيصير عقدًا

تامًا. فإذا عدمت الولاية لم يقم مقامها. فيكون كلامه شطرًا، كما قال أبو يوسف، فيما إذا حضر الآخر. والدليل عليه أنه إنما يستقيم عاقدًا إذا صار معبرًا عنها. ولا يمكنه ذلك إلا بولاية عليهما. ففعل عبارة الغير بعبارته صرف من التصرف عليه. ألا ترى أنه في باب الكتابة لم يستقم الواحد معبرًا عنهما، لما فيه من ملك اختيار التسمية، على ما بينا في المسألة الأولى. فلم يصر معبرًا في ذلك؛ فلم يصح. فهذا الذي عبر عن العقد بولاية نفسه وبصحة كلامه، وهو أمر مملوك له، فلئن لا يصح ملك الشطرين أولى وأحرى. ولما اقتصرت عليه صار البيع والنكاح سواء، والكتابة أيضًا. دل عليه ما قالوا في فضولي زوج رجلاً امرأة، ثم زوجه أختها، إن الأول لا يبطل. ولو نقلنا العبارة عنه إلى الزوج، لبطل؛ كما لو زوجته بإذنه. فإن قيل: هذا يبطل برجل طلق امرأته على ألف، فإنه يتوقف على إجازتها والطلاق بمال عقد معاوضة، وتوقف بالواحد. -قلنا: ما توقف؛ والمرأة إذا قالت "اخترت ما قال الزوج" لم يكن طلاقًا بمال. وإنما يتعلق بقبولها. لأن الطلاق بمال فيه تعليق الطلاق بالقبول؛ كما لو طلقها عن خمر، لم يقع إلا بالقبول. ومتى قبلت [أن] يقع بغير شيء رجعنا. وتعليق الطلاق بقبولها كتعليق الطلاق بمشيئتها أو شرط آخر؛ فيكون يمينًا. واليمين عقد فرد، لا عقد معاوضة يثمر بالحالف وحده.

[مسألة القيم]

إلا أنها إذا كانت حاضرة فلم تقبل حتى قامت، بطلت اليمين، لا لعدم الجواب، ولكن لفوات شرط الحنث. لأن شرط الحنث اختيارها ذلك وقبولها. والطلاق متى علق بمشيئة المرأة واختيارها كان مقصورًا على مجلس علمها؛ كما لو قال "أنت طالق إن شئت." ألا ترى أنها إذا كانت غائبة وبلغها الخبر فلم ترض حتى قامت، بطلت. ولو كان عقدًا تامًا معاوضة، لم تبطل بالقيام عن مجلس العلم من غير جواب؛ كالبيع الموقوف. والخلع على مالها حتى صار عقدًا في حق المال عليها، فإنه لا يبطل بقيامها عن المجلس من غير جواب. فالقيام عن المجلس بلا جواب ليس بدلالة الرد. فإن الإنسان قد يسكت عن الجواب من غير رده لالتباس وجه الصواب عليه، فلا يثبت به رد. ولكنه نقض للمجلس؛ فيبطل به ما وقف صحته عن المجلس، وهو الخطاب المتعلق تمامه بالحول، لا غير. -والله أعلم. ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد إن الكافر لا يصح لعانه ما لم يقبل عنه حاضر؛ لأن فيها عقد تمليك، كالهبة. فيكون كلا للتمليك، شطرًا للعقد، لأن تمامه بالتملك. وإنه يفتقر إلى جواب التمليك في الأصل لعدم ولاية الغير عليه. والله أعلم. 419 - قال حنبلي: مسألة القيم مال يجب على سبيل الظهرة؛ فلا تجري فيه القيمة، كالعتق.

فصل [تفسير ما في بعض آيات القرآن من الوعيد]

قال حنفي: إنما لم يجر إخراج القيمة عن العتق لأنه يصير دفعًا إلى غير المستحق. فقال الحنبلي: بل كان يجب أن يجري دفعها إلى مكاتب يفك بها رقبته من الرق. فيكون دفعًا إلى المستحق عوضًا عن إيقاع العتق فيه، لحصول عتقه بما دفع إليه من قيمته. ولأن الفقراء مستحقين في الكفارة لما أقيم مقام العتق. وإذا كان الله سح قد جعل الإطعام عن العتق بدلاً، والفقراء بدلاً من العبد، فالبدل قريب إلى المبدل تقريب شرع. فكان قياس الرفق بالإطعام يسد الخلة، وقياس محل على محل، وهو محل الغرم في الدين، لتنفك ذمة المدين من دينه، كما تنفك بالعتق رقبة العبد من رقه. ألا ترى أن الله سح فرق بينهما، فقال: {فلا اقتحم العقبة}، {وما أدراك ما العقبة}، {فك رقبة}، {أو إطعام في يوم ذي مسغبة}، {يتيمًا ذا مقربة}. ولأنا إذا حققنا رأينا أن المستحق هو الله سح، والعبد محل العتق. فصرف القيمة عن العتق إلى محل آخر لا يخرجه أن يكون منصرفًا إلى المستحق، وهو الله سح. ولأنه إن كان قد دفع في العتق إلى غير المستحق، فههنا قد دفع غير المستحق. 420 - فصل أرى في القرآن آيات تفزعني؛ وأراهم يطمئنون بها؛ فأنا وهم

فيها طرفي نقيض. يقول الله سح وتع: {الكافرون هم الظالمون}. ويقول من الوعيد ما يطبق على الفكار وما تقشعر منه الجلود، مثل قوله تع: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون}، {بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون}. وهذه كلمة تحتمل كفر الإلهية؛ وكفر هو الجحد بالبعث، وكفر هو كفران النعمة. ما يؤمني أن يكون واقعًا على كفران النعمة؟ فما وجه فرحي بتصوري أنها ترجع إلى كفر الجحد؟ ليس هذا من الحزم أن أجتهد في مجانية كفران النعم، خوفاً أن يكون الوعيد راجعًا إلي بكوني كافرًا للنعمة. وكما أن كفر الجحد كفر وتغطية للمنعم، وما يستحقه من الإتيان تغطية النعم بمقابلة الحياة واستعمالها فيما يسخط كفران أيضًا، لا آمن والله أن يكون قوله {لا يكفون عن وجوههم النار} راجعًا إلى من كان لا يلوي وجهه عن البهت والنظر الحرام، {ولا عن ظهورهم} راجعًا إلى من تجنب ظهره الحرام، وإلى من كان يلتجئ إلى الظلمة في استيفاء الحقوق، والاستقصاء بما يزيد على الحقوق، إلى أمثال ذلك. ألا تراه قال في الآية الأخرى في مانع الزكاة: {يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم}؛ لأن الجبهة تنزوي بالتعبيس في وجه الفقير، والجنب يلوى به عن الفقير، والظهر يستدبر به الفقير.

شذرة [في إخراج القيمة في الزكوات]

ولكل عضو من هجران الحقوق حظ؛ فله من الوعيد مثله. 421 - شذرة قال شافعي لحنفي في مسألة إخراج القيمة في الزكوات: أليس لو أخرج صاعًا جيدًا عن صاعين، أو نصف صاع عن صاع، لم يجز؟ فدل على أن الاعتبار بالقيمة باطل. قال الحنفي: ذاك نقصان عن المقدار الشرعي. قال الحنفي: والمقدار معتبر بقوله: صاعًا من تمر. وقوله في الرقة: ربع العشر. والجودة تلغى، كما قلنا في باب الربا. قال الشافعي: كما أن المقدار معتبر، وهو كمية العين، فالعين معتبر. فإذا جاز أن تكون القيمة في بعض العين بدلاً من كل العين، فالجودة وزيادة القيمة في ذات العين لم لا تكون محسوبة عن بعض العين؟ سيما والقصد عندك سد الخلة. والجودة غير مستحقة إذا كانت زروعه ردية. فإذا أخرج الجيد، ففيه من الاقتيات والطعم زيادة. لأن ربع الجيد أكثر، وطعمه أطيب، وهو أغذى. فلم لا يكون ما فيه من القيمة لأجل الفضل يقوم بإزاء المقدار؟ فلما لم يقم، بطل حكم التقويم، وصار الحكم للتقدير؛ وهو معنى يعود إلى العين. لأن الكل هو العين، والنصف بعض العين. فإذا لم تسد القيمة مسد بعض العين، لا تسد مسد العين.

فصل [في أن اشتمال كل مخلوق على نقائص وفضائل يغني المادح والذام من الكذب إذا سخط أو رضي]

422 - فصل إذا كان كل مخلوق يشتمل على نقائص وفضائل، فما أغنى المادح والذام عن الكذب إذا سخط أو رضي فإذا غضب وجد نقائص يكون بذكرها صادقًا. فما باله وإلحاق النقص بنفسه بكذبه؟ وإذا رضي فوجد فضائل، فما باله يكذب بذكر ما لا يجد مع وجود ما يمكنه المدح به ويكون صادقًا؟ فما باله ألحق المدحة بغيره والنقيضة بنفسه حيث زاد بما لم يجد؟ ألا ترى أن الله سح، لما ركب عيسى ما بين فضل هو النبوة وإظهار المعجز على يديه بإحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص، وغلا فيه قومه فقالوا إنه إله، قال فيه: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة}. وهذا مدح يقتضي النبوة. ثم قال: {كانا يأكلان الطعام}. وهذا نقص في الكمال يقتضي التغذية، وهي في الحقيقة قيام الذات بغيرها، وحاجتها إلى التقويم بسواها. وهذه سمة تنافي عنا الإلهية. فإن الإله ما احتاجت إليه الأشياء، واستغنى بذاته عن الأشياء. وأراد بذكر هذا النقص نفي العلو فيه بدعوى الإلهية. فما [من] شيء إلا وقد ضمنه الله نقصًا وكمالاً. فما أغناك عن الكذب بالتزيد في النقائص أو الفضائل والخصائص؟

شذرة [في فضل النكاح]

423 - شذرة كره العلماء ترك النكاح في حق الصلحاء، خوفا عليهم من الرهبانية المبتدعة. وكرهوه في حق المتحرمين المتبذلين، خوفًا عليهم من مواقعة الزنا، وطلبًا لتحصينهم عنه. فلا خير في العزبة إذًا إلا لرجل لا شهوة له، يتخفف بالعزبة كيلا يتمون بحقوق لا قدرة له على الوفاء بها. روى في الحديث أن الصحابة سألت رسول الله: {أنقضي شهواتنا ونثاب عليها؟ " فقال: "نعم." -يعنون في باب النكاح. وهذا منه صلعم يشير إلى معنى، لا إلى نفس قضاء وطر الفرج وشهوة النفس، لكن لأن في طي النكاح والمباضعة فيه إتباع سنة وإيثار إكثار لعبيد الله في هذه الأمة. ومعلوم أن من دعا إلى الله عبدًا موجودًا، فكان جهبذًا في دعايته وهدايته، كان ممدوحًا بذلك مثابًا. فكيف بمن سعى في إيجاد عبد من عبيد الله يكثر به أمة رسول الله، حيث قال: تناكحوا تناسلوا أكاثر بكم الأمم. وما أقدر المكلف أن يجعل جميع حركاته طاعات لله! كالنفقة على عياله، وأكل الطعام قصدًا لإحياء نفسه وتقويتها على طاعة ربه؛ كقول السفير صلعم: أكل الهريس لا يقوى به على قيام الليل. لو قصد قاصد بنومه تقليل معاصيه، أو تنفير نفسه عن شر اليقظة، لكان في نومه طائعًا. فاجتهد أن تجعل جميع أفعالك طاعات، حتى اللذات. ونيل الشهوات يقصد به تحلية الحمد لله إلى النفس والعيال والأهل، وتحبيب المنعم سح إلى الخلق.

مقابسة [في النكاح هل الأفضل تركه أم التلبس به]

424 - مقابسة اجتمع جماعة من أهل العلم فتذاكروا شأن النكاح وهل الأفضل تركه لمن استغنى عنه بنوع صرف كإبردة، أو عنة، أو فتور نفس بضعف أو كبر، أم الأفضل التلبس به. فقال بعضهم: بل الأفضل تركه. لأن الله سح مدح يحيى بقوله: {سيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين}. ومعلوم أن الحصور الذي لا حاجة له ولا أرب في هذا الشأن. وإلى هذا المعنى أشار النبي صلع حيث قال: ليس منا إلا منهم، أو عصى، إلا أخي يحيى. وما مدح الله عليه، فهو الفضل. قال آخر مستدلاً على أن النكاح مع هذه الحال أفضل، فقال: الذي أشرع فيه أولاً أن أقول: معلوم أن الحصر ليس يتحصل به أكثر من المنع عن الزنا. ومعلوم أن نبينا صلع كانت عصمته مانعة من الكبائر. ومع ذلك نكح فأكثر، ولم يقنع بالواحدة. فكانت عصمة الله سح بالألطاف التي يصون بها النبوات مع التحصين بالواحدة والاثنتين معينًا له عماد زاد من تلك الأعداد. ثم إنه تزوج. ولا يجوز أن يحمل نكاحه على إفراط في قضاء وطر النفس وشهوة الفرج. فإنه أبان عن الغرض في أصل وضع النكاح. فخاطب به أمته، فقال: تناكحوا تناسلوا تكثروا، أباهي بكم الأمم. فتراه صلع يحث على النكاح لغرض، فضل وسلك غير مسلكه الذي حث عليه، من قصد الإيجاد لعباد الله، والمباهاة لأمم الأنبياء قبله؟ كلا!

قال في عرض كلامه: وأما يحيى فما أسلم أنه مدحه بحصر في الطبع. وهل ذلك مدح وما وضع نبينا صلع على ضده يكون مدحًا؟ فلو كان محو شهوة النكاح عن الطبع مدحة، لكان إيجادها مذمة. والنبي صلع ظهر من حاله بكثرة النكاح والميل إلى النساء ما دل على أنه شهي إليه ذلك، وما خص به من البنية والطبع فهو أفضل. لأنه صلع نبي على أكمل المباني وأفضلها. ثم حلي بأجمل الحلى وأكملها. ألا تراه كيف شق صدره وأخذ حظ الشيطان منه وغسل قلبه؛ فلو كانت شهوة النساء حظا للشيطان، لزالت عنه كما زال عنه الكبر والبخل والجبن والشح والكذب والخيانة. وكيف لا تكون محبة النساء فضلا في الطبع، وهي عناية الحكيم الأزلي بدوام العالم الكلي، جعلت الفصل الصحة لإيجاد النسل، حتى الأرض أفضلها المنبتة حتى سميت طيبة. فقال ابن عباس في قوله: {صعيدًا طيبًا} بأن الطيب القابل لماء المطر المنبت للربيع والزهر. وما ذلك إلا لأن النشؤ كمال. ومعلوم أن الجواد أهطل وجاد. والأرض إذا أنبتت، والريح إذا ألقحت، كانت أفضل؛ حتى إن الله سح وصف ريح قوم عاد بالعقيم لإعدام الإلقاح. وإذا كان في الطبع فضلاً، كان أيضًا في الشرع؛ حيث يكون التارك للجماع على وجه الحظر المعتصم بالسنة والأمر مثابًا على صرف الشهوة إلى السنة، فهو مثاب ببترك الزنا، ومدافعة النفس عنه مثاب على قصد الولد اتباعًا للسنة، وهو تكثير الأمة. لم يبق مع هذه القاعدة إلا أن يكون الحصر في يحيى عصمة، لا

[من كلام بعض الحكماء لبعض الملوك]

إعدام شهوة. ولو كان كذلك، لكان مدحة له؛ حيث لطف به فلم يجعل له معرضًا بالهمة. والباري تارة يخفف بإعدام طرق المعصية والموصلات إليها، كإفقاره لمن أفقره، لعلمه أن الغناء يفسده؛ وتارة يجعل الغناء محنة وزيادة تكليف، ليقوم بشكر المال وينجنب بطره وأشره، فيكون زيادة ثواب. 425 - قال بعض الحكماء لبعض الملوك: وعليك بالإحسان. فازرع ببذل المال مودة أوليائك؛ واحصد بالسيف رقاب أعدائك؛ وعاقب للأدب، لا للغضب؛ فالمعاقب للغضب يشفي نفسه، والمعاقب للأدب يصلح رعيته. 426 - استدل حنبلي في مسألة الخلوة، فقال: تمكنه من الاستيفاء للمنافع يقوم مقام الاستيفاء. فقيل له: ولم كان كذلك؟ هذا نفس الدعوى وشرح المذهب! فقال: لأن العقد على المنافع وضع للحاجة. لأن المنافع تذهب ضياعًا؛ وبالناس حاجة إلى عوضها، وبالمحتاجين إلى الانتفاع [بها] ولا أملاك، لهم حاجة إلى العقد عليها. فالحاجة من المالكين إلى أخذ عوضها، والحاجة من غير المالكين إلى الانتفاع بها. وقد نسخ المالكين عن الإعارة، فاحتيج إلى الإجارة. ومنافع الإبضاع لا يمكن استيفاؤها إلا في ملك.

فإذا كان كذلك، وكان العقد على المنافع، فالمنافع لا يمكن قبضها وهي توجد وتنعدم عقيب وجودها. فجعل قبض محلها، وهي الزوجة، قبضًا لها، وجعل التمكن بالخلوة. لأن الغالب من أحوال الناس طلب الخلوة له؛ ولا يتأتى منهم في الخلوة. فإذا كمل التسلم بالتمكن من الاستيفاء، صار التلف تحت اليد كتلف المبيع من الأعيان تحت قبض المبتاع. فإنه يكون من ضمانه كذلك تلف هذه المنافع تحت قبض الزوج. وصار كتسليم العين المستأجرة إلى المستأجر. وتلف المنفعة بمضي المدة من حين انتفاع فاته يقرر الأجرة. كذلك ههنا. والذي يوضح هذا أن النفقة في عقد النكاح، عندنا وعندك يا شافعي، عوض. ولهذا يفسخ بها عقد النكاح إذا أعتبر بها. ويحجب بالتسليم ويسقط بمنعه، وهو النشور. ولا يقف استحقاقه على إيجاد الوطء، بل التمكن جرى في استحقاقها مجرى نفس الاستمتاع. قال له شافعي: لو كان هذا كالتمكن في الإجارة، وفي باب النفقة إذا بذلت له الزوجة فلم ينقلها من بيت أبيها، تجب عليه النفقة. وكذلك إذا عقد على الأعيان المستأجرة، فبذلت له وقيل له "خذها" فلم يأخذها حتى انقضت المدة، فإنه تجب عليه الأجرة عندك. وكذلك الأعيان المعينة لو تلفت كانت من ضمانه. فقل ههنا إنها إذا بذلت وهي في بيت أبيها ولم يأخذها مدة كان مكنه استبقاء المنفعة أن يستقر المهر.

فصل جرى في مسألة القيمة في الزكاة

427 - فصل جرى في مسألة القيمة في الزكاة فقال حنبلي: معلوم أن إغناء الفقير فرع على غناء رب المال. ثم الغناء لم يحصل بكل مال؛ يجب أن يكون الإغناء بمال مخصوص لا بكل مال. ومن أجاز أخذ القيمة أجازها بكل مقوم. فأجاب حنبلي ناصرًا للرواية الأخرى، فقال: رب المال هو الحجة. فإنه جعل غنيا بعروض لها قيمة في التجارة. فقل أنه يجوز إخراج العروض بالقيمة من مال التجارة. فلما لم يجز أخذ العروض بالقيمة ولا الإغناء بها، وجعلت الغني غنيًا بعروض تبلغ قيمتها نصابًا، بطل تعويلك على إيجاز الخارج والإغناء بالغناء في حق أرباب الأموال. وكذلك لا تجعل الغناء في حق أرباب الأموال بالمعلوفة ثم تخرج إلى الفقراء المعلوفة. فقد أخرت إخراج ما لم يحصل به إغناء أرباب الأموال، ومنعت إخراج ما حصلت به الغناء في حق أرباب الأموال؛ فبطل ما عولت عليه. 428 - فصل يا مصنوعًا في أحسن تقويم، يا مخصوصًا بالاطلاع والتعليم، يا مخاطبًا من بين الناطق والبهيم، يا معظمًا على كل ملك كريم، يا قبلة المسبحين، يا صفوة الخلق أجمعين! لي بين جنبيك عقل هو هبتي، وكتاب هو حجتي؛ ولي إليك رسول بما كلفتك من عبادتي مويد ببرهاني ومعجزتي.

شذرة في إجبار العبد على النكاح

فهل مع هذه التحف كلها علقت بك الحكمة؟ هل شرفت منك الهمة؟ هل تأدبت في الخدمة؟ هل عرفت وإن قصرت مقدار النعمة عر على؟ ؟ ثبت مع الماء والطين هدمته بأصغر غرض وأقل عرض؟ افتح عينك وانظر من أنت، وعبد من أنت. فصن نفسك عن الذل والضرع للخلق، واحملها على الإجمال في الطلب، فيما زاد الحرص رزقًا. والثقة بالله حصن منيع من الضراعة، وذخر يوفي على البضاعة، والتوسل إلى الخلق في الرزق شناعة، وملاك الأمر مع الله الاستجابة والطاعة. 429 - شذرة [في] إجبار العبد على النكاح قال حنبلي: لا يملك منفعته؛ فلا يملك العقد عليها، لأنه يفضي إلى أن يعقد على ما لا يملك. قيل له: بل يعقد على ما يملك. قال: خصائص الملك المقابلة بالعوض واستبقاء المنافع بنفسه. فما لم يوجد ذلك، فلا ملك. ومعلوم أنه ليس في العبد منافع تستوفى بملك؛ أعني منافع وطء. قيل له: بل قد بان الملك وإنه لمصالح أملاكه. فإن التزويج يحصن ظهره ويعف فرجه. وذلك مما يحفظ ملك السيد. فهو كالفصد، يملكه لما يزول إليه من الشفاء والعافية. فحسن أن يقال إنه يملك على عبده إنكاحه؛ إذ به تزيد المالية فيه ديانة وعفة وسلامة مما ينهكه من

الحد. وكل ما زاد به ماليته، ولم يمنع منه الشرع، ملكه؛ كما يملك عنه إسقاء الأدوية والفصد والحجامة. وإن كان صورة لا يملكه، فإنه جراحة وإضرار في الحال؛ لكن ملكه لما تحته من الانتفاع. ووزن المال الذي هو المهر كوزن أجرة الطبيب وثمن الدواء؛ فهو التزام مال في حال النفع في الثاني تحصل به مالية في الحال غالبًا. ومن جحد التحصين بالنكاح كابر الطباع، فليس يجبر على الوطء، وإنما يجبر على العقد. قيل له: غاية ما ينتهي إليه التحصين عن الزنا في حق العقلاء النكاح. والوطء استيفاء حقه، يقف على طبعه، وليس بعده إلا الاستيفاء. فأما أن يحتاج إلى الجبر عليه، فلا. قال: فكان يجب أن لا يجبر المولى على الوطء ولا يخاطب به، بل يوثق إلى طبعه. وكان يجب أن لا تطالب به الزوجة، بل يقف على شهوتها. قيل: ما يجبر المولى، لكن يقال له: إما أن تفي، أو تطلق. وكذلك المولى سيد الأمة، يقال له: إما أن تطأ أو تتزوج أو تزيل ملكك لما فيه من الإضرار. قال: فكما أن الأمة إذا زوجها يجبرها ويخاطبها بتسليم نفسها وتمكينها من الوطء، كان يجب أن يقال للعبد إذا امتنع "وف ما يستحق عليك

وجرى في هذه المسألة فصل

من الوطء" إن لو كان مملوكًا عليه. وجميع ما ذكرتم في الفصد والحجامة هو الحجة عليكم. لأن ذلك يعقد مع الحجام والفصاد بغير إذن العبد. ثم ملك إجباره على تمكين الفاصد من فصده. فقل ههنا إنه يملك العقد ويملك إجباره على إبقاء الحق الذي يملك السيد، تحصين فرجه ونفع بدنه به. 430 - وجرى في هذه المسألة فصل قال قائل: لو كان العقد على الاستمتاع، لما صح العقد على العنين والمجبوب، ولا الرتقاء من النساء، لعدم عضو الانتفاع، أو منفعته التي بها يستوفى الجماع. قال: أما الصحة، فإنها وقعت على ما بقي من الانتفاع؛ وهو اللذة بالقبلة والضم والمعانقة. ويصح العقد على ما بقي؛ وملك الفسخ بما فقد من النفع الكامل. فأما أن يعدم العقد -مهما بقي -ما يتناوله من مقصوده، فلا. وهذا بمثابة المالية في الأعيان المتمولة مهما بقيت صح العقد ووقع عليها، لكن تفسخ لما فات منها؛ كالتشويش، والعفن في الأعيان التي يتولد فيها ذلك؛ ولا يمنع صحة أصل العقد.

شذرة في اشتراك العامد والمخطيء

431 - شذرة في اشتراك العامد والمخطئ قال مالكي: معلوم أن زنا العاقل بالمجنونة لم يتم فعله إلا بفعلها. وفعلها مقصر على إيجاب الحد. والحد أسبق إلى الإسقاط بالشبهة. ثم لم يوجب مشاركة المجنونة مع تقصير فعلها من نهوض فعله موجبا للحد؛ كذلك العامد. قال حنبلي ناصر للرواية التي لا توجب القتل على شريك الخاطئ: إن الزانيين جعل كل واحد منهما فعله فعلاً كاملاً في استدعاء الحد. وفعل الرجل تام. والتقصير في المرأة، وهي محل تقصير، لا يعود بتقصير الزاني؛ لأن لفرجها حرمة، وهو مشتهى كفرج العاقلة. فلم يبق للتقصير وجه سوى أنها لم تقصد. وعدم القصد منها لا يخرجها أن تكون محلا كاملاً لقضاء شهوة الفرج. فهي كالنائمة والجاهلة بتحريم الزنا المخدوعة. وفي مسألتنا اختلاط فعل الخاطئ بالعامد قصر فعل العامد. لأن النفس لم يتحقق زهوقها بهذا العمد؛ لأن للجراحة خطأ حط من الألم في إزهاق النفس، فلا يتميز لنا الخطأ من العمد. واختلاط ما يوجب ما يسقط يوجب إسقاط ما يسقط بالشبهة؛ كمحل الوطء في الجارية المشتركة. فإن كل واحد من الشريكين، إذا وطئ، فقد وطئ في ملك غيره؛ لكن لما كان مختلطًا بملك نفسه، غلب الإسقاط. وهذا أشبه من وطء العاقل للمجنونة.

مسألة بيع المستور بغيره

432 - قال حنبلي في مسألة بيع ما لم يره: المبيع مستور بغيره: فلم يصح البيع؛ كما لو باع الحمل في البطن. قال حنفي: ولم إذا كان كذلك منع الصحة؟ قال: لأن ستره بنفسه كبيع الصبر والجوز لو وقف صحة بيعه على كشفه لم يصبح بيع أصلاً، لما يعلم في ذلك من المشقة بقلب الصبر بطنًا لظهر، وكسر الجوز، وفي ذلك إتلاف له، لأن قشره يحصنه عن الزنخ والتلف. وإذا كان مستورًا بغيره، فذلك الغير يمكن فصله عنه، فلا يشق؛ كما أن لظهور الحمل غاية، فلا يشق الصبر عليه. وجرى في المسألة: إن الصفات معقود عليها. فقيل له: لا نسلم. فدل على ذلك بأنها هي المقعودة في البيع المغلب. بدليل أن بيع قفيز من صبره يصح. والعين بين القفزان الكثيرة مجهولة. لكن لما علمت صفات القفيز بعلم صفات الصبرة كلها التي القفيز جزء منها، لا جرم صح. فعلم أن المغلب في المبيع الصفات. 433 - قال من كره المتعة، أو قدم عليها غيرها -أعني متعة الحج: إنه يفضي إلى فعل محظور الإحرام والحج في وقت الحج وأيامه. فأقل الأحوال أن يكون الإخلال بالإحلال وتأخيره إلى وقت إحلال الحج أولى. وذلك في القران والإفراد.

استدل المرتضى علم الهدى الموسوي نقيب الطالبيين في مسألة متعة النكاح وقد سئل عنها بنهر طابق في بعض الأعزية

قيل له: إذا لم تتعين علة الإحرام في أيام الحج كلها، بل جاز أن يؤخر الإحرام إلى أن يضيق وقت الوقوف مع كونه فاعلاً جميع المحظورات في أوقات الحج، جاز أن يحرم من إحرام العمرة فيها ويتحلل؛ لأن التحلل ليس بأكثر من ترك الإحرام بالحج ابتداء. وقد جاز في أيام الحج، فجاز التحلل في أيام الحج. ولأنه الأولى من وجه مخالفة الجاهلية. لأنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور. فإذا فعل لك بجواز الشرع، وجعل الجواز مع مخالفة أهل الشرك، كان أفضل. ووضع المتعة إنما كانت لمخالفة عادتهم. 434 - استدل المرتضى علم الهدى الموسوي نقيب الطالبيين في مسألة متعة النكاح وقد سئل عنها بنهر طابق في بعض الأعزية فاستدل بقول عمر رضه: متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج، ومتعة النساء. وقرر الدلالة بأنه تضمن قوله رواية عن النبي صلعم حيث كانت في أيامه، ولا يجوز أن يكون في أيامه ذلك، ولا يعلمه. وتضمن نهيًا منه عما رواه عن النبي صلع. فقبلت روايته لكونه العدل الثقة الأمين. فدعا له الناس، وضجوا بالدعاء له. ثم قال: ولم أرجع إلى نهي رآه برأيه، وأترك روايته عن أمر أقر

مسألة المعدوم هل يصح أن يكون معلوما

النبي عليه؛ بل أحمل في تأويلي له، فأقول: إنه نهى لمصلحة رآها بأن كان قد جعل ذلك ذريعة إلى غيره من الفساد. وللإمام أن ينهي عن بعض المباحات، ويعاقب بحسب مصلحة زمانه. كما روي عن عائشة رضها: لو علم رسول الله ما أحدث النساء بعده، لمنعهن المساجد. ونهى النبي عن المثلة. ومثل أبي بكر وعلي ما رأياه بحسب الوقت ومصلحته. فأجاب القاضي أبو بكر -أو ولده -أشك في ذلك -بأنك لا تقول بأخبار الآحاد، ولا تعول على نهي من نهى عما أقر النبي عليه، ولا لعمر عندك أن يفعل ذلك. ومن فعل ما ليس له كيف تقبل روايته؟ فإذا لم يصح الدليل عندك، لم يصح أن تبني عليه صحة مذهبك، ولا إفساد مذهب غيرك. لأن إفساد مذهب الخصم، وتصحيح مذهب الإنسان، لا يجوز إلا بدليل يعتقد المستدل صحته. 435 - قال بعض علماء المعتزلة: المعدوم لا يصح أن يكون معلومًا. لأن العلم نوع تعلق؛ وما ليس بشيء، لا يتعلق عليه، ولا يضاف إليه. قال له حنبلي: فليس بين العلم والجهل واسطة. فإذا لم يكن عالمًا به، فنقول إنه جاهل به. قال: [ليس] كما وقع لك؛ بل بينهما واسطة، لا علم ولا جهل. وهو أن المستحيل لا يوصف القادر على غيره، حيث لم يقدر عليه، بأنه

شذرة في النسخ

عاجز. لأن المستحيل في نفسه ممتنع الوجود، لا لأمر يرجع إلى قدرة القادر. فكذلك المعدوم، لا يتعلق العلم به، لا لمعنى يرجع إلى قصور العلم فيكون جهلاً، بل لأنه في نفسه يستحيل أن يكون معلقًا، أو متعلقًا عليه. فكما لا يكون المستحيل في نفسه يوجب للقادر عجزا، كذلك هنا استحالة تعلق العلم على المعدوم لا يوجب للعالم الذي لا يعلمه جهلاً. قال الحنبلي: فقد أكذبك القرآن بقوله: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه}. فأخبر عما لم يكن، إن لو كان، كيف كان يكون. قال المعتزلي: إنما أخبر عما علمه في نفوسهم. وذلك موجود عندهم. ومن علم شيئًا فأخبر عما يكون من حال ما علم بحسب ما علم، فما تعلق علمه إلا بموجود، لا بمعدوم، وهو ضميرهم بأن {لو ردوا لعادوا}. ولهذا قال سح: {وإنهم لكاذبون}. فعاد التكذيب إلى قولهم. 436 - شذرة ذكر بعض أهل الكلام في نصرة منع النسخ: قولكم، يا معاشر القائلين بالنسخ لأجل المصالح الربانية، مثل نسخ تحريم الخمر بعد ما جرى من حمزة، ما أعجب قولكم بأنه صان المنع مصلحة! وكيف يكون في الثاني مصلحة وقد وقع فعل حمزة مفسدة؟ فما كان أحوجنا إلى تحريمه قبل وقوع تلك المفسدة! لأن الحكيم، كما يمنع من الفساد العام، يمنع من الفساد وإن قل. قال حنبلي: إن من الحكمة أن مكن من الشرب ليقع ما يكون له

وقع في الحس؛ ثم يجيء النسخ بعد ذوق وبال العربدة وحصول المفسدة. قال الخصم: وما معنى الأصلح في الزمان؟ والأصلح يعود إلى فعل الفاعل القادر على إصلاح كل فاسد. ولا صنع للزمان في الفعل، ولا للطباع. وإنما يعود الفعل على فعل الفاعل على صفة تبعد من الفساد، وتقرب من الصلاح. فهلا فعل ذلك أولا، ولم يفعل فعلاً فيحكم بحسنه، ثم يشرع شرعًا فيحكم بحسنه، ثم ينسخه فيصير قبيحًا؟ وهل هذا إلا نفس البداء، مع كون الفعل واحدًا، والزمان معطلاً من نفع وضر وإصلاح وإفساد؟ قال له متكلم محقق: المصالح، وإن كانت تختلف باختلاف الأزمان، فالله تع جعلها مصالح في زمان فأباحاها رفقًا بأهل الزمان بحسب ما خلقهم، وحرمها في زمان بحسب ما خلق. وقولك إنه قادر صحيح، غير أن مع خلق القدر للمكلفين وتركهم والتكليف من غير جبر على الخير، ولا منع عن الشر، فلا بد من مصالح بحسب دواعيهم وأحوالهم. وكما أنه يغير خلقهم وأرزاقهم من قلة إلى كثرة، ومن صغر إلى كبر، ومن صحة إلى سقم، مع قدرته على أن لا يفعل ذلك، ولا يكون بداءً، فكذلك تغير الأحكام في حقهم بحسب مصالحهم ولا يكون بداء، وكونه قادرًا على أن لا يغير حالاً، وقد غير، ولم يخرجه ذلك إلى عجز ولا سفه، وحاشاه! كذلك تغيير أحوال مللهم.

فصل في بركات مجاهدة النفس

437 - فصل لو لم يكن من بركات مجاهدة النفس في حقوق الله، والانتهاء عن محارم الله، إلا أنه يعطف عليك فيسخرها لك ويطوعها لأمرك حتى تنقاد لك، ويسقط عنك موونة النزاع لها والمجاهدة حتى تصير طوع يدك وأمرك، تعاف المستطاب عندها إذا كان عند الله خبيثًا، وتوثر العمل لله وإن كان عندها بالأمس كريهًا، وتستخفه وإن كان عليها ثقيلًا، حتى تصير رقًا لك بعد أن كانت تسترقك. وكذا كل من حقق العبودية لسيده استعبد له من كان يملكه، وألان له ما كان يعجزه. قال سح: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}، بعد إخباره {وأحضرت الأنفس الشح}. فقد أبان عن أن له أقوامًا يوفيهم ويقيهم ما أحضره النفوس. وقال: {وأصلحنا له زوجه}. وهو الذي قال: {إن من أزواجكم وأولادكم عدوًا لكم فاحذروهم}. ما أبرك طاعة الله على المطيع! قوم سخر لهم الرياح والمياه والحيوانات؛ وقوم أعاق عليهم الحوائج، وكسرها في صدورهم، وجعل كرامتهم مسامحة النفس بما أعاق. وربما علت طبقة أقوام، فتلذذوا بالقضايا والأحكام.

فصل جرى في المجاراة في آيات قرآنية

438 - فصل جرى في المجاراة قال شيخ مرجئ في بعض المجالس التي خضرتها: قال الله تع: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها}. ومعلوم أن قوله {لا يجزى إلا مثلها} تمدح منه سح بالعدل، كما تمدح في قوله في الحسنة: {فله عشر أمثالها}. وما خرج على سبيل المدحة لا يجوز أن ينفى عن الله سح بحال. لأن نفيه نقص، وحوشي من النقائص. ولهذا أمرنا بالعدل، فقال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. ومعلوم أن المماثلة لا من طريق الصورة ههنا، لأنه لا يشتم يوم الجزاء من شتم في الحياة، ولا يقتل من قتل ويقنع بذلك جزاءً. لم يبق إلا أنه أراد المثل مقدارًا بعلمه سح يوازي به مقدار الجريمة. كما أن الحد في دار الدنيا ضرب بالعصا أو رجم بالحجر أو حبس أو نفي أو قطع. والجرائم سرق وشرب خمر وغير ذلك، مما لا يماثل العقوبات. لكن المثل مقدار علمه الله سح، يصلح للردع والزجر في الدنيا، وما يستحق من مقدار العذاب في الآخرة. ثم عقب ذلك بقوله: {وهم لا يظلمون}. ومعلوم أن هذا يكشف عن أن قصده بذكر المثل أنه لا يزيد على السيئة بأكثر من جريمتها. ومعلوم أنه يبطل جميع هذه المدح ويخرج عن الموضع الذي قصدت به بتخليد النار أبدًا بعد أبد بغير انقضاء.

قال له قائل: لعله أراد {مثلها} لا في المقدار ولا في الجنس، لكن أراد به أن يجازي على السيئة بالسيئة. ولأن الجريمة، إذا كانت معصية لصاحب رتبة، كانت عقوبتها بقدر رتبة المعصي. كمن ضرب ملكًا، استحق النكال؛ ولو ضرب واحدًا من جنده، لاستحق بحسبه. ولما كان الله سح لا غاية لعظمته، كانت عقوبة عاصيه بحسب ذلك. قال المستدل: لا يجوز أن يكون المراد به: مثلها سيئة. لأنه ذكر في الحسنة تضاعف المقدار بقوله: {فله عشر أمثالها}؛ دل بعد ذلك قوله {من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} أنه راجع إلى مثل في المقدار بمعنى ليس فيه تزايد يحصل به الحيف والظلم. وأما قولك إن العقوبة على قدر الرتبة، فليس ذلك لأجل الرتبة، لكن لما أدخل على صاحب الرتبة من المعيرة والضرر بما ألحقه به. كمن رجم ملكًا، أو لطم إمامًا أو قاضيًا؛ فإنه يكسر ذلك من جاهه ما يقتضي السياسة المبالغة في الردع عنه. فأما الباري سح فإنه لا تدخل عليه المضرة ولا المعيرة؛ وهو الغني عن العقاب. وكان العدل في حقه الموازنة بين الجريمة وعقوبتها من غير زيادة. قال له قائل: فما لا تدخل به المعيرة والمضرة نقبح فيما بيننا العقوبة عليه. كالاستناد إلى ظل حائطه متعريًا عن ضرر، لا جرم لم تحسن العقوبة عليه؛ كذلك في حق الله تع ولو عاقب معاقب على ذلك، لعد ظالمًا. والله سح يعاقب على معاصر لا تضره، ولا يكون ظالمًا بأصل العقوبة. كذلك لا يوجب أن يكون ظالمًا بمقدارها وزيادتها.

فصل في الماء إذا خالطه غيره من المائعاتر التي لا ترفع الحدث

439 - فصل في الماء إذا خالطه غيره من المائعات التي لا ترفع الحدث التحقيق في ذلك أن الخل، إذا جرى على العضو، لا يرفع حدثه. فهذه مقدمة صحيحة، متفق عليها بين الفقهاء. فإذا خالط الخل الماء، فغاية ما تنتهي إليه المخالطة نفي الأجسام التجاور بالأجزاء اللطيفة. إذ قد ثبت استحالة مداخلة الأجسام بعضها في بعض، مائعة كانت أو جامدة. لأن الجسم والجوهر يملآن الحيز الذي يقومان به من الخلاء. فإذا دفعنا إليه جزءًا آخر أو جسمًا آخر، فغاية فعل ذلك الجزء المدفوع، أو الجسم، أن يضامه أو يدفعه عن مكانه إن كان أقوى منه، ويدخل مكانه؛ كدخول الماء على الهواء الذي يكون في خلال الأجسام اليابسة المتخلخلة، كالرماد والتراب والجص. ويدل على إخراج الماء للهواء ما يحدث من النفاخات الخارجة منه. وإذا ثبتت هذه القاعدة، فلابد من مرور الأجزاء المتجاورة على الأعضاء المحدثة فما تم من أجزاء الخل لا يرفع مشتركًا كما لا يرفع منفردًا. وهذا التحقيق لا جواب عنه إلا بالمناقضات. فأما إذا سئل عنه وألزمه من لا يلزمه مذهب لمن أجاز ذلك، فلا محيص له عنه. 440 - فصل في الأعذار هل يفسخ بها عقد الإجارة قال حنفي إمام في أثناء كلامه عليه: في المقام على العقد ضرر.

وجرى من الشريف أبي طالب الزينبي فيها فصل

فثبت له الفسخ. كما لو ضرب عليه ضرسه، فاستأجر قلاعًا، ثم سكن قبل القلع، فإنه لما كان في مقامه على العقد إضرار به، فسخ العقد. كذلك إذا اكترى جملًا ليحج عليه، فمرض، إن خرج أضر بنفسه، وإن أقام على العقد ولم يركب أضر بماله، فوجب أن يثبت له الفسخ. فأجاب حنبلي يليه: باطل بالعين. في الأجرة ضرر، ولا يوجب الفسخ عندك. والأصل صار سكون السن متعذرًا به القلع شرعًا وطبعًا. فصار كتلف العين المستأجرة والمبيع قبل القسم. وههنا لم يتعذر استيفاء المعقود عليه، ولا حصل نقص؛ وإنما حصل عذر في العاقد. فهو كما لو اشترى جملًا ليحج عليه ثم مرض، أو بستانًا فجف الشرب. 441 - وجرى من الشريف أبي طالب الزينبي فيها فصل فقال: البقاء على العقد أحد موجبي الإجارة؛ فجاز مخالفته لعذر غير العيب، كرفع اليد بعد انقضاء مدة الإجارة. فإن موجب العقد التفريغ للعين المستأجرة عقيب انقضاء المدة من الزرع وغيره. ومع ذلك يجوز مخالفة هذا الموجب بالمقام واستدامة إشغالها إذا انقضت وزرع المستأجر لم يستحصد، ويكون عليه أجرة ما يبقى من المدة بعد انقضاء المدة الأولى.

فأجاب حنبلي بأنك أبعدت بين الشبهتين. لأن دوام العقد هناك تأكد، حتى تخلف عن المدة مراعاة لحق العقد وما استند إليه من المدة لأجل العرق الثابت به. فكيف يحصل هذا موجبًا لفسخ العقد قبل تمام المدة مع تهيؤ العين المستأجرة لاستيفاء ما عقد عليه من منافعها؟ قال الحنبلي: ولأن المستأجر لا يجد عن الأرض المستأجرة بدًا؛ لأن ما بقي على الغلة من التمام والنماء لا يجده في أرض أخرى بتفرعها عنه بل بقلة إتلافه؛ فبقينا المال لأجل الخوف عليه. وفي مسألتنا، له في العين المستأجرة ما عقد عليه، وغيره بذل عنه في اللبس والركوب والإجارة من غيره. وليس من تمام انتفاع العين أن يكون هو المستوفي؛ بدليل أن حال الصحة لا يتعين الاستيفاء به. ومن تمام الانتفاع بالأرض المستأجرة للزراعة أن يكون إبقاء المنفعة وتمام الزرع بها. ولأني لا أقول ببقاء الأرض المستأجرة، لكن تكون في يده أمانة. ولهذا تكون الأجرة فيما يبقى بعدة المدة أجرة المثل، زادت على المسمى الأول أو نقصت. وهنا ليس من أحكام العقد. ونحن كلامنا في العقد هل يفسخ أم لا. وبقاء الزرع بعدة المدة ليس مخالفًا لموجب العقد؛ لأن موجب العقد بقاء الزرع في الأرض بالعقد؛ وليس بباق عندنا بالعقد، ولكن بحكم أنه مال مشغول بمال الغير لا على وجه التعدي.

مسألة تحريم المصاهرة

قال الحنفي: فكان يجب أن تقول في الأرض المستعارة للزراعة مدة، إذا انقضت المدة قبل استحصاد الزرع، أن تبقى. وأنت تقول ((له القلع)) - أعني للمعير الذي هو صاحب الأرض. ويكون عندك عوض ما نقص زرعه بالقلع. وعندي لا يستحق شيئا. فهلا جوزت هنا قلعة إذا كانت المدة قبل انقضت ويغرم له ما نقص؟ وأجاب الحنبلي أيضًا بأنه يجوز أن يستحق ما لم يعقد عليه ببقاء المعقود عليه للعذر، ولا يفسخ فيما عقد عليه. كالمشتري يستحق ما لم يعقد عليه، وهو نصب الشريك بالشفعة. ثم لا يفسخ البيع في بعض ما عقد عليه للحاجة. بيانه لو اشترى شيئًا ثم طرأ عليه عذر يمنع من استيعاب المبيع بالابتياع لعذر أغنى عن جمعه. كمن اشترى خفًا بمهاميز لحرب أو سفر؛ انطفت ثائرة الحرب واختل الطريق، فقعد عن السفر، واحتاج إلى الخف وحده؛ أو دارًا وبستانًا، فانقطع الشرب، فصار يستضر بالبستان وينتفع بالدار فقط، فإنه لا يفسخ في ذلك، ويقتطع ما يحتاج إليه خاصة. وبمثله مستقطع ملك الغير بالفعشة وما اشترى الشقص المشفوع بعوضه كما يستديم نفيًا من المدة ما لم يعقد عليه بعوض مثله. 442 - استدل حنبلي على تحريم المصاهرة بمحظور الوطء بأنه فعل يحرم،

شذرة في الماء المتغير بالطاهرات

فاستوى مباحه ومحظوره في نشر الحرمة، كالرضاع. قال شافعي: ليس الفعل في الرضاع هو المحرم. بدليل أن الصبي لو دب إلى يدي مجنونة أو نائمة فارتضع منها، نشر الحرمة. وإن كان فعل الطفل لا حكم له، والمجنونة والنائمة لا يضاف إليهما فعل، لكن المغلب في الرضاع حصول اللبن في جوف الصبي في الزمان المخصوص. ولو غلب الفعل، لكان جميع ما نقدمه من غصب اللبن وإكراه الظئر هدرًا. لأنه ينتهي إلى ارتضاع الصبي؛ وفعل الصبي لا يوصف بالخطر والإباحة. بخلاف الوطء؛ فإنه فعل، ويتصف بالتحريم والإباحة. ولأن الرضاع لا يقف على المقصود عندك، حتى إن لبن الميتة عندك يحرم والوطء يقف على المقصود؛ لأن وطء الميتة لا ينشر الحرمة. قال الحنبلي: إذا حققنا عليك، فاللبن هو المحرم. لأن الشرع علقه على نشر العظم ونبت اللحم وفتق الإمعاء. وذلك فعل اللبن، دون الشارب والمرضعة. واللبن نفسه إذًا كان نجسًا محرم العين، وقد نشأت عنه الحرمة. 443 - شذرة في الماء المتغير بالطاهرات قال حنفي: طاهر؛ لم تسلب الماء اسمه، فلم تسلب حكمه؛ كالعود. قال شافعي: إلا أنه سلبه إطلاقه، والعود لا تنتشر أجزاؤه، بل يغير ريح الماء مجاورة لا ممازجة.

حادثة في غزل النسوة بعضهن لبعض هل يجوز أو يدخله الربا

قال الحنفي: اسم الماء غير معتبر به الإطلاق؛ بدليل: تغيره ريح العود. واعتذارك عن العود بأنه لا يمازج، فأليس النجاسة الرخوة تمازج، كالأرواث والأبعار، والنجاسة الصلبة لا تمازج، وهي شعر الخنزير وعظمه، ويستويان في تنجيس الماء؟ هلا تساويا ههنا في إزالة حكم التطهير عن الماء؟ 444 - حادثة سئلت عن نسوة يغزل بعضهن لبعض، يسمونه ((نوبة روزجار.)) وصفته أن تخرج كل واحدة قطنا تفره عليهن. فتحصل مبادلة بالعمل. قلت- وبالله التوفيق: يجوز؛ لأن الأعمال لا يدخلها الربا. فأكثر ما فيه أن يكون غزل واحدة أجود من الأخرى؛ فهو ارتفاق بالأعمال. وقد جاز مثل ذلك في أعيان يدخلها الربا؛ وهو قرض الخبز والعجين ويرد الخبزان أقل وأكثر. ولما سألت عائشة رسول الله صلعم، قال لها: ذلك من مرافق الناس. فإذا كان الإرفاق والارتفاق أجاز قرض العجين والخبز وإن اختلف القضاء والمقترض، فأولى أن يجوز ذلك في الأعمال التي يجوز أن تدخلها المفاضلة.

فصل في أن الله لا يكلف إلا بالإعانة وإزالة العوائق

445 - فصل أما ما كلفك من الفرض، فقد آتاك قدرة عليه استطاعة له. وأما ما ندبك إليه من الفضل، فقد أعد لك بإزائه ألطاف. فإذا أديت الفروض، أمدك بالألطاف ليكمل بفعل الزيادات من الفضائل. وأنت إذا أهملت الفروض، وقصرت في الحقوق، سولت لك نفسك أن تعتذر بعدم التوفيق والإعانة، فتقول: ((لو وفقني! لو أعانني! )) ما أغفلك عن الحجة له! وما أجراك على الاحتجاج عليه بما لا يورثك إلا بعدًا من الله! ما استزاد الله سح إلا متقاعدًا بحقوقه أو محتكرًا شره في حظوظه. وإلا فما أعدم الله أحدًا ما يوصله إلى طاعته. خذ إنصاف الحق من قوله لرسوله صلع: {قم فأنذر}؛ {وأنذر عشيرتك الأقربين}. ثم قال له من طريق الحث واستخراج ما عنده من الوسع: {بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}. وعلم أن في الطبع نوع انحساس من الناس فقال: {والله يعصمك من الناس}. فما زال ما في النفس من الضعف بالخوف من الجنس بضمان العصمة منهم، حينئذ اشتطت النفس وثابت القوة. وإذا كان الحق لا يكلف إلا بالإعانة وإزالة العوائق، صار من خداع النفس طلبها للتكليف معاني زائدة على ما آتى. لأن ذلك نوع تسويف بالتكليف، لانتظار ما لا يلزم.

فصل آخر في تكليف الله العبد

446 - فصل لو عرفت قبل الأعمال، سهلت عليك؛ لكنك لم تتقن المعارف، فثقلت عليك التكاليف. وما استعمل قط إلا المعارف. فينبغي لك أن تتقن عرفان المكلف، وتنظر كيف التكليف على أركانك، ثقيلًا أم خفيفًا. إذا فتحت عينيك ونظرت، ثم أمعنت فكرك، فخبرت حال هذا الدائر المرصع، وتصاريف هذا الكون المجنس المنوع، وتقلب هذا المبدد المجمع، وشهدت بعقلك ما وراء من المؤثر العظيم الذي خلق أبدع، فبصر وأسمع؛ ثم تنظر في حال السفير الذي أبهرت العقول معجزاته: إن انتقل عن الخطبة على جذع حن إليه، وإن تناول حصيات سبحن في يديه، وإن أشار إلى القمر انشق، وإن ترك يده في إناء فار بالماء وجاش، وإن استدعى شجرة أسرعت، وإن كلم ظبيًا أجاب، وإن استدعى ببعير سجد، وإن برك يده على صدر ضال اهتدى، وان تفل على ملدوغ برئ، وإن أشار إلى جو قد أجدب والتهب عاد بالغمام محتجبًا وبالغيث هاطلًا ساكبًا؛ ومن طوعت له الأشياء كذا، وجبت طاعته على سائر الورى؛ فإذا خبرت ونظرت إلى المعنى الذي إليه يشير، وعرفت مقدار الداعي إليه سح والسفير، تذللت لك نفسك بطاعته فيما إليه دعاك، ولم تعبد بعد الهدى والإيمان هواك. فهنالك- والله- هان عليك ما بذلت، وعظم عندك قدر من أطعت، وإليه بطاعتك تقربت.

آية قرآنية وتفسيرها

447 - قال بعض [أهل] العلم في قوله تع {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} - قال: معلوم أن الصور والأشكال لا تدل على أسمائها إلا بفهم معانيها؛ ومعانيها هي ما وضعت له. فإن كان قد عرض عليهم أشكال الأشياء وصورها، فيكون الامتحان لهم لا شيء يصلح حتى يعطي الامتحان حقه. إذ لا يعطى الفهم الاسم. والامتحان مما لا طريق إليه تكليف ما ليس في الوسع، ولا عليه دليل. وإن كان العرض للأسماء، فالسؤال لماذا يصلح من الصور؟ 448 - فصل في تأديب معترض بجهل ترى آحاد هؤلاء العوام الطغام يتقاعد عن الأعمال ويتكاسل، حتى إذا ضاق به الرزق، ووقفت عليه الأمور، وتشعثت أحواله، رمق علجًا من علوج الأجناد، أو غاصبًا للأموال، قد احتشد الغصوب والنهوب، وجحد الودائع، ومد يده إلى مال اليتيم، وباع بالربا، وقامر، وقد عبل لحمه، وخرجت بطنه، وترفل في حلل الديباج والحرير، مخالفًا للباري في الأثمان، متعديًا على الشرع باللباس، وقد علا مركبه، وقلده فضته وذهبه، - فشفع توانيه في الاكتساب بصرف اللوم على باريه فيما جناه

مسألة القيم في الزكوات

ذاك من الاغتصاب: ((فقد أعطى هذا المتمرد ومنعني، وأشبعه ما أشبعني، ومتعه وما متعني، وأعطاه وحرمني)). فيا سبحان الله ما أبخسكم لحقوق الله! وإلا فمعلوم أنه قد أمرك بالارتياد لتحصيل الرزق، وما حصلت. ونهى ذاك عن أخذ ما ليس بحق، فلم يصرف اللائمة إلى العاصي الطاغي، الخارج عن أمر الله، العاتي. وأنت تسمع ما ورد في القرآن من الوعيد لمن ارتكب ما ارتكب، واحتقب من الإثم ما احتقب. فلا صرفت اللوم إليه، لا عتبت في التشرد على الله عليه. عدت باللوم على الكريم الحكيم الناهي عن جميع ما ارتكب. فليتك لما ضاق بك الرزق، لمت نفسك في تقصيرك، حيث أقدرك وما تسكعت، وقواك وما تصرفت، ولمت ذلك الظالم على قبيح ما ارتكب. فأما أن تصرف الذم إلى الله تع، فما أطلق ألسنتكم بالذم لأفعاله والاعتراض على أفعاله! أعاذنا الله من الاعتراض على مقاديره! 449 - استدل شافعي فاضل في مسألة القيم في الزكوات بدليل اختاره الشيخ الإمام أبو سعد المتولي- حفظه الله- وهو أن الإجماع منا حاصل على أن قيمة الأضاحي لا تقع موقع الأضاحي. ولابد من معنى لأجله وقفنا على نفس ما نص عليه الشرع من بهيمة الأنعام. وليس ذلك المعنى إلا أن الله سح لا يأمر إلا بما فيه حكم. فنحن إذا اتبعنا ما أمر به، علمنا موافقة مراده والمصلحة فيما أمر به. وكما أن له في أعيان الأموال إرادة وحكمة، ولنا فيه مصلحة

وفائدة، له في أوصاف الأموال كذلك. فكما لم تعدل عن المال إلى غيره لعلة هي أن لا تأمن تجنب المعالج، ومواقعة المفاسد، والعدول عما يرضي الله سح إلى ما يسخط، كذلك في عدولنا عن بهيمة الأنعام إلى غيرها من الماشية، اتباعًا للقيمة دون صفة العين المنصوصة. قال حنبلي ناصرًا لإحدى الروايتين: بئس الوضع هذا. وذاك أن وضع الأضاحي على غير المعقول. لأن إيلام الحيوان لا مقابلة، ولا ضرورة وإلجاء، ولا دفعًا عن النفس، قبيح في العقل عند قوم لسنا منهم؛ حيث نقول إن العقل مطابق للشرع، وإنه لا يرد الشرع إلا بما يوافق العقل. غير أنا نقول، وإن كان العقل لا يقبح إيلام الحيوان فما يعقل وجه حسنه؛ وما لا يعرف ولا يعقل علة حسنه، لا يصح أن يقاس عليه. لأن القياس تعدية الحكم، باتفاق، في علة الحكم. ولا علة تظهر فنعدي بها. هذا في باب الأضاحي. فأما في مسألتنا، فإن العلة معقولة؛ وه يسد خلة الفقر. ولهذا أشار الشرع إلى ذلك، حيث أوجب الزكاة في القيم كما أوجبها في الأعيان؛ وجوز دفع القيم عن الأموال التي ليست فيها، كالعروض. وجعل ما بين السنين الأدنى والأعلى عشرين درهمًا، أو شاتين. ومعلوم أن ليس في الدراهم ما في السن من در، أو نسل، أو لحم. لم يبق أن يكون تقريب الدراهم من السن إلا حصول سد الخلة بها، وبالمالية التي فيها. وهذا موجود في الأصل. لأن ما تقومت صفاته وأسنانه تقوم في نفسه.

قال الشافعي: الأضحية معقولة، وإن القصد بها مؤاساة الفقراء بلحمها. ولهذا قال سح: {فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها}، {وأطعموا البائس الفقير}، {وأطعموا القانع المعتز}. وأما كراهية النفس الذبح واستبشاع العقل له، فمثله كراهية النفس لإخراج المال مجانًا بغير عوض؛ النفس مجبولة على كراهية ذلك. فأما إيلام الحيوان، فإن الرقة الداخلة على القلب والألم هو المستشبع للقتل لأجله. ولهذا تأباه النفس. وإن كان بحق، فلا اعتبار بإباء النفس له. وكل عقل قبح ما حسنه الشرع، فلا يعول عليه. ونحن اليوم نتكلم على ما نتفق عليه، لا على مذهب البراهمة، لا على مذهب من لا يفهم من الحشوية الذين يعتقدون أن في العقل ما يخالف الشرع، أو يرد الشرع بما يخالف العقل. فأما نحن فنتفق على أن الشرع لا يرد إلا بما يوافق العقل. فقولك ((إن الأضحية يتبشعها العقل)) كلام ساقط فيما بيننا. لم يبق إلا الرقة، والألم الحاصل بالذبح. وذلك قد حصل مع إقامة الحدود، وغير ذلك من الإيلام بحق؛ حتى إن النفوس لترق لبط الدبلة، وقطع الطرف من الآكلة. وإن كان العقل مستحسن ذلك حكمةً لحفظ الجملة وحراسة النفس، كذلك استبشاع النفس للذبح من علم العقل بحسن ذلك لحكمة الآمر به، وهو الشرع، وإن جهلت وجه المصلحة فيه. ولهذا، من لا يعتقد الشرع كان يتمدح بعقر الأنعام للضيفان. ويتمادح الناس بالذبح، كما يتمادحون بإخراج المال والبذل للطعام. فإذا ندر من

يستقبح ذلك، كان بحكم فطرة العقل من غير إعماله في النظر والفكر لاستخراج علة الاستحسان. وكل شيء لحظ. وليس ما يدرك ببداية العقول كان لحظة؛ بخلاف ما ينتهي إلهي تواني العقول. لأن الأول في العقل أن إيلام الحيوان ظلم وعدوان. فإذا نظر الإنسان في بعض الآلام نظرًا صحيحًا، علم بتأني عقله، أعني بتأني أحوال نظره، أن بعض الآلام أحسن من الكف عنها وتركها؛ كبط الدبلة، وقطع اليد المتآكلة، وما شاكل ذلك من الآلام للمصالح. وكذلك أدب الصبيان، وضرب التعزير، وإقامة الردعة والزجر عما قبح في الشرع والعقل؛ كل ذلك آلام مستحسنة. فليس إيلام الحيوان قبيحًا لنفسه؛ لكن يقبح إذا تعرى عن حكمة وخلا عن غرض ومصلحة. وما هذه حال ذبح الأضاحي؛ فإنها لم تخل عن فائدة ومصلحة. فخرج عن تقبيح العقل والشرع، وصار معلوم المعنى؛ وهو مؤاساة الفقراء بلحومها. وما جاز العدول عن بهيمة الأنعام إلى ذبح غيرها، ولا إلى قيمة اللحم. كل ذلك مراعاة للتعبد الشرعي أولًا، وهو الأسبق، إلى أن نجيء إلى مقصود الفقراء، ولما قدمت ذكره. وهو أنا لا نأمن أن تكون المفسدة في تنكب المنصوص ووقوعنا في المفسدة. وأما الإشارة إلى ما أوجبه الشرع من الشاتين والعشرين درهمًا، بدلًا من سنن فوق سن، أو سن دون سن، أخذًا من رب المال أو إعطاء له، فذاك ليس بتقويم. لأن السن لا يقف على ذلك قيمة مع اختلاف

الأزمنة. لم يبق إلا أنه بدل شرعي، أو جبران شرعي. فهو كجبران الصلاة بسجود السهو؛ لا يجيء منه إلا نقيس عليه جبرها بركوع، أو وضع الحد على الأرض، أو قراءة، أو غير ذلك من الأركان الواجبة في الصلاة. قال الحنبلي: أصل الإيلام في العقل مستنكر، إلى أن تقوم دلالة على تحسينه. وأصل المؤاساة بفاضل المال مستحسن، ولا يرد عقل ولا شرع بتقبيحه. وأصل بذل المال على وجه الدفع في الزكاة، وهو مؤاساة الفقراء، يستحسن. فلما جاء الشرع بالأضحية، زال تقبيح العقل لتحسين الشرع. حيث علمنا أنه تشريع حكيم، لا يبيح إيلامه إلا لغرض صحيح وحكمة. إلا أننا لم نجد علة تحسين ذلك، فنقيس غيره عليه ونبدله به. قال: وأزيد في ذلك كشفًا، فأقول: إن الله سح ابتلى المكلفين بأشياء تشق على أركانهم من صلاة وصوم، وعلى أموالهم من زكاة وتكفير. فمهما أبدلنا الشيء بالشيء، فإنما نتحرى مثله في التكليف ونقربه إلى المنصوص غاية التقريب. وبين الدينار والثوب والشاة المدفوعة تقارب، هو المؤاساة، وإن كان بعضها لسد الخلة، وبعضها لستر العورة، وبعضها لشبع الجوعة. فأما في مسألة الأضحية التي استدللت بها، فإن الابتلاء فيها، قبل تفرقة اللحم، الذبح. وهو أعظم ما ابتلي به المكلف مع وضعه على الرقة والحنو والرحمة للحيوان. فإذا عدل إلى لحم مشترى، أو قيمة

استدل حنفي في عين لفظ الإنكاح والتزويج

يدفعها، أسقط أكبر الابتلائين واقتنع بآخرهما، وهو المالية التي تسد الخلة. والابتلاء بطاعة الله سح في الذبح الذي وضع على ضد ما بني عليه الطبع، من الرقة والحنو والرحمة والرأفة، لا يوازيها مكابدة شح النفس في بذلك المال فقط. فصار بمثابة من اقتصر من دفع الزكاة على إيواء الفقراء في البيوت، محتسبًا لمنافعها وسكناها، استخدام لهم العبيد والدواب، محتسبًا بذلك من الزكاة. فأما دفع القيمة التي تحصل بها المؤاساة ومكابدة النفس في إخراج ما تضن به من المال، فلم يترك معه تعبدًا؛ بخلاف ما يترك من الذبح في الأضاحي. قال: والدليل على أن الذي لله في الأضاحي هو الذبح، وهو التعبد الأول، أنه يحتاج أن يتولاه من هو من أهل القربة ممن يهل لله؛ ولو تولاه من لا يهل لله، سقط حكم اللحم، وخرج عن المالية، وصار ميتة. ولو فرق اللحم ذمي، جاز. وإذا غلب الذبح، فبالقيمة يفوت ذلك التعبد. 450 - استدل شافعي في عين لفظ الإنكاح والتزويج فقال: أقرر بأن المسألة لغوية، وأن الألفاظ وضع لغوي تترتب عليه الأحكام الشرعية، فأقول: إن العرب إذا وضعت فإنما تضع حقيقة أو استعارة من حقيقة. ولفظا الإنكاح والتزويج وضعا لهذا الأمر وهذا العقد؛ فلا يجعل غيرهما نائبًا عنهما إلا بوجود معناهما. وليس في الهبة معنى النكاح، ولا معنى لفظه؛ لأنه إنما هو الازدواج والاجتماع.

قال حنبلي مذنبًا على متفقه حنفي: أنا قائل بموجب هذا الدليل؛ وإنني ما استعملت إلا ما فيه معنى النكاح. فأقول أولًا: إن ما عولت عليه من أن النكاح الاجتماع والائتلاف، ليس بصحيح. لأنه لو صرح فقال ((جمعت هبتي إليك، وشفعتها بك، وشركتها معك)) فقد أتى بصريح الاجتماع والتشريك، ولا ينعقد النكاح. فصار لفظ الازدواج خلوًا مما أردت. لم يبق إلا أن وراء ذلك مقصود العقد. وهو إما ملك الرقبة، أو ملك المنفعة، أو الحل. وأيها كان فهو داخل في لفظ الهبة، لأن ملك الرقبة حاصل، ويتبع ذلك حلها. وملك منافعها ملكًا يزيد على النكاح. وهو أنه يستمتع بنفسه، ويأخذ العوض عند إتلاف المنفعة، ويعقد عليها. فثبت القول بموجب العلة، وأن في لفظ الهبة معنى النكاح. قال الشافعي: في النكاح معنى التعبد. لهذا اعتبر له الشهادة، ويقدر العوض عندك. ووجب حكمًا، وإن لم يسم. واعتبر له الكفاءة، إما شرطًا، وإما اعتراضًا، لأجل العشيرة. وجعل ذلك تغليبًا لطلب المساواة. قال الحنبلي: ذكرك للتعبد بعد تعويلك على اللغة رجوع عن الأول، أو زيادة في الدليل. وهذا انتقال في حكم الجدل. وأما تعويلك على المساواة، فليس بصحيح. لأن المغلب في حق الزوج حكم المالك. ولهذا جعل إليه الإزالة، وانفرد بها دون العقود الجائزة، كالشركة والمضاربة؛ وجعلت النفقة عليه وله؛ وله المطالبة بالاستمتاع وليس لها. وهذه كلها

مسالة الزنا هل ينشر المصاهرة

علامات أن الملك له. فأما اعتبار أن يكون شريفًا، فهذا هو الدلالة على أن المغلب تملكه حتى لا يذلك بتملك الأدنى لها. كما منعنا تملك الكافر للمسلم، ومنعتم الاستدامة. ولو كان المغلب فيه الشركة والتسوية، لما منع؛ كما لا تمنع مشاركة الكافر للمسلم. قال الشافعي: أما جعل الطلاق إليه، فلأنه أثبت وأعقل؛ فلا يتسرع بقطعة ورفضه. والمرأة سريعة الغضب، غير مكينة الرأي؛ فلا تثبت أن تطلق لو جعل إليها. وأما الحبس لها، فلأنها سريعة الانخداع، شديد السبق، قوية الشهوة، ضعيفة العقل؛ فلا يؤمن عليها الدخول فيما تختلط به المياه ويفسد به الفراش. والرجل مأمون ذلك من جنبيه. وأما الإنفاق، فيتبع للحبس؛ وعلة الحبس قد بينتها. 451 - جرى من شافعي في مسألة الزنا ينشر تحريم المصاهرة: إن الزنا محرم محض؛ ومحال أن ينشؤ من محظور محض محرمية؛ وهي كمال حرمة تعم وتتعلق عليها إباحة الخلوة والسفر وغير ذلك. فأجاب حنبلي بأني لا أسلم أنه ينشؤ منه إباحة الخلوة. وإنما يوجب تحريمًا يصلح أن يكون عقوبة للزاني وتغليظًا عليه، ولا يحصل المحرمية نص عليه؛ حيث تعجب من قول أبي يوسف، وأنه ينظر إلى

فصل آخر في المسألة

شعر أم الزانية التي زنا بها، فقال: عجب نقيسه على الحلال. وإن سامحت بالكلام فليس يجب أن تكون الثمرة هنا من جنس الموجب والسبب. ألا ترى أن وطء الأب أمة ابنه محرم وإن لم يتمحض تحريمه لمكان شبهة الملك؟ وكذلك الأمة المشتركة. ثم نشأ من ذلك محرمية أباحت ما يباح من المباح المحض، هو العقد. 452 - وجرى فيها فصل إلزام تحريم الجمع بين الأختين، هذه يزني بها، وهذه يتزوجها. فلما لم يحصل ذلك كذلك، لا يحصل تحريم المصاهرة. فأجاب حنبلي شافعيًا بأني لا أسلم. فإن أحمد نص على تحريم تزويج امرأة إذا كان مصرًا على الزنا بأربعة. وإن سكت مسامحة فإن الجمع طريقه الجمع في الفراش، أو الجمع الذي به يتعادى به الأختان لأجل القسم. والزانية لا حق لها، ولا يظهر كونه معها. فيحصل التحاسد والتقاطع. ولو ظهر، ردعناه بالحد؛ فيزول حسد الأخت مع ردعه ومنعه. والتحريم لأجل الأخت تحريم دون رتبة تحريم الزنا. فلا يجوز أن نعلق على الزنا تحريم الجمع فنحطه رتبة، وتعلق الحكم على أضعف العلتين. 453 - وجرى من الحنبلي أن قال: الموضع المكروه من زوجته لا يستباح

في أن الوطء على أربعة أضرب، ثلاثة لقصد والرابع لا لقصد

بحال؛ لا بعقد، ولا ملك يمين. ومع ذلك إذا وجد وطؤه في ذلك المحل من زوجه تعلق تحريم المصاهرة. فأحرى أن ينشؤ التحريم عن وطء في محل يستباح بعقد؛ أو لا يكون أولى، ولكن يتساويان. هذا لأنه فرج، إن لم يكن مملوكًا حال الوطء، فهو بحيث يستباح بعقد. والموضوع المكروه إن كان من امرأة مباحة بعقد، إلا أنه في نفسه لا يستباح بحال منها ولا من غيرها بعقد ولا ملك. فيجب أن يتساويا في نشوء من الوطء فيهما. 454 - قال بعض العلماء: الوطء على ثلاثة أضرب: ما يقصد به النسل، ويقصد بالنسل كثرة الذكر والثناء، لا المكاثرة والمفاخرة؛ ما يقصد به طفي الشهوة، كيلا تطالبه نفسه بارتكاب الإثم، أو لتنطفي شهوته، فلا يكثر نظره إلى الصورة؛ والثالث أن يقصد قضاء حق الزوجة وطفوء شوتها، كيلا يحوجها إلى فعل ما لا يحل؛ والرابع وطء كوطء البهائم، بمجرد الطبع، لا لقصد. 455 - فصل من علم أن الآخرة إما بلى الأبدان وخراب البنية، أو دار مجازاة، اغتنم عبادة الله في هذه اللمحة. لأن بين قوله اليوم ((الحمد لله)) وبين قوله غدًا في دار السلام ((الحمد لله)) ما لا يستدرك مفاوتة بمعنى. لأن

حمد المنعم في دار التكليف عبادة وشكر؛ وغدًا، شكر بلا عبادة. والله لقد تحقق العارفون أن جمال الأركان بطاعات الإيمان أكثر من جمالها باستيفاء اللذات في دار المجازاة؛ واحتماءها عن الحرام في هذه الدار مراقبة لطاعة الله، وحذرًا من سخط الله، أكثر وأكبر من تناولها هناك وانبساطها في جوار الله. ولولا بقايا من الخدم في دار النعم، لما وازن ذلك البقاء السرمد هذا البقاء الذي عن قليل ينفد. لكن المعرف هناك تقوى، وعوارض الشكوك تنحسم باليقين. وقد قال الرجال قبلي، كيحيى بن معاذ: والله إنهم اليوم في قراطق الخدمة، أحسن منهم غدًا في غلائل النعمة. وأنا أقول: الخدم أوجبت لهم مدحة الحق، والنعم أوجبت منه الحق؛ وبين المدحة والمنة بون. قال فيهم على سبيل المدحة: {رجال صدقوا}، {رجال لا تلهيهم}، {رجال يحبون أن يتطهروا}، {يوفون بالنذر ويخافون يومًا}، {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}، {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنين مرصوص}. هذا أنبل وأجل في مسامع العقلاء المميزين من أوصافهم باستيفاء اللذات: {وفاكهة مما يتخيرون}، {ولحم طير مما يشتهون}، {وحور عين}، {متكئين فيها على الأرائك}، {ويطوف عليهم ولدان مخلدون}، {بأكواب وأباريق وكأس من معين}. لأن هذه أوصاف نعمة عليهم، وتلك أوصاف خدمتهم له؛ وأحسن حالتي العبيد حال الخدم وزي التبتل، لا الاستناد والتعطل. لكن تجملت الجنة على الدنيا بعلم اليقين.

شذرة في مسألة الخلطة هل تصلح قلة المؤونة أن تكون علة لإيجاب الزكاة

456 - شذرة استدل حنبلي في مسألة الخلطة، فقال: قلة المؤونة مؤثرة في الإيجاب؛ بدليل السوم في الماشية والسيح في الزرع. فإنه لما خفت المؤونة، وجبت الزكاة وكمل العشر. كذلك ههنا تتحقق خفة المؤونة في الأربعين التي له، المختلطة بالأربعين التي لغيره. فيجب أن يكون الواجب نصف شاة. فأجاب حنبلي معترضًا على دليله بأن خفة المؤونة لا تصلح أن تكون علة لإيجاب الزكاة، ولا سببًا. وإنما الذي يضاف إليه الإيجاب هو الغناء. والغناء هو تملك مال مخصوص جنسًا وقدرًا. ولا يجوز أن يعلق إيجاب الزكاة إلا على الغناء، كما لا يعلق استحقاق أخذ الزكاة إلا بالحاجة. فهذا الغني يجب عليه المؤاساة، لاحتمال ماله لها. وهذا الفقير والمسكين وسائر الأصناف يستحقون، للحاجة إليها. سوى العامل؛ فإنه يأخذها أجرة. إذا ثبتت هذه القاعدة للإيجاب، بقي الآن الارتفاق بقلة المونة، إما بسوم يقطع مونة العلف، أو بسقي سيح يكفي مؤونة النضح. فذلك ربما يصلح أن يكون شرطًا للإيجاب، لا سببًا للإيجاب. وإنما لم تصلح أن تكون علة، لأن الارتفاق بقلة المؤونة، علاوة على الغناء بالمال. لأن الغناء بالمال، الذي هو الأصل، والقدرة على الماساة به، وقلة المؤونة دون رتبة المال الذي قلت مؤونته. فالغناء بالسائمة، لا بالسوم. فتعليق الحكم على الآكد وقعًا في الغناء أولى من تعليقه على تخفيف هو فرع على الغناء. فإذا ثبتت هذه القاعدة، قلنا: لا نقاضيك إلا أصولك. إذ

ليس يجوز أن تستنبط علة لفرع توفي على علة الأصل. وقد علمنا بأن هذا الارتفاق بالاختلاط أخذته من الارتفاق بالسوم ومن السقي بالسيح. ومعلوم أن الارتفاق بالسوم فيما دون النصاب لم يؤثر إيجابًا في الأصل؛ حتى إنك جعلت السوم في عشرين من الغنم كلا سوم؛ إذ لم تتم علة الإيجاب، أو سبب الإيجاب. فليكن ههنا مثله قلة المؤونة بالشركة بين اثنين، كل واحد منهما له عشرون، غير مؤثرة في إيجاب الزكاة لقصور سبب الإيجاب. وكذلك السيح يجب به العشر في خمسة أوسق، لا فيما دونها، عندك. وهذا لأن الشرط لا يعمل إلا تمشية وتصحيحًا للسبب؛ كالحب والطريق لا يوصل إلى الأغراض إلا بعد حصولها في أنفسها. ومتى لم تتحصل حقيقة الغرض لم يصح أن يكون موصلًا. فإذا ثبت بطلان المذهب في أربعين مشتركة بين اثنين، بطل في ثمانين مشتركة. لأنك لا تفرق على أن أصل هذا الاستدلال باطل واه، لأنه لا يستقر على أمر واحد. فإنك جعلت قلة المؤونة ههنا موجبة للزكاة فيما ليس بمال يحتمل الإيجاب؛ وهي بعينها- أعني خفة المؤونة- حاصلة في ثمانين مشتركة. ثم تقيل الواجب على كل واحد منهما، فيوجب شاة عليهما. فيصير في كل أربعين نصف شاة. وهذا تقليل بنفس الشركة التي هي تقليل مؤونة وتخفيف لها. فكيف يستقيم لك أن تجعل خفة المؤونة علة أو سببًا للإيجاب، ثم تتبدل حكمها بعكسه، فتجعلها سببًا للتقليل والإسقاط؟ وليس هذا وضع الأصل الذي استفيت منه. لأن السوم

جاءت مسألة من الأصول هل إذا فعل المكلف كبيرة يخرج من الإيمان أم لا

لا يعود شرطًا ولا سببًا لإسقاط الزكاة، ولا بعضها؛ ولا السيخ في السقي يعود سببًا لإسقاط شيء من الواجب، ولا لإسقاط جميعه. فبطل وضع دليلك. 457 - جاءت مسألة من الأصول هل إذا فعل المكلف كبيرة يخرج من الإيمان أم لا؟ أجاب عنها بعض مشايخ الحنابلة بأنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام. واستدل بأخبار آحاد وردت في ذلك، وبما روي عن ابن عباس أنه ((يخرج كما يخرج من السربال)) أو قال ((كما يخلع السربال)) وقد روي عن أحمد مثل ما أجاب به. واختاره ابن بطة. فاعترض عليه حنبلي آخر، يعرف شيئًا من الأصول، اعتراضًا جيدًا، فقال: هذا يجيء على الأصل الذي لا يختلف المذهب فيه و [هو] أن الإيمان قول وعمل؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. ولو كان يزول، لما كان لقولنا ((ينقص)) معنىً. وإنما يجيء هذا على مذهب المعتزلة، أو الخوارج. فإن الناس على مذاهب. فالأشعرية تقول: لا ينقص أصلًا؛ لأن الإيمان هو مجرد الاعتقاد، والأعمال توابع. ومذهب الخوارج: يخرج إلى الكفر؛ وهو مذهب الإباضية؛ وسموه ((كافر نعمة)) وقالت المعتزلة: يخجر إلى منزله بين المنزلتين؛ لا مؤمن، ولا كافر؛ لكنه فاسق.

واستدل المعترض على فساد مذهب من قال يخرج من الإيمان بقوله تع: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، إلى قوله {إنما المؤمنون إخوة}. فسماهم: مؤمنين مع البغي والخروج على الإمام، وذلك معصية كبيرة. وقوله صلعم: لا يزني الزاني حتى يزني وهو مؤمن. أراد به ((كامل)) كقوله: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. فاعترض عليه حنبلي، فقال: معلوم أن المتحقق من قولك أن لنا أربع مراتب: إيمان، ثم انتقاص من إيمان يخرج إليه بالمعصية، ثم إسلام، ثم كفر. وأنا أقول: إيمان؛ فإذا فعل كبيرة، خرج إلى الإسلام؛ فإذا ارتد، خرج إلى الكفر. فإذا قلت أنا ((نخرج من الإيمان إلى الإسلام)) لم أبق على نفسي رتبة نخرج إليها، سوى الكفر. وأنت تجعل لنا بين الإسلام والإيمان الكامل رتبة ينبغي أن تكشف لنا عن رتبة الإسلام منفردة. ما هي؟ وبم تحصل؟ فأجاب بأن لنا إيمانًا كاملًا، هو مجموع أعمال وأقوال؛ من جملة أقواله وأعماله الإسلام. فالإيمان مجموع من جملته؛ ومجموع الإسلام. وإذا ثبتت هذه القاعدة، فمحصول كلامك، إنما هي عبارة؛ وإلا فهو داخل في قولي. لأنك لو سئلت عن الإسلام ((ما هو؟ )) لقلت ((هو بعض الإيمان)) إذ كان الإيمان مجموع عدد بعدد، بنيف وتسعين خصلة. وكل اسم لمجموع، إذا زال بعض المجموع، لا يقال ((زال كله)) بل ((زال بعضه.)) ومهما بقي له بعض لا يقال ((خرج منه؛ )) إلا أن يقيد

بأن يقال ((خرج إلى بعضه)) أو ((بقي على بعضه)) فكان محصول قولك ((خرج من كمال الإيمان إلى الإسلام)) الذي هو بعض. قال المعترض عليه: قد ثبت من أصلنا أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن. وقد فرق الله بينهما، ولم يجعل بينهما واسطة. فقال سح: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}. فنفى عنهم الإيمان، وأخرجهم إلى الإسلام. فدل على أنه لا واسطة بينهما. ولما جاء جبريل إلى النبي صلعم، قال: ((ما الإسلام؟ )) قال: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله.)) وساق الحديث. فقال له: ((فما الإيمان؟ )) ذكر أشياء، وهي الإيمان بالله، وملائكته. وساق خلال الإيمان. فأجاب عن هذا بأن قال: ((كل مؤمن مسلم)) صحيح. لأن الإسلام بعض، على ما قررت. وكل بعض لجملة، فلابد أن يدخل فيها. كما أن الثلاثة، لما كانت بعض العشرة، ففي كل عشرة ثلاثة، وليس في الثلاثة عشرة. وأما قولهم ((ليس كل مسلم مؤمن)) يعنون به مجموع الإيمان. وأما الحديث، فلا حجة فيه. لأن فضل النبي صلعم للإيمان عن الإسلام. فليس نجعله جملتين منفصلتين؛ بل إجماعنا حاصل على ربط الخلال التي ذكرها في الإيمان بما تقدم من ذكر الإسلام. لأن الإيمان بالله وملائكته بإجماعنا لا يكون إيمانًا إلا في حق من شهد أن لا إله إلا الله، وأتى بجميع خلال الإسلام. وإذا كان كل واحدة من الجملتين مربوطة بالأخرى إجماعًا منا رواية واحدة، صح ما ذكرت، وأن الإسلام بعض الإيمان. فلا يصح على أصل من قال إنه أفعال وأقوال؛ إلا أن يكون

مسألة في ساحة غصبت ثم بني عليها هل يكون الإجماع الموجب ردها قبل البناء عليها دليلا في المسألة أم لا

الإسلام بعضه، وأنه ما خرج من جميع الإيمان إلى غيره؛ بل خرج من كماله إلى بعضه ونقصانه. فصار كلام من قال ((خرج إلى الإسلام)) كلامًا معناه ما ذكره المعترض زعمًا. 458 - استدل شافعي في الساحة المغصوبة بأن الإجماع انعقد على وجوب ردها قبل البناء عليها. فمدعي إسقاط الرد بالبناء، عليه الدليل. فأجاب حنبلي بأن هذا ليس بدليل في المسألة. لأنك سئلت عن ساحة بني عليها؛ فذكرت دليلًا قام على وجوب رد ساحة لم يبن عليها. قال الشافعي: الساحة واحدة. وإنما يستصحب حكم الإجماع إلى أن يمنعني منه دليل. قال الحنبلي: أين الإجماع الآن في هذه المسألة؟ وأين العين، وهي متحصلة منها، وهي تابعة للملك العين؟ وذاك أن الإجماع تغير وتبدل حكمه بتبدل حكم الساحة وتبدل حالها. وذلك أن الإجماع، متى خولف، لم يسوغ اجتهاد معين في مخالفته. ومعلوم أن قبل أن يبنى عليها، كان الإجماع على وجوب ردها؛ بحيث من خالف فيه فسق. والآن صار من خالف في وجوب الرد، أو حكم حاكم حنفي بأن لا يجب الرد، وضمنها مالكها الغاصب، وسوغ اجتهاده، ونفذ حكمه. وهذا تبدل ظاهر. وإذا

مسألة الجد هل يسقط الإخوة

خرج الإجماع عن حكمه الذي هو تفسيق مخالفه، صار في حيز مذهب فقيه. واجتماعهما على مذهب لا يكون حجة. فإذا بان تبدل بهذه القاعدة، خرج عن أبي يكون مستصحبًا للإجماع، واحتاج إلى دليل على هذه المسألة. وما دل إذًا. 459 - استدل حنبلي في مسألة الجد، وأنه لا يسقط الإخوة، بأن الأخ والجد تساويا في قرابة الأب والإدلاء إليه. فهذا يقول ((أنا أبوه، )) وهذا يقول ((أنا ابنه.)) فوجب أن لا يسقط أحدهما صاحبه. فأجاب حنبل ناصر لمذهب أبي حنيفة: في الجد أبوة. من ذلك إرثه بثلاث جهات، كالأب؛ حتى إنه مع الابن، إن سقط عن تعصيبه، لم يسقط عن استحقاقه بفرضه، ويسقط الإخوة، والأخوات للأم؛ والإخوة للأب لا يسقطون ولد الأم. وذكر أحكام الأبوة من امتناع القود، والقطع في سرقة ماله، وامتناع شهادته له، وغير ذلك. قال: ذاك علته الإشفاق. قال له المعترض: فالإشفاق إشفاق أبوة؛ وإذا تساويا في علة الأحكام، كان أكثر من تساويهما في الأحكام. فهذا تقريب، لا فرق في المعنى. وإذا قرب من الأب، بعد الأخ منه. بطل ادعاؤك لتساويهما.

مسألة الخلطة هل تكون قلة المؤونة فيها تؤثر إيجابا للزكاة

460 - استدل حنبلي في مسألة الخلطة بأن كثرة المؤونة أسقطت بعض الواجب ي الزرع؛ وهو نصف العشر في حق السقي بالنواضح. فينبغي أن تكون قلة المؤونة في الخلطة تؤثر إيجابًا. قال له حنبلي: الإسقاط لبعض الواجب بكثرة المؤونة لا يعطي العكس؛ وهو الإيجاب بقلة المؤونة. ولو أعطى، لم يكن علة أصل الإيجاب؛ بل الزيادة في الواجب. وأنت تجعله ههنا لابتداء الإيجاب في عشرين لأجل عشرين مخالطة؛ وهذا بعيد. ألا ترى أن المشقة الحاصلة بالسفر، لما أسقطت شطر الصلاة، لم يجيء من ذلك أن تكون رفاهية الحضر توجب صلاة على من لا يجب عليه؛ بل إذا كمل سبب الإيجاب، وجب على المكلف الكامل. وكمال الشخص لإيجاب الصلاة، ككمال النصاب لاحتمال الزكاة. على أن المؤونة قد قلت بالخلطة في ثمانين مشتركة. فلم قل الخارج بإيجاب شاة، عندك، على كل واحد من الخلطتين، بعد أن كان الواجب في كل أربعين شاة؟ وجرى من الحنبلي المستدل أن قال: قد جعل مال كل واحد منهما كمال الآخر في جواز الأخذ- أعني أخذ الساعي. قال الحنبلي المعترض: جواز الأخذ لا يدل على أنه كماله في تكملة النصاب. لكن لأن كل واحد منهما، لما خالط صاحبه، صار له تبسط في المال. ولهذا يرجع بالضمان. ولو كان قد جعل كماله، لا نبرم الأخذ ولم يضمن. فلما ضمن، صار كأنه أخذه من ماله. جواب آخر: إن

مسألة امتحان [إذا وجد غزال مقرط هل يملك أو يكون مغصوبا]

خلط الماشية بالماشية، بحيث لا يتميز، جعل كالإذن من كل واحد من المالكين للساعي بأخذ الزكاة من أيهما شاء. 461 - مسألة امتحان قال: إذا وجد غزالًا مقرطًا هل يملكه، أو كان مغصوبًا؟ قال: لا يملكه؛ لأن القرط والحناء آثار تدل على حصوله في اليد. ويكفي في تملك الصيد حصوله في اليد. فيكون ذاك أثر الملك؛ وما عليه أثر ملك لا يملك؛ بدليل إحياء الموات. والكنز، إذا كان ضرب المسلمين، لا يملك بنفس الظهور؛ بل يكون لقطة، يجب تعريفه. 462 - سئل حنبلي عن حادثة جرت في زمن الصحابة، فاختلفوا في حكمها على قولين؛ ثم أجمع التابعون على أحد الحكمين. فقال: لا يصير إجماعًا. والدليل عليه أن الصحابة، حيث اختلفوا في حكم الحادثة على قولين، حظر وإباحة، فقد أجمعوا من حث اختلفوا. فاختلافهم في التصويب واتفاقهم على التسويغ. والتسويغ حكم من أحكام الشرع يتعلق عليه تنفيذ الأحكام، ونفي التفسيق، وتجويز الفتوى. فإذًا كان يجب

اختلافهم على قولين في الإباحة والحظر إجماعًا على التسويغ. فإذا أجمع التابعون على أحد القولين، فمتى حكمنا بإجماعهم إجماعًا، أبطلنا ما أجمعت عليه الصحابة من تسويغ القول الآخر. وفي ذلك قول بإبطال إجماع الصحابة. ولا سبيل إليه؛ لأنه إجماع معصوم؛ سيما وإجماع التابعين مختلف فيه. فليس في قوة إجماع التبايعن ما يقضي على إجماع الصاحبة. قال له معترض: فأليس هو اختلفت الصحابة في الحادثة، ثم أجمعوا على أحد القولين، قضي بالإجماع الثاني على الخلاف الأول؟ قال الحنبلي: أنا إن لم اشترط للإجماع انقراض العصر في صحة الإجماع، فلا أسلم جواز الاتفاق على أحد القولين بعد الاختلاف. قالوا له: فلا يمتنع أن يكون إجماعهم مشروطًا بأن لا يجمع التابعون على خلافه. قال الحنبلي: الإجماع مطلق إلى حين انقراض عصر الصحابة. فأما إذا ماتوا على ذلك، مدعي اشتراط نفي إجماع التابعين يحتاج إلى دليل. قالوا له: فأليس لو اختلفت الصحابة في حادثة على قولين، ثم أجمعت على أحد القولين، صار الثاني إجماعًا، وخرج الأول [عن] أن يكون إجماعًا؟ كذلك هنا. قال الحنبلي: أنا إذا اعتبرت انقراض العصر، تبينت أن الخلاف الأول لم يكن إجماعًا؛ لأن القائل نفسه قد رجع، وبان له الخطأ فيما كان أفتى به. وليس كذلك ههنا. لأنهم إذا ماتوا على اختلاف، كان

شذرة في بيع الإجارة

قول المخالف منهم باقيًا؛ وهو كالحي القائم، فلم يجز إسقاطه بالإجماع بعده. ألا ترى أن عليًا قال: كان رأيي وراي الجماعة أن لا تباع أمهات الأولاد؛ ورأيي الآن أن يبعن. ولو أجمعت الصحابة على قول، ثم أراد التابعون كلهم أن يقولوا كما قال علي، لم يجز لهم. 463 - شذرة قال شافعي في بيع الإيجازة: تصرف في مال غيره بغير ولاية ولا استنابة، فلم يصح؛ كما لو اشترى له بماله {أولياء بعض}. ولأنه باطل بقضاء دين إنسان من غير علمه، وإيقاف القضاء على إجازته، فإنه متى أجاز، صار الدفع قضاء. والشرى لا نسلمه على مذهب. 464 - شذرة في البيع الموقوف قال شافعي: تصرف في حق الغير بغير نيابة ولا ولاية. أشبه القبول. قال له حنفي: الإيمان ولاية. فلا أسلم: قال الله تع: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}. ولأنه تشكل بقضاء دينه بغير إذنه؛ فإنه يقف على إذنه. وجميع ما يتعلق به من الاقتيات عليه والفضول؛ حتى إنه يستحق العتب. كل ذلك موجود في قاضي دين الغير بغير إذنه.

قال الشافعي: قضاء الدين هو دفع ماله؛ فهو بأول الحال وبادرة التصرف إنما هو دفع لماله. وهنا يقول ((بعتك عبد زيد هذا)). وهذه بادرة تصرف فيملك الغير. فما استويا، ولا ينطبق أحدهما إلزامًا على الآخر. والولاية المذكورة في القرآن نشرها بقوله: {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}. قال الحنفي: إن كان قضاء الدين ببادرة القضاء للغير تصرفًا في ماله، فهذا الإيجاب ببادرة القول تصرف فينطقه. وقوله لكنه عزاه إلى عين هي ملك لغيره، كما عزا القضاء هناك إلى تفريغ ذمة غيره، وإسقاط المطالبة، ثم وقف تحقيق ذلك ونفاذه على إذن المقضي عنه الدين، كان يحب أن يقف هنا على إذن المنطوق عنه بالإيجاب في بيع ماله؛ ولا فرق. وقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} عام في الصلاة عليه، وتجهيزه عند الموت، والدفع عنه، وقضاء دينه، وتزويجه، والتزويح له؛ فلا يختص ببعض ذلك إلا بدلالة. وأما قوله: {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}، بيان لبعض ما تحصل به المولاة؛ بدليل ما بينا من الوجوه الزائدة على ما تضمنته الآية.

فصل تذكار في العبودية والربوبية

465 - فصل تذكار اعلم أنه لا تكتما العبودية فيك إلا بما كملت به الربوبية فيه سح. وكمال الإلهية أنه عظيم، مستوجب التعظيم. وعلى تعظيمه يدور التكليف. يطاع أمره، فلا يعصى؛ ويذكر إنعامه، فلا ينسى؛ ويسلم حكمه، فلا يعترض بـ ((لم)) قولًا ولا إضمارًا. مطلق بكل معنى؛ لا لكونه قاهرًا فقط، بللأنه حكيم غير مختل الصنع. فكما أن الأركان كلها خلقه يجب أن يتعبد له بالسجود تارة إذا أمر، وبالركوع أخرى، والانتصاب أخرى، وبالكف عن الشهوات، ويتناول في بعض الأوقات. كذلك العقل خلقه يقضي لأفعاله وأحكامه، ولا يقضي عليها بالتحكم الخارج عن التسليم. إن جمع، فحكمة ورحمة؛ وإن فرق، فحكمة وقدرة. فكما أن قدرته لا تقوى بالمدافعة، حكمته لا تقاوى بالمعارضة. كل شيء خلقه تحت تدبير العقل. والعقل تحت تدبير الرب. فإن أذعن العقل بالربوبية له، فينبغي له أن يذعن بالتسليم. لأن مربوبًا لا يرب، كما أن الرب لا يرب. يا ناقصًا في التكليف بكل معنى! يا مفلسًا من العبودية بكل حقيقة! أنت عبد من طريق الخلق قهرًا؛ هل كنت عبدًا من طريق التخليق طوعًا؟ ما أشد طاعتك للهوى مع كثرة جناياته عليك! وما أشد تجنيك على الخالق مع كثرة إتقاناته فيك! هل أجارك الهوى قط من ورطة؟

هل أخذ بيدك من سقطة؟ أليس غوائله كلها وعواقبه فسادًا؟ أليس حلاواته مرارات؟ أليس هو الذي يجمع على دعوة، ويفرق عن عربدة؟ أليس هو الذي يحمل على بطنة ونهمة تكون غائلتها نغصة بتخمة؟ أليس هو الذي يحمل على إعفاءة تكون غائلتها البيات؟ كم حلا لك أوله وأمر عيشك آخر؟ تعال إلى فعل الحق فيك. إن أمر، حلاك؛ وإن منعك، فعن دائك حماك؛ وإن ناولك، شفاك؛ وإن أظمأك، سقاك، وإن دعيته بعد التشرد عليه، لباك. وربما قبل أن تدعو باداك: يا عبد هواه! اعبدني، أستعبد لك الهوى. ياأسير الشهوة! فك نفسك بالحمية. ياأسير الجهل! افكك علمك باليقظة. يا أسير العمل بالربا! افكك عملك بالإخلاص. يا أسير الطمع! فك رجاءك بالمعرفة بمقادير الخلق. لا تعبد بطمعك جهات الرزق؛ ولكن اعبد الموجه. أنا، والله، الموجه، وهم الجهات. أنا المحرك للقلوب المعطية، وهم أدوات. إن أردت أن تشكرهم دوني، فاشكر السحاب والمطر والزرع والشجر. فإن الجميع مني، والكل خلقي، ولهم عندي شكر التكليف. يا سبحان الله ما أعجب أمرك! تعافى بشربة أو بمفصدة، تشكر الدواء وتبلجه، وتمدح المبضع وتعظمه. ترى ما لي في فعل المبضع وخاصية الدواء فعل ولا صنع أستحق به بعض الشكر؟ هذا شرك عسى غدًا يصير توحيدًا. أنت لا تجعل لي قسمًا من الشكر. فليتك كنت طبائعيًا خالصًا فتعرف بالطبيعة. فإن أفلحت ونجوت

من ذا، وقعت في بحر النجوم. فلا تعقد ولا تحل إلا بالمنجم. حتى صار دأبك: ((مطرنا بالسرطان))؛ و ((وقفت أموري بزجل))؛ و ((المريخ ما يدع لي السنة عيشًا صافيًا، ولا أمرًا ساكنًا؛ قد أوقع بيني وبين الناس الفتن)). أو تقول: ((السنة معيشي جيدة وعيشي طيب، لأن طالعي الزهرة، وفي بيت مالي المشتري)). ترى ما تقول عبده النجوم؟ حدثني بماذا يمتازون عنك؛ وبماذا تخرج من الشرك. أين الإثبات منك، فضلًا عن التوحيد؟ تعال اسمع مني تخليع إيمانك، وانصف في استماعك. تضيف الضرر الواقع بك إلى النجوم والأنواء، والمنافع الواصلة إليك إلى الطبيب والدواء. فإذا وقع منك مكروه، وتركت المفروض، تلهيت بنفسك في إضافته إلى قدر رب السماء، كأنك ما خصصته إلا بما عنه نهاك، حتى جعلته في الإثبات لإقامة عذرك في جفاك، وعذرك هذا لما أفلحت وأثبت، فإن لحقك من غيرك جفاء، أو نالك منه أذى، حنقت عليه حنق من ليس وراء فعله قدر ولا قضاء. ترى هذه الأقدار التي أثبتها، وهذه القضايا التي اعتقدتها، لا تحتك إلا فيك؟ أما هي على غيرك جارية؟ فإذا قامت لك الأعذار بها، هلا أقمتها لغيرك في الإساءة إليك عذرًا؟ ما يخلو في هذا من أمرين: إما أن تكون ساخرًا بدينك، أو مسخورًا بك، وإلا فمحال أن تكون تعتقد أن القدر مؤثر فيك شرًا دون غيرك. فلو أيقنت بالقدر حسبما ذكرت لعذرت غيرك في إساءات إليك، كما به عن نفسك اعتذرت.

ما أكشف حال زندقتك للمنتقد عليك! تضيف المنافع والمضار إلى الكواكب والطباع، والأرزاق والإساءات إلى المعطين والمسببين. كل ذلك لتخرج الباري عن الصنع، وتجيء إلى ما بقي من خطاب الشرع، من أداء فرض أو ترك ذنب. فتحيل بترك الواجب عليك، وفعل المحظور عليك، إلى قدر الله. ما ذكرت الله إلا هنا، لترد الأمر حيث جاء. أما أنا، فلا أعرف إيمانك من كفرك. تارة تضيف الفقر والبلاء إلى نزول الذنب في بيت المال؛ وتارة تشقق عتبًا على الإله الذي لا يخطر منك في حال غنائك وسكونك ببال. فما يتخلص لي كفرك من إيمانك، ولا توحيدك من إشراكك، ولا نفيك من إثباتك. هذا، وأما أعمالك فعنوان الجحود والإنكار، ولا أرى عليك عنوانًا للإثبات والإقرار، ينخرق من ثوبك مكان عقدة، أو تنجذب فيه هدبة، لا تسكن عن الحركة بالبدن والمال، حتى تدفع إلى الرقاء أوفى الأجور والأعواض، ليعود إلى ما كان. وهذا فرضك يختل بأنواع الخلل، لا تتحرك في سد خلله، ولا تلافي علله، لا بسجود سهو ولا تكفير حنث، ولا إقامة حد، ولا توبة عن ذنب، ولا ندم على فارط جرم. والله ما للإيمان فيك علامة. سوى كلمة تعودتها من الصغر، لا ثقل فيها على النفس ولا مؤونة، وهي كلمة قد عصمت الدم وحرست

فصل في تشرد العبد على ربه

المال، وقد عرفت ما في تركها من الوبال. وإلا فانصف وعين لي عملًا من أعمالك تتوسل به إلى الباري عند ضرورتك واختلال أحوالك. عين لي عملًا يصلح أن يكون مقطع الأجل ورأس الرزمة في العمل. وانتقده نقدًا يصلح لرؤية الحق، بلا تفريط فيه ولا خلل. فإن رأيت ذلك ووجدت، وإلا فابك على نفسك من إفلاسك من معنى اسم تسميت به عمرك ودهرك لما تحققت الحقيقة، ما أنسبك منه صحة تصلح لمطالعة الخليقة. قد أنست إلى الاعتذار بالرجاء والإرجاء والشفاعة ممن أطاع فيمن عصى. ترى ثبت ذاك عندك بقولي وقول رسولي، والوعيد ممن جاء، ومن القائل له، ومن المتواعد به؟ وإن أبهجك وعدي، فهلا أزعك وعيدي؟ وإن كان وعدي يطمع، فما بال وعيدي لا يوجع؟ عن أي الأنبياء سمعت، أو الأولياء، أنه أسقط حكم الوعيد، حتى ظهر عليه الاعتماد على الرجاء والشفاعة؟ أما رأيتهم يحذرون، وهم أحذر، ويفزعون، وهم من الله أفزع؟ ما أفزعني من طمأنينتك أن تكون خدعة من الشيطان! إما لنفي وجحود، أو اغترار بالمعبود. 466 - فصل ما أجودك من معلم غير متعلم! وما أجودك من مؤدب، لكن لا يتأدب! تعلم الكلاب، مع نهمتها وتكلبها على الصيود وفرط حاجتها،

شذرة ذكرها بعض الأئمة في كتاب رموز وأسرار في أن تعليق النكاح على البعض يسري إلى الكل

بأن تمسك عليك ولا تأكل من صيدها؛ وكذلك جوارح الطير والسباع. وتروض المهارة والحجورة حتى تتأدب لركوب الملوك. وأنت عاقل ناطق. الرسالة إليك، وكتاب الله ينزل عليك، والآباء، والمعلمون، والعلماء، والوعاظ، والمفتون، والقصاص؛ والقرآن يتلى، والعبرتتربى، وآثار الأمم البائدة والقرون الخالية، كما تسمع وترى. فلا الآداب بأخلاقك عبقت، ولا التعاليم بطباعك علقت. فسبحان من سخر الأشياء لك وجعلها طوع يدك وأمرك، وأنت تتشرد عليه كذا! 467 - شذرة ذكرها بعض الأئمة في كتاب رموز وأسرار قال: كثير من الفقهاء يقولون إن تعليق الطلاق على البعض يسري إلى الكل. وكذلك تعليق النكاح. وهذا ليس بصحيح. لأن السراية إنما تكون عما يثبت في البعض حكمه، ثم يتعدى ويسري كالجراحة؛ إنما تكون سرايتها بعد تأتي ثبوتها في بعض الحي. فهذا تبين في العتق. فإنه قد يثبت ويقف في عتق المعسر بحصته ويقف على ثلث العبد المعتق حال مرضه. فإذا أعتق وهو موسر قبل شراء عتقه. لأنه ثبت في ملك نفسه سراية إلى ملك غيره. وقد بان في حق المعسر والمريض وقوفه على البعض. فأما إضافة الطلاق إلى البعض، فلا يقال ((سرى)). لأنه لا

فصل في مسألة الزكاة في مال المدين

يتصور وقوفه ولا وقوف النكاح على بعض المنكوحة ولا بعض المطلقة. ولكن يقال ((لا يحتمل التجزيء)). فيكون ذكر البعض كذكر الكل. 468 - فصل في مسألة الزكاة في مال المدين قال شافعي: لا تخلو الزكاة من أن تكون متعلقة بالمال، أو بالذمة. فإن كان تعلقها بعين المال، فكل متعلق بالعين مقدم على ما يتعلق بالذمة. كدين برهن، مع دين بغيررهن؛ وحق الجناية في رقبة العبد الجاني، مع حق أرش أو قيمة تعلقت بذمة السيد؛ وأضحية في في الذمة، مع أضحية معينة. فإن ذلك تقدم منه حق العين على حق الذمة. كذلك ههنا. وإن كانت متعلقة بالذمة، فهي والدين سواء. فما بال الدين مقدمًا على الزكاة مع تساويهما؟ فهما كالدينين، لاذمتين. فأجاب حنبلي بأني لا أقول بتعلقها بالعين، على أصح الروايتين عندي. ولهذا نصرنا وجوبها بعد تلف المال؛ فبقي قسم الذمة. إلا أنها أضعف تعلقًا بالذمة من الدين. ولهذا لا تتعلق إلا بمقدار مخصوص من مال مخصوص، نام، سائم، ولا تتعلق بذمة فقير؛ والدين يتعلق بذمة الفقراء. ولأنه وإن تعلق بالذمة فقد جعله فقيرًا حتى جاز له أخذ الزكاة. ومحال أن يكون فقيرًا يأخذ بفقره، وغنيًا يخرج الزكاة بغنائه. فإن

فصل آخر في المسألة

كان ملكه في هذا المال يجعله غنيًا، فينبغي أن يمنع فقره، لأنهما ضدان. وفارق ابن السبيل؛ لأنه غني في مكان، فقير في مكان. وهذا يتصور أن تختلف الحال باختلاف المكان والزمان. فأما مع إيجاد المكان والزمان وإيجاد المال، فكيف يكون غنيًا به، فقيرًا مع غنائه لأجله؟ 469 - واستدل فيها حنبلي ناصرًا لوجوب الزكاة بأن الدين لا يمنع جريان المال في الحول. ولهذا لو أبرأه من الدين، وقد مضى الحول كله، وجبت الزكاة؛ ولو أبرأه في أثنائه، اعتج بما مضى من حول الوكاة. بخلاف المكاتب؛ إذا أبرأه سيده، لم تجب الزكاة فيما مضى من الأحوال، بل يستقبل بما في يده بعد البراءة. فأجاب حنبلي آخر بأني لا أسلم؛ بل إذا قلت إنه يمنع الوجوب، منع جريانه في حول الوجوب. قال له: فقد روي عن أحمد أنه يحرم عليه أخذ الزكاة، فدل على أنه غني. قال له: ليس إذا كان ممنوعًا من أخذ الزكاة لأجل مال وجب أن يجب في ذلك المال؛ بدليل المعاليف والبغال والحمير ودور الكراء والضياع. كل ذلك يمنع أخذ الزكاة، ولا يتعلق به ولا لأجله وجوب الزكاة.

فصل تذكير في أن الشيب مرض الموت فيجب التأهب للنقلة وللقاء الله

470 - فصل الشيب مرض الموت لولا أنه مألوف؛ وإلا فسل عنه الطب؛ فقل: ما هذا العارض؟ هل هو زائل، أم لا؟ فإذا أجمع الكل على أنه ذبول يتزايد وتحلل يترادف ويتتالى، فاعلم أنه مرض الموت. انظر ما تفعله في مرض الموت. يقول لك الطب: ما لهذا برء ولا شفاء، ولا يرجى له علاج، ولا يوجد له دواء. فافعله إذا ابيضت لحيتك ورأسك. فما بعد بياض اللحية والرأس إلا الانحلال والانعكاس. تأهب للنقلة؛ فقد استقرت العلة. أليس قد جرت عادتكم بتوزيع الأموال وتحسين الأعمال وتأكيد الوصية وتجديد التوبة ومجالسة الأصدقاء والمعاملين، مع تجويز خطأ الطب في القول وذهابهم عن الصواب، لأن العلل مختلفة؟ فهل يختلف إثنان أن المشيب طلائع الموت وعنوان الفوت، وعلة لا تتزايل، ومرض لا يفارق؟ وحياتك إنني لك ناصح، وإني لعيبك كاشف ولك فاضح، لا لأني لك عدو ولا كاشح، ولكن أولمك لأبرئك، وآمرك لأخليك. وحياتك، يا أخي، ما غسلت سيئة بأحسن من دمعة حسرة على فائت من عمرك في غير ما خلقت له. وحقك، أيها الصديق، ما تردد في قلب ولا حاك في خاطر أجل من حزن وأسى على عمر انقضى في سوف ولعل وعسى.

وحرمة مودتك، أيها الودود، لا يرفل غدًا في حلل النعم ومقاصير ذلك الحرم إلا من انتكب اليوم وتعثر في طرق الحرم وسالف الحرمة. أيها الشيخ الصالح! لا لقيت الكرامة في السماء، ولا حياك بالتسليم المسبحون والسفراء، إذا [ما] أكرمت أوامر الحق، وعظمت شعائره في هذه الحياة الدنيا. ترى ما تفطن لمعنى قوله لك ولست يهوديًا: {وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا}؛ {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية}. قص عليك صفة قوم كلفهم الاحترام للسبت فاعتدوا، فلعنهم. وجعل من شعار دينك الاحترام للجمعة. وجعل الاحترام إجابة الداعي، وهجران البيع في وقت النداء، والإنصات لسماع الخطبة، وصلاة الجمعة. تراك ما تعلم أن في طي قوله {لعناهم} لما اعتدوا في سبتهم: وإنك إن اعتديت في جمعتك لعنتك وجعلت قلبك قاسيًا. هذا ثمرة كل عدوان في أوامري وشرائعي. أنا الذي ذكرت لك عني أني خسفت بقرية وأخرجت نبيها بقطع من الليل متعثرًا لأجل اللواط؛ وخسفت بمدن شعيب لأجل التطفيف في الميزان؛ وأهلكت ثمودًا لعقر ناقة؛ وحصبت بالحصا؛ وأغرقت بالطوفان؛ وأضمرت النيران؛ وأخربت الديار. كل ذلك لذنوب حذرتك من أمثالها. ولم أقنع بذلك حتى أتبعت ذلك بوعيد الآخرة. تبطل حكمة كتابي وتسقط حكم خطابي بمجرد الاغترار والتمني بالحكايات ومزورات الأخبار وتطميع المتزيين بزي العلماء، وهم فجار. الله، الله، في

أحاديث وتفسيرها

الطمع في! فالعرش وما دونه خائف من سطواتي ونقماتي. وما تقرب المتقربون إلى [إلا] بأجل من الخوف والتعظيم لأوامري والانتقاد لطاعي؛ {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. من قال لك غيرهذا فقد غرك. والله وصف [بأنه] يعز ولا يطمع. كلامه ينقسم إلى وعد ووعيد. وهو الصادق فيها. فأين الطمع فيه وأفعاله منقسمة بين إعطاء وسلب، وبناء وهدم، وخصب وجدب، وجمع وتفريق، وإغناء وفقر؟ حتى إن النحلة في فمها الشهد، وفي حتمها السم؛ والنحلة بين شلًا موجع، وجني محلى مشبع. والنسيم تارة بارد مروح، وتارة سموم محرق. فما الذي من أفعاله تطمع إلا وفي طيه ما يفزع؟ العاقل من خلص من هذه الأمور المختلفة صفاء يصلح للقاء الله، وإخلاصًا يصلح لرؤية الله، لأنه القائل سح: {وأن سعيه سوف يرى}؛ {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم}. 471 - قد ورد في الأحاديث ما يدل على استحباب الإغفال والإغضاء عن هفوات من كثرت حسناته ومحاسنه. فقال صلع: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا. ثم علل فقال: لو أنفق أحدكم مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. تقدير هذا الكلام: حسناتهم ومتقدمات أفعالهم وطاعاتهم تمنع أمثالكم أن يتكلم فيهم. وكذلك قوله: إن فلانًا من أهل بدر؛ وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر. فقال: {إعملوا ما شئتم}

فصل في قطع الأيدي باليد

فقد غفرت لكم، وقوله: تجاوزوا عن ذنب السخي، فإن الله آخذ بيده كلما عثر. وروي في بعض الأخبار أن الله سح أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: قل لأمتك تجنبوا ذنوب الملوك، فإن للملوك أعمالًا لا يقدر عليها غيرهم. يعني - والله أعلم - أن طاعاتهم كثيرة، كالمصالح الكلية؛ فتغطي إساءاتهم الجزئية. 472 - فصل في قطع الأيدي باليد قال حنفي: التفاوت في الصفات دون التفاوت في المقدار. ثم تفاوت الصفات يمنع جري القصاص. فلا تقطع يد كاملة الأصابع بناقصة أصبع واحدة. وكذلك لا تقطع صحيحة بشلاء. فأولى أن يكون تفاوت ما بين يد واحدة وأيدٍ يمنع القصاص. قال له حنبلي: الأصابع والشلل فقد جزء، لا وصف. لأنه آية الوصف آية لا تنقص الذات بعدمه؛ كسواد الدراهم وبياضها، وعلم الإنسان فإن العشرة إذا تقمص تشعثت الجملة. ولا يقال بأنها تامة؛ حتى إنه يتشعث الاسم، فيقال ليست عشرة. ولوزال البياض لم ينقص، ولم يختل اسم الجملة. وكذلك كل ذات لا تختل حقيقتها واسمها بفوات صفة؛ وتختل بفوات جزء منها. وكذلك الشلاء فقد منها أحد

وجرى فيها فصل آخر

الذاتين، وهي الروح، وهي جزء في الحقيقة. لأن اليد عبارة عن صورة ونفس، بذهاب أحدهما ذهاب جزء. قال الحنفي: هب أن الأمر على ما ذكرت؛ وأن الذاهب جزء، لا وصف؛ فأليس نقصان مقدار يسير، وهي الأصبع، منع؟ فأولى أن يكون نقصان يد عن أيدٍ يوجب أن يمنع أخذ الأعداد بالواحد. قال الحنبلي: فهذا باطل بأصل. فإن الصفة في النفس في إيجاب القصاص كالإيمان مع الكفر. ومع ذلك تفاوت الأعداد لم يمنع قتل الجماعة بالواحد. قال الحنفي: أنا عندي لا يمنع تفاوت في وصف؛ وإنما يمنع أن يكون الدم مباحًا، فلا يجب عليه القصاص منحيث إنه عقوبة. والعقوبة لاعب في مقابلة فعل مباح. 473 - وجرى فيها فصل آخر فقال الحنبلي: ما وضع بحسم الذرائع وحقن الدماء وحفظ المصالح لا يراعى فيه الواحد بالواحد، لجواز اتفاق فاسقين على الفعل قصدًا لسقوط العقوبة. قال الحنفي: فهلا كان ذلك في قطع الصحيحة بالناقصة والشلاء بالحية؟

وجرى في مسألة المال الضمار

قال الحنبلي: إذا اختلت اليد بالشلل ونقصان أصبع ندرت، لأن الأصل الصحة. ووضع العقوبات إنما ينصب لقطع الذرائع فيما يعم لا فيما ينذر. ولأن الناقصة تصير كالتافه من المال، وهو ما دون النصاب. ومعلوم أن نقصان النصاب قيراطًا واحدًا، فلا يقطع به ولا يد عبد، مع نقصانها، ولا يد امرأة؛ وتقطع بدينار كامل يد تساوي خمسمائة دينار مقومة بالشرع. فأليس لما تمت العين المسروقة نصابًا، قطعت بها يد مقومة بخمسمائة، ولو نقصت قيراطًا لم تقطع بها؟ كذلك جاز أن تكون الصحيحة تقطع بها الأيدي الصحيحة، ولا تقطع يد واحدة بيد ناقصة. وذلك أنا جعلنا باعتمادهم دفعة واحدة كيد واحدة؛ فاعتبرها لها مساواة اليد المقطوعة. 474 - وجرى في مسألة الضمار قال حنبلي: ملكه تام؛ فلا تسقط الزكاة بالحيلولة، كما لو نسيه في ملكه. قال [معترض]: لا أسلم أن ملكه تام، بل هو مالك فقط. قال الحنبلي: الملك التام التسلط بالحق. وهذا موجود مع كون المال مغصوبًا. لأن الغصب تسلط حسي بغير حق، فلا يقصر به تسلط حكمي بحق. وإنما منع البيع وما يحتاج إلى التسليم من التصرفات لا

مسألة قطع الأطراف بالطرف

لقصور الملك، لكن للعجز عن التسليم. وقصور القدرة الحسية لا يقصر الملك الحكمي، لأن الحق يزيل ذلك بالسلطان. وكل ما إذا عجز عنه زال بالسلطان لا يكون قصورًا حكيمًا؛ بل ما يقصر الملك حكمًا كمال المكاتب قصر ملكته فيه بحيث لا ينفذ فيه عتق ولا تبرع. وهو معرض للزوال إلى المالك بالعجز عن ... خم واحد. 475 - وجرى في مسألة قطع الأطراف بالطرف أن قاس حنبلي على النفس بعلة أنه وضع للردع والزجر وإحياء الأنفس؛ ومتى لم يقطع الجماعة بالواحد، صار ذريعة إلى اجتماع الفساق على القطع، كيلا يقتص منهم، كما قلنا لأجل ذلك ((النفوس بالنفس)). فاعترض عليه حنبلي بأن هذا يشكل به إذا تفرقت جناياتهم على الطرف بأن قطع كل واحد جزءًا. فقال: هناك تميزت. فبان أنه ليس كل واحد قاطعًا للطرف؛ وبإبانة جميعهم جعل كل واحد كالقاطع للطرف. قال المعترض: معلوم أنه ليس يفوت باجتماعهم سوى إدراكنا بالحس. وإلا فالعلم محيط بأن المجتمعين كل واحد منهم أبان بعض طرف وإن اختلطت اعتماداتهم. كما أن الرافعين للحجر والمتسببين للماء والحجر لا يتميز لنا بالحس كم رقى كل واحد منهم، ثم إنا نتحقق أن كل واحد رقى بعض الثقل، وتحصل باعتماده ترقية بعض الحجر. كذلك في القطع يقطع بذلك، ويخفي علينا مقدار البعض. فإذا علمنا أنه البعض،

شذرة في المال الضمار

كان يجب أن يعمل في إسقاط القصاص عمل ما يتميز من القطع، إذا انفرد كل واحد بقطع جزء من الطرف. وأما النفس فلا أسلمها. لأن هذا يخرج على الرواية التي أقول إن الجماعة لا يقتلون بالواحدة؛ لأن ما لا يتبعض، وهو مما يسقط بالشبهة، إذا لم يتحقق انفراد كل واحد من المشتركين فيه بجميع الموجب، لم يجب على واحد منهم لعلمنا للإسقاط لا للإيجاب. 476 - شذرة في المال الضمار قال: الزكاة وجبت شكرًا لنعمة المال. والمغصوب ماله عاجزعن التصرف فيه. فلا يكلف الشكر مع عدم استطاعته الشكر. قال الحنبلي: ما أوجبت علة الشكر إلا بحسب النعمة. لأن الله سح منعم على صاحب المال، حيث جعل له استرجاعه بالسلطان والحق. فهذه نعمة في المال حكمًا. فوجبت الزكاةشكرًا على وجه الحكم، ولم يجب الإخراج. فإذا استرجع المال، خوطب بالشكر حسًا، وهو الإخراج. 477 - فصل ما تصفو الأعمال والأحوال إلا بتقصير الآمال. فإن كل من عد ساعته التي هو فيها كمرض الموت حسنت أعماله، فصار عمره كله صافيًا. وإلى هذه أشار صاحب الشرع صلع حيث قال: وعد نفسك من

مسألة بنت الزنا

الموتى؛ إذا أصبحت، فلا تحدث نفسك بالمساء؛ وإذا أمسيت، فلا تحدث نفسك بالصباح. وهذا قول عارف بأن التسويف يؤخر الأعمال ببسط الآمال. ومن قصر أمله رأى قلة البضاعة وصيانة العيش الساعة التي هو فيها؛ فجود العمل، خوفًا أن يكون ذاك القدر هو المقطع. وليس هذا عندي مجتمعًا بالأعمار، بل الأموال. كذلك يجب أن يكون إحسانك من المال الحاضر بحسبه وإن قل، ولا تتسوف بكثرة المال في الثاني. والعاقل من لم يحضره قليل الرزق إلا وشكر الله بحسبه. فتعجيل القليل، مع حضور الوقت والمهلة، خير من التمادي والتأخير انتظارًا لكثيره. وليس تأثير الأعمال بالكثرة، بل بالخصلوص. ولهذا جرى في مدح القرآن على ذلك الخبز الشعير: {ويطعمون الطعام على حبه}. فإذا سمع العاقل هذه المدحة على تلك الأمراض، اغتنم الشكر بحسب الحاضر من الحال، ولم يتسوف بالآمال. 478 - قال شافعي في مسألة بنت الزنا: الزنا عدوان محض؛ والحرمة كرامة، فلا تتعلق على عدوان محض. ولأن سائر أحكام العضية لا تتعلق به، فلا تتعلق الحرمة، لأنهاحكم من الأحكام. قال حنبلي: جتنب الأم أيضًا. تعلق الحكم المذكورة والأحكام كلها، وهو عدوان محض، على أن الوطء من حيث إنه حراثة ليس بعدوان، من حيث إنه زنا عدوان. فتعلق الحرمة والكراهة على جهة الحراثة على أن

فصل جرى في الإجماع

جانب آلات البعضية ليست مقطوعاتها لاختلاط المياه. والأحكام كلها لا تثبت مع الاشتباه. كالبنت المختلطة بعدد من الأجانب تحرم الكل لأجل الاختلاط، ولا تثبت سائر الأحكام في حقهن كلهن. 479 - فصل جري في الإجماع قال: لا يتم أن يقال بأنه لا يحتاج إلى دليل إلا على وجه؛ وهو أن يكون إجماع الصحابة، على قول من يقولبأن قول الواحد منهم حجة. فأما في حق من ليس بقوله حجة، فلا يجوز أن يكون إجماعه حجة من غير دليل يستند إليه. لأن قول المجتهد إنما يستند إلى دليل. ومتى كان اجتهاده رأيًا لا يستند إلى دليل، لميكن معتدًا به. فإذا كان كل واحد لا بد أن يستند قوله إلى دليل، محال أن يكون إجماعهم لا يستند إلى دليل. 480 - حضرنا يومًا بدار الكتب بشارع ابن أبي عوف، فتذاكرنا أمر العقل وتحسينهوتقبيحه. فقال إنسان يميل إلى مذهب إبي الحسن: ومتى يثق العاقل بعقله وقد علم أنه لو قدر فيها قبل ورود الشرع كيف حكم إيلام الحيوان وهدم بنيته لرآه بالعقل قبيحًا. ولو قدر إيصال اللذات إلى نفسه بتقبيل الملاح من المرادن، ولبس الحرير في الشتاء، وسماع ما تحيا به

الأنفس والقلوب من القيان، لرآه حسنًا؛ إذ فيه تقوية النفس، ورفاهية الجسم، وروح القلب، ونعيم الجسد. فلما جاءت الشرائع لم يقنع بأن يبيح إيلام الحيوان حتى جعل ذبحه تقربًا إليه وقربانًا؛ وحرم أكثر النعيم وجعله بعدًا عنه وطغيانًا؛ فتركت هذه الأمور. العاقل لا يحكم بعقله؛ ولا يقبح قبيحًا حكم العقل بقبحه؛ [بل] فوض الأمر إلى الشرع. وكان بالحضرة رجل ينتحل مذهب العدل والتوحيد؛ فأجابه: هل [كان] اإستدلالك هذا حسنًا أم قبيحًا؟ فإن قلت ((حسنًا)) أو ((قبيحًا))، سألناك عن طريق تحسينه وتقبيحه. فإن أجبت بأنه العقل، كفانا ذلك إبطالًا لما قررت. وإن قلت ((علمت ذلك بالشرع، )) قيل لك ((أين النص في كتاب الله، وأين سنة رسول الله فيما ذكرت؟ )) على أنا نبسط الكلام، ونفتح عن مجال الجدال حتى لا يضيق عليه، فنقول: أظننت أن تحسين إيلام الحيوان، بعد تقبيحه بالعقل، لمجرد كونه إيلامًا؟ كلا! ولكن لما ثبت عندنا بأدلة العقول حكمة واضع الشريعة، وأنه لا يفعل القبيح ولا يشرعه، وأننا لو جوزنا ذلك لا نسد علينا باب العلم بصدق السفراء، - لكنا لما سبق لنا العلم بأن الصانع القديم حكيم لا يفعل القبح، ثبت لنا أنه لا يؤيد كذابًا - فثبت أنه لما أيد بالإعجاز أشخاصًا، كانوا صادقين. فلما ثبت ذلك، جاءت [الشريعة] بإيلام الحيوان لوجه من وجوه الحكمة والمصلحة. وليس في العقل وتقبيح الإيلام على الإطلاق، بل بط الدبلة، وألم الفصد والجحامة، وشرب الأدوية،

شذرة في مسألة الصول

كل ذلك إيلام. وكذلك الردع عن القبيح بالحدود، كل ذلك حسن، لما عاد به من صلاح الأجل وحفظ الكل. فالإيلام، الذي جاءت به الشرائع، من هذا القبيل. فأما من قبيل الإيلام الذي وقع لا بحكمة، فكلا! فسكت. 481 - شذرة في مسألة الصول استدل فيها حنبلي، فقال: حيوان ألجأ غيره إلى دفعه له عن نفسه. فإذا أفضى الدفع إلى قلته، لم يضمن؛ كالصيد والعبد. قال له معترض لمذهب أبي حنيفة، وكان شافعيًا. هو وإن كان ألجأ إلى دفعه، لكن السيد له مالية فيه. فعلتك تصلح لإسقاط المأثم وإسقاط حق الحيوان؛ فأما إسقاط مالية السيد، فكلا. لأنه لم يوجد منه رضى بإسقاط مليته، ولا إلجاء ولا معنى يسقط حكم ماليته. قال الحنبلي المستدل: في الحيوان تابعة لحرمة الحيوانية. بدليل أن مالية العبد ومالية الصيد، إذا صال، سقطت بصوله. حتى إن مالية خيط المغصوب منه ولوحه، إذا خاط به خرج الحيوان، أو ... فيها حيوان، يسقط حق المغصوب منه الخيط واللوح من غير ماليته، لحرمة الحيوانية. فإذا تبعت مالية الحيوان حرمته في إسقاط الضمان، كذلك ههنا تبعت مالية السيد حرمة الحيوان في إسقاط الضمان. قال الشافعي المعترض: بل حق السيد وماليته هي المغلبة. بدليل أن

مسألة الإلجاء هل يسقط الضمان

السيد يأذن للغير في قتل العبد، أو الحيوان البهيم، فيسقط الضمان تغليبًا لحقه. قال المستدل: ما قابلت بشيء يقدح فيما ذكرت. لأنني أنا أريتك في صول العبد والصيد والخيط حقوق مالٍ تسقط في ضمن سقوط الحرمة الحيوانية. وأنت لم تر حرمة الحيوانية ساقطة بسقوط مالية السيد؛ بل ذكرت مسألة الإذن في قتل العبد. وتلك تسقط فيها مالية السيد؛ ويجب المأثم والكفارة في القتل؛ فلا تبعية إذا لحرمة الحيوان للمالية. قال الشافعي: فأليس العبد يقتل أو يرتد، فيجب القصاص بقتله وردته؟ فقد مالك إسقاط مالية السيد في رقبته؛ فأما البهمية، فلا. قال الحنبلي: أما قتله وردته، فاستتباع لمالية السيد؛ كما ذكرت في الصول؛ لما سقطت حرمة الحيوانية، تبعتها المالية، فسقطت. فهذه المسائل تشهد لما ذكرت، وما ذكرت من مسألة إذن السيد في قتل العبد. سقوط المالية خاصة غير مستتبعة لحرمة الحيوانية، بل المأثم ثابت. 482 - وجرى من السائل أن الإلجاء ليس من المجاعة؛ فإنها تبيح قتل الحيوان للمشاكلة؛ ولا يسقط الضمان. قال المستدل: بل فيه أكثر من ذلك. وهو أن الإلجاء نشأ من المال. وهذا زائد على الضرورة الناشئة من غير رب المال، ولا من المال. بدليل

فصل في العظام هل فيها حياة

أن الصيد إذا أكل ضرورة، ضمن؛ حيث لم يكن الإلجاء إلى قتله من جهته. ولو نشأ الإلجاء م نالصيد بأن صال، لما وجب الضمان بقتله وحتى إن الجمادات من الأموال، إذا ألجأت وأحوجت، سقط ضمانها، بأن تدحرج عليه قنديل لغيره، فدفعه عن رأسه بيده، فانكسر، لا ضمان. ولو احتاج إلى كسره لانتفاع كان لا يحصل إلا بكسره، من غير أن يكون القنديل ألجأ، لوجب الضمان. 483 - فصل في العظام هل فيها حياة قال حنفي: لا تحس؛ وخصيصة الحياة الحس؛ وإذا لم تلزمه حياة، فالموت إنما يحل محل الحياة. قال حنبلي: لا أسلم؛ بل يحس. قال الحنفي: تسلط عليه النار، فلا يحس؛ فلا يصح قولكم. قال الحنبلي: هو يحس بالضرس اللاحق به في طرف الأسنان عند أكل الحموضة. قال الحنفي: ذلك يتألم أصله من العصب ومنبته، دون ذاته. قال الحنبلي: فهلا تألم منبته بنار يترك على طرفه؟ فإذا جاز أن يختلف منبته في الحس بأن يتألم بالحموضة دون النار وإن كان منبته

مسألة صيال الفحل

حيًا، كذلك جاز أن يختلف هو في نفسه بحسه بالحموضة دون النار وإن كان حيًا في نفسه. ولأن كونه لا يحس بالنار لا يمنع حسه بغيرها. كما أن البصر لا يدرك إلا الألوان والمقادير، والسمع لا يدرك إلا الأصوات، والشم لا يدرج [إلا] الأراييح، والذون لا يدرك إلا الطعوم، كذلك جاز أن يختص العظم بأن لا يدرك نوعًا من المحسوس، وهو حرارة النار، ويدرك غيرها، كالحموضة والماء البارد. 484 - وجرى في مسألة صيال الفحل أن قال حنفي لشافعي: ليس للبهيمة اختيار يسقط مالية السيد. وللعبد اختيار تسقط به مالية السيد، وكشفه بالقتل والردة. قال المستدل: ليس للعبد ولا لأحد من الناس إسقاط حق السيد من مالية العبد، ولا غيره من البهائم. ولكن العبد أسقط حرمة نفسه بالردة؛ ومالية السيد تابعة لحرمة العبد، فلما سقطت حرمته بردته، سقطت مالية السيد تبعًا. كما أن المرأة لا تملك إزالة ملك الزوج مباشرة بطلاق ولا فسخ. فإذا أرتدت، سقطت حرمة دمها، وزالت حقوق الزوج عنها تبعًا. فإذا قتلت بالردة، سقط حقه بالكلية تبعًا. والبهيمة لا تملك أيضًا إسقاط حق مالكها؛ لكنها لما صالت، سقطت حرمتها، فسقطت مالية السيد تبعًا.

سئل حنبلي عن انقراض العصر هل هو شرط في الإجماع

485 - سئل حنبلي عن انقراض العصر هل هو شرط في الإجماع فقال: ليس بشرط. لأن انقراض العصر ليس له وقع في الإجماع. لأن الاجتهاد من كل واحد منهم طريق للظن؛ والمهلة للنظر شرط لحصول النظر. فلا حاجة بنا إلى إنقراض العصر، لأنه توقع لزمان مستقبل ولحدوث اجتهاد ممن عساه يتجدد. ولا يخلو أن يتلاحق في العصر ناشئة، فلا يستقر إجماع. قالوا له: قولهم ((ما دام العصر باقيًا)) ما استقر. بدليل أنهم إذا اختلفوا على قولين في حادثة، انعقد إجماعهم على تسويغ الاجتهاد. ثم إذا أجمعوا على أحد القولين، فقد تركوا إجماعهم على التسويغ، وصاروا مجمعين على ضد التسويغ. منع، ثم سلم، وقال: إذا افترقوا على قولين، فهم غير قاطعين على تخطئة القول الآخر، ولا على تصويب قولهم؛ بل هم ظانون ذلك. ومن كان ظانًا، هو مار إلى القطع، وما قطع. فهو كما لو كان في مهلة النظر، لأنه ما استقر له يقين. ليس كذلك المجمعين. لأنهم قد قطعوا على الحكم وتيقنوه؛ فلا وجه لوقوف الإجماع على معنى بعد ذلك. قالوا له: إذا حدث قائل لم يخالف إجماعهم، كابن عباس، لم يسقط قوله؛ وهو من الصحابة، ومن أهل عصرهم، ومساو لهم في الإجتهاد والصحبة والعصر.

شذرة في صيال الفحل

قال: لأن للمتقدم حكمه، كما لتقدم الصحابة على التابعين. فإذا انضم إلى ذلك إجماع من حضر الحادثة، فلا عبرة بما يفسده؛ كما لا عبرة بما بعد العصر. 486 - شذرة في صيال الفحل قال: حنفي: هب أن الفحل سقط مأثم قتله، وجاز دفعه وإن أفضى إلى دمه، لإلجائه لدافعه إلى دفعه؛ فما بال مالية السيد تسقط وما رضي بذلك؟ قال حنبلي: مالية السيد إذا انفردت عن حرمة حي، كالعروض من الحبوب والأدهان والثياب وغير ذلك، كان متبوعة لا تسقط إلا بإسقاط حرمة نفسه بأن تصير جريًا لنا، أو يصول هو بها علينا. مثل أن يكون ملاجأ له، فيكون بإتلافها غرضًا مبينًا له. أو تكون ملجئة هي بنفسها؛ مثل أن يهوي علينا قنديل، فلا يمكنا السلامة منه إلا بدفعه، فيعود دفعه بكسره، فلا ضمان أيضًا. فأما المالية في الحيوان، فهي تبع لحرمة الحيوان. فمتى سقطت حرمة الحيوان بمعنى، سقطت مالية السيد. بدليل العبد، إذا صال، فإن للسيد فيه مالية لا يمكن العبد أن يبيح إتلافها. ومع ذلك، إذا صال، سقطت مالية السيد في جنب سقوط حرمة العبد بصوله، حيث جاز دفعه بفعل يردع مثله وإن آل الى نفسه. قال الحنفي: العبد له اختيار تسقط به مالية السيد؛ وهو إذا قتل

عمدًا، أو إذا ارتد. والحيوان البهيم بخلاف ذلك. لأنه لا اختيار له؛ ولا وجد من السيد معنى أباح ذلك. قال الحنبلي: اختيار العبد أيضًا الذي هو القصد فارق به البهائم. لأن لها اختيارًا ما، لكنه ليس باختيار كامل؛ فهو كاختيار الطفل والمجنون والمكره. ولهذا سقطت به حرمة الصيد إذا صال على المحرم، حتى أسقط المالية التي فيه. ولم نقتنع في صياله ودفعه برفه المأثم إذا آل إلى قتله؛ بل أسقطنا ضمان المكفر، وهو ضمان مالية. فأما العبد، وإن كان له اختيار، فليس له بذلك الاختيار حكم إسقاط مالية السيد. ألا ترى أن السيد، إذا قال لأجنبي ((اقتل عبدي))، فقتله، سقطت المالية، ولم يستحق ضمانًا؟ والعبد لو قال لغير سيده ((اقتلني)) لم يسقط ضمان ماليته، ولا المأثم الذي تعلق على فعل الجاني عليه، ولا حق السيد سقط بإذنه في قتله، ولا حق الله سح. فصار اختياره كلا اختيار في هذا الباب، وهو إسقاط حقوق غيره فيه. لم يبق إلا ما ذكرت أنا. وهو أن المالية التي في الحي تكون تبعًا لحرمة الحي. فمتى سقطت حرمة الحيوانية، تبعها المال؛ فصار ساقط الحرمة، لا ضمان في إتلافه. وعلى هذا يخرج ما ذكرت من ردته وقتله عمدًا. فإنه أسقط حرمة الحيوانية في حق العبد، فاستحقت نفسه، حيث كفر نعمة المنعم الأول سح، وحيث أتلف نفسًا استحقت بها نفسه. وينكشف ذلك فيما هو أوضح. وهو أن المالية المنفردة عن حرمة حي تسقط في حق الغاصب،

شذرة في زكاة الخيل

لأجل الغصب. حتى إنه إذا غضب ساجه، عندي، وما عليها، أو خيطًا، عندنا جميعًا، فخاط به خرج عبده، فإن مالية المالك للخيط تسقط، وترجع إلى القيمة دون حقه من العين. لما حصل في ضمن حي له حرمة صارت مالية الخيط في ضمنه، وإن كان متعديًا في أخذه. وينكشف أيضًا كون المال تبعًا للحيوانية وحرمتها. [وهو] أن المغصوب منه الخيط، لو جاء وقلعه من العبد، فمات العبد، أثم لحق الله؛ حيث فعل في الحي ما ليس له فعله، وضمن مالية السيد. ومعلوم على أصلي أن مالية السيد، لو انفردت عن حيوان لم يضمن بقلع الغصب عنه، حتى لو كانت بناء، فهدمه، لم يضمن. فلما ضمن مالية العبد، علمنا أنه ما ضمنها إلا حيث كان مأثومًا بإتلاف الحيوانية. فبان أن المالية في الحيوان تبعًا إلجاءً وإسقاطًا. فلذلك سقطت في صياله، تبعًا لسقوط حرمته. ولأن عدم كمال الاختيار لا يوجب ضمانًا؛ بدليل المال المنفرد الذي لا اختيار له ولا قصد رأسًا. وهو المال الذي يهوي إلى الإنسان فيكاد يقتله، أو يؤذيه، إذا رده بيده، فتلف، كالقنديل وما شاكله، فانكسر، فإن لا يضمنه، لكون ألجأه إلى دفعه؛ فلم يضمنه لما آل إلى كسره. 487 - شذرة في زكاة الخيل قال شافعي: لم تكمل منافعها. لأنها لا تسام غالبًا، وليس بجنس يقصد دره، فأشبه البغال والحمير. ولهذا قرنها الله سح وتع إلى البغال

والحمير في الزينة والركون. ولما ذكر بهيمة الأنعام، ذكرها للمنافع والدر والنسل. قال له حنفي: ما نقل من درها يخلفه ظهرها. وهي صالحة لما لا يصلح له شيء من الحيوان، وهو الكر والفر. وينضم إليه النسل الفاخر النفيس. فإن في نسله ما يوفي على كل در ونسل في غيرها. قال الشافعي: الظهر انتفاع استعمال، وما بعد للاستعمال لا تجب فيه الزكاة. وغالب العرف أن الخيل لا تسام للنماء، لكن تعد للاستعمال. والكمال الذي ذكرته فيها هو كمال يعود بالإسقاط، لا بالإيجاب. قال: وليس كذلك النماء من النماء والنسل. لأنه مما إذا طلب الحيوان لأجله، لا تسقط الزكاة، بل تجب لأجله. بدليل أنه يتبع الحيوان الذي هو بهذه الصفة، دون الطيور والظباء؛ ويقصد به السائم من الأنعام، دون المعلوف والعامل؛ حيث كان المعلوف يراد للحمه، والعامل يراد لعمله. فدل على أن المغلب ما ذكرنا. والخيل ليست من قبيل ما يراد للدر. ولهذا لا تسام غالبًا؛ لكن تراد للظهر. ولهذا لا تكون في غالب البلاد إلا في الأنبية والإسطبلات معلوفةً أبدًا. وإن ندر منها سائم في بعض البلاد، فلا يكون من ذي الظهر الجيد. لأن الخيول الجيدة لا تعطل قط عن الركوب والرياضة؛ لأنها متى فعل بها ذلك، توحشت عن الركوب الذي هو مقصودها.

قال الحنفي: التهيؤ للظهر من الكر والفر هـ والذي كمل به ووازى الدر. وقوله إن التهيؤ لما يسقط الزكاة لا يكون موجبًا، وتعني به الركوب، لأنه استعمال، والعوامل لا زكاة فيها، لا يصح. لأن الثياب والأواني والأطعمة تراد للاستعمال المسقط للزكاة. ثم تهيؤ الثياب والأطعمة، إذا كانت للتجارة، تزيد في القمة، فتتزايد الزكاة بتزايد القيمة لأجلها. ثم نفس الاستعمال وحقيقته لا توجب زكاة القيمة. جاز أن يكون تهيؤ الخيل السائمة للركوب والكر والفر مكملًا لها في إيجاب الزكاة، وإن كان نفس الركوب والعمل مسقطًا. قال الشافعي: حقيقة الاستعمال تسقط؛ فالتهيؤ له لا يجوز أن يكون موجبًا. ألا ترى أن السائمة من الأنعام، إذا حمل عليها، صار استعمالها مسقطًا للزكاة فيها؟ فأما عروض التجارة فتوجب الزكاة في قيمتها، لا لتهيؤها للاستعمال. ألا ترى أن سائر المقومات يخير فيها لقيمتها؟ قال الحنفي: أراك قد عولت على أن الزكاة تعلقت بالمال النامي. وليس هذا صحيحًا. لأن الأشجار نامية، ولا تجب الزكاة فيها؛ والأراضي نامية، ولا تجب الزكاة فيها. فلا يجوز أن تعلل بالنماء ولا تجب الزكاة. قال الشافعي: الإجماع منع من إيجاب الزكاة هناك. قال الحنفي: فالإجماع على أن الشجر لا تجب الزكاة فيه مع كونه ناميًا دليل على أن كون الباقي ناميًا وليس بعلة؛ ولا نماء الأنعام هي العلة.

فصل في أهل الدهر

وكان جرى من الحنفي أن قال، إبطالًا لتعليل الشافعي بالنماء، بأن الذكور من الأنعام تسام ولا تنمي ولا زكاة فيها. قال الشافعي: ذلك من جنس نامٍ. وذلك أن الأنعام إنما تدر أناثها، وتنتج بذكورها. فكما أن ذكورًا من غير أناث لا تنمي، لا بدر ولا نسل، فصار النماء الذي هو عليه إيجاب الزكاة عندي، أو شرطها، يتداور بين ذكور وأناث؛ فلا يتم نماء هذه إلا بهذه، ولا نماء هذه إلا بهذه. 488 - فصل بينما أنت معجب بالواحد من أهل الدهر حتى يملولح عذبه ويكتهل عشبه ويضيق رحبه. فالاغترار بهم غباء، وودهم عند التحقيق هباء، والاعتماد عليهم إفلاس. 489 - فصل في مسألة النباش قال حنفي: الشبهة في مكان الكفن أن الأرض في الصحراء ليست حرزًا، والميت ليس بحرز. وذاك أن الله سح أباح ترك الميت في التراب، أو فرضه، صيانة له عن الافتضاح، وصيانة للأحياء عن نتنه إذا راح. والسترة صيانة لعورته. فصار القبر غير موضوع لإحراز الكفن؛ ولا

شذرة في قتل المسلم بالكافر

الشرع قصد إحرازه. وإنما طرح الكفن ضرورة لأجل الشرع. والحرز ما اصطلح الناس عليه للحفظ، لا ما اصطلحوا عليه للترك. وترك المال فيه ضرورة لا يجعله حرزًا، كترك الثياب على الميت لم يجعله حرزًا. ومعلوم أن الحي حرز لسترته، إذا نام فيها؛ فإذا كان حاجة الأحياة إلى تكفين الموتى أباحت ترك الثياب عليهم، ولم تجعلهم كالأحياء أحرازًا، كذلك ما كانت الحاجة تدعو إلى ترك هذه السترة في القبر لا تجعله حرزًا. ولا فرق بين صحة هذا أن بدن الحي وبيته سواء في الإحراز، فليكن بدن الميت وقبره سواء في عدم الإحراز. وهذه شبهة جيدة. 490 - شذرة في قتل المسلم بالكافر قال حنفي: فضيلة لا تمنع استيفاء القود؛ فلا تمتع إيجابه؛ كفضيلة العلم. قال له شافعي: الاستيفاء فضيلة طرأت على وجوب العقوبة واستحقاقها. وفرض بين فضيلة تطرأ على الحق وبين الفضيلة قبل إيجاب الحق، بدليل الإسلام بعد الاسر لا يمنع الاسترقاق، وقبل الأسر يمنع الاسترقاق. والزيادة الحادثة في المبيع تدخل في البيع. قال له الحنفي: معلوم أن القصاص موضوع على المساواة والمقاصة. فإذا كان وجوبه لا يحصل مع كون القاتل مسلمًا استيفاؤه أيضًا، يجب أن يمنع، لأنه يكون حيفًا في الاستيفاء. وهذا بمثابة فضيلة الإسلام منعت ابتداء النكاح. وإذا طرأت منعت استدامته إلى جال وجوبه. هذا

شذرة في الشاهد واليمين

إذا قلت بانفساخ النكاح. وإن كان بعد الدخول, وقلت "يقف على انقضاء العدة." فإنه يمنع من الاستمتاع في بقاء النكاح, ولا يسند استيفاء الاستمتاع إلى حال وجوبه. 491 - شذرة في الشاهد واليمين قال فقيه دل على جواز القضاء به جنبة المدعي: قويت بالشاهد؛ فجاز أن يجعل القول مع يمينه مقضيًا له به. كجانب المنكر, لما قوي يكون الأصل براءة ذمته, لا جرم قبلت يمينه في دفع الدعوى عنه وخروجه من حكم القضاء عليه بالنكول. 492 - تذاكر عالمان مسألة المعدوم فقال من أثبت المعدوم شيئًا أن: باتفاقٍ منا أنه معلوم. وكونه معلومًا من باب التعلق والعلات. ومحال تعلق الشيء بغير الشيء. قال الخصم: لا أسلم أنه معلوم, على معنى أنه يتعلق عليه العلم, لكن بمعنى أنه علم بما سيكون؛ فيكون علمه به موجودًا, لا معدومًا. قال الآخر: فهذا نفسه يفسر بالتعلق. لأن الجاهل بما يكون غدًا ليس بعالم بما سيكون. والعالم بما يكون غدًا, يقال عالم بما يكون. فلابد من فرق؛ وهو تعلق علم أحدهما بشيء لم يتعلق على علم الآخر. ألا

شذرة في الجنين ذكرها حنبلي ناصرا لمذهب أبي حنيفة تذنيبا بجامع القصر

ترى أن الممتنع يتعلق عليه علم الباري ولا علم العباد؟ قال: فعلمه بما يكون إذا إنما يكون علمًا إذا كان. قال: فكان يجب أن لا يكون اليوم عالما بما يكون إذا. لأن قولنا "علم" من باب التعلق بغيره. فإذا كان الشيء لا يسمى معلوما إلا بعد أن يكون لنا عالم, يجب أن لا يكون لنا علم إلا بعد أن يكون لنا معلوم يتعلق العلم به؛ كالنظر مع المنظور, والشم مع المشموم, إلى أمثال ذلك من المتعلقات. 493 - شذرة في الجنين ذكرها حنبلي ناصرا لمذهب أبي حنيفة تذنيبا بجامع القصر فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصيد يصيبه السهم ويقع في الماء "لا تأكله, لعل الماء أعان على قتله." فجعل التخنيق بالماء المجور مانعًا من إباحة روح خرجت من محل بجراحة, لأجل شوب الجراحة بالتخنيق بالماء. فكان يبنيها على جنين ما مات إلا بالتخنيق. 494 - وجرى فيها ذكر السراية فقال بعض أئمة الحنفية: إن السراية بحكم الجناية, إذا كانت

فصل آخر في المسألة

الجناية هي المؤثرة. والجرح هنا أثر زهوق نفس الأم بالجراحة, ونفس الجنين خصلت بالتخنيق, والتخنيق غير الجراحة. 495 - وذكر فيا شافعي أن الأب, إذا نطق بالإسلام وله أطفال, تبعوا في الإسلام وإن لم ينطقوا بكلمة الإسلام, ولا اعتدوا, لكن تبعوا الأب. فجعل حنفي ذلك حجة له فقال: إن المحل لا يقبل السراية والتبعية إلا بأن يكون مهيًأ قابلاً. ومعلوم أن الجنين ليس بموثوق بكون الروح فيه وإن تحرك؛ فلا يثبت له حكم الحي قطعا. والذكاة إنما تثبت في محل يتحقق أن فيه روحًا تزهق بالذكاة. فإذا خرج ميتًا, لم يحصل لنا العلم بأنه مذكى, حيث لم يكن, في وقت ذبح الأم, حيًا حسًا ولا علمًا. فصار كالميت من الأطفال, لا يتبع في الإسلام, حيث لم يكن المحل متحققًا كونه حيًا. 496 - قال قائل في مسألة المعدوم, وأن الجوهرية تثبت له قبل التحيز, وأن التحيز صفة له: إن قول القائل "جوهر متحيز" يعطي ذاتا ووصفا. كقولنا "جوهر أبيض" أو "أسود". وإذا كان كذلك, فوجب كون التحيز صفة له. ومتى كان التحيز صفة له. ومتى كان التحيز صفة, ثبت كونه ذاتا قبل التحيز.

قال إمام متكلم: فهذا لا يلزم. لأن قولنا في المعلوم إنه ذات, فنقول "ذات معلومة." لا يعطي أن يكون هذا القول يعطي أن هناك ذات وصفة. قال: قد ثبت أن الجوهر المتحيز يخالف السواد. ولا يجوز أن يكونا اختلفا بكونهما ذاتين. لأن الذوات, من حيث كونها ذوات, لا تختلف؛ وإنما تختلف بالصفات. والسواد ليس له, بكونه سواد, العرض, والصفة لا تحمل الصفة. بقي أن الجوهر خالف السواد بصفة فيه التحيز. قال المتكلم الإمام على هذا: يلزمكم على هذا الحصول؛ والمتحيز مع السواد, فإنهما يختلفان. ولا يجوز أن يقال إنهما اختلفا بوصفين. كذلك مخالفة الجوهر للسواد لا يلزم أن يكون بصفة. قال: الأوصاف لا توصف. فليس له أوصاف. فلذلك لم يحصل اختلافها بأوصاف. قال الإمام المتكلم: فقد بطل قولكم إن الاختلاف بين الجوهر والسواد بصفة هيه التحيز. لأنه لو كان الاختلاف لا يحصل إلا بصفة, لما

شذرة في النية

صح أن يعقل فصلا بين السواد والبياض, والسواد والتحيز. لأنهما لا يوصفان, حيث هما وصفان. فلما حصل اختلافهما في المعقول ولا صفة, بطل أن يكون مخالفة التحيز مخالفًا للسواد بالصفة. 497 - شذرة في النية قال قائل: إذا كانت النية هيه القصد, فهل كل ما يعتبر له القصد يعتبر له النية؟ قيل فيه فصل تحرر فأزال الإشكال: النية قصد على صفة فعل. هذا ينكشف بالمثال. وهو أن الذابح عبثًا وإهمالا لا يباح أكل ذبيحته. والقاصد إلى الذبح يباح ذبحه. والناوي هو الذي يقصد بالذبح القربة. وأكشف من هذا أن القائل لزوجته "أنت خلية" قاصد إلى هذا القول. لأن الكلام لا يصدر إلا عن إرادة الحي له. فليس من ضرورة قصده لقوله "أنت خليه" أن يكون ناويًا. حتى لو سأله سائل فقال "أقصدت قولك لها (أنت خلية)؟ لقال "نعم." وهذا سؤال لا يحسن. إذ نفس الكلام لا يصدر إلا عن قصد. ألا في حق المبرسم. فلا يحكم بطلاقة حتى يسأل سؤالاً ثانيًا. فيقال "هل قصدت الطلاق؟ " فإذا قال "قصدت بقولي (أنت خلية) الطلاق" أو "خلية من نكاحي," كان حينئذٍ ناويًا. فقد بان الفرق بين القصد المجرد وبين النية؛ وهي القصد على صفة.

فصل آخر في المسألة

498 - وكان ذكر بعض من حضر هذه المذاكرة أن النية ما كان قصدًا لله. فقيل له: هذا تحذلق. وإلا فالكنايات تفتقر إلى النيات. أتراها لله حيث نواها تطليق زوجته, والطلاق مكروه عند الله؟ 499 - استدل شافعي في المنع من تخليل الخمر بأنه لو كان لنا طريق إلى استصلاحها لما أمرنا الشرع بالإتلاف لها. ألا ترى أن المرتد, لما كان لنا طريق إلى استصلاحه, لم يجز عندنا قتله إلا بعد استتابته؟ وكذلك أهل الحرب ممن لم تبلغه الدعوة, لا يجوز قتلهم إلا بعد أن ندعوهم إلى الإسلام. فلما جاز إتلاف الخمر ابتداء وأمر بها, دل على أنه لا طريق في الشرع إلى استصلاحها. 500 - استدل القاضي أبو محمد المروزي, قاضي القضاة, قدم علينا حاجا, في مسألة جبر نقض الولادة بولد المغصوبة. فقال: الذي أقات هو الذي أفاد؛ فجبر. قيل: الذي أفادته غير الذي أقتاته. فإن تعلقت بأن المفيد والمقيت واحد, تعلقنا بأن المقات غير المفاد؛ لأن الولد غير النقض. قال: باطل بالسن إذا نبتت من الذي لم يتغير والتئام الجراحة.

شذرة حكمية

فإنه مستفاد. أعني السن النابت في الثاني والاندمال وهو عين. ثم إنه جبر النقض وأسقط ضمان الأرش. 501 - شذرة قال بعض أهل العلم لقوم تضجروا بشدة الحر: ما لكم؟ من أراد أن يأكل من نضيج هذا المطبوخ من بالغ الثمار, صبر على حر المطبخ. 502 - استدل حنبلي في مسألة المفوضة بأن قبل الدخول وجب بالعقد, كالمسمى, والتقليل لمهر المثل. اعترض عليه حنبلي, نصرة لمذهب الشافعي, فقال: قياسك هذا يتضمن أنه لما وجب بعد العقد بما حدث بعده, دل على وجوبه في أول العقد, أو دل على أنه وجب بالعقد. ولم قلت وما أنكرت أن يكون المتجدد أوجب أو قرر وحقق ما لم يكن وجب العقد؟ قال المستدل: لأن الموت والوطء يرضي الموطوءة لا يوجب. فلما وجب عقيبه, دل على أنه استند إلى العقد. قال المعترض: ولم قلت ذلك وما أنكرت أن يكون وجوب جميع المهر والموت إنما كان لا بالموت, لكن بالتمسك بعصمة الزوج عشرًة وحبسًا لنفسها عليه إلى حين موتها, والمعقود عليه بما يحصل من ذلك وهو الغاية.

من أخبار أبي جعفر المنصور

وكذلك الدخول. والذي يوضح ذلك أنه يجب المهر بوطء لا يستند إلى عقد أصلاً, وهو وطء من اعتقدها أمته ولم تكن أمته يجب المهر ولا عقد يستند إليه. على أن القبض في الهبة والتبرعات يحصل به الملك, ولا يحصل بالعقد السابق؛ وهو شيء تجدد بعد العقد. قال المعترض: والذي يوضح هذا أن الذي يوجبه الشرع من المهر مع فساد التسمية, عندنا جميعا, وعند الإمساك عن التسمية, عند جماعة من الفقهاء, هو مهر المثل؛ ويكون وجوبه شرعا. ثم إن الزوجة ملكت تسميًة تحط عن مهر مثلها, ولو كن ألفا, إلى درهم أو خاتم من حديد, عندنا جميعًا. فقد ظهر من تصرف المرأة في المهر, فقللته إلى حد يزري بها وبأوليائها, وأسقطت به ما أوجبه الشرع والعرف, وهو مهر المثل. وهذا تصرف راغمت به ما وجب شرعًا وعرفًا في أول العقد. ثم بعد التسمية أو مهر المثل تملكت الإبراء منه. فما الذي يمتنع من إسقاطها له؟ والعفو عنه في أول العقد مع هذين التصرفين هو التقليل في البداية والإبراء في أثنائه ودوامه. 503 - لما بلغ المنصور خبر من قتله عبد الله بن علي بن الحسين, قال: قاتله الله! ألا تركهم حتى كانوا يرغبون إلينا كما كنا نرغب إليهم, ويرون من دولتنا وملكنا ما رأينا من دولتهم وملكهم؟ فلقد عاشوا ملوكًا وماتوا شهداء.

شعر لأبي الهندي

لأبي الهندي: وفتية رقدوا والليل يكلوهم ... كأنهم من صروف الدهر في حرم حتى إذا رق جلباب الظلام دعوا ... للراح أحسن من مشي على قدم واستلها من ظلام الدن لامعة ... في حمرة الورد أو في حمرة العنم فهل رأيت عقيقا سل من شبح ... من قبلها أو ضياء سل من ظلم وللرهابين ألحان تشوقنا ... إلى الصبوح بدير الأبلق العلم دير أعير من الجنات بهجتها ... فساكنوه به في أنعم النعم هواؤه خضر وعرفه عطر ... وريعه نضر من مائه الشبم 505 - روى المرزباني عن ابن دريد عن السكن بن معبد عن العباس بن هشام عن أبيه, قال: كان أبو الخطار بن مردوع الكلبي من أعظم الناس غناء عن الإسلام بإفريقية والأندلس. فلما ولى عبيدة بن عبد الرحمن إفريقية تحامل على أبي الخطار فسجنه وقيده. فقال أبو الخطار أبياتا وهو محبوس, وبعث بها إلى هشام بن عبد الملك وهي هذه: أقادت بنو مروان فيسا دماءنا ... في الله إن لم يعدلوا حكم عدل كأنكم لم تشهدوا يوم راهط ... ولم تعلموا من كان ثم له الفضل

حديث

وفيناكم ورد القنا بنحورنا ... وليست لكم خيل سوانا ولا رجل فلما رأيتم وافد الحرب قد عتا ... وطاب لكم فيها المشارب والأكل تعاشيتم عنا كأن لم يكن لنا ... بلاد أنتم ما علمتم لها فعل إذا رث حبل العهد وانجذم القوى ... ألا ربما تبلى وينجذم الحبل ونحن بنو الشيخ الذي سال بوله ... بكل بلاد ما يبول بها فحل فعرضت هذه الأبيات على هشام؛ فعزل عبيدة, ومات أبو الخطار في السجن. 506 - روى أبو قلابة عن ابن مسعود عن النبي صلع: ثلاث هن أصل كل خطيئة: الكبر, والحرص, والحسد. فإياكم والكبر! فإن إبليس حمله الكبر على أن لم يسجد لآدم. وإياكم والحرص! فإن آدم حمله الحرص على أن أكل من الشجرة. وإياكم والحسد! فإن ابني آدم حسد أحدهما صاحبه, فحمله الحسد على قتل أخيه. 507 - وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الشيخ في أهله كالنبي في أمته. 508 - وعنه صلى الله عليه وسلم: أن أهل الجنة البلة؛ وأعلى أهل عليين ذوو الألباب؟

من كلام بعض أهل العلم وتأويله

509 - وقال بعض أهل العلم: تجيء الطاعات معاصي -- يعني الرياء فيها حين العمل والإعجاب بها بعد عملها. 510 - قيل لبسر الحافي: لم لا تلبس النعل؟ قال: أستحي أن أمشي على بساطة بالنعل. أخذه من قوله: (والله جعل لكم الأرض بساطا) 511 - يا من تشكي وجع العين ... حاشي لعينيك من الشين عين من الناس أصابتهما ... ما أسرع العين إلى العين 512 - روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما المؤمن الذي نفسه منه في عناء, والناس منه في راحة. قيل لحنبلي له تحقيق: ما معنى هذا؟ فأجاب بأن نفسه منه في عناء, لأن الإيمان يقيد الفتك, والنفس تطلب من الناس الحظ, وتتقاعد عن الحق لما معها من العرامة بالطبع. والأوائل قالوا: أتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم.

آية قرآنية وتفسيرها

وأنا أقول: أتروض عرسك في حداثتها ... ومن العناء رياضة العرم وأدل عليه بأن العرامة تشرد مع قوة. والقوي تشتد مقاواته ومعه عدم خبرة. والهرم إن صعبت رياضته فغايته لاستمرار العادة. ولكن يقابل ذلك ضعف قوته, وسلالة استجابته, لضعفه عن المقاواة, وقوة خبرته وتجربته المعينة له على القبول والاستجابة للحق. 513 - في قوله تعالى: (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) مما يعطي قبول شفاعته في عصاة أمته؛ لأن رد السؤال خزي عند العرب. 514 - قال الشيخ أبو الحسين في مسألة عود الاستثناء إلى ما تقدمه من الجمل, أو الجملة الأخيرة: لا يجوز أن يطلق الجواب فيها بأنه يعود إلى الجملة الأخيرة؛ بل يحتاج المجيب إلى تفصيل. وهو إن كانت الجملة الأخيرة غير مفصولة عن الجمل التي قبلها رجع الاستثناء إليها. مثل قوله: (فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون). فأما إذا قال "أكرم بني تميم, وزود بني هاشم, وأصحاب أبي حنيفة فقهاء إلا الأعاجم, "إلا الطوال," فإنه هاهنا لا يعود الاستثناء إلا إلى الجملة الأخيرة, لأنها انقطعت عن الجملتين

قول بعض أهل الأدب في لو لم و "لولا"

الأولتين بكونهما خبرا مبتدأ. وهذا ليس جيدًا لمذهبنا في رجوعه إلى الخبر الآخر, وهو الفسق؛ وإنما هو جيد لأصحاب أبي حنيفة. 515 - وقال بعض أهل الأدب في قولنا "لو لم" و "لولا": إن "لولا" لامتناع الشيء لوجود غيره؛ مثل قولنا" لولا فلان لضربتك." وما أحتاج إلى هذا المثال مع قوله تعالى: (ولولا رهطك لرجمناك). فكان وجود الرهط هو الذي امتنع معه الرجم. قال: و" لو لم" امتناع الشيء لعدم غيره؛ تقول "لو لم تقم, لم أقم." قال حنبلي: ولا أرى بينهما فرق. لأن قيامه هو الموجود الذي جعل نفي قيامه لأجل نفيه؛ وذلك وجود في الحقيقة. 516 - حكى أن بعض الوزراء ظلم رجلا. فقال له الرجل: اتق] الله [وكف عني, وإلا دعوت الله تعالى عليك. فقال له الوزير: ادع بما شئت. فما مضت أيام حتى قبض على الوزير, وعذب. فكتب إليه الرجل بهذين البيتين: سهام الليل لا تهدأ ولكن ... لها أمد وللأمد انتهاء أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... تأمل فيك ما فعل الدعاء

شعر لأبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني

517 - أنشد القاضي أبو يوسف عبد السلام بن محمد بن يوسف المعتزلي القزويني قال أنشدني أبو نصر بن أبي عمران بمعنى لأبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني: إذا شئت أن تستقرض المال منفقا ... على شهوات النفس في زمن العسر فسل نفسك الإقراض من كنز صبرها ... عليك وإنظارا إلى زمن اليسر فإن فعلت كنت الغني وإن أبت ... فكل منوع بعدها واسع العذر 518 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. 519 - وقال ابن مسعود: من أراد علم الأوليين والآخرين فليثور القرآن. 520 - قال بعض الحكماء: مضى سلف لنا, أهل تواصل, اعتقدوا مننا, واتخذوا أيادي كثيرة ذخيرة لمن بعدهم, كان اصطناع المعروف عليهم فرض, وإظهار البر عليهم حق واجب. ثم جاء الزمان عن يسر اتخذوا مننهم صناعة, وأياديهم تجارة, وبرهم مرابحة, واصطناع المعروف بينهم معاوضة؛ كنقد السوق, "خذ مني وهات."

من كلام جالينوس في الطب

521 - قال: سئل جالينوس عن حد الطب, فقال: حفظ صحة موجودة, ورد صحة مفقودة. وتستعمل في الشتاء الأشياء الحارة بالفعل, وإن كان طبعها باردًا؛ وفي الصيف تستعمل الأشياء الباردة بالفعل, وإن كان طبعها حارًا. 522 - وقال أيضا: يعرف تزايد المرض من نقصانه من السخنة, والخلط من الماء, والقوة من النبض. 523 - قال رجل لحكيم: كم آكل؟ قال: دون الشبع. قال: كم أضحك؟ قال: ما يبسط وجهك فيخرج به دون العبوس. قال: فكم أبكي؟ قال: ما وجدت دموعًا وقدرت على البكاء. قال حنبلي: وقد كان ينبغي أن يسأله "كم أنام؟ " وحيث لم يسأله فنقدر سؤاله, فيكون جوابه بقياس ما سلكه من الجواب في الثلاث أن يقول: ما لم يغلب فيه النعاس. 524 - العرب تقول في الذي مات أبوه من بني آدم وبقيت أمه "يتيم." وتقول للذي ماتت أمه وبقي أبوه "هو لطيم." فإن مات أبواه, فهو

فصل تذكير في العبودية والربوبية

"عجي." والإخوة لأب واحد وأم واحدة فهم "أعيان." وإن كانوا لأب واحد وأمهات شتى فهم "أولاد علات." واليتيم من البهائم ما ماتت أمًه؛ فاليتيم في حق البهائم من قبل الأم. قال حنبلي: ولعل علة ذلك أن الأم هي التي ترب ولدها؛ ومن يربه الأب في حق البهائم. 525 - فصل قال حنبلي: ما بلغ من محل عبد مع سيده منكم أن يكشف له عن أسرار أفعاله فيه. بل غاية محل العبد فيكم ولكم أن يحترم أمره ونهيه جزمًا: "لا تأكل من الأطعمة هذا! " و" لا تغرف لنفسك من هذه القدر! " و" كل من هذه! " "اشرب هذا القدح وإن كان مرًا! " "لا تمض في هذا الطريق, وامض في الآخر! " "مد يدك اليوم إلى الطبيب وانفصد! " "لا تأكل اليوم طعاما! " "لا تبرح اليوم من الدار! " "استيقظ وقت طلوع الفجر! " ـــــ لشغل يذكره له. ولا في أدب العبودية تقتضي الملكة أن ينطق العبد في ذلك ب "لم" ولا "كيف". هذا حكمكم مع عبيدٍ ما خلقتموهم, ولا لكم فيهم سوى حبس الرق. ولا يثبت لك عند العبيد والإماء من الحكمة مع الملكة ما يوجب

حسن التأويل لتصاريفك فيه. أنت مخرج من العدم, مبني ببنائه سافًا سافًا, قد أحكم صناعته فيك إحكاما يشهد له عندك بالحكمة البالغة. لم تقنع بما وضعه فيك من الفطنة بحكمته بشواهد صنعته حتى كاتبك وراسلك. وأخذ بحكم كلامه لك مخرج الاعتذار كاعتذار النظير, يقول لك فيما خفي عليك ألا يعتريك نفور أو اعتراض باطن: (ولكم في القصاص حياة) , (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء) , (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) , إن تقسيم الغنائم على خمسة أصناف, (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) فبين لك وجوه منعه وإعطائه وإيقاع العقوبة. ومن الذي أوجب عليه هذا؟ وأنت مع عبيدك لا خالق, ولا بان, ولا منشئ لهم. ليس لك فيهم إلا حق الحبس الذي هو جعله لك. وأنت لا ترى العبد أهلا أن تقول له: "إنما تقدمت بقصدك وحجامتك, وحميتك من الطعام الفلاني لمصلحتك." ولو نطقت بذلك لأزري عليك أمثالك من سادة العبيد, فقالوا: "فلان يعتذر إلى عبده؛ هذا إطماع له, وإفساد لحكم السيادة مع العبودية. وما للعبد وما إليه حتى يقول له سيده "إنما فعلت كذا لكذا"؟ " ولو كاتبه أو أرسل إليه رسولا, لقيل: "هذا غاية الاستفساد؛ هذا مما يسمح به العبد ويعدو طوره." وأنت متى أخفي عنك علة فعلٍ فعله فيك, أو أمرٍ أمرك به, تشردت وتوانيت عن فعله. وكذاك فيما

نهاك تطلبًا لعلة ذاك, فتعديت طورك. ترى ما سمعت قوله: (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء). ما ينبهك هذا على الانتهار والاستنكار لما أبداه حتى يوجب عليك إما التأويل له فيما أخفاه, وحمل ما سكت عن الاعتلال فيه لما أبداه, أو الاستسلام لما ثبت له من الملكة والحكمة, وبيان علل الإشفاق عليك فيما علله لك. أنا أقول قولا لم يمتد إليه نظر غيري. وهو أنكم تلعنون من أشرك به بضم إله آخر إليه وتكفرون ذلك القائل. وأفعالكم وأقوالكم تعطي أنكم أثبتم نفوسكم إثبات الشركة له؛ إذ ليس انتقادكم على أفعاله وأقواله انتقاد النظر فقط, بل ربما كان ذلك انتقاد من فاقت حكمته, وعلت رتبته, وعبد يرى نفسه نظير سيده. آبق أعلى الأباقين؛ لأن الهارب أسقط حق سيده من الخدمة, والمقيم المعترض زاحم سيده في أحكام الملكة. فهذا يعده الملوك أكبر خارجي, إذا كان مالكه سلطانا؛ لأنك تقول ملء فمك: "لم فعل كذا؟ لم فعل كذا؟ " "ولم حكم بكذا؟ " ويلك! والويل لك! أنت تزعق على التلاع والأشراف "أشهد أن لا إله إلا الله," وفي الحقيقة تقول "أنا معترض على الله, مدبر لملك الله, معترض على فعل الله, متتبع لما حكم الله. أين التوحيد منك؟ والله إن من أشرك به سواه, لأنواع شك أو شبهة, أحسن حالا منك. فإنك لا تجد في نفسك شيئا يوجب لك أن تكون خارجا من العبودية مع معرفتك بنفسك, وكيف

فصل على من جحد القدر

ابتداك, ومن أي شيء ابتداك, وكيف بناك ورباك. فما من حدك وقدرك أن تكون عليه مشيرا, أو تكون معه مدبرا. 526 - فصل على من جحد القدر قال رجل من أهل العلم: الباري سبحانه وتعالى أخبر عنهم بأنهم بلغوا من العناد الغاية التي لا رجاء لراج معها استجابة. فقال سبحانه وتعالى: (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون) , (لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحرون). ومع ذلك الكشف لما أدركه من أحوالهم وعاقبة أمرهم بعلمه الذي لا يتغير ولا يختلجه شك, ولا يتطرق عليه ريب, أمره بالبلاغ, وحثه على الإنذار لهم, واللطف بهم, والعفو عنهم, وكذلك أمر موسى باللين في القول لفرعون مع العلم بعاقبة أمره. فما أبطنوا التكليف على العلم؛ ولا حسن بمقتضى تحسين العقل. فإن خطاب من قطع الشاهد بعدم استجابته للمخاطب يجعل الخطاب لغوًا, والبلاغ عبثًا وإتعابًا, ليس فيه ولا وراءه فائدة. ويجعل المخاطب بذلك كالمترجي لخلاف ما وقع له. وليس العلم من هذا القبيل. بل العلم هو الكاشف عن المعلوم. المدرك له على ما هو به. والعلم كشف عن عدم الاستجابة. والخطاب استدعاء ظاهرة الترجي للاستجابة. فعلم أنه قد حسن من الله تعالى, في باب التكليف. ما لا يحسن في الشاهد. 527 - قال الخليل بن أحمد: الرجال أربعة: عالم, فتعلم منه, وجاهل

جرى بدار النقابة أعزها الله [ثلاث مسائل الأولى منها]: مسألة التغريب في حق البكر

متعالم, فعلمه, تؤجر فيه؛ ومن نقل علمه, فذاكره, ينفعه وتنتفع به؛ وجاهل يريك أنه عالم, فلا تناظره. 528 - جرى بدار النقابة ــــ أعزها الله مسألة التغريب في حق البكر ومسألة الوصية بولاية النكاح ومسألة شريك الأب أما الأولى, فاستدل فيها شافعي بالحديث: خذوا عني! خذوا عني! ـــ إلى قوله: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. وهذا بيان ونسخ للجنس إلى الجلد والتغريب. اعترض عليه شافعي, لمذهب الحنفي, فقال: هذا زيادة في النص. وهي عند أبي حنيفة نسخ. فلا يثبت نسخ القرآن المقطوع به بخبر واحد مظنون. أجاب المستدل بأن قال: أين النص في الحكم؟ إنما النص على العدد. وذاك بحالة بعد الخبر كما كان قبله, ما رفع منه شيء. وإنما الزيادة على الجلد لا تثبت مع ورود عدد الجلد, بقاء على حكم الأصل. وإلا فالنص أن يقول "مائة لا زيادة عليها." فيكون ورود الزيادة بعد

والثانية مسألة الوصية بولاية النكاح

نفيها رفعًا. فأما هذا, فإنه رفع لما اقتضاه ظاهر اللفظ, واستند إلى الأصل؛ كسائر ما جاء من الزيادات في التعبدات التي كان الأصل سقوطها. فإذا وردت, زال بها حكم الأصل سقوطها. فإذا وردت, زال بها حكم الأصل من براءة الذمم. على أن مثل هذا قد سلكه أبو حنيفة, ولم يعده نسخا, في عدة مواضع؛ مثل إطلاق القرآن لذوي القربى في باب استحقاق الخمس من الغنائم. وضم إليه أبو حنيفة الفقير بغير نص؛ ولم يكن نسخا للنص بغير نص. وضم التراب إلى النبيذ بدلا, والنص ورد في الماء والتراب. وقوله تعالى: (قل لا أجد في ما أحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلى أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير). وضم إليه كل ذي ناب من السباع. وذي مخلب من الطير, بخير الواحد ولم يكن نسخا. قال المعترض: أما الفقير في حق ذوي القربى, ما اعتبرناه إلا بنص. وهو قوله: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). قال: ولا هذا نص في إشراط الفقر, بل ذكر تقسمه بين الجماعة, كيلا تنفرد به جهة واحدة. يوضح هذا أنه قد ذكر اليتامى والمساكين؛ فلو اعتبر الفقير في ذوي القربى, لكان إعادة لذكر المساكين, لأنهم قد دخلوا فيهم. 529 - وأما المسألة الثانية, فاستدل فيها حنبلي محقق بأن الأب الغاية في الإشفاق؛ واختياره للوصي غاية. فإنه لم يعدل عن الأقارب إلا لخبر

وخبرة عرفها في الوصي وعدمها في الأقارب. واختباره بعد موته باقٍ حكمًا. اعترض عليه شافعي فقال: الأصل أن لا ولاية لأحد على أحد؛ بل كل يلي أمر نفسه ومصالحها. والأقارب ينتقل إليهم حكمًا. فلا يملك الأب أن يزيحهم عن حق لهم يصير إليهم حكما بعد مماته؛ بخلاف وكيله حال الحياة. ألا ترى أنه يملك حال الحياة صرفهم عن استحقاق بماله بالتبرع به جميعه؟ ولو وصى ذلك, لم يملك لما كان يصير إليهم بعد موته حكما؛ وبعد الموت, لا نظر له. أجاب المستدل بأن قال: أن الأصل عدم ولاية الغير على الغير. إنما أصل هو السابق لابتداء خلقهم؛ وهو خلقهم مربوبين, مدبرين, مرتبين بالآباء والأمهات , إلى حين استقلالهم بخدمة نفوسهم. ثم جعل الغير ناظرًا في أموالهم إلى حين بلوغهم. ثم اعتبر من البلوغ رشدهم ومالهم في يد الغير يدبرهم فيه كتدبير الناطق للبهيم. فأي أصل سبق هذا حتى يقال "الأصل عدم ولاية؟ " كأنك تقول "الأصل الاستقلال," وبين كل واحد وبين الاستقلال أودية وعقاب وجبال. ثم إنه لم يترك العالم ونفوسهم حتى جعل عليهم خليفة, وعظم شأنه بأن لا شركة معه؛ وجعله فوق النبوة والرسالة؛ لأن الرسول مبلغ, والإمام مدبر؛ لعلمه بأنه لا يستقيم أمر الكل بتفويض الأمر إلى آحادهم بأنفسهم. فما زالوا في حجر

والثالثة مسألة شريك الأب

الخلافة؛ ولو لم يوص الإمام, كان العاقل أهلا للاجتهاد؛ حتى لو كانوا عددا محصورًا, لكان ذلك العدد معصومًا. والإمام في نفسه غير معصوم. وجعل مقدمًا بتولية عهده إلى من يرى, رافضًا لتولية الاجتماع المعصوم. ولأن قولك: كان ينتقل حكمًا" يعني ما لم يوص الأب غير الأقارب؛ فأما مع وصية الأب, فلا انتقال حكمي. على أن هذا باطل بالوصية في المال. وصي الأب مقدم. والوصية بثلث المال, لو أمسسك, لانتقل إلى الورثة. ووصيته منعت النقل الحكمي. وأما إلزامك في الوصية بجميع المال, فإنما لم يصح لأن الشرع قدر له الثلث؛ ولأن الوصية بجميع المال يعدم فيها الورثة جميع النفع؛ إذ لا عوض لهم عن المال, ولابد لهم من النفع به. فأما الولاية في النكاح, فالقصد منها حفظ البيت عن إدخال المعيرة عليه بعدم الكفوء. وذلك لا يعدم مع وجود وصي الأب. 530 - وأما شريك الأب, فاستدل فيها شافعي بأن نفس هذا المقتول زهقت بعمد مضمون؛ فأوجبت القود على المكافئ. فاعترض عليه معترض بالمنع؛ وأنه ليس بعمد محض, مع كون الفعل قد شارك فيه من لا يجب عليه القتل. قال المستدل: للعمد حد؛ وهو القصد, وكون الآلة صالحة, أو موضوعة للقتل. وفعل الأب كذلك. وقولك "شاركه من لا يجب عليه" لا أسلم؛ بل الفعل موجب لكن نبا عن المحل لشرف الأبوة. ومثل

وجرى بحلقة شرف القضاة الموفق أبي العباس جمال الإسلام بن الرطبي بجامع القصر الشريف –عمره الله بدوام ظل الإسلام وبقاء الإمام المستظهر بالله-[ثلاث مسائل الأولى منها] مسألة القتل بالمثقل

هذا غير ممتنع. كما أن الأب مملكة الابن بالابتياع, ثم ينبو عن دوام الملك والرق, فيعتق صيانة للأبوة عن ذل الاسترقاق. كذلك هاهنا. الوجوب حاصل؛ ولكن نبأ عن الاستيفاء لمعنى يرجع إلى المحل. وكما إذا ورث القود عن زوجته بقتل خال ولده, فذلك استحقاق ينفصل عن الاستيفاء لنبو المحل عن الاستيفاء منه. 531 - وجرى بحلقة شرف القضاة الموفق أبي العباس جمال الإسلام بن الرطبي بجامع القصر الشريف ـــــــــ عمره الله بدوام ظل الإسلام وبقاء الإمام المستظهر بالله مسألة القتل بالمثقل ومسألة من قطع يدي عبد هل يصير ملكا للقاطع بغرامة قيمته ومسألة الإيمان هل هو شرط في وجوب الرجم بحصول الإحصان فأما الأولى, فاستدلل فيها حنبلي بأنه قصد القتل بآلة يقتل مثلها. فأوجب ذلك قودا على القاتل المكافئ؛ كالقاتل بحديدة. اعترض عليه من نصر أبا حنيفة, فقال: لم يتحقق القتل. لأنه لو تحقق القتل, لكان أثره دالا عليه. والأثر هو الذي لا يتردد. وهذا لا أثر فيه يدل على أن المباشر له بالضرب قاتل؛ لأنه في صورة الحي بسلامة نيته, كالميت حتف أنفه, لعدم هدم البنية.

والثانية مسألة من قطع يدي عبد هل يصير ملكا للقاطع بغرامة قيمته

قال حنبلي محقق, معاونة للمستدل: أما هدم البنية فليس يختص الظاهر. لأن أجل وأشرف البنيتين بنية الباطن؛ وهي الأعضاء الشريفة والعروق المجوفة إذا انفدغت بهدم جدار عليه, أو متابعة الرجم بالحجارة له. وبنية لها ظاهر وباطن, وباطنها هو الأساس للظاهر, لا يقال إن الهدم للظاهر يكون قتلا وهدم الباطن لا يكون قتلا. 532 - وأما المسألة الثانية, فاستدلل فيها شافعي فقال: إتلاف لو وجد من جهة المالك, لم يزل ملكه عنه؛ فإذا وجد من جهة الأجنبي, لم يزل ملك المالك عنه؛ كقطع إحدى يديه. طولب بصحة العلة, فقال: إنما كان كذلك, لأن أصل المالية لمالك العبد؛ وما وجد إلا إتلاف بعض ملكه. فهو أحق ببقية ملكه؛ كالأصل. وعكسه القتل؛ فإنه لم يبق فيه مالية. قالوا له: إلا أنه قد استحق جميع بدل ملكه؛ فلا وجهه لاجتماع البدل والمبدل. قال المستبدل: ذاك بدل عن ذلك البعض, بحكم الشرع فيه بمساواته لبدل الكل؛ كما يحكم بإيجاب دية النفس في قطع يدي الحر. يوضح هذا أنه لو كان يمتنع بقاء ملكه لأجل أخذه لقيمة ضاهي دية الكل, لكان لا يبقى له بعد قطع يده وأخذ نصف قيمته إلا ملكة النصف,

والثالثة مسألة الإيمان هل هو شرط في وجوب الرجم بحصول الإحصان

لئلا تجتمع له ملكة الكل وقد أخذ نصف القيمة. قالوا له: ليس هذا من دية الحر بشيء. وذاكر أن الحر, إذا قطعت بعض أطرافه, ونقصت بذلك القطع جملته, ثم قطع قاطع عضوا يوجب الدية, وجبت الدية كاملة؛ أو عضوًا يوجب نصف ديته, وجبت نصف ديته الكاملة. وهاهنا كل ما أخذت قيمته بقطع بعض الأعضاء, ثم قطعت أعضاء أخذت قيمته أو نصفها ناقصة, لا نصف قيمته السليمة. فعلم بعد الضمان في مسألتنا بضمان الديات في حق الحر. قال المستدل: هذا كله لا يمنع من كون ما بقي أن يكون مالكه أحق به. قال حنبلي: مذهبنا أجرى في القياس. وهو أن العبد يضمن ما نقص من قيمته, ويستريح من هذا كله. فلا يلزمنا المكاسرة أو المناقصة بضمان أعضاء الحر. 533 - وأما مسألة الإيمان هل يعتبر في إحصان الرجم, استدل فيها حنبلي محقق بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين زنيا بعد إحصانهما؛ وروي: بعد ما أحصنا. فاعترض السائل: هذه قضية في عين, وحكاية فعل؛ ووجوه الاحتمال فيها كثيرة. والمروي من النطق لا يتردد, وهو قوله: من أشرك بالله فليس

بمحصن. والمعنى يشهد لخبرنا. وهو أن الإحصان فضل وكمال, ولهذا لا يثبت مع الرق, ولا يثبت مع الكفر إحصان يوجب الحد بالقذف؛ بل لا يحد قاذف كافر قط. وإذا كان بهذه الصفة من النقص, كيف يجوز أن تثبت له رتبة الإحصان الموجب للرجم؛ والرق الذي هو أثر الكفر, لا يثبت معه إحصان؛ فكيف يثبت مع غير الكفر إحصان؟ فأجاب المستدل بأن قال: أما الحرية, فكافية في الإحصان. والحرية إذا وزنت بفضيلة الإيمان, رجحت بأمور أذكرها في الحد الذي نحن فيه, وفي غيره من الأحكام. فأما في الحد الذي كلامنا فيه, فإن الحر الكافر كمل جلدة مائة؛ والعبد المسلم الزاهد العدل, فحده نصف حد الكافر الحر. وكذلك في عين حد الأمة المسلمة, في باب النكاح, لا يتزوجها الحر المسلم إلا بشرط أن تكون تحته حرة؛ حتى لو كانت حرة كتابية, لم يجز أن يدخل على فراشها فراش أمة مسلمة صالحة. قال أبو حنيفة كيلا يدخل الفراش الناقص ــــــــــــ يعني فراش المسلمة الأمة - على الفراش الكامل-يعني فراش الكافرة الحرة. وإذا كان قادرا على نكاح حرة كافرة كتابية, لم يجز له أن يعقد على أمة مسلمة, عند الشافعي وأحمد. ولو اجتمع تحته حرة كتابية وأمة مسلمة صالحة, جعل الشرع في القسم للحرة الكتابية مع كفرها ليلتين, وللأمة المسلمة الصالحة ليلة. فهذا بيان أن الحرية فضيلة كافية لفضل الإحصان مع عدم الإيمان.

ثم جاء شرف القضاة, فذنب على السائل, فقال: خبرك قضية فعل, وخبر المخالف قول. وهو قوله: من أشرك بالله فليس بمحصن. والفعل يقف على فاعله؛ والقول لم تعد. فمنه العموم؛ ومنه أنه يدخل الجماعة في كلمة منه, كالخطاب للجماعة, والعتق, والطلاق. والفعل يختص بمحل واحد, فلا يتعداه. فهذا في تفصيل القول على الفعل. ثم قضية الفعل محتملة بين أن يكون قصد بها بيان كذبهم على التوراة؛ ومنها أن يكون الإتيان سبق إسلامهما. فقال الراوي "يهوديين" استتباعا للدين السابق. كقولهم "يتيم أبي طالب" كان يتيما, إلا أن العبد قد قام الذي كان عبدا. والقول الذي في خيري لا يحتمل, وهو أن الشرك لا يتأتى معه إحصان. أجاب الحنبلي المستدل بأن الرجم كان وقوعه لأجل الزنا. ولهذا قال الراوي "بعد إحصانهما," ولو كان تعريفا, لما كان لذكره أثر. كما لو كانا طويلين وأسمرين. فلما زنيا بعدما أحصنا, كان الظاهر أنه ذكر شرط الرجم؛ وكان بيان كذبهما تبعا لإقامة الحد. وأما القول بأن القضية فعل النبي, وخبرنا قول النبي , فالفعل دون القول من وجوه. أحدهما أن القول يدخله العموم, ويتعدى قائله؛ والفعل لا عموم له, ولا يتعدى فاعله. وتردده على الوجه الذي ذكرته. فأول ما أقوله أني لا أقنع بأن أقول الفعل كالقول؛ بل أقول الفعل آكد من

القول من وجوه. أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بين بفعله أقواله, وقد بعث مبينا. فمحال أن يبين بأدنى البيانين, أو يجعل الأضعف بيانا للأقوى. إنه لما بين عدد الصلوات, فسأله الأعرابي, فقال: "صل معنا." وقال لزوجته لما سئلت عن القبلة للصائم: "هلا أعلمتهم أني أقبل وأنا صائم؟ " وقال, لما سألته المرأة عن غسل الحيض: "أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات من ماء. "ولما تكلموا في التحرج من استقبال القبلة في البنيان: " أو قد فعلوها؛ حولوا مقعدتي إلى القبلة. "لما عصي في قوله "انحروا هديكم في عمرة القضاء," قالت له أم سلمة "اخرج, وانحر." فنحر؛ فنحروا. على أن قوة الفعل على القول ظاهرة. من ذلك أن القول يدخله التقدير والتقديم والتأخير والمجاز والاستعارة. ويقال للحي "ميت," وللعصير "خمر" لما يوؤل إليه؛ وللبالغ "يتيم," وللمعتق "عبد," وللمطلقة "زوجة" لما كانت عليه. ولا يكون فعلا الذبح, ووقوع الميت, وجميع الأفعال الواقعة, فيقال, هذا قتل مستعار" ويؤكد القول ويخرج عن تردده واحتماله بالأفعال وجلائل الأحوال. فلو سمع من وراء حجاب رجلاً يقول "زيد عالم فاضل, وعمرو عفيف ابن عفيفة," لقال "سمعت رجلا يمدح فلانا." ولو كشف الحجاب فرأى من وجهه

شعر لأبي نواس في ولد مات للمأمون وآخر ولد في ذات الليلة

والإشارة برأسه مع قوله, لقبل قذفه, أو عرض بقذفه وهزائه بقوله "فاضل." وأبدًا دلائل الأفعال صالحة لإزالة إشكال الأقوال؛ ولا تصلح الأقوال كاشفًة لتردد من الأفعال. وأما قولك "لا يعم, ولا يتعدى" فكيف لا والقول لا يبقى بعد قائله, بل ينعدم عقيب وجوده, والسهم الصادر عن اعتماده يقطع الفضاء مارا إلى المرمى بقتله بعد موت الرامي؟ قال: وأما قولك: لعلهما أسلما واستتبع تسمية اليهود, أي "كانا," لا يصح؛ لأنهما لو كانا, احتاج إلى موافقتهم بالتوراة مع تصديقهما له بالإسلام؛ وأي حكم للتوراة عليهما بعد الإسلام؟ 534 - قال أبو نواس في ليلة مات فيها ولد للمأمون ورزق ولدا فيها: تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان إذ هو كائن حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساو مرة ومحاسن وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت ولا الموت غابن 535 - قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أبالي على أي حال أصحبت: على ما أحب, أو على ما أكره؛ لأني لا أدري الخير فيما أحب وفيما أكره.

شعر لبعضهم

536 - شعر إذا شعبي لاحت ذراها كأنها ... فوالج بخت أو مجللة دهم تذكرت عيشا قد مضى ليس راجعا ... علينا وأياما تذكرها سقم 537 - قال حنبلي في نظره لمن قبح ذبح الحيوان على الشرائع: لا خلاف بين العقلاء أن الأمانة للحيوان تجمع بين إيلام] الذبح وإيلام [النزع, ولعله أشد من الذبح. وقد أمر الله الملائكة بنزع أرواحنا. ونحن أكرم البهيم منزلة, ولنا حق العبادة وحمل أعباء التكليف. فاحسبوا أن الله جعلنا لقبض أرواح البهائم, أو إزهاقها, كملائكة قبضت الأرواح منا, ونكون نحن كهم في إزهاق أرواح البهائم. 538 - جرى في إيجاب الزكاة في المعلوفة قال حنبلي ينصر مذهب مالك: معلوم أن المعلوفة ينتفع بدرها ونسلها وظهرها إن كانت إبلا وبقرا. وعلفها الغالي يغطي عليه توفر لبنها وشحمها وزيادة سعرها وقيمتها. فلا يبقى من تميز السائمة إلا الرفق بالرعي من المباح. ووجدنا أن السخال بإجماعكم تجب فيها الزكاة.

جرى في إيجاب الزكاة في المعلوفة

فأبو حنيفة بوجبها وصلاً, وأحمد والشافعي يوجبانها أصلا؛ وهي عديمة النفع رأسًا: فلا ظهر, ولا دًر, ولا نسل, وعلفها اللبن الذي هو مأكول ومشروب الآدميين. فإذا أوجبتم الزكاة فيها, فأولى أن تجب عندكم في المعلوفة. وسألنا الشيخ الإمام - كرم الله وجهه - فقال: لست أعرف عن الشافعي في مرتضعات الألبان, هل تجب فيها الزكاة, أم تقف على السخال التي تقيم مع أمهاتها وتتبعها في الرعي. قال له حنبلي: فقوله "وعد عليهم بالسخلة, يروح بها الراعي على يديه". فقال: لعله قال ذلك مثلاً مثل, أو عقالاً؛ والعقال لا تجب فيه الزكاة. 539 - أنشد أبو القاسم علي بن الحسن بن جلباب قال أنشدني بعض بني عبد الكريم الطالبي لأبي الطيب المتنبي إلى أبي يعقوب وقد حبسه لهجوه له بالقصيدة الميمية بحبس مصر يقال له بربخ: أنشد أبو القاسم علي بن الحسن بن جلباب قال أنشدني بعض بني عبد الكريم الطالبي لأبي الطيب المتنبي إلى أبي يعقوب وقد حبسه لهجوه له بالقصيدة الميمية بحبس مصر يقال له بربخ: ] بيدي [أيها الأمير الأديب ... لا لشيء إلا لأني غريب أو لأم لها ذا ذكرتني ... دم قلب بدمع عين مشوب

من كلام الحسن البصري

عائب عابني لديك ومنه ... خلقت في ذوي العيوب عيوب إن أكن قبل أن لقيتك أخطأ ... ت فإني على يديك أتوب فأطلقه. 540 - كان الحسن يقول: يصبح بني آدم بين نعمة زائلة, وبلية نازلة, ومنية قاتلة. 541 - صفة دار حسنة: وطن تبيت المكارم فيه بين ماء جار وعود وريق. 542 - لبشار: وأملاك صدق ألبستني طرازهم ... قصائد ما لي غيرهن شفيع يردن امرءا قد شذب الحمد ماله ... أغر طويل الباع حين يبوع وما ضاع مال أورث الحمد أهله ... ولكن أموال البخيل تضيع

كلام بين حنبلي وبين شيخ من شيوخ المشبهة

إذا اختزن المال البخيل فإنما ... خزائنهم خطية ودروع وبيض لها مسك لمس أكفهم ... على أنها ريح الدماء تضوع يقال ((ضاع يضوع.)) وقال ابن السكيت: يقال ((يضيع)) أيضًا. 543 - قال حنبلي: أسرع الناس تجنيسًا بالرجال المشبهة الذين توهموا وتمكن في نفوسهم أن ربهم على صورة آدمي، فلا ينكرونه بالصورة. ثم تظهر على يديه أفعال إلهية من إحياء ميت، وإنشاء سحاب في أثر جدب، وإلى أمثال ذلك من الفتن؛ فلا يبقى ما ينكرونه. قال واحد منهم يكتم ما في نفسه، فزعًا من الصفع: فهو أعور. قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: وإن ربكم ليس بأعور. قال له الحنبلي، يدلب على أن الشيخ، لو وجد الدجال صحيح العينين، دان له وعبده، لتكامل سلامة الصورة: لقد خرج ما في نفسك من أنك لا تمتنع من عبادته إلا لعورة. والباري - سبحانه وتعالى- نفى الإلهية في المسيح

من كلام قس بن ساعدة

وأمه بقوله: {كانا يأكلان الطعام}. وإن هذا الذي اعتذرت به يوجب عليك عبادة عيسى؛ لأنه أحيا ميتًا وليس بأعور. 544 - عن عبد الله بن عباس عن أبيه قال: بلغنا أن قس بن ساعدة جمع ولده فقال: إن المعاء تكفيه البقلة وترويه المذقة. ومن عيرك شيئًا، ففيه مثا. ومن ظلمك وجد من يظلمه. ومتى عدلت على نفسك عدل عليك من فوقك. وإذا نهيت عن شئ فابد بنفسك. ولا تجمع ما لا تأكل، ولا تأكل ما لا تحتاج. وإذا اذخرت فلا يكن ذخرك وكنزك إلا فعلك. ولا تشاورن مشغولًا ولا جائعًا ولا مذعورًا وإن كان فهمًا. ولا تجعلن في عنقك طوقًا لا يمكنك نزعه إلا بشق نفسك. وإذا خاصمت فاعدل. وإذا قلت فاقتصد. ولا تستودعن ذنبك- أو قال: سرك- أحدًا وإن قربت قرابته؛ فإنك إذا فعلت ذلك، لم تزل وجلًا؛ وكان المستودع بالخيار في الوفاء والغدر؛ وكنت له عبدًا ما بقيت؛ وإن جنى عليك، كنت أولى بذلك؛ وإن كان هو المسئ، كان الممدوح دونك. 545 - ((لمعن بن أوس المزني في مدح البنات: [الطويل] رأيت رجالًا يكرهون بناتهم ... وفيهن لا كذب نساء صوالح

في الأيام البيض المخصومة بالصوم

وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... عوائد لا يمللنه ونوائح 546 - روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ثلاث ضمنهن الله أن لا يفعل. قال - جل وعلا-: إن {الله لا يهدي كيد الخائنين}، {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} و {لا يصلح عمل المفسدين}. 547 - سئل الحسن وعنده أعرابي: لم خص الناس الأيام البيض بالصوم؟ فقال الأعرابي: لأن الكسوف لا يكون إلا فيها؛ والله يحب أن لا تكون في السماء آية إلا كانت في الأرض عبادة. 548 - روي أن امرأة أتت عليًا - كرم الله وجهه- فقالت: إن اللصوص دخلوا علي البارحة، فأخذوا جميع مالي، حتى افتكوا خلخالي من رجلي وزوجي قاعد تزر عيناه. فقال: علي به. فلما أتي به، قال له: ألا وريت بك زنادي. لكن ابن صفية لو سيم مثل هذا أبي - يعني حمزة عم. قال الخادم: ومثل هذا تلغيه قلوب الشجعان. ولقد لطف به علي عم حيث قنع له بهذا الكلام.

من أخبار أبي سفيان بن الحارث وعلي بن أبي طالب مع النبي

549 - كان أبو سفيان بن الحارث يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم- فيعتذر من هجائه له؛ فكان يعرض عنه. فشكا ذلك إلى علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه-. فقال له: خذ بيد ابنيك، واستقبله، وقل ((والله، يا رسول الله! {لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} فإنه ليس أحد أحسن جوابًا من رسول الله. فلما فعل ذلك، قال له رسول الله: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}. 550 - أنشد الجاحظ: [المتقارب] وكان لنا أصدقاء مضوا ... تفانوا جميعًا فما خلدوا تساقوا جميعًا كؤوس المنون ... فمات الصديق ومات العدو 551 - روي أن الذي طعن معاوية في؟ ؟ أخذ فقيل له: من أنت؟ قال: أخ لكم من طينٍ لازب. فأمر بحبسه. فلما بلغه قتل علي، أمر بقتله. ويقال إنه بقي وأولد، فقتله بعض أصحاب معاوية. 552 - قيل ((لعتاب بن الحصين: في أي عدة تحب أن تلقى عدوك فيها: رمح، أو سيف، أو قوس وسهام؟ قال: في أجل متأخر.

من حكم الحديث المسند

قال حنبلي له اطلاع: هذا من أحسن العدد المختارة. 553 - في الحديث المسند: آفة الحديث الكذب. وآفة العلم النسيان. وآفة الحلم السفه. وآفة العبادة الفترة. وآفة الشجاعة البغي. وآفة السماحة المن. وآفة الجمال الخيلاء. وآفة الحسب الفخر. وآفة الطرف الصلف. وآفة الجود السرف. وآفة الدين الهوى. 554 - لبعضهم: [الطويل] هلم إلى العتبى فقد بلغ المدى ... بنا وبك الهجر المبرح والعتب ولا تلزمنا دونك العتب إننا ... كلانا له في هجر صاحبه ذنب 555 - يقال: أهلك الناس حب الفخر وفوت الفقر. 556 - روى أبو عمران الجوني عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- أنه قال: لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من أكلته. ولكنا ندعه ليوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها. قال أبو عمران: والله ما كان يصيب من الطعام، هو وأهله، إلا قوتًا!

في بعض الأفعال المتجانسة في الحروف المختلفة في المعنى

557 - قال أهل اللغة: وهم - بفتح الهاء - إلى الشئ، أي ذهب إليه وهمه. ووهم - بكسرها، غلط؛ وأوهم، أسقط. ووهل يهل إذا غلط، ووهل - بكسر الهاء، إذا فزع. يقال: سمرت عينه وسملت إذا فقئت بحديدة أو شوكة. في الحديث الذي ورد في الغريبين: وسمل - وروي: وسمر - أعينهم. 558 - قال الشيخ أبو الحسين البصري في وجوب الأخذ بخبر الواحد بأن العقل أوجب التحرز. فإذا جاء خبر واحد عدل بإيجاب سمعي، أو اجتناب، فأوجبنا واجتنبنا، كنا آخذين بما أوجبه العقل، وهو التوقي والتحرز. 559 - قال حنبلي: إن سول لك مسول من شياطين الجن أو الإنس أن ((لا انتفاع بالعمل مع القدر، )) فقل له ((ولا توق مع الأجل.)) فإن قال: ((وكذاك هو، )) قل: ((فهل تستطرح للأعداء؟ وهل تطرح عند الأمراض العلاج والدواء؟ )) فإن قال: ((لا، فإن حبي لنفسي يحملني على مكابدة المؤذي ومدافعته ((عنها، )) فجواب المسألة منها: النفس محبوبة. والوعيد على ترك الواجبات وفعل المحظورات قد جاءت به النبوات. والتحرز

واجب في العقل. وحب النفس حركك في التداوي ودفع الصائل؛ فليحملك خوف فساد العاقبة على النفس على الاستجابة لما جاءت به النذر. ثم صاحب القدر أمرك بالتحرز. فيحسن أن تطرح التحرز ممن لا خبرة له بالقدر إلا من طريق السماع والخبر. فقال لك: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}؛ {وأعدوا لهم}؛ {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك}؛ الآيات. هاجر إلى المدينة، فإن قومك قد عزموا على قتلك. وهو المقاتل. {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل}. فإذا كان هذا قول صاحب القدر، تلقيت أنت قول الجهال بقولهم: ما ينفع التحرز والعمل؟ اعقل أمرك واعمل وتشاغل بما كتب إليك، ولا تشتغل بما كتب عليك. فما عطل خطاب التكليف وما جاءت به الرسل باطلًا بسهو الباطل العاطل. قال أمير المؤمنين علي عم لرجل آية في القرآن - قوله تعالى-: {وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثيرٍ}. كأنه يقول: المصيبة عقوبة. وما عفا الله عنه في الدنيا، فهو أمجد وأجود وأكرم من أن يعود في شئ عفا عنه. قال حنبلي: فهذه أرجأ آية في كتاب الله. وقد ورد في الخبر: حتى الشوكة يشاكها، إذا انقطع شسع نعل أحدكم، فليسترجع، فإنها مصيبة. ومعلوم كثرة اللواذع والمصائب في المال والنفس والأهل والعرض؛ فإذا أخبر الله - تعالى- أنها مقابلات وعقوبات، وضمن على نفسه العفو عن كثير،

فصل في التقليد وهو تعظيم الرجال وترك الأدلة

فما قصرت المصائب في الدنيا عن مقابلته سقط بالعفو الذي ضمنه - سبحانه-. فهذه الآية تهون مصائب الدنيا عند العقلاء. 560 - فصل ما دخلت البدع على الأديان إلا من طريق سلكه عوام الأديان، فهلكوا. ((والواجب على من خبره أن يعدل عن سلوكه، ليسلم مما وقع فيه من اغتر به فسلكه. وذلك الطريق هو تعظيم الرجال وترك الأدلة، وهو التقليد. فأول من سلكه الشيطان؛ حيث نظر إلى نفسه بنوع من أنواع التعظيم لها، وترك النظر إلى الدلالة القاطعة. فالله - سبحانه- يقول: {اسجدوا لآدم}. وقد سبق في علمه بنظره واستدلاله على أن هذا القائل هو الإله القديم الحكيم المبدئ لخلقه من أنواع شتى. وهو الأعلم بمقادير العباد التي ابتدع خلقه منها، النار والطين والهواء والنور والماء. ولو لم تسبق له المعرفة بأن الآمر له على هذه الصفة، وأنه الإله القديم الحكيم العالم بمقادير ما خلق، ومراتب ما خلق منه، لما رسخ بالمجادلة في فرع وما ثبت عنده أصله. فلو لم يثبت عنده الأصل لا مادة الخلق لقال أولًا: ((ومتى ثبت عندي أنك - أيها القائل (اسجدوا) - آمر، [فأنا] تحت طاعة أمرك.)) لأن الشكوك في الأصول تمنع الرد بالفروع. ومعلوم أن العلماء كلهم من أهل الأديان لا يشكون أن إبليس لم يشاهد الآمر له. ولا سبقت له مشاهدة. ولا له في ذات الله - سبحانه- علامة. فبطل أن يكون عرفه بالمشاهدة. وأكثر العلماء

من أهل السنة يقولون: ولا كلمه بذاته، لكن صدر الكلام له على حد كلامه لموسى. فإن الله - سبحانه وتعالى- نفى تكليمه للكفار، وهم دون إبليس، فقال: {لا يكلمهم الله}. ثم عم، فقال: {وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجابٍ أو يرسل رسولًا فيوحي}؛ {وكذلك أوحينا إليك}. فإذا أخبر بصيانة كلامه عن المكالمة به لخواص خلقه من بني آدم الذين شرفهم عليه، يكون متكلمًا لهم كفاحًا. فإذا ثبت هذا، علم أنه إنما سبق له العلم بأنه - سبحانه- هو الآمر له وللملائكة بالسجود استدلالًا ونظرًا سبق سماعه له بالسجود. فلذلك لم يتعرض لجحد ما سبق العلم به فيقول: حتى يثبت عندي أن الآمر لي الخالق الذي ابتدعني، فأجيب إلى ما أمرني. والذي يشهد لسبق ذلك قوله وهو في مقام الجدال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين}. وهذا قسم عارفٍ بأن الآمر له هو صاحب الأمر الموصوف ((بالعزة المستحق المقسم به. الشاهد الثاني لمعرفته أنه خطف منه الأنظار. فلو لم يسبق له العلم بأنه الحكيم، لما سأل البقاء. لأن الإبقاء إلى من كان منه أصل الإيجاد. والإبقاء فرع على الإيجاد. فلما ثبت ذلك في حق إبليس، وجب عليه الائتمار للحق - سبحانه-. ترك هذا جميعه، وأخلد إلى تعظيم نفسه بمادة خلقه، فقال: {خلقتني من نار}. وهذا أيضًا مما قدمناه من؟ ؟ معرفته في عقده أن الخطاب بالأمر من جهة من ثبت له الخلق. وهذه الرذيلة التي دخلت على المتبعين له من أهل التقليد، حيث قالوا للأنبياء:

{أهذا الذي بعث}؟ {أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون}؟ وقال فرعون: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}، اعتمادًا على دناءة اللبسة وقصور الحال بقوله: {فلولا أقي عليه أسورة من ذهب}. وقالوا في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم-: {لولا أنزل عليه كنز}. وتارة يقولون: {يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم}. هذا كله عمي عن الحجة والبرهان، ونظر إلى الأشخاص. فهذا محنة التقليد. جئنا إلى ما نحن فيه. وجدنا السلف الصالح كلهم، الذين هم أرجح ممن ينتمي إليه أرباب المذاهب اليوم، الذين قال النبي - صلى الله عليه وسلم-[عنهم] ((أصحابي كالنجوم؛ بأيهم اقتديتم اهتديتم؛ اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر)) - وجدناهم على أصل وفرع. فالأصل أنهم لم يسلكوا مسلك تقليد بعضهم لبعض. ولا أنكروا بأجمعهم مخالفة الأدنى للأعلى في مسائل الفقه والفرائض. فأبو بكر الصديق، الذي أجمعوا عليه، أقدم على خلافة من لم يبلغ رتبته، لأنه لم يذكر في العشرة، ولا ذكر في الخلافة يوم السقيفة، ولا ذكر في الشورى مع الستة. زيد بن ثابت ورث الإخوة مع الجد، وقد قضى أبو بكر بإسقاطهم بالجد، وجعله كالأب. فلم يجبر في ذلك من جهة الصديق، ولا أخذ في حق زيد تهجين ولا عتب. وكذلك مسألة العول؛ خالف فيها ابن عباس وهو بالخدمة وتأخير الرتبة عن اكابر الصحابة في العول. وبالغ، حتى قال: ((من شاء باهلني

باهلته. ((والذي أحصى رمل عالج عددًا، ما جعل الله في الفريضة نصفًا ونصفًا وثلثًا. ذهب المال بنصفيه، فأين موضع الثلث؟ )) فلا أنكر أحد عليه نفس الخلاف، ولا دعاه إلى تقليد الكبائر، ولا هجر، ولا بدع. واختلفوا على لفظة الحرام، على ستة أو سبعة مذاهب، وما أنكر أحد نفس الخلاف. وإنما فزعوا إلى الدلة. ولا أحد منهم نظر في مسائل الاجتهاد إلى السابقة، ولا الشجاعة، ولا البلاء في الاجتهاد، ولا الإيفاء في نصرة الإسلام، بخلاف نظرهم إلى ذلك في الخلافة. فأما مسائل الاجتهاد، فانقطعت ألسنة التفضيل، والتفتوا إلى نفس الدليل. هذه نبذة مثال في الفروع. جئنا إلى ما جرى في عصرهم من الأصول. خاضوا ولم يسأل عن المثبت والنافي؛ بل ساق الكل إلى الدليل. وهو أن الكلام فيها أهلك من كان قبلهم. اختلفوا بعده - صلى الله عليه وسلم- في رؤيته لله - تعالى- ليلة الإسراء. فقالت عائشة - رضي الله عنها-: لقد وقف شعري مما قال ابن عباس؛ يقول إن محمدًا رأى ربه ليلة الإسراء؛ والله - تعالى- يقول: {لا تدركه الأبصار}. وابن عباس يقول إنه رأى ربه بعيني رأسه مرتين. ويتلو كما تليت {ولقد رآه نزلة أخرى} {عند سدرة المنتهى}. واختلفوا في آيات من كتاب الله، رواها ابن مسعود على صيغة، وخالفوه فيها. ولم يوجب ذلك أن يقال: هذا الذي شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم- في القراءة خاصة، فقال: من أحب أن يسمع القرآن

غضًا كما أنزل، فليسمعه من ابن أم عبد. قال لهم: سمعت ((فامضوا إلى ذكر الله، )) وكذا أقرأني رسول الله. لم يقطعهم تعظيمه عن محاجته ومخالفته. واجتمع رأيهم على الدليل. وهو حسم مادة التغيير والتبديل. وخرقوا مصحفه نظرًا إلى الحجة، وهي إجماعهم ودليلهم. ولو عاشوا إلى ما تجدد من الاختلاف، لما عدلوا عن الفرع إلى الحجة، دون تقليد البعض للبعض، ولا الأدنى للأعلى. هذا حكم السلف الأول الذين نفتخر بهم، أحمد، والشافعي، ومن سبقهم من فقهاء التابعين. جئنا إلى أحمد - رضي الله عنه وأرضاه- وهو ((إمام السنة، لم يسلك في اعتقاده تعظيم الرجال، ولا تقليد الأكابر، ولم ينظر سوى الدليل. فيجب أن لا نخالفه، كما لم يخالف من قبله. وأنتم تدعونا إلى وفاقه تقليدًا له، ونظرًا إلى أنه الأقدم والأكبر. وهذا دعاء منكم لنا إلى ترك مذهبه وأنتم لا تعلمون. وذلك أنه خالف أبي بكر الصديق في مسألة الجد، فلم يجعله كالأب، ووافق زيدًا في ذلك. فلو كان قد نظر إلى رتبة التقدم والسبق، لكان اتباعه للصديق أولى من زيد. فلما لم يفعل ذلك اتباعًا للدليل دون التفضيل للأشخاص، وجب الآن النظر إلى الأدلة في عصرنا دون تعظيم المشايخ، اقتداًا بالسلف الصالح من آدم إلى الآن، على ما قدمنا من البرهان. ولو لزمنا هذا، للزم من قبلنا. فإذا قيل: أنت، أيها الحدث. تخالف مشايخك في توجيه هذا بعينه على ما ذكرنا من

كل أدنى خالف أعلى، فيقال لأحمد: أنت تخالف الصديق في توريث الإخوة مع الجد؛ وأبو بكر جعله في إسقاطهم كالأب، ويتبع زيد. وترتفع المعتبة إلى زيد، فيقال له: أنت، ولا لك رتبة أبي بكر، تخالف من هو المقدم بسبقه في الإسلام، والهجرة، والتفقه، والخلافة؟ فيبطل أصل عظيم بهذا النوع من التعظيم، وهو إجماع الصحابة. وما اجتمعت الصحابة على اطراحه لا يجوز التمسك به؛ وهو اطراحهم للأشخاص في باب الأحكام، واتباع الأدلة خاصة. فأما الدلالة على إبطال ما أنتم عليه، يا معشر العوام، فهو دخولكم في البحث عن الله، والخوض في كل شئ أضافه الله إلى نفسه، وقولكم إنه صفة، حسبما تسمعون ممن لا يفرق بين الصفة والفعل والحال. وما حسن أن يمر على سنن لأنه حجة الإجماع. وإنما تجعد عنه من خوف مخالفة الإجماع بأخذه به فيما أقدم عليه مما خالف به نص القرآن وأدلة العقول التي بها ثبت الخالق - جلت عظمته - وبها ثبت صدق الرسول. فمن ذلك قوله - تعالى-: {إني خالق بشرًا من طين}؛ {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}. فتضمنت هذه الآية إثبات نفخٍ أضافه إلى نفسه، وروح أضافها إلى ذاته وأيد ذلك أيضًا بقوله في حق مريم: (({والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا}. فأثبت له نفخًا وروحًا نفخت في فرجٍ صين عن الزنا. وأضاف النفخ إلى عيسى في

الطائر الذي شكله من طين، فقال: {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرًا بإذني}. فهل أحد من أهل السنة ذهب إلى ما ضلت به الحلولية، وأن الروح قديمة، وأن لله صفة تسمى بالروح، ولله صفة تسمى بالنفخ، وأنها حلت في آدم وفي فرج مريم؟ فمن قولب الظاهرية ((لا، )) قلنا: فما الذي صرفكم ومنعكم عن وصفه بأنه نافخ، وأن لذاته صفة يقال لها النفخ، وأنها على ظاهرها من إخراج هواء أو ريح من فم مجوف إلى إنسان مجوف وهو آدم، وشخص آخر مجوف وهي مريم؟ فستقولون لأن الله - سبحانه- قديم، ولا يجوز لقديم أن يحل في محدث، ولأنه قال - سبحانه-: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون}، وقوله: {ليس كمثله شئ}. والنافخ والمنفوخ بظاهر اللفظ كله أمثال وأشكال. قلنا: فهذا بعينه هو الذي يوجب عليكم أن تنهوا عن الله. وصفة من صفاته أن يعجن الطين وينسل من بين أصابعه كما ينسل؟ ؟ يد الكواز. ويوجب عليكم أن تنفوا أن تلج صفة الله، وهي الرجل والقدم، في النار لزًا لها؟ ؟ . فتارة تجعلونه عاجنًا للطين بيد هي صفة لذاته، وتارة تجعلونه دائسًا للنار برجله. والباري كشف ستره في ذلك وهتك ستر هؤلاء المتوهمة بقوله: {يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم}.

فالقدم خرجت عن الإحتراق. ومن ذلك قوله - تعالى-: {ذلك عيسى ابن مرين قول الحق}، {رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم}. ولو اعتقد معتقد أن عيسى، الذي هو جسم مؤلف، كلمة الله القديم، لكفر. وقد كفرنا النصارى بهذا. فلم لم تقل إنه كلمة الله حقيقة؟ فإن قلت: لإن صفة الله لا تستحيل لحمًا ودمًا، قيل: فصار تقديره ((الكائن بكلمة الله، الناطق المبلغ بحكمة الله.)) فهذا هو التأويل بالدليل، لنفي التشبيه. فيلزمك ذلك في كل اسم أضيف إليه أن يحمل بالتأويل على ما يليق به - سبحانه- مما ينفي المعهود من صفاتنا وأسمائنا. وكذلك قوله: {من ذا الذي يقرض الله}؛ {إن الذين ((يبايعونك إنما يبايعون الله}، {إن الذين يؤذون الله}. صرف ذلك كله عن ظاهره المعقول من صفاتنا أدلة العقول الدالة على غناء الحق عن الافتراض نصًا وعقلًا. فالنص: {وإن من شئٍ إلا عندنا خزائنه}. ومن هذا وصفه، كيف يصح عليه حقيقة الافتراض من خلقه؟ وكيف تناله الأذايا من خلقه؟ وكيف تثبت له المصالحة لخلقه؟ فلم يبق إلا أنه أقام نفسه مقامهم في افتراض الأغنياء لفقراء خلقه. فيكون كأنه افتراض من حيث أقام نفسه مقامهم في الافتراض لهم. و {إن الذين يؤذون} رسله وأولياءه؛ وعلى هذا في جميع؟ ؟ يوهم التشبيه.

شعر لأبي العتاهية

وهذا كله مبني على أن الباري - سبحانه- ليس- من حيث سمي شيئًا وموجودًا وحيًا ومتكلمًا وجائيًا، بقوله: {وجاء ربك}، وآتيًا، بقوله: {يوم يأتي} - يجب أن يكون في ذاته حسبما نحن عليه، أو مثلنا. كذلك جميع ما يضاف إليه إنما يكون مجازًا. وقد شهد لهذه الاستعارات ما ورد في الخبر أن الله - سبحانه- يقول لعبده ((مرضت فلم تعدني، )) فيقول: ((وكيف وأنت رب العزة؟ )) فيقول: ((مرض عبدي فلان ولم تعده؛ ولو عدته، لوجدتني عنده.)) فاتقوا الله في حمل كل ما أضيف إلى الله أنه صفة لله. وصفات الله - سبحانه- ما لم يفارقه، كالعلم والقدرة. فأما ما تجدد وزال، فلا يجوز أن يكون؛ كالاستواء، ورؤيته لخلقه، وسماعه كلام خلقه؛ هذه أحوال، وليست صفات. فلم يزل بصيرًا سميعًا لكل مسموع ومرئي. فلما تجددت الأصوات، سمع تلك الأصوات؛ ولما خلق المرئيات، كان سامعًا لها رائيًا لها، وعلى هذا. فاعتقد، تسلم من هوة التشبيه. - والسلام. وهذا كله يرد قول عوام الأصحاب من حد فلان وفلان، يشيرون إلى الأصحاب أن [لا] يردوا على المشايخ، ولا يعلمون أن السلف، الذين نحن أتباعهم، كلهم على ذلك. ولئن جاز أن يقال ((ليس من حدود فلان وفلان أن يردوا على المشايخ، )) جاز أن يقال ((ليس من حد أحمد رضه مخالفة الصديق، ومخالفة بنته عائشة، في مسألة الجد ومسألة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلبم ربه ليلة الإسراء.

561 - ((روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لو علم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع في جنته؛ ولو علم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من رحمته. قال حنبلي: وما يحتاج إلى ذكر الجنة والنار في هذا الشأن. بل إذا رأى بطشانه - سبحانه- في العالم وألطافه، كان ذلك مقتضيًا بالمؤمن إلى الفزع، والكافر إلى الطمع. 562 - لأبي العتاهية: [السريع] بات نديمًا لي حتى الصباح ... أعيد مجدول مكان الوشاح كأنما يضحك عن لؤلؤ ... منظم أو برد أو أقاح تحسبه نشوان أمارنا ... للفتر من أجفانه وهوصاح بت أفديه ولا أرعوي ... لنهي ناهٍ عنه أو لحي لاح أمزج كأسي بجنى ريقه ... وإنما أمزج راحًا براح تساقط الورد علينا وقد ... يبلج الصبح نسيم الرياح أغضيت عن بعض الذي يبقى ... من حرجٍ في حبه أو جناح سحر العيون النجل مستهلك ... لبي وتوريد الخدود الملاح

شعر لبعضهم

قل لأبي نوحٍ شقيق الندى ... ومعدن الجود وخلف السماح أعوذ بالرأي الجميل الذي ... عودته والنائل المستباح من أن تصد الطرف عني وأن ... أخيب في جدواك بعد النجاح إن كان لي ذنب فعفوًا وإن ... لم يك لي ذنب ففيم اطراح أبعد أسباب منار القوى ... من فرط شكر سائرٍ وامتداح ؟ ؟ عن قلب قديم الهوى .. فيك وعن صدر أمين النواح أشمت أعدائي وأخرجتني ... عن سيبك المعدي على المراح ((فهل لأنسٍ [ ... ] من رجعةٍ ... أم هل لحالٍ فسدت من صلاح 563 - لغيره: [الكامل] لي شاهدان إذا رأيتك في الهوى ... خفقان قلبي وانعقاد لساني فإذا كتبت إليك كف يدي الهوى ... ففساد خطي لارتعاش بناني 564 - رأيت هذه الأبيات لبعض مشايخنا معلقة، وقد ذكر أنه كان يعرفها لبعض العرب القداماء؛ وهي: [الطويل] أغرك أني قد تصبرت جاهدًا ... وفي النفس مني منك ما ستميتها ستبقى بقاء الصب من الما أو ... يعيش بديموم الصريمة حوتها

شعر لابن المعتز

إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها ... فكم تلبث النفس التي أنت قوتها 565 - لابن المعتز: [البسيط] يا عذلي قد كفاك الشيب تفنيدي ... جرحت من لحظات الخرد الغيد وأرسل الشيب في رأسي ومفرقه ... بزاته البيض في غربانه السود 566 - لأعرابي يرثي ولدًا له: [البسيط] لصقت بالقلب حتى كنت أسوده ... وبالجوانح حتى كنت لي كبدا فلست أدري وكل منك يخلجني ... أكنت لي ولدًا أم كنت لي ولدا 567 - ومن مستنبحات العرب قول عبد السلام الكناني، من المستحسنات منها: [الطويل] ومستنبحٍ والليل مرخٍ سدوله ... له رنة تحت الدجى ونعيق ((وقد جاده نوء السماك بودقه ... وريح شمال زفزف وبروق دعاني وعرض الدو بيني وبينه ... وفج بعيد الجانبين عميق

فقلت له لبيك لبيك إنني ... إليك ورب العالمين مشوق وقلت لعبدي أذك نارك معجلًا ... فهذا وقود حاضر وحريق فإن يأتنا أو يهده ضوء نارنا ... بليلتنا هاتي فأنت عتيق فأثقب نارًا في يفاعٍ محلقٍ ... وضرمها ما اسطاع فهو ذلوق ترى شررًا كالقصر منها كأنها ... جمال عليها الزعفران ونوق فأقبل مجهوشًا وقد سل جسمه ... فلم يبق إلا أعظم وعروق فقلت له حياك ربك من فتى ... أنخ فمحل واسع وصديق وأب يرى حق الأبوة واجبًا ... عليه ومن بعد الحقوق حقوق فأفرخ عنه الروع وارتد لونه ... وسكنت منه القلب وهو خفوق وقمت إلى عضب المهزة مرهفٍ ... له لمعان في الدجى وبريق حسام كلون الملح يسرع في الطلا ... مرارًا رقيق الشفرتين عتيق فيممت بركًا بالفناء كأنها ... نخيل ببطن الواديين سحوق يؤاكلن حد السيف حينًا ولم يكن ... لسيف امرئ في مثلهن طريق فقال لي الراعي حنانيك إنني ... عليك ورب الراقصات شفيق أفي كل يومٍ أنت مردٍ عقيلةً ... فحتى متى لا ترعوي وتفيق أما ترهب الإملاق قلت له صهٍ ... فأن إله العالمين رزوق

مستنبحة أخرى مثلها في الوزن لعمرو بن الأهتم المنقري

وبادر كفي قلت وسد خلةً ... فإني بفعل الصالحات خليق وحاذر ذباب السيف واتق حده ... فإني جهول في السماح خروق ((فأمسك واستجدي ولو أنه أبى ... لغادرت منه الرأس وهو فليق فأهملته في ساق؟ ؟ ... سناد حكاها في العلو فتيق فرفع راعيها وأجهش باهتًا ... وإنسانه في مقلتيه غريق وأقسم لو تفدي فداها بنفسه ... وبالأهل والإخوان وهو صدوق 568 - ومثلها في الوزن لعمرو بن الأهتم المنقري: [الطويل] ومستنبحٍ بعد الهدوء دعوته ... وقد حان من نجم السماء خفوق يعالج عرنينًا من الليل باردًا ... تلف رياح ثوبه وبروق فقمت وقد؟ ؟ عليه ولم أقل ... لأحرمه إن المكان مضيق وقلت له أهلًا وسهلًا ومرحبًا ... فهذا صبوح زاهر وغبوق وضاحكته من قبل عرفاني اسمه ... ليأنس بي إن الكريم رفيق وقمت إلى الكرم الهواجد ما؟ ؟ ... مقاييد كرمٍ كالمحاول روق بإدماء مرباع النتاج كأنها ... إذا عرضت دون العشار فنيق

قول حنبلي في الضيافة عند العرب بالنسبة إلى أهل الحضر

فضربة ساقٍ أو محلا ثره ... لها من أمام المنكبين فتيق وقام إليها الجازران فأوقدا ... يطران عنها الجلد وهو يفوق فبات لنا منها وللضيف موهنًا ... سوى سمتين راهن وصليق وبات لنا دون الصبا وهي مرة ... لحاف ومصقول الكساء رقيق وكل كريمٍ يتقي الدم بالقرى ... وللخير بين الصالحين طريق لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق 569 - قال حنبلي: أرى أهل الحضر والأمصار، إذا نبس أحدهم بوصف طعام اصطنعه، جاءته المحن من كل مكان. حتى صنفوا ((دعوة التجار)) وجعلوها مثلًا وسمرًا. وهذا ما قد سمعتم من صفات ((العرب للأطعمة والذبائح. وأكثروا، حتى ضمنوه الافتخار وذم البخلاء. فلم خص أهل الحضر بذمهم على وصفهم لأطعمتهم وهو يبلغون في تحسين الأطعمة ما لا يبلغه أهل البادية؟ ثم لو تكلم من عمل طعامًا أنفق عليه ألف دينار بكلمة تتضمن مدح الطعام ونهوضه إلى ذبح الذبائح ووزن أثمان الأطعمة الفاخرة، لأتته المعائب من كل مكان. حتى صنفوا معائب لقبوها

بـ ((دعوة التجار، )) وقبحوا فيها آثارهم بمدح الطعام، وذكر كيفية الحال. لا بد أن يكون بينهما فرق أوجب لهؤلاء المدح أو الإمساك عن القدح، وأوجب لهؤلاء القدح فيما اعتمدوه من الوصف. فإن لم تكن علة توجب الفرق، فهو الظلم الصرف والبغي البحت. وأصل هذه الرذيلة في أهل الحضر وعلتها إنما هي تكدير الأطعمة بالنظر إليها بعين التعظيم الذي لا يخلو من نوع افتخار بذلك، وامتنان على الآكلين لذلك الطعام. وهذه علة لا تختص أهل الحضر؛ فلم خصوا بالذم عليها دون أهل البدو؟ قال الحنبلي: وأنا أخرج معنى كلامهم هذا إلى الوجود، وأعرضه على المعقول؛ فإن أبته فهو رذيلة، وإن استحسنته فهو فضيلة. فأقول: رجل في الحضر أتاه مسافر قريب عهد بشقاء السفر. فأخذ يصف تغير وجهه وجسمه ونحافته، وذكر حسن استقباله، ومبادرته بالكلام المقوي لنفسه. ثم عدل عن ذكر ما ظهر من تغير وجهه إلى المسرة بكلام. ثم عاد يذكر أغنامًا له، ويصف شاةً اختارها للذبح لضيافة ذلك الضيف، وشحمها ولحمها. ثم أخذ في وصف الشفرة التي اعتمد على تناولها، وذكر لوم الراعي له على ذبحها، وتأسفه على إراقة دمها، والأسف بها، ووده بأن يفديها بنفسه وأهله. فلو سمع الحضري وأهل الحضر ذلك، لتعير بذلك العار الذي لا يغسله الماء، ولا يبليه الدهر، ولود ذلك الضيف أنه مات جوعًا ولم يتعرض للنزول به وعليه.

هذا هو الذي ((نجده من طباعنا. ومن كابر في ذلك كان خارجًا عن حكم طباعنا وعادتنا. وما صدر هذا الكلام إلا عن استعظام الطعام، وما هذه سجية الكرام؛ وما هتكت أستار القوم وكشفت عن شحهم في أنفسهم بأوضح من هذا. وكل خلة ذكرها هذا المنشد وأمثاله، لو لم يكن لها وقع في نفسه ومكابدة لطبعه الشحيح، لما ذكرها. وما هي والله عندي إلا كالنياحة على ميت ذكر في نياحته النائح عليه علته ومرضه وآلامه وأدويته التي سقيها، وكيف جاء ملك الموت قبض روحه، وكيف استهال الجيرة والأهل صبره على فقدان ميته، واستهالوا قلة جزعه. وأحسن كشف لأحوالهم، التي هي وراء كلامهم، قول الباري لهم، مع تمدحهم بالضيافة، وتعظيمهم للمسرة بالصبيان، وبذلهم للطعام مع السغب والقحط، وعقرهم لمراكبهم التي لا غناء بهم عنها، وبدارهم إلى ذلك، فقال لهم مع هذا كله: الذي أدركته منكم من جناياكم المكتومة المستورة بحسن عملكم، أريدكم أن لا تعتمدوا قتل الأولاد خشية الإملاق، {نحن نرزقكم وإياهم}، {نحن نرزقهم وإياكم}. وقال لهم؟ ؟ ؟ ؟ وأن لا تقتل ولدك، خشية أن يأكل معك. فهتك الله بهذا أستارهم، ألا يعلم من خلق، فطاح التمدح بالكرم مع هذا من الله المطلع على جنات القلوب وما تجنه الصدور. وبان عيب الكلام بما ظهر

جرى في مسألة الاستثناء إذا تعقب جملا هل يعود إلى أقربها أو إلى جميعها

من استقباح أهل الحضر فيما بينهم واتفاقهم على أن المبالغة في وصف الطعام لا يصدر إلا عن اللئام. - والسلام. فلا يبقى نوع يفتخر به مع هذه الإطالة منهم إلا ما أنبأ الله - سبحانه- به من قوله، وهو الخالق - جلت عظمته: {وأحضرت الأنفس الشح}. فتكون الفضيلة لهم بذلك على كافة من لم يتجمل على الأضياف والسؤال بمكابدة طبعه، ومعالجة شحه، وإخراج المحبوب وهو المال. وهذه لعمري فضيلة صادقة. وهي أفضل من مبذول طبعًا، ومن بذل من وجد من نفسه مسامحة بالمال. 570 - ((جرى في مسألة الاستثناء إذا تعقب جملًا هل يعود إلى أقربها أو إلى جميعها فآل من نصر عوده إلى جميعها [إلى] أن قال: معلوم أنه لو قال له ((علي همسة دراهم وخمسة إلا سبعة)) فإنه لا يصح هذا الاستثناء، إلا إذا أضيفت الخمسة إلى الخمسة؛ ولو عاد إلى الخمسة الأخيرة، لما صح. فاعترض حنبلي فقال: مهما أمكن تصحيح كلام المكلف، لم يبطل. واستثناء سبعة من خمسة لا يمكن؛ إذ ليس في السبعة خمسة. فهو كما لو استثنى حمارًا من جماعة من الآدميين. فإذا ثبت ذلك، حملنا الأمر على ما يليق بالعقل، وسلامة اللفظ؛ وهو أن نجعل الخمسة الثانية مضافة إلى الأولى بواو الجمع، ويعود استثناء السبعة إلى العشرة.

من أخبار إبراهيم الحربي وشعره

571 - روي أن جماعة من أصحاب إبراهيم الحربي - رضي الله عنه- دخلوا إليه في مرضه الذي مات فيه. فقال بعضهم: كيف تجدك، يا أبا إسحاق؟ فقال: أجدني كما قال الشاعر: [الخفيف] دب في الفناء سفلًا وعلوا ... وأراني أذوب عضوًا فعضوا بليت حدتي بطاعة نفسي ... وتطلبت طاعة الله نضوا [الوافر] إذا مات المعالج من سقامٍ ... فيوشك للمعالج أن يموتا 572 - قال عبد العزيز بن زارة لمعاوية: يا أمير المؤمنين! جالس الألباء، أعداء كانوا أو أصدقاء؛ فإن العقل يقع مع العقل. 573 - شعر: [الطويل] وأذهلني عن كل عيشٍ ولذةٍ ... وأرق عيني والعيون هجود مصاب عقيلٍ حين أودى وإنني ... صبور على فقد الكرام جليد بألطاف ذي العرش المجيد وعونه ... ومن كان ملطوفًا به لسعيد

شعر لحراني بن نوفل الضبعي وقد رويت لغيره

574 - ((أنشد ابن دريد عن عبد الحمان عن عمه لحراني بن نوفل الضبعي وقد رويت لغيره: [الرمل] لم يكن إلا [كما] كان يكون ... وخطوب الدهر في الناس فنون ربما قرت عيون السجنا ... ومرض سخنت منه العيون هو الأمر نعش في راحةٍ ... قل ما هونت إلا سيهون لا يكون الأمر سهلًا كله ... إنما الأمر سهول وحزون يلعب الناس على غراتهم ... ورحى الأيام للناس طحون أمن الأيام مغتر بها ... ما رأينا قط يومًا لا يخون والملمات فما أعجبها ... لملمات ظهور وبطون ليس كل الظن يخلو عن هدىً ... ربما جبرت الناس الظنون وتقى المرء له واقية ... مثل ما واقية العين الجفون لا يكن شأن امرئ محتقرًا ... ربما كان من الشأن شؤون درج الخلق فضول بينهم ... كل شئ فله فوق ودون سائل الأيام عن أملاكها ... أي حلفٍ قطعت عنها المنون وكذاك الدهر في تصريفه ... ربما يغضب للدر اللبون يا مشيد الحصن ترجو نفعه ... قبل ما تغني عن الموت الحصون

تأويل حنبلي في صكة موسى لملك الموت

سيحول المرء عن صورته ... وسيبلي منه ما كان يصون 575 - كان قد سبق السؤال لحنبلي عن صكة موسى لملك الموت، وقلع عينه، وكيف يكون التأويل له حتى يسلم من الفسق والخروج من حكم النبوة، حيث فعل بملك من ملائكة الله، جاء بأمر الله، لما قدره الله. ولو فعل هذا برسول قاض من الخلق، لفسق فاعله. وخطر لي جواب حسن يخلص موسى من المعصية. وذلك أنه أتاه بصورة آدمي، فاستشعره صائلًا، فدفعه دفع الصائل. ((ومعلوم أن الملائكة، إذا تصوروا بصورة آدمي، لم يبق للأنبياء دلالة على أنهم ملائكة؛ [فلا] بد من دلالة تدل على أن ذلك الرجل ملك من عند الله. كما لم تعلم أمة كل نبي أن رسولهم رسول الله إلا بعلامة. فالنبي مع الملك كآحادنا مع مدعي الرسالة؛ لا سيما إذا كانت صورته كصورة النبي الذي جاء إليه، وادعي أنه رسول الله إليه. فكما لا يثبت عندنا صدق رسولنا إلا بدلالة هي المعجزة، فلا بد لنبينا - صلى الله عليه وسلم- من دلالة. وتلك الدلالة هي إشعار بالغيب أو إثباته بسورة من الكتاب الذي ثبت أنه معجز لنا وله - صلى الله عليه وسلم. فإذا ثبت هذا، علم بأنه يجوز أن تكون تلك الفعلة والصكة كانت من موسى - عليه السلام- قبل أن ثبت عنده أنه الرسول من الله - تعالى-. لما جاء به من قبض روحه، فبادر فصكه. فهذا تأويل يدفع الكبيرة العظيمة عنه.

شعر لجحدر اللص

576 - أنشد علي بن سليمان الأخفش لجحدر اللص: [الطويل] أقول لبوابي والباب مغلق ... علي وطال الليل ما تريان فقالا نرى برقًا يلوح وما الذي ... يشوقك من برقٍ يلوح يمان فقلت افتحا لي الباب أنظر نظرةً ... لعلي أرى البرق الذي تريان فقالا أمرنا بالوثاق وما لنا ... بمعصية السلطان فيك يدان فلا تحسبا سجن اليمامة دائمًا ... كما لم يدم عيش لنا بأبان 577 - قال حنبلي في المعنى: ما أمر منع البصر عن تلمح الخبر من دلائل العبر! وما أشد عذاب الحصر على أرباب التفسح والتلمح. هذا مما [لا] يجد كربه إلا أرباب الوجد عند الفقد. 578 - وقال أصبغ بن مطهر بن رباح بن عمرو بن عبد الله، وهو جد الأصبغي: اثنوا على الله وبثوا ذكره؛ الله لا يعلم شئ قدره. 579 - قال أبو درداء المصاحفي: سمعت النضر بن شميل يقول: ما رأيت أحدًا افتقر الناس إلى علمه وطلبوا ما عنده أشد تواضعًا من الخليل بن أحمد.

من كلام الخليل بن أحمد

580 - وعن عبد الله بن داود الخريبي، قال: قال الخليل بن أحمد: أحب ((أن يكون بيني وبين ربي من أفاضل عباده، وأن أكون بيني وبين الخليقة من أوسطهم، وبيني وبين نفسي من شرهم. 581 - قال الحكيم: سبعة أشياء محتاجة إلى سبعة: المنظر محتاج إلى القبول؛ والحسب محتاج إلبى الأدب؛ والسرور محتاج إلى الأمن؛ والقرابة محتاجة إلى المودة؛ والمعرفة محتاجة إلى التجربة؛ والشرف محتاج إلى التواضع؛ والنجدة محتاجة إلى الجد. 582 - [شعر]: [الطويل] تمنى رجال أن أموت فإن أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحد وقد علموا لو يقطع العلم عندهم ... لئن مت ما الناعي به بالمخلد منيته تأتي لوقتٍ وحتفه ... سيلحقه يومًا على غير موعد فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد 583 - استدل حنبلي في مسألة بقاء حكم الإحرام بعد موت المحرم بالحديث

أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال في المحرم الذي وقصت به ناقته: كفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيبًا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبدًا. اعترض عليه حنفي فقال: أنا قائل بالخبر في ذلك الرجل لما علل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وأنه يبعث يوم القيامة ملبيًا أو ملبدًا، بقي غيره على حكم الأصل؛ وهو قول الملائكة لما غسلت آدم وكفنته: هذه سنة موتاكم، يا بني آدم! فأجاب الحنبلي بأن قال: إذا قلت به في حق ذلك، لزمك عموم الحكم وثبوته في حق غيره. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: حكمي في الواحد حكمي في الجماعة؛ حكمي في امرأة حكمي في ألف امرأة، أو مائة امرأة؛ وهذا المعنى. وذلك أنه لو لزمه البيان في حق الجماعة، لطال الخطب وضاق الوقت. ولهذا قال - سبحانه-: {لأنذركم به ومن بلغ}؛ وقوله: {فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة}، ((عقيب قوله: {ما كان المؤمنون لينفروا كافة} - يعني في السرايا. ثم علل فقال: {ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم}. وقال - صلى الله عليه وسلم-: نصر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها؛ فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه. وأما قولك العلة في ذلك هو ما أخبر به، وأنه يبعث يوم القيامة ملبيًا، فلا يصح لوجهين. أحدهما أن الحكم لا يسبق علته. فلا يقال

((يحرم العصير اليوم، لأنه قد أخبر الصادق أنه يشتد غدًا.)) ولا ((يقتل فلان، لأن الصادق قد أخبر أنه يقتل مسلمًا محقون الدم غدًا؛ )) و ((يحرم نكاح هذه الطفلة، لأنها ترتضع من أم هذا الخاطب لها فيما بعد.)) وعلى هذا في كل حكم مع علته، لا يجوز أن يتقدم عليها. فلم يبق إلا أنه أراد: إذا لزمتم فيه شعار الحج، بعث عليه، كما قال في شهداء أحد: رملوهم في كلومهم ودمائهم؛ فإنهم يبعثون يوم القيامة واأوداجهم تسحب دمًا؛ اللون لون الدم، والريح ريح المسك. فكأن معناه: إنكم إذا لزمتم في حقهم شعار القتل في إعلاء كلمة الله، حشرهم الله على ذلك. وما زالت كرامات الآخرة وإهاناتها ومجازاتها مبنية على الأفعال في الدنيا، حتى المعاصي والإساءات. يحشر الغادر وعلى رأسه لواء، يقال ((هذه غدرة فلان.)) من قتل نفس بحديدة، حشر والحديدة بيده بج بها نحره أو حلقه في النار. من قتل نفسه بسم حشر وسمه بيده يلطعه في النار. يحشر اللائط ولفرجه نتن يؤذي به أهل النار. يحشرون غرًا محلجين من آثار الوضوء. فهذا هو الأصل. وقال في حق المانعين للزكاة: {تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم}. قالوا له: العبادة غير باقية بعد الموت؛ فكيف تبقى أحكامها وآثارها؟ ولهذا لم يوقف بعرفة، ولا يطاف به حول البيت، ولا يحمل إلى منا، ولا يرمى عنه بالحجارة، كما نرمي عندكم عن الطفل.

وسئل حنبلي عن الصلاة على الشهيد

قال: الشهيد لا يوقف في الصف، ولا يلبس السلاح؛ بل ينزع عنه. ومع ذلك تثبت في حقه أحكام الشهادة. والمسلم لا تنقطع عنه ((أحكام الإسلام؛ وهو عند الفقهاء ذو أعمال بني عليها، والحج له خصيصة. إنه يلزم التمسك بشعاره وأنساكه بعد الإفساد. والمحرم الذي ورد الحديث فيه استديم حكمه في باب الشعار، دون الإيقاف به والإطافة. قالوا له: الإسلام يعتد به بعد الموت وهذا انقضاء. ولا يعتد بما مضى منه، ولا يبنى عليه من حين بلغ إليه من أنساكه، بل يبتدأ بالحج عنه. 584 - وسئل حنبلي عن الصلاة على الشهيد فقال: لا يصلى عليه، في أصح الروايتين عندي؛ وهو مذهب الشافعي. لأنه لما لم تشرع في حقه الطهارة لم تشرع الصلاة. وهذا لأن الشهادة أعيته عن الشفاعة منا. فاعترض عليه حنبلي آخر للرواية الأخرى الموافقة لبقية الفقهاء، فقال: إنه لا يجوز أن يستدل بمنع الطهارة أو امتناعها على إسقاط الصلاة. كمذهبك في حق الحي القريح والجريح؛ والعادم للماء والتراب يصلي وإن لم يكن في حقه طهارة. ولأن الشهادة طهرته، فأغنانا عن الغسل. ولأن الشرع جعل بقاء الدم تمسكًا بأثر الشهادة والطهارة يزيل ذلك، فمنع منها.

وسئل عن الوصية بالصلاة على الميت

والصلاة شفاعة. ولا غناء عن الشفاعة لهم، بدليل الأنبياء- صلوات الله عليهم. حتى إن نبينا صلع قال: سلوا الله لي الوسيلة. وهذه إحدى الشفاعتين؛ وهي في زيادة الثواب وعلو الدرجات. 585 - وسئل عن الوصية بالصلاة على الميت فاستدل فيها شافعي، فقال: لا يستفاد؛ بمعنى أنه لا يسقط بها حق الأولياء. وهو مذهب أكثر الفقهاء. وكان دليله أن حق الأولياء ثابت حكماً في أمر بني على الإشفاق. وليس للإنسان حق في الصلاة عليه. بخلاف المال؛ فإن له حق في التصرف فيه. اعترض حنبلي بأن الصحابة عملت بذلك. فإن أبا بكر الصديق رضه وصى أن يصلي عليه عمر. وعمر وصى أن يصلي عليه صهيب. وأبو بكرة وصى أن يصلي عليه أبو بردة. وابن مسعود وصى أن يصلي عليه الزبير بن العوام. قالوا له: ليس في هذا حجة. لأن الحجة إنما هي ما صادفت محل الخلاف. والخلاف هل يكون الوصي أحق من الولي. ولم يرو في هذه الوصايا كلها أن التشاجر وقع بينهم، فقدموا الوصي. فقال: بل قد روي أن عثمان وآخر سارعا للتقدم على عمر. فقال صهيب: ما أخرجكما على الإمارة- أو قال- التقدم؟ إن أمير المؤمنين

وسئل حنبلي عن جهاز الزوجة هل يكون في مال الزوج

وصى أن أصلي عليه. قال ذلك بمحضر من أصحاب رسول الله، وكانوا متوفرين، ولا أحد أنكر ذلك. وأما قولك ليس للإنسان تصرف في الشفاعة لنفسه، فليس كذلك. فإنه يتوسل إلى الله تع في ذنوبه بالنبي وأهل بيته وأصحابه. فإذا رضي بشخص أن يتوسل إلى الله تع، لما عرف من حسن طريقته، كان ذلك كاختياره له للنظر في أموال أولاده، وإنكاح بناته حال حياته وبعد مماته. 586 - وسئل حنبلي عن جهاز الزوجة هل يكون في مال الزوج فقال: نعم؛ لأن حكم الزوجية باق في حقوق الأبدان والأموال. أما الأموال، فالميراث. وما كان ذلك إلا لأن حكم الوصلة باق. وأما حق الأبدان، فعلى كل واحد منهما لصاحبه. ومن تمام التزام حقوق العشرة تجهيزها من ماله. اعترض حنبلي، فقال: أما الإرث، فحكم لا يثبت إلا بعد الموت؛ وليس من أحكام الحياة. يوضح هذا أنه لا يجب حال الحياة بحال. والنفقة من واجبات النكاح حال الحياة على صفة وحال، وهي التمكين والتمكن. وبالنشور يسقط. ولا تجب نفقة بريد الموت، وهو المرض. ولا يراعى ما ذكرت أنها تمسكت بعصمته وتمكينه من متعته بها إلى حين المرض، ولم يحرمها المرض عن متعة من المتع، من قبلة ولمس وغير ذلك. وإن لم يكن الوطء في الفرج يضرها، أبيح أيضاً. ولا تجب النفقة المختصة

بالمرض، من شراب وأدوية وأجرة طبيب، وغير ذلك مما يخص المرض، لأجل تمسكها بعشرته، وبذلها لمتعته حال الصحة وحال المرض بحسب حالها. فالموت الذي حرم المتعة وسد بابها أولى أن لا تجب نفقته، وقد بانت به البينونة الكبرى. ثم إن جهازها خارج عن حكم العادة إلى باب التحكم والتعبد. وإلا فلو رجعنا إلى باب المعقول والعادة، لكان الستر بالتراب كافياً. لأنها صارت إليه ورجعت إلى ثيابها التي خلقت منها. وهو أطيب مطيب ينشف الفضلات من الصديد والمهلة ما لا تنشفه الثياب. فإن اعتبر غيره فقد كان في الورق الذي خصفه عليه الأب لما نزعت عنه ملابس الجنة، والحشيش الذي رضيه رسول الله صلع سترة لرجل عمه حمزة حيث قصرت عنه النمرة. وعلى الميت دين يرتهن به في قبره، وهو بقدر نفقة جهازه. ومع ذلك يقدم جهازه الذي يقوم مقامه غيره عقلاً وعادةً. ومع ذلك وجب تعبداً. والتعبدات لا تلزم الزوج ولا مؤنتها حال الحياة. كثمن ماء الغسل عن الجنابة والحيض. لأنه من التهيؤ للزوج؛ كغسل الأحداث والأنجاس. ونفقة حجها حال الحياة، لا يلزمه شيء من ذلك. كذلك هذه النفقة التي هي محض التعبد وخالص التحكم الصرف في حال. لم يبق في المحل سبيل إلى متعة، ولا طريق إلى استباحة.

شعر لبشر بن عوانة العبدي

وأما تعلقك بغسله لها، فقد رضينا بإطباق هذا على ذاك. وهي أن غاية ذلك الجواز؛ وهو أنه يجوز له غسلها. وههنا [لا] يجوز؛ بل الأحسن نفقته عليها والتزام مؤونة دفنها. وهناك لا يجب؛ فيجب أن لا يجب هذا. 587 - لبشر بن عوانة العبدي، وكان متزوجاً بابنة عم له، فخرج في ابتغاء مهرها، فعرض له أسد في بعض الطريق، فقتله. وقال يخاطب أخته: [الوافر] أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا إذاً لرأيت ليثاً رام ليثاً ... هزبراً أغلباً يغشى هزبرا تبهنس إذ تراجع عنه مهري ... محاذرة فقلت غفرت مهرا أنل قدمي ظهر الأرض إني ... رأيت الأرض أثبت منك ظهرا وقلت له وقد أبدى نصالاً ... محددة ووجهاً مكفهرا تدلى بمخلبٍ وبحد نابٍ ... وباللحظات تحسبهن جمرا وفي يمناي ماضي الحد أبقى ... بمضربه قراع الحرب أثرا ألم يبلغك ما فعلت ظباة ... وكاظمة غداة لقيت عمرا وقلبي مثل قلبك لست أخشى ... مصاولةً ولست تخاف ذعرا وأنت تروم للأشبال قوتاً ... وأطلب لابنة الأعمام مهرا ففيم تسوم مثلي أن يولى ... وتجعل في يديك النفس قسرا

فصل تذكير في التقتير والتبذير

نصحتك فالتمس باريك غيري ... طعاماً إن لحمي كان مرا فلما ظن أن الغش قولي ... وخالفني كأني قلت هجرا مشى ومشيت من أسدين راما ... مراماً كان إذ طلباه وعرا هززت له الحسام فخلت أني ... هززت به لدى الظلماء فجرا بحاله راها لما كدبته ما مننه ... عدرا فخر مضرجاً بدمٍ كأني ... هدمت به بناءً مشمخرا وقلت له يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلداً وقهرا ولكن رمت شيئاً لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا تحاول أن تعلمني فراه ... لعمر أبي لقد حاولت نكرا فلا تجزع فقد لاقيت حرا ... يحاذر أن يعاب فمت حرا 588 - فصل قال حنبلي: إذا تلمح العاقل كلام رسول الله صلع لأصحابه، علم أنه أعطى كل واحد على مقداره، وما يصلح به وله. نحو قوله لبلال: أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً. وقوله لأبي بكر: ما تركت لأهلك؟ قال: الله ورسوله. وقال لعمر: ما تركت؟ قال: تركت ثلثي مالي. وروي: نصف مالي. وقال لابي لبابة لما انخلع من ماله: يجزيك من ذلك الثلث الثلث؛ والثلث كثير. لئن تدع ورثتك أغنياء، خير

قول واثلة بن الأسقع عن النبي في رواية الحديث

من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. فلحظ حال كل منهم، ورضي منهم بما علم من حاله. فإذا كان النبي صلع يكلم الناس على قدر أحوالهم، نظراً إلى مصالحهم، فمن يعلم أن الإقلال يسخطه فيفسد دينه، يقنع منه بترك بعض ماله، أو ينهاه عن إخراج جميع ماله، كيلا يعود ذلك بوباله. فما ظنك بقسم الباري الأرزاق بين خلقه بحسب ما علم من أحوالهم. وقد نص على ذلك بقوله: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدرٍ ما يشاء}. ثم لم يقتصر على إطلاق المشيئة حتى عقب ذلك بقوله: {إنه بعباده خبيرٌ بصيرٌ}. ووصفه لنفسه بالبصارة والخبرة يعطي أن القسمة بحسب ما علمه من الأصلح توسعةً أو تقتيراً أو توسطاً. وأمر بالإنفاق على قدر الأصلح، فقال سح: {ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط}. ثم بين علة النهي، فقال: {فتقعد ملوماً محسوراً}. فالملامة على التقتير كالملامة على التبذير. لأن التقتير يحصل به منع الحقوق؛ والتبذير يورث الأسف والحسرة والتسخط على الرازق؛ وذلك بين تفسيق وتكفير. 589 - قال واثلة بن الأسقع وقد سأله مكحول عن حديث يحدث به عص، فقال: إنا كنا تركنا أن نتحدث حتى سمعنا النبي صلع يقول: ((لا

من كلام عمر بن الخطاب

بأس بالحديث قدمت فيه أو [أخرت] إذا أثبت بمعناه)) ومات واثلة بن الأسقع بدمشق. 590 - شعر: [الكامل] اشتد بغي الناس في الأرض ... وعلو بعضهم على بعض دعهم وما أخذوا لأنفسهم ... فالله بين عباده يقضي عجباً ألا يتفكرون ليعـ ... تبر الذي يبقى بمن يمضي 591 - لآخر: [الطويل] دع الشر واترك بالنجاة تحرزاً ... إذا أنت لم يصنعك بالشر صانع ولكن إذا ما الشر ألقى قناعه ... عليك فجود دفع ما أنت دافع 592 - روي عن معاوية- رحمة الله عليه- أنه قال: سمعت رسول الله صلع يقول: إن الله تع لا يغلب ولا يجلب ولا ينبأ بما لا يعلم. 593 - الغلابي قال: قال عمر بن الخطاب لرجل: شغلت نفسك بما لا يعنيك، فشغلك ذاك عما يعنيك. وقال عمر أيضاً: ما من عاشية أدوم إنقاءً ولا أبطأ شبعاً من عالم. رواه سفيان بن عيينة بالإسناد عنه.

من أخبار كعب الأحبار

594 - وروي أن كعباً حلف أن في التوراة: إذا قال العبد راغباً أو راهباً ((توكلت على الله)) قال الملك ((كفيت)). 595 - اجتمع العلماء على أن دين الله واحد، الذي عليه الأنبياء كافة. يشهد لذلك قوله سح لنبينا صلع ولأمته: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك}. وانظر ما بين نوح ونبينا. قال: {وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}. وقال تع: {ويهديكم سنن الذين من قبلكم}. وروى البخاري في صحيحه: كان النبي صلع يحب أن يوافق أهل الكتاب فيما لم يوح إليه فيه شيء. 596 - ما أحث السائق، لو فطن الخلائق! 597 - البشر مؤنس للعقول، ومن دواعي القبول؛ والعبوس ضده. لو كان في العبوس خير، ما عتب عليه النبي عم. 598 - ومما سمعته بجامع الرصافة من ابن بشران عبد الملك رحه، ومن ابن السماك بن محمد رحه، أنه كان يحيى لا يلقى إلا وهو مقطب،

شعر لأبي العتاهية

وعيسى لا يلقى إلا وهو مستبشر. فقال يحيى لعيسى: يا ابن خالتي! ألقاك كأنك آمن. قال له عيسى: يا ابن الخالة! ألقاك كأنك آيس. فأوحى الله إليهما: أحبكما إلي أبشكما بصاحبه. 599 - لأبي العتاهية: [الكامل] يا نفس قد أزف الرحيل ... وأظلك الحدث الجليل فتأهبي يا نفس لا ... يغلبك ذا الأمد الطويل فلتنزلن بمنزلٍ ... ينسى الخليل به الخليل قرن الفناء بنا فما ... يبقى العزيز ولا الذليل لم تعمر الدنيا وليـ ... ـس إلى المقام بها سبيل كل يفارق روحها ... وبصدره منها غليل

مسألة خبر الواحد هل يوجب العلم وهل تثبت به الاعتقادات

ولرب باكيةٍ عليـ ... ـي غناؤها عني قليل 600 - كان قد استدل حنبلي على أن خبر الواحد يوجب العلم، وتثبت به الاعتقادات، بثلاث آيات: {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}؛ وقوله: {أو لم يكن لهم آيةً أن يعلمه علماء بني إسرائيل}؛ وقوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك}. والمراد بمن أشار إليهم من أسلم وصدقه؛ وهم كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، ومن أسلم. وجميعهم إنما هم آحاد، لا يرتقون عن الآحاد. وقد عول عليهم، ورد إليهم في أصل عظيم؛ وهو ذكره صلع في التوراة بعلامات الرسالة ودلائل النبوة، وشهادة التوراة له بذلك. فاعترض عليها الشيخ العالم الأوحد عبد السيد بن الزيتوني- على هذه الآيات- بثلاثة أسئلة. أحدها أنه قال: إن الإحالة على هؤلاء إنما هو باختيار آحاد. فكأنك دللت على أن خبر الواحد يوجب العلم بخبر الواحد؛ والبناء بمثله ليس بصحيح؛ كما لا يستدل على القياس بالقياس. السؤال الثاني أنه قال: {فإن كنت في شك فسئل}. وهذا يعطي أنك تترقى بسؤال لهم عن الشك إلى ما فوقه، وهو الظن. فأما العلم فلا يلزم مع إمكان حمله على الترقي من الشك إلى الظن.

الثالث أنه لو كان القطع لكان لا بقولهم وخبرهم؛ ولكن إذا أحال الله عليهم في السؤال، يجوز أن يكون علم أنه إذا سألهم أحدث له علماً عند خبرهم، لا عن خبرهم، ولا بخبرهم. فأجاب الحنبلي المستدل بأن قال: أما السؤال الأول، فغير صحيح. لأن إثبات أعيان المسؤولين، إن كان آحاداً في التفسير بهم، فإنا نقطع على أنهم هم الذين أسلموا؛ إذ لا يوثق إلى غيرهم. وليس من أسلم بالغين عدد التواتر. فإذا علمنا ذلك فسواء جهلنا أعيانهم أو علمنا، لا يضرنا. وأما السؤال الثاني، فإن الشك والظن سواء فيما طريقه العلم، جميعاً لا يؤثران في حصول إثبات نبوته في التوراة. فالترقية من الشك إلى الظن لا فائدة فيه. إذ لم يكن طريقاً لذلك؛ كما أن الشك ليس بطريق. وأما السؤال الثالث، فلا يصح. لأن هذا يسد باب الأدلة كلها؛ لأن نص الكتاب يجوز أن لا يقطع به؛ بل يحدث الله العلم عقيب سماعه، ويعطل كل دلالة من معجزات الأنبياء أيضاً. وإنها لا تحصل بها، ولا يحصل بأدلة العقول حدث العالم، وإثبات الصانع؛ بل يحدث الله العلم. وهذا هو الذي أنكره العقلاء على أهل الخبر.

جرى في عزاء الشيخ أبي الخطاب رحمه الله مسألتان: الأولى منها الجنب إذا استشهد هل يسقط بشهادته غسل الجنابة أم يجب غسله

601 - جرى في عزاء الشيخ أبي الخطاب رحه مسألتان الأولى منها الجنب إذا استشهد هل يسقط بشهادته غسل الجنابة أم يجب غسله فاستدل فيها حنفي، وهو القاضي الإمام الموفق أبو الفوارس بن الموصلي، بما روي عن النبي صلع أنه لما استشهد سعد بن معاذ قال النبي صلع ((قوموا بنا نغسله قبل أن تسبقنا إلى غسله الملائكة، كما سبقتنا إلى غسل حنظلة [بن] الراهب)). فوجه الدلالة أنه قد ثبت بإجماعنا أن الشهيد لا يغسل غسل الموت. فلم يبق إلا أن النبي صلع سابق إلى غسله لأمرٍ يوجب الغسل عن الموت. وليس على الرجل غسل غير غسل الموت، إلا غسل الجنابة. فثبت وجوب غسله عن الجنابة، وأنه لا تمنع منه الشهادة ولا تغني عنه. لاسيما مع قوله ((كما سبقتنا إلى غسل حنظلة)). وما كان غسل الملائكة لحنظلة إلا لأجل الجنابة. لأنه لما رأى الملائكة تغسله، أنفذ إلى أهله فسألهم، فقالوا إنه خرج جنباً. فاعترض عليه حنبلي محقق، مع كون مذهبه كمذهب المستدل، لكن نصر الشافعي تذنيباً، فقال: هذه القضية لا حجة فيها. لأن سعداً ارتث ومرض؛ ومضى النبي صلع يعوده. وروي في التواريخ أنه بقي شهراً في بيته يعاد. وكوي عرق الأكحل، ولم ينتفع بكيه، ومات.

ومثل هذا لا يكون شهيداً إلا تسمية مجازية. مثل قوله ((قتيل بطنه شهيد)). فأما الشهادة التي تكون تطهيراً حكمياً-يعني عن الغسل- فلا. وحرصه صلع على غسله إنما هو غسل الموت. لكن قصد به فضل السبق. ولو عولنا على غسل الملائكة، وقلنا إنه يقوم مقام غسلنا، لما ضرنا. من حيث أنهم قد غسلوا أبانا آدم، وقالوا ((هذه سنة موتاكم، يا بني آدم! )) وشرع من قبلنا شرع لنا. وصلى جبريل بالنبي صلع واعتد بصلاته معه لما بين له الأوقات. وهم مكلفون يحسنون الغسل. ما المانع من صحة غسلهم وهم من أهل النية والتعبد؟ ومن صلح أن يكون إماماً في صلاة الفرض لرسول الله صلع لم يصح أن لا يغسل. وإنما الطريق بيننا وبين العلم بغسلهم، مع كونهم حافين، منقطع. ولو كان لنا صادق يعلمنا بأنهم غسلوا، لقبلنا وحكمنا بصحة غسلهم؛ لاسيما وهو فرض على الكفاية، إذا قام به بعض المكلفين، ناب عن الباقين. وأما قوله ((كما سبقتنا إلى غسل حنظلة))، فيجوز أن يكونو علموا أنه لا يغسل الشهيد. فغسلته على حكم الأصل. وليس يلزم أن تكون الملائكة أعلم بالأحكام الشرعية منا. وقد جهل جماعة من أكابر الصحابة أحكاماً من كبار أحكام الشرع؛ كابن عباس في ربا الفضل الذي ترك وساده؟ وكان يأكل ما لم يفرق بينهما بالنظر والفرق بينهما. وكم وكم من أمور جهلوها! فليس الملائكة بأعلم منهم. فلا عبرة بسبقهم،

وجرت المسألة الثانية مسألة النباش

لأنه لم يثبت أن الملائكة التي تولت ذلك جبريل، ومن كان ينزل بالوحي؛ وهو سفير في إنزال القرآن وأحكام الشرع. 602 - وجرت مسألة النباش فاستدل فيها الشيخ الإمام أسعد- أبقاه الله- بأن قال: النباش في معنى السارق. والنبش في معنى السرق، بمعنى أن النهي من الله تناوله. فكان الحق لله فيه بنهيه عنه. والقطع الذي هو عقوبة حق لله تع؛ بحيث يجب له، ولا يسقط بإسقاط المسروق منه. ومما يخصصه بالله تع أن الكفن في القبر معتمد حفظه على الله تع. إذ لا قدرة للميت على المحاماة عن كفنه. فتخصص بوكول الحفظ إليه. فتحقق أن الحق له؛ فالقطع الواجب له. يوضح هذا أن النائم، لما تراخت قوى الدفع عن سترته، وكان الحفظ معتمداً على الله فيه، وجب القطع. وتناول الماء غصباً ونهباً لما كان من أربابه، لما كانوا معولين في الذب عنه والدفع إلى قواهم وأسلحتهم، لا جرم لم يجب القطع على الغاصب والمنتهب. لأنه لم يخلص الاستحفاظ والاعتماد على حفظ الله سح. فاعترض عليه القاضي الإمام جمال القضاة- أبقاه الله- فقال: لا أسلم تخصص الاستحفاظ والحفظ ولا يخصص الحق لله سح. من حيث إنه وقف القطع على مطالبة آدمي. فالحق مشترك. على أن تعويلك على أن الحق لله، فهذا مما يضعفه ولا يقويه. إذ كانت حقوق الله،

لاسيما العقوبات، على الإسقاط بالشبه؛ والتعريض لإسقاطها، بل لعدم إيجابها، بقول الرسول، والإمام بعده، ((لعلك قتلت))؛ ((ما أخالك سرقت))، ((أسرقت؟ قل (لا)))؛ والرجوع بعد الإقرار. كل ذلك يعطي ضعف الحق. فكيف جعلته دليلاً على إيجاب القطع، وهو حد وعقوبة؟ ولأن الحرز لم يتحقق مع كون المال فيه لا لحفظه، لكن معرض للهلاك والبلى. فقال الشيخ الإمام أسعد: أما حق الآدمي، فلا أنكره، لكن في حق ضمان المال. فأما العقوبة، فلا. وما هو إلا بمثابة إتلاف الأموال على أربابها. الحق في ضمانها لهم؛ وحق الله تع في النهي والعقوبة بالتعزير. وحد الزنا وضع لحفظ المياه عن الاختلاط، والإمساك عن الضياع. وكان المغلب في إيجاب الحد حق الله. ولهذا لا يسقط الحد في الزنا، ولا في السرقة، بإسقاط الآدمي، بعلم أنه ليس للآدمي حق في القطع. والمطالبة لا يقف استيفاء القطع عليها. بل إذا ادعى على السارق السرقة، فأنكر المدعى عليه، وأقام صاحب النصاب بينة، وجب القطع. ولم يترقب في استيفاء القطع وإقامة الحد مطالبة الآدمي به. بخلاف القصاص عندنا جميعاً. وحد القذف عندي، لما كان حقاً لآدمي، وقف على مطالبته به، وسقط بإسقاطه له. وأما قولك إن حق الله في العقوبات مبني على الإسقاط، لا يمنع وجوب حقه، كالزنا؛ بل يختلف حق الله في العلو والدنو. كحد البكر يدنو، بكونه جلداً، عن حد الثيب، بكونه رجماً، لكنهما جميعاً حق الله.

وأما قولك الحرز له يتحقق، فإني لا أعول، ولا عولت في دليلي، على الحرزية، ولا تحقيق السرقة؛ بل عولت على أن الحق لله، وقد قررته. وإذا كان بمعنى السرقة، كفى هذا. كما قال أبو حنيفة: تجب كفارة الجماع بالأكل، لا أنه جماع؛ لكنه لما كان في معنى الجماع، اكتفى بذلك عن أن يحققه جماعاً؛ بل اكتفى بكونه كالجماع في كونه هتكاً للصوم بمقصود حسه، وبما نذكره هناك. وكان السائل قد قال له ((هذا إثبات حد بقياس، وخصمك لا يتقبل القياس دليلاً في باب الحدود))، فقال: ((قد علم من أصلي إيجاب الحدود بالقياس؛ فدفع سوال السائل بهذا القدر)). وكان السائل من أصحابه، فما استقصى عليه بالمطالبة بدليل ذلك. ولما انقطع الكلام، قال حنبلي يحقق، وقد سأله بعض أصحابه في الطريق ((ما الذي كان يتوجه لك على استدلال الشيخ أسعد))، فقال: هب أن الحق لله، أو المغلب فيه حق الله؛ لكن الحق مطلق، غير مشروط، أم مشروط؟ فإن قلت إنه حق غير مشروط، خالفت الإجماع. إذ كان الحرز والنصاب شرطين، لاب؟ . فإن قلت ((بل هو مشروط بما ذكرت لحق مشروط))، لم يتحقق شرطه كيف يستوفى. فهو كالرجم المشروط له الإحصان، وحد القذف المشروط له العفة. فلا حقوق الآدميين وجبت استيفاؤها دون شرطها، ولا حقوق الله تع. وأقر بأن القبر ليس يحرز من الوجوه المعلومة؛ وأنه لو كان حرزاً للكفن، لكان حرزاً لجنسه من الثياب، ومن حيث إن

الضرورة ألجأت إلى ترك الكفن فيه. وإلا فالستر بالتراب كافٍ؛ أو الستر بأوراق الأشجار التي أجزأت في الصلوات المفروضة وستر بها آدم أبو البشر؛ وبالحشائش التي قنع بها الرسول لستر عمه حمزة، حيث ستر به رجليه، لما لم تعم النمرة جميع جسده. ومن حيث قدم الشرع سترته على قضاء دينه الذي ترتهن به ذمته في قبره. وإذا كان وضع حاجة، لا وضع حفظ وإحراز، لم يكن معتداً به حرزاً. كالثمر على رووس النخل؛ فإن صاحبها يود أن يحرزها، لكن لما لم يكن ترك حاجة، ولم يكن حرزاً، يقطع سارقها. وقولك إنه مما وكل حفظه إلى الله، واعتمد عليه، فهذا يعطي ضد الموضوع شرعاً. لأن الإحراز بالأبواب والأقفال والأغلاق وغاية التحصن والتحفظ هو الذي جعل شرطاً، وإن كان التحرز قد ضاد التفويض في الحفظ إلى الله. ومن هون الأمر في التحرز، سقط القطع بسرقة ماله. فكيف يجعل مثل هذا علة في إيجاب العقوبة؟ وهذا ليس بأصل يضاهي أصل الشافعي. فإنه جعل قطع اليد والرجل في قطع الطريق؟ الذي يلحق فيه الغوث. وجعله بمثابة من قطع على أمواله في الصحارى. ولهذا قال في القبر في البرية ((لا يقطع)). والاعتماد على الله، واستحفاظه بالله، أشد من الدافن لميته في مقابر الحضر. وقال بعض الفقهاء في الطريق: ما تقول فيمن سرق التابوت

وجرى فيما بين قوم مذاكرة في السلف الصالح مع الخلف الطالح

والميت فيه؟ فقال له حنبلي يحقق: إن كان في القبر، قطع أيضاً. لأنه سرق من الحرز. وإن كان الميت في صندوق مقفلٍ مكفناً، وسرق الصندوق، فقد أخذ الحرز؛ وما سرق من حرز، فلا يجب. 603 - وجرى فيما بين قوم مذاكرة في السلف الصالح مع الخلف الصالح فأخذ رجل يقول: النبي صلعم قال ((خيركم القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)). فطبقهم طبقات. فدل على أن السلف أفقه، وأعلم، وأصلح، وأخير. وما بقى الأول للأخير شيئاً. وهؤلاء فقهاؤنا من بحار أولئك اغترفوا. - وكاد يغلو في الصحابة، ويزدري بفقهائنا وصلحائنا. فقال حنبلي محقق: اعلم أنك أغفلت حقوق المتأخرين وفضائلهم. أما سمعت قوله صلعم ((رب حامل فقه غير فقيه؛ ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)). ولاشك أن الحامل قد يكون صحابياً، والمحمول إليه تابعياً؛ والحامل تابعياً، والمحمول إليه تابعي التابعي. وقد شهد له بأنه أرجح وأفقه. وقال: ((واشوقاه إلى إخواني! )) قالوا له: ((ألسنا إخوانك؟ )) قال ((لا، أنتم أصحابي؛ إخواني قوم يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني؛ يؤمنون بالورق المعلق؛ يصلحون إذا أفسد الناس؛ النزاع من القبائل الهاربون بدينهم من شاهق إلى شاهق)). فلا تلتفت عن هذه الفضائل

وتقتصر على أولئك. ثم قال: إذا حققنا النظر، وجدنا أن الذي ترك السلف الأول وهجروه لا يفتخر بتركه. فإن غاية ما هجروا صوراً في حجر أو شجر؛ كالعزى واللات. وأي مجاهدة للنفس في ترك هذه وهجرانها، واعتقاد نفي الإلهية عنها، والمشاركة لله بها. وغاية ما كان من الشبهة أنها معبودات أسلافهم؟ وإذا كشفوا ما تركوا من اعتقادهم وافتخروا بذلك افتضحوا. وأما الأواخر، فإنهم بلوا بفلاسفة وطب ومنجمين وأرباب بدع تحيرت العقول فيها من تخيل الشبه. ثم في الفقه نظروا إلى ما قال السابقون وعرفوه وتدبروه. وبحثوا وكشفوا ما كان يستره التقليد وتعظيم الأكابر، وأمعنوا في المقاييس وميزوا الشبهة عن الحجة، ودحضوا التخيلات بالبراهين. وأسقطوا حكم الظواهر المخيلة لإثبات الأعضاء لله تع والصورة والنقلة بالنصوص الماحية لتوهم المتوهمة من المجسمة. فإذا قال الله: {ويبقى وجه ربك}، جاء بقوله: {ليس كمثله شيء}؛ {ولم يكن له كفواً أحد}، {فلما أفل قال لا أحب الآفلين}. واستحضر قوله في الكتب الأول: جاء الله من طور سينا؛ وأشرق من جبال ساعير. واستعلن من جبال فاران. وكان مجيئه من طور سينا المراد به التوراة وموسى؛ وإشراقه من جبال ساعير مجيء الإنجيل وعيسى؛ وكان استعلانه من جبال فاران القرآن ومحمد. والدلالة الصارفة لـ ((مجيء)) دلالة

العقل التي أوجبت حدث كل جسم، وإنكار الإلهية عن النجوم بالأفول، وهو الهبوط بعد العلو والأفول بعد الإشراق. فهذا كله أين كان من الأوائل الذين لم؟ الأدلة عندهم ولا انتشرت بينهم المناظرات الكاشفة لأسرار المعاني؟ فأين قاطع الشبهة إلى دافع الهمة للصورة في الصخرة؟ وأين علاج هؤلاء العقلاء الفطناء المحققين من مجادلة قوم يقولون في حق محمد صلع {أهذا الذي بعث الله رسولا}؟ وقولهم ((أهذا)) كلمة استقلال. فاستقلوا عربياً ناطقاً أصيلاً صادقاً كريماً صيناً وقوراً، لا يسمر مع السامرين، ولا يعبد الأصنام مع العابدين بفطرة عقله وحسن نظره. فاستنكفوا أن يكون مثله لله رسولاً، وجاؤوا إلى صخرة مصورة لم يستنكفوا أن يجعلوها لله شريكاً. ومعلوم أن الشريك أكبر وأعظم رتبة من الرسول. ومن كانت هذه عقولهم، وهذا مقدار نظرهم، لا تحتاج دعايتهم إلى معالجة. إذ ليس حجة بنظر ولا بشبهة تحكماً. وتذكر غاية قولهم {أجعل الآلهة إلهاً واحداً}، {يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم}. أين هؤلاء الجهال إلى معالجة الأواخر ممن نصر الطفرة، ودقق في إثبات الطبع، أو دقق في نفي الأقدار، وخلق الأفعال، ومقاساة لمن أثبت الأكساب، لمن قال بمحض الأخبار، وتعلق بالمتشابهات من الآيات في إثبات الأعضاء والأبعاض، وإلى أمثال ذلك من الكلام في

من كلام الحسن البصري

الحقائق؟ فأين من بلي بدفع من أشرك بالله لعيه إلى من دقق في الشبهة وخيلها بصورة الحجة بأعذب لفظ وأملح إيراد؟ فأمسك الحاضرون إمساك إفحام عن الخوض فيما سبق لهم من الكلام. 604 - قال الحسن: نعمتان عظيمتان على ابن آدم: السهو، والغفلة. ولولاهما، ما مشى اثنان في الطريق. 605 - وقال مطرف: لو علمت متى أجلي، لخشيت على ذهاب عقلي؛ ولكن الله من على عباده بالغفلة عن الموت. ولو أزال الغفلة، لما تهنأوا بعيش، ولا قامت بينهم سوق. 606 - روى المعير قال: سرنا إلى مكة في جماعة من الصوفية ومعنا عبد أسود؛ وكان سكيتاً. فلما بلغنا ذات عرق، خلعنا ثيابنا ولبسنا إحرامنا ولبينا؛ فلم يلب. فلما كان من الغد، قال شيخ لنا مقدم علينا: من شرط الحج التلبية، وأنت ما لبيت. فقال: أقول ((لبيك)) وما قال لي ((يا مقبل))؟ فصلى بنا شيخنا، وقال مقبل ((لبيك)) وخر ميتاً. 607 - قال حنبلي: لو لم يسبق في العقل حسن وقبيح سبق العلم بالشرائع،

قول حنبلي في تفضيل اجتهاد الأواخر على الأوائل

لما حسن في الشرع توبيخ وتعنيف على فعل. إلا أن يكون قد سبق به أمر من الشرع فترك، أو نهي ففعل. فلما قال: {أتعبدون ما تنحتون}؛ {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين}، {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار}، {ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً}، فهذه كلها توبيخات عقلية؛ فوبخ الشرع أرباب العقول التي سبق فيها القبح والحسن. وقوله: {أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به}؛ وهذا توبيخ على ترك التحرز من المضار، وهو من قضايا العقول. وقوله: {وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم}؛ كل ذلك إيجاب التحرز؛ وما أوجب التحرز إلا العقل. 608 - قال حنبلي في تفضيل اجتهاد الأواخر على الأوائل: هاتم حتى نشرع في تخليع هذه المسألة، فنقول: هل يحسن في العقول أن يمتن الرسول صلع على عباد الأصنام من الجاهلية، فيقول: ((انا الذي استنقذتكم من الحجارة والشجر، ودعوتكم إلى عبادة الله تع الصافية من كل شرك بشوب وكدر؛ أنا الذي نبهتكم على تقبيح عبادتكم لما تجنته أيديكم، وصورته جوارحكم، وقد كان الأقرب أن تستعبدوا ما صنعتم؛ فأما أن تعبدوا وتتضرعوا لما صنعتموه فقبيح نبهتكم عليه! )) ولا يحسن

تفسير قصة شعيب ولوط

منهم الامتنان بأن يقولوا له حين اتبعوه: نحن الذين هجرنا عبادة الأصنام، واطرحنا آلهتنا المشكلة في الأحجار، التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، واتبعناك في عبادة الله وحده الذي يجيب المضطر إذا دعاه، الذي يؤاخذ الظالم، وينتصف للمظلوم، ويكشف السوء. فيجب أن تتقلد لنا المنة في اتباعك)). هل عاقل يوازن بين المنتين، ويشتبه عليه حكم القولين؟ فإذا جئنا إلى الأواخر، حسن أن يفتخر أحمد بن حنبل رضه بأن يقول: ((أنا الذي بليت بزمان باتباع الأئمة الخلفاء، كالمعتصم والواثق، يحملوني على القول بخلق القرآن، ونفي رؤية الرحمان، ويضربوني بالسياط، وأنا أقول هلم (كيف أقول ما لم يقل؟ ) - يعني ما يقوله السلف- حتى إن جعفر الصادق يقول فيه (ليس بمخلوق ولا خالق))). فبمثل هذا يحسن الافتخار والامتنان. فهل بان فضل الأواخر وغاية ما احتج به عبدة الأصنام قولهم {أن نترك ما يعبد آباؤنا}؟ أجابهم الله تع فقال: {أو لو كان آباؤكم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون}. فانقطع لسان التقليد للأسلاف. 609 - سأل سائل عن قصة شعيب ولوط كيف اقتصرا على الإنذار على فرعين وهما النهي عن الزنا واللواط، وتركا ذكر الكفر. وجعل الله الوعيد

قول أبي زيد في "على" وأنه قد يرد بمعنى اللام

والتقبيح لهذين الفعلين. وأمسك- أو يقول- سكت عن ذكر الشرك. وهذا إن لم يدل على أن هاتين المعصيتين أكبر، فلا أقل من أن يكونا سواء. حيث أكبر أمرهما وقابلهما بالاستئصال والنكال في الدنيا. وهذا يعطي مساواتهما والكفر في إيجاب الوعيد. فقال حنبلي: إن الأمر فيما يتعلق بالوعيد وإيقاع الاستئصال لا إلى نفس ارتكاب المعصيتين، لكن إلى الكفر. لأنهم كذبوا بتحريم ذلك، وكذبوا رسولهما فيما أخبرا به عن الله. ولو صدقا الرسولين وارتكبا النهيين لإفراط شهوة وغلبة طبع في محبة اللواط والزنا، ما عرفنا كيف يكون الحال. فقد بان بهذا أن الاستئصال كان بتكذيب الرسولين. وقد صرح القرآن بذلك حيث قالوا: {أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا}، {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء}. فأكبروا نهيه عن اتباع آبائهم في الشرك. ويكفي ذلك، ثم قالوا: {أن نفعل في أموالنا ما نشاء} من زيادة نعطيها لمن اقترضنا منه، أو نقصان نرضي به من أقرضناه. وهذان يدلان على استباحة ذلك واستحسانه، وتكذيب من جاء بتحريمه. وهذا إيضاح وإفصاح بما يوجب الكفر. 610 - ذكر أبو زيد، وهو من مشايخ أهل اللغة، أن ((على)) قد يرد بمعنى اللام. قال: وذلك أن العرب تقول ((صف علي كذا)) - أي: ((لي)). 611 -

قول عالم في فضل العقل وأن ثمرته طاعة الله

قال عالم: العقل أفضل ما منحه الله خلقه، وامتن به عليهم في استعماله في طاعة مانحه وتعظيم أمره ونهيه، ليقع الشكر من النعمة موقعه، واستعمله بعد ذلك في مكارم الأخلاق مع خلق الله. فإن من جميل شكره الإحسان إلى خلقه. وثمرة العقل طاعة الله فيما أمرك به ونهاك، وعدلك في معاملة الناس في التأدب لهم والإنصاف. فعقل لا يثمر طاعة الحق ولا إنصاف الخلق، كعين لا تبصر وأذن لا تسمع. 612 - جرى في عزاء الشيخ الإمام أبي الخطاب مسألة إهداء الثواب إلى الأموات استدل فيها شافعي، وهو جمال الأئمة ولد الشيخ أبي بكر الشاشي رضه، بقوله تع: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}. فاعترض عليه حنبلي محقق فقال: أنا قائل بالآية. ولكن هذا من آثار سعيه. لأنه لا يصدر هذا إلا من قريب، أو ولد، أو صديق أكتسب موالاته؛ أو كان ولداً، فهو من كسبه، حيث قال النبي صلع: أولادكم أكسابكم، فكلوا من أطيب كسبكم. وقال الله تع: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}. وآثار أكسابه كسب له. قال سح: {ونكتب ما قدموا وآثارهم}. ولهذا قال الشافعي، كما قال أحمد وزاد عليه، فيمن مات ولم يحج: والعبادة عبادة بدن وقد هلك محلها وهو

وجرت مسألة في صول الفحل

البدن، ينتقل إلى ماله ويقوم بدن غيره مقام بدنه، عندك إجارةً وعندنا نفقةً. وأبو حنيفة يقول: إن وصى حج عنه، استناداً إلى قوله ((حجوا عني)). فهذا كله فرض على البدن قام بدن غيره مقامه. وصار ماله الذي توصل به إلى حج ببدن غيره سعياً له حكماً، كأنه حج ببدنه. والأفعال الحكمية كلها كذلك. مثل آثاره من الشر حفر البئر ونصب السكين يتعلق عليهما ضمان يلزمه، كأنه فعله؛ حتى يتعلق على أمواله بعد موته، فيخرج من تركته؛ ويسقط الطائر أو السمك أو الوحش في أحبولته ومناجله، فيقضى منها ديونه وتنفذ وصاياه وتكون لورثته. فهذه آثار الأفعال على ما نرى. قال المستدل: هذا عندي يكون واصلاً بالقراءة عند قبره؛ لكن لا ينتقل من قراءة القارئ وثوابه شيء؛ بل ينفع الله الميت بثواب يخصه به. قاله له: فلم يبق لك في الآية دليل. إذ كان له ثواب عند سعي غيره فيما لا سعي فيه. على أن الآية نفي علم؛ فهو ظاهر وعموم، وخبري خاص. وخصوص السنة يتناول الحكم بخصوصه، فيقضي على ظاهر الكتاب وإن كان طريقه قطعياً. وهذا مذهب الفقهاء. 613 - وجرت مسألة في صول الفحل فاستدل فيها حنبلي بأنه تلف عن دفع جائز، فلم يوجب ضماناً إذا عقبه تلفه؛ كدفع العبد الصائل.

اعترض عليه الشيخ الإمام أسعد- حفظه الله- فقال: استفسرك فأقول: ((هل جائز على الإطلاق من غير تعد أو مع التعدي؟ )) فإن قلت ((من غير تعد)) فذاك أنا موافق لك فيه، وأنه لا ضمان؛ وإن قلت ((مع التعدي)) فلم قلت ((لا يضمن مع التعدي)) والتعدي هو أنه تلف به مال مضمون، وهو مال السيد، لأنه معصوم به، إذ لم يكن من جهته شر؟ فالذي يخص الدفع لا ضمان فيه، ولا حق؛ والذي يخص السيد، وهو ماليته، لا وجه لسقوط حقه منه. فالدفع قابل الصيال الصادر عن الفحل، فلم يتعلق عليه شيء، وبقيت مالية المالك الذي لم يتعد من جهته تعد ولا إذن. فلا وجه لسقوط ضمانها لأجل صول صدر عن الفحل. قال الحنبلي: لا نجعل للصول جهتين. لأن الصول صدر عن الفحل؛ والفحل صال بماليته. لأنه مال بكونه حيواناً مخصوصاً. فلما صدر الصول عنه، صار الضرر صدر عن مالية السيد. وإذا قال السيد: ((الفحل صال، وقد دفعتم صياله بقتله، ماليتي أنا أين تمضي، وبم تسقط؟ )) قلت له: ((ما صدر الضرر إلا عن ماليتك؛ فصدرها عن ماليتك كصدرها عنك؛ وليست ماليتك بأكثر منك. ولو صدر الصيال عنك، زالت عصمتك. فمالك دونك في زوال عصمته بصدر الصيال عنه. كقنديل علقته، أو جرة، فهويت نحو رأس إنسان، فدفعها، فانكسرت؛ والسلاح الذي صال به؛ والفرس الذي حمل بها على المصول عليه، فدفعها عنه حال الصيال؛ لما نشأ الشر عن محل المالية، سقط ضمان المالية.

قال: ولم كان كذلك؟ أنا مطالب لك في هذا كله لم كان. قال الحنبلي: لأن المقدم للدفع عن نفسه، متى علم أن عليه ضماناً، تقلص عن الدفع؛ والباري أباح الدفع لحفظه؛ فلا وجه لتقييده بما تجعد عنه. قال: فقد أباحه؛ ولم يوجبه؟ قال [الحنبلي]: بل أوجبه لأن النفوس ودائع عند أربابها، وليست لهم. بدليل أنه يجب عليهم حفظها بما يتحقق الحفظ به. وهو أكل مال الغير عند الضرورة، والميتات. وجميع ما ذكرت باطل بمالية العبد ومالية الصيد. قال: العبد دمه له؛ ولهذا يصح إقراره به. قال الحنبلي: لا أسلم؛ بل الدم لله؛ ولهذا لا يملك إباحته لغيره. قال: فسقطت مالية العبد تبعاً وضمناً. قال الحنبلي: وحرمة الصيد بالحياة. فإذا أباح الله سح الدفع المتلف للحياة، سقطت أيضاً مالية السيد ضمناً، ولا فرق. ولنشوء الشر من المحل عملٌ ليس نشوؤه من غيره. بدليل أنه يصير كالمتلف لنفسه. ولهذا قال الفقهاء إنه لو حلق الشعر لأجل هوام رأسه، والصداع الذي يعرض له بشعره، أبيح حلقه. قال سح: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية}. وقال النبي صلعم لكعب بن عجرة: ((أبلغ

شعر لمعاوية

بك الجهد هكذا؟ )) وأباح الحلق مع الفدية. وأجمع الفقهاء على أنه إذا ثبت في أجفانه الشعر، وصار الشعر هو الملجئ إلى أخذه، أخذ بالمنقاش ولا شيء عليه. ولأن جميع ما عولت عليه من المالية باطل بتحطيم السلاح من جهة العبد الصائل، وجذب يده من فم الفحل فينقلع لذلك سنه، أو قرنه، الذي هو كالأسلحة للصائلين والبغاة، لا يضمن ماليته. - والسلام. فمتى حسن في العقل أو الشرع أن يتلف محل بالدفع لشر ناب عنه، فيعقب ذلك التلف غرامة للمحل الذي أتلف بدفع شره. 614 - لمعاوية- رضوان الله عليه وسلامه: [الطويل] تطاول ليلي واعترتني وساوسي ... لآتٍ أتى بالترهات البسابس أتاني جرير والحوادث جمة ... بتلك التي فيها اجتداع المعاطس أن الشام أعطت طاعةً يمنيةً ... تواصفها أسيافنا في المجالس فإن تفعلوا نصدمه يوماً بجبهةٍ ... يغث عليه كل رطبٍ ويابس أكابده والسيف بيني وبينه ... ولست لأثواب الدني بلابس وإني لأرجو خير ما نال بابك ... وما أنا من ملك العراق بآيس

شعر لكشاجم

لكشاجم: [المتقارب] مجالسة السوق مذمومة ... وفيها مجالس قد تستحب فلا تقربن غير سوق الدواب ... وسوق السلاح وسوق الكتب فتلك مجالس أهل الهوى ... وهذي مجالس أهل الأدب 616 - قال حنبلي: الحمد لله الذي حفظني بعواصم نعمه عن قواصم نقمه. قال: ونقلت من أخبار عمرو بن سعيد الأشدق عن المدائني قال: كتب عبد الملك بن مروان إلى عمرو بن سعيد حين خالفه: رحمتي إياك تصرفني عن الغضب عليك لتمكن الخدم منك، وخذلان التوفيق إياك؛ وبإساءة همتك نهضت أطماعك أن تستفيد بها عزاً كنت جديراً لو اعتزلت ألا تدفع لمثلها ذلاً. ومن رحل عنه حسن النظر، واستوطنته الأماني، ملك الجبن تصرفه، واستفزت عنه عواقب أموره. وعن قليل تبين من سلك من سبيلك بمثل إساءتك أنه أسير طمعٍ، وصريع خدعٍ، ومغيض ندمٍ. والرحم يحمل على الصفح عنك ما لم تحلل عليك عواقب جهلك وتزجر عن الإبقاء عليك، إذ كان الرأي ذلك.

من كلام علي بن أبي طالب

فأجابه عمرو عن ذلك بأن قال: استدراج النعم أفادك البغي، ورائحة القدرة أورثتك الغفلة، وزجرت عما واقعت مثله، وندبت إلى ما تركت سبيله. لو كان ضعف الأسباب يؤنس الطلاب، ما انتقل سلطان إلا ذل. وعن قليل يتبين من صريع بغي، وأسير غفلة. والرحم يعطف على الإبقاء عليك مع دفعك عما غيرك أولى به منك. - والسلام. 617 - في الحديث أن النبي صلع قال: إن الناس يعطون أجورهم على قدر عقولهم دون أعمالهم. 618 - وروى ابن عمر أن النبي صلع قال: اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يجول. 619 - من كلام علي عم: الهيبة خيبة؛ والحياء يمنع الرزق. وعليكم بالصبر؛ فإن الحازم به يأخذ، والجازع إليه يرجع. 620 - وروي أنه سئل بعضهم: كيف أصبحت؟ قال: لا كما يريد الله، ولا كما يريد الشيطان، ولا كما أريد. فإن الله يريد أن أكون من الصالحين، ولست منهم. والشيطان يريد أن أكون من الكافرين، ولست منهم. وأنا أريد أن أكون ذا مال، ولست كذاك.

قول أهل اللغة في معنى "كاد"

قال حنبلي: هذا قول مخرف. وإلا فلا يجوز أن يكون حال أحد لا كما أرادها الله له ومنه. 621 - قال أهل اللغة: ((كاد)) يجيء بمعنى المقاربة للشيء ((يكاد زيتها يضيء))، و ((لو لم تمسسه نار، تكاد السماوات تتقطرن منه)). ويجيء بمعنى الإرادة {كذلك كدنا ليوسف} ((أردنا به وله)). 622 - استدل حنبلي على وجوب غسل الجنب الشهيد، وهو مذهبه ومذهب أبي حنيفة قبله، بحديث حنظلة بن الراهب، وأن النبي صلع قال: إني رأيت الملائكة تغسله فاسألوا أهله. فقالوا: إنه خرج جنباً. فاعترض عليه حنبلي لمذهب الشافعي، فقال: أول ما يجب أن يحقق على الملائكة هل تعتد به عن غسل الآدميين، وأي شيء هو؛ هل هو غسل بالماء، أو حكاية الغسل؛ مثل مسحه بأجنحتها. والخطأ قد يدخل عليها، فتظن أن إكرامه غسله، ولا تعلم حكم الشهيد. والدليل على أن ليس حكم أفعالها حكم أفعالنا أن الواحد منا، لو عقد نكاحاً، وجعل حضور ملكي حفظ الأعمال قائماً مقام حضور الشاهدين من الآدميين، لم يصح النكاح. ومعلوم أن المغلب الحضور في شهادة النكاح. فهذا من طريق الحكم. وأما من طريق الحقيقة، وأن أفعالهم لا تؤثر

ما تؤثره أفعال، ما ألزمناه من جحد عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، أنا لو وضعت على صدره خردلاً أو سمسماً، وعدنا فنظرناه، لم نجد ذلك الحب تبدد ولا تغير كما يتغير ويتبدد إذا أجلسه آحادنا. فقال الحنبلي المستدل: هذا كلام ليس بصحيح. فإن أفعال الملائكة معتد بها إذا أخبرنا الصادق وقوعها. بدليل أن جبريل صلى بالنبي صلع عند البيت. ومن يعتد بصلاته كيف لا يعتد بغسله؟ ولأن في الحديث ما يمنع ذلك. فإن النبي صلع استعلم عن حاله. ولو كان غسل الملائكة لا يعتد به، لما سأل عنه وعن سببه. لأن ما لا يقع موقع التعبد، يقع كرامة وتعظيماً فقط؛ وما يقع كرامة، فلا يسأل عن سببه. فإن الأسباب التي يقع الإكرام عليها من الله لا تقف على أمر يعلمه أهله من أفعال الخير المكتومة والأسرار التي لا يعلمها إلا الله تع. وكيف يقول هذا وآدم أبو البشر عم غسلته الملائكة، وصلت عليه، وقالت لأولاده: ((هذه سنة موتاكم، يا بني آدم))؟ ولأن النبي صلع قال، لما مات سعد بن معاذ، وكان فيه من الجراح المثخن ما ورد في النقل: ((قوموا بنا نغسله كيلا تسبقنا الملائكة كما سبقتنا إلى غسل حنظلة بن الراهب)). وهذا يدل على الاعتداد بغسل الأول والثاني. وهو ممن كانت الأنصار تفتخر به وتقول ((منا غسل الملائكة))، كما افتخر قوم سعد بن معاذ بأنه اهتز له عرش الرحمان. واهتزاز العرش لا يخلو أن يكون اهتزازاً لمسرة بصعود روحه إلى السماء، وإعظاماً لقتله، وإكباراً لما عانه من ألم الجراح.

وأما قولكم إن أفعالنا لا تقع لها آثار، فكلا. ونحن نرد بهذا على من جحد سؤال منكر ونكير. وهو أن الله سح أخبر بذلك في قتلى بدر من المشركين، حيث قال: {إذ يوحى ربك إلى الملائكة}، إلى قوله: {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنانٍ}. وكان ذلك موجودًا يوم أحد. فعرفت آثار ضربات الملائكة لهم. وروي أن تلك الآثار كانت سودًا لا دم فيهم ولا منها. ويصدق ذلك ما نراه من وقع الصواعق، وأن آثار وقعها تكون كالكي. وهذه آثار ظاهرة لأفعالهم الباطنة عنا. فبطل القول بأن أفعالهم لا آثار لها ولا حكم؛ إذ قد ظهر حكم أفعالهم وآثارهم بما ذكرنا. ثم عارضوا في المعنى. فقال المعترض لمذهب الشافعي على كلام المستدل: إن غسل الميت الذي يختص الموت سقط بإجماعنا. وكان سقوطه عناية من الشرع باستبقاء أثر الشهادة. والغسل لأجل الجنابة قد يسقط لعذر في حال الحياة. واستبقاء آثار الشهادة، إذا ظهرت عناية الشرع به، كان مانعًا من الغسل عن الجنابة. وما معنا أن غسل الملائكة أزال الدم وآثار الشهادة في حق حنظلة. وأما ما استطردت من حديث سعد بن معاذ، فلا حجة فيه فيما قصدت أنه عن الجنابة, لأن السيرة والتواريخ تنطق بأنه مكث شهرًا يعوده النبي صلع والصحابة؛ وأنه كان قد أصابه سهم عرب في الحلة، وأمر النبي صلع بكية؛ وأنه لم يرق بالكي. فثبت أنه لم يكن غسل إلا غسل الجنابة. إذ قد أجمعنا [على أن] من ارتث وبقي وتطاول هذا الطول،

حديث وآية قرآنية وتفسيرها

ومكث شهرًا يعاد، لم تكمل شهادته التي توجب إسقاط غسل الموت. 623 - روى موسى بن جعفر عن أبيه عن جده عن رسول الله صلع أنه قال: العمائم تيجان العرب؛ والحى حطان العرب؛ وجلوس المؤمن في المسجد رباط. قوله تع: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}. قيل في التفسير: تجعلون جزاء نعمتنا عليكم برزقكم تكذيبكم برسلنا. 624 - جرى بالمدرسة النظامية مسألة الإيمان هل يعتبر في إحصان الرجم استدل فيها حنبلي محقق بما روي عن ابن عمر أن النبي صلعم أتي بيهوديين فجرًا بعد إحصانهما. فأقر بهما، فرجما. وهذا يعطي أنه رجمهما لفجورهما بعد إحصانهما؛ وهما يهوديان. ولم يمنع كفرهما إحصانهما. اعترض السائل بأنه يحتمل أنه رجمهما بحكم التوراة. إذ لو كان رجمهما بحكم الإسلام ما أخرج التوراة. ووافق ابن صوريا على آية الرجم. حيث جعل يترك يده عليها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فأجاب المستدل بأن النبي صلعم متى حكم بشيء كان شرعًا له وإن وافق التوراة والإنجيل؛ فأما أن يبتدئ حكمًا بالتوراة أو الإنجيل. فكلا

وإنما أراد تكذيبهم حيث زعموا أنه يحكم ولا يرجم. وكان الغرض في إظهار كذبهم أنهم بالكذب في جحد نبوته وما ذكر في التوراة من أعلامها أولى أن يحرصوا على كتم ذلك. وقد يكذب الإنسان بما لا يعول عليه المكذب اعتمادًا على تكذيب مقالته بمقالته ودعواه بدعواه. وجاء الشيخ الإمام أسعد، فذنب على السائل نصرة لمذهب أبي حنيفة، على ما جرت به العادة، فقال: هذا أصل كبير وخطب جسيم، وهو الرجم لا يثبت بخير واحد. ولم يرو هذا إلا عبد الله بن عمرو؛ وغاية ما يوجب الظن. نعم؛ ومن أصل أبي حنيفة أنه لا يقبل إلا رواية فقيه؛ وابن عمر وألو هريرة لم يكونا من فقهاء الصحابة. نعم؛ وليس بأمر عملت به الصحابة، وكثر عملها به، فتأكد بفقه الراوي وعمل الصحابة به. فأجاب الحنبلي المستدل بأن خبر الواحد يوجب العلم. وهي رواية ظاهر كلام أحمد، حيث أثبت بأخبار الآحاد الصفات، إذا تلقتها الأمة بالقبول. وأنا إذا منعت قولك بأنه يوجب الظن بقولي، بل عندي يوجب العلم، كفاني عن أني لا أقنع بذلك، حتى أدل على ذلك بقوله تع: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب}؛ {أولم يكن لهم آية أن يعمله علماء بني إسرائيل}؛ {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}. وإنما أحال على آحاد أخبروا بمعاله في التوراة، وذكر الله له فيها بما استدل به الأصوليون من المسلمين؛ وهم من

كلام في قبح الفقر بعد الغنى وقبح أكبر هو الكفر بعد التقى

أسلم وصدقه، كوهب بن منبه، وكعب، وعبد الله بن سلام؛ وتصديقه صلع على ما ادعاه بأنه مذكور في التوراة بقوله: {النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل}. وهذا أصل لا يقنع فيه بالظن؛ بل لا يكفي فيه إلا القطع. ولما أحال عليهم، دل على أن خبرهم أوجب القطع. وكان صلعم يدعو إلى الإسلام كسرى وقيصر والنجاشي وملوك الحبشان بالكتاب على يدي آحادٍ. ولو لم يكن ذلك موجبًا للعلم، لما دعاهم بما لا يثبت به الدين إلى الدين. فهذا وجه. ثم لو كان موجبًا للظن، فما زلنا نترك ما كان قطعًا بأخبار الآحاد. فإن براءة الذمة وخلو الساحة من إراقة الدماء وإباحة الفروج، كل ذلك قطعنا به الدليل [ ... ] 625 - [ ... ] صاحبها إن ذكرت أعانك. فما أقبح الفقر بعد الغنى! وأقبح من ذلك الكفر بعد التقى. 626 - تقول العرب: رف حاجبه يرف، إذا اختلج؛ ورف البيت يرف، من الري؛ وثغر يرف إذا برق؛ ورف يرف، إذا أكل -بضم الراء.

قول العرب في معنى "رف يرف"

627 - شعر: أتعمى عن الدنيا وأنت بصير ... وتجهل ما فيها وأنت خبير وتصبح تبنيها كأنك خالد ... وأنت غدًا عما بنيت تسير فلو كان ينهاك الذي أنت عالم ... لقد كان فيما قد بلوت نذير أترفع في الدنيا البناء مفاخرًا ... ومثواك بيت في العراء قصير فدونك فاصنع كل ما أنت صانع ... فإن بيوت الميتين قبور 628 - تقول العرب ((أوردت الإبل فتغمرت)) أي شربت شيئًا يسيرًا لم يروها. ومنه اشتقاق ((الغمر، )) وهو القدح الصغير. واشتقاقه أيضًا من ((الغمر، )) وهي من مرارة يجدها المرء في جوفه؛ ويقال ((في قلب فلانٍ عليك غمر)) أي حقد يحترق منه جوفه من أجله. ((القرب)) ليلة الورد؛ ((والقارب)) المتوجه إلى الماء؛ ((والعريكة)) النفس؛ و ((العريكة)) أصل السنام. 629 - الصامتة من الجمادات والنبات ناطقة بشهادة الصنعة للصانع والحكمة للخالق.

كتاب النبي إلى النجاشي

630 - كتب النبي صلع إلى النجاشي - كرمه الله: أما بعد، فكأننا في الثقة بك منك، وكأنك في الثقة علينا منا؛ لأننا لم نرجك لأمرٍ إلا بلغناه، ولا حقناك عليه إلا أمناه. 631 - يقال ((هو ضرعه)) و ((سوغه)) أي ولد بعده. يقال ((رجل فرج)) لا يكتم سره؛ و ((فرج)) أي يكشف عورته. الجار بالريق جار جارًا؛ ((والغصص)) بالطعام؛ ((والشرق)) بالريق؛ ((والشجا)) اعتراض عود أو عظم يعرض في الحلق؛ ((والحرض)) غضيض. 632 - قال النبي صلعم: من أوليته حسنًا فكافأ، فذاك؛ ومن عجز فأثنى، فقد كافأ. 633 - روي عن النبي صلعم أنه قال: إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة، حل بها البلاء: إذا أكلوا الأموال دولًا. واتخذوا الأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وبر صديقه. وجفا أخاه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وأكرم الرجل مخافة شره، وكان زعيم القوم أرذلهم، وإذا لبس الحرير، وشربت الخمور، واتخذت القيان، والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها. فليترقبوا بعد ذلك [أربع] خصال: ريحًا وجمرًا وخسفًا ومسخًا.

من أخبار هارون الرشيد مع أعرابي

634 - قال أعرابي للرشيد: قد أصبح المختلفون بأمير المؤمنين مجتمعين على تقريظك ومدحك؛ حتى إن العدو يقول اضطرارًا ما يقوله الولي اختيارًا؛ والبعيد يثق من إنعامك عامًا ما يثق به القريب خاصًا. والله يبقيك أبدًا، ويجعلك لكل مستجير يدًا وعضدًا، ولا سلب المسلمين ظلك، ولا أفقد المؤمنين فضلك. ثم أنشد: تمت العرانين من هاشمٍ ... إلى النسب الأوضح الأصرح إلي بيعةٍ فرعها في السما ... ومغرسها سرة الأبطح 635 - فصل قال حنبلي: جمع بين نبي كريم كليم، وبين ولي عليم، ونبذ من حكمه الصميم ثلاث فعلات يضيق عن حملها العقل السليم. تشعيت مركب صحيح لمساكين لم يظهر منه إلا الإفساد، بغير إحماد؛ وشفعه بقتل نفس زاكية، بغير سبب ولا جناية ظاهرة؛ ثم ثلاث بالاستطعام

مع القدرة على الاكتساب. فلما تتابع الاعتراض مع ما تقدم من العهد على الاتباع من غير إنكار، قوبل بالمفارقة بعد بيان المصالح المنطوية في تلك المفاسد. وكفى ذلك الكليم عم في اقتضائه فيما بعد بالإمساك عن الاعتراض على أفعال الحكيم. وقص علينا القصة، فأوجب ذلك علينا الإمساك عن الاعتراض على ما يصدر عنه سح وإن آلم الطباع وأنكرته العقول بظاهر الحال، لتجويزنا أن يكون في مطاوية أمثال تلك المصالح. فإذا أمات لنا ولدًا على شبيبة، وقطع آمالنا فآلم طباعنا وخيب آمالنا، وجب عليه نقل تلك القصة إلى هذه الحادثة المؤثرة أمرً نغصة، فنقول: علم أنه لو جاوز هذا السن، لتعدى إلى طريقة توجب فساد العافية. وكنا بمثل هذا التأويل عاملين لما ندبنا إليه، وحثنا عليه، بقوله تع: {ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب}. فإن حاكت في النفوس اعتراضات بمطالبة غير إقناعية، بل شافية للعقل بحسب ما سبق فيه من إثبات القدرة المطلقة ومنع الفساد الآخر بغير الفساد الأول - لأن الإفساد لا يحسنه العقل وإن قل، إلا مع العجز عن دفع أكثر الفسادين بدون الإفساد الأقل؛ كالطبيب منا الذي حسن منه قطع جارحة لحفظ الجملة، لعجزه عن حفظ الجملة دون إفساد بعضها - فادفع هذا الاعتراض الأقصى لما أثبته من القدرة المطلقة

بالتسليم للفعل والتعليل لما علمته من الحكمة البالغة التامة؛ ولا تطلب منه بحسب ما عرف من القدرة، إلا مع الاقتضاء لنفسك بالتسليم لما عرفت من الحكمة. فكم قد قص عليك من مبادئ أفعال مزعجة للطباع والعقول، كان مثالها إلى أمور للطباع والعقول؛ وإشعارات مبهجة كان عقيبها أمور مزعجة؛ وإشعارات مزعجة كان عقيبها أمور مبهجة. كمنام يوسف في إسجاد النيران له عقبه محن مؤلمات رمته في الجب، وإخراجه إلى الرق، ثم ترويعه بالتهمة بأفحش ذنب، ثم تعذيبه بالسجن. ومنام الخليل ترويع يذبح إسحاق أو إسماعيل. ثم عقبه بالنسخ إلى ذبح البهيم. ثم الدحو به في حبال المنجنيق نحو نار كالجحيم. ثم يتزيدها عنه بالتكوين ترويع نبينا صلع بمخافة القتل، والهرب إلى الغاز، والشقاء بالأسفار، والمخافة من الوطن إلى دار غربة، ثم الصد عن الكعبة في عمرة القضاء. ومعاناة الذل في محو الاسم ومنع الهدى ورد المستجير. ثم عقب ذلك المنام والوعد بصريح الفتح بما نزل من الوحي. ثم عقب ذلك كله بالفتح. فوجب بهذا وأمثاله أن لا نأنس ببادرة خير ولا بادرة شر؛ بل نكون مع بادرة الشر على رجاء عاقبة خير؛ ونكون مع بادرة الخير خائفين من عاقبة شر. فكم العواقب دأب الحق، ليكون العبد معتمدًا عليه سح في الأمرين. هذا هو التكليف. ولو كشف العواقب سقط التكليف

فصل تذكير في التسليم لحكمة الله

بالكلية. لكن ترك الخلق بين الخوف والرجاء، ليكون العبد أبدًا على باب اللجاء. 636 - لبعضهم: زكاة رؤوس الناس ضحوة فطرهم ... بقول رسول الله صاع من البر ورأسك أعلى رتبة فتصدقي ... بفيك علينا فهو صاع من الدر 637 - للثعالبي: الحب طائر لا يلقط إلا حب القلوب. للحبيب أن يتدلل، وعلى المحب أن يتذلل. خجر الحبيب كلفح الهواجر، ووصله كنسيم الأصائل والبواكر. يمن الصباح في لقاء الصباح. 638 - أحسن الوجوه ما تأخذه النفس، ويقبله القلب، وترتاح له الروح. 639 - قال بعض أهل العلم: لو كشفت العواقب سقط التكليف. قال حنبلي: وصدق؛ فإنه لو قطع العبد عن دخول النار، ترك العمل. وأما كشف العاقبة بالجنة، فإنه لا يترك العمل. لأنه إن سقط العمل لأجل الأمن من العقوبة، لم يسقط العمل لشكر المنعم بالجنة.

تفسير الشعبي لآية من القرآن

640 - عن الشعبي في قوله تع: {هذا بيان للناس وهدىً وموعظة للمتقين}؛ قال: بيان من العمى، وهدىً من الضلالة، وموعظة من الجهل. 641 - وعن الضحاك في قوله تع: {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات}؛ يعني استجابته تشفيعه لهم بإخوانهم؛ {ويزيدهم من فضله}، قال: يشفعهم في إخوان إخوانهم. 642 - لجحظة: وهاجمةٍ على بكأس راحٍ ... ومقلة شادنٍ وبجيد ريم تراها حين يتعبها التثني ... وفي أعطافها كسل النعيم ووجه يستعار الحسن منه ... كبدر التم في ليلٍ بهيم 643 - قيل لصاحب معاوية: كيف حالك؟ قال: كيف حال من صلاحه من فساد أمور الناس؟ 644 - قال حنبلي خبير بالأيام لتقادم زمانه وفطنته: قد رأيت من الناس

فنونًا، وخالطت منهم أعيانًا، بين وزراء وأرباب مواكب ومناصب. واختلفت على الأزمان في جدب وخصب، ورخاء وضيق. فبين معطٍ عند السؤال أحسن نوال؛ وبين منعم بالتلويح، فيغني المحاويج عن التصريح؛ وبين محوج إلى المعاودة، ودافع للسائل إلى المراجعة؛ وبين محوج إلى الإلحاح والمنازعة، وبين حازم لا تحتك فيه إلا المصاولة بالمخاصمة. ولم أشهد من سلك طريقة في الجود والإحسان، بحسب أحوال الزمان، من غير سؤال، ولا تعريض لطلب نوال، إلا الشيخ الأجل السعيد أبو منصور بن يوسف، وظهير دولة المستظهر بالله إمام المسلمين أبي طاهر يوسف. فإن الأول كانتمباره، أيام الأنداء والأمطار، بالأحطاب والأدهان والدثار؛ وله على ذلك أصحاب أخبار، وفي شهر الصيام بالأطعمة للإفطار، وفي الأعياد لكل عيد ما يليق من الكسوات، مع الفطرة للفطر، والحيوان للأضحى. وهذا الكريم مجد الدين ظهير الدولة إن أطل ملم واسى، وإن هجم مرض أسى. وإن أطل شهر صيام فتح بابه، وكشف حجابه، للإفطار على طعامه، وأنفذ إلى ذوي التجمل ما يكفيهم وعيالهم من أطايب طعامه. وإن ينصف شهر الصيام تصدق وأهدى صنوف الحلاوات، ووزع قراطيس الدنانير إلى من لا يليق بحاله الإهداء. وإن قطعت الغيوث عن

قول حنبلي في كلام حفار للمقابر

السعي لمن عيشه من سعيه، أنفذ بما يعتاض به بمثل الكسب والأجر من المعايش والأعمال، وأوفى. وإن علم أن جماعة آواهم التدين إلى زوايا جوامع أو أربطة، أقام لهم الجرايات، يتبع الخبايا ويتفشغ الزوايا. وعن نفسي أقول: الأول رباني وآواني، إلى أن صلحت للحلقة فصدوني. وقام بمؤونة حبقتي، حتى الحصر والخلعة الجميلة. وتعهد الأصحاب هذا وأنا ابن نيف وعشرين. فلما تنيفت على السبعين وناهزت الثمانين، قام بأموري ظهير الإمام المستظهر بالله أبو طاهر يوسف. فإنه واسطة بين طرفين كريمين. مهما دعوت إلى الله، وأحببت في دين الله، ونفيت البدع عن شريعة محمد بن عبد الله، فهو في ميزانهما. والله سح ولي حسن ظني فيه بما أرجو بهما. وهو حسبي ونعم الوكيل. 645 - قصد بعض الظراف إلى باب رئيس كان معروفًا بالبخل، فقال له حاجبه: هو محموم، وما عرق بعد. فقال له ذلك الظريف: تحبون أن يعرق؟ قال: إي والله! قال: كلوا بحضرته خبزًا، فإنه سيعرق. 646 - وسئل حفار من حفارين المقابر عن حاله، فقال: كيف يكون حالي في خذخ السنة المشؤومة التي لم يقع فيها وباء ولا خمسة أيام!

تمني الوباء في كلام جندي

واجتمع جماعة من الجند، قتشاكوا ضيق الصدر؛ فقال بعضهم: نحن على شفاء عطب إن لم يتداركنا الله بفتنة. وهذه الحكاية مناسبة لتمني الوباء من الحفارين. 648 - لأبي العلاء المعري الأبيات المطبوعة التي تغنى بها، ويعجبني معناها، وطال ما تواجد عليها شيوخ الصوفية؛ وهي قوله: منك الصدود ومني بالصدود رضى ... من ذا علي بهذا في هواك قضى بي منك ما لو غدا بالشمس ما طلعت ... من الكآبة أو بالبرق ما ومضا إذا الفتى ذم عيشًا في شبيبته ... فما يقول إذا عصر الشباب مضى وقد تعوضت من كلٍ بمشبهه ... فما وجدت لأيام الصبا عوضا وقد غرضت من الدنيا فهل زمني ... معطٍ [حياتي] لغرٍ بعد ما غرضا جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ود أمري غرضا وليلةٍ سرت فيها وابن مزنتها ... كميتٍ عاد حيا بعدما قبضا كإنما هي إذ لاحت كواكبها ... خود من الزنج تجلى وشحت خضضا كأنما النسر قد قدت قوادمه ... فالضعف يكسر منه كلما نهضا

والبدر يحتث نحو الغرب أينقه ... فكلما خاف من شمس الضحى ركضا ومنهلٍ ترد الجوزاء غمرته ... إذا السماء كان شطر المغرب اعترضا وردته ونجوم الليل وانية ... تشكو إلى الفجر أن لم تطعم الغمضا طال ما وجد الواجدون على البيت الأول من كبار القوالات المحسنات، ومزقت الأطمار، وانكشفت الأسرار، حيث استعاروا لما سمي من الخلق صدودًا ما ورد من بلاوي الحق المقابلة برضى أهل العرفان، حيث امتلأوا بعرفانه مسرة، فلم يجدوا بإيلام طباعهم مضرة؛ نظروا إلى المبلي في البلى، فعذب العذاب عندهم وحلا. أما سمعت قول الحق في السحرة في حال الغفلات: {أئن لنا لأجرًا}؛ وقولهم عند طلوع شموس العرفان: {فاقضما أنت قاضٍ إنما تقتضي هذه الحياة الدنيا}. فكان ذلك موجبًا خطبة تعجيل البلاء. والآخر لما أحياه بعد القتل، وكلمه كفاحًا، قال له: تمن علي. قال: أتمنى عليك أن تعيدني إلى الدنيا، فأقتل دفعة أخرى. وأما قول أبي العلاء ((فما وجدت لأيام الصبا عوضا، )) قال حنبلي: هذه طريقة سلكها الأوائل، واحتذاها بعدهم الأواخر. وهي طريقة من لم يشم رائحة العرفان، ولا ذاق طعم الوجد الذي عقبه الوجدان. فإن الصبر مطية الغباوة والغفلة، وعلو السن حال يقظة، وقوة مزيدة على

الفطرة السليمة بالتجربة. وما طلب من طلب الغفلة أو السكر المغطي على العقل إلا لثقل التكليف وتعاظم العرفان. وللطباع حظها، كما أن للمعارف حظها. ومركب من أشتات لا تعيش إلا باختلاف الأحوال؛ غفلة تعيش بها طباعه، ويقظة يصفو بها اطلاعه. ولهذا كان بلوغ السفير عم بالإعانة في خلال أحواله لعيش طباعه؛ ويظل عند ربه، فيغنيه عن القوام في وقت اجتذابه إلى ذلك المقام. 649 - جرى في مسألة إيجاب القصاص بالسراية في الأعضاء بعضها إلى بعض في مسألة الناس فيها على ثلاث مراتب وهو إذا قطع أصيعًا من يد إنسان، فتآكلت إلى جنبها أخرى وسقطت، فأبو حنيفة لا يوجب القصاص في المقطوعة ولا المتآكلة؛ والشافعي يوجب القصاص في المقطوعة دون المتآكلة؛ وأحمد -رحنة الله عليه- يوجب القصاص في المقطوعة والساقطة بالتآكل جميعًا. استدل فيها حنبلي فقال: إنا قد أجمعنا على إيجاب القصاص في النفس بالسراية من قطع الطرف. وما ذاكإلا لمعنى. وإلا فلم لم يوجب القصاص بزهوق النفس بلطمة، أو ضربة بقلم؟ وما كان الفصل والفرق إلا لأن اللطمة لا يناسبها زهوق النفوس. فجعلنا ذاك إزهاقًا من الله تع، لا بسراية من اللطمة إلى النفس. فهو بمثابة قوله تع في حق أيوب:

{أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}. الركضة لا تناسب نبع الماء؛ وإنما يناسب ذلك خرق الأرض بالمعاول. {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء}؛ لا بإدخال اليد في الجيب؛ إذ لا مناسبة. وهذا معنى قولنا ((هذا خرق للعادة، )) وهو عدم المناسبة. نفخ نافخ على أناء زجاج فتصدع، لا ضمان؛ ضرب الإناء بحجر فانكسر، عليه الضمان. زعق بطفل زعقة منكة فسقط من شاهق، ضمن، إما قصاصًا أو دية، على خلاف الناس. زعق ببناءٍ جلد فسقط، لا ضمان؛ لحن صوته الشجي بخدر أو بباحة بين نسوة، قال له الصادق الحاذق، ((رفقًا بهؤلاء القوارير، )) لما كن سريعات الانكسار. فالمناسبة لا بد من اعتبارها في الفعل والمحل لنعلم، أو يغلب على أن الانفعال صدر عن الفعل. فإذا ثبتت هذه القاعدة، جئنا إلى قطع الأصبع المجاورة لأصبع أخرى مع اتصال العصب الناظم لهما. فإن للمجاورة من الأثر والمناسبة ما ليس للمباعدة. وهذا نجده في الأشخاص مع الأشخاص. فإن متثاوبًا في داره لا يناسبه حدوث نعاس ناعس في دار أخرى، لمكان التباعد. فأما شخص مقارب، يجمعهما مجلس واحد، إذا تمطى وتثاوب أحدهما دون الآخر في مجاورة نعاس، لم يكن؛ وذلك لمكان تأثير الهواء المحيط بهما. فيصير الهواء الجامع بين الشخصين مناسبًا بين الجاذب في أحدهما. وكذلك الطرب والحرب الحادث عقيب الأصوات الشجية في

الطباع الدراكة القابلة للتأثير. فما ظنك بالعضو إلى العضو اللذين هما أقرب فيما بين الشخصين بكونهما منظومين من عصب واحد؟ اعترضعليه معترض حنبلي أيضًا، فقال: هذا بعينه كلام من يثبت العدوى والتولد. والفقهاء من ذلك أبرياء لقول النبي صلع: لا عدوى ولا طيرة. لأن القول بذلك يؤدي إلى أن الطباع مؤثرة، وأنها في الإحداث مشاركة. والتوحيد يمنع القول بصدر فعل أو حدث عرض عن الخالق سح. وإنما الله سح يحدث الري عن شرب الماء، والموت عن تناول السم. ولا تأثير لشيء في إحداث شيء. كما لم تحدث الجواهر إلا عن الخالق سح، كذلك الأعراض. وفارق ما ذكرته من حدوث الموت بسراية الجرح. فإن ذاك، لما جرت به العادة، نسبت سرايته إلى السبب. ولهذا لو قطع أنملة من رجله، فانتفخ عقيب ذلك رأسه ومات، أوجبنا القول على قاطع الأنملة مع تباعد ما بين أنملة الرجل والرأس. وبمثله في مسألتنا. لو قطع أصبعًا من أصابع رجله، فتآكلت أذنه وسقطت، لم يعد قاطعًا للأذن لتباعد ما بينهما. فعددنا ذلك في النفس سراية، وجعلناه قتلًا؛ ولم نعده في الأطراف قطعًا. ثم قولك يفسد الهواء فيورث النعاس من وجود المتثاوب والمتمطي من المجاور من الأشخاص، هذا كله لا يقول به الفقهاء. وإنما هذا مذهب الطبائعيين، قولهم بالعدوى والتولد، وما على مذاهب الفقهاء شيء.

قال المستدل على كلام المعترض: إن هذا قول يخرج عن إجماع الفقهاء والعقلاء. فإنه لو كان هذا باحًا واحدًا، وأنه لا تحدث الحوادث إلا من الله تع، لما كان للفرق بين فعل وفعل وجه؛ بل كان كل حادث مضاف إلى الله سح، ولا قود، ولا قصاص، ولا ضمان، ولا فرق بين آلة وآلة. لأن الذي أمات عقيب الضربة بالحديدة هو الذي أمات عقيب الضربة الجديدة. ثم هذا مخالفة للشرع؛ حيث قال: العين حق، والسحر حق، بمعنى التأثير من الإعجاب بالذي أصابته العين. كالعباس حيث قال: إن يهزم عسكرنا اليوم من قلة، فانهزم الناس يوم حنين وكانوا اثنى عشر ألفًا. والسحر يقول الله تع فيه: {فيتعلمون منهما من يفرقون به بين المرء وزوجه}. ولهذا يقتلعندنا جميعًا بالسحر؛ إذا مات بسحره قوم، وعرف بذلك، قتل. ولأن هذا القول منك تعطيل للتعليل المجمع عليه، فإن كافة أهل العلم عللوا التحرك في الجسم بقيام الحركة به. ثم الذين يذب عنهم من أهل السنة ترقوا في التعليل من الجائزات إلى الواجبات، وقالوا: إن كون العالم عالمًا هو العلم؛ وليس العلم هو الله سح. وقالوا: علة كون الباري هو ذات العلم وجبت له كونه عالمًا. فلما قيل لهم: كونه عالمًا صفة وجبت له، فلا يحتاج إلى ذات توجب له كونه عالمًا؛ بخلاف كون الواحد منا عالمًا، فإنه أمر وجد مع جواز أن لا يوجد؛ فاحتاج إلى مسبب أو علة فيعلم. والواجب معلل، كما أن الجائز يعلل. إلا أن

فصول في قوله تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون)

الواجب معلل بعلة واجبة موجبة. وبالغم في ذلك. فكيف تعودون الآن إلى تعطيل العلل والمؤثرات، وتقولون مقالة تفضي إلى إبطال اعتبار المناسبات، وتسمون ذلك عادات؟ ولئن جاز أن يحال هذا على العادات، انقطع الشاهد عن الغائب في القول. فاحتاج [البناء] إلى بانٍ، والصناعة إلى صانع؛ ولم يبق لنا ما يستدل به على إثبات صانع غائب، حيث لم يكن لنا صانع في الشاهد، ولأن ذلك يقطع عنا ويسد باب المعجزات. لأنه إذا تكررر ذلك من الأنبياء، صار عادة بالإضافة إليهم. فإذا وجدت من نبي بعد نبي على استمرار الزمان، صار عبادة. فلا يبقى لنا شيء يقال له خرق عادة. ونحن نعلم أن هذه الخواص، لما عدمت فيها المناسبة، [ ... ؟ ] فلم نعرف في اطراد العادة حجرًا يجذب حجرًا ويحركه إليه، أو حجرًا يتحرك تحركًا لشوقٍ إليه، ولا راية لا يعمل فيها حرق النار، ولا حجرًا ينفر عن حموضة الخل، قالوا، لجهلهم بالعلة، ((خاصة))، وهذا يدل على أن المناسبة معتبرة في الأصل. وما خرج عنها يقال له ((خصيصة)) و ((خاصة)). ويضاف إلى فعل غائب دون الشاهد. فلا وجه لجعل الكل باحًا واحدًا فيسفسط. 650 - فصلفي قوله تع: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون} دلت هذه الآية [على] ان خلقه، لو وقع من غير رجعة، لكان عبثًا.

ولام ((لكي)) دلت، فقال في أصل الخلق: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. وقال في البعث: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها}، ثم أبان عن علة الرجعة، فقال: {لتجزي كل نفس بما تسعى}. وقال في بيان المجازاة: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}. فلا سلوة عن الموت إلا إثبات البعث. 651 - فصل قال حنبلي: يعز علي ــ والله ــ بأقوام التزموا لله سح ما أسقطه عنهم، وفتحوا على نفوسهم طرقًا سدها عنهم وأبوابًا أغلقها دونهم. والشريعة من ذلك مملوءة، وهم عنها غفل. الرجل يقول ((زنيت)) وصاحب الشرع يلتفت عنه. ولما كلمه عرض له بالرجوع عن التصميم: لعلك قتلت، وقد سمعتني، العينان تزنيان، إنك خبل، استنكوه. كل ذلك دفع عن تحقيق الإقرار، وهرب من وقع الأحجار، والحق لله قد ثبت، قال: ((هلا تركوه؟ )) فما زال يدفع الإقرار بجهده. وهو المستناب لله في استيفاء حقه. ((رميت الراعي بعظم الجمل بعد الهرب)) والرامي ظن أنه مستوف لله حقه. والقوم يسألون الراعي عن ورود النجاسات عليه. والنبي صلع يقول: ((لا تعلمهم)). ويقول للمقر: ((ما أخالك سرقت)) مع كون السرقة تتضمن حقين، حق الله، وحق الآدمي. أسرقت؟ قل: ((لا تعافوا الحدود فيما بينكم)) هلا سترته بثوبك. عمر بن الخطاب يقول في ماء الميزاب،

حيث سأل عنه الأصحاب: يا صاحب الميزاب لا تعلمهم. الأصحاب يقولون لمن ارتقى للأذان أرى حاجب الشمس فيقال له: بغيناك داعيًا لا راعيًا. النبي صلعم يأمر المستنجي بكف من الماء على المئزر بعد الاستنجاء ليدفع بلل الماء المحسوس، توهم قطر البول المحجوز، بل المعهود. فالشرع يتغاضى عن حقوقه، وأنتم تتبعون الناس تتبع أصحاب الأخبار. وقد كفى المكلف ما وكل به من الرقيب والعتيد. وما قنعتم أنتم بما وضع، وقد رأيتم تغاضيه عن حقوقه حتى جعلتم نفوسكم حفظة له. تراكم لا تخافون أن يفضحكم في قعر بيوتكم على أقبح ذنوبكم؟ صاحب الحق يعفو، وأنت بسوء طبعك تكشف وتجفو. وصاحب الشرع يقول على علم منه ببواطن الأحوال: من أتى من هذه القاذورات شيئًا، فليستتر الله تراه يريد: فليستتر عن الله بستره، أو عنكم؟ فإذا استتر الجاني عنك امتثالًا لأمري، وكشفت أنت، كانت جريمتك في الكشف على أخيك المسلم أكبر من جريمته، حيث امتثل بسترها أمر الشرع. يا جاهل! أنا صاحب الحق وقد سترت. فيا فضولي! فما بالك، فيما ليس لك، بحثت وكشفت؟ احذر المقابلة مني بكشف، وأنت بين مصدق لك ومكذب. فإن مقابلتي كشفك بحيث لا تقبل معذرتك ولا يصدق جحدك. نعوذ بالله من التعبد بالجهل. أنت تعتقد أنك منكر وأنت غير منكر، حيث تطفلت بما لم تكلفه، بل بما

جرى بالمدرسة النظامية [ثلاث مسائل الأولى منها] مسألة تثبيت النية لصوم رمضان

عنه لا توقرني في الخلوة وتتعاصب لي على غيرك مع توقيه منك بأكثف ستر. 652 - جرى بالمسألة النظامية مسألة تثبيت النية لصوم رمضان ومسألة قسمة الغنائم في دار الحرب ومسألة المختلعة هل يلحقها الطلاق أما الأولى، فاستدل فيها الشيخ الإمام المقدسي ــ حفظه الله، فقال: صوم مفروض، فلم يصح بنية من النهار، كصوم القضاء. يوضح هذا أن القضاء يحكى الأداء، والفروض كلها من النذور والكفارات حكمها في النية هذا الحكم، وأن النية لا تتأخر عن ابتدائها. وكان هذا الإيضاح جواب السائل بالمطالبة. وجاء القاضي الإمام أبو الفوارس الموفق، نائب قاضي القضاة في الحكم، المعروف بابن الموصلي، فقال: ولم، إذا كان صومًا مفروضًا، وجب تقديم النية له من الليل؟ وأما النذور والكفارات والقضاء، فتلك لم تتعين بزمان. ولهذا يصح في كل زمان بصحة إيقاع غيرها فيه. وهذا الصوم تعين. على أني بعد المطالبة أقول بموجب دليلك. فإنه لم يكن صحيحًا بنية من النهار، وإنما صح بنية من الليل. فإنها لما وجدت حقيقة بالنهار، انعطفت حكمًا على الليل، فصح الصوم بالنية الحكمية التي انعطفت. ولهذا صح انعطافها في صوم النفل. ولهذا بقيت حكمًا

إلى طلوع الفجر، وإن كان وجودها حقيقة إنما حصل في أول الليل عقيب غروب الشمس. وإذا جاز أن يبقى حكمًا، جاز أن ينعطف حكمًا، بخلاف سائر العبادات، لا يتقدم ويبقى حكمًا، فلا يتأخر وينعطف حكمًا. أجابه المستدل، فقال: أما المطالبة، فإن الدلالة على ما ذكرت نطقًا ومعنى. أما النطق، فقوله صلع: لا صيام لمن لم يثبت الصيام من الليل. ولأنها عبادة، فلا تتأخر نيتها عن ابتدائها، كسائر العبادات. وأما قولك بموجب علني، فلا يصح. لأن النية الحقيقة ما وجدت إلا نهارًا. وأما القول بأن وجودها حكمًا ليلًا، فإن حكمها تابع، والتابع لا يتقدم المتبوع. وأما النفل، فلي وجهان [فيه] احدهما أن النية نهارًا لا يحصل بها إلا ما بعد النية مما بقى من اليوم. لكن بشرط ألا يكون قد تقدم الأكل في أول اليوم، لا أن ما مضي يكون مشمولًا بالنية. ومثل ذلك غير ممتنع. كمن كان عليه شاة، فدخل مع قوم ذبحوا بدنة، كان سبع الدم كذبح شاة. لأنه تمم بفعل الشركاء، لا أنه دم له. بل السبع قائم مقام شاة بشرط أن ينبني على مشاركة السنة الذين ذبحوا البدنة، سواء كانوا مفرضين أو متطوعين. وأما اعتلالك بأن صوم رمضان صوم عين، بخلاف النذور والكفارات، فأي شيء يؤثر كونه متعينًا فيما نحن فيه من حصول النية في أثنائه؟ فليس يتلوح منه إلا أن الماضي عينًا، وكونه يستحق العين

و [الثانية] مسألة قسمة الغنائم في دار الحرب

لم يسقط أصل النية، فلا يسقط وصفها، وهو محلها. وما المانع من أن تقع النية في قضائه نهارًا، وتنعطف على ليله حكمًا؟ ليس في ذكر التعيين ههنا أصلًا تأثير ولا إخالة. وأما النفل، فإن أصل النوافل على السهولة، ووضع الاستقصاء في الشروط والأركان. بدليل صلاة النفل يسقط فيها القيام، وهو ركن، والتوجه إلى القبلة مع صلاة النفل على الراحلة. وهذا المعنى. وذلك أن المساهلة فيها يؤدي إلى حصولها والإكثار منها، ولو ضيق أمرها، لتركت. وأما قولك إنها في الدوام تبقى حكمًا مع طول الليل، وتخلل ما بين النية والفجر مما ينافي الصوم، فإنما كان كذلك لأن النون غالب، وتوخي طلوع الفجر صعب، وأمره خفي على أكثر الناس. فلو لم يجوز التقديم للنية، لفاتت ولشق تحصيلها، بخلاف ما نحن فيه من رجوعها إلى الماضي. على أن طول الليل واتساع زمان النية يغني عن توسعة أخرى. 653 - وأما الثانية فاستدل فيها حنبلي بأنهم قهروا على أموالهم القهر التام، فجازت قسمتها، كما لو جاوزها إلى دار الإسلام. قال السائل: لا أسلم أن القهر تام. فإن المال، إن حصل في أيدي المسلمين مشاهدة فإن الدار لأهل الحرب حكمًا. ولهذا لا تنفذ أحكام المسلمين فيها. فأين تمام القهر مع هذا التردد؟

قال المستدل: أما اليد القاهرة، فحاصلة على هذه الأموال التي صار أصحابها بين جريح وهزيم وأسير. فلا قهر أوفى من هذا. فأما كون الدار لهم حكمًا، فلا يمنع من تغليب أيدي المسلمين بالمشاهدة وكون الأموال لهم. بدليل من كان في دار إنسان ليعمل، معه آلاته، كنجار وبناء وخياط، فإن الترجيح ليد الصانع، والحكم له بملك الآلة دون صاحب الدار. وجاء المذنب عن أبي حنيفة، فقال: ليس القهر هو السبب عندي، فتحتاج أن تدل على أن القهر سبب، ثم تبين بعد ذلك أنه تام. ولا أقنع بمجرد المنع، بل أقول إن السبب الجهاد، وكل مال حصل عن الجهاد، الذي هو القتال للكفار لإعلاء كلمة الله وتقرير دعوة رسول الله صلع. يوضح هذا أنهم لو انهزموا وتركوه وهربوا، لم يكن غنيمة، وإنما يكون فيئًا. ولو التقى الصفان، ثم أخذت أموالهم، كانت غنيمة. وكذلك إن هربوا قبل المصافة، كانت غنيمة. لأنه بالمصافة تم الجهاد، ولأن قولك تم القهر. لأنا قد أجمعنا على أن الذي أخذ مالًا من أموالهم وهرب، هذا ليس بقاهر. وكذلك المستخفي الآخذ لأموالهم على سبيل التلصص ليس بقاهر قهرًا تامًا، ويملك المال. ولا تصح دعواك، ولا لي صحت، لأثر ذلك الملك. وكان المستدل يكثر من قوله إن أموال أهل الحرب مباح، فهو

والثالثة مسألة المختلعة هل يلحقها الطلاق

كالحشيش والحطب. وحيواناته وأولاد عبيده كالصيود، يكفي فيها الأخذ. فتصير بذلك ملكًا لآخذها. ولأنهم لو غلبت طوائفهم بعضها على بعض، وأخذوا أموالهم، وملكوها، وإن لم يكونوا قاتلوها لإعلاء كلمة الله. 654 - وأما الثالثة، فاستدل فيها شافعي، فقال: بائن منه، فلا يقع عليها طلاقة، كما لو انقضت عدتها. اعترض حنبلي لمذهب أبي حنيفة، فقال: لا يصح قولك بائن. لأن البينونة هي الانفصال. كقول القائل: ((بانت يده)) لو بقيت على عرق، لم يقل ((بانت)) وههنا علقتان، ملك الطلاق، والحبس لأجله ولحقه، فلا بينونة. وكذلك هو أحق بها عن سائر الرجال نكاحًا لها. وهذه كلها علق، فهي كالمكاتبة والرجعية. والمبيع بشرط الخيار ينفذ عتقه في المكاتبة وإن كانت قد بانت بمعنى أنها صارت في يد نفسها، وصار لها بدل منافعها كلها. وكذلك أروش الجنايات عليها. ومع ذلك ينفذ عتقه في المكاتبة، وطلاقه في الرجعيةـ وعتقه في المبيع بشرط الخيار. قال المستدل، وهو الشيخ الإمام أبو الفتح بن برهان: إنما أردت بقولي ((بائن)) من النكاح، إذ لا نكاح له على المختلعة. وأما ملك الطلاق، فإن أردت به إيقاعًا، فلا أسلم، وهو نفس الخلاف. وإن أدرت بأنه ملكه، بمعنى أنه يوقع في نكاح جديد، فهذا بعد انقضاء العدة أيضًا

باق مملوك على وجه الذي ذكرنا، ولا يعطي ذلك وقوعه. وحبس العدة حق الله، لا لأجل الزوج. ولهذا لا تصرف له فيه. بخلاف حبس النكاح، له أن يفتحها الخروج عنه. ولا ملك في العدة. ذلك دل على أنه لحق الله، لا لملك النكاح. أما الرجعية فزوجة من وجوه وقوع الطلاق والإرث. وعندك الإباحة لها، تعاوض عن طلاقها الباقي. وأما المكاتبة فمملوكة لسيدها. والعتق ينفذ في الملك. والملك باق. ولا ملك ههنا على البائن. قال الحنبلي: ولا وضع الطلاق لإزالة ملك النكاح فقط، بل لتنقيص العدد أيضًا. ولهذا، الطلقة الثانية في حق الرجعية ما أزالت شيئًا. لأن الرجعية، بعد الطلقة الأولة، زوجة، وبعد الثانية، زوجة. وعندك هي محرمة، ولم تفد الثانية ولا أثرت تحريمًا، وما رفعت سوى نفسها. فثبت أنه قد وضع أيضًا لتنقيص العدد. فإذا صادف البائن، لم يصادف نكاحًا، فعمل في تنقيص العدد لأدنى علقة، وهي الحبس لحقه مع تملكه للطلاق ومع علقة كونه أحق بها. قال الشيخ المستدل: أما تنقيص العدد بنفسه من غير عقد، فلا يحصل. والرجعية محل يقبل وقوع الطلاق. فلأجل كونها زوجة وقع الطلاق مقربًا إلى البينونة. فأما في مسألتنا، فلا نكاح مع البينونة. فهو كما بعد انقضاء العدة هو مالك لما بقى من الطلاق، لكن لا يقع لنفسه، ولا ينقض لنفسه. وإنما هو مالك له بشرط مصادفة ملك يتأثر بوقوعه.

شعر للمغيرة في مدح المهلب

قال الحنبلي المعترض: إذا لم يكن الملك يتأثر بوقوع طلاق الرجعية، بل لا يؤثر إلا تنقيص العدد، صار اعتبارك للملك لا معنى له. فعدمه في مسألتنا لا يؤثر في منع وقوع الطلاق. 655 - دخل المغيرة على المهلب، فقال له، أيها الأمير! إن الشعراء قد أكثروا فيك وأطالوا، وإني قد أوجزت، فقلت: [البسيط] أمسى العراق بياتا لا غياث به ... إلا المهلب بعد الله والمطر هذا يجود ويحمي عن حريمهم ... وذا تعيش به الأنعام والشجر 656 - لأبي نحرير شاعر نهر الدجاج: [المديد] يا نساء الحي من مصر ... إن سلمى ضرة القمر إن سلمى لا فجعت بها ... أسلمت قلبي إلى الفكر وهي إن صدت وإن وصلت ... مهجتي منها على خطر وبياض الشعر أسكنها ... من سواد القلب والبصر

شعر لابن عاصم البغدادي

657 - من المجانس المليح لشيخنا ابن عاصم، شاعر باب الشعير، وكان عنده حديث نسمعه منه وكان شيخنا ظريفًا: [الوافر] فديتك قد منعت الغمض طرفي ... وقد أفسدت بالهجران شأني وقد والله رق لما يري بي ... من الوجد المبرح كل شأني الأول من شأن والثاني من الشنآن 658 - وللأمير أبي الفضل الميكالي: [الوافر] إذا ما جاد بالآمال ثنى ... ولم تدركه في الجود الندامة وإن هجست خواطره بجمع ... لريب حوادث قال الندامة - يعني أسكته الندا. 659 - روى أبو بكر النقاش المقرئ عن الحسين بن إدريس عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس، قال: لما أحتضر أبو بكر الصديق صلع، حضره جماعة من أصحاب رسول الله صلعم، فقالوا: إن رأيت أن تزودنا شيئًا ينفعنا، إنا

فصل تذكير في فضل العقل

نراك وجعًا. فقال لهم: افهموا عني كلمات من قالهن حين يمسى وحين يصبح، جعل الله روحه في الأفق المبين! قالوا: وما الأفق المبين، رحمك الله؟ قال: قاع تحت العرش، فيه رياض وأشجار وأنهار وأطيار، يغشاه في كل يوم ألف رحمة وألف مغفرة. فمن مات على ذلك القول، جعل الله روحه في ذلك المكان، وحياه وأزلفه واقر عينه. اللهم إنك بدأت الخلق من غير حاجة بك إليهم، بل منا منك عليهم، فجعلنهم فريقين: فريق النعيم، وفريق الجحيم. اللهم فاجعلني من خير الفريقين: من فريق النعيم، لا من فريق الجحيم. اللهم إنك خلقت الخلق كلهم فرقًا، وميزتهم طرقًا، فجعلت منهم شقيًا ومنهم سعيدًا وغويًا ورشيدًا، فأسعدني. قال ابن عباس: فجعلت أقوله في كل يوم مرتين. فلم يزل أمير المؤمنين عمر يستعيدني حتى حفظه. قال ابن عباس: قال أبو بكر الصديق: وهذا كله في كتاب الله. وصدق أبو بكر عم. اللهم! من أصبح وأمسى وثقته ورجاءه غيرك؟ فإنك أنت ثقتي ورجائي. فلا حول ولا قوة إلا بالله! 660 - فصل قال حنبلي: إن من عرف محل نعمة الله تع على خلقه بالعقل، حرس النعمة بجهده، وشكر عليها بمبلغ وسعه وجده. وأرى السواد الأعظم.

قد بخسوه حقه. فإنهم ينوحون حال كبرهم نياحة بالغة، نظمًا ونثرًا، على زمان الصبا. حتى قال قائلهم: [السريع] فإن تولى فزمان المدام ... حيث تردى بردا الغلام ومعلوم أنهم حال الكبر قد صحا العقل عن شببه حال الشبيبة. لأن حال الصبوة والنزاقة الطبع غالب، والغباوة عن مطالعة العواقب والنزاقة ودواعي الشهوات واللذات ورعونات الطباع القاطعة للوقت بما يوجب العطلة عن الطامن أو المقت، حال الكبر قد ظفر العقل بتصفح الأحوال، وتدرب بالتجارب، وصحا له جو الآراء، فتكشفت له العواقب، واكتسب الوقار، وزالت عنه خلاعة الصبا، وذاق طعن العرفان بمراشد العقل المهدي له إلى حقائق ما تضمنه النقل بتدبير الآيات، والتذكر بأنواع الدلالات، ووقف على ما كان عنه غافلًا، وعن البحث عنه عاطلًا. فيحسن بمن بلغ بكبر السن هذه الرتبة أن يتذكر حال انحطاطه عنها بالتأسف والتشوق إلى حال كان محجوبًا عن درك غاية المطالب واكبر الرغائب. كذا يكون العقلاء. وما هذا عندي إلا بمثابة من وصل إلى المنزل والوطن، فتشوق إلى وعثاء السفر وعناء الطريق وكلفة النقل، أو بمثابة من بلغ من العلم غاية امتاز بها، فأخذ في التشوق إلى أيام الطلب، وأوقات النظر والفكر والبحث، وزنقات الطرق، ومرارات التردد، ومعاناة الشكوك. ولم يغلب عليه درك

قول أبي العيناء لعبد الله بن سليمان

حلاوة الوقوع على المطلب، حتى يرى أيام الطلب أيام عناء وشقاء، فيقول كما قال أهل الجنة: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن}، أو كما قال أهل الأديان، بعد عبادة الأوثان: {الحمد لله الذي هدانا لهذا} فهذا دأب كل واجد بعد أن كان طالبًا. فاعترض هذا الحنبلي خاطر كأنه سائل يقول: قد خفي عليك شيء لا ينكره العقل، بل يسنده ويقيم العذر فيه لمن صدر عنه التأسف والتشوق إلى أيام الصبا والغباوة. وذلك لما يدخل على العاقل من ثقل التكليف، حتى قال خواص السلف: ليتني كنت شجرة تعضد! ليتني كنت مثلك يا طائر! ليتني كنت نسيًا منسيًا! وتمنى الجمادية والبهمة أقصى من التأسف على زمان الغباوة والصبوة. أو رأوا أن الأجسام مراكب الأرواح والعقول، فطلبوا ما يقيمها، ولا يقيمها إلا الغفلة، دون الصحو واليقظة، فلذعوا الأجساد بذلك حتى خطب بعضهم الغفلة، لما يعتريهم من انهدام مركب العقل. فالغفلة كالزاد لمراكب العقول، وهي الأجساد، فكان طلبهم لها لأجل العقل أيضًا، وإن دخل عليه نوع ذهول عاجل، لكنه لاستدامة الأجل. فتصير الغفلات كالأغذية المبقية لمحل العقل، وهي الأجساد. 661 - قال أبو العيناء لعبد الله بن سليمان: أيها الوزير! نحن في أيام عزلك مرحومين، وفي أيام ولايتك محرومين.

في إعراب "كله" في آية من القرآن

662 - نقلت ما ذكر من كتاب الحجة لأبي علي في قوله ــ عز وجل {قل إن الأمر كله لله} قال: فقرأ أبو عمرو وحده ((كله لله)) رفعًا، وقرأ الباقون ((كله)) نصبًا. حجة من نصب أن ((كله)) بمنزلة ((أجمعين))، في أنه للإحاطة والعموم. فكما أنه لو قال ((إن الأمر أجمع)) لم يكن إلا النصب، كذلك إذا قال ((كله)) لأنه بمنزلة ((أجمعين)) وليس الوجه أن تلي العوامل كما لا تليها ((أجمعون)). وحجة أبي عمرو في رفعه ((كله)) وابتدائه به، أنه وإن كان في أكثر الأمر بمنزلة ((أجمعين)) لعمومها، فإنه قد ابتدئ به كما ابتدئ بسائر الأسماء، في نحو قوله {وكلهم آتية يوم القيامة فردًا}. فابتدئ به في الآية. ولم يجره على ما قبله، لأن قبله كلامًا قد ثني عليه، فأشبه بذلك ما يكون جاريًا على ما قبله وإن خالفه في الإعراب. ألا ترى أن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل إذا جرى صفة لموصوف، أو حالًا لذي حال، أو خبر لمبتدأ، ولا يحسن إعماله عمل الفعل إلا في هذه المواضع؟ وقد قالوا: ((أقائم أخوك؟ )) أو ((ذاهب أخويك)) و ((ما ذاهب أخويك)) فأعملوا اسم الفاعل لما تقدمه كلام أسند إليه، وإن لم يكن أحد تلك الأشياء التي تقدم ذكرها. وكذلك حسن ابتداء ((كله)) في الآية لما كان قبله كلام. فأشبه.

في فضل محادثة الإخوان

بذلك إتباعه ما يكون جاريًا عليه، كما أشبه اسم الفاعل في إجرائه على ما ذكرنا ما يجري صفة على موصوف، أو حالًا، أو خبر مبتدأ مثل ((مررت برجل قائم أبواه)) وهذا زيد قائمًا غلامه)) و ((زيد منطلق أبواه)) فكذلك حسن الابتداء بكله وقطعه ما قبله، لما ذكرت من المشابهة. ومن ثم أجاز سيبويه: ((أين تظن زايد ذاهب؟ )) فألغى الظن وإن كان ((أين)) غير مستقر، كما جاز إلغاؤه إذا كان ((أين)) مستقرًا، لأن قبله كلامًا، فجعله، وإن لم يكن مستقرًا، بمنزلة المستقر، كما جعلوا همزة الاستفهام وحرف النفي في ((أقاليم أخواك)) بمنزلة الموصوف، نحو ((مررت برجل قائم أخواه)). 663 - بل اللذات المعدودة لذة ساعة: لذة الجماع، ولذة الراحة بعد الاستحمام، وفرحة العرس، وفرحة بالمولود الذكر. ولذة تعم الدهر كله: محادثة الأخوان. 664 - قوله تع حكاية عم إبليس: {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم}. وساق الجهات الأربع، ولم يذكر جهة فوق، ولا جهة تحت. قال حنبلي: قد قلنا في ذلك قولًا، وقد لاح لي الآن أملح من الأول. وهو أن جهات الملقى المعتاد، وليس إلا هذه الجهات الأربع. ولو جاءهم

مذاكرة في ابن آدم وفتنة الشيطان

من غير هذه الجهات، فإن جهة العلو ما جرت العادة بمن يجيء منها، ولا من جهة تحت؛ كما أنه لا يأتي في صورة ينكرونها؛ كما جاء أهل بدر إلى من الكسار فقال لهم: ((إني جار)) وقال ما قال. 665 - قال قائل: مسكين، ابن أدم! الشيطان يأتيه بالإغواء من أربع جهاته ومعه قرين من الجن لا يفارقه؛ وملكان عن يمينه وشماله يحفظان عليه أعماله؛ ومن داخل الطبع والهوى ودواعيهما؛ وفي المخالطات مدارة هذا العالم في المعاملات معاينة ومخاطرة ومعاناة العيال في البيوت. فأي صبابة تبقى له مع هذه المحن؟ إجابة حنبلي يدقق في المعاني، فقال: إن من ترك لك جهتين: جهة فوق للتلاحي، فإذا مستك هذه القوارص وأحاطت بك هذه الدواهي، تلاجيت، وجهة الأرض التي إذا سجدت عليها ناجيت، لقد وسع لك ما ضاق، ودفع عنك ثقل الإزهاق. لا سيما وقد منحك النور، الذي يضيء لك طرق الهداية؛ ويعرفك من جلال الله ما يمدك به من العواصم، المانعة لك من أعدائك ويعذك من القواصم. وكفي بالله مانعًا وإن كثر- الطالبون لك، وقامعًا لمكائد الأعداء وإن تظارفوا عليك. وأما الحفظة عليك أعمالك، فإنك إذا راعيت نظر الحق وشهوده إياك بقوله: {أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}، سقطًا من عينك، وتحقق لك العمل لمن شهدك، دون من يشهد عليك، فصفت الأعمال عن أن

من أخبار علي بن محمد العلوي الجماني

نتدلس بما يسوءك تسطيره عنك وعليك، وصارت الشهادة لك لا عليك. وقد سلك بعض المفسرين مجازات؛ مثل حملهم بين أيديهم على التشكيك في مستقبل أحوالهم من أمر أخرتهم ومن خلفهم، فيما سبق من القصص والأخبار التي يجب الإيمان بها. 666 - روى الحسين بن يحيي الكاتب قال: لقيت علي بن محمد العلوي ألجماني بعد خلاصه من حبس الموفق؛ فهنأته بالسلامة، وقلت: ((وقد عدت إلى وطنك الذي تألفه، وإخوانك الذين تحبهم.)) فقال: ((يا أبا علي! كيف وقد ذهب الأتراب والأحباب والشباب؟ )) وكان قد طال حبسه. وأنشأ يقول: [البسيط] نفسي بقيت على الأيام والأبد ... ونلت ما شئت من مال ومن ولد من ولي برؤية من قد كنت آلفه ... وبالشباب الذي ولى ولم يعد لا فارق الحزن قلبي بعد فرقتهم ... حتى يفرق بين الروح والجسد 667 - لأبي الحسين بن فخر الدولة لما أطلق من الحبس بعد عشرين سنة: [الطويل] هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه ... ومال إلى الحسنى وفك من الأسر فمن لي بأيام الشباب التي مضت ... ومن لي بما قد فات في الحبس من عمري

قول بعض أهل العلم في فضل القرآن

668 - قال بعض أهل العلم: من نازعك في أن القرآن علمًا ظاهرًا أو معجزًا باهرًا، فاعدل عن الكلام معه إلى الكلام، وعن الحجاج إلى الشجاج: وليس جواب من أنكر الحجة الواضحة إلا الشجة الموضحة. 669 - قال أبو عمرو بن العلاء: لا تأت إلا من تخاف سطوته، أو ترجو بركة دعائه، أو تقتبس من علمه. 670 - [شعر] [السريع] نديمتي جارية ساقية ... ونزهتي ساقية جارية 671 - روى محمد بن الحسين القطان قال سمعت عياش الدوري يقول: جاءني نصف النهار غلام وبين يدي نبيذ/ فقال: يا أبا الفضل! ما تقول في النبيذ؟ قال: قلت: حلال. فقال لي: خير قليلة أو كثيرة؟ قلت: قليله. فقال لي: يا شيخ! إن حلالًا يكون قليله خيرًا من كثيرة لجدير أن يكون حرامًا. ثم جذب الحلقة في وجهي. ففتحت الباب، فلم أر أحدًا. فتركت النبيذ من ذلك الوقت. 672 -

من أخبار أبي العلاء المغربي وشعره

672 - روى اللبيب أبو الحسن علي بن زهير البادراني قال: رأيت بين يدي أبي العلاء المغربي مشطًا من العاج مدفونًا فيه هذان البيتان: [الخفيف] كنت استعمل السواد من الأمشاط ... والشعر كالليالي الدياجي أتلقى مثلا بمثل فلما ... صار عاجًا سرجته بالعاج وأنشد لنفسه: [الخفيف] فتكت بي حوادث الدهر حتى ... صرت رقًا لمن كان رقي 673 - فصل ذكره حنبلي له تحقيق في النظر على شيء ذكره حنفي من كلام أبي زيد ألدبوسي، وأن الدنيا بلا تكليف، والآخرة هي دار الجزاء، وأنه لا يجوز أن يجعل شيء فيها جزاء قال: وهذا فيه أحسن معنى. لأن أعمال المكلفين يجب أن تقع بحسب وعيد الله، وعده، والإيمان بالآخرة. فيقع على الوجه الذي وضعه الله تع ورضي بوقوعه عليه: {ليجزي الذين أساءوا بما علموا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}، جزاء {بما أسلفتم}، {سلام عليكم بما صبرتم}، {اليوم تجزي كل نفسٍ بما كسبت}، {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة}، يوم الدين، يوم الجزاء: {فاليوم لا تظلم نفس شيئًا ولا تجزون إلا ما كنتم تعلمون}.

وأما الدنيا، فهي دار العمل. والرزق فيها للقيام بشروط التكليف وإزاحة العلل. فأما لجزاء العمل، فلا. ولهذا تقع التوسعة في حق الكفار والفساق بسعة الأرزاق والإملاء لهم بإطالة الأعمار. وقال سح: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا}. فلا يعجبك أموالهم ولا أولادهم؛ {إنما لا يريد الله ليعذبهم بها}، {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين}، {نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}، {إنما أموالكم وأولادكم فتنة}. فهذا جميعه تقرير لسؤال الحنفي. فأما ما ذكره الحنبلي وحققه، فإنه لا يجوز أن يكون التأخير والوعد والوعيد هو المقصور على الأجزية لنصوص الكتاب، ودلائل العقول ووضع الشرائع كلها على خلاف ما قرره أبو زيد من هذا المذهب. وذلك أن الله تع أعلم بما خلق. وقد علم أنه وضع طباع خلقه على أنهم لا يعملون بنسيئة، وأنهم على طباع تتضمن دواعي متعجلة ومنافع ناجزه. لا تتحرك أدوات أعمالهم إلا بعاجل منقود، أو منسي موعود؛ ولا تتحقق لهم الأعمال والانتهاء عن القبائح إلا بزجر ناجز، وعقوبات عاجلة. فجميع ما وعدهم به في الآجل وتواعدهم به في الآجل أذاقهم من الأمرين جميعًا طائلًا وأنموذجًا. فكان ما عجله من النعيم حاثًا لهم ومنهضًا إلى ما أمرهم به. وصرح بذلك. وما تواعدهم به أذاقهم منه طرفًا، فكان أكد صارفًا وأعجل زاجرًا. فقال سح: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من

فوقهم}، المن وما ينزل من الأجواء {ومن تحت أرجلهم} نبات الأرض. هذا جزاء ناجز. وقال في خبر الكفران والعصيان في أهل سبا: {فأرسلنا علهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من ثدر قليل}، {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور}. وقال: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم}؛ أي كانت قبل ظلمهم أحلت لهم؛ {ويصدهم عن سبيل الله كثيرًا}، {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل}. وهذا تصريح بعقوبات الدنيا أجزية عما عدده من إساءاتهم. فهذا في الرغائب والعوارف الدنيوية. ثم إنه ذكر في المقابلات الدينية سلب التوفيق والألطاف الأعتقاديه، فقال: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية}، {والذين اهتدوا زادهم هدى}، {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لو يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون}، {يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضل به إلا الفاسقين}. وعدد الأفعال التي أوجبت سلب الألطاف عنهم، فقال: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}. وهذا مثل قوله: {فبما نقضهم ميثاقهم}. وهذه آيات كلها دالة على المقابلات بحرمان لذات الدنيا والبركات في الأرزاق والتوفيق والألطاف في الاعتقادات. ثم جاء إلى باب الحدود والعقوبات الصوارف، فقال في قطاع الطريق والساعين في الأرض بالفساد: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم

من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا}، وهو الخزي العاجل؛ {ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. فجمع بين الجزئين: عاجلًا صارفًا، وآجلًا مخيفًا مفزعًا. وجاء إلى المقابلات منا في جهادنا لهم: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين}، {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا أيمان لهم}، {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم}. وجاء إلى الملاينة بعد الخشونة، فقال: {والمؤلفة قلوبهم}. فجعل لهم قسمًا من أموال الزكوات، وضع بالحكمة في ذلك، وهو تآلف قلوبهم، إما للدخول في الإسلام في حق من لم يكن دخل، أو لمن دخل في الإسلام مع كونه مترددًا؛ كما قال سح: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون}. فالله سح دارهم، والآن لهم جانب التكليف بعاجل هو الأحب إليهم والأقرب، وبالآجل. فمن قصر ذلك وخصصه بالدار الآخرة، فقد جهل مواقع الناجز من المقابلات- والله أعلم. وجميع ما يوردونه من جزاء الآخرة، فنحن قائلون به. وما ذكرناه يوجب عليهم القول بما دلت عليه دلائنا النطقية السمعية والعقلية والوضعية الاعتقادية. قال الحنبلي: وله أن يقول ما اعترض لي من أنه متى كان من أمور الدنيا جزاء أوجب الإخلاد إليه، فقدح في الإخلاص وأفسد الطاعات. وقد أشار النبي صلع إلى ذلك حيث قال: من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه. وهذا يمنع [أن] يشينوا القصد لإعلاء كلمة الله بشيء من أمور الدنيا، لئلا يقدح في إخلاصهم

لتشوق طباعهم إلى حصول الغنائم أموالًا وشبانًا وأسلحة ومراكب، وما أشبه ذلك من زخرف الدنيا. فلذلك وجب أن لا يعتقد أن شيئًا من أمور الدنيا داخل في الأجزية عن الأعمال لا نعيمًا ولا بالنا. وإنما الساعة موعدهم، وإليها تشوقهم، ومن عذابها خوفهم. فتخلص الأعمال لوعد الله، والتروك لوعيد الله. فالجواب عن هذا أن الله سح، العالم بما وضع فيهم من الطباع، قد نطق بآيات تتضمن ما ذكرنا، وعجل من النعم ما ذكرنا، وعجل ممن النعم ما ذكر أنها تحصل بشكرهم بأعمالهم الصالحة، وأنهم إذا فعلوا ذلك أمدهم ببركات من السماء والأرض. فقد نبههم على أن نعمة مقابلة على الأعمال. فلو علم أن ذلك شوب في الطاعة مبعدًا من الإخلاص، لما ذكرنا شيئًا من ذلك، وعجل الحدود والعقوبات روادع وصوارف عن القبائح. وأي حكم يبقى للوعيد مع الناجز من عذابه بالحدود؟ فيصير الانتهاء لأجل السوط والحجر دون النار، أو منهما. فقد حصل الشوب وزال الإخلاص في التروك والأعمال. وعجل في الدنيا من بطشانه المستأصلة خسفًا ورجمًا وحسبانًا من السماء وريحًا وطوفانًا وسخًا للصور، وإلى أمثال ذلك من المثلات التي يقع الفزع منها أوفى من الفزع من النار التي تواعدهم بها. لأن الناجز أشد صرفًا ومنعًا من المتواعد به في الآجل. فهو أعلم منكم بما ذكرتم. فلو كان يريد ويقصد أن لا يكون الخوف إلا من وعيده، لحسم مادة ما نخاف منه في العاجل من الحدود والمثلات.

تفسير آيات من القرآن

فلما عجل وأجل، دل على أنه لا يقدح في الإخلاص؛ لا سيما وقد بين أن الكل منه: العاجل والآجل. ومن خاف من عقاب الله العاجا، كمن خاف من عقابه الأجل. ومن رجا ثوابه العاجل بنعمه، كمن رجا ثوابه الآجل. فلا ساسه في خوف المكلف، ولا رجاء به. وإنما الثوب وزوال الإخلاص أن يكون العمل لأجل غيره والترك لأجل غيره؛ كمن يخاف من الآدميين، فيصلي ويصوم، أو يرجو إكرامهم وأنعامهم، فيصلي ويصوم ليمدحوه، أو ليكرموه، أو ليبروه. فهذا وأمثاله هو الرياء والسمعة لوقوع الأعمال والتروك لغيره. فأما عذابه ونعمه، دنيا كان أو آخرة، فوقوع الأعمال به وله، لا تكون إلا خالصة له؛ إلا أن يسلك سالك قول المتوهمين القائلين: ((ما عبدناك شوقًا إلى جنتك، ولا خوفًا من نارك؛ لكن شوقًا إليك، ومحبة لذاتك)) فذاك قول من لا يعلم أن الله سح لا يحب إلا ما منه، ولا يعرف إلا بما صدر عنه. أو يكون ذلك من أقوام صفت معارفهم لله، فرأوه أهلًا أن يطاع ويعبد، لما يحصل لهم من عظمته في نفوسهم. فيرونه أهلًا أن يطاع، وأهلًا أن يستسلم لأحكامه. فذلك أمر لا يبلغ إليه إلا آحاد من هذا العالم المظلم.- والله أعلم. 674 - سأل سائل عن قوله تع: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدًا} {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا} ذكر المفضل قال: المراد به أن ملائكة كانت تنزل مع جبريل

تفسير آيات من القرآن

تحفظ ما يورده من الوحي إلى محمد عم عن استراق الجن له وحمله إلى كفاتهم، {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم}. وقيل: ليعلم النبي صلع؛ وقيل: ليعلم الإنس والجن أن قد أبلغت الملائكة رسالات ربهم؛ {وأحاط بما لديهم}، أي علم بما عندهم. 675 - قال: قوله تع: {كونوا قردة خاسئين}؛ هذا أمر تكوين لقلب الضرر؛ يخرجهم عن التكليف، أو ينفيهم مع قلب الضرر على التكليف. وما معنى {خاسئين}؟ وما معنى: {فجعلناها نكالًا لما بين يديها وما خلفها}؟ وما معنى: {موعظة}؟ وما وجه التخصيص بالمتقين؟ قيل- وبالله التوفيق: أما قوله تع: {كونوا قردة} فليس بأمر حقيقة. لأن الأمر هو الاستدعاء من الأعلى للأدنى. والأخلاق فعل الخالق- جلت عظمته- ليس إلى المخلوق منه شيء، مكلفًا كان أو غير مكلفٍ، حيوانًا كان أو جمادًا. لكن ((كن)) حرفان يظهرهما الباري للملائكة، فيكون عقيبهما ما يكونه بقدرته. هذا إذا حمل الكلام على حقيقته، وهو الأصل. فقلب صورة الإنسان إلى صورة قرد كقلب الماء إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام، إلى لحم، على ما ورد من التارات السبع. والدليل على أنه جوز وليس باستدعاء حقيقة أنه قد أضافه سح إلى المعدوم. ثم ذكر تكونه والإيجاد، لا يسأل عاقل أنه إخراج من كتم العدو؛ وذلك مما ينفرد به الباري سح. والأشياء بعد وجودها لا ينصرف الأمر إليها إلا بعد أكمال أدوات والاستدعاء. فإذا ثبت هذا في التكوين عقيب

((كن)) كان قول الله تع: قلنا لهم قلبنا صورهم من الإنسانية إلى القردية {خاشعين} مبعدين، {أخسئوا فيها} ابعدوا؛ وصورة القردية تبعيد عن الصورة الحسنة إلى صورة مشوهة، {فجعلناها نكالًا}. وقوله في الأول {كونوا} خطاب مذكر. وقوله {فجعلناها} راجع إلى تأنيث المسخة، وهي الصورة المشوهة، وعظًا وزجرًا؛ {فلما بين يديها}، لما قدمت من ذنوبها؛ {وما خلفها}، لما يعمل به بعدها ليخاف من بعدها أن يعمل مثل عملها، فيؤخذ بما عمل كما أخذت به. قال الحسن: {لما بين يديها}، لما قدموا من الأعمال السالفة، {وما خلفها}، خلف الأعمال السالفة؛ وهو صيدهم الحيتان يوم السبت. قال حنبلي: وقد بان من صيد الحيتان بالرواية أنهم قدموا نصب الشباك قبل السبت، فوقعت الحيتان فيها يوم السبت، فأخذوها يوم الأحد، فأخذهم الله بالنصيب الذي كان قبل السبت، لما كان سببًا باقيًا مؤثرًا لوقوع الحيتان يوم السبت. فصاروا بآثار أفعالهم كالصائدين يوم السبت. وقوله {وموعظة للمتقين}، إنما خص المتقين لأنهم العاملون بحكم الموعظة؛ وإلا فالموعظة بالنكال والمسخ موعظة عامة لكل مكلف. هذا من أخوات قوله سح: {إنما أنت منذر من يخشاها}. وهو منذر الكل ممن يخشى ولا يخشى؛ لكن خص بذلك من انتفع بالإنذار ومثل قوله: {لينذر من كان حيًا}، يعني من انتفع بإنذارك فحي بالإيمان؛ {ويحق القول على الكافرين}، الذين هم كالأموات، الذين لم ينتفعوا بالحياة، كما سماهم {صما وعميانا}، حيث لم يستعملوا الأبصار

جرى بجامع القصر بحلقة الإمام الشيخ أبي بكر الدينوري أبقاه الله لما تقدم له من الدار العزيزة بحاقة الشيخ الإمام أبي الخطاب رضي الله عنه ثلاث مسائل: الأولى: مسألة من لم تبلغه الدعوة، إذا قتل، هل يضمن قاتله

والأسماع في الاستبصار الذي به غرض المدارك ألموضوعه للانتفاع. فإذا لم ينتفع بها، صار عدم الانتفاع بها كعدمها. 676 - جرى بجامع القصر بحلقة الشيخ الإمام أبي بكر بن الدينوري- أبقاه الله- لما تتقدم له من الدار العزيزة بحلقة الشيخ الإمام أبي الخطاب رضه ثلاث مسائل: الأولى ومسألة من لم تبلغه الدعوة، إذا قتل، هل يضمن قاتله؛ والثانية الواجب بقتل العمد، هل يتعين أو ينجز؛ والثالثة مسألة التحري في الأواني بعضها نجس أو ينتقل إلى التيمم أما الأولى فاستدل فيها حنبلي على مذهبه الموافق لمذهب أبي حنيفة، وأنه لا يجب ضمانه، فقال: كافر ليس له أمان، فلا يجب بقتله الضمان كالذي بلغته الدعوة. فاعترض عليه حنبلي يحقق لنصره مذهب الشافعي، فقال: قولك لا أسلمه؛ ولا يصح على أصلك. فإن الكفر تغطيه الحق بعد وضوحه، ورد شرع الله بعد البلاغ. وهذا رجل ولد في جزيرة في البحر، ونشأ فيها، وما وصلته دعوة نبي. وعندك أن العقل لا يوجب عليه شيئا من نظر ولا استدلال على حدث محدث ولا على إثبات صانع. وأنت تزعق بالآيات الدالة على هذا الأصل، {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا}، {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولًا}، {ولو أنا أهلكناهم

بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولًا}. ومن كان هذا مذهبه، وهذا الشخص ما ورد إليه سمع، يكفر بماذا؟ وما هو عند عدم السمع في وجوب نفي الكفر إلا بمثابة من عدم العقل عند من قال بأن العقل هو الموجب. فإنه لا يكفر عند تلك الطائفة، لما بيننا. وإن الموجب ما بلغه. وأنت قد نفيت إسقاط الضمان على حصول الكفر، ولا كفر. أخذ الحنبلي المستدل يقول: أنني فرضت الكلام في نصراني ويهودي ومجوسي. وهؤلاء بعد بعثة رسولنا صلعن صارت أديانهم باطلة، ومعتقدها كافر، فكل من لم يصر إلى شريعة محمد صلم، فهو كافر. وأخذ يشبع في ذلك ويقول شيئًا يخرج به عن المسألة، فيقول: ولا شك أنهم بين مبدل ومغير لكتابه الذي فيه أعلام نبوة نبينا، كما أخبر الله عنهم: {يحرفون الكلم عن مواضعه}، ويكتمون الحق وهم يعلمون، {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم}. والمعاند كافر. فأجابه المعترض المحقق، فقال: فرضك من أهل الأديان بعد النسخ ما لم تصل البعثة إليهم ولا نسخ شرائعهم بمثابة من لم يسمع بشريعة شيء قط. لأن الحجة إنما ثبتت عليهم بعد السمع. ولهذا كان لا يقابل قومًا إلا بعد أن يدعوهم. ونحن اليوم لا نحتاج أن نقدم على الجهاد دعوة لانتشارها. وأما قولك قد بدلوا وغيروا وعاندوا، فمتى فرضت في قتال هؤلاء زال الخلاف. لأن هؤلاء كفار؛ ولا ضمان في قتلهم بالإجماع. من كان

والثانية مسألة الواجب بقتل العمد، هل يتعين أو ينجز

متمسكًا بالنصرانية، مارًا على سنن أحبار ورهبان، لا يعلم أنهم كذبوا. وتليت عليه التوراة أو الإنجيل، وقيل له ((هذان كتابان أنزلهما الله على من أحيا الميت وأبرأ الأكمه والأبرص، ومن قلب العصا ثعبانًا؛ )) فآمن بذلك. ولم يبلغه وما وقف على معالم محمد صلع في التوراة. فهذا في عدم بلاغ ذلك إليه كمن لم تصل إليه دعوة نبي رأسًا. ففرضك يخرج المسألة عن وضعها. وأنت تثبت إسقاط الضمان على أنه كافر وما ثبت له ذلك الأصل؛ بل خالفت بفرضك أصلك؛ فلا زوال عصمة، ولا سقوط ضمان. 677 - وأما المسألة الثانية، فاستدل فيها شيخ الحلقة، فقال: إن النبي صلعم قال في قتيل خزاعة: فمن قتل بعده قتيلًا فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية. وهذا يثبت إيجاب أحداهما، وإثبات الخيار إلى أهل القتيل. اعترض عليه الشيخ الإمام أسعد، فقال: هذا خبر واحد تريد أن تغير به ما أوجبه نص الكتاب من تأكيد موجب قتل العمد وتخرجه عن التأكيد والتعين إلى التخيير المخرج له عن التعيين، وهو قوله تع: {النفس بالنفس}. وليس في قوى خبر الواحد عندي، مع كونه موجبًا للظن، أن يغير نص كتاب الله من التعيين إلى التخيير بين ما عينه وما لم يعينه يخرجه عن التعيين.

السؤال الثاني أنه خبر واحد قد عارضه خبر مثله، فأوقفه. فخرج وانحط إلى الوقف. وخبر واقف لا يعرض على نص كتاب الله تع. السؤال الثالث أنه يعترضه القياس الظاهر والمعنى الناصع. وهو أن القود هو المثل. وهو مثل لما وقع من الفعل. وإذا كان واحدًا، لم يوجب بدلين، بل يجب إيجاد البدل كما اتخذت الدية في قتل الخطأ. وهذا الذي يليق بالنفس؛ وأن لا يكون المال من سائر أنواع الأموال بدلًا عن النفس لولا أن الخطأ عن رتبة العمد. قال المستدل: أما الآية فهي ظاهرة في وجوب القود متعينًا. وهي نص في أصل القود. وظاهر القرآن عندي يجوز أن يسقط بخبر الواحد المصرح بالحكم. وخبري صرح بالتخيير. والتخيير نص في حكمي ومذهبي. وتعيين القود ليس بنص، بل ظاهر. فقضي صريح ما أوجبه خبري على ظاهر الآية، كما يقضي خبر الواحد على العموم بالتخصيص. وأما المعارضة، يقول النبي صلعم: العمد قود. فأنا قائل وخبري يثبت ما أثبته حديثك، ويتضمن زيادة ليست في حديثك ولا يعطلها، وهي التخيير. وأما المعني، فقد أجمعنا على أنه ليس بتخصيص بالمثل. بدليل ما إذا كان رأس الشاج أصغر، ويد القاطع أنقص بأصبع، فإنه يتخير بين أخذ القدر الذي وجد، ولا شيء له عندي مع ذاك، وبين الرجوع

والثالثة مسألة التحري في الأواني بعضها نجس أو ينتقل إلى التيمم

إلى الدية. ولو لم يكن بدلًا. لما جاز الأخذ لها؛ بل كان يتعين القود بحسب ما وجد. 678 - وأما مسألة الاشتباه في الأواني، فاستدل فيها شافعي بأنه واجد لطريقٍ إلى استعمال الماء الطاهر، فلا يجزئه التيمم كما لو تحري. قال له معترض حنبلي: لا أسلم أن الاجتهاد طريق ولا التحري. قال المستدل: إن الله سح رضي بالاستدلالات بالإمارات طريقًا للقبلة وللحوادث في استخراج أحكامها من إباحة وحظر وإيجاب وندب. ولا يرضي به في ماء الوضوء المشتبه. ومعلوم أنه إذا خرج كلب من دار، كنا سمعنا صوت ولوغه، وفيها أواني، فقطعنا على أنا لا نعلم من أيها شرب. ولنا عقول رضي الله بها أن تكون دلائل على حدث العالم، وإثبات الصائغ، وأنه واحد، سلطناها على النظر في هذا. فرأينا تنقيط الماء أقرب إلى أخذها/ وما ذلك الإناء متحرك، وأثر أربعة الكلب إلى أحدها دون الباقية، غلب على ظننا بهذا الأثر، الذي هو أمارة صالحة لحصول غلبة الظن، بأن الذي شرب الكلب منه، هو ذاك الإناء الذي وجدت الأمارات بقربه. وبقى الباقي على حكم الأصل، وهو الطهارة. أخذ الحنبلي المعترض يقول: لا يدل ما ذكرت أن النفط يجوز أن تكون لأجل مغترف أغترف منه، والنقصان لرشح، أو نشافة لشمس أو حر، أو سنور شربت منه فنقص، أو طوافه من طوافات البيوت، وتحركه

لربح، أو لمدرة وقعت فيه فتحرك بها، وإذا تقابلت أمارة توجب النجاسة وأمارة تنفي النجاسة، فقد تيقنا حصول نجاسة في أحدهما. واستعمال الماء النجس في الطهارة لا تنتجه الضرورة. وكذلك المساليخ والأطعمة كلها. وكان إلحاقه بالإبضاع والدماء أشبه من إلحاقه بالمأكولات والمشروبات والقبلة التي تبيح الضرورة العدول عنها؛ بل الحاجة التي هي دون الضرورة وهي الصلاة على الراحلة نافلة. قال الشافعي المستدل: أما ترك الأخذ بالأمارة التي ذكرناها، فهي الغلبة على الظن كون الكلب شرب من ذلك الإناء. وأما التجويزات المطلقة، فلا تقابل الظنيات الحاصلة عن الأمارة. وهل حكمنا بنجاسة الماء يجيز العدل إلا بإمارة وهي تضرعه بخلال الخير وتظاهره بها؟ وهل حكمنا بأن زيدًا مات لأجل صراخ سمع من داره وتخريق جيوب أهله إلا لظن حصل بتلك الأمارات؟ لا يندفع ذلك بأن يقول قائل ((كم من إغماء ظن أهله أنه موت، ولم يكن موتًا؟ )) ولعل تخريق الغلمان لملاكمة وخصومة حصل بينهم، وكان الصراخ لأجل ذلك. فلا تسقط الإمارات المغلبة على الظن لأجل هذه التجويزات المستبعدة غالبًا. ومتى طلب في تجويز الإقدام على استعمال الماء الأقصى الاحتياط؟ والنبي صلع يقطع لسان الإعلام عند الاستعلام؛ فيقول للراعي، لما سأل أصحابه عن الماء ورده سبع، ((لا تعلمهم)) وقال عمر لما سألوا عن ماء الميزاب: ((يا صاحب

وجرى بمجلس الأجل المرتضى نقيب النقباء بداره الشاطئية عمرها الله ببقائه ودوام ظل الإمام المستظهر بالله الجلد مع الرجم في حق الثيب

الميزاب! لا تعلمهم)) وأبلغ من هذا أمر النبي صلع لمن استنجى أن يرش في مئزره نبذة من ماء حتى أن قطر، أو شك هل قطر، أو استشعر ذلك، فيسد هذا الباب رطوبة الكف من الماء، فيقول: ((هذا من ذاك)) وإذا سهل صاحب الشرع ودحرج هذه دحرجة تمنع من التطلع، تجيء أنت وتقول: ((أريق المياه وأتيمم)) ومعلوم أن التيمم طهور مشرط بعدم الماء، أو عدم وجدانه. ومهما كان لنا سبيل إلى وجدانه، لم يصلح التراب طهورًا. 679 - وجرى بمجلس الأجل المرتضى نقيب النقباء بداره الشاطئية عمرها الله ببقائه ودوام ظل الإمام المستظهر بالله الجلد مع الرجم في حق الثيب فاستدل فيها شافعي بأن الرجم عقوبة بلغت النهاية، فلا تحتما الزيادة؛ كما لا تعزيز مع القتيل بالردة. اعترض عليه حنبلي فقال: مثل هذا الاستدلال لا ثبات له مع الحديث المشهور المتلقي بالقبول، حديث عبادة بن الصامت، وان النبي صلع خرج قائلًا ((قد جعل [الله] لهن سبيلًا. وكان الحد الحبس حتى يتوفاهن الموت، ويجعل الله لهن سبيلًا. فقال: ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا؛ البكر بالبكر، جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم)) وأي ثبات لدليلك مع هذا النص؟ على أن

وجرى مسألة الملتجيء إلى الحرم

دليلك باطل بالصلب في حق المحارب بعد القتل. والصلب عقوبة بعد الغاية، وهو القتل. قال: بعد الموت لا عقوبة. إنما ذاك مثلة وشهرة رادعة لغير المصلوب. قال حنبلي يحقق: بل هو عقوبة، حيث يعلم أنه إذا قتل صلب. فيكون علمه بذلك عقوبة لقلبه، كما جعل القصاص حياة لعلم الإنسان أنه إذا قتل قتل. فكان العلم بذلك رادعًا عن إيقاع القتل، ونفس القتل رادعًا لمن شهد القود عقوبة عن القتل. وكان جواب أهل الجنة، لما طلبوا منهم إفاضة الماء، أو مما رزقهم الله: {إن الله حرمهما على الكافرين}. فتركوا الوسائط ودعوا الحق سح؛ قالوا: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون}. كان جوابه الإبعاد: {اخسئوا فيها ولا تكلمون}. فانطبقت الشفاه، ولم يسمع لهم بعد ذلك إلا الزفير والشهيق، سد عليهم رواج التروح وروح الشكوى، ولم يترك لهم وجه يخفف عنهم البلوى. فمن يكون عذابه كذا لأفعال، ليس يليق به أن يضم إلى القتل جلدًا. ثم قال الحنبلي: وحق للعقلاء أن لا يوسعوا الرجاء حتى يكاد أن يستحيل طمعًا إذا كان عذابه سح كذا، لا سيما وليس رحمته. 680 - وجرت مسألة الملتجئ إلى الحرم استدل فيها حنبلي بالحديث: إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض. ثم بين التحريم، فقال: لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها،

ولا ينفر صيدها، ولا يسفك فيها دم؛ لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحدد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من النهار. اعترض عليه شافعي فقال: هذا محتمل؛ لأنه لا يدري ما التحريم: السكنى فيها، أو القلع من ترابها، أو إظهار السلاح فيها، أو الأكل والشرب فيها. فهو كقوله تع: {وآتوا حقه يوم حصاده}، لا يعلم من لفظه ولا الحق، لا جنسًا ولا قدرًا. بخلاف قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم}، {حرمت عليكم الميتة}؛ لأنه بان في الأمر نكاحًا، والميتة أكلاً. فأما ما ههنا، فما بان من لفظه ما الذي حرم. قال الحنبلي: نعوذ بالله ممن يغرب عنه الفهم مع هذا الاستقصاء والكشف! فإنه صلعم أبان بهذا شرف الموضع. ثم أبان أنه مع شرفه أحل له بكرمه ((لي ساعة من نهار.)) ونبه، بما ذكر على التحريم، إلى ماذا رجع؛ لأنه أوقف وقصر التحريم على مراعيها، وهي الخلى والكلأ؛ ومعاقل الطيور، وهي الأشجار. وصرح بتحريم تنفير الصيود. فعلم أنه عظم فيها حرية كل حيوان يلتجئ، وحفظ عليه قوته ومعقله. قال بعد ذلك: لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي. وأبان عن تغطية عليها حيث أسقطت حرمتها لأجل حرمة ساعة من نهار. قال له الشافعي: فأنا قابل بموجبه. لكن الذي أحل له الدخول بالمعفر

مسألة في التجويز في أفعال الله وأحكامه والتشبيه في أوصافه ووجوب دفع المشتبه بالنص والتأويل

بغير إحرام، لا ما ذكرت أنت من إراقة الدم. يوضح هذا أنه يباح دم من قتل في الحرم لكل أحد. فلم تكن الخصيصة إلا ما ذكرنا. قال الحنبلي المستدل: ما ذكرته لا يجعل له ميزة. لأن الإمام اليوم يباح له دخولها بالمعفر إذا خاف من فيها من الأعداء، ولو ظفر المشركون بها، والعياذ بالله، لحين دخولها على كل وجه. فلا تبقى ميزة يمتاز بها الحرم إلا منع القتل الواجب في غيره من الحدود والقصاص. ويمتاز بها النبي صلع على غيره تلك الساعة، ينقطع بها عمن قبله وعمن بعده. -والله أعلم. 681 - سأل سائل حنبليًا، فقال: يأتي في التوراة مثل ما أتى في أحاديثكم من ظواهر توهم التجوير في أفعال الله وأحكامه والتشبيه في أوصافه. وهو أكثر من أن يتعدد. لكن مثاله وأنموذجه يكفي. وليس مما يتهم فيه متدين بدين آية مختلفة؛ لأن ظاهره ينفر عن الدين الذي ورد فيه. فمثاله من التجوير في الأفعال قوله في التوراة: أنا التنين الذي يخرج من مناخري النيران. أخذ الأبناء بذنوب الآباء، وهو إلى سبع بطون. وقوله: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة. وهذا تصريح بما ظاهره التجوير. وأما التشبيعه فمثل قوله: جاء الله من القديس، وأشرق من جبال ساعير، واستعلن من جبال فاران. ومثل قوله في إسرائيل: صارعني عند الصخرة

فصرعني فسميته إسرائيل، بمعنى آسر الرب، لأن ((الإيل)) هو الرب في اللغة. لا يرقبون في مؤمن إلا. وقول إبي بكر فيما حكي عن مسيلمة من قوله عن الله ((يا ضفيدع بنت ضفدعين نقي لا تنقي)) والله ما خرج هذا من إل قط. وأما في كتابنا: {وجاء ربك والملك}، {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه}، {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام}. في الأخبار: أين كان ربنا قبل أن خلق السماوات والأرض؟ كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء. فكيف المخلص من هذه الظواهر؟ فأجاب حنبلي وقال: إن الله ابتلى بالتكليف للأبدان ما تطيقه، وإن ثقل عليها، من الأعمال الشاقة صوتًا، وصلاةً، وأغسالاً، وتحشيرًا في الأموال بما فرضه من الصدقات والكفارات، وإتعابًا للأجساد بالحج والعمرة، ومخاطرةً بالنفوس، واحتمالاً لوقع الأسلحة في جهاد الأعداء. كل ذلك طاعة لله، وإعلاءً لكلمة الله. ثم كلف العقول تخليص الاعتقاد من هذه المشكلات التي بددها في كتبه، وعلى ألفاظ رسله، بصرفها عن التجوير والتشبيه، بما وضع في العقول من وجوب تنزيهه عن التجوير في أفعاله والتشبيه في أوصافه. وما قنع لنا بمجرد ما توجبه العقول حتى جاء في كتبه بما يوجب حمل المشتبه بالتأويل على ما أوجبه من ذلك بالتنزيل. فقال: {ليس كمثله شيء}، {ولم يكن له كفوًا أحد}. فنحى من توهمات الضعفاء ما حصل من التشبيه. وقال: {وتلك حجتنا آتيناها

مسألة مطلق الخطاب هل تدخل فيه النساء

إبراهيم على قومه} تمرسا وقضية عند الاستقراء والنظر والاستدلال: {فلما جن عليه اليل رأى كوكبًا قال هذا ربي} إلى قوله {فلما أفل قال لا أحب الآفلين}. وكرر ذلك في الطوالع كلها، وعقب أفولها بإخراجها عن القدم بأفولها وانتقالها. فدلت هذه الآيات على أن ما ذكره من المجئ الذي أضافه إليه ليس بنقلة ولا حركة. وأزال الشبهة في نفي التجوير بقوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، {وما الله يريد ظلمًا للعباد}، و {من يعمل سوءًا يجز به}، {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها}. فإذا لقى استجانه من مؤاخذة الجاني بزيادة على فعله، يخبر عن نفسه بأنه يأخذ الجاني بجناية غيره. وإذا أخبر بالتبري من خيار رسله بعبادة المسلات من خلقه، يخبر عن نفسه بالنقلة. فلا مخلص إلا بدفع المشتبه بالنص الذي لا اشتباه فيه، وبالتأويل الذي تحتمله اللغة، وصرفه عن ظاهره الذي لا يليق بالقديم، إلى ما يجوز عليه، أو إضافته إلى بعض ملائكته ورسله. فيكون مجيئه من الجبال والبقاع مجيء رسله وكتبه. وهذا سائغ في اللغة بلا خفاء: ((ينزل الأمير ببلد كذا)) إذا نزل عسكره وأجناده. وكذلك ((جاء)) ((وسار)) و ((ترك)). وكذلك المصارعة إما لملك، أو لمكافحة، بلا به بصره، فغلب صبره البلاء، فسماه صارعًا وآسرًا. -والله أعلم. 682 - استدل حنبلي يحقق في مسألة مطلق الخطاب لا تدخل فيه النساء،

حكم

بقوله: {يا أيها الذين آمنوا}. فقال: للواحدة منهن اسم يخصها ويقال ((هي)) و ((هذه)) ((وامرأة)) و ((قامت)) و ((دخلت)). هذا في الخبز. وفي الأمر: ((قومي)) و ((ادخلي)) و ((اخرجي)). وفي التثنية: ((قامتا)) و ((دخلتا.)) وفي الجمع: ((قمن)) و ((دخلن)) و ((خرجن.)) فإذا ثبت هذا، علم أن دخولهن في الجمع المذكر ليس هو الوضع الأصلي والحقيقة؛ إنما هو استعمال غلب لا بحكم الوضع، كما غلب اسم السواد في التمر، فاقتصر على الماء، فقيل: ((؟ ؟ ؟ ؟ على الأسودين)) والأسود أحدهما؛ ((ولنا قمراها)) والقمر أحدهما، والأخرى شمس. وقالوا: ((عندك العمرين.)) وأحدهما عمر، والآخر أبو بكر. فكذلك في تغليب التذكير عند اجتماعها بالمذكر. 683 - يقال: الجزع من إخوان الزمان؛ والخوف حارس الأعراض؛ قد خاطر من استغنى برأيه؛ التدبير قبل العمل يؤمن الندامة؛ أشرف الغنى ترك المنى؛ الصبر جنة الفاقة؛ المودة قرابة مستفادة؛ الطمأنينة قبل التجربة ضد الحزم؛ مبدأ القطيعة التجني. 684 - روى الحسن بن صالح عن أبي العباس المكفوف، قال: لما ولي أبو البختري وهب بن وهب الزمعي المدينة، وعزل أبو بكر عبد الله بن

رسالة من علي بن عيسى بن ماهان إلى هرثمة بن أعين وجوابها (فصل ناقص آخره)

مصعب، كتب إليه أبو بكر يهنئه بالولاية: أما بعد، فإن الحظ الذي حصل به أمير المؤمنين ورآك أهله نحن به معترفون، وعلى الإحسان منك فيه معولون. فتول من عرف حقك بعين كلاءتك ترده الحياطة اعترافًا بواجبك. والسلام. فكتب إليه أبو البختري: أما بعد، فما كان الله ليرانا متفاوتين فيما ذكرت. وما كان الله ليجدني غافلاً عن حق رجل من المسلمين. فثبت الله عزمك وأعاننا على ما فيه رشدنا وصلاحكم. والسلام. 685 - وروى أنه لما عزل علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان، وولى هرثمة ابن أعين، كتب إليه علي: أنت -أكرمك الله -أحق نظرائك بخصوص الكرامة وعموم النعمة التي رآك أمير المؤمنين لها أهلاً. ولم يزل مكاني عن قواعد العمل إذ كنت أنت رب الولاية. فخصني بإيراد أمورك علي، فإني غير قاطع عنك ما يتبنى قربة المودة، وتتأكد بإدامته الأخوة -إن شاء الله. فكتب إليه هرثمة: شاهداك عندي -أعزك الله -بما قلت معدلان، وإن لرعيتي فيما عليه عزمك دليلاً يبعثه الحرص على ما أومأت إليه وحببت عليه. فكن بذلك واثقًا -إن شاء الله. [ ... ]

[فصل في التكليف (فصل ناقص آخره)

686 - [ ... ] إعلامه XXX لعلمه المقدار، ومن سلك به مسلك التعليم أو الإعلام. لم قلت إنه لا بد أن يقع جملة واحدة، ولا يقع المكلف فيه متدرجًا؟ وأحوال المكلف مع الشرع كلها على التدريج. ولذلك لم يوقع له العلم ضرورة به وبصفاته وبصحة الرسالة؛ بل أوجب عليه سلوك النظر والاستدلال والاستقراء؛ حتى أوقف إبراهيم نبيه وخليله يقول في النجم حيال استقرائه: {هذا ربي}؛ وتدرج إلى القمر، ثم الشمس، ثم قال: {وجهت}. وكذلك جاء بالحكم والأمر الذي يعلم أنه مؤقت لا مؤبد، فأطلق الأمر به إطلاقًا. ثم لم يكشف عاقبة النسخ للمكلف، وتركه على جهل من زمان الأمر ووقته ومقدار مدته. ولم يمنع ذلك تأخير بيان المدة والوقت، وهو ورود النطق الناسخ. وهذا أصلح للمكلف وأحسن لإظهار جوهره. والعرب افتخرت باعتناق الأمر والكلفة من غير بيان مقدارها وكيفيتها؛ فقال قائلهم: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... للنائبات على ما قال برهانا لا يسألون عن السواد المقبل: ((هل هو ضيف، أم عدو؟ )) لأنهم قد أعدوا للأمور صدورًا واسعة. إن يكن الضيف، فالبذل والقرى؛ وإن يكن العدو، فالحرب طعنًا وضربًا عند اللقاء. فمدحوا نفوسهم بتوطينها على الأمور، سهلت أم صعبت.

وأما قولك، فيه حظر، وهذا التكليف من الله سح [لا يكون] إلا على الحظر، شبه بين الحجج وفتن يوم المعجزات يوم المكلفون بتخليص بعضها عن بعض. ولا يقال ((إن خوار العجل، وإحياء الميت على يد عيسى، والدجال وإلقاء الشيطان في بلاوات الأنبياء، لم كانت؟ )) وهي تعريض بالشرك. ولهذا قال سح: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض}؛ وقال: {إنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري}. وإنما كان تكليفًا لهم أن يخلصوا المعجزات والحجج من المتوهمات والتلبيسات والشبه والفتن، فيحصل للنكلف ثواب ذلك. فعلى هذا بنى التكليف. وأما قولك إنه مع المبين، كالاستثناء مع المستثنى منه، فليس كذاك. لأن الاستثناء مع المستثنى منه لغة؛ ولغة القوم أنه جملة واحدة. فأما البيان مع المبين، فإنه تفسير. فوزانه من مسألتنا التفسير للأقارير. وليس من شرط الإقرار أن يقع مبينًا، بل يقع بجملة ثم يفسر. ولأنا لو جوزنا تأخير الاستثناء، لكان فسادًا ضد ما ذكرنا في تأخير البيان. لأن من طبع المقر بالجملة أن يلحقه الندم أو الاستدراك والبداء. فإذا جعلنا الاستثناء بالمستثنى منه لاحقًا، أفسدنا على الناس أموالهم وحقوقهم. وقد بينا في مسألتنا موقع الإجمال في باب التكليف وتوفير ثواب المكلف.

وجرت مسألة الخلع هل هو الفسخ

687 - وجرت مسألة الخلع هل هو فسخ قال حنبلي ينصر إحدى روايتي صاحبه: خصيصة الطلاق معدومة فيه. وهي تخصيصه بزمان الطهر عن المجامع فيه. والخلع لا يختص ذلك الزمان. بل يجوز على الإطلاق. ويصح مع الأجنبي والأجنبية؛ كاللعان مع الزوجة. اعترض عليه شافعي، فقال: ليس فقد بعض الخصائص لمعنى ينفي المخصوص. بدليل أن الطلاق في الأصل إلى الزوج، ويقع عند امتناع المولى بعد انقضاء المدة من الحاكم. وهو أجنبي من العقد. وما ذاك إلا لأن حالاً تجددت، أوجبت إزالة الإضرار بإنفاع غير الزوج. وههنا تجددت حال وهي الشقاق، وخوف أن لا يقيم حدود الله. فعفي عن تطويل العدة المضرة بها لأجل ما يلحقها من التخلص بالخلع من ضنك ضررها بنكاحه. 688 - فصل جرى في مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب. فقال حنبلي: [ ... ] 689 - [ ... ] غيره: [يا] رب لا تلجئني إلى زمن ... أكون فيه كلاً على أحد خذ بيدي قبل أن أقول لمن ... أراه عند النهوض ((خذ بيدي))

من كلام الحارث بن كلدة طب العرب

690 - روى الأصمعي عن أعين بن لبطة بن الفرزدق عن أبيه عن جده عن غالب قال: دخلت على الحارث بن كلدة، وكان طب العرب، وهو يجود بنفسه، وحوله جماعة، قيل له: أوصنا بشيء نأخذ به بعد وفاتك. فقال: لا يتزوجن أحد منكم إلا الشابة؛ ولا يأكلن من اللحم إلا؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؛ ولا تأكلوا من الفاكهة إلا عند أوان نضجها؛ ولا تتعبوا أبدانكم، فإن ذلك يدعو إلى نقص أعماركم؛ ولا يتعالجن أحدكم من دائه ما احتمل بدنه. 691 - يقال: ((ردفت الرجل)) إذا ركبت خلفه، وأردفته إذا أركبته خلفي. ((ألرطب)) بفتح الراء، من كل شيء، و ((الرطب)) بضم الراء، في الحشيش خاصة. ويقال: ((مذى الرجل)) و ((أمذى))، وطرح الألف أجود؛ و ((منى)) و ((أمنى))، وإثبات الألف في ((أمنى)) أجود. 692 - لبعض العرب: لم أقض من صحبة زيد أربي ... فتًى إذا أغضبته لم يغضب مؤهل الهم بحفظ الغيب ... أقصى رفيقيه له كالأقرب

حديث

693 - روى أبو ذر عن النبي صلعم أنه قال: أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية. قال: وأول من خط بالقلم إدريس عم. 694 - روى أبو ذر صاحب رسول الله صلع، قال: قال رسول الله صلعم: أول من خط بالقلم إدريس. وأول من يغير سنتي رجل من بني أمية 695 - واختلفوا في سنة عشر من الهجرة في التاريخ من أين يقع. فأشار علي عم أن يكون من الهجرة. وقال غيره: من النبوة. وقال قوم: من الوفاة. ثم أجمع رأيهم على وقوعه من الهجرة؛ فاتفقوا عليه. 696 - قال كعب الأحبار: أول حائط بني بعد الطوفان سور حران. ثم سور بابل؛ ثم سور دمشق. وأول قرية بنيت قرية بناحية الموصل، يقال لها ((ثمانين.)) وإليها نسب الثمانيني النحوي. 697 - روى جماعة من الصحابة أن رسول الله صلع قال: أريت الجنة، ورأيت النار. فإذا فيها عمرو بن لحي يتأذى أهل النار بريحه. فقلت: ما شأنه؟ قالوا: هو أول من غير دين إبراهيم. وأشبه من رأيت به

في أول من سمي يحيى

من ولده أكثم بن أبي الجون الكعبي. فقال أكثم: أبحسبي يا رسول الله أن يضرني شبهه. فقال رسول الله: لا؛ أنت مسلم، وهو كافر. 698 - أول من سمي يحيى، ابن زكريا؛ بدليل قوله تع {لم نجعل له من قبل سميًا}. 699 - روي أن أعرابيًا شكا إلى رسول الله صلعم النسيان. فقال له عم: لعلك كنت اعتدت القائلة فتركتها؟ قال: أجل. قال له: فعد، يرجع حفظك. ففعل، فعاد حفظه إلى ما كان. 700 - لأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه وأرضاه: إخشوشن الناس علي جدا ... إلا أداريهم بقيت فردا وما أرى لي من أناس بدا 701 - روي أن عمر قال للعباس: هذا علي يريد أن يحاصد في السقاية. قال العباس: وما وجد علي رسولاً غيرك؟ لعل الليلة كانت ليلة أم كلثوم.

فصل في السكر وأنه أكبر الكبائر بعد الكفر بالله

702 - فصل قال بعض الحنابلة المحققين: أنا أرى أن أكبر الكبائر، بعد الكفر بالله، السكر. قال له جماعة عجبوا من كلامه: نسمع منك غرائب. قال: أنتم الغرباء عن الفهم. ليس كلامي غريبًا. ولئن كان غريبًا، عرفه الدليل والبرهان. وما زال الحق غريبًا بين المبطلين، والعلم غريبًا بين الجهال. فاسمعوا برهان ما أقول. إن السكر يعمل عمل الجنون فيما يضر. وهو يغطي الحق. وعدم العلم الصالح للعاجلة من سياسات الدنيا وذخائر الآخرة. ولا يخفف عن العبد، كما يخفف الجنون من إسقاط الحساب ودخول الجنة مجانًا من غير عمل. فيعدم منافع العقل؛ ولا يقيم العذر في ركوب الجنايات؛ بل يبقى عليه تكليف العقلاء، حيث كان مكسبًا لتغطية العقل، ولو لم يكن من شؤم السكر إلا انقطاع ما بين صاحبه وبين ربه، وعدم معرفته بدينه. فالسكران لا يعرف دينه فيعتذر منه، ولا ربه فيعتذر ويتوب إليه. فهل في المعاصي ما يبلغ بصاحبه هذا المبلغ؟ 703 - فصل ثم قال الحنبلي بعد ذلك: المطالب مبثوثة في هذا العالم الواسعة أقطاره. وهي بين ظاهرة مشهورة، وخافية مستورة؛ والدواعي في الطباع

طالبة، والعقول عن المطالب باحثة. والوجدان متفاوت بين واجد بعسر وتعب، وبين مفاض عليه مطلوبه، فوجدانه بغير تعب ولا نصب. والمراد يسيل سيلاً من جهة الممد، المفيض جوده عن قدرة مطلقة، القاسم بحكمة تامة. فعطاؤه عن غنى وقدرة مطلقة، وقسمته من خلقه بحكمة. والطالبون بحكم دواعيهم وطباعهم كالصبيان، دأبهم طلب ما يشهيهم فقط، لجهلهم بما يصلح وما يفسد. وليس عطاء الحق بحسب قدرته المطلقة، ولا بحسب جوده الفائض، ولا بحسب دواعي الطباع الشرهة. لكن عطاؤه بحسب حكمته القاسمة على قدر المصالح. فهذا أصل يجب إتقانه. والخلق فيه طبقات. فطبقة تتناول المطلوب بحسب دواعيها الشهوية، إذا كانت غير مربوبة؛ كالأيتام العادمين للآباء والأمهات والحواضن والدايات والأطباء والمعلمين. فهم كالسوائم بغير راع يجنبها المراتع الوخيمة ويتحرى لها المراعي السليمة. فناشئة هؤلاء هم الهمج الرعاع. فإذا تبسطوا في مطالبهم بحسب ما نشأوا عليه من تخليهم، أدبهم أرباب التسلط. فهم بين مصفوع بدرة المحتسب فيما صغر من الذنوب، وبين مضروب بسياط الشروط، وبين محصود بسيف السلطان. وذلك غب التخلية وعدم التربية. ومن رأى جنايات التشرد، فاستيقظ لنفسه من جانب فطنته وتلمحه ومزيته بعقله، ورأى فساد أحوال المتشردين فتحرى يلقط الآداب من المتميزين بالعقول والتجارب والصنائع، فهو أبدًا يستشير المشايخ، ويتعلم من أرباب

[من أخبار عبد الملك بن مروان (تتمة فصل 747 ص 755)]

الصنائع، ويحتمي بقول الأطباء، ويتوقف عن الإقدام على ما يجهل مغبته بما يستفيده من آراء الألباء. فإذا سلك هذا المسلك السليم، انتقل به إلى ما هو أعلى وأوفى، وهو تأدية الشرائع الصادرة عن الخالق الصانع. فسلمت له العواقب، وبلغ بذلك الرغائب، وعلت طبقته. فسلم لله سح أفعاله فيه من جميع ما يتشاوش، كما انخرط في سلك أحكامه، استطرح بالتسليم والتفويض لمختلفات أقداره، ورضي بأقسامه، واعتمد في مطالبه على الدعاء، وتأدب في الدعاء بأن لا يطلب الإجابة بنفس ما طلب وعين ما سأل، بل يثق بالإجابة بحسب ما يصلحه، لا ما يصلح له، وحسب ما يرى له، لا بحسب ما يراه لنفسه، ويكون على يقين بأن المنع لعين ما سأل إجابة. فكم من منع هو عين العطاء! ويأخذ ذلك الأولاد مع المشفقين من الآباء والمتعلمين من المعلمين والمطبوبين. [ ... ] 704 - [ ... ] بسيرتنا.)) فأنى، وكيف، وما الحجة، ومن النصير من الله في الاحتذاء بسيرة الظلمة الجورة الفسقة الخونة الذين أكلوا مال الله دولاً، وجعلوا عبيد الله خولاً؟ وإن قلتم ((أطيعوا أمرنا واقبلوا نصيحتنا، )) فكيف ينصح غيره من غش نفسه؟ أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عدالته ولا تجوز في الإسلام شهادته؟ وإن قلتم ((خذوا الحكمة حيث وجدتموها،

من أخبار أبي جعفر المنصور

واقبلوا العظة ممن سمعتموها، )) فعلام قلدناكم أزمة أمورنا، وحكمناكم في أموالنا ودمائنا؟ أوما تعلمون أن فينا من هو أفصح بصنوف العظات، وأعرف بوجوه اللغات منكم؟ فإن كانت الإمامة تستحق بذلك، فتحلحلوا عنها، أو أطلقوا أعقالها وخلوا سبيلها، يبتدرها أهلها الذين شردتموهم في البلاد وقيتلتموهم بكل واد. أما لو ثبتت في أيديكم باستيفاء المدة وبلوغ الغاية وعظم. إذ لكل قائم منكم يومًا لا يعدوه، وكتابًا بعده يتلوه، {لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها}، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}. قال حنبلي: وهذا إن لم يكن للإمساك عنه علة؛ وإلا فهو بعيد عندي أن يتم في أيام عبد الملك، لا سيما إن كان في صحبته الحجاج؛ وإلا فالسياسة مع القدرة تمنع من سماع هذه المقالة الشنيعة مع إبلاع قائلها ريقه. فإن كانت صحيحة، وإلا فهي موعظة صحيحة، واعتراضات على بني مروان لازمة - {والله يقضي بالحق} يوم {تجزى كل نفس بما كسبت}. 705 - وخطب أبو جعفر المنصور يومًا. فلما قال ((أشهد أن لا إله إلا الله))، قام إليه رجل من أخريات الناس، فقال: أذكرك من تذكره. فإن أحق الناس أن لا ينسى الله من خطب بذكره، وأن لا يدع طاعته من حض عليها. فقال المنصور: سمعًا لمن فهم عن الله. وذكرته، وأعوذ

كلام لبعض حكماء الفرس

بالله أن أكون جبارًا شقيًا، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد {ضللت إذًا وما أنا من المهتدين}. وأنت، أيها القائل، فما الله أردت بها؛ ولكن التمست أن يقال: ((قام، فقال، فعوقب، فصبر. فأهون بقائلها لو هممت، واهتبلها إذا غفرت. وإياك، وإياكم أيها الناس، وأختها! فإن الموعظة علينا أنزلت، ومن عندنا أثبتت. فردوا الأمر إلى أهله، تصدروه كما أوردوه. -وعاد إلى خطبته كأنما يقرأها من صحيفة: ((وأن محمدًا عبده ورسوله صلعم.)) 706 - قال بعض حكماء الفرس: لا ينبغي للعاقل أن يغتر بمال وإن كثر، ولا بامرأة وإن أعجبته، ولا يتشاغل بما لا ينتفع به، ولا يحمل على نفسه ما لا يطيق. 707 - كتب رجل إلى بعض الأمراء: الأمل والحاجة أقدماني عليك. وقلة المادة تمنع من إطالة المقام على بابك. والرجوع بلا فائدة شماتة الأعداء. فإما ((لا)) مريحة، وإما ((نعم)) مريحة. 708 - ذكر الرواة أنه لما ارتفعت الألسن باللغط يوم الجمل، قالت عائشة رضها: يا أيها الناس، انصتوا! فكأنها قطعت الألسن. ثم إنها حمدت

خطبة أخرى لها

الله وأثنت عليه، ثم قالت: إن لي حق الأمومة وحرمة النصيحة. لا يتهمني منكم إلا من عصى ربه. قبض رسول الله صلعم وهو بين سحري ونحري. وأنا من إحدى نسائه في الجنة. ادحرني الله وحصنني من كل مضيع. وبي ميز الله مؤمنكم ومنافقكم. وأبي ثاني اثنين، إذ هما في الغار. وقبض رسول الله وهو عنه راض. قد طوقه طوق الإمامة حين اضطرب حبل الإسلام. فأخذ بطرفيه، ورتق لكم؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؛ فرتق الله به الثاا، وأوكى به السقاء، وأطفى به نيران أهل الشرك، حتى قبضه الله واطيا على هاضه الشقاق، يقظان الليل في نصرة المسلمين، صفوحًا عن الجاهلين. ألا وإني قدمت في طلب دم الخليفة المظلوم، المركوبة منه الفقر الأربع: حرمة الإسلام، وحرمة الخلافة، وحرمة النبوة، وحرمة الشهر الحرام. فمن ردنا بحق قبلناه، ومن خالفنا بباطل قاتلناه. أقول قولي هذا، وربما ظهر الظالم على المظلوم، {والعاقبة للمتقين}. 709 - وبلغ عائشة رضها أن قومًا نالوا من أبي بكر -رضي الله عنه وأرضاه -فأرسلت إلى أرقلة من الناس. فلما حضروا، يدلت ستارها، وحمدت الله تع، وأثنت عليه، ثم قالت: أبي وما أبيه لا تعطوه الأيدي. ذاك والله ظل مديد، وكهف منيف؛ هيهات كذبت الظنون الحج والله إذ كذبتم، وسبق إذ ونيتم سبق الجواد، إذا استولى على الأمد فتى قريش ناشئًا وكهفها

كهلاً يراب شعثها ويريش مملقها ويفك عاينها حتى حلته قلوبها. ثم استسر في دينه، فما برحت سليمته حتى اتخذ بفنائه مسجدًا يحيي فيه ما أماته المبطلون. وكان رحه غزير الدمعة، وقيد الجوانح، شجي النشيج. فانصبت إليه نسوان أهل مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به - {والله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}. فأكبرت ذلك رجالات قريش، وحنت له نسيها، واتخذوه غرضًا. فما فلوا له صفاة، ولا فضوا إليه قناة. ومر على سساه؛ حتى إذا ضرب الدين بجرانه، وألقى بركه، ورست أوفاده، ودخل الناس فيه من كل فرقة أفواجًا، ومن كل شيعة أرسالاً، اختار الله لنبيه صلع دارًا ينتابه، فقام حاسرًا مشمرًا قد جمع قطريه، ورفع حاشيتيه؛ فرد نشر الإسلام على غره، ولم شعثه، وقام أوده بقيامه؛ فانذعر النفاق بوطأته، وابتأس الدين فنعشه، حتى إذا أراح الحق على أهله، وقرر الرؤوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، حضرت منيته، فسد ثلمته بشقيقه في السيرة ونظيره في المعدلة: ذاك ابن الخطاب. له أم حفلت به ودرت عليه؛ لقد أوجدت به؛ ففتح الكفرة وديخها، وبعج الأرض وبخعها، فقاءت أكلها ولفظت خبيئها؛ مر أمره ويتصدف عنها وتتصدى له، ويزهد فيها ويتركها كما صحبها.

كلام لبعض الحكماء

فأروني ماذا ترتأون؛ وأي يومي، أي تنعمون؟ أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه وقد نظر لكم؟ 710 - قال بعض الحكماء: الظنون مفاتيح العقول، وبالظن يفتتح اليقين. 711 - قال العباس: رب بادرة غضب وغامرة ذرب أورثا جائحة عطب بأيسر سبب. 712 - وقيل: غرة الغضب تورث ذل الاعتذار. 713 - خطب عتبة أهل مصر آخر خطبة خطبها، فقال: يا أهل مصر! إنه لا غنى عن الرب، ولا مبرأ من ذنب. فقد تقدمت مني إليكم عقوبات كنت أرجو الأجر يومئذ فيها؛ وأنا أخاف اليوم الوزر منها. فليتني لا أكون اخترت دنياي على معادي، فأصلحتكم بفسادي. وأنا أستغفر الله منكم، وأتوب إليه فيكي. فقد خفت ما كنت أرجو، ورجوت ما كنت أخاف اغتباطًا به. وقد شقي من ملك بين عفو الله وعقوبته. والسلام عليكم سلام من لا أراه عائدًا إليكم.

من أخبار عمرو بن معاوية بن عتبة مع سليمان بن علي

714 - قال عمرو بن معاوية بن عتبة: جاءت الفتنة وأنا حديث السن، منتشر الضياع، كثير الحرم. فجعلت لا آتي حيا من أحياء العرب إلا شهرت فيه. فلما رأيت ذلك فديتهن بنفسي؛ فاستأذنت على سليمان بن علي، فأذن لي، فقلت: أصلح الله الأمير! لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك. فإما قتلتني غانمًا، وإما رددتني سالمًا. قال: ومن أنت؟ قلت: عمرو بن معاوية بن عتبة بن أبي سفيان. قال: اقعد، فتكلم آمنًا غانمًا. فقلت: أصلح الله الأمير! إن الحرم التي أنت أقرب الناس إليهن معنا، وأولى الناس بهن بعدنا، قد خفن بخوفنا؛ ومن خاف، خيف عليه. فقال: يحقن الله دمك، ويحفظ حرمك، ولو أمكنني ذلك من أهلك كلهم، فعلت به. 715 - قرأ قارى: {إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم}. فقال حنبلي: عظمت والله عقوبة الاستبدال، وأربت على العذاب، لأن الاستبدال صرف مؤيس من الرد إلى الاستخدام. والله لا خرجت مرارة قول الباري للأب الأول {اهبطوا منها جميعًا}، {بعضكم لبعض عدو}، لولا مزجها بقوله: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}، كأنه عقل من قوله {إلى حين} إضمار وكمين: وهو ثم تعادون إلى المسكن الأول، بعد إذاقة مرارات الإبعاد. وخفت مصيبة آدم وحواء بالإضافة إلى مصيبة سليمان. سلب الخاتم والكرسي وبلي بالاستبدال:

{ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدًا ثم أناب}. الأب الأول أخرج من الجنة ولم يبدل بمكانه غيره. ومزج لفظ إبعاده بلفظ رجائه بقوله: {ومتاعٌ إلى حين}. فكان في ذكر الغاية كمين. فإن كل عذاب مؤجل يمزجه رجاء ما بعد الأجل. وإنما قاصمة الظهر الإبعاد، ثم الاستبدال. فإذا لم يصل، تعاقب بما شئت. ولا يجعل العقوبة هجرًا عن العبيد التعلق ولو في حبوس ساداتهم. انظر كيف قالت المشفقة في طي الإغراء: {وما جزاء من أراد بأهلك سوءًا إلا أن يسجن}، ولم تقل ((يقتل)) لأن في السجن يرجى إطلاق. حكي أن زمنًا زحف مع النفير، فقيل له: ((إلى أين؟ )) قال: ((سمعته يقول: {إلا تنفروا أو يعذبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم}.)) لو كان العذاب بغير استبدال، هان. ولكن عذاب الاستبدال لا صبر عليه. ما أذل العبيد على غير أبواب الموالي! واست على نعمة زالت وقربة ما دامت. والله إن الزبانية يدفعون أرباب المواخير إلى النيران وقلوبهم متلفتة إلى المعذب بالآمال بعد سماع قوله: {ورحمتي وسعت كل شيءٍ}. وإن قال ساكنوها للذين ينفون فقد سمعوه يقول: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت}. وقد فطن عمر لهذا، فقال: ((إن كنت كتبتني شقيًا، فامنحني واكتبني في جملة السعداء.)) لما سمع حصول المحو بعد الكتب بالمشيئة المطلقة طلب والله لا جانب الآمال منه ولو ردنا إلى العدم. لأن له في الكلام رموزًا، وفي الوعيد أسرارًا، وفي العسوف ألطافًا. هو

الذي روع الخليل بذبح إسحاق وإسماعيل، وأدرج في هواجم البلاء عواقب النعماء، كتومه للعواقب يقوي آمالنا فيه مع تعاظم النوائب وأليم المصائب. من عرفه حق المعرفة، لم ييأس من لطفه، ولم يأمن من وقوع بطشه وهجوم عسفه. السلطان لا يؤنس إليه، ولا يعول في الشدائد إلا عليه. والله ما يتبذل بك إلا إذا تبذلت. ومعنى ((تبذلت)) خرجت من حكم العبودية إلى طرائق الخوارج عليه. ليس معنى الخروج أن تدعي الإلهية، لأن عجزك يمنعك من تلك الدعوى. لكن خرجت بحسب ما أمكنك، أو أمره إياك يملأ الآفاق، ونواهيه ووعيده يزعج السبع الطباق: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}، {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}، {لا تأكلوا الربا}، {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً وساء سبيلًا}، {وذروا ما بقي من الربا}، {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ}، {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر}، {فهل أنتم منتهون}. فإذا صعد الملكان بأعمالك وعرضت فقالت الملائكة السماوية للحفظة: ((أين كان صاحبكم اليوم؟ وما الذي رفعتم من أعماله؟ )) قالا: ((كان في السوق يربي، وفي الزنقات يزني، وفي الخانات يشرب ويسقي، وعن المساجد يلفت ويلوي، وفي المساطب يغتاب، وفي مجامع الدعوات لعاب، وعلى الضعفاء من الخلق بطاش، وفي المكيال والميزان بخاس.)) هذا غاية جهدك

في المخالفة. فهل ينتهي الخارجي على سلطانه إلى أكثر من هذا؟ فأما دعوى أنك ثانيه في الربوبية، فالعجز أقعدك عنه. فقد خرجت عليه بحسب وسعك. ليس في قواك أن ترخي السحاب، ولا تحيي الأموات، ولا تقول للمعدوم ((كن! )) ولو أمكنك، لزاحمت، بدليل أنك بالسحر قد وهمت أنك تقلب الصور، وتفرق بين الزوجين بدقيق الحيل. وتتلهى بنفسك، فتقول: ((أنا عبدٌ.)) متى كنت عبدًا بفعلك، لا طاعةً ولا استجابة؟ ولولا أنك مسحب صنائعه، لأنكرت العبودية رأسًا، لكن شواهد صنعته فيك تمنع جحود رقك. يا مسكين! أنت تتشرد علي بحبك من العدم هذا التشرد، ثم تتعبد لأقل عبيدي بلقمة، بخرقة، بدينار، بدرهم. ترى لا تأنف لنفسك وأنت ترى على عبد من عبيدي تعبده يطعمك، وتحب جارية حسناء تعبدها لفرط شهوتك، وتريد مع هذا التشرد والتبدد أن تتبسط غدًا في داري، وتتشرف بجواري؟ هذا هو الطمع المردي، لا الأمل. يا سيئ الأدب بكل معنى، كيف تطمع في التبسط في داري، وتجاور السادات من أحبائي، الذين قطعوا الكل في، وهجروا كل قاطع يقطعهم عني؟ إن تلي كتابي، اقشعرت منهم الجلود، وإن جرى ذكري، وجلت منهم القلوب، وإن ذكر وعيدي،

شعر لبشار بن برد

استعرت فيهم نيران القلوب بالخوف المزعج، وإن سمعوا آي وعدي هيجهم الشوق إلى لقائي. حوشيت أن أجمع بين أوليائي وأعدائي في دار كرامتي! وامتازوا اليوم، أيها المجرمون! فضرب بينهم بسور له باب. غدًا تبين المقادير. وعنوان منزلتك غدًا عندي منزلة أوامري ونواهي اليوم في دار التكليف. اترك الأماني الكاذبة، {من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرًا}. 716 - لبشار: هموم أناسٍ في أمورٍ كثيرةٍ ... وهمي من الدنيا صديقٌ مساعد يكون كروحٍ بين جسمين فرقا ... فجسماننا جسمان والروح واحد 717 - لآخر: خرجت أسائل من قد لقيت ... من الناس هل [من] صديقٍ صدوق فقالوا عزيزان أن يوجدا ... صديقٌ صدوق وبيض الأنوق 718 - أوصى عتبة معلم أولاده، فقال: ليكن إصلاحك بني إصلاحك

مسألة العصاة في النار هل يلقي الله الموت على قوم منهم

نفسك. فإن عيوبهم معقودة بعيبك. فالحسن عندهم ما فعلت، والقبيح عندهم ما تركت. علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه، فيملوه، ولا تدعهم منه، فيهجروه. ووهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه، ولا تخرجهم إلى غيره حتى يحكموه. فإن ازدحام الكلام على السمع مضلة للفهم. وتهددهم بي، وعاقبهم دوني. وامنعهم من محادثة النساء، وأشغلهم بسير الحكماء. ولا تتكل على عذر مني حقه اتكلت على كفائه. واستزدني بزيادتهم، أزدك. قال حنبلي: هذا قد علم المعلم كيف يعلم. 719 - كان قد سئل حنبلي عن حديث رواه بعض العلماء الوعاظ المحققين في علوم شتى، وأن الله يلقي الموت على قوم من العصاة في النار. فأنكره الحنبلي من طريق الاستدلال لا من طريق أنه علم طعنًا في رواته، وردًا له من جهة أئمة أصحاب الحديث. فقال مستدلًا: إنما يدخل النار للتعذيب، فإذا أماتهم، فلا تعذيب. واستدل على عدم التعذيب بالإماتة بقوله تع: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها}. وأجمع أهل العلم على أنه لم يرد جلودًا أخرى غير الجلود التي عصته، لكن أراد بذكر الغيرية أنه يبدلهم جلودًا غير نضيجة. ثم علل التبديل بغير النضيجة،

فقال: {ليذوقوا العذاب}. فدل على أن النضج الذي هو إحراق الجلد الذي خرجت من الروح يمتنع منه الحس الذي سماه الذوق. ولا حس مع موت. وإذا عدم الحس، خرجت النار عن أن تكون معذبة لهم، وخرجوا عن أن يكونوا معذبين. وكذلك الأخبار الصحاح في الموطأ وغيره، أن أرواح المؤمنين- وروي: أرواح الشهداء- في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة، وتروح إلى قناديل معلقة بالعرش. ولو كانت الأجساد على انفرادها عن الأرواح تتألم وتتنعم، والأرواح على حدتها، لما جعلها منسوخة في طائر. وقد روى: وإن الأرواح في طائر أسود في برهوت، ومن عذب الأموات، لا معنى في جعل الأرواح في غير أجسادهم. فهذه الأدلة امتنع معها صحة ذلك الخبر. فلما وجد الخبر في صحيح مسلم، لم يكن لرد الخبر وجه، وعدل إلى متنه. فقال الحنبلي المعترض عليه: يجوز أن تكون إضافة الموت إليهم عند استيفاء العذاب، وعند أوان إخراجهم منها. وقد انتهى واستوفى المستحق من عذابهم، وهم عصاة المسلمين. ولهذا روي: يخرجون كضبائر الفحم، فيغمسون في بحر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل. ويحتمل أن يكون ذكر الموت أنه يجعلهم في عذاب دون عذاب. وهذا يجئ على مذهب أهل السنة القائلين بعذاب القبر. والميت يعذب في قبره، كذلك جاز أن يعذب الميت في النار. ولا يبعد من قدرة الله إيصال العذاب إلى أجساد لا أرواح فيها، وإلى أرواح لا في أجساد، كما

دعوة علي بن أبي طالب عند رؤية الهلال

أنه قد بان من تمام قدرته وكمالها أنه يعدم النار التعذيب لأجساد ذات أرواح في بعض الحيوان، كالنعام والسمندل. فالجسد والروح مجتمعان، وقد أعد ما ألم النار. من يعدم ألم النار لأجساد ذات أرواح، لا يغرب عليه إيصال إيلام النار إلى أجساد لا أرواح فيها. ألا تراه في اطراد العادة لو اختل شيء من أدوات النطق لم يتحصل كلام صحيح مع اختلال أدواته. ثم تنطق الأعضاء فتشهد ولا أجزاء لها من أدوات النطق. وكم يفعل أشياء عند وجود أشياء في اطراد العادة، ثم يخرج عن تلك القوانين ويأتي بتلك الأشياء؟ فإنه لا ينطق إلا بعد السنين، وأنطق عيسى في المهد. وادخر في السفينة من كل زوجين اثنين، وكلٌ يظن أنه لا يصح منه الابتداء للخلق، ولا يدخل تحت مقدوره إلا بالتولد والتسلسل. ثم خلق آدم، لا من ذكر وأنثى، وخلق عيسى من أنثى، بغير ذكر، وخلق حواء من عظم، لا ذكر ولا أنثى. فلا ينبغي أن نجحد مقدوره لأجل أنسنا إلى اطراد العادات. وكم خرق ليزول هذا الاستشعار عنا! وكم مضى على نمط واحد حتى يظن أنه لا يقدر على سواه! 720 - كانت دعوة أمير المؤمنين علي عم إذا رأى الهلال: اللهم اجعلنا أهدى من نظر إليه، وأزكى من اطلع عليه.

رواية لأبي سعيد الخياط

721 - قال أبو سعيد الخياط يقول سمعت أبا زيد. 722 - قال حنبلي: من أدب الخوف من الله أن تخاف من عدله فيك. فإن خفت الحيف، فبئس الخوف. وإياك أن تخاف مما وراء العدل، فإن ذلك تجوير لله. ولهذا لو فصح بذلك فقال: ((ما أخاف إلا مما وراء عدل الله)) فكأنه يقول: ((إني أخاف الحيف وهو.)) والخوف من غير عدله سح هو سوء الظن به. 723 - لخالد الكاتب: خيالٌ من المسك والعنبر ... سباني بطرفٍ له أحور وكم ذقت من ريقه خمرةً ... جرت بين سمطين من جوهر 724 - قال حنبلي يعرف طرفًا من الأصول، ويحقق فيما يورده من خاطره أجود من محفوظة: قلت لمن فاح منه رائحة استبعاد البعث: أكبر شبهة يتعلق بها جاحدو البعث ما هي؟ أوردها لي حتى أجيب عنها بعون الله ومنه. فقال: أما استحالة الأجساد فتردها وتبطلها البدأة مع الأحوال المختلفة

على القطعة. وأما كثرة الحيوان، وما الذي يسعه من المكان، مع كثرته مع تطاول الزمان، فالأبعاد الخالية مما يحتمل أمثال ذلك من الحيوان. وإنما الأصعب، فهي أن الصور المتقلبة على هذه الكرات المحصورة لا تتسع لما تقلب عليها من الصور أن تعاد منها. فإنها ربما أوفت عليها عدة دفعات مع تطاول السنين. بل أقول ربما يكون قد تجدد على الكثرة من الصور ما لا يفي بها أن تعاد من تلك الكثرة. فهي في المثال ككتلة شمع معلومة المقدار عمل منها ألوف صور حيوانات لا يتأتى أن يعاد منها إلا البعض، فالباقي والماضي أكثر. فيقال: إنما يغرب ذلك على من يقدر على إحداث مواد، ومن ثبت بدلائل العقول أنه نحت من العدم وجودًا، لا يغرب عليه أن يعيد الجواهر التي تبددت من الأجساد أشجارًا ونباتًا وأواني، ويمحق بنيانًا فيعيدها أجسادًا للآدميين خاصة، لأنهم هم المجازون عندنا دون سائر الحيوانات غير المكلفة. ولا بدع أن يحدث جواهر أخر إن أعوزت كرة الأرض على ما قررت. لأنه قد ثبت في الخبر الصحيح، من عدة أسانيد، أن الأرواح تجعل في أطيار. وإذا ثبت ذلك، مع كون أجسادهم في الأرض باليةً خاليةً من الأرواح، ثبت أن ينعم ويعذب الأرواح في غير أجسادها الأول، كما جعل أجساد الأرواح أطيارًا ليست تلك الأجساد. وهذا نوع تناسخ. وعلى

مسألة كفار العرب والعجم هل يجب قتلهم أو استرقاقهم

القول بالتناسخ مذاهب عدة من مذاهب الأوائل، ومذاهب أرباب الأديان. لكن المعول على ما ورد به النقل من نقل الأرواح إلى الأطيار، مع تحققنا أن جواهر أجسادهم التي عملوا بها الأعمال بالية في الأرض. ونحن إنما نمنع التناسخ بالآراء، فأما بالروايات، فلا. ومما يشهد لذلك ما نعلمه ونشاهده من زوائد الأجساد، كالسمن مع تطاول الأعمار، على ممر السنين، ويمضي بالمرض، ويعود أمثالها، لا أعيانها، لاسيما من الشعور والأظفار والشحوم التي تذوب، وتعود أمثالها من المآكل والمشارب. ولم يثبت أن الله تع يعيد ذلك كله إلى أجسادهم يوم معادهم. وتلك الزوائد، من السمن والعبالة التي مضت أولًا فأولًا، قد عصت وأطاعت، وما أعادها وجعلها أجسادًا للمكلفين ليعاقبها على معاصيها وينعمها على طاعاتها. جاز، إذا قامت دلالة العقل بما ذكرتم على ضيق كرة الأرض عن أن تتسع لأرواح المكلفين أن يحدث جواهر وزوائد وينعم الأرواح في تلك الزوائد ويعذبها، ولا فرق.- والله أعلم بكيفية ذلك. 725 - استدل بعض الحنفية في مسألة كفار العرب، وأنهم على مذهبه لا يسترقون، بل يتعين قتلهم، فقال: إن كفار العرب بالغوا في أذية النبي صلعم، والعجم لم يبالغوا. فلذلك أوجبنا قتل كفار العرب، وجوزنا استرقاق العجم.

فاعترض حنبلي، فقال: أنا أذهب إلى أنه لا يسترق من لا كتاب له، ولا شبهة كتاب، عربيًا كان أو عجميًا. فالعبد عندي في هذا الباب. على أنه من لا يقر بالجزية لا يقر بالاسترقاق. فأعترض على ذلك بأن أقول: إن تثبت الأمر على الأذية، فاليهود بالغت في أذيته صلع، حتى إنهم قتلوه بالسم، حتى إنه كان ينتقض عليه في كل سنة. فقال عند مرض موته صلع: ما زالت أكلة خيبر تعتادني، فهذا أوان قطعت فيه أبهري. ثم مع هذه الأذية العظيمة لم يتعين قتلهم، بل أقررتهم بالجزية تارة وبالاسترقاق أخرى. ولأن المبالغين في أذيته من العرب قريش دون غيرهم، فكان يجب أن نخصهم بالقتل دون غيرهم ممن لم يؤذه. قال الحنبلي: ولأن هذا التعليل منك قد بطل. وإن علل في ذلك بشيء، فأحسن التعليل ما ذهب إليه صاحبي أحمد رضه، حيث جعل عقد الباب في تعين القتل ومنع الاسترقاق، في أصح الروايتين عنه، الكفر الذي لا كتاب لأهله، ولا شبهة كتاب، عربًا كانوا أو عجما. لأن عبادة الأوثان لم تكن دينًا لله تع، فهي الغاية في الكفر. فالتعلق بالغاية في الكفر لتعين القتل والتعليل به أحسن من التعلق بأذية النبي صلع. فاستئصال عبدة الأوثان بالقتل وإخلاء الأرض منهم أبلغ في التعليل من أذية كانت في حق النبي وزالت. وعبادة الأوثان في بلاد الإسلام لا يجوز العفو عنها، ولا استدامتها بإبقاء أهلها. ولذلك لم

في اسم الأعظم

يقروا بالجزية، ولا أقروا على عباداتهم لها، كما أقررنا البيع والكنائس لأهل الكتابين، بل لا نمكن أحدًا يعبد صنمًا في بلاد الإسلام. فكان الاعتبار بضرر يدوم في تعيين القتل. والمنع من الرق أحسن من أذية زالت في حق النبي صلع. على أنا قد أبطلنا عليك، وصاروا أشبه شبهًا بالمرتدين، لما لم تكن الردة دينًا لله، لا جرم لم يقروا بالرق كما لم يقروا بالجزية. ولا يلزمنا نحن ما ألزمتموه للشافعي. لأن الشافعي جوز استرقاقهم وجعل الرق كعقوبة القتل. ونحن لا نفرقهم برق ولا جزية استئصالًا لهم. ولنا رواية: يجوز استرقاقهم كما جاز استرقاق نسائهم وصبيانهم، وافقنا فيها الشافعي. وغلبنا فيها أن الرق آكد عقوبة، لأنه تمليك للرقاب ومنع للتمليك. فيملكون كما تملك البهائم، ولا يملكون. ولعل الرق أصعب من القتل، حيث كان من آكد نغص للأحياء، ولا فخر في حياة مكدرة بالذل، والرق غاية الإذلال.- والله أعلم. 726 - قال وكيع بن الجراح: رأيت في المنام رجلًا بجناحين: فقلت: من أنت؟ فقال: مالك بن دينار. فقلت: ما اسم الله الأعظم؟ فقال: الله. قلت: وما الدليل على ذلك؟ قال: قوله- جل وعز- لموسى: {إني أنا الله}، ولو كان له اسم أعظم منه قال- تبارك وتعالى: ((أنا))، وتسمى بذلك الاسم.

من كلام جعفر بن محمد في دعاء الله

727 - قيل لجعفر بن محمد: إنا ندعو الله، فلا نرى الإجابة. قال: لأنكم تدعون من لا تعرفون. 728 - قيل لزياد النميري: ما منتهى الخوف؟ قال: إجلال الله عن مقام السؤال. قيل له: فما منتهى الرجاء؟ قال: تأميل الله على كل حال. 729 - وصفت أعرابية قومًا بالبخل، فقال: القائمون إلى الصلاة بلا أذان، مخافة أن تسمعه آذان الضيفان. فأخذه بعض الشعراء، فقال: أقاموا الديدبان على يفاعٍ ... وقالوا لا تمر للديدبان فإن آنست شخصًا من بعيدٍ ... فصفق بالبنان على البنان تراهم خشية الأضياف خرسًا ... يقيمون الصلاة بلا أذان 730 - قال حنبلي له فهم واطلاع على مناسبة المعاني: يمحو هذا كله قوله تع في أصحاب الجنة: {فانطلقوا وهم يتخافتون}، {أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكينٌ}. وكان جوابهم من المنعم على كتمهم النعم عن المؤاساة للمحاويج قوله: {فطاف عليها طائفٌ من ربك وهم نائمون}. سبق والله حرمانه إياهم حرمان المساكين. وكان سبقه أيضًا بذلك خفية عنهم حال منامهم، لإضمارهم الحرمان وعزمهم على إخفاء النعم تركًا للإحسان،

حادثة جاءت في رجب سنة عشر وخمس مائة [في الثمن المغصوب هل تكون على البائع تبعة بعد الموت مع عدم علمه أم لا]

فـ {مكروا مكرا ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون}، {فأصبحت كالصريم}. قال الخادم: فمن ههنا طاب إظهار النعم لأرباب الحاجات إيقاظًا لهم للطب بشكر المنعم عليهم. يشهد لذلك قوله سح: {وأما السائل فلا تنهر}، {وأما بنعمة ربك فحدث}، ليسمع السائل فيطلب، فتشكر نعمة ربك بالعطاء. فإنه لا يجوز أن يحمل إلا على هذا الوجه. لأن الحديث بالنعمة بين المسلوبين من غير مؤاساة بها وفيها تعريضًا لإسخاطهم على المنعم، حيث حرمهم ما أعطاه غيرهم. ومن ههنا أخذت الصوفية، إن كانت فطنت بمذهبها، في حق من قال ((طبخنا البارحة كذا، )) و ((حشونا كذا، )) و ((عقدنا كذا، )) وذكر القطائف والخبائص، فزعقوا ((وجب، )) وادرعوه مذهبًا. فكان معنى قولهم: ((وجب أن تجبر قلوب الفقراء حين كسرتها بإنهاض الشهوة لما ذكرت مع عدم الجدة لهم. فلا جبر إلا بالمؤاساة لهم بجميع ما ذكرت وإليه شوقت.)). 731 - حادثة جاءت في رجب سنة عشر وخمس مائة ما يقال في رجل اشترى سلعة من رجل. وكان ظاهر المشتري العدالة، بثمن دفعه إليه. فكان الثمن مغصوبًا، ولم يعلم البائع للسلعة بحال الثمن واستمتع به وأنفقه في أغراضه وأسبابه. فهل إن مات على ذلك مع عدم علمه تكون عليه تبعة مع عدم علمه، أم لا؟ فأجاب قوم بأن لا تبعة عليه, وأطلقوا ذلك إطلاقًا.

قول في سرعة استجابة الدعاء

فأجاب حنبلي يسلك التحقيق، ويصدق في التأمل، فقال: إن أردتم بالتبعة مأثمًا وعقوبة من الله تع، فلا. وإن أردتم بالتبعة ضمان المال، فنعم. لأن حقوق الآدميين المالية والدموية لا تسقط بالجهل، كما لا تسقط بعدم التكليف. فإن المجانين والأطفال يضمنون الأموال بما يتلفونه بأكل، أو شرب، أو جناية. وكذلك النائم المتقلب على إناء لغيره، إذا أتلفه كان الكل ضامنين مع عدم تكليف الله تع لهم. وكل ضامن لمال أو دم في الدنيا موازن عليه في الآخرة بحسب ما ورد في السنة من المقاصة بالأعمال. وأما الغاصب فمؤاخذ بالغصب، معاقب عليه من جهة الله سح وتع ومرجوع عليه بسلعة البائع التي أخذها بغير ثمن يملكه. 732 - يقال: لا يستجاب الدعاء بسرعة إلا لمخلص أو مظلوم. 733 - قال حنبلي: ننتخب الفضائل من أفواه الرجال، وبطون صحائف العلماء، وما يسنح به الخاطر من الله تع فنسطره. نقلت مما علقه الوزير أبو القاسم الحسين بن علي المغربي رحه وانتخبه من كتب علي بن عبيدة الريحاني. فمن ذلك: كل امرئ على شيئين: قصده وشاكلته، تورده وتصدره. إنما نكص على عقبيه من خانه فهمه،

من كلامه أيضا

وخذله عقله، وضيع ما استودعته الأيام. فكأنه ابن يومه ونتيج ساعته. 734 - ومن ذلك قوله: الأيام مراقٍ إلى الأدب ودرجات إلى العلم الأكبر. فمن فهم عنها لم يفتقر إلى غير نفسه. 735 - ومن ذلك قوله: في الحسد اثنتان: كمد يثلم القلب، وكدر يحدث في العيش، يكاد الباغي أن يكون بمعزل من حفظ الله تع. 736 - ومن كلامه الذي اختاره: كذب ظنك إن ضمن لك الوفاء عن الناس. وسئل عن الوفاء، فقال: رأيت رجلًا يبكي على أيام خالية، ويحن إلى عهود عشرة ماضية، ويتوجع لفقد ألافه، حتى كاد يمنعه ذلك من طعامه وشرابه. فكأنه إنما فارق ما مضى عنه في ساعته التي هو بها. فوجدته عند نائبةٍ حلت بنا أبذل الناس لجهده، وأحسنها مؤاساة بنفسه، وأحرصهم على وقايتنا بمهجته، حتى كشف الله البلوى، فدلني قديم حنينه على حادث وفي به، وجعلته قياسًا، ولم أحتمه يقينًا. 737 - وقال بعض الناس: كنت عنده ببغداد، وأتاه رجل من أهل القطيعة، فأنشأ يعاتبه، ثم قال: أنا أعاتبك وأعلم أنك من أهل القطيعة.

738 - وقال: الحلف في أوائل الأحاديث سخف، وهو قوله: ((والله لقد وجدته كذا))، ((الله لقد كان كذا.)) فاحذر ذلك. 739 - وقيل إن علي بن عبيدة الريحاني كان جالسًا عند جواري القيان منفردًا بإحداهن. فحضرت الصلاة. قال أحمد بن أبي طاهر: فقلت ((يا أبا الحسن! ألا تصلي؟ )) فقال: ((حتى تزول الشمس.)) [ ... ] 740 - [ ... ] إذا شئت عادتني دهاقين قريةٍ ... ورقاصةٌ تحدو على كل مبسم فإن كنت ساقي فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا في الجوسق المتهدم فلما بلغ عمر ذلك، قال: أجل والله إن ذلك ليسوءني! فمن لقيه فليخبره أني قد عزلته. فقدم وحلف أنه لم يفعل شيئًا مما قال. وإنما هو الشعر يجري على لسان الرجل. فلما حلف أنه لم يفعل، قال له عمر: كذا الظن بك، ارجع إلى عملك.

شعر لإسحاق بن إبراهيم

قال إسحاق بن إبراهيم: أنشدني الواثق من شعري واستحسنته: إن الظباء ظباءٌ همها السحر ... ترعى القلوب وفي قلبي لها عشب أفدى الظباء التي لا قرون لها ... حلتها الدر والياقوت والذهب لا يغترين ولا يسكن باديةً ... ولسن يدرين ما مصرٌ وما حلب وفي الدين غدوا نفسي الفداء لهم ... شمسٌ تبرقع أحيانًا وتنتقب إذ يدٌ سرقت فالحد يلزمها ... والحد في سرق العينين لا يجب 742 - قول كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لها مثلًا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل قالوا: عرقوب رجل من الخزرج وعد رجلًا بثمرة نخلة. فقال الرجل: ((أريد أن آخذها بلحا.)) قال: ((دعها تبسر.)) فلما أبسرت، أراد أخذها، فقال: ((دعها ترطب.)) فلما أرطبت، أراد قطعها، فقال: ((دعها تتمر.)) فلما أتمرت، جذها عرقوب ليلًا. فضربت العرب به مثلًا. 743 - قال الواثق يومًا لابن أبي داود تضجرًا بكثرة حوائجه ورغبات الناس

من أخبار أسعد الحميري

إليه: ((يا أحمد! قد أخلت بيوت الأموال طلبات اللائذين بك المتوسلين إليك.)) فقال: ((يا أمير المؤمنين! نتائج شكرها متصلة بك، وذخائر أجور مكتوبة لك، ما لي من ذلك إلا عشق اتصال الألسن بخلود المدح فيك.)) فقال: ((يا أبا عبد الله! والله لا منعناك ما يزيد في عشقك، ويقوي من همتك، إذ كان مالنا دونك.)) وأمر بإخراج ثلاثين ألف دينار إليه ليفرقها في زائر ومنقطع، جبرًا لقلبه من تلك الضجرة. 744 - نهى النبي صلعم أن يسب أسعد الحميري، وهو تبع، وقال: إنه أول من كسا الكعبة. 745 - صعد عبيد الله بن موسى بن الحسين بن الحسن منبر الكوفة. وكان قد هم بالخروج، فبلغه أن رجلًا من أصحابه لعب بغلام، فقال، بعد حمد الله، والصلاة على النبي صلع: إنه لا يزال يبلغني أن القائل يقول: إن بني العباس في لنا، نرتع في أموالهم، ونخوض دماءهم، عزم بلا علم، وحكم بلا روية، وحطه الغاوون. عجبًا لمن أطلق بذاك لسانه، وبسط به يده في ميلي معه وبسط يدي بالجور له. هيهات! هيهات! ... ذو الحق بما يهوى، وأخطأ الظالم بما تمنى، حق كل ذي حق في يده، وكل ذي دعوى على حجته، لم يخطئ المنصف حظه، ولم يبق الظالم على نفسه

من أخبار عبد الملك بن مروان (تتمة فصل 704 ص 729)

حقًا لمن أمر بالمعروف أن ينهي عن المنكر، ومن سلك سبيل الحق أن يصبر على مرار العدل. كل نفس تسمو إلى همتها، ونعم الصاحب القناعة. 746 - وحج عبد الملك بن مروان، فخطب بمكة. فلما انتهى إلى موضع العظة من خطبته، قام إليه رجل من الصوحان فقال: مهلًا، مهلًا! إنكم تأمرون، ولا تأتمرون، وتنهون، ولا تتناهون، وتعظون ولا تتعظون. أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم أم نطيع أمركم بألسنتكم؟ فإن قلتم ((اقتدوا [ ... ] 747 - [ ... ] قال: ((يتعرض من البلاء لما لا يطيق.)) وعن ابن عمر قال: هو طلاق العرب. 748 - للصاحب ابن عباد: يا أبا بشرنا تأخرت عنا ... قد أسأنا ببعد عهدك ظنا كم تمنيت لي صديقًا صدوقًا ... فإذا أنت ذلك المتمنى

في الشجاعة

فبغضن الشباب لما تثنى ... وبعهد الصبا وإن بان عنا كن جوابي لكي ترد شبابي ... لا تقل للرسول كان وكنا 749 - قيل: الرجال ثلاثة: فارس، وشجاع، وبطل. فالفارس الذي يشد إذا شدوا، والشجاع الداعي إلى البراز والجيب داعيه، والبطل الحامي لظهورهم إذا انهزموا. والأسباب المشجعة سبعة: الغضب، ونشوة السراب، والغيرة، والحمية، والفخر، والهوج، والعزازة. 750 - قال رجال الحرب: كن بحيلتك أوثق منك بشدتك، وبحذرك أفرج منك بنجدتك. وحازمٌ واحدٌ في الحرب أمثل من ألف فارس، لأن الفارس يقتل العشرة والعشرين، والحازم قد يقتل جيشًا بحزمه وتدبيره. 751 - قال أمير المؤمنين علي عم: لا تدعون أحدًا إلى البراز، ولا يدعونك أحدًا إلا أجبته. فإن الداعي باغٍ، والباغي مصروع. 752 - قال الأصمعي: سمعت أعرابيًا يدعو في فلاة من الأرض، وهو يقول في دعائه: ((اللهم إن استغفاري إياك مع كثرة ذنوبي للومٌ، وإن تركي الاستغفار مع علمي بسعة رحمتك لعي. اللهم كم تتحبب إلي

دعاء لأعرابي

بنعمتك وأنت غني عني، وأتبغض إليك بالذنوب وأنا فقير إليك. سبحان من إذا وعد وفى، وإذا تواعد عفا.)) 753 - كتب معاوية إلى مروان لما ورد عليه قتل عثمان: ((إذا قرأت كتابي هذا، فكن لا تصطاد إلا بغيلة، ولا تبارز إلا عن حيلة، وكالثعلب لا تغلب إلا روغانًا. وأخف نفسك بينهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكف. وامتهن نفسك امتهان من يئس اليوم من نصرة. وابحث عن أخبارهم بحث الدجاجة عن حب الدخن عند نفاسها.)) 754 - أنشد ثعلب: [و] إني على ما كان من ألم الهوى ... وإن ذرفت عينٌ وحن ضمير لراضيٍ بما جرت على يد الهوى ... وكم غيةٍ ترضيك وهي تضير وإن فؤدًا قادني لصبابةٍ ... إليك على طول الهوى لصبور 755 - لأعرابي يرثي أخًا له: سقى الله قبرًا لست ناسي أهله ... بتثليث أمسي أدركته المقابر تضمن خرقًا للهلال ولم يكن ... بأول خرقٍ غيبته المقابر

كلمات مشتركة في المعنى

756 - ذكر أهل اللغة أن الحكم والحكمة واحد كالعز والعزة، والرشد والرشدة، والعذر والعذرة، والخبر والخبرة، والقل والقلة، - كل هذا سواء عندهم. 757 - روي عن النبي صلعم: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطته على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها. 758 - نبذة من أخبار الحسن البصري رضه ذكر رجل من أهل العلم أنه كان الحسن بن أبي الحسن في مستثنى الغاية. فكان يقال: ((أزهد الناس إلا الحسن، )) و ((أفقه الناس إلا الحسن، )) و ((أبين الناس إلا الحسن.)) وقال بعضهم: ((إن الحسن جزر لأهل البصرة)) من المد والجزر، والمد هو حياتهم. ثم إنه جعله لهم خيرًا من المد. يأتيهم فيقف على أبوابهم. إن شاءوا حجبوه، وإن شاءوا أذنوا له. وكان يتزوج نساء رهطه وعشيرته وهو مولاهم. وكان قد جاوز قدر كل ذي قدر. وكان يصلي على كل جنازة ويشهدها. وكانت الولاة تصلي على الجنائز. وإذ علم الوالي أن الحسن في الجنازة تجافى عنها، حتى إذا صلى، أقبل يعزي أهلها إكبارًا للحسن. وقد صلى الحسن على أم عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وهو يومئذ سيد أهل البصرة. فسمع صراخًا.

شعر لبعضهم

فالتفت كالمنكر لذلك. فعاد إليه عبد الأعلى وقال: جعلت فداك! والله ما علمت به، ولا استهبته حتى سمعته. ومن جملة أخباره أنه أتاه الفرزدق، فسأله أن يصلي على النوار امرأته، فأبى واعتل عليه، فقال: يا أبا سعيد إذًا تجللني وإياها عارًا وخزي الأبد. فأجابه إلى ذلك. ولما طلعا من الدرب، قال الفرزدق للحسن: ((ألا تدري ما يقول الناس الساعة، يا أبا سعيد؟ )) قال: ((وما عساهم يقولون؟ )) قال: ((يقولون هذا الحسن خير الناس، وهذا الفرزدق شر الناس.)) فقال الحسن: ((ما أنا بخير الناس، ولا أنت بشر الناس.)) فصلى عليها. 759 - لبعضهم: إن الليالي لم تحسن إلى أحدٍ ... إلا أساءت إليه بعد إحسان لا تغبطن أخا الدنيا بمقدرةٍ ... فيها وإن كان ذا عزٍ وسلطان يكفيك من غير الأيام ما صنعت ... حوادث الدهر بالفضل بن مروان ألعيش حلوٌ ولكن لا بقاء له ... جميع ما الناس فيه زائلٌ فان 760 - سئل أبو العباس بن عطاء: ما العبودية؟ فقال: ترك الاختيار وملازمة الافتقار. قال حنبلي: نجز كلامهم. أراد: ترك الاختيار مع

شعر لابن عطاء

الله، أو على الله، فإنه الوبال، لأن مثار هذه الرذيلة رؤية النفس، والجهل بحكمة الحكيم. وملازمة الافتقار معناه أن لا يفقد من ناب الطلب رغبة ورهبة. ومتى لم يكن كذا، سلبت مواد الخير. 761 - وأنشد ابن عطاء: بالله أبلغ ما أبقي وأدركه ... لا بي ولا بشفيعٍ لي إلى الناس إذا يئست يكاد اليأس يقلقني ... جاء الغنى عجبًا من جانب الياس 762 - روى الأصمعي قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي مخزوم بن سقفل، رواية الفرزدق، أن الفرزدق أتى الحسن البصري في حلقته فقال: أشهدكم أن امرأتي النوار طالق مني ثلاثًا: فلما أصبح، ندم وقال: ندمت ندامة الكسعى لما ... غدت مني مطلقةً نوار وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار

مسألة النية لصوم رمضان (فصل ناقص أوله)

[ ... ] 763 - [ ... ] فأشبه إذا ترك النية رأسًا. اعترض عليه إمام من أصحاب الشافعي، وهو الشيخ أبو الفتح بن برهان، فقال: لا أسلم أنه عدل عن نية صوم رمضان، حيث نوى الصوم وما حصل الانصراف. لأنه لم يصم نفلًا. فحصل بصومه النافلة منصرفًا عن الفريضة. بل ما صح عندك الصوم الذي صرف النية إليه. والنية لصوم قد حصلت لأزمان تعين لصوم رمضان. فانصرفت نية الصوم إليه لمكان تعيين الشرع له بهذا الزمان. فلا يحتاج إلى تعيينه هو. وصار بمثابة واحد من الرجال في دار اسمه زيد. إن ناداه باسمه الخاص العلم، فقال: ((يا زيدًا! )) كان نداء له، وإن قال: ((يا رجل! )) كان نداء له أيضًا. لأنه يقع عليه الاسم الأعم. إذ ليس معه رجل آخر فيحتاج إلى اقتطاعه بالنداء باسمه الخاص، وهو زيد. وكذلك إذا قال لزوجته ((أنت يا حفصة، طالق، )) واسمها زينب، فإنه لا يقدح صرف غير اسمها إليها في الطلاق مع قوله أنت، وهو الأخص الذي لا يصلح إلا لمواجهتها ولها خاصة.

رؤيا لعمر بن عبد العزيز

قال الحنبلي: صرف النية يكفي بمجرد القصد واللفظ بذكر النفل. ولا يحتاج الصرف إلى وقوعه نفلًا. لأني لا أدعي صرف الصوم، إنما ادعيت صرف نية الصوم من الفرض إلى النفل. وأما إذا نادى زيدًا بـ ((يا رجل)) فإنه يكون نداء له بالاسم الأعم، وهو واقع عليه. فوزانه أن يقول ههنا: ((أنا صائم، )) ووزان قوله نفلًا أن يقول ((يا عمرو)) فلا يكون نداء لزيد. 764 - عن عمر بن عبد العزيز قال: رأيت أبي في المنام في حديقة حسنة. فناولني تفاحة، وتأولتها ولدًا، فقلت له: أي الأعمال وجدت أفضل؟ قال: الاستغفار، يا بني! والحمد لله وصلواته على سيدنا محمد والنبي وآله وسلم

§1/1