كتاب التوحيد المسمى التخلي عن التقليد والتحلي بالأصل المفيد

عمر العرباوي

كتاب التوحيد المسمى التخلي عن التقليد والتحلي بالأصل المفيد تأليف عمر العرباوي

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف رمضان 1404هـ الموافق لجوان 1984

كتاب التوحيد المسمى التخلي عن التقليد والتحلي بالأصل المفيد تأليف عمر العرباوي

أهدي هذا الكتاب

أهدي هذا الكتاب إلى أرواح جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الذين جاهدوا في هذا الوطن، في سبيل العقيدة السلفية الصحيحة فنشروها فيه وأزالو عنها ظلام الجهل المتراكم عليها عدة قرون وأخلصوها من شوائب الوثنية والبدائع والخرفات فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا. عمر العرباوي

دعاء الاستفتاح

دعاء الاستفتاح ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، فلك الحمد دائما وأبدا حمدا يوافي نعمك ويكافيء مزيدك عدد خلقك ورضى نفسك وزينة عرشك ومداد كلماتك. وصل يا رب وسلم وبارك أفضل صلاة وزكى سلام وأعظم بركة على عبدك ونبيك ورسولك أشرف الخلق، ورسول رب العالمين، المؤيد بالحق والصدق سيدنا محمد وآله وأزواجه وذرياته الطيبين الطاهرين، وأصحابه كما صليت وسلمت وباركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .. آمين

كتب للمؤلف

كتب للمؤلف - الإعتصام بالإسلام - كتاب التوحيد المسمى بالتخلي عن التقليد والتحلي بالأصل المفيد

نصائح أقدمها إلى الشباب المسلم

بسم الله الرحمن الرحيم نصائح أقدمها إلى الشباب المسلم من الأشياء التي حار فيها المفكرون والعقلاء، واندهش لها الجميع هو انحراف بعض الشباب الجزائري من بعد الإستقلال عن مبادئ الإسلام. كان الشعب متمسكا به ومعتمدا عليه في حرب التحرير فبرزت الخصائص الإسلامية فيها سليمة لم تتأثر بما لابسها من سيطرة الإستعمار طيلة قرن وربع، فكان الإيمان بالله يحدو المجاهدين إلى ساحة القتال فظهرت الشجاعة النادرة والبطولة الخالدة، والوحدة الشاملة وكل المميزات الإسلامية التي كانت لأسلافهم الأمجاد من إقدام وتضحية في سبيل الله، وثبات ورحمة بالضعفاء أدى فيها كل مواطن واحبه الديني وهو الذي كان سببا في نصرته على الإستعمار .. ولما تم الانتصار على العدو وطرد من البلاد، أخذ الجزائريون زمام الحكم بأيديهم، ولكن سرعان ما تنكر بعض الشباب للدين ولعوائده وأخلاقه، وقطعوا صلتهم به، لعبت المادة والشهوات بعقولهم فراجت موجة ناتجة من الإلحاد كادت أن تعم طبقات الشعب، وأصبح الإسلام يتهم بالرجعية والتأخر واختلط الذكور بالإناث في العمل والمدراسة، وفتحت على مصراعيها للأفكار الهدامة والإباحية المطلقة، فتحول المجتمع إلى مجتمع غربي في عوائده ولغته وأخلاقه، وأصبحنا في كل يوم نرى تدهور الشباب نحو الرذيلة والفساد، لأنه لا يريد إلا الهوى المضلل، وإطلاق العنان لشهواته العارمة التي لا تعرف الحدود .. وترك الأخلاق الفاضلة التي كانت لأجدادهم وأسلافهم والتي حفظت المجتمع الجزائري منذ فجر التاريخ إلى الثورة المظفرة الكبرى فبهذه الأخلاق الحميدة برز المجاهدون الأبرار ورأينا قانون الإسلام هو السائد على البلاد كلها ..

الإستقلال معناه استرداد مقومات البلاد الأساسية، من بعد ما غادرها الإستعمار، ومقومات هذا الوطن هي الإسلام لا غير، والشعب منطوي على كثير من هذه المقومات لأننا شاهدنا أيام حرب التحرير كيف برزت فيه هذه المقومات. أيها الشباب إن أول حجر تبني عليه مستقبلك هو الإيمان، والإيمان متعدد الجوانب: أولا: الإيمان بنفسك على أن فيك استعدادا لو نميته لكنت ذا قوة فعالة، فيك استعداد للتفكير والإرادة. الإيمان بمجتمعك على أنك عضو منه، وهو متكفل برعايتك، يتطلب منك كيف تنظر إلى غيرك، على أنه شريك لك في الحياة؟ الإيمان بمجتمعك يتطلب منك أن تتعلم كيف توجه طاقة الحماس، وقوة الشباب في سبيل الخير والعون لمجتمعك، الإيمان بالوطن على أنه الدار التي تسكنها، لأنه الحمى الذي تحتمي به من أحداث الزمن، الإيمان بالله عز وجل، فتعاليمه هي التي ترشدك كيف تؤمن بنفسك وبمجتمعك وبوطنك؟ فبالإيمان بالله تسير على هدى وبصيرة من أمرك. الإيمان بالله يدفعك إلى الأمام فتنكشف لك سبل الهداية. أيها الشباب، إنك في بداية الطريق من هذه الحياة، وفي بداية أمرك من تحمل المسؤولية، فإن لم تستعن بالله فسوف يضعف أمرك، وأنك - بدون شك- ستتطلع إلى المستقبل كيف تكون؟ وما يدريك لعلك أن تكون قائد جيوش، أو مسئولا كبيرا في الدولة، أو عالما متبحرا في العلوم والفنون، أو فيلسوفا مقتدرا على حل المشاكل، أو مخترعا، إلى غير ذلك من الطموحات، ولكن هذه المناصب كلها إذا كانت بدون إيمان بالله فإنها تضر أكثر مما تنفع .. الشباب في كل زمان ومكان يضرب الأمثال الرائعة في الحياة، فهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ينفتح قلبه على الإيمان بالله في بداية شأنه، فينكر عبادة النجوم والقمر والشمس، وعبادة الأصنام التي كان

قومه يعبدونها من دون الله. قال تعالى متحدثا عنه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة الانعام). ولا تمكن الإيمان من سيدنا إبراهيم عليه السلام أبرز قوته في تحطيم أصنام قومه، قال تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} (سورة الانبياء). وكان سيدنا يوسف عليه السلام شابا تعرض للمحن والتجارب القاسية الشديدة فخرج منها طاهرا نقيا، ويقص علينا القرآن مجموعة من الشباب المؤمن وهم أهل الكهف فقال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (سورة الكهف). يجب إصلاح الشباب عن طريق الدين والأخلاق الفاضلة .. أيها الشباب، إذا أردتم أن يرجع إليكم مجدكم وتصان كرامتكم، فتمسكوا بفضائل أجدادكم وخذوا من كل أمة من أمم الأرض أحسن ما عندها من علم واتحاد وصناعة وأدب، وانبذوا كل ما كان لها من رذيلة وفساد، واعلموا أنه لا بقاء لأمة مهما عظمت قوتها وعلت كلمتها، واشتد سلطانها إلا إذا

تمسكت بالإيمان بالله والعدل والحق، وحافظت على أخلاقها التي لا بقاء لها إلا بها .. وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (سورة الانفال). الحياة هي النهضة بأشمل معانيها، فتشمل حياة الفرد وحياة الجماعة، إنها حياة من واهب الحياة الخالدة. إن الدعوة الإسلامية دعوة عامة إلى الحياة الحقيقية، فالدين هو الذي يدفع الأمة في اتجاه التقدم، والدين هو صانع الحضارات، ما من حضارة قامت في الشرق أو في الغرب إلا على أساسه، وسيضل هذا شأن الإنسانية في كل زمان ومكان، ولهذا كانت عقيدة المؤمن حياة بعد ممات ورزقا وفرحا بفضل الله، ولم يكن الموت عدما بل هو معبر إلى رضوان، ونعيم مقيم خالد .. يجب على الشباب أن يحيوا قلوبهم بمواعظ القرآن ويثيروها بالتفكير في ملكوت السماوات والأرض، وفيما خلق الله من الأشياء التي لا تعد ولا تحصى، ويقووها باليقين ويذللوها بالموت ويشعروها بالفناء، ويذكروها بفواجع الزمن .. أيها الشباب: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (سورة فاطر). الذين يؤمنون بالله ويعرفونه حق المعرفة كالملائكة قالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ... }، وانظروا إلى خليل الرحمن كيف يطلب ربه بأدب وتواضع: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته"، وانظروا كيف صاغ الإيمان الشباب المسلم في صدر الإسلام، روى عن جابر رضي الله عنه، قال: "قال رجل من مقاتلي غزوة

بدر: أين أنا يارسول الله إن قتلت؟ قال: في الجنة. فألقى تمرات كن في يده، وقاتل حتى قتل"، فقد استطال الوقت الذي يأكل فيه التمرات .. وهذا أعرابي يحضر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى الغزوات ثم يعودون بالغنائم فيعطي للأعرابي نصيبه من الغنيمة، فيتعجب ويقول: كلا، ما على هذا اتبعتك، أنا آمنت بك على أن أحارب في سبيل الله، فأرمى بسهم هنا، وأشار إلى نحره، فأقتل فأدخل الجنة. فما كانت الغزوة المقبلة قاتل الأعرابي فيها فرمي بسهم فقتل. فلما رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "صدق الله فصدقه"! وهذا سيدنا عبد الله بن جحش يرفع يديه إلى السماء، ويقول اللهم إني أقسم عليك أن ألقى الأعداء غدا فيقتلوني، ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأدني: ثم تسألني: فيم ذلك؟ فأقول: فيك يا رب. هذا الصحابي الجليل لا يطلب السلامة من خطر الحروب ليركن إلى المذلة بل يدعو مخلصا إلى الإسلام، فإذا تعذر السلم خاض غمار الجهاد ليقتل أبشع قتلة ليلقى الله وهو قرير العين. أما سيدنا نعيم بن مالك، فقد جاء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وبم؟ " قال: بأني أحب الله ورسوله. ولا أفر يوم الزحف .. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "صدقت". واستشهد يوم أحد. وهذا سيدنا حنضلة بن أبي عامر - رضي الله عنه - الذي زف إليه عروسه ثم سمع المنادي: يا خيل الله اركبي. فانتزع نفسه من الفراش وقام ليأخذ مكانه في صفوف المجاهدين، وقاتل حتى استشهد، فلما انتهت المعركة طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجته وقال: "حدثيني عن آخر عهد بحنضلة"، فأجابته المرأة: كان بيني وبين حنضلة ما يكون بين الرجل وزوجه، ولما سمع الهيعته نهض مسرعا قبل أن يغتسل، فقال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأيت الملائكة تغسله في صحاف من الفضة بماء المزن بين السماء والأرض". هذه مبادئ الاسلام فعلت مفعولها في القلوب المؤمنة للصحابة وغيرهم من التابعين واللاحقين، أما المسلمون الحاضرون فقد تنكروا للإسلام ونبذوا أوامره وراء ظهورهم، وأصبحوا يلهثون وراء المبادئ الوضعية يطبقونها على مجتمعاتهم وسيطر على حياتهم الجهل، وقد نسوا أنهم مطالبون بالتوحيد وتطبيق الشريعة الغراء بكاملها، وإن اختلفوا فواجب عليهم أن يردوه إلى الله ورسوله ليحم بينهم، فالمسلمون اليوم لا يعبرون عن الاسلام لا من قريب ولا من بعيد، هم في ناحية والإسلام في ناحية أخرى. وأنا أخاطب الشباب أينما كان وحيثما وجد بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله الكريم "صلى الله عليه وآله وسلم" ويترك تقليد الأجانب أعداء الدين ويتبع طريق السلف الصالح في عقيدته الراسخة، وسلوكه القويم، والحفاظ على تراثه المجيد. وإني أقدم تأليفا متواضعا في العقائد الإسلامية السلفية إلى الشباب المسلم ليتسلح بالتوحيد الخالص والإيمان العميق لعله يجد فيه ما يشفي غليله لأنه مدعم بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة، وأقوال العلماء المجتهدين أمثال: ابن تيمية، ابن قيم الجوزية، عبد الحميد بن باديس، والغزالي، وغيرهم كثيرون رضوان الله عنهم.

المقدمة

المقدمة الحمد لله الذي شيد منار الدين وأعلامه، وأوضح للخلق شرائعه وأحكامه، وبعث صفوته وخصائص أوليائه المصطفين لتبليغ رسالته بواسطة أنبيائه يدعون إلى توحيده وترك ما خالفه من الملل لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وختم الدعوة بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - سيد المرسلين، وفضله على من سبق غيره من الأولين والآخرين، وجعل شريعته مؤيدة إلى يوم الدين، ووكل بحفظها من الصحابة والتابعين، من تقوم بهم الحجة، وترتفع بقولهم الشبهة، وهم الفقهاء الذين ألزمهم حراسة شريعته، والتفقه في دينه، فقال تبارك وتعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (سورة آل عمران). هذا كتاب التوحيد مأخوذ من الكتاب والسنة وعقيدة السلف الصالح وقد سميته: ـ[التخلي عن التقليد والتحلي بالأصل المفيد]ـ. للمؤلف: الشيخ عمر العرباوي

التعريف بالتوحيد

التعريف بالتوحيد التوحيد هو إفراد الخالق بالعبادة ذاتا وصفة وأفعالا، والتوحيد أول دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى عبادة الله وحده، وأول منازل الطريق للسالك إلى الله عز وجل. ولا يقوم صلاح الانسان إلا إذا عرف الله سبحانه وتعالى الذي يحقق للإنسان ما يحبه، ويدفع عنه ما يضره فالله لا شريك له هو وحده خلق الكون، فلا معبود سواه، والإله هو الذي يؤله أي يعبد محبة وإنابة، وإجلالا وإكراما. لا يطلق هذا الاسم إلا على الله سبحانه وتعالى، وحده ويكون من اختصاصه، ومعناه أنه لا ثاني له، فهو نفي العدد عنه، لا شريك له، ولا تبعيض ولا تقسيم، ونفي الأنداد عنه والصاحبة والولد، والأشباه والأضداد. التوحيد هو الذي يعصم نفس المسلم من الهلاك في الدنيا، وينجيه من الخلود في النار يوم القيامة، ويعتقد المسلم إعتقادا جازما أن الأفعال كلها صادرة من الله وحده، فله التصرف المطلق التام. والتوحيد يكون محله القلب، وعلامته الانقطاع إلى الله، والتوكل عليه، وأن جميع الخلق في قبضته وتحت قدرته وإرادته، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، الخلق ليس بأيديهم شيء من الأمر. لا يرى المؤمن الموحد في الوجود إلا الله وحده. محبة العبد لربه: إن محبة العبد لربه تكون على درجتين: إحداهما المحبة العامة التي لا يخلو منها كل مؤمن وهي واجبة. والثانية وهي المحبة الخاصة التي ينفرد بها (العلماء) الربانيون، وأولياء الله الصالحون، والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإن سائر مقامات الصالحين: كالخوف، والرجاء، والتوكل وغير ذلك مبنية على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، وأن الراجي إنما يرجو منفعة نفسه بخلاف المحبة فإنها من أجل المحبوب فليست من العارضة في

شيء، والمحبة هنا مرتبطة بالخشية فكلما زادت خشيتنا من الله ازددنا تقربا منه وحبا له وتعلقا بأوامره تطبيقا وبنواهيه انتهاء ... اعلم أن سبب محبة الله معرفته، فتقوى المحبة على قدر قوة المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين، وكلاهما إذا اجتمعا في شخص من خلق الله تعالى كان في غاية الكمال: وهنا يبدو له جمال الله وحسنه، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع مثل جمال الله في حكمته البالغة وصنعته البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار التي تروق العقول وتبهج القلوب، وإنما يدرك جمال الله تعالى بالبصائر لا بالأبصار، وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر، وإنعامه عليهم باطن وظاهر، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} سورة إبراهيم. ويكفيك أنه يحسن إلى المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر، وكل إحسان ينسب إلى غيره، فهو في الحقيقة منه، وهو المستحق للمحبة وحده، واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح من الجد في طاعته والنشاط لخدمته، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته والرضا بقضائه والشوق إلى لقائه، والأنس بذكره، والاستيحاش من غيره، وخروج الدنيا من القلب ومحبة كل من يحب الله، وإيثاره على من سواه. فهذه هي الغاية المطلوبة والسعادة المنشودة التي بها سعادة الخلق في الدنيا والآخرة، لا شيء أحب إليهم في الدنيا كالإيمان به، ولا شيء أحب إلى الناس في الآخرة كالنظر إلى وجهه الكريم، فمن أعرض عن هذا التوحيد {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه). فالتوحيد هو إفراد الله بالعبادة. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (سورة الذاريات).

إعراض المسلمين عن القرآن

إعراض المسلمين عن القرآن {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (سورة ص). القرآن نور وهدى للناس ينير لهم طريق السعادة، {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} أوحاه الله إلى رسوله الكريم {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سوره هود). القرآن هو دعوة ربانية موجهة للإنسانية عامة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سورة سبأ). القرآن علاج القلوب المريضة المزمنة، والنفوس المضطربة الحائرة، والمجتمعات المنحرفة الضآلة عن طريق الحق والصواب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (سورة يونس) سار المؤمنون على هديه فحققوا السعادة لأنفسهم في الدنيا والآخرة، وفازوا برضوان وجنة النعيم. هذا القرآن فيه تبيان كل شيء للناس لكيلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، وإنه بشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا، وتحذير الكافرين والفجرة العصاة المعرضين عن القرآن بأن لهم عذابا أليما. القرآن كله حسن وأحسن منه ما يكشف للقلوب من العجائب لمن يلقي السمع عن طريق الفهم والإستنباط. تناول القرآن حياة الإنسان من جميع جوانبها منذ نشأته إلى دخوله الجنة أو النار. فهو القوة الفعالة التي اعتمد عليها رسول الله صلى عليه وسلم في هداية الناس. القرآن معجزة الدهر عجز الناس كلهم على أن يأتوا بمثله أسلوبا وبلاغة وحكمة وتشريعا صالحا لكل زمان ومكان، وإخبارا بالغيب. قال تعالى:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (سورة الاسراء). كان الناس قبل نزول القرآن في غفلة تامة وجهالة شنيعة عن معرفة الخالق إلا ما كان من بعض الأفراد القلائل ... جاء القرآن فعرف الناس دلائل التوحيد، وما يحب لله تعالى من أسمائه الحسنى وصفاته وما يستحيل عليه من أضدادها. كانت العقول والأفكار مقيدة فلم تستطع أن تفهم ما في هذا الكون من الأسرار والحكم، فجاء القرآن محررا لها من القيود، وأعطى للعقل حريته في النظر والتفكير والتأمل في عجائب هذا الكون. كان الناس قبل نزول القرآن فرقا وشيعا ومذاهب وأحزابا يعبدون آلهة شتى فقال لهم القرآن {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} والإسلام هو دين التوحيد في هذا الوجود {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ... } (آل عمران). القرآن جاء مصححا لعقيدة التوحيد، وبالنظام الشامل لحياة الناس في كل شأن من شئونهم، بل في كل ما يحتاجون إليه من الغيبيات، وما تدركه حواسهم من المحسوسات سواء إتصلت بالدنيا التي نعيش فيها، أو الحياة الأخرى التي نحن مقبلون عليها. كلف الله نبيه الكريم بتبليغ هذا الكتاب المقدس للناس فبلغه كما أمر، وطبقه على نفسه أحسن تطبيق، وأقام على أساسه خير أمة، وأفضل مجتمع، وأعدل دولة عرفها الناس في تاريخهم الطويل، فأصبح هذا الكتاب الرباني دستورا للأمة الإسلامية التي احتضنته بكلتا يديها، كما قال الشاعر المسلم: دستور القرآن لا ما صاغه ... متفلسف حنق وفكر عبقري كم تحدى المفلقين بيانه ... كم هز في إعجازه من منبر شهد العدو بصدقه وجماله ... خير الشهادة ما أتى من منكر

هو منهج صادق إذا ما ذقته ... تخلو الحياة فليس أي مكدر فهو الضياء لنا وفيه حياتنا ... يهدي إلى النجاح القويم الأنور وإذا تأمل المسلم هذا الدستور الكامل وجده، يأمر بعد توحيد الله بإقامة العدل بين الناس ومساواتهم في الحقوق والواجبات، ولا تفاضل بينهم إلا بالعمل الصالح، ويحث على الاتحاد، وعدم الشقاق، ومحو الحقد والحسد من القلوب، والتمسك بهذا الدين المتين لأنه هو الدين الوحيد لجميع الناس. قال تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (سورة الشورى). كون هذا الكتاب الرباني أمة عظيمة، وأودع بين يديها الأمانة العظمى أمانة تبليغ الرسالة السماوية إلى الناس كافة، وإلى مشارق الأرض ومغاربها ليكونوا جديرين بعبادة الخالق المعبود. فإذا الأمة العربية تنطلق من الصحراء بغتة، وتبرز فجأة على مسرح الحياة بعد خفاء مهين، فحملت هذا النور الرباني فبددت به ظلمات الكفر والشرك والجهل المخيم على عقول الناس. بماذا فضل المسلمون على سائر الأمم في القديم؟ وبماذا فضل دينهم على سائر الأديان؟ فضلتم بمعجزة الدهور، وآية العصور بكتاب الله الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (سورة فصلت) فإن جعلتموه - أيها المسلمون بين أيديكم كان قائدا لكم إلى السعادة والحرية وفي الدار الآخرة إلى مغفرة من الله ورضوانه، وإن جعلتموه وراء ظهوركم رجعتم إلى الجاهلية الجهلاء وتفقدون ما بوأكم به القرآن من العزة والكرامة والسيادة والمنزلة القصوى، ويستولي عليكم الذل والخزي في الدنيا وفي الآخرة تصيرون إلى جهنم وبئس المصير. كيف لا يكون القرآن هكذا؟ وإنه لكتاب الهدى وسفر السعادة، وقانون الفضيلة، ودستور العدالة في كل زمان ومكان.

لو تدبر المسلمون القرآن وعملوا بما فيه لسيرهم سعداء في أنفسهم وأهليهم، ولو وقفوا تحت رايته لسموا سمو المجد والعلاء، وتبوءوا مكان الشرف والعزة، ولو أنهم حافظوا على أوامره لأضاءت لهم المسالك، ولما اختلفوا على أنفسم حتى أصبحوا هالكا إثر هالك يستعبدهم مالك بعد مالك، ويذيقهم العذاب فاتك بعد فاتك. يا معجبين بالمدنية الغربية والتقاليد البشرية فكروا قليلا فإن هذه المدنية التي اعتنقتموها لم تقدر على سعادتكم وإنما يسعدكم اللجوء إلى الدين الحنيف المنزل من السماء، سار المسلمون - في العصر الحاضر- في ركاب المدنية الغربية، ونبذوا أوامر قرآنهم وراء ظهورهم. وأطلع الله رسوله على حالة المؤمنين من بعده من خلال الغيب فشكى إلى ربه بقوله عز وجل: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (سورة الفرقان) شكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه من أن قومه الذين أرسل إليهم بالقرآن ليتلوه عليهم قد صدوا عنه وتركوه وثبتوا على تركه وهجره، وفي شكوى النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه من هجر أمته للقرآن دليل على أن ذلك من أصعب الأمور عند الله وأبغضها إليه، وفيه تهديد ووعيد شديدين لمهاجري القرآن بإنزال العقاب بهم. نحن المسلمين قد كان منا هجر كبير للقرآن الكريم منذ زمن طويل- وإن كنا به مؤمنين. بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القاطعة فهجرناها، وبين القرآن لنا أصول الأحكام، وأمهات مسائل الحلال والحرام، ووجوه النظر والإعتبار مع بيان حكم الأحكام وفوائدها في الصالح العام والخاص فهجرناها، وبين القرآن مكارم الأخلاق ومضارها، وبين السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس، والسلامة من الخيبة بتدسيتها فهجرنا ذلك كله، وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه، ونبهنا على ما فيه من أسرار الحكمة ومصادر النعمة لننظر كي نستفيد ونعمل فهجرنا ذلك كله، ودعانا القرآن لتدبره وتفهمه والتفكر في آياته، ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبيينه فأعرضنا عن ذلك مع أن المسلمين يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن قال تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (سورة الحجر) وكذلك سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية تالية للقرآن عاملناها بما عاملناه ... هذا التفسير مأخوذ من مجالس التذكىير للشيخ عبد الحميد بن باديس طيب الله ثراه وجعل الجنة منقلبه ومثواه. أيها المسلمون إن العمل بالقرآن الكريم واجب وتطبيق أحكامه، والتدبر في آياته فرض على كل مسلم ومسلمة لأنه أمر الله لعباده، ورسالته المبعوثة إليه، فمن لم يقرأ ويتدبر القرآن فقد استهان برسالة ربه، واستهان بمن أرسلها، ولينظر المعرض عن كتاب الله عمن أعرض ومن يقاطع؟ ومع من يسيء الأدب؟ وبرسالة من يستخف؟ إنها رسالة ربه ومولاه فينبغي قراءتها بما يناسبها من الإجلال والاحترام والإنصات قال تعالى: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (سورة مريم) وقد وصف الله قلوب الذين لا يتأثرون بالقرآن، ولا يخشون آيات الله، ولا تلين قلوبهم إلى ذكر الله بالقساوة فقال: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} (سورة الزمر). فالويل لمن نأى عن النور الذي يهديه ويجلو عن بصيرته ظلام الشرك والكفر، والويل لمن لم يحذر ما يشقيه إذا خيم عليه ظلام الجهل فلم يعرف الحلال من الحرام فيسقط في حمأة الآثام قال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ .. } (سورة الأنعام). فالبعد عن القرآن هو عين البعد عن الله، والبعد عن الله هو عين البعد عن الحق، والبعد عن الحق ضلال، والضلال هلاك. قال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} (سورة طه). أصبحت قلوب المسلمين معرضة لخطرات الوساوس والأوهام من هجرهم للقرآن، فالذي يثبتها على الحق ويدفع عنها الشكوك والحيرة ويربطها

باليقين هو القرآن الكريم. أصبحت قلوب المسملمين معرضة للإلحاد والكفر التي تظلم منها النفوس، وتقسوا منها القلوب فتحجب عنها الحقائق، وتطمس عنها سبل العرفان من هجرهم للقرآن، فالذي يزيل عنها الظلام المتراكم ويجلو عنها تلك الأصداء المتكاثفة، ويوضح لها الحق من الباطل هو القرآن الكريم. قلوب المسلمين معرضة للضعف عن القيام بأعباء التكاليف، وما نحن مطالبون به من الأعمال من هجرهم لكتاب الله، فالذي يبعث فيها القوة والنشاط هو القرآن الكريم، فحاجتنا إلى تجديد تلاوته وتدبر آياته أكيدة جدا لتقوية قلوبنا باليقين .. المسلمون لما هجروا القرآن أصبح لا هم لهم إلا أنفسهم ودنياهم وشهواتهم {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} (سورة الحشر) استخفوا بالدين والأخلاق {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} (سورة المجادلة). لقد طغت الإباحة وعلا صوتها في أوساط المسلمين على كل صوت يدعو إلى الله، فضاعت الحقوق وانتهكت الحرمات، وغلب العقوق على الامتثال، وتخاذلت الهمم، وفسدت الأمم بإعراضها عن كتاب الله، وهضم الغني حق الفقير، واندثرت الفضائل، وانتثرت الرذائل فهذه نوادي ومسارح فاتنة، ومراقص ماجنة، وأفاعي كاسية عارية تتلوى، ولحوم بشرية في الشواطيء متراكة ونفوس دنيئة تتهافت على مجاري القذارة تعب منها في نهم متزاحمة، ورجال يقفزون في حلبات الرقص كقرود لاهثة، وزعم الإسلام من لا يعرفه ونبذ أوامره في سبيل شهواته، وزم الإيمان من ترك الصلاة وأصر على العصية لينال مبتغاه، ولم يخش غضب ربه، وزم التقوى والصلاح من اتخذ الموتى أولياء من دون الله. هذه عواقب من ترك كتاب الله واتبع هواه وأغراه الشيطان بطاعته {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (سورة الرعد) فإلى النجا أيها المسلمون، بادروا إلى تدبر القرآن، واسعوا

ما استطعتم إلى فهمه، والعمل بأوامره، والوقوف عند حدوده ونواهيه، وأنيروا قلوبكم بنوره وحكمه، واشكروا ربكم على فضله ونعمه .. لقد آمن المسلمون الأولون وحسن إيمانهم، فمكن الله لهم في الأرض، وأن الذي مكن لهم على قلتهم لقادر أن يمكن لنا إذا آمنا وحسن إيماننا. ذلك وعد الله لعباده ومن أوفى بعهده من الله؟ .. وأن المسلمين يتحدثون عن الإسلام صباح مساء ويعربون في كل مناسبة عن تعظيمهم للقرآن واعتزازهم به، ولكن لا يقرأونه ولا يقيمون أحكامه، ولا يعتنون بتعاليمه، ولا يوجد شيء منه في واقع حياتهم. فأحكامه استبدلوها بقوانين وضعية أجنبية، وتعاليمه ضربوا بها عرض الحائط وحدوده عطلوها ورموها وراء ظهورهم، ومع هذا إنهم يعتزون بالقرآن، فالآيات القرآنية تكتب بخط جميل أنيق تزين بها جدران المنازل، وتعلق في رقاب الأولاد والمرضى والمصاحف الضخمة فوق مكاتب الحكام والقضاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله. هل هناك تكريم للقرآن أفضل من هذا التكريم؟ يا قومنا إن القرآن أنزل ليكون شرعة ومنهاجا لحياتنا فيجب أن نسير على هديه لا ندعوا إلا بدعوته ولا نعمل إلا بأوامره. يا قومنا لم ينزل القرآن ليكون أنغاما وألحانا يتغنى به المطربون، لم ينزل القرآن ليقرأ في مجالس العزاء على بخار السجاير، وإنما أنزل ليحكم بيننا بالحق، ويهدي قلوبنا إلى معرفة الخالق لنعبده ونشكره على ما أولانا من النعم التي لا تعد ولا تحصى .. يا قومنا منذ تركنا أحكام القرآن، وابتعدنا عن أوامره العادلة، ونحن نتخبط في الفتن ونتقلب في الفوضى ونتجرع الظلم ألوانا، ونشرب الذل كئووسا، والله لا خلاص لنا مما نحن فيه إلا بالرجوع إلى كتاب الله، والله لا يؤمن حاكم يحكم بغيره، والله لا يؤمن قاض يقضي بسواه والله لا يؤمن عالم لا يبين أحكامه وينشر هديه، ويجاهد الناس به، والله لا يؤمن من ابتغى

الخير في غيره. إذا دام المسلسون على هجر القرآن وسنة نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - لابد لهم من يوم يندمون فيه قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (سورة الفرقان) يوم يعض الظالم على يديه حسرة وندامة على تفريطه وعدم اتباعه للحق مع الرسول الذي أرسل إليه، ويندم عن صحبته لخليله الذي صده عن الإيمان بالقرآن بعدما سمعه ... ومما يحزن المسلم أن يرى المسلمين يسيرون من ضعف إلى أضعف، ومن جهل إلى أجهل، وهم لا يدرون السبب في ذلك، والسبب واضح هو عدم تمسكهم بالشريعة الغراء وتشبثهم بالقوانين- الوضعية الأجنبية هذا هو الذي أفسدهم وأورثهم الفرقة والذل والضعف. فهناك فرق كبير بين المسلمين والإسلام، فالإسلام يدل عليه كتابه الجامع ورسوله العظيم، والمسلمون يدل عليهم ضعفهم وتخاذلهم وتفرقهم هذا هو الفرق بينهما. أيها المسلمون الله الله في دينكم لا يفتننكم الشيطان عنه بأقوال المسرفين، ولا تصرفنكم المدنية الغربية عن تعاليمه السامية فإنه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران) {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (سورة البقرة). يظهر بين الحين والحين بعض المفكرين الذين يعيشون بيننا فيقولون يجب عزل الدين عن المجتمع وأحوال المعيشة ومحاصرته داخل جدران المساجد - حتى المساجد أخرجوه منها كما هو الشأن في أوربا، وألفت في ذلك عدة كتب وألقيت محاضرات كثيرة إمعانا من هؤلاء على شل الجانب الديني حتى يأخذ طريق الضمور في مسيرته إلى أن ينتهي الى الفناء الذي يريدونه لا قدر الله.

ولكم صور البعض الإسلام أنه دين التواكل والتكاسل- وهو دين الإعداد {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} وهو دين العمل والسعي {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} وهو دين العمل {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وهودين العمارة {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} "ومن بات كالا من عمل يديه بات مغفورا له" (حديث) تصور كيف يكون هذا الدين دين التواكل ودين التراخي والكسل، واستدلوا على ذلك بالكسالى العاطلين المنتسبين إليه، واتخذوا منهم عنوانا على هذا الدين ومثالا لأبنائه ... وهناك قوة عالمية متحالفة فيما بينها منذ قديم الزمن تعمل على استئصال الإسلام من الوجود، منها الصهيونية والصليبية، والشيوعية أخيرا. كلها قوات خطيرة استهدفت الإسلام بطرق شتى ملتوية، وأساليب متنوعة ماكرة في محو الإسلام من نفوس المسلمين، وما دام هذا الوضع سائدا على المسلمين لا يخلص المجتمع من التشويه والانحراف والمسخ. يجب على المسلمين أن لا يتركوا مكان القيادة، وأن لا يهملوا منهجها، وأن لا يلهثوا وراء الأمم الضاربة في التيه والضلال ... يقول الأستاذ أنور الجندي في مقال له نشرته مجلة رابطة العالم الإسلامي: إن كل المخططات سواء كانت تبشيرية أو استشراقية، أو ثقافة غربية شيوعية كانت إما صهيونية وإما رأسمالية تتضافر كلها في سبيل غاية واحدة: وإن اختلفت الوسائل فتتلاقى على ضرب الفكر الإسلامي في أصالته ووحدانيته ليظل المسلمون يدورون في الفلك البشري الذي صاغته أهواء الطامعين وعباد الذهب والشهوات ودعاة الجنس والفلسفة ليعجز المسلمون عن تبليغ رسالة الله التي أنزلها رحمة للعالين، وليبتعدوا عن الأصالة الإسلامية التي تعصم النفس والعقل لأنها حصانة نفسية وفكرة قادرة على الثبات أمام الأعاصير. هذه العناصر كلها - كانت ولا زالت تبث سمومها في المجتمع الإسلامي بدعوى التقدم والرقي، وساعد على ذلك الخواء الديني والفراغ الروحي ... نشأ عن هذه المباديء التي تروج في بلدان المسلمين إنحراف عن الإسلام

لأنها هزت كيانهم وزينت لهم ما بين أيديهم من الصور البراقة، وشوهت الحقيقة أمام أبصارهم وبصيرتهم. ألفت الجماهير الكفر والإلحاد والنفاق، وأصبحت تظن أن ذلك أوضاع إسلامية لا تخالفه في شيء وشاع في أوساطهم أن الإسلام مرن ومتطور يساير الأوضاع الاقتصادية والسياسية الغربية، فإذا قلت لهؤلاء المنحرفين إنما أحكام الإسلام لا تتبدل ولا تتغير ولا تعطل إلا لضرورة أجابوا بقولهم: إن أحكام الإسلام كانت لزمن غير زماننا، والإسلام يفرض على المسلم أن يجاري عصره، ويعمل بما يلائم زمانه. هذا صحيح من ناحية التقدم العلمي والتطور الصناعى الحضاري في التكنولوجيا. أما من ناحية القواعد الدينية، والكليات الأصولية، وأمهات الأحكام لا تتغير فإنها من عند الله .. بدأ المسلمون ينحرفون في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد فكانوا يبررون نظام البنوك الربوية، والشركاتا المساهمة والتعامل معها بما حرم الله بدعوى الضرورة، وأن الإسلام يقبل بها لأنه مرن، وأباحوا اختلاط النساء بالرجال بدعوى أن ابتعاد المرأة عن العمل يتضرر من ذلك الاقتصاد الوطني، وينكرون على الشريعة تعدد الزوجات، وقطع يد السارق، ورجم الزاني المحصن إلى غير ذلك مما جاءت به الشريعة الغراء. وكم أصاب المسلمين من بلاء ومحن بسبب المباديء الغربية التي اعتنقوها؟ وكم طعنوا في شرفهم وكرامتهم؟ وكم أوذوا في نفوسهم بسبب إعراضهم عن الإسلام؟ وكم لدغوا من الفرقة وعدم الإتحاد، ومن السياسة المرتجلة مرات ومرات- ولكنهم لم يتعظوا؟ أليس من شأن المؤمن أن لا يلدغ من جحر مرتين {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (سورة الأنعام) ليت المسلمين يلقون السمع لكتاب الله ولسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي جاءهم بالهدى ودين الحق .. أصبح المسلمون يرددون أقوالا جوفاء بلا اعتقاد ولا أعمال، ولهذا زحزحوا عن الإسلام وكادوا يخرجون عنه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (سورة الصف). وهنا يبدو من هذا العرض أي عرض المباديء الغربية التي غزت الأمة واضحا جليا أنها دفعت الأمة إلى الهاوية وحققت أهدافها الإيجابية في غياب الإسلام، وهذا هو السبب الحقيقي في خروج المسلمين عن الإسلام وارتمائهم في أحضان الغرب، حتى أصبحوا مجزئين بين أرجائه وتابعين له في كل شيء. والحقيقة التي غابت عن المسلمين، وفي مقدمتهم المسيرون أن ليس أقوى في توثيق العرى الاجتماعية من الشعائر الدينية إذا هي خرجت من محيط الشكل إلى محيط الجوهر والروح، وأنطلقت من ظلام التقليد والجهل إلى نور المعرفة والإدراك ... لم يبلغ المسلمون الأولون ما بلغوا من رقي وتقدم وحضارة إلا بالوحدة الإجماعية، والمشاركة الوجدانية، ولم يكن لهم ذلك إلا بوعيهم للدين وقيامهم بشعائره خير قيام، فسيرة كل واحد منهم كانت تعد مدرسة مثالية للتربية الإجماعية الرشيدة والتهذيب الإنساني الصحيح وتنمية المحبة والمودة والتعاطف ... الإسلام شريعة كاملة اشتملت على العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، فأهمل المسلمون أحكامها، وعطلوا سلطان مفعولها، فأدى ذلك إلى الإنصراف عنها إلى القوانين الوضعية. الشريعة الإسلامية لها دعائم قوية وأحكام تفصيلية تجعلها صالحة لكل زمان ومكان، فأما أمر صلاحيتها فإنها تكفلت بذكر القواعد العامة في القرآن الكريم وتركت ما وراء ذلك من أحكام تفصيلية فرعية للإجتهاد بحسب ظروف البيئة والزمان إذا توافرت شروط الاجتهاد المعلومة ودعت الضرورة لتوسيع قاعدة بناء على شبيهات لها من قواعد الشريعة الغراء.

العقائد التي اشتملت عليها الشريعة يجب الإيمان بها لقيام الدليل اليقيني عليها كالتوحيد، وإرسال الرسل عليهم السلام، وإنزال الكتب، والبعث والجزاء وما اشتمل عليه اليوم الآخر إلى غير ذلك من قواعد الإيمان لكي يعود المسلمون إلى ما كانوا عليه من مجد وسؤدد. يجب عليهم أن يهتموا بالناحية الروحية والفكرية، وهذه نظرة العقلاء من المسلمين منذ زمن بعيد وهم ينادون بذلك، يجب أنما يقادوا قيادة إسلامية لا قيادة عاطفية ولا تقليدية في تفكيرها ونظامها الداخل والخارج لا ريب أن المسلمين اليوم في حاجة أكيدة إلى أسلوب جديد للدعوة، وجيل جديد من الدعاة، وقد مرت بالمسلمين فترة عصيبة توقف خلالها أسلوب الدعوة المجدي الفعال، ولم تبق منه إلا العبارات المتكررة الجوفاء، فلا تمس قلوب المسلمين ولا تحرك عواطفهم ... نريد من دعاة المسملين أن يبرزوا تعاليم القرآن إلى نشاط وحركة وتطبيق. لم ينزل الله القرآن زينة يوضع فوق الرفوف، ولا تعاويذ ولا ترانيم ولا أنغاما ولكنه قانون حياة وعمل قامت عليه أمم انبعثت به إلى الوجود، وما لم تتحول تعاليم القرآن إلى أعمال إيجابية وسلوك محكم دقيق فليس ثمة مسلمون، وليست ثمة إصلاح لهذه الشعوب ...

التكاليف الشرعية العامة: منها العينية والكفائية

التكاليف الشرعية العامة: منها العينية والكفائية كيف يكون الإنسان مؤمنا؟ وما هو العمل الذي يتطلبه منه الإسلام؟ إنما العمل الذي يتطلبه الاسلام من الكلف هو إيجاد الشخصية الإسلامية التي تتمثل في العقيدة والاخلاق والسلوك، ثم إيجاد المجتمع الاسلامي الذي يلتزمه المسلم فكرا وعملا، ثم إيجاد الدولة التي تطبق الاسلام شريعة ومنهاجا ودستورا، وتحمله دعوة هادئة لإقامة الحق والعدل في العالم .. إن هذا العمل وما يتقيد به المسلم من أوامر الدين وما يتصل به ويتفرع عنه وما يتطلبه هو واجب إسلامي شرعا لا يسقط عنه حتى تقوم السلطة التي تتولى القيام بهذه المسئولية بحيث ترعى شئون المسلمين .. وإذا كانت السلطة غير موجودة، فإن كل تقصير من العاملين بالاسلام هم في شرع الله آثمون لا يرفع عنهم الإثم إلا المبادرة السريعة للنهوض بتكاليف العمل للإسلام، ومما يؤكد وجوب العمل أنه تكليفي شرعي وليس عملا تطوعيا كون وجوبه يقينيا .. العمل للإسلام واجب لأنه مناط التكليف للناس جميعا، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (سورة البقرة)، والسنة المطهرة تزخر بما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحاديث كثيرة تحض على الدعوة الى الحق ومكافحة الباطل ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" ..

العمل للإسلام واجب شرعا لأن تعطيل شرع الله في الأرض وهيمنة النظم والتشريعات الوضعية على المجتمعات البشرية تجعل قانون الإسلام غير صالح للحكم وذلك عكس للحقائق تماما، ولهذا يفرض الاسلام على المسلمين العمل بشريعة الله العادلة لإقامة مجتمع إسلامي، لتستأنف الحياة الاسلامية على قوانين الله التي أنزلت من السماء لتبين للناس عقائدهم وعبادتهم وأخلاقم ونظمهم، ولا يقبل الله إلا حكم الاسلام بدليل قوله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، (سورة النساء) فتحقيق الحكم الإسلامي في المجتمع واجب بذاته، فيصير العمل به واجبا بدليل القاعدة الأصولية: "ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب". الدول الاسلامية المعاصرة لم تحكم مجتمعاتها بكتاب الله ولا بسنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وإنما تحكمها بالنظم الوضعية الأجنبية، وواجب المسلمين أن يتركوا هذد النظم، ويرجعوا إلى حكم الاسلام العادل لأنه فرض عين على كل مسلم ومسلمة حتى يعود للإسلام القيادة والقوامة. العمل بالاسلام واجب لمواجهة تحديات العصر، ومؤامرة أعداء الاسلام، ووقف التيارات الإلحادية، ومواجهة المادية العاتية، وزحف الايديولوجيات من كل جانب حتى أصبحت تهدد الوجود الاسلامي بالاستئصال، والزوال. فنظرة واحدة فاحصة إلى الأوضاع التي تعيشها الأمة الاسلامية سواء في الشرق أو الغرب - تؤكد ضرورة قيام مجابهة إسلامية. والقيام بهذا العمل تكليفي شرعي لا يجوز السكوت أو القعود عنه، أو التهاون فيه. فهناك أقطار إسلامية تشكو من سيطرة غير المسلمين عليها، وهناك أجزاء من العالم الإسلامي تشكو من تسلط أحزاب إلحادية عليها. وفضلا عن هذا وذاك فإن العالم الإسلامي يعيش في حالة ضياع وفوضى، فوضى سياسية، فوضى إجتماعية فوضى إقتصادية لا ترابط بين أجزائه، يعيش تدهورا مريعا في الأخلاق والقيم، وكذلك في الأفكار والمعتقدات. إن مسؤولية العمل بالاسلام من حيث هي واجب تكليفي

شرعي، ولو كانت مسؤولية فردية شأنها شأن كل الواجبات التي يترتب عليها الثواب كما يترتب على تركها العقاب {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (سورة المدثر). الإسلام يشرك الناس جميعا. في عملية البناء والتعمير بناء الحياة على الحق وإعمارها بالخير، الإسلام جعل كل إنسان مسؤولا عن البذل والعطاء في حدود إمكانيته وطاقته ما دام المسلم بالغا قادرا عاقلا مما يجعل المجتمع خلية حية نابضة، وإذا كان العمل بالإسلام واجبا فرديا، فهو أيضا واجب جماعي، وهذا غير قابل للجدل والمناقشة. إن تكاليف العمل بالإسلام أكبر من أن يتصدى لها إنسان بمفرده، فيجب أن يقضى على الإنحراف والإلحاد، وإقامة الاسلام مكانهما، وهذا يتطلب من التكليف الجهد والإمكانيات ما يعجز عن القيام به فرد، بل لا يقوى على النهوض به مع المكابدة والمعانات إلا بتنظيم حركي يكون في مستوى المواجهة وعيا وتنظيها. وقدرة. إن عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة الجاهلية وإقامة مجتمع إسلامي، واستئناف الحياة الإسلامية لدليل شرعي على وجوب الجماعة، وهذا ما ينطق به واقع السيرة النبوية في جميع المراحل، وعلى وجه كل صعيد فالتحديات التي تعترض سبيل الإسلام هي غالبا من سكان المعمورة، والقوة التي تتربص به فهي كثيرة وهذا ما يفرض على المسلمين أينما كانوا تنظيم صفوفهم وتوحيدها، فإذا كانت نياتههم صادقة فالنصر حليفهم لا محالة. إن العقيدة الإسلامية لا تكاد تمس قلب الإنسان مسا صحيحا حتى تحدث فيه إنقلابا في المشاعر، وفي الحياة، وعلاقة الأفراد والجماعات على المساوات المطلقة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح. والعقيدة الإسلامية تقوم على العدالة لا تطيق البغي من أحد، ولا ترضى بالبغي على أحد، ولا يكاد يحس بها المسلم حتى يندفع في سبيلها

بكل ما يملك من قوة فما يطيق صبرا ولا سكوتا إلى أن يتم له تحقيق ما اشتملت عليه ذلك تأويل أن الاسلام عقيدة ثورية. الذين يؤمنون بالله حق الإيمان هم الذين يجاهدون في الله حق جهاده لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الله لا تتحقق إلى أن يرفع البغي عن هذه الأرض فيصبح الناس سواسية كأسنان المشط. الإسلام يهاجم الظلم والظالمين دائما من أي كان، وفي كل مكان وزمان. بخلاف المباديء الوضعية لا تستطيع أن تكافح المظالم بجميع أنواعها كما يكافحها الإسلام، أو تقف بجانب المظلوم كما يقف الإسلام، ولا يمكن لهذه المباديء الوضعية أن تصرخ في وجوه الطغاة والمتجبرين كما يصرخ الاسلام. إن الإسلام في صميمه حركة تحريرية تبدأ في ضمير الفرد وتنتهي في محيط الجماعة، ولا يدخل الإسلام قلب أحد ثم يدعه مستسلما خاضعا لسلطان الأرض. فإذا رأيت المظالم تقع، وإذا سمعت المظلومين يصرخون، ثم لم تجد المسلمين حاضرين لدفع الظلم وتحطيم الظالم فلك أن تشك مباشرة في وجودهم، لا يمكن أن تحمل القلوب الإسلام عقيدة، ثم ترضى بالظلم نظاما ينبغي أن يكون إسلام أو لا إسلام. الإسلام كفاح لا يهدأ، وجهاد لا ينقطع، واستشهاد في سبيل الحق والعدل والمساواة، أو لا إسلام فهو مهمهة بالأدعية، وطقطقة بالمسابيح، وتمتمة بالتعاويذ، واتكال على أن تمطر السماء على الأرض صلاحا وحرية وعدلا، وما كان الله لينصر قوما لا ينصرون أنفسهم ... وإذا كان الإسلام هو الدين الذي اختاره الله لعباده بقوله عز وجل {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (سورة آل عمران) هذا الدين المختار وقد بدأ بالتوحيد، وانتهى به، والتوحيد هو التسليم المطلق لله، والتفويض التام له سبحانه وتعالى.

والاسلام شريعة يمزج بين الدين والدنيا، وبين المسجد والدولة، فهو دين ودولة، وعبادة وقيادة. إذا أراد المسلمون أن يحققوا الخير للناس، وأن يمكنوا للدين في الأرض، فعليهم أن يسيروا على المحجة البيضاء التي سار عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل، إيمان بالله وعمل بالاسلام متواصل، ومحبة لله ولرسوله دائمة، وإخاء بين المسلمين متين، دون تفريط أو افراط، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة يوسف). السؤال المطروح أمام المسلمين جميعا: هل يقف المسلمون مكتوفي الأيدي حتى يصل مجتمعهم إلى عهد الجاهلية فيهدر دينهم وتذهب قيمهم وأخلاقهم أدراج الرياح؟ وقد جرفهم تيار الفساد والإلحاد وظهرت جماعة منهم تحمل العداء السافر لهذا الدين الرباني .. يجب على كل مسلم مكلف سواء كان مسئولا أو عاملا بسيطا جاهلا كان أم مثقفا أن يتحمل مسئوليته التي سيحاسب عنها يوم القيامة، فالحاكم مسئول عن هذا الدين، والوزير مسئول والمدير راع، والرجل راع، والمرأة راعية، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن هذا الدين الحنيف، وكل واحد من أفراد الأمة المسلمة سيتحمل مسئوليته أمام الله والتاريخ، فالله سبحانه وتعالى سيسأل الجميع عن هذا الدين القويم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ... إن الله لا يحب أي شريعة إلا شريعة الاسلام، فشريعة الله تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والشرائع الأخرى بعكس ذلك، وهذا ما يقوله الصادق الأمين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه "كيف بكم إذا فسد شبابكم وطغى نساؤكم، وتركتم جهادكم؟ قالوا: أو كل ذلك كائن يا رسول الله؟ قال: بلى والله، وأشد منه سيكون. كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفا والمعروف منكرا؟ قالوا: أو كل ذلك كائن يا رسول الله؟ قال: بلى والله، وأشد منه سيكون، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ " (صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، فهذا كله موجود في المسلمين المعاصرين ..

قال عليه الصلاة والسلام: لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها، وترد عنهم العذاب والنقمة ما لم يستخفوا بحقها قالوا يا رسول الله وما الإستخفاف بحقها قال - صلى الله عليه وسلم - يظهر العمل بمعاصي الله فلا ينكر ولا يغير. وقال: تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وسنتي (¬1). إذا وما العمل- أيها المسلمون- ليس هناك ملجأ أو نجاة، أو نصر أو حياة إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله. دوروا أيها المسلمون حيث دار الاسلام. المؤمن الحقيقي لا يبطره النصر إذا انتصر ولا تقنطه الهزيمة إذا انهزم، إن الهزيمة والنصر يستفيد كل منهما وكلاهما يدخلان الجنة. ان انتصر المسلمون فالفضل لله وحده، وإن انهزموا بحثوا عما قصروا فيه من طاعة الله أو مخالفته ولا تكون الهزيمة للمسلمين إلا إذا فرطوا في شيء مما أمرهم الله به، أو عطلوا حدا من حدوده، ولم يتوبوا، ألم تضق الأرض بالمسلمين بما رحبت في غزوة حنين وقائدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ظنوا أن النصر إنما هو في جانب الكثرة، وأعجبوا بكثرتهم فلم تغن عنهم من الله شيئا لولا أن تداركهم ألله برحمته الواسعة، وكذلك زلزلوا في غزوة أحد لأنهم خالفوا - بنية طيبة وقصد سليم- أوامو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجتهدوا ولكن لا اجتهاد مع النص، ولهذا أدبهم الله تأديبا أدركوا بعده قيمة مخالفة أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووقفوا على عواقب ذلك الخلاف ... رسم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ثلاثة مشاعر انطبعت عليها قلوبهم، وبهذه المشاعر الثلاثة ظلت راية الإسلام مرفوعة: المشعر الأول هو أن ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، وما عداه هو الباطل، وأن رسالته أكمل الرسالات، ومنهجه أفضل المناهج، ونظام شريعته أحسن النظم فهي التي تحقق السعادة للناس أجمعين، المشعر الثاني: إن المسلمين ما داموا أهل حق وما داموا حملة رسالة النور، وما دام بينهم هدى السماء لإرشاد الناس فيهدونهم ¬

_ (¬1) من خطبة الوداع عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه (رواه مسلم).

إلى الخير وإلى سواء السبيل فلا بد أن ينالوا سعادة الدارين .. المشعر الثالث: ما دام المسلمون مؤمنين بهذا الحق معتزين بانتسابهم إليه فإن الله معهم يعينهم ويرشدهم وينصرهم يؤيدهم بروح منه إذا تخلى عنهم الناس، ويدفع عنهم إذا أعوزهم النصر وهو معهم أينما كانوا وإذا لم يكن معهم جند الأرض فينزل عليهم المدد من السماء. ولما أخذت هذه المشاعر الإيمانية بقلوبهم إعتزوا وانتصروا في كل ميدان ولما ضعفت في نفوس المسلمين أصواتهم واهتز يقينهم فضعفوا عن مقاومة أعدائهم ... " (¬1). ¬

_ (¬1) للتوسع راجع رسالة التعاليم.

بماذا يكون إيمان المكلف؟ وما هي الوسائل التي يستعملها ليكون مؤمنا؟

بماذا يكون إيمان المكلف؟ وما هي الوسائل التي يستعملها ليكون مؤمنا؟ الوسائل التي يعرف الإنسان بها ربه متعددة ومتنوعة، منها: النظر في مخلوقاته، (بالعقل المجرد من الهوى) أو بنور يقذفه الله في قلب المؤمن لا يقدر على دفعه، أو بالتقليد (وهي أسوأ الطرق وأفسدها) التوحيد هو أساس الطاعات ونبراس العبادات، وكلمته الطيبة الدالة عليه، وهي: لا إله إلا الله إنها مقصورة على ألوهيته وحدها، فكل مخلوق يجب عليه أن يعبد الله ويطيعه وحده لا شريك له لأنه هو النافع والضار على الإطلاق، وهو خالق كل شيء، وكل من لا يكون نافعا ولا ضارا فليس بخالق يستحق العبادة لأن العبادة هي الطاعة والخضوع والانقياد لله وحده سبحانه وتعالى. أما الكلمة الطيبة - وهي لا إله إلا الله - قد دلت على ألوهيته الثابتة له تعالى ثبوتا مستمرا، وقال حجة الإسلام الغزالي في باب "الصدق" من (الاحياء) "كل ما تقيد به العبد فهو عبد له، كما قال عيسى عليه السلام: يا عبيد الدنيا" وقال نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، وعبد الحلة وعبد الخميصة" (¬1)، وكل من تعلق قلبه بشيء فهو عبد له، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (سورة الجاثية) وإذا تبين لك دلالتها على جميع مراتب التوحيد ظهر لنا أن الشارع لأمر ما جعلها مفتاحا للدين ومهداة الانام، وفي حديث أخرجه ابن النجار عن دينار عن أنس: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لا إله إلا الله دالة على الله تعالى من قالها مخلصا استوجب الجنة" وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة"، وحديث ¬

_ (¬1) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم من حديث صالح بن صالح .. ورمز السيوطي إلى صحته

البطاقة أشهر من أن يذكر وكذلك الحديث القدسي المروي عن علي الرضا عن آبائه عليم السلام: "وجاء من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة بلا حساب" وما هو الفرق بين ذلك وبين من قالها ولم تكن آخر كلامه في الدنيا. أجمع المسلمون على معرفة الله تعالى وإان اختلفوا في الوسائل شرعا وعقلا أما النظر في معرفة الله تعالى لا خلاف بين أهل الإسلام لوجوبه، لأنه أمر يتوقف عليه الواجب، وكل أمر يتوقف عليه الواجب فهو واجب شرعا كما رأى الصحابة - رضي الله عنهم -، وعقلا إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال. أما كون النظر الذي يتوقف عليه التوحيد ليس ضروريا بل هو نظري ومحل الخلاف في وجوب النظر في أصول الدين وعدم وجوبه في غير معرفة الله تعالى أما النظر فيها فواجب إجماعا كما ذكره سعد الدين التفتزاني ورجح هذا القول الإمام الرازي والآمدي وقال بعض العلماء في ذلك: إن المطلوب هو اليقين لقوله تعالى عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وقال أيضا للناس: {اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. ولا يتم اليقين إلا بحصول النظر ولهذا لم يجوز بعض العلماء التقليد في الأصول والبعض منهم أجازوه لكن بشرط العقد الجازم لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي من الناس بنظق الشهادتين تحت ظلال السيوف إذا كانت معتقدا لمضمونها على وجه الإذعان، وعدم كونه معتقدا لها احتمال عقلي. والذي أوجب النظر من المحققين لم يرد به النظر عن طريق المتكلمين بل صرح بعضهم أن المعتبر في النظر هو طريق العامة، ويكفي دليلا على صحة إيمان المقلد. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتفي هو وأصحابه من عوام العجم وأجلاف العرب بمجرد الإقرار بالشهادتين ولو كان الاستدلال فرضا لأمروا به بعد النطق وللقنوه لهؤلاء الأجلاف كما كانوا يلقنونهم الواجبات الشرعية ولم ينقل أحد من الصحابة أنهم أمروا ممن دخل في الإسلام بالاستدلال وترديد النظر ولا سألوه عن دليل تصديقه ولا أرجأوا أمره حتى النظر.

فلو كان النظر واجبا على الأعيان ولو إجماليا على طريق العامة لما اكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أولئك العوام والأجلاف بمجرد الإقرار، لأن النبي وأصحابه لا يقرون أحدا على ترك الواجب من غير عذر. إذ أن المقلد غير آثم على ترك النظر بل إيمانه ثابت وصحيح ويشهد لذلك ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد "عند اعتذاره عن قتل مرداس بن نهيك" من أهل فدك وغيرهم من الأخبار الكثيرة قال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} وقد روي مرفوعا أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن شرح الصدر فقال: "نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح صدره" (¬1). فصرح أنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال. وقد صرح بعض المحققين بأن توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو علم ضروري وجدوه في أنفسهم لم يقدروا على دفعه. ومن أهل الفطرة من وجد فيه الإيمان كذلك بل قد صرحوا بأن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه فكم من آمن بلا دليل. وقال الإمام الغزالي حجة الإسلام في كتابه "فيصل التفرقة" ومن أشد الناس غلوا ونكرا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررنا بها فهو كافر .. فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جعلوا ما تواترت به السنة وراء ظهورهم، وظهر في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعصر الصحابة باسلام على طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الأوثان ولم يشتغلوا بتعليم الدلائل ولو اشتغلوا بها لم يفهموها ومن ظن أن الإيمان بالكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد النجعة بل إن الإيمان نور يقذفه الله في قلب عبده عطية وهداية من عنده تارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين سرى نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينه حال. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم، رواه عبد الرزاق.

فقد جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاحدا منكرا فلما وقع وجهه على طلعة النبي - صلى الله عليه وسلم - البهية وغرته الغريرة السنية فرآها يتلألأ منها نور النبوة، قال: والله ما هذا بوجه كذاب، وسأله أن يعرض عليه الإسلام، فأسلم. وجاء آخر فقال: أنشدك الله بعثك الله نبيا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بلى إني والله، الله بعثني نبيا. فصدقه بيمينه وأسلم. فهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى .. ولم يشتغل أحد بالكلام وتعلم الأدلة بل كانت تبدو أنوار الإيمان بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد وضوحا وإشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة كتلاوة القرآن وتصفية القلوب. ليت شعري من نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة إحضار أعرابي ولقنوه الدليل على أن العالم حادث لأنه لا يخلو عن الأحداث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. وأن الله عالم بعلم وقادر بقدرة كلاهما زائد عن الذات إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين .. بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من أجلاف العرب أو غيرهم يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأسرى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب منه. وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صنيعتهم لرعاية الغنم أو غيرها، لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس، ولكن ذلك ليس بمقصود عليه وهو نادر. وساق الكلام إلى أن قال والحق الصريح أن كل من اعتقد أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما اشتمل عليه القرآن فهو الحق اعتقادا جازما فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلة. فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جدا مشرف على التزلزل لكل شبهة بل الإيمان الواضح إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا وأثر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها- انتهى-

لا تكليف إلا بشرط العقل

لا تكليف إلا بشرط العقل العقل في الإسلام له دور فعال في الإيمان بالله عز وجل، وفي الحياة ونظامها، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تحث المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها على إهماله ... ولقد حدد الإسلام دور العقل، فمن وظيفته أن يفهم الرسالة التي جاء بها سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيتلقى عنه دلائل الهدى وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق. العقل ليس أصلا لثبوت الشرع، فإن الشرع منزل من عند الله ثابت بنفسه. سواء علمناه بعقولنا أم لم نعلمه وهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا إلا أننا محتاجون إليه حتى نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا علم ما هو عليه الشرع صار عالما، وإذا لم يعلمه كان جاهلا. والمنقول الصحيح من الآيات والأحاديث لا يعارضه العقل كمسائل التوحيد و (عقائد) صفات الإله، والنبوات والمعاد والرسل عليهم السلام. لا يخبرون بمخالفة العقل، وإنما يخبرون بما عجز عنه، وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول والرفض بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله، إلا أنه ملتزم بأحكام الدين إذا بلغت إليه عن طريق صحيح ... إن الإسلام دين العقل بمعنى أنه يخاطبه بمقتضاه ومقرراته، ولا يقهره بخارقة مادية لا مجال فيها إلى الإذعان، ويخاطب العقل بمعنى أنه يصحح له مناهج النظر ويدعوه إلى تدبر دلائل الهدى وموجبات الإيمان والنظر في الأنفس والآفاق، ويخاطب العقل بمعنى أنه يكل إليه فهم مدلولات النصوص التي تحمل مقرراته، ولا يفرض عليه أن يؤمن بما لا يفهم مدلوله ولا يدركه، فإذا وصل العقل إلى مرحلة إدراك المدلولات وفهم المقررات، ولم يعد أمامه إلا التسليم بها فهو مؤمن، وعدم التسليم بها فهو كافر. العقل ميزان صحيح غير أنك لا تستطيع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء الطبيعة ...

وإذا تبين ذلك، فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الاتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت على أن تكون مدركة فيتيه العقل في بيداء الأوهام، وينقطع فإذا التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب، وهذا معنى ما نقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "العجز عن الإدراك إدراك" ويقول ابن خلدون التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب. سأل دعلب اليماني عليا- كرم الله وجهه- هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين فأجابه: أفأعبد ما لا أرى؟ فقال دعلب: وكيف تراه؟ قال: لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه العقول بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء، غير ملامس، بعيد منها غير مباين لها، متكلم لا بروية، مريد لا بهمة، صانع لا بجارحة، لطيف لا يوصف بالخفاء، بصير لا يوصف بحاسة، رحيم لا يوصف بالرقة، تعنو الوجوه لعظمته وتجل القلوب من مخافته. وقول الإمام الهاشهي- كرم الله وجهه- "لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه العقول بحقائق الإيمان" إشارة إلى أن الإدراك ليس ادراكا عقليا مباشرا، وإنما هو إدراك لا يقع في الشعور والحس من إيمان لا يدرك بالعقول. ووظيفة العقل هي إدراك ما يقع له من مظاهر الوجود، وقد ينتج الإدراك معرفة، ولكن الإيمان أكبر من الإدراك، وأعلى من المعرفة. وسئل الصديق الأكبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه بم عرفت ربك فقال: عرفت ربي، ولولا ربي ما عرفت ربي، فقيل له وهل يتأتى لبشر أن يدركه؟ فقال العجز عن الإدراك إدراك ويعلق العز بن عبد السلام على هذا الخبر بقوله: "ومعنى هذه الإشارة الصديقية: إن الحواس الخمسة التي هي آلات الإدراك لسائر المحسوسات لا وصول لها لإدراكه فإذا علمت أن الحق سبحانه منزه عن إدراك الحواس لكن ذاته وصفاته لعجزها عن إدراكه، فقد عرفت الحق ... ربما يفهم من القول: بأن العجز عن الإدراك إدراك" أن الإيمان المستولد من العجز عن الإدراك إيمان باهت وأنه ليس بشيء والحق أن العجز عن الحقيقة الكبرى حقيقة الوجود العليا ليس هو العجز الذي يعقبه اليأس ويتبعه القنوط، وإنما هو إلهام

روحي، ومن أجل هذا كان الإيمان بالله عز وجل لا يرتاد إلا النفوس التي حل بها الطهر وزكاها العلم، ولا يكودما إلا في النفوس التي خلت من الشك والريب، وسلمت من الزيغ ... الإسلام يطرح العقيدة على العقل على أساس النظر والفكر ليستقر الإيمان في نفس المخاطب، وجذور هذه العقيدة ضاربة في الكون والنفس والبشر {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (سورة فصلت). كما هي مودعة في الكتاب الكريم {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (سورة البقرة) {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (سورة ق). إن الإيمان بالله عز وجل وما أشكل عليه قضية خطيرة قضية تحديد قوة عليا تستوعب الزمان والمكان والإنسان قضية تحديد حياة أخرى لا تقاس بملايين السنين إنه الخلود، ومن تسنى له أن يخوض هذه القضية الكبرى- أي قضية الإيمان- عقليا فيغدو مؤمنا حقا ويكون قد مر بتجربة فكرية اكتسبته مرانا رائعا على التجرد من العقائد الزائفة، ومن شأن هذا المران أن يطيع العقل الإنساني بطابع التثبت والاتزان، والمؤمن الذي يراقب الله بحذر من التسرع قال الله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (سورة الإسراء) فإذا آمن الناس بالحقيقة الكبرى إيمانا عقليا وآمنوا برسوله وكتابه إيمانا عقليا أليس من المعقول أن يسلم العقل فيما تعجز عنه حواسهم الحسية من النصوص الواردة من القرآن والحديث في الجنة والنار والملائكة والشياطين؟ سيما وقد قبلوا الأصول الكبرى عن طريق العقل، وهذه التفصيلات الغيبية محدودة في النصوص الصحيحة .. لقد عرض الله قضية الإيمان على العقل، وأخذ بيده إلى الكون، وخاطبه بالبرهان. ولكن المؤمنين غافلون عن حقيقة إيمانهم، فأصبحوا لا يستخدمون عقولهم في معرفة العقيدة حتى يعرفوها معرفة جيدة،

وكلما أمعنوا النظر والتفكر في الكون والمخلوقات المشاهدة إلا وازدادوا إيمانا بالله عز وجل، وعلما به، وخشية منه، ولكن لا يبحثون عنها بدعوى أنها مقدسية لا تمس، أو بدعوى أنها تتعطالى عن العقول، ولو قدر الناس حرية العقيدة الدينية لما تململوا من البحث والنقاش فيها، وهذا النقاش ليس من الجدل المحظور التي وردت فيه الأحاديث الشريفة بالنهي عنه. قضية العقيدة خطيرة جدا لأن خطأها يطبق على الإنسان طول العمر، وفي ظلمات القبر، ومن بعد ذلك يأتي البعث والحساب في عالم الخلود. كيف لا يفكر الإنسان في قضية المعاد؟ وإننا نرى الموت تقصم رقاب الجبابرة والطغاة والظلمة الذين لم تزل قلوبهم عن الموت نافرة حتى جاءهم الوعد الحق فأرداهم فنقلوا من القصور إلى القبور، ومن الضياء إلى ظلمة اللحد، ومن ملاعبة النساء إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن الأنس إلى وحشة القبر، ومن صحة الذات وتنعمها إلى تشويهها وتمزقها ... فسبحان من انفرد بالقهر والاستيلاء، واستأثر بالبقاء، وسبحان من جعل الموت مخلصا للأتقياء، والقبر سجنا للأشقياء .. من كان الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، كيف لا يفكر في قضية البعث والحساب؟ كيف لا يذكره ولا يستعد له، ولا يتدبر في مصيره ولا يهتم به؟ كيف لا يعد نفسه من الموتى، وهو يرى كل يوم يحمل إلى القبور من أهله وذويه وأقربائه وأصدقائه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" (¬1) وقساة القلوب يغفلون عن الموت حتى يهجم عليهم فجأة، وإذا ذكروهم به نفروا منه، هؤلاء هم الذين قصدهم القرآن بقوله: {إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} ما دام هناك إيمان ¬

_ (¬1) رواه أحمد وابن ماجه والحاكم والترمذي قال: حديث حسن. عن شداد بن أوس.

بذلك اليوم الموعود ينتفع الإنسان من استعمال عقله في تثبيت الإيمان في قلبه وصيانته، ولكن ذوي العقول الممتازة العارفين بالله هم الذين يستطيعون مجاهدة الأهواء. وأخلص مراتب التوحيد التي بنيت على النظر والاستدلال كما يقال ... إذ كل من قلد في التوحيد إيمانه لم يخل من ترديد الكفر جحد الحق- والحق هو الله سبحانه وتعالى، فمن طلب الحق خاليا من الغرض والهوى فقد بريء من الكفر .. أما المغضوب عليهم والضآلون، فهم ممن وصفهم القرآن بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (سورة النمل) وقال أيضا: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (سورة الأنعام).

من ثمرة العقل معرفة الله الضرورية والمكتسبة

من ثمرة العقل معرفة الله الضرورية والمكتسبة من أشرف ثمرة العقل معرفة الله تعالى وحسن طاعته والكف عن معصيته وعلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "العقل ثلاثة أجزاء: جزء معرفة الله، وجزء طاعة الله، وجزء الصبر عن معصية الله" (¬1)، وقال عليه الصلاة والسلام: "الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء، وماله العفة، وثمرته العلم". فمعرفة الله العامة مركوزة في النفس وهي معرفة كل أحد أنه مفعول وأن له فاعلا فعله ونقله. وأما معرفة الله المكتسبة، فمعرفة توحيده وصفاته، وما يجب ان يثبت له من الصفات وما يجب أن ينفى عنه، وهذه المعرفة هي التي دعت إليها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قالوا كلهم: قولوا لا إله إلا الله، ولم يدعوا إلى معرفة الله تعالى، بل دعوا إلى توحيده، وهذه المعرفة هي المكتسبة، وتكون على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: لا يكاد يدركه إلا نبي وصديق وشهيد ومن داناهم وأنها تكون بالنور الإلهي بحيث لا يعتريه شك كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (سورة الحجرات). والوجه الثاني: يدرك بغلبة الظن، أعني الظن الذي يفسره أهل اللغة باليقين كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (سورة البقرة). الوجه الثالث: يدرك بخيالات ومثل وتقليدات فيقول الله في حق هذا الصنف من الناس: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (سورة يوسف). ¬

_ (¬1) رواه أبو نعيم عن أبي سعيد مرفوعا- وفي إسناده- سليمان بن عيسى- وضاع.

فالوجه الأول يجري مجرى إدراك الشيء من قريب ولذا قال الله في حقهم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (سورة ق) والثاني يجري مجرى إدراك الشيء من بعيد، وقد تعتريه شبهة لكن تزول بأدنى تأمل كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (سورة الأعراف). الثالث يجري مجرى من يرى الشيء من وراء ستر من بعيد فلا ينفك من شبهات كما أخبر تعالى عن هذه حالته بقوله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (سورة الجاثية). ولأجل معرفة الله على الحقيقة يجب أن يتخلص من آفات الشرك، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (سورة يوسف) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (سورة الزمر)، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (سورة البينة)، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (سورة الزمر)، وقال عليه الصلاة والسلام: "من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة" (¬1). وغاية معرفة الانسان ربه أن يعرف أجناس الموجودات وجواهرها وأعراضها المحسوسة والمعقولة، ويعرف أثر الصحة وأنها محدثة وأن محدثها ليس إياها ولا مثالها بل هو الذي يصح ارتفاعها مع بقائه تعالى: ولا يصح بقاؤه وارتفاعه، وبهذا النطر قال أبو بكر الصديق (ض) "سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته"، بل لهذا قال عليه الصلاة والسلام: "تفكروا في خلق الله، ولا تتقكروأ في ذات الله" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البزار عن أبي سعيد- صحيح- (¬2) رواه أبو نعيم في الحلية- عن أبي هريرة- وهو حسن-

ولما كانت معرفة الله تصعب على كل إنسان لقصور فهمه جعل له من نفسه وبدنه عالما صغيرا أوجد فيه ما هو موجود في العالم الكبير ليجري ذلك من العالم مجرى مختصر كتاب بسيط يكون مع كل أحد نسخة يتأملها في الحضر والسفر، وفي الليل أو في النهار، فإن نشط وتفرغ إلى العلم نظر في العالم الكبير ليعزز علمه ويتسع فهمه وعقله وإلا فله مقنع بالمختصر الذي معه، ولذا قال الله عز وجل: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (سورة الذاريات). قال ابن الخطيب في تفسير هذه الآية: لو تأملتم في أنفسكم لوجدتم العجب العجاب، أنظروا مثلا كيف أنشأكم ابتداء من طين، ثم كيف خلقكم من نطفة في قرار مكين، بل أنظروا إلى النطفة نفسها، وكيف يتكون منها الجنين الذي لا يتكون إلا من الاتحاد بين جرثومة الذكر وبويضة الأنثى وبذلك تتكون الخلية، يحدث انقسام بينها إلى خليتين، ثم انقسام آخر لكل من الخليتين، ثم آخر للمنقسمين، وآخر، وآخر، وهكذا دواليك إلى أن يصل العدد إلى أربعين خلية من الخلايا، حتى يزيد مجموع الخلايا التي يتكون منها الإنسان الواحد عن سكان الكرة الأرضية أكثر من ألف مرة. وكل خلية من هذه الخلايا تعيش بمعزل عن هذه الخلايا كل منها بمثابة مصنع للإنتاج. فمنها ما ينتج الشعر، ومنها ما ينتج الأظافر، ومنها ما ينتج العظام، ومنها ما ينتج الدم وهكذا ... ومتى نضجت هذه الخلايا، واكتمل نموها، تخصص كل منها في تكوين نوع واحد من الأنسجة والأعضاء. ومن هذه الخلايا ما ينتج الجهاز العصبي الذي يتوقف عليه إيصال الرسائل من الحواس والأعضاء المختلفة إلى المخ، ومن المخ تنتقل إلى الرسائل التي هي بمثابة أوامر وأحكام إلى العضل والأطراف التي تتحرك بموجبها تبعا للظروف المحيطة بالإنسان وإلى الغدة الجمة، فتفرز سائلا معينا وفقا للحالة التي يجابهها الشخص كالدموع واللعاب. مثال ذلك: إذا أبصر إنسان لصا أمامه بيده خنجر: فإن الجهاز الشخصي يوجه إلى المخ إشارة بذلك الخطر المحدق، فتتلقى الجوارح من

المخ إشارة بما يجب اتباعه وقد يشير المخ تبعا لسلوك شخص الإنسان بالفرار من اللص، أو بالهجوم عليه، وانتزاع الخنجر من يده، أو بمبادرته بطلقة من مسدس، أو ضربة من عصا ونحوها على أن الزمن الذي تستغرقه هذه الرسائل الذاهبة والآتية- يدق على أي آلة أو أداة لا سلكية لا يتجاوز ذلك الزمن إلا جزءا من مائة جزء من الثانية الواحدة. فعلاقة الحواس بالمخ علاقة ثابتة ما ثبت الوعي والإدراك اللذان يتفرع منهما التمييز والتصور والذاكرة، والتعليل والطموح، وإدراك الهدف. ولا يخفى ما في خلقة المخ من أعاجيب وغرائب، فمن أعجب الأعاجيب إختزان العلوم والمعارف والمدارك والمحفوظات، واستخراج ما يريد من ذلك من سجلاتها المرتبة المبوبة في ظرف ربما لا يتجاوز ارتداد الطرف فبواسطته وذبذباته يعجز اللسان عن وصفها ويضيق الجنان عن الإحاطة بها. هذا وقد دل الفحص المجهري على أن عدد الخيوط العصبية في المخ يتجاوز عشرة آلاف مليون .. كل واحد منها تدب فيه الحياة، ويحمل وظيفة عضوية يؤديها على أكمل وجه. وعلى هذا المنوال تؤدي أجسامنا - بما احتوت عليه من أعضاء- وظائفها ذات الأهداف المتباينة بغير وعي منها، الأمر الذي يدل دلالة قطعية، على أن هناك إرادة عليا تسيرها وتوجهها. ولو لم يكن في بديع صنع الإنسان: سوى أنه يأكل الطعام، ويشرب الشراب في مدخل واحد ثم يخرج كلاهما من مخرج منفصل عن الآخر. لكفى ذلك عجبا. وناهيك بما يفعله الجسم بالطعام والشراب حين يهضمهما ويأخذ أطايبهما ثم يلقى بنفايتهما بعد أن يستنفد وقوده، ويأخذ حاجته ويستوعب كفايته .... فتبارك الله أحسن الخالقين .... ولو تأملتم حواسمك لوجدتم أعجب العجاب. أنظروا إلى حاسة اللمس وكيف أنكم تستطيعون بها الفرق بين الناعم والخشن، والبارد والحار، واللين والرخو، وانظروا أيضا إلى حاسة الشم، وكيف تستطيعون بواسطتها

معرفة زكي الرائحة من رديئها وطيب النهكة من فاسدها، وانظروا أيضا إلى حاسة الذوق، وكيف تستلذون بواسطتها على تذوق الأصناف والطعوم ومعرفة الحلو والحامض، والمر والمالح. وكذلك البصر وانطباع المرآة عليه وانعكاسها على صفحة المخ لتترك آثارها. وكذلك السمع، وانقلاب المسموعات إلى مفهومات وانطباعها في حافظة المخ لتزوكم به وقت حاجتكم إليه. وهكذا سائر الأعضاء بما وهب لها الله تعالى من مزايا يضيق الخاطر عن حصر فوائدها ومنافعها. فإذا ما فكر الإنسان في خلقة نفسه، ودقة حواسه، وتأمل هذه الآيات والأدوات التي صاغها الخلاق العليم، وبرأها المدبر الحكيم. وهل يستطيع الإنسان بما أوتي من علم ومال، وجاه وسلطان أن يستعيض عن أحدها لو سلبها أو أن يردها بعد تلفها، أو أن يفهم كنهها، ويعرف سر تركيبها. حقا لو تأمل الإنسان بعض ذلك لما وسعه إلا أن يقول .. {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}. ومع هاتيك الدلائل المتظاهرة على وجود الله تعالى واستناد عالمنا في نشأته على قدرته جل جلاله. ومع إطراد البراهين على ان الدين حق وأن تعاليمه مناط الرشد، وطوق النجاة. ومع ذلك كله فبين الحين والحين نسمع أمرأ مهزوز الرأي، والضمير يهرف بما لا يعرف ويظن الناس أن من أعلن الكفر بالله واليوم الآخر إنه في عداد العباقرة ذلك أن الطريقة التي تكون بها الجسم، والتي يحيا بها آنا بعد آن أروع وأبدع ألف ألف مرة من أعظم المنجزات، والكشوف التي عرفناها في هذا الزمن وغيره.

البحث عن معرفة الله سبحانه وتعالى

البحث عن معرفة الله سبحانه وتعالى هو علم أصول الدين وهو أشرف العلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، لأنه لا حياة للقلوب إلا بمعرفة ربها وبأسمائه الحسنى وبصفاته وأفعاله، ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ربها على التفصيل، ولهذا بعث الله الرسل معرفين به وداعين إليه، ولمن أجابهم مبشرين ولمن خالفهم منذرين ... ومن الأسباب الموصلة إلى معرفته تعالى هو هذا الوجود الذي تمخر بنا سفينة الحياة عبابه، وتنقلنا بين أغواره وشطآنه، وتتدافع بنا في سكونه واضطرابه. هذا الوجود أغرى الإنسان منذ استهل في الحياة بالنظر إليه، والتأمل فيه والبحث عن أسراره الكامنة في كل كائن من كائنات الوجود، مع أن الوجود، كتاب يستطيع كل إنسان أن ينظر فيه، وأن يقلب صفحاته إلا أن كثيرا من الناس يمرون بآيات هذا الكون دون أن يصل شيء منها إلى عقولهم، ودون أن تحرك فيهم شعورا، وتثير عاطفة، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} (سورة يوسف). وقد رأى المعري أن الحياة حين تدب في الكائن الحي تكون أشبه بالدخان، ثم تشتد فتكون نارا، ثم تخمد فتصير رمادا هكذا يقول: تبدأ ضئيلة خافتة، ثم تقوى شيئا فشيئا حتى تبلغ غايتها، ثم ينتهي أمرها إلى الخمود فتكون رمادا ... في هذا السبيل حشدت الإنسانية كل ما تملك من قوى الإدراك لكشف الطريق إلى تلك الحقيقة. كانت المهمة الأولى رسالات الرسل، ودعوات الأنبياء، فما كانت تلك الرسالات إلا تصحيحا لعقيدة الناس في الإله أو شرحا لها في المحصول الذي خلفه العلماء في مختلف الأمم في جميع الأجيال من المذاهب والأراء التي تدور حول الإلهيات وما يتصل بها. وسائل البحث عن الله سبحانه وتعالى العقل، فهو الرائد بمسالك الطريق الدالة على الله ... وما الإنسان إلا بهذا العقل الذي اختصه الله به

وكرمه، ورفع به منزلته بين المخلوقات وبهذا العقل قد استأهل، أن يكون خليفة الله في الأرض وأنه يرى في نفسه القدرة على حمل الأمانة التي عجزت عن حملها السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ... والعقل الذي يحمله الإنسان هو سلاح ذو حدين قد يكون مصباحا يضيىء أو شهابا يحرق أو يحترق يستطيع العقل أن يعرف الله معرفة واضحه إذا وقف من هذا الوجود موقف المتأمل البصير الذي يفرق بين الحق والباطل، ويستدل على الخالق بالمخلوق فتلك هي وظيفة العقل في التعرف على الله، وبهذا العقل المتزن الرشيد عرف العارفون ربهم وتعرفوا عليه وآمنوا به .. كيف يبحث الإنسان عن معرفة الله في هذه الكائنات؟ لهذا الوجود المحيط بنا وجهان، وجه ظاهر يلقاه المرء بحواسه ويتجاوب معه بمشاعره، ووجه آخر خفي لا يقع في مجال الحس والمشاهدة فلا يستجيب لدعوة الحواس، ولا يكون في متناول العقل، وإنما يحس به الإنسان ببصيرته ... هذا الوجود بوجهيه الظاهر والخفي قد شغل الإنسان بالبحث منذ برز إلى الوجود عن مالك هذا الوجود ومدبر أمره ومصرف شؤونه. وفي الإنسان نوازع نفسية تدعوه إلى البحث عن الله وهو إذ يستجيب لهذه النوازع إنما يستثير كل قواه، ويستخدم كل ملكاته إلى أن يتعرف إلى الله سبحانه وتعالى ... فالإشارات التي تشير إليه إنما تنبعث من كل موجود من النبتة الصغيرة إلى النخلة الباسقة، من النملة التي تدب على الأرض إلى النسور المحلقة في الهواء، ومن كل كائن في الأرض إلى كل كوكب ونجم في السماء، ففي كل كائن من هذا الوجود أكثر من إصبع تشير إلى الخالق العظيم وتدعو إليه. فالطريق إلى الله إذا متعدد المناهج والمسالك فإذا أردنا أن نتعرف إلى الله فلا نجد أكمل من هذا المنهج الذي يجعل الوجود كله كتابا يقرؤه الإنسان في حروفه وكلماته وأسطره وصفحاته وفصوله وأبوابه فكل هذه الآيات تدل على وجود الإله وتتحدث عن جلاله وعظمته وقدرته وحكمته.

فهذا الكتاب- أي كتاب الطبيعة- واقع تحت أنظار الناس جميعا ليس لأحد عذر إن هو أغلق حواسه، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة كي لا يعرف الله، ولا يتعرف إليه، فمن فعل هذا أهدر آدميته وتنكر لإنسانيته وأسقط حسابه من عالم الناس، ودخل إلى عالم الحيوان الأعجم ... إن منهج الشريعة الإسلامية في الدعوة إلى الله والإستدلال عليه، والتعرف عليه هو هذا المنهج الفطري الذي سلكه الإنسان، فقد دعا الإسلام إلى النظر في ملكوت السماوات، والأرض وجعل هذا النظر والتفكر هو المنهج القويم لمن يريد أن يعرف الله ويؤمن به. وقد أشار القرآن الكريم إلى أكمل الناس عقلا وأرشدهم سبيلا فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (سورة آل عمران) وقال أيضا مشيرا إلى أسرار حكمته وكمال قدرته: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (سورة الغاشية) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة البينة التي تدعو العقل إلى استعمال حقه في هذا الوجود الذي نشاهده. آثار الله سبحانه وتعالى تتجلى لنا في هذا الوجود الذي تعمل فيه حواسنا وعقولنا دون أن تقع في مجال الحس والإدراك، ولهذا فرض الله سبحانه وتعالى معرفة ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله على العباد من خلال آثاره في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين للناس جميعا أنه الحق. فبذلك نعرف الخالق العظيم. فكيف يكون الموقف مع الخالق العظيم، والمصور المبدع وما أبدع وصور في هذا الوجود من المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى، فماذا تأخذ، وماذا تدع؟ ومن أين تبدأ، وكيف تنتهي؟ فتجد نفسك بعد النظر في

المخلوقات، والتأمل فيها متشوقة إلى رؤية هذا الخالق العظيم. إذا أردت أن تعرفه فادرس هذا الوجود عندئذ تتعرف إلى الله سبحانه وتعالى، فالله قد مهد للناس الطريق إليه، وأقام على جوانبه معالم الهداية والرشاد فنظرة إلى البحر فيها كل معالم الحلال والعظمة تكفيك عن هذا الوجود كله. أما إذا كنت ممن يتعمقون في بحث المخلوقات فبحسبك قطرة ماء، قطرة واحدة بالتحديد، وعالجها بوسائل العلم الحديث فسترى أنها عالم كبير مليء بالأسرار. إن أدنى المخلوقات منزلة وأهونها شأنا وأصغرها جرما لتحمل كل آيات الإبداع للمبدع الذي تذهل له العقول وتحار فيه الألباب ولست أجد أروع وأبلغ من القرآن الكريم في الدفاع عن قضية الألوهية، وإفحام المجادلين وآتى بمثالين منه: الأول: أدعوك أيها القارئ- أن تنضم إلى هذا المجتمع الذي يجتمع فيه الناس جميعا الذي تحمله الآية إلى كل عقل، وأدعوك ثانيا أن تجهز نفسك لهذا الجمع فلا تذهل عن وجودك، فإنك مطالب بأن تسمع وتعي، وأن تنتهي إلى رأي فيما سمعت ووعيت أمستعد أنت؟ فهذا صوت الحق يهتف بك وبالناس جميعا استمع إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (سورة الحج). ذبابة واحدة لا غير إنها تقف وحدها في جبهة والناس جميعا في الجبهة المقابلة لها إنها توضع في كفة الميزان والناس جميعا في الكفة الأخرى، وإنها لترجح بهم جميعا. الذبابة تتحدى الناس جميعا في كل أمة، وفي كل زمان تتحدى العلم الذي صعد بالناس إلى كواكب السماء، هؤلاء الناس لن يخلقوا ذبابا واحدا ولو اجتمعوا له. هذا أنتم أيها الناس، وهذه الذبابة هاتوا ما عندكم من علم، واجمعوا ما عندكم من العلماء ودوروا مع الزمن دورات ودورات فلن تخلقوا ذبابا. هذا الذباب إن سلبكم شيئا علق برجله أو بجناحه، أو بفيه ماذا أنتم صانعون

معه؟ لن تستطيعوا أن تستنقذوه منه لقد أفلت بصيده- إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه. الذباب ضعيف كيف يسلبكم شيئا تعجزون عنه ضعف الطالب والمطلوب. المثال الثاني: بين الله سبحانه وتعالى نشأة الإنسان وتكوينه وتطويره حتى أبرزه إلى الوجود على هذه الصورة البديعة الشكل في آيات بينات من القرآن الكريم وعرضها على الإنسان ليعرف عنصره المادي الذي خلق منه وهو التراب، ومنه ينمو، وركب الميول فيه إلى الذي تتطلبه ذاته فكانت هذه الآيات الكريمة مظهرا من مظاهر عظمته وقدرته وحكمته، لعل هذا الإنسان يثوب إلى رشده ويتدبر ما في الكون من آيات الله، وفي نفسه وهذا أقرب باعث على إيقاظ الإيمان بالله والإعتراف به قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} يكفي أيها الناس أن تنظروا إلى أنفسكم فإ نها عالم رحيب وكون فسيح تمعنوا في حياتكم من وجودكم نطفة إلى أن صرتم رجالا تجدون آيات بينات دالات على قدرة الخالق العظيم. تدبروا كيف كان هذا الإنسان نطفة؟ وكيف خلق؟ ومن ثم عمر الأرض وتسلط على حيوانها ونباتها وجمادها وكيف كان قبل وجوده، وما هو عليه الآن من الصنع العجيب والتركيب المحكم والحواس المرهفة المتناسقة في إحكام بديع وإتقان عجيب؟ وكيف زود بالعلم والمعارف والإحساس والشعور حتى صار يرى الأشياء المخفية عليه بعقله؟ من الذي جهزه بهذه الأشياء كلها وخصه بوسائل الإدراك حتى فضل على سائر المخلوقات الأرضية وكيف نفخ فيه الروح؟. يجب على الإنسان أن ينظر إلى أصل نشأته وتطوره في الحياة، فإنه يرى أن يدا حكيمة قادرة أوجدته من العدم إلى الوجود على هذه الصورة الرائعة من الحسن والجمال التي لا وجود لشبه بينه وبين التراب وقد جعله الله خليفة على هذه الأرض. كيف لا يولي هذا المخلوق وجهه إلى فاطره ومصوره ولا يدين لخالقه بالطاعة والولاء؟ قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا

الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (سورة المؤمنون) السلالة هي صفة ماء مني آدم وهو من طين، أو السلالة هي أصل الإنسان، وهي السلسلة التي يمتد بها أصل الشيء حتى يصل ما بين مبدئه وغاياته، والآية الكريمة تشير إلى أن الإنسان في تكوينه وتطويره وخلقه قد مر بأطوار كثيرة بين عالم التراب والنبات وسار مسيرة طويلة في سلسلة منتظمة الحلقات من الطين إلى الحمأ المسنون كما قال سبحانه وتعالى على لسان إبليس لعنه الله {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (سورة الحجر) قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}. ما الإنسان إلا هذه النطفة وما اشتملت عليه من قوة عاقلة ناطقة مبصرة سميعة مريدة. كانت النشأة الأولى لهذا الإنسان من التراب، وفي هذا التراب كانت تكمن جرثومته الأولى كما تكمن النطفة في قرار مكين، ولكن شتان ما بين الجرتومة التي تكمن في التراب والنطفة التي تستقر في الرحم، فالجرتومة من مادة التراب والنطفة كائن بشري. وفي مواجهة المراحل الكثيرة التي مر عليها الإنسان كان كالنبات حيث تخرج الحبة نباتا مثل النبات جاءت منه النطفة التي خلق منها الإنسان وإن بدت في مرأى العين مجرد ماء فهي في حقيقتها ماء مشوب بأشياء أخرى أودعتها فيه قدرة الله جل وعلا، كما أودعت في البذرة صورة الشجرة ولون زهرها، وطعم ثمرها كذلك هذه النطفة قد حملت في كيانها صورة الإنسان ولهنه ومستوى إدراكه، ومستودع عواطفه ومشاعره بحيث يتميز كل إنسان على غيره من بني جنسه في طباعه وعواطفه. قال تعالى في سورة الإنسان: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}. الأمشاج هي الأخلاط مزج الشيء خلطه. خلق الإنسان للإبتلاء، ولم يخلق عبثا لأنه حمل أمانة التكليف التي لم تستطع السماوات والأرض حملها فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحمالها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.

هذه النطفة تخرج من بين الصلب والترائب. صلب الرجل هي فقار ظهره والترائب هي موضع القلادة من صدر المرأة. قال تعالى: في (سورة الطارق) {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} كل إنسان معه عقله فلينظر بهذا العقل إلى قدرة الله في ذاته والأشياء مودعة فيها من العقل والسمع والبصر وتراكيبها المحكمة، فإنه لو نظر بعين عقله لعرف طريق الحق وسلك مسلك الهدى فمن أين خلق الإنسان والعقل والتفكير؟ خلق من ماء دافق ... هذه النطفة خلق منها الذكر والأنثى قالى تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (سورة القيامة) هذه الآية الكريمة دليل من الأدلة الكاشفة على قدرة الله هي بعث الموتى من القبور. الإنسان الكافر ينكر البعث ويستبعده، فلينظر إلى قدرة الله كيف خلقته؟ ليعلم من أين بدأ؟ وكيف صار؟ وإلى أين ينتهي؟ فخلق فسوى خلق الله تلك العلقة صورا وأشكالا فسواها في تركيبها العجيب المحكم وسواها حالا بعد حال، وخلقا بعد خلق حتى كان منها هذا الإنسان العاقل المفكر الذي يملأ الدنيا خيرا وشرا، وبعد ما ينتهي أجله فيموت، وينتقل من هذا العالم إلى العالم الباقي عالم الجزاء والحساب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} (سورة الحج) حيث كنتم لا وجود لكم ولا أثر يدل عليكم. ثم خلقتم من تراب كما تنبت الشجرة ثم كان تناسلكم في الأرض كما تتوالد وتتناسل الكائنات ... قال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (سورة المؤمنون) عبر القرآن بلفظ {جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} والجعل دون الخلق إذ هو وظيفة من وظائف المخلوق تتحرك النطفة نحو غايتها إلى تكوين مولود بشري سوي بالتنقل من النطفة إلى علقة إلى مضغة إلى

هيكل عظمي معرى من اللحم إلى هيكل بشري يكسوه اللحم إلى جنين إلى طفل ... من المتوقع أن تكون الحركة للنطفة من الجعل لا من باب الخلق لأن النطفة مجعولة، وكل ما تعطيه هو من المجعول ولكن القرآن عبر عن لفظ الجعل بلفظ الخلق، فالنطفة لم تجعل علقة، وإنما خلقت علقة، ثم {خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} والعلقة لم تجعل مضغة وإنما خلقت مضغة {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} والمضغة لم تجعل عظاما وإنما خلقت عظاما فما سر هذا؟ والله أعلم أن كل عملية من هذه العمليات هي خلق جديد لا يملكه إلا الله الخالق جل وعلا، وهذا الخلق مما استأثر به الله سبحانه وتعالى وحده، أبى على خلقه أن يشاركوه في هذه الصفة، وإن كان بعض المفسرين يفسرون الخلق بالصيرورة بمعنى خلقنا النطفة علقة أي صارت النطفة علقة. قال تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} إشارة إلى نفخ الروح فيه بعدما وصل إلى هذه الصورة. وقوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وهو تمجيد لله وتسبيح لجلالته وعظمته {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} هذه حقيقة واقعة يعلما جميع الناس وهي تنبيه وإيقاظ للنائمين الذين هم في خوض يلعبون والموت ليس هو نهاية الحي، بل إنه مرحلة من مراحل وجوده وموقف يتحول به من عالم إلى عالم آخر فيه حساب وجزاء ... خاطب الله الإنسان المكذب بالبعث بقوله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (سورة المرسلات) هذه الآية الكريمة دعوة إلى هؤلاء المشركين المكذبين بالبعث أن يعيدوا النظر في موقفهم هذا حتى يخلصوا أنفسهم من هذا الويل المطل عليهم فتلك هي فرصتهم الأخيرة، وإلا أقلعت سفينة النجاة وتركتهم يغرقون في أوهامهم حتى يدخلوا النار، كيف يستبعد هؤلاء المكذبون البعث؟ ألم يخلقكم الله من ماء مهين؟ فما الفرق بين خلقهم من هذا الماء المهين، وبين بعثهم من التراب.

الماء المهين هو ماء الرجل ليس يبدو في ظاهر الأمر شيئا محقرا أشبه بفضلات الإنسان، وإنما هو في حقيقته حياة تضم في كيانها هذه المخلوقات البشرية. لهذا صانه الله وأودعه القرار المكين الذي أعد لحفظه، قال تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} أي أحكمنا مسيرة هذه النطفة في الرحم وتقلبها فيه من طور إلى طور وذلك بقدر معلوم، {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} هذا ثناء من الله سبحانه وتعالى على ذاته الكريم التي لا يحسن الثناء عليها ولا يوفيها حقها إلا هو سبحانه وتعالى وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تمجيد ربه والثناء عليه: "سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه ومالك في الموطأ- والترمذي والنسائي عن عائشة.

أقسام التوحيد

- أقسام التوحيد - ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: 1 - توحيد الربوبية 2 - وتوحيد الألوهية 3 - وتوحيد الأسماء والصفات. 1) توحيد الربوبية: الرب له أربعة معان: هو الإله والسيد، والمالك والمصلح، كل هذه الأسماء موجودة في رب العالمين، ومعنى العالمين أن يراد به كل موجود سوى الله. وتوحيد الربوبية هو الإقرأر بأن الرب خالق كل شيء مثل الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، وتدبير الأمور وإنزال الغيت ونحو ذلك. وهذا النوع من التوحيد قد أقر به الكفار على عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يدخلهم في الإسلام قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} (سورة المؤمنون 75). {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (سورة لقمان 24). يعترفون بأن هذه الأشياء خلقها الله ولكنهم لا يؤمنون به، ويعبدون أوثانا ويقولون تقربنا إلى الله زلفى. وليس للعالم صانعان متكافآن في الصفات والأفعال ... والرب هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه، ثم يهديه إلى جميع مصالحه ومنافعه التي بها كماله وسعادته في الدارين يهديه إلى اجتناب المضار التي فيها فساده وهلاكه فيجتنبها. وهذا التوحيد توحيد الربوبية حق لا ريب فيه ... ففي القرآن الكريم مواضع كثيرة تنتظم هذا الإسم الجليل قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (سورة الفاتحة). وقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (سورة الرعد 31). وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (سورة هود 161). وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (سورة الفرقان 58). وقال: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} (سورة المزمل 8). إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ربوبيته.

2) توحيد الألوهية: هو توحيد الله بأفعال العباد التي تعبدهم بها، وشرعها لهم مثل الدعاء والذبح والنذر والإستعانة والإستغاثة إلى غير ذلك وهذا النوع من التوحيد هو الذي جحده الكفار وكانت الخصومة فيه بين الرسل وأممهم من لدن نوح إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (سورة الزمر 62). والشرك أنواع: يجب أن يكشف الغطاء عن هذه الأنواع. والله عز وجل ما أرسل رسله وأنزل كتبه وخلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى إلا ليعرف ويعبد ويوحد، ويكون الدين كله لله، والطاعة كلها له، والدعاء له وحده. قال تعالى في (سورة الذاريات) {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}. وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (سورة الحجر). إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على توحيده وقدرته. ولقد أوجب الله على المسلم المكلف أن يعرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وأن يعبده وحده لا يشرك به شيئا وأن يقوم الناس له بالقسط، والقسط هو العدل، ومن أعظم العدل التوحيد، ومن أقبح الظلم لله سبحانه وتعالى الشرك. قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (سورة لقمان 12). والشرك بالله أكبر الكبائر لا يغفره الله. وإذا عرفت أن التوحيد هو العدل، والشرك هو الظلم والجور فحينئذ تعرف أحكم الحاكمين وأعلم العالمين. وتعلم أيضا أن ما فرضه الله على عباده من العبادات والطاعات حق، وما حرم عليهم من الفواحش والمخالفات لأحكامه فهو في صالح الناس وتفاوت الطاعات والمعاصي يكون على حسب مراتب الإيمان فلما كان الشرك منافيا للتوحيد كان أكبر الكبائر على الإطلاق، وحرم الله الجنة على كل مشرك، وأباح دمه وماله لأهل التوحيد. وأبى الله سبحانه وتعالى أن يقبل من المشرك عملا، أو يقبل فيه شفاعة، أو يستجيب له في الآخرة دعوة. إن الشرك أجهل الجاهلين بالله حيث جعل له ندا من خلقه، وهذا غاية في القبح والظلم. هل يشرع الله

سبحانه وتعالى التقرب إليه بالشفعاء والوسائط كما يفعل الناس مع ملوك الدنيا؟ هذا يستحيل على الله قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (سورة المدثر 38). يمتنع أن تأتي به شريعة سماوية ولهذا لا يغفر الله الشرك من دون سائر الذنوب كما قال في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (سورة النساء 47) ... الشرك أنواع: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله هذا الشرك يسمى شرك. ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه العزيز وبما وصفه به رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. شرك التعطيل هو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون، إذ قال لسيدنا موسى عليه السلام: وما رب العالمين؟ وقال تعالى مخبرا عنه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (سورة غافر 37). فالشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل. والشرك الثاني هو شرك الدعوة المشار إليه بقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (سورة العنكبوت 65). وأما الشرك الثالث فهو شرك المحبة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (سورة البقرة 164). والشرك الرابع: شرك الإرادة والقصد، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (سورة هود 15). وينقسم الشرك إلى أكبر وأصغر: الشرك الأكبر هو اتخاذ الند إلى الله سبحانه وتعالى بأن يدعوه أو يرجوه أو يخافه أو يحبه كمحبة الله، أو يذبح له أو ينذر له؛ أما الشرك الأصغر فهو اتخاذ كل وسيلة يتطرق بها إلى الشرك، الأكبر، كقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت، وكذلك الرياء في العبادات والأعمال

والتصنع للخلق والحلف بغير الله، وهذا من الله ومنك وأنا بالله وبك. ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك. والفرق بين الشرك الأكبر والأصغر: هو أن الشرك الأكبر لا يغفر لصاحبه، وأما الشرك الأصغر فتحت مشيئة الله. والشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال. وأما الشرك الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه الشرك الأكبر مخرج من الملة الإسلامية، وأما الشرك الأصغر فلا يخرج منها. إن صاحبه الشرك الأكبر خالد في النار، وأما الشرك الأصغر فكغيره من الذنوب وقيل إنه لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبه كالشرك الأكبر والله أعلم .. 3) توحيد الأسماء والصفات إن توحيد الأسماء والصفات هو الإيمان بكل ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة من صفات الله، التي وصف بها نفسه على الحقيقة، وعدم التعرض لها بشيء من التكييف أو التمثيل أو التشبيه والتأويل أو التحريف أو التعطيل، وهو الإعتقاد بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (سورة الإخلاص).

مفهوم الألوهية في الشريعة الإسلامية

مفهوم الألوهية في الشريعة الإسلامية من المشكلات التي تواجه العقل- مفهوم الإله وتصوره - فقد اصطدم العقل بهذه المشكلة اصطداما كبيرا، ووقف منها موقف الحائر التائه الذي ضل الطريق وغرق في مجاهل الصحراء. إن الاستدلال على وجود الله أمر لا يعجز أي عقل أن يصل إليه، وأن يبلغ مرحلة اليقين منه إذ تقوم في مواجهة العقل دلالات واضحة، وشواهد ناطقة تحدث عن وجود الله، وتشهد بجلالته، وعظمته وقدرته ولكن العقل لا يرضى إلا أن يشهد الذات وأن يتعرف عنها ومن أجلهذا أشرف على منطقة الخطر، وصار يتيه ويدور هنا وهناك بلا جدوى ... ماذا في القرآن عن ذات الله؟ الذات الإلهية في القرآن ليست ذاتا مبهمة أو مجهولة كما أنها ليست محدودة مجسدة ... هي ذات لا كالذوات التي يراها الحس أو يتخيلها الوهم، لأنها لو وقعت في دائرة الخيال- مهما امتد واتسع؟ كانت بهذا المعنى محددة مقيدة وذات الله مع أنها فوف أن تدرك، وفوق أن تحد- قد وصفت في القرآن بصفات كثيرة، كالإرادة والعلم، والقدرة وغيرها، وهي صفات كاملة الكمال المطلق ... ومع هذا فلا تضاف هذه الصفات إلا لذاتاالله. جاء في القرآن الكريم كثير من الآيات كقوله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ففي هذه الآيات تعريف بذات الله وأنها تخلق وتعلم وكقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (سورة البقرة 184). فالله سبحانه وتعالى مريد، وبإرادته تتعلق مصائر الأمور وكقوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (سورة الرعد 10). في هذه الآيات يعلم، فهو عالم، وهو حكيم، كل شيء عنده بمقدار ... وقوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (سورة الشورى 17). فالله لطيف وقوي

وعزيز وكقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (سورة المجادلة 1). وذات الإله ذات تسمع كل شيء ... وترى كل شيء {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة آل عمران 66). وإن أكثر فواصل القرآن تنتهي غالبا بصفة من صفات الله تعالى، أو بالمزاوجة بين صفتين من صفاته فمن النوع الأول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا}. ومن النوع الثاني وهو الأعم الأغلب قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}. {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ (خبيرا) بَصِيرًا}. وكلما ذكرت ذات الله ذكرت معها هذه الصفات، وأكثر من هذا فقد جات في القرآن الكريم آيات تذكر للذات عينا وأيد وأعينا ... قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (سورة طه 39). وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (سورة الفتح 10). وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (سورة المائدة 66). وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} (سورة هود 67). كذلك وردت في السنة المطهرة أحاديث تذهب هذا المذهب. كقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - "خلق آدم على صورة الرحمن" وقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة قدمه فيها فتقول قط، قط. وعزتك فيزوى بعضها إلى بعض" (¬1) وقوله: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفه كيف يشاء" (¬2) ... ¬

_ (¬1) حديث صحيح. كما رواه الشيخان والترمذي- عن أنس- (¬2) ورد بغير هذا اللفظ- صحيح- رواه أحمد في مسنده، وابن ماجة. والحاكم- عن النواس-

فهذه الآيات وتلك الأحاديث وأمثالها لا يمكن أن يقرأها قارئ، أو يستمع إليها مستمع، دون أن تتحرك في ذهنه صور لهذه الصفات التي يوصف بها الله ... وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم- يتلون كتاب الله، ويسمعون إلى آيات الكتاب وأحديث الرسول فما وقفوا موقف تساؤل أو حيرة أمام صفة من صفات الله، ولا وقع في تفكيرهم أن الذات المقدسة شيء، وأن الصفات شيء، أو أنهما وجهان لحقيقة واحدة، أو غير هذا مما دار حوله الجدل واشتد فيه الخصام بين جماعات المسلمين بعد أن مضى عهد الراشدين، ودخلت في الإسلام مذاهب وآراء وفلسفات مع الذين دخلوا في دين الله. يقول المقريزي: "إعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسولا إلى الناس جميعا وصف لهم ربهم سبحانه بما وصف به نفسه الكريم في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه - صلى الله عليه وسلم - الروح الأمين، وبما أوحى إليه ربه تعالى، فلم يسأله - صلى الله عليه وسلم - أحد من العرب قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك كما كانوا يسألونه - صلى الله عليه وسلم - عن أمر الصلاة والزكاة، والصيام والحج وغير ذلك مما فيه أمر ونهي، كما سألوه - صلى الله عليه وسلم - عن أحوال القيامة والجنة والنار ... ولو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الحلال والحرام وفي الترغيب والترهيب، وأحوال القيامة، والملاحم والفتن، ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث ومجامعها ومسانيدها وجوامعها. ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي، ووقف على الآثار السلفية، علم أنه لم يرو قط من طريق صحيح، ولا سقيم عن أحد من الصحابة- رضي الله عنهم- على اختلاف طبقاتهم، وكثرة عددهم- أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - عن معنى شيء مما وصف الرب- سبحانه وتعالى- نفسه الكريمة في القرآن الكريم، على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - بل كلهم فهموا معنى ذلك،

وسكتوا عن الكلام في الصفات. نعم ... ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل ... وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية، من العلم، والقدرة، والحياه، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والجلال، والإكرام، والجود، والإنعام، والعزة والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا وهكذا أثبتوا- رضي الله عنهم- ما أطلقه الله سبحانه وتعالى على نفسه الكريمة من الوجه، واليد، ونحو ذلك مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا - رضي الله عنهم- بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا .. ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت ... ولم يكن عند واحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد- صلى الله عليه وسلم - سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطريق الكلامية ولا مذهب الفلسفة إنتهى خطط المقريزي. وهكذا مضى عهد الصحابة والتابعين- رضوان الله عليهم- دون أن يجد أحد منهم في صدره ثائرة شك فيما ورد في القرآن والسنة من الصفات، وصف الله- سبحانه- بها ذاته ... بل صح فهمهم لتلك الصفات على الوجه الذي ينزه الله تعالى عن صفات المخلوقين، ويجعل لذاته الكمال المطلق ولهذا وقع إجماعهم- دون قصد- على أن يسألوا رسول الله عنها، وهم الذين لم يدعوا أمرا يتصل بأي شأن من شئون الدين، لم ينكشف لهم في جلاء، إلا سألوا الرسول عنه ... فكيف يكون سكوتهم هذا السكوت الإجماعي عن هذا الأمر العظيم الذي هو أصل العقيدة وصميمها؟ وهذا لا يصح لنا أن نسأل: كل ما ذكر عن ذاته وصفاته في كتاب الله. وفي حديث الرسول- من الوضوح والجلاء- بحيث لا يحتاج إلى سؤال أبدا؟ ونستطيع أن نقول في الإجابة على ذلك: نعم، فإن مفهوم الألوهية حين يعرف الإنسان الطريق إليه، وحين يتلقاه بقلبه، ويستقبله بفطرته لواضح أشد الوضوح .. إذ هو الكمال المطلق، الذي سمح للإنسان أن ينطلق إلى ما لا نهاية له في السمو والإرتفاع بمقام الذات ... وكلما انتهى إلى غاية مد بصره إلى غيرها وهكذا أبدا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (سورة الشورى). وفي هذا المفهوم عاش الصحابة والتابعون- رضوان الله عليهم- لا يسألون: ما الله؟ وما عينه؟ وما قدرته؟ وما علمه؟ فلقد هدوا بفطرتهم أن لا جواب لهذه الأسئلة إلا ما يجده المرء في قلبه، وفي كيانه كله، من تقديس الله وجلاله، ونسبة الكمال المطلق كله إليه! ولقد هدوا بفطرتهم أيضا إلى أن العقل لا يستطيع أن يدرك كنه صفة من هذه الصفات، ولا أن يمسك بها على أية صورة، فإن أي صورة لن تكون هي أبدا ما دام الكمال المطلق هو صفتها. إذا كانت فطرة الإنسان على الصحة والسلامة لا تتجه أبدا إلى الجدل السقيم الذي لا يلد شيئا نافعا، ولا يثمر ثمرا طيبا. وبهذه الفطرة السليمة إستقبل العرب الإسلام، وكانت تعاليم الإسلام كلها في العقيدة، وفي الشريعة جميعا ومن هنا ندرك السر الذي أمسك به العرب- صحابة وغير صحابة- عن أن يسألوا عن ذات الله وأن يبحثوا في صفاته، لأن ذلك أمر فوق أن يوجد له جواب، أو أن يحيط به عقل ... ومن هنا ندرك السر الذي أمسك بالعرب- مسلمين وغير مسلمين- أن يواجهوا في القرآن وأن تقع منهم محاكاة له .. لأن محاولة كهذه المحاولة عبث وسفه لا يرضاها عاقل، ولا يتجه إليها خصوصا إذا كان القرآن في مستوى يستحيل على بشر أن يطاوله ... وأن الإيمان الذي يقوم على هذا الإحساس بالعجز المطلق عن إدراك حقيقة الذات المقدسة هو الإيمان الراسخ الذي لا يتأتر بتيارات الفكر وتقلبات التفكير، إنه إيمان مستقر في الأعماق، حيث لا أمواج ولا تيارات .. * معنى الحمد: ومن الصفات التي اتصف بها الله سبحانه وتعالى الحمد، والحمد هو الثناء باللسان، وبالفعل هو تعظيم المنعم على إحسانه إلى عباده وهو الشكر.

وأهل التوحيد الذين يعبدون الله مخلصين له الدين فإن في قلوبهم من محبة الله ما لا يماثلها فيها غيرها، ولهذا كان الرب محمودا حمدا مطلقا على كل ما فعله، حمدا خاصا به فهذا حمد الشكر، أما حمد الفعل فهو خلق السماوات والأرض وما بينهما، والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته، وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة، فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود، ولا يكون حمد إلا بحب المحمود، ولهذا كانت العبادة مشتملة على تحميده وتوحيده وأفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله، الله سبحانه وتعالى له الملك المطلق، وحقيقة الملك إنما يتم بالعطاء والمنع، والإكرام والإهانة، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (سورة آل عمران 26 - 27). وقال: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (سورة الرحمن 27). يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويكشف غما، وينصر مظلوما ويأخذ ظالما ويفك عانيا ويغني فقيرا ويجبر كسيرا، ويشفي مريضا، ويقيل عثرة، ويستر عورة، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويعطي سائلا، ويذهب بدولة ويأتي بأخرى، ويداول الأيام بين الناس يرفع أقواما ويضع آخرين، يسوق المقادير التي قدرها إلى مواقيتها فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصى كتابه وجرى به قلمه، ونفذ فيه حكمه، وسبق له علمه، فهو المتصرف في الملك كله وحده تصرف مالك قادر قاهر عادل رحيم تام الملك لا ينازعه في ملكه منازع، ولا يعارض فيه معارض، فتصرفه في الملك دائر بين العدل والإحسان، والحكمة والمصلحة، والرحمة، فلا يخرج تصرفه عن ذلك. الملك والحمد في حف الله تعالى متلازمان، فكل ما شمله ملكه وقدرته شمله حمده، فهو محمود في ملكه، فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته يستحيل خروجها عن حمده وحكمته، فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر وحمد ثناء ومدح، ويجمعهما التبارك.

فتبارك الله يشمل ذلك كله، ولهذا ذكر هذه الكلمات عقب قوله {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (سورة الأعراف 53). يجب على المؤمن أن يعرف الطريق الموصلة إلى الله عز وجل وهي شريعته المنتظمة لأمره ونهيه، ثم تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم، فأعرف الناس بالله عز وجل أتبعهم للطريق الموصل إليه وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه، قال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (سورة غافر). وقال تعالى أيضا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (سورة الشورة 50). ولا روح إلا فيما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نور إلا في الإستضاءة به، وسماه الله شفاء قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (سورة فصلت 43). إن عبادة الله تبنى على قاعدتين أساسيتين: هما حب لله كامل، وذل تام له. ومنشأ هذين الأصلين هي النعمة الكبرى التي امتن الله بها على عباده، وهي بعثة سيدنا - صلى الله عليه وسلم - بهذه الرسالة العظيمة الخالدة الخاتمة لجميع الرسالات السماوية ... وإذا بنى المسلم سلوكه على محبة الله تعالى، وخضوع تام له، لم يظفر به الشيطان إلا على غرة وغيلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل، ويتداركه برحمته. وإنما تستقيم له محبة الله باستقامة قلبه وجوارحه، والاستقامة تكون بسببين: إحداهما أن تتقدم محبة الله على جميع محاب الدنيا، وإذا تعارض حب الله مع حب غيره، فيجب أن يسبق حب الله على غيره، وما أسهل هذا بالكلام والإدعاء وما أصعبه بالفعل!، ونحن نتكلم عن محبة الله دائما، فإذا تعارضت مع مصالحنا الدنيوية وشهواتنا وأهوائنا قدمناها على محبة الله، وهذا هو الواقع في المسلمين الحاضرين إلا القليل الذين يقدمون محبة الله وقليل ما هم، فإن محبة الله لم تكن متمكنة

من النفوس ولا هي مؤثرة عليها وسنة الله فيمن هذا شأنه أن ينزع الله من قلبه محبته، وينقص عليه محبة شهواته ولا ينال منها شيئا إلا بتنكيد وتنقيص جزاء له على إيثار هواه على الله سبحانه وتعالى، وقد قضى الله قضاء لا يرد ولا يدفع أن من أحب شيئا سوى الله عذب به، وأن من خاف غير الله سلط عليه، وأن من اشتغل بغير الله كان شؤما عليه، ومن آثر غير الله لم يبارك له فيه، ومن أرضى غيره بسخط الله أسخط عليه. واستقامة القلب تكون بتعظيم أمر الله ونهيه، فإن الله ذم من لا يعظمه، ولا يعظم شريعته قال تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (سورة نوح 13). أي ما لم لا تخافون عظمة الله تعالى ... والمؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسوله إلى الناس كافة، ومقتضاها الإنقياد لطاعته، وطاعة أوامره عندئذ يكون صاحب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق، وصحة العقيدة والبراءة من النفاق. ويجب على المسلم أن يعلم أن تفاضل الأعمال عند الله تكون بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص وتوابعها، وهذا العمل هو الذي يكفر السيآت تكفيرا كاملا ...

التوحيد نوعان

التوحيد نوعان التوحيد نوعان: نوع في العلم والإعتقاد، ونوع في الإرادة والقصد، ويسمى الأول التوحيد العلمي، والثاني التوحيد القصدي والإرادي، لتعلق الأول بالاخبار والمعرفة والثاني بالقصد والإرادة ... (ابن القيم). قال عبد الله بن مسعود من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} هذه الآيات محكمات من (سورة الأنعام 154). وفيها عشر مسائل أولها النهي عن الشرك. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف الني - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال لي: يا معاذ ... أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، قلت يا رسول االله أفلا أبشر الناس؟ قال لا تبشرهم فيتكلوا - أخرجاه في الصحيحين- يحتوي هذا الحديث على عدة مسائل منها العبادة لله، والعبادة من التوحيد من لم يعبد الله لم يكن موحدا، والثانية التنبيه على وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته.

باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. ليس الإيمان بالظلم وهو خلط به والظلم هو الشرك بالله. الإيمان المصفى من الشرك هو الإيمان الذي يقبله الله من أهله، ويجزيهم عليه الجزاء الأوفى ويجعلهم في أمن وسلام يوم يكون الكافرون في فزع وكرب. عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان عليه من العمل. أخرجه الشيخان. ومعنى لا إله إلا الله: طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات فينفي ما سوى الله، ويثبت الاسم الشريف، وهذا هو حقيقة التوحيد النفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون نفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات ... من حقق التوحيد دخل الجنة: قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة النحل) إن إبراهيم عليه السلام كان أمة وحده أي يعوض مجتمعا يؤمن بالله بين مجتمعات كلها على الشرك والكفر، وإن إبراهيم مع إيمانه قانتا لله أي خاشعا لله، وكان حنيفا أي مائلا عن طرق الضلال والكفر {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي لم يشرك بالله أبدا وقال تعالى في (سورة المؤمنون): {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} ... هؤلاء الذين ذكرتهم الآية الكريمة إنهم على صفات تؤهلهم لدخول الجنة، فهم من خشية ربهم وخوفهم منه على إشفاق دائم من أن يعصوا أو

يفعلوا منكرا. ولهذا يؤمنون بآيات ربهم ويعملون بها ويهتدون بهديها قد خلت نفوسهم من أثر الشرك، وكانوا على خشية ومراقبة دائمة لله حتى إنهم يفعلون ما يفعلون من خير ويقدمون ما يقدمون من طاعات وعبادات لا تزايلهم الخشية، ولا يبارحهم الخوف من الله ومن أنهم على تقصير في حقه تعالى، وفيما يجب له من طاعة وولاء. إن هذه الصفات المذكورة في الآية تلتقي جميعا في قلب المؤمن بالله إلا أن المؤمن على حظوظ مختلفة منها فبعضهم تغلب عليه صفة الخشية من الله، وبعضهم يؤمن بآيات الله، ولكن تغلبه نفسه، فلا تتحقق الخشية كاملة من الله في قلبه، وبعضهم يعترف بوجود الله ويقر بوحدانيته إقرارا عقليا، كالفلاسفة ونحوهم. ولا ينقلون عن الرسل عليهم السلام، ولا يأخذون مما معهم من آيات الله، وبعضهم يؤمن بالله، وبآيات الله، وبرسل الله ثم يؤتون ما أتوا من طاعات وعبادات وهم في صراع مع أنفسهم، وفي خوف من لقاء الله أن يكونوا قصروا فهؤلاء جميعا يمكن أن يتجهوا إلى الخير ويجاهدوا أنفسهم لأنهم يحملون شرارة من الإيمان، وأنهم على هدى من ربهم وعلى طريق الخير والإحسان .. عن حصين بن عبد الرحمن قال: "كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت أنا، ثم قلت: أما أني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت حديث حدثنا الشعبي، قال وما حدثكم؟ قلت: حديثا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه قال: عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع إلي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا بسواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال سبفك بها عكاشة. الحديث رواه البخاري مطلولا ومختصرا ومسلم والنسائي والترمذي .. الرقية: هي العوذة ااتي يرقى بها الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات. قال ابن الأثير: (وقد جاء في بعض الأحاديث جواز الرقية، وفي بعضها النهي، والأحاديث في القسمين كثيرة، ووجه الجمع بينهما أن الرقي يكره منها ما كان بغير اللسان العربي، وبغير أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه في كتبه المنزلة، وأن يعتقد أن الرقي نافعة لا محالة فيتكل عليها. الخوق من الشرك: قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (سورة النساء 47). وقال الخليل عليه السلام {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (سورة إبراهيم 37). وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال الرياء" رواه أحمد. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وهو يدعو من دون الله ندا (¬1) دخل النار" رواه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار" ... ¬

_ (¬1) ندا: النظير المشارك له.

الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله

الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة يوسف 108). السبيل التي استقام عليها النبي بأمر ربه ودعا الناس إليها وأنه ليدعو إلى الله على هدى ونور من ربه فمن اتبع الرسول فقد عرف الحق فكان على بصيرة من أمره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله. وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فاعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (أخرجه الشيخان)، ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه فأتى به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال: أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم".

تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله

تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ (¬1) أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (سورة الإسراء 57). شرح هذه الترجمة وما بعدها من الأبواب، فيه أكبر مسائل أهمها وهي تفسير التوحيد وتفسير الشهادة. قال تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}. وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة والوسيلة الراغب فيها إلى الله تعالى. والتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الإستسقاء به في حياته وثبت التوسل بغيره أي بعد موته - صلى الله عليه وسلم - بإجاع الصحابة إجماعا سكوتيا في حديث عمر رضي الله عنه كما قال: "كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك" ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وأما التوسل بغيره فلا يجوز. والأصل هو أن تتوسل إلى الله بالله، كأن تقول اللهم إنا نسألك بموجبات رحمتك، أما التوسل بالعباد "فوساطة" يرفضها الإسلام لأنها نوع من الشرك. الوسيلة: هي ما يتوسل به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة التي ترضي ألله وتدني الإنسان من ربه، وتقوى الله هي مطلوب كل مؤمن بالله، ورغبة كل طامع في رضى الله، ساع إلى مرضاته ولهذا فقد أمر الله الذين آمنوا بالتقوى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} (سورة الحشر 18). فليس الإيمان هو مجرد الايمان، وإنما الإيمان هو الذي ينتج التقوى ويستشعر المؤمن أن النهاية عظيمة وأن الحساب عسير إلا على المتقين. ¬

_ (¬1) قال الراغب: الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة وهي أخص من التوسل لتضمنها معنى الرغبة.

والتقوى هي اجتناب محارم الله، وامتثال أوامره، أو هي كما عرفها بعض العارفين: "ألا يراك حيث نهاك، وألا يفتقدك حيث أمرك". التقوى صعب المنال، غالي الثمن، لا يقدر على الوفاء به إلا من رزقه الله قوة الإيمان، وثبات اليقين ووثاقة العزم تلك هي بعض الوسائل التي يتوسل بها إلى التقوى وما يأخذ به بعض المسلمين من التوسل بالأموات ممن يعتقد في صلاحهم واستقامة سلوكهم في الحياة فيلمون بقبورهم وأضرحتهم طالبين قضاء حوائجهم التي قصرت عنها أيديهم .. والذي يأباه الدين هو زيارة كثير من الناس قبور الصالحين وتمسحهم بها ومناجاتهم وطلب الغوث منهم حتى كأن هذا الرجل الصالح يتصرف في الكون .. قال الإمام الشوكاني عند تفسيره لهذه الآية قال: "قد أكثر الناس من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات ... يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وألا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركا، وألا يكنه فهو قريب منه، ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب، أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء، ويقدر بالذات، أو بالغير على جلب الخير، ودفع الأذى، وإلا لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم .. فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله القوي الغني الفعال لما يريد" انتهى. وكما وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق- أبو بكر رضي الله عنه- هيا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق، فجاءوا إليه، فقال: - صلى الله عليه وسلم - "إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله" (¬1) من عرف ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في معجمه.

سر ذلك فلا يستغيت بالموتى ولا يطلب منهم شيئا وإنما يستغيث بالله ويطلب من الله. قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (سورة الزخرف). فاستثنى خليل الرحمن من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البرآءة وهذه المولاة هي الشهادة أن لا إله إلا الله فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. وقوله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (سورة التوبة). بين الله سبحانه وتعالى أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في غير معصية لا دعائهم إياهم أربابا فهذا هو عين الشرك .. وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل" وهذا من أعظم ما يبين معنى (لا إله إلا الله) فإنه لم يجعل التلفظ عاصما للدم والمال، بل ولا معرفه معناها مع لفظها لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه".

من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما

من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (سورة الزمر 36). وفي هذه الآية الكريمة تشنيع على المشركين، الذين يعبدون آلهة من دون الله وتسخيف لعقولهم المريضة لأنهم يعتقدون في أشيياء ما أنزل الله بها من سلطان ولا تملك نفعا ولا ضرا. عن عمران بن حصين رضي الله عنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال ما هذه؟ قال الواهنة، فقال أنزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت آبدا" رواه أحمد بسند لا بأس به .. قال ابن الأثير في النهاية الواهنة عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها فيرقى منها وقيل هو مرض يأخذ في العضد، وربما علق عليه جنس من الخرز يقال له خرز الواهنه وهي تأخذ الرجال دون النساء، ونهاه عنها لعل يعتقد أنها تعصمه من الألم، فكانت عنده في معنى التمائم المنهي عنها. والحلقة كان المشركون يجعلونها في عضدهم من نحاس أصفر أو غيره، ويزعمون أنها تحفظهم من أذى العين والجن ونحوها، والخيط كانوا يعتقدونه ويتقلدون به فنهى عنه لما فيه من شائبة الشرك. وعن عقبة بن عامر مرفوعا! "من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له" (¬1). وفي رواية "من علق تميمة فقط أشرك" (¬2) ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه: أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (سورة يوسف). ¬

_ (¬1) رواه مشرح بن عاهان بإسناد ضعيف. (¬2) رواه البخاري، وأخرجه أحمد.

الذبائح لغير الله

الذبائح لغير الله قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأنعام). قال الحافظ بن كثير يأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغيره، أنه مخالف لهم في ذلك، لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والانقياد بالقصد والنية والعزم على الاخلاص لله تعالى. قال مجاهد: النسك هو الذبح في الحج والعمرة. قال الإمام ابن تيمية أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما الصلاة والنسك، الدالتان على القرب أو التواضع والافتقار، وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عبادته، عكس حال أهل الكبر والأنفة وأهل الغنى عن الله تعالى الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر ولهذا جمع الله بينهما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} وعن علي رضي الله عنه قال: "حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض" رواه مسلم. اللعن: هو البعد عن مظان الرحمة ومواطنها، واللعين هو الملعون من حقت عليه اللعنة أو دعى عليه بها. قال صاحب النهاية (أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء، وفي الحديث جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين، وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان: أحدهما أنه جائز إختاره ابن الجوزي وغيره، والثاني أنه لا يجوز، اختاره أبو بكر عبد العزيز وشيخ الاسلام رحمهما الله تعالى، وهو المتجه جميعا بين الروايات، وقوله: (محدثا) روي بكسر الدال المهملة وبفتحها، فعلى الأول معناه نصر جانبه وآواه، وأجاره من خصه، وحال بينه وبين من يقتص منه، وعلى الثاني هو الأمر المبتدع نفسه ومعنى إيوائه الرضا به، والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة، وأقر فاعلها، ولم يترك عليه فقد

من الشرك النذر لغير الله

أواه، ومنار الأرض بفتح الميم علامات حدودها ومعالها يفعل ذلك ليغتصب من جاره أرضه والله أعلم. من الشرك النذر لغير الله قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}. وقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}. الآية تدل على وفاء النذر ومدح من فعل ذلك، فالنذر من العبادة وصرفه لغير الله شرك، فإذا أنذر طاعة وجب عليه الوفاء بها، والنذر قربة إلى الله تعالى، ولهذا مدح الموفين به، فإن نذر لمخلوق تقربا إليه وتشفعا منه له عند الله، أو ليكشف ضره ونحو ذلك فقد أشرك في عبادته سبحانه غيره، كما أن من صلى لله وصلى لغيره فقد أشرك. ووجه الدلالة من الآية الشريفة على هذا المعنى أن الله مدح الموفين بالنذر، والله لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب أو ترك حرام، وذلك هو العبادة، فمن جاء به لغير الله تقربا إليه فقد أشرك. قال ابن كثير: يخبر الله تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من النفقات والمنذورات وتضمن ذلك مجازاته بأوفر الجزاء للعاملين به ابتغاء وجهه. إذا علمت ذلك فاعلم أن هذه النذور الواقعة من عباد القبور تقربا بها إليهم وليقضوا لهم حوائجهم، أو ليشفعوا لهم شرك في العبادة بلا ريب كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (سورة الأنعام). قال الشيخ قاسم في شرح درر البحار النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون للإنسان غائب أو مريض، أو له حاجة فيأتي إلى قبر بعض الصالحين ويجعل على رأسه سترة ويقول يا سيدي فلان إن رد الله غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من المال كذا، أو من الشمع كذا، أو الزيت كذا، فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه. منها أنه نذر لمخلوق، والنذر له لا يجوز لأنه عبادة والعبادة

لا تكون لمخلوق. ومنها أن النذر لميت والميت لا يملك شيئا، ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاد ذلك كفر إلى أن يقال إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها، وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم محرم بإجماع المسلمين نقل ذلك عنه ابن نجيم في البحر الفائق، ونقله المرشدي في تذكرته وغيرهما عنه وازدادوا وقال في شرح المنهاج قريبا من هذا. وكلام العلماء أهل المعرفة في هذا الباب كثير، وكتاب الله وسنة رسوله يغنيان عن ذلك كله والله أعلم. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه" معناه أن نذر المعصية لا يجوز.

الإستعاذة بغير الله شرك

الإستعاذة بغير الله شرك قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (سورة الجن). 1) قال ابن كثير: الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجانبه من شر كل شر، والعياذ يكون لدفع الشر، وطلب الخير، وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله، والاعتصام به، والانطراح بين يدي الرب والافتقار إليه، والتدلل لديه أمر لا تحيط به العبارة. 2) كان الرجل من العرب إذا أمسى بواد، وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد كبير الجن قال مجاهد. كانوا إذا هبطوا واديا يقولون نعوذ بعظيم هذا الوادي. فزادوا كفرا وطغيانا. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره فلما رأت الجن أن الانس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا أي خوفا وإرهابا وذعرا حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم. وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك" رواه مسلم. 3) في هذا الحديث دليل على أن الله شرع لأهل الإسلام أن يستعيذوا بكلمات الله بدلا عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن ومعنى (التامات) كما قال القرطبي الكاملات التي لم يلحقها نقص ولا عيب كما يلحق كلام البشر، وقيل معناه الكافية الشافية قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها استعاذة بمخلوق وذلك شرك، بل الله يعيذ المستعيذين ويعصهم من شر ما استعاذوا به.

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ ويقول: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك" (¬1) فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته، وكان يستعيذ بعزة الله فيقول: "أعوذ بعزة الله وقدرته" (¬2) وقوله: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات" (¬3) ولا يستعيذ النبي بمخلوق أبدا، ولا يستعيذ إلا بالله، أو بصفة من صفاته، وجاءت الاستعاذة باسم الرب تارة وباسم الملك وباسم الإله في سورتي المعوذتين، وقد جاء في الأثر أن الله سبحانه وتعالى يدعى بأسمائه الحسنى. كل طالب يسأل باسم يناسبه ويقتضيه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق سورتي المعوذتين: "إنه ما تعوذ المتعوذون بمثليهما" فلا بد أن يكون المستعاذ به مقتضيا للمطلوب، وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه. فيستعاذ من الشرور وأسبابها كالمعاصي، والشرك والكفر وأنواع الظلم، وهل زالت نعمة عن أحد قط إلا بشؤم معصية؟ إذا أنعم على عبد نعمة حفظها عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. ومن تأمل ما قص الله في كتابه الكريم من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه، إنما هي مخالفة أمره، وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال عصره، وما أزال الله عنهم من نعمة، وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب، كما قيل: إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم. فما حفظت نعصة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد نعمة بمثل معصيته لربه، فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس. ¬

_ (¬1) رواه مالك في موطئه - باب الدعاء- (¬2) أخرجه مسلم. ورواه مالك في الموطأ عن عثمان بن أبي العاص- صحيح- (¬3) أخرج القصة ابن هشام بطولها، عن ابن اسحاق عن زياد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي مرسلا. ورجاله ثقات.

ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها كانت استعاذات النبي - صلى الله عليه وسلم - جميعها مدارها على هذين الأصلين، فكل ما استعاذ منه، أو أمر بالاستعاذة منه فهو إما مؤلم، وإما سبب يفضي إليه، فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع، وأمر بالاستعاذة منهن وهي: "عذاب القبر، وعذاب النار فهما أربع المؤلمات، وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال" (¬1) وهذان هما سببا العذاب المؤلم، فالفتنة سبب العذاب وذكر الفتنة خصوصا، وذكر نوعي الفتنة، لأنها إما في الحياة، وإما في الممات، ففتنة الحياة قد يتراخى عنها العذاب مدة، وأما فتنة بعد الموت، فيتصل بها العذاب من غير تراخ .. فهذه الاستعاذة من الألم والعذاب وأسبابها من آكد أدعية الصلاة حتى أوجب بعض السلف والخلف الإعاذة على من لم يدع به في التشهد الأخير، وأوجبه ابن حزم في كل تشهد، فإن لم يأت به فيه فبطلت صلاته، واستعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثمانية أشياء فقال: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع (¬2) الدين وغلبة الرجال" (¬3) وتعوذ - صلى الله عليه وسلم - "من المأتم والمغرم" (¬4) فإنهما سببا الألم العاجل ومن ذلك قوله: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك (¬5) " فالسخط سبب الألم، والعقوبة: هي الألم، فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري والنسائي عن أبي هريرة.- صحيح- (¬2) أي ثقله. (¬3) الحديث لأحمد في مسنده، ومسلم والنسائي عن زيد بن أرتم- وهو صحيح- (¬4) شطر من حديث رواه مسلم رقم 588 وأبو داود رقم 183 والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة. (¬5) رواه مسلم ومالك، وغيرهما.- عن محمد بن إبراهيم الحارث-.

الاستعاذة بالله من شر ما خلق

الاستعاذة بالله من شر ما خلق نتكلم عن الشر {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (ما) هنا موصولة ليس إلا. والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول لا إلى خلق الرب الذي هو فعله وتكوينه، فإنه لا شر فيه بوجه ما. فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى فإن ذاته لها الكمال المطلق، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام، ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما، وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة، لا شر فيها أصلا، ولو فعل الشر سبحانه لاشتق له منه اسما، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى ولعاد إليه منه حكم، تعالى ربنا وتقدس عن ذلك، ولكنه تعالى يلهم النفس البشرية خيرها وشرها ليمكنها بعد ذلك المفاضلة والاختيار في صراع الإيمان والضلالة {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وما يفعله الله سبحانه وتعالى من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض، إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون بالنسبة إلى العباد، فالشر وقع في تعلقه بهم، وقيامه بهم، لا في فعله القائم به تعالى، ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة، فإنه خالق الخير والشر وملهمهما النفس إعدادا للتكليف. وينبغي أن نعرف جيدا: أن ما هو شر، أو متضمن للشر فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا، لا يكون لله تعالى، ولا فعلا من أفعاله. ذلك أن مقياس الخير والشر مقياس نسبي معياري له دائما وجهان، فالشر الذي ينزل على فرد واحد في شكل عقوبة مثلا يحقق خيرا عميما للمجموعة التي يعيش فيها ذلك الواحد، ويحقق له هو نفسه نجاة من النار. مثال: إن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرا وحكما، لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموما، بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم، فهو محمود على حكمه

بذلك، وأمره به مشكور عليه، يستحق عهليه الحمد من عباده، والثناء عليه والمحبة له ... وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرياتهم فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم فكيف عقوبة من يصول على أديانهم، ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله، وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به؟ أليس في عقوبة هذا الصائل خير محض، وحكمة وعدل، وإحسان إلى العبيد؟ وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي. فالشر ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل، فهو عين الخير والحكمة فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم، والسر الذي يطلعك على مسألة القدر، ويفتح لك الطريق إلى الله، ومعرفة حكمته ورحمته، وإحسانه إلى خلقه وأنه سبحانه كما أنه هو البر الرحيم الودود المحسن، فهو الحكيم الملك العادل، فلا تناقض حكمته رحمته، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا أن يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته .. وبعض الطوائف يقولون: إن الأمرين- الخير والشر- بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة. يرد القرآن على هذه الأفكار، وإنكارها أشد الإنكار، وتنزيه الرب نفسه عنها كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وقوله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}. وقوله كذلك {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}. فأنكر سبحانه على من ظن به هذا الظن السيء ونزه نفسه عنه تعالى عما يشركون.

فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة: إن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وألوهيته لا إله إلا هو، تعالى مما يقول الجاهلون علوا كبيرا. وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والإنتقام في موضع الرحمة والاحسان ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة، فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الاستنكار واستهجنته أعظم الاستهجان. وكذلك وضع الإحسان والرحمة والإكرام في موضع العقوبة والانتقام، كمن إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام، ورفعه وكرمه، فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا، وتشهد على سفه من فعله، هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها .. فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة، وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة؟ وإنها لو أوليت النعم لم تحسن بها، ولم يلق هذا التأويل بالفطر السليمة ولظهرت مناقضة الحكمة ... قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (سورة الكهف) فتأمل ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقابا وجلالة وتهديدا كيف صدره بإخبارنا، إنه أمر إبليس- لعنه الله- بالسجود لأبينا فأبى ذلك، فطرده ولعنه، وعاداه من أجل إبائه عن السجود، لابينا ثم أنتم توالونه من دوني، وقد لعنته وطردته إذ لم يسجد لأبيكم، وجعلته عدوا لكم ولأبيكم فواليتموه وتركتموني، أفليس هذا من أعظم الغبن وأشد الحسرة عليكم؟ ويوم القيامة يقول تعالى: "أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا؟ ". فليعلمن أولياء الشيطان كيف حالهم يوم القيامة: إذا ذهبوا مع

أوليائهم، وبقي أولياء الرحمن لم يذهبوا مع أحد فيتجلى لهم ربهم ويقول: "ألا تذهبون حيث ذهب الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم، وإنما ننتظر ربنا الذي كنا نتولاه ونعبده. فيقول هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم إنه لا مثيل له فيتجلى لهم، ويكشف عن ساق فيخرون له سجدا". فيا قرة عين أوليائه بتلك الموالاة، وما أفرحهم إذا ذهب الناس مع أوليائهم، وبقوا مع مولاهم الحق فسيعلم المشركون به الصادون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون. فما أحوج القلوب إلى معرفة ربها، ونزولها منه منازلها في الدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

من الشرك أن يستغيث المكلف بغير الله أو يدعو غيره

من الشرك أن يستغيث المكلف بغير الله أو يدعو غيره الإستغاثة هي طلب الغوث، وهي إزالة الشدة، والإستعانة: طلب العون، قال بعض العلماء: الفرق بينها وبين الدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب والدعاء أعم منه، فيجتمعان في مادة وينفرد الدعاء عنها في مادة، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة، والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، فدعاء مسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ولهذا أنكر الله على من يدعو أحدا من دونه ممن لا يملك ضرا ولا نفعا كقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} ... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه في الرسالة السنية: إذا كان على عهد الني - صلى الله عليه وسلم - ممن انتسب إلى الإسلام ومرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة بهذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام لأسباب: منها: الغلو في بعض المشائخ كما غالت النصارى في المسيح عليه السلام فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان أنصرني وارزقني وعافني، أو أنا في حفطك وحمايتك ورعايتك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبدوه وحده، لا شريك له ولا يدعون معه إلها، والذين يدعون مع الله إلها آخر مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعبدونهم ويعبدون قبورهم، أو يعبدون صورطم، يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله سبحانه رسله تنهى أن يدعو أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة واستعانة: قال ومن جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعا، نقله عنه صاحب الفروع، وصاحب الإنصاف، وصاحب الإقناع وغيرهم ..

قال ابن تيمية رحمه الله: اعلم أن الاستغاثة في الأسباب الظاهرية العادية في الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه تجوز، كقولهم يا لزيد للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة وأما الإستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية في الشدائد، كالمرض والغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه، فمن خصائص الله لا يطلب فيها غيره، والله أعلم .. نقلوه عنه في الرد على ابن جرجيس ... قال الله عز وجل: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}. وقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}. وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ... وقوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... } الآية، قال ابن جرير: في هذه الآية: ولا تدع يا محمد من دون معبودك ولا خالقك شيئا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا - يعني بذلك الآلهة- يقول: لو عبدتها راجيا نفعها، أو خائفا ضرها، فإنها لا تضر ولا تنفع، فإن فعلت ذلك ودعوتها من دون الله فإنك إذا من الظالمين، أي المشركين بالله، والله أعلم، وحاشا الرسول أن يفعل ذلك إلا أن الخطاب خاص اللفظ عام المعنى، فالله تعالى لا يخاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما يخاطب من حوله من الناس، ودلت هذه الآية على أنه سبحانه هو المتفرد بالملك والقهر، والعطاء والمنع، والضر والنفع دون كل ما سواه، فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك النفع والضر ولا يملك ذلك ولا شيئا مما هنالك غيره كائنا من كان من أوليائه أو أعدائه، فهو المستحق للعبادة والدعوة وحده دون من لا يضر ولا ينفع، فالخطاب في هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه عام للأمة .. والمقصود

منه لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الشرك بل معصوم من الصغائر وعصمة الأنبياء والرسل من مسائل العقيدة في التوحيد. وقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أمر الله عباده بابتغاء الرزق عنده وحده دون سواه ممن لم يملك لهم رزقا من السماوات والأرض. قال الحافظ ابن كثير: (معناه ابتغوا عند الله الرزق لا عند غيره، لأنه المالك له، وغيره لا يملك شيئا من ذلك. أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له واشكروه على ما أنعم عليكم، إليه ترجعون، فيجازي كل عامل بعمله وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية: فيه نفى سبحانه أن يكون أحد أضل غيره منه، وأخبر أنه لا يستجيب له ما طلب منه إلى يوم القيامة، والآية تعم كل من يدعو من دون الله، والله أعلم. وقوله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} أخبر الله عز وجل في هذه الآية أنه هو الكاشف للضر لا غيره، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك وأنه القادر على دفع الضر، والقادر على إيصال الخير، فهو المنفرد بذلك، فإذا تعين- جل ذكره- خرج غيره من ملك ونبي وولي وغير ذلك. وروى الطبراني بإسناده: "أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله"؟! قول الله عز وجل {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (¬1)}. ¬

_ (¬1) قشرة النواة.

قال المفسرون في هذه الآية وهي قوله {أَيُشْرِكُونَ ... } فيها توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئا وهو مخلوق، والمخلوق لا يكون شريكا للخالق في العبادة التي خلقهم لها، وبين أنهم لا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، فكيف يشركون من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه، وهذا برهان ظاهر ودليل باهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله. وهذا وصف كل مخلوق حتى الملائكة والأنبياء والصالحين وأشرف الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يستنصر ربه على المشركين ويقول: "اللهم أنت عضدي وأنت نصيري، بك أجول وبك أصول، وبك أقاتل" (¬1). وفي الصحيح عن أنس قال: شج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزل {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الحديث رواه البخاري تعليقا ووصله مسلم والنسائي والترمذي والإمام أحمد بن حنبل، قال ابن اسحاق في المغازي: حدثنا حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وشج وجهه، وجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم فأنزل الله الآية. وذكر ابن هشام في السيرة من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في وجهه، وأن عبد الله بن قميئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، ووقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر ليقع فيها المسلمون فأخذ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورفعه طلحة ابن عبيد الله حتى استوى قائما، ومسح مالك بن سنان أبو سعيد الخدري ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (في الجهاد). والترمذي (في الدعوات). ورواه أحمد في مسنده- وإسناده صحيح- وحسنه الترمذي-

رضي الله عنه الدم عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ازدزده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من مس دمه دمي لم تصبه النار ... ". قال النووي: وفي هذا وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء عليهم السلام لينالوا جزيل الأجر والثواب، ولتعرف أممهم ما أصابهم من أهل الشر فيتأسوا بهم، قال القاضي: وليعلم أنهم من البشر مخلوقون تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسادهم ما يطرأ على أجسام البشر، ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون، ولا تفتن بما أظهر الله على أيديهم من المعجزات ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم، والمؤمنون لهم أسوة حسنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على الأذى الحاصل من الملحدين والمارقين وليجاهدوا وليثبتوا {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

العقيدة الإسلامية

العقيدة الإسلامية تقوم العقيدة الإسلامية على ثلاث دعائم كلها يسلم العقل بها، ويقوم الدليل المستمد من البديهة عن صحته، وليس فيه مجال لوهم ولا خرافة هي: الوحدانية والإيمان بالغيب، والرسل أجمعين ... فأول هذه الدعائم- الإيمان بواحد أحد هو الفرد الصمد، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير هو منزه عن مشابهة الحوادث لأنه غيرها، ولا تتحقق هذه المغايرة إلا إذا كان من غير جنسها. هو خالقها ومبدعها، والشيء لا يخلق بعضه بعضا، فهو ليس جسما من الأجسام، وليس عرضا من الأعراض لأنه خالقها وخالق كل شيء، وهو فوق كل شيء، وليس له مكان يحده، لأن المكان هو الذي يحدد الأجسام وليس مركبا من أجزاء كما نتركب، فهو واحد في ذاته، وواحد في صفاته، قد اختص وحده بالأشياء والتكوين، فهو بديع السماوات والأرض، ليس بوالد ولا مولود، وقد خلق الأسباب والمسببات، ونظم الكون بحكمته، وسيره بإرادته، وأبدع نواميسه بقدرته، وهو وحده المستحق للعبادة، وليس في خلقه ما يحل هو فيه لأنه ليس جسما يحل في غيره. التوحيد هو العماد الأول والأقوى للإسلام وتعاليم القرآن، والذي شغلت الدعوة إليه وتقريره حيزا كبيرا ينادي بتحرير الإنسان من سيطرة الأوهام والخرافات والخضوع لما لا يملك ضرا ولا نفعا، والتوسل بالوسائل الزائفة لحماية نفسه، واتخاذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله كما هو بارز في آيات عديدة من القرآن، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران)، وقال في (سورة الزمر): {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}. وقال أيضا في نفس السورة {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}: وذلك لما في عبادة غير الله والخضوع له والتوسل به من تسخير لقوى الإنسان، وتعطيل لمواهبه وإذلال نفسه إذلالا من شأنه أن يظل راغبا خائفا جزعا مما لا يبعث في الحقيقة على شيء من ذلك، في حين أن التوحيد والإيمان بالله (بآله) واحد متصف بجميع صفة الكمال والحق والعدل والخير والقوة واعتبار كل ما عدا الله صغيرا مهما كبر فالله أكبر منه والانسان ضعيفا مهما قوي فالله أقوى منه، وعاجزا مهما قدر فالله أقدر منه، وفقيرا مهما غني فالله أغنى منه، فلا يتجه أحد إلى غير الله، ولا يستشعر بخوف، ولا رهبة من أحد غيره، ولا يذل نفسه في حاجة لأحد غيره، وناهيك بهذا قوة هائلة محررة لما أودعه الله في الإنسان من قوى الخوف وموجهة لها نحو الخير والصلاح والكمال في هذه الحياة، ومساعدة له على القيام بواجباته الاجتماعية والانسانية، ثم حافزة له على عدم الرضا بالظلم والقهر، والتجبر والمرد على البغاة والمتجبرين والمتكبرين، وبالإضافة إلى هذا فإن الدعوة إلى الله وحده قد انطوت على تقرير ما في الإيمان بالله وحده، والاتجاه إليه وحده بالعبادة والدعاء، من فوائد عظيمة متصلة بشؤون الحياة الدنيا صلة وثيقة من حيث توكيد استجابة الله لداعيه وذكره لذاكريه، وقدرته وحده على تفريج ما يحل فيهم من خطوب، ومنحهم ما يرجونه من رغائب، وتحقيق ما يأملونه من مطالب كما هو واضح في الآيات الآتية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (سورة البقرة). وقال في (سورة النمل) {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ

خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

بعض معالم التوحيد في العقيدة

بعض معالم التوحيد في العقيدة معالم التوحيد في الأخلاق هو ألا يصدر الإنسان ولا يرد في سلوكه الشخصي، أو في سلوكه الاجتماعي إلا عن توجيه إلهي. ومعالم التوحيد في النية أن يكون الإنسان في كل ما يأتي وما يدع قاصدا وجه الله تعالى، وأن تكون حياته كلها لله، وليست الحياة وحدها، وإنما الممات أيضا. والتوحيد على العموم: هو أن يهب الإنسان نفسه لله في قيامه وجلوسه، في نومه ويقضته، في غضبه ورضاه، في صداقته وعداوته، في بيعه وشرائه، في عمله وراحته، في أفكاره وآرائه، في توجيهه وإشارته، في نصائحه وتحذيراته، في كل نفس يتنفسه، أو طرفة عين يطرفها. وإن توحيد الإنسان هو أن تكون صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين لا شريك له ويقترب الإنسان من المثل الأعلى الإسلامي بمقدار قربه من هذه المعاني عقيدة وأخلاقا ونية، وقوله تعالى {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} إنما يشير بنا إلى خلوصه من كل شائبة شرك سواء أكان الشرك في العقيدة، أم كان في الأخلاق والنية، والله سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك. فمن عمل عملا لله ولغيره فإن الله سبحانه بريء من عمله، وكذلك من اعتقد شريكا لله فالله بريء منه ..

علاقة الله بالإنسان

علاقة الله بالإنسان ليس من العجيب أن تكون علاقة الله بمخلوقاته - القائمة على العبودية إفرادا وإخلاصا ودواما وثباتا-، أو علاقة الإنسان به هي محور للعقيدة الإسلامية التي عرضها القرآن .. فقد وصف القرآن الكريم باعتبار ذاته: بأن الأول والآخر والظاهر والباطن، والقيوم والواحد والحي والمتعالي، والغني والقادر، والباقي، والعظيم والقهار، والحميد والمجيد، والقوي المتين والعليم واللطيف، والحكيم والسميع والبصير، والملك القدوس، والبر الرحيم، ونور السماوات، والحق إلى غير ذلك من الصفات التي تصور الله غنيا بنفسه أبديا، واسع القدرة والمعرفة، محيطا بكل شيء، وأنه الحق وحده ... وباعتبار صلته بمخلوقاته تحدث عنه بأنه الخالق، وبأنه المبديء والمعيد، والباريء، والمصور والمحيي والمميت، والوارث والباعث، والحافظ ومالك الملك، والولي والمقتدر، والجبار ... إلى غير ذلك من النعوت التي تبين أنه الخالق المطلق، المدبر الحاكم، والملك. الذي لا قوة غير قوته، ولا سلطان غير سلطانه في الوجود. وباعتبار علاقته بالإنسان: وصفه بأنه الرحمن الرحيم والغافر والغفور والغفار، والعفو والحليم والشكور (الذي يجازي الناس على حمدهم) والصبور والرؤوف الودود الرقيب والشهيد. وباعتبار علاقة الإنسان به: نعته بأنه المهيمن والهادي والوكيل، والولي والوهاب، والرزاق والمجيب والمعطي والمغني يبسط الرزق لمن يشاء إلى غير ذلك من الأوصاف التي تدل على أن صلة العبد به صلة احتياج. فالعبد محتاج إلى عفوه وتدبيره، والله هو الرقيب والحسيب عليه المهيمن على العباد جميعا يعينهم ويهديهم، فهو مصدر الرزق بأوسع معانيه ... والله إذن هو الفاعل لكل شيء في الوجود، وإرادته هي سبب ما في الوجود كله .. هو يضل من يشاء ويهدي من يشاء ... والإنسان المؤمن

لا يستطيع إزاء ذلك غير أن يرجو الله ويدعوه الهداية، وأن يسأله ألا يجعله من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وكانوا في الآخرة من الخاسرين .. هذا الاعتقاد في الله جل جلاله على هذا النحو، كان واضحا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعند جماعته من المهاجرين والأنصار، وكانوا يبشرون به، ويدافعون عنه. وإذا تليت آي الذكر الحكيم قالوا: آمنا به كل من عند ربنا، لم يلجأوا إلى تفتيش عن المتشابه فيه، ولم تكن بهم حاجة إلى تأويله ... كان ذلك عنوان الجماعة المسلمة ومظهر إيمانها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان حال المؤمنين حقا .. ننقل بعض المعاني لأسماء الله الحسنى، لابن قيم الجوزية من تفسيره لفاتحة الكتاب دلالة الحمد على توحيد الأسماء والصفات وأما دلالة الأسماء الخمسة عليها، وهي: الله، والرب، والرحمان والرحيم، والملك فمبني على أصلين: أحدهما: أن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء وصفات وبذلك كانت حسنى، إذ لو كانت ألفاظا لا معنى فيها لم تكن حسنى، ونفي معاني أسماء الله الحسنى من أعظم الإلحاد فيها قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة الأنفال). ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها، لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها، وأثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله، كقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} فعلم أن القوة من أسمائه، ومعناه الموصوف بالقوة، وكذلك قوله: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} فالعزيز من له العزة، فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قويا ولا عزيزا. وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار،

وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" فأثبت المصدر الذي اشتق منه اسمه (البصير)، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات"، وفي حديث الإستخارة "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك" فهو قادر بقدرة، وقال تعالى لموسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} فهو متكلم بكلام، وهو العظيم الذي له العظمة، كما في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى: "العظمة إزاري، والكبرياء ردائي"، وهو الحكيم له الحكم {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} وأجمع المسلمون أنه لو حلف بحياة الله أو سمعه أو بصره، أو قوته أو عزته، أو عظمته إنعقدت يمينه، وكانت مكفرة لأن هذه صفات كماله التي انشقت منها أسماؤه .. لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسع أن يخبر عنه بأفعالها، فلا يقال: يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد، فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها، فإذا انتفى أصل الصفة إستحال ثبوت حكمها .. روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله عز وجل {الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} قال: يكذبون عليه، وهذا تفسير بالمعنى، وحقيقة الإلحاد فيها: العدول عن الصواب، وإدخال ما ليس من معانيها عليها، وإخراج حقائق معانيها عنها، هذا حقيقة الإلحاد، ومن فعل ذلك فقد كذب على الله، ففسر ابن عباس الإلحاد بالكذب، وهو غاية الملحد، في أسمائه تعالى، فإنه إذا أدخل في معانيها ما ليس منها، وخرج بها عن حقائقها أو بعضها، فقد عدل بها عن الصواب والحق، وهو حقيقة الإلحاد، فالإلحاد: إما بجحودها وإنكارها وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة. الأصل الثاني: إن الإسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة، فإنه يدل دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم، فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن، وكذلك على الذات المجردة عن

الصفة، ويدل على الصفة الأخرى باللزوم. فإن إسم السميع يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة، وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن، وكذلك اسم (العلي) واسم الحكيم وسائر أسمائه، فإن من لوازم اسم (العلي) العلو المطلق من جميع الوجوه: علو القدرة، وعلو القهر وعلو الذات، فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه (العلي). وكذلك اسمه الظاهر من لوازمه: ألا يكون فوقه شيء كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء" بل هو سبحانه فوق كل شيء فمن جحد فوقيته سبحانه فقد جحد لوازم إسمه (الظاهر) ولا يصح أن يكون الظاهر هو من له فوقية القدرة فقط، كما يقال: الذهب فوق الفضة، والجوهر فوق الزجاج، لأن هذه الفوقية لا تتعلق بالظهور، بل قد يكون المفوق أظهر من الفائق، فيها. ولا يصح أن يكون ظهور القهر والغلبة فقط وإن كان سبحانه ظاهرا بالقهر والغلبة لمقابلة الإسم (بالباطن) وهو الذي ليس دونه شيء، كما قابل الأول، الذي ليس قبله شيء، بالآخر ليس بعده شيء. وكذلك اسم الحكيم من لوازمه ثبوت الغايات المحمودة المقصودة له بأفعاله، ووضعه الأشياء في مواضعها، وإيقاعها على أحسن الوجوه، فإنكار ذلك إنكار لهذا الاسم ولوازمه، وكذلك سائر أسمائه الحسنى ..

التعريف باسم الجلالة

التعريف باسم الجلالة إذا تقرر هذان الأصلان: فاسم الله دال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا بالدلالات الثلاث فإنه دال على ألوهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له، مع نفي أضدادها عنه. وصفات الإلهية هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال، وعن العيوب والنقائص، ولهذا يضيف الله تعالى إلى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، ويقال: الرحمن والرحيم، والقدوس، والسلام والعزيز والحكيم، من أسماء الله ولا يقال الله من أسماء الرحمن، ولا من أسماء العزيز إلا غير ذلك. فعلم أن اسم (الله) مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دال عليها بالاجمال. وللأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الالهمة التي اشتق منها اسم الله، واسم الله دال على كونه مألوها معبودا تؤلهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا وفزعا إليه في الحوائج والنوائب. وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته المتضمنين لكمال الملك، والحمد وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع ولا بصير ولا قادر ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله فصفات الجلال، والجمال أخص باسم الله. وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة، وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب. وصفات الإحسان، والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف، أخص باسم الرحمن وكرر إيذانا بثبوت الوصف، وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته، فالرحمن وصفه الرحمة، والرحيم: الراحم لعباده، ولهذا يقول تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ولم يجيء رحمان بعباده، ولا رحمان بالؤمنين مع ما في اسم الرحمن الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف، وثبوت جميع معناه الموصوف به ألا ترى أنهم يقولون: غضبان: للممتليء غضبا وندمان وحيران وسكران،

ارتباط الخلق بالأسماء الثلاثة

ولهفان لمن مليء بذلك؟ ة فبناء فعلان للسعة والشمول ولهذا يقرر استواؤه على العرش بهذا الاسم كثيرا كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ}. فاستوى على عرشه باسم الرحمن، لأن العرش محيط بالمخلوقات قدر وسعها، والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات. فلذلك وسعت رحمته كل شيء، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده موضوع على العرش: إن رحمتي تغلب غضيي" وفي لفظ "فهو موضوع عنده على العرش". فتأمل خصائص هذا الكتاب بذكر الرحمة، ووضعه عنده على العرش، وطابق بين ذلك وبين قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم. وصفات العدل، والقبض والبسط، والخفض والرفع، والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، والقهر والحكم ونحوها: أخص باسم الملك وخصه بيوم الدين، وهو الجزاء بالعدل لتفرده بالحكم فيه وحده، ولأنه اليوم الحق، وما قبله كساعة ولأنه الغاية، وأيام الدنيا مراحل إليه. ارتباط الخلق بالأسماء الثلاثة تأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة وهي: " الله، الرب، الرحمن" كيف نشأ عنها الخلق، والأمر، والثواب، والعقاب؟ وكيف جمعت الخلق وفرقتهم؟ فلها الجمع والفرق. فاسم الرب له الجمع الجامع لجميع المخلوقات. فهو رب كل شيء وخالقه، والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته، وكل من في السماوات والأرض عبد له في قبضته، وتحت قهره، فاجتمعوا بصيغة الربوبية، وافترقوا بصفة

الالهية، فألهه وحده السعداء، وأقروا له طوعا لأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي لا تنبغي العبادة والتوكل، والرجاء، والخوف. والحب والإنابة والإخبات والخشية، والتذلل والخضوع إلا له. وهنا افترق الناس وصاروا فريقين: - فريقا مشركين في السعير. - وفريقا موحدين في الجنة. فالالهية هي التي فرقتهم، كما أن الربوبية هي التي جمعتهم فالدين والشرع. والأمر والنهي، مظهره وقيمامه: من صفة الالهية. والخلق والايجاء والتدبير والفعل: من صفة الربوبيه. والجزاء بالثوات والعقاب، والجنة والنار من صفة الملك وهو ملك يوم الدين. فأمرهم بالهيته، وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم، وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله، وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى ... وأما الرحمة فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده فالتالية منهم له، والربوبية منه لهم. والرحمة سبب وأصل بينه وبين عباده. بها أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم، وأسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم، فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينه وبينهم سبب الرحمة ... واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} مطابق لقوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها، فوسع كل شيء برحمته وربوبيته.

تنزيه الله جل جلاله

تنزيه الله جل جلاله إنه ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مقدر، وأنه لا يماثل الأجسام، لا في التقدير، ولا في قبول الانقسام وأنه ليس بجوهر. ولا تحله الجواهر ولا بعرض، ولا تحله الأعراض، بل لا يماثل موجودا، ولا يماثله موجود، ليس كمثله شيء ولا هو مثل شيء وانه لا يحده المقدار، ولا تحويه الأقطار، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه الأرضون والسماوات. وأنه استوى على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته وهو فوق العرش، وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد، إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام، كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام وأنه لا يحل في شيء، ولا يحل فيه شيء تعالى عن أن يحويه مكان. كما تقدس عن أن يحده زمان. بل كان قبل أن يخلق الزمان والمكان. وهو الآن على ما عليه كان. وانه بائن من خلقه بصفاته، وليس في ذاته سواه، ولا في سواه ذاته .. وأنه مقدس عن التغيير والانتقال، لا تحله الحوادث ولا تعترضه العوارض، بل لا يزال في نعوت جلاله منزها عن الزوال، وفي صفة كماله مستغنيا عن زيادة الاستكمال ... وانه في ذاته معلوم الوجود بالعقول، مرئي الذات بالابصار، نعمة منه ولطفا بالابرار في دار القرار، وإتماما للنعيم بالنظر إلى وجهه الكريم. القدرة: وأنه حي قادر، جبار قهار، لا يعتريه قصور ولا عجز، ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يعارضه فناء ولا موت، وأنه ذو الملك

والملكوت، والعزة والجبروت، له السلطان والقهر، والخلق والأمر، السماوات مطويات بيمينه، والخلائق مقهورون في قبضته. وأنه المتفرد بالخلق والاختراع، المتوحد بالإيجاد والإبداع خلق الخلق وأعمالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، لا يشذ عن قبضته مقدور، ولا يعزب عن قدرته تصاريف الأمور، ولا تحصى مقدوراته، ولا تتتاهى معلوماته. العلم: وأنه عالم بجميع المعلومات. محيط علمه بما يجري في تخوم الأرضين إلى أعلى السماوات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويدرك حركة الذر في جوف الهواء، ويعلم السر وأخفى، ويطلع على هواجس الضمائر، وحركات الخواطر وخفيات السرائر يعلم بعلم قديم أزلي، لم يزل موصوفا في آزال الآزال لا بعلم متجرد حاصل في ذاته بالحلول والانتقال ... الإرادة: وأنه مريد للكائنات، مدبر للحادثات، لا يجري في الملك والملكوت قليل أو كثير، صغير أو كبير، خير أو شر، نفع أو ضر، عرفان أو نكر، فوز أو خسر، زيادة أو نقص، طاعة أو عصيان، كفر أو إيمان، إلا بقضائه وتقديره، وحكمه ومشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن مشيئته لفتة ناضر، ولا فلتة خاطر، بل هو المبديء المعيد، الفعال لما يريد، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، ولا مهرب لعبد من معصيته، إلا بتوفيقه ورحمته ولا قوة على طاعته إلا بمحبته وإرادته، لو اجتمع الإنس والجن، والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته لعجزوا عنه. وأن إرادته قائمة بذاته، في جملة صفاته، لم يزل كذلك موصوفا بها، مريدا في أزله لوجود الأشياء في أوقاتها التي قدرها، فوجدت في أوقاتها، كما أراده في أزله من غير تقدم ولا تأخر، بل وقعت على وفق علمه وإرادته من غير تبديل ولا تغيير، دبر الأمور لا بترتيب أفكار وتربص زمان، فلذلك لم يشغله شأن عن شأن:

السمع والبصر: وأنه تعالى سميع بصير، يسمع ويرى، ولا يعزب عن مسموعه مسموع وإن خفي، ولا يغيب عن رؤيته مرئي وإن دق، لا يحجب سمعه بعد، ولم لا يدفع رؤيته ظلام، يرى من غير حدقة وأجفان، ويسمع من غير أصمخة وآذان، كما يعلم بغير قلب، ويبطش بغير جارحة، ويخلق بغير آلة، إذ لا تشبه صفاته صفات الخلق، كما لا تشبه ذاته ذات، الخلق. الكلام: وأنه متكلم آمر ناه، واعد متوعد، بكلام أزلي قديم قائم بذاته، لا يشبه كلام الخلق، فليس من انسلال الهواء، أو أصطكاك أجرام، ولا حرف منقطع باطباق شفة أو تحريك لسان. وأن القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، كتبه المنزلة على رسله، وأن القرآن مقروء بالألسنة مكتوب بالمصاحف مخطوط في القلوب، وأنه مع ذلك قديم، قائم بذات الله تعالى. لا يقبل الانفصال والفراق بالانتقال، في القلوب والأوراق، وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف كما يرى الأبرار ذات الله تعالى من غير جوهر ولا عرض، ومن كانت له هذه الصفات كان حيا عالما، قادرا، مريدا، سميعا، بصيرا، متكلما، بالحياة والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والكلام لا بمجرد الذات ... الأفعال: وإنه لا موجود سواه إلا وهو حادث بفعله، وفائض من عدله على أحسن الوجوه وأكملها، وأتمها وأعدلها، وأنه حكيم في أفعاله، عادل في أقضيته ولا يقاس عدله بعدل العباد، إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره، ولا يتصور الظلم من الله تعالى، فإنه لا يصادف لغيره ملك حتى يكون تصرفه فيه ظلما ... فكل ما سواه من إنس وجن، وشيطان وملك وسماء وأرض وحيوان ونبات، وجوهر وعرض، ومدرك ومحسوس، حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعا وأنشأه بعد أن لم يكن شيئا، إذ كان في الأزل موجودا

وحده، ولم يكن معه غيره، فأحدث الخلق بعده إظهارا لقدرته وتحقيقا لما سبق من إرادته، وحق في الأزل من كلمته، لا لافتقاره إليه وحاجته. وأنه تعالى متفضل بالخلق والإختراع والتكليف، لا عن وجوب، ومتطاول بالإنعام والإصلاح، لا عن لزوم وله الفضل والإحسان، والنعمة والامتنان، إذ كان قادرا على أن يصب على عباده أنواع العذاب، ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب، ولو فعل ذلك لكان منه عدلا، ولم يكن قبيحا ولا ظلما. وأنه يثيب عباده على الطاعات، بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم، إذ لا يجب عليه فعل، ولا يتصور منه ظلم، ولا يجب لأحد عليه حق ... وحقه في الطاعات واجب على الخلق بإيجابه على لسان أنبيائه، لا بمجرد العقل، ولكنه يبعث الرسل، وأظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة، فبلغوا أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فوجب على الخلق تصديقهم بما جاءوا به.

الإيمان بالغيب

الإيمان بالغيب الإيمان بالغيب هو الدعامة الثانية من دعائم العقيدة الإسلامية، والإيمان بالغيب هو الدعامة في كل دين، لأن وراء هذا العالم المادي عالم آخر غيره، فمن لم يؤمن به فقد جحده، ولا يمكن أن يكون إيمان بالله من غير إيمان بالغيب، ولذلك يقول الله في أوصاف المؤمنين {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}. الغيب ما خرج عن متناول الحواس، وإدراك العقل، والإيمان بما يجيء من عالم الغيب، لا معتبر له إلا إذا كان مسند إلى جهة لا يتطرق إليها الكذب، وإلا كان التصديق بما يخبر به العرافون والكهنة وغيرهم ممن يدعون علم الغيب، إيمانا، وهو ليس من الإيمان في شيء، وإنما المراد بالإيمان هنا ما يخبر به رسل الله وأنبياؤه أقوامهم من أمر الآخرة التي لا علم للناس بها. فأول صفة من صفات المتقين هي الإيمان بالغيب التي يخبر بها الرسل عليهم السلام حيث تلقوا الأخبار عن تلك الغيبيات وحيا من الله، وهم الأمناء على ما أوحى إليهم من ربهم ... فلا إيمان لمن لا يؤمن بالله، ولا إيمان لمن لا يؤمن برسل الله، ولا إيمان لمن لا يؤمن بما يحمل رسل الله من رسالات وما يبلغون من أوامر ونواهي، وما يبلغون من أخبار، وملاك التقوى هو الإيمان، فلا تقوى لمن لا إيمان له، فإذا جاء الإيمان على تلك الصورة، كان داعية لأن يقيم الإنسان على طريق التقوى، وأن يؤهله لتلك الصفات التي وصف الله سبحانه بها المتقين، الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، إيمانا مفصلا، وبما أنزل على رسل الله من قبله إيمانا مجملا، ثم ينتهي بهم ذلك الإيمان إلى الإيمان باليوم الآخرة، والإيمان بالملائكة وهي الأرواح المطهرة، والإيمان بكل المخلوقات المغيبة عن حسنا، والإيمان بأن هذه الحياة الدنيا هي الحياة الفانية، وما بعدها

هي الحياة الباقية، وهي الأخرى، وأن الإيمان بالحياة الأخرى هو لب الدين، يجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته .. وأن الإيمان بالغيب والنشور والحساب والعقاب والثواب من شأنه أن يعلو بالإنسان من مرتبة الحيوان ولا يجعل حياته عقيمة لا تنتج، ويدفع عنه التشاؤم النفسي، فهي إن لم يسعد في الحاضرة رجا السعادة في الآخرة، والمؤمن يتربى فيه الوجدان والإحساس بالتبعية إذا آمن بالآخرة ... ولقد كان العبيد والفقراء يقاومون السادة والأغنياء ويرضون بالعذاب ولا يبالونه لأنهم مؤمنون بما عنده في اليوم الآخر، فالإيمان باليوم الآخر ذخيرة إنسانية ومن حرمها فقد حرم خير زاد يعلو به الإنسان، ويقاوم أحداث الزمان. ولا يقبل إيمان عبد حتى يؤمن بما أخبرت عنه السنة بعد الموت من سؤال منكر ونكير في القبر وهما ملكان مهيبان هائلان يقعدان العبد في قبره سويا ذا روح وجسد، فيسألانه عن التوحيد، والرسالة ويقولان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وهما فتانا القبر، وسؤالهما أول فتنة القبر. وأن يؤمن بعذاب القبر، وأنه حق، وحكمه عدل، على الجسم والروح على ما يشاء ... ويؤمن بالميزان ذي الكفتين واللسان توزن فيه الأعمال بقدرة الله تعالى سواء كانت كبيرة أو صغيرة مثل مثاقيل الذر، والخردل، تحقيقا لتمام العدل، وتطرح صحائف الحسنات في صورة حسنة في كفة النور، فيثقل بها الميزان، على قدر درجاتها عند الله، بفضل الله تعالى، وتطرح صحائف السيئات في كفة الظلمة فيخف بها الميزان بعدل الله تعالى ... وأن يؤمن بالصراط فهو حق، وهو جسر ممدود على متن جهنم، أحد من السيف، وأدق من الشعرة، تزل عليه أقدام الكافرين بحكم الله تعالى، فيهوي يهم إلى النار، وتثبت عليه أقدام المؤمنين، فيساقون إلى دار القرار ...

وأن يؤمن بالحوض المورود حوض سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يشرب منه المؤمنون قبل دخول الجنة وبعد جواز الصراط من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا عرضه مسيرة شهر، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل حوله أباريق عددها عدد نجوم السماء فيه ميزابان يصبان من الكوثر، ويؤمن بيوم الحساب، وتفاوت الحق فيه، إلى مناقش في الحساب، وإلى مسامح فيه، وإلى من يدخل الجنة بغير حساب، وهم المقربون ... فيسأل من شاء من الأنبياء عن تبليغ الرسالة، ومن شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين، ويسأل المبتدعة عن السنة، ويسأل المسلمين عن الأعمال ... ويؤمن بإخراج الموحدين من النار بعد قضاء ما عليهم فيها، حتى لا يبقى في جهنم موحد بفضل الله تعالى، ويؤمن بشفاعة الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء، ثم سائر المؤمنين كل على حسب جاهه ومنزلته، وشفاعة هؤلاء جميعا لا تكون إلا بإذن الله، فهي ليست شفاعة قدرة من العباد بل هي شفاعة تكريم الله لبعض الأتقياء ومن بقي من المؤمنين لم يكن له شفيع أخرج بفضل الله تعالى، ولا يخلد في النار مؤمن، بل يخرج منها من كان في قلبه ذرة من الإيمان ... وأن يعتقد فضل الصحابة وترتيبهم، وأن أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم، وأن يحسن الظن بجميع الصحابة ويثني عليهم كما أثنى الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم أجمعين، فكل ذلك وردت به السنة، وشهدت به الآثار، فمن اعتقد جميع ذلك موقنا به، كان من أهل الحق وعصابة السنة، وفارق رهط الضلال والبدعة ...

الإيمان بالرسل أجمعين

الإيمان بالرسل أجمعين الإيمان بالرسل السابقين جزء من العقيدة الإسلامية وقد صرح القرآن الكريم بذلك قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ... إلى آخر الآية} والآيات القرآنية في هذا المعنى كثير ... الإسلام يطوي في عقيدته الخالصة كل عقيدة صحيحة في الأديان كلها لأنه دين الوحدانية الإنسانية. إن الله بعث النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم - برسالة الإسلام إلى كافة الخلق من الإنس والجن بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فنسخ بشرعه الشرائع السابقة إلا ما قرره، وفضله على سائر الأنبياء، وجعله سيد البشر، وجعل كمال الإيمان بشهادة التوحيد لا إله إلا الله وقرن إليها شهادة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر عنه من الدنيا والآخرة وأنه لا يقبل إيمان عبد حتى يؤمن بما أخبر عنه بعد الموت فحكمة الله سبحانه وتعالى تقتضي بأن يتخير لهذه السفارة خلاصة الإنسانية وهامتها، فلا تصطفي لها في أي عصر إلا الرجل الأول في الكمال الإنساني، فيكون هو الإنسان الذي تتمثل فيه كمالات الجنس البشري لعصره بحيث يكون وصلة ما بين السماء والأرض، وسفيرا بين الله والناس. محمد - صلى الله عليه وسلم - لقد رشحته السماء لأعظم رسالة حملها نبي، ولأكمل دعوة قام بها رسول، إنه يحمل آخر كلمة من الله إلى الناس، هي الكلمة الأخيرة، الكلمة الحاسمة فيما بين السماء والأرض، فليس بعدها كلام إنها الخاتمة ... محمد - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيئين ليس بعده نبي، وليس وراءه بشير ولا نذير، وإذا كان ذلك كذلك فإن لنا أن نقول أن محمدا هو منتخب الإنسانية كلها وهو مجتمع كمالاتها في أكمل حالاتها وأتم صورها ... كانت رسالات الرسل- قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - رسالات محلية أشبه بالوصاية على الأفراد، يظهر الرسول في جماعة من الجماعات، أو قوم من الأقوام،

يقوم لهم وجودهم المعوج، ويضيىء لهم طريقهم المظلم، ثم لا يلبث أن يخلفه فيهم رسول، ويخلفه رسول وهكذا ... حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وأراد للناس أن يستقلوا بوجودهم وأن يفكروا لأنفسهم بعدما بلغوا الرشد، وصاروا في عداد الرجال كانت رسالة الإسلام، وكان رسولها الأمين محمد بن عبد الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخاتم النبيئين ... ومن هنا ندرك السر في أن الرسالة الإسلاميه كانت رسالة عقلية منطقية تخاطب العقل، وتقنعه عن طريق الحجة القائمة على البراهين الإستدلالية التي يستقيم تفكير الناس جميعا. إن الرسالة الإسلامية لم تستند إلى معجزة قاهرة تطغى على عقول الناس، وتغتال تفكيرهم، وتشل إرادتهم حين لا يملكون لها ردا، ولا يستطيعون لها نقضا، وإنما استندت إلى الكلمة، وما فيها من عقل منطق. فلم تطلب من الناس أكثر من أن يتفكروا، وأن يستخذموا عقولهم المعطلة، فإنهم إن فعلوا ذلك فلن تبعد بينهم وبين الرسالة الإسلامية شقة الخلاف بل إنهم والرسالة سيلتقيان على طريق واحد إذا فكروا وأخلصوا التفكير ... {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (سورة سبأ). هذا هو عنوان الرسالة الإسلامية، وهذا هو مفتاحها استخدام العقل، واحترام معطياته ليستعمل الإنسان عقله وليفكر فيها تحمل الرسالة الإسلامية من مفردات ليفكر وحده، بينه وبين نفسه متأملا متعمقا أو ليفكر مع غيره، يعرض الأمر ويقلبه، مؤيدا أو معارضا إنه في كلا الحالين سيصل إلى مقررات إن لم تكن حقا خالصا فهي أقرب شيء إلى الحق. فالعقل في مواجهة الرسالة الإسلامية محمول على أن يفكر وأن يتحرك في كل مجالاته غير مقيد بشيء، أو مشدود إلى شيء، بل إن الرسالة

الإسلامية لتغري العقل إغراء على التفكير بما تنادي به من دعوات عالية إلى إيقاظ العقل وتنبيهه، وبما تقدم إليه من صور، وما تفتح له من مجالات، تدعو أكثر الناس بلادة وغباء إلى استخدام عقولهم {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (سورة يونس).

النبوة رحمة

النبوة رحمة النبوة رحمة راحمة حيث كانت، وخير غدق حيث أصابت لأنها تحمل كلمة السماء إلى الناس محملة برحمة الله إلى عباده، موقرة بالخير لمن اتصل بها، وفتح قلبه لها ... فما بزغ في الناس نبي من أنبياء الله أو رسول من رسله إلا والناس منه في معرض الرحمة، وفي عارض ممطر بالرفد والخير العميم. فبين يدي كل نبي نور يضيء دنيا الناس، ويكشف لهم معالم الطريق إلى الخير والحق. وعلى لسان كل كلمات ربانية ترسم للناس مناهج العمل لغايات الخير والسعادة يقول الله سبحانه {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (سورة الحديد). ويقول سبحانه {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}، ويقول تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فأنبياء الله ورسله هم حجة الله على عباده أنهم يحملون إلى الناس أطواق النجاة حين تضطرب بهم سفينة الحياة وحين تنطمس أمامهم معالم الطريق إلى شطآن الأمن والسلامة، فمن استجاب لهم، وتناول ما في أيديهم من أضواء الحق وأطواق النجاة سلم ونجا وكان من الفائزين برحمة الله ورضوانه ومن أبى واستكبر أن يمد يده إلى هذا الحبل الممدود لنجاته واستنقاذه من الهلاك المطل عليه فلا يلومن إلا نفسه؟ ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، إن أنبياء الله ورسله هم رحمة خالصة، لا أجر عليها، ولا من معها إنها من الله وإلى عباد الله {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} فما حملت دعوة نبي، أو رسالة رسول شيئا من شأنه أن يضيق به الناس، أو يشقوا به، أنها دعوة تحمل إلى الناس الحياة لأموات القلوب والهدى لضلالات العقول كما يحمل الغيث الحياة لصنوف الأحياء. وأما من شأنه أن يكون في الأحياء {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ

مِنْهَا ... } نعم قد يضيق بعض المنحرفين والمتسلطين بدعوات الأنبياء لان انحرافهم لا يستقيم معها، ولأن تسلطهم لا يحيا في ظلها، اذ هي دعوة من شأنها أن تقيم العوج، وتقضي على التسلط، وتقيم بين الناس موازين المساواة والعدل. ومن أجل هذا كان الذين يعادون الأنبياء، ويصدون الناس عنهم هم دائما أصحاب السلطان، وأرباب الجاه والغنى، إذ يحسبون في هذا الذي تحمله الدعوة النبوية إلى الناس من عدل وإخاء تضييعا لما معهم من سلطان وجاه، وذهابا لما بين أيدهم من مال وحطام .. أو هو على أقل تقدير ازعاج لما هم فيه من حال رضوا بها واطمأنوا إليها. ولو عقل هؤلاء لعرفوا أن النبي لا ينزع سلطانهم ليضعه في يده، ولا يأخذ مالهم ليضيفه إلى نفسه، فما جاءت رسل الله لطلب جاه أو سلطان، وما عملوا على جمع المال، ولا تشييد القصور، والاستكثار من الحشم والخدم، أن دعوة النبي وجهاده وكفاحه من أجل الناس، ولحساب الحق والعدل وليس له من شيء إلا ما تفضل الله به عليه من منزلة كريمة عنده، وثوأب طيب لا حمل من عبء الدعوة ولا لقي في سبيلها من عنت وأذى ان أجرى إلا على الله ... ولو عقل هؤلاء الذين يعادون الأنبياء لعرفوا أن دعوتهم هي دعوة الحق والإحسان والعدل والبر، وأنها لا تتعرض للسلطان العادل، ولا تقف في وجه الغني إذا كان يؤدي حق الله، وحق السائل المحروم. ومن كمال حكمة الله سبحانه وتعالى أن لا يخلق الخلق ويتركهم سدى لا يؤمرون ولا ينهون ولهذا نزه نفسه عن هذا في غير موضع من كتابه. وأخبر أن من أنكر الرسالة والنبوة، ويقول ما أنزل الله على بشر من شيء فإنه ما عرف الله حق معرفته، ولا عظمه حق عظمته، ولا قدره حق قدره بل نسبه إلى ما لا يليق به، ويأباه حمده ومجده ... كون الله سبحانه وتعالى إلها، فإن ذلك مستلزم لكونه معبودا مطاعا، ولا سبيل إلى معرفة ما يعبد به ويطاع إلا من جهة رسله وكونه ربا، فإن الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم وجزاء محسنهم بإحسانه،

ومسيئهم بإساءته، هذه حقيقة الربوبية وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة. وكون الله رحمانا رحيما، فإن كمال رحمته: أن يعرف عباده نفسه وصفاته ويدلهم على ما يقربهم إليه، ويباعدهم منه ويثبتهم على طاعته، ويجزيهم بالحسنى، وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة، فكانت رحمته مقتضية لها ولله سبحانه وتعالى ملك، والملك يقتضي التصرف بالقول كما أن الملك يقتضي التصرف بالفعل، فالملك هو المتصرف بأمره وقوله، فتنفذ أوامره ومراسيمه حيث شاء، والله له الملك فهو المتصرف في خلقه بالقول والفعل وتصرفه نوعان: تصرفه بكلماته الكونية {كُنْ فَيَكُونُ} وتصرف بكلماته الدينية، ولهذا أرسل رسله إلى الناس ليعرفوهم ربوبيته وملائكته والايمان بهم لأنهم رسل الله في خلقه ... وهناك يوم الدين، وهو يوم الجزاء الذي يدين الله فيه العباد بأعمالهم خيرا وشرا، وهذا لا يكون إلا بعد ثبوت الرسالة والنبوة وقيام الحجة التي بسببها يدان المطيع والعاصي ... وأن الله سبحانه لا يعبد إلا بما يحبه ويرضاه، ولا سبيل للخلق إلى معرفة ما يحبه ويرضاه إلا من جهة رسله، فانكار رسله أنكارا لكونه معبودا، وأنه هاد إلى صراط مستقيم وهو معرفة الحق والعمل به، وهو الطريق الوحيد الموصل إلى طاعة الله، ولا يعلم ذلك إلا من جهة الرسل. والله سبحانه وتعالى منعم على أهل الهداية، فإن انعامه عليهم إنما تم بإرسال الرسل إليهم، وجعلهم قابلين للرسالة مستجيبين لدعوته، وبذلك ذكرهم منته عليهم وإنعامه في كتابه. انقسام خلقه إلى منعم عليهم ومغضوب عليهم وضالين فإن هذا الانقسام ضروري بحسب معرفتهم للحق والعمل به: إلى عالم به عامل بموجبه وهم أهل النعمة، وعالم به معاند له، وهم أهل الغضب، وجاهل به، وهم أهل الضالين، وهذا الانقسام إنما نشأ بعد الرسل فلولا الرسل لكانت أمة واحدة، فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون الرسالة، وهذا الانقسام ضروري بحسب الواقع فالرسالة ضرورية ..

الرسالة المحمدية

الرسالة المحمدية وإذا كانت دعوات الأنبياء رحمات وبركات على الناس في أجيالها وأوطانها، فإن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة شاملة، وبركة عامة للناس جميعا من كل أمة، ومن كل جنس على مدى الأيام والدهور ... أنها رسالة لا تخص أمة من الأمم، ولا تنتهي عند زمن من الأزمان، فهي ليست للعرب وحدهم وليست لعصر النبوة وحده. فما العرب فيها إلا لسانها وترجمانها وما عصر النبوة إلا مطلعها، ومجلى أنوارها، ثم هي بعد ذلك رحمة مشاعة في الناس كلهم وحظ مقسوم لجميع الأزمان {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (سورة الأعراف) ومن أول آية نزلت من القرآن شعر النبي أنه رسول الله إلى الناس كافة إذ كانت الآية شارحة لقضية الإنسانية، من حيث أنها مخلوقة من معدن واحد، فليس لأمة ولا لشعب، فضل أو امتياز في الأصل والنشأة، ولا في الدم، أو الوطن، ولا في الزمن السابق أو اللاحق {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} فهذه أول آية يتلقاها الرسول من السماء وتفتح بها رسالته، الله هو الخالق لكل شيء، والانسان هو من مخلوقات الله، قد خلق (الانسان) من علق ... هذا هو عنوان الرسالة المحمدية: الانسان .. الانسان مطلقا في أي زمان، وفي أي مكان ... القرآن الكريم كله في أحكامه وتشريعاته، وفي أمره ونواهيه وفي نصائحه ووصاياه يخاطب الناس جميعا، ويدعو الناس جميعا بهذه الكلمة العامة الشاملة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} أو {يَا بَنِي آدَمَ} أو {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ} ولم يختص العرب وحدهم أو قريشا بخطاب أبدا، فلم يقل يا أيها العرب، أو يا بني إسماعيل، أو يا بني عدنان وقحطان. كما كان ذلك شأن أنبياء الله ورسله في أقوامهم، ومن أرسلوا إليهم، فكان كل نبي

يدعو قومه خاصة كما حكى القرآن الكريم ذلك في قصص الأنبياء: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} إلى غير ذلك من الآيات التي تخاطب أقوام الأنبياء. هذه رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - قد حملها صاحبها- بتدبير السماء- إلى الناس كافة، فآذنهم من أول يوم بما أمرهم الله سبحانه وتعالى أن يؤذنهم به: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وجاءت آيات الكتاب تحمل أحكام الشريعة للإنسانية كلها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} وهكذا تكررت دعوة الإسلام على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي آيات القرآن في تلك الصورة العامة للناس جميعا لا يلتبس بها شيء من التخصص بأمة دون أمة أو جيل دون جيل فهي خير مطلقا للناس جميعا ورحمة مبسوطة لكل من يتعرض لها ويمد يديه إليها. وقد ظهرت آثار هذه الدعوة الشاملة العامة منذ اليوم الأول للإسلام، فدخل فيه العبيد والأحرار، والعرب والعجم، فكان بلال العبد وسلمان الفارسي من أول الناس إسلاما. سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أول من بايعك على الإسلام؟ قال: "حر وعبد". قيل أن الحر هو أبو بكر والعبد هو بلال رضي الله عنهما .. وكان من مقررات الرسالة المحمدية دعوة النبي للملوك والقياصرة والرؤساء من غير العرب، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتبه ومبعوثيه إلى النجاشي

ملك الحبشية وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى المقوقس رئيس القبط في مصر، يدعوهم جميعا إلى الإيمان بالله، والاستجابة لله ولرسوله، فالملوك والسوقة، والأحرار والعبيد، والرجال والنساء كلهم مدعوون إلى الإيمان بالله، والاستجابة لداعي السماء. ثم إنه لم تمر سنوات على الدعوة الإسلامية حتى دخل في دين الإسلام كثير من الأمم والشعوب من جميع الأجناس ومن مختلف الأمم، وكان مكانهم في الإسلام بمنزلة واحدة لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات). الرحمة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالقرآن الكريم تكلم عليها في غير ما موضع فقال مخاطبا النبي الكريم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. وقال سبحانه {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فالرسول مبعوث لرحمة الناس جميعا، وليس لشيء في باب الرحمة بالناس أفضل من استنقادهم من الضلال وتزكية نفوسهم وتطهيرها من الرجس، أن ذلك يعادل الحياة بعد الموت، والبصر بعد العمى، والسمع بعد الصمم {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}؟ ورسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - تحمل للناس جميعا الهدى في رفق، وفي لين، فليس فيها البريق الذي يخطف الأبصار ثم يخبو، وليس فيها العنف الذي تنقطع له الأنفاس، وينقطع دونه جهد كثير من الناس إنها ليست رسالة عذاب كما كانت كثير من الرسالات قبل مجيء محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان اتباع الرسل قد تطبعوا بطبائع الوحوش الكاسرة، ولم يمتثلوأ لما جاءتهم به رسلهم الكرام وتمادوا في طغيانهم فتنتهي حياتهم بالبتر الحاسم والتدمير الكامل بالمجتمع المريض، فقد شهد كثير من الرسل مصرع أممهم، واستئصال فروعهم وأصولهم ولم ينج منهم إلا قلة تعد على رؤوس الأصابع قال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ

وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} فالهلاك الجماعي والإبادة العامة، والاستئصال الشامل لهؤلاء المنحرفين داعية من دواعي التأمين للإنسانية، وحمايتها من عدوى هذا الانحراف الذي لا يرجى له شفاء! والذي إن عاش في الناس امتد عدواه إلى غير المصابين به .. أما الرسالة المحمدية فإنها لم تجيء من أجل أمر عارض ولا لحالة طارئة في جيل من أجيال الناس، وإنما جاءت للناس جميعا في جميع أحوالهم. وأزمانهم ... ولهذا لم يكن من تدبيرها تلك الاجراءات السريعة الحاسمة التي تنهي الموقف بين النبي وقومه في لحظة واحدة، ينتهي فيها كل شيء، ويسكن فيها كل شيء {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} بل إن تدبيرها قائم على ترويض الناس، وأخذهم بالرفق، وإعطائهم الدواء جرعة بعد جرعة على فترات متفاوتة، ولم يكن لرسالة عامة شاملة أن تجيء على غير التدبير والتقدير لكي تنجح في مهمتها، وتبلغ الغاية المرجوة منها. والذي ينظر إلى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - يجدها أنها تناولت الحقائق العامة، والأحوال الثابتة التي تعيش في الناس، ويعيش بها الناس في جميع الظروف والأحوال ولم تقف عند الحالات التي لا تقع إلا في النادرة الشاذة من الحياة ... ولك أن تأخذ أي مبدأ من مباديء الإسلام، وأي حكم من أحكامه، وأن تنتقل به عبر الأزمان، وأن تطوف به في مختلف الأمم والشعوب، فإن رأيت فيه نبوا على الحياة أو مجافاة لطبائع الناس، أو تخلفا عن مواطن الخير والفلاح لمن اعتقده وعمل به- فلك أن تسيء الرأي بهذا الدين، وأن تنضم إلى الجهة المعادية له، وأنا زعيم لك إن أنت نظرت فأحسنت النظر، وقدرت فأحسنت التقدير وحكمت فعدلت في الحكم،

ووقفت إلى جانب الحق- وأن تعود بعد هذا وملء كيانك إيمانا بأن هذا الدين هو الدين الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ... تلك هي الرسالة التي تلقاها محمد - صلى الله عليه وسلم - من ربه، ونصب نفسه لها، وجاهد في سبيلها واحتمل ما احتمل من ألوان الأذى والضر من أجلها، فكان له هذا النصر المبين، وكان لرسالته هذه الثمرات الطيبة المباركة في الحياة، بما غرست في القلوب من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وبما رسمت للناس من مناهج الحق، والخير والإحسان، وتلك عقبى الدعوات الصادقة، والنيات الخالصة، لا يخطئها النجاح أبدا، وإن قامت في وجهها العواصف، واعترضت طريقها المعاثر، فإن يد الله قائمة عليها تشد أزرها وتثبت خطاها، وتمكن لها أسباب البقاء في الحياة.

البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم

البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم بعث الله تعالى نبيه الكريم، ورسوله العظيم سيدنا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، على حين فترة من الرسل وفي جاهلية جهلاء لا تعرف من الحق رسما، ولا تقيم للعدل وزنا، لقد اصطفاه الله ليكون رسولا للعالمين، بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا حاملا معه مختتم الرسالات السماوية إلى الناس كافة، وقد أمده الله بالصبر واليقين والعزم، فواجه بها كفار قريش كلهم، صلفهم وكبريائهم وجبروتهم وعتوهم وغرورهم فلم يحفل بتهديدهم ووعيدهم، ولا لان له، فعارضوه ورموه بالزور والبهتان، وبالكذب تاره، وهو الصادق المصدوق لم يجربوا عليه كذبا قط، وتارة يتهمونه بالسحر وهم يعلمون أنه لم يكن من أهله، وتارة يقولون أنه مجنون وهم لا يشكون في كمال عقله، وحاولوا مرارا أن يستنزلوه على طريق عبادتهم ليظفروا منه بالموافقة على الاعتراف باعتقاداتهم الفاسدة، فأبى عليه الصلاة والسلام الا الثبات على أوضح طريق الحق .. حمل الرسالة السماوية، وواجه بها الناس جميعا متحديا عقائد فاسدة، ومتصديا لقلوب مريضة وعقول مظلمة، وطبائع صلدة متحجرة، فما وهن صلى الله عليه وآله وسم، وما ضعف عن حمل هذه الرسالة، وصبر على ما تنوء به الجبال من الاحمال الشاقة، فلكم لقى من السفهاء والحمقى والطغاة الظالمين من بغي وعدوان؟ كيف به وقد بلغ بصبره وجهاده وعزمه ما أراد الله لدعووته أن تبلغ؟ وهكذا ما انفك يدعو إلى الله فيأتي إليه الواحد بعد الواحد متسللين مختفين خوفا من اعتداء الكفار عليهم، ولما اشتدت معارضة كفار قريش لدعوة الإسلام، وتكالبت على الرسول وأصحابه قوى الشر والطغيان خاف على الدعوة أن يمسكها المشركون على أن تبلغ غايتها، وتملأ أسماع الناس بهديها، وتفتح مغالق القلوب بنورها، فخرج مهاجرا من البلد الحرام حاملا لهذه الرسالة الربانية ثم خاض غمار الحروب في سبيلها، فكان - صلى الله عليه وسلم - يتقدم صفوف الأبطال والفرسان ..

وقد لقى مكر اليهود في المدينة بلطف ووداعة، حتى إذا لجوا في الضلال، وتمادوا في الكيد والبغي صدمهم صدمة ألقت بهم خارج الجزيرة العربية كلها، فبلغ رسالة ربه، وجاهد في سبيلها حتى اجتمع الناس عليها، ودخلوا في دين الله أفواجا. لقد امتن الله على العالم عامة وعلى العرب خاصة ببعثة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فبها انتقل من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن القسوة إلى الرحمة ومن الظلم إلى العدل، ولم يتذوق العالم طعم المدنية الصحيحة ولا الإنسانية الكاملة، ولا الحرية والعدالة الحقيقيتين إلا بعد البعثة المحمدية التي غيرت مجرى تاريخ البشر وتفكير العالم ووجهته أحسن توجيه. البعثة المحمدية صححت العقول الفاسدة، والمفاهيم الخاطئة للناس، وسمت بهم، فأصبحوا لا يؤمنون إلا بالله ربا، ولا يعبدون إلا الاله الواحد القوي العزيز الذي لا إله إلا هو ... فبهذه البعثة الميمونة تحرر الضعفاء من الاستبداد والاستعباد والأفكار والعقائد من القيود والخرافات والأوهام .. نجحت الدعوة الإسلامية في مكة وربوعها، وعلى العرب المتعصبين الضالين، ومن بعد نجحت في العالم شرقا وغربا، وسر نجاحها وتغلبها على العقبات والصعاب، يرجع إلى المسلمين الذين تمسكوا بالعقيدة تمسكا قويا، بالإخلاص لها والتفاني في سبيلها، فقد كانوا يقدمون على المعركة في سبيل الله وهم أقلة في عددهم وعدتهم يجابهون كثرة من الأعداء، وهم في صلفهم وغرورهم بخلاف المؤمنين الذين يلقون أعداءهم مستبسلين يرجون رضاء الله، ولا عليهم في ذلك أعادوا إلى الديار سالمين منصورين أم فاضت أرواحهم إلى ربها راضية مرضية. وأول معركة في الإسلام هي غزوة بدر الكبرى انتصر فيها التوحيد على الشرك، والحق على الباطل وغلبت الفئة المؤمنة الصابرة الكثرة المتعجرفة، ما هي إلا دليل على الإخلاص والصبر.

وقعت هذه الغزوة المباركة في السابع عشر من شهر رمضان المعظم في السنة الثانية من الهجرة ... كان الإسلام المهاجر لا زال خافض الجناح في المدينة وكان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار لا زالوا تحت البلاء يمتحن الله صبرهم بالألم، ويختبر إيمانهم بالفتنة ليجتبيهم لنشر دعوته ويعلم الذين بصطفيهم لتبليغ رسالته، فلما أراد الله لدينه أن يسود ولمجده أن يعود، ولنوره أن يتم، أرسل جنوده الثلاثمائة نفر إلى وادي بدر يعتقبون على سبعين بعير، ويستعينون بصبر المجاهد على قلة الزاد وبعزة المؤمن على الذل، وبعفة الزاهد على الفاقة، كانوا يسيرون إلى بدر في استغراق الصوفي إلى ما وعدهم الله إحدى الطائفتين- العير أو النفير، أو إحدى الحسنيين: النصر أو الاستشهاد. فموقف غزوة بدرمن الشرك كان موقف محنة، فإما أن يقود محمد - صلى الله عليه وسلم - زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك ... وقفت مدنية الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد - صلى الله عليه وسلم - وراء القليب، ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب، فكان طريق وعقبة، ونور وظلمة، وإله وشيطان فإما أن يتمزق تراث الانسانية على هذا الصخر، ويتبدد نور الله في هذا القفر، وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس من هذا البئر، ويتصل الماضي بالمستقبل من هذا الطريق، ويبدأ التاريخ عهده الجديد بهذه المعركة الفاصلة ... كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمام العريش يدعو ربه ووجهه إلى القبلة، ويداه إلى السماء، ورداؤه من الذهول في الله يسقط عن منكبيه فيقول: "اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض" (¬1) فيرد الصديق عليه رداءه، ويقول بعض هذا يا نبي الله فإن ربك منجز وعده، وما هي إلا خفقة من خفقات الوحي حتى نزل ¬

_ (¬1) شطر من حديث طويل في غزوة بدر. أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس

الوعد بالنصر، وجاءت البشرى بالجنة، فغاب المسلمون في إشراق عجيب من الإيمان لا يرسم في أدهانهم إلا الحور العين ولا يصور في أعينهم إلا الملائكة وقد قذف الله في قلوب المشركين الرعب فانهار السد الغليظ أمام النبع النابض من صخور بدر، وانجاب القتم الكثيف عن النور الوامض من ربوع يثرب، وانكشفت المعجزة الإلهية عن انتصار ثلاثمائة على ما يقرب من ألف جندى من جيش الضلال والشرك ... غزوة بدر غيرت وجه التاريخ، ومكنت للمسلمين العرب أن يبلغوا رسالة الله، ويؤدوا أمانة الدين، ويصلوا ما انقطع من سلسلة العلم والوحي، لم يكن النصر فيها ثمرة من ثمرة السلاح والكثرة، ولكنه كان ثمرة من ثمرة الإيمان والصدق، قوة من الله فيها الملائكة والروح، وفيها الأمل، والمثل العليا، فيها الحب والإيثار فلا تبالي بالعدد الكثير، ولا ترهب السلاح، ولا تعرف الخطر ... بهذا الإيمان الصادق خلق الله من الضعف قوة في غزوة بدر والقادسية واليرموك، وبهذا الإيمان الصادق جعل الله من البادية والعروبة عمرانا صادقا طبق الأرض بالخير وملكا نظم الدنيا بالعدل، ودينا ألف القلوب بالرحمة. بهذا الشعور القدسي، وبهذا اليقين النفسي وقف المسلمون في كل معركة انتصروا فيها عبر التاريخ، فالدعوة المحمدية تتطلب من المسلمين أن يعملوا لدنياهم ولأخراهم فتريدهم أن يكونوا شجعانا فيما يقولون، وفيما يعتقدون، ويفعلون لا يخشون في الله لومة لائم. وليست الشجاعة مقصورة على الحروب والمعارك، فإن الدعوة إلى الحق في عالم ضال شجاعة، والدعوة إلى الإصلاح في أمة فاسدة النظم شجاعة، والاستمساك بالعقيدة شجاعة، مهما أوذي صاحبها، والدفاع عن الدين أو العرض أو الجار المضطهد أو الأجير المظلوم شجاعة، والشجاعة تعد فضيلة لأنها مجازفة بالحياة، والحياة أغلى ما يملك الإنسان. أما الجبن فإنه رذيلة لأن صاحبه يرضى بالذلة والمهانة، ونذير باستمرار الضعف والتخلف والفوضى، إن تاريخ المسلمين لحافل بأعلى

المثل في الشجاعة التي ناصرت الحق على الباطل، وآزرت الخير على الشر وظاهرت الصلاح على الطلاح .. كان المسلمون الأولون على أهبة الاستعداد دائما لما عساه أن يطرأ عليهم من الحوادث، فإذا نزلت حادثة فجأة تجدهم مستعدين لها، وشجاعة المسلمين في سبيل إقامة شعائر دينهم، ومسارعتهم في رضى الله لا تحتاج إلى برهان، قال الله عز وجل في حقهم: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (سورة آل عمران). كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شجاعا يقود المعارك ويتقدم الصفوف، ويتصدى لكل بطل موهوب، يقول سيدنا علي كرم الله وجهه، "إذا حمى البأس، واحمرت الحدق إتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما يكون أحد أقرب منه إلى العدو وقد ثبت في غزوة حنين لما تفرق عنه أصحابه، فكان يسير نحو العدو"، وهو يقول: "أيها الناس تعالوا إلي أنا محمد رسول الله أنا محمد بن عبد المطلب" (¬1) .. وكان أبو بكر رضي الله عنه شجاعا لا ينثني عن عزيمة يعتقد فيها خيرا للإسلام، فقد فوجيء إثر توليته للخلافة بارتداد العرب عن الإسلام، وكان هذا الإرتداد ممثلا في رفض الصلاة والزكاة فقال: "والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ما تركتهم، ولو خذلني الناس لجاهدتهم وحدي" (¬2) ولم تكن مشكلة الصلاة والزكاة فحسب، بل مشكلة الوحدة أيضا التي انقضت عراها، وأصبح المسلمون طوائف متنافرة متناحرة، فكيف يطيق أبو بكر مشاهدة الأمة التي جمعها الإسلام، وأنقذها من الكفر تتفرق وأعضاؤها تتناحر، ووحدتها تتمزق، وكيف يمكن للعصاة الثائرين أن ¬

_ (¬1) أخرجه بن هشام ومسنده صحيح. (¬2) القصة ثبتت في صحيح البخاري. ورواها مالك- بلاغا-

يحققوا أغراضهم؟ فهذا ما لا يطيقه أبو بكر أبدا وكان سيدنا عمر رضي الله عنه شجاعا في إعلان رأيه متحديا كفار قريش، ولما تولى الخلافة ربى المسلمين على خلق الشجاعة وحثهم على أن يعلموا أولادهم السباحة والرمي وكذلك كان سيدنا علي كرم الله وجهه بطلا شجاعا منذ نشأته إلى وفاته شجاعا في كل حرب خاضها، شجاعا في كل رأي أذاعه، وكل عمل قام به، هذا الشرف العظيم الذي أحرز عليه المسلمون الأولون لم يأتهم تلقائيا، أو جاءهم عفوا، بل قدموا في سبيله الأموال والمهج والتضحيات الجسام، والقرآن كان يرغبهم في الشهادة بقوله عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة آل عمران) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تحث على الشهادة، ويجد المطلع على سيرة ابن هشام أحاديث للشهادة تطيب لها النفوس، وتهتز لها المشاعر في كل غزوة غزاها سيدنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يبين للشهداء من الآيات البينات، وكان يقول: "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا" (¬1) رواه الإمام أحمد، وقال عليه الصلاة والسلام: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طيور خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجد وأطيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا إننا أحياء في الجنة نرزق ألا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله الآية السابقة. ولا تحسبن الخ" (¬2) وقال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده ما من مؤمن يفارق الدنيا لا يجب أن يرجع ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده- الطبراني- الحاكم- عن ابن عباس- حسن- (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود عن ابن عباس ورجاله ثقات وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.

إليها ولو ساعة من نهار، ولو اعطيت له الدنيا وما فيها إلا الشهيد فإنه يجب أن يرد إلى الدنيا فيقاتل في سبيل الله فيقتل مرة أخرى" (¬1) ... الدعوة الإسلامية كانت في الصدر الأول دعوة ربانية وقيادة في ممارستها وتنظيمها، تخلف المسلمون يوم تخلفوا عن القيادة الفكرية، وتقاعسوا عن حملها وأساءوا تطبيقها. لم يتخلف المسلمون الحاضرون عن الركب الحضاري نتيجة تمسكهم بدينهم- كما يقول بعض المغرضين- وإنما بدأ تخلفهم يوم تمسكوا بالمباديء الوضعية، وسمحوا للعوائد الأجنبية أن تدخل ديارهم وتحتل أذهانهم وتستهوي أبناءهم، ولن يستأنف المسلمون الحياة الإسلامية إلا إذا حملوا دعوة الإسلام بقيادة فكرية إسلامية، ويجب أن تحمل الدعوة كما حملت من قبل إقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن تحيد عن ذلك قيد شعرة، ودون أن يحسب لاختلاف العصور أي حساب لأنها اختلفت فيها الوسائل والأشكال، أما الحقائق والجواهر لم تختلف، وينبغي لحامل الدعوة أن يكون صريحا في الحق وجريئا على الباطل، وقويا بالإيمان، ويجب على حامل الدعوة أن يدعو إلى سيادة الإسلام سيادة مطلقه بغض النظر عما إذا وافق الناس أم خالفهم، ويعلن أحكام الإسلام سواء رضي بها الناس أم رفضوها، فحامل الدعوة لا يتملق ولا يجامل من بيدهم الأمور. حمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القيادة الفكرية في مكة فلما وجد أن أبناءها لا يحققون الغاية هيأ أبناء المدينة لذلك، ثم أوجد الدولة وطبق الإسلام على المجتمع المدني، وأحدث فيه إنقلابا في العقيدة، وتقوية الصلة بالله ... ويجب على كل من ينتمي إلى الإسلام أن يؤيد الدعاة في مهمتهم كواجب مكلفين به، وأنهم مسؤولون أمام الله إذا لم يقوموا به، قال الله: ¬

_ (¬1) ورد بلفظ يقارب في صحيح مسلم. رواه الترميذي من حديث أنس. ورواه النسائي من حديث عبادة بن الصامت.

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة يوسف). لقد نوه الله سبحانه وتعالى بهذه البعثة الميمونة، والمنة الكبرى التي امتن بها على العالمين، والنفحة الربانية العظيمة، والرحمة المهداة، ألا وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لولا رسالته لما اهتدينا، ولا تحلينا بسائر مكارم الأخلاق، والخلال الحميدة التي سعدنا بها في ديننا ودنيانا أفرادا وأمما. وضعت هذه الرسالة الإلهية الخالدة حدا فاصلا لعصو الجاهلية وافتتحت عهدا جديدا، عهد النور والعلم، والعدل والمسامحة والإتحاد، ودعا الناس إلى دين واحد، وعبادة إله واحد ... هيأ الله صاحب الرسالة منذ صغره لحملها، فحلاه منذ نشأته بالعلم الذي لا يشوبه جهل، وبالفضيلة التي لا يعتريها نقص، وبالصدق الذي لا يخالطه كذب، فجمع له غرر الفضائل التي فاق بها الأولين والآخرين، فنهل منها الناس على اختلاف أجناسهم، ولا تزال على حالها منهلا عذبا للواردين من أصحاب اليمين والسابقين، قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (سورة النساء). فقد جمع له من مكارم الأخلاق ما تفرق في غيره من النبيئين والمرسلين وقدمه عليهم بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (سورة الاحزاب). فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ... أكرم الله الأمة الإسلامية بخاتم الرسالات الذي زكاه ربه وطهره من أدران الجاهلية، فكان صلوات الله وسلامه عليه يتقلب في أصلاب الساجدين وأرحام الطاهرات حتى برز إلى الوجود، ولم يخرج من سفاح قط كما أخبر هو عن نفسه ...

فميلادك يا سيدي يا رسول الله كان حادثا سعيدا على البشرية جمعاء، اهتز له الكون، وطربت السماء، وهتفت له الملائكة وابتهجت به الرسل، وتغنت به الأطيار من فوق أيكتها، وعمت الناس البهجة والسرور، ومادت الأرض فرحا بأمر ربها وأصغى الكون لما ترتله عليه من الآيات الباهرات ... فها هي رسالتك - يا رسول الله- يكتب لها الخلود على الأبد، ودعوتك تخرق الحجب الكثيفة، وتغذي العباد في كل زمان ومكان وأينما حلت تزيل الظلام والشرك من طريقها، وتعصف بالظلم والظالمين، ولا زالت تغزو المجاهل والأغوار والأدغال، والصحاري والبحار فتثير القلوب الهامدة، وتهيب بها إلى التوحيد فتنقذها من رذيلة الشرك والشك، وتزيل عنها الحيرة والضلال، وترفع عنها الإلتباس والغموض، لا زال الناس يسيرون على هديها المستقيم وطريقها الأمثل بعدما مضى عليها أربعة عشر قرنا من بعثتك الميمونة، وصيحتك المدوية في الآفاق لا زالت ترن في الآذان إلى الآن وإلى الغد ... سيدي يا رسول الله- سيرتك العطرة لا زالت غظة طرية لم يجد لها الزمان بديلا، فأخلاقك العليا التي شهد لك بها التنزيل لا زالت محل اندهاش وإعجاب من طرف الأجيال المتعاقبة التي جاءت من بعدك، وفي مقدمتهم العباقرة والفلاسفة والعلماء، بل أصبحت شمسا منيرة في كل قلب طاهر نقي اللهم إلا ما كان من قلب حاسد فأعمى بصره وبصيرته، نورك الوهاج فهو لا يبصر النور كالخفافيش التي تعيش في الظلام، هكذا صاغك ربك ظاهرا وباطنا فكنت سر الوجود. فمنهاجك الرباني طهر النفوس من دياجير الشرك، وأنارها بالتوحيد فرجعها إلى فطرتها السليمة التي فطر الله الناس عليها، وقام صرح العدل شامخا، فأصبح الناس سواسية في هذه الحياة لا تفاضل بينهم إلا بالعمل الصالح النافع للبلاد والعباد، لا زال هو المنهج الوحيد الذي يكرم الإنسانية، ويحفظها من شوائب الظلم والطغيان، لم يرق إليه أي منهج من مناهج الناس الكثيرة بعدما تقدم العلم وصال الفكر في مجال العلوم

ومعارف الدين الذي جئت به- يا حبيب الله- ظهر على جميع الأديان كلها قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (سورة الفتح) ... هذا الدين حق، وإن ارتاب فيه المبطلون، وعارضه المكذبون وكفى بالله شهيدا على استقامته، وما دام هناك تأييد الله لهذا الدين فلا بد أن يسود ... تجلت عناية الله بهذا الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه فبعث إليه رسوله الكريم على حين فترة من الرسل بالإسلام الذي هو خلاصة الأديان المنزلة من قبله، فأنقذ صلى الله عليه وآله وسلم العالم مما كان يتخبط فيه من الجهالة والحيرة والشرك والضلال بعد تضحيات جسام فحقق له ما كان ينشده من إيمان بالله وعبادته وحده، وعدل ومساواة بين الناس، وكرامة وحرية وإخاء ... بهذه الرسالة كان المبعوث رحمة للعالين، بهذه الرسالة إلتقت السماء مع الأرض، والروح مع المادة، بهذا الرسول الكريم كان خاتما للرسالات السماوية، وإيذانا بالوحدة البشرية، الوحدة الشاملة التي لا تفرق بين أبيض وأسود، الناس كلهم لآدم وآدم من تراب ... لما تمت النعمة وكمل الدين، وبلغ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رسالة ربه أحس بقرب أجله وخروجه من الدنيا ذكر الفقراء، وكان طول حياته لا يرغب في المال، وكان كلما جمع منه شيئا أنفقه في الصدقات، وقد أعطى لعائشة رضي الله عنها يسيرا من المال لتحفظه فلما حضره المرض أمر بإنفاقه على المعوزين لساعته وغاب في سنة، ولما أفاق سألها إن كانت أنفذت أمره، فأجابته بـ: "لا"، فأمر بالنقود إلى العائلات المعوزات فوزعت عليهم، "عندها استراح - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان يخشى أن يلاقي ربه وقد ترك في بيته مالا لم ينفقه على عباد الله" ..

وكان في مرضه يخرج كل يوم ليصلي بالناس، وآخر يوم خرج فيه، وهو متكيء على الفضل بن عباس، وعلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقصد منبر الخطابة الذي كان يعظ عليه الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم خطب في المسلمين بصوت رفيع سمعه من كان خارج المسجد فقال: "أيها الناس تسمعون قولي إن كنت ضربت أحدكم على ظهره فدونه ظهري فليضربه، وإن كنت أسأت سمعة أحد فليتهم من سمعتي وإن كنت سلبت أحدا ماله فإليه مالي يقتص منه، وهو في حل من غضبي، فإن الغل بعيد عن قلبي، ثم نزل على المنبر وصلى بالجماعة، ثم دعا لشهداء البقيع ولمن حارب معه، وطلب الرحمة والغفران، وكان مشهد النبي في ذلك اليوم مشهد إجلال ووقار، وكان أبو بكر رضي الله عنه يبكي ويقول: هلا افيتدينا روحك بأرواحنا"، ثم أوصله الصحابة إلى بيت عائشة رضي الله عنها، واضطجع تعبا مهزولا، وبدأ المرض يشتد عليه، فتخلف عن الصلاة، قيل له قد جاء وقت الظهر، فأشار إلى أبي بكر ليصلي بالناس، وأخبرت عائشة عن حالة احتضاره، فقالت كان رأس رسول الله مسندا إلى صدري وبقربه قدر ماء يقوم ليضع فيها يده، ويمسح جبينه ويقول: "رب أغني على تحمل سكرات الموت أدن مني يا جبريل رب اغفر لي، واجمع بيني وبين أصدقائي في السماء"، ثم ثقلت رأسه، ومال ثانية إلى صدري، والتحقحت روحه الطاهرة بالرفيق الأعلى صلى الله عليه وآله وسلم.

محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب علينا- أيها المسلمون- أن يكون الرسول المحبوب لنا أسوة حسنة كما قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، هذه الأسوة تمثلت في أخلاق الرسول صلوات الله وسلامه عليه، حتى فاضت على أصحابه لأن الله تولى أدبه كما أخبر هو عن نفسه قال: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" (¬1) وأخبر الله عن أخلاقه في كتابه الكريم فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقال أيضا: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} سئلت السيدة عائشة عن أخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - قالت: "كان خلقه القرآن" (¬2). الأخلاق متفاوتة بين الناس، وأخلاقه في الذروة منها، وأنها على درجات، والقرآن يذكر هذه الدرجات فيقول: فمنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، أو ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، أو درجة المقربين السابقين أو العافين عن الناس الله يحب المحسنين. ولاشك أن رسول الله في أعلاها والقرآن الكريم يحدد هذه الدرجة التي تكلمت عليها السيدة عائشة بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ما هو هذا الخلق - قيل هو القرآن، أو الإسلام، أو الطبع الكريم، أو لا همة لك إلا الله هل هذا الخلق يشاركه فيه أحد من الأنبياء والملائكة، أم خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كإبراهيم عليه السلام إن إبراهيم لحليم أواه منيب، أو كسيدنا إسماعيل وكات عند ربه مرضيا، أو كسيدنا عيسى عليه السلام وقد جعله الله مباركا، أو الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لكن القرآن يحسم الأمر في ذلك، ويبين صاحب الخلق الأعلى وهو النبي محمد المبعوث إلى الناس كافة وخاتم الأنبياء، وأول المسلمين على الإطلاق فقال: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأنعام) هذه ¬

_ (¬1) قال فيه ابن تيمية: المعنى صحيح- لكن لا يعرف له إسناد ثابت. (¬2) رواه أحمد وأبو داود عن عائشة. ومسلم عن حكيم بن حزام بلفظ مشابه.

الآية الكريمة تبين درجة الأخلاق الكاملة التي وصل إليها سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه، ولقد بعث - صلى الله عليه وسلم - "ليتمم مكارم الأخلاق" (¬1) فإنه لم يبعث لينشرها فكانت منشورة ولكنها لم تتم، وعلى هذا كانت الإنسانية ناقصة قبل مجيئه صلى الله عليه وآله وسلم فكانت تريد شخصية أن يزكيها الله ويطهرها، ويبارك في روحها، وكان لا بد من هذه الشخصية المباركة ليكمل بها الدين وتتم النعمة، ولما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تمت النعمة الكبرى، وأكمل الله له الدين فقال سبحانه وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وبعدما تم هذا الدين وتمت النعمة قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهكذا كانت هدايته لجميع الناس، وربطت صفاته الخلقية بينهم برباط وثيق، وكانت قيادته صلى الله عليه وآله وسلم ملهمة الخير لهذه الأمة ... كان الصدر الأول من سلفنا الصالح مملوئي القلوب بالمحبة لله ولرسوله مشغولي الجوارح بالطاعة، طاعتهم ابتهال لله، وإنابة إليه، ألسنتهم ذاكرة، وقلوبهم خاشعة، وجوارحهم ساعية حافدة، كانوا ممتثلين لأوامر الله بعيدين عن النواهي فمحبتهم لله ولرسوله كانت مجلوة في مظاهر الإمتثال وإتباع السنة، والإقتداء الكامل محفوفا بالوقار الشامل. قلوبهم عامرة، وأجسادهم مجتهدة مجاهدة في كل مظنة قرب من الله ورسوله. سيدي رسول الله صلوات الله وسلامه عليك- الهدى ما بين الله وبينت، وما أمر الله وبلغت فلنذكرك ونعظمك ونقدسك، وليكن في ذكرنا لك ذكرى لكل قلب منيب، وليخشى كل مدعي محبتك أن يبتدع فيما جئت به، فما قصرت يا رسول الله في التبليغ ولا كتمت، ولا تركت حاجة لمبين بعدك إلا تذكيرا وتعليما وتبصيرا، فذكرنا لك يا رسول الله هو أن ننشر هديك، ونحيي سنتك، ونسلك سبيلك، ونحارب البدع التي حذرتنا منها ... ¬

_ (¬1) صحيح: رواه الحاكم والبيهقي في السنن- عن أبي هريرة.

الصلاة والسلام عليك يا خير مولود، ويا خير مبعوث، حق للعالم أن يفرح بمولدك الشريف كما كانت فرحته العظمى ببعثتك السعيدة، موفقا من ذكرك، فإن الله لا يقبل أن يذكر ولا تذكر، موفقا من عمر أوقاته بالصلاة والسلام عليك واجتلى أنوارك عند كل مناسبة طيبة تذكر فيها. كان المسلمون الأولون في احتفال دائم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينفذون شريعته ويطيعون أوامره ويرددون ذكره بكل إجلال وتعظيم، وإخلاص ومحبة في كلمتي الشهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي أذان الصلاة، والتشهد وغيرها من الشعائر الدينية الأخرى يصلون عليه ويسلمون كلما ذكر اسمه الشريف طاعة وأمتثالا لله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ... هكذا كان المسلمون الأولون قلوبهم مملوءة بمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قرأوا القرآن يذكرونه، وإذ يصلون يذكرونه، وإذ يتحدثون يذكرونه، فحياتهم كلها كانت ذكرا لله ولرسوله، وقد اشترط الله فيمن يحبه أن يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ... لقد كان المسلمون الأولون يتجهون دائما إلى الحقائق لا إلى صورها ومظاهرها، وإلى إصلاح المجتمع بالحق والخير والعدل لا إلى خداعه بالشكليات التي لا تغني من الحق شيئا ... وهل كان المسلمون الأولون يتصورون أن تقام الذكرى للزعماء والعظماء ويجهلون ذكرى نبيهم، كلا؟ لم يقع هذا ولكن جذوة الإيمان فترت في القلوب، وشغل الناس بالشقاشق عن الحقائق، وتزيين الظاهر عن تعمير الباطن. غلبت البدع والأهواء على مسلمي اليوم، وطرأ ما طرأ عليهم ما طرأ على سوالف الأمم فابتدعوا بدعا سموها طاعات وظواهر زعموها عبادات مع أن صميم العبادة الإسرار بالذكر وتعمير القلوب بالطاعات،

والتسمك بالمأمورات والتجافي عن المنهيات. روى عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه. من حديث- أوس بن أوس- وإسناده صحيح.

التعريف بالإيمان

التعريف بالإيمان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله حرم الله تعالى جسمه على النار" (¬1) أخرجه الترمذي. وبقيت الأركان الأخرى فهي من الإيمان أيضا، وأنها لا تقوم إلا بالشهادتين، والشهادتان بالنسبة إلى الاسلام كالروح بالنسبة إلى الجسد .. فشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله هي حياة كل جزء من أجزاء الإسلام، والشهادتان لا تنفصل إحداهما عن الأخرى، والمسلم عندما يقول: لا إله إلا الله، فكأنه قال: لا مطمئن إلا إليه، ولا مستجار إلا به، ولا محبوب ولا معبود، ولا مالك ولا مطاع ولا معظم، ولا معتصم به ولا سيد ولا حاكم إلا الله، ولا يقوم الإنسان بلوازم لا إله إلا الله إلا إذا آمن برسوله الكريم، وتعرف بواسطته على الطريق الذي يريد أن يسلكه ليحقق بذلك التوحيد والطاعة لله، ولهذا كان الإيمان بالرسول شرط في الإيمان بالله لأنه الدال على الطريق الموصل إليه، إذ لا يقوم أحد بحق الله إلا إذا عرف رسوله، ولهذا حكم بكفر من لم يؤمن بالرسول بعد أن أقام الحجة عليهم برسالته، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} (سورة النساء). لا إله إلا الله يصدر عنها منهج الحياة، والمجتمع الإسلامي يقوم على العبودية لله وحده في جميع أموره وشؤونه ... الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، وإن هذه الثلاثة داخلة في مسمى الإيمان المطلق، فالإيمان المطلق يدخل جميع الدين، ظاهره وباطنه أصوله وفروعه، فلا يستحق اسم الإيمان المطلق إلا من جمع ذلك كله، ولم ينقص منه شيئا، ولما كانت الأعمال والأقوال داخلة في مسمى الإيمان كان قابلا للزيادة والنقصان فهو يزيد بالطاعة، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده- مسلم- الترميذي- عن عبادة- صحيح-

وينقص بالمعصية كما هو صريح القرآن قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} (سورة فاطر). الإيمان والإسلام الشرعيان متلازمان في الوجود، فلا يوجد أحدهما بدون الآخر كلما وجد إيمان صحيح معتد به وجد معه الإسلام وكذلك العكس، ولهذا قد يستغنى بذكر أحدهما عن الآخر وأما إذا ذكرا معا مقترنين: أريد بالإيمان التصديق والإعتقاد، وأريد بالإسلام الإنقياد الظاهري من الإقرار باللسان وعمل بالجوارح، ولكن هذا بالنسبة إلى مطلق الإيمان ... أما الايمان وحده فهو أخص من الإسلام، وقد يوجد إسلام بدون إيمان كما في قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (سورة الحجرات). فأخبر بإسلامهم مع نفي الإيمان عنهم ... روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسم: "الإيمان بضع وسبعون بابا أدناها إماطة الأذى عن الطريق وأرفعها قول لا إله إلا الله" رواه الترمذي. الإيمان بالله عز وجل هو المبدأ الوحيد الذي أخذ به المؤمنون في الشرق والغرب، وفي القديم والحديث بل هو الغاية الوحيدة التي خلق من أجلها الناس قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (سورة الذاريات). الإيمان بالله هو التصديق بالحقيقة الكبرى التي لا تحول ولا تزول، والإعتراف بوجود الله بواسطة مخلوقاته الكثيرة البديعة الشكل العجيبة الصنع ... الإيمان بالله هو شعور الإنسان المخلوق بمنزلته المحدودة أمام رب عظيم بيده ملكوت السماوات والأرض وكل شيء في هذا الوجود ...

الإيمان بالله هو القوة الباعثة على العمل الصالح، القوة التي توجه الإنسان فيما يأتي ويدع في جميع شؤون الحياة كلها ... الإيمان هو مبدأ عام لا يفرق بين جنس وجنس، ولا بين لون ولون، ولا بين وطن ووطن هو هداية من الله إلى الخلق أجمعين، هو قوة روحية، ودعوة إلى قوة مادية، هو نظام كامل يقدم للإنسانية فكرة شاملة عن الكون والحياة، ويجعل العنصر الأخلاقي هو الغاية في بناء الحياة الإجتماعية، ويكون المسلم متشبعا بالعقل والروح لتنبعث الحياة من داخل النفس. هذا هو الإيمان، ولكن بعض المسلمين فهموا أن الإيمان ألفاظ جوفاء، يظنون أن الإيمان هو الإذعان السلبي الذي لا يكلف صاحبه عملا، ولا يبعث في قلبه خشية، ولا يؤثر في خلقه تهذيبا، ولا يدعوه إلى مشاركة في بر أو معاملة في إصلاح، أو عمل خير، ويحرص صاحب هذا الإيمان على أداء صور العبادات المفروضة، والتظاهر بأهل التقوى والصلاح ... يحسب هؤلاء المسلمون أن هذا الإيمان مقبول عند الله موصول إلى النجاة من عذاب الله، والسعادة في الدار الأخرى وهم يتلون كتاب الله، ويعرفون ما وصف الله به عباده المؤمنين في كثير من الآيات. القرآن يعرف المؤمنين مستيقنين غير مرتابين، يعرفهم مجاهدين صابرين، ويعرفهم أصحاب رأي وأهل غيرة على المجتمع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعرفهم متحابين لم يفسد قلوبهم الغل، ولم تفرقهم الأهواء، ويعرفهم أقوياء بالحق يجاهدون في سبيل الله، ولا يخشون لومة لائم، ويعرفهم خاشعي القلوب غير مستكبرين على أوامر الله، إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، ويعرفهم حراصا على إقامة الصلاة وعلى توطيد صلتهم بربهم، وعلى تحصين كرائم أموالهم بإيتاء الزكاة، ويعرفهم بأوصاف الخير والبر التي لا صلاح إلا بها ولا استقامة إلا عليها أولئك هم المؤمنون حقا في نظر القرآن، وأولئك هم المفلحون ...

السعادة في الإتصال بين الإنسان وخالقه، وليست السعادة في المال كما يعتقد كثير من الناس، ولا في الجاه والمنصب، ولا في الأبناء، هذه الأشياء عارضة تزول لا محالة، فسعادة المؤمن في طاعة ربه لأن الله معه على الدوام، لأن المؤمن يترقب دائما رحمة الله، فبهذا الإيمان يعالج المسلم مشاكله بالحكمة والصبر، يقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} الإيمان بالله هو رأس مال المسلم الحقيقي، وهو شفاء وعزاء للقلوب المحرومة من متاع الحياة الدنيا لأن المؤمن لا ينظر نظرة رغبة إلى من يفوقه في المال، أو في الجاه، بل ينظر إلى ما عند الله من الرحمة والمغفرة، قال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وقال أيضا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} الذين يكون سعيهم نيل رحمة لا توهن نفوسهم أية خيبة أمل، أو أية مصيبة تداهمهم، فالقوة الروحية تدخل إلى نفوسهم العزاء مما يقاسونه من آلام ومتاعب، أما الذين يغفلون عن رحمة الله فيقعون في مواطن الخطر، وما أصدق ما وصف به القرآن فقال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}.

الصبر من الإيمان

الصبر من الإيمان: ومن الكلمات التي حرفت عن معناها كلمة الصبر، لقد ذكره الله في القرآن أكثر من سبعين مرة عرف الله عباده بثمراته الطيبة، وما كان له من عاقبة حسنة في الدنيا والآخرة، إنه أساس من أسس الدين وينبوع لكثير من الأخلاق الفاضلة، والصفات الحميدة، ولقد أتساءل. ما هو الصبر؟ أهو الإستسلام والخضوع وقبول النكبات والمصائب بدون مقاومة؟ أهو الركود والبلادة والإقامة على الظلم؟ كذلك يصوره الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وكذلك صوروه للناس، فرضي الفقير بفقره باسم الصبر ورضي المريض برضه باسم الصبر، ورضي الذليل بذله باسم الصبر، ورضي المظلوم بظلمه باسم الصبر، وقد أضلوا الشعوب فعلموها أن جور أهل الجور قضاء وقدر يجب أن يصبروا عليه، وأن ظلم أهل الظلم مظهر من مظاهر التأديب الإلهي، فعليهم أن يتقبلوه بالرضى، وأن الفقر والغنى قسمة ونصيب لا فكاك منهما ولا إرادة لأحد فيهما، وهكذا حتى ثبطوا العزائم عن العمل والسعي، وأضعفوا الهمم، واستسلم الناس للواقع، فهل هذا هو الصبر الذي عرفه القرآن وحث عليه؟ وهل يمكن أن يكون الله تعالى قد أراد هذا المعنى لما أمر عباده به وأثنى عليه، ورغب فيه، وضمن حسن عاقبته، وأعلن أنه يحب أهله، وأنه سيوفيهم أجورهم بغير حساب ... الصبر الذي يعرفه القرآن ويأمر به هو الأخلاق الفاضلة التي تهدي إلى الأعمال الصالحة، وتتقوى به النفوس المؤمنة. الصبر هو مجاهدة النفس وحبسها عن الضجر والتبرم مع متابعة العمل والسعي، وعدم الإنكماش والإنكسار، ولذلك كان الصبر من المعاني الباطنية كالشجاعة على مكاره الجهاد صبر والجود على بذل المال صبر، والكتمان على المثيرات والأسرار صبر، إلى غير ذلك مثل العفو عند القدرة، وضبط النفس في حالة الإنفعال والغضب ...

ذكر الله سبحانه وتعالى أصحاب سيدنا داوود عليه السلام حين رأوا قوة جالوت وأصحابه، قال بعض منهم: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ -وهم الصابرون- كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (سورة البقرة) لم ترعبهم الكثرة الساحقة، ولم تذهلهم القوة الماحقة، ولم يتعللوا بعدم التكافؤ، فمضوا في طريقهم عالمين أن القوة إنما هي قوة الروح لا قوة الأشباح ... ليس في التكليف أصعب من الصبر، فيجب على المؤمن أن يصبر على التكاليف الشرعية كالصلاة والوضوء والزكاة والصوم والحج، ويمتنع عن المحرمات والشهوات، وأن يصبر على القضاء والقدر بعدما يستعمل جميع الوسائل في دفعهما، ولهذا جعل الله الصبر فرضا على كل مسلم، ولا أفضل من الرضى به، فإذا رأى المسلم كافرا بالله قد أتاه الله المال الوفير، والجاه العريض، فيلبس الحرير والديباج، ويتمتع بالذهب والفضة، والسيارة والقصور الضخمة، والخدم وما إلى ذلك من الصحة والأولاد والعافية، وتنظر إلى رجل مسلم من أهل الدين وطلاب العلم محيطا به البلاء معوزا فقيرا مقهورا تحت ولاية ظالم جبار مسلطا عليه أنواع العذاب، فالمسلم ضعيف الإيمان، إذا قارن هذا وذلك يرى عدل الله معدوما بين هذين الرجلين وتزيده وسوسة الشيطان لأجل هذا يحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من الضر، وعلى وسوسة إبليس لعنه الله، وكذلك يجب الصبر على تسليط الكفار على المسلمين مع المقاومة الشديدة، والتمسك القوي بأوامر الدين. الآن أستعرض الآيات القرآنية التي وردت في الصبر ومما يقوي صبر المؤمن القرآن لأنه شفاء لما في الصدور، قال تعالى في حق الكافر: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (سورة آل عمران). ويقول في (سورة الزخرف): {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا

وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} وقال في (سورة الإسراء) {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} والآيات في هذا المعنى كثيرة، ويتكلم سبحانه وتعالى على المؤمن الذي يجب أن يتحلى بالصبر، فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (سورة آل عمران). وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخلق على الإطلاق كان يتقلب على رمال حصير أثرت في جنبه الشريف لما رأى عمر بن الخطاب ذلك فبكى وقال: "كسرى وقيصر الروم في الحرير والديباج يتنعمان" قال عليه الصلاة والسلام: "أفي شك أنت يا عمر؟ ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا" (¬1) وإذا أراد الله أن يتخذ شهداء عنده فيخلق أقواما يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين. أفيجوز أن يفتك بعمر العادل الملهم المحدث إلا بمثل أبي لؤلؤة المجوسي، وبعلي كرم الله وجهه إلا بمثل ابن ملجم الخارجي؟ أيعقل أن يحيى نبي الله عليه السلام يقتل في مهر بغي؟ إلى غير ذلك من الأمثال الكثيرة من القرآن والأحاديث النبوية، ولهذا يجب على المؤمن أن يصبر ... ¬

_ (¬1) متفق عليه - بلفظ آخر- عن عمر.

الطريق إلى الله هو العلم

الطريق إلى الله هو العلم يجب على المؤمن أن يسعى في طلب العلم لأنه الطريق الوحيد إلى معرفة الله قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} كلما تعمق الإنسان في الجانب العلمي تكن خشيه الله سبحانه وتعالى لأنه يرى من نواميس الكون. ومن الإتقان في الصنع، وعن الحكمة في التدبير ما يجعله يخر ساجدا لله، فالذين يتخصصون في علم التشريح يرون فيه من أحكام المحكم، ومن الدقة الدقيقة في مختلف الأجهزة الجسدية وفي مفردات هذه الأجهزة ما يضطرهم إضطرارا إلى السجود لرب هذا التنسيق والترتيب والإبداع. وليس علم التشريح وحده هو الذي يبهر العالم المتبحر فيه، وإنما يبهر علم الفلك العالم الفلكي، ويبهر علم الأحياء عالم الأحياء، وهكذا نجد إنبهار النفس في كل ميدان من ميادين المعرفة الكونية أرضها وسمائها وما بين الأرض والسماء ... إن العلم النافع هو أهم مطلب في الحياة، وأجل مقصد في هذا الوجود، فالعلماء هم الذين يضيئون مسىالك الحياة، ويسيرون بالناس قدما إلى السمو والكمال. طلب العلم في الإسلام ليس نافلة، ولا أمرا كماليا وإنما هو فرض وضروري. العلم الصحيح هو دليل اليقين الثابت، ووسيلة الخلق الفاضل، وكلما ازداد الإنسان علما إزداد اعتقادا بالله واستقامة في الأقوال والأفعال، ومعرفة في الحلال والحرام، ويصبح قادرا على قيادة نفسه وضبطها وتهذيبها، وبعيدا عن التأثر بمن يدور حوله من الشهوات والمغريات ... إلاما ينتهي العلماء الصادقون؟ يقول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} إنهم يصلون عن طريق العلم الذي يثير الخشية إلى

التوحيد، التوحيد الذي هو سمة الدين الإسلامي كما يرى "البيروني"، والذي هو في حقيقة الأمر سمة التدين الصادق. ويشهد علماء التوحيد مع الله، ومع الملائكة الأطهار، أن الله سبحانه قرن العلماء به، وبملائكته في شهادة التوحيد، وهذا أسمى ما يمكن أن يصل إليه تكريم العلماء من مكانة ... وشهادة التوحيد التي هي قمة الركن الأول في الإسلام، وهو أشهد أن لا إله إلا الله، لا يشهدها إلا العلماء المؤمنون، وشهاده التوحيد هي منتهى ما يمكن أن يصل إليه السالك في معراجه إلى الله سبحانه، لا تتحقق إلا في العلماء المؤمنين. إن شهادة التوحيد هذه قد وجه الله الأنظار إليها بأساليب شتى، ومن هذه الأساليب ما لا يقدره في دقته الدقيقة وروعته الرائعة إلا العلماء قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (سورة النمل) ... ثم يعقب الله على هذه الآيات بأنه مهما بلغ العلماء بعلمهم فإن المجهول لديهم كثير، وأنه لا يعلم هذا المجهول الغيب إلا الله سبحانه، {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (سورة النمل) ومن أجل شهادة التوحيد حث الإسلام على العلم ووجه إليه وجعله من أسس الدين، لقد حث عليه في صور

بلغت من الروعة حدا لا يجارى. والآيات والأحاديث التي وجهت الأمة الإسلامية إلى العلم كثيرة مستفيضة. العلماء لا يعبدون الله إلا بما شرع لهم، ولا يأخذون إلا بالدليل، ولا يسيرون إلا على أوضح سبيل، ولذلك يقبل منهم القليل ويضاعفه لهم حتى يكون كثيرا، والجاهلون يدينون الله بالباطل، ويعبدونه بالأهواء والبدع، ويستجيبون إلى كل ناعق، ويعملون كثيرا ولا يستفيدون إلا قليلا، قال تعالى في حق الجاهلين: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}. وإذا كان العلماء يشهدون التوحيد فإن منزلتهم بالمكان السامي، ودرجاتهم في الرفعة والعلو {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (سورة المجادلة) ولهذه الجوانب من فضل العلم والعلماء أمر الله سبحانه وتعالى رسوله- وهو قدوة المسلمين وأسوتهم- أن يقول: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} ... رب زدني علما في كل يوم، بل في كل لحظة، ذلك ما يجب أن يكون شعار المسلم، وإذا ما زاد المسلم علما ازداد خشية، وإذا ما ازداد خشية تحقق فيه إسلام الوجه لله على أكمل صورة. وإذا نظرنا إلى الأحاديث النبوية الخاصة بالعلم فإننا نرى عجبا قال عليه الصلاة والسلام: "العلم طريق الجنة" ويقول فيما روه أبو داود والترمدي وغيرهما: "العلماء ورثة الأنبياء" (¬1) ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي" (¬2) رواه الترمذي. وفيما رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب ¬

_ (¬1) رواه أحمد وأبو داود والترميذي عن أبي الدرداء مرفوعا بزبادة. وصححه الحاكم وابن حبان - وضعفه غيرهم ما لاضطراب في السند. قال ابن حجر له طرق يعرف بها أن للحديث أصلا. (¬2) شطر من حديث في سنن الترميذي عن أبي أمامة رواه الطبراني في الأوسط - والبزار.

العلم رضاء بما يصنع" (¬1) ومن أجمع الأحاديث في فضل العلم ما رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من سلك طريقا يبتغي فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما صنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" (¬2). والسنة النبوية حثت على التعلم والتعليم في مواطن كثيرة يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" (¬3) رواه ابن ماجة، ويقول: "كونوا علماء صالحين فإن لم تكونوا علماء صالحين فجالسوا العلماء واسمعوا علما يدلكم على الهدى ويردكم عن الردى" من كتاب (أدب الدنيا والدين). ويقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالا فتسلط على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" رواه الشيخان ... وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول االله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد، فإذا هو بمجلسين أحدهما يذكرون الله والآخر يتفقهون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.: "كلا المجلسين على خير وأحدهما أحب إلي من صاحبه، أما هؤلاء فيذكرون الله تعالى ويسألونه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما المجلس ¬

_ (¬1) صحيح- رواه الطيالسي- عن صفوان بن عسال. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة- بلفط مقارب- وأخرجه أبو خيثمة في - العلم- (¬3) الحديث لابن ماجه وأحمد والبيهقي ولفظه مشهور أما أسانيده ضعيفة. أورده ابن الجوزي في الموضوعات وحسنه البعض من المتأخرين-

المؤمن يتصف بالعزة

الآخر فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل، وإنما بعثت معلما وجلس إلى أهل الفقه" من كتاب (أدب الدنيا والدين) ... وروى الإمام الغزالي في "الإحياء" عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل لأهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة. والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلام من الأعداء، والزين عند الأخلاء، ويرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة، تقتفي آثارهم، ويقتدي بفعالهم وينتهي إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وأجنحتها تمسحهم، ويسغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه، وسباع (البر) وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصباح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلا في الدنيا والآخرة التفكير فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام، وهو إمام العمل والعمل تابع يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء" قال عليه الصلاة والسلام: "ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في دين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" (¬1) أخرجه الترميذي ... المؤمن يتصف بالعزة: قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} إن ذلة العبد لربه ذلة عز وحق لا باطل فيها فإن الخلق والأمر، والغنى والملك لله ¬

_ (¬1) قال في المختصر- ضعيف- أسانيده ضعيفة، لكن يتقوى بعضها ببعض- انظر- الفوائد المجموعة- للشوكاني-

وحده لا شريك له، ومصير العباد رهن إشارته وطوع إرادته. والناس حينما يكونون في أرقى أحوالهم تعنو جباههم لرب العزة في السجود خاشعين ... أما ذلة العبد لعبد مثله فباطلة لا ريب فيها، والمتكبر عن الناس متطاول يزعم لنفسه ما ليس لها. وقد حرم الإسلام الكبر وحرم الذل، وأوجب العزة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله لوجهه في النار " (¬1) لأن الكبر وصف الله، ولا ينبغي لبشر أن ينازع الله وصفه المستحق له، تكبر الناس هي خصال مذمومة وفي طليعتها جحد الحق وجهل الواقع وسوء العشرة وتجاوز الحدود. الإسلام حرم على المسلم أن يهون نفسه، أو يذل، وفي الحديث الشريف قال عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (¬2) يجب على المؤمنين أن يتعاونوا. قال الله عز وجل {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (سورة النساء) ويجب عليهم أن يتحابوا كما وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة: قال: وكان في ناحية المسجد أعرابي فجثا على ركبتيه ورمى بيديه، ثم قال: حدثني يا رسول الله عنهم من هم؟ قال: فرأيت في وجه النبي البشر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هم عباد من عباد الله هم من بلدان شتى، وقبائل شتى، من شعوب القبائل لم تكن بينهم أرحام يتواصلون بها، ولا دنيا يتبادلون بها، يتحابون بيص وح الله، يجعل الله وجوههم نورا، ومجعل صمم ¬

_ (¬1) رواه مسلم- من حديث ابن مسعود- (¬2) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما- عن النعمان بن بشير-

منابر من نور يفزع الناس ولا يفزعون ويخاف الناس ولا يخافون" (¬1) أخرجه الإمام البغوي في السنن ورواه أبو داود. والتوجيه النبوي الشريف يحث على تدعيم علاقة المحبة بين المؤمنين لتحقق الأمة المجد لنفسها، والعزة بين الأمم أن تحيا حياة الشرف لتكون مسموعة، ويكون ذلك من ثمرات الإيمان بالله عز وجل الإيمان ليس دعوة تقال بلا عمل وليس شعارا يرفع بلا مضمون، وليس نظرية بلا تطبيق بل هو طريق الجهاد والتضحية بكل ما هو نفيس وغال. القرآن يرشادنا إلى الإيمان الذي لا ينفك عن الجهاد، بل إن الجهاد تطبيق عملي له، ويحمل حملة عنيفة عن أولئك الذين يريدون أن يحققوا لأنفسهم، أو لأمتهم أمجادا رخيصة سهلة عن طريق رفع الأصوات وكثرة الادعاءات، إن هذا الصنف من الناس وجد في الأمة الإسلامية، ولكن كشفهم القرآن ليكونوا عبرة لمن يسلك سبيلهم كان هذا الصنف يتمنى أن يأذن الله له في القتال قبل مجيء أوانه فلما كتب عليهم القتال أصبحوا يخشون الأعداء أكثر مما يخشون الله، قال الله عز وجل في هذه الطائفة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}، هذا الفريق الجبان لا يحقق مصالح، ولا تعتز به دعوة، ولا يسعد به وطن، بل يضيع ما حققه غيره من عزة وكرامة، وعلى كل حال لا تخلوا الأمة من مجاهدين يصمدون في البأساء والضراء وحين البأس لأنهم متيقنون أن النصر من عند الله، قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (سورة المجادلة) وقال أيضا في (سورة غافر): {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} ... ¬

_ (¬1) رواه أبو داود.

ولكن نصر الله للمؤمنين له أسباب ثلاثة: الصفة الأولى أن ينفي المسلمون العجز والقصور عن أنفسهم. الصفة الثانية: أن يكونوا أقوياء بمعنوياتهم أمام الأعداء، ويتركوا الضعف والخور والخشية منهم. الصفة الثالثة: أن يتركوا الإستكانة التي تزحف على أنفسهم فتنهار أرواحهم من الهلع فيجب أن يبعدوها عن أنفسهم قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (سورة آل عمران) وخير الله الإنسان بين محبته، ومحبة غيره من مباهج الدنيا فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (سورة التوبة). جعل الله سبحانه وتعالى مباهج الدنيا في كفة وحب الله ورسوله وجهاد في سبيله في كفة أخرى، والإنسان يختار ما بين هذا وذلك، فإن اختار المباهج قال: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} فيه تهديد ووعيد شديدان، وإن اختار حب الله ورسوله وجهاد في سبيله على مباهج الدنيا وزينتها فذلك المؤمن حقا ... المؤمن هو الذي أدرك جمال الله وجلاله، واستشعر لطفه وإحسانه، وعلم علم اليقين أنه هو المنعم عليه ثم تأثر بهذا الإدراك فأحبه، فأصبح قلبه مشغولا به، وعمله موجه إليه، فلذته وارتياحه في طاعة الله وعدم مخالفة أوامره، يتحمل في ذلك ما يتحمل راضيا مغتبطا قرير العين، مطمئن القلب ... فحب العبد لله هو إيمان حق، ولا يكون بمجرد المعرفة وإذعان

النفس، بل يؤثر على النفس، وتبدو أثاره في جميع أقواله وأفعاله وتصرفاته ... أما الإيمان الذي لا يعدو الإذعان النفسي والإقرار القلبي فهذا الإيمان الذي لا يريده الله من عباده قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" (¬1) رواه البخاري ومسلم فحب الله من أهم القواعد في بناء الأخلاق، وهو محول أرواح المؤمنين إلى أرواح لطيفة لا يصدر عنها شر ولا عدوان، وهذا بالطبع لا يتيسر إلا عندما يغلب الصفاء على النفس فتنسى البغض والحقد والحسد وسائر الدسائس والمكائد ... وحب الله لعباده لم يثبته القرآن إلا لذوي الأعمال الصالحة قال تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وقال: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وقال: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} وقال: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ... ونفي حبه عن الذين يتصفون بصفالت الفساد والإلحاد والكفر قال تعالى: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} وأما {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}. ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم والترميذي والنسائي

وفي الحديث الشريف: "إن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فابغضوه فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فابغضوه، ثم توضع له البغضاء في الأرض" (¬1) رواه مسلم عن أبي هريرة. أسأل الله أن يرزقنا محبته، ويجعل لنا من أنواره يرينا الخير من الشر، ويعرفنا الحق من الباطل حتى نكون ممن يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ومن الموصوفين بقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير ... ¬

_ (¬1) رواه مسلم عن أبي هريرة.

الإيمان بالملائكة

الإيمان بالملائكة من شروط الإيمان بالملائكة، وهم عالم لطيف غيبي غير محسوس ليس لهم وجود جسماني يدرك بالحواس وهم من عالم ما وراء الطبيعة التي لا يعلم حقيقتها إلا الله ... خلق الله الملائكة من نور، كما خلق آدم من طين، وكما خلق الجآن من نار، وطبيعة الملائكة الطاعة التامة لله، والخضوع لجبروته، والقيام بأومره، وهم يتصرفون في شؤون العالم بإرادة الله ومشيئته وهو سبحانه يدبر بهم ملكة، وهم لا يقدرون على شيء من تلقاء أنفسهم ... عملهم في عالم الطبيعة، وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنهم موكلون بالمخلوقات، وأنه سبحانه وتعالى وكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالجبال ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها ثم وكل بالإنسان ملائكة لحفظه، وملائكة تحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها، وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالجنة وغراسها وعمل الأنهار فيها ملائكة، فالملائكة أعظم جند الله فكل حركة في السماوات والأرض من حركات الأفلاك والنجوم، والشمس والقمر والرياح، والسحاب والنبات، والحيوان، فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بهذه الخلوقات قال تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا}. فسرت المرسلات بالملائكة وهو قول أبي هريرة رضي الله عنه، وابن عباس في رواية مقاتل وجماعة، وفسرت بالرياح وهو قول ابن مسعود وإحدى الروايتين عن ابن عباس وقول قتادة، وفسرت بالسحاب، وهو قول الحسن. وفسرت بالأنبياء، وهو رواية عطاء عن ابن عباس. الله سبحانه يرسل الملائكة ويرسل الأنبياء، ويرسل الرياح ويرسل السحاب فيسوقه حيث يشاء، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء، فإرساله واقع في ذلك كله ...

{وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} قال في تفسير هذه الآية، الحسن، ومجاهد وقتادة هي الرياح تأتي بالمطر، وقال مقاتل هي الملائكة تنشر كتب بني آدم وصحائف أعمالهم، وقال مسروق وعطاء عن ابن عباس هي الملائكة تنشر أجنختها في الجو عند صعودها ونزولها وقيل تنشر أوامر الله في الأرض وفي السماء. {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} أكثر المفسرين في تفسير هذه الآية على أنها الملائكة التي تنزع أرواح بني آدم من أجسامهم، والنزع هو إجتذاب الشيء بقوة، والإغراق في النزع هو أن يجذبه إلى آخره. {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا}، أقسم سبحانه وتعالى بالملائكة الصافات للعبودية بين يديه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "ألا تصطفون كما تصطف الملائكة عند ربها؟ تتمون الصفوف الأولى وتراصون في الصف" (¬1) والزاجرات عن المعاصي، والتاليات الجامعات لكلمات الله تعالى. ومنهم ملائكة الرحمة، وملائكة العذب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة بالصلاة والتسبيح والتقديس إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله. الملائكة الموكلون بالإنسان من حين كونه نطفة إلى آخر أمره لهم وله شأن آخر، فإنهم موكلون بتخليقه ونقله من طور إلى طور، وتصويره، وحفظه في أطباق الظلمات الثلاث، وكتابة رزقه وعمله، وأجله، وشقاوته وسعادته، وملازمته في جميع أحواله، وإحصاء أقواله وأفعاله، وحفظه في حياته، وقبض روحه عند وفاته: وعرضها على خالقه وفاطره، وهم الموكلون بعذابه ونعيمه في البرزخ، وبعد البعث، وهم الموكلون بعمل آلات النعيم والعذاب. وهم المثبتون للعبد المؤمن بإذن الله، والمعلمون له ما ينفعه، والمقاتلون الذابون عنه. وهم أولياؤه في الدنيا والآخرة، وهم الذين يورونه في منامه ما يخافه ليحذره، ¬

_ (¬1) رواه مسلم عن جابر بن سمرة.

وما يحبه ليقوى قلبه ويزداد شكرا وهم الذين يعدونه بالخير، ويدعونه إليه، وينهونه عن الشر ويحذرونه منه. وهم الداعون له، والمستغفرون له، وهم الذين يصلون عليه ما دام في طاعة ربه، ويصلون عليه ما دام يعلم الناس الخير، ويبشرونه بكرامة الله تعالى في منامه، وعند موته ويوم بعثه، وهم الذين يزهدونه في الدنيا، ويرغبونه في الآخرة، وهم الذين يذكرونه إذا نسي، وينشطونه إذا كسل، ويثبتونه إذا جزع، فهم رسل الله في خلقه وأمره وسفراؤه بينه وبين عباده، تتنزل بالأمر من عنده في أقطار العالم، وتصعد إليه بالأمر، قد أطت بهم السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم، أو راكع، أو ساجد، ويدخل البيت المعمور كل يوم منهم سبعون ألف ملك لا يعودون آخر الدهر .. والملك يشعر بأنه ملك منفذ لأمر غيره، فليس من الأمر شيء بل الأمر كله لله الواحد القهار قال تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. ومنهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا من له مقام معلوم لا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده سبحانه {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} .. ورؤساؤهم الأملأك الثلاث: جبريل، وميكائيل، واسرافيل. روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل واسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة

القلوب والأرواح وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، واسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم. وقالت اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صاحبك الذي يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس من نبي إلا يأتيه ملك بالخبر؟ قال جبريل. قالو!: ذلك الذي ينزل بالحرب والقتال ذاك عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالنبات والمطر والرحمه" (¬1)؟ فأنزل الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (سورة البقرة). إن الله سبحانه وتعالى وكل بالعلم العلوي والسفلي ملائكة فهي تدبر أمر العالم بإذنه ومشيئته وأمره، كما أضاف التوفي إليهم بقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} وإليه تارة كقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، ولهذا كان الإيمان بالملائكة عليهم السلام أحد الأصول الخمس التي هي أركان الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ... ¬

_ (¬1) رواه أحمد والترمذي. قال الترمذي حسن غريب.

الإيمان بكتب الله المنزلة

الإيمان بكتب الله المنزلة الإيمان بكتب الله هو التصديق الجازم بأن لله كتبا أنزلها على أنبيائه ورسله، وهي من كلامه حقيقة، وأنها نور، وهدى، وأن ما تقتضيه حق وصدق، ولا يعلم عددها إلا الله ويجب الإيمان بها جملة إلا ما سمي منها، وهي التوراة والإنجيل، والزبور، والقرآن، وصحف إبراهيم وموسى. قال تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ}. وقال: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} وقال-: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (سورة النجم) وقال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (سورة الأعلى). فيجب الإيمان بها على التفصيل، والبقية إجمالا. فهذه الكتب المنزلة من عند الله على أنبيائه ورسله يلتقى فيها النبي بقومه، وهي مجال الدعوة، ومركز الثقل فيها، وفي هذا المجال يشتد الصراع، وتحتدم الخصومات وتجتمع قوى الشر وجنود الباطل لتخفت صوت الحق، ولتطفيء نور الله {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (سورة الصف). وفي سبيل الدعوة إلى الله، والتعريف به إحتمل أنيياء الله ورسله الكرام من أشد ما عرف الناس من ألوان الأذى أن يهنوا أو يضعفوا أو يستذلوا. إنها رسالة لا يقوم لها، ولا يستقل بحملها إلا أولوا العزم الموصولون بأسباب السماء، والموصوفون برعاية الله وتأييده. ولهذا لم يكن رسل الله إلا الصفوة المختارة من عباده. قد اصطفاهم اله لهذه الرسالة وأعدهم لهذا الأمر العطيم، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ومع هذا فإن الرسل بشر تظهر عليهم أعراض البشرية، وتتجلى فيهم خصائصها: الجسدية، والنفسية، والروحية. فهم يألمون كما يألم الناس، ويضيقون، ويحزنون، ويفرحون، ويغضبون، ويحلمون، ولكنهم في جميع الأحوال التي تتقلب بالناس- هم على أكمل الكمال الذي تتسع له

البشرية، وتحتمله. نقول هذا لنفهم منه أن لكل رسول، كما لكل إنسان- سعيه وجهده في محاسبة نفسه، وفي مغالبة ضعفه البشري، وأنه بقدر ما يعمل وبقدر ما يتحمل، تكون منزلته عند الله ودرجته بين رسله وأنبيائه كما يقول سبحاته: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ونفهم من هذا أيضا أن الرسل مطالبون بأن يجاهدوا، وأن يعملوا، وأن يستقلوا بحمل العبء الملقى عليهم، وألا يدخل التواكل على مهمتهم، بحسب أن الله هو صاحب الدعوة، وهو الذي يتولى! كلا فإنهم مكلفون بأن يواجهوا بأنفسهم هذه المهمة التي ندبتهم لها السماء، وأن يقوموا عليها قيام الراعي القوي الحذر الذي يسوق قطيعه إلى مواطن الكلاء، وموارد الرعي الذي لا يغمض عينه عن الذئاب المتربصة بالقطيع، ولو شاء الله أن تحمل عن الرسل والأنبياء أعباء ما حملوا، وأن يطوع لهم كل شيء- لكانوا مجرد أدوات، ولم يكن لهم فضل مجاهدة، ولا ثمرة جهاد .. ولكن هكذا اقتضت حكمة الله أن يحمل الرسل تبعة مهمتهم العظيمة، وأن يبذلوا لها من الجهد، وأن يتحملوا في سبيلها من الأذى على قدر نبلها، وشرف غايتها فإن العظائم كفؤها العظماء ... ونفهم من هذا كذلك أن أصحاب الرسالات من القادة والزعاء مطالبون بما لم يطالب به غيرهم من الناس من حمل الأعباء، وتلقي الصدمات بالقدر الذي تضم رسالاتهم من الخير والحق ....

الرسالة الإسلامية

الرسالة الإسلامية إذا اختص الله سبحانه وتعالى نبي الإسلام محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه بأن يكون خاتم الأنبياء وأن رسالته مختتم الرسالات، فإن أعباء الرسالة التي حملها كانت أضعاف ما حمل الرسل من قبله لأنها رسالة تقف موقف التجمع والشرح والتحديد للرسالات كلها، ولأنها تواجه الحياة كلها، وتشرع للإنسانية كلها وتتسع لحاضر الزمان ومستقبله جميعا مهمة نبيلة، ورسالة كريمة، ولكنها محملة بأعباء ثقال تنوء الجبال بحملها إنها تمس الصميم من حياة كل إنسان. تمس عقيدته، وتمس ضميره ووجدانه، وتحمل قوى الهدم لأربابها وآلهته. وليس أعز على الإنسان من معتقده أيا كان مكانه من الضلال أو الهدى حتى يتخلى المرء عن حياته ولا يتخلى عن عقيدته. وحين قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأداء الرسالة، واحتمل فيها ما احتمل من أذى- كان أول ما افتتح به رسالته، هو الدعوة إلى الله. حتى إذا آمن الناس به، وأقروا بوحدانيته جاء دور التشريع الذي ينظم حياة الإنسان الروحية والمادية ويحدد صلته بخالقه، وصلته بالمجتمع الإنساني الذي يعيش فيه ... وقد اتخذت شريعة الإسلام أعدل الطرق، وأوضحها، وأكثرها فعالية في الوصول إلى الغاية التي قصدت إليها من الدعوة إلى الله، والتعرف إليه، فلم تشأ هذه الحقيقة أن تغرق الناس في لجج من الجدل الفلسفي، وفي تصورات من المنطق السقيم الذي لا يلد إلا خيالات وأوهاما، ولا ينتهي إلا إلى ظنون يضرب بعضها وجه بعض! ولكن شريعة الإسلام غير هذا أنها جاءت إلى الناس كما هم. إنهم بشر لهم حدود لا يتجاوزونها، ولعقولهم مدى لا تتعداه، والبشر هم غالبة الناس وليسوا فلاسفة ... من أجل هذا لم تفتح شريعة الإسلام بابا للجدل في الله، ولم تستمع إلى الذين يدعونها إلى الخصومة في الله. بل قطعت عليهم الطريق، وفوتت عليهم ما يقصدون من صرف الدعوة عن غايتها

الجادة، في كشف الضلالة عن العقول، والعماية عن القلوب إلى مماحكات سقيمة، وجدل مريض ... وليس هذا شأن الإسلام وحده، وإنما هو سبيل الشرائع السماوية كلها منهج واحد وطريق واحد لأنه أعدل منهج وأقوم طريق لا جدال في الله، ولا بحث في ذاته! ولكن استدلال على الله، ونظرة إلى هذا الوجود الذي يصافح حواسنا، ويأخذ بمجامع عقولنا وقلوبنا، نظرة تمتليء بها القلوب خشية واخباتا لمن خلق فسوى وقدر فهدى ... ذلك هو منهج الدعوات الإسلامية في كل أمة، وعلى لسان كل نبي {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}. والذي ينظر في هذا المنهج السماوي في الدعوة إلى الله يجد بين يديه دلائل الإعجاز التي تعنو لها الوجوه، وتخضع لها أعناق المعانذين والمكابرين. فإن تدبير هذا المنهج وتدرجه مع التطور العقلي الإنساني ومسايرته لملكات الفكر الإنساني. عصرا بعد عصر ينطق بشهادتين: الشهادة الأولى: أن هذا التدبير لا يكون إلا من حكيم خبير يعلم من الناس ما لا يعلمون ذلك هو الله رب العالمين. الشهادة الثانية: صدق هذا القرآن الذي نأخذ عنه ذلك المنهجع الصادق المعجز لأنه كلام الله، وأن النبي المبعوث به صادق موصول بأسباب السماء يتلقى رسالته عن الله، ويحمل إلى الناس شريعته ... والقرآن الكريم لا يهتم بالتوقيت الزمني لدعوات الأنبياء الذين ذكروا في الكتاب، لأن هذا التحديد ليس له أثر في الواقعة التي يذكرها القرآن، ولهذا المعنى لم تشر آيات الكتاب إلى أماكن الدعوة. إذ أن مرمى الواقعة لا يراد بها إلا عرض مشهد من مشاهد الصراع بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، والزمان والمكان قضية تتجدد على مر الأزمنة، وتقع في كل مكان، فلا أثر للزمان أو المكان في موقع الدعوة أو العبرة منها ...

وهنا يبدو وجه الحكمة في إطلاق وقائع الدعوة من ظروف الزمان والمكان في هذا الصراع بين الحق والباطل حيث تظل هذه الوقائع ملء الأزمنة، وملء الأمكنة وبهذا لن تكون غريبة في أي زمان ومكان، إنها للناس جميعا، ولأجيال الناس جميعا، فحيث كان صراع بين حق وباطل كانت وقائع القصص القرآني دستورا محكما يحتكم ويتأسى به. ونلاحظ أيضا مع إطلاق وقائع الدعوات السماوية من قيود الزمن والمكان، فإن الترتيب الزمني بين هذه الدعوات قد نال شيئا من اهتمام القرآن به، فهناك أكثر من وجه يمكن أن يستدل منه على مكان كل دعوة من سابقتها أو لاحقتها في الزمن. ومن هذا دعوة هود عليه السلام يجيء على لسانه، وهو يخاطب قومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (سورة الأعراف). كما يجيء على لسان صالح عليه السلام مخاطبا قومه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} (سورة هود). وكذلك يذكر القرآن مدين في قوله تعالى: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} فيفهم من هذا أن دعوة شعيب كانت بعد دعوة صالح لأن صالحا كان رسولا إلى ثمود، وأن شعيبا كان رسول مدين وإني اتبع هذا الترتيب في المنهج الذي وضعته السماء لدعوة الحق، وفتح عقول الناس وقلوبهم لها ... كانت دعوة الأنبياء تدعو إلى الله مباشرة دون أن تلفت العقول إلى الاستدلال عليه من النظر في ملكوت السماوات والأرض، وتكاد الدعوة تكون دائرة بين كلمتين: (أعبدوا الله) من غير أن يدعي العقل إلى البحث عن الله، والإستدلال بالنظر في ظاهر الوجود. ولهذا كانت دعوة الرسل تحتاج إلى قوة قاهرة، قوة لا تخاطب العقل: وإنما تجابه الحس، فتبهر الأبصار وتصم الأذان، وترعد الفرائص، إنها المهلكات التي يخوف بها الرسل أقوامهم إن هم أبوا الاستجابة لدعوة الرسل والايمان بالله .. ونذكر بعض الدعوات السماوية التي كانت قبل الإسلام.

دعوة نوح (عليه السلام)

دعوة نوح (عليه السلام) أولا دعوة نوح عليه السلام، وقد ذكرت في القرآن مرات كثيرة ولها في كل مرة لون جديد إلا أنها جميعها تكمل صورة الدعوة وتحدد معالمها. يقول الله تعالى في (سورة نوح): {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} (سورة المؤمنون). ويقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (سورة هود). وكادت دعوة نوح إلى قومه تقتصر على قوله عز وجل: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ولكن عقولهم لا تستجيب لغير العقاب

دعوة هود (عليه السلام)

المادي المباشر {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} جاءهم الطوفان فأغرقهم الله، ونجا نوح ومن آمن معه {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}. دعوة هود (عليه السلام) وهود عليه السلام كانت دعوته إلى قومه قريبة من دعوة نوح، ولكن فيها إشعار بأن الإنسان الذي يخاطبه هود قد كبر شيئا ما عن ذلك الإنسان الذي كان يخاطبه نوح، وأنه قادر- نسبيا- على أن يستنبط ويدرك فكان في دعوة هود إلى قومه الفات قريب الى بعض الظاهر المادية الملابسة لهم، والمتصفة بحياتهم، وأن ما هم فيه من نعمة إنما هو من عند الله الذي يدعوهم إليه {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة الأعراف) ... الإنسان الذي يخاطبه هود قد ترقى عقليا نوعا ما فأصبح هود يذكره بفضل الله عليه، وأنه أخلف قوم نوح الذين أهلكهم الله بظلمهم، كما أن الله من على قوم هود ببسطة الأجسام وقوة الأبدان، وتلك نعم جديرة بأن يذكروها، ويذكروا المنعم بها، وفي هذا رشدهم وفلاحهم ... وفي موقف آخر يهتف هود بقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (سورة الشعراء).

دعوة صالح (عليه السلام)

فهذه أنعام، وبنين وجنات، وعيون يعيشون فيها وينعمون بها، وهي ليست من صنع أيدهم، وإنما هي من الله الذي يدعوهم إلى الإيمان به، وفي هذا دعوة إلى العقل أن ينظر ويتدبر ... دعوة صالح (عليه السلام) وفي دعوة صالح عليه السلام آفاق للنظر والتأمل أوسع من تلك الآفاق المحدودة التي جاءت بها دعوة هود. وللزمن آثاره في تلك الفوارق العظيمة بين قوم صالح وقوم هود، إذ كان قوم صالح قد خلفوا هودا وخلفوا الأحداث التي وقعت لهم، والبلاء الذي صب عليهم، بعد أن عصوا رسول ربهم، واستخفوا به وبدعوته، ولاشك أن هذا قد ترك آثاره في هؤلاء القوم بما فتح عليهم من أبواب البحث والتفكير .. قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (سورة هود). {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (سورة الاعراف). {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} ...

دعوة شعيب (عليه السلام)

إن صالحا عليه السلام يذكر قومه بقدرة الله الذي يدعوهم إليه، أنشأهم من الأرض، واستعمرهم فيها ... والعقل الذي يستطيع أن يتصور خلق الإنسان من تراب، ويرتب مراحل عملية الخلق ترتيبا منطقيا واقعيا بحيث يرى أن النطفة التي هي بذرة خلق الإنسان، إنما هي الغذاء الذي يتحول في الجسم إلى دم، ثم إلى نطفة، وأن هذا الغذاء من النبات، وأن النبات هو أجنة الأرض حملته في بطنها، وغذته بعصارتها- العقل الذي يستطيع أن يدرك هذا، أو بعض هذا، هو غير العقل الذي كان عليه قوم هود أو قوم نوح. ولهذا لم تحمل دعود هود معجزة إستدلالية تنبيء عن قدرة الله، وإنما حملت هلاكا وتدميرا، بعد أن انتهى دور النصح، والوعد، ومن قبلها كانت كذلك دعوة نوح، لم تصحبها معجزة إستدلالية بينما حملت دعوة صالح معجزة استدلالية، ويرى فيها أولوا الرشد إشارة إلى الله، وطريقا إليه، وتلك المعجزة هي الناقة التي اقترحوا على صالح أن يخرجها لهم من صخرة معروفة عندهم وأن تكون عشراء تمخض وأعطوا العهد لصالح أنهم يؤمنون بإلهه الذي يدعوهم إليه إذا جاءهم بما طلبوا به، وقد استجاب الله لدعوة صالح، فخرجت الناقة من الصخرة التي أشاروا إليها، وجنينها يتحرك في أحشائها، وقد آمن بعضهم لهذه المعجزة، ولم يؤمن أكثرهم، وتآمروا على الناقة فقتلوها، وهنا حل بهم العذاب الذي أوعدهم به: {فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} ... دعوة شعيب (عليه السلام) {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (سورة هود) ..

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (سورة الأعراف) ... ونلاحظ هنا أن دعوة شعيب عليه السلام لم تقف عند حدود الدعوات الثلاثة السابقة، وهي مجرد الدعوة إلى الله، بل إنها شملت الأمر بعبادة الله، ثم تجاوزته إلى بعض أحكام الشرع، وذلك بمخاطمة الضمير الإنساني ودعوته إلى رعاية حقوق الناس ومعاملاتهم بالعدل ... والضمير إنما يأخذ مكانه في كيان الإنسان حين يرشد ويكتمل وعيه أما في مرحلة الطفولة والصبى فلا مكان للضمير فيها ... إننا مع قوم شعيب إزاء إنسانية كادت تستكمل حظها من العقل والإدراك، فهم لهذا أهل لكي تخاطب فيهم ضمائرهم وأن يطلب إليهم إقامة حياة إجتماعية يؤدي فيها الفرد حقوق الآخرين لكي يؤدوا له حقه وقد كان القوم معاصرين لقوم لوط عليه السلام وهلاك هؤلاء الأمم الذين عصوا رسلهم، فبعضهم هلك بالطوفان، وبعضهم أرسل عليهم الصواعق، وبعضهم بالريح العاصفة المدمرة، وبعضهم بالصيحة {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} وهذا العذاب الأليم الذي أصاب الذين ظلموا أنفسهم لم يذهبوا هباء وإنما خلفوا وراءهم عبرة ماثلة وموعظة بالغة لمن كان من غيرهم- في أيامهم، ولمن أتى من الجماعات من بعدهم. إن طوفان نوح وعواصف هود ورجفة صالح- وقد هلك بها من هلك- قد كانت عبرة وعظة انتفع بها كثير، واهتدى بها كثير، ولا تزال إلى اليوم درسا نافعا وعظة ماثلة لكل من أراد العبرة والموعظة. ولا نذهب بعيدا، فقد كانت كل زاجرة من تلك الزواجر مثلا يسوقه

دعوة إبراهيم (عليه السلام)

الرسول لقومه، ويشرف منه بهم على مصارع الذين عصوا رسل ربهم، وأنكروا مكانهم فيهم ... فهذا هود عليه السلام يذكر قومه بما حل بقوم نوح فيقول لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} وهذا سيدنا صالح يذكر قومه بما وقع لقوم هود فيقول: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} ... وهذا نبي الله شعيب عليه السلام يحمل المثل لقومه ويستعرض مشاهد الدمار والبلاء التي نزلت بمن سبقوهم في تحدى الرسل وإعناتهم: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} (سورة هود). فهذه المهلكات التي رمى بها أولئك الأغبياء المعاندون لم تكن إلا مثلا تخيف من حولهم ومن بعدهم، وتدعوهم إلى الإنصياع والتسليم للهداة الراشدين الذين يدعونهم إلى الصراط المستقيم، وهذا ما تنطق به الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (سورة الاسراء) ... وإذا كانت دعوة إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام قد استرخى بها الزمن حتى رشدت الإنسانية أو كادت- قد حملت إلى الناس دعوة إلى الله قائمة على النظر في ملكوته، وعلى الإيمان به عن طريق هذا النظر الذي يرسله الإنسان في هذا الوجود فيعود إليه محملا بالآيات الدالة على قدرة الله الناطقة بحكمة الخالق وعظمته ... دعوة إبراهيم (عليه السلام) {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ

دعوة موسى (عليه السلام)

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} (سورة الأنبياء) .. {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (سورة العنكبوت) ... إن إبراهيم يضع قومه أمام موقف يحتاج إلى عقل ونظر، وإلى حساب وتقدير، ليميز الخبيث من الطيب ويفرق بين الحق والباطل {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ... إن العقل الرشيد المكتمل هو الذي يدعى إلى هذا النظر ويحمل على المراجعة والموازنة بين الأشياء. دعوة موسى (عليه السلام) موسى رسول إلى جبهتين: إلى قومه بني إسرائيل، وإلى فرعون الذي طغى، وامتد طغيانه إلى بني إسرائيل. يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، وموسى يحمل إلى فرعون معجزات لا تقبل التحدي، ولكن فرعون يتحداها، وينتهي التحدي بانتصار المعجزة السماوية فيؤمن سحرة فرعون، ويجن جنون فرعون، وتأخذه العزة بالإثم فيضاعف البلاء الذي يصبه على بني إسرائيل، ولا يجد موسى سبيلا إلا الهرب بقومه فيتبعهم فرعون، وهناك على مشارف سيناء عند البحر الأحمر يقف موسى وقومه، ومن وراءه فرعون وجنوده يكادون يلحقون بهم، ويضرب موسى بعصاه

البحر، ويفتح له ولقومه طريق فيه، وينسحب بقومه إلى الشاطيء الشرقي من البحر، وفرعون وجنوده جادون في أثرهم، يركبون نفس الطريق في قلب البحر، وهنا تنتهي المعجزة بعد أن أدت دورها، حيث يطبق البحر على فرعون وجنوده، فيغرقون جميعا. وهذه المعجزات قد شهدها بنو إسرائيل، وكان من شأنها أن تقع من القوم موقع الإيمان، وأن تقوم شاهد صدق على رسالة موسى، ولكن القوم قد إلتوت نفوسهم فلم تعبأ فيها بتلك المعجزات، ولم تصادف نفوسا طيبة، وظل القوم في حاجة إلى معجزات أخرى يتلو بعضها بعضا وجاء موسى بالبينات، ضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا لكل قبيلة منهم عين تستقي منها، وأنزل عليهم المن والسلوى وجاءهم بالتوراة فيها هدى ونور، وفيها تذكير لهم، بما تفضل الله عليهم من نعمة إذ نجاهم من آل فرعون. {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (سورة البقرة) ومع هذا فقد لجوا في الضلال والعناد، وأبوا أن يقتنعوا بكل هذه الآيات، وطالبوا إلى موسى أن يريهم الله جهرة {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} وقد كان من المتوقع- في ظاهر الأمر- أن ينزل العذاب الشامل بهم جميعا، وأن يقع البلاء الماحق الذي لا يبقي ولا يذر، كما كان الشأن في المكذبين من الأقوام السابقة، ولكن يجيء الأمر على غير هذا فيقع البلاء، ويحل العذاب، وإنما في حدود معينة تنال المعتدين. وأخذ الظالمين ... فالذين اعتدوا في السبت وخرجوا على الشريعة هؤلاء مسخوا مسخا خرج بهم عن الإنسانية فكانوا قردة يسخر منهم، ويستهزأ بهم، وتكون فيهم العبرة لمن اعتبر {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (سورة البقرة) ...

والذين صغر في أعينهم شأن الله حتى طلبوا أن يروه عيانا كما يرون الأشياء، هؤلاء أخذتهم الصاعقة بظلمهم {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (سو رة البقرة)، وأما الذين عبدوا العجل وجعلوه إلها فقد نالهم من الله غضب وذلة في الحياة الدنيا، ولكنهم قد تابوا، ورجعوا عن ضلالهم بعد أن راجعهم موسى ونسف العجل الذي عبدوه، وهم ينظرون {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} (سورة الأعراف) ... ورأس الفتنة هو السامري الذي دعا إلى اتخاذ العجل من الحلي التي جمعها من القوم، وصوره منها، فقد مثل به فكان لا يمس شيئا إلا أصابه منه الضر والأذى ... {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} (سورة طه). فهنا لم يقع العذاب شاملا، ولم يأخذ القوم جميعا، وإنما وقع على من استحقوه بما ظلموا، لأن في البقية رجاء، وفيهم مكان لمغارس الهداية والإيمان، إن الجسم الذي يصلح ببتر عضو من أعضائه المريضة فبقية الأعضاء الأخرى السالمة يجب أن تبقى ... وقد كان في بني إسرائيل مفسدون لم تستقم مع الحق والخير نفوسهم، وكانوا نبتا سيئا، فتولت السماء إقتلاعه ... أرأيت إذا كيف كان المنهج الذي قامت عليه دعوة الرسل رسولا بعد رسول، وعصرا بعد عصر؟ فقد ساير هذا المنهج عقلية الإنسانية، وتقابل معها على المستوى الذي كان لها من الوعي والإدراك. كان المنهج في الرسالات الأولى منهجا تلقائيا يلقن الإنسانية في طفولتها مبادئ العقيدة: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} كما يلقن الطفل أسماء المسميات، فيقال له: هذا مصباح، وهذا مذياع، وذلك كرسي، وتلك سيارة وهكذا ...

ثم دخل المنهج مدخلا آخر حين تطورت الإنسانية واتسعت مداركها بعض الشيء، فكان إلى جانب الدعوة إلى الله إلفات إلى الوجود المادي ليستدل به على النظام الممسك به من غير عظمة الخالق وقدرته كذلك صحب هذه الرحلة من دعوات الرسل معجزات غير انتقامية يراد بها تأييد الرسول وتزكية دعوته بأنه رسول من رب العالمين. فحين يرى الناس المعجزة يرون معها ما لا يمكن لبشر أن يأتي به. وذلك عمل يحتاج إلى وعي وإدراك لا يبلغه المرء إلا بعد أن يجاوز مرحلة الصبا، ويشرف على مرحلة الرجولة أو يبلغها ... ونعود لنقرر مرة أخرى أن في هذا المنهج الذي احتوته دعوات الرسل، والذي نقله إلينا القرآن الكريم دليلا قائما على أن القرآن منزل من عند الله، وذلك لما اشتمل عليه هذا المنهج من مسايرة لتطور الإنسانية ومواءمة لوعيها وإدراكها، ولو كان هذا القرآن من عند غير الله لما كان فيه هذا الضبط الدقيق، وتلك اليقظة الواعية لسير الحياة، ورصد حركات العقول فيها ولو وقع- على أقل تقدير- في هذا المنهج، بعض الخلل في ترابطه وتماسكه، ولكننا إزاء منهج متماسك أقوى ما يكون التماسك سواء في وحداته، وعناصرها، أم في تدرج هذه الوحدات واحدة بعد أخرى- تدرج الكائن الحي نحو النضج والكمال، فإلى جانب الأدلة الكثيرة على إعجاز القرآن وصدق الرسول يمكن أن يضاف هذا الدليل إليها، ويحسب في حسابها ...

أسلوب القرآن في الدعوة إلى الله

أسلوب القرآن في الدعوة إلى الله الرساله المحمدية هي خاتمة الرسالات السماوية، لقد انتهى الدور التلقيني بعد أن أشرف العقل بنفسه على دلائل كثيرة تشير إلى وجود الله. فالله في واقع الحياة- في هذه المرحلة الأخيرة من رسالات السماء- ليس، ذاتا مجهولة أو منكرة في عقول الكثرة الغالبة من الناس، فقد كان لدعوات الرسل المتتابعة، ولمواقف الراشدين والعالمين من أتباعها آثار كبيرة في كشف الطريق إلى الله، والتعريف به، كما كان للزمن وتطور العقل الإنساني، نحو الكمال أثره القوي كذلك في هذا الأمر. لقد جاء الإسلام والعرب يعرفون في لغتهم كلمة الله ويتعاملون بها في حياتهم على أنها قوة ممسكة بالوجود وقائمة على كل شيء، وأنها تعلم ما يخفي الناس وما يعلنون، يقول زهير بن أبي سلمى الشاعر الجاهلي واحد أصحاب المعلقات: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخره فيوضع في كتاب فيذخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينتقم فقد كان العرب في جاهليتهم يعتقدون في الحياة بعد الموت، وفي الجزاء وفي الجنة والنار، يقول الشهرستاني عن عرب الجاهلية: (ومن العرب من كان يؤمن بالله، واليوم الآخر، وينتظر النبوة، ومن هؤلاء زيد بن عمرو ابن نفيل كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول "أيها الناس، هلموا إلي، فإنه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيري"، ومنهم قس بن ساعدة الإيادي وكان يقول: "هو الله إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى وإليه المآب غدا"، ومنهم عامر بن الظرب العدواني، وكان يقول: "إني ما رأيت شيئا قط خلق نفسه، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولا جائيا إلا ذاهبا، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء"). فالرسالة المحمدية تواجه إنسانية فيها وعي، ولها إدراك، وعندها إستعداد للبحث عن الله، والتشوق إليه من خلال هذا الوجود الذي يعيش

فيه الناس، وإذن فلن تكون الدعوة إلى الله دعوة تلقائية لإن مواجهة العقل المدرك المستعد للبحث والنظر- إلى مواجهته بالأمر الواقع والحكم الملزم، فيه تعسف وإعنات لا تلقاه مثل هذه العقول إلا بالتمرد والعناد ... وحين ننظر قي دعوة الإسلام نجدها قد مرت في مراحل إنتقلت بالناس من حال إلى حال ... وفي المرحلة الأولى من مراحل الدعوة نجد أن أول ما افتتح به الوحي رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (سورة العلق) .. هذه الآيات كانت عنوان الموضوع الذي تدور حوله الدعوة في مراحلها الأولى: الخالق وما خلق، وذكر الخالق وما خلق هنا هو تحديد للموضوع الذي من أجله كان توجيه النظر إلى المخلوقات، والوقوف على ما في صورها وألوانها وأشكالها من عجائب وأسرار، فإنذا استبانت لعين الناظر المتأمل تنبهه إلى الخالق الذي خلق .. ويكاد العهد المكي كله من تاريخ الرسالة - يقوم على أداء هذا الدور، والعمل على التعريف بالله من طريق الإقناع، بالنظر والتفكر في آيات الله ... ولقد جاء القرآن الكريم في هذا الباب، بما لم يكن لدعوة من الدعوات السماوية أو غير السماوية أن تجيء بمثله، وبما لم تنفذ إليه من قلوب الناس وعقولهم أجهزة الدعايات العصرية التي تبشر بالمذاهب السياسية أو الإقتصادية، والتي تحشد لها كل قوى الدعاية من ملايين الأنفس، وملايين الأموال تعمل جميعا في كل ميدان يصل إلى الناس من الإذاعات والكتب والصحف، كل أولئك لم يكن شيئا إلى جانب المنهج الذي اتبعه الإسلام في دعوته إلى الله، وإذ كان منهجا قائما على الحق، وداعيا إليه عن طريق النظر، والإستدلال والإقناع ... وما يشوق العقل الإنساني ويوقظ وجدانه أكثر من نظرة واعية إلى

صامت وناطق في الوجود، فيبدو الوجود كله في مسرح نظره، ومسبح خاطره، ومجلى تفكيره يقلبه كيف يشاء، ويأخذ منه ما يريد .. إقرأ قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} (سورة السجدة). وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (سورة الرعد). واقرأ قوله جل شأنه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (سورة عبس). فتلك دعوات يستحضر بها العقل هذه الظواهر التي تتبدل بها الطبيعة حالا بعد حال، وتلبس فيها أثوابا بعد أثواب، وهي تجيء وتذهب بين يدي الإنسان دون أن يلتفت إليها كثير من الناس، أو يقفوا عندها، فإذا جاءهم من يدعوهم إليها، ويلفتهم نحوها، أحسوا بها، وعجبوا منها كأنما يرونها لأول مرة. وقد ذهب القرآن الكريم في هذا كل مذهب، وجاء إلى العقل من كل أفق يثيره، ويحدد صور الوجود في نظره ... ومن تدبر القرآن في هذا، استعراض مظاهر قدرة الله وعظمته،

وحكمته وتدبيره فيما يبدو عليه هذا النظام الكوني من روعة ودقة وإحكام ... {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة فصلت). {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} (سورة الشورى) {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سورة غافر). ومن الأساليب التي نهجها القرآن في الإلفات إلى عظمة الله وقدرته - أسلوب الاستفهام التقريري الذي يتحدث عن خلق من خلق الله، أو عن آية من آياته، ونعمة من نعمه. وفي هذا الأسلوب يجد القاريء نفسه أمام سؤال ليس له إلا جواب واحد هو الإقرار بالله. فإن استجاب للحق أقر به وإلا أفحم ووجم وخرس .. {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (سورة النمل). {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} (سورة الملك) .. فهذه قضايا يطالب الخصم فيها بإقامة الدليل على بطلانها إن كان في إمكانه أن يفعل، وإلا فقد لزمه الإيمان بالله .. {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (سورة البقرة) ...

هذا أسلوب القرآن قد جاء بألوان من ضروب الإعجاز الذي خرست له الألسنة، وتضاءلت أمامه العقول وتصاغرت بين يديه الأفهام ... أما أسلوب الملاحدة الذين يدعون وجود قدرة غير قدرة الله، فيقولون أن الطبيعة هي الخالقة لهذا الكون والمدبرة له، فإنهم مطالبون أن يقيموا الدليل على دعواهم الباطلة. كيف تخلق الطبيعة؟ هل من خالق غير الله؟ سأل أحد الملحدين تلميذا فقال: أقم لي دليلا واحدا على وجود الله. وأنا أومن لك به. فأجاب التلميذ: وأنت أقم لي دليلا واحدا على عدم وجوده، وأنا أكفر به؟ فبهت الذي كفر ...

الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يكون بعد الموت فالإيمان بفتنة القبر وعذابه، ونعيمه، فأما الفتنة، فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيي ... وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها لصعق، ثم بعد هذه الفتنة، إما نعيم، وإما عذاب. الإيمان باليوم الآخر هو التصديق الجازم بجميع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يكون بعد الموت، وهذا هو الركن الخامس من أركان الإيمان، والمؤمنون يؤمنون بالبعث بعد الموت، وهو إعادة الأبدان بأرواحها إلى الحياة مرة ثانية كما صرحت به الكتب السماوية، ونادت به جميع الأنبياء والمرسلين قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. ويجب الإيمان من بعد الموت بفتنة القبر وعذابه ونعيمه، والبعث والحشر، والنشر والصحف، والميزان والحساب، والجزاء والصراط، والحوض والشفاعة، والجنة والنار وأحوالهما، وما أعد الله لأهلهما، إجمالا وتفصيلا، وفي الصحيحين من حديث قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من

الجنة فيراهما جميعا، قال وذكر لنا أنه يفسح له في القبر مد البصر، وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين". وأخرج الترمذي، وابن حبان في صحيحهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا: ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراعا، ثم ينور له فيه، وإن كان منافقا قال: سمعت الناس يقولون شيئا فقلت مثله، ولا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: إلتمي عليه، فتلتم عليه حتى تختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه". وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لقد أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل- أو قريبا- من فتنة المسيح الدجال". وفيهما عن أبي أيوب قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد وجبت الشمس وقد سمع صوتا فقال: "يهود تعذب في قبورها". وعن أبي داود: فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى، فآمنت به وصدقت، فينادي مناد أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، وألبسوه من الجنة، ويفسح له مد بصره". وقال في الكافر: "فيأتيانه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، إلى أن قال: فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي، فأفرشوه

من النار، وافتحوا له بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه". ومن الأدلة الدالة على عذاب القبر قوله تعالى في حق آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} إن السؤال والنعيم والعذاب في القبر يشبه بعثا للحشر في أنه واجب سمعا، بل وعقلا وحكمة، فإن الأدلة القاطعة قامت على أن الله تعالى حكم في صنعه، لم يخلق الناس عبثا، ولم يتركهم سدى، بل جعل لهم حياة وراء هذه الحياة لينصف فيها المظلوم من الظالم، ويقام فيها قانون العدل بين الخلائق {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}، ولو فكر الإنسان فيها حوله من نبات مختلف، وجنات منشآت، وكيف يحيي الله بالماء الأرض بعد موتها وتهتز وتربو بعد يبسها وجمودها؟ لعلم أن من قدر على ذلك قادر على أن يعيد الخلق إلى ما كانوا عليه {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وأي فرق بين البدء والإعادة إذا كان الله تعالى هو الذي بدأ الخلق ووهبهم الحياة فما الذي يحول بينهم وبين إعادتهم؟ {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} على أن من شأن الإعادة أيسر من البدء، وإن كان الكل تناوله القدرة {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ..

البعث

البعث يبدأ اليوم الآخر بالبعث، وهو إعادة الإنسان روحا وجسدا كما كان في الدنيا، وهذه الإعادة تكون بعد العدم التام، ولا يستطيع الإنسان معرفة هذه النشأة الأخرى لأنها تختلف تمام الإختلاف عن النشأة الأولى .. أدلة البعث: ولقد أورد القرآن الكريم أدلة كثيرة على البعث مستدلا بالنشأة الأولى على النشأة الأخره، ومبينا أن الله قادر على كل شيء، وعالم بكل شي، فلا تعجزه إعادة الأجسام لنفوذ قدرته ولا يضيع منها شيء لسعة علمه. قيل في شرح الطحاوية: الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة، والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه، وأقام الدليل عليه، ورد على المنكرين في غالب سور القرآن، وذلك أن الأنبياء كلهم متفقون على الإيمان بالله، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم وهو فطري كلهم يقرون بالرب إلا من عاند كفرعون بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لما كان خاتم النبيئين وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفى بين تفصيل الآخرة بيانا لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء. الإنسان يتطور في الخلق ويتحول من حال إلى حال كالأرض وما تخرجه من نبات مظهر العلم والقدرة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (سورة الحج) وإذا

النفخات الثلاث

كان الله لم يعي بخلق السماوات والأرض ولا يزال يخلق ويرزق، ويحيى ويميت، فهل يستبعد بعد هذه المشاهدة المنظورة أن يعيد الخلق مرة أخرى {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} إن إنكار البعث وإعادة الحياة مرة أخرى بعد هذه الدلائل البينة في الأنفس والآفاق لا معنى لها ... وأما الذين أنكروا البعث فرد الله عليهم بأن استبعادهم لا معنى له، لأنهم يجهلون عظمة الله وقدرته وعلمه وحكمته، وأنهم لا يبصرون في أنفسهم، فأنفسهم أدل الدلائل وأقوى الحجج على نفي ما ينكرونه من البعث، فالله أحياهم أولا، وأماتهم ثانيا، ولا تزال القدرة صالحة لإحيائهم مرة، وجمعهم مرة أخرى يوم القيامة، فأي استبعاد في هذا؟ .. قال في شرح الطحاوية: (فالنشأتان نوعان تحت جنس يتفقان ويتماثلان من وجه ويفترقان ويتنوعان من وجوه. المعاد هو الأول بعينه، وإن كان بين لوازم الإعادة، ولوازم (البدء) فرق، فعجب الذنب هو الذي يبقى، وأما سائره فيستحيل، فيعاد من المادة التي استحال إليها، ومعلوم أن من رأى شخصا وهو صغير ثم رآه وقد صار شيخا علم أن هذا هو ذاك، مع أنه دائم في تحلل واستحالة، وكذلك سائر الحيوان والنبات، من رأى شجرة وهي صغيرة، ثم رآها كبيرة قال: هذه تلك، وليست صفة لتلك النشأة الثانية مماثله لصفة هذه النشأة حتى يقال: إن الصفات هي المغيرة، لاسيما أهل الجنة إذا دخلوها، فإنهم يدخلونها على صورة آدم عليه السلام طوله ستون ذراعا كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، وروي أن عرضه سبعة أذرع، وتلك نشأة باقية غير معرضة للآفات، وهذه النشأة فانية معرضة للآفات) اهـ. النفخات الثلاث: النفخات ثلاثة: الأولى: نفخة الفزع وهي التي يتغير بها العالم قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، والنفخة الثانية: نفخة الصعق قال تعالى:

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} والنفخة هذه هي التي فيها الهلاك لكل شيء، والنفخة الثالثة: نفخة البعث والنشور قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} .. وفائدة الإخبار بالآخرة لينتبه الإنسان فيأخذ بالأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال، ويبادر إلى التوبة من التبعات، ويلجأ إلى الكريم الوهاب في عونه على أسباب السلامة، ويتضرع إليه في سلامته من دار الهوان، وإدخاله دار الكرامة .. وقد جعل الله الدار ثلاثا: دار الدنيا، ودار البرزخ ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاما تخصها. وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعا لها، ولهذا جعل أحكام الشريعة مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضرت بالنفوس. وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبعا لها فإذا كان يوم القيامة عند بعث الأجساد، وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين، صار النعيم والعذاب على الأرواح والأجسام معا. واختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة أين تكون؟ والراجح في ذلك أن الأرواح تكون متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت، فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم أعظم تفاوت كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء، وأرواح بعض الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وبعض الشهدأء تحبس أرواحهم عن دخول الجنة لدين عليهم، أو غيره كما جاء في المسند عن عبد الله بن جحش أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: "الجنة" فلما تولى قال: "إلا الدين، سارني به جبريل آنفا"، ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة، ومنهم من يكون محبوسا في

كل شيء هالك إلا وجهه

قبره، كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده أن الشملة التي عليه لتشتعل عليه نارا في قبره". ومنهم من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس: "الشهداء على بارق نهر باب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة غدوة وعشيا" (¬1) رواه أحمد. وهذا بخلاف جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه حيث أبدله الله من يديه بجناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء (¬2)، ومنهم من يكون محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملإ الأعلى، إنها كانت روحا سفلية، ومنها أرواح في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه، وتلقم الحجارة فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض. كل شيء هالك إلا وجهه: جاء في شرح الطحاوية: (إذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت، وقال آخرون: لا تموت الأرواح، فإنما خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان وقد دلت على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها والصحيح موت النفس هي مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإذا أريد بموتها هذا القدر، فهي دائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى فهي لا تموت وعلى هذا الإعتبار فهي باقية بعد قبضها في نعيم أو عذاب وأجمعت الرسل عليهم السلام أنها محدثة مخلوقة، وهذا معلوم بالضرورة من الدين أن العالم حادث وأن معاد الأبدان واقع وأن الله وحده هو الخالق، وكل ما سواه مخلوق له، وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهي القرون المفضلة في الإسلام، على أن الروح مخلوقة من غير خلاف بينهم، حتى ظهر بعض من قصر فهمه عن الكتاب والسنة فزعم أنها قديمة غير مخلوقة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده- الطبراني- الحاكم- عن ابن عباس- حسن- (¬2) أخرجه الحاكم. وذكره ابن حجر في الفتح عن الحاكم والطبراني وجود إسناده وله شاهد من حديث أبي هريرة عن الترميذي والحاكم وفي إسناده ضعيف- وله شواهد أخرى عن أبي سعد يصح بها الحديث.

إختلاف الناس عند البعث

وأجمع المسلمون على أن الناس يقومون من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا، وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق وتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد، فمن ثقلت موازينه فأولائك هم المفلحون، ومن خفت موازينهم فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدين) وروى مسلم عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين، قال: فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق قدر أعمالهم، منهم من يأخده إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبته، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاما قال بعض العلماء: ظاهر الحديث التعميم ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثني - من هذا العرق- الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم في العرق الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من الذين عملوا المعاصي دون الكبائر، وماتوا على ذلك، والمسلمون منهم قليلون بالنسبة للكفار. ومن تأمل الحالة المذكورة عرف عظم الهول فيها وذلك أن النار تحف بأرض الموقف، وتدنو الشمس من الرؤوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض وماذا يرويها من العرق حتى يبلغ منها سبعين ذراعا مع أن كل واحد لا يجد إلا موضع قدمه فكيف تكون حالة هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فيه؟ إن هذا لمما يبهر العقول، ويدل على عظم القدرة، وعلى هذا يقتضي الإيمان بأمور الآخرة وأن ليس للعقل فيها مجال. ولا يعترض بقياس ولا عادة وإنما يؤخذ بالقبول، ويدخل تحت الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دل على خسرانه وحرمانه .. إختلاف الناس عند البعث: الناس يختلفون عند البعث إختلافا كبيرا حسب أعمالهم، فالذين صلحت أعمالهم وعقائدهم، وزكت نفوسم يكونون أكمل أجسادا وأرواحا، والذين خبثت أرواحهم، وفسدت عقائدهم يكونون أنقص أجسادا وأرواحا.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم، قيل: يا رسول الله كيف يحشرون على وجوههم؟ قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما انهم يتقون بوجوههم؟ كل حدب وشوك" رواه الترمذي. وفي الحديث يقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -: "يحشر المتكبرون المتجبرون يوم القيامة في صور الدر يطأهم الناس لهوناهم على الله عز وجل" وروى مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله يقول: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" أي إن مات على حسنة يبعث على حال سارة، ومن مات على شر يبعث على حال سيئة. والبعث يكون بالأجساد والأرواح إلا أن القوى الروحية تكون هي القادرة على التصرف في الأجساد، فتستطيع قطع المسافات البعيدة في أقصر مدة، والتخاطب بالكلام بين أهل الجنة والنار، ويكون مثلهم في ذلك مثل الملائكة والجن في قدرتها على التشكل وظهورها في أجساد تأخذها من مادة الكون، وقد ثبت ذلك ثبوتا علميا.

الحساب حق

الحساب حق هو وقف الله عباده قبل انصرافهم من المحشر على أعمالهم خيرا ان كانت أو شرا تفصيلا، وهو مختلف فيه اليسير والعسير، والسر والجهر، والتوبيخ، والفضل، والعدل، يستثنى من لا حساب عليهم، كالسبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وكالمبشرين بالجنة، وحساب الله تعالى الناس بأن يخلق في قلوبهم علوما ضرورية بمقادير أعمالهم من الثواب والعقاب، أو يقف عباده بين يديه، يؤتهم كتب أعمالهم، فيها سيئاتهم وحسناتهم، أو يكلم عباده في شأن أعمالهم، وكيفية ما لها من ثواب، وما عليها من العقاب، وتتسع قدرة الله تعالى لمحاسبتهم جميعا كما اتسعت لإجادهم، وتنظيم شؤونهم {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وروى الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربعة: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ " وقال حديث حسن صحيح. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من نوقش الحساب عذب، فقلت: أليس يقول الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} قال: (إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك). (شرح عبد السلام والعقيدة). فالله يحاسب عباده على أن يجازي على السيئة بسيئة مثلها المماثلة يحددها هو وحده. ويجازي على الحسنة بعشر أمثالها، وقد يجازي عليها بأكثر من ذلك لأن الناس يتفاوتون في إتقان أعمالهم، والإحسان فيه، كما يتفاوتون في الإخلاص لله تعالى في مثل الصلاة، والصيام، والحج، أما في الصدقة فهم مع تفاوتهم في الإخلاص يتفاوتون أيضا في تحري من يستحقها، فرب قرش يعطى لفقير أفضل عند الله من قرش يعطى لسائل

ورب قرش يعطى لأسرة بائسة أفضل عند الله تعالى من دينار يعطى جزافا، وفي هذا يقول الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}، ويقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، ويقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} كل ذلك عدل من الله تعالى وحكمة وفضل .. والأدلة قائمة على غفران الذنوب الصغائر لتارك الكبائر، والصغائر كالشتم والنظرة، والكبائر كالزنا والقذف إلى غير ذلك من الأعمال القبيحة، ومن شأن التاركين للكبائر أن تتغلب حسناتهم على سيئاتهم فتذهب بها: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. اتفقت الكتب السماوية والشرائع الإلهية على أن هناك يوما هو آخر أيام الدنيا، تساق فيه الخلائق، بعد خروجها من القبور سوقا، ويجمع الله فيه الموتى فلا يترك منهم فردا {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف) وكثيرا ما يخوفنا الله تعالى شدة ذلك اليوم ويحذرنا شره، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} يوم يحاسب فيه كل على ما قدم، ويجزي عليه الجزاء الأوفى، لا ينفع فيه مال صاحبه، ولا يدفع فيه ولد عن أبيه {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} هو يوم تنقطع فيه الصلات وتتفرق الجماعات إلا صلة أساسها الدين، وعروتها الإيمان

{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} يشتد فيه بالخلائق الأمر، ويعظم بينهم الخوف، فلا يجرؤ نبي مرسل ولا ملك مقرب أن يشفع لأحد من خلقه، إلا من بعد أن يستأذن ربه في وساطته ويرضي عنه في شفاعته، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} ولا تزال الناس كذلك حتى يفصل بين الخلائق، فإما إلى جنة أعدها الله للمتقين، وإما إلى نار أعدت للعصاة والمجرمين: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}. فيجب الإيمان بالصحف جمع صحيفة، والمراد الكتب التي تدون فيها أعمال الإنسان، قال تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}، {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وقال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}. وكذلك يجب الإيمان بالوزن والميزان، الوزن هو تعرف مقدار الشيئ حسا أو معنى، كما يزن القاضي العادل مقدار حجم الخصوم ليتعرف قويها من ضعيفها، ومنها سمى العلماء علم المنطق ميزانا للأن به توزن الحجج والبراهين، قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ويقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ..

الصراط

الصراط: يجب الإيمان بالصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم بين الجنة والنار يمر الناس عليه، على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كراكب الإبل، ومنهم من يعدو عدوا، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف، ومنهم من يخطف، فيلقى في جهنم، فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط، دخل الجنة، فإذا مروا عليه عبروا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة .. (¬1) العرش والكرسي: يجب الإيمان بعرش الله تعالى وكرسيه، وبالقلم وبالملائكة الكاتبين، وباللوح المحفوظ، وإذا وفقنا لمعرفة هذه الأشياء، ولو من طريق الخصائص والميزات، فذلك فضل من الله واسع، وإن لم نعرفها آمنا بها مع تفويض علم حقيقتها إليه تعالى، كما نؤمن بأن الله تعالى لم يخلقها عبثا، وإنما خلقها لحكمة تقتضيها ويتطلبها نظام الملك، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}. يجب الإيمان بالنار والجنة: النار أعدها الله للعصاة، والجنة أعدها للمتقين، والمراد بهما دار النعيم والعذاب، حق ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهما موجودتان الآن، قال تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وفي النار {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، وقال في الجنة إنها موجودة: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} وفي وجود النار قال في حق قوم نوح عليه السلام {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا}، وأن الجنة والنار لا تفنيان .. الحوض: يجب الإيمان بالحوض الذي يرده المؤمنون في الآخرة وهو حوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حتم لورود الخبر الصحيح به، روى البخاري عن عبد الله بن ¬

_ (¬1) العقيدة الواسطية لابن تيمية، وصيحيح البخاري.

عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ أبدا" .. وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني فرطكم (1) على الحوض، من مر عليه شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم" وفي رواية فأقول يا ربي أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا علما أدبارهم. هذه الاحاديث ومثلها في الصحيحين وردت في الحوض، والعقل لا يحيله فوجب الإيمان به لأن ذلك هو الأصل في السمعيات.

الشفاعة

الشفاعة الشفاعة لغة الوسيلة والطلب وعرفها بعضهم بأنها سؤال الخير للغير، وقيل: هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم .. والشفاعة تنقسم إلى قسمين مثبتة ومنفية: فالمثبتة هي التي أثبتها الله تعالى لأهل الإخلاص، ولها شرطان مذكوران في قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}، وأما الشفاعة المنفية فهي التي تطلب من غير الله، أو بغير إذنه، أو لأهل الشرك قال تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ... وشرح العلماء الشفاعة إلى ثمانية أنصاف: 1) الشفاعة العظمى: وهي شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الموقف حتى يقض بينهم حين يتراجع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم جميعا صلوات رب وسلامه، وهي المقام المحمود. 2) شفاعة في أهل الجنة أن يدخلوها. 3) شفاعة سائر النبئين والصدقين والشهداء والصالحين وغيرهم فيشفعون فيمن استحق النار أن لا يدخلها وهو تكريم من الله- يوم القيامة- لبعض التفاة، يشفع الله من يشاء فيمن شاء {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}. 4) وفيمن دخلها أن يخرج منها بعد أن يردها حقا ويراها عين اليقين {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}. 5) في رفع درجات من يدخل الجنة فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم، فيشفع - صلى الله عليه وسلم - فيهم. 6) الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب.

رأي الأستاذ محمد عبده في الشفاعة

7) الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه. 8) الشفاعة في أهل الكبائر من أمته ممن دخلوها فيخرجون منها. وانقسم الناس في الشفاعة إلى طرفين ووسط، قسم نفوا الشفاعة وهم الخوارج والمعتزلة فنفوا شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر، وقسم أثبتوها حتى للأصنام وهم المشركون كما ذكر الله عنهم بقوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} وقسم توسطوا وهم أهل السنة فأثبتوها بشرطهما وهما: إذن الله للشافع أن يشفع والثاني رضاه عن المشفوع له ولا يرضى من العمل إلا ما كان خالصا صوابا ... وعلى كل حال فمن أراد أن يعرف اليوم الآخر وما تشتمل عليه فأحيله على الكتاب والسنة في بقية تفاصيل الآخرة، وقد كتب أهل الإسلام من النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة فيما يتعلق باليوم الآخر، وبالجنة والنار، وصنفوا المصنفات الكثيرة المطوله والمبسوطة، وأن ذلك كله داخل في الإيمان باليوم الآخر. رأي الأستاذ محمد عبده في الشفاعة نقل صاحب المنار عن الأستاذ الإمام في تفسير قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} قال ما معناه {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لأنهم ملكه وعبيده مقهورون لسننه خاضعون لمشيئته، وهو وحده المصرف لشئونهم، والحافظ لوجودهم {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} منهم فيحمله على ترك مقتضى ما مضت به سنته، وقضت به حكمته، وأوعدت به شريعته من تعذيب من دسى نفسه بالعقائد الباطلة، ودنسها بالأخلاق السافلة، وأفسد في الأرض، وأعرض عن السنة والفرض من ذا الذي يقدم على هذا من عبيده {إِلَّا بِإِذْنِهِ}؟ والأمر كله له صورة وحقيقة، وليس هذا الإستثناء نصا في أن الإذن سيقع، وإنما كقوله {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} فهو تمثيل له بانفراد الله بالسلطان والملك في ذلك اليوم {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} ولهذا

قال البيضاوي في تفسير الجمل، بيان لكبرياء شأنه، وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه، ويستحيل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلا عن أن يعوقه عنادا أو مفاصبة .... وقال الأستاذ الإمام ما حاصله: إن في هذا الإستثناء قطعا لأمر الشافعين المتكلمين على الشفاعة المعروفة التي كان يقول بها المشكون وأهل الكتاب عامة لانفراده تعالى بالسلطان والملك وعدم جراءة أحد من عبيده على الشفاعة أو التكلم بدون إذنه، وإذنه غير معروف لأحد من خلقه ... ثم قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس، أو أمور الدنيا التي خلفوها، أو أمور الآخرة التي يستقبلونها، ما يدركون وما يجهلون، وهذا دليل على نفي الشفاعة بالمعنى المعروف. فالشفاعة المعروفة التي يعلق عليها الكافرون والفاسقون آمالهم، ويظنون أن الله تعالى يرجع عن تعذيب من استحق العذاب منهم لأجل أشخاص ينتظرون شفاعتهم هي مما يستحيل على الله تعالى لأنها من شأن أهل الظلم والبغي تستلزم الجهل وهو ذو العلم المحيط {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ومن علم شيئا منك فلا سبيل له إلا التصدي بإعلامك، فما عسى أن يقول من يريد الشفاعة عنده بالمعنى الذي يعهده الناس ويغتر به الحمقى الذين يرجون النجاة في الآخرة بدون رضاء الله تعالى في الدنيا. قال الإمام: معناه أن الشفاعة تتوقف على إذنه، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه تعالى. يريد أن ذلك ترق في نفيها من دليل إلى آخر أي إذا أمكن أن يكون هناك شفاعة بمعنى آخر يليق بجلال الله تعالى كالدعاء المحض، فإنه لا يجرؤ عليها أحد في ذلك اليوم العصيب إلا بإذن من الله تعالى، وإذنه تعالى مما إستأثر بعلمه فلا يعلمه غيره إلا إذا شاء إعلامه به، ثم قال وإنا نعرف إذنه بما حدده من الإحكام في كتابه، أي فمن بين أنه مستحق لعقابه، فهو مستحق له، لا يجرؤ أحد أن يدعو له بالنجاة، ومن بين أنه مستحق لرضوانه على هفوات ألم بها لم تحول وجهه عن الله تعالى إلى الباطل والفساد الذي يطبع على الروح فتسترسل في

الخطايا حتى تحيط بها، فتملك عليها أمرها، فذلك مستحق له منته إليه بوعد الله في كتابه وفضله على عباده كما سبق في علمه الأزلي. ثم قال الأستاذ الإمام: قالوا أن الإستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} واقع، وهو أن نبينا عليه الصلاة والسلام يشفع في فصل القضاء، فيفتح باب الشفاعة فيدخل فيه غيره من الشفعاء كالأنبياء والأصفياء كما ثبت في الأحاديث، وهي حالة أنكرها المعتزلة وأثبتها أهل السنة، والله تعالى يأذن لمن يشاء ويطلع على علمه باستحقاق الشفاعة من يشاء كما علم من الإستثناء، ونقول: أجمع كل من أهل السنة والمعتزلة وسائر فرق المسلمين على كمال علم الله تعالى إحاطته وذلك يستلزم إستحالة الشفاعة عنده بالمعنى المعهود كما سبق القول، وقلنا هناك أن مثل هذا الإستثناء ورد في القرآن لتأكيد النفي وبذلك نجمع بين الآيات التي تنفي الشفاعة بدون إستثناء وبين هذه، وقلنا أن ما ورد في الحديث يأتي فيه االخلاف بين السلف والخلف في المتشابهات فنفوض معنى ذلك إليه تعالى، أو يحمله على الدعاء الذي يفعل الله تعالى عقبه ما سبق في علمه الأزلي أنه سيفعله مع القطع بأن الشافع لم يغير شيئا من علمه، ولم يحدث تآثيرا ما في إرادته تعالى وبذلك يظهر كرامة الله لعبده بما أوقع الفعل عقب دعائه اهـ (¬1). ¬

_ (¬1) أنظر بحث "الشفاعة" في تفسر المنار ج 1 ص 301.

الركن السادس الإيمان بالقدر

الركن السادس الإيمان بالقدر الإيمان بالقدر هو التصديق الجازم بأن كل خير وشر بقضاء الله وقدره، وأنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المحفوظ، وأنه خالق أفعال العباد من الطاعات والمعاصي، ومع ذلك فقد أمر العباد ونهاهم وجعلهم مختارين لأفعالهم غير مجبورين عليها، بل هي واقعة بحسب قدرتهم، وإرادتهم يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون ... وأول ما خلق الله القلم قال له: أكتب، قال: وما أكتب؟ قال: ماهو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه رفعت الأقلام وطويت الصحف كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (سورة الحديد). وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه، بعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات، فقال: "أكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أم سعيد" ونحو ذلك .. الإيمان بالقدر بأن الله علم بما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا وأبدا، فالأزل القديم الذي لا نهاية له، فالأزل هو الدوام في الماضي، والأبد ما ليس له آخر، فهو الدوام في المستقبل، فالأول هو الذي لم يزل كائنا، والأبد هو الذي لا يزال كائنا، وكونه لم يزل، ولا يزال معناه دوامه وبقاؤه الذي ليس له مبتدأ ولا منتهى .. وأن الله عالم بأعمال العباد قبل خلقهم وبجميع أحوالهم لا يغيب عن علمه شيء، فيعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون،

ويعلم الواجبات والممكنات والمستحيلات، قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} وقال: {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ... والعلم أعم من الإرادة، وهو أصل لها، والعلوم أعم من المراد، فالعلم يتناول الموجود، والمعدوم، والواجب والممكن، وما كان وما سيكون، وما يختاره العالم وما لا يختاره. وأما الإرادة فتختص ببعض الأمور دون بعض، والخبر يطابق العلم، فكل ما يعلم يمكن الخبر به، والإنشاء يطابق الإرادة، فإن الأمر إما محبوب يؤمر به، وإما مكروه ينهى عنه، وإما ما ليس بمحبوب، ولا مكروه، فلا يؤمر به، ولا ينهى عنه .. ومرتبة العلم من أول مراتب القدر، وقد اتفق عليها الرسل من أولهم إلى آخرهم، واتفق عليها الصحابه ومن تبعهم من الأمة، وقد كفر السلف من الصحابة، فمن بعدهم من أنكر علم الله، قال ابن عمر: "والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر خيره وشرء" وكذا كلام ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وواثلة بن الاسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة الإسلام، حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي، وأحمد بن حنبل وغيرهم إن المنكرين لعلم الله القديم يكفرون. فإن الله سبحانه وتعالى علم أهل الجنة من أهل النار قبيح أن يعملوا الأعمال، وهذا حق يجب الإيمان به، بل نص الأئمة كمالك والشافعي، وأحمد أن من جحد هذا، فقد كفر، بل يجب الإيمان به، فإن الله علم ما سيكون قبل أن يكون. وفي الصحيح قالوا يا رسول الله علم الله أهل الجنة من أهل النار، قال: نعم، قيل: فيم العمل؟ قال: "إعملوا فكلكم ميسر لما خلق له" وأن الله علم الأشياء كما هي، وقد جعل لها أسبابا تكون بها، وعلم أنها تكون بتلك الأسباب، فلا بد من الأسباب التي قد علمها الله سبحانه وتعالى من الدعاء، والسؤال وغيره ملا ينال العبد شيئا إلا ما قدره الله من جميع الأسباب، والله خالق ذلك الشيئ، وخالق الأسباب، ولهذا قيل الإلتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد وترك الأسباب نقص في العقل، والإعراض عنها بالكلية قدح في الشرع، ومجرد الأسباب لا توجب حصول

مشيئة الله

السبب إلا إذا كان بقضاء الله وقدره، فإن لم يكمل الله الأسباب، ويدفع الموانع لم يحصل المقصود، وهو سبحانه ما شاء كان، وإن لم يشأ الناس، وما شاء الناس لا يكون إلا أن يشاء، لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب إلا بعلم، فمن أثبت شيئا سببا بلا علم، أو تخالف الشرع كان مبطلا، مثل أن يظن أن النذر سبب في دفع البلاء، أو حصول النعماء أن الأعمال البدنية لا يجوز أن يتخذ منها سببا إلا أن تكون مشروعة، فإن العبادات مبناها على التوقيف وكذلك عمل الآخرة، فليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لن يدخل أحد الجنة بعمله" قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" فالعمل الصالح مع رحمة الله هو طريق الجنة، أي ليس العمل عوضا أو ثمنا كافيا في دخول الجنة، بل لابد معه من عفوه تعالى ورحمته وفضله ومغفرته، فمغفرته تمحو السيئات ورحمته تأتي بالخيرات، وتضاعف الحسنات ... وقد ضل فريقان في القدر: أحدهما أخد بالقدر وأعرض عن الأسباب الشرعية، والأعمال الصالحة وظنوا أن ذلك كاف، وهؤلاء يؤول أمرهم إلى الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، والفريق الثاني أخذوا يطلبون الجزاء من الله كما يطلب الأجير من المستأجر معتمدين على حولهم وقوتهم وعلهم، وهم جهال ضلال، فمن أعرض عن الأمر والنهي والوعيد ناظرا إلى القدر، فقد ضل، ومن طلب المقام بالأمر والنهي معرضا عن القدر، فقد ضل، بل لابد من الأمرين فكل عمل يعمله العامل ولا يكون طاعة وعبادة وعملا صالحا، فهو باطل، وكل عمل لا يعين الله العبد عليه فإنه لا يكون، لأن تفاصيل الجزاء فلا يدرك إلا بالسمع، والنقول الصحيحة عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله .. مشيئة الله: وأما مشيئة الله سبحانه وتعالى، هي تتضن شيئين أولهما الإيمان بعموم

مشيئته تعالى وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد وإن أفعال العباد من الطاعات المعاصي واقعة بتلك المشيئة العامة التي لا يخرج عنها كائن سواء كان مما يحبه الله ويرضاه أم لا. وثانيهما الإيمان بأن جميع الأشياء واقعة بقدرة الله تعالى، وأنها مخلوقة له لا خالق لها سواه، ولا فرق في ذلك بين أفعال العباد وغيرها كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ويجب الإيمان بالأصل الشرعي، بحيث أن الله تعالى كلف العباد فأمرهم بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن معصيته ولا منافاة أصلا بينما ثبت من عموم مشيئته سبحانه لجميع الأشياء وبين تكليفه للعباد بما شاء من أمر ونهي فإن تلك المشيئة لا تنافي حرية العبد واختياره للفعل، ولهذا جمع الله بين الشيئين بقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} كما أنه لا تلازم بين تلك المشيئه وبين الأمر الشرعي المتعلق بما يحبه الله ويرضاه، فقد يشاء الله ما لا يحبه كمشيئة وجود إبليس وجنوده، وكذلك لا منافاة بين عموم خلقه تعالى لجميع الأشياء وبين كون العبد فاعلا لفعله، فالعبد هو الذي يوصف بفعله، فهو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، والله خالقه وخالق فعله لأنه هو الذي خلق فيه القدرة والإرادة اللتين بهما يفعل: يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر: إن العبد إذا صلى وصام وفعل الخير وعمل شيئا من المعاصي كان هو الفاعل لذلك العلم الصالح، وذلك العمل السيء وفعله المذكور بلا ريب قد وقع باختياره وهو يحسن أنه غير مجبور على الفعل أو الترك، وأنه لو شاء لم يفعل، وكان هذا هو الواقع، فهو الذي نص الله عليه في كتابه، ونص عليه رسوله حيث أضاف الأعمال صالحها وسيئها إلى العباد وأخبر أنهم الفاعلون لها، وأنهم ممدحون عليها إن كانت صالحة، ومثابون، وملومون عليها إن كانت سيئة ومعاقبون عليها، فقد تبين واتضح بلا ريب أنها واقعة منهم باختيارهم وأنهم إذا شاؤا فعلوا، وإذا شاؤا تركوا، وأن هذا الأمر ثابت عقلا وحسا وشرعا ومشاهدة ومع ذلك إذا أردت أن تعرف أنها وإن كانت كذلك واقعة منهم كيف تكون داخلة في القدر وكيف تشملها المشيئة؟ فيقال بأي شيء وقعت هذه الأعمال الصادرة من العباد خيرها وشرها فإنها بقدرتهم وإرادتهم، هذا

يعترف به كل أحد؟ فالله هو الذي خلق ذلك فيهم وهو خالق للأفعال وهو الذي أمد المؤمنين بأسباب وألطاف وإعانات متنوعة، وصرف عنهم الموانع كما قال - صلى الله عليه وسلم - "أما من كان من أهل السعادة فييسره لعمل أهل السعادة" وكذلك خذل الفاسقين ووكلهم إلى أنفسهم لأنهم لم يؤمنوا به ولم يتوكلوا عليه فولاهم ما تولوا لأنفسهم.

خلاصة في القدر والمشيئة

خلاصة في القدر والمشيئة مذهب أهل السنة والجماعة في القدر وأفعال العباد ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة من أن الله سبحانه هو الخالق لكل شيء من الأعيان والأوصىاف والأفعال وغيرها، وأن مشيئته تعالى عامة شاملة لجميع الكائنات فلا يقع منها شيء إلا بتلك المشيئة، وأن خلقه سبحانه الأشياء بمشيئته إنما يكون وفقا لما علمه منها بعلمه القديم، ولما كتبه وقدره في اللوح المحفوظ وأن للعباد قدرة وإرادة تقع بها أفعالهم وأنهم الفاعلون حقيقة لهذه الأفعال بمحض إختيارهم ولهذا يستحقون عليها الجزاء. إما بالمدح والمثوبة وإما بالذم والعقوبة، وأن نسبة هذه الأفعال إلى العباد فعلا فلا تنافي نسبتها إلى الله إيجادا وخلقا لأنه هو الخالق لجميع الأسباب التي وقعت بها. الإيمان بالقدر جزء من عقيدة المسلم، وليس معنى الإجبار، قال الخطابي: "قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه العبد على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون وإنما معناه الإخبار عن تقديم علم الله سبحانه بما يكون من اكتسابات العبد وصدورها عن تقدير منه تعالى، وخلقه لها خيرها وشرها والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل المقادر". وعلم الله سبحانه مما سيقع، ووقوعه حسب هذا العلم لا تأثير له في إرادة العبد، فإن العلم صفة انكشاف لا صفة تأثير. حكمة الإيمان بالقدر: وحكمة ذلك: أن تنطلق قوى الإنسان وطاقته لتعرف السنن والقوانين الإلهية، وتعمل بمقتضاها في البناء والتعمير، وفي إستخراج كنوز الأرض، والإنتفاع بما أودع في الكون من خيرات. وبذلك يكون الإيمان بالقدر قوة باعثة على النشاط والعمل، والإيجابية في الحياة، كما أن الإيمان بالقدر يربط الإنسان برب هذا

الوجود، فيرفع من نفسه إلى معالي الأمور: من الإباء والشجاعة والقوة من أجل إحقاق الحق والقيام بالواجب. الإيمان بالقدر يري الإنسان أن كل شيء في الوجود إنما يسير وفق حكمة عليا، فإذا مسه الضر فإنه لا يجزع، وإذا صادفه التوفيق والنجاح فإنه لا يفرح ولا يبطر، وإذا برئ الإنسان من الجزع عند الإخفاق والفشل، ومن الفرح والبطر عند التوفيق والنجاح كان إنسانا سويا متزنا بالغا منتهى السمو والرفعة وهذا هو معنى قول الله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (سورة الحديد). هذا ما ينبغي أن نفهمه من القدر، وهو مقتضى فهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وفهم أصحابه رضوان الله عنهم أجمعين .. وقد دخل رسول الله يوما على الإمام علي كرم الله وجهه بعد صلاة العشاء فوجده قد بكر بالنوم فقال له: "هلا قمت من الليل؟ فقال يا رسول الله أنفسنا بيد الله إن شاء بسطها، وإن شاء قبضها، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج وهو يضرب على فخذه ويقول، "وكان الإنسان أكثر شيء جدلا" ...... وسرق أحد اللصوص، فلما حضر بين يدي عمر رضي الله عنه سأله لم سرقت؟ فقال قدر الله ذلك، فقال عمر رضي الله عنه أضربوه ثلاثين سوطا، ثم أقطعوا يده، فقيل له: ولم؟ فقال: يقطع لسرقته، ويضرب لكذبه على الله". إن القدر لا يتخذ سبيلا إلى التواكل، ولا ذريعة إلى المعاصي ولا طريقا إلى القول بالجبر، وإنما يجب أن يتخذ سبيالا إلى تحقيق الغايات الكبرى من جلائل الأعمال، إن القدر يدفع بالقدر، فيدفع قدر الجوع بقدر الأكل، وقدر الظمأ بقدر الري، وقدر المرض بقدر العلاج والصحة، وقدر الكسل بقدر النشاط والعمل.

ويذكر أن أبا عبيدة بن الجراح قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما حينما فر من الطاعون: أتفر من قدر الله قال: نعم أفر من قدر الله إلى قدر الله، أي يفر من قدر المرض والوباء إلى قدر الصحة والعافية، ثم ضرب له مثلا بالأرض الجدباء، والأرض الخصبة، وأنه إذا انتقل من الأرض الجدباء إلى الأرض الخصبة لترعى فيها إبله، فإنه ينتقل من قدر إلى قدر (¬1) .... لقد كان يمكن للرسول وصحابته أن يستكينوا كما يستكين الضعفاء الواهنين معللين أنفسهم بالفهم المغلوط الذي يتعلل به الفاشلوت، ولكنه جاء يكشف عن وجهه الصواب، فلم يهن ولم يضف، واستعان بالقدر على تحقيق رسالته الكبرى ملتزما سنة الله في نصره لعباده .... فقاوم الفقر بالعمل، وقاوم الجهل بالعلم، وقاوم المرض بالعلاج، وقاوم الكفر والمعاصي بالجهاد، وكان يستعيذ بالله من الهم والحزن، والعجز والكسل، وما غزواته المظفرة إلا مظهر من مظاهر إرادته العليا التي تجري حسب مشيئة الله وقدره .... وقد حذر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أن يفهم القدر فهما خاطئا، ودعا إلى مجاهدة من يرى هذا الفهم الخطأ، فقد روى عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي، ثم يقولون: الله قدرها علينا، الراد عليهم يومئذ كالشاهر سيفه في سبيل الله" .... هذا هو القدر الذي ينبغي أن نعرفه عن القدر، وما وراء هذه المعرفة عنه فلا يحل لنا البحث فيه، ولا التنازع في شأنه، فإن هذا من أسرارالله التي لا تحيط بها العقول ولا تدركها الأفكار .... فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نتتازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما

حرية الإنسان

وقال: أبهذا أرسلت إليكم؟ إنما أهلك من قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه" وفي هذا يقول رضي الله عنه لمن سأله في مثل هذا: طريق مظلم لا تسلكه، كرر عليه السؤال فقال: بحر عميق لا تلجه، كرر عليه السؤال فقال: سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه" فمثل هذا النهي إنما ينصب على السؤال عن نظام الله في الحياة والموت، وبسط الرزق وضيقه وهكذا لا على الكلام في القدر نفسه. حرية الإنسان: منذ أقدم العصور أخذ الإنسان يفكر في نفسه، وفي الكون المحيط به، وكانت حرية الإنسان إحدى القضايا التي تناولها عقله، وشغلت حيزا كبيرا من تفكيره ولا تزال هذه القضية إلى يومنا هذا مثار جدل ومناقشة بين المفكرين والفلاسفة، ولا يزال اهتمامهم بها اهتماما بالغا، إذ أنها قضية تتعلق بحياة الإنسان، وتتصل بمصيره فهو يبحث فيها، ويكد، ويجد في البحث عله يهتدي إلى الحل الصحيح كي يرسم لنفسه السلوك على ضوء الحل الذي يهتدي إليه وبديهي أن الإنسان حينما حاول الكشف عن وجه الصواب في هذه القضية، وأراد البحث فيها لم يجعل ميدان بحثه الأعمال الخارجية عن إراته واختياره، ككونه أبيض، أو أسود، وككونه ولد من هذا الوالد، أو ذالك، وكنبضات قلبه، وتنفسه، وجريان الدم في عروقه، فإن هذه الأشياء خارجة عن نطاق البحث، لأن الانسان لا اختيار له فيها، وهي غير خاضعة لإرادته. وإنما اتجه الإنسان إلى البحث إلى الأعمال الإرادية التي تدخل في نطاق إرادته واختياره، ومدى حريته في ممارسة هذه الأعمال مثل تفضيله لونا من العلم أو الكتابة، أو ممارسة حرفة من الحرف، وزيارتد لغيره وهكذا في كل عمل من الأعمال الاختيارية. فقد اختلفت الأنظار، وتضاربت الأفكار تضاربا كادت تضيع معه معالم الحق، فمن قائل: بأن الإنسان مسيرا (¬1) غير مخير، ومجبر على ممارسة ¬

_ (¬1) هذا مذهب الجبرية

تقرير الإسلام حرية الإرادة

نشاطه الاختياري، وأنه كالريشة في مهب الريح، تتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال. ومن قائل: بأن الإنسان مخير (¬1) غير مسير، وأنه يمارس أعماله الاختيارية بمحض إرادته ومشيئته. ومن قائل: بأن الإنسان ليس له من أعماله إلا الكسب (¬2) أي أن الله يخلق الشيء عند مباشرته- أي أن الله يخلق الشبع عند الأكل، ويخلق المعرفة عند الدراسة، وهكذا وليس للعبد إلا الكسب، وبه يصح التكليف والثواب والعقاب، والمدح والذم، والذي نراه في هذه القضية ونختاره هو ما قروه الإسلام فيما يلي: تقرير الإسلام حرية الإرادة: قرر الإسلام أن الإنسان خلق مزودا بقوى وملكات واستعدادات، وهذه القوى يمكن أن توجه إلى الخير، كما يمكن أن توجه إلى الشر، فهي ليست خيرا محضا، ولا شرا محضا، وإن كانت إرادة الخير في بعض الناس أقوى، وإرادة الشر في البعض الآخر أقوى، وبينهما تفاوت لا يعلمه إلا الله وفي الحديث الصحيح: "كل مولود يولد على الفطرة" وفي الحديث أيضا: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" (¬3) ويؤيد هذا قول الله سبحانه وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (سورة الشمس) أي أن الله خلق النفس مسواة، ومعتدلة قابلة للتقوى والفجور ومستعدة للخير والشر، والله سبحانه زود الإنسان بالعقل الذي يميز به بين الحق والباطل في العقائد، وبين الخير والشر في الأفعال وبين الصدق والكذب في الأقوال، وأعطاه القدرة التي يستطيع بها أن يحق الحق، ويبطل الباطل وأن يأتي الخير ويدع الشر، وأن يقول الصدق، ويجانب ¬

_ (¬1) هذا مذهب المعتزلة والإمامية. (¬2) هذا رأي الأشاعرة. (¬3) رواه مسلم- عن أبي هريرة- صحيح

الكذب ورسم له منهج الحق والخير والصدق مما أنزل من كتب، وبما أرسل من رسل، وما دام العقل المميز موجودا، والقدرة على الفعل صالحة، والمنهج المرسوم واضحا، فقدا ثبت للإنسان حرية الإرادة واختيار الفعل وعلى الإنسان أن يوجه قواه إلى ما يختاره لنفسه من حق، أو باطل، ومن خير أو شر، ومن صدق أو كذب، يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} أي هديناه، وأرشدناه إلى طريق الحق والباطل، والخير والشر، والصدق والكذب، فهو إما أن يسلك السبيل الأهدى فيكون شاكرا، أو الطريق المعوج فيكون كفورا، وفي هذا المعننى أيضا يقول القرآن الكريم: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي الطريقين، كل إنسان مسؤول عن تهذيب نفسه وإصلاحها حتى تصل إلى كمالها المقدر لها، فإصلاحها وتزكيتها وتنميتها يكون بالعلم النافع والعمل الصالح وهو سبيل فلاحها وفوزها برضا الله، والقرب من مشاهدة جلاله وجماله، كما أن إهمالها هو السبيل إلى خيبتها وخسرانها {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} والآيات التي تقرر حرية الإنسان كثيرة جدا {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. فأسنذ العمل الصالح، والعمل السيئ إلى الإنسان، ولو لم يكن الإنسان حرا ما أسند إليه الفعل، وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الله سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} أي أن الشرور التي تعرض للإنسان إنما هي أثر من آثار عمله، ونتائج اختاره وتصرفه. وإن القرآن يتحدث عن المفاسد والجرائم التي تحيط بالناس فيبين أنها ليست من صنع الله، وإنما هي من صنع البشر {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وهذا الذي يقرره القرآن هو ما يشعر به الإنسان من نفسه، فهو يشعر بأنه يمارس أعماله الإرادية بمحض إرادته واختياره، فهو

يفعل، ويدع منها ما يشاء، وهو إذا فعل منها ما هو نافع استحق المدح، وإذا فعل منها ما هو ضار استوجب الذم فلو لم يكن مختار لما توجه إليه المدح على فعل ما هو نافع، ولا توجه إليه الذم على فعل ما هو ضار بل لو لم يكن الإنسان مختارا لما كان ثمة فرق بين المحسن والمسيء: اذ أن كلا منهما مجبر على ما يفعله، ولبطل الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، إذ لا فائدة لهما حيث أن الإنسان مسلوب الإرادة، ولا كان ثمة معنى لتكليف الله العباد، لأن تكليفه إياهم مع سلب اختيارهم هو منتهى الظم الذي يتنزه الله عنه، ويكون الأمر كما قال القائل: ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء، بل لو كان الإنسان مسيرا لضاعت فائدة القوانين ولبطل الجزاء من الثواب والعقاب. وقد أراد المشركون أن يحتجوا بمشيئة الله على شركهم وأنه لو لم يشأ أن يكونوا مشركين لما كانوا كذلك، فأبطل الله حجتهم ودحضها بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (سورة الأنعام). فالقرآن يرد على المشركين من وجهين: الأول: أن الله أذاق الكافرين بأسه، وأنزل بهم عقابه فلو لم يكونوا مختارين للجرائم والمآثم، والكفر والشرك لما عذبهم الله لأن الله عادل لا يظلم مثقال ذرة. والوجه الثاني: أنهم زعموا ذلك عن جهل بالله، وجهل بدينه، وأنه ليس عندهم من علم يمكن أن يستند إليه، ويرجع إليه، وإنما كفرهم هذا تمرد على دينه، وافتيات على الحق الذي أنزله على ألسنة الرسل .. وإذا كان الله قد عذب الأمم السابقة على كفرها وإذا كان المشركون ليس لهم من حجة يحتجون بها فقد تقرر أن دعوى المشركين دعوى ظنية لا تقوم عليها حجة ولا ينهض بها دليل، وبذلك قامت حجة الله البالغة على هؤلاء، ولو شاء الله لأجبرهم على الهداية، وحينئد لم يكونوا من البشر لأن البشر فطروا على الحرية والإختيار ..

مشيئة الرب، ومشيئة العبد

مشيئة الرب، ومشيئة العبد: وقد يقال إذا كان الله منح العبد الحرية والإختيار فما معنى قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (سورة التكوير). فنقول معناها أن الإنسان لا يشاء شيئا إلا إذا كان في حدود مشيئة الله وإرادته، فمشيئة البشر ليست مشيئة مستقلة عن مشيئة الله، والله قد شاء للإنسان أن يختار أحد الطريقين: "طريق الهداية" أو "طريق الضلالة" فإذا اختار الطريق الأول في نطاق المشيئة الإلهية وإذا اختار الطريق الثاني ففي نطاقها أيضا، وكل الآيات التي جاءت، على هذا النحو فمعناها لا يختلف عما ذكرناه .. الهداية والإضلال: يضل من يشاء ويهدي من يشاء، أي أن الله يضل من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته، وإذا كان الله يضل ويهدي، فليس للعبد حرية الإختيار، والواقع أن الهداية والإضلال نتائج لمقدمات، ومسببات لأسباب .. فكما أن الطعام يغدي والماء يروي، والسكين تقطع والنار تحرق فكذلك هنا أسباب توصل إلى الهداية وأسباب توصل إلى الإضلال، فالهداية إنما هي تثمر عملا صالحا، والضلال إنما هو نتائج عمل خبيث، فإسناد الهداية والإضلال إلى الله من حيث أنه وضع نظام الأسباب والمسببات لا أنه أجبر الإنسان على الضلال أو الهداية ... وحينما ترجع إلى الآيات القرآنية تجد هذا المعنى واضحا لا لبس فيه ولا غموض فالله يقول: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}، فهداية الله للناس بمعنى لطفه بهم، وتوفيقهم للعمل الصالح، إنما هي ثمرة جهاد للنفس، وإنابة إلى الله، واستمساك بإرشاده ووحيه، يقول القرآن الكريم في الإضلال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ

أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} نرى من هذه الآيات أن سبب الإضلال هو الزيغ والخروج عن تعاليم الله، والكبر والجبروت والتعالي على الناس بغير حق ونقض عهد الله، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ووصل ما أمر الله به أن يقطع والفساد في الأرض والكفر واقتراف الآثام .. فهذه هي الأسباب التي أضلت الناس، وأخرجتهم عن منهج الحق لأنهم آثروا العمى على الهدى، واستحبوا الظلام على النور، فكافأهم الله، فأصمهم، وأعمى أبصارهم، بمقتضى نظامه في ارتباط الأسباب بمسبباتها، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} فهؤلاء أهملوا منافذ العلم والعرفان، وعطلوها عما خلقت له، فلم يصل إليها نور الحق. فقلوبهم غلف لا تعقل عن الله وحيه، وعيونهم عمي لا ترى الله في ملكوته، وآذانهم صم لا تسمع آيات الله، فهم مثل الأنعام التي لا تنتفع بحواسها الظاهرة والباطنة، بل أضل من الأنعام إذ الأنعام لم تزود بما زود به الإنسان من قوى نفسية وعقلية وروحية.

خاتمة القضاء والقدر

خاتمة القضاء والقدر قال أبو الوفاء محمد درويش رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية: قال رحمه الله: يقول الله تعالى في كتابه الكريم مخاطبا رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (سورة النحل). ويقول أيضا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (سورة النساء). ويقول جل شأنه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (سورة الشورى). إذا الكتاب الحكيم يقضي على كل خلاف، ويحكم الحكم الفصل في كل نزاع فلنلتمس بين نصوصه الحكم في هذه القضية التي شغلت الأذهان في كل زمان ومكان. وإذا رجعنا إلى حكم الله تعالى نجونا من شر الخلاف الذي نهى عنه أحكم الحاكمين في كثير من آيات كتابه الحكيم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (سورة الانعام). قال عليه الصلاة والسلام: "اقرأوا القرآن ما اجتمعت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه". (¬1) اقتضت حكمة الله تعالى أن يوجد هذا العالم كما أراد على أتم نظام، وأبدع إحكام، وأن يدبره بعلمه وحكمته خير تدبير، وأن يضع له نواميس دقيقة محكمة، وقوانين ثابتة وسننا لا تتحول ولا تتبدل ترتبط فيها الأسباب بالمسببات وتعتمد النتائج على المقدمات، هذا النظام المحكم وهذا التدبير العجيب بأسبابه ومسبباته، ونتائجه ومقدماته، ونواميسه وقوانينه وسننه وأحكامه هو القدر ... ¬

_ (¬1) ابن جرير عن ابن مسعود

الأقدار

قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (سورة القمر). {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (سورة الحجر). {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (سورة الشورى). {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} (سورة القمر). {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (سورة طه). {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (سورة الاحزاب). إذا فالقدر هو القانون الحكيم الذي وضعه أحكم الحاكمين بعلمه وإرادته وحكمته ليسير على أحكامه كل شيء في هذا الوجود من السماء وما فيها إلى الأرض وما عليها، وما بين ذلك {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} الأقدار: قدر الله سبحانه أن تدور الأرض حول محورها أمام الشمس مرة كل أربع وعشرين ساعة، وقدر أن تدور حول الشمس مرة في كل خمسة وستين وثلاثمائة يوم وربع يوم، وقدر أن الجسم إذا قذف في الفضاء عاد إلى الأرض، إذا تلاشت القوة الدافعة، وغلبت القوة الجاذبية، وقدر أن الضوء إذا سقط على جسم انعكس عنه، وكانت زاوية الإنعكاس مساوية لزاوية السقوط، وقدر أن الماء إذا اشتدت حرارته استحال بخارا، وإذا اشتدت برودته استحال جليدا، وقدر أن النار إذا حيل بينها وبين أكسجين الهواء خبت، وقدر الفلزات تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة، وقدر أن الجسم المنغمس في الماء يزيغ منه بقدر حجمه، وأن الجسم الطافي عليه يزيع منه بقدر وزنه، وقدر أن الجهازين الكهربائيين إذا توافقت مفاتيحيهما، وكان أحدهما مرسلا والآخر مستقبلا، تم الإتصال بينهما مهما بعد أحدهما عن الآخر. وقدر أن الحبة الصالحة إذا ألقيت في التربة الطيبة، وأجري عليها الماء نبت منها نبات، وقدر أن نواة التمر نبتت منها نخلة ولا يمكن أن تنبت غير النخلة، فلا يمكن أن تنبت منها زيتونة مثلا، وقدر أنه إذا اتصل الذكر بالأنثى من الإنسان والحيوان والطير مع سلامة الأعضاء وموافقة الزمن والإستعداد تكون نسلا من جنسها وقدر أن يولد الإنسان طفلا، ثم يصير صبيا فمراهقا فمدركا فشابا، فكهلا،

فشيخا، فهرما، وإذا قدر له أن يرد الى أرذل العمر، وقدر أن يمنحه قدرة وإرادة يزاول بهما- بإذن ربه- مصالحه، ويسعى في كسب رزقه وجلب ما ينفعه ودفع ما يضره. وقدر أن يمنحه أنواعا من الهدايات يميز بها النافع من الضار والخير من الشر، والهدى من الضلال، وقدر أن يرسل إليه رسله يرشدونه الى ما فيه خيره وصلاحه، وأناط بأتباعهم وطاعتهم سعادته، وبمعصيتهم والمخالفة عن أمرهم شقاوته، وقدر أن يكلفه أنواعا من التكاليف كلها، فإن نهض بها أثابه وإن لم يفعل عاقبه، وقدر أن يجعله مختارا فيما يأتي ويدع، وأن يجعل هذا الإختيار أساسا للتكاليف الشرعية، حتى إذا ذهب الإختيار سقط التكليف ولا يتسع الوقت لإيراد جميع المقادير الإلهية التي سماها ذو الجلال والإكرام بكلماته، والتي قال في شأنها في سورة لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقال في سورة الكهف: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}. هذه القوانين الإلهية، والنواميس الربانية، والسنن الكونية أزلية أبدية سرمدية خالدة، وضعها رب العزة قبل أن يخلق السماوات والأرض، فكانت هذه النواميس قائمة، ولم يكن في الدنيا شيء من الموجودات، بل لم تكن الدنيا قد تمخض عنها الوجود، وهذه القوانين الأزلية الأبدية لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تتحول بشهادة القرآن الكريم كما قال تعالى في سورة فاطر: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} .. ذلكم هو القدر، أي القانون الأزلي الأبدي السرمدي الذي لا يعتريه تبدل ولا تغير ولا تحول، والذي لو اجتمعت كل قوى العالم السماوية والأرضية على أن تغير منه مثقال ذرة ما وجدت الى ذلك سبيلا، ولو كان بعضها لبعض ظهيرا. ذلكم هو القدر فما القضاء؟

القضاء

القضاء: إبراز هذا القانون في الخارج أي إيجاد الكائنات وتسييرها على حسب ما قدر الله لها في الأزل. فهو كما قال ابن الأثير: كالبناء، والقدر كالأساس ولأضرب مثلا يزيد الأمر وضوحا، آلة ميكانيكية قبل أن تبرز الى الوجود، كان لها في ذهن المهندس الذي أخترعها صورة واضحة الخطوط والمعالم، ولكنها لا وجود لها في الخارج، ثم صنعت، فبرزت الى الوجود فوجود صورة الآلة في ذهن المهندس يشبه القدر وصنعها وإبرازها في الخارج يشبه القضاء. ولله المثل الأعلى ليس كمثله شيء .. وإنما ضربت هذا المثل لأقرب الأمر الى الأذهان فقط وأما الحقيقة العليا، فهي وراء المدارك والأفهام .. ذكرت للقدر أمثلة كثيرة، فلا أطيل بذكر أمثلة أخرى للقضاء، وحسبنا أن نرجع الى الأمثلة السابقة لنعلم أن إيجادها في الخارج، وإبرازها في الوجود هو القضاء .. فإيجاد الكائنات وتسييرها على حسب ما قدر لها قضاء، وشروق الشمس وغروبها على هذا النظام المقدر لها قضاء، ونزول المطر من السحاب قضاء، ونمو النبات والشجر على حسب سنة الوجود قضاء، وتفتح الأزهار وذبولها وسقوطها قضاء، ومرض من يمرض إذا تعرض لأسباب المرض قضاء، وموت من يموت إذا جاء أجله المسمى المرتبط بالأسباب المقدرة قضاء، وشفاء من يشفى إذا تعاطى أسباب الشفاء قضاء، والأمثال معروفة للخاصة والعامة ... قدر الله سبحانه في الأزل أن يخلق السماوات والأرض فلما جاء الأجل المحدود أبرزها إلى الوجود، فكان إبرازها قضاء قال تعالى في سورة فصلت: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا

بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، وقدر سبحانه في الأزل أن يخلق غلاما تحمله فتاة لم يمسها بشر ليكون هو وأمه آية للناس، فلما جاء الوعد المحدود قضي ما قدر قال تعالى في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} .. فالمراد بالقدر التقدير، وبالقضاء الخلق، فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الاخر، فأخدهما بمنزلة الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فمن فصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه ..

الإنسان والأقدار

الإنسان والأقدار الأقدار المحيطة بالإنسان على ثلاثة أنواع: النوع الاول: لا يستطيع الإنسان دفعه مهما يكن له من القوة والبطش، ولابد أن ينفذ، وأنف الإنسان راغم. النوع الثاني: لا يمكن للإنسان أن يقاومه كل المقاومة، ولكن يمكنه تخفيف حدته، وتلطيف شدته. النوع الثالث: نوع جعل الله في وسع الإنسان أن يدفعه بل أوجب عليه أن يدفعه، وأن يبذل في سبيل ذلك كل ما يملك من قوة وجهد. وهذا إجمال يحتاج الى تفصيل: .. النوع الأول: أما القدر الذي هو وراء قدرة الإنسان، ولا تناله قوته، ولا يستطيع دفعه مهما يكن له من قوة وسلطان فهو القدر المتصل بنواميس الكون، وقوانين الوجود وهو االقدر الغالب إبتداء وإنتهاء، فليس في وسع الإنسان أن يوقف دورة الفلك، أو يأتي بالربيع مكان الخريف، أو بالشتاء مكان الصيف، أو يعطل جاذبية الأرض. ومن ذلك سنن الوجود: أن يولد الإنسان دون غيره، ومن فلانة دون غيرها، وأن يكون أبيض اللون أو أسمره، طويل القامة أو قصيرها، ذكيا أو غبيا، الى غير ذلك من الأقدار التي ليس للإنسان يد في إحداثها ولا قدرة له على، تغييرها ... ومن أجل ذلك لم يكلف الله الناس شيئا بهذا لأنه لم يكن في وسع أحد أن ينهض به، ويلحق بهذا النوع. المصادفات البحتة التي لابد للإنسان في إحداثها، والتي لم يأت الخير فيها بجده، ولا الشر بسعيه، كأن علق شخص آماله على إنسان فمات، أو وضع ماله في حرز أمين فاحترق أو وافته صفقه تجارية ما كان ينتظرها فربح منها مالا كثيرا، أو غير ذلك

امتحان

من الأسباب التي لابد فيها للإنسان، وبهذه الأمور تهدى فطرة الإنسان الى أن هناك قوة فوق قوى البشر تسيطر على الإنسان وتخضعه لتصرفاتها فتأتيه بالخير من حيث لا يحتسب لحكمة لا يعلمها وترميه بالنوائب من حيث لا يقدر لسر يجهله ... تلك قدرة الله الغالب على أمره، القائم على كل نفس بما كسبت الذي له الخلق والأمر، وهو أحكم الحاكمين، ذلكم هو القدر الذي ينبغي أن يتلقى الإنسان أحكامه بالرضا والتسليم والإمتثال، وإن رآها شرا، وبالحمد والشكر، وإن رآها خيرا، ذلكم هو القدر الذي يشير إليه الله سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (سورة الحديد). ويقول تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (سورة التغابن). فلو تدبرنا هذه الايات حق تدبرها لوجدناها تنطق بالحق، وتشهد بالصدق، وتعلن في صراحة وجلاء أنه سبحانه يدبر الكون بعلمه وحكمته وقدرته ومشيئته فلا يقع فيه شيء إلا بإذنه لوجدنا فيها عزاء للذين تعتريهم الكوارث، وتمسهم النكبات إذ تنزل السكينة في قلوبهم وترد إليهم عازب الصبر، أو تلهمهم الرضا والتسليم ..... ولوجدنا فيها كذلك كبحا لجماح النفوس السادرة في غلوائها المدلة بما حولها ربها من الخير والنعمة التي يستهويها شيطان الغرور فينسيها شكر النعم وحمد المتفضل. امتحان: يمتحن الله سبحانه عباده، وهو أعلم بهم لتنهض حجته عليهم وتنقطع أعذارهم، وتدحض حجتهم ولستوحي الصابر جزاء صبره، ويستحق الشاكر ثواب شكره قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (سورة الأنبياء). وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ

يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (سورة العنكبوت). النوع الثاني: أما القدر الذي لا يستطيع الإنسان أن يقاومه كل المقاومة ولكن في إمكانه تخفيف حدته وتلطيف شدته فهو ما يتصل بالغرائز والبيئة والوراثة، وما الى ذلك، فهو غالب إبتداء، ولكنه مخير انتهاء. توضيح ذلك: إن الله تعالى قدر على الإنسان غريزة حفظ الذات. وهذه الغريزة جامحة طاغية عنيفة لو ألقى حبلها على غار بها لاقتحمت بالإنسان مخاطر ومهالك، ودفعته الى أن يظفر بكل ما تمكنه قوته من الظفر به غير مبال ولا حافل بسواه. لم يفرض الله سبحانه وتعالى على الإنسان أن ينتزع هذه الغريزة من جذورها، أو يقتلعها من أصولها لأنها قدر غالب لا سبيل الى دفعه، ولكنه أمره أن يكبح جماحها ويردها عن طغيانها، وعلمه كيف يخفف من حدة هذا القدر، وكيف يلطف من جموحها قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (سورة النساء)، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (سورة النساء)، قال أيضا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (سورة البقرة)، ومن هذه النصوص الحكيمة ترون أن الله حضر على الإنسان أن يعتدي على حق غيره، وأن يأكل ما لم يكسبه من طريق طيب مباح، وبذلك يخفف من حدة هذه الغريزة، ويحد من طغيانها. وهنا يشعر الإنسان بأنه حر مخير بين أن يستجيب لداعي الغريزة الجموح، وأن يستجيب لأمر الله الحكيم الذي لم يكلفه إلا ما له به طاقة.

وقدر عليه سبحانه غريزة حفظ النوع، وهي كذلك جامحة شرود طاغية، فلو أرخى لها العنان لأصاب الرجل كل امرأة تروقه، واستسلمت المرأة لكل رجل يحظى بإعجابها ... وكذلك لم يكلف الله الإنسان أن يجتث هذه الغريزة من عروقها، لأن ذلك قدر غالب لا قبل للإنسان بمقاومته والخروج على أحكامه، ولكنه تعالى كلفه المستطاع وهو الحد من طغيان هذه الغريزة، وكبح جماحها، وتدبير أمرها، فحرم الزنا، وحرم أنواعا من النساء تحريما مؤبدا وحرم أنواعا منهن تحريما مؤقتا وأباح سائرهن بشرط الإيجاب والقبول، والمهر والشهود، وإذن الولي وقد نصح الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بما يكسر من حدة هذه الغريزة إذا طغت فقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ونهى سبحانه وتعالى عن مخالطة الأشرار للتخلص من شرور البيئة فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (سورة النساء)، وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (سورة الانعام)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مثل الجليس الصالح، وجليس السوء: كبائع المسك، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا زكية" (¬1)، فنشأة الإنسان في بيئة خبيثة من القدر الغالب الذي لا سلطان له عليه، وأما محاولة التخلص من شرها ففي وسعه، ومن أجل ذلك كلفه الله تعالى إياها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري- عن ابي موسى- صحيح.

ولكي يقاوم سلطان الوراثة غالب الناس يحرصون على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (سورة البقرة)، وقال في الأثر: "إياكم وخضراء الدمن قالوا وما خضراء الدمن قال المرأة الحسناء في منبت السوء" (¬1)، فنرى من هذا أن أقدار الغرائز والبيئات والوراثات غالبة لا سلطان للإنسان عليها، ولكنه يستطيع أن يصد طغيانها ويحد من سيء آثارها وأن يلجمها بلجام الحكمة فتكون كلها خيرا نافعا. النوع الثالث: أما النوع الثالث- وهي الأقدار التي أوجب الله تعالى على الإنسان أن يدفعها- فهي الأقدار المتصلة بالأعمال الإختيارية، ومنها التكليف الشرعي، وهذه الأقدار الخيرة ابتداء وغاية. جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه بالهدى ودين الحق فكذبوه ورموه بما رموه به، وحالوا دون نشر دعوته، وإعلان كلمة الحق، ولا جرم أن ذلك كله من قدر الله، فماذا كان من أمره عليه الصلاة والسلام؟ أتظنون أنه خضع لأحكام هذا القدر، واستسلم لسلطانه ووقف أمام أعدائه مكتوف اليدين؟ أتظنون أنه ترك حبل الدعوة على غاربها، وقبع في كسر بيته انتظارا لما تأتي به الأقدار؟ كلا بل قاوم، وناضل وجاهد، وقاتل وبذل كل ما في وسعه، وأنفق جهد طاقته لينحي أعداء الحق من طريقه، حتى أيده الله بنصره، وذلك من قدر الله أيضا فها نحن أولا قد رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دفع قدرا بقدر، ونحن في كل حين ندافع أقدارا بأقدار ... فالجوع مثلا من القدر ونحن ندفعه بقدر الطعام، والعطش من القدر، ونحن ندفعه بقدر الشراب، والمرض من القدر، ونحن ندفعه بالدواء وهو من القدر أيضا ولو أن امرأ استلسم لقدر الجوع أو الظمأ مثلا وهو قادر على دفعه، ثم مات مات عاصيا لله تعالى الذي نهاه عن أن ¬

_ (¬1) قال الدارقطني- لا يصح من وجه وفي المختصر- ضعيف قال في المقاصد- تفرد به الواقدي.

يلقي بنفسه الى التهلكة قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (سورة البقرة)، وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (سورة النساء). وقد أفصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا كل الإفصاح، وأوضحه كل الإيضاح حين قيل له: "يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نستقي بها، وتقى نتقي بها أترد من قدر الله شيئا؟ فقال عليه الصلاة والسلام هي من قدر الله" (¬1). فانظر الى هذا الجواب الحكيم الذي يحفز الهمم الى العمل النافع ويهيب بالناس الى إتخاذ الأسباب والإمعان في الحذر. قال تعالى في الثناء على المؤمنين: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (سورة الرعد)، وقال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (سورة فصلت)، فقد أخبرنا سبحانه وتعالى في الآية الأولى عن المؤمنين بأنهم يدرءون بالحسنة السيئة، والسيئة من قدر الله، والحسنة التي يدفعونها بها من قدر الله أيضا فهم يدفعون قدرا بقدر كما رأيتم، وفي الآية الثانية يأمر الله سبحانه بالدفع بالتي هي أحسن. والتي هي أحسن هي الحالة أو الصفة الحسنة تدفع بها الحالة أو الصفة السيئة وكلتاهما من قدر الله سبحانه، فهو يأمر أن تدفع القدر بالقدر .... وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (سورة الانفال). فقد أمر الله تعالى بإعداد المستطاع من العدة ارهابا للعدو والمستطاع هو ما يدخل في قدرة الإنسان وإختياره وكل هذا من باب دفع الاقدار بالأقدار وهو في وسع الإنسان وفي صميم إمكانه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والترميذي والحاكم وابن ماجه- في سنده مجهول وباقي رجاله ثقات انظر ترجمة أبي حزامة في التهذيب وفي الباب عن حكيم بن حزام عند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

قال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (سورة النساء)، فلولا أن اتخاذ الحذر مستطاع، وفي الإمكان وفي مقدار الإنسان ما أمر الله العليم الحكيم به لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (سورة البقرة).

لا تتم مصالح إلا بمدافعة الأقدار

لا تتم مصالح إلا بمدافعة الأقدار ومدافعة الاقدار على ضربين: أولهما مدافعة أقدار قد أنعقدت أسبابها، ولا تقع بأقدار تدفعها وتحول دون وقوعها، كمدافعة عدو مغير بالإعداد له. ثانيها: مدافعة أقدار قد وقعت بأقدار تدفعها أما القعود عن مدافعة الأقدار مع القدرة عليها فهي من العجز الآثم الذي نهينا عنه والذي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله منه، وكان يكثر أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل" (¬1) ولقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير" (¬2) "إحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو إني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" ومعنى هذا الحديث أن المؤمن القوي الذي يأخذ أموره بقوة وعزم وتبصر، أحب الى الله من المؤمن العاجز المتواكل. أما الخير الذي يشتركان فيه، فهو الإيمان، ولكن المؤمن القوي ممتاز عند الله لأنه نافع لنفسه ووطنه وأمته. ثم يحض الرسول - صلى الله عليه وسلم - على النافع من الأمور مع الإستعانة بالله جل شأنه، والتوجه إليه، والإستعداد من فيض رحمته وفضله، فإن الإنسان لا يستغني عن قوة الله مهما بلغ من القوة والمعرفة، ولا عن توفيقه، وينهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن العجز، وهو القعود عن العمل مع القدرة عليه كسلا وتهاونا، فإذا خرج الأمر من يده أصبح في يد الأقدار التي لا يمكن دفعها فالحرص على ما ينفع هو مدافعة الأقدار بالأقدار، لا ينبغي أن يحول الإيمان بالقدر بيننا وبين إتخاذ الحيطة والنظر في أعقاب الأمور بالحزم والحرص على الخير والعمل على الظفر به، والفرار من الشر، والعمل على النجاة منه وقد علم الله سبحانه وتعالى ضعف الإنسان أمام قوة الغرائز، أو أثر البيئة، أو الوراثة وعلم سبحانه أنها قد تطغى عليه فتورطه في الإثم أو ¬

_ (¬1) الحديث لأحمد في مسنده ومسلم والنسائي عن زيد بن أرقم- وهو صحيح- (¬2) رواه أحمد في مسنده. ومسلم وابن ماجه- عن أبي هريرة- حسن-

تعرضه لألوان من الفتون، فاقتضت رحمته أن يمحو بالتوبة النصوح أثر هذا الطغيان، وأمر بالتوبة ليمحو بها قدر المعصية التي دفع إليها قدر الغريزة، أو البيئة أو الوراثة ... فمن دفع قدر التوبة قدر المعصية- كما يدفع قدر الدواء قدر المرض- فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن لج في عتوه ونفوره، فعلى نفسه جنى وإياها أوبق، وما ربك بظلام للعبيد .. قدر الله سبحانه أن الجد سبب الظفر في الدنيا، وأن عمل الصالحات سبب الفوز بالنعيم في الآخرة، فإن قصرنا في العمل حاق بنا سوء تقصيرنا وكنا خلقاء باللوم والتثريب أحرياء بما أعد الله للمقصرين من الخيبة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة، لا ينبغي أن يحتج بالقدر إذا قصرنا في عمل كان في وسعنا أن نعمله فلم نعمله، فحاق بنا ما يستوجبه التقصير، لأننا مأمورون أن نأخذ الحذر، وأن نحتاط للأمر ما استطعنا الى ذلك سبيلا ... كل امرئ يدرك ادراكا تاما الفرق بين ما يأتيه أو ما يدعه طوعا واختيارا، وما يصيبه وليس له فيه إختيار ومن أنكر ذلك فقد سفه نفسه، وأنكر عقله، إننا نرى أن الإنسان إذا أخفق في الحصول على مطلب عاد باللأئمة على نفسه ثم عاود الطلب بعد إحكام وسائله واتخاذ الأسباب التي يعتقد أنها كفيلة بأن تحقق أمله حتى يظفر بحاجته، وإن راى سبب إخفاقه منافسة خصم اشتد غضبه عليه، وإن اعتدى عليه معتد بالقول أو بالفعل لم يقف أمامه مكتوف اليدين متى كان قادرا على الإنتقام، ومن العجيب أن القدر لا يخطر بباله في كل هذه الأمور، ولا يخطر بباله إلا اذا اقترف سيئة ليحمل الأقدار تبعة ما جنى وجريرة ما اقترف. ضلت أفهام المسلمين ولاسيما الصوفية، فصاروا جبرية لا يفكرون في جلب خير ولا دفع ضر كأنهم بين أيدي الأقدار كالريشة في مهب الرياح، فإذا وجهت إليهم عتابا أو ملاما أو نصحت لهم بأن يرجعوا الى الإسلام ويعملوا بالأسباب وأن يسلكوا سبل الخير احتجوا بالقدر، وحملوا الأقدار

تبعة ما جنوا من أوزار {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} وهذا أقبح ما انتهى إليه جهل الجاهل وغفلة الغافل، وحمق الأحمق وغباء الغبي. إذا أغرى الشيطان الإنسان بالنكر أو زين في قلبه القعود عن صالح العمل، ولوح له بالقدر يتخده تكأة يتكئ عليها، وعذرا يعتذر به، فعليه أن يدفعه بذكر الأمر والنهي، وأن يقول له في حزم وتبصر، إن الشريعة المطهرة ما أنزلها الله إلا ليسلح بها المكلفين ليدافعوا الأقدار، وليعلمهم كيف يدفعونها بأقدار مثلها، فمن شق أمواج الأقدار بسفينة الأمر والنهي وصل الى ساحل النجاة، وسلم من المعاطب ونجا من الأخطار ... لولا أن الإنسان يشعر كل الشعور بأنه مختار فيما يأتي وما يدع، ولولا أن الطاعات في وسعه وفي قدرته ما نزلت الشرائع، ولا جاءت الأوامر والنواهي، ولا أرسل الله الرسل، ولا أنزل الكتب، ولا أنذر، ولا بشر ولا رغب، ولا حذر، ولا جعل جنة ونعيما ولا نارا وجحيها، لو كان الإنسان مجبرا على أعماله الإختيارية لبطل الثواب والعقاب، والتأديب والتهذيب، والنصح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة الى الخير والصد عن الشر .. ومما لاشك فيه أن الإنسان يشعر بأنه تام الإختيار في فعل ما يفعل، وترك ما يترك، وكثيرا ما يتردد بين عملين، فيفكر ويتروى، ويوازن بين نتائجهما حتى إذا تبين له فضل أحدهما على الآخر آثره ومضى فيه. وقد اتفق المختلفون على أن هذه الأعمال تسمى أعمال الإنسان الإختيارية أي الصادرة عنه بمحض اختياره، ولا يماري في ذلك منهم أحد. ولو نظرنا الى القرآن الكريم لوجدناه دالا كله على أن للإنسان اختيارا لا يكاد القارئ ينشر المصحف على أية صفحة من صفحاته حتى يجد الآيات تنطق بأن للإنسان عملا أو فعلا أو كسبا، أو سعيا وأنه مسؤول عن عمله

أمر الله

ويجزى به، والشاهد والحس والبديهة كفيلة ببيان أن للإنسان عملا صادرا عن ذاته ... فترى الطفل لأول عهده بالكتابة يحرك يده بالقلم فلا يكاد يقيم حرفا، وكلما ازداد تدريبا جاد خطه ووضحت كتابته، والصانع المبتدئ كثير الأخطاء وكلما مضى في الصناعة قلت أخطاؤه ... والمبتدئ في تعلم الخطابة لا يكاد يقيم لسانه، فإذا أشتد إستقام لسانه بعض الشيء، فإذا حذق الفن جاد بيانه وأنطلق لسانه، ونرى من أنفسنا الخطأ والنسيان والضلال، والخضوع لوسوسة الشيطان، واقتراف الفحشاء والمنكر، والبغي والظلم والعدوان وغير ذلك من المعاصي والآثام. ثم التوبة والإستغفار والندم مما لا تصح نسبته الى الله حقيقة ولا مجازا، ولا يجوز عقلا ولا شرعا ولا أدبا، ولا ذوقا أن بنسب إلا الى فاعله المسؤول عنه المحاسب عليه المجزي به .. قال الله عزوجل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (سورة النساء)، هذه الآية أسند الله فيها الى العبد عمل السوء وظلم النفس والإستغفار، وأسند الى نفسه المغفرة والرحمة فأسند الى الله ما أسند الى نفسه، ولنسند الى العبد ما أسند الله إليه وليس علينا في ذلك جناح ولو تدبرنا القرآن كله لوجدناه على هذه الشاكلة: فلم يقولون يخلق العبد أفعال نفسه، ثم يختلفون؟ أما إنهم لو قالوا كما قال الله تعالى: (يفعل أو يعمل أو يكسب أو يقترف ما اختلفوا، وإذا كانوا جميعا متفقين على أن أعمال العباد اختيارية قدرها الله أن تكون لهم فما بالهم يحاولون نسبتها الى الله تعالى. أمر الله: رجل تنكب طريق الحق، وحاد عن الرشد، وضل عن قصد السبيل، فما يكون جوابه إلا أن يقول- هذا أمر الله- وهذا كذب على الله، وافتراء عليه والله تعالى يقول: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ

إرادة الله

كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (سورة الزمر)، أجل كذب على الله وافتراء عليه، وقد رد الله على أمثال هذا المفتري بقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (سورة الاعراف)، صدق الله العظيم، فمرتكب الخطيئة لا يرتكبها بأمر الله ولكن بأمر الشيطان الذي يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء كما قال الله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة البقرة) ... إرادة الله: قد يلوم أحدكم بعض من يقترفون المنكر فيدفع عن نفسه بقوله: هذه إرادة الله .... أجل هذه إرادة الله، ولكن الله يكره من عباده أن يعملوا الشر، وإن وقع بإرادته، إذ لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، وليس معنى المشيئة أنه يحب ذلك الشر بل معناه: أن الشر لا يقع على الرغم منه- وحاشا له وإرادة الله تعالى لا ترغم العبد على فعل الشر، ولو أن العبد فعل الخير بدل الشر لكان فعل الخير بإرادته سبحانه- أيضا. فالله سبحانه بعد أن أنزل الكتب، وأرسل الرسل، وبين الحلال والحرام، وأخبر بما أعد للمطيعين، وما أعد للعصاة المارقين، ترك العباد لاختيارهم كما قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} (سورة الكهف).

ترك الله العباد لاختيارهم، وان كان يحب منهم أن يأتوا الطاعات، ويكره أن يأتوا المعاصي. فالطاعة والمعاصي تقع من العبد بإرادة الله ومشيئته أي بغير أن يكون مكرها على وقوعها كما أن مشيئته تعالى لم تكره العبد على المعصية التي تقع منه.

دفع اعتراض

دفع اعتراض فإذا سأل سائل عن قوله عز وجل: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} والحس والمشاهدة قاضيان بأن المسلمين هم الذين قتلوا كفار قريش يوم بدر، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي رمى قبضة التراب التي أصابت أعين المشركين وكانت سببا في هزيمتهم، ولكن الآية تسند القتل والرمي الى الله، أفليس في هذا الدليل على أن العبد لا عمل له، وأن العمل لله وحده وهذه هي الحيرة دفع هذا الإعراض وهذه الآية الكريمة وردت في سورة الأنفال في معرض نهي المسلمين عن التولي يوم الزحف، فقد جاء قبلها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. فكأن الله يقول للمؤمنين: ما الذي يحملكم على الفرار أو يدفعكم الى تولية الأدبار، والله قد كفل تأييدكم ونصركم، فاذكروا يوم بدر، وقد كنتم قلة لا تقومون لكثرة المشركين، ولكن الله أمكنكم منهم حتى قتلتم سبعين رجلا وإن قوتكم الطبيعية لا تتيح لكم هذا النصر، ولا تمكنكم من هذا القتل، فالله ربط على قلوبكم، وثبت أقدامكم حتى أظفركم بهم، وأظهركم عليهم، فلم تقتلوهم بقوتم ولكن الله قتلهم بما خولكم من أسباب النصر والغلب التي لم تكن لتتاح لكم، ثم يلتفت إلى خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول له، وحين ألقيت كفا من التراب في وجوه المشركين فأصاب التراب أعينهم جميعا لم تكن لتدرك ذلك بقوتك الطبيعية، ولكن الله تعالى هو الذي كثر ذلك التراب بمحض قدرته، وأوصله الى أعينهم حتى ثقلوا بها عن الإلتفات لمن يقاتلهم. فإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رمى التراب فإنه لم يكن بوسعه أن يوصله إلى أعينهم جميعا، فذلك من فضل الله وحده، كما ألقى موسى عليه السلام العصى فكانت حية تسعى، فإلقاء العصى عمل موسى ولكن قلبها حية عمل

الله تعالى وحده، وكذلك إلقاء التراب عمل النبي، ولكن توصيله الى أعين المشركين على الرغم من بعدهم عن مكان الرمي، وكثرتهم، واختلاف اتجاههم هو عمل الله تعالى، ولذلك صح أن يسند الرمي الى النبي وينفي عنه أثره، ويسند الى رب العزة. هذا هو نظام القرآن الكريم، وهذه بلاغته، وهي كما ترون فوق النزعات والأهواء الجدلية، ووراء الفرق والمذاهب ... تفسير قوله عز وجل: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} ذلك أن المنافقين والكافرين الذين كانوا بالمدينة بعد أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها كانوا إذا أصابتهم حسنة: من نزول غيث، ونماء زرع، وجودة حاصل قالوا: هذه من عند الله زاعين أن الله تعالى ما أنعم عليهم إلا لكرامتهم عليه ومنزلتهم عنده. وإذا أصابتهم شدة من احتباس المطر، أو جفاف زرع قالوا هذه من عندك يا محمد، أي إنهم كانوا يتشاءمون بقدومه، ويتطيرون بدعوته، فرد الله عليهم مقالتهم الخاطئة الآثمة، وقال تعالى مخاطبا نبيه الكريم: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أي: أن كلا من الحسنة والسيئة من عند الله لوقوعها في ملكه على حسب ما وضع من النواميس والسنن، ومن الأسباب وارتباطها بمسبباتها، وإن هؤلاء القوم ما أتوا إلا من سوء فهمهم وقلة فقههم لما يقولون وما يسمعون: ولو أنهم كانوا على شيء من الفهم والفقه لردوا كل شيء الى سببه القريب أي الى واضع السنن ومسبب الأسباب سبحانه وتعالى ولعلموا أن السيئة لم تقع بشؤم، ولا بتأثير دعوة ولا بظهور دين. وبعد أن بين سبحانه حقيقة الأمر في الحسنة والسيئة بالنسبة الى موضعهما وقوانين الوجود، وسنن الله تعالى فيهما، وأوضع تعالى أن كل شيء مما يحسن وقعه عند الناس أو يسوؤهم بهذا الإعتبار يضاف الى رب العزة، لأنه مسبب الأسباب، وواضع النواميس والسنن أراد سبحانه أن يبين حقيقة الأمر فيها من وجه آخر فقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ

اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} ومعنى هذا: أن كل حسنة تصيب العبد من صحة وعافية ورزق، واعتدال زمان، وخصب أرض، ونزول غيث وغير ذلك مما يحسن عنده وقعه، فهي من فضل الله عليه، فهو الذي سخر له المنافع التي بها حياته، وحياة ما ينتفع به من حيوان ونبات وهو الذي أرشده بما وهبه من أنواع الهدايات، بما أنزل عليه من الشرائع والآيات البينات الى سبيل الإنتفاع بهذه الموجودات. وقد مكن الله الإنسان من ناصية الوجود، ووهبه العقل والقوى ما يكفيه من توفير أسباب السعادة، والبعد عن مزالق الشقاء، وهذه النعم مصدرها المواهب الإلهية فهي من الله تعالى. وكل سيئة تصيب العبد فهي من نفسه لأنه أوتي قدرة على العمل، واختيارا في التقدير الباعث عليه، من دفع المضار، وجلب المنافع. فإذا أساء العبد التصرف في عمله، وأهمل العقل وانصراف عن سر ما أودع الله في سننه، واتبع الهوى ومال مع الشهوات جلب الشر على نفسه لأن ربه وهبه هبات ليصرفها فيما ينفعه، فوجهها بسوء اختياره الى ما يضره، فحق أن ينسب اليه ما جنى على نفسه، ويقال له: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} .. وهنا حقيقتان متفقتان ينبغي تدبرهما وفقهما: الأولى: أن كل شيء من عند الله بمعنى أنه خالق الأشياء، وواضع النظام والسنن، ومسبب الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار- وهذا كله بسعي الإنسان واختياره لأنه مظهر الحكمة الالهي ... الثانية: أن الإنسان لا يقع في شيء يسؤه إلا بتقصيره في استبانة الأسباب وتعرف السبب والأحكام فإذا قصر الإنسان في العلم وأساء الإختيار في استعمال قواه في غير ما يقتضيه نظام الفطرة وقع فيما يسؤه وكان على نفسه جانيا {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أفلا يدل على أن الهدى والضلال بيد الله تعالى، وليس للعبد فيما كسب ولا عمل؟ ينبغي للإنسان أن يعلم أن الله تعالى حكيم، والحكيم يضع

الأشياء في مواضعها، ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة قال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (سورة الليل). فدل سبحانه بهذا القول الحكيم على أن أعمال العباد مختلفة وعلى أنها مقدمات تفضي الى نتائجها، وأسباب تؤدي الى مسبباتها فمن أعطى واتقى وصدق بالحسنى سييسره الله الحسنى: وذلك هو الذي يشاء الله أن يهديه، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسييسره الله للعسرى، وذلك هو الله الذي يشاء أن يضله وهذا اختيار من جانب العبد، واتجاه وعمل، ومن فضل الله ورحمته أن الذي يختار الخير ويتجه إليه يعينه الله عليه، وييسره له كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (سورة محمد)، وكما قال أيضا: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} (سورة مريم) .. وأما الذين يختارون الشر، ويتجهون إليه، فإن الله تعالى يوليهم ما تولوا، ويتركهم وما اختاروا لأنفسهم كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (سورة النساء)، وهذا معنى إضلالهم فمن حيث أن الله سبحانه دعاهم الى الطريق الخير وسبيل الهداية على لسان رسله، وفي كتبه المنزلة بعد أن منحهم من أنواع الهدايات ما فيه بلاغ فأبوا أن يستجيبوا لداعي الحق، واستكبروا أن يسلكوا سبل الرشد، فلا جرم أن الله يتركهم وما اختاروا لأنفسهم فلا يأتي إضلالهم إلا من بعد أن اتجهوا الى الشر وإعراضهم عن الخير قال تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (سورة البقرة)، إن الذين وقع عليهم الإضلال هم الموصوفون بما ذكر، فالإضلال قد وقع على الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل،

ويفسدون في الأرض، فهو نتيجة مترتبة على مقدمات أتوا بها، ومسبب عن أسباب وهو ليس إلا تركهم يسيرون في الطريق الذي اختاروا سلوكه، ولو وقع الضلال على الصالحين يصلون ما أمر به أن يوصل، ويصلحون في الأرض لقلنا أن الله أرغمهم على الضلال وحاشا الله ... قال تعالى في كتابه الكريم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (سورة الاسراء). وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (سورة الشورى)، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} في هذه النصوص الحكيمة أكبر العبرة لمن شاء أن يعتبر، فقد بين سبحانه وتعالى أنه يعطي العبد ما يسعى للحصول عليه والظفر به، فمن سعى الى الدنيا أعطاه منها، ومن سعى الى الآخرة شكر الله سعيه. وقد أسند رب العزة الى العبد إرادة وسعيا كما أسند إليه الحرث وأسند الى نفسه الزرع، فالحرث ما يقوم به العباد من حرث الأرض وتهيئتها وإعدادها، وبذر الحب، وإفاضة الماء، وتعهد النبات بالعزق والتسميد وما الى ذلك. والزرع: إخراج النبات من الحب، وهو الأمر الذي لا يدخل في طوق البشر، ولا يسطيعون إليه سبيلا، ولا يقدرعليه إلا رب العالمين سبحانه. وعلى ذكر الحرث والزرع، أرأيتم إنسانا بذر برا فنبت له شعيرا، أو غرس نخلا فنبت له دوما، أو بذر حنظلا فنبت له موزا. وكذلك الشأن في المعنويات، فمن أتجه الى الخير وأخذ بأسبابه هيأه

التوفيق والخذلان

الله له، ومن اتجه الى الشر وتعلق بوسائله: ولاه الله ما تولى، وتركه وما أختار كما أن من حرث التبن زرع الله له التبن، ومن حرث الشوك زرع الله له الشوك، وكل يجني ما غرست يداه، ولا يظلم ربك أحدا. التوفيق والخذلان: جاء في القرآن الكريم قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (سورة هود)، ونسمع يدعون لبعضهم بعضا وفقك الله، أو كتب لك التوفيق، أو أدام الله توفيقك، وأمثال هذه الدعوات. فما معنى هذا التوفيق؟ إن العبد مهما يؤت من العلم والفطنة والذكاء والمعرفة ومهما تواته التجارب والإختبارات فإن وراء علمه علما لا حد له ولا غاية، ذلك هو علم الله الذي إذا قيست جميع علوم البشر ومعارفهم وتجاربهم إليه كانت هباء، بل لم تكن شيئا مذكورا قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (سورة الاسراء)، وقال أيضا: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (سورة البقرة)، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (سورة آل عمران). إذا علم الإنسان قاصر منقوص مهما يتسع أفقه، ولقصور علمه يتمنى أمرا تكون فية أمنيته، وقد ينفر من شيء يكون له فيه كل الخير ... قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة)، وقال أيضا: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (سورة النساء)، وإذا تقرر هذا قلت إن التوفيق عناية خاصة يتولاها رب العزة لبعض عباده فضلا منه ونعمة فيجعل أعمال هذا العبد ومساعيه موافقه لأسباب ظفره بالخير الذي يجهل طرقه .. فإذا تفضل العليم الحكيم سبحانه على عبده بهذه العناية فإنه يهيء له وسائل النجاح وإصابة الخير، ما لا يبلغه بعلمه، ولا بإرادته، ولا بقدرته،

كلمة جامعة

ولا بكسبه ولا بتجاربه أي أنه تعالى يمنحه قوة ما في مقدوره ما يكون سببا في بلوغه الى الخير .. قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (سورة الحجرات)، والله عليم بمن يصلح لهذا الفضل، ومن لا يصلح له ... أما الخذلان فهو أن يترك العبد لاجتهاده وما منحه من المواهب العامة، فلا يمنحه شيئا من العناية التي يمنحها ممن كتب لهم التوفيق، والله سبحانه لا يظلم العبد بذلك شيئا. هذا والتقوى والصدق والتوكل على الله تعالى مع إتخاذ الأسباب، والتعرض لنفحات الله تعالى من أعظم أسباب التوفيق قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (سورة الطلاق). كلمة جامعة: أجاب سيدنا علي كرم الله وجهه حين سئل: أكان مسيرنا الى الشام بقضاء من الله وقدر؟ فقال للسائل: "ويحك، لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حاتما، ولو كان كذلك لبطلا الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد .. إن الله سبحانه أمر عباده تخييرا ونهاهم تحذيرا وكلف يسيرا، ولم يكلف عسيرا، وأعطى على القليل كثيرا، ولم يعصى مغلوبا، ولم يطيع مكرها، ولم يرسل الأنبياء لعبا، ولم ينزل الكتاب للناس عبثا، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار".

إصلاح المجتمعات الإسلامية الحالية من الإنحراف والفساد عن طريق الدين

إصلاح المجتمعات الإسلامية الحالية من الإنحراف والفساد عن طريق الدين من أمعن النظر في حياة المسلمين وجدها بحاجة ماسة إلى إصلاح جذري يشمل حياتهم كلها الفردية والجماعية الحكومة والدستور، والمناهج والبرامج، بل في كل شأن من شؤونهم، ويتغلغل في صميم أمورهم عن طريق الدين والأخلاق، لأنهم انحرفوا انحرافا شنيعا عن الإسلام والأخلاق الفاضلة قل من تراه متمسكا بهما ... فشباب المسلمين غالبهم في الحانات والمواخر مع الفتيات يتعاطون الفحش والعهر علانية، وعلى مسمع ومرأى من الحكومة، والآباء لا يحركون ساكنا، بل الحكومة هي التي تنظم السياحة في القرى والأرياف للذكور والإنات يبيت بعضهم مع بعض، وهي التي تأمر باختلاط الجنسين مع المراهقين في التعليم وغيره كالمستشفيات والعامل ومكاتب الموظفين يرتكبون الموبقات والجرائم، ويتركون واجباتههم العملية، والويل لمن أنكر عليهم يتهم بالرجعية وعدم الذوق، فأصبحت نساء المسلمين خارجات عن آداب الإسلام، وعن الحياء الشرعي، مستخفات بأوامره، فيا له من منكر عظيم وشر مستطير أصاب المسلمين، بناتهم وأبنائهم يتعرضون للفتنة والفساد الكبير، وقد استوى في هذه الحالة الأمير والمأمور، والملك والوزير، والغني والفقير، والكبير والصغير، فلا الصغير يخاف من الكبير، ولا الكبير يستحي من الصغير ففحش وجور وظلم وقمار ولهو، وخمر وفسوق، وتهور وسفور وتبرج منكر، وخيانة وزور، وجهل وغرور، ونعم تصرف في المعاصي والفجور {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} فلا يخافون من الله ولا من الناس يستخفون، ولا من أنفسهم ينصفون تالله إنهم لمسرفون، وعن الحق يعزفون، وعن الصراط لناكبون، وفي طريق الضلالة يتيهون، فالله المستعان على ما يصفون، {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (سورة الاعراف).

المسلمون اليوم عن الحق معرضون، وفي الباطل يخوضون، ولصرح الاسلام ينقضون، وفي طريق الفساد يركضون وبالملاهي يفرحون. أين الصالح من الفاسد في هذه المجتمعات والعابد من الفاسق، والطامع من الزاهد، أين المساجد من الملاهي ودور السينما، أين المعابد من بيوت الدعارة والحانات أين الصائم القائم المجاهد من الطامع الكاسي الراقد. لهذا يجب إصلاح المجتمع الإسلامي عن طريق الدين الحنيف والأخلاق الإسلامية لأنها هي العنصر الفعال في إصلاح الشعوب والأمم في جميع الإتجاهات، وهي الزاد والمجد للوصول الى الغاية المنشودة، وفقدانها يجر حتما إلى الفشل والإندحار، ويدفع الأفراد والجماعات الى الهلاك والدمار، وضغف المسلمين الحالي سببه الإنحطاط الملقى عليهم الأخلاق الإسلامية تدعوا الى التعاون والتراحم، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. المؤمن يتحلى بكل فضيلة، وينفر من كل رذيلة، وتأباها له همة عالية، وآداب سامية، وآمال أعمال صالحة متوالية يحبها الله منه ويرضاها، المؤمن تمنعه ديانته عن إرتكاب الذنوب والمعاصي، وتحجزه مروءته عن العيوب. وليس من الدين أن توحدوا الله- أيها المسلمون- بألسنتكم وأنتم بدينه متساهلون، ولأحكامه مهملون، وعن الوعد والوعيد ذاهلون تحللون وتحرمون ما تشاؤون، وليس من الإيمان أن تتظاهروا بالخير فيما تقولون، وأنتم تنشرون الشر فيما تفعلون. لو أصلح المسلمون ما بأنفسهم، واعتصموا بحبل الله جميعا كما أمروا وأصلحوا ذات بينهم لعادوا الى ما كانوا عليه من المجد والعظمة أيام تمسكهم بتعاليم دينهم، ولو أنهم احتكموا في خصوماتهم الى كتاب الله وسنة رسوله، وما استنبط العلماء للمسلمين في مهمات الحوادث لما اختلفوا، ولو أنهم نشروا العلم الديني، والإصلاح الحقيقي في أوطانهم لما اختلفوا، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أيها المؤمنون أين ما وعدكم الله به من العزة؟؟ أتشكون في وعد الله؟ والله لا يخلف الميعاد، المسلم يعبد ربه بظاهره

وباطنه وقلبه، يجاهد في سبيل الله بسيفه، وقلمه، ولسانه، لإعلاء كلمة الله، وينفق في الخير ماله ابتغاء وجه ربه الأعلى أن يعمل لله، أو يتكلم بالحق وإن أضر نفسه فعال منفاق مصداق .. المسلمون في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، كلمتهم واحدة، ومهمتهم واحدة، وجهادهم لله وقتالهم في سبيل الله، من افتقر أعانوه، ومن حضر عدوه، ومن غاب افتقدوه، ومن مات شيعوه، ومن مرض عادوه، وبالدين الصحيح تكون سعادة المسلمين، وحين تفرقوا شيعا وأحزابا، واختلفوا مذاهب ونحلا، وتبينوا أهواء وسبلا، وملأوا المجالس جدلا ذهب سلطانهم، وضعف كيانهم، وصغر شأنهم، وتداعت عليهم الأمم، وكذلك العذاب، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ... اليوم الذي تخلى فيه العالم الإسلامي عن الدين والأخلاق تخلت عنه السعادة، وتاهت به الحياة في مجال القلق ومتاهات الحيرة، ومجالات الشك والإضطراب. الفقر الحقيقي ليس هو فقر المال ولا الأوراق، وإنما هو فقر الكرامة والأخلاق، فقر الإنسانية، فقر الصفات والشمائل والمحامد والعلم. أزمة المسلمين ليست أزمة الإقتصاد والسياسة والمال، الأزمة في الواقع أزمة الرجال، أزمة الضمير، أزمة الخلق، أزمة الدين، أزمة الوعي والنضج والرشد، أزمة الأخلاق، أزمة العقيدة، أزمة المثل العليا، أزمة المبادي والقيم، والمعالي والمفاهيم، أزمة الأمانة والواجب والتضحية، أزمة الضمير والإيمان، فهذه الأزمات كلها ناشئة عن عدم اهتمام المسلمين بأمور الدين وجهلهم به .. الإسلام جاء ليجمع القلب إلى القلب ويضم الصف الى الصف، جاء ليكون مجتمعا راقيا نقيا من عوامل الفرقة والضعف المعنوي والمادي، وأسباب الفشل والهزيمة حتى يصل الى المقاصد السامية، والأهداف النبيلة، التي جاءت بها رسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - من عبادة لله، وإعلاء

كلمته، وإقامة الحق ونشر العدل وفعل الخير، والجهاد من أجل استقرار مبادئ الإسلام التي يعيش الناس في ظلها آمنين مطمئنين. جاء الإسلام ليربط المسلمين برباط الأخوة التي لا تنفصم عراها، بحيث تزول أمامها جميع الفوارق من نسب ومال وجاه إلى غير ذلك مما درج عليه الناس من المميزات {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} هذا الإخاء يستلزم تبعيات وحقوقا، فليس هو إخاء عقيما لا ثمرة له ... أوجب الإسلام على المسلمين أن يحترموا بعضهم بعضا وأن يحافظ كل فرد على كرامة أخيه من أن يعيبه أو يحط من قدره، أو يطعن في شخصيته، أو يلقبه بلقب يكرهه، فهذه السيآت تقطع الصلة، وتمزق روابط المودة، وتزرع البغضاء في القلوب، وتنشر العداوة في النفوس. أمر الإسلام المسلمين بالتواضع وخفض الجناح ولين الجانب، فالمسلم لا يتكبر، ولا يختال، ولا يزهو بنفسه، قال تعالى في حق المتكبرين: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} وقد جاء في الحديث الشريف "إن الله أوحى إلي ان تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد" (¬1) ... الإسلام يهتم بتعاون المسلمين فيما بينهم حتى يتحدوا لتقوى جماعتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "يا بني إذا أصبحت وأمسيت وليس في قلبك غش لاحد فافعل فإن ذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة". قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" (¬2) هذا الحديث الشريف ينبه المسلمين من ¬

_ (¬1) رواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، عن عياض بن حمار- حسن- (¬2) قال المختصر- ضعيف- اسناده واه جدا والمعنى صحيح

غفلتهم ويحثهم على أن يقوموا بواجباتهم نحو بعضهم بعضا، لأن كل واحد منا عليه واجبات وحقوق، ومسؤوليات نحو المجتمع. فإصلاح المجتمع متوقف على اصلاح الفرد، فإذا كان الفرد شاعرا بواجباته الكثيرة نحو ربه الذي خلقه وأغدق عليه من نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، وخافه في السر والعلن، واستحضر عظمته في ضميره، وخشيته في قلبه، فيصبح هذا الفرد لا يتعدى ما أمر الله به، ولا يتجاوز ما نهاه عنه، فيسير في طريق الصواب التي لا أعوجاج فيها، فيصير إنسانا كاملا فيؤدي رسالته التي خلق من أجلها، ألا وهي فعل الخير في هذه الدنيا، فيعمل بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده" (¬1) ... العلم هو السبيل الوحيد إلى بناء العقيدة الصحيحة، وهو السبيل الى هداية الإنسان وسعادته، ولهذا رفع الإسلام من شأنه، ونوه بمكانته، وحث الناس على اعتناقه، وقد مثله بالنور، ومثل الجهل بالظلمات قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ولقد وجه الإسلام الناس إلى أخذ الأحكام عن العلماء فقال عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} والعلم في نظر الإسلام حق مشترك بين الناس، وقد ألزم العالم أن يعلم غيره من الناس، وجعل كاتم العلم ملعونا كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كتم علما ألجه الله بلجام من النار يوم القيامة" (¬2) وهذا مصداق لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}. ¬

_ (¬1) مختصر صحيح مسلم- عن عبد الله بن عمرو في كتاب الإيمان (¬2) رواه ابن عدي في "الكامل". عن ابن مسعود- صحيح-

ليس العلم أن تعرف الطهارة والصلاة والجج والزكاة والصيام فحسب بل يجب أن تتعلم معرفة الحق من الباطل، والحسن من القبيح، والحلال من الحرام، وليس القصد من التعلم أن تحمل الشهادة من التعليم اللايكي، ولكنه ذلك، وأن تحمل أيضا شهادة الدين والأخلاق لتترك الالحاد والإباحة. إن التهاون في القيام بالواجب سمه من لا خلاق لهم، وان الله العلي القدير حكم حكما جازما بأن التهاون فيما كلفوا به من تطبيق الإسلام مكذبون، ولهم الويل في الدنيا، والندامة والحسرة والخزي يوم يقوم الناس لرب العالمين. فهل يليق بنا- معاشر المسلمين- أن نقطع الصلة بيننا وبين تعاليم الإسلام، أو نحصرها في طائفة معينة من الناس؟ أننتظر مرشدا غير القرآن الكريم؟ أم هاديا غير محمد - صلى الله عليه وسلم -، استولت علينا الأهواء فأنستنا ما أوجب علينا الإيمان: أم طبعت النفوس على الشر فضلت سواء السبيل، أم صار على القلوب اقفال، عجبا يأمرنا ربنا بالتعاون على البر والتقوى، ونحن نتعاون على الإثم والعدوان. كان المجتمع الإسلامي فيما مضى تنظره شعوب الدنيا بعين الإجلال والإكبار، فما لنا ونحن لم نكن كما كنا من قبال إلا أننا غيرنا ما بأنفسنا، فتغيرت أخلاقنا، وتباعدنا عن صالح العادات وجميل السجايا. يجب على المسلمين أن يحاربوا الشهوات التي تزين لهم مخالفة الدين والعقل، ويبتعدوا عن الأرواح الخبيثة التي حذرهم منها القرآن كالنفس الأمارة بالسوء، ووساوس شياطين الإنس والجن حتى ترجع نفوسهم إلى طريق الحق والصواب، فالمسلم يجب أن يلازم الاستقامة في الأقوال والأفعال، ويأخذ نفسه بالوفاء بالعهد، وصدق العزيمة وعدم مجاراة السفهاء، لهذا كان المسلمون: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (سورة آل عمران). فما بال المسلمين اليوم يتجهون إلى التمرد على الله وإلى قطع ما أمر الله به أن يوصل، ووصل ما أمر الله به أن يقطع، فما من شر في الأرض،

ولا فساد في الوجود إلا ولهم به صلة، فزين لهم الشياطين سوء أعمالهم وحسنوا لهم الكفر والمعاصي، ودعوهم إلى تكذيب الله ورسوله ومخالفة أوامرهما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قدسي: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وانهم قد أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الارض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال إنما بعثتك لأتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه قائما ويقظانا". الشياطين هي التي دعت الناس إلى تحريف الدين والخروج عن الفطرة إلى الشرك بالله، وحرمت عليهم الحلال وأحلت لهم الحرام، ولا تزال تقعد لهم بكل سبيل حتى تصدهم عن طاعة الله. الشيطان هو الذي قام بدور رئيسي في القضاء على دعوة الاسلام في أول مشاورة له مع كفار قريش قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. رسالة الاسلام قائمة لهدفين رئيسيين: أولهما: تصحيح العقيدة من جميع الشوائب، وذلك بالعدل مع الله الذي خلق وأنعم وسوى وهدى، ورزق فأعطى، وليس من العدل الإشراك في عبادة الله والتقصير في طاعته. ثانيهما: أن يأخذ المسلم نفسه بالعدل في جميع تصرفاتها، ويلزمها طريق الإنصاف مع الناس فلا يأخذ من الحياة إلا ما كان عادلا، وعندما يفقد الإنسان العدل مع نفسه يفقد الطريق المستقيم للحياة الصحيحة. دعا الإسلام إلى العدل في الأخذ والعطاء في الجور والإخاء، وأوجب العدل في الحكم والقضاء.

بيان جملة من أنواع الشرك

بيان جملة من أنواع الشرك هذه الجمل تأتي على ألسنة الناس من غير أن يعلموا أنها شرك، فتحبط أعمالهم، ويخلدون في أعظم العذاب وأشد العقاب، ومعرفة ذلك واجبه، وقد قال بعض الأئمة: أن الردة تحبط الأعمال، وتبين منه زوجته، المرتد عن دينه هو الكافر بعد إسلامه، فمن أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو صفة من صفاته، أو بعض كتبه، أو رسله أو سب الله إلى غير ذلك مما تذكره كتب الردة تشكل أنواعا من اعتقاد وقول وفعل واستهزاء. فيتعين على كل مسلم أن يعرف القول أو الفعل الذي يؤدي إلى الكفر حتى يجتنبه ولا يقع فيه فيحبط عمله، ويلزمه قضاؤه، وتبين زوجته عند هؤلاء الأئمة، والشافعي رضي الله عنه يقول إن الردة إذا لم تحبط العمل لكنها تحبط ثوابه، فلم يبق الخلاف بينه وبين غيره إلا في القضاء فقط، فمن أنواع الكفر والشرك أن يعزم الإنسان عليه في زمن بعيد أو قريب، أو يعلقه باللسان أو القلب على شيء، فيكفر حالا، أو يعتقد ما يوجبه أو يفعل أو يتلفظ بما يدل عليه، سواء أصدر عن اعتقاد أو عناد، أو استهزاء، كأن يعتقد قدم العالم ولو بالنوع، أو نفي ما هو ثابت لله تعالى بالإجماع المعلوم من الدين بالضرورة كإنكار أصل علمه أو قدرته، أو كونه يعلم الجزء أو اثبات ما هو منفي عنه، وكذلك اللون، أو أنه متصل بالعالم أو خارج عنه ... وكل من فعل فعلا أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر، وان كان مصرحا بالاسلام كالمشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير، أو يلقي ورقة فيها شيء من القرآن، أو علم شرعي، أو فيها اسم الله تعالى، بل أو اسم نبي أو ملك في نجاسة، أو قذر ظاهر كمني أو مخاط، أو بصاق أو يلطخ مسجدا بنجس، أو يشك في نبوة نبي، أو في إنزال كتاب كالتوراة، والإنجيل أو زبور داود، وصحف إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، أو في آية من القرآن مجمع عليها، وفي تكفير من يضلل الأمة، أو تكفير الصحابة رضوان الله عليهم، أو ينكر مكة، أو الكعبة، أو المسجد الحرام، أو ينفي صفة

الحج أو هيئته المعروفة، وكذلك الصلاة والصوم، أو كصلاة العيدين، أو استحل محرما كصلاة بغير وضوء، وكإيذاء مسلم، أو كافر ذمي بلا مسوغ شرعي، أو حرم حلالا كالبيع والنكاح، أو يقول عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كان أسود اللون، أو ليس بقريشي، وكل من أنكر صفة كانت ثابتة له فقد كفر، أو قال يأتي نبي بعده فقد كفر أو قال لا أدري أهو الذي بعث بمكة ومات بالمدينة أو غيره، أو قال النبوة مكتسبة، أو يصل إليها بصفاء القلب، أو الولي أفضل من النبي، أو أنه يوحي إليه، وأن لم يدع النبوة، أو يدخل الجنة قبل موته، أو يعيب سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومثله غيره من الأنبياء وكذلك الملائكة، أو يلعنه، أو يسبه، أو يستخف أو يستهزيء به، أو بشيء من أفعاله كلحس الأصابع أو يلحق به نقصا في نفسه، أو نسبه، أو دينه، أو فعله أو يعرض به، أو يشبهه بشيء على طريق الإزدراء، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، أو تمني له مضرة أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جبهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور، أو ما جرى له من البلاء والمحنة عليه، أو بعوارض البشرية الجائزة أو المعهودة لديه، فيكفر بواحدة مما ذكر إجماعا، ولا تقبل توبته عند أكثر العلماء، وقد قتل خالد بن الوليد رضي الله عنه من قال له عند صاحبكم، وعد هذه الكلمة تنقيصا له صلى الله عليه وآله وسلم ... أو يرضى بالكفر لكافر أو يقول كافر لمسلم، لقني كلمة الإسلام ويكون المسلم خطيبا فيؤخر ويقول حتى أفرغ من الخطبة، أو يقول لمسلم يا كافر بلا تأويل لأنه سمى الإسلام كفرا، أو يسخر بأمر من أوامر الله، أو نهيه، أو وعده ووعيده، كأن يقول لو أمرني بكلام لم أفعله، أو جعل القبلة ها هنا ما صليت إليها، أو لو أعطاني الجنة ما دخلتها استخفافا أو عنادا، أو لو أخذني بترك الصلاة مع ما بي من الشدة أو المرض ظلمني، أو شهد ملك أو نبي ما صدقته أو إن كان ما قاله النبي صدقا نجونا فقد كفر لأن فيه نقصا لمرتبة النبوة، أو قيل قلم أظافرك فإنه سنة قال لا أفعل، أو قال لا حول ولا قوة إلا بالله لا تغني من جوع ومثلها في ذلك سائر الأذكار، أو قال المؤذن يكذب، أو صوته كالجرس، وأراه تشبيهه لناقوس

النصارى، أو سمى الله على محرم كالخمر استهزاء، أو (قال) لا أخاف القيامة استهزاء، أو نسب إلى الله أو شبه العلماء والوعاظ والمعلمين على هيئة مزرية بحضور جماعة حتى يضحكوا، أو قال إن شئت توفني مسلما أو كافرا، أو نسب إلى زور في التحريم، أو قال اليهود خير من المسلمين، أو قال استخفافا شبعت من القرآن، أو الصلاة، أو الذكر أو نحو ذلك، أو قال سماع الأغاني من الدين، أو أنه يؤثر في القلب أكثر من القرآن إلى غير ذلك من الأقوال والأفعال التي تخالف الله ورسوله سواء كان عنادا أو استهزاء فإن صاحبها يخرج عن الإسلام وتسمى هذه الأقوال ردة، ومعنى الردة الرجوع عن الإسلام كما جاء في كتاب الله عز وجل في (سورة البقرة): {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. ومن أراد الاستيفاء في هذا الباب، فليرجع الى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وما استنبطه العلماء المجتهدون العاملون في ذلك ...

مقام المراقبة

مقام المراقبة مقام المراقبة وهو مقام شريف قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} هذا المقام أصله علم وحال ثم يثمر حالين: أما العلم: فهو معرفة العبد أن الله مطلع عليه، ناظر إليه يرى جميع أعماله. ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال فهو ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه، ولا يغفل عنه، ولا يكفي العلم دون هذا الحال، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين: الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المهاصي، والجد في الطاعات، وكانت ثمرتها عند المقربين: الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذى الجلال، إلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (¬1) فقوله أن تعبد الله كأنك تراه إشارة إلى الثمرة الثانية، وهي المراقبة الموجبة للتعظيم. كمن يشاهد ملكا عظيما فإنه يعظمه بالضرورة، وقوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك إشارة إلى الثمرة الأولى، ومعناه إن لم تكن من أهل التقوى والعفاف بحيث تراقب الله في كل عمل هو لك، فاعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى: رأى أن كثيرا من الناس قد يعجزوان عليه، فنزل إلى المقام الآخر، واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتحقق فيها المشارطة والمرابطة، وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة، فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه بالتزام الطاعة وترك المعاصي، وأما المرابطة، فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة، أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره، وبعد ذلك يحاسب العبد لنفسه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد أوفى بما عاهد عليه الله حمد الله، وأن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة، ونقض عهد المرابطة عاقب النفس عقابا يزجرها عن العودة إلى ¬

_ (¬1) مسلم عن عمر- أحمد في مسنده والشيخان وابن ماجه عن أبي هريرة- صحيح-

مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة، وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى ... التوكل: هو الاعتماد على الله. قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} التوكل على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها، وهو من أعلى المقامات لوجهين: أحدهما قوله إن الله يحب المتوكلين، والآخر الضمان الذي في قوله: ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وقد يكون واجبا لقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فجعله شرطا في الإيمان، والظاهر قوله جل جلاله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون، فإن الأمر محمول على الوجوب. واعلم أن الناس في التوكل على ثلاث مراتب: الأولى أن يعتمد العبد على ربه، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده الذي لا يشك في نصيحته له، وقيامه بمصالحه، والثانية: أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه، فإنه لا يعرف سواها، ولا يلجأ إلا إليها، والثالثة: أن يكون مع ربه، كالميت بين يدي الغاسل قد أسلم نفسه إليه بالكلية. فصاحب الدرجة الأولى له حظ من النظر لنفسه بخلاف صاحب الثانية، وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختبار بخلاف صاحب الثالثة، وهذه الدرجات مبنية على التوحيد الخالص الذي في قوله عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى: أحدها أنه لا ثاني له، فهو نفي للعدد، والآخر أنه لا شريك له، والثالث أنه لا يتبعض، ولا ينقسم، وقد فسر المراد به هنا في قوله: لا إله إلا هو ... وأعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات: الأولى توحيد عامة المسلمين، وهو الذي يعصم النفس من الهلاك في الدنيا، وينجي من الخلود في النار في الآخرة، وهو نفي الشركاء، والأنداد، والصاحبة والأولاد، والأشباه والأضداد، الدرجة الثانية توحيد الخاصة، وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده، ويعلم يقينا أن الكون قائم بعلمه سائر بمشيئته واقع تحت رحمته ... وإنما مقام الخاص في التوحيد يغني القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الإنقطاع الى الله والتوكل

عليه وحده، وإطراح جميع الخلق في قبضة القهر، ليس بيدهم شيء من الأمر، الدرجة الثالثة، ألا يرى في الوجود إلا الله وحده، فيغيب النظر عن المخلوقات حتى كأنها عنده معدومة، وهذه الذي تسميه الصوفية مقام الغناء بمعنى الغيبة عن الخلق، حتى أنه قد يغني عن نفسه، وعن توحيده: أي يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله، وهذه درجة مرفوضة لأنه لا يوجد- ولا يمكن أن يوجد- من هو أكثر توحيدا وأعمق إيمانا وأشد إخلاصا لله من محمد - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك لم يغب ولم يستغرق! فإن قيل هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا؟ فالجواب: أن الأسباب على ثلاثة أقسام: أحدها: سبب معلوم قطعا قد أجراه الله تعالى، فهذا لا يجوز تركه كالأكل لدفع الجوع، واللباس لدفع البرد. والثاني سبب مظنون كالتجارة وطلب المعاش وشبه ذلك، فهذا لا يقدم فعله في التوكل، لأن التوكل من أعمال القلب لا من أعمال البدن ويجوز تركه لمن قوى عليه. والثالث سبب موهوم بعيد، فهذا يقدم فعله في التوكل ثم ان فوق التوكل التفويض وهو الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية، فإن التوكل له مراد واختيار، وهو يطلب مراده باعتماده على ربه، وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار، بل أسند المراد والاختيار إلى الله تعالى، فهو أكمل أدبا مع الله تعالى ... التوبة: قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} التوبة واجبة على كل مؤمن مكلف بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وفرائضها ثلاثة: الندم على الذنب من حيث عصي به ذا الجلال، والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا توان، والعزم ألا يعود إليها أبدا، ومهما قضى عليه بالعودة أحدث عزما مجددا. وآدابها ثلاثة: الإعتراف بالذنب مقرونا بالإنكسار، والإكثار من التضرع والإستغفار، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من السيئات، ومراتبها سبع: فتوبة الكفار من الكفر، وتوبة المخلطين من الذنوب الكبائر، وتوبة العدول من الصغائر، وتوبة العابدين من الفترات، وتوبة السالكين من علل القلوب والآفات،

وتوبة أهل الورع من الشبهات، وتوبة أهل المراقبة (¬1) عن الغفلات، والبواعث على التوبة سبعة: خوف العقاب، ورجاء الثواب، والخجل من الحساب، ومحبة المحبوب، ومراقبة الرقيب القريب، وتعظيم بالمقام، وشكر الأنعام ... الخوف من الله والرجاء: جمع الله الخوف والطمع ليكون العبد خائفا راجيا كما قال تعالى: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} فإن موجب الخوف معرفة سطوة الله، وشدة عقابه، وموجب الرجاء معرفة رحمة الله، وعظيم ثوابه قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} ومن عرف فضل الله رجاه، ومن عرف عذابه خافه، ولذلك جاء في الحديث: "لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا" (¬2) إلا أنه يستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف ليقوده إلى فعل الطاعات، وترك السيئات، وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى (¬3) " واعلم أن الخوف على ثلاث درجات: الأولى أن يكون ضعيفا يخطر على القلب ولا يؤثر في الباطن، ولا في الظاهر، فوجود هذا الخوف كالعدم، والثانية أن يكون قويا: فيوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة، الثالثة أن يشتد حتى يبلغ الى القنوط واليأس، وهذا لا يجوز، وخير الأمور أوسطها، والناس في الخوف على ثلاث درجات: فخوف العامة من الذنوب، وخوف الخاصة من الخاتمة، وخوف خاصة الخاصة من السابقة، فإن الخاتمة مبنية عليها، والرجاء على ثلاث مقامات: الأولى رجاء رحمة ¬

_ (¬1) المؤمن لا يغفل عن عبادة الله لأن أعماله كلها مرتبطة بالعبادة، فعمله بيديه لتحصيل الرزق الحلال لا يقل درجة عن صلاته وزكاته ولذلك فهذه التقسيمات مبتدعة من متأخري الصوفية. (¬2) قال ابن تيمية- هذا مأثور عن بعض السلف وهو عام صحيح. (¬3) رواه: أحمد في مسنده- مسلم- وأبو داود- وابن ماجه- عن جابر وهو صحيح

الله مع التسبب فيها بفعل طاعة أو ترك معصية، فهذا هو الرجاء المحمود، والثانية الرجاء مع التفريط والعصيان فهذا غرور .. والثالثة أن يقوى الرجاء حتى يبلغ الأمن، فهذا حرام، والناس في الرجاء على ثلاث مقامات: فمقام العامة رجاء ثواب الله، ومقام الخاصة رجاء رضوان الله، ومقام خاصة الخاصة رجاء لقاء الله حبا فيه وشوقا إليه {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.

ذكر الله واطمئنان القلوب به

ذكر الله واطمئنان القلوب به {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} قرآن كريم. الذكر هو ما اشتمل على تلاوة القرآن- وهو أفضلها- وذكر اسم الجلالة، وتسبيح وتقديس واستغفار، ودعاء وصلاة على الني - صلى الله عليه وسلم -، ذكر الله هو تذكره في استحضار جلاله، وعظمته، وقدرته وكل ما له - سبحانه من صفات الجلال والكمال ... فإذا ذكر الإنسان ربه واستحضر جلاله وعظمته كان من هذا الذكر في ظل ظليل من جلال الله وعظمته، وفي حماه ورعايته، وفي عصمته: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (سورة آل عمران 101). فالذي يذكر الله وهو موقن به طامع في رحمته معتصم بجلاله محتم بحماه لائذ بفضله عائذ به من هموم الدنيا، ومن ظلم الظالمين وبغي الباغين يكون قريبا منه سامعا دعاءه مستجيبا له قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} وقال جل شأنه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (سورة البقرة 186). وليس ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، هذا الذكر الذي تردده الألسنة ترديدا آليا، دون أن يكون نابعا من القلب، ذافئا بحرارة الإيمان، منطلقا بقوة اليقين، فمثل هذا الذكر لا يعدو أن يكون أصواتا مرددة، أشبه بالجثث الهامدة، لا روح فيه، ولا معقول له ومن هنا تكون آفته فلا يطمئن به قلب، ولا ينشرح له صدر ... أما الذكر الذي يقول فيه سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} ثم يؤكد بقوله: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فهو الذكر الذي ينبع عن إيمان، فتهز له المشاعر تثلج به الصدور ولهذا قدم الله سبحانه وتعالى الإيمان على الذكر حتى يكون للذكر أصل يرجع إليه، ومنطلق ينطلق منه وهو الإيمان، ولا يكون الذكر لله

إلا إذا كان مشتملا على صفات الكمال والجلال لله عز وجل، فذلك هو الذي يفيض على القلب خشية، وهو الذي يستنير مشاعر الولاء لله، والاخبات له، فتقشعر الجلود وتدمع العيون، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (سورة الأنفال آية 2). وقوله سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (سورة الحج 34 - 35)، وقوله جل شأنه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (سورة الزمر آية 23). فإذا ذكر المؤمن ربه واستولت عليه تلك المشاعر قرب من الله ودنا من مواقع رحمته، وأحس ببرد السكينة يغمر قلبه، ووجد ريح الأمن والطمأنينة تهب عليه معطرة الأنفاس زاكية الأرواح. فإذا ذكر الإنسان ربه هذا الذكر الذي يدنيه من ربه، الذي يشهد منه ما يشهده من جلاله وعظمته وقدرته ارتفع عن هذا العالم الترابي واصتصغر كل شيء فيه، فلا يأسى على فائت، ولا يطير فرحا، ولا يأشر بطرا، بما يقع ليديه من حطام هذه الدنيا، وهذا هو الإطمئنان الذي يسكن به القلب وتقر العين حيث لا حزن ولا جزع ولا خوف!!!. إن الداء الذي يغتال أمن الناس، ويقض مضاجعهم هو ما يدخل عليهم من هموم الدنيا، وما يشغلهم من توقعات الأمور فيها ... وانه لا دواء لهذا الداء إلا باللجوء إلى الله والفزع إليه، وذلك بذكره وذكر سلطانه المبسوط على هذا الوجود، وأمره القائم على كل موجود ألا له الخلق والأمر .... تبارك الله رب العالمين. وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}. وفي التعبير عن الإيمان بالفعل الماضي (آمنوا) وعن الإطمئنان بفعل

المستقبل (تطمئن) في هذا إشارة الى أن الإيمان حال لا يحول عنها المؤمن وانه لا يوصف بالإيمان إلا إذا كان مؤمنا، بخلاف الإطمئنان فإنه غير ملازم للمؤمن في كل حال، وإنما الإطمئنان عند ذكر الله. وكلما ذكر المؤمن ربه يطمئن قلبه إذا كان حاضر القلب. يحسن للذاكر أو الداعي أن يذكر اسم الله للحالة التي يناسبها ذلك الاسم. مثلا: إن كان الإنسان في مواجهة مرض في نفسه، أو نفس من يحب ذكر الله الرحمن الرحيم، وذكر قدرته على كشف هذا الضر. وإذا كان في يد سلطان جائر، أو عدو متسلط قاهر ذكر الله القوي القاهر الجبار المنتقم فرآه ذلك مآل هذا السلطان، وصغر شأن هذا العدو. وهكذا يذكر الذاكر ربه فيشعر في قلبه بقوة الله وقدرته على حمايته من كل بلاء فيطمئن قلبه وتسكن جوارحه. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (سورة الأعراف 180). فالاسم الذي تدعو الله به تجد له في نفسك أثرا يبعد عنك هما أو حزنا أو خوفا أو ضعفا أو انكسارا فتشملك الطمائينة الكاملة فلا ترى الناس من حولك إلا سائلين فضله ورضوانه. قال الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (سورة البقرة 152)، فالله سبحانه لا ينسى حتى يذكر فيذكر، بل هو يذكرنا دائما ذكرناه أو لم نذكره. ولكن المراد بذكره لنا هنا إذا ذكرناه وجدناه حاضرا في قلوبنا وعقولنا ولكن هذا الحضور لا نحس به ولا نتأثر له. فإذا ذكر المؤمن ربه وجده تجاهه ذكر ربه وأشرف عليه بنوره السني البهي. وفي الحديث الشريف القدسي: "من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في مسنده- والشيخان- الترمذي- ابن ماجه- عن أبي هريرة- وهو صحيح- اخرجه الترمذي بصيغة المفرد ورده إلى صيغة الجمع.

فذكر الله وامتلاء القلب به يفيض على الذاكر نورا من جلال الله وبهائه فإذا هو في حمى عزيز لا ينام، وفي ضمان وثيق من أن يهون أو يذل لغير الله الواحد القهار. وأسمى الذكر هو ذكر العارفين بالله معرفة يطلعون منها على ما يملأ قلوبهم جلالا وخشية لله حيث يشهدون من كمالات الله ما لا يشهده إلا المقربون الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، كما يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}. وهذا الود إنما يناله أولئك الذين يذكرون الله، فيذكرهم الله، ويعرفونه فيعرفهم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}، فهذا الذكر هو الذي يضيء الطريق للسالك إلى ربه فيرى على جانبيه نور الخالق وجلاله وعظمته، فيخشع قلبه وتسكن وساوسه. الرجاء الذي يقوم على غير إيمان، ويستند إلى غير طاعة، فهو مكر الله وخداع للنفس، وعدوان على سنن الحياة التي أقام الله عباده عليها فجعل لكل عامل عمله ولكل غارس ثمرة غرسه. وينبغي أن يحسن العبد الظن بربه، بل وأن يبالغ ما شاء في هذا الظن ولكن يشترط أن يكون ذلك الظن نابعا من الإيمان بالله. وتأمل كيف قال الله تعالى في آية الذكر: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} وفي آية الدعاء {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}. فذكر التضرع فيهما معا، وهو التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء، وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة، فمن أكثر من ذكر الله أثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقترن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها، بل تضره لأنها توجب الإدلال والانبساط. وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات ...

والمقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب، وإقباله على الله ومحبته له وتأليهه له، فإذا حصل المقصود، فالاشتغال بالوسيلة باطل .... وبعد فإن ذكر الله بالقلب واللسان هو خير زاد يتزود به الإنسان في رحلة الحياة وخير رفيق يؤنسه في طريقه الوحش، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} صدق الله مولانا العظيم.

بسم الله الرحمن الرحيم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لهم في أسماعهم وأبصارهم ما أبقيتهم، اللهم أجعلهم شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتممها عليهم يا رب العالين. اللهم انصر كتابك ودينك وعبادك المؤمنين وأظهر الهدى ودين الحق الذي بعثت به نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - على الدين كله، اللهم عذب الكفار والمنافقين الذين يصدون عن سبيلك ويبدلون دينك ويعادون المؤمنين، اللهم خالف كلمتهم، وشتت بين قلوبهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم وأدر عليهم دائرة السوء وانزل بهم بأسك الذي لا يرد على القوم المجرمين اللهم مجري السحاب ومنزل الكتاب وهازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم، ربنا أعنا ولا تعن علينا وانصرنا ولا تنصر علينا وامكر لنا ولا تمكر علينا واهدنا ويسر الهدى لنا وانصرنا على من بغى علينا ربنا اجعلنا لك شاكرين مطاعين مخبتين أواهين منيبين ربنا تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وثبت حجتنا واهدي قلوبنا وسدد ألسنتنا واسلل سخائم صدورنا" صدق رسول الله رواه الترمذي. أقدم هذا الكتاب إلى القراء الأفاضل راجين من الله أن يكون نافعا للمسلمين، وإني لا أدعي الكمال، وإنما الكمال لا يكون إلا لله، فالمرء ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، فمن وصل بيده هذا الكتاب وقرأه ووجد فيه خطأ أو نقصا أو ملاحظة فليقيدها وليبعت بها إلي إن شاء الله نجعلها في الطبعة الثانية وإني لا أنسى الطلبة الذين أعانوني على تصحيح هذا الكتاب وإخراج آياته وترقيمها وضربه على الراقنة واخراج أحاديثه وانسابها إلى مصادرها فأشكرهم على ذلك شكرا جزيلا.

المصادر

المصادر - تفسير القرآن العظيم ......................................................... عماد الدين أبو الفداء اسماعيل بن كثير - تفسير القيم .................................................................. لابن القيم الجوزية - تفسير الطبري ............................................................... لابن جرير الطبري - التفسير القرآني للقرآن ........................................................ عبد الكريم الخطيب - تفسير كتاب التسهيل لعلوم التنزيل ........................................... للإمام الحافظ أبي القاسم محمد بن أحمد لابن جزى الكلبي الغرناطي. - أحكام المرتد في الشريعة الإسلامية ........................................... لنعمان عبد الرزاق الساماراني - تفسير المنار ................................................................ للشيخ محمد رشيد رضا - الفتاوي الكبرى ............................................................... لابن تيمية، شيخ الإسلام بن أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم. - التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - .......... للشيخ منصور علي ناصف - النبي محمد انسان الإنسانية ونبي الأنبباء .................................... عبد الكريم الخطيب. - الله ذاتا وموضوعا ........................................................... عبد الكريم الخطيب - العقيدة الطحاوية ............................................................ للإمام الطحاوي - البحوث الإسلامية للمؤتمر الرابع (مصر) .................................... المؤتمر الرابع - الزواجر على اقتراف الكبائر ................................................. ابن العباس أحمد بن محمد علي ابن حجر المكي الهيثم - الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي ......................................... د/ محمد البهي - العقائد الإسلامية ............................................................ سيد سابق - الكواشف الحلية من معاني الواسطية ......................................... عبد العزيز محمد السلمان - حاشية الشيخ إبراهيم البيجوري .............................................. المسماة بتحفة المريد على جوهرة التوحيد. - الدستور القرآني في شؤون الحياة ............................................ محمد عزة دروزة - القضاء والقدر .............................................................. أبو الوفاء محمد درويش - رسالة التوحيد .............................................................. الشيخ محمد عبده

الفهرست

الفهرست العنوان ....................................................................... الصفحة دعاء الاستفتاح ............................................................... 6 نصائح اقدمها الى الشباب المسلم .............................................. 8 المقدمة ....................................................................... 14 التعريف بالتوحيد .............................................................. 15 اعراض المسلمين عن القرآن ................................................... 17 التكاليف الشرعية العامة: منها العينية والكفائية .................................. 29 بماذا يكون إيمان المكلف؟ وما هي الوسائل التي يستعملها ليكون مؤمنا .......... 36 لا تكليف الا بشرط العقل ...................................................... 40 من ثمرة العقل معرفة الله الضرورية والمكتسبة ................................... 45 البحث عن معرفة الله سبحانه وتعالى ........................................... 50 أقسام التوحيد .................................................................. 59 مفهوم الألوهية في الشريعة الإسلامية ........................................... 63 التوحيد نوعان: ................................................................ 71 باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ........................................ 72 الدعوة الى شهادة أن لا اله الا الله .............................................. 75 تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله الله ............................................. 76 من الشرك ليس الحلقة والخيط ونحوهما ......................................... 79 الذبائح لغير الله ................................................................ 80 من الشرك النذر لغير الله ....................................................... 81 الاستعاذة بغير الله شرك ........................................................ 83 الاستعاذة بالله من شر ما خلق .................................................. 86 من الشرك أن يستغيث المكلف بغير الله أو يدعو غيره ........................... 90 العقيدة الإسلامية ............................................................... 93 بعض معالم التوحيد في العقيدة ................................................. 98 علاقة الله بالانسان ............................................................ 99

التعريف باسم الجلالة .............................................. 103 ارتباط الخلق بالاسماء الثلاثة ...................................... 104 تنزيه الله جل جلاله ............................................... 106 الايمان بالغيب .................................................... 110 الايمان بالرسل أجمعين ............................................ 113 النبوة رحمة ........................................................ 116 الرسالة المحمدية ................................................... 119 البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم .......... 124 محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - .............................. 135 التعريف بالإيمان .................................................. 139 الصبر من الايمان ................................................ 143 الطريق إلى الله هو العلم .......................................... 146 المؤمن يتصف بالعزة ............................................. 150 الإيمان بالملائكة ................................................. 156 الإيمان بكتب الله المنزلة ......................................... 160 الرسالة الإسلامية ................................................ 162 دعوة نوح (عليه السلام) .......................................... 165 دعوة هود (عليه السلام) .......................................... 166 دعوة صالح (عليه السلام) ........................................ 167 دعوة شعيب (عليه السلام) ........................................ 168 دعوة إبراهيم (عليه السلام) ........................................ 170 دعوة موسى (عليه السلام) ........................................ 171 أسلوب القرآن في الدعوة الى الله .................................. 175 الايمان باليوم الآخر .............................................. 180 البعث ............................................................ 183 النفحات الثلاث ................................................... 184 كل شيء هالك إلا وجهه .......................................... 186 اختلاف الناس عند البعث ........................................ 187

الحساب الحق ......................................................... 189 الصراط ............................................................... 192 العرش والكرسي ....................................................... 192 الحوض .............................................................. 192 الشفاعة .............................................................. 194 رأي الاستاذ محمد عبده في الشفاعة ................................... 195 الركن السادس (الإيمان بالقدر) ........................................ 198 مشيئة الله ............................................................ 200 خلاصة في القدر والمشيئة ............................................ 203 حكمة الإيمان بالقدر .................................................. 203 حرية الانسان ......................................................... 206 تقرير الإسلام حرية الإرادة ............................................. 207 مشيئة الرب ومشيئة العبد .............................................. 210 الهداية والاضلال ...................................................... 210 خاتمة القضاء والقدر ................................................... 212 الأقدار ................................................................. 213 القضاء ................................................................. 215 الإنسان والأقدار ......................................................... 217 لا تتم مصالح الا بمدافعة الاقدار ......................................... 224 أمر الله .................................................................. 227 إرادة الله .................................................................. 228 دفع اعتراض ............................................................. 230 التوفيق والخذلان ......................................................... 235 إصلاح المجتمعات الحالية من الانحراف والفساد عن طريق الدين .......... 237 بعض الأشياء من الشرك ................................................. 244 مقام المراقبة .............................................................. 247 ذكر الله واطمئنان القلوب اليه ............................................. 252 الخاتمة ................................................................... 257

بسم الله الرحمن الرحيم مَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم

§1/1