كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأثرها في حفظ السنة النبوية
أحمد بن معبد عبد الكريم
مقدمة
المقدمة: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد.. فإن العناية بتلقي السنة النبوية المطهرة عن مصدرها المباشر، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عن صحابته الكرام فمن بعدهم، قد توافر فيها ثلاثة جوانب، متزامنة، ومتكاملة، وهي: 1- حفظ الصدور 2- حفظ السطور 3- حفظ التطبيق العملي بالقلوب والجوارح آناء الليل والنهار. وتناول مسيرة هذه الجوانب الثلاثة بالتفصيل وبيان مظاهرها وثمارها يضيق عنه المقام، وليس من مطالب هذا البحث. حيث إن مقصوده هو تناول معالم فترة معينة في جانب معين وهو كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته -رضي الله عنهم - وأثرها في حفظ السنة المطهرة، وذلك لأن هذا الجانب في هذه الفترة قد خفي الكثير من حقائقه على عدد غير قليل من الباحثين الشرقيين والمستشرقين، وبالتالي اختلفت الأنظار حوله حتى وجهت إلى السنة المطهرة بسبب التصور الخاطئ له بعض الانتقادات المغرضة، كما سنشير إلى ذلك في موضعه من هذا البحث إن شاء الله.
تمهيد
تمهيد: الأُمِيُّون وحفظ السنة في الصدور: يقول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . والذكر هنا هو القرآن الكريم، وقد قررت هذه الآية بوضوح وتأكيد أن الله تعالى بعظمته العليا كما تفرد بإنزاله على رسوله الكريم، فقد تفرد أيضا بحفظه وصيانته العامة الأبدية من أي تحريف أو دخيل، ومن لوازم حفظه -سبحانه- لكتابه العظيم، أنه حفظ أيضًا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي جعلها بيانا له معصوما من الخطأ، لصدوره من مقام النبوة الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولما كانت بداية بعثته صلى الله عليه وسلم في الأميين لحكم سامية، فإن المرحلة الأولى لتلك البعثة قد شاعت فيها أمية القراءة والكتابة بلغة العرب التي اختارها -الله تعالى- لتكون لغة القرآن الكريم، ولم تكن تلك الأمية مثل أمية عصورنا هذه التي تحول بين صاحبها وبين سلامة النطق واستقامة الفهم لما يسمعه، بل كان من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم كونه أميًا، وكان الأمي من العرب الخلص يتمتع بسليقة أصيلة تجعله ينطق العربية نطقًا صحيحًا، ويفهمها فهمًا سديدًا. كما كان العربي الأمي يتمتع أيضًا بحافظة تفوق قوتها ودقتها الوصف بحيث جعل الغالب فيهم تعويله الأصلي عليها بما يعوضه في غالب أمره عن حفظ الكتابة والقراءة، بل إن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال:"كان ابن شهاب يختلف إلى الأعرج -يعني عبد الرحمن بن هرمز صاحب أبي هريرة فيسأله الحديث، ثم يأخذ قطعة ورق فيكتب بها ثم يتحفظ،
فإذا حفظ الحديث مزق الرقعة". وفي رواية: كنا نأتي الأعرج ويأتيه ابن شهاب، فنكتب، ولا يكتب ابن شهاب، فربما كان الحديث فيه طول فيأخذ ابن شهاب ورقة من ورق الأعرج ثم يكتب، ثم يقرأ، ثم يمحوه مكانه، وربما قام بما معه فيقرؤها ثم يمحوها (1) . وروى الفسوي في تاريخه من طريق عبد الرحمن بن سلمة الجمحي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فكتبته، فلما حفظته محوته: "قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافًا وصبر على ذلك" (2) . ومن هذا يستفاد أهمية الحفظ للسنة في الصدور ومدى الاعتماد عليه في عهد الصحابة والتابعين.
المبحث الأول: الإذن النبوي العام لمن سمع منه صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما سمع ورد الشبه عن ذلك إجمالا
كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأثرها في حفظ السنة إعداد الأستاذ الدكتور/ أحمد معبد عبد الكريم بسم الله الرحمن الرحيم المبحث الأول: الإذن النبوي العام لمن سمع منه صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما سمع ورد الشبه عن ذلك إجمالا لكن رغم هذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل الكتابة وأذن في استعمالها في حفظ السنة النبوية طالما توافر تمييزها عن المكتوب من القرآن الكريم من جهة، وكانت الكتابة محققة لغاية الحفظ المطلوب للسنة أو لتبليغها للغير من جهة أخرى. وبهذا صارت السنة النبوية تحفظ عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن صحابته بطريقين متكاملين ومتزامنين في أوقات كثيرة. الأولى: طريقة التلقي بالسماع أو المشاهدة أو غيرهما، وحفظ المُتلَقّي في الذاكرة فقط دون كتابة. والثانية: طريقة الكتابة بجانب الحفظ في الذاكرة وذلك في ما كان متيسرًا مما يكتب عليه حينذاك، من العظام والجلود والأوراق. لكن هذه الطريقة الثانية لم تأخذ حظًا كافيًا من إظهار دلائلها وصور العناية بها، وتعداد من قام بها من الصحابة والتابعين في مباحث خاصة بذلك، ولعل ذلك لأنها لم تكن محل شك أو إنكار في عصور تدوين السنة في مصنفات خلال القرن الثاني والثالث. لكن جاء في العصور المتأخرة غير واحد، ممن ينسبون إلى البحث والاطلاع والتمحيص ينتقدون السنة النبوية من جهة عدم العناية بكتابتها وتدوين مروياتها وتصنيفها في مصنفات متداولة إلا في وقت متأخر عن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ويرتبون على ذلك الزعم بكثرة الدخيل فيها عند
تصنيفها المتأخر عن عصر النبوة والصحابة. وقد نهض -بحمد الله- من الباحثين المخلصين مَن ناقش هذه الانتقادات وردها جملة وتفصيلاً بالأدلة المناسبة، وذلك مثل الشيخ المعلمي - رحمه الله- في كتاب: "الأضواء الكاشفة" والدكتور محمد عجاج الخطيب في كتابه: "السنة قبل التدوين" يعني قبل كتابتها كتابة عامة بأمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في مدونات جامعة، والأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه: "دراسات في الحديث النبوي" (1) وغير هؤلاء كثير. وما أقدمه اليوم هو مساهمة متواضعة في البيان الواقعي للعناية الظاهرة بكتابة السنة النبوية في عصره صلى الله عليه وسلم وعصر صحابته الكرام، مع الإذن العام في ذلك فمن وقائع عنايته صلى الله عليه وسلم بكتابة السنة: ما رواه رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا ونحن نتحدث فقال: "ما تحدثون؟ " فقلنا: ما سمعنا منك يا رسول الله، قال: "تحدثوا وليتبوأ مقعده مَن كذب عليَّ من جهنم" ومضى لحاجته، وسكت القوم فقال: "ما شأنهم لا يتحدثون؟ " قالوا: للذي سمعناه منك يا رسول الله. قال: "إني لم أرد ذلك، إنما أردت مَن تعمد ذلك" فتحدثنا، قال: قلت: يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها؟ قال: "اكتبوا ذلك ولا حرج" (2) .
وفي الحديث كما نرى أمر بمعنى الإذن في كتابة الحديث عمومًا مع اجتناب الكذب عليه صلى الله عليه وسلم قولاً وكتابة. وللحديث شواهد منها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك (1/106) من طريق عبد الله بن المؤمل، والنسائي في الكبرى (التحفة 3/ 8885) من طريق الوليد بن مسلم، كلاهما عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قيدوا العلم" قلت: وما تقييده؟ قال: "كتابته". وروي الحديث عن أنس -رضي الله عنه- مرفوعًا وموقوفًا (1) وتضعيف المرفوع ينجبر بالشاهد السابق والآتي. ولفظ رواية النسائي: إن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديث أفتأذن لنا أن نكتبها؟ قال: "نعم" فكان أول ما كَتبَ: كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة. "لا يجوز شرطان في بيع واحد، ولا بيع وسلف جميعًا…" الحديث. وما في سند هذا الحديث من عنعنة ابن جريج ينجبر بباقي الطرق
السابقة واللاحقة فيرتقي إلى الصحيح لغيره (1) وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق" (2) . وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب (3) . وفي رواية لأحمد وغيره أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي ولا أكتب بيدي، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتابة فأذن له (4) . وبهاتين الروايتين ينجبر ضعف غيرهما مما تقدم، من حديث رافع بن خديج وأنس وبعض طرق حديث عبد الله بن عمرو ويكون ما ذكره الشيخ رشيد رضا -رحمه الله- في مجلة المنار (5) وتابعه غيره (6) من الاقتصار على تضعيف بعض طرق حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أنس -رضي الله
عنه- مِنْ بعض طرقه مردود عليه بوجود ما يشهد له من الصحيح والحسن كما ترى. كما أن حديث أبي هريرة السابق ينبغي أن يلاحظ فيه أمران متعلقان بموضوعنا: الأمر الأول: المنافسة الظاهرة بين أبي هريرة وبين عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم في حفظ ما تلقياه عن الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدل على علو همة مَنْ تصدَّى لهذه المهمة من الصحابة الكرام، وحرصه على القيام بها على أتم وجه. الأمر الثاني: توافر عوامل طريقتي الحفظ معًا وهما حفظ الصدور من أبي هريرة، وحفظ الصدور والسطور من عبد الله بن عمرو -رضي الله عن الجميع- بحيث لا يُظن من اقتصار أبي هريرة عن حفظ الصدور أن محصلته كانت أقل أو ضبطه كان أضعف. وذلك لأن ابن الجوزي وغيره ذكروا أن أبا هريرة قد رُوي عنه (5374) حديثًا (1) في حين ذكروا أن عبد الله بن عمرو قد روي عنه (700) حديث وقيل أقل من ذلك (2) . كما أن أبا هريرة أتيحت له فرصة ذهبية جعلت لحفظه مزية عليا حيث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّث يومًا وقال: " أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثي هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لم ينس شيئًا سمعه؟ " قال أبو هريرة: فبسطت بردة عليّ حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدري فما نسيت
بعد ذلك اليوم شيئا حدثني به (1) . ومن أجل ذلك قال الذهبي: كان حفظ أبي هريرة الخارق، من معجزات النبوة (2) , وشهد له به غير واحد من الصحابة عن رؤية ومعايشة علمية، واختبار (3) .
المبحث الثاني: مما كتبه وصنفه الصحابة
المبحث الثاني: مما كتبه وصنفه الصحابة قد سبق أن ذكرت أن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قد أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يكتب عنه كل ما يصدر منه في كافة أحواله من الغضب والرضا، وأن العلماء استدلوا بهذا على جواز ذلك أيضًا لغير عبد الله ابن عمرو من الصحابة. وقد جاء عن عبد الله بن عمرو نفسه ما يفيد وقوع ذلك فعلاً، فعن أبي قبيل المعافري قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- وسُئِل: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية (1) أو رُومِيَّة؟ (2) ، قال: فدعا عبد الله بن عمرو بصندوق له حَلَق، قال: فأخرج منه كتابًا فجعل يقرؤه، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً: قسطنطينية أو رومية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل مدينة هرقل أولاً تفتح" (3) يعني القسطنطينية.
وتقدم في حديث عبد الله بن عمرو هذا أيضًا: قلت: يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديث لا نحفظها، أفلا نكتبها؟ قال: "بلى فاكتبوها" فمن قول عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- "أفلا نكتبها"، وقوله صلى الله عليه وسلم "اكتبوها". ومن قوله في الحديث السابق "بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب" يستفاد أن الكتابة للسنة كانت تقع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، بعلمه وموافقته، وأن عبد الله بن عمرو استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه ولجماعة معه، وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لجماعتهم فقال: "اكتبوها". وبمقتضى هذا الإذن كانوا يجتمعون حوله صلى الله عليه وسلم ويكتبون كتابة جماعية، كما يستفاد من الحديث الأول أن عبد الله بن عمرو كان يعتني بصيانة ما كان يكتبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صندوق خاص حتى لا يتطرق إليه تلف أو ضياع أو دخيل، وهذا يعد تأصيلاً لما ذكره علماء المصطلح في ضبط الكتاب، دون أن يذكروا له مثالاً كهذا، ويستفاد كذلك أن عبد الله بن عمرو كان يخرج المكتوبات التي في هذا الصندوق، ويحدث منها بقراءته ويسمع منه جماعة الحاضرين، ومنهم من يسأله، كما يفيده قول الراوي عنه: "كنا عند عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- وسئل…" وقول الراوي: إن الصندوق الذي أخرج عبد الله منه المكتوب الذي حدثهم به كان له "حلق" إشارة منه لتأكده من مناسبة الحديث وملابساته، ووجود تلك الحَلَق في الصندوق تفيد، إما كبر حجمه، بحيث وُضع له حَلَق تُسهل حملَه ونقلَه، وإما مزيد العناية بوضع حلق فيه لإحكام إغلاقه.
كما أن هذا يدل على أن ما كتبه عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن صحيفته المشهورة فقط، والتي كان يعتز بها، ويسميها (الصادقة) كما سيأتي ذكره، ولكن كان ما كتبه عنه صلى الله عليه وسلم أكثر، بحيث احتاج في حفظه وصيانته إلى صندوق له حَلَق مما يدل على أنه كان كبير الحجم. وقد حكم الذهبي بتحسين حديث الصندوق المذكور، ثم قال: "وهو دال على أن الصحابة كتبوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض أقواله…، ثم قال: وكتبوا عنه كتاب الديات، وفرائض الصدقة، وغير ذلك" (1) . وقال أيضًا عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-:"وكَتَبَ الكثيرَ بإذن النبي صلى الله عليه وسلم وترخيصه له في الكتابة بعد كراهيته للصحابة أن يكتبوا عنه سوى القرآن، وسوَّغ ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثم انعقد الإجماع بعد اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- على الجواز والاستحباب لتقييد العلم… ثم قال الذهبي أيضًا: والظاهر أن النهي كان أولاً لتتوافر هممهم على القرآن وَحْدَه، وليمتاز القرآن بالكتابة عما سواه من السنة النبوية، فيؤمن اللبس، فلما زال المحذور واللبس ووضح أن القرآن لا يشتبه بكلام الناس، أذن في كتابة العلم، والله أعلم" (2) . وقد تقدم أن مجمل مرويات عبد الله بن عمرو بن العاص بلغت (700) حديث أو أقل، ولو أننا استعرضنا ما توافر لدينا من أدلة معتد بها على ما كتبه عبد الله بن عمرو بنفسه، وما كتبه عنه بعض من سمع منه، فسنجد أن ذلك يكوِّنُ نسبة غير قليلة من مجموع ما تقدم ذكره من أحاديثه المدونة في كتب الحديث الأصلية من الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها.
كما جاءت عنه بعض روايات أنه كان يحتفظ ببعض الآثار الموقوفة: فروى عمرو بن شعيب قال: وجدنا في كتاب عبد الله بن عمرو، عن عمر بن الخطاب قال: "إذا عبث المعتوه (1) بامرأته، أُمر وَليُّهُ أن يُطلِّق" (2) . وفي رواية أن عمر كتب إلى عمرو بن العاص: "أنه يُؤجَّل سَنَةً، فإن برئ، وإلا فرق بينه وبين امرأته" (3) . وجاء عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أن مما كتبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة سماها (الصادقة) فعن مجاهد قال: أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفة من تحت مفرشه، فمنعني، قلت: ما كنت تمنعني شيئًا، قال: "هذه الصادقة، هذه ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه (فيها) أحد، إذا سلمتْ لي هذه، وكتاب الله - تبارك وتعالى- والوَهْط (4) فما أبالي ما كانت
عليه الدنيا" (1) ، ومن ذلك يفهم أن عنايته بكتابة السنة، لم تشغله عن عنايته بالقرآن الكريم. وجاءت عنه رواية أخرى قال فيها: أما الصادقة فصحيفة كتبتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الوَهْط فأرض تصدق بها عمرو بن العاص، وكان يقوم عليها (2) . ونقل الذهبي عن بعض العلماء قوله: ينبغي أن تكون تلك الصحيفة أصح من كل شيء؛ لأنها مما كتبه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم والكتابة أضبط من حفظ الرجال (3) . ويذكر الدارسون: أن هذه الصحيفة الصادقة هي التي رواها عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو (1) . فإذاً ومَنْ يقف على وصف محتوياتها يظهر له أن تسميتها صحيفة ليس معناه أنها عبارة عن ورقة واحدة كما هو المتبادر؛ بل كانت أوراقًا كثيرة، فقد وقف ابن حبان على نسخة منها ورواها عن شيخه أبي يعلى الموصلي وقال: في نسخة كتبناها عنه طويلة (2) . فالمراد بالصحيفة أو النسخة في اصطلاح المحدثين: مجموعة الأحاديث التي رُويت بإسناد واحد ولو بلغت أوراقًا كثيرة مثل صحيفة أو نسخة عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده (3) . وقد أطلق ابن معين وغيره على صحيفة عمرو بن شعيب اسم "الكتاب" (4) . ومن آخر البحوث المتخصصة عن عدد أحاديثها ما قرر فيه صاحبه أنها تبلغ (231) حديثًا غير المكرر أكثر من مرة، وذلك بعد إحصائه لها من عدد من كتب السنن والمسانيد، وعلم الرجال حيث روى كل منها بعض أحاديثها (5) . لكن بعض تلاميذ عبد الله بن عمرو غير: شعيب والد عمرو هذا،
ومحمد بن عبد الله بن عمرو، جد شعيب، جاء عنهم أيضًا ما يفيد وجود مكتوبات متعددة عنده، وكان يُسمعهم منها. فتلميذه أبو راشد الحمراني (1) قال: أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت له: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى بين يدي صحيفة فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت فيها فإذا فيها: أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت …" الحديث (2) وقوله: "هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: أذن لي بكتابته عنه، كما في الروايات الأخرى التي سبق بعضها. وكلام أبي راشد هذا، يفيد أنه كان بمفرده عندما جاء إلى عبد الله بن عمرو وأطلعه على صحيفة مما كتبه، ويعتبر صنيع عبد الله بن عمرو هذا مع تلميذه أبي راشد، من تأصيل التحمل بالمناولة، حيث ألقى بين يديه الصحيفة المكتوب فيها الحديث، وأخبره بأنها مما أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابته عنه، ثم مكنه من النظر فيها، وقراءة الحديث المذكور منها. ويبدو أن جماعة غير أبي راشد قد رأوا هذه الصحيفة أيضًا، وتحملوا منها رواية الحديث السابق نفسه بلفظ مقارب، فقد قال أبو عبد الرحمن الحُبلي المصري، تلميذ عبد الله بن عمرو أيضًا: أخرج لنا عبد الله بن عمرو قرطاساً (3) وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعلمنا، يقول: "اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت رب كل شيء…" الحديث (1) . فقول أبي عبد الرحمن الحبلي: "أخرج لنا" يفيد أنهم كانوا جماعة، وأن عبد الله بن عمرو قرأ عليهم المكتوب. ومن تلاميذه من روى بعض الأحاديث التي كتبها عبد الله بن عمرو وأرسل بها إليه، فأرض "الوهْط" التي كانت ل عبد الله بن عمرو - كما تقدم - كان له فيها عامل زراعيّ يقال له: "سالم مولى عبد الله بن عمرو" وعرض عليه جيرانه أن يشتروا منه ما يفيض عن حاجة عبد الله بن عمرو من المياه، قال سالم: أعطَوْنِي بفضل الماء من أرضه بالوهْط ثلاثين ألفًا، قال: فكتبت إلى عبد الله بن عمرو، فكتب إلي: لا تبعه، ولكن أقِمْ قِلْدَك (2) ثم اسق الأدنى فالأدنى، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع فضل الماء (3) . وجاء عن أحد تلاميذ عبد الله أنه أملى عليه بعض حديثه وكتبها عنه في صحيفة وهو: أبو سبرة الهذلي، فقد قال لعبيد الله بن زياد - لما سمعه يجادل في حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له في الآخرة -: ألا أحدثك حديثًا فيه شفاء هذا، إن أباك بعث معي بمالك إلى معاوية، فلقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فحدثني مما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأملى عليَّ، فكتبت بيدي فلم أزد حرفًا، ولم أنقص حرفًا، حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يحب
الفحش، أو يبغض الفاحش والمتفحش، قال: ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الرحم وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن، ويُخوَّن الأمين، وقال: "ألا إن موعدكم حوضي عرضه وطوله واحد وهو كما بين أيلة (1) ومكة".. الحديث وفيه: "من شرب منه لم يظمأ بعده أبدًا" فقال عبيد الله: ما سمعت في الحوض حديثًا أثبت من هذا، فصدق به، وأخذ الصحيفة فحبسها عنده (2) . وفي رواية أخرى للحديث: أنه لما حبس عبيد الله بن زياد الكتاب عنده، قال أبو بُسرة: فجزعت عليه، فلقيني يحيى بن يعمر، فشكوت إليه، فقال: والله لأنا أحفظ له من السورة من القرآن فحدثني به كما كان في الكتاب سواء (3) . وهذه الرواية تفيد أن حفظ الصدور، وحفظ الكتاب كانا متضافرين على صيانة السنة وتعويض أحدهما ما فُقد من الآخر، وأن حفظ الصدور كان من القوة بحيث يطمأن إلى نيابته عن الكتابة عند افتقادها. وجاء أيضًا عن أحد تلاميذ عبد الله بن عمرو من التابعين المصريين، وهو شُفَى بن ماتع الأصبحي المصري (4) : أنه سمع من عبد الله بن عمرو كتابين:
أحدهما: عبارة عن أحاديث قولية وفعلية مرفوعة. والآخر: فيه ما يتعلق بما يقع آخر الزمن من الفتن وعلامات الساعة إلى يوم القيامة، وذكر ابن يونس: أن نسختي هذين الكتابين قد افتقدتا بإلقاء أحد الناس لهما في النيل (1) ووصفهما بأنهما كتابان، مع بيان مشتملاتهما إِجمالاً، يستفاد منه أن حجمهما كان كبيرًا، لكن قد عوضنا الله - تعالى- عنهما بما حفظه لنا بعض تلاميذ شُفَي هذا، إما صدرًا، وإما كتابة، ووصل إلينا مدونًا في بعض كتب السنن (2) والمسانيد وغيرها (3) . وهكذا يظهر لنا من خلال ما تقدم: أن ماكتبه عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قدرًا كبيرًا، فمنه ما كان يحفظه في صندوق ذي حلقات، ومنه ما كان يعتز به أكثر فيحفظه تحت فراشه؛ ليكون قريبًا منه. وبلغت نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحدها قرابة مائتين وخمسين حديثًا مرفوعًا بدون المكرر منها مرة فأكثر لما قدمت. كما يظهر لنا أن عددًا آخر من تلاميذ عبد الله بن عمرو من غير أهله، قد تلقوا عنه مدونات في أكثر من كتاب، مشتملة على سنن فعلية، أو قولية، في العقيدة والشريعة، كما اشتملت أيضًا على بعض سنن الخلفاء الراشدين. ويظهر لنا أيضًا أن ما أملاه عبد الله بن عمرو، أو كتب عنه عمومًا، قد
انتشر بواسطة تلاميذه في أقطار الإسلام شرقًا وغربًا، كالشام، ومصر، والعراق، وغيرها. ولم تقتصر عناية الصحابة على الكتابة الإجمالية لمروياتهم دون تنظيمها في مصنفات وأبواب موضوعية، بل وجدنا منهم من يجمع مما تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث متعلقة بموضوع واحد في تصنيف خاص به. من ذلك أن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري -رضي الله عنه- المتوفى سنة 78هـ بالمدينة المنورة قد عُرف بأنه حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا نافعا، وعرف بالفقه والفتوى والرحلة في طلب الحديث، ومروياته المسندة -كما ذكر الحافظ الذهبي - (1540) حديثاً. ويعد من أول من صنف الحديث على الموضوعات من الصحابة حيث ذكر الذهبي أن له منسكاً (1) صغيراً في الحج، أخرجه مسلم في صحيحه (2) . وعند مراجعة صحيح مسلم نجد مصداق ذلك فعلا حيث إنه في كتاب الحج باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم أخرج من طريق حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر ابن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم (3) حتى انتهى إلىَّ فقلت أنا محمد بن علي بن حسين، فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زِرّي الأعلى (4) ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثدْيَيَّ وأنا يومئذ غلام شباب فقال مرحبا بك يا بن أخي، سل عما شئت، فسألته وهو أعمى
وحضر وقت الصلاة، فقام في نساجة (1) ملتحفا بها، كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب (2) فصلَّى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله (3) ، ويقع في ست صفحات من المطبوع، ثم أخرج رواية أخرى هذه من طريق غياث بن طلق عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: أتيت جابر بن عبد الله فسألته عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحال ببقية المتن على الرواية السابقة بنحوها، ثم ذكر زيادة في هذه الرواية تبلغ ثلاثة أسطر، وأتبعها برواية ثانية من طريق غياث أيضا بذكر زيادة نحو سطرين، ورواية ثالثة من طريق سفيان عن جعفر عن أبيه به بزيادة نحو سطرين، ورواية من طريق مالك وخامسة من طريق مالك وابن جريج كلاهما عن جعفر بن محمد عن أبيه، بزيادة تتعلق بالطواف (4) وقد انفرد مسلم عن البخاري برواية هذا الحديث فعلا (5) . ويلاحظ أن الحديث اشتمل على سنة فعلية في أوله وهي صلاة جابر رضي الله عنه بجماعة الحاضرين عنده إمامًا وعليه لباس معين، كما اشتملت الرواية على وصفه في هذه الحالة بأنه كان أعمى، والمعروف أنه -رضي الله عنه- عَمِيَ في آخر عمره - ومقتضاه أنه حدثهم الحديث بطوله من حفظه، لا من كتاب، لكن جاء في روايات أخرى أن راوي الحديث عن جابر وهو محمد بن علي بن الحسين كان يذهب مع مجموعة إلى جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-
ويتلقون عنه الحديث كتابة وتعلما فأخرج ابن عدي والخطيب من طريق يعقوب القُمي عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: كنت أنطلق أنا ومحمد بن علي أبو جعفر ومحمد بن الحنفية إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، فنسأله عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صلاته، فنكتب عنه ونتعلم منه (1) . ويلاحظ أن هذه الرواية معبرة عما جاء في رواية مسلم السابقة لأنها ذكرت سؤال محمد بن علي ومن معه لجابر عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي منها مناسك حجته صلى الله عليه وسلم التي أمر بأن تؤخذ عنه، وفيها الصلاة وفيها كتابة السائلين لما حدثهم به، وتعلمهم منه كيفية الصلاة. وفي لفظ آخر من طريق يعقوب القمي أيضا: أن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: كنا نأتي جابرا فنسأله عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكتبها (2) . وفي رواية من طريق محمد بن علي السلمي عن ابن عقيل قال: كنت أختلف أنا وأبو جعفر إلى جابر بن عبد الله فنكتب عنه في الألواح (3) وفي لفظ للخطيب "معنا ألواح نكتب فيها" (4) . ومن ذلك يستفاد أن جابراً صنف منسكه هذا وهو مبصر، وكان مع ذلك يحفظه في صدره، ويسمعه إملاء لمن سأله عنه، وبذلك تلازم وتزامن الحفظان معا: حفظ الصدور وحفظ السطور. ولو من صحابي واحد.
ومما صنفه الصحابة أيضا كتاب الفرائض لزيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو المعروف بكتابة الوحي القرآني أيضا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن قام بجمعه في مصحف واحد، وكان مبرزاً في علم الفرائض، وباشر القضاء وتوفي سنة 45هـ على الراجح (1) وتعد وفاته مبكرة جدا عن وفاة جابر رضي الله عنه كما تقدم ذكرها. وقد أخرج الفسوي بسنده إلى الزهري قال: لولا أن زيد بن ثابت كتب الفرائض رأيت أنها ستذهب من الناس (2) . فيعد كتاب زيد هذا مؤلفا مخصصاً لموضوع المواريث الشرعية، وتاريخ وفاة زيد سنة 45هـ يجعل تأليفه هذا مبكرًا جدا، ومن الروايات التي توافرت عنه، يفهم أن زيداً جمع في كتابه هذا بين الأحاديث المرفوعة، وبين الآثار التي رواها عن بعض الخلفاء الراشدين، وبين تفسير منه لبعض آيات المواريث، وبين اجتهاد منه هو (3) . كما يفهم أنه كتب بعض هذا الكتاب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سأله في الجد، وقرأه عمر رضي الله عنه ناسباً إياه إلى زيد مع إقراره له (4) .
ثم كتب به إلى معاوية رضي الله عنه - في خلافته، وذكر له فيه ما أقره عليه عمر وعثمان رضي الله عنهما (1) وقد صار الكتاب يُروَى وينقل مجموعا ومتفرقا بالأسانيد عن زيد بواسطة الرواة عنه وبخاصة كبراء أولاده وآله مثل سعيد بن سليمان بن زيد، عن أبيه عن جده (2) وعن خارجة بن زيد عن أبيه، ومن هذا الطريق اشتهرت رواية الكتاب عند المتقدمين ومن بعدهم من المشارقة والمغاربة (3) . ويفهم من مراجعة نصوص هذا الكتاب المتفرقة في المصنفات الحديثية كما سبقت الإحالة عليها أن كتاب زيد -رضي الله عنه- في الفرائض، كان أكبر حجما من كتاب جابر -رضي الله عنه- في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أمّا ما أخرجه الطبراني من امتناع زيد بن ثابت عن كتابة مروان بن الحكم للحديث عنه، وروايته أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يكتبوا حديثه (4) فإنه لو صح عنه أو عن غيره فالجواب عنه مع مثله من أحاديث النهي، قد ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال: إن هذه الأحاديث الصحيحة المفيدة لإذنه صلى الله عليه وسلم في كتابة الحديث عنه، والأحاديث أيضاً التي اشتملت على نهيه عن ذلك كحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عند مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا
تكتبوا عني شيئاً غير القرآن" (1) يمكن الجمع بينها بوجوه متعددة ومعتبرة، وقال الحافظ: إن أقربها أن النهي متقدم زمنا، والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس، ثم قال: وقيل إن النهي خاص بمن خُشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أُمِنَ منه ذلك، ثم قال الحافظ قال العلماء: كره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث، واستحبوا أن يؤخذ عنهم حفظا، كما أخذوا حفظا، لكن لما قصرت الهِمَمُ وخشِيَ الأئمة ضياع العلم دونوه. ثم قال: وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة، بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين، ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد (2) .
المبحث الثالث: الإذن النبوي الخاص لبعض أفراد الصحابة بالكتابة ورد الشبه عنه
المبحث الثالث: الإذن النبوي الخاص لبعض أفراد الصحابة بالكتابة ورد الشبه عنه وبجانب ما أفادته الأحاديث السابقة من إذنه صلى الله عليه وسلم العام في كتابة الصحابة الحديث عنه، فقد جاءت أحاديث أخرى بإذنه بالكتابة لأسباب ودواع خاصة: فمن ذلك: أنه في عام الفتح لما قتل رجل من خزاعة رجلاً من بني ليث، ركب صلى الله عليه وسلم راحلته ليخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين" … الحديث في حرمة مكة وحُكْم مَنْ يقتل فيها، فقام أبو شاه -رجل من أهل اليمن- قال اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه" قال الوليد ابن مسلم- راوي الحديث عن الأوزاعي - قلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) وفي رواية للبخاري أيضا إن الرجل قال: اكتب لي يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتبوا لأبي شاه" (2) . وتحديد زمن الحديث بأنه عام الفتح صريح في صحة تأخر الإذن بالكتابة؛ لأن الفتح كان في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم. ولفظ الحديث كما ترى بصيغة الأمر بالكتابة، وتنفيذ الصحابة لذلك،
فعلاً، يفيد الحمل على الوجوب فتكون دلالته على الإذن من باب أولى. وقد علق عبد الله بن أحمد -رضي الله عنه- على رواية الحديث في المسند بقوله: " ليس يُروى في كتابة الحديث شيء أصح من هذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم فقال: "اكتبوا لأبي شاه" ما سمع النبي صلى الله عليه وسلم، خطبته" (1) . ويلاحظ أن هذا الإذن بمناسبته المذكورة، ولسائل معين، ومع ذلك قرر عبد الله بن أحمد أنه أصح ما يروى في كتابة الحديث مطلقا دون تقييد. وهناك ما ذُكر أن سبب الإذن في كتابته كان خشية النسيان أو عدم فهم المعنى المراد حال السماع، فقد أخرج الإمام أحمد وغيره من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - يعني عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما- قال: قلتُ يا رسول الله، إنا نسمع منك أحاديث لا نحفظها أفلا نكتبها؟ قال: بلى فاكتبوها (2) . وفي لفظ "أن عبد الله بن عمرو قال: إني أسمع منك أشياء أحب أن أعيها، فأستعين بيدي مع قلبي؟ قال: نعم (3) وفي لفظ أن عبد الله بن عمرو قال: إني أسمع منك أشياء أخاف أن أنساها، فتأذن لي أن أكتبها؟ قال:
اكتبها (1) وفي رواية زيادة أن ذلك كان أول ما كتب عبد الله بن عمرو (2) ،وما في بعض طرقه من ضعف ينجبر بطرقه الأخرى، فيرتقي إلى الصحيح لغيره, وبه يندفع تضعيف الشيخ رشيد رضا رحمه الله للحديث من طريق عمرو بن شعيب وحدها دون البحث أو النظر فيما يعضدها (3) . وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسمع منه الحديث فيعجبه فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إني أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استعن بيمينك" وأومأ بيده للخط. وقد ضعف الترمذي الحديث بإسناده الذي أخرجه به، ولكن أشار إلى أن ضعفه ينجبر بما يشهد له من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- فقال: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو (4) وهو حديث صحيح كما تقدم.
المبحث الرابع: الأمر الوجوبي من الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة ولا سيما للولاة والقبائل والمعاهدات، ورؤساء الدول
المبحث الرابع: الأمر الوجوبي من الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة ولا سيَّما للولاة والقبائل والمعاهدات، ورؤساء الدول فلم يقتصر صلى الله عليه وسلم على الإذن الخاص والعام لصحابته الكِرام بالكتابة بأنفسهم أو بواسطة بعضهم لبعض ما تلقوه عنه من السنن، وإنما صدرت منه أوامر متعددة ونُفذت فعلاً على جهة الوجوب، مع تضمن المكتوب أنواعاً من التشريعات والأحكام. فمن ذلك ما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم بالكتابة لأبي شاه، وتنفيذ الصحابة فعلاً لذلك، حيث كتب بعضهم لأبي شاه ما سمعه حين ذاك من الرسول صلى الله عليه وسلم من أحكام الحج. ومن ذلك ما أمر بكتابته لولاته على البلاد والقبائل من الصحابة، مثل عمرو بن حزم الأنصاري - رضي الله عنه - وكان ممن شهد غزوة الخندق، وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على نجران، وكتب له كتابا إلى أهل اليمن، فيه الفرائض من صلاة وزكاة وديات وغيرها، وقد أخرج ابن حبان في صحيحه نسخة هذا الكتاب في نحو ست صفحات، وذلك من طريق محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن وهذه نسختها: ثم ساقها، وقد أخرجها غير ابن حبان أيضا مختصرة ومطولة (1) .
فكتابة هذا الكتاب وأمثاله، كانت بأمر وجوبي منه صلى الله عليه وسلم إلى بعض من كان يكتب له، ووجود نسخة هذا الكتاب وأمثاله في كتب الحديث المعتمدة التي بين أيدينا حتى اليوم، دليل الالتزام بكتابتها وتداولها، حتى وصلت إلينا بأسانيدها المتصلة إليه صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك ما كتب به صلى الله عليه وسلم إلى بني زهير، في قطعة من أديم، وبعث بها مع النمر بن تولب بن زهير بن أقيش العكلي الصحابي الشاعر، وقد أخرج ابن حبان من حديث يزيد بن عبد الله بن الشخير أنه هو وآخرين التقوا بـ "النمر" هذا في موضع يقال له " المربد " من أحياء البصرة قال: فقلنا له: ناولنا هذه القطعة الأديم التي في يدك، فأخذناها فقرأنا ما فيها:" فإذا فيها من محمد رسول الله إلى بني زهير، أعطوا الخمس من الغنيمة وسهم النبي، والصَّفيِّ (1) وأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله"، قال ابن الشخير فقلنا: من كتب لك هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلنا ما سمعت منه شيئا قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صوم شهر الصبر" (الحديث) (2) .
يلاحظ في هذه الرواية بيان ما كان يكتب فيه حينذاك وهو الجلود بعد دباغتها وتنظيفها، وبيان محتويات المكتوب وأنه في صيغة معاهدة لأهل هذه القبيلة فيها أمرهم ببعض التشريعات والالتزام لهم كذلك بحق الأمان المكفول من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم. كما أن في الرواية أن الصحابي الذي حمل إليهم هذه المعاهدة المكتوبة قد حفظ أيضا في صدره غيرها مما سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم وأداه لمن سألوه من أهل البصرة وهو في طريقه إلى قومه بالكتاب المذكور. وعن الضحاك بن سفيان الكلابي - ممن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان والياً على قومه، وقد روى سعيد بن المسيب عنه: "أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها" (1) . وعن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال لمروان بن الحكم: إن مكة إن لم تكن حراماً، فإن المدينة حرم، حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مكتوب عندنا في أديم خولاني، إن شئت أن نقرئكه فعلنا، فناداه مروان: أجَلْ بلغنا ذلك (2) وله شاهد في صحيح مسلم يرقيه إلى الصحيح لغيره (3) والأديم الخولاني نوع من الجلود، وسبق في الحديث السابق أنه كان مكتوبا في جلد أيضا. ومن هذا الحديث يستفاد أن رافعاً - رضي الله عنه - كان يحتفظ ببعض الأحاديث المكتوبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرجع إليها في مناسبتها للاحتجاج بها.
وقد سبق روايته حديث إذنه صلى الله عليه وسلم له بالكتابة لما سمعه منه خشية النسيان. ومن كتبه لأهل الولايات وحكام الدول أيضا: ما أخرج ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى "حبر تيماء" فسلم عليه (1) . وأخرج ابن حبان أيضا في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر، وأُكيدر دومة، يدعوهم إلى الله جل وعلا (2) وسيأتي ذكر مصدر جامع لمشتملات تلك الكتب بأسانيدها. ومن أشهر ما أمر صلى الله عليه وسلم بكتابته إلى الملوك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سفيان ابن حرب أنه في مدة الهدنة التي كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كفار مكة بمن فيهم أبو سفيان - قال أبو سفيان: فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، جاء به دحية الكلبي فدفعه إلى عظيم بُصرى فدفعه بدوره إلى هرقل (الحديث) (3) . ومما أمر صلى الله عليه وسلم بكتابته أيضا ما كان ردًّا على مكاتبات تُرسل إليه. فقد أخرج البيهقي من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم كتاب رجل قال لعبد الله بن الأرقم: أجب عني، فكتب جوابه، ثم قرأه عليه، فقال: "أصبت وأحسنت اللهم وفقه"، فلما ولى عمر- رضي الله عنه- كان يشاور عبد الله بن الأرقم هذا (4) .
وأخرج البيهقي أيضا من حديث عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب عبد الله بن أرقم فكان يكتب عبد الله بن أرقم (1) وكان يجيب عنه صلى الله عليه وسلم الملوكَ فبلغ من أمانته أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب، ثم يأمره أن يكتب ويختم ولا يقرأه لأمانته عنده، ثم استكتب أيضا زيد بن ثابت، فكان يكتب الوحي، ويكتب إلى الملوك أيضا، وكان إذا غاب عبد الله بن أرقم وزيد ابن ثابت واحتاج أن يكتب إلى بعض أمراء الأجناد والملوك، أو يكتب لإنسان كتاباً بقَطِيعةَ (2) أمر جعفراً أن يكتب، وقد كتب له عمر وعثمان، وكان زيد والمغيرة، ومعاوية وخالد بن سعيد بن العاص وغيرهم ممن قد سُمِّي من العرب (3) . هذا وقد ألف الإمام محمد بن طولون الدمشقي المتوفى سنة 953هـ كتابًا بعنوان: "إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين" (4) وقد أورد فيه (49) كتابًا، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عددًا من أصحابه بكتابة كل منها على لسانه، بعضها إلى ملوك دول العالم والحكام في وقته، في فارس، والروم، واليمن،
والشام، ومصر، والبحرين، وبعضها إلى قبائل وشخصيات معينة في أنحاء جزيرة العرب وما حولها، وبعضها إلى بعض من عينهم من الولاة على بعض مناطق الجزيرة العربية التي دخلت في الإسلام. وتعد مشتملات هذه الكتب عمومًا من سنته صلى الله عليه وسلم القولية، أو الفعلية أو التقريرية في عامة أمور الدين، العقدية والتشريعية وأحكام المعاهدين من غير المسلمين. ونجد ما ذكره الإمام ابن طولون في هذا الكتاب قد جمعه مما هو مُفرَّق في كتب السنة والسيرة النبوية المدونة والتي وقف عليها في عصره، والمتداولة بيننا الآن، وفي مقدمتها صحيحا البخاري ومسلم، وكتب السنن، والمسانيد، وبعضها يرويه المؤلف بسنده إلى أحد المسانيد التي تعد حاليًا مما افتقدت نسخه الخطية للأسف، وهو مسند بقي بن مخلد الأندلسي (1) المتوفى سنة 276هـ قال عنه ابن حزم الذي اطلع عليه: ليس لأحد مثله (2) . ومن يقرأ هذه الكتب النبوية يتضح له من مضمونها، ومناسبة كتابتها، ومَنْ كُتبت لهم أن الكثير منها كان بعد غزوة الحديبية، في أواخر السنة السادسة للهجرة، وخلال السنة السابعة وما بعدها، وهذا يؤيد تأييدًا واقعيًا أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة أحاديثه كان متقدمًا، وأن إذنه صلى الله عليه وسلم بالكتابة، وكذا أمره بها وجوبًا كان متأخرًا كما في مكاتبة الملوك والحكام، لدعوتهم إلى الإسلام وإبلاغهم مجمل عقائده، وأحكامه. ونكتفي هنا بتقرير الخطيب البغدادي حيث يقول: "ولو لم يكن في
هذا الباب إلا وقوع العلم بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتبه من عهود السعاة على الصدقات، وكتابه لعمرو بن حزم لما بعثه إلى اليمن لكفى، إذ فيه الأسوة، وبه القدوة" (1) . وسيأتي في المبحث التالي مصداق ما ذكره الخطيب.
المبحث الخامس: كتابة الصحابة بعضهم إلى بعض أو عن بعض
المبحث الخامس: كتابة الصحابة بعضهم إلى بعض أو عن بعض فقد كان لقدوته صلى الله عليه وسلم آثارها الفاعلة في صحابته الكرام، فكتب بعضهم إلى بعض بما تلقوه منه صلى الله عليه وسلم، تبليغا أو استدلالا أو تذكيرا، وأيضا كتب بعضهم عن بعض، ولو جمع الآن ما هو متفرق في دواوين السنة من تلك الكتابات، لظهر لنا أن كميته أكثر جدا مما جمع من كُتبه صلى الله عليه وسلم التي تقدم ذكرها في المبحث السابق، ولكن يكفينا في الدلالة على ذلك بعض الأمثلة فمن ذلك ما جاء عن القعقاع بن حكيم أن عبد العزيز بن مروان كتب إلى عبد الله بن عمر أن ارفع إليَّ حاجتك، قال: فكتب إليه عبد الله: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى" (1) . وكان لعبد الله بن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه، فكتب إليه مرة عبد الله بن عمر: أنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر فإياك أن تكتب إليَّ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر" (2) . وعن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي: أنه كان مع عقبة بن فرقد بأذربيجان أو بالشام قال: جاءنا كتاب عمر: أما بعد يا عتبة بن فرقد… الحديث وفيه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير إلا هكذا،
ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه الوسطى والسبابة وضمهما (1) ، قال زهير: قال عاصم: هذا في الكتاب (2) . وفي رواية لأحمد: عن أبي عثمان النهدي أيضا، كنا مع عتبة بن فرقد، فكتب إليه عمر بأشياء يحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان فيما كتب إليه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يلبس الحرير في الدنيا إلا من ليس له في الآخرة من شيء، إلا هكذا وقال: بإصبعه السبابة والوسطى" (3) . ومن ذلك ما أخرجه الحميدي بسند صحيح أن الشعبي قال: كتب معاوية بن أبي سفيان إلى عائشة -رضي الله عنها - أن اكتبي إليَّ بشيء سمعتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فكتبت إليه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه من يعمل بغير طاعة الله يعود حامده من الناس ذامًّا (4) . وأخرج البخاري في الصحيح من طريق ورَّاد -كاتب المغيرة بن شعبة- قال: أملى عليَّ المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دُبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له " الحديث (5) . ومن هذا يظهر أن تلك المكاتبات شارك فيها الصحابة والصحابيات، ولاسيما عائشة -رضي الله عنها أم المؤمنين-.
الخاتمة
الخاتمة ... خاتمة في خلاصة نتائج البحث: مما تقدم خلال فقرات هذا البحث نستخلص النتائج التالية: 1- أن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة السنة عنه ثابت صحيح، ولكنه لا يتعارض مع ما صح أيضا عنه من الإذن بذلك، لأنه أمكن التوفيق بينهما بوجوه متعددة معتدّ بها، ومقنعة لمن كان له قلب واع، والتزام بالحقائق العلمية الثابتة. 2- أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الإذن بنوعيه الخاص والعام، وذلك من دلائل عنايته بكتابة السنة عنه في حياته، وتبليغها لمن بعده. 3- أن حرص الصحابة على طلب الإذن بالكتابة للسنة دليل على عنايتهم بذلك، دون الاقتصار على حفظهم لها في الصدور رغم تمتعهم بالحافظة القوية، وتطبيقهم العملي لها في الليل والنهار. كما أنهم بمجرد الإذن النبوي لهم قاموا بالكتابة كل على قدر طاقته، وكتب بعضهم إلى بعض. كما تنوعت كتابتهم بين جمع عام لما تلقاه الصحابي، وبين تصنيف موضوعي في موضوعات خاصة. 4- أن كتابات الصحابة، وإن لم يوجد كل منها إلى الآن بصورته التي كتبه عليها الصحابي، إلا أنها قد وجدت متضمنة في ثنايا المصادر الحديثية الأصلية بأسانيدها إلى الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- وهي متداولة الآن بيننا. 5- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تقتصر عنايته بكتابة السنة عنه على الإذن العام والخاص، ولكنه أمر أيضا أمرًا وجوبيا بكتابة الكثير منها.
6- أن الشبه التي أثيرت قديما وحديثا حول كتابة السنة في عصره صلى الله عليه وسلم حال التلقي منه مباشرة أو بالواسطة في عصر صحابته الكرام، كل ذلك مردود على قائله جملة وتفصيلا. والله ولي التوفيق. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
مصادر ومراجع
مصادر ومراجع ... قائمة مراجع البحث 1- القرآن الكريم 2- إتحاف المهرة لابن حجر العسقلاني، بتحقيق عبد العظيم البستوي. طبع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة. 3- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، بتحقيق شعيب الأرناؤوط. طبع مؤسسة الرسالة. 4- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني مع الاستيعاب. طبعة مصورة بدار صادر ببيروت. 5- إعلام السائلين لابن طولون، بتحقيق محمود الأرناؤوط. طبع مؤسسة الرسالة. 6- تاريخ ابن عساكر. بتحقيق شكر الله بن نعمة الله قوجاني (ترجمة الزهري) طبع مؤسسة الرسالة. 7- تاريخ الإسلام للذهبي، بتحقيق عمر عبد السلام تدمري. نشر دار الكتاب العربي. 8- تحفة الأشراف للمزي، بتحقيق عبد الصمد شرف الدين. طبع المكتب الإسلامي ببيروت. 9- تذكرة الحفاظ للذهبي، طبع دار الفكر العربي بيروت. 10- تهذيب تهذيب الكمال للذهبي (مخطوط) . 11- تقييد العلم للخطيب البغدادي، بتحقيق يوسف العش. طبع دار إحياء السنة النبوية.
12- تلقيح فهوم أهل الأثر لابن الجوزي. طبعة مكتبة الآداب بالقاهرة. 13- تهذيب التهذيب لابن حجر، طبعة مصورة عن طبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند. 14- تهذيب الكمال للمزي، بتحقيق بشار عواد معروف. طبع مؤسسة الرسالة. 15- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله لابن عبد البر بتحقيق إدارة الطباعة المنيرية طبعة مصورة بدار الكتب العلمية ببيروت. 16- جامع الترمذي، بتحقيق بشار عواد معروف. طبع دار الغرب الإسلامي ببيروت. 17- الجمع بين الصحيحين للحميدي، بتحقيق د. علي حسين البواب طبع دار ابن حزم ببيروت. 18- جمهرة أنساب العرب لابن حزم، بتحقيق عبد السلام محمد هارون. طبع دار المعارف بالقاهرة. 19- الرسالة المستطرفة للكتاني بتحقيق محمد المنتصر الكتاني. طبع دار البشائر الإسلامية ببيروت. 20- الزهد الكبير للبيهقي، بتحقيق تقي الدين الندوي. طبع دار القلم بالكويت. 21- سنن أبي داود، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. نشر دار إحياء السنة النبوية. 22- السنن للدارقطني بتحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني. طبع مطبعة فالكن بباكستان.
23- سنن الدارمي، بتحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني 24- السنن الكبرى للبيهقي مع الجوهر النقي لابن التركماني - طبعة دار الفكر. 25- سنن النسائي مع تعليق السيوطي، بتحقيق مكتبة تحقيق التراث الإسلامي - طبع دار المعرفة ببيروت. 26- سير أعلام النبلاء للذهبي، بتحقيق شعيب الأرناؤوط - طبع مؤسسة الرسالة ببيروت. 27- صحيح ابن حبان "انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان". 28- صحيح ابن خزيمة، بتحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي - طبع المكتب الإسلامي ببيروت. 29- صحيح البخاري مع فتح الباري. (انظر: فتح الباري) . 30- صحيح مسلم، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي - طبع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية. 31- صحيفة عمرو بن شعيب وبهز بن حكيم عند المحدثين والفقهاء، تأليف/ أ. محمد علي بن الصديق طبع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب. 32- طبقات ابن سعد - طبع دار صادر ببيروت. 33- فتح الباري لابن حجر، بتحقيق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ومعه صحيح البخاري. 34- فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم. بتحقيق د/ علي محمد عمر. طبع مكتبة الثقافة الدينية.
35- فهرس ابن خير الإشبيلي بتحقيق فرنسشكه قدارة زيدين نشر دار الآفاق الجديدة ببيروت. 36- الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي - طبع دار الفكر ببيروت. 37- المجروحين لابن حبان، بتحقيق محمود إبراهيم زايد - طبع دار الوعي بحلب. 38- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرمهرمزي، بتحقيق محمد عجاج الخطيب طبع دار الفكر ببيروت. 39- مختصر استدراك الذهبي لابن الملقن. 40- مختصر المستدرك للذهبي مع المستدرك للحاكم. 41- المستدرك للحاكم - طبع دار الكتاب العربي ببيروت. 42- مسند الحميدي بتحقيق أ. حبيب الرحمن الأعظمي - طبع عالم الكتب ببيروت. 43- مسند الشهاب للقضاعي، بتحقيق حمدي عبد المجيد السلفي - طبع مؤسسة الرسالة ببيروت. 44- المصنف لابن أبي شيبة، بتحقيق أ. عبد الخالق الأفغاني - طبع الدار السلفية بالهند. 45- معجم البلدان لياقوت الحموي - طبع دار صادر ببيروت. 46- المعجم الكبير للطبراني، بتحقيق حمدي عبد المجيد السلفي - طبع وزارة الأوقاف العراقية. 47- معرفة الصحابة لأبي نعيم، بتحقيق عادل بن يوسف العزازي- طبع دار الوطن بالرياض.
48- المعرفة والتاريخ للفسوي بتحقيق د. أكرم ضياء العمري طبع مؤسسة الرسالة ببيروت. 49- المفردات للراغب الأصفهاني، بتحقيق محمد سيد كيلاني - طبع دار المعرفة ببيروت. 50- المنتقى لابن الجارود مع تخريجه غوث المكدود، تأليف أبي إسحاق الحويني. طبع دار الكتاب العربي ببيروت. 51- الميزان للذهبي، بتحقيق علي محمد البجاوي - طبع دار المعرفة ببيروت.