كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها

عماد السيد محمد إسماعيل الشربينى

المقدمة

كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها عماد الشربيني 1 الطبعة الأولى: 1422 هـ - 2002 م رقم الإيداع بدار الكتب المصرية: 14185 / 2001 الترقيم الدولي: 977-336-.52-. I بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ثُم لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يُوشِكُ الرَجُلُ مُتَّكِئًا عَلى أرِيكَتِهِ، يُحَدِّثُ بَحَدِيث مِنْ حَدِيثي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلاَل اسْتَحْلَلْنَاهُ، ومَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلاَ وإنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ مِثْلُ مَا حَرَّم اللهُ} (2) إهداء * إلى والديَّ: اللذين ربياني على مائدة القرآن، وأرشداني لدروب الخير، ووهباني للأزهر والعلم، وأدبا، وعلما، وصبرا، واحتسبا، ودفعاني للبحث دفعًا، وأنفقا كل مرتخص وغال اسأل الله عز وجل، أن يبارك فيهما، ويرزقني برَّهما، وأن يمدّ في عمرهما، ويحسن خاتمهما، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهما يوم القيامة. * إلى مشايخي وأساتذتي بكلية أصول الدين بالقاهرة، وأخص منهم بالذكر السادة الأساتذة أصحاب الفضيلة، الدكتور الشيخ إسماعيل عبد الخالق الدفتار، والدكتور الشيخ عبد المهدي عبد القادر، والدكتور الشيخ طه الدسوقي حبيشي، اسأل الله عز وجل أن يبارك في مشايخي وأساتذتي جميعًا، وان ينفع بهم الإسلام والمسلمين. * إلى زوجي: أم صلاح الدين التي لم تدخر جهدًا في مساعدتي، فواصلت مع الليل بالنهار؛ لأجل إخراج هذا الكتاب فبارك الله عز وجل فيها، وفي ولدي صلاح الدين. * إلى إخوتي: الذين وفروا لي سبُل الراحة لأتفرغ لطلب العلم؛ فبارك الله عز وجل فيهم. * إلى كل من نصحني فأحسن النصيحة، وكان عونًا لي على إخراج هذا الكتاب. * إلى كل هؤلاء أهدي باكورة أبحاثي _ وهي هذا الكتاب.

_ (1) الآية 65 من سورة النساء. (2) انظر تخريجه ص 228.

تقديم

تقديم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فإن القرآن الكريم والسنة النبوية أساس الإسلام وينبوعه، ولقد حظيا باهتمام الأمة الإسلامية اهتمامًا منقطع النظير، فخدما من كل ناحية، وبذلت الجهود في تقريبهما من كل زاوية. ومن باب العناية بالقرآن والسنة دفع شبهات أعداء الإسلام عنهما، فإن أعداء الإسلام يحاربون الإسلام من كثير من النواحي، وكان نصيب القرآن والسنة كبير، فهم يحاولون إثارة شبهات، ويحاولون انتقاد القرآن والسنة، ونصيب السنة من افتراءاتهم أكبر، فهم على طول التاريخ يحاولون اختلاق الأباطيل على السنة النبوية وعلماء الإسلام لهم بالمرصاد، يفندون افتراءاتهم، ويبينون كذبهم وزورهم. وفي أيامنا هذه طغى الكفر، وأثار أهله وأذنابهم الكثير من الشبهات التى هي في حقيقة الأمر افتراءات وأكاذيب، جاءوا بأكاذيب سابقيهم ونسجوا على منوالها ويحرفون النص ليعطي غير معناه، ويبترون النص ليفيد غير المراد منه، وإذا وجدوا حديثًا صحيحًا لا يوافق أهواءهم ادعوا أنه لا يوافق العقل، يريدون عقلهم الذي يبغض الحق والإسلام. وإذا وجدوا حديثًا ضعيفًا أو موضوعًا يوافق مرادهم ادعوا صحته وثبوته. إن طائفة من أهل الكفر وأتباعهم راحوا يثيرون الافتراءات والأباطيل ضد السنة النبوية، يظنون أنهم بذلك يبعدونها من حياة المسلمين، وجهل هؤلاء أن الإسلام بمصدريه القرآن والسنة يحفطه الله، ويوفق له من أهل العلم من يزود عنه، ويبين الحق والصواب، ويبطل الباطل مهما كثر وزاد. والحمد لله هيأ الله تبارك تعالى للسنة النبوية في أيامنا هذه عددًا من أهل العلم يبينون الحق ويبطلون الباطل، تحدثوا وكتبوا، وحاضروا وخطبوا، وسيظلون على هذا النهج إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ومن هؤلاء المدافعين عن السنة النبوية الأخ الباحث / عماد الشربيني، ففي كتابه السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام استعرض أقوال أعداء السنة النبوية، وعزا كل قول لصاحبه، وذكر مصدر كل قول، وكر على كل قول بما أبان كذبهم وافتراءهم. لقد استعرض _ وفقه الله _ شبههم، ورد عليها بالدليل القاطع والبرهان الساطع، وهو من أهل الحديث النبوي الشريف، وهذا مكنه من إيراد الدليل من كتب السنة المطهرة، يعزو الحديث لمصدره، ويبين صحته وثبوته، وله دراية باللغة، وحس بأدبها، وهذا مكنه بفضل الله من إبراز الحق في الموضوع الذي يدرسه. وأيضا للأخ عماد نفس طويل في تتبع ما قيل عن السنة النبوية من أعدائها، ودراية بتناقل افتراءاتهم، مما مكنه من إبراز تاريخ الشبهة ثم دحضها. وأسأل الله أن يتقبل من الأخ عماد عمله، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين. والحمد الله رب العالمين. 17 / 5/ 1422هـ 7 / 8 / 2001م أ. د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي أستاذ الحديث بجامعة الأزهر

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير، الحمد لله رب العالمين الذى هدانا وعلَّمنا، ومنَّ علينا، وتفضل ببلوغ المراد من خدمة سنة سيد المشرِّعين، التى فسرت الكتاب الكريم، وبينته للناس، وحياً بوحى، ونوراً بنور، فاكتمل بهما الدين القويم، والصراط المستقيم. اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب العالمين، سبحانك لا نحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، ليكون أميناً على وحيه، مبيناً لكتابه، خاتماً لأنبيائه ورسله، ولتقوم به الحجة على هذه الأمة إلى يوم الدين. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه البررة الأوفياء، أئمة الدين، وصفوة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين. ورضي الله عمن تبع سنتهم، وسلك طريقتهم، واقتفى أثرهم، ونصرهم إلى يوم الدين. ثم أما بعد فإن الله عزَّ وجلَّ بعث سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم. على فترة من الرسل، ليكون هداية للبشر جميعاً، وليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل عليه وحيين عظيمين: أولهما: كتاب الله عزَّ وجلَّ الذى وصفه بقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1) وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) .

______ (1) الآيتان 41، 42 من سورة فصلت. (2) الآية 52 من سورة الشورى

ثانيهما: السنة الغراء، والتى هى البيان لكتاب الله عزَّ وجلَّ، وهذا البيان أسنده رب العزة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.، فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) . ... ووصف رب العزة هذا البيان بأنه منزل من عنده عزَّ وجلَّ فقال: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (3) . ... ووصف تعالىهذا البيان بأنه وحى يوحى فقال عزَّ وجلَّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (4) . وبهذا البيان، كانت علاقة القرآن الكريم بالسنة المطهرة، علاقة متلازمة لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ فالسنة المطهرة كالروح للبدن، والنور للعين، بل إن الضرورة إليها أكثر من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها.

______ (1) الآية 44 من سورة النحل. (2) الآية 64 من سورة النحل. (3) الآيتان 18، 19 من سورة القيامة. (4) الآيتان 3، 4 من سورة النجم.

وبالقرآن والسنة معاً قام بناء الإسلام، وتأسست دولة الإسلام، واستمدت منهجها من المصدرين معاً. وقد كانت أمة الإسلام حتى وفاة النبى صلى الله عليه وسلم.، وصدر من عصر صحابته أمةً، على منهج واحد فى التسليم لنصوص الوحيين الكتاب والسنة، وعدم التقدم بين يديهما، ولم يعارضوا نصاً ولم يحرفوه، ولم يقبلوا قول كائنٍ من كان، إذا خالف كتاب الله عزَّ وجلَّ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. على هذا المنهج سار الصحابة الكرام، ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان، إلى أن بدأت الأقوال الشاذة، والاتجاهات المنحرفة تظهر فى ساحة الإسلام، فظهر الكلام فى القدر، والوعد والوعيد، والطعن فى الصحابة، والكلام فى صفات الله عزَّ وجلَّ وغير ذلك. فتبنى ذلك أقوام ونصروا تلك الأقوال وعضدوها، فتكونت من ذلك فرق ونحل، واحتدم بينهم الخلاف، واشتد النزاع، وبدأت الفُرقة، فلجأت كل فرقة إلى القرآن الكريم لتنصر أفكارها وتعضد أقوالها، فأعجزهم القرآن أن يجدوا فيه ما يدعم ذلك الباطل؛ فسلطوا عليه معاول التأويل، ثم انتقلوا إلى السنة ليجدوا فيها ما يتمنون، فلم يفلحوا، فوضعت هنالك أحاديث، وطعن فى أخرى، وحُرِّفَ كثير منها، وتجاسرت العقول على نصوص الوحى، فواجهتها بالرِّد والتكذيب والتحريف والتبديل. وكان لآراء تلك الفرق فى الصحابة، ونظرتهم إلى الحديث والمحدثين، ورميهم إياهم بحمل الكذب، ورواية المتناقض، وذمهم ومبالغتهم فى انتقاصهم، أكبر الأثر فيما أثير حول السنة النبوية من شبهات وقد مهدت تلك الفرق وعلى رأسها المعتزلة السبيل، وفتحوا الباب على مصراعيه، فولج منه كثير من أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى.

وإذا كانت فى القرن الثانى الهجرى هبت أعاصير عاتية تهدف إلى الإطاحة بالسنة، وإبعاد المسلمين عنها، وتشكيكهم فى طرق نقلها ورواتها ... ، فقد كانت فى القرن الثانى أيضاً العلامات البارزة فى طريق رعاية السنة النبوية الكريمة وتوثيقها ... وقيض الله تعالى أئمة كباراً فى هذا القرن، وقفوا فى وجه هذه الأعاصير يردون كيدها، حتى ارتدت سهام العابثين إلى نحورهم، وأصبحت ذكراهم فى كتب الرجال تهيج مشاعر الغضب نحوهم، والسخط عليهم من كل غيور على دينه، جزاء إثمهم وافترائهم على نبينا صلى الله عليه وسلم.، وما أقدموا عليه من تشويه سنته المطهرة. ... وما أشبه الليلة بالبارحة كما يقولون!، فقد نبتت نابتة فى عصرنا الحديث تشكك فى السنة، فى هجمة شرسة غاشمة، لم نسمع بمثلها من قبل، هجمة تكاتفت لها كل قوى الشر والبغى من الشيوعيين الملاحدة، والصليبيين، والصهاينة، ودعاة اللادينية من العلمانيين، والبهائيين، والقاديانيين، وغيرهم ممن يجمعهم معسكر العداء للإسلام وأهله، وزعمت هذه النابتة أن السنة حرفت وبدلت ... وأن أسس توثيقها كانت واهية وشكلية، ولم تنهض بعبء الحفاظ عليها. ومن المؤسف حقاً أن يكون من بين أبناء الإسلام من يزعم بصريح اللفظ: لا حجة فى السنة، إنما الحجة فى القرآن وحده دون سواه، وقد وجدنا بعضاً من هؤلاء فى لاهور بباكستان، وسمت نفسها جماعة القرآن، وهى أعدى أعدائه، إذ تتهجم على تفسيره.وهى لا تعرف من العربية حرفاً واحداً، وتعتمد على تراجم شائهة.وتعتبر ما فيها هو الحجة من غير احتياج لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن هؤلاء إن استقام لهم طريقهم لأدى ذلك إلى أن يصاب القرآن بما أصيبت به الكتب السابقة، إذ اعتراها التغيير والتبديل بسبب التراجم، وضاع الأصل.

عدة أهداف منها

وقد وجدنا مثل هذا الفريق فى مصر، وبعضهم يتبوأ مراكز علمية عالية، ويتستر وراء بعض الألقاب كمستشار، أو دكتور، أو مفكر إسلامى ... إلخ، وقد قمت بصحبة بعضهم، للاطلاع على أحوالهم وأساليبهم فى الكيد للسنة المطهرة، ورأيت كيف يخططون وينسقون مع بعضهم البعض، ورأيت كيف يستمدون المعونة ممن يكيدون لديننا ولأمتنا الإسلامية ليل نهار. من أعداء الإسلام الظاهرين، فالتقوا جميعاً على هجوم شرس غاشم على السنة المطهرة. ومن الواضح أن المؤامرات العدائية للإسلام تلبس فى كل عصر لبوسها، فهى حين يكون المسلمون أقوياء تأخذ طريق التهديم الفكرى والخلقى، والاجتماعى، وحين يكونون ضعفاء تتخذ طريق الحرب والتجمع، وتستهدف الإبادة والإفناء، فإذا عجزت طريق الحرب عن تحقيق أهدافها، انقلبت إلى طريق فكرى خداع، تستهوى عقول الغافلين أو المغفلين، فينبت للإسلام فى داخل أسواره نابتة تنحرف شيئاً فشيئاً عن عقيدة الإسلام السمحة، المشرقة، حتى تنتهى إلى عقائد، وأفكار تخالف المبادئ الأساسية للإسلام، وتحقق الأهداف الرئيسية التى يسعى إليها أعداؤه، من حيث أنهم لا علاقة لهم بهذا التخريب والتهديم. والذى يمكن أن أقرره هنا ... أن علل الأمة وأدواءها، لا تأتيها من الخارج بمقدار ما تأتيها من الداخل، ومن نفسها قبل غيرها. ولله در من قال: ما أخشى على المسلمين إلا من المسلمين، ما أخشى من الأجانب كما أخشى من المسلمين، وهو كلام أصاب كبد الحقيقة (1) . فالخطر الأكبر من هذا الهجوم الشرس على السنة المطهرة فى عصرنا يأتى ممن ينتسبون إلى الإسلام، ممن هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وهذا ما دفعنى إلى اختيار موضوع هذا الكتاب "السنة النبوية فى كتابات أعداء الإسلام فى الكتابات العربية". وقد هدفت من كتابته إلى عدة أهداف منها:

__ (1) لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ لشكيب أرسلان ص 67.

أولاً: كثرة الأعاصير التى تهب فى وجه السنة النبوية من جميع أنحاء الدنيا، مستهدفة محو أثرها، وقلع جذورها، حتى يفقد المسلمون الصورة التطبيقية الحقيقية لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.، وبذلك يفقد الإسلام أكبر عناصر قوته. فأحببت أن تكون لى مشاركة فى صد تلك الأعاصير، وإيقاف زحفها مع من بذلوا جهوداً فى الدفاع عن السنة لحماية حصنها من التهديم والتخريب، راجياً بذلك المثوبة من الله تعالى. ثانياً: بيان أن السنة حجة لا نزاع فيها بين المسلمين، وأنها ضرورة دينية، ومن أنكر حجيتها بشروطها المعروفة فى الأصول كفر، وخرج عن دائرة الإسلام. ثالثاً: أن يكون هذا البحث هادياً لمن تأثر من أبناء الإسلام بشبهات أعداء السنة، وأساليبهم فى الكيد لها، مما يوجب على من عرف الحق أن يأخذ بأيديهم إلى بر الأمان. رابعاً: إرادة الإسهام فى كشف القناع عن أساليب، وحقيقة أعداء السنة، من أهل الأهواء والبدع قديماً، من الخوارج، والشيعة، والمعتزلة، ومن أحيا فكرهم فى العصر الحديث من المستشرقين، وأذيالهم من دعاة اللادينية من العلمانيين، والبهائيين، والقاديانيين ... فلا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية، ولا يستبين الحق أو الرشد من لم يتبين الباطل أو الغى. كذلك لا ينافح عن الإسلام من لم يعرف أعداءه ومحاربيه، ومن لم يدرس خططهم، وأساليبهم، ولا يقدر على الحرب من لم يتعرف أرض المعركة. وإنها معركة ليست أقل من المعارك الحربية التى خاضها المسلمون، ولا يزالون فى بعض الأماكن.

إن الأخيرة قد استهدفت بالدرجة الأولى الأرض والتراب أما هذه - وهنا مكمن خطورتها- فإنها تستهدف القلب والفكر والوجدان وهى - لعمرى - أعز على الله، وأعز علينا من الأرض والتراب؟ ولا يخالجنا ذرة من شك أن الشراك التى نصبت شرها وكيدها من شبهات ساقطة، وطعون واهية، غير مستندة إلى دليل، ولا قائمة على برهان، وإنما هى مجرد قولٌ قاله، وافتراءٌ افتراه، أناس سادرون فى غيهم، للتشكيك فى حجية السنة، والتنفير من التمسك بها، والاهتداء بهديها، ليتسنى لهم القضاء عليها أولاً، ثم يخلصوا منها للقضاء على القرآن ثانياً، وبذلك يتحقق لهم من هدم الدين ما ينشدون، وقد أخبرنا الله عزَّ وجلَّ بذلك إذ يقول تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (1) ولكن وإن سَعَوا ما أمكنهم، فلن يصلوا إلى هدفهم المنشود، وغايتهم المطلوبة، بل سيظلون يتخبطون تخبطاً عشوائياً فى متاهات مظلمة كثيرة الالتواء صعبة المخرج، إلى أن يموتوا غيظاً وكمداً وحقداً؛ لأن الله عزَّ وجلَّ تكفل بحفظ دينه من كل من يريده بسوء، وحفظ أهله من كل من يريدهم بشر، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (2) . وما شأن شراذم البغى - قديماً وحديثاً - ومحاولاتهم النيل من السنة المطهرة إلا كشأن من قال عنه الأعشى بن قيس: كناطح صخرة يوماً ليوهنها ... *** ... فلم يضرها وأوهى قرَنهُ الوعَلُ وهم ببغيهم وقالتهم الكاذبة، إنما يظلمون أنفسهم ودينهم، قال تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (3) .

_____ (1) جزء من الآية 217 من سورة البقرة. (2) الآيتان 32، 33 من سورة التوبة. (3) جزء من الآية 227 من سورة الشعراء.

خطة البحث:

خطة البحث: نظراً لتعدد جوانب الموضوع وتشعبها، وكثرة الشُبه وتداخلها، فقد تنوعت مصادره، مما حتم علىَّ مطالعة العديد من الكتب فى أنواع العلوم المختلفة، وتجميع المادة العلمية من مظانها، يستوى فى ذلك كتب الهجوم على السنة المطهرة، أو كتب الدفاع عنها، مما أدى إلى استنفاد جهد، ووقت ليس بالقليل. ولكن أحمد الله عزَّ وجلَّ الذى أعاننى على ذلك. وقد قسمت هذا الموضوع إلى مقدمة، وتمهيد، وثلاثة أبواب، وخاتمة: أما المقدمة فقد ضمنتها: سبب اختيار الموضوع، وأهميته، وخطة البحث ومنهج البحث فيه. أما التمهيد ففيه خمسة مباحث: المبحث الأول: كلمة فى الاصطلاح.معرفة الفوارق بين المعانى اللغوية والمعانى الاصطلاحية. المبحث الثانى: التعريف بالسنة فى مصطلح علمائها. وتحته ثلاثة مطالب: المطلب الأول: التعريف "بالسنة" و"الحديث" فى اللغة. المطلب الثانى: التعريف "بالسنة" و"الحديث" فى الاصطلاح. المطلب الثالث: شبهة حول التسمية والرد عليها. المبحث الثالث: الحديث النبوى بالسند المتصل من خصائص الأمة الإسلامية. المبحث الرابع: الحديث النبوى تاريخ الإسلام. المبحث الخامس: دراسة الحديث ضرورة لازمة لطالب العلم. أما الأبواب فهى: الباب الأول: التعريف بأعداء السنة النبوية، وفيه تمهيد وأربعة فصول: التمهيد: وفيه التعريف بأعداء لغةً وشرعاً. الفصل الأول: أعداء السنة النبوية من أهل الأهواء والبدع قديماً (الخوارج، والشيعة، والمعتزلة) الفصل الثانى: أعداء السنة النبوية من المستشرقين. الفصل الثالث: أعداء السنة النبوية من أهل الأهواء والبدع حديثاً (العلمانية، والبهائية، والقاديانية) . الفصل الرابع: أهداف أعداء الإسلام قديماً وحديثاً فى الكيد للسنة النبوية المطهرة. الباب الثانى: وسائل أعداء السنة قديماً وحديثاً فى الكيد للسنة النبوية المطهرة ويشتمل على ستة فصول: الفصل الأول: شبهات حول حجية السنة النبوية.

الفصل الثانى: وسيلتهم فى التشكيك فى حجية خبر الآحاد. الفصل الثالث: وسيلتهم فى الطعن فى رواة السنة المطهرة. الفصل الرابع: وسيلتهم فى الطعن فى الإسناد وعلوم الحديث. الفصل الخامس: وسيلتهم فى الطعن والتشكيك فى كتب السنة المطهرة. الفصل السادس: وسيلتهم فى الاعتماد على مصادر غير معتبرة فى التأريخ للسنة ورواتها. الباب الثالث: نماذج من الأحاديث الصحيحة المطعون فيها والجواب عنها. ويشتمل على تمهيد وعشرة فصول: التمهيد ويتضمن بيان: أ- طبيعة نقد الأحاديث الصحيحة عند أعدائها. ب- طبيعة الأحاديث الصحيحة المطعون فيها. الفصل الأول: حديث "إنما الأعمال بالنيات". الفصل الثانى: حديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف". الفصل الثالث: أحاديث "رؤية الله عزَّ وجلَّ" و"محاجة آدم موسى عليهما السلام" و"الشفاعة". الفصل الرابع: أحاديث "ظهور المهدى" و"خروج الدجال" و"نزول المسيح عليه السلام". الفصل الخامس: حديث عذاب القبر ونعيمه. الفصل السادس: أحاديث "خلوة النبىصلى الله عليه وسلم. بامرأة من الأنصار"، و"نوم النبى صلى الله عليه وسلم. عند أم سليم، وأم حَرَام"، وحديث "سحر النبى صلى الله عليه وسلم.": الفصل السابع: حديث رضاعة الكبير، شبهات الطاعنين فيه والرد عليها. الفصل الثامن: حديث وقوع الذباب فى الإناء. الفصل التاسع: ثمرات ونتائج الحديث الصحيح. الفصل العاشر: مضار رد الأحاديث النبوية الصحيحة. الخاتمة: وفيها نتائج هذه الدراسة، ومقترحات، وتوصيات، والفهارس العلمية للبحث. هذا ولم أتعرض لتحرير مبحث أو مطلب إلا بعد أن رجعت إلى ما أمكننى الإطلاع عليه: من الكتب المؤلفة فيه كبيرها وصغيرها: فقد يوجد فى الصغير، مالا يوجد فى الكبير، ويستوى فى ذلك كتب الهجوم على السنة أو الدفاع عنها.

منهجى فى البحث:

ولم أكتب شيئاً إلا بعد أن اعتقد صحته، واطمئن إليه، غير متأثر برأى أحد -ممن كتب فيه- كائناً من كان، معاصراً أو غير معاصر، ولم أتردد فى مخالفته متى تبين لى أنه قد اخطأ، مع بيان وجهة نظرى فى ذلك، ومع احترامى له، واعترافى بفضله، وتقديرى لعلمه، واعتقادى أنه "صاحب آيات، وسباق غايات". وقد يؤخذ علىّ: أنى قد أطلت فى بعض المباحث، أو كررت بعض العبارات، أو أظهرت فى محل إضمار، أو غير ذلك. ولكنى قصدت بهذا كله: توفية البحث حقه، وإتمام الفائدة، وزيادة الإيضاح، وعدم وقوع الناظر فى اللبس. وإذا كانت الدراسة الموضوعية الصادقة هى تلك التى تعتمد على النصوص والوثائق فقد التزمت في هذا الكتاب -إلى حد كبير- بإيرادها كشواهد ودلائل على ما عالجته من فكر ومبادئ ... منهجى فى البحث: 1- كل ما عرضته فى الكتاب من شبه ومطاعن أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً، المتضمنة الطعن فى السنة النبوية المطهرة، فإنى قرنت ذلك بالرد الحاسم الذى يبين بطلان وزيف تلك الشُبه والمطاعن معتمداً فى ذلك على نقول من كتب أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً، فعالجت الفكرة بالفكرة ووضحت قول الإمام بقول إمام آخر، فإن كان من جهد فى هذا الكتاب فإنما هو ثمرة الوقوف على أكتاف العلماء، ونتاج المربين الذين ربونا صغارًا، وحملونا كباراً، والمنة لله وحده، وهو ولى الجزاء وشكر الله للعلماء بذلهم. 2- بينت مواضع الآيات التى وردت فى الكتاب بذكر اسم السورة ورقم الآية فى الهامش، مع وضع الآية بين قوسين.

3- عزوت الأحاديث التى أوردتها فى الكتاب إلى مصادرها الأصلية من كتب السنة المعتمدة، فإن كان الحديث فى الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بالعزو إليهما، بذكر اسم الكتاب، واسم الباب، وذكر الجزء والصفحة ورقم الحديث مع البيان غالباً لدرجة الحديث من خلال أقوال أهل العلم بالحديث، إن كان الحديث من غير الصحيحين، واقتصرت على التخريج من كتب السنن الأربعة إذا كان الحديث فى غير الصحيحين، وفيما عدا ذلك اقتصر على ما يفيد ثبوت الحديث أو رده. 4- اعتمدت فى التخريج من الصحيحين على طبعتى البخارى (بشرح فتح البارى) لابن حجر، والمنهاج شرح مسلم للنووى، لصحة متون الأحاديث فى الشرحين، ولصحة عرضهما على أصول الصحيحين، وتسهيلاً للقارئ لكثرة تداول تلك الشروح، وإتماماً للفائدة بالاطلاع على فقه الحديث المخرج. 5- التزمت عند النقل من أى مرجع، أو الاستفادة منه الإشارة إلى رقم جزئه وصفحته بالإضافة إلى ذكر طبعات المراجع فى الفهرست. 6- عند النقل من فتح البارى، أو المنهاج شرح مسلم للنووى أذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الحديث الوارد فيه الكلام المنقول، تيسيراً للوصول إلى الكلام المنقول، نظراً لاختلاف رقم الصفحات تبعاً للطبعات المتعددة. 7- اكتفيت فى تراجم الأعلام من الصحابة بذكر مصادر تراجمهم بذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الترجمة، ولم أترجم لهم لعدالتهم جميعاً، ولم أخالف فى ذلك إلا فى القليل عندما تقتضى الترجمة الدفاع ضد شبهة. 8- ترجمت لكثير من الأعلام الذين جرى نقل شيء من كلامهم، مع ذكر مصادر تراجمهم، بذكر رقم الجزء والصفحة ورقم الترجمة. 9- شرحت المفردات الغريبة التى وردت فى بعض الأحاديث مستعيناً فى ذلك بكتب غريب الحديث، ومعاجم اللغة، وشروح الحديث. ثم ختمت الكتاب بفهارس سبعة هى: 1- فهرس الآيات القرآنية. 2- فهرس الأحاديث والآثار. 3- فهرس الأعلام المترجم لهم. 4- فهرس الأشعار. 5- فهرس القبائل والبلدان والفرق.

6- فهرس المصادر والمراجع. 7- فهرس الموضوعات التى اشتمل عليها الكتاب. هذا وإنى -يعلم الله- ما فرطت ولا توانيت ولا كان منى ميل إلى كسل أو ركون إلى راحة، فإن فاتنى شئ فى أثناء الكتابة، أو لم أذكر أمراً كان ينبغى ذكره، أو طرأ علىَّ سهو أو نسيان، فهذا لأن عمل الإنسان لا يخلوا من نقص مهما كانت عنايته. وعذرى فى ذلك أن الكمال المطلق لله عزَّ وجلَّ. فما كان فى الكتاب من صوابٍ، فهو من الله عزَّ وجلَّ وبتوفيقه، وما كان من خطأ فمن نفسى، ومن الشيطان، والله برىء منه ورسوله، ولله وحده الكمال والعزة والجلال. وفى الختام: أحمد الله - سبحانه وتعالى- على عونه وتوفيقه لإتمام هذا الكتاب حيث سهل لى صعبه، وذلل أمامى عقباته، وإنى لأرى لزاماً علىّ أن أسجل هنا وافر شكرى، وعظيم تقديرى، وصادق دعواتى لفضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور إسماعيل عبد الخالق الدفتار، الذى أحاطنى بنصائحه، وتوجيهاته السديدة، وإرشاداته العديدة، حتى خرج هذا الكتاب إلى حيز الوجود، فاسأل الله عزَّ وجلَّ أن يبارك فى دينه، وبدنه، وأهله، وولده، وأن يجزيه عنى وعن الإسلام خير الجزاء. ولا يفوتنى فى هذا المقام أن أقدم شكرى أيضاً: لكل من أفادنى من مشايخى وزملائى بكتاب، أو إرشاد، أو أى نوع من المساعدة ... اللهم تقبل هذا العمل خالصاً لوجهك الكريم.اللهم اجعلنى جنداً من جنود كتابك، جنداً من جنود سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.، اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا عيناً تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدماً تمشى إلى خدمتك، ولا يداً تكتب حديث رسولك، فبعزتك لا تدخلنى النار، فقد علم أهلها أنى كنت أذب عن دينك. اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم الراجى عفو ربه الغفور عماد السيد محمد إسماعيل الشربينى

تمهيد وفيه خمسة مباحث:

تمهيد وفيه خمسة مباحث: 1- المبحث الأول: كلمة فى الاصطلاح. معرفة الفوارق بين المعانى اللغوية والمعانى الاصطلاحية. 2- المبحث الثانى: التعريف بالسنة فى مصطلح علمائها. 3- المبحث الثالث: الحديث النبوى بالسند المتصل من خصائص الأمة الإسلامية 4- المبحث الرابع: الحديث النبوى تاريخ الإسلام. 5- المبحث الخامس: دراسة الحديث ضرورة لازمة لطالب العلم.

المبحث الأول:كلمة فى الاصطلاح

المبحث الأول:كلمة فى الاصطلاح معرفة الفوارق بين المعانى اللغوية والمعانى الاصطلاحية معرفة الفوارق بين المعانى فى اللغة وبينها فى الاصطلاح مبحث فى غاية الأهمية، لا سيما وقد ظهر الخلط بين هذه المعانى عند أعداء الإسلام والسنة المطهرة فى هجومهم على السنة، فهم لا يكادون يهتمون بمعرفة تلك الفروق، إما عن جهل يجرهم إلى اسوأ الأحكام وأتعس النتائج بإنكار حجية السنة المطهرة، وإما عن علم متعمد لا يهتمون ولا يبينون الفوارق بين المعانى فى اللغة وبينها فى الاصطلاح بقصد تضليل القارئ وتشكيكه فى حجية السنة المطهرة ومصدريتها التشريعية (1) . يقول أبو هلال العسكرى (2) فى كتابه (الفروق فى اللغة) : "الفرق بين الاسم العرفى والاسم الشرعى: أن الاسم الشرعى ما نقل عن أصله فى اللغة فسمى به فعل أو حكم حدث فى الشرع نحو الصلاة والزكاة والصوم والكفر والإيمان والإسلام وما يقرب من ذلك، وكانت هذه أسماء تجرى قبل الشرع على أشياء، ثم جرت فى الشرع على أشياء أخر، وكثر استعمالها حتى صارت حقيقة فيها، وصار استعمالها على الأصل مجازاً، ألا ترى أن استعمال (الصلاة) اليوم فى الدعاء مجاز، وكان هو الأصل. والاسم العرفى ما نقل عن بابه بعرف الاستعمال نحو قولنا (دابة) وذلك أنه قد صار فى العرف اسماً لبعض ما يدب وكان فى الأصل اسماً لجميعه. وعند الفقهاء أنه إذا ورد عن الله تعالى خطاب قد وقع فى اللغة لشئ واستعمل فى العرف لغيره، ووضع فى الشرع لآخر، فالواجب حمله على ما وضع فى الشرع؛ لأن ما وضع له فى اللغة قد انتقل عنه، وهو الأصل فيما استعمل فيه بالعرف أولى بذلك وإن كان الخطاب فى العرف لشئ وفى اللغة بخلافه وجب حمله على العرف، لأنه أولى، كما أن اللفظ الشرعى يحمله على ما عدل عنه، وإذا حصل الكلام مستعملاً فى الشريعة أولى على ما ذكر قبل،

_ (1) ضوابط الرواية عند المحدثين للأستاذ الصديق بشير نصر ص 25 بتصرف، وانظر السنة فى مواجهة أعدائها للدكتور طه حبيشى ص 23 وما بعدها. (2) أبو هلال العسكرى: هو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكرى، لغوى، مفسر، شاعر، أديب. من مصنفاته لحن الخاصة، والتخليص فى اللغة، والفروق، والمحاسن فى تفسير القرآن، توفى بعد سنة 395هـ. له ترجمة فى: طبقات المفسرين للسيوطى، ص 33 رقم 29، وطبقات المفسرين للداودى 1 /138 رقم 131، ومعجم الأدباء للسيوطى 3 /135، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 3 /240.

وجميع أسماء الشرع تحتاج إلى بيان نحو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاة} (1) إذ قد عرف بدليل أنه أريد بها غير ما وضعت له فى اللغة، وذلك على ضربين أحدهما يراد به ما لم يوضع له البتة نحو الصلاة والزكاة، والثانى يراد به ما وضع له فى اللغة لكنه قد جعل اسماً فى الشرع لما يقع منه على وجه مخصوص، أو يبلغ حداً مخصوصاً فصار كأنه مستعمل فى غير ما وضع له وذلك نحو الصيام والوضوء وما شاكله" (2) . فاللكلمة إذن معنيان، معنى لغوى، ومعنى شرعى، أى دلالة لغوية ودلالة اصطلاحية، وقد يكون المعنى الاصطلاحى بعيداً عن المعنى اللغوى، بل قد تكون الكلمة لها أكثر من معنى فى اللغة وأكثر من معنى فى الاصطلاح ككلمة "السنة" مثلاً. فهى فضلاً عن معانيها اللغوية المتعددة، والتى سيأتى ذكرها، لها أكثر من معنى اصطلاحى عند المحدثين، والفقهاء، والأصوليين كما سيأتى. فالذى لا يعرف هذه الفوارق الاصطلاحية لا شك واقع فى الخطأ، وسوف يضل ضلالاً مبيناً، وهذه الفوارق استغلها أعداء الإسلام والسنة المطهرة استغلالاً بشعاً ينبئ عن حقدهم الدفين على الإسلام وأهله، فنراهم فى هجومهم على السنة المطهرة يركزون على بعض معانيها اللغوية أو الاصطلاحية مهملين عن جهل تارةً، وعن علم تارة أخرى باقى معانيها الاصطلاحية بغية الوصول إلى هدفهم وغايتهم من التشكيك فى حجيتها وعدم العمل بها ومن ذلك تركيزهم على معنى السنة فى اصطلاح الفقهاء وهى ما ليس بواجب مما يمدح فاعلها ولا يذم تاركها (3) . وهذا التعميم فى تعريف السنة محض الضلال (4) ، إذ فيه صرف لهذه الكلمة عن معناها الاصطلاحى عند رجال الأصول وعلى أنها مصدر تشريعى مستقل ملازم للقرآن الكريم فى الاحتجاج،

____ (1) جزء من الآية 43 من سورة البقرة. (2) الفروق فى اللغة ص 56. (3) البحر المحيط للزركشى 1 /284، وإرشاد الفحول للشوكانى 1 /155، وأصول الفقه للشيخ محمد الخضرى ص 54، وأصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص 111. (4) انظر تعميم محمود أبو ريه لذلك فى أضواء على السنة ص 38.

وأن الأحكام التكليفية الخمسة تدور فيها، كما تدور فى القرآن الكريم بالتمام (1) . ومن المعانى اللغوية التى يركز عليها أعداء الإسلام فى تعريفهم بالسنة معناها الوارد بمعنى الطريقة والسيرة، حسنة كانت أو سيئة، ويعبرون عن ذلك المعنى بالعادة والعرف كما قال المستشرق "جولد تسيهر" (2) : "السنة هى جماع العادات والتقاليد الوراثية فى المجتمع العربى الجاهلى؛ فنقلت إلى الإسلام، فأصابها تعديل جوهرى عند انتقالها، ثم أنشأ المسلمون من المأثور من المذاهب والأقوال والأفعال والعادات لأقدم جيل من أجيال المسلمين سنة جديدة" (3) . وتابعه على ذلك سائر من جاء بعده من المستشرقين (4) . وردد هذا الكلام الدكتور على حسن عبد القادر (5) فى كتابه "نظرة عامة فى تاريخ الفقه الإسلامى" فقال: "وكان معنى السنة موجوداً فى الأوساط العربية قديماً، ويراد به الطريق الصحيح فى الحياة للفرد وللجماعة، ولم يخترع المسلمون هذا المعنى، بل كان معروفاً فى الجاهلية، وكان يسمى عندهم سنة هذه التقاليد العربية وما وافق عادة الأسلاف. وقد بقى هذا المعنى فى الإسلام فى المدارس القديمة فى الحجاز، وفى العراق أيضاً، بهذا المعنى العام يعنى العمل القائم، والأمر المجتمع عليه فى الأوساط الإسلامية والمثل الأعلى للسلوك الصحيح من غير أن يختص ذلك بسنة النبى صلى الله عليه وسلم.

____ (1) ضوابط الرواية عند المحدثين ص 25، 26 بتصرف. (2) جولد تسيهر: مستشرق مجرى يهودى، رحل إلى سورية وفلسطين ومصر، ولازم بعض علماء الأزهر. له تصانيف باللغات الألمانية والإنكليزية والفرنسية. ترجم بعضها إلى العربية، قال الدكتور السباعى: "عرف بعدائه للإسلام وبخطورة كتاباته عنه، ومن محررى دائرة المعارف الإسلامية" كتب عن القرآن والحديث، ومن كتبه: "تاريخ مذاهب النتفسير الإسلامى" و"العقيدة والشريعة فى الإسلام" و "فضائح الباطنية" وغير ذلك مات سنة 1921م له ترجمة فى: الأعلام للزركلى 1 /284، والاستشراق للدكتور/ للسباعى ص 31-32، وأراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره للدكتور عمر إبراهيم 1 /161 - 162. (3) العقيدة والشريعة فى الإسلام ص 49، 251. (4) دائرة المعارف الإسلامية 7 /330، وانظر دراسات فى الحديث للدكتور الأعظمى 1 /5-11، ومنهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 62، 122، 123. (5) على حسن عبد القادر: أستاذ تاريخ التشريع الإسلامى، حاصل على العالمية فى الفلسفة من ألمانيا، ومجاز من كلية أصول الدين فى قسم التاريخ، وعميد كلية الشريعة بالأزهر الشريف سابقاً، من مؤلفاته: نظرة عامة فى تاريخ الفقه الإسلامى.

وأخيراً حدد هذا المعنى، وجعلت السنة مقصورة على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. ويرجع هذا التحديد إلى أواخر القرن الثانى الهجرى، بسبب طريقة الإمام الشافعى التى خالف بها الاصطلاح القديم (1) . وأقول: نعم، لفظ السنة ومعناها كان معروفاً فى لغة العرب قبل الإسلام ولم يخترع المسلمون هذه الكلمة ولا معناها، ولكن ليس الأمر كما زعم المستشرقون والدكتور على حسن عبد القادر من أن معنى السنة فى صدر الإسلام العادة والعرف (2) الجاهلى، أو أنها الطريق الصحيح فقط، وإنما تشمل الطريق الصحيح وغير الصحيح على رأى جمهور علماء اللغة، ويؤيدهم فى الإطلاق القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والأشعار الجاهلية على ما سيأتى. كما أن استعمال القرآن الكريم والسنة المطهرة لكلمة السنة بالمعنى اللغوى لا يعنى ذلك أن هذا المعنى اللغوى (الطريقة) أو (السيرة) أو (العادة) هو المراد شرعاً بالسنة، فهذه الكلمة انتقلت من معناها اللغوى إلى المعنى الاصطلاحى (سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشاملة لأقواله وأفعاله وتقريراته وصفاته الخِلْقِية والخُلُقِية ... ) وهى بهذا المعنى مصدر تشريعى ملازم للقرآن الكريم لا ينفك أحدهما عن الآخر. وهذا المعنى الاصطلاحى لكلمة السنة كان محدداً ومعلوماً فى صدر الإسلام والنبى صلى الله عليه وسلم. بين ظهرانى أصحابه (3) رضي الله عنهم، وليس الأمر كما زعم الدكتور حسن تابعاً للمستشرقين أن هذا المعنى الاصطلاحى للسنة تحدد فى آواخر القرن الثانى الهجرى.... ومن المعانى اللغوية التى يركز عليها أعداء الإسلام فى تعريفهم بالسنة معناها الوارد بمعنى الطريقة، ثم يعرفون السنة النبوية؛ بأنها الطريقة العملية أو السنة العملية، أما أقواله وتقريراته وصفاته صلى الله عليه وسلم. فليست من السنة، وإطلاق لفظ حديث أو سنة على ذلك إنما هو فى نظرهم اصطلاح مستحدث من المحدثين ولا تعرفه اللغة ولا يستعمل فى أدبها،

__ (1) نظرة عامة فى تاريخ الفقه الإسلامى ص 122، 123. (2) يصح تعريف السنة بالعادة والعرف، ولكن المراد بالعادة فى هذه الحالة عادة الرسول صلى الله عليه وسلم. أى ما عمله أو أقره أو رآه فلم ينكره، وهى فى هذه الحالة من الدين. كما تطلق أيضاً على السيرة العملية لحياة الصحابة رضي الله عنهم ولا تعنى العادة والعرف السائد فى الجاهلية كما يوهمه كلام جولد تسيهر ومن قال بقوله انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص49-51، والمدخل إلى السنة النبوية لأستاذنا الفاضل الدكتور عبد المهدى عبد القادر ص25،26. (3) ستأتى الأحاديث التى تشهد بذلك انظر: ص 43، 44، 45.

هكذا زعم محمود أبو ريه (1) فى كتابه (أضواء على السنة المحمدية) (2) تبعاً للدكتور توفيق صدقى (3) . وفى ذلك أيضاً يقول الدكتور المهندس محمد شحرور (4) فى كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، "إن ما اصطلح على تسميته بالسنة النبوية إنما هو حياة النبى صلى الله عليه وسلم. كنبى وكائن إنسانى عاش حياته فى الواقع، بل فى الصميم منه، وليس فى عالم الوهم". وفى موضع آخر يقول: "من هنا يأتى التعريف الخاطئ برأينا للسنة النبوية بأنها كل ما صدر عن النبى صلى الله عليه وسلم. من قول ومن فعل أو أمر أو نهى أو إقرار. علماً بأن هذا التعريف للسنة ليس تعريف النبى صلى الله عليه وسلم. نفسه، وبالتالى فهو قابل للنقاش والأخذ والرد وهذا التعريف كان سبباً فى تحنيط الإسلام، علماً بأن النبى صلى الله عليه وسلم. وصحابته لم يعرفوا السنة بهذا الشكل، وتصرفات عمر بن الخطاب تؤكد ذلك" (5) . ويقول نيازى عز الدين (6) :

_____ (1) محمود أبو ريه: كاتب مصرى كان منتسباً إلى الأزهر فى صدر شبابه، فلما انتقل إلى مرحلة الثانوية الأزهرية أعياه أن ينجح فيها، أكثر من مرة، فعمل مصححاً للأخطاء المطبعية بجريدة فى بلده، ثم موظفاً فى دائرة البلدية حتى أحيل إلى التقاعد. من مصنفاته التى طعن فيها فى السنة والصحابة، أضواء على السنة، وقصة الحديث المحمدى، شيخ المضيرة (أبو هريرة) انظر: السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 466. (2) أضواء على السنة ص 39. (3) الدكتور توفيق صدقى: هو الدكتور محمد توفيق صدقى طبيب بمصلحة السجون بالقاهرة، كتب مقالات فى مجلة المنار بعنوان "الإسلام هو القرآن وحده" مات سنة 1920م، ترجم له الشيخ محمد رشيد رضا فى مجلة المنار المجلد 21/483 وما بعدها، وانظر: مجلة المنار المجلد 11 /774. (4) محمد شحرور: كاتب سورى معاصر، حاصل على الدكتوراه فى الهندسة من الجامعة القومية الإيرلندية فى دبلن. من مؤلفاته: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، والإسلام والإيمان منظومة القيم، والدولة والمجتمع. (5) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 546-548. (6) نيازى عز الدين: كاتب سورى معاصر، هاجر إلى أمريكا. من مؤلفاته: إنذار من السماء، ودين السلطان، الذى زعم فيه أن السنة المطهرة وضعها أئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين لتثبيت ملك السلطان ومعاوية رضي الله عنه وصار على دربه علماء المسلمين إلى يومنا هذا.

"رجال الدين فى القرن الثالث الهجرى عرفوا السنة وأضافوا إليها أموراً هى من اجتهادهم، فقد قالوا فى تعريفها: "هى كل ما أُثِرَ عن النبى صلى الله عليه وسلم. من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خِلْقِية أو خُلُقِية أو سيرة سواء كان ذلك قبل البعثة "كتحنثه فى غار حراء" أم بعدها. وهذا التعريف الموسع الذى أتى فى عصر متأخر عن عصر الرسولصلى الله عليه وسلم. وصحابته قد جر البلاء على الإسلام. وفى موضع آخر يقول: "وإن أغلب الذين أدخلوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وأفعاله وتصرفاته الخاصة فى الدين فعلوها وهم يعلمون أنهم يفعلون الممنوع، ويقعون فى المعصية، لكن الهوى والشيطان كانا أقوى من الإيمان فى تلك الفترة، ففعل الشيطان ما يريد" (1) . ومن المعانى اللغوية التى يركزون عليها فى تشكيكهم فى السنة المطهرة معناها الوارد فى القرآن الكريم بمعنى أمر الله عزَّ وجلَّ ونهيه وسائر أحكامه وطريقته، ويقولون: لا سنة سوى سنة الله عزَّ وجلَّ الواردة فى كتابه العزيز، وأنه مستحيل أن يكون لرسول الله سنة، ويكون لله عزَّ وجلَّ سنة، فيشرك الرسول نفسه مع الله عزَّ وجلَّ. ... وفى ذلك يقول محمد نجيب (2) فى كتابه (الصلاة) : القرآن وما فيه من آيات هو سنة الله التى سنها وفرضها نظاماً للوجود، واتبعها الله نفسه؛ فهى سنة الله ... وليس من المعقول أن يكون للرسول سنة ويكون لله سنة، فيشرك الرسول نفسه مع الله ويكون لكلاهما سنة خاصة وهو أمر مستحيل أن يحصل من مؤمن ومن رسول على الأخص، فما كان لبشرٍ آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يترك حكم الله وسنته، ويطلب من الناس أن تتبع ما يسنه هو من أحكام، وليس ذلك إن حَصُلَ إلا استكباراً فى الأرض، وتعالٍ على الله. يقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (3) {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (4) . وهذا يؤكد وجوب الرجوع لكتاب الله وحده جماع سنة الله (5) أ. هـ.

____ (1) إنذار من السماء ص 40، 111. (2) محمد نجيب كاتب معاصر. من مؤلفاته (الصلاة) أنكر فيه السنة المطهرة، وزعم أن تفاصيل الصلاة واردة فى القرآن الكريم.والكتاب صادر عن ندوة أنصار القرآن، نشر دائرة المعارف العلمية الإسلامية. (3) الآية 79 من سورة آل عمران. (4) الآيتان 42، 43 من سورة فاطر. (5) الصلاة ص 276، 277.

وفى ذلك أيضاً يقول أحمد صبحى منصور (1) فى كتابه (حد الردة) معرفاً بالسنة الحقيقية قائلاً: "سنة الله تعالى هى سنة رسوله عليه السلام ... ، الله تعالى ينزل الشرع وحياً، والرسول يبلغه وينفذه، ويكون النبى أول الناس طاعة واتباعاً لأوامر الله تعالى. والله تعالى أمر النبى بأن يقول {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (2) . والإيمان بالرسول معناه الإيمان بكل ما نزل عليه من القرآن والإيمان بأنه اتبع ذلك الوحى وطبقه، وكان أول الناس إيماناً به وتنفيذاً له (3) . ويقول قاسم أحمد (4) فى كتابه (إعادة تقييم الحديث) : "إنه بالنظر إلى استخدام كلمتى السنة والحديث فى القرآن والذى يعطينا معلومات شيقة، نجد أن كلمة "سنة" تشير فى القرآن إلى النظام أو الناموس الآلهى وإلى مثال الأمم السابقة التى لقيت مصيرها. فلم يشر القرآن إلى أن السنة هى سلوك النبى، وهذان الاستخدامان تشير إليهما الآيتان التاليتان: ... {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (5) {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (6) . فكلمة "حديث" استخدمت فى القرآن بمعنى "الأخبار" و"القصص" و"الرسالة" و"الشئ" وقد ذكرت ستاً وثلاثين مرة فى مواضع لغوية مختلفة، ولا يشير أى منها إلى ما يعرف بالحديث النبوى. فعلى العكس وردت فى عشرة مواضع من الآيات البينات تشير إلى القرآن وتستبعد بشدة أى حديث إلى جانب القرآن منها هذه الآيات {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (7)

____ (1) أحمد صبحى منصور تخرج فى الأزهر وحصل على العالمية فى التاريخ من الجامعة وتبرأ من السنة فتبرأت منه الجامعة، سافر إلى أمريكا وعمل مع المتنبئ رشاد خليفة، يحاضر بالجامعة الأمريكية بمصر، ومدير رواق بن خلدون بالمقطم. من مصنفاته: الأنبياء فى القرآن، والمسلم العاصى، وعذاب القبر والثعبان الأقرع، ولماذا القرآن، باسم مستعار وهو عبد الله الخليفة. انظر قصته هو ورشاد خليفة فى كتابى مسيلمة فى مسجد توسان، والدفاع عن السنة الجزء الأول من سلسة "الإسلام واستمرار المؤامرة كلاهما لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى. (2) جزء من الآية 9 من سورة الأحقاف. (3) حد الردة ص 40. (4) قاسم أحمد كاتب ماليزى معاصر، ورئيس الحزب الاشتراكى الماليزى -سابقاً-. من مؤلفاته: إعادة تقييم الحديث، أنكر فيه حجية السنة المطهرة. (5) الآية 23 من سورة الفتح. (6) الآية 38 من سورة الأنفال. (7) جزء من الآية 23 من سورة الزمر.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) . هذا والذى زعمه أعداء السنة المطهرة فى تعريفهم بالسنة النبوية من أنها الطريقة العملية أو السنة العملية، أو هى سنة الله عزَّ وجلَّ. وأن تعريف السنة النبوية بأنها "كل ما صدر عن النبى صلى الله عليه وسلم. من قول أو فعل أو تقرير أو صفة ... " اصطلاح مستحدث من المحدثين ولم يعرفه النبى صلى الله عليه وسلم. ولا أصحابه رضي الله عنهم بل كان هذا التعريف سبباً فى تحنيط الإسلام. هذا الزعم الكاذب إنما يدل على ما سبق وأن ذكرته من أن هؤلاء الأعداء يخلطون بين المعانى فى اللغة وبينها فى الاصطلاح، ولا يهتمون بمعرفتها ولا ببيانها إما عن جهل، وإما عن علم بقصد خداع القارئ وتضليله وتشكيكه فى حجية السنة وفى علمائها الذين قيدهم رب العزة لحفظها من التغيير والتبديل تماماً بتمام، كما قيض لكتابه العزيز من يحفظه من العلماء الأفذاذ. لذا كان لزاماً علينا بيان الفوارق بين معانى (السنة والحديث) فى اللغة وبينها فى الاصطلاح، حيث سيتضح جلياً صدق ما ذكرته من خلطهم وعدم اهتمامهم بتلك الفوارق عن جهل تارة، وعن علم تارة أخرى، كما سيتضح أن السنة النبوية بتعريفها المعلوم عند المحدثين والأصوليين والفقهاء، كان مقصوداً من النبى صلى الله عليه وسلم. ومعلوماً للصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - وأن هذا التعريف للسنة المطهرة كان سبباً فى عزة الإسلام وأهله، وليس سبباً فى تحنيطه كما يزعم أعداءُ الإسلام. كما سيتضح أيضاً أن مصطلح السنة ومصطلح الحديث كانا مترادفين زمن النبوة المباركة وزمن الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم رضي الله عنهم وعلى ذلك علماء الشرع الحنيف، خلافاً لأعداء الإسلام الزاعمين: أن مصطلح السنة غير مصطلح الحديث، وأنهما يجب أن يكونا متميزين عن بعضهما فإلى بيان ذلك.

__ (1) الآية 6 من سورة لقمان، وانظر: إعادة تقييم الحديث ص 77، 78، واستشهاده بهذه الآية على أن لفظ الحديث هو القرآن استشهاد باطل فـ (لهو الحديث) هنا الأقاصيص والأساطير، انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/441.

المبحث الثانى: التعريف بالسنة فى مصطلح علمائها

المبحث الثانى: التعريف بالسنة فى مصطلح علمائها ... وتحته ثلاثة مطالب: المطلب الأول: التعريف "بالسنة" و"الحديث" فى اللغة. المطلب الثانى: التعريف "بالسنة" و"الحديث" فى الاصطلاح. المطلب الثالث: شبهة حول التسمية والرد عليها. المطلب الأول: التعريف "بالسنة" و "الحديث" فى اللغة تطلق السنة فى اللغة على عدة معان منها: 1- ما يدل على الصقالة والملامسة، ومن ذلك إطلاقها على الوجه أو دائرته، أو صورته، وبهذا المعنى وردت فى أشعار العرب قال الأعشى (1) : كريماً شمائله من بنى *** معاوية الأكرمين السنن حيث أراد بقوله "الأكرمين السنن" الأكرمين الوجوه. وقال ذو الرمة (2) : تريك سنة وجه غير مقرفة *** ملساء ليس لها خال ولا ندب حيث أراد بقوله "تريك سنة وجه" تريك دائرة وجهها. وقال ثعلب (3) : بيضاء فى المرآة سنتها *** فى البيت تحت مواضع اللمس حيث أراد بقوله: "فى المرآة سنتها" فى المرآة صورتها (4) . 2- كذلك ترد السنة بمعنى: السيرة المستمرة، والطريقة المستقيمة، سواء حسنة كانت أم سيئة (5) ، وأصلها اللغوى مأخوذ من قولك: سننت الماء إذا واليت صبه، وفى لسان العرب: سن عليه الماء: صبه، وقيل: أرسله إرسالاً ليناً ... وسن الماء على وجهه، أى: صبه عليه صباً سهلاً.

___ (1) الأعشى: هو ميمون بن قيس بن جندل، ينتهى نسبه إلى بكر بن وائل من ربيعة، لقب بالأعشى لسوء بصره، وكنى يأبى البصير تفاؤلاً بالشفاء، أو لنفاذ بصره، وسمى "صناجة العرب" لأنه كان يتغنى بشعره، وتوفى سنة 7هـ له ترجمة فى: الشعر والشعراء لابن قتيبة 1 /257 رقم21، والعقد الفريد لابن عبد ربه 3 /356، وأدباء العرب لبطرس البستانى 1 /212. (2) ذو الرمة: ذو الرُّمَة أو الرَّمَة، أبو الحارث غيلان بن بهيس بن مسعود بن عدى، له ديوان شعر مطبوع فى مجلد ضخم، وتوفى سنة 117هـ له ترجمة فى: الأعلام للزركلى 5 /319، وفيات الأعيان لابن خلكان 4 /11 - 17 رقم 523، والشعر والشعراء لابن قتيبة 1 /524 رقم 94 (3) ثعلب: هو أبو العباس أحمد بن يحيى بن سيار الشيبانى بالولاء، إمام الكوفة فى النحو واللغة، من كتبه "الفصيح" له ترجمة فى الأعلام للزركلى 1 /252، وبغية الوعاة للسيوطى 1 /396 - 398 رقم 787. (4) لسان العرب لابن منظور 13 /224، والقاموس المحيط للفيروزآبادى 4 /233، والمعجم الوسيط لإبراهيم أنيس وآخرون 1 /445 - 446. (5) مختار الصحاح للرازى ص 317، ولسان العرب 13 /225، والقاموس المحيط 4 /239، والمعجم الوسيط 1 /456.

قال الجَوْهَرىُّ (1) : سننت الماء على وجهى: أى أرسلته إرسالاً من غير تفريق ... والسنن: الصب فى سهولة ... وفى حديث عمرو بن العاص (2) رضي الله عنه عند موته: "فسنوا على التراب سناً" (3) أى ضعوه وضعاً سهلاً (4) فشبهت العرب الطريقة المتبعة، والسيرة المستمرة بالشئ المصبوب، لتوالى أجزائه على نهج واحد، ومن هذا المعنى قول خالد بن عتبة الهذلى: فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها *** فأول راضٍ سنة من يسيرها (5) وبهذا الإطلاق اللغوى جاءت كلمة السنة فى القرآن الكريم، قال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} (6) وقال تعالى {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ... الآية} (7) . كما جاءت أيضاً فى السنة النبوية بهذا المعنى، قال صلى الله عليه وسلم. "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" (8)

______ (1) الجَوْهَرىُّ: هو إسماعيل بن حماد التركى الجوهرى، يكنى: أبا نصر الفرابى، كان إماماً فى اللغة والأدب، وهو صاحب الصحاح فى اللغة، توفى سنة 393هـ له ترجمة فى: مرآة الجنان: 2 /446، ولسان الميزان لابن حجر 1 /614 رقم 1273، وشذرات الذهب لابن العماد 3 /141، والوافى بالوفيات9 /111 رقم 4028، وإنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطى 1 /194. (2) عمرو بن العاص: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 3 /2 رقم 5897، والاستيعاب 3 /1184 رقم 1931، واسد الغابة 4 /232 - 235 رقم 3971، وتاريخ الصحابة ص173 رقم 884، ومشاهير علماء الأمصار ص 71 رقم 376 (3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج 1 /414 رقم 121، وأحمد فى مسند 4 /199. (4) لسان العرب 13 /227، والقاموس المحيط 4 /239، والمعجم الوسيط 1 /455، 456. (5) لسان العرب لابن منظور 13 /225. (6) الآية 77 من سورة الإسراء. (7) الآية 55 من سورة الكهف. (8) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة 4 /110، 111 رقم 1017، وأخرجه فى كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة 8 /479 رقم1017 من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.

وقال صلى الله عليه وسلم. "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع" (1) . وهكذا فإن العرب تطلق على كل من ابتدأ أمراً عمل به قوم من بعده، بأنه هو الذى سنه، ومن هذا المعنى قول نصيب: كأننى سننت الحب أول عاشق *** من الناس إذا أحببت من بينهم وحدى وخصها بعض أهل اللغة بالطريقة المستقيمة الحسنة دون غيرها، ولذلك قيل: فلان من أهل السنة (2) . والحق هو ما عليه جمهور أهل اللغة ويؤيدهم فى الإطلاق الآيات والأحاديث السابق ذكرها وقول خالد الهذلى المتقدم (3) . والعلاقة بين المعنيين (اللغوى والاصطلاحى) ظاهرة؛ لأن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. من قول، أو فعل، أو تقرير أو ... إلخ. طريقة متبعة عند المؤمنين ليس لهم خيرة فى أمره صلى الله عليه وسلم. كما قال رب العزة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} (4) . قال الدكتور همام عبد الرحيم سعيد: "وسنة النبى صلى الله عليه وسلم. تحمل هذه المعانى اللغوية، لما فيها من جريان الأحكام واطرادها، وصقل الحياة الإنسانية بها، فيكون وجه المجتمع السائر على هديها ناضراً بخيرها وبركتها، ويستفاد من المعانى اللغوية أن السنة فيها معنى التكرار والاعتياد، وفيها معنى التقويم، وإمرار الشئ على الشئ من أجل إحداده وصقله (5) . 3- كما ترد "السنة" بمعنى العناية بالشئ ورعايته، يقال: سن الإبل إذا أحسن رعايتها، والعناية بها (6) .

_ (1) متفق عليه من حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه: البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الاعتصام بالسنة، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم، لتتبعن سنن من كان قبلكم 13 /312 رقم 7320، ومسلم (بشرح النووى) كتاب العلم، باب إتباع سنن اليهود والنصارى 8 /472 رقم 2669 (2) إرشاد الفحول للشوكانى 1 /155، ولسان العرب لابن منظور 13 /225، والمعجم الوسيط لإبراهيم أنيس وآخرون 1 /455 (3) حجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 46 (4) الآية 36 من سورة الأحزاب، وانظر: الحديث النبوى للدكتور محمد الصباغ ص 139 (5) الفكر المنهجى عند المحدثين ص 27 (6) لسان العرب 13 /225، والقاموس المحيط 4 /233

والفعل الذى داوم عليه النبى صلى الله عليه وسلم. سمى سنة بمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم. أحسن رعايته وإدامته (1) . 4- كما ترد "السنة" بمعنى البيان، يقال: سن الأمر، أى بينه، وفى الحديث "إنى لأنسى أو أنسى لأسن" (2) أى إنما أدفع إلى النسيان لأسوق الناس بالهداية إلى طريق مستقيم، وأبين لهم ما يحتاجون أن يفعلوا إذا عرض لهم النسيان (3) . 5- وتستعمل "السنة" أيضاً بمعنى دين الله تعالى الذى هو أمره ونهيه وسائر أحكامه (4) . 6- وقال الطبرى (5) :"السنة" هى المثال المتبع، والأمام المؤتم به، ومنه قول لبيد بن ربيعة (6) : من معشر سنت لهم آباؤهم *** ولكل قوم سنة وإمامها (7) 7- ونقل القرطبى (8) ، عن المفضل (9) أن "السنة" الأمة، وأنشد:

__ (1) مفاتيح الغيب للفخر الرازى 3 /54 (2) أخرجه مالك فى الموطأ كتاب السهو، باب العمل فى السهو1 /100رقم 2، قال ابن عبد البر لا أعلم هذا الحديث روى عن النبى صلى الله عليه وسلم مسنداً ولا مقطوعاً، من غير هذا الوجه، وهو أحد الأحاديث الأربعة التى فى الموطأ، التى لا توجد فى غيره مسنده ولا مرسله0 ومعناه صحيح فى الأصول (3) لسان العرب 13 /225، والقاموس المحيط 4 /233، والمعجم الوسيط 1 /455 (4) القاموس المحيط 4 /239، والمعجم الوسيط 1 /456 (5) الطبرى: هو محمد بن جرير بن زيد، الطبرى، أبو محمد، صاحب التفسير الكبير، والتاريخ الشهير، كان من الأئمة المجتهدين، ولم يقلد أحداً، وكان إماماً فى فنون كثيرة منها: التفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ وغير ذلك، توفى سنة 310هـ. له ترجمة فى: تاريخ بغداد للخطيب البغدادى 2 /162 رقم 589، ووفيات الأعيان 4 /191، 192 رقم 570،وطبقات المفسرين للداودى 2 /110-118 رقم 468،وطبقات المفسرين للسيوطى، ص 82 رقم 93، وشذرات الذهب لابن العماد2 /260، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير1 /222رقم 23 (6) لبيد: هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامرى، كان أبوه يعرف بربيعة المقترين لجوده وسخائه، فنشأ لبيد كريماً مثله، توفى سنة 41هـ. له ترجمة فى: الأعلام للزركلى 6 /104، والشعر والشعراء لابن قتيبة 1 /274 - 285 رقم 25، ومرآة الجنان لليافعى 1 /119، وأدباء العرب لبطرس البستانى 1 /144 - 151 (7) جامع البيان فى تأويل آى القرآن 4 /100 (8) القرطبى: هو محمد بن أحمد بن أبى بكر بن فرح الأنصارى الخزرجى المالكى أبو عبد الله القرطبى، كان مفسراً، ورعاً، زاهداً، متقناً متبحراً، من مصنفاته "الجامع لأحكام القرآن" و"شرح الأسماء الحسنى"توفى سنة671هـ. له ترجمة فى: طبقات المفسرين للداودى 2 /69-70 رقم 434،وطبقات المفسرين للسيوطى ص79 رقم 88، وشذرات الذهب 5 /235، والديباج المذهب لابن فرحون 406رقم 549، وشجرة النور الزكية محمد مخلوف ص197 رقم 666 (9) المفضل: هو المفضل بن سلمة بن عاصم، أبو طالب، لغوى، عالم بالأدب، من مؤلفاته الفاخر فيما تلحن به العامة و"جماهير القبائل" توفى سنة 290 0 له ترجمة فى: تاريخ بغداد للخطيب البغدادى 13 /124 رقم 7109، ووفيات الأعيان لابن خلكان 4 /205، 206 رقم 579 فى ترجمة ابنه محمد بن الفضل، وبغية الوعاة للسيوطى 2 /296 رقم 2013

التعريف بالحديث لغة:

ما عاين الناس من فضل كفضلهم *** ولا رأوا مثلهم فى سالف السنن (1) 8- ونقل الشوكانى (2) ، عن الكسائى (3) أن "السنة" الدوام (4) . خلاصة القول كما يقول الدكتور محمد مصطفى الأعظمى: إن السنة معناها فى اللغة "الطريقة" و"العادة" و"السيرة" سواء كانت سيئة أو حسنة، وقد استعملها الإسلام (القرآن والنبى صلى الله عليه وسلم.) فى معناها اللغوى كما رأينا فى الآيات والأحاديث السابقة، ثم خصصها الإسلام بطريقة النبى صلى الله عليه وسلم. وطريقة أصحابهرضي الله عنهم كما سيأتى فى تعريف السنة اصطلاحاً، وليس معنى هذا أن معناها اللغوى قد بطل أو انعدم بل بقى استعمالها ولكن فى نطاق ضيق (5) . التعريف بالحديث لغة: "الحديث" فى اللغة: الجديد ضد القديم ومادة الكلمة "حدث" تدور حول معنى واحد وهو كون الشئ بعد أن لم يكن، والحديث كلام يحدث منه الشئ بعد الشئ، بعد أن لم يكن (6) . وإنما سميت الكلمات والعبارات حديثاً؛ لأن الكلمات إنما تتركب من الحروف المتعاقبة المتوالية، وكل واحد من تلك الحروف يحدث عقب صاحبه، أو لأن سماعها يحدث فى القلوب من المعانى والعلوم الشئ الكثير قال تعالى {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} (7) .

__ (1) الجامع لأحكام القرآن 4 /216. (2) الشوكانى: هو محمد بن على بن محمد الشوكانى، فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن من أهل صنعاء، من مؤلفاته "فتح القدير" فى التفسير "وإرشاد الفحول" فى أصول الفقه. توفى سنة 1250هـ. له ترجمة فى: البدر الطالع للشوكانى 2 /214 - 225 رقم 482، والفتح المبين لعبد الله المراغى 3 /144 - 145، وأصول الفقه تاريخه ورجاله للدكتور شعبان إسماعيل، ص530 - 532، والرسالة المستطرفة للكتانى ص 152، والأعلام للزركلى 7/190، ومعجم المؤلفين لكحالة 11/533. (3) إرشاد الفحول 1 /155. (4) الكسائى: هو على بن حمزة الكوفى المعروف بالكسائى، أخذ القراءات عن حمزة الزيات، وقرأ النحو على معاذ الهراء كثيراً، ثم الخليل بن أحمد بالبصرة. توفى سنة 189هـ. له ترجمة فى: وفيات الأعيان لابن خلكان3/295-297 رقم 233، وبغية الوعاة للسيوطى 2 /162-164 رقم 1701، وطبقات المفسرين للداودى 1/404 - 409 رقم 349، طبقات القراء لابن الجزرى 1 /535، وطبقات القراء للذهبى 1 /100، واللباب فى تهذيب الأنساب 3 /97، والفهرست لابن النديم ص 103. (5) دراسات فى الحديث النبوى 1 /5، 11 بتصرف. (6) القاموس المحيط 1 /163. (7) الآية 34 من سورة الطور.

ويجمع الحديث على أحاديث على خلاف القياس، ويرى الفراء أن واحد الأحاديث أحدوثة، ثم جعلوه جمعاً للحديث وقال ابن برى: ليس الأمر كما زعم الفراء، لأن الأحدوثة بمعنى الأعجوبة، يقال: قد صار فلان أحدوثةً، أما أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم. فلا يكون واحدها إلا حديثاً (1) . ويرى الزمخشرى (2) : إن الأحاديث اسم جمع (3) ، وخالفه أبو حيان فى البحر (4) : فقال ليس كل الأحاديث باسم جمع، بل هو جمع تكسير للحديث على غير قياس كأباطيل، واسم الجمع لم يأت على هذا الوزن (5) ، فالراجح أنها جمعت على غير قياس ... والجمع القياسى للفظ حديث أحدثه كرغيف وأرغفة، أو حدث كقضيب وقضب (6) . قال فضيلة الأستاذ الدكتور مروان محمد شاهين: أما عن الحديث فى اللغة فله معان ثلاثة: الأول: الحديث بمعنى الجديد الذى هو ضد القديم، تقول: لبست ثوباً حديثاً أى جديداً، وقرأت كتاباً حديثاً بمعنى الجديد، وركبت سيارة حديثة تعنى سيارة جديدة. الثانى: الحديث بمعنى الخبر والنبأ مثل قوله تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} (7)

____ (1) تاج العروس للزبيدى 1 /613. (2) الزمخشرى: هو أبو القاسم، محمود بن عمر بن محمد الزمخشرى، نحوى، لغوى، معتزلى، مفسر، يلقب بجار الله لمجاورته بمكة زماناً، من مصنفاته: الكشاف عن حقائق التنزيل، والفائق فى غريب الحديث، مات سنة 538هـ. له ترجمة فى: وفيات الأعيان لابن خلكان 5 /168-174 رقم 711، وبغية الوعاة للسيوطى 2 /279 رقم 1977، وإشارة التعيين فى تراجم النحاة واللغويين لعبد الباقى اليمانى، ص 345 رقم 210، وطبقات المفسرين للسيوطى، ص48 رقم 147، وطبقات المفسرين للداودى 2 /314 رقم 625. (3) الكشاف للزمخشرى 2 /243. (4) أبو حيان: هو محمد بن يوسف بن على بن يوسف، أثير الدين أبو حيان، الغرناطى، من كبار العلماء بالعربية، والتفسير، والحديث، من مؤلفاته البحر المحيط فى التفسير، والتذكرة فى العربية، وعقد اللآلى فى القراءات. مات سنة 745هـ. له ترجمة فى ذيل تذكرة الحفاظ ص23، وطبقات الشافعية لابن السبكى 6 /31، وطبقات المفسرين للداودى 2 /287 - 291 رقم 608، وشذرات الذهب 6 /145، والأعلام 7 /153، والرسالة المستطرفة ص 101. (5) البحر المحيط لأبى حيان 5 /281 عند تفسير أول سورة يوسف. (6) بحوث فى علوم الحديث لفضيلة الأستاذ الدكتور عزت عطيه ص 10. (7) الآية 15 من سورة النازعات.

ومثل قوله عزَّ وجلَّ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة} (1) وقد ورد هذا المعنى أيضاً فى قول ربنا عزَّ وجلَّ {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} (2) . الثالث: الحديث بمعنى الكلام مثل قول الله تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (3) أى نزل أحسن الكلام، ومثل قوله سبحانه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (4) وقوله تعالى {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (5) أى إن لم يؤمنوا بالقرآن الكريم فبأى كلام بعده يؤمنون (6) . وبهذا الإطلاق اللغوى جاءت كلمة "الحديث" فى السنة المطهرة مراداً بها كلام رب العزة، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمثال ما جاء فى السنة مراداً بها كلام الله عزَّ وجلَّ ما أخرجه مسلم فى صحيحه عن جابر بن عبد الله (7) رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمدصلى الله عليه وسلم. وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ... " (8) . ومثال ما جاء فى السنة مراداً بها كلام النبى صلى الله عليه وسلم. ما أخرجه أبو داود والترمذى وابن ماجة عن زيد بن ثابت (9) رضي الله عنه قال:

_____ (1) الآية الأولى من سورة الغاشية. (2) جزء من الآية 3 من سورة التحريم. (3) جزء من الآية 23 من سورة الزمر. (4) جزء من الآية 87 من سورة النساء. (5) الآية 50 من سورة المرسلات. (6) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير ص 11. (7) جابر بن عبد الله: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 2 /45 رقم 1022، والاستيعاب 1 /219 رقم 290، واسد الغابة 1 /492 رقم 647، وتاريخ الصحابة ص 58 رقم 183، ومشاهير علماء الأمصار ص 17 رقم 25، وتذكرة الحفاظ 1 /43 رقم 21، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 19 رقم 21. (8) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة 3 /418 رقم 867. (9) زيد بن ثابت: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 1 /561رقم 2887، والاستيعاب 3 /136 رقم 845، وأسد الغابة 2 /346 رقم 1824، وتذكرة الحفاظ 1 /30 رقم 15، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 17 رقم 15، وتاريخ الصحابة ص105 رقم 469، ومشاهير علماء الأمصار ص 16 رقم 22.

المطلب الثانى:التعريف "بالسنة" و"الحديث" فى الاصطلاح

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" (1) وعن المغيرة بن شعبة (2) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "مَنْ حَدَّثَ عَنِّىِ بَحديثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ؛ فَهُوَ أَحَدُ الكَاذِبِينَ" (3) . المطلب الثانى:التعريف "بالسنة" و"الحديث" فى الاصطلاح بادئ ذى بدءٍ وقبل بيان معنى "السنة" و"الحديث" فى اصطلاح العلماء نقول: إذا كان هناك بعض الفروق الدقيقة بين الاستعمالين لغة كما سبق، واصطلاحاً كما سيأتى تفصيلاً، إلا أنهما مترادفان متساويان فى استعمالهم؛ فهم جميعاً لم يطلقوا استعمالهما اللغوى.

_ (1) أخرجه ابو داود فى سننه كتاب العلم، باب فضل نشر العلم 3 /322 رقم 3660 واللفظ له، وأخرجه الترمذى فى سننه كتاب العلم، باب ما جاء فى الحث على تبليغ السماع، 5 /33 رقم 2656، وقال أبو عيسى: وفى الباب عن عبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وجبير بن مطعم، وأبى الدرداء وأنس ثم قال: حديث زيد بن ثابت حديث حسن، وأخرجه ابن ماجة فى سننه المقدمة، باب من بلغ علماً، 1 /84 رقم 230. (2) المغيرة بن شعبة: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 3 /452 رقم 8174، والاستيعاب 4 /1445 رقم 2483، واسد الغابة 5 /238 رقم 571، وتاريخ الصحابة ص230 رقم 1237، ومشاهير علماء الأمصار رقم 269، وتجريد أسماء الصحابة 2 /91. (3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) فى المقدمة، باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1 /95.

يقول الدكتور صبحى الصالح: "ولئن أطلقت السنة فى كثير من المواطن على غير ما أطلق الحديث؛ فإن الشعور بتساويهما فى الدلالة أو تقاربهما على - الأقل - كان دائماً يساور نقاد الحديث، فهل السنة العملية إلا الطريقة النبوية التى كان الرسول -صلوات الله عليه- يؤيدها بأقواله الحكيمة وأحاديثه الرشيدة الموجهة؟ وهل موضوع الحديث يغاير موضوع السنة؟ ألا يدوران كلاهما حول محور واحد؟ ألا ينتهيان أخيراً إلى النبى الكريم فى أقواله المؤيدة لأعماله، وفى أعماله المؤيدة لأقواله؟ حين جالت هذه الأسئلة فى أذهان النقاد لم يجدوا بأساً فى أن يصرحوا بحقيقة لا ترد إذا تناسينا موردى التسميتين كان الحديث والسنة شيئاً واحداً، فليقل أكثر المحدثين أنهما مترادفان (1) . وإذن فمعنى السنة والحديث عند علماء الشرع واحد من حيث إطلاق أحدهما مكان الآخر، ففى كل منهما إضافة قول أو فعل أو تقرير أو صفة إلى النبى صلى الله عليه وسلم. إلا أن أهل كل اختصاص قد نظروا إلى السنة من الزاوية التى تعنيهم-من حيث تخصصهم وموضوع علمهم. 1- فعلماء الحديث إنما بحثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الإمام الهادى، والرائد الناصح، الذى أخبر الله عزَّ وجلَّ أنه أسوة لنا وقدوة، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة وخلق وشمائل، وأخبار وأقوال وأفعال سواء أثبت المنقول حكماً شرعياً أم لا (2) . فعرفوها بأنها كل ما نقل عن النبى صلى الله عليه وسلم. من قول أو فعل أو إقرار (تقرير) أو صفة خِلْقِية أو صفة خُلُقِية حتى الحركات والسكنات فى اليقظة والمنام قبل البعثة أو بعدها.

_ (1) علوم الحديث ومصطلحه بتصرف يسير ص 9، 10. (2) أصول الحديث، علومه، ومصطلحه، للدكتور محمد عجاج الخطيب ص 18.

السنة وعمل الصحابة:

فلذلك من الأثر ماله فى إثبات النبوة وإعطاء الأسوة وتعميق الإيمان، وتوكيد العلاقة والمحبة والتوقير بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم.، والالتزام بسنته المطهرة (1) . أما علماء الأصول: فإنهم يعنون بالبحث فى مصادر الشريعة، وأخذ الأدلة الشرعية من النصوص، واستنباط الأحكام منها - ومن هنا كان اهتمامهم بالسنة من حيث كونها المصدر الثانى للتشريع بعد كتاب الله تعالى فعرفوها بأنها كل ما صدر عن النبى صلى الله عليه وسلم. من قول، أو فعل، أو تقرير، أو ترك، أو كتابة، أو إشارة مفهمه أو هم مصحوب بالقرائن، أو غير ذلك مما يثبت الأحكام ويقررها، مما لم ينطق به الكتاب العزيز (2) . أما الفقهاء فيطلقون كلمة "سنة" ويعنون بها ما يقل عن درجة الوجوب والإلزام، فالواجب والفرض عندهم ما يثاب فاعله، ويعاقب تاركه، أما السنة عندهم - فهى ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها مما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم. وواظب عليه؛ لأنها فى اصطلاحهم - أقل إلزاماً من الفرض، ونظرة الفقهاء إلى السنة خاضعة لتخصصهم، ولموضوع علمهم الذى هو البحث عن حكم الشرع على أفعال العباد من حيث الوجوب والتحريم والاستحباب والكراهة والإباحة ومن هنا خضع تعريفهم للسنة إلى تخصصهم الذى يعملون فيه (3) . السنة وعمل الصحابة: يقول فى ذلك الدكتور محمد عجاج الخطيب، إلى جانب المعنى السابق الذى يدل عليه لفظ السنة، فقد يطلق العلماء (محدثين وأصوليين وفقهاء) لفظ السنة أحياناً على ما عمل به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. سواء أكان ذلك فى القرآن الكريم أم فى المأثور عن النبى صلى الله عليه وسلم. أم لا، لكنه اتباعاً لسنة ثبتت عندهم، أو اجتهادٍ مجتمعاً عليه منهم.

__ (1) شذرات من علوم السنة لفضيلة الأستاذ الدكتور الأحمدى أبو النور 1 /44، وعلوم الحديث لفضيلة الأستاذ الدكتور مروان شاهين ص 16. (2) انظر: الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 1 /127، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2 /223، وغاية الوصول شرح لب الأصول زكريا الأنصارى ص 91، ومناهج العقول للبدخشى 2 /269، وإرشاد الفحول للشوكانى 1 /155، وأصول الفقه للخضرى ص250،251. (3) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير للدكتور مروان شاهين ص 13.

ومن أبرز ما ثبت فى السنة بهذا المعنى حد الخمر، حيث كان تعزير شارب الخمر فى عهده صلى الله عليه وسلم. غير معين فكانوا يضربونه تارة أربعين جلده، وتارة يبلغون ثمانين جلدة، فلما كان عهد عمر (1) رضي الله عنه استشار الناس؛ فقال عبد الرحمن بن عوف (2) رضي الله عنه أخف الحدود ثمانون، وقال على (3) رضي الله عنه نرى أن نجلده ثمانين؛ فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فجلد عمر رضي الله عنه فى الخمر ثمانين (4) . وثبت فى ذلك أيضاً تضمين الصناع. وقضى الخلفاء رضي الله عنهم بذلك، قال على رضي الله عنه لا يصلح الناس إلا ذاك؛ لأن الناس بحاجة إلى الاستصناع، وعدم تضمين الصناع يورث الإهمال فى العمل وعدم المسئولية، مما يؤدى إلى ضياع أموال الناس (5) . ومن ذلك أيضاً، جَمْعُ المصاحف فى عهد أبى بكر برأى عمر -رضى الله عنهما- (6) ، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة وتدوين الدواوين، وما أشبه ذلك مما اقتضاه النظر المصلحى الذى أقره الصحابة -رضوان الله عليهم- أجمعين (7) . ومما يدل على إطلاق السنة بهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم. فيما رواه عنه العرباض بن سارية (8) رضي الله عنه قال:

____ (1) عمر بن الخطاب: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 3 /518 رقم 5752، والاستيعاب 3 /1144 رقم 1878، واسد الغابة 4 /137 رقم 3830، وتذكرة الحفاظ 1/5 رقم 2، وطبقات الحفاظ ص 13 رقم 2، وتاريخ الصحابة ص 23 رقم2، ومشاهير علماء الأمصار ص 10 رقم 3، وتجريد أسماء الصحابة 1 /397. (2) عبد الرحمن بن عوف: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 2/456 رقم 5195، والاستيعاب 2 /844 رقم 1455، واسد الغابة 3/475 رقم 3370، وتاريخ الصحابة ص 25 رقم 9، ومشاهير علماء الأمصار ص 14 رقم 12. (3) على بن أبى طالب: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 2/507 رقم 5704، والاستيعاب 3 /1089 رقم 1855، واسد الغابة 4 /87 رقم 3789، وتاريخ الصحابة ص 24 رقم 4، ومشاهير علماء الأمصار ص 11 رقم 5، وتذكرة الحفاظ 1 /10 رقم 4، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 14 رقم 4. (4) أخرجه مالك فى الموطأ كتاب الأشربة، باب الحد فى الخمر 2 /642 رقم 2. (5) الاعتصام للشاطبى 2 /119، وانظر: منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص81-96. (6) انظر: الحديث فى صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن 8 /627 رقم 4986. (7) الموافقات للشاطبى 4 /5،6، وانظر: المدخل إلى السنة النبوية ص 32، 33. (8) العرباض بن سارية: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 2 /473 رقم 5501، والاستيعاب 3 /1238 رقم 2026، واسد الغابة 4 /19 رقم 3630، وتاريخ الصحابة 199 رقم 1062، ومشاهير علماء الأمصار ص 65 رقم 331.

صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. الصبح ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله عزَّ وجلَّ والسمع، والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (1) وقوله صلى الله عليه وسلم. فيما رواه عنه عبد الله بن عمرو (2) -رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "إن بنى اسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين، كلهم فى النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هى يا رسول الله قال: ما أنا عليه وأصحابى" (3) . واستدل على ذلك أيضاً بأن السلف كانوا يقولون: سنة العمريين أى أبى بكر وعمر -رضى الله عنهما-، ومما أخرجه ابن عبد البر بسنده عن مالك بن أنس (4) قال عمر بن عبد العزيز (5) :

(1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب فى لزوم السنة 4 /200 رقم 4607، والترمذى كتاب العلم، باب ما جاء فى الأخذ بالسنة واجتناب البدع 5 /43-44 رقم2676،وابن ماجة فى المقدمة، باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين 1 /15-17 رقمى 42-43 وغيرهم. (2) عبد الله بن عمرو: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 2 /351 رقم 4865، والاستيعاب 3 /256 رقم 1636، واسد الغابة 3 /345 رقم 3092، وتجريد أسماء الصحابة 1 /326، وتاريخ الصحابة رقم 721، ومشاهير علماء الأمصار ص71 رقم 377، وتذكرة الحفاظ 1 /41 رقم 19، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 18 رقم 19. (3) أخرجه الترمذى كتاب الإيمان، باب ما جاء فى افتراق هذه الأمة5/26رقم2641، وقال أبو عيسى: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، وانظر: أصول الحديث علومه ومصطلحه للدكتور محمد عجاج الخطيب بتصرف يسير ص 21، 22. (4) مالك بن أنس: هو الإمام مالك بن أنس، أحد أعلام الإسلام، إمام دار الهجرة، وصاحب الموطأ، توفى سنة 179هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ1 /207 رقم199،وطبقات المفسرين للداودى 2 /294رقم 613،والديباج المذهب ص56،وشذرات الذهب1 /289، والثقات للعجلى ص417 رقم 1521، ومروج الذهب3/350، ومشاهير علماء الأمصار ص169 رقم1110 (5) عمر بن عبد العزيز: هو عمر بن العزيز بن مروان بن الحكم بن أبى العاص الأموى، أمير المؤمنين، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، ولى إمرة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولى الخلافة بعده، فعد من الخلفاء الراشدين مدة خلافته سنتان ونصف، توفى سنة 101هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1 /188 رقم 104، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص53 رقم 101، وتقريب التهذيب 1 /722 رقم 4956، والكاشف 2/65 رقم 4089، ومشاهير علماء الأمصار ص 209 رقم 1411.

سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق بكتاب الله صلى الله عليه وسلم، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، من عمل بها؛ فهو مهتد، ومن استنصر بها؛ فهو منصور، ومن خالفها؛ اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً (1) . وإذا كان عمل الصحابة رضي الله عنهم يطلق عليه لفظ السنة - فلا يعنى هذا أن السنة معناها فى صدر الإسلام "العادات والتقاليد الوراثية فى المجتمع العربى الجاهلى، ثم نقلت إلى الإسلام" كما زعم جولدتسيهر وغيره، لأن تلك الادعاءات كما قال الدكتور الأعظمى تخالف مخالفه جذرية ما دلت عليه النصوص القطعية والتى تفسر بعضها بعضاً. لما رواه أحمد فى مسنده عن سالم (2) قال "كان عبد الله بن عمر (3) يفتى بالذى أنزل الله عزَّ وجلَّ من الرخصة بالتمتع، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيه: فيقول ناس لابن عمر: كيف تخالف أباك؟ وقد نهى عن ذلك، فيقول لهم عبد الله ويلكم ألا تتقون الله إن كان عمر نهى عن ذلك فيبتغى فيه الخير، يلتمس به تمام العمرة، فلم تحرمون ذلك؟ وقد أحله الله وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. أفرسول الله صلى الله عليه وسلم. أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر" (4) . فدل ذلك على أن لفظ "السنة" فى صدر الإسلام كان معلوماً بأنها سنة النبى صلى الله عليه وسلم. وليس ما كان معروفاً مألوفاً فى الجاهلية، إذ لو كان الفرق الشائع، أو تقاليد المجتمع الجاهلية هما "السنة" فكيف نفسر قول ابن عمر هذا؟ (5) .

____ (1) أخرجه الخطيب فى الفقيه والمتفقة، باب القول فى أنه يجب إتباع ما سنه السلف من الإجماع والخلاف وأنه لا يجوز الخروج عنه1 /435رقم 455، والآجرى فى الشريعة ص48،65،306، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم، باب الحض على لزوم السنة والاقتصار عليها 2 /187. (2) سالم: هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشى العدوى، أبو عمر أو أبو عبد الله، المدنى، أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتاً عابداً فاضلاً، يشبه أبيه فى الهدى والسمت. روى عن أبيه وأبى هريرة، وعنه الزهرى، وصالح بن كيسان. مات سنة 106هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1 /335 رقم 2182، والكاشف 1/422 رقم 1773، والجرح والتعديل 3 /168، وتاريخ الثقات للعجلى ص 174 رقم 499، ومشاهير علماء الأمصار ص 85 رقم 438. (3) عبد الله بن عمر: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 2 /347 رقم 4852، والاستيعاب 3 /340 رقم 1630، واسد الغابة 3 /336 رقم 3082 وتذكرة الحفاظ 1 /37 رقم 17، وتاريخ الصحابة 149 رقم 719، ومشاهير علماء الأمصار ص 23 رقم 55، وتجريد أسماء الصحابة 1 /325. (4) أخرجه أحمد فى مسنده 2 /95. (5) دراسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 1 /5-11 بتصرف، وانظر: السنة فى مواجهة أعدائها ص 36 وما بعدها.

هذا وإن كانت السنة تطلق على ما عمل به أصحاب رسول الله رضي الله عنهم كما سبق، فهى أيضاً تطلق ويراد بها الجانب العملى الذى نقل لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الحديث: فهو الأخبار التى نقلت لنا عنه صلى الله عليه وسلم. من أقواله وأفعاله وتقريراته وصفاته ... إلخ. وفى ضوء ذلك نستطيع أن نفهم قول العلماء فى وصف أحدهم مثلاً (إمام فى الحديث) أو (إمام فى السنة) أو قولهم عنه إنه (إمام فيهما معاً) ، أى أنه عالم فى الحديث، وعالم بالسنة يطبقها على نفسه، ويلتزم بها فى سلوكه. والسنة بهذا المعنى الأخير تباين البدعة التى ليست من الدين والتى اعتبرها الرسول صلى الله عليه وسلم. ضلالة؛ لأنها ليست من شرع الله فى شئ، وكل ضلالة فى النار. وفى ضوء ذلك أيضاً نستطيع أن نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم. "من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (1) ... ووفقاً لهذا المعنى نستطيع أن نفهم أيضاً قول عبد الرحمن ابن مهدى (2) -وهو واحد من أفذاذ علم الحديث ورجاله، ومن كبار العلماء بالسنة - حينما سئل عن مالك بن أنس، والأوزاعى (3) ، وسفيان بن عيينة (4) فقال: الأوزاعى إمام فى السنة وليس بإمام فى الحديث، وسفيان إمام فى الحديث وليس بإمام فى السنة، ومالك إمام فيهما معاً. _______ (1) الحديث متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها، أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على جدر 5 /355 رقم 2697. ومسلم (بشرح النووى) كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور 6 /256، 257 رقم 1718. (2) عبد الرحمن بن مهدى: هو عبد الرحمن بن مهدى بن حسان البصرى، الثقة، الأمين، العالم بالحديث وأسماء الرجال، كان الشافعى يرجع إليه فى الحديث، وقال عنه: لا اعرف له نظيراً فى الدنيا. مات سنة 198هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1 /592 رقم 4032، والكاشف 1 /645 رقم 3323، والجرح والتعديل 5 /288 رقم 1382، والثقات للعجلى، ص 299 رقم 985، وتذكرة الحفاظ1 /329 رقم313، وطبقات الحفاظ للسيوطى، ص144رقم 301، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 1 /141 رقم 35. (3) الأوزاعى: هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، أبو عمرو الأوزاعى، شيخ الإسلام، وعالم أهل الشام، وهو صاحب مدرسة فى الفقه، وكان مذهبه منتشراً فى الشام انتشاراً واسعاً، وظل لمذهبه أنصار فى المغرب والأندلس حتى القرنين الثالث والرابع للهجرة، ثم توارى أمام مذهب الشافعى ومذهب مالك. مات سنة 158هـ له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1 /178 رقم 177، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 85 رقم 168، والثقات للعجلى ص 296 رقم 970، ومشاهير علماء الأمصار ص 211 رقم 1425، والثقات لابن حبان 7 /62، ووفيات الأعيان 3 /127 رقم 361، وتهذيب التهذيب 6 /238 رقم 484. (4) سفيان بن عيينة: هو سفيان بن عيينه بن أبى عمران، أبو محمد، الكوفى ثم المكى، أحد أئمة الإسلام الأعلام، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغير حفظه بآخره، وربما دلس، ولكن عن الثقات. مات سنة 198هـ. وله ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1 /262 رقم 249، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 119 رقم 238، وطبقات المفسرين للداودى 1 /196 رقم 187، والثقات للعجلى ص 194 رقم 577، ومشاهير علماء الأمصار ص 179 رقم 1181.

وإجابة عبد الرحمن بن مهدى واضحة الدلالة على أن السنة -فى مثل هذا الاستعمال- إنما يراد بها الجانب العملى فى الإسلام، أما الحديث فهو الاشتغال بما نقل لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. من أقواله وأفعاله وتقريراته ... إلخ. ومن هنا يقولون أيضاً: فلان صاحب سنة وفلان صاحب بدعة، أما الأول، فلأنه يتبع هدى النبى صلى الله عليه وسلم.، "وأما الثانى؛ فلأنه يحاول أن يلحق بالدين ما ليس منه (1) . يقول الدكتور صبحى الصالح: وأغرب من هذا كله أن أحد المفهومين يدعم بالآخر كأنهما متغايران من كل وجه، حتى صح أن يذكر ابن النديم كتاباً بعنوان "السنن بشواهد الحديث" (2) . وهناك تفريق آخر بين الحديث والسنة وهو ما ذكره العلامة الكتانى من أن الموقوف لا يسمى سنة، ولكنه يسمى حديثاً" (3) . ويعقب الدكتور محمد الصباغ: على التفريق بين السنة والحديث فى قول الأمام عبد الرحمن بن مهدى فيقول: ولكن هذا التفريق لم يعش طويلاً فيما بعد، وأضحت الكلمتان مترادفتين، ولا نذكر هذا التفريق إلا من أجل فهم مثل العبارة الواردة عن ابن مهدى والتى ذكرناها آنفاً (4) . هذا ومرادى بالسنة هنا: ما أراده المحدثون وذهب إليه جمهورهم وهى: أقوال النبى صلى الله عليه وسلم. وأفعاله وتقريراته وصفاته الخِلْقِية والخُلُقِية وسيره ومغازيه قبل البعثة مثل تحنثه فى غار حراء (5) ، ومثل حسن سيرته، لأن الحال يستفاد منها ما كان عليه من كريم الأخلاق ومحاسن الأفعال؛ كقول أم المؤمنين خديجة -رضى الله عنها- له صلى الله عليه وسلم. كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق (6)

__ (1) الزرقانى على الموطأ 1 /3. (2) علوم الحديث ومصطلحه ص 6. (3) الرسالة المستطرفة ص 32. (4) الحديث النبوى مصطلحه، بلاغته، كتبه ص 146. (5) متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب بدء الوحى، باب رقم 3، 1 /30 رقم 3، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 1 /474 رقم 160. (6) راجع تخريجه فى نفس الحديث السابق.

ومثل أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وأنه عرف بالصدق والأمانة وما إلى ذلك من صفات الخير، وحسن الخلق، فمثل ذلك ينتفع به فى إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم. كثيراً كما حصل من هرقل فى حديثه المشهور (1) . وهذا ما جعل العلماء يعتبرون كل ما يتصل به صلى الله عليه وسلم. قبل البعثة جزءاً من السنة؛ فالسنة عندهم تشمل كل ما يتصل بالرسول صلى الله عليه وسلم. قبل وبعد البعثة، ويدخل فى التعريف ما كان عليه عمل الصحابة. وهذا أجمع تعريف لها (2) . والسنة بهذا المعنى مرادفة للحديث النبوى عندهم (3) أ. هـ.. ومن هنا يظهر فساد قول جولدتسيهر: فى كتابه (دراسات محمدية) يجب أن يكون مصطلح "الحديث"، ومصطلح "السنة" متميزين عن بعضهما (4) ، فهما ليسا بمعنى واحد، وإنما السنة دليل الحديث (5) . وجولدتسيهر بزعمه هذا لم يفرق بين المعانى اللغوية والمعانى الاصطلاحية للفظتين: الحديث والسنة لذلك تراه يخلط فى الموضوع بعدم التزامه باصطلاحات علماء الشرع، مما جعله يظن أن الخلاف فى معانى لفظ (حديث) و (سنة) هو نوع من الاضطراب فى التفكير عند المسلمين، وهذه الاصطلاحات قد استوفيناها قبل قليل، فظهر أنه لم يعتبر اصطلاحات القوم، بل لم يقترب منها أدنى الاقتراب. وقوله (إنما السنة دليل الحديث) هذه الدعوى جره إليها تفريقه بين الحديث والسنة، وكان الأشبه العكس، فالحديث دليل السنة، فهما بمعنى واحد فى اصطلاح الأصوليين. ومن هنا جاء قولهم: سنة ثابتة عن الرسول، وسنة غير ثابتة عنه.

_ (1) متفق عليه من حديث أبى سفيان بن حرب (البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب، بدء الوحى باب رقم 6، 1 /42 رقم 7، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبى صلى الله عليه وسلم.، إلى هرقل يدعوه للإسلام 6/346 رقم 1773. (2) انظر: جامع العلوم والحكم 2 /120، والمدخل إلى السنة النبوية ص33، 34. (3) الحديث والمحدثون للدكتور أبو زهو ص 10، وانظر: تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير للدكتور مروان شاهين ص 28، 29. (4) نقلاً عن ضوابط الرواية عند المحدثين للأستاذ الصديق بشير نصر ص 314. (5) العقيدة والشريعة فى الإسلام جولد تسيهر ص 49، وممن فرق بينهما أيضاً الأستاذ محمد رشيد رضا، انظر: مجلة المنار المجلد 10 /852،853.

فالأولى: لأنه ثبت عن الرسول الكريم أنه قال ذلك الشئ أو فعله أو أقره، وطريقة ثبوت ذلك عن الرسول هو وجود الحديث الشريف الذى يتضمن ذلك ويشهد عليه. الثانية: لأنه لم نجد حديثاً عن النبى قولاً أو فعلاً أو تقريراً يؤكدها، فهى بذلك سنة غير ملزمة وكذلك إذا قيل: السنة كذا، ومن السنة كذا، وهكذا السنة كلها دليل شرعى ملزم؛ لأن ذلك ثابت عن النبى (بوجه من الوجوه (1) أ. هـ. . والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

____ (1) ضوابط الرواية عند المحدثين، ص 314 - 322 بتصرف.

المطلب الثالث:شبهة حول التسمية والرد عليها

المطلب الثالث:شبهة حول التسمية والرد عليها من نافلة القول أن نقرر: أن كلمتى "السنة" و"الحديث" عربيتين، حيث أنكر هذه البديهية من أعداء الإسلام جولد تسيهر حين زعم تارةً بأن كلمة "السنة" مأخوذة من العبرية (مشناة) فقال: "حتى فى الإسلام، أخذت هذه الفكرة مكاناً أيضاً، أعنى اتخاذ قانون مقدس وراء القرآن مكتوباً أو مسموعاً كما هو الحال عند اليهود" (1) . وقال تارةً ثانية: أنها مصطلح وثنى فى أصله وإنما تبناه واقتبسه الإسلام. وتابعه على ذلك من جلدته شاخت ومارغوليوث، كما نقله عنهم الدكتور محمد الأعظمى فى كتابه (دراسات فى الحديث النبوى) (2) . وتابع المستشرقين على ذلك قاسم أحمد حيث قال: "وما ينبغى أن يفطن إليه المسلمون هو التشابه الكبير جداً بين هذا الرأى ورأى اليهود القديم عن الوحى المكتوب والشفوى. فالتلمود اليهودى الذى يشمل المشناة والجمارة وهما يشبهان الحديث والسنة الإسلامية. وهما عبارة عن مجموعة تعاليم شفوية لحاخامات وكبار علماء اليهود أساسها تفسيرهم وشرحهم لكتابهم المقدس على مدى طويل على لسان العالم اليهودى يهوذا جولدن (3) . كما زعم المستشرق الفريد غيوم فى كتابه (الحديث فى الإسلام) : أن كلمة"حديث" مشتقة من الكلمة العبرية عند اليهود "هداش" والتى تعنى الجديد أو تعنى الأخبار أو القصص (4) . ومرد هذه الشبهة يهدف إلى نفى أن تكون الكلمتين عربيتين. وقد رد هذه الشبهة الباطلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت فى كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة) ونفى أن تكون كلمة السنة مأخوذة من العبرية (5) .

__ (1) العقيدة والشريعة فى الإسلام ص 49. (2) دراسات فى الحديث النبوى 1 /5،6. (3) إعادة تقييم الحديث ص 78، 79. (4) نقلاً عن منهجية جمع السنة للدكتورة عزية على طه ص 62. (5) الإسلام عقيدة وشريعة ص 492، 493.

كما رد الدكتور محمد الأعظمى فى كتابه (دراسات فى الحديث النبوى) الزعم الباطل لجولدتسيهر؛ أنها مصطلح وثنى فى أصله، وإنما تبناه واقتبسه الإسلام (1) . وذكر هذه الشبهة وردها الدكتور رءوف شلبى فى كتابه (السنة النبوية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين) فقال: بحكم طبيعة الحياة فإن الخير لا يسلم من الشر، وإن العدل لا يسلم من الجور، ولقد قيض الشيطان عناصر تفترى على الإسلام وعلى مصادره، فقد زعم بعض الباحثين أن التعبير بكلمة سنة أخذه المسلمون من الكلمة العبرية (مشناة) التى تطلق فى الاصطلاح اليهودى على مجموعة الروايات الإسرائيلية التى تعتبر فى نظرهم مرجعاً أساسياً فى التعرف على أحكام التوراة، كما تعتبر شرحاً وتفسيراً لها، ثم عربها المسلمون إلى كلمة (سنة) ويدعى اليهود أن المسلمين أطلقوها - بعد التعريب - علماً على مجموعة الروايات النبوية فى مقابل استعمالهم لكلمة "مشناة" علماً على مجموعة الروايات الإسرائيلية. والجواب: يقول فضيلة الأستاذ الدكتور رءوف شلبى اعتراض اليهود ومن تابعهم على كلمة "سنة" و"حديث" ملخص فى نقطتين: 1- أن المسلمين عربوهما من كلمة "مشناة" و"هداش". 2- أن المسلمين أطلقوهما علماً على مجموعة الروايات النبوية فى مقابل ما صنعه اليهود من إطلاقهم كلمة "مشناة" على مجموعة الروايات الإسرائيلية التى تشرح لهم التوراة، ونعتبر المصدر الأساسى فى التعرف على الأحكام. ورداً على النقطة الأولى: فإن العقل الباحث الأمين لا يتقبل ادعاء اليهود ومن صار على دربهم، أن العرب الأوائل المسلمين قد عربوا "مشناة" إلى"سنة" أو عربوا "هداش" إلى "حديث". أولاً: لعدم المشابهة فى الحروف والبنية.

_____ (1) دراسات فى الحديث النبوى 1 /5-11.

ثانياً: لأن الكلمتين ورد استعمالهما فى الشعر الجاهلى قبل الإسلام، كما استعملهما ربنا عزَّ وجلَّ فى كتابة العزيز، واستعملهما نبينا صلى الله عليه وسلم. فى حديثه الشريف، على نحو ما ذكرناه سالفاً فى تعريف السنة والحديث لغة. وذلك مما لا يترك مجالاً لفرضية بحث تعريب كلمة سنة من مشناة أو حديث من هداش. وإذاً فالكلمتين لم يعربهما المسلمون من كلمتى مشناة وهداش، وإنما أخذوهما من صميم لغتهم، وصريح كتابهم الكريم، وصريح حديث نبيهم صلى الله عليه وسلم. (1) . يقول الدكتور الأعظمى: ولذا فإن ما قاله جولدتسيهر بأن السنة مصطلح وثنى استخدمه الإسلام، ادعاء لا يستند إلى دليل، ومعارض للأدلة الملموسة، ثم إن استعمال الجاهليين أو الوثنيين من العرب لكلمة "ما" فى مفهومها اللغوى لا يلبسها ثوباً معيناً، ولا يحيلها إلى مصطلح وثنى وخصوصاً إذا لاحظنا استعمالاتهم المختلفة لهذه الكلمة، وإلا أصبحت اللغة العربية بكاملها مصطلحاً وثنياً وهذا لا يقول به عاقل (2) . ونفس هذا الكلام يقال رداً على ما زعمه الفريد غيوم من أن كلمة "حديث" مشتقة من الكلمة العبرية "هداش". ورداً على النقطة الثانية: يقول ابن قيم الجوزية (3) فى إغاثة اللهفان: إن كلمة مشناة إنما تعنى الكتاب الذى ألفه علماء اليهود فى زمن دولة البابليين والفرس، ودولة اليونان والروم، وهو الكتاب الأصغر، ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة. أما التلمود: فهو الكتاب الأكبر الذى ألفه علماء اليهود مع مشناة، ومبلغ حجمه نحو نصف حمل بغل لكبره، ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه فى عصر واحد، وإنما ألفوه جيلاً بعد جيل، فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه، وأن فى الزيادات المتأخرة ما يناقض أوائل هذا التأليف، علموا أنهم إن لم يقطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه، أدى إلى الخلل الذى لا يمكن سده، قطعوا الزيادة فيه، ومنعوا منها، وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه، وإضافة شئ آخر إليه، وحرموا من أن يضاف إليه شئ آخر فوقف على ذلك المقدار (4) .

_______ (1) السنة النبوية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين ص 32 وما بعدها بتصرف. (2) دراسات فى الحديث النبوى 1/ 7. (3) ابن قيم الجوزية: هو محمد بن أبى بكر بن أيوب الزرعى الدمشقى، أبو عبد الله، الفقيه الحنبلى الأصولى المحدث النحوى الأديب الواعظ الخطيب، له مصنفات عديدة أشهرها: أعلام الموقعين عن رب العالمين، وزاد المعاد فى هدى خير العباد، وغير ذلك، مات سنة 751هـ. له ترجمة فى: البداية والنهاية لابن كثير14 /234، والدرر الكامنة لابن حجر3 /400-403 رقم 1067، وشذرات الذهب 6 /168، وطبقات المفسرين للداودى 2 /93 - 97، رقم 456، والوافى بالوفيات 2 /270. (4) إغاثة اللهفان 2 /323،324.

وإذاً فالمشناة والتلمود من تأليف فقهاء اليهود إرضاءً لأهوائهم، وقد نسبوها إلى التوراة وإلى سيدنا موسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - وليس الأمر كذلك فى الحديث النبوى والسنة المطهرة؛ فهى مرويات نبوية موحى بها من قبل رب العزة، ولا مدخل لأحد من علماء الإسلام فى شئ منها إلا بحفظها ورعايتها وتنفيذها، وصاحب السنة المطهرة صلى الله عليه وسلم. هو الذى أطلق وسمى كل ما ورد عنه من قول أو فعل أو تقرير أو ... إلخ. بأنه من حديثه الشريف وسنته المطهرة. فهو القائل صلى الله عليه وسلم.: "قد يئس الشيطان بأن يعبد بأرضكم، ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروا يا أيها الناس، إنى قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم." (1) . وبهذا كله يتضح لنا أن الكلمتين "سنة" و"حديث": 1- عربيتان أصيلتان. 2- وأن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد استعملاهما. 3- وأن الرسول صلى الله عليه وسلم. هو الذى سمى الحديث والسنة ووضعهما علماً على كل ما ورد عنه من قول أو فعل أو تقرير ... إلخ، كما سبق وأن ذكرت. وبذلك ينمحى من الإمكان فرض أن المسلمين عربوا كلمة "سُنة" من كلمة "مشناة" أو "من هداش"، أو فرض أنها مصطلح وثنى، وأنه فرق كبير بين ثريا المحجة البيضاء فى الإسلام، وبين ثرى المحرفين الذين لعنوا على لسان أنبيائهم داود وعيسى بن مريم جزاءاً بما كانوا يصنعون (2) أ. هـ.. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

_____ (1) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم، باب خطبته صلى الله عليه وسلم. فى حجة الوداع 1 /171، 172 رقم 318 من حديث ابن عباس -رضى الله عنهما - وقال فى إسناده عكرمة واحتج به البخارى، وابن أبى أويس واحتج به مسلم، وسائر رواته متفق عليهم، ثم قال وله شاهد من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، وأخرجه فى الموضع السابق، ووافقه الذهبى وقال وله أصل فى الصحيح أهـ. (2) السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى ص32: 36 بتصرف.

المبحث الثالث:الحديث النبوي بالسند المتصل

المبحث الثالث:الحديث النبوي بالسند المتصل من خصائص الأمة الإسلامية قال الدكتور سعد المرصفى الحديث النبوى بالسند المتصل: "خص الله به الأمة الإسلامية دون ما سواها، فلسنا نعرف على مدى التاريخ أمة من أمم الرسل-عليهم صلوات الله وتسليماته - سعدت بمثل هذه المجموعة الناطقة، وبهذا السجل الخالد لنبيها بالسند المتصل، بل بالعكس من ذلك نرى الأمم كلها فقيرة لا تملك مصدراً من مصادر الحديث عن الأنبياء حيث انقطعت الصلة بينها وبين أنبيائها علمياً وتاريخياً، وفقدت الحلقة التاريخية التى تصلها بعصر هؤلاء الرسل -عليهم صلوات الله وتسليماته- وتوقفها على شئون حياتهم، وما يكتنفها من ظروف وملابسات حتى صار كثير من المفكرين يشكون فى وجودهم، ونحن على معارضتنا لهذا التطرف. نؤمن بأن هناك حلقات مفقودة لا يمكن البحث عنها، والاهتداء إليها. أما خاتم الرسل والأنبياء - صلوات الله وسلامه عليه - فهو الرسول الذى نعرف عنه كل دقيق وجليل، ونعرف عنه من دقائق الأخلاق والعادات والميول والرغبات، والقول والعمل ما لا نعرفه عن غيره بالسند المتصل، بل إن ما عرفناه عن الأنبياء جاء من طريق الوحى الذى أنزله الله عليه فى كتابه، وبينه لنا صلى الله عليه وسلم. فى حديثه الشريف. فالحديث المتصل: هو السجل الخالد الذى حفظ لنا هذه الحياة المباركة، وهو من خصائص هذه الأمة دون ما سواها. وهو الذى يعرف المسلم بنبيه وحبيبه ويسعده بصحبته، وكأنه حضر مجلسه، واستمع لحديثه، وقضى معه مدة من الزمان؛ ليسمع كلامه، ويشاهد فعله، ويشاهد سيرته، ثم إنه ميزان عادل لحركة هذه الأمة، زاخر بالحياة النابضة، والقوة المؤثرة التى تبعث على الخير والفلاح والرشد والصلاح.

ومن رحمة الله تعالى أن كانت أمة الإسلام أمة تملك قوة الذاكرة، وعظمة الصدق وتحمل الرواية، وقد فاقت فى ذلك كل الأمم، وقد وعى الصحابة الكرام - رضى الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين - كل ما سمعوه وكل ما شاهدوه، وحرصوا أشد الحرص وأبلغه على حفظه ونشره، حرصاً لم يعرف عن أمة نبى من الأنبياء، وجاء التابعون وتابعوهم فحملوا الأمانة، وبلغوا حديث الرسول الحبيب، وتتابع المسلمون جيلاً بعد جيل برواية العدل الضابط عن مثله يحفظون ويبلغون (1) أ. هـ. وصدق القائل: "إن الحديث علم رفيع القدر، عظيم الفخر، شريف الذكر لا يعتنى به إلا كل حبر، ولا يحرمه إلا كل غمر، ولا تفنى محاسنه على مر الدهر، لم يزل فى القديم والحديث يسمو عزةً وجلالاً، إذ به يعرف المراد من كلام رب العالمين، ويظهر المقصود من حبله المتصل المتين، ومنه يدرى شمائل من سما ذاتاً ووصفاً واسماً، ويقف على أسرار بلاغة من شرف الخلائق عرباً وعجماً (2) . يقول الدكتور محمد على الصابونى: "وسيظل الحديث النبوى بالسند المتصل من الخصائص التى اختص الله عزَّ وجلَّ بها هذه الأمة الإسلامية، ذلك الكنز الثمين، والتراث النبوى العظيم، الذى تركه لنا سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.، فحفظته الأمة غضاً طرياً على مدى العصور والأزمان وها نحن اليوم وقد مضى القرن الرابع عشر، ودخلنا فى القرن الخامس عشر من هجرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. نقرأ حديث نبينا صلى الله عليه وسلم. ونسمعه ونحفظه، كما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويخطب به ويذاع على العالم، نقياً صحيحاً وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حىٌّ بين أظهرنا نتحدث به هذه الساعة، ولم يكن مثل هذا لأمة من أمم الأرض، أمة حفظت ورعت كلام نبيها كما رعته وحفظته هذه الأمة الإسلامية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، ليبقى دين الله عزَّ وجلَّ خالداً دائماً مدى الأزمان" (3) .

____ (1) السنة بين أنصارها وخصومها مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة رقم748 جـ1 /18،19 بتصرف. (2) نقلاً عن السنة النبوية للدكتور أحمد كريمة ص 18. (3) السنة النبوية المطهرة قسم من الوحى الآلهى المنزل ص 83 بتصرف يسير.

المبحث الرابع:الحديث النبوى تاريخ الإسلام

المبحث الرابع:الحديث النبوى تاريخ الإسلام لا يخفى أن القرآن الحكيم إنما نزل لهداية البشر إلى مصالحهم الدينية والدنيوية، ولهذا بين لهم طريق العمل وسبل النجاح، وأعلن أن الأمة التى تعمل بهذا القانون تكون لها الخلافة فى الأرض وتنال من السعادة والسيادة ما لا يزيد عليه، وتكون خير أمة أخرجت للناس. وكل من لم يعمل بهذا القانون يكون ذليلاً مهاناً فى الأرض، وشقياً فى الدنيا والآخرة. فإذا سألنا أحدٌ: هل وجدت أمة فى زمن من الأزمان عملت بهذا القانون؟ وهل نالت به ما وعدت؟ ومتى كانت هذه الأمة، وكيف كانت طريقة عملها بهذا القانون، وأين التاريخ الصحيح لأعمالها؟ نقول له: نعم وجدت أمة عظيمة عملت بهذا الكتاب الحكيم، واتخذته قانوناً أساسياً لها مدة كبيرة، فصدقها الله وعده، وأنعم عليها بالخلافة والسيادة فى الأرض، وامتد سلطانها إلى مشارق الأرض ومغاربها، وكانت أمة لا نظير لها فى تاريخ العالم. وتاريخ أعمالهم المجيدة، وطريقة تنفيذهم لأحكام القرآن وكيفية عملهم بها، كل ذلك ثابت محفوظ بصورة عديمة المثال، فإنه لا يوجد تاريخ لأمة من الأمم يبين عملها وتمسكها فى كل شئونها بقانونها مثل تاريخ هذه الأمة. هذه الأمة هى: الرسول صلى الله عليه وسلم. وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، وهذا التاريخ هو الحديث. فبالحديث يعلم كيف عمل الرسول وأصحابه بالقرآن وبه يعرف أن القرآن، قانون قد عمل به ونجحت أصوله الإدارية، والسياسية، والمدنية، والأخلاقية ... إلخ. وليس هو مجموعة نظريات محتاجة للإثبات بالتجربة والتطبيق. وأما إذا عملنا برأى المنكرين للحديث فيضيع تاريخ الإسلام الذهبى، ولا يقدر أحد أن يثبت أن القرآن قد عملت به أمة من الأمم ونجحت فى تأسيس حكومة مدنية مطبقة لتعليماته. فهل يرضى المسلمون بهذا؟ لا والله، لا المسلمون يرضون بهذا، ولا العلم، ولا التاريخ يرضيان به {فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (1) .

___ (1) الآية 78 من سورة النساء. وانظر: تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها للعلامة السيد سليمان الندوى ص 12، 13، وقارن بالإسلام على مفترق الطرق للعلامة محمد أسد ص 93.

المبحث الخامس:دراسة الحديث ضرورة لازمة لطالب العلم

المبحث الخامس:دراسة الحديث ضرورة لازمة لطالب العلم قال الدكتور محمد الصباغ: إن دراسة الحديث أمر ضرورى لطالب العلم سواء أكان متخصصاً فى الشريعة أم فى العربية أم فى التاريخ أم فى غير ذلك من العلوم أما ضرورته للتخصص فى الشريعة فواضحة. الحديث واللغة العربية: وأما بالنسبة لطالب العربية فنستطيع أن نجعل الدواعى لدراسته فيما يأتى: أولاً: لأن تأثير الحديث النبوى على ثقافتنا العربية يفوق كل تصور، فلقد صبغت طريقته كل فنون ثقافتنا ومعارفنا، وإنك تجد طريقة السند عمت كل أنواع الكتب فى مكتبتنا من أدبية وتاريخية وغيرهما إذ تعتمد السند فى إيراد أخبارها مثل كتاب "الأغانى" لأبى فرج الأصفهانى، و "الأمالى" لأبى على القالى، و"تاريخ الرسل والملوك" لابن جرير الطبرى، بل إن كثيراً من العلوم ما كان ليوجد لولا الحديث؛ فطبقات الرجال، وكتب التواريخ، وكتب التراجم والسيرة، كل هذا ثمرة من ثمرات الحديث النبوى. يقول الدكتور شوقى ضيف: "فالحديث هو الذى فتح باب الكتابة التاريخية، وهيأ لظهور كتب الطبقات فى كل فن، وهذا غير ما نشأ عنه من علوم الحديث وغير مشاركته فى علوم التفسير والفقه، مما بعث على نهضة علمية رائعة". وقال الدكتور أحمد أمين: "كان جمع الحديث أساساً لكل العلوم الدينية تفرع عنه التفسير والفقه وتاريخ السيرة وتاريخ الفتوح والطبقات ... إلخ (1) . ثانياً: لأن الحديث النبوى من بليغ ما أثر فى لغتنا، ومن أرفع النصوص الأدبية بياناً وإشراقاً بعد القرآن الكريم، والدراسة المفيدة المجدية للغة العربية هى الدراسة التى تجعل الطالب يتخرج بالنصوص الجميلة وتصله بها، حتى يتأثر بأساليبها وطريقتها فى القول....

____ (1) ضحى الإسلام للدكتور أحمد أمين 3 /362.

ثالثاً: لأن علوم العربية وآدابها إنما كانت من أجل خدمة القرآن والحديث، بل إننا لنستطيع أن نقول: إن كل ما فى ثقافتنا من تنوع وتعدد وتلون فى العلوم والفنون والمعارف؛ إنما كان لخدمة القرآن والسنة وفى ذلك يقول الإمام عبد القادر البغدادى (1) : اعلم أنه لا خصلة من الخصال التى تعد فى المفاخر لأهل الإسلام من المعارف والعلوم، وأنواع الاجتهادات، إلا ولأهل السنة فى ميدانها القدح المعلمى، والسهم الأوفر (2) . رابعاً: لأن هناك التحاماً وثيقاً بين العربية والعلوم الإسلامية، وكل دارس للعربية لا يعد واقفاً على أسرارها ما لم يشارك فى العلوم الإسلامية الأخرى. خامساً: لأن الحديث النبوى من الأصول التى يستشهد بها على قواعد اللغة (3) . سادساً: لأن قواعد علم المصطلح التى وضعها أجدادنا المسلمون تعلم المنهجية فى الحكم على الأخبار دون أن يكون تأثر بأى اعتبار آخر غير تطبيق تلك القواعد. قلت: وهو علم تفتخر به هذه الأمة على البشرية جمعاء فهو من خصوصيتها، وسيأتى تفصيل ذلك فى مبحث (أهمية الإسناد فى الدين، واختصاص الأمة الإسلامية عن سائر الأمم) (4) . الحديث والتاريخ: وأما طالب التاريخ فيكفينا للدلالة على أهمية دراسة الحديث بالنسبة له أن نورد قول الدكتور أسد رستم أستاذ التاريخ فى الجامعة اللبنانية (5) ، قال: وأول من نظم نقد الروايات التاريخية، ووضع القواعد لذلك علماء الدين الإسلامى، فإنهم اضطروا اضطراراً إلى الاعتناء بأقوال النبى صلى الله عليه وسلم. وأفعاله لفهم القرآن وتوزيع العدل فقالوا: إن هو إلا وحى يوحى، ما تلى منه فهو القرآن، وما لم يتل فهو السنة. فانبروا لجمع الأحاديث ودرسها وتدقيقها فأتحفوا علم التاريخ بقواعد لا تزال فى أسسها وجوهرها محترمة فى الأوساط العلمية حتى يومنا هذا. يقول الدكتور محمد الصباغ: "وقد وضع الأستاذ المذكور كتاباً بعنوان (مصطلح التاريخ) وقد اعتمد فيه على القواعد التى قررها علماء مصطلح الحديث.

___ (1) عبد القادر البغدادى: هو عبد القادر بن طاهر بن محمد التميمى، الأستاذ أبو منصور البغدادى، الفقيه الشافعى الأصولى النحوى المتكلم، صاحب المؤلفات الكثيرة النافعة، منها "تفسير القرآن" و"فضائح المعتزلة" و"التحصيل فى أصول الفقه" و"الفرق بين الفرق" توفى سنة 429هـ له ترجمة فى إنباه الرواة للقفطى 2 /185، وبغية الوعاة 2 /105، ووفيات الأعيان 2 /372، وهداية العارفين 5 /606، وطبقات الشافعية لابن السبكى 5/136، وطبقات المفسرين للداودى 1 /332 رقم 294، وفوات الوفيات لابن شاكر 1 /613، والبداية والنهاية لابن كثير 12 /44، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 1 /393 رقم 17. (2) الفرق بين الفرق ص 321. (3) سيأتى تفصيل ذلك فى الجواب عن شبهة رواية الحديث بالمعنى ص 386-395. (4) انظر: ج2 ص148. (5) وقال الدكتور السباعى فى كتابه السنة ومكانتها ص 108 هو أستاذ التاريخ فى الجامعة الأمريكية فى بيروت سابقاً وهو مسيحى تفرغ أخيراً لأخبار الكنيسة الأرثوذكسية.

ووصف كتابه بأنه بحث فى نقد الأصول، وتحرى الحقائق التاريخية وإيضاحها وعرضها وفيما يقابل ذلك من علم الحديث يقول: "وبإمكاننا أن نصارح زملاءنا فى الغرب فنؤكد لهم بأن ما يفاخرون به من هذا القبيل نشأ وترعرع فى بلادنا، ونحن أحق الناس بتعليمه والعمل بأسسه وقواعده (1) ". يقول الدكتور السباعى: "وقد اعترف المؤلف فى كتابه بأن قواعد مصطلح الحديث أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات، وقد قال فى الباب السادس (العدالة والضبط) بعد أن ذكر وجوب التحقيق من عدالة الراوى، والأمانة فى خبره: "ومما يذكر مع فريد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين فى هذا الباب. وإليك بعض ما جاء فى مصنفاتهم نورده بحروفه وحذافيره تنويهاً بتدقيقهم العلمى، واعترافاً بفضلهم على التاريخ ... ثم أخذ فى نقل نصوص عن الأئمة مالك ومسلم والغزالى والقاضى عياض وأبى عمرو بن الصلاح (2) . ________ (1) انظر: الحديث النبوى للدكتور محمد الصباغ ص 16: 18 بتصرف. (2) السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى للدكتور السباعى ص 108 بتصرف يسير.

وتأتى أهمية الحديث النبوى فى غير ذلك من العلوم بأنه مصدرٌ لكل معرفة فقد بين النبى صلى الله عليه وسلم. من خلال حديثه الشريف جميع أحكام الحياة والموت كما قال الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - "وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما طائر يقلب جناحيه فى السماء إلا ذُكر للأمة منه علماً، وعلمهم كل شئ حتى آداب التخلى، وآداب الجماع، والنوم، والقيام، والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسى والملائكة والجن والنار والجنة ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأى عين، وعرفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم وما جرى لهم وما جرى عليهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يعرفه نبى لأمته قبله، وعرفهم صلى الله عليه وسلم. من أحوال الموت وما يكون بعده فى البرزخ وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما لم يعرف به نبى غيره، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم. من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع فرق أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة من بعده، اللهم إلا إلى من يبلغه إياه ويبينه ويوضح منه ما خفى عليه، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم. من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق النصر والظفر ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته لم يقم لهم عدو أبداً، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم. من مكايد إبليس وطرقه التى يأتيهم منها وما يتحرزون به من كيده ومكره وما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم. من أحوال نفوسهم وأوصافها ودسائسها وكمائنها ما لا حاجة لهم معه إلى سواه؛ وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم. من أمور معايشهم ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة.

وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برمته، ولم يحوجهم الله عزَّ وجلَّ إلى أحد سواه (1) . فكيف يظن بعد كل ذلك أن يكون للإسلام وللمسلمين دين وعلم وحضارة بدون السنة النبوية المطهرة؟ ومن هنا كان التشكيك فى الأحاديث النبوية تشكيكاً فى الإسلام، وفى جميع العلوم والمعارف كما قال الدكتور محمد أبو زهو - رحمه الله تعالى - (ولو أننا ذهبنا نستمع إلى من فى قلوبهم مرض، من دعاة الإلحاد، وخصوم الإسلام، وصرنا إلى ما صاروا إليه من الشبهات، المؤسسة على شفا جرف هار، لذهبت ثقتنا بجميع العلوم، ذلك؛ لأن علمائها لم يبذلوا فيها، من الدرس والتمحيص، والدقة والتحرى، عشر معشار ما بذله علماء الحديث، فى حفظ السنة ورعايتها، وتمييز صحيحها من ضعيفها، ومعرفة أحوال رواتها على اختلاف طبقاتهم وأزمنتهم وأمكنتهم، فإذا انهار حصن السنة الحصين، بعد تلك العناية البالغة، التى يشهد بها التاريخ والواقع، لم يبق هناك علم نرجع إليه أو نثق به، وكفى بذلك حمقاً وجهلاً) (2) .

____ (1) أعلام الموقعين عن رب العالمين 4/375، 376. (2) الحديث والمحدثون ص 210، 211. انظر: السنة فى مواجهة أعدائها للدكتور طه حبيشى مبحث (إنكار السنة اعتداء على المناهج العلمية) ص 161.

الباب الأول التعريف بأعداء السنة النبوية

الباب الأول التعريف بأعداء السنة النبوية وفيه تمهيد وأربعة فصول: الفصل الأول: أعداء السنة النبوية من أهل الأهواء والبدع قديماً (الخوارج، والشيعة، والمعتزلة) . الفصل الثانى: أعداء السنة النبوية من المستشرقين. الفصل الثالث: أعداء السنة النبوية من أهل الأهواء والبدع حديثاً (العلمانية، والبهائية، والقاديانية) . الفصل الرابع: أهداف أعداء الإسلام قديماً وحديثاً فى الكيد للسنة النبوية المطهرة. التمهيد: وفيه التعريف بأعداء: لغة وشرعاً. التعريف بأعداء لغة: أعداء جمع عدو وهو جمع لا نظير له، وفى القرآن الكريم قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُم ... ْ} (1) وقال تعالى {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (2) . وفى السنة المطهرة قال صلى الله عليه وسلم. " ... يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله عزَّ وجلَّ بى، ألم آتكم متفرقين فجمعكم الله بى، ألم آتكم أعداء فألف الله بين قلوبكم" قالوا: بلى يا رسول الله.... (3) . والأعادى جمع الجمع، وقال الراغب: أصل العدو التجاوز ومنافاة الالتئام، فتارة يعتبر بالمشى، فيقال له: العدو، وتارة بالقلب فيقال له: العداوة، وعدا عليه من باب سما عدوا وعدوا كفلس وفلوس وبهما قُرأ قوله تعالى: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (4) وقَرأ الحسن عدواً مثل سمو. وقال سيبويه (5) : عدو وصف، ولكنه ضارع الإسم، وقد يثنى ويجمع ويؤنث، وهو ضد الولى، ويقال: عدو بين العداوة والمعاداة، والأنثى عدوة يقال: هذه عدوة الله قال الفراء (6) : وإنما ادخلوا فيها الهاء تشبيهاً بصديقة؛ لأن الشيء قد يبنى على ضده وقالوا فى جمع (عدوة) عدايا ولم يسمع إلا فى الشعر، وتعادى القوم عادى بعضهم بعضاً.

______ (1) جزء من الآية 103 من سورة آل عمران. (2) الآية 19 من سورة فصلت. (3) أخرجه أحمد فى مسنده 3 /104 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (4) جزء من الآية 108 من سورة الأنعام. (5) سيبويه: هو أبو بشر، عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثى بالولاء، الملقب بسيبويه، إمام النحاة، من أحسن مؤلفاته كتابة المسمى "الكتاب"، مات سنة 180هـ له ترجمة فى: إشارة التعيين لليمانى ص 242 رقم 148، والبداية والنهاية لابن كثير 1 /167، والأعلام 5 /252، وبغية الوعاة 2 /229، وشذرات الذهب 1 /252، وطبقات النحويين واللغويين، ص66. (6) الفراء: هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمى المعروف بالفراء، كان من أعلم الكوفيين فى اللغة والنحو والأدب، من مؤلفاته "معانى القرآن" و"المصادر فى القرآن"و"غريب الحديث" توفى سنة 207هـ. له ترجمة فى: تهذيب التهذيب 11 /212 رقم 353، ومرآة الجنان لليافعى 2 /38، ووفيات الأعيان 6 /176 رقم798، وطبقات المفسرين للداودى 2 /367 رقم681.

التعريف بالأعداء شرعا:

والعداوة اسم عام من العدو ومنه قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ... } (1) . التعريف بالأعداء شرعاً: تحدث رب العزة فى كتابه الكريم عن أعدائه وأعداء هذا الدين وهذه الأمة من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وأهل الملل الباطلة من المشركين، والكافرين، والمنافقين، وأصحاب الأهواء الزائفة قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ ... الآية} (2) . وأكد المصطفىصلى الله عليه وسلم. تلك العداوة فى سنته المطهرة، وحذر الأمة من أعدائها فقالعزَّ وجلَّ عن عداوة أهل الكتاب {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} (3) . وعن ابن عمر -رضى الله عنهما- قال "لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر، قام عمر خطيباً فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم. عامل يهود خيبر على أموالهم، وقال: نقركم ما أقركم الله عزَّ وجلَّ، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدى عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه، وليس هناك عدو غيرهم، هم عدونا وتهمتنا" (4) . وقال تعالى عن عداوة أهل الملل الباطلة من المشركين {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (5) . وقال عزَّ وجلَّ فى حق الكافرين {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} (6)

_____ (1) جزء من الآية 64 من سورة المائدة، وانظر: لسان العرب لابن منظور 10 /712، وتاج العروس للزبيدى 10 /235، ومختار الصحاح للرازى ص 418. (2) الآية الأولى من سورة الممتحنة. (3) جزء من الآية 120 من سورة البقرة. (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الشروط، باب إذا اشترط فى المزارعة (إذا شئت أخرجتك) 5 /385 رقم 2730. (5) الآية الأولى من سورة التوبة. (6) جزء من الآية 101 من سورة النساء.

وفى حق المنافقين {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (1) . وقال فيهم صلى الله عليه وسلم.: "إن أخوف ما أخاف على أمتى كل منافق عليم اللسان" (2) وقال عزَّ وجلَّ فى حق أصحاب الأهواء الزائفة: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (3) وقال أبو قلابة (4) - رحمه الله -: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإنى لا آمن أن يغمسوكم فى ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون" (5) .

_ (1) جزء من الآية 142 من سورة النساء. (2) أخرجه أحمد فى مسنده 1 /22،44 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (3) جزء من الآية 119 من سورة الأنعام. (4) أبو قلابة: هو عبد الله بن زيد، من عُباد التابعين وزهادهم، ممن هرب من البصرة مخافة أن يولى القضاء، ثقة فاضل، كثير الإرسال، مات بالشام سنة 104هـ وقيل بعدها. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1 /494 رقم 3344، والكاشف 1 / 554 رقم 2734، والثقات لابن حبان 5 /2، ومشاهير علماء الأمصار ص 114 رقم 649، والثقات للعجلى ص 257 رقم 813. (5) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب اجتناب أهل الأهواء والبدع والخصومة1 /120 رقم391.

الفصل الأول: أعداء السنة من أهل الأهواء والبدع قديما

الفصل الأول: أعداء السنة من أهل الأهواء والبدع قديماً وفيه تمهيد وخمسة مباحث: تمهيد: وفيه بيان المراد بأعداء السنة من أهل الأهواء والبدع. المبحث الأول: أهمية دراسة الفرق فى التأريخ للسنة. المبحث الثانى: التعريف بالخوارج وموقفهم من السنة المطهرة. المبحث الثالث: التعريف بالشيعة وموقفهم من السنة المطهرة. المبحث الرابع: التعريف بالمعتزلة وموقفهم من السنة المطهرة. المبحث الخامس: من الفرق إلى السنة النبوية الجامعة.

تمهيد وفيه بيان المراد بأعداء السنة من أهل الأهواء والبدع:

تمهيد وفيه بيان المراد بأعداء السنة من أهل الأهواء والبدع: انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى الرفيق الأعلى وقد بلغ رسالة ربه تعالىكاملة، وما من خير إلا دل الأمة عليه، وما من شر إلا وحذرهم منه، كما قال صلى الله عليه وسلم.: "إنه لم يكن نبى قبلى إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم" ... الحديث (1) . كان رأس الخير الذى دل عليه ووصى به الاعتصام بكتاب الله عزَّ وجلَّ وسنته صلى الله عليه وسلم. وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، كما جاء فى الحديث: "إنى قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبداً؛ كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. (2) . وفى الحديث أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.: "أوصيكم بتقوى الله عزَّ وجلَّ والسمع، والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ... الحديث (3) . وكان من الشر الذى حذر منه الأمة أهواء أهل البدع - كما جاء فى الحديث عن عمر بن الخطاب أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم. قال لعائشة: "يا عائشة (4) إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم فى شيء" (5) هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء، ليس لهم توبة أنا منهم برئ، وهم منى برآء (6) .

____ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأول فالأول 6/473 رقم 1844 من حديث عبد الله بن عمرو (. (2) سبق تخريجه ص 47. (3) سبق تخريجه ص 38. (4) عائشة (رضى الله عنها) لها ترجمة فى: الإصابة 8/16 رقم 11461، والاستيعاب 4/1881 رقم 3476، واسد الغابة 7/186 رقم 7093، وتاريخ الصحابة ص 201 رقم 1072، وتذكرة الحفاظ 1/27 رقم 13. (5) الآية 159 من سورة الأنعام. (6) أخرجه البيهقى فى شعب الإيمان 5/449، 450، وأبو نعيم فى حلية الأولياء 4/138، والطبرانى فى الصغير 1/303، من حديث أبى هريرة، وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد 7/22، 23، إسناد الطبرانى فى الصغير جيد، وأخرجه ابن الجوزى فى العلل المتناهية كتاب السنة وذم البدع، باب= =فى تفسير قوله تعالى"إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم فىشئ) 1/144،رقم209، وانظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/196.

وفى الحديث عن عائشة - رضى الله عنها - قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} (1) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.: "فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم (2) وعن أبى أمامة الباهلى (3) رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم. فى قوله عزَّ وجلَّ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (4) قال هم الخوارج، وفى قوله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (5) قال: هم الخوارج (6) . قال الحافظ ابن كثير (7) : وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابى ومعناه صحيح، فإن أول بدعة وقعت فى الإسلام؛ فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين كان النبى صلى الله عليه وسلم. يقسم قسماً، فكأنهم رأوا فى عقولهم الفاسدة، أنه لم يتق الله ولم يعدل فى القسم، ففاجئوه بهذه المقالة فقال قائلهم وهو ذو الخويصرة - بقر الله خاصرته - اتق الله يا محمد،

__ (1) الآية 7 من سورة آل عمران. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب منه آيات محكمات 8/57 رقم 4547، وأخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب العلم باب النهى عن إتباع متشابه القرآن والتحذير من متبعية 8/469 رقم 2665. (3) أبو أمامة الباهلى هو: صدى بن عجلان بن وهب، صحابى جليل. له ترجمة فى: الإصابة 2/182 رقم 4079، والاستيعاب 2/1237 رقم 1242، واسد الغابة 3/15 رقم 2497، وتاريخ الصحابة ص 137 رقم 2675، ومشاهير علماء الأمصار ص 65 رقم 327، وتجريد أسماء الصحابة 1/264. (4) جزء من الآية 7 من سورة آل عمران. (5) الآية 106 من سورة آل عمران. (6) أخرجه أحمد فى مسنده 5/262. (7) ابن كثير: هو إسماعيل بن عمر بن كثير الحافظ عماد الدين أبو الفداء، القرشى البصرى الدمشقى الشافعى، كان عالماً حافظاً فقيهاً، ومفسراً نقاداً، ومؤرخاً كبيراً، من مصنفاته: تفسير القرآن العظيم، والبداية والنهاية مات سنة 774هـ. له ترجمة فى: الدرر الكامنة لابن حجر 1/373 رقم 944، وطبقات المفسرين للداودى 1/111 رقم 103، وشذرات الذهب لابن العماد 6/231، والبدر الطالع للشوكانى 1/153 رقم 95. وذيل تذكرة الحفاظ ص57، 361، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 533 رقم 1159.

فعن أبى سعيد الخدرى (1) رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة - وهو رجل من بنى تميم. فقال: يا رسول الله اعدل فقال: "ويلك ومن يعدل إذ لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل" فقال عمر: وفى رواية خالد (2) : يا رسول الله ائذن لى فيه، فأضرب عنقه. فقال "دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، ويقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ... الحديث" (3) ثم كان ظهورهم أيام على رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة، ثم انبعث القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التى أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. فى قوله " ... وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقه كلها فى النار إلا واحدة. قالوا: وما هم يا رسول الله؟ قال: "من كان على ما أنا عليه وأصحابى" (4) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "أصحاب الرأى أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم" (5) . ومرادى هنا بأعداء السنة من أهل الأهواء والبدع تلك الفرق التى أخبر عنها المعصوم صلى الله عليه وسلم. وتغالت فى بدعتها من الخوارج، والشيعة، والمعتزلة، الذين لقيت السنة المطهرة من أهوائهم وعنتهم عناءً كبيراً، وكان لآرائهم الجامحة فى الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أثر كبير فى اختلاف الآراء، والأحكام فى الفقه الإسلامى، وفيما أثير حول السنة من شبه (6) .

____ (1) أبو سعيد الخدرى: هو سعد بن مالك صحابى جليل. له ترجمة فى: الإصابة 2/53، رقم3204، والاستيعاب 2/1671، رقم 958، واسد الغابة 2/451 رقم 2036، وتاريخ الصحابة ص113 رقم 513، ومشاهير علماء الأمصار ص 17 رقم 26، وتجريد أسماء الصحابة 2/172، وتذكرة الحفاظ 1/44 رقم 22. (2) خالد: هو خالد بن الوليد صحابى جليل. له ترجمة فى: الإصابة 1/413 رقم 2206، والاستيعاب 2/603 رقم 621، واسد الغابة 2/140 رقم 1399، وتاريخ الصحابة 85 رقم349، ومشاهير علماء الأمصار ص 39 رقم 157. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المناقب، باب علامات النبوة فى الإسلام جـ6 ص714 رقم 3610، وأخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم 4/171، 172 رقم 1064. (4) الحديث سبق تخريجه ص 38، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/346 بتصرف. (5) أخرجه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم2/135،والخطيب فى الفقيه والمتفقة1/454 رقم 479. (6) السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى للدكتور السباعى ص 133 بتصرف، وانظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين للدكتور أحمد محرم 1/189

المبحث الأول: أهمية دراسة الفرق فى التأريخ للسنة المطهرة

المبحث الأول: أهمية دراسة الفرق فى التأريخ للسنة المطهرة سبق وأن ذكرنا أن السنة المطهرة لقيت من عنت أهواء تلك الفرق عناءً كبيراً، وكان لها الأثر الكبير فيما أثير حول السنة من شبهات، ومن هنا كان لابد لكل من يؤرخ للسنة أو يتحدث عن الشبهات التى يطعن بها أعداء الإسلام فى حجيتها أو مكانتها فى التشريع الإسلامى. أن يتعرض للتأريخ لهذه الفرق، فهى فضلاً عن موقفها من السنة المطهرة ومن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان لها الأثر الكبير فى تفريق الأمة الإسلامية إلى أحزاب وشيع. من هذا المنطلق تأتى أهمية دراسة تلك الفرق لما يأتى: أولاً: لأن هذه الفرق وإن كانت قديمة فليست العبرة بأشخاص مؤسسى تلك الفرق ولا بزمنهم، ولكن العبرة بوجود أفكار تلك الفرق فى وقتنا الحاضر، فإننا إذا نظرنا إلى بعض تلك الفرق الماضية كالخوارج (القرآنيون) نجد أن لها امتداد يسرى فى حاضر الأمة سريان الوباء، وكذلك المعتزلة لا زالت أفكارهم حية قوية يتشدق بها بعض المغرضين من الذين استهوتهم الحضارة الغربية والشرقية، فراحوا يمجدون العقل ويحكمونه فى نصوص الشرع قرآناً وسنة، فما وافق عقولهم قبلوه وإلا ردوه، أو تأولوه تأويلاً يضر بعقيدة المسلم، ويصفون من يعتمد على ما وراء ذلك بالتأخر والانزواء. إنهم يريدون الخروج عن النهج الإسلامى، ولكنهم لم يجرؤا صراحة على ذلك، فوجدوا أن التستر وراء تلك الآراء التى قال بها من ينتسب إلى الإسلام خير وسيلة لتحقيق ذلك، فذهبوا إلى تمجيد تلك الأفكار لتحقيق أهدافهم البعيدة. فتأتى أهمية دراسة تلك الفرق لبيان ما فيها من أفكار وآراء هدامة مخالفة لحقيقة الإسلام، وكيف يعمل على إحيائها وترويجها فى العصر الحاضر من سار على دربهم أو تأثر بهم، ذلك أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم فى وضوح تام، فلكل قوم وارث، وصدق رب العزة {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} (1)

________ (2) جزء من الآية 118 من سورة البقرة.

وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم. "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى ولو سلكوا جحر ضب، لسلكتموه، قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى قال فمن؟ " (1) . ويأتى الهدف من وراء ذلك بكشف القناع عن تلك الحركات والأفكار الهدامة التى يقول بها فى العصر الحاضر أولئك الخارجون عن الخط السوى والصراط المستقيم، لتعرية دورهم الخطير فى الطعن والتشكيك فى الإسلام قرآن وسنة، وإشاعة الفرقة والاختلاف فى صفوف المسلمين، بتعريف الناس بأمرهم وبحقيقة فكرهم للتحذير منهم. ثانياً: إن دراسة تلك الفرق يكشف لنا جذور البلاء الذى شتت قوى المسلمين وفرقهم شيعاً، وجعل بأسهم بينهم شديداً، كما يكشف لنا جذور شبهات أعداء السنة فى العصر الحاضر. ثالثاً: إن الفرق التى ظهرت قديماً ما من فرقة منها إلا وقد قامت مبادئها على بعض المنكرات، وهى تدعى أنها هى المحقة وما عداها على الضلال، فألبسوا الحق بالباطل، وأظهروا مروقهم وخروجهم وفجورهم عن منهج الكتاب والسنة فى أثواب براقة لترويج بدعهم والدعوة لها. فتأتى دراسة تلك الفرق لبيان أضرارها على العقيدة الإسلامية ووحدة الأمة ورداً على من يزعمون أن الخوارج كانوا من الصحابة، وأن المعتزلة - وهم كانوا من الصحابة والتابعين - رفضوا السنة فى العقائد كما رفضها الخلفاء الراشدون والخوارج، بل يزعمون زيادة على ما سبق أنهم هم الذين نقلوا القرآن، ونقلوا شعائر الدين قبل إقرار مذهب السلف فى ديار المسلمين ... ) (2) .

رابعاً: إن عدم دراسة الفرق والرد عليها وإبطال الأفكار المخالفة للحق، فيه إفساح المجال للفرق المبتدعة أن تفعل ما تريد، وأن تدعوا إلى كل ما تريد من بدع وخرافات دون أن تجد من يتصدى لها بالدراسة والنقد كما هو الواقع، فإن كثيراً من طلاب العلم - فضلاً عن عوام المسلمين - يجهلون أفكار فرق يموج بها العالم، وهى تعمل ليلاً ونهاراً لنشر باطلهم، ولعل هذه الغفلة من المسلمين عن التوجه لكشف هذه الفرق المارقة، لعله من تخطيط أولئك المارقين الذين يحلوا لهم حجب الأنظار عنهم، وعن مخططاتهم الإجرامية، ولا أدل على ذلك من تلك الأفكار وبعض العبارات التى يرددها كثير من المسلمين فى كثير من المجتمعات الإسلامية دون أن يعرفوا أن مصدرها إما من الخوارج مثل قولهم لا حجة فى شئ من أحكام الشريعة إلا من القرآن، أما السنة فلا حجة فيها، ومثل استحلال دماء المسلمين لأقل شبهة، وتكفير الشخص، بل المجتمعات الإسلامية بأدنى ذنب، أو من المعتزلة مثل تمجيد العقل، وتحكيمه فى نصوص الشرع قرآناً وسنة، فما وافقه قبل وإلا فيرد، أو من الشيعة مثل تكفير الصحابة أو بعضهم واتهامهم، بالكذب والخوض فى فتنة عثمان وعلى ومعاوية - رضوان الله على الجميع- أو من البهائية مثل تقديس العدد تسعة عشر، إلى غير ذلك. ومن المعلوم أن ذلك إنما يعود إلى الجهل بأفكار وأهداف هذه الفرق التى أضلت كثيراً من شباب هذه الأمة فى كثير من المجتمعات الإسلامية قديماً وحديثاً، من هنا تأتى أهمية دراسة الفرق وكشف القناع عن أهوائها وبدعها ليكون ذلك الكشف نوراً يضئ لشباب الأمة طريقه وسط هذا الظلام الفكرى المفتعل من قبل ذيول تلك الفرق التى تعمل فى الظلام لنشر أفكارها، وفرض مخططاتها المعادية للإسلام (1) .

_______ (5) فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وموقف الإسلام منها للدكتور غالب عواجى 1/22-26، وانظر: الموافقات للشاطبى فصل (تعريف الفرق الزائغة) 4/539 وما بعدها، وفصل (ضلال هذه الفرق لا يخرجها عن الملة) 4/550 وما بعدها، والاعتصام باب فى مأخذ أهل البدع بالاستدلال 1/178 وما بعدها، وحكم هذه الفرق 2/462 وما بعدها.

المبحث الثانى: التعريف بالخوارج وموقفهم من السنة المطهرة

المبحث الثانى: التعريف بالخوارج وموقفهم من السنة المطهرة التعريف بالخوارج لغة واصطلاحاً 1- فى اللغة: الخوارج فى اللغة جمع خارج، وخارجى اسم مشتق من الخروج وقد أطلق علماء اللغة لكلمة الخوارج فى آخر تعريفاتهم اللغوية فى مادة (خرج) على هذه الطائفة من الناس معللين ذلك بخروجهم عن الدين أو على الإمام على -كرم الله وجهه- أو لخروجهم على الناس (1) . 2- وفى الاصطلاح: الخوراج هم الذين أنكروا على علىّ التحكيم، وتبرؤوا منه، ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة منهم (2) وهم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين (3) وكل من شاركهم فى آرائهم فى أى زمن يسمى خارجياً (4) . وترجع بداية نشأة الخوارج كفرقة ذات اتجاه سياسى وفكر خاص حين خرجوا على الإمام على -كرم الله وجهه- بعد أن رضى بالتحكيم فى موقعة صفين، والتحموا معه فى معركة النهروان الشهيرة (5) . الخوارج وهل كان فيهم أحد من الصحابة أو أصحابهم؟ لم يكن فى الخوارج أحد من أصحاب رسول الله رضي الله عنهم ولا من فقهاء أصحاب الصحابة من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، ولو كان فيهم أحد من فقهاء الصحابة أو من أصحابهم ما اجترءوا على الفتنة والخروج على خليفة المسلمين واتهامه بالكفر وقتله، وإنما هم قوم من الأعراب الجفاة الغلاظ.

__ (1) القاموس المحيط 1/183، 184، وتاج العروس 2/30، وانظر: فتح البارى 12/296 أرقام 6930-6932. (2) هدى السارى لابن حجر ص 483. (3) فتح البارى 12/296 أرقام 6930 - 6932. (4) الملل والنحل 1/114، والفصل فى الملل والنحل 4/157، ومقالات الإسلاميين 1/207. (5) الفصل فى الملل والنحل 4/157، والملل والنحل 1/21، والبداية والنهاية لابن كثير 7/189، وانظر: فرق معاصرة للدكتور غالب عواجى 1/70، 71.

وكان يقال لهم: القراء لشدة اجتهادهم فى التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن على غير المراد منه، ويستبدون برأيهم ويتنطعون فى الزهد والخشوع وغير ذلك (1) وهؤلاء القوم تنبأ بهم المصطفى صلى الله عليه وسلم. وحذر الأمة منهم، وحرض على قتلهم، وذلك عندما تجرأ من هو من جنسهم أو نسلهم ذو الخويصرة على النبى صلى الله عليه وسلم. وهو يقسم قسماً قائلاً بتنطع وغلظة "يا محمد اعدل، يا محمد اتق الله" فيقول له النبى صلى الله عليه وسلم.: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل" ويستأذن عمر بن الخطاب، وفى رواية يستأذن خالد بن الوليد النبى صلى الله عليه وسلم. أن يقتله فيقول النبى صلى الله عليه وسلم.: دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية قال أظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلن قتل ثمود (2) . وهم كما كان مبدؤهم بسبب الدنيا كما فى الحديث السابق، كذلك كان حالهم مع خليفة المسلمين سيدنا عثمان رضي الله عنه خرجوا عليه وقتلوه طلباً للدنيا، وحقداً، وحسداً له، وحملهم على ذلك قلة دين وضعف يقين، وبذلك خاطبهم الإمام على -كرم الله وجهه-. فروى الطبرى: أن علياً ذكر إنعام الله علىالأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم الذى يليه، ثم الذى يليه. وقال: على مسمع من قتله عثمان: "ثم حدث هذا الحدث الذى جره على الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاء الله عليه على الفضيلة وأرادوا رد الأشياء على أدبارها ثم ذكر أنه راحل غداً إلى البصرة، ليجتمع بأم المؤمنين وأخويه طلحة والزبير وقال: "ألا ولا يرتحلن غداً أحد أعان على عثمان رضي الله عنه بشئ فى شئ من أمور الناس، وليغن السفهاء عنى أنفسهم" (3) . ويدل على أنهم لم يكن فيهم أحد من أصحاب رسول الله رضي الله عنهم ولا من فقهاء أصحابه من التابعين رضي الله عنهم أجمعين، ما رواه ابن عبد البر بسنده عن ابن عباس (4) -رضى الله عنهما- قال:

__ (1) فتح البارى 12/296 أرقام 6930-6932. (2) سبق تخريجه ص 62. (3) انظر: تاريخ الأمم والملوك لابن جرير 5/194. (4) ابن عباس: هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، صحابى جليل. له ترجمة فى: الإصابة 1/322 رقم 4799، والاستيعاب 3/933 رقم 1606، واسد الغابة 3/291 رقم 3037، وتاريخ الصحابة ص 148 رقم 717، ومشاهير علماء الأمصار ص 15 رقم 17، وتذكرة الحفاظ 1/40 رقم 18، وتجريد أسماء الصحابة 1/320.

لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علىّ قال: جعل يأتيه الرجل فيقول: يا أمير المؤمنين القوم خارجون عليك قال: دعوهم حتى يخرجوا، فلما كان ذات يوم قلت يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فلا تفتنى حتى أتى القوم. قال: فدخل عليهم وهم قائلون فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر وقد أثر السجود فى جباههم كأن أيديهم ثفن الإبل عليهم قمص مرحضة فقالوا ما جاء بك يا ابن عباس وما هذه الحلة عليك قال قلت ما تعيبون منى فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. أحسن ما يكون من ثياب اليمنية قال ثم قرأت هذه الآية {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (1) . فقالوا ما جاء بك؟ فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله رضي الله عنهم وليس فيكم منهم أحد. ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم ... إلخ" (2) . ويقول الدكتور أبو زهو - رحمه الله تعالى - والذى يظهر أن الخوارج فى مبدئهم كانوا قوماً من الأعراب الجفاة الغلاظ الذين قال الله تعالى فى شأنهم {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (3) . فليس فيهم أحد من أصحاب رسول الله رضي الله عنهم الذين استضاؤا بنور النبوة، وفهموا القرآن على وجهه الصحيح فلا عجب أن يغتر الخوارج بظواهر القرآن، ولو كلفوا أنفسهم النظر فيه وحده لاهتدوا إلى آيات تأمر بالتحكيم فالله تعالى يقول فى سورة النساء {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (4) فالتحكيم أمر مشروع والحكمان إنما يحكمان حسب ما أمر القرآن العزيز {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (5) .

__ (1) جزء من الآية 32 من سورة الأعراف. (2) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/103، 104. (3) الآية 97 من سورة التوبة. (4) جزء من الآية 35 من سورة النساء. (5) جزء من الآية 59 من سورة النساء

وإنما لم يرض على بالتحكيم أولاً؛ لأنه كان يرى الحق معه، وأن طلب التحكيم، إنما هو خدعة من معاوية وعمرو بن العاص، يريدان بها توهين جيش على وتخدير أعصابهم، لما رأياه من تفوقهم فى الموقعة فرفعوا المصاحف على أسنة الرماح طالبين تحكيم كتاب الله. ولو أن أصحاب علىّ أطاعوه فى عدم قبول التحكيم لتغير وجه التاريخ ولوقع معاوية وأهل الشام فى براثن الأسد ولكن أراد الله ما قد كان، ولا راد لقضائه (1) . قال العلامة ابن حزم (2) فى كتابه الفصل فى الملل والنحل: "إنما حكم علىّ رضي الله عنه أبا موسى وعمراً ليكون كل منهما مدلياً بحجة من قدمه، وليكونا متخاصمين عن الطائفتين، ثم حاكمين لمن أوجب القرآن الحكم له.وإذ من المحال الممتنع الذى لا يمكن أن يفهم لغط العسكرين، أو أن يتكلم جميع أهل العسكر بحجتهم، فصح يقيناً لا محيد عنه صواب علىّ رضي الله عنه فى التحكيم والرجوع إلى ما أوجبه القرآن وهذا لا يجوز غيره، ولكن أسلاف الخوارج كانوا أعراباً، قرءوا القرآن قبل أن يتفقهوا فى السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء لا من أصحاب ابن مسعود ولا من أصحاب عمر، ولا أصحاب على، ولا أصحاب عائشة، ولا أصحاب أبى موسى، ولا أصحاب معاذ بن جبل، ولا أصحاب أبى الدرداء، ولا أصحاب سلمان، ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر، ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضاً عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها، فظهر ضعف القوم وقوة جهلهم" (3) . وفى كل ما سبق رد على ما زعمه كذباً الدكتور أحمد حجازى السقا (4) أن الخوارج كانوا من الصحابة والتابعين ورفضوا السنة كما رفضها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنهم هم الذين نقلوا القرآن ونقلوا شعائر الدين قبل إقرار مذهب السلف فى ديار المسلمين ... وأنهم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. كجماعة معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنهم، وجماعة على بن أبى طالب رضي الله عنه، وهؤلاء الجماعات الثلاث بعد قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه سب بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً (5) .

_ (1) الحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 84، 85. (2) ابن حزم: هو على بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهرى، أبو محمد، عالم الأندلس فى عصره، وأحد أئمة الإسلام، روى ابنه أبو رافع أن مصنفات والده بلغت الأربعمائة، من أشهرها: الإحكام فى أصول الأحكام، والفصل فى الملل والنحل، مات سنة 456هـ. وله ترجمة فى: لسان الميزان لابن حجر 4/724 رقم 5782، والبداية والنهاية لابن كثير 12/91، ووفيات الأعيان لابن خلكان 3/325 رقم 448، وشذرات الذهب 3/13، وتذكرة الحفاظ 3/1146 رقم 1016، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 435 رقم 981. (3) الفصل فى الملل والنحل 4/156. (4) هو: أحمد حجازى السقا، كاتب معاصر، حصل على العالمية فى الدعوة من جامعة الأزهر، ورفض الأزهر تعيينه بالجامعة، من مؤلفاته التى شكك فيها فى مكانة السنة النبوية، كتابه دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى، وحقيقة السنة النبوية. (5) دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص 63، 77، 94.

مصادر الخوارج فى العقائد والأحكام:

مصادر الخوارج فى العقائد والأحكام: خاض الخوارج - كغيرهم من الفرق - فى مسائل اعتقادية وفقهية إلا أنهم بصفة خاصة لم تصل إلينا أكثر آرائهم من كتبهم، وإنما وصلت إلينا من كتب أهل السنة وغيرهم من علماء الفرق الآخرين (1) . فنقل عنهم باستثناء الإباضية منهم (2) أنهم ينكرون حجية الإجماع والسنن الشرعية، وقد زعمت هذه الطائفة أنه لا حجة فى شيء من شيء من أحكام الشريعة إلا من القرآن (3) . وقد أطلق أتباع هؤلاء، وأتباع بعض غلاة الرافضة فى الأزمنة المتأخرة على أنفسهم اسم "القرآنيون" (5) ، وحجتهم الحديث الموضوع "ما جاءكم عنى فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فإنى لم أقله" (6) . وهم فى تعاملهم مع كتاب الله بين موقفين: فتارة يكونون نصيين يجمدون على المعنى الظاهر من النص دون بحث عن معناه الذى يهدف إليه وهذا رأى أحمد أمين (7) ، وأبو زهرة (8) . وتارة ثانية يؤولون النصوص تأويلاً يوافق أهواءهم، وقد غلطوا حين ظنوا أن تأويلهم هو ما تهدف إليه النصوص، وعلى هذا الرأى ابن عباس، وشيخ الإسلام ابن تيمية (9) ، وابن قيم الجوزية (10) .

_______ (1) فرق معاصرة للدكتور غالب عواجى 1/106. (2) دراسات فى الحديث النبوى للدكتور محمد مصطفى الأعظمى 1/23. (3) أصول الدين للبغدادى ص 19، وانظر: الملل والنحل للشهرستانى 1/114، 115، والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع للإمام محمد الملطى ص52، والعقيدة والشريعة لجولد تسيهر ص193

وكان لموقفهم هذا من القرآن الكريم، وجهلهم بالحديث، وعدم تحملهم له عن غيرهم، لأنهم كفرة فى نظرهم سبباً فى أن عقائدهم وأحكامهم الفقهية جاءت مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية، بل منه ما جاء مخالفاً لنصوص القرآن الكريم. فمنهم من يرى أن التيمم جائز، ولو على رأس بئر، ومنهم من يرى أن الواجب من الصلاة إنما هو ركعة واحدة بالغداة وأخرى بالعشى، ومنهم من يرى الحج فى جميع شهور السنة، ومنهم من يبيح دم الأطفال والنساء ممن لا ينتمى إلى عسكرهم (1) ، ومنهم من جوز نكاح بنت الابن وبنت الأخ والأخت، ومنهم من أنكر أن تكون سورة يوسف من القرآن، وأن من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن عند الله ولو اعتقد الكفر بقلبه، وعظم البلاء بهم وتوسعوا فى معتقدهم الفاسد، فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الإبط، وأوجبوا الصلاة على الحائض فى حال حيضها، وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إن كان قادراً، وإن لم يكن قادراً فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة، وعن التعرض لهم مطلقاً، وفتكوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبى والنهب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقاً بغير دعوة منهم، ومنهم من يدعوا أولاً ثم يفتك (2) ، وغير ذلك الكثير والكثير. يقول فضيلة الدكتور أبو زهو - رحمه الله -: وهذا مما يدل على جهل عميق حتى بالقرآن الكريم، وأكثر ذلك أتاهم كما قلنا من أنهم لا يعتدون برواية جمهور المسلمين، وكيف يأخذون دينهم عن قوم هم كفار فى نظرهم، وإنما يعتمدون ما رواه لهم أئمتهم، وهم كما قلنا خلو من العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.، بل خلوا من فهم أحكام القرآن على وجهها الصحيح.

_ (1) انظر: فتح البارى 12 /296، 297 أرقام 6930-6932، وانظر: الفرق بين الفرق للبغدادى ص88، والملل والنحل للشهرستانى 1 /113 - 119، ومقالات الإسلاميين 1 /173. (2) انظر: فتح البارى 12 /297، 298 أرقام 6930 - 6932، وانظر: أصول علم الحديث بين المنهج والمصطلح للدكتور أبو لبابة حسين ص 162-172.

ثم لا يغيب عن البال أن هذا الحكم لا يسرى على جميع أفراد الخوارج، بل قد وجد منهم فيما بعد أفراد وأئمة تفقهوا فى الدين، ورووا الحديث، واعتمدهم كما قال ابن الصلاح فى مقدمته بعض أئمة الحديث كالبخارى فقد احتج بعمران بن حطان (1) ، وهو من الخوارج لا سيما إذا علمت أن الخوارج يحكمون بكفر من يكذب؛ لأن مرتكب الكبيرة كافر فى نظرهم، والكذب من الكبائر أ. هـ. (2) . قلت: احتجاج الإمام البخارى فى صحيحه بعمران بن حطان رغم أنه مبتدع من الخوارج؛ فقد كان رأس القعدية من الصفرية، وفقيههم، وشاعرهم، وخطيبهم مع كونه داعية إلى مذهبه فقد مدح (عبد الرحمن بن ملجم) قاتل أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه. احتجاج البخارى به وبغيره من المبتدعين محمول على: 1- أنه خرج لهم ما حمل عنهم قبل ابتداعهم. 2- أو أنهم يكونون ممن تابوا ورجعوا عن بدعتهم فى آخر حياتهم. 3- أو يكونون تبرؤوا مما نسب إليهم. وعلى القول الأول حمل ما أخرجه الإمام البخارى عن عمران بن حطان قال ابن حجر -رحمه الله-: "وقد أخرج له البخارى على قاعدته فى تخريج أحاديث المبتدع إذا كان صادق اللهجة متديناً وقيل: إن يحيى بن أبى كثير (3) ، حمله عنه قبل أن يبتدع" (4) وليس لعمران بن حطان فى البخارى سوى حديثين أحدهما متابعة (5) والآخر أصل (6) . وعلى الأقوال السابقة يحمل أيضاً ما أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه عن المبتدعين.

__ (1) عمران بن حطان: هو عمران بن حطان بكر الحاء وتشديد الطاء المهملتين السدوسى، سمع عائشة وابن عمر وابن عباس، روى عنه يحيى بن أبى كثير، وكان رأساً فى الخوارج. وقال العقيلى: لا يتابع على حديثه ووثقه العجلى، وقال قتادة: كان لا يتهم فى الحديث، وقال أبو داود: ليس فى أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج ثم ذكر عمران بن حطان، وأبا حسان الأعرج، وذكره ابن حبان فى الثقات، مات سنة 184هـ له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1 /751 رقم 5168، والكاشف2 /92 رقم4262، ورجال صحيح البخارى للكلاباذى 2/574 رقم 904، والجمع بين رجال الصحيحين لابن القيسرانى1 /389 رقم 1484، والثقات للعجلى ص 373 رقم 1301، والثقات لابن حبان 5 /222، وانظر: حاشية ابن العجمى على الكاشف 2 /92، 93، والبيان والتوضيح لمن أخرج له فى الصحيح ومس بضرب من التجريح للعراقى ص 189 رقم 291. (2) الحديث والمحدثون ص 86، وانظر: الملل والنحل 1 /115، 116. (3) يحيى بن أبى كثير: هو يحيى بن أبى كثير من موالى بنى طئ من أهل البصرة عالم أهل اليمامة فى عصره، ثقة ثبت لكنه يدلس ويرسل مات سنة 132هـ وقيل قبل ذلك. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2 /313 رقم 7660، والثقات لابن حبان 7 /591، والتاريخ الكبير للبخارى 4 /2 رقم 301، وصفوة الصفوة 4 /75 رقم 657، والكاشف 2 /373 رقم 6235، ومشاهير علماء الأمصار ص 224 رقم 1037. (4) فتح البارى 10 /302 رقم 5835. (5) انظر: صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب اللباس، باب لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز منه 10/296 رقم 5835. (6) انظر: المصدر السابق نفس الكتاب، باب نقض الصور 10 /398 رقم 5952.

عقيدة الخوارج فى الصحابة رضي الله عنهم وأثر ذلك على السنة المطهرة:

عقيدة الخوارج فى الصحابة رضي الله عنهم وأثر ذلك على السنة المطهرة: للخوارج فى الصحابة رضي الله عنهم رأى يخالف رأى الجمهور من المسلمين؛ فهم على اختلاف فرقهم يعدلون الصحابة جميعاً قبل الفتنة، ثم يكفرون عثمان، وعلى، وأصحاب الجمل، والحكمين، ومن رضى بالتحكيم، وصوب الحكمين أو أحدهما (1) ، وبذلك ردوا أحاديث جمهور الصحابة بعد الفتنة، لرضاهم بالتحكيم، واتباعهم أئمة الجور على زعمهم، فلم يكونوا أهلاً لثقتهم. أما جمهور المسلمين فقد حكموا بعدالة الصحابة جميعاً، سواء منهم من كان قبل الفتنة أو بعدها، وسواء منهم من انغمس فيها أو جانبها، ويقبلون رواية العدول الثقات عنهم، وكان من آثار هذا الاختلاف فى النظر إلى الصحابة أن هوجمت السنة التى جمعها الجمهور وحققها أئمتهم ونقادهم، منذ عصر الصحابة حتى عصر الجمع والتدوين، من قبل الخوارج وهم وإن لم ينغمسوا فى رذيلة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما فعل غيرهم، نظراً لأنه عندهم كبيرة ومرتكبها كافر (2) ، ونظراً لبداوتهم وجفاء طبعهم وغلظتهم كانوا غير مستعدين لقبول أفراد من الأمم الأخرى؛ كالفرس، واليهود، والنصارى، وغيرهم ممن يريدون هدم الإسلام واندسوا فى الشيعة، ووضعوا كثيراً من الأحاديث، فضلاً على أنهم كانوا صرحاء لا يعرفون التقية التى يؤمن بها الشيعة (3) . إلا أن موقفهم من الصحابة جعلهم يردون الأحاديث التى خرجت بعد الفتنة، أو اشترك رواتها بالفتنة، فضلاً عن جهلهم بأحكام القرآن على وجهها الصحيح؛ جعلهم يخالفون جمهور المسلمين فى عقائدهم وأحكامهم الفقهية كما سبق.

__ 1 /115، والخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية للدكتور محمد عمارة ص 139. (2) السنة ومكانتها فى التشريع ص 131، 132. (3) الحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 87.

هل كان الخوارج يكذبون فى الحديث؟

يقول فضيلة الدكتور السباعى - رحمه الله -: وإنه لبلاء عظيم أن نسقط عدالة جمهور الصحابة الذين اشتركوا فى النزاع مع على أو معاوية، أو نسقط أحاديثهم ونحكم بكفرهم أو فسقهم، وهم فى هذا الرأى لا يقلون عن الشيعة خطراً وفساد رأى، وسوء نتيجة، وإذا كان مدار الاعتماد على الرواية هو صدق الصحابى وأمانته، فيما نقل - وقد كان ذلك موفوراً عندهم - وكان الكذب أبعد شئ عن طبيعتهم ودينهم وتربيتهم، فما دخل ذلك بآرائهم السياسية وأخطائهم؟ ... ووصفهم بأوصاف لا تليق بعامة الناس، فكيف بأصحاب رسول الله رضي الله عنهم الذين كان لهم فى خدمة الإسلام قدم صدق، لولاها لكنا نتيه فى الظلمات ولا نعرف كيف نهتدى سبيلاً (1) . هل كان الخوارج يكذبون فى الحديث؟ تحت هذا العنوان نفى الدكتور السباعى فى كتابه (السنة ومكانتها فى التشريع) : أن يكون الخوارج كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأنهم يكفرون مرتكب الكبيرة على ما هو المشهور عنهم، أو مرتكبى الذنوب مطلقاً كما حكاه الكعبى (2) فما كانوا يستحلون الكذب ولا الفسق ولا التقية ونفى أن يكون هناك دليلاً محسوساً يدل على أنهم ممن وضعوا الحديث. وقال معقباً على ما روى عن ابن لهيعة عن شيخ لهم أنه قال: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً (3) . وقول عبد الرحمن بن مهدى: إن الخوارج والزنادقة قد وضعوا هذا الحديث "إذا أتاكم عنى حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته ... الحديث" (4) . يقول الدكتور السباعى: هكذا قال الكاتبون فى هذا الموضوع من القدامى والمحدثين، ولكنى لم أعثر على حديث وضعه خارجى، وبحثت كثيراً فى كتب الموضوعات، فلم أعثر على خارجى عُدَّ من الكذابين والوضاعين.

_______ (1) السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى للدكتور السباعى ص 133 بتصرف، وانظر: أصول علم الحديث بين المنهج والمصطلح للدكتور أبو لبابة حسين ص 161-162. (2) الفرق بين الفرق للبغدادى ص 79، 85، 88، 92. (3) مقدمة الموضوعات لابن الجوزى ص38، 39، واللآلى المصنوعة للسيوطى 2 /486، والمدخل للحاكم ص9. (4) الحديث سيأتى تخريجه وبيان وضعه فى شبهة عرض السنة على القرآن الكريم ص 224-227.

أما النص السابق الذى يذكرونه عن شيخ للخوارج، فهو مجهول ولا ندرى من هو؟ وقد سبق مثل هذا التصريح برواية حماد بن سلمة عن شيخ رافضى، فلماذا لا تكون نسبته إلى شيخ خارجى خطأ؟ خصوصاً ولم نعثر لهم على حديث واحد موضوع. أما قول عبد الرحمن بن مهدى عن حديث (إذا أتاكم ... إلخ) أنه وضعته الزنادقة والخوارج، فلا أدرى مدى صحته عن ابن مهدى، فقد ذكره عنه ابن عبد البر فى (جامع بيان العلم) بلا سند (1) فضلاً على أنه لم يذكر لنا عن ابن مهدى من هو واضعه؟ على أن المنقول عن غير ابن مهدى لفظ الزنادقة فقط، قال شمس الحق العظيم آبادى: فأما ما رواه بعضهم أنه قال: "إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله ... الحديث"؛ فإنه حديث لا أصل له (2) وقد حكى زكريا الساجى عن يحيى بن معين (3) أنه قال "هذا حديث وضعته الزنادقة" ونقل الفتنى عن الخطابى (4) أنه قال أيضاً "وضعته الزنادقة" (5) ، وليس فى هذين النصين ذكر للخوارج بحال. وقد ورد عنهم ما ينفى تهمة الكذب عنهم. يقول المُبَرِّدُ (6) :

________ (1) جامع بيان العلم وفضله 2 /191. (2) عون المعبود شرح سنن أبو داود 4 /329. (3) يحيى بن معين: هو يحيى بن معين بن عون المرى بالولاء البغدادى، أبو زكريا، الحافظ المشهور، كان إماماً عالماً ربانياً حافظاً متقناً خبيراً بصحيح الحديث وسقيمه، مات سنة 233هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/316 رقم 7679، والكاشف 2 /376 رقم 6250، وتذكرة الحفاظ 2 /429 رقم 437، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 188 رقم 416، والثقات للعجلى ص 475 رقم 1826، والجرح والتعديل 9 /192، والإرشاد للخليلى ص 186، 187، ووفيات الأعيان 6 /139 رقم 791. ( 4) الخطابى: هو حمد ويقال أحمد بن إبراهيم بن خطاب البستى - نسبة إلى بست مدينة من بلاد كابل - أبو سليمان، كان أحد أوعية العلم فى زمانه حافظاً فقيهاً، له من التصانيف النافعة الجامعة: معالم السنن وغريب الحديث، وإصلاح غلط المحدثين وغيرها، مات سنة 388هـ. له ترجمة فى: مرآة الجنان لليافعى 2 /435، وبغية الوعاة للسيوطى 1 /536 رقم 1143، وشذرات الذهب لابن العماد 3 /127، 128، وتذكرة الحفاظ 3/1018 رقم 950، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 404 رقم 915، واللباب فى تهذيب الأنساب 1 /151. (5) تذكرة الموضوعات ص 28. (6) المُبَرِّدُ: هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر أبو العباس، أديب، نحوى، لغوى، كان كثير الحفظ، غزير العلم، وثقة الخطيب وجماعة، من مصنفاته المقتضب، والكامل فى الأدب، وغيرهما مات سنة 285هـ. له ترجمة فى: لسان الميزان 6 /629 رقم 8264، وسير أعلام النبلاء 13 /576 رقم 299، وطبقات المفسرين للراوى 2 /269 رقم 597، وشذرات الذهب 2/190، وإنباه الرواة للقفطى 1 /40، 48.

"والخوارج فى جميع أصنافها تبرأ من الكاذب ومن ذوى المعصية الظاهرة (1) " وقال أبو داود (2) : "ليس فى أصحاب الأهواء أصح حديثاً من الخوارج" (3) . وقال ابن تيمية (4) : للرافضة فى الرد عليهم "ونحن نعلم أن الخوارج شر منكم ومع هذا فما نقدر أن نرميهم بالكذب لأننا جربناهم فوجدناهم يتحرون الصدق لهم وعليهم (5) وقال: ومن تأمل كتب الجرح والتعديل رأى المعروف عند مصنفيها بالكذب فى الشيعة أكثر فى جميع الطوائف، والخوارج مع مروقهم من الدين فهم من أصدق الناس حتى قيل: إن حديثهم من أصح الحديث" (6) وقال أيضاً "ليس فى أهل الأهواء أصدق ولا أعدل من الخوارج (7) . قلت: وأنا مع الدكتور السباعى فيما ذهب إليه ورجحه من نفى تهمة كذب الخوارج فى الحديث، وليس معنى ذلك براءتهم، ولكن معناه أنى لا اتهمهم بالكذب فى الحديث؛ لأنه لا دليل على كذبهم، والأخبار الواردة فى اتهامهم بالوضع ضعيفة تحتمل التأويل كما سبق، والأخبار التى تدل على صدقهم ونفى الكذب عنهم صريحة وواضحة.

وكل ما يقال بحق، أنهم جهلة بالسنة ولا يحتجون بها؛ لأنها من طريق صحابة رسول الله رضي الله عنهم وهم كفار فى نظرهم، فضلاً عن عدم استعدادهم لقبول آراء غيرهم؛ نظراً لبداوتهم وجفاء طبعهم وغلظتهم وجهلهم بفقه الكتاب والسنة؛ ولذا نجدهم يعملون على محاربة المسلمين وإراقة دمائهم وانتهاك حرمتهم فهم أحقاء بأن يسموا بالخوارج البغاة لخروجهم على السنة وأهلها ومعاداتهم لها (1) .

_____ (1) شرح القصيدة النونية للدكتور محمد خليل هراس ص 322.

المبحث الثالث: التعريف بالشيعة وموقفهم من السنة النبوية

المبحث الثالث: التعريف بالشيعة وموقفهم من السنة النبوية تمهيد: الشيعة كفرقة ذات أفكار وآراء غلب عليهم هذا الاسم، ويشيع فيهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى أئمتهم، وذلك باعتراف علمائهم، وهذا من أشد الخطر على الإسلام والمسلمين، وذلك بسبب: 1- استعمالهم التقية المرادفة للكذب. 2- تظاهرهم بنصرة آل البيت، حيث انخدع بهم كثير من العوام بل وخواص المسلمين. 3- بغضهم وتكفيرهم ولعنهم صحابة رسول الله رضي الله عنهم إلا نفر يسير، وبغضهم وتكفيرهم لأهل السنة بسبب تعاليم خاطئة وضعها بعض كبرائهم قديماً، وسار عليها بعض كبرائهم حديثاً نتج عنها نفور الشيعة، وعدم الوصول بعد محاولات كثيرة من جانب أهل السنة إلى التقارب. وقد قام التشيع فى ظاهر الأمر على أساس الاعتقاد؛ بأن علياً رضي الله عنه وذريته هم أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن علياً أحق بها من سائر الصحابة بوصية من النبى صلى الله عليه وسلم. كما زعموا فى رواياتهم التى اخترعوها وملأوا بها كتبهم قديماً وحديثاً (1) . والحق أن التشيع كان مأوى يلجأ إليه كل من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن كان يريد إدخال تعاليم آبائه من يهودية ونصرانية وزردشتية وهندية، ومن كان يريد استقلال بلاده والخروج على مملكته، كل هؤلاء كانوا يتخذون حب آل البيت ستاراً يضعون وراءه كل ما شاءت أهواؤهم. فاليهودية ظهرت فى التشيع بالقول بالرجعة، وقال الرافضة السبئية: إن النار محرمة على الشيعى إلا قليلاً، كما قال اليهود لن تمسنا إلا أياماً معدودات (2) .

_____ (1) فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام للدكتور غالب عواجى 1 /128 بتصرف. (2) انظر: الفرق بين الفرق 215، والملل والنحل 1 /186، ومنهاج السنة 1 /7، وانظر: مختصر التحفة الإثنا عشرية للعلامة السيد محمود الألوسى ص 317، 318.

والنصرانية ظهرت فى فرق الحلولية وهى فرق أكثرها يرجع إلى غلاة الروافض فقال بعضهم: إن نسبة الإمام إلى الله كنسبة المسيح إليه، وقالوا: إن اللاهوت اتحد بالناسوت فى الإمام، وإن النبوة والرسالة لا تنقطع أبداً فمن اتحد به اللاهوت فهو نبى (1) . وتحت التشيع ظهر القول بتناسخ الأرواح وتجسيم الله والحلول، ونحو ذلك من الأقوال التى كانت معروفة عند البراهمة، والفلاسفة، والمجوس من قبل الإسلام، وقال بها الراوندية من الروافض الحلولية (2) . وتستر بعض الفرس بالتشيع، وحابوا الدولة الأموية، والعباسية، وقاموا بثورات عديدة، سجلها علماء الفرق والتاريخ، وما فى نفوسهم إلا الكره للعرب ودولتهم والسعى لاستقلالهم وهيمنتهم (3) ، وتاريخ الشيعة فى القديم والحديث شاهد صدق على أن الحركات المارقة والهدامة إنما خرجت من تحت عباءتهم بعد أن رضعت لبنهم وهدهدت بين ذراعيهم (4) . التعريف بالشيعة لغة: هم الاتباع والانصار، قال صاحب القاموس: شيعة الرجل أتباعه وأنصاره ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث وجمعه أشياع وشيع كعنب (5) . وقال صاحب تاج العروس: الشيعة كل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة وكل من عاون إنساناً وتخرب له فهو شيعة له، وأصله من المشايعة وهى المطاوعة والمتابعة (6) . ووردت كلمة شيعة ومشتقاتها فى القرآن الكريم مراداً بها معانيها اللغوية الموضوعة لها على المعانى التالية: 1- بمعنى الفرقة أو الأمة أو الجماعة من الناس: قال تعالى {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} (7) . أى من كل فرقة وجماعة وأمة (8) .

_____ (1) فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام للدكتور غالب عواجى 1 /128 بتصرف. (2) انظر: الفرق بين الفرق 215، والملل والنحل 1 /186، ومنهاج السنة 1 /7، وانظر: مختصر التحفة الإثنا عشرية للعلامة السيد محمود الألوسى ص 317، 318. (1) الفرق بين الفرق ص 228 - 230، والملل والنحل 1 /186. (2) الفرق بين الفرق ص 242، والملل والنحل 1 /186. (3) فجر الإسلام للدكتور أحمد أمين ص 276، 277 بتصرف. (4) الدفاع عن السنة، الجزء الأول من سلسلة الإسلام واستمرار المؤامرة للأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 31. (5) القاموس المحيط 3 /46. (6) تاج العروس 5 /405. (7) الآية 69 من سورة مريم. (8) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3 /131.

2- بمعنى الفرقة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (1) أى فرقاً (2) . 3- وجاءت لفظة أشياع بمعنى أمثال ونظائر قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (3) أى أشباهكم فى الكفر من الأمم الماضية (4) . 4- بمعنى المتابع والموالى والمناصر قال تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} (5) وفى الحديث من قول حكيم بن أفلح (6) إنى قد نهيتها - أى السيدة عائشة -رضى الله عنها- أن تقول فى هاتين الشيعتين شيئاً (7) أى شيعة الإمام على -كرم الله وجهه- وشيعة الإمام معاوية -رضى الله عن الجميع - ففى ذلك ما يشهد لعموم اسم الشيعة. التعريف بالشيعة اصطلاحاً: اختلفت وجهات نظر العلماء فى التعريف بحقيقة الشيعة وأرجح تلك الأقوال هى: أنهم الذين يزعمون أنهم أتباع على بن أبى طالب رضي الله عنه وأنصاره، ويعتقدون أنه أفضل من الخلفاء الراشدين - رضوان الله عليهم أجمعين - وأنه وأهل بيته أحق بالخلافة، وإن خرجت منهم فبظلم يكون من غيرهم (8) .

______ (1) جزء من الآية 159 من سورة الأنعام. (2) تفسير القرآن الحكيم - تفسير المنار 8 /214. (3) الآية 51 من سورة القمر. (4) جامع البيان فى تأويل آى القرآن لابن جرير 27 /112. (5) الآية 15 من سورة القصص، وانظر: فتح القدير للشوكانى 4/164، وفرق معاصرة للدكتور غالب عواجى 1 /131، 132، وانظر: أصول الرواية عند الشيعة الإمامية الإثنا عشرية للدكتور عمر الفرماوى ص 12. (6) حكيم بن أفلح: هو حكيم بن أفلح المدنى روى عن أبى مسعود، وعائشة وعنه والد عبد الحميد ابن جعفر. مقبول له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1 /234 رقم 1471، والكاشف 1 /346 رقم 1195، تهذيب التهذيب 2 /444 رقم 771، وميزان الاعتدال 1 /583، رقم 1214 (7) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض 3/279، 280 رقم 746. (8) انظر: الملل والنحل 1 /146، وفرق معاصرة 1 /132، 133، والشيعة الإثنا عشرية ومنهجهم فى التفسير للدكتور محمد العسال ص 19 - 23، وانظر: بقية التعريفات فى المصادر السابقة.

موقف الشيعة من الصحابة والأمة الإسلامية:

موقف الشيعة من الصحابة والأمة الإسلامية: أولاً: موقف الشيعة من الصحابة: ... يقول الدكتور محمد العسال: يعتقد الشيعة أن الصحابة كلهم كانوا كفرة منافقين مخادعين لله ورسوله - ونعوذ بالله من ذلك - لا يستثنون إلا خمسة أو سبعة أو بضعة عشر، على خلاف بينهم فى هذا، والمجمع على استثنائهم هم: سلمان الفارسى، وعمار بن ياسر، وأبو ذر الغفارى، والمقداد، وجابر بن عبد الله الأنصارى. ويرى بعض الشيعة أن الصحابة: إنما كفروا وارتدوا عن الإسلام بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم. لا فى حياته، وإنما قال ذلك أصحاب هذا الرأى لما وجدوا صريح القرآن يمدحهم ويثنى عليهم، فظنوا أن القول بكفرهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. يتفادون به التعارض مع القرآن بخلاف القول بكفرهم والقرآن ينزل والوحى متواصل، هكذا يزعمون. كما زعموا أن كفر الصحابة إنما هو بسبب إنكارهم النص على ولاية علىَّ رضي الله عنه التى هى أساس الدين عند الشيعة، وقد تواطأ الصحابة على جحده وإنكاره إلا الخمسة الذين مر ذكرهم، أما كبار الصحابة مثل أبى بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير وبقية العشرة، وعائشة، وحفصة وغيرهم؛ فإنهم كانوا متظاهرين بالإسلام فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. مع إبطانهم الكفر، خاصة فيما يتعلق بولاية علىَّ رضي الله عنه حقداً عليه حيث كانوا يطمعون فى هذه الولاية بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. بل هؤلاء الصفوة من خيرة أصحاب رسول الله رضي الله عنهم هم فى عقيدة الشيعة رؤساء الكفر والنفاق فهم أصله ومعدنه وفرعه وثمرته، ونعوذ بالله من ذلك. وهذه عقيدة لا ينفك عنها شيعى واحد من الإثنى عشرية، وإن تظاهر أحدهم بإنكار ذلك فأعلم أنه يقولها (تقية) لأنها عقيدة لا تقبل المساومة عندهم، إذ لو صحح الشيعى إمامة أبى بكر وعمر وعثمان لوجب عليه أن يعترف ببطلان الولاية والإمامة لعلى وبنيه، وهذا كفر بإجماع الإثنى عشرية.

وللشيعة فى تكفيرهم للصحابة شبهات سيأتى ذكرها والرد عليها فى باب وسائل أعداء السنة فى الكيد لها. هذا وقد امتلأت كتب الشيعة تفسيراً وحديثاً- على كثرتها وبطلانها بهذه العقيدة الفاسدة، وسودوا هذه الكتب بما تضيق منه الصدور من عقيدتهم هذه (1) . وتأكيداً لكل ما سبق سأكتفى بذكر نموذج أو أكثر من كتبهم تفسيراً وحديثاً، فالقمى فى تفسيره (2) يقول فيه الدكتور محمد العسال هذا المفسر يحمل كل كلمة كفر أو نفاق أو فسق أو ضلال أو شرك أو ظلم أو عصيان وخداع، وكل ما يشتق من ذلك أو يماثله على كبار الصحابة، وخاصة على أبى بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير، وقد ضرب على ذلك أمثلة منها فى قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} (3) قال القمى: الحرث الدين، والنسل الناس، ونزلت فى الثانى -يعنى عمر- وقيل فى معاوية (4) . وعند قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} (5) قال: هم الذين غصبوا آل محمد حقهم، وعند قوله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} (6) قال: هم الظالمون آل محمد حقهم، والذين اتبعوا من غصبهم (7) . وفى أصح الكتب عندهم بعد كتاب الله عزَّ وجلَّ وهو الكافى الذى يعد عندهم كالبخارى عند أهل السنة، أخرج الكلينى بسنده عن أبى جعفر عليه السلام قال: كان الناس أهل ردة بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم. إلا ثلاثة، فقلت ومن الثلاثة فقال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفارى، وسلمان الفارسى، رحمة الله وبركاته عليهم (8) . وأخرج أيضاً عن أبى بصير عن أحدهما عليه السلام قال: إن أهل مكة ليكفرون بالله جهرة، وإن أهل المدينة أخبث من أهل مكة، أخبث منهم سبعين ضعفاً (9) .

______ (1) الشيعة الإثنى عشرية ومنهجهم فى التفسير ص 461 بتصرف، وانظر: أصل الشيعة وأصولها لمحمد الحسين ال كاشف ص 68 - 74. (2) انظر فى: منزلة الكتاب وصاحبه عند الشيعة، ومظاهر الغلو والضلال فى الكتاب، ما كتبه الدكتور على السالوس فى كتاب مع الشيعة الإثنا عشرية فى الأصول والفروع 2 /173-197 (3) الآية 205 من سورة البقرة. (4) تفسير القمى ص 61. (5) جزء من الآية 256 من سورة البقرة. (6) جزء من الآية 257 من سورة البقرة. (7) تفسير القمى ص 75، وانظر: الشيعة الإثنا عشرية ومنهجهم فى التفسير للدكتور محمد العسال ص462، 463، ومع الشيعة الإثنا عشرية فى الأصول والفروع للدكتور على السالوس 2 /173 - 197. (8) الكافى كتاب الروضة 8 /168، 341. (9) الكافى كتاب الإيمان والكفر، باب صنوف أهل الكفر وذكر القدرية والخوارج 2 /400 رقم 4

ثانيا: موقف الشيعة من الأمة الإسلامية:

وأخرج أيضاً عن أبى بكر الحضرمى قال: قلت لأبى عبد الله عليه السلام: أهل الشام شر أم أهل الروم؟ فقال: إن الروم كفروا ولم يعاندوا، وإن أهل الشام كفروا وعاندوا (1) . إلى غير ذلك الكثير والكثير من إفكهم الذى امتلأت به كتبهم تفسيراً وحديثاً، والتى كانت منفذاً للمستشرقين وأتباعهم نفذوا منه إلى الطعن فى دين الإسلام ومصدره الأول القرآن الكريم. ثانياً: موقف الشيعة من الأمة الإسلامية: يقول الدكتور محمد العسال: يعتقد الشيعة الإثنا عشرية أن أمة محمد هى الأمة الملعونة، ولو كانت من سائر فرق الشيعة سواهم، فكل من لم يوال الإثنى عشر إماماً ويؤمن بولايتهم ويتبرأ من الصحابة؛ فهو ملعون هالك، أما من يعتقد إيمان الصحابة ويصحح خلافة أبى بكر وعمر وعثمان فهو ناصبى عندهم والناصبى شر من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كما يزعمون من هنا فحملتهم على أهل السنة -النواصب- فى نظرهم لا تكاد تهدأ؛ لأنهم أكثر فرق الأمة عرفاناً بالجميل للصحابة، وعلى رأسهم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ويقول الدكتور محمد العسال بعد أن ذكر نماذج من تفسيرهم الباطل تؤكد تلك العقيدة الفاسدة قال: وغالب ظنى أن هذه العقيدة قد استفادها الروافض من زنادقة الباطنية الخارجين عن الإسلام بإجماع الفرق والذين يسمون أمة محمد صلى الله عليه وسلم. بالأمة الملعونة المنكوسة، حيث يحكى لنا الإمام عبد القادر البغدادى عنهم فى نص رسالة عثر عليها من زعيمهم عبيد الله بن الحسين القيروانى إلى داعيته سليمان بن الحسن بن سعيد الجنانى جاء فيها: إنى أوصيك بتشكيك الناس فى القرآن والتوراة والزبور والإنجيل، وبدعوتهم إلى إبطال الشرائع ... ثم قال له ولا تكن كصاحب الأمة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (2) لما لم يعلم ولم يحضره جواب المسألة ... إلخ (3) .

_ (1) الموضع السابق 2 /410 رقم 5، وانظر: أصول الرواية عند الشيعة الأمامية الأثنا عشرية للدكتور عمر الفرماوى ص 192. (2) جزء من الآية 85 من سورة الإسراء. (3) الفرق بين الفرق للإمام البغدادى ص 262.

أثر موقف الشيعة الرافضة من الصحابة على الإسلام (قرآنا وسنة) :

فهذه زندقة -نعوذ بالله منها-، وعقيدة الإثنى عشرية فى الأمة إما متأثرة بتلك الزندقة وإما أنها مدخل إليها، لا محل سوى ذلك (1) . وصدق الإمام ابن تيمية (أصل مذهب الشيعة الرافضة من أحداث الزنادقة المنافقين الذين عاقبهم فى حياتهم على أمير المؤمنين رضي الله عنهم (2) أ. هـ.. أثر موقف الشيعة الرافضة من الصحابة على الإسلام (قرآناً وسنة) : أولاً: أثر موقف الشيعة من الصحابة على القرآن الكريم: كان من آثار تكفير الشيعة للصحابة إلا من استثنوهم أن هوجم القرآن الكريم والسنة النبوية، فهاجموا القرآن الكريم، وصرحوا وبكل وضوح أن فى القرآن الكريم نقصاً وتحريفاً متعمداً من الصحابة عند جمعه لإخفاء ما ورد صريحاً فى ولاية الأئمة من آل البيت، أو لإخفاء الآيات التى فيها ذم المهاجرين والأنصار ومثالب قريش، وزعموا أن القرآن لم يجمعه كما أنزل إلا علىّ فقط، كما يعتقدون أن مصحفاً مفقوداً سيصل إلى أيديهم يوماً ما، يسمى "مصحف فاطمة" فيه أضعاف ما فى المصحف العثمانى الموجود بين أيدى المسلمين، وأنه يختلف عن هذا المصحف اختلافاً كثيراً، وقد ألف أحد طواغيتهم واسمه حسين بن محمد تقى الطبرسى كتابه (فصل الخطاب فى إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) (3) وفيه أكثر من ألفى رواية عن طواغيتهم المعصومين، والتى تؤكد التحريف فى القرآن من كل نوع، وعندما طبع الكتاب وقامت حوله ضجة ألف الطبرسى كتاباً آخر سماه (رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب فى إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) دافع فيه عن ما أودعه فى كتابه السابق (فصل الخطاب) وقد كتب هذا الدفاع قبل موته بسنتين.

____ (1) الشيعة الإثنا عشرية ومنهجهم فى التفسير للدكتور محمد العسال ص 510. (2) منهاج السنة 1 /3، وانظر: أدلة على استمرار بعض غلاة الشيعة الجعفرية على موقفهم هذا من الأمة الإسلامية فيما كتبه أحد زعمائهم فى العصر الحديث فى كتابه تحرير الوسيلة للخمينى 1 /118، 136، وانظر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وموقف الإسلام منها للدكتور غالب عواجى 1 /264، 26، والسنة المفترى عليها للمستشار سالم البهنساوى ص 130، 131، والفتنة الخمينية حقيقة الثورة الإيرانية للشيخ محمد عبد القادر ص 8، 9، 25، 26، 33، وانظر: خلاصة موقف الشيعة من حكام المسلمين قديماً وحديثاً، فى الخطوط العريضة للأستاذ محب الدين الخطيب، فصل الشيعة والحكومات الإسلامية ص 43 - 64، والشيعة فى نقد عقائد الشيعة لموسى جار الله ص 97، وانظر خطرهم على الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً فى الخطوط العريضة فصل (الشيعة والتاريخ) ص 73 - 77، وفرق معاصره 1 /262. (3) انظر: فى مكانة هذا الكتاب وصاحبه عن الشيعة فيما كتبه الدكتور على السالوس فى كتابه مع الشيعة الإثنى عشرية فى الأصول والفروع 2 /149 - 151.

ومهما تظاهر الشيعة بالبراءة من كتاب النورى الطبرسى عملاً بعقيدة التقية، فإن الكتاب ينطوى كما سبق على آلاف النصوص عن طواغيتهم فى كتبهم المعتبرة يثبت بها أنهم جازمون بالتحريف ومؤمنون به، ولكن لا يحبون أن تثور الضجة حول عقيدتهم هذه فى القرآن (1) ويتظاهرون تقية ويفتون بأنه لا يأثم من قرأ القرآن كما يتعلمه الناس فى المصحف العثمانى، ثم الخاصة من الشيعة سيعلم بعضهم بعضاً ما يخالف ذلك مما يزعمون أنه موجود أو كان موجوداً عند أئمتهم من أهل البيت، ويدل على ذلك ما أخرجه الكلينى فى كتابه الكافى بسنده عن على بن موسى الرضا المتوفى سنة 206هـ عندما سأل، إنا نسمع الآيات فى القرآن ليس هى عندنا كما نسمعها، ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم، فهل نأثم؟ فقال: لا، اقرءوا كما تعلمتم، فسيجيئكم من يعلمكم (2) . ومما يدل على أن الشيعة يكادون يجمعون على ما أورده الطبرسى فى كتابه (فصل الخطاب) أنهم كافئوه على هذا المجهود فى إثبات أن القرآن محرف بأن دفنوه فى أقدس البقاع عندهم فى بناء المشهد العلوى فى النجف. وفى عصرنا الحاضر ردد الخمينى هذا الإفك فى كتابه (كشف الأسرار) قائلاً: "لقد كان سهلاً عليهم - الصحابة الكرام - أن يخرجوا هذه الآيات من القرآن، ويتناولوا الكتاب السماوى بالتحريف، ويسدلوا الستار على القرآن، ويغيبوه عن أعين العالمين ثم يقول: "إن تهمة التحريف التى يوجهها المسلمون إلى اليهود والنصارى، إنما تثبت على الصحابة (3) . وهم حتى عندما يعتبرون المصحف العثمانى مصدراً من مصادر العقائد والأحكام، فهم يختلفون فى فهم معانية عن سائر الفرق وخصوصاً أهل السنة - ويرجعون فهم القرآن إلى الأئمة من آل البيت (4) ، وكلها تأويلات باطلة حاشا الأئمة أن يقولوا منها حرفاً واحداً.

(1) انظر: تناقض معتدلى الجعفرية الذين تصدوا لحركة الغلاله منهم فى دعواهم تحريف القرآن الكريم فى كتابى الدكتور على أحمد السالوس مع الشيعة الإثنى عشرية فى الأصول والفروع فصل (القرآن والتحريف) 2 /55 - 159، وأثر الإمامة فى الفقه الجعفرى وأصوله ص138-271، وانظر: الشيعة والتصحيح للدكتور موسى الموسوى ص130 - 136، وانظر: ما كتبه الأستاذ محمد مال الله فى هامش الخطوط العريضة ص 29 وما بعدها، وانظر: رجال الشيعة فى الميزان عبد الرحمن الزرعى ص 155. (2) الكافى 1 /289، وانظر: الخطوط العريضة للأستاذ محب الدين الخطيب ص 35. (3) صورتان متضادتان لنتائج جهود الرسول الأعظم للعلامة أبو الحسن الندوى ص 84: 88، وانظر: الخطوط العريضة للأستاذ محب الدين الخطيب ص10: 15، ومختصر التحفة الإثنا عشرية للعلامة السيد محمود الألوسى ص 30، 50، 82، وفرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام للدكتور غالب عواجى 1 /230، 239. (4) الشيعة الإثنا عشرية ومنهجهم فى التفسير للدكتور محمد العسال ص89، وانظر: مختصر التحفة الإثنا عشرية ص 47.

ثانيا: أثر موقف الشيعة من الصحابة على السنة النبوية:

ثانياً: أثر موقف الشيعة من الصحابة على السنة النبوية: وكما كان من آثار تكفير الشيعة للصحابة أن هاجموا القرآن الكريم، وادعوا تحريفه وتبديله، كان من آثار ذلك أيضاً أن هوجمت السنة التى جمعها الجمهور وحققها أئمتهم ونقادهم، منذ عصر الصحابة حتى عصر الجمع والتدوين، من قبل الشيعة التى وصمت أحاديث الجمهور من أهل السنة بالكذب والوضع، وخاصة ما كان منها فى فضائل الصحابة الذين يكفرهم الشيعة ويلعنونهم. ولم يقبلوا من أحاديث أهل السنة إلا ما وافق أحاديثهم التى يروونها عن أئمتهم المعصومين فى نظرهم، والتى إن لم يزيدوا فيها كذباً تأولوها بما يشهد لعقائدهم وأحكامهم الباطلة، أما ما عدا ذلك من السنة فلا يعتبرون به إلا إذا جاء من طريق آل البيت والتى لا يمكن إثبات صحتها لعدم اهتمامهم بصحة السند. فالعدالة عندهم لا عبرة بها ما دام الراوى إمامياً يوالى الأئمة ولو لم يكن متهماً، بل ولو كان مطعوناً فى دينه. وإذا تتبعت تراجم أعلام الشيعة الرافضة فى زمن أئمتهم رأيتهم بين كذابين، وملاحدة، وشعوبيين، وفاسدى العقيدة، ومذمومين من أئمتهم، وكل ما يخطر ببالك من نقائص، ولذا تراهم يصححون أحاديث من دعا عليه المعصوم بقوله أخزاه الله وقاتله الله، أو لعنه أو حكم بفساد عقيدته أو أظهر البراءة منه، وحكموا أيضاً بصحة روايات المشبهة والمجسمة، ومن جوز البداء عليه تعالى (1) ، مع أن هذه الأمور كلها مكفرة، ورواية الكافر غير مقبولة، فضلاً عن صحتها، فإذا كان هذا هو حال من يصححون حديثه وهو أقوى الأقسام عندهم، فما بالنا بحال الحسن والموثق والضعيف عندهم! (2) . إذ لا عبرة عندهم بالعدالة وإنما العبرة بمن معهم؟ ومن عليهم؟ فمن كان معهم معتقداً بعقيدتهم كان مؤمناً تقياً، وإلا كان كافراً منافقاً إذا تبرأ منهم ومن عقيدتهم.

_____ (1) البداء: هو أن الله عز وجل يبدو له غير الذى كان أراده، فيرجع عن إرادته إلى الذى بدا له من بعد؛ تعالى الله عما يقولون، انظر: مختصر التحفة الإثنى عشرية للعلامة السيد محمود الألوسى ص21، وفرق معاصرة للدكتور غالب عواجى 1 /254، والشيعة والتصحيح للدكتور موسى الموسوى ص 146-151، والنسخ والبداء فى الكتاب والسنة لمحمد حسين العاملى ص28 وما بعدها. (2) مختصر التحفة الإثنى عشرية للعلامة السيد محمود الألوسى ص 21، وانظر: أثر الإمامة فى الفقه الجعفرى وأصوله للدكتور على أحمد السالوس ص 274، 275، وأصول الحديث للدكتور عبد الهادى الفضلى ص 106.

كما أنهم لا يشترطون اتصال السند فى الحديث من الإمام إلى الرسول؛ لأن الإمام فى حد ذاته كلامه فى قوة كلام الرسول وقدسيته، ووجوب العمل به؛ لأنه معصوم ويوحى إليه، ومن تلك الأحاديث التى يصححونها ولا عدالة لرواتها ولا اتصال لسندها حديث "غدير خم" (1) الذى يكاد يكون عمدة المذاهب الشيعية كلها ودعامتها الأولى، والأساس الذى أقاموا عليه نظريتهم إلى الصحابة من تكفيرهم وسبهم ولعنهم ليل نهار، وتابعهم على ذلك دعاة اللادينية (2) .

_____ (1) وخلاصة هذا الحديث: أن النبى صلى الله عليه وسلم. فى رجوعه من حجة الوداع جمع الصحابة فى مكان يقال له "غدير خم" مكان بين مكة والمدينة، وأخذ بيد على رضي الله عنه ووقف به على الصحابة جميعاً وهم يشهدون وقال: "هذا وصيى وأخى والخليفة من بعدى فاسمعوا له واطيعوا" والحديث بهذه الرواية التى انفرد بها الرافضة مكذوب وأصل الحديث كما فى صحيح مسلم من رواية زيد ابن أرقم رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم. يوماً فينا خطيباً. بماء يدعى خما -بين مكة والمدينة- فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر. ثم قال: "أما بعد. ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتى رسول ربى فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور. فخذوا بكتاب الله. واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: "وأهل بيتى. أذكركم الله فى أهل بيتى. أذكركم الله فى أهل بيتى. أذكركم الله فى أهل بيتى ... الحديث" أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل على بن أبى طالب رضي الله عنه 8 /190 رقم 2408. هذا هو أصل الحديث كما فى صحيح السنة، والحديث برواية الرافضة يشهد على نفسه بالبطلان فالحديث يصرح بالخلافة للإمام على -كرم الله وجهه- على مشهد من الصحابة جميعاً، ومثل هذا تتوافر الدواعى على نقله ويشتهر، فى حين أن هذا النص بالخلافة للإمام على لم يبلغه أحد بإسناد صحيح. قال الإمام بن تيمية فى فصل (الطرق التى يعرف بها كذب المنقول) ما ينفرد به، ويتضمن أمراً تتوافر الدواعى على نقله قال: "ومن هذا الباب نقل النص على خلافة على، فإنا نعلم أنه كذب من طرق كثيرة، فإن هذا النص لم يبلغه أحد بإسناد صحيح فضلاً عن أن يكون متواتراً كما تزعم الرافضة، ولا نقل أن أحداً ذكره على جهة الخفاء، مع تنازع الناس فى الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة، وحين موت عمر وحين جعل الأمر شورى بينهم فى ستة، ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على على، فمن المعلوم أن مثل هذا النص لو كان كما تقوله الرافضة من أنه نص على علىّ بن أبى طالب نصاً جلياً قاطعاً للعذر وعلمه المسلمون، لكان من المعلوم بالضرورة فى مثل هذه المواطن التى تتوافر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر، فانتفاء ما يعلم أنه لازم يقتضى انتفاء ما يعلم أنه ملزوم" أ. هـ. من منهاج السنة لابن تيمية 4 /118، وانظر: للاستزادة فى الرد على استدلالات الرافضة بروايات الحديث فيما كتبه الدكتور على السالوس فى كتابيه مع الشيعة الإثنى عشرية فى الأصول والفروع 1 /96-162، وأثر الإمامة فى الفقه الجعفرى وأصوله ص 78-136، وانظر: مختصر التحفة الإثنى عشرية لألوسى ص 123، 176، 208، 219، والعواصم من القواصم لابن العربى ص 183، والمؤتمر العالمى الرابع للسيرة والسنة بحث الدكتور على السالوس حديث الثقلين وفقهه 2 /701 - 725 والشيعة والتصحيح للدكتور موسى الموسوى ص 8-50، ونظام الخلافة بين أهل السنة والشيعة للدكتور مصطفى حلمى ص 33-223. (2) انظر: مجمع البيان فى تفسير القرآن للفضل بن الحسن الطبرسى 6 /152، والميزان فى تفسير القرآن محمد حسين الطباطبائى 6 /42، وأصل الشيعة وأصولها محمد الحسين آل كاشف ص48، ومصباح الهداية فى إثبات الولاية على الموسوى ص 190 وما بعدها التبيان فى تفسير القرآن محمد بن الحسن الطوسى 3 /587، والمراجعات عبد الحسين شرف الدين ص 51، والغدير فى الكتاب والسنة والأدب عبد الحسين الأمينى 1 /21، 216، 223، 225، وكشف اليقين فى فضائل أمير المؤمنين الحسن بن المطهر الحلبى ص 254، 293، 471 = = وما بعدها، ومعالم المدرستين لمرتضى العسكرى المجلد 1 /493، الشيعة فى عقائدهم وأحكامهم لأمير محمد القزوينى ص 71، والنص والاجتهاد لعبد الحسين شرف الدين ص 347، ونظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية فى الإسلام لأحمد حسين يعقوب ص 247 - 256، ولماذا أنا شيعى محمد حسين الفقيه ص 36، لقد شيعنى الحسين أدريس الحسينى ص 358 - 367، الإفصاح فى إمامة على بن أبى طالب لمحمد بن النعمان العكبرى ص 15-18، والسنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص 25، وإعادة تقييم الحديث لقاسم أحمد ص 97، والسلطة فى الإسلام لعبد الجواد ياسين ص 258 وغيرهم.

هذا الحديث هو عند أهل السنة حديث مكذوب لا أساس له باللفظ الذى يروونه عن طواغيتهم، الذين وضعوه ليبرروا به هجومهم وتجنيهم على صفوة الخلق بعد الأنبياء والمرسلين - رضى الله عنهم أجمعين-. وبالنظر فى كتب الحديث النبوى عندهم؛ كالكافى، والاستبصار، والتهذيب، ومن لا يحضره الفقيه (1) وغيرها، نجد رواياتها ليست كلها متصلة من أصحابها إلى أئمتهم الذين وجدوا فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم. فالأحاديث المدونة بها قد خلا أكثرها من الإسناد فنجد الروايات تذكر عن عدة من أصحابنا، أو عن الإمام جعفر، ثم تعد هذه الأقوال أحاديث عن النبى صلى الله عليه وسلم. مع وجود الفارق الزمنى الكبير بين أصحاب هذه الروايات وبين النبى صلى الله عليه وسلم. وهو فارق زمنى يصل إلى عدة قرون (2) . وكان لهجومهم وتجنيهم على الصحابة الأثر الكبير فيما أثير حول السنة من شبهات، ولم لا ومروياتهم رضي الله عنهم لا تزن عندهم مقدار جناح بعوضة. يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء: والشيعة لا يعتبرون من السنة إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت عن جدهم يعنى ما رواه الصادق، عن أبيه الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن الحسين السبط، عن أبيه أمير المؤمنين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.، أما ما يرويه مثل: أبى هريرة، وسمرة بن جندب، ومروان بن الحكم، وعمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، ونظائرهم، فليس لهم عند الأمامية من الاعتبار مقدار بعوضة، وأمرهم أشهر من أن يذكر (3) أ. هـ. . والله أعلم

____ (1) انظر: فى مكانة هذه الكتب وأصحابها، وما فيها من غلو كتابى الدكتور على السالوس (مع الشيعة الإثنى عشرية) 3 /135-240، وأثر الإمامة فى الفقه الجعفرى وأصوله ص 290-361 (2) السنة المفترى عليها للمستشار البهنساوى ص 136 بتصرف، وانظر: أثر الإمامة فى الفقه الجعفرى وأصوله ص 276-282. (3) أصل الشيعة وأصولها ص 79، 80، وانظر: أصول الرواية عند الشيعة الإمامية الإثنا عشرية، للدكتور عمر الفرماوى ص 87.

أساليب الشيعة فى العبث بالسنة المطهرة:

أساليب الشيعة فى العبث بالسنة المطهرة: تعد الشيعة الرافضة من أكثر الفرق كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل وعلى آل البيت أيضاً. وفى ذلك يقول الإمام ابن تيمية: [ومن تأمل كتب الجرح والتعديل رأى المعروف عند مصنفيها بالكذب فى الشيعة أكثر منه فى جميع الطوائف] (1) . وسئل الإمام مالك عن الرافضة فقال: "لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون" (2) ويقول شريك بن عبد الله القاضى -وقد كان معروفاً بالتشيع مع الاعتدال فيه- (3) : "احمل عن كل من لقيت إلا الرافضة؛ فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه ديناً" (4) . وقال حماد بن سلمة (5) : حدثنى شيخ لهم - يعنى الرافضة - قال: "كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئاً جعلناه حديثاً (6) . وقال الإمام الشافعى (7) : "ما رأيت فى أهل الأهواء قوماً أشهد بالزور من الرافضة" (8) .

________ (1) المنتقى فى منهاج الاعتدال ص 22. (2) منهاج السنة لابن تيمية 1 /13. (3) قال فيه الحافظ ابن حجر: صدوق، يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابداً، شديداً على أهل البدع. مات سنة 177هـ أو 178هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1 /417 رقم 2795، والكاشف 1 /485 رقم 2276، والثقات للعجلى ص217،رقم664، والثقات لابن حبان6 /444، ومشاهير علماء الأمصار ص201 رقم1353، والثقات لابن شاهين ص 169 رقم 528. (4) منهاج السنة لابن تيمية 1 /13. (5) حماد بن سلمة: هو حماد بن سلمة بن دينار المصرى، أبو سلمة، ثقة عابد أثبت الناس فى ثابت، وتغير حفظه بآخره، مات سنة 167هـ، له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1 /238 رقم 1054، وتذكرة الحفاظ 1 /202 رقم 197، والكاشف 1 /349، رقم 1220، والثقات للعجلى ص 131 رقم 330، والثقات لابن حبان 6 /216، ومشاهير علماء الأمصار ص188 رقم 1243، وشذرات الذهب 1 /262. (6) منهاج السنة لابن تيمية 1 /13. (7) الإمام الشافعى: هو أبو عبد الله، محمد بن أدريس بن العباس بن شافع القرشى المطلبى، الإمام الجليل، صاحب المذهب المعروف، من أشهر مصنفاته "الأم" و"الرسالة" و"أحكام القرآن" مات سنة 204هـ له ترجمة فى: طبقات الشافعية لابن السبكى 2 /71 رقم 14، وشذرات الذهب 2 /9، ووفيات الأعيان 4 /163 رقم 558، وطبقات الفقهاء للشافعيين لابن كثير 1 /3-93. (8) منهاج السنة لابن تيمية 1 /14.

ولقد أخذ هؤلاء المتشيعون أعداء الإسلام يصنعون الأحاديث فى أغراض شتى حسب أهوائهم ونحلهم، فمن ذلك أحاديث وضعوها فى فضائل الإمام على -كرم الله وجهه- وآله الكرام كحديث "من أراد أن ينظر إلى آدم فى علمه - وإلى نوح فى تقواه وإلى إبراهيم فى حلمه، وإلى موسى فى هيبته، وإلى عيسى فى عبادته فلينظر إلى على" (1) و"أنا ميزان العلم وعلى كفتاه، والحسن والحسين خيوطه، وفاطمة علاقته، والأئمة منا عموده توزن فيه أعمال المحبين لنا والمبغضين لنا" (2) إلى غير ذلك من روايات مكذوبة تثبت النبوة لعلى طوراً، والخلافة والوصية بها طوراً آخر على حسب عقائد الوضاعين وآرائهم (3) . وكما وضعوا الأحاديث فى فضل على وآل البيت، وضعوا الأحاديث فى ذم الصحابة؛ وخاصة الشيخين وكبار الصحابة، حتى قال ابن أبى الحديد (4) وهو شيعى معتزلى: "فأما الأمور المستبشعة التى تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة، وأنه ضربها بالسوط، فصار فى عضدها كالدملج، وأن عمر ضغطها بين الباب والجدار، فصاحت: يا ابتاه وجعل فى عنق علىّ حبلاً يقاد به، وفاطمة خلفه تصرخ، وابناه الحسن والحسين يبكيان ... ثم أخذ ابن أبى الحديد فى ذكر الكثير من المثالب، ثم قال: فكل ذلك لا أصل له عند أصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه، وإنما هو شئ تنفرد الشيعة بنقله (5) وكذلك وضعوا الأحاديث فى ذم معاوية رضي الله عنه إذا رأيتم معاوية على منبرى فاقتلوه" (6) وفى ذم معاوية وعمرو بن العاص-رضى الله عنهما-"اللهم أركسهما فى الفتنة ركساً ودعهما فى النار دعا (7) "

___ (1) انظر: اللآلئ المصنوعة للسيوطى 1 /325، وتنزيه الشريعة لابن عراق 1 /385، والفوائد المجموعة فى الأحاديث الموضوعة للشوكانى ص 367. (2) انظر: المقاصد الحسنة للسخاوى ص 97، رقم 189، وتنزيه الشريعة 1 /397. (3) الحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 93. (4) ابن أبى الحديد هو: عبد الحميد بن هبة الله بن أبى الحديد، أبو حامد، الأديب، الفقيه الأصولى، الشيعى الغالى، وكان حظياً عند الوزير ابن العلقمى، لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة فى التشيع والأدب، من مؤلفاته "شرح نهج البلاغة" "والفلك الدائر على المثل السائر" وغير ذلك. مات سنة 655هـ. له ترجمة فى: البداية والنهاية 13 /213، ووفيات الأعيان 1 /248، والنجوم الزاهرة 8 /19، وذيل طبقات الفقهاء الشافعيين للعبَّادِى ص76، والأعلام 3 /289. (5) شرح نهج البلاغة 1 /135. (6) انظر: اللآلئ المصنوعة 1 /388، وتنزيه الشريعة 2 /8، والفوائد المجموعة ص 407. (7) انظر: الموضوعات لابن الجوزى 2/28، واللآلئ المصنوعة 1 /390، وتنزيه الشريعة 2 /16، والفوائد المجموعة ص407.

وهكذا أسرف غلاة الشيعة الرافضة فى وضع الأحاديث بما يتفق مع أهوائهم، والتى بلغت من الكثرة حداً مزعجاً. حتى قال الخليلى (1) فى الإرشاد: "وضعت الرافضة فى فضائل على وأهل بيته نحو ثلاثمائة ألف حديث" (2) ومع ما فى قوله من المبالغة فإنه دليل على كثرة ما وضعوا من الأحاديث. ويكاد المسلم يقف مذهولاً من هذه الجرأة البالغة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. لولا أن يعلم أن هؤلاء الرافضة أكثرهم من الفرس الذين تستروا بالتشيع لينقضوا عرى الإسلام، أو ممن أسلموا ولم يستطيعوا أن يتخلوا عن كل آثار ديانتهم القديمة، فانتقلوا إلى الإسلام بعقلية وثنية لا يهمها أن تكذب على صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم. لتؤيد حباً ثاوياً فى أعماق أفئدتها، وهكذا يصنع الجهال والأطفال حين يحبون وحين يكرهون. وقد ضارعهم الجهلة من أهل السنة، فقابلوا -مع الأسف- الكذب بكذب مثله وإن كان أقل منه دائرة وأضيق نطاقاً (3) ومن ذلك حديث "ما فى الجنة شجرة إلا مكتوب على ورقة منها لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين" (4) . كذلك قابلهم المتعصبون لمعاوية والأمويين، فوضعوا أحاديث مثل قولهم "الأمناء ثلاثة، أنا وجبريل ومعاوية" (5) و"لا افتقد فى الجنة إلا معاوية فيأتى آنفاً بعد وقت طويل، فأقول: من أين يا معاوية، فيقول من عند ربى يناجينى وأناجيه، فيقول: هذا بمانيل من عرضك فى الدنيا" (6) .

______ (1) الخليلى: هو أبو يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد القزوينى، ثقة حافظ عارف بكثير من علل الحديث ورجاله، عالى الإسناد، كبير القدر مصنف كتاب "الإرشاد فى معرفة المحدثين" مات سنة 446هـ. له ترجمة فى: طبقات الحفاظ للسيوطى ص 430 رقم 973، والعبر 3 /211 وتذكرة الحفاظ للذهبى 3 /1123 رقم 1008. (2) الإرشاد فى معرفة المحدثين ص 12. (3) السنة ومكانتها فى التشريع ص 80،81 بتصرف. (4) انظر: اللآلئ المصنوعة 1 /292، وتنزيه الشريعة 1 /350، والفوائد المجموعة ص 342. (5) انظر: تنزيه الشريعة 2 /4، والفوائد المجموعة ص 404. (6) انظر: الموضوعات لابن الجوزى2 /23، واللآلئ المصنوعة1 /387، وتنزيه الشريعة 2 /7، الفوائد المجموعة ص 406.

وكذلك فعل المؤيدون للعباسيين فوضعوا إزاء حديث وصاية على المكذوب وصاية العباس ونسبوا إلى النبى قوله: "العباس وصيى ووارثى" (1) إلى غير ذلك من الأكاذيب والتى طفحت بها كتب الموضوعات. ولولا رجال صدقوا فى الإخلاص لله عزَّ وجلَّ، ونصبوا أنفسهم للدفاع عن دينهم، وتفرغوا للذب عن سنة رسول الله وأفنوا أعمارهم فى التمييز بين الحديث الثابت وبين الحديث المكذوب، وهم أئمة السنة وأعلام الهدى - لولا هؤلاء لاختلط الأمر على العلماء والدهماء، ولسقطت الثقة بالأحاديث (2) نتيجة حركة الوضع التى كثرت فى أهل البدع والأهواء والجهلة من أهل السنة، إلا أنه تبدوا خطورة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. من أهل البدع بسبب أهدافهم الخبيثة للنيل من الإسلام وتشويه صورته بما يضعونه من خرافات. فالجهلة من أهل السنة؛ وإن قابلوا مع الأسف كذب الشيعة بكذب مثله، إلا أنهم لم يحاولوا العبث والكيد للسنة المطهرة كما فعل الشيعة، وهذا لا ينفى عن الوضاعين من الفريقين إثم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وعن مكايد الشيعة للسنة ومحاولاتهم العبث بها يقول العلامة الألوسى (3) : 1- إن جماعة من علمائهم اشتغلوا بعلم الحديث أولاً، وسمعوا الأحاديث من ثقات المحدثين من أهل السنة فضلاً عن العوام. ولكن الله سبحانه وتعالى قد تفضل على أهل السنة، فأقام لهم من يميز بين الطيب والخبيث، وصحيح الحديث وموضوعه، حتى أنهم لم يخف عليهم وضع كلمة واحدة من الحديث الطويل. 2- ومن مكايدهم أنهم ينظرون فى أسماء الرجال المعتبرين عند أهل السنة، فمن وجدوه موافقاً لأحد منهم فى الاسم واللقب أسندوا رواية حديث ذلك الشيعى إليه، فمن لا وقوف له من أهل السنة يعتقد أنه إمام من أئمتهم فيعتبر بقوله ويعتد بروايته؛ كالسدى فهما رجلان؛ أحدهما السدى الكبير،

_____ (1) انظر: الموضوعات 2 /31، واللآلئ المصنوعة 1/393، وتنزيه الشريعة 2 /10، والفوائد المجموعة ص 402. (2) الباعث الحثيث للأستاذ محمد شاكر ص 72. (3) الألوسى: هو محمود شكرى بن عبد الله بن شهاب الدين محمود الألوسى الحسينى أبو المعالى، عالم بالأدب والدين، والتاريخ، ومن الدعاة إلى الإصلاح، من مصنفاته، روح المعانى، ومختصر التحفة الإثنى عشرية، مات بغداد سنة 1342هـ. له ترجمة فى الأعلام للزركلى 7 /172، 173.

المبحث الرابع: التعريف بالمعتزلة وموقفهم من السنة النبوية

والثانى السدى الصغير، فالكبير من ثقات أهل السنة (1) ، والصغير من الوضاعين الكذابين وهو رافضى غال (2) . 3- ومن مكايدهم أنهم ينسبون بعض الكتب لكبار علماء السنة مشتملة على مطاعن فى الصحابة، وبطلان مذهب أهل السنة، وذلك مثل كتاب (سر العالمين) فقد نسبوه إلى الإمام الغزالى (3) -رحمه الله تعالى- وشحنوه بالهذيان، وذكروا فى خطبته على لسان ذلك الإمام وصيته بكتمان هذا السر وحفظ هذه الأمانة وما ذكر فى هذا الكتاب فهو عقيدتى، وما ذكر فى غيره؛ فهو للمداهنة، فقد يلتبس ذلك على بعض القاصرين ... نسأل الله تعالىالعصمة من الزلل. 4- ومن مكايدهم أنهم يذكرون أحد علماء المعتزلة، أو الزيدية أو نحو ذلك، ويقولون: إنه من متعصبى أهل السنة، ثم ينقلون عنه ما يدل على بطلان مذهب أهل السنة، وتأييد مذهب الإمامية الإثنى عشرية ترويجاً لضلالهم؛ كالزمخشرى صاحب الكشاف الذى كان معتزلياً تفضيلياً، والأخطب الخوارزمى؛ فإنه زيدى غال، وابن أبى الحديد شارح نهج البلاغة الذى هو من غلاة الشيعة على حد قول، ومن المعتزلة على قول آخر، وهشام الكلبى، وكذلك المسعودى صاحب مروج الذهب، وأبو الفرج الأصفهانى صاحب كتاب الأغانى وغيرهم، وقصدوا بذلك إلزام أهل السنة بما لهم من الأقوال، مع أن حالهم لا تخفى حتى على الأطفال (4) . المبحث الرابع: التعريف بالمعتزلة وموقفهم من السنة النبوية تمهيد: المعتزلة: اسم يطلق على فرقة ظهرت فى الإسلام فى القرن الثانى الهجرى ما بين سنة 105 وسنة 110هـ بزعامة رجل يسمى واصل بن عطاء الغزال، ونشأت هذه الفرقة متأثرة بشتى الاتجاهات الموجودة فى ذلك العصر، وقد أصبحت المعتزلة فرقة كبيرة تفرعت عن الجهمية فى معظم الآراء، ثم انتشرت فى أكثر بلدان المسلمين انتشاراً واسعاً، وعن كثرتهم وانتشارهم يقول الشيخ جمال الدين القاسمى "هذه الفرقة من أعظم الفرق رجالاً وأكثرها تابعاً، فإن شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الأقطار الهندية، والشامية، والبلاد الفارسية، ومثلهم الزيدية فى اليمن. فإنهم على مذهب المعتزلة فى الأصول كما قاله العلامة المقبلى فى "العلم الشامخ" وهؤلاء يعدون فى المسلمين بالملايين،

_______ (1) السدى الكبير: هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة السدى، نسبة إلى سدة مسجد الكوفة كان يبيع بها المقانع، صدوق يهم، ورمى بالتشيع مات سنة 127هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1 /97 رقم 464، والكاشف 1 /247 رقم 391، والثقات للعجلى ص 66 رقم 94، والجرح والتعديل 2 /184 رقم 625. (2) السدى الصغير: هو محمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل الكوفى، متهم بالكذب. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2 /131 رقم 6303، والمجروحين لابن حبان 2 /286، وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص358، والضعفاء والمتروكين للنسائى ص 219 رقم 565، والجرح والتعديل 8 /86 رقم 364، والضعفاء لأبى زرعة الرازى 2 /657 رقم 306. (3) الغزالى: هو محمد بن محمد الغزالى، أبو حامد، الملقب بحجة الإسلام، كان بارعاً فى الفقه، وأصول الدين، وأصول الفقه، والمنطق والفلسفة، من أشهر مصنفاته: المستصفى فى أصول الفقه، وإحياء علوم الدين، مات سنة 505هـ. له ترجمة فى: وفيات الأعيان لابن خلكان 4 /216 رقم 588، وطبقات الشافعية لابن السبكى 6/389 رقم 694، وطبقات الشافعية لابن هداية الله ص 69، وشذرات الذهب 4 /10. (4) مختصر التحفة الإثنى عشرية للعلامة الألوسى ص32،33 بتصرف، وانظر: منهاج السنة لابن تيمية 3 /246.

بهذا يعلم أن الجهمية المعتزلة ليسوا فى قلة فضلاً عن أن يظن أنهم انقرضوا وأن لا فائدة من المناظرة معهم، وقائل ذلك جاهل بعلم تقويم البلدان ومذاهب أهلها (1) . والمعتزلة: قوم من المتكلمين فتنتهم؛ الفلسفة اليونانية، والمنطق اليونانى، وما نقل من الفلسفة الهندية، والأدب الفارسى، وقد كانوا كلهم أو جمهورهم ممن ينتمون إلى أصل فارسى فأولوا القرآن الكريم لينسجم مع الفلسفة اليونانية، وكذبوا الأحاديث التى لا تتفق مع هذه العقلية اليونانية الوثنية، واعتبروا فلاسفة اليونان أنبياء العقل الذى لا خطأ معه (2) ، المحقق الكبير محمد محيى الدين عبد الحميد: وكان أول من استعان بالفلسفة اليونانية، واستقوا منها فى تأييد نزعاتهم، فأقوال كثيرة من أقوال النظام وأبى الهذيل والجاحظ وغيرهم بعضها نقل بحت من أقوال فلاسفة اليونان، وبعضها يستقى من نبعه ويغترف من معينه بشئ من التحوير والتعديل (3) . فكثيراً ما تطالعنا فى كتب الفرق أثناء الحديث عن أحد المعتزلة أو تحليل مبدأ من مبادئهم عبارات تثبت تأثرهم بهذه المصادر الأجنبية مثل: "قد طالع كثيراً من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة" (1) ومثل: "اقتبس هذا الرأى من الفلاسفة" (2) و"هذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة" (3) ومثل: "قد أخذ العلاف عن أرسطو طاليس" (4) . والمعتزلة حين حاولت فى أول الأمر أن تواجه المتكلمين فى الديانات السالفة للإسلام والمذاهب المنحرفة، استطاعت أن تحقق نتائج طيبة، ولكنها حين استقلت بنفسها وخرجت عن حدودها لتقيم لنفسها منهجاً عقلانياً خالصاً يستعلى على مفهوم الإسلام الجامع؛ فإنها قد انحرفت انحرافاً شديداً واخطأت خطأ بالغاً، وكان نتيجة طبيعية لتأثرها بشتى الاتجاهات الموجودة فى عصرها، ثم أثرت هى الأخرى بعد ذلك فى تلك الاتجاهات الفكرية قديماً (5) ، وتأثر بها حديثاً كثير من خصوم الإسلام، وأعداء السنة، حيث وجدوا فى مذهبهم الفكرى عشاً يفرخون فيه بمفاسدهم وآرائهم، ويطلقون من قنواته دسهم على الإسلام والسنة النبوية المطهرة أ. هـ. (6) . وترجع بداية نشأة المعتزلة كفرقة ذات اتجاه سياسى ومنهج فكرى، إلى ما وقع بين الحسن البصرى (7) ،

________ (1) تاريخ الجهمية ص 56، وانظر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام للدكتور غالب عواجى 2/821، والخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية للدكتور محمد عمارة ص 273. (2) السنة ومكانتها فى التشريع ص7، وانظر: الفرق بين الفرق ص 127، والملل والنحل 1/32، وموقف المعتزلة من السنة النبوية ومواطن انحرافهم عنها للدكتور أبولبابة حسين ص42-46. (3) مقالات الإسلاميين مقدمة المحقق 1/23، وانظر: فجر الإسلام ص 474، وضحى الإسلام 3/95،96. (1) الملل والنحل 1 /53، 54. (2) الملل والنحل 1 /50. (3) مقالات الإسلاميين 2 /277. (4) مقالات الإسلاميين 2 /278، وانظر: تاريخ المذاهب الإسلامية ص 130، 131 (5) انظر: تفصيل تأثر المعتزلة بغيرها من الفرق، وتأثيرها فى غيرها سواء مما تأثرت به أو غيرها فى: مقالات الإسلاميين 1 /187، ورسائل العدل والتوحيد للدكتور محمد عمارة 1 /79، وضحى الإسلام3 /207وفرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام2 /865، والشيعة الإثنا عشرية ومنهجهم فى التفسير ص 562، والمعتزلة واتجاههم العقلى وأثره فى تطور الفكر الإسلامى الحديث ص420، 421، 422، والاتجاه الاعتزالى فى الفكر الإسلامى الحديث للدكتور أحمد محمد عبد العال. (6) انظر: المؤامرة على الإسلام للأستاذ أنور الجندى ص 21، وموقف المعتزلة من السنة للدكتور أبو لبابة ص 169-172، وتاريخ المذاهب الإسلامية ص 131. (7) الحسن البصرى: هو الحسن بن أبى الحسن يسار البصرى، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت كان عالماً رفيعاً ثقة حجة ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر.ومات سنة 110هـ له ترجمة فى: وفيات الأعيان 2 /69 رقم 156، وتهذيب التهذيب 2/263 رقم 488، وطبقات المفسرين للداودى 1 /150 رقم 144، وتذكرة الحفاظ 1 /71 رقم 66، ومشاهير علماء الأمصار ص113 رقم 642.

وواصل بن عطاء من خلاف فى حكم مرتكب الكبيرة، حين سئل الحسن البصرى عن ذلك، فبادر واصل بن عطاء إلى الجواب قبل أن يجيب الحسن البصرى، ومن هنا تطور الأمر إلى اعتزال واصل ومن معه حلقة الحسن البصرى، فسموا معتزلة، وإلى هذا ذهب أكثر العلماء (1) . وقد ضعف هذا الرأى الدكتور أحمد أمين، وأياً كانت بداية نشأتهم، فالذى يعنينا ويهمنا هنا فى هذا المقام هو أصول مذهبهم الفكرى، وأثرها على السنة المطهرة. وإذا كانت المعتزلة قد تفرقت إلى فرق كثيرة تصل إلى اثنتين وعشرين فرقة واختلفوا فى المبادئ والتعاليم إلى حد تكفير كل فرقة الأخرى، إلا أنه يجمعهم إطار عام، وهو الاعتقاد بالأصول الخمسة: 1- التوحيد على طريقة الجهمية. 2- العدل على طريقة القدرية. 3،4،5 - والوعد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على طريقة الخوارج (2) . ولقد حددها على هذا النحو الخياط (3) ، صاحب الانتصار عندما قال: "وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإذا كملت فى الإنسان هذه الخصال الخمس؛ فهو معتزلى (4) . يقول الدكتور محمد عمارة: "وإذا كان هذا التحديد لهذه الأصول الخمسة قد شاع الشيوع الأكبر، وانتشر الانتشار الأعم لدى أهل العدل، والتوحيد، كما شاع عنهم لدى كتاب المقالات، فإننا نجد الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل الرسى (ت - 246هـ) وهو معاصر لأبى الهذيل العلاف يحدد هذه الأصول بأنها: 1- التوحيد، 2- والعدل، 3- والوعد والوعيد، 4- والمنزلة بين المنزلتين، 5- والقرآن الكريم والسنة المطابقة له، 6- وأصل سادس يمكن أن نسميه العدالة الاجتماعية، والمالية، والاقتصادية.

__ (1) انظر: الملل والنحل للشهرستانى1 /40، والفرق بين الفرق للبغدادى ص116، وفرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام 2 /822، والخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية للدكتور محمد عمارة ص179-198 (2) انظر: الفرق بين الفرق ص112 - 115، وفرق معاصرة 2 /822. (3) الخياط: هو أبو الحسين، عبد الرحيم بن محمد بن عثمان، شيخ المعتزلة البغدادية من نظراء الجبائى، وله مكانة عند المعتزلة. من آثاره: الانتصار، والرد على من أثبت خير الواحد.له ترجمة فى: تاريخ بغداد 11 /87 رقم 5770،ولسان الميزان 4 /342 رقم 5156، وسير أعلام النبلاء 14 /220 رقم 121، واللباب فى تهذيب الأنساب 1 /475، وطبقات المعتزلة لابن المرتضى ص 85. (4) الانتصار ص 188، 189.

بينما نجد هذه الأصول عند مفكر آخر هو أحمد بن يحيى بن المرتضى (ت 840هـ) على النحو المشهور عند المعتزلة، وبدلاً من أصل الوعد والوعيد أصل آخر وهو: تولى الصحابة والاختلاف فى عثمان رضي الله عنه بعد الأحداث والبراءة من معاوية وعمرو بن العاص -رضى الله عنهما-. يقول الدكتور عمارة: "ومعنى هذا أن خلاف أهل العدل والتوحيد - ولا نقول المعتزلة - حول هذه الأصول، هو أمر غير مستبعد تماماً، وإن عدتها الأغلبية الساحقة من مفكريهم خمسة، على النحو الذى قدمناه فى أول هذا الحديث، وإذاً فليس خلافهم فقط فى فروع هذه الأصول، كما يقول البعض، بل وأحياناً فى بعض هذه الأصول (1) . ومعنى هذه الأصول إجمالاً: 1- التوحيد: وهم يقصدون به البحث حول صفات الله تعالى، وما يجب له، وما يجوز، وما يستحيل، وفى هذا الأصل نفوا أن يكون لله تعالى صفات أزلية من علم، وقدرة، وحياة، وسمع، وبصر، بل، الله عالم، وقادر، وحى، وسميع، وبصير بذاته، وليست هناك صفات زائدة مع ذاته، وتأولوا الآيات التى تثبت هذه الصفات، والتى يفهم منها أن له صفات كصفات المخلوقين، ورفضوا الأحاديث التى تثبت هذه الصفات أيضاً، وحجتهم فى إنكار صفات الله عزَّ وجلَّ أن إثباتها يستلزم تعدد القدماء وهو شرك على حد زعمهم. ولأن إثبات الصفات يوحى بجعل كل صفة إلهاً، والمخرج من ذلك هو نفى الصفات وإرجاعها إلى ذات البارى تعالى، فيقال عالم بذاته، قادر بذاته إلخ، وبذلك يتحقق التوحيد فى نظرهم، والمعتزلة فى نفيهم الصفات وتعطيلها وتأويل ما لا يتوافق مع مذهبهم من نصوص الكتاب والسنة وافقوا بذلك الجهمية (المعطلة) ... فهم الذين أحيوا آرائهم، ونفخوا فى رمادها، وصيروها جمراً من جديد، ومن هنا استحق المعتزلة أن يطلق عليهم جهمية أو معطلة (1) ، وبناء على هذا الأصل أطلق المعتزلة على من عاداهم وخصوصاً أهل السنة أسماء جائرة مثل المشبهة، والحشوية.

__ (1) رسائل العدل والتوحيد 1 /76، 77، وانظر: الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية كلاهما للدكتور محمد عمارة ص 186، 187، 196.

وسموا أنفسهم أهل التوحيد، والمنزهون لله، حيث نفوا الصفات عنه (2) . وسيأتى الرد عليهم فى الباب الثالث. 2- العدل: وهم يقصدون به البحث فى أفعال الله عزَّ وجلَّ التى يصفونها كلها بالحسن، ونفى القبح عنها، بما فيه نفى أعمال العباد القبيحة، وتحت ستار العدل؛ نفوا القدر، وأسندوا أفعال العباد إلى قدرتهم وأنهم الخالقون لها مع أنهم يؤمنون بأن الله تعالى عالم بكل ما يعمله العباد، وأنه تعالى هو الذى أعطاهم القدرة على الفعل أو الترك (3) . والمعتزلة لنفيهم القدر يلقبون؛ بالقدرية لموافقتهم للقدرية فى إنكار القدر، وهم يسمون أيضاً؛ بالثنوية، والمجوسية؛ لقولهم إن الخير من الله، والشر من العبد، فوافقوا بذلك الثنوية، والمجوسية الذين يقررون وجود إلهين أحدهما للخير، والآخر للشر، وهم لا يرضون بهذه الأسماء السابقة من القدرية، والثنوية، والمجوسية، ويرضون باسم أهل العدل لنفيهم القدر، ولأن أهل السنة يثبتون القدر لله عزَّ وجلَّ ويؤمنون به خيره وشره، حلوه ومره، فهم يطلقون عليهم القدرية المجبرة (4) . وبناء على هذا الأصل (العدل) الذى يعنى نفى القدر؛ تأولوا الآيات التى تفيد إثبات القدر لله عزَّ وجلَّ كقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (5) . وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (6) .

___ (1) فرق معاصرة2/823،824،832، وانظر: فتح البارى 13 /357، وانظر: شرح الأصول ص197، وفضل الاعتزال ص140-141، وأدب المعتزلة ص135،136، ومقالات الإسلاميين 1 /235، والملل والنحل1/40، وموقف المعتزلة من السنة ومواطن انحرافهم عنها للدكتور أبو لبابة ص33 (2) فرق معاصرة 2 /825. (3) فرق معاصرة 2 /834، وانظر: شرح الأصول ص 301، والملل والنحل 1 /41، والفصل فى الملل والنحل لابن حزم 3 /164 والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل 3 /8. (4) فرق معاصرة 2 /824، 825، وانظر: موقف المعتزلة من السنة للدكتور أبو لبابة ص 31. (5) جزء من الآية 8 من سورة الرعد. (6) الآية 21 من سورة الحجر.

وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) . ووقفوا من أحاديث القدر موقف الإنكار؛ فردوا الأحاديث الصحيحة التى تثبت القدر، وسيأتى تفصيل ذلك، والرد عليه فى الباب الثالث. 3- الوعد والوعيد: وهم يقصدون به أن الله وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب فيجب على الله - تعالى الله عن ذلك - أن ينفذ وعده ووعيده؛ بأن يعطى العبد أجر ما كلفه به من طاعات استحقاقاً منه على الله مقابل وعد الله له إذا التزم العبد بجميع التكاليف التى اختارها الله وكلف بها عباده، وكذلك يجب على الله أن ينفذ وعيده فيمن عصاه، ويلزم على هذا الأصل أن الله عزَّ وجلَّ لا يعفو عمن يشاء، ولا يغفر لمن يريد؛ لأن ذلك يكون بخلف الوعيد والكذب، والله عزَّ وجلَّ لا يجوز عليه الخلف والكذب، وبمقتضى هذا الأصل فإن أصحاب الكبائر من عصاه المؤمنين إذا ماتوا من غير توبه؛ فإنهم يستحقون بمقتضى الوعيد من الله النار خالدين فيها إلا أن عقابهم يكون أخف من عقاب الكفار (2) . وبناء على هذا الأصل تأولوا الآيات التى تفيد بأن الله عزَّ وجلَّ يعفو عمن يشاء ويعذب من يشاء؛ كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) . وقوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (4) . واستدلوا بالآيات الواردة فى نفى الشفاعة عن غير المؤمنين الفائزين؛ كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} (5) وكذا قوله تعالى {مَا للظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} (6) إلى غير ذلك من الآيات الواردة بهذا المعنى. وبناءً على هذا الأصل أيضاً ردوا الأحاديث الواردة فى شفاعة عصاة المؤمنين من أهل الكبائر، والأحاديث التى تفيد أنهم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم، وإن شاء غفر لهم. وسيأتى تفصيل ذلك والرد عليه فى الباب الثالث.

___ (1) الآية 49 من سورة القمر. (2) شرح الأصول ص 134، وانظر: الملل والنحل 1 /42، والمعتزلة زهدى جار الله ص 51، 52، وفضل الاعتزال ص 154. (3) الآية 48 من سورة النساء. (4) الآية 53 من سورة الزمر. (5) الآية 48 من سورة البقرة. (6) جزء من الآية 18 من سورة غافر.

4- المنزلة بين المنزلتين: وهم يقصدون بها أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان، ولا يدخل فى الكفر؛ فهو ليس بمؤمن ولا كافر، لكنه فى منزلة بينهما فاسق، والفاسق يستحق النار والمعتزلة بقولهم بهذا الأصل وافقوا الخوارج؛ لأن الخوارج لما رأوا لأهل الذنوب الخلود فى النار سموهم كفرة، وحاربوهم، والمعتزلة رأت لهم الخلود فى النار، ولم تجسر على تسميتهم كفرة ولا جسرت على قتال أهل فرقة منهم، فضلاً عن قتال جمهور مخالفيهم، ولهذا قيل للمعتزلة: إنهم مخانيث الخوارج (1) . ويعد هذا الأصل الرابع هو نقطة البدء فى تاريخ المعتزلة كما سبق فى نشأتهم. وكان لهذا الأصل أثره السئ فى موقف المعتزلة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.، وخصوصاً أصحاب الجمل، وصفين من الفريقين؛ على، ومعاوية - رضى الله عن الجميع - كما سيأتى. 5- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: هذا الأصل توافق فيه أهل السنة والمعتزلة، واتفقوا على أنه من الواجبات على الكفاية، وهو ما قرره المولى عزَّ وجلَّ فى كتابه العزيز {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) . إلا أنه وقع خلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يلى: أ- حملهم الناس على المعروف والمنكر فى مذهبهم وإلزامهم به، ويبدوا هذا واضحاً فى محنة خلق القرآن. ب- طريقة تغيير المنكر؛ ساروا فيها عكس الحديث الوارد عن النبى صلى الله عليه وسلم.، فى بيان موقف المسلم من المنكر إذا رآه وهو قوله صلى الله عليه وسلم.: "من رأى منكم منكراً؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (3) بينما تغيير المنكر عندهم يبدأ بالحسنى، ثم باللسان، ثم باليد، ثم بالسيف على عكس ما يرشد إليه الحديث، ويذهب إليه أهل الحق. ج- حمل السلاح فى وجوه المخالفين لهم سواء كانوا من الكفار أو من أصحاب المعاصى من أهل القبلة.

______ (1) الفرق بين الفرق للبغدادى ص116، وانظر: الملل والنحل 1 /42، وشرح الأصول ص137، 697، وفضل الاعتزال 17، 64. (2) الآية 104 من سورة آل عمران، وانظر: شرح الأصول ص 141، 744. (3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان كون النهى عن المنكر من الإيمان ... إلخ 1 /296، 297 رقم 49 من حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه.

د- أوجبوا الخروج على السلطان الجائر، وهم فى كل ذلك متأثرون بتنطع الخوارج (1) . وخلاصة هذا الأصل عندهم أنهم قالوا: "علينا أن نأمر غيرنا بما أمرنا به، وأن نلزمه بما يلزمنا (2) . ومن فوارق الأصول عند المعتزلة ما ذهب إليه الإمام القاسم الرسى: "أن القرآن الكريم فصل محكم، وصراط مستقيم، ولا خلاف فيه ولا اختلاف، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما كان لها ذكر فى القرآن ومعنى (3) . وفى هذا الأصل الخامس بيان لموقفهم السئ من سنة المعصوم صلى الله عليه وسلم.، فهم لا يأخذون إلا بالسنة الموافقة للقرآن فقط، ولا يأخذون بالسنة المستقلة، وهذا الموقف له أثره السئ حيث اتخذوه منهجاً خاصاً بهم حكموا من خلاله على سنة النبى صلى الله عليه وسلم.، وهو عرض الحديث على القرآن الكريم، فما خالفه ولو مخالفة ظاهرية يمكن الجمع بينهما ردوه حتى ولو كان فى أعلى درجات الصحة. ومن فوارق الأصول عند المعتزلة أيضاً ما ذهب إليه أحمد بن يحيى المرتضى؛ تولى الصحابة، والاختلاف فى سيدنا عثمان رضي الله عنه بعد الأحداث، والبراءة من معاوية وعمرو بن العاص - رضى الله عنهما-. فاتفق المعتزلة على صحة خلافة أبى بكر، حتى من قال منهم بأفضلية علىِّ على أبى بكر - رضى الله عنهما - حيث أنهم رأوا علياً بايع أبا بكر غير مكره، فلابد أن تكون بيعته صحيحة، فإذا وصلنا إلى سيدنا عثمان رضي الله عنهم، نرى الخياط المعتزلى يقول: إن واصل بن عطاء وقف فى عثمان وفى خاذليه وقاتليه وترك البراءة من واحد منهم؛ لأنه أشكل عليه الأمر بين حالته المحمودة قبل أحداث السنين الست الأواخر وبعدها،

______ (1) فرق معاصرة 2 /849 - 851، وانظر: الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية ص 256، 261، والمعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها للأستاذ عواد عبد الله ص273، 276. (2) شرح العقيدة الطحاوية 2 /286. (3) رسائل العدل والتوحيد 1 /76، وانظر: رسائل الجاحظ 1 /287، وفضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص 181، 182.

موقف المعتزلة من السنة المطهرة:

فتعارضت عنده الأدلة، فترك أمره لله (1) ومثل ذلك قول أبو الهذيل العلاف (2) قال: "لا ندرى أقتل عثمان ظالماً أو مظلوماً" (3) . فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الحروب التى كانت مع على ومعاوية -رضى الله عنهما، رأينا أن واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وجعفر بن مبشر، يؤيدون وجهة نظر علىَّ بن أبى طالب ويتبرأون من معاوية وعمرو بن العاص ومن كان فى شقهما" (4) . بل إن البلخى (5) وهو أحد شيوخ المعتزلة رمى عمرو بن العاص ومعاوية - رضى الله عنهما - بالإلحاد (6) ونعوذ بالله عزَّ وجلَّ من الخذلان. وهكذا كان المعتزلة فى أصولهم مخالفين لأهل السنة فى مفهوم الإسلام الجامع، وكان لهذه الأصول الأثر السئ على الإسلام "قرآناً وسنة" وعلى المسلمين. موقف المعتزلة من السنة المطهرة: لما كان المعتزلة لا يؤمنون إلا بما يتفق مع عقولهم وأصولهم الخمسة، وكان هناك من الأحاديث النبوية ما يهدم مذهبهم ويناقض أدلتهم، كان موقفهم من السنة غاية فى الخطورة، ولا نكاد نكون مبالغين إذا قلنا: بأنهم كادوا يهدمون المصدر الثانى للتشريع الإسلامى، فهم تناقضوا فى موقفهم من السنة ونشأ التناقض بتشبثهم بالعقل إلى ما يشبه تقديسه وتأليهه، ورفض ما يتعارض معه أو تأويله بما لا يخالف رأيهم، ولذلك وقعوا فى كثير من الهنات والتناقضات دفعتهم إليها نزعتهم العقلية.

________ (1) الانتصار ص 151. (2) أبو الهذيل العلاف: هو محمد بن الهذيل بن عبيد الله البصرى العلاف، من أئمة المعتزلة، له مقالات فى الاعتزال، وانفرد بآراء مات سنة 235هـ وقيل غير ذلك. له ترجمة فى: طبقات المعتزلة لابن المرتضى ص 44، وتاريخ بغداد 3/366 رقم 1482، ولسان الميزان 5/597 رقم 8222، ووفيات الأعيان 4/265 رقم 606، وشذرات الذهب 2/85، وسير أعلام النبلاء 10/542 رقم 173. (3) مقالات الإسلاميين 2/145. (4) الانتصار للخياط ص 152. (5) البلخى: هو محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدى، نسبة إلى ما تريد محله بسمرقند، من أئمة الكلام. مات سنة 333هـ. له ترجمة فى: الفوائد البهية فى تراجم الحنفية للكنوى ص335، ومفتاح السعادة لأحمد بن مصطفى 2/21. (6) شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد 1/137، وانظر: ضحى الإسلام 3/177-180.

موقفهم من الخبر المتواتر:

موقفهم من الخبر المتواتر: درج المعتزلة على مخالفة إجماع الأمة على إفادة المتواتر القطع. فذهب بعضهم إلى إنكار حجية المتواتر وإفادته العلم، وتجويز وقوعه كذباً، وحكى الإمام أبو منصور البغدادى ذلك عن "النظامية"، وهم فرقة من المعتزلة فقال فى الفضيحة السادسة عشرة من فضائح النَّظَّام (1) : قوله بأن الخبر المتواتر مع خروج ناقليه عند سماع الخبر عن الحصر، ومع اختلاف همم الناقلين واختلاف دواعيها يجوز أن يقع كذباً، هذا مع قوله بأن من أخبار الآحاد ما يوجب العلم الضرورى. وقد كفره أصحابنا مع موافقيه فى الاعتزال فى هذا المذهب الذى صار إليه (2) . ثم قال فى الفضيحة السابعة عشرة من فضائحه: "تجويزه إجماع الأمة فى كل عصر، وفى جميع الأعصار على الخطأ من جهة الرأى والاستدلال، ويلزمه على هذا الأصل أن لا يقف بشئ مما اجتمعت الأمة عليه، لجواز خطئهم فيه عنده، وإذا كانت أحكام الشريعة منها ما أخذه المسلمون عن خبر متواتر، ومنها ما أخذوه عن أخبار الآحاد، ومنها ما أجمعوا عليه وأخذوه عن اجتهاد وقياس، وكان النظام دافعاً لحجة التواتر، ولحجة الإجماع، وقد أبطل القياس وخبر الواحد إذا لم يوجد العلم الضرورى، فكأنه أراد إبطال أحكام فروع الشريعة لأبطاله طرقها أ. هـ. (3) . والمعتزلة: هم أول الفرق التى اشترطت فى قبول الأخبار العدد كما فى الشهادة، وما أرادوا بذلك الشرط إلا تعطيل الأخبار والأحكام الواردة فيها. وفى ذلك يقول الإمام الحازمى (4) : "ولا أعلم أحداً من فرق الإسلام القائلين بقبول خبر الواحد اعتبر العدد سوى متأخرى المعتزلة؛

فإنهم قاسوا الرواية على الشهادة، واعتبروا فى الرواية ما اعتبروا فى الشهادة، وما مغزى هؤلاء إلا تعطيل الأحكام كما قال أبو حاتم ابن حبان (1) . وها هم رؤساء المعتزلة يصرحون باشتراط العدد ويتناقضون فى نسبته. فيحكى الإمام أبو منصور البغدادى عن الهذيلية وهم فرقة من المعتزلة فقال فى الفضيحة السادسة من فضائح أبى الهذيل قوله: إن الحجة من طريق الأخبار فيما غاب عن الحواس من آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وفيما سواها، لا تثبت بأقل من عشرين نفساً فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر، ولم يوجب بأخبار الكفرة والفسقه حجة وإن بلغوا عدد التواتر الذين لا يمكن تواطؤهم على الكذب إذا لم يكن فيهم واحد من أهل الجنة، وزعم أن خبر ما دون الأربعة لا يوجب حكماً، ومن فوق الأربعة إلى العشرين قد يصح وقوع العلم بخبرهم، وقد لا يقع العلم بخبرهم، وخبر العشرين إذا كان فيهم واحد من أهل الجنة يجب وقوع العلم منه لا محالة، واستدل على أن العشرين حجة بقول الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (2) . وقال: لم يبح لهم قتالهم إلا وهم عليهم حجة، وهذا يوجب عليه أن يكون خبر الواحد حجة موجبة للعلم؛ لأن الواحد فى ذلك الوقت كان له قتال العشرة من المشركين، فيكون جواز قتاله لهم دليلاً على كونه حجة عليهم. قال الإمام عبد القادر البغدادى: ما أراد أبو الهذيل باعتبار عشرين فى الحجة من جهة الخبر إذا كان فيهم واحد من أهل الجنة إلا تعطيل الأخبار الواردة فى الأحكام الشرعية عن فوائدها لأنه أراد بقوله: "ينبغى أن يكون فيهم واحد من أهل الجنة، واحداً يكون على بدعته فى الاعتزال والقدر وفى فناء مقدورات الله عزَّ وجلَّ لأن من لم يقل بذلك لا يكون عنده مؤمناً ولا من أهل الجنة، ولم يقل قبل أبى الهذيل أحد ببدعة أبى الهذيل حتى تكون روايته فى جملة العشرين على شرطه (3) .

ونقل الإمام الآمدى فى الإحكام: اتفاق الجمهور من الفقهاء، والمتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة على أن العلم الحاصل عن خبر التواتر ضرورى.وقال الكعبى (1) وأبو الحسين البصرى (2) من المعتزلة، والدقاق (3) من أصحاب الشافعى؛ أنه نظرى (4) . ثم اختلف هؤلاء فى أقل عدد يحصل معه العلم (5) . ويحكى الإمام ابن حزم مثل ما حكاه الحافظ الحازمى: من أن المعتزلة: هم أول من اشترطوا العدد فى قبول الأخبار، فخالفوا بذلك جميع أهل الإسلام فقال: "إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة على النبى صلى الله عليه وسلم. يجرى على ذلك كل فرقة فى علمها كأهل السنة، والخوارج، والشيعة، والقدرية حتى حدث متكلموا المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع بذلك، ولقد كان عمرو بن عبيد يتدين بما يروى عن أبى الحسين البصرى من المعتزلة ويفتى به، هذا أمر لا يجهله من له أقل علم (6) . وإذا كان الحازمى حكى فى شروط الأئمة الخمسة عن بعض متأخرى المعتزلة اشتراط العدد فى الرواية كما فى الشهادة، وحكى ذلك أيضاً عن بعض أصحاب الحديث كما حكاه السيوطى (7) . فقد أجاب شيخ الإسلام ابن حجر رضي الله عنه عن حكاية ذلك الشرط عن بعض أصحاب الحديث بقوله:

"وقد فهم بعضهم ذلك من خلال كلام الحاكم (1) فى معرفة علوم الحديث، وفى المدخل إلى الأكليل عند كلامه فى شرط البخارى ومسلم، وبذلك جزم ابن الأثير (2) فى مقدمة جامع الأصول وغيره، ولا حجة لهم فيما فهموه، ومنقوض بما فى الصحيحين من الغرائب الصحيحة التى تفرد بها بعض الرواة" (3) . يقول الحافظ ابن حجر: وقد وهم بعضهم حيث نسب إلى الحاكم أنه ادعى أن شرط الشيخين رواية الاثنين، ولكنه غلط على الحاكم (4) . موقفهم من خبر الآحاد: وتناقض المعتزلة فى حجية خبر الآحاد، فحكى الآمدى (5) عن أبى الحسين البصرى جواز التعبد بخبر الواحد عقلاً (6) ، وحكى الإمام الجوينى (7) عن قوم من المعتزلة، والرافضة قالوا:

_____ (1) الحاكم: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابورى يعرف بابن البيع، كان إمام عصره فى الحديث العارف به حق معرفته، صالحاً ثقة، يميل إلى التشيع، صاحب المستدرك على الصحيحين، وتاريخ نيسابور، ومعرفة علوم الحديث، ومناقب الشافعى وغير ذلك، مات سنة405هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 3 /1039 رقم 962، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص410 رقم 927، وشذرات الذهب 3 /175، وطبقات الشافعية لابن السبكى 4 /155 رقم328، وتاريخ بغداد 5/473 رقم 3024، والبداية والنهاية 11 /355، والرسالة المستطرفة ص21، وميزان الاعتدال 3 /608 رقم 7804، ووفيات الأعيان 4/280 رقم 615 (2) ابن الأثير: هو أبو الحسن على بن محمد بن عبد الكريم الجزرى، كان إماماً علامة بالسير وأيام الناس، حافظاً، لغوياً، من مصنفاته: اسد الغابة فى معرفة الصحابة، واللباب فى تهذيب الأنساب، مات سنة 630هـ. له ترجمة فى تذكرة الحفاظ 4 /1399 رقم 1124، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص495 رقم 1090، والبداية والنهاية 13 /139، وشذرات الذهب 5 /137، ووفيات الأعيان 3 /348 رقم 460، والعبر 5 /120. (3) تدريب الراوى 1 /71، وانظر: ص 124-127. (4) فتح البارى 13 /246 أرقام 7250 - 7257، وانظر: سؤالات مسعود بن على السجزى للحاكم ص 209 رقم 267. (5) الآمدى: هو على بن أبى على بن محمد بن سالم الثعلبى، المكنى بأبى الحسن، الملقب بسيف الدين، كان فقيهاً أصولياً منطقياً حسن الأخلاق فصيح اللسان بارع البيان. من مصنفاته: الإحكام فى أصول الأحكام، ودقائق الحقائق فى الحكمة، مات سنة 631هـ. له ترجمة فى: وفيات الأعيان 3/293 رقم 432، وطبقات الشافعية لابن السبكى 8 /306 رقم 1207، والبداية والنهاية 13 /140، وشذرات الذهب 5 /144. (6) الإحكام للآمدى 2 /68، 75، وانظر: المعتمد فى أصول الفقه 2 /106. (7) الجوينى: هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجوينى، المكنى بأبى المعالى، الملقب بإمام الحرمين، أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعى t من مؤلفاته: البرهان فى أصول الفقه، والإرشاد فى علم الكلام. مات سنة 478هـ. له ترجمة فى: سير أعلام النبلاء 11 /137 رقم 4313، وشذرات الذهب 3 /360، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 2 /466-470 رقم 8.

[لا يجوز العمل به شرعاً] (1) . ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادى عن الخياط المعتزلى، أنه مع ضلالته فى القدر، وفى المعدومات؛ منكر الحجة فى أخبار الآحاد، قال الأستاذ أبو منصور، وما أراد بإنكاره إلا إنكار أكثر أحكام الشريعة، فإن أكثر فروض الفقه مبنية على أخبار من أخبار الآحاد (2) . تناقض المعتزلة فى العدد المطلوب لقبول خبر الآحاد: ومن قبل خبر الآحاد من المعتزلة تناقض فى العدد المطلوب لقبوله، وذهب إلى عدم الاحتجاج به فى الأعمال إلا بشروط: فأما تناقضهم فى العدد المطلوب لقبوله. فحكى عن أبى على الجبائى "أنه لا يقبل الخبر إلا إذا رواه أربعة" (3) . وحكى عنه أيضاً قوله: "لا يقبل فى الشرعيات أقل من اثنين" (4) ، ونقل عنه أيضاً قوله: "يعتبر عدد يزيد عن شهود الزنا" (5) . واشترط رجلين عن رجلين "إسماعيل بن إبراهيم بن عليه" (6) وهو من الفقهاء المحدثين، إلا إنه مهجور القول عند الأئمة لميله إلى الاعتزال، وقد كان الإمام الشافعى يرد عليه ويحذر منه. ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادى: "أن بعضهم اشترط فى قبول الخبر: أن يرويه ثلاثة عن ثلاثة إلى منتهاه، واشترط بعضهم أربعة عن أربعة إلى منتهاه، وبعضهم خمسة عن خمسة إلى منتهاه، وبعضهم سبعة عن سبعة" (7) .

________ (1) البرهان فى أصول الفقه 1 /228، 231، وانظر: المسودة فى أصول الفقه لآل تيمية ص 238، والمعتمد فى أصول الفقه 2 /106 وما بعدها. وفضل الاعتزال ص 195. (2) الفرق بين الفرق ص 168، وانظر: الملل والنحل 1 /66. (3) انظر: تدريب الراوى 1 /72. (4) البرهان للجوينى 1 /231. (5) المسودة فى أصول الفقه لآل تيمية ص 236، 238. (6) ابن عُليّة: هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدى مولاهم، أبو بشر البصرى، المعروف بابن عُلّيه، ثقة حافظ في غير بدعته. مات سنة 193هـ له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1 /90 رقم 417، والكاشف 1 /243 رقم 350، والثقات لابن حبان 6/44، ومشاهير علماء الأمصار ص192 رقم 1277، ولسان الميزان 1 /50 رقم 65، والمغنى فى الضعفاء 1 /10 رقم 39. (7) تدريب الراوى1 /75، وانظر: آراء المعتزلة الأصولية دراسةوتقويماً للدكتور علىبن سعد بن ص333.

أما من ذهب إلى عدم الاحتجاج به فى الأعمال إلا بشروط؛ فاشترط: 1- ألا يخالف ظاهر القرآن الكريم، وهو أحد أصولهم كما سبق، فإذا ورد الحديث مخالفاً لظاهر القرآن الكريم؛ كان دليلاً على عدم صحته حتى مع إمكان الجمع بين هذا التعارض الظاهرى، وهذا الشرط أصل من أصول أهل الزيغ والابتداع من الخوارج والجهمية والجبرية والمعتزلة كما حكاه عنهم الأئمة: ابن قيم الجوزية (1) ، والشاطبى (2) ، وابن قتيبة (3) وغيرهم. 2- كما اشترط بعضهم ألا يخالف خبر الآحاد العقل: قال أبو الحسين: لم يقبل ظاهر الخبر فى مخالفة مقتضى العقل، لأنا قد علمنا بالعقل على الإطلاق أن الله عزَّ وجلَّ لا يكلف إلا ما يطاق وأن ذلك قبيح، فلو قبلنا الخبر فى خلافه، لم يخل، إما أن نعتقد صدق النبى صلى الله عليه وسلم. فى ذلك فيجتمع لنا صدق النقيضين، أو لا نصدقه فنعدل عن مدلول المعجز وذلك محال (4) . 3- كما ذهب فريق الاعتزال إلى أن خبر الآحاد لا يقبل فيما طريقه الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد إنما ينبنى على اليقين لا الظن، وخبر الآحاد إنما يفيد الظن (5) ، وأما اليقين فإنما يؤخذ من حجج العقول؛ كما قال الجاحظ (6) : وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل (7) . وقال: والاستنباط هو الذى يفضى بصاحبه إلى برد اليقين، وعز الثقة، والقضية الصحيحة، والحكم المحمود (8) .

______ (1) أعلام الموقعين 2 /275، 276. (2) انظر: الاعتصام باب فى مأخذ أهل البدع بالاستدلال 1 /199. (3) تأويل مختلف الحديث ص84 وما بعدها، وانظر: الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية ص210-212 (4) المعتمد فى أصول الفقه 2 /549، وانظر: شرح الأصول الخمسة ص 565. (5) انظر: المعتمد فى أصول الفقه 2 /102، وشرح الأصول ص 769. (6) الجاحظ: هو عمرو بن بحر بن محبوب الكنانى، مولاهم، أبو عثمان، المشهور بالجاحظ، البصرى، المعتزلى، كان متبحراً فى الأدب، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة، ليس بثقة ولا مأمون، وكان من أئمة البدع، من مؤلفاته الحيوان، والبيان والتبيين، ومجموع رسائل وغيرها. مات سنة 255هـ. له ترجمة فى: تاريخ بغداد 12/212 رقم 6669، ووفيات الأعيان 3 /470 رقم 506، وميزان الاعتدال 3 /247 رقم 6333، والضعفاء والمتروكين لابن الجوزى2 /223 رقم 2545، والبداية والنهاية 11 /19، ولسان الميزان 5 /286 رقم 6300. (7) رسالة التربيع والتدوير، ضمن رسائل الجاحظ 3 /58. (8) كتاب المعلمين. ضمن رسائل الجاحظ 3 /58.

موقف المعتزلة من الصحابة وأثر ذلك على السنة النبوية:

وقال القاضى عبد الجبار (1) : وإن كان - أى خبر الآحاد - مما طريقه الاعتقادات ينظر، فإن كان موافقاً لحجج العقول قبل واعتقد بموجبه، لا لمكانة بل للحجة العقلية، وإن لم يكن موافقاً لها، فإن الواجب أن يرد ويحكم بأن النبى صلى الله عليه وسلم. لم يقله، وإن قاله فإنما قاله على طريق الحكاية عن غيره، هذا إذا لم يحتمل التأويل إلا بتعسف، فأما إذا احتمله فالواجب أن يتأول (2) . بل زعموا أن من أخبار الآحاد ما يعلم أنه بروايته ارتكب عظيماً، مما روى فى باب التشبيه والجبر وغيرها من ضروب الخطأ، ولولا الدلالة على وجوب العمل به على بعض الوجوه لم يكن فى نقله فائدة (3) . وسيأتى الجواب عن هذه الشروط فى الرد على شبه منكرى حجية خبر الآحاد. موقف المعتزلة من الصحابة وأثر ذلك على السنة النبوية: موقف المعتزلة من الصحابة رضي الله عنهم، لا يقل سوءً وخطراً من موقف الشيعة من الصحابة وأول ما يطالعنا من موقفهم من الصحابة أحد أصولهم الواردة على لسان أحمد بن يحيى بن المرتضى، وهو تولى الصحابة، والاختلاف فى عثمان بعد الأحداث، والبراءة من معاوية وعمرو بن العاص. وهذا الأصل كما سبق هو أحد الفوارق فى الأصول عندهم فهم وإن صححوا خلافة أبى بكر الصديق رضي الله عنه حتى من قال منهم بأفضلية على بن أبى طالب إلا أننا نجد النظام يتطاول عليه، وعلى كثير من أعلام الصحابة كالفاروق عمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود، وأبى هريرة وغيرهم. فلا ندرى ماذا يعنون بتولى الصحابة قبل اختلافهم فى سيدنا عثمان رضي الله عنهم.

_______ (1) القاضى عبد الجبار: هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذانى، أبو الحسين، قاضى، أصولى، كان شيخ المعتزلة فى عصره، يلقبونه قاضى القضاة، ولا يطلقون ذلك على غيره، من مصنفاته: تنزيه القرآن عن المطاعن، وشرح الأصول الخمسة، والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل. وغير ذلك. مات سنة 415هـ. له ترجمة فى: تاريخ بغداد 11 /113 رقم 5806، وميزان الاعتدال 2 /533 رقم 4737، وطبقات الشافعية لابن السبكى 5 /97 رقم 443، وطبقات المعتزلة لابن المرتضى ص 7، 43، وطبقات المفسرين للداودى 1 /262 رقم 248، ولسان الميزان 4 /211 رقم 4939. (2) شرح الأصول ص 770، وانظر: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص 182، والمعتمد فى أصول الفقه 2/549. (3) الانتصار ص 152، 153.

حتى إذا كانت فتنة سيدنا عثمان رضي الله عنه رأيناهم يشكون فى عدالته، فيعلنون التوقف فيه وفى خاذلية وقاتليه وترك البراءة من واحد منهم، لأنهم أشكل عليهم الأمر فى حاله رضي الله عنه قبل الفتنة وبعدها، فتركوا أمره لله عزَّ وجلَّ. وهذا التوقف والشك فى عدالة أمير المؤمنين، حكاه كما سبق الخياط عن واصل بن عطاء، وقال الخياط: هذا قول لا تبرأ المعتزلة منه، ولا تعتذر من القول به (1) . حتى إذا كانت فتنة على بن أبى طالب ومعاوية - رضى الله عنهما - رأيناهم ما بين موقن بفسق إحدى الطائفتين لا بعينها، وما بين موقن بفسقهما معاً، وأعلنوا البراءة من معاوية، وعمرو بن العاص ومن كان فى شقهما (2) ، بل إن البلخى وهو أحد شيوخ المعتزلة تجرأ برميهما - رضى الله عنهما - بالإلحاد، كما سبق (3) . حكى الإمام عبد القادر البغدادى فى كتابه (الفرق بين الفرق) عن شيخ المعتزلة واصل ابن عطاء زعمه أن فرقة من الفرقتين (أصحاب الجمل وصفين) فسقه لا بأعيانهم، وأنه لا يعرف الفسقة منهما، وأجازا أن يكون الفسقة من الفرقتين علياً وأتباعه، كالحسن، والحسين، وابن عباس، وعمار بن ياسر، وأبى أيوب الأنصارى، وسائر من كان مع على يوم الجمل، وأجازا كون الفسقة من الفرقتين عائشة، وطلحة، والزبير، وسائر أصحاب الجمل، ثم قال فى تحقيق فى الفرقتين لو شهد على، وطلحة، أو على، والزبير، أو رجل من أصحاب الجمل عندى على باقة بقل لم أحكم بشهادتهما، لعلمى بأن أحدهما فاسق لا بعينه، كما لا أحكم بشهادة المتلاعنين لعلمى بأن أحدهما فاسق لا بعينه، ولو شهد رجلان من إحدى الفرقتين أيهما كان قبلت شهادتهما. يقول الإمام البغدادى: "ولقد سخنت عيون الرافضة القائلين بالاعتزال بشك شيخ المعتزلة فى عدالة على واتباعه، ومقالة واصل فى الجملة كما قلنا فى بعض أشعارنا: مقالة ما وصلت بواصل *** بل قطع الله به أوصالها (4)

_____ (1) الانتصار ص 152، 153. (2) ومن عجيب الأمر أن الخياط يعيب على المحدثين عدم أخذهم بأصل المعتزلة بالبراءة من معاوية، وعمرو بن العاص ومن فى شقهما، فيقول [ولقد أفرطوا فى ذلك حتى تولوا من قامت الحجة بعدواته والبراءة منه] انظر: الانتصار ص 213. (3) راجع: ص 111. (4) الفرق بين الفرق ص117، وانظر: الملل والنحل للشهرستانى 1 /43، وميزان الاعتدال للذهبى 4 /329.

وإذا كان واصل بن عطاء أيقن بفسق إحدى الفرقتين لا بعينها، فقد أيقن بفسقهما معاً وصرح بذلك عمرو بن عبيد كما حكاه عنه البغدادى (1) . وعن طعن المعتزلة فى الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - قال الإمام البغدادى فى الفضيحة الحادية والعشرون من فضائح النظام: "ثم إن النظام - مع ضلالاته التى حكيناها عنه - طعن فى أخيار الصحابة والتابعين من أجل فتاويهم بالاجتهاد، فذكر الجاحظ عنه فى كتاب (المعارف) وفى كتابه المعروف بـ (الفتيا) أنه عاب أصحاب الحديث ورواياتهم أحاديث أبى هريرة رضي الله عنهم، وزعم أن أبا هريرة كان أكذب الناس، وطعن فى الفاروق عمر رضي الله عنه وزعم أنه شك يوم الحديبية فى دينه، وشك يوم وفاة النبى صلى الله عليه وسلم.، وأنه كان فيمن نفر بالنبى صلى الله عليه وسلم. ليلة العقبة، وأنه ضرب فاطمة، ومنع ميراث العترة، وأنكر تغريب نصر بن الحجاج من المدينة إلى البصرة، وزعم أنه ابتدع صلاة التراويح، ونهى عن متعة الحج، وحرم نكاح الموالى للعربيات ... إلخ. ... ثم إنه قال فى كتابه: [إن الذين حكموا بالرأى من الصحابة، إما أن يكونوا قد ظنوا أن ذلك جائز لهم، وجهلوا تحريم الحكم بالرأى فى الفتيا عليهم، وإما أنهم أرادوا أن يذكروا بالخلاف، وأن يكونوا رؤساء فى المذاهب، فاختاروا لذلك القول بالرأى، فنسبهم إلى إ يثار الهوى على الدين، وما للصحابة رضي الله عنهم عند هذا الملحد الفرى ذنب غير أنهم كانوا موحدين لا يقولون بكفر القدرية الذين ادعوا مع الله تعالى خالقين كثيرين] (2) . وقد ذكر الإمام البغدادى بعد ذلك: "أن نسبة النظام الصحابة إلى الجهل والنفاق يترتب عليه خلود أعلام الصحابة فى النار على رأى النظام، لأن الجاهل بأحكام الدين عنده كافر، والمتعمد للخلاف بلا حجة عنده منافق كافر أو فاسق فاجر، وكلاهما من أهل النار على الخلود (3) . وهذا الذى ذكره الإمام البغدادى وافقه على أكثر ما فيه الإمام الشهرستانى (4) فى كتابه (الملل والنحل)

_______ (1) الفرق بين الفرق ص118، وانظر: الملل والنحل للشهرستانى 1 /43. (2) الفرق بين الفرق ص 140-142، وانظر: ضحى الإسلام 3 /86. (3) الفرق بين الفرق ص 143. (4) الشهرستانى: هو محمد بن عبد الكريم بن أحمد، أبو الفتح الشهرستانى، الملقب بالأفضل، كان إماماً فى علم الكلام، وأديان الأمم، ومذاهب الفلاسفة، له معرفة بالأصول والأدب، من مصنفاته الملل والنحل، والإرشاد إلى عقائد العباد، وغير ذلك. مات سنة 548هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 4 /1313 فى ترجمة السبحى رقم 1088، ووفيات الأعيان 4 /273 رقم611، وطبقات الشافعية لابن السبكى 6 /128 رقم 653، ولسان الميزان 6 /304 رقم7760، والوافى بالوفيات 3 /278 رقم 1319، وشذرات الذهب 4 /149.

والإمام ابن قتيبة (1) فى كتابه (تأويل مختلف الحديث) وقد أغنانا فى الرد على النظام ومن ذهب مذهبه وعلى كل دعاويه واتهاماته الباطلة لصحابة سيدنا رسول الله رضي الله عنهم بما لا يدع مجالاً للشك فى تهافت فكرهم وتفاهة رأيهم، وتحقيراً لشأنهم، الإمام ابن قتيبة (2) . وهكذا يظهر واضحاً أن المعتزلة ما بين شاك فى عدالة الصحابة، منذ عهد فتنة سيدنا عثمان رضي الله عنه وما بين موقن بفسق إحدى الطائفتين لا بعينها، وما بين موقن بفسقهما معاً، وما بين طاعن فى أعلامهم، متهم لهم بالكذب والجهل والكفر والنفاق كالنظام. مع أن رؤساءهم وخاصة الذين طعنوا منهم فى الصحابة - كانوا من الرقة فى الدين بحيث يصف أحدهم وهو ثمامة بن أشرس - جمهور المسارعين إلى الصلاة بأنهم "حمير": وكانوا من الشعوبية والكره للعرب بحيث يقول ثمامة نفسه: "انظر إلى هذا العربى يعنى محمد صلى الله عليه وسلم. ماذا فعل بالناس؟ فماذا ننتظر من هذا الشعوبى الماجن أن يقول عن صحابة رسول الله رضي الله عنهم؟ وماذا ننتظر أن يكون رأيه فى السنة التى حققها أئمة الحديث ومحققوهم (3) ؟ ولا يقف قدح المعتزلة عند الصحابة فقط، بل يمتد إلى القدح فى التابعين رضي الله عنهم وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم. وربما ردوا فتاويهم وقبحوها فى أسماع العامة لينفروا الأمة عن إتباع السنة وأهلها (4) وسيأتى تفصيل ذلك والجواب عنه فى مبحث عدالة أهل السنة.

____ 1) ابن قتيبة: هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى أو المروزى، أبو محمد وقيل أبو عبد الله، كان ثقة ديناً فاضلاً، عالماً باللغة، والنحو، وغريب القرآن، ومعانيه، والشعر، والفقه، من مصنفاته: تأويل مشكل القرآن، وتأويل مختلف الحديث، والمعارف. وغير ذلك. مات سنة 276هـ. له ترجمة فى: تاريخ بغداد 10 /170 رقم 5309، وميزان الاعتدال 2 /503 رقم 4601، والفهرست لابن النديم ص123، والبداية والنهاية 11 /48، وتذكرة الحفاظ 2/633، ووفيات الأعيان 3 /42 رقم 328، وطبقات المفسرين للداودى 1 /251 رقم 234 (2) تأويل مختلف الحديث ص 33 - 44. (3) السنة ومكانتها فى التشريع ص6، وانظر: تأويل مختلف الحديث ص 54، وانظر: ما قاله الأئمة عن فساد دين رؤوس المعتزلة فى تأويل مختلف الحديث ص 28، والفرق بين الفرق ص 143. (4) الاعتصام 1 /186 وما بعدها.

وبعد فإن أصول المعتزلة على اختلافها كان لها أسوء الأثر على الإسلام ورواته حيث وقف المعتزلة بأصولهم من الوحى قرأناً وسنة، ومن الصحابة موقف التحدى، فإذا بدا خلاف فى ظاهر النصوص وبين أصولهم أو رأى لا يرونه أولوا النص بما يخرج عن معناه الحقيقى إلى ما يوافق رأيهم (1) . وعن خطورة تأويلهم آيات القرآن الكريم بما يوافق أصولهم يقول الإمام الأشعرى: إن كثيراً من الزائغين عن الحق من المعتزلة، وأهل القدر، مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم، ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلاً لم ينزل به الله سلطاناً، ولا يصح به برهاناً، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين (2) . ويقول فضيلة الدكتور أبو شهبة - رحمه الله -: المعتزلة من أعظم الناس كلاماً وجدالاً، وقد صنفوا تفاسيرهم على أصول مذهبهم، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم، شيخ إسماعيل بن عليه، الذى كان يناظر الشافعى، ومثل كتاب أبى على الجبائى، والتفسير الكبير للقاضى عبد الجبار بن أحمد الهمدانى والكشاف لأبى القاسم الزمخشرى. والمقصود: أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً، ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين فى رأيهم، ولا فى تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة، وذلك من جهتين: تارة من العلم بفساد قولهم، وتارةً من العلم بفساد ما فسروا به القرآن ... ، ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً، ويدس السم فى كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى أنه يروج على خلق كثير من أهل السلف، كثير من تفاسيرهم الباطلة] أ. هـ. (3) . ولا يقف خطر أصولهم عند تأويلهم القرآن الكريم مما لم ينزل به الله سلطاناً، وإنما كان لهذه الأصول خطرها الأعظم على السنة المطهرة، فما تعارض من الأحاديث الصحيحة مع هذه الأصول، إما يؤولونه تأويلاً يشبه الرد،

____ (1) انظر: موقف المعتزلة من السنة ومواطن انحرافهم عنها للدكتور أبو لبابة ص 43، 73، 97، والخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية للدكتور محمد عمارة ص 212-215. (2) الإبانة للأشعرى ص 14. (3) الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير، ص 114، 115.

وإما يصرحون بالرد بحجة أن الخبر آحاد، والآحاد لا يحتج بها فى العقائد (1) ، وهم فى كل ذلك يتطاولون على رواة السنة ويطعنون فيهم سواء من صحابة رسول الله رضي الله عنهم أو من التابعين، فمن بعدهم من أئمة المسلمين. وفى مواقف المعتزلة من الكتاب والسنة والصحابة، وجد أعداء الإسلام وأعداء السنة المطهرة، ثغرات يلجون منها فى الكيد لدين الله عزَّ وجلَّ - قرآناً وسنة - بما وجدوه من ثروة طائلة من السخافات والمثالب، فصوروا الإسلام فى صورة الخرافات، وطعنوا بدورهم فى أئمة المسلمين وتاريخهم وحضارتهم المجيدة، وقد اغتر بهم الجهلة فى عصرنا الحاضر ونسجوا على منوال أساتذتهم، ورموا علماء المسلمين فى كل عصر بكل نقيصة وبهتان، والله يشهد إنهم لكاذبون (2) . فالمستشرقون، ودعاة التغريب، واللادينية، وهم يهاجمون السنة اليوم، ويثيرون حولها الشبهات اهتموا بالاعتزال والمعتزلة، لأنهم وجدوا فيهم منهجاً له أثره فى إفساد الفكر الإسلامى على العموم، وإبطال حجية السنة وتعطيلها على الخصوص، ويبدوا هذا واضحاً فى إحيائهم للفكر الاعتزالى والثناء عليه، ووصفهم للمعتزلة بأنهم أغارقة الإسلام الحقيقيون، أو وصفهم بالمعتزلة العظام، أو المفكرون الأحرار فى الإسلام (3) . يقول الدكتور أحمد أمين: وفى رأيى أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة، وعلى أنفسهم جنوا (4) . ومن هنا ندرك خطورة تأثر بعض علماء المسلمين الأجلاء من رواد المدرسة العقلية الحديثة بالفكر الاعتزالى ومنهجه فى تعامله مع النصوص قرآناً (5) ، وسنة (6) ،

___ (1) سيأتى بالبرهان الواضح أن القضية مع المعتزلة فى العقائد ليست قضية متواتر وآحاد، وإنما قضية أصولهم فهى الأصل، والقرآن والسنة الفرع، بدليل تأويلهم لآيات القرآن المتواترة فى أحاديث العقائد لتعارضها مع أصولهم، ولو صدقوا فى دعواهم بأن الآحاد لا يؤخذ بها فى العقائد، فلماذا يؤولون تأويلاً أشبه بالرد، الآيات المتواترة فى العقائد؟ انظر: موقف المعتزلة من السنة ومواطن انحرافهم عنها للدكتور أبو لبابة حسين ص 97، 98. (2) انظر: الحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 332 بتصرف، والسنة ومكانتها فى التشريع ص142، والضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين للدكتور أحمد محرم الشيخ1 /189-196. (3) انظر: العقيدة والشريعة لجولدتسيهر ص 100 - 102، 118 - 120، وانظر: تراث الإسلام لجوزيف شاخت ص 203، 218، ودراسات فى حضارة الإسلام لهاملتون جب ص 268 - 269، 274، ودائرة المعارف الإسلامية ص 576، 580، 584. (4) ضحى الإسلام 3 /207. (5) انظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة فى التفسير للدكتور فهد الرومى. (6) انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية للأستاذ الأمين الصادق الأمين.

واستغل ذلك التأثر بعض أعداء الإسلام، وأعداء السنة المطهرة، فى دعوتهم الباطلة، وصبغها صبغة شرعية وذلك بالاستشهاد بأقوال رواد تلك المدرسة، والزعم بأن منهجهم العقلى المعتزلى، هو المنهج الحق، وربما ادعوا بأنه منهج سلفنا الصالح (1) .

___ (1) انظر: أضواء على السنة محمود أبو رية ص377 وما بعدها، والأضواء القرآنية السيد صالح أبو بكر 1 /16، 36، وتبصير الأمة بحقيقة السنة إسماعيل منصور ص 656، ومجلة روزاليوسف العدد 3586 ص 38 -40، والعدد 3559 ص 48-50، مقالات لأحمد صبحى منصور.

المبحث الخامس: من الفرق إلى السنة الجامعة

المبحث الخامس: من الفرق إلى السنة الجامعة تحت هذا العنوان قال الأستاذ أنور الجندى: "منذ اليوم الأول لظهور حركة "المؤامرة على الإسلام فى القرن الأول للهجرة قامت المواجهة الصادقة والمعارضة الصريحة على يد أهل السنة والجماعة كما قال محمد بن سيرين (1) - رحمه الله -: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم" (2) . ومنذ ذلك اليوم وكانت المواجهة بين أهل السنة وأهل البدع والأهواء، واستطاعت السنة كشف زيفهم ونقص شبهاتهم وبينت بالدليل أنها حركة معادية لها تلتمس فى محيط المجتمع الإسلامى خيوطاً لتدميرها كمقدمة لتدمير النظام الإسلامى نفسه، كما بينت السنة الصلة الوثيقة بين أهل البدع وأعداء الإسلام من اليهودية، والنصرانية، والمجوسية وغيرهم ممن تطلعوا إلى هدم الإسلام عن طريق فكره بعد أن عجزوا عن هدمه عن طريق دولته. أولاً: أنكرت السنة التشبيه والتعطيل وكشفت عن أن المشبهة وثنية والمعطلين ملحدون وتعقبت فى نفس الوقت الملحدين والوثنيين وكشفت عنهم. ثانياً: عارضت السنة إخضاع الإسلام للجدل العقلى ودعت إلى التماس المعين الأول والمنبع الأصيل "القرآن والسنة". ثالثاً: كشفت السنة عن فساد إلهيات أرسطو؛ لأن مقدماتها ونتائجها معارضة أشد المعارضة لمفهوم التوحيد الخالص، وأبانت أن العقائد مرجعها إلى الكتاب والسنة. رابعاً: استوعبت السنة كل المطامح والآمال التى كانت الفرق المختلفة تنادى بها فجعلت محبة أهل البيت جزءاً من عقيدتها وجعلت العقلانية التى رفعت لواءها المعتزلة شطر المعرفة، وجعلت الوجدانية التى حمل لواءها التصوف شطر المعرفة الأخرى وجعلت اختيار الحاكم على أساس الشورى وليس على أساس النسب أساساً من أسس مفهومها.

_____ (1) محمد بن سيرين: هو محمد بن سيرين الأنصارى، أبو بكر بن أبى عمرة البصرى، ثقة، ثبت، عابد، كبير القدر، مات سنة 110هـ له ترجمة فى تقريب التهذيب 2 /85 رقم 5966، والكاشف 2 /178 رقم 4898، والثقات للعجلى ص 450 رقم 1464، والثقات لابن حبان 5 /348، والجرح والتعديل 7 /280، ومشاهير علماء الأمصار ص 113 رقم 643. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) فى المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين 1 /84.

خامساً: قاومت السنة الاتجاه الزائف نحو القول بوحدة الوجود أو الحلول أو الاتحاد كما قاومت انحرافات الخوارج والشيعة والمعتزلة والمتكلمين والفلاسفة والصوفية فالتقت كل هذه القطاعات فى مفهوم جامع. سادساً: كشفت السنة عن أن الفكر الفلسفى لتلك الفرق لا يمكن أن يكون أساساً للفكر الإسلامى، ذلك أن هناك مجموعة من الحقائق الأولية لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الوحى والنبوة، وبينت أن الفلسفة ليست قرينة الوحى ولا مناظرة له فهى لا تزيد عن كونها استخداماً للعقل، وهى فى أحسن صورها تعمل على أن تعصم الذهن من الخطأ فى الاستنباط والبرهان. سابعاً: أصبحت السنة هى البوتقة التى انصهرت فيها كل الثقافات فهى بمثابة النهر الكبير والمذاهب والفرق روافد، وخير ما فى هذه الروافد انصهر فى مفهوم جامع للأصالة الإسلامية وصب فى النهر الكبير، وكان أبلغ ما وصلت إليه هذه الغاية هو قول الإمام الغزالى: إن أساليب القرآن أرجح فى سلامة العقيدة والتزام صفاء الفطرة من جملة أساليب اليونان، والصوفية وفى بوتقة السنة أصبح العقل فى خدمة الوحى يسير فى ضوئه، وأباح فقهاء المسلمين قدراً كبيراً من التأويل والاختلاف فى الفروع دون أن يتجاوزوا وجه الانحرافات الهدامة ... إلخ. ووصل كثير من مفكرى الإسلام إلى نفس النتيجة التى وصل إليها الإمام الغزالى، حتى قال إمام الحرمين: "لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام" (1) وقال: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أنه يبلغ بى ما بلغ ما اشتغلت به" (2) وأخرج الخطيب عن الوليد الكرابيسى (3) أنه لم حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحداً أعلم بالكلام منى؟

_____ (1) صون المنطق للسيوطى 3 183، نقلاً عن أبى المظفر فى كتابه الانتصار. (2) انظر: طبقات الشافعية لابن السبكى 3 /260، وسير أعلام النبلاء 18 /474. (3) الكرابيسى هو: الوليد بن أبان الكَرَابيسى، بفتح أوله والراء، نسبة إلى بيع الثياب، انظر: اللباب فى تهذيب الأنساب3 /88، أحد أئمة الكلام، له ترجمة فى: تاريخ بغداد13 /446 رقم7317، وميزان الاعتدال 1 /414، وسير أعلام النبلاء 10 /548 رقم 1717.

قالوا: لا قال: فتتهمونى؟ قالوا: لا قال: فإنى أوصيكم، أتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإنى رأيت الحق معهم" (1) . ثامناً: كشف رجال الأصالة الإسلامية (السنة) أن النزعة العقلية التى دافع عنها المعتزلة كادت تخنق العقيدة وأنها حولتها من يسرها وبساطتها إلى مذهب فلسفى معقد بعيد عن روح الإسلام، وكانت أخطاء المعتزلة: تحكيم العقل فى الوحى، وإعلاء العقل على الوحى. تاسعاً: استطاع مفهوم السنة، وهو مفهوم الأصالة الإسلامية الجامع أن يقضى على الغلو فى كل تلك الفرق وبذلك تعين أن السنة ليست مذهباً معيناً بين المذاهب وليست طرفاً من الأطراف بل هى الحكم بين الأطراف فأهل السنة لامع هؤلاء ولامع هؤلاء، بل هم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه، وهم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه، فكل حق مع طائفة من الطوائف يوافقونهم فيه، وهم براء من باطلهم، فهم حكام بين الطوائف لا يعاملون بدعة ببدعة ولا يرمون باطلاً بباطل، ولا يحملهم شنآن قوم ألا يعدلوا فيهم، بل يقولون فيهم الحق ويحكمون فى مغالاتهم بالعدل. إن السنة المطهرة هى مدرسة الأصالة الإسلامية التى تجمع خير ما فى الفرق وتحكم بينها وترتفع عن الخلاف حول الأفراد والأشخاص، وتقرر أن هذا الخلاف هو الذى أفسد المفاهيم الإسلامية أ. هـ. (2) .

_____ (1) شرف أصحاب الحديث ص 108، 109 رقم 105، وانظر: تاريخ بغداد13 /441، وسير أعلام النبلاء 10 /548. (2) المؤامرة على الإسلام للأستاذ أنور الجندى ص 229: 234 بتصرف وتقديم وتأخير.

الفصل الثاني:أعداء السنة النبوية من المستشرقين

الفصل الثاني:أعداء السنة النبوية من المستشرقين وتحته أربعة مباحث: المبحث الأول: التعريف بالاستشراق. المبحث الثانى: منهج المستشرقين فى دراسة الإسلام. المبحث الثالث: المستشرقون وموقفهم من السنة النبوية. المبحث الرابع: موقفنا من الحركة الاستشراقية والمستشرقين. المبحث الأول: التعريف بالاستشراق لغة واصطلاحاً الاستشراق لغة: استشرق من الفعل "شرق" يقال: شرقت الشمس أى طلعت، واسم الموضع المشرق، والشرق: المشرق، والجمع إشراق. والتشريق الأخذ فى ناحية المشرق، يقال: شتان بين مشرق ومغرب، وشرقوا أى ذهبوا إلى الشرق أو أتوا الشرق، وكل ما طلع من المشرق فهو شرق (1) . واستشرق: أى طلب دراسة ما يتعلق بالشرق، فالألف والسين والتاء فى أى فعل تدل على الطلب كاستغفر أى طلب المغفرة. الاستشراق اصطلاحاً: هو علم الشرق أو علم العالم الشرقى وهو تعبير أطلقه الغربيون على الدراسات المتعلقة بالشرقيين شعوبهم، وتاريخهم، وأديانهم، ولغاتهم، وأوضاعهم الاجتماعية، وبلادهم، وأرضهم، وحضارتهم، وكل ما يتعلق بهم. وهذا معنى عام للاستشراق. وهناك معنى خاص كان هدفهم الأساسى وهو: دراسة الإسلام والشعوب الإسلامية لخدمة أغراض التبشير من جهة، وخدمة أغراض الاستعمار الغربى لبلدان المسلمين من جهة أخرى، ولإعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام وتحطيم الأمة الإسلامية (2) . وهذا المعنى الخاص لمفهوم الاستشراق هو الذى يعنينا، وهو الذى ينصرف إليه الذهن فى عالمنا العربى الإسلامى عندما يطلق لفظ استشراق أو مستشرق وهو الشائع أيضاً فى كتابات المستشرقين المعنيين (3) . والمستشرقون: هم الذين يقومون بهذه الدارسات من غير الشرقيين، ويقدمون الدراسات اللازمة للمبشرين، بغية تحقيق أهداف التبشير، وللدوائر الاستعمارية بغية تحقيق أهداف الاستعمار.

______ (1) القاموس المحيط 3/241، ومختار الصحاح ص 336. (2) أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها للأستاذ عبد الرحمن الميدانى ص 50 بتصرف، وانظر: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضارى للأستاذ الدكتور محمود زقزوق ص 24. (3) الاستشراق للدكتور زقزوق ص 24،25، وانظر: المستشرقون والتاريخ الإسلامى للدكتور على الخربوطلى ص 26، ورؤية إسلامية للاستشراق للدكتور أحمد غراب ص 7.

ومع الدراسات الاستشراقية الموجهة لأغراض التبشير والاستعمار، قام بعض محبى العلم بدراسات استشراقية حيادية غير موجهة، وكان من بعض هؤلاء إنصاف للحقيقة وبعض هؤلاء المنصفين تأثر بالإسلام وبالحضارة الإسلامية فأسلم (1) . هذا ومما لا شك فيه أن الاستشراق كان له أكبر الأثر فى صياغة التصورات الأوربية عن الإسلام وأمته، وفى تشكيل مواقف الغرب إزاء الإسلام على مدى قرون عديدة وحتى يومنا هذا (2) . والاستشراق من تعريفه الخاص السابق، موقف عقائدى وفكرى معاد للإسلام يقفه الكافرون بهذا الدين بوجه عام، وبعض أهل الكتاب من اليهود والنصارى بوجه خاص. وهذا الموقف - فى جوهره النابع من العداوة فى العقيدة - ليس بجديد وإنما هو امتداد لموقف أسلافهم الكافرين بالإسلام من المشركين وأهل الكتاب - منذ ظهور الإسلام وحتى اليوم: وهو موقف الإنكار للرسالة، والتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم.، وإثارة الشبهات حول الإسلام وحول القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم. وسنته المطهرة بوجه خاص، لتشكيك المسلمين فى دينهم، ومحاولة ردهم عنه. وقد تختلف وسائل المشركين ووسائل أهل الكتاب، ولكنهم - فى نهاية المطاف - يلتقون حول الهدف: وهو محاولة منع الخير - وهو الإسلام - عن المسلمين، ومحاولة ردهم عنه كما قال الله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (3) . وقال تعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (4) .

_____ (1) أجنحة المكر الثلاثة ص 50، 51. (2) الاستشراق للدكتور زقزوق ص20. (3) الآية 105 من سورة البقرة. (4) الآية 109من سورة البقرة، وانظر: رؤية إسلامية للاستشراق للدكتور أحمد غراب ص11، 181

المبحث الثانى:منهج المستشرقين فى دراسة الإسلام

المبحث الثانى:منهج المستشرقين فى دراسة الإسلام قبل أن نتعرف على موقف المستشرقين من السنة النبوية المطهرة يجدر بنا أن نتعرف أولاً على منهجهم فى دراستهم الاستشراقية للإسلام، فبمعرفة هذا المنهج سنقف على أثره فى نظرتهم للإسلام، وللسنة النبوية المطهرة ونحن كثيراً ما نسمع المستشرقين يكثرون من القول: إن التحقيق والموضوعية والتحرر منهجهم فى كل ما يبحثون لا فرق فى ذلك عندهم بين عدو وصديق أو بين قريب وبعيد، ويكثرون من القول أيضاً: أنهم يدرسون العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق ... هكذا يدعون! والحق أنهم بعيدون كل البعد عن البحث العلمى النزيه ولا يمتون إليه بصلة، ويستوى فى هذا سائر المدارس الاستشراقية (1) . ولا أدرى كيف يكون منهج الاستشراق اللاهوتى الوليد من عصبية وحقد النصارى للإسلام ولأمتنا الإسلامية - لا أدرى كيف يكون نزيهاً ومحايداً فى دراسته للإسلام ... ؟! وحتى بعد تطوره فى العصر الحديث إلى استشراق علمانى استعمارى لم يتخل عن العصبية الدينية، وإن لم تطغ هذه العصبية طغيانها قديماً فهو استشراق استعمارى طامع فى خيرات هذه الأمة حاقداً عليها ولا أمل له فى السيطرة على هذه الأمة إلا بإضعاف عقيدتها بدينها وبتاريخها وحضارتها ولا يكون ذلك إلا بالاستشراق اللاهوتى التبشيرى، وكذلك حال الاستشراق اليهودى فى منهجه، كانت تحركه نزعتين: إحداهما دينية: تحمل أشد العداوة والحقد للإسلام والمسلمين. وثانيهما سياسية: تحمل فى داخلها حلم إعادة مملكة سيدنا داود عليه السلام فى فلسطين وحكم العالم أجمع.

_______ (1) وهى المدرسة النصرانية، والمدرسة اليهودية، والمدرسة العلمانية، والمدرسة الإلحادية الشيوعية. انظر: أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها للأستاذ عبد الرحمن الميدانى ص 124، 125، والاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضارى للدكتور زقزوق ص 48، 49.

والبحث العلمى النزيه لا صلة له إطلاقاً بما يكتبون عن الإسلام والمسلمين؛ لأنهم وهم يكتبون لا يتخلون أبداً عن أهوائهم وحقدهم الدفين ضد الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم.، وأمته التى جعلها الله خير أمة أخرجت للناس، وحتى لو فرضنا أن هذا لا يكون فى نفوس بعضهم حين يكتبون عن الإسلام، فإنه مما لا شك فيه يكون فى نفوسهم الطمع فى خيرات هذه الأمة وهذا يحملهم أيضاً على التحامل على الإسلام، وصدق رب العزة فى بيان نزعتهم الدينية فى قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) . وصدق رب العزة فى بيان نزعتهم الاستعمارية فى قوله تعالى: {مَا يوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (2) . والمستشرقون فى كتاباتهم عن الإسلام لن يتخلوا أبداً عن هاتين النزعتين الدينية والاستعمارية، لأن التحول عنهما، إنما يعنى التحول إلى الإسلام، وهذا التحول إلى الإسلام يعنى فى الوقت نفسه التحول عن الاستشراق وأهدافه الخبيثة، وهذا ما حدث بالفعل لبعض المستشرقين ممن أكرمهم رب العزة بالإسلام وهداهم إليه. وصدق رب العزة فى بيان سبب عدم تخليهم عن نزعتهم الدينية سواء يهودية أو نصرانية فى قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (3) .

________ (1) الآية 109 من سورة البقرة. (2) الآية 105 من سورة البقرة. (3) الآية 55 من سورة الحج.

فالسبب أنهم أبداً وإلى أن تقوم الساعة فى شك من هذا الدين ومن نبوة المصطفىصلى الله عليه وسلم. وهم دائماً فى موقف الحذر منه والتربص به.ومهما حدث من أمور يظهرون من خلالها التودد والمجاملة، إلا أن ذلك يخفى حقيقة فى قلوبهم لا يريدون إظهارها ففعلهم فى واد، وقلوبهم فى واد آخر. وإذا كان هناك من رضاً متوقع، فلن يكون إلا فى حين اتباع ملتهم، والسير خلفهم، وعدم مخالفتهم فيما يفعلون أو يكتبون من خرافات وأساطير عن الإسلام أما دون ذلك فلا، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (2) . فالولاء الوحيد فى قلوب هؤلاء؛ إنما هو لدينهم ولمصلحتهم لا للإسلام ولا للمسلمين كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (3) .وإذا كان هؤلاء المستشرقون صادقين فى ادعائهم الموضوعية والحيدة فيما يكتبون، فنحن نطلب منهم أن يلتزموا بأوليات بديهية يتطلبها المنهج العلمى السليم فعندما أرفض وجهة نظر معينة لابد أن أبين للقارئ أولاً وجهة النظر هذه من خلال فهم أصحابها لها ثم لى بعد ذلك أن أوافقها أو أخالفها.وعلى هذا الأساس نقول عندما يكتب عن الإسلام: إن الكيان الإسلامى كله يقوم على أساس الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. الذى تلقى القرآن وحياً من عند الله.ويجب على العالم النزيه والمؤرخ المحايد أن يقول ذلك لقرائه عندما يتعرض للحديث عن الإسلام حتى يستطيع القارئ أن يفهم سر قوة هذا الإيمان فى تاريخ المسلمين (4) . ثم له بعد ذلك أن يخالف المسلمين فى معتقداتهم وتصوراتهم أو يوافقهم؛ غير أن هذا المنهج المنطقى والطبيعى قلما يتبع مع الأسف، ويتبعون بدلاً منه منهجهم القائم على ما يلى: 1- تحليل الإسلام ودراسته بعقلية أوروبية، فهم حكموا على الإسلام معتمدين على القيم والمقاييس الغربية المستمدة من الفهم القاصر والمحدود والمغلوط الذى يجهل حقيقة الإسلام (5) . 2- تبييت فكرة مسبقة ثم اللجوء إلى النصوص واصطيادها لإثبات تلك الفكرة واستبعاد ما يخالفها، وذلك منهج معكوس وليد الهوى.

_____ (1) الآية 120 من سورة البقرة. (2) الآية 89 من سورة النساء. (3) جزء من الآية 73 من سورة الأنفال. (4) نقد كتاب فييت (مجد الإسلام) للدكتور حسين مؤنس ملحق بكتاب الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار ص 459: 463، وانظر: الاستشراق للدكتور زقزوق ص 95. (5) السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 188، والاستشراق والمستشرقون للدكتور السباعى ص 49، ومناهج المستشرقين فى الدراسات العربية والإسلامية لجماعة من العلماء ص364، والإسلام والمستشرقون لنخبة من العلماء ص 191، والاستشراق والمستشرقون وجهة نظر للأستاذ عدنان محمد وزان ص 124.

3- اعتمادهم على الضعيف، والشاذ من الأخبار، وغض الطرف عما هو صحيح وثابت منها (1) . 4- تحريف النصوص، ونقلها نقلاً مشوهاً، وعرضها عرضاً مبتوراً (2) ، وإساءة فهم ما لا يجدون سبيلاً لتحريفه (3) . 5- غربتهم عن العربية والإسلام منحتهم عدم الدقة والفكر المستوعب فى البحث الموضوعى، حتى ولو اختص أحدهم بأمر واحد من أمور الإسلام طيلة حياته (4) . 6- تحكمهم فى المصادر التى ينقلون منها، فهم ينقلون مثلاً من كتب الأدب ما يحكمون به فى تاريخ الحديث، ومن كتب التاريخ ما يحكمون به فى تاريخ الفقه ويصححون ما ينقله (الدميرى) (5) فى كتاب "الحيوان" ويكذبون ما يرويه "مالك" فى "الموطأ" كل ذلك انسياقاً مع الهوى، وانحرافاً عن الحق (6) . 7- إبراز الجوانب الضعيفة، والمعقدة، والمتضاربة، كالخلاف بين الفرق، وإحياء الشبه، وكل ما يفرق، وإخفاء الجوانب الإيجابية والصحيحة وتجاهلها (7) . 8- الاستنتاجات الخاطئة والوهمية وليدة التعصب، وجعلها أحكاماً ثابتة يؤكدها أحدهم المرة تلو المرة، ويجتمعون عليها حتى تكاد تكون يقيناً عندهم (8) . 9- النظرة العقلية المادية البحتة التى تعجز عن التعامل مع الحقائق الروحية (9) .

_____ (1) انظر: السنة ومكانتها فى التشريع ص 188، والاستشراق والمستشرقون للدكتور السباعى ص43، والإسلام والمستشرقون لنخبة من العلماء ص 251. (2) انظر: الإسلام والمستشرقون ص 248. (3) السنة ومكانتها فى التشريع ص 188، والاستشراق والمستشرقون وجهة نظر ص 130. (4) انظر: الرسول صلى الله عليه وسلم. فى كتابات المستشرقين للأستاذ نذير حمدان ص 16. (5) الدميرى: هو محمد بن موسى بن عيسى بن على الدميرى، أبو البقاء الشافعى من أهل دميرة بمصر، مفسر، محدث، فقيه، أصولى، أديب، نحوى، من آثاره: "حياة الحيوان"، "الديباجة" فى شرح سنن ابن ماجة و "النجم الوهاج" فى شرح منهاج النووى. مات سنة 808هـ له ترجمة فى: الضوء اللامع للسخاوى 10 /59 - 62، والبدر الطالع للشوكانى 2 /272، وشذرات الذهب 7 /79 - 80، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة 12 /65، والأعلام للزركلى 7 /118. (6) انظر: السنة ومكانتها فى التشريع ص 188-189. (7) الإسلام والمستشرقون لنخبة من العلماء ص 241. (8) المصدر السابق ص 247. (9) انظر: الرسول صلى الله عليه وسلم. فى كتابات المستشرقين ص 16.

10- تفسير سلوك المسلمين، أفراداً وجماعات بأنه مدفوع بأغراض شخصية، ونوازع نفسية دنيوية، وليس أثراً لدافع ابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة (1) . وهذا المنهج فى دراسة الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم.، وأمته وتاريخهم المجيد سيبدو واضحاً فى وسائلهم للكيد للسنة النبوية المطهرة. ونتيجة لهذا المنهج نشروا صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين، وزعموا كذباً أن هذه الصورة الفاضحة هى صورة الإسلام والمسلمين التى يعتقدونها ويعيشونها قديماً وحديثاً، واقتنع بها أبناء جلدتهم، وبعض من أبناء جلدتنا ممن يجهلون دينهم، أو يرغبون فى الشهرة، أو مخدوعين بما يدعيه أولئك الأعداء من المنهج العلمى المزعوم، مما جعلهم يصدقون كل ما يكتبه المستشرقون عن الإسلام، بل يعجبون به ويتعصبون له فى كثير من الأحيان. يقول فضيلة الأستاذ الدكتور السباعى (2) : [ترى لو استعمل المسلمون معايير النقد العلمى التى يستعملها المستشرقون فى نقد القرآن والسنة وتاريخنا، فى نقد كتبهم المقدسة، وعلومهم الموروثة، ماذا يبقى لهذه الكتب المقدسة والعلوم التاريخية عندهم من قوة؟ وماذا يكون فيها من ثبوت؟ نعم سنخرج بنتيجة من الشك وسوء الظن أكبر بكثير مما يخرج به المستشرقون بالنسبة إلى مصادر ديننا وحضارتنا وعظمائنا فحضارتهم مهلهلة رثة الثياب، ورجال هذه الحضارة من علماء وسياسيين وأدباء يبدون فى صورة باهتة اللون لا أثر فيها لكرامة ولا خلق ولا ضمير. نعم لو فعلنا ذلك كما يفعلون لرأوا كيف عاد هذا المنهج الذى زعموا أنهم يستخدمونه لمعرفة (الحقيقة) فى ديننا وتاريخنا، وبالاً عليهم، لعلهم يخجلون - بعدئذ - من استمرارهم فى التحريف والتضليل والهدم) (3) أ. هـ. ويقول فضيلة الأستاذ الدكتور محمود زقزوق: 1- إن الاستشراق - من بين شتى العلوم الأخرى - لم يطور كثيراً فى أساليبه ومناهجه. وفى دراسته للإسلام لم يستطع أن يحرر نفسه تماماً من الخلفية الدينية للجدل اللاهوتى العقيم الذى انبثق منه الاستشراق أساساً.

2- أن الاستشراق فى دراسته للديانات الوضعية مثل البوذية والهندوسية وغيرها غالباً ما تكون دراسات موضوعية بعيدة عن أى تجريح ولكن الإسلام وحده من بين كل الأديان هو الذى يتعرض للنقد والتجريح والمحاربة على الرغم من أنه دين يؤمن بالله ويحترم اليهودية والمسيحية ويؤمن بموسى، وعيسى، ويرفعهما، فوق النقد بوصفهما من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. والمسلمون فقط من بين الشرقيين جميعاً هم الذين يصفون بشتى الأوصاف الدنيئة. 3- إن الإسلام الذى يعرضه هؤلاء المستشرقون - المتحاملون على الإسلام - فى كتبهم هو إسلام من اختراعهم، وهو بالطبع ليس الإسلام الذى ندين به، كما أن محمداً الذى يصورونه فى مؤلفاتهم ليس هو محمد الذى نؤمن برسالته، وإنما هو شخص آخر من نسيج خيالهم (1) . وهكذا يمكن القول بأن الاستشراق فى دراسته للإسلام، ليس علماً بأى مقياس علمى، وإنما هو عبارة عن أيديولوجية خاصة يراد من خلالها ترويج تصورات معينة عن الإسلام، بصرف النظر عما إذا كانت هذه التصورات قائمة على حقائق أو مرتكزة على أوهام وافتراءات (2) . ويقول فضيلة الشيخ محمد الغزالى - رحمه الله تعالى -: الاستشراق كهانة جديدة تلبس مسوح العلم والرهبانية فى البحث، وهى أبعد ما تكون عن بيئة العلم والتحرر، وجمهرة المستشرقين مستأجرون لإهانة الإسلام وتشويه محاسنه والافتراء عليه (3) . وتقول الدكتورة عزية على طه شاهدة على منهج المستشرقين بعد أن تتلمذت على بعضهم فى الولايات المتحدة، أثناء حصولها على درجة الماجستير فى مقارنة الأديان، قالت: [وما كنت أتخيل بأن هؤلاء الناس الذين برعوا فى جميع أوجه الحياة بما فى ذلك إبداع كل العلوم والمعارف المعاصرة ... ، لم أكن أتخيل أنهم بهذا القدر من التعصب الأعمى والتمسك بملة آبائهم وأجدادهم دون تدبر ولا وعى، ولا إدراك.

_ (1) انظر: الفكر الإسلامى الحديث للدكتور محمد البهى ص 473، والاستشراق للدكتور محمود زقزوق ص 138 - 143 بتصرف. (2) الاستشراق للدكتور زقزوق ص144،وانظر: الإسلام فى تصورات الغرب للدكتور زقزوق ص14 (3) دفاع عن العقيدة والشريعة ص 8، وقارن بالإسلام على مفترق الطرق للأستاذ محمد أسد ص53، وانظر: ص 61 كلامه عن استمرار الاستشراق فى تشويه صورة الإسلام والمسلمين إلى الآن بالرغم أن الشعور الدينى فيه ما هو إلا قضية من قضايا الماضى. وانظر: رؤية إسلامية للاستشراق للدكتور أحمد غراب، ص37 وما بعدها.

ليس هذا فحسب، بل إنهم اشتطوا فى العدوان على عقائد من خالفهم الرأى ولم يتورعوا عن الكذب والدس والبهتان كى يبرروا معتقداتهم الباطلة ويسيئوا إلى العقائد الأخرى، وخاصة الدين الإسلامى الحنيف ورغم ما كنت ألاقيه من عنت ومشقة فى الصبر على أذاهم باستماعى لطعنهم فى دين الله عزَّ وجلَّ، بجانب مضايقاتهم المتكررة لى باعتبارى مسلمة يجب أن ترتد عن دينها، أو حتى تحاول أن تهدم بعض أركانه باسم التطور، إلا أننى صبرت ... مكتفية بممارسة أضعف الإيمان فى تغيير هذا المنكر. وكان هدفى من الصمود أمام تحدياتهم وكثير بلواهم طيلة هذه المدة، الإحاطة بكل ما يمكن معرفته من عقائدهم الفاسدة ووسائلهم المنكرة فى نشرها بين الناس، من طرق تنصير وغيره، واستراتيجية تهجمهم على الديانات الأخرى وخاصة الإسلام) (1) . وأخيراً أقول كما قال الدكتور مصطفى السباعى: "إذا كنا نشتد هذه الشدة فى حق جمهور المستشرقين المحرفين والمضللين أمثال "جولد تسيهر"، فإننا لا نغمط غيرهم من المنصفين حقهم ممن درسوا الإسلام بموضوعية ونزاهة علمية وأنصفوه وأنصفوا أهله وأدى الأمر ببعضهم إلى اعتناق الإسلام" (2) . وإن كنت أرى أن هؤلاء أيضاً سواء من أنصف الإسلام منهم ظاهراً أو حتى ممن كانوا مسلمين لا يجوز الاغترار بإنصافهم هذا ولا الاعتماد فى فهم ديننا على ما يكتبون، فكثير منهم دس السم فى الدسم، وبعضهم أسلم ثم ارتد بعدما أدى الدور الذى كان مطلوباً منه. وهذا ما سنبينه إن شاء الله تعالى فى موقفنا من الحركة الاستشراقية والمستشرقين.

_______ (1) منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 14،15، وللاستزادة فى بيان حقيقة منهجهم. انظر: رؤية إسلامية للاستشراق للدكتور أحمد غراب ص 79، والمستشرقون والتراث للدكتور عبد العظيم الديب ص 27 وما بعدها. (2) السنة ومكانتها فى التشريع ص 25، 26 بتصرف يسير.

المبحث الثالث: المستشرقون وموقفهم من السنة النبوية

المبحث الثالث: المستشرقون وموقفهم من السنة النبوية أدرك المستشرقون أهمية السنة النبوية بالنسبة للإسلام عموماً والقرآن الكريم خصوصاً، وأنه بالتشكيك والنيل منها نيل من القرآن الكريم بل من الإسلام نفسه. يقول المبشر الأمريكى (جب) : "إن الإسلام مبنى على الأحاديث أكثر مما هو مبنى على القرآن الكريم، ولكننا إذا حذفنا الأحاديث الكاذبة لم يبق من الإسلام شئ، وصار شبه صبيرة طومسون، وطومسون هذا رجل أمريكى، جاء إلى لبنان فقدمت له صبيرة فحاول أن ينقيها من البذر، فلما نقى منها كل بذرها لم يبق فى يده منها شيء" (1) . وأول مستشرق قام بمحاولة واسعة شاملة للتشكيك فى الحديث النبوى كان المستشرق اليهودى "جولد تسيهر" الذى يعده المستشرقون أعمق العارفين بالحديث النبوى، كما وصفه بذلك "بفانموللر" وقال: وبالأحرى كان "جولد تسيهر" يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الدينى والتاريخى والاجتماعى فى القرن الأول والثانى. فالحديث بالنسبة له لا يعد وثيقة لتاريخ الإسلام فى عهده الأول: عد طفولته، وإنما هو أثر من آثار الجهود التى ظهرت فى المجتمع الإسلامى فى عصور المراحل الناضجة لتطور الإسلام. كما بارك جولدتسيهر موقف المعتزلة من السنة النبوية، ورأى أن وجهتهم فى رد الأحاديث بالعقل هى الوجهة الصحيحة التى يجب أن تناصر وتؤيد ضد المتشددين الحرفيين الجامدين على النصوص (2) .

______ (1) التبشير والاستعمار للدكتور مصطفى خالد والدكتور عمر فروخ ص 98. (2) انظر: العقيدة والشريعة فى الإسلام ص 109، 110.

وعلى درب "جولد تسيهر" فى موقفه من السنة صار المستشرقون ورددوا شبهاته واعتبروا أنفسهم مدينين له فيما كتبه من شبهات حول السنة. وفى هذا يقول عنه كاتب مادة (الحديث) فى دائرة المعارف الإسلامية: "إن العلم مدين ديناً كبيراً لما كتبه (جولد تسيهر) فى موضوع الحديث، وقد كان تأثير "جولدتسيهر" على مسار الدراسات الإسلامية الاستشراقية أعظم مما كان لأى من معاصريه من المستشرقين فقد حدد تحديداً حاسماً اتجاه وتطور البحث فى هذه الدراسات" (1) . ومن هنا كان الرد على هذا الداهية الخبيث رداً على عصابة المستشرقين إجمالاً فيما أثاروه من شبهات وطعون حول السنة النبوية المطهرة. وسيأتى الجواب عن هذه الشبهات ومن قال بها من أبناء المسلمين المنخدعين بمنهجهم العلمى المزعوم فى الباب الثانى وسائل أعداء السنة قديماً وحديثاً فى الكيد للسنة الشريفة أ. هـ.

________ (1) دائرة المعارف الإسلامية ص231، وانظر: الاستشراق للدكتور محمود حمدى زقزوق ص122، 123.

المبحث الرابع: موقفنا من الحركة الاستشراقية والمستشرقين

المبحث الرابع: موقفنا من الحركة الاستشراقية والمستشرقين ... عرفنا مما سبق أن الاستشراق وليد من عصبية وحقد النصارى للإسلام ولأمتنا الإسلامية، وحتى بعد تطوره إلى العلمانية، لم يخرج عن هذه العصبية، وارتبط ارتباطاً وثيقاً أولاً بالتبشير اللاهوتى، ثم ثانياً بالاستعمار ولم ينفصل عنهما معاً، وتكاتلت تلك الجيوش الثلاثة من أجل محاربة الإسلام والمسلمين، وتحقيق مصالحهم وأطماعهم، وعرفنا أن منهج الاستشراق بعيد كل البعد عن المنهج العلمى النزيه فى دراسته للإسلام والمسلمين. ... وإذا كان للحركة الاستشراقية أثر كبير فى تشويه صورة الإسلام والمسلمين فى العالم العربى، وأثر أخطر فى أجيال من أبناء جلدتنا ممن وقعوا فى شباكهم؛ ففسدت عقائدهم وعملوا على إفساد عقائد المسلمين، من أجل هذا كان لابد وأن يكون للمسلمين موقف من هذه الحركة الاستشراقية، ومن أنصارها الذين تعصبوا لها وخدعوا بما زعمه أعداء الإسلام من التزامهم الموضوعية فى الكتابة، وصدقوا ما كتبوه من أباطيل ضد الإسلام، واعتمدوا على مؤلفاتهم فى كتاباتهم عن الإسلام فى التفسير، أو الحديث، أو السيرة، أو التاريخ …إلخ. وراجت مؤلفات هؤلاء الأنصار بين شباب المسلمين مع ما فيها من دسائس، ودس للسم فى العسل. ولهؤلاء ولمن يقرأون لهم نقول كما قال الأستاذ محمد سرور بن نايف:"لا يجوز أن يعتمد المسلمون فى فهم دينهم على كتب المستشرقين مهما قيل فى مدحهم والثناء عليهم، والإشادة بحيادهم (1) . نعم، قد نلقى بعضهم منصفاً معتدلاً غير متحامل ولا متعصب، ولكنه شاذ لا يقاس عليه. وإن كانت معظم كتاباتهم المعتدلة تتركز فى تاريخ العلوم التجريبية عند المسلمين، وأثر المسلمين فى هذا المجال لا ينازع فيه إلا مكابر، وهم فى هذا لم يأتوا بجديد غير إحقاق الحق، ومن هذا القبيل كتاب (شمس العرب تسطع على الغرب للمستشرق زغريد هونكة) .

_ (1) دراسات فى السيرة النبوية ص 175.

.. أما العلوم الشرعية؛ فلا نكاد نجد لها منصفاً لخطورتها، وأهميتها فى حياة الإنسان، ولأن العلوم الشرعية هذه مرتبطة برسالة الإسلام، الدعوة العالمية للتوحيد، وإقامة منهج الله عز وجل على الأرض، وهذا بلا ريب يهدد معاقل الشرك والوثنية أينما كانت، فلا عجب حينئذ أن ينتشر جنود إبليس للتصدى لهذه الدعوة، والنيل منها بكل وسائل التسفيه والتشكيك (1) . وكتب المستشرقين التى مدحوا من أجلها. إما مصنفات مستقلة عبارة عن بحوث ودراسات، تتعلق بالحضارة الإسلامية، والفقه الإسلامى، وتاريخ الأدب العربى، وتاريخ الحديث الشريف وغيرها. وهذه مصنفات طافحة بالدس والتشويه، وهى منحرفة كلياً عن منهج البحث السديد. ... وإما مصنفات مبنية على مصنفات أخرى كفهارس القرآن الكريم، وفهارس كتب الحديث؛ فهى جهود محمودة، ولكنها غير إبداعية؛ لأنهم مسبوقون إليها من أئمتنا المتقدمون رضوان الله عليهم (2) وهذا لا يعنى انتقاص قيمة هذا العمل، فهو حقاً عمل رائع، ولكنه نال من الثناء أكثر مما يستحق، لأنه لو قام به جماعة من المسلمين فى نفس الظروف التى أُنجز فيها هذا العمل الكبير لأتوا بمثله أو أحسن منه، ولنا فى الأعمال الفردية التى قام بها بعض علمائنا الأجلاء قديماً وحديثاً خير دليل على ذلك (3) .

_ (1) ضوابط الرواية عند المحدثين للأستاذ الصديق بشير ص 283، 284. (2) فصل ذلك الأستاذ أحمد محمد شاكر فى كتابه تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة، وفى مقدمة مفتاح كنوز السنة لفنسك. (3) انظر: فى ذلك "طرق تخريج حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد المهدى، وكشف اللثام عن أسرار تخريج أحاديث خير الأنام لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد الموجود. ففيهما بيان لجهود علماء المسلمين قديماً وحديثاً فى صنع الفهارس والمعاجم، وانظر: ضوابط الرواية ص 287، 288.

.. وأما عملهم فى تحقيق كتب التراث؛ فهو أيضاً نال من المديح أكثر مما يستحق، فهم منذ بدأوا جريمتهم بسرقة المخطوطات الإسلامية من الشرق بدأً منذ عام 1311م واستولوا على كل المخطوطات الموجودة فى المساجد والزوايا، حتى جمع أحد الرهبان (زانسى) ستة آلاف مخطوط من الشرق نقلها إلى ميلانو، وتوالت بعثات الاستعمار والفاتيكان إلى العالم الإسلامى لجمع المخطوطات، كان هدفهم هو "حبس التراث الإسلامى فى مكتبات الغرب واتخاذه سلاحاً ضد المسلمين، فهم يبرزون الكتب التى تثير الفتن والنزاع بكل صوره الفكرى والمذهبى والسياسى؛ ككتب الفرق، والخلاعة، والمجون، والتصوف الفلسفى، ويخفون كتب العلوم، فيأخذون نظرياتها، وينسبونها إلى أنفسهم وعلمائهم، ويحرمون أصاحبها منها (1) .

_ (1) وصدق الدكتور محمود قاسم: "لقد نقلنا المستشرقون إلى ارسطوا، على حين نقلوا أنفسهم وقومهم إلى مناهج المسلمين وعلومهم" نقلاً عن المؤامرة على الإسلام للأستاذ أنور الجندى ص209، وانظر: الغارة على التراث الإسلامى للأستاذ جمال سلطان ص 54-59، والمؤتمر الحادى عشر لمجمع البحوث الإسلامية الدعوة والدعاة بحث الأستاذ الدكتور طلعت أحمد محسن الاستشراق وواقعه وجهود المستشرقين ص 595 – 597.

.. ومعظم الكتب التى حققها المستشرقون وأعادوا كتابتها كانت تستهدف إذاعة آراء معينة وتيارات مضللة تفقدنا الثقة بعقيدتنا وماضينا، وحضارتنا، وقادتنا، ولذلك فإنه لا يمكن القول بأن هذه الكتب قد طبعت، أو حققت لخدمة الأدب العربى، أو اللغة العربية، ومن هذه الكتب: ألف ليلة وليلة، والأغانى، وأخبار الحلاج، ورسائل إخوان الصفا … إلخ (1) . ... يقول الدكتور عبد العظيم الديب: "إن عنايتهم بالتراث كانت وما زالت وستظل من باب (اعرف عدوك) ،فهذه الكتب التراثية هى الخرائط، والصور لعقولنا، وعواطفنا، ومشاعرنا، واتجاهاتنا، واهتماماتنا، وحبنا، وبغضنا، وغضبنا، ورضانا. فهى المفاتيح التى عرفوا بها كيف يخططون لتدميرنا ثقافياً، واجتماعياً، وفكرياً، وعلمياً، بعدما حطمونا عسكرياً وسياسياً" (2) .

_ (1) مقدمات العلوم والمناهج للأستاذ أنور الجندى 5/154، وانظر: له أيضاً مسئولية الاستشراق وسموم دائرة المعارف الإسلامية بحث قدم للمؤتمر الحادى عشر لمجمع البحوث الإسلامية ص 601-606، وراجع المستشرقون والتاريخ الإسلامى للدكتور على الخربوطلى ص 59،60، والمستشرقون والتراث للدكتور عبد العظيم الديب ص 23 - 26. (2) المستشرقون والتراث ص 43، 44.

.. وليس معنى هذا تسفيه كل جهودهم فى تحقيق كتب التراث، فالإنصاف يقتضى ألا نغمط الناس حقهم، على أن لا نقوم بتمجيدهم صباح مساء كما يفعل المستغربون من أبناء أمتنا ظناً منهم أنه عمل فى قمة التفوق والإبداع، غير مسبوقين فيه، على ألا يغيب عن ذهننا أنهم ما صنعوا فهارس القرآن الكريم، وفهارس كتب الحديث، وحققوا كتب التراث؛ إلا إطفاءً لنور الإسلام" (1) ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون وصدق ربنا عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (2) . ... وحسبنا دليلاً على عدم الاعتماد فى فهم ديننا على كتب المستشرقين؛ أنهم ليسوا من أهل العدالة والتى على رأس شروطها الإسلام.وقد قال رب العزة {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (3) وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (4) فإذا كان خبر المسلم الفاسق مردود على صحة اعتقاده، فخبر الكافر من المستشرقين أولى بالرد.

_ (1) فالمستشرق فنسنك مؤلف مفتاح كنوز السنة والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث بالاشتراك، ورئيس دائرة المعارف الإسلامية. يعد عدواً لدوراً للإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم كما قال الدكتور مصطفى السباعى فى كتابه الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم ص 42. وانظر: الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار ص 450، ورؤية إسلامية للاستشراق ص 89 - 104. (2) الآية 36 من سورة الأنفال. (3) الآية 73 من سورة آل عمران. (4) الآية 6 من سورة الحجرات.

وحسبنا أيضاً دليلاً على عدم الاعتماد فى فهم ديننا وتاريخنا على كتب المستشرقين، أن المعتدل منهم وإن كان ظاهره الإنصاف للإسلام والمسلمين فى العلوم الشرعية؛ فقد دس السم فى الدسم. ... والدسم هنا هو باب التقدير والثناء والمدح، يدخل من هذا الباب وهو يكتب عن الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم حتى يخدع القارئ ويكسب ثقته، ثم لا يلبث بعد ذلك أن يثير شبهات خفية متتالية فى إطار هذا المديح الكاذب، كل ذلك دون منهج موضوعى يتحرر فيه من أهوائه ورواسبه الموروثة ويلتزم فيه النقد التقويمى ونزاهة البحث، وهذا أسلوب جديد حرص عليه المستشرقون فى هجومهم على الإسلام بعدما تبين لهم فشل أو ضعف تأثير الهجوم على الإسلام ومصادره بعنف دون مواربة أو حيلة (1) أ. هـ.

_ (1) شبهات التغريب للأستاذ أنور الجندى ص91،وانظر: الغارة علىالعالم الإسلامى1.ل شاتليه ص27

.. فالواجب يقتضى من المسلم أن يحذر السير وراء أقوال معسولة، وآراء مغرية، ومواقف خادعة، يمكن أن تخدع عقول البسطاء من المسلمين، وتؤثر على اقتناعهم بأن المستشرقين يمدحون الإسلام، أو يمدحون النبى صلى الله عليه وسلم، ويثنون على صفاته، ويعدون شخصيته صلى الله عليه وسلم فى مقدمة المصلحين وعباقرة العالم، فقد تظاهر بعضهم بالإسلام وتزيا بزى العلماء حين زار العالم الإسلامى كما فعل صنمهم الأكبر "جولد تسيهر" اليهودى المجرى، وسنوك هرجونيه المستشرق الهولندى، وتقدم آخرون ببحوث مجمعية لينخرطوا بين المجمعيين، فتصبح آراؤهم موضع القبول والرضا، وأثبتت الدراسات أن ربع أعضاء المجامع العلمية فى القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت من هؤلاء المستشرقين، والأزمة الفكرية التى اختلقها (مرجليوث) (1) فى اصطناع الشعر الجاهلى، والفساد العقائدى الذى نشره (لرى ماسينون) حول القرآن وعامية العربية فى القاهرة، وما كتبه جولد تسيهر وشاخت وغيرهم عن السنة المطهرة لا تزال آثاره ماثلة للعيان.

_ (1) مرجليوت: هو دافيد صمويل مرجليوث، إنجليزى يهودى، من كبار المستشرقين، متعصب ضد الإسلام، ومن محررى (دائرة المعارف الإسلامية) ، كان عضواً بالمجمع اللغوى المصرى، والمجمع العلمى فى دمشق، عين أستاذ للعربية فى جامعة أكسفورد. له كتب عن الإسلام والمسلمين، لم يكن مخلصاً فيها للعلم. مات سنة 1940م. من مؤلفاته: "التطورات المبكرة فى الإسلام"، و "محمد ومطلع الإسلام"، و "الجامعة الإسلامية" وغير ذلك. له ترجمة فى: الأعلام 2/329، والمستشرقون 2/518، والاستشراق ص 36، وآراء المستشرقين حول القرآن 1/88.

.. فلا يفرح مسلم من ثناء مستشرق على الإسلام أو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعد هذا كسباً للعلم والتاريخ، فإن هذا قد يكون مرحلة من مراحل التغريب فى العقيدة والفكر، وأسلوباً من أساليب المكر والخديعة (1) . ... يقول الدكتور محمد حسين: "لذلك كان من الواجب على المسلمين أن يدركوا إدراكاً واضحاً أن البحوث الإسلامية التى يكتبها المستشرقون هى بحوث موجهة ضد الإسلام والمسلمين، فتمجيد الإسلام فى كتب المستشرقين يقصد به خلق جوٍ من الاطمئنان إلى نزاهة الفكر الغربى من ناحية، ومقابلة هذه المجاملة من جانب المستشرقين بمجاملة مثلها من جانب المسلمين للقيم الغربية، ويقصد بذلك أيضاً أن يقوم تفاهم بين الشرق والغرب، ودعوة الباحثين من المسلمين فى مؤتمراتهم، وفى غيرها من الكتب والبحوث الإسلامية، بقصد المعاونة فى تحقيق التقارب بين الثقافتين، ومزج إحداهما بالأخرى، وبالطبع مزج الفكر الفلسفى اليونانى الغربى بالفكر الإسلامى العربى، والنتيجة الطبيعية لهذا المزج الخروج بفكر منحرف مجافٍ لإسلامنا وحضارتنا تماماً كما حدث مع أصحاب الفرق من المعتزلة والمتكلمين وغيرهم ممن تأثروا بالفكر الفلسفى اليونانى والفارسى والهندى، وخرجوا بأصول ومناهج كان لها أثرها السئ فيما أثير حول السنة من شبهات (2) . ... فكثير من المستشرقين المعتدلين لم تكن كتاباتهم إنصافاً للإسلام والمسلمين، وإنما مرحلة جديدة من مراحل تغريب الأمة الإسلامية فى عقيدتها وفكرها بأسلوب ماكر خبيث ينخدع به المفتونون بهم. ... يقول الأستاذ محمد سرور بن نايف: "وأتحدى أن يكون هناك مستشرق منصف فيما يكتب عن الإسلام والمسلمين" (3) .

_ (1) شبهات التغريب للأستاذ أنور الجندى ص 91 - 93. (2) الإسلام والحضارة الغربية ص 121 - 124 بتصرف. (3) دراسات فى السيرة النبوية ص 175. ...

.. ويؤكد ذلك الأستاذ محمد أسد بقوله: "صورة مشوهة للإسلام وللأمور الإسلامية تواجهنا فى جميع ما كتبه مستشرقوا أوربة" (1) . ... فلو أخذنا مثلاً "بروكلمان" (2) فى كتابيه (تاريخ الأدب العربى) و (تاريخ الشعوب الإسلامية) وهما من المراجع المهمة عند كثير من المتخصصين بعلم التاريخ؛ لأنهما فى نظرهم من المراجع الهامة التى أدت ولازالت تؤدى خدمات جليلة للباحثين فى شتى مجالات العلوم العربية والإسلامية (3) . لو قرأنا بإمعان هذين الكتابين واللذين هما فى نظر المنتصرين للمستشرقين من المراجع الهامة فى التعريف بإسلامنا وتاريخنا، وصاحبه من المعتدلين، لرأينا أن صاحبه صليبى، حاقد على الإسلام والمسلمين، وقد تجاوز كل حد فى شططه عن الحق وإعراضه عن الصواب، وبعده عن الموضوعية والتحرر، ولم يترك مركباً للدس والتضليل إلا امتطاه، وذلك بترديده أقوال من سبقه من المستشرقين، ولكن بأسلوب ماكر دس فيه السم بالدسم. فى كل ما كتبه عن القرآن الكريم والسنة المطهرة والنبى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.

_ (1) الإسلام على مفترق الطرق للأستاذ محمد أسد ترجمة الدكتور عمر فروخ ص 54. (2) بروكلمان: هو كارل بروكلمان. مستشرق ألمانى، تعلم اللغة العربية وكان عالماً بتاريخ الأدب العربى. عضو المجمع العربى وكثير من المجامع الأخرى بألمانيا. مات 1956م. من أثاره: "تاريخ الأدب العربى" و "تاريخ الشعوب الإسلامية" وغيرها. له ترجمة فى: الأعلام 5/211 - 212، والمستشرقون نجيب العقيقى 2/777 - 783، والمستشرقون الألمان تراجمهم جمع صلاح الدين المنجد ص 153 - 162. (3) الإسلام فى تصورات الغرب للأستاذ الدكتور حمدى زقزوق ص 11.

.. فكارل بروكلمان وهو يتحدث عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، يردد أكاذيب وأباطيل سلفه من اليهود والنصارى فيقول: "وتذهب الروايات إلى أنه اتصل فى رحلاته ببعض اليهود والنصارى، أما فى مكة نفسها فلعله اتصل بجماعات من النصارى كانت معرفتهم بالتوراة والإنجيل هزيلة إلى حد بعيد (1) ، وعن الوحى يردد أكاذيب سلفه؛ بأنه وحى نفسى قائلاً: "لقد تحقق عنده – أى عند الرسول صلى الله عليه وسلم - أن عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة فارغة، فكان يضج فى أعماق نفسه هذا السؤال: إلى متى يمدهم الله فى ضلالهم، ما دام هو عز وجل قد تجلى، آخر الأمر، للشعوب الأخرى بواسطة أنبيائه؟! وهكذا نضجت فى نفسه الفكرة أنه مدعو إلى أداء هذه الرسالة، رسالة النبوة (2) .

_ (1) تاريخ الشعوب الإسلامية ص 34. (2) المصدر السابق ص36، وانظر: أمثلة أخرى لعدم إنصافه فى: دراسات فى السيرة النبوية للأستاذ الدكتور محمد سرور بن نايف ص 127 - 137، ومقدمات العلوم والمناهج 1/397، 5/219

ولا ننسى المستشرق (موريس بوكاى) فى كتابه: "دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة، فشهادته بصدق القرآن بقوله: "إن القرآن لا يحتوى على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم فى العصر الحديث" (1) وعلى الرغم من أن كلامه على القرآن الكريم لا يسلم من المآخذ، إلا أننا نراه فى موقفه من السنة المطهرة يردد أقوال من سبقه من المستشرقين مشككاً فى صحة نقلها وحجيتها، كقوله: "فقد كتبت أولى الأحاديث بعد عشرات من السنوات من موت محمد صلى الله عليه وسلم مثلما كتبت الأناجيل بعد عشرات السنوات من انصراف المسيح، إذن فالأحاديث والأناجيل شهادات بأفعال مضت) (2) . ثم وصفة لكلام النبى صلى الله عليه وسلم؛ بأنه كلام بشر قد يخطئ ويصيب … (3) ، وأن هناك مبادئ للقرآن صريحة فى الأمر دائماً بالرجوع إلى العلم والعقل فى الحكم على الأحاديث (4) . ... إلى غير هؤلاء من المستشرقين الذين وصفوا بإنصاف الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم (5) ؛ لأنهم وصفوه ومجدوه بالعبقرية، وبأن دعوته حركة إنسانية إصلاحية، وانخدع بذلك بعض المسلمين غافلين عن السم الذى وراء هذا الدسم (الثناء والمدح) ، وهو تجريد النبى صلى الله عليه وسلم من النبوة، ومن مزية أن القرآن الكريم والسنة النبوية وحى من عند الله عز وجل وأن رسالته صلى الله عليه وسلم ربانية صالحة لكل زمان ومكان إلى يوم الدين، وليست حركة إصلاحية إنسانية لم تعد صالحة فى عصرنا هذا، كما يهدف أعداء الإسلام ومن اغتر بهم.

_ (1) دراسة الكتب المقدسة ص 15، 16. (2) دراسة الكتب المقدسة ص 13، 156، 158، 290، 291، 298، 302. (3) المصدر السابق ص 299. (4) المصدر نفسه ص 14. (5) قام الدكتور أحمد غراب بدراسة لبعض المستشرقين الموصوفين بالموضوعية مثل فنسنك - ريلاند - جوستاف لوبون - مونتجمرى وات وغيرهم. وبين حقدهم على الإسلام والمسلمين. انظر: رؤية إسلامية للاستشراق ص 79 - 139.

.. يقول الأستاذ محمد سرور بن نايف -بعد أن تحدى أن يكون هناك مستشرق منصف فيما يكتب عن الإسلام والمسلمين- قال: "بل لا يجوز الاعتماد فيما نكتبه عن الإسلام على أقوال المستشرقين ولو كانوا مسلمين وذلك للأسباب التالية: 1- ثبت أن نفراً منهم: أسلم خلال وجوده فى بلدان العالم الإسلامى لغاية فى نفوسهم، وارتدوا عن الإسلام عندما عادوا إلى أوطانهم وأدوا الدور الذى كان مطلوباً منهم. 2- وبعضهم: كان متخصصاً بالعلوم الفلسفية، واطلع خلال بحثه على مؤلفات ابن عربى وغيره من غلاة الصوفية الذين يؤمنون بالحلول، ووحدة الوجود، أو اطلع على مؤلفات الشيعة والمعتزلة والمتكلمين وباقى الفرق المنتسبة إلى الإسلام، ثم راحوا يكتبون عن الإسلام من خلال تلك الفرق التى أشربوا حبها ووصفوها بأنها صاحبة فكر عقلى ثورى تحررى - مع خروج غلاتها عن الإسلام.

3- وآخرون منهم: مزجوا بين الإسلام وعادات وتقاليد الغربيين، وهذا المزيج المشوه أسموه إسلاماً، ومن سلم من هذه الانحرافات من المستشرقين (1) لا يستطيع الكتابة بعمق وشمولية عن العقائد الإسلامية أو غيرها من بقية العلوم والمعارف الإسلامية، وهذا ما اعترفت به إحدى المجلات التبشيرية الألمانية قائلة: "إنه رغماً من اطلاع المستشرقين الألمانيين وطول باعهم فى المؤلفات الإسلامية؛ فإن التعليم والعقائد التى تلقى فى المساجد والمعاهد الإسلامية لم تزل خافية علينا" (2) إن العلوم الإسلامية لها رجالها الذين حفظ الله عز وجل بهم دينه، وفى طليعتهم الصحابة –رضوان الله عليهم- والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الجهابذة – رضوان الله عليهم أجمعين - (3) . 4- هذا بالإضافة إلى جهل معظمهم باللغة العربية ولأبعادها ومراميها، بل إن بعضهم كان لا يعرف كلمة واحدة من اللغة العربية من أمثال "سلفتردى ساس"، و "أليس عرينان" و"جيراردمتر" (4) .

_ (1) من هؤلاء المستشرقين: المفكر الفرنسى الكاثولويكى رينيه جينو الذى سمى نفسه عبد الواحد يحيى، والمستشرق ناصر الدين دينية، وهدلى الفاروق، ومحمد أسد الذى كان يسمى ليوبولد فايس، ومن أشهر الذين ارتدوا عن الإسلام فيلبى الذى كان يسمى عبد الله. نقلاً عن دراسات فى السيرة النبوية ص 175 هامش. وانظر: أجنحة المكر الثلاثة ص 131، 132. وأوروبا والإسلام للإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود ص51 - 113. (2) الغارة على العالم الإسلامى ا.ل شاتليه ص 89. (3) دراسات فى السيرة النبوية ص 175، 176 بتصرف. (4) احذروا الأساليب الحديثة فى مواجهة الإسلام للدكتور سعد الدين صالح ص 111.

.. يقول الدكتور السباعى: "وفى جامعة أكسفورد وجدنا رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية فيها يهودياً يتكلم العربية ببطء وصعوبة، وكان أيضاً يعمل فى دائرة الاستخبارات البريطانية فى ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية، وهناك تعلم العربية، وتلك هى مؤهلاته التى بوأته هذا القسم، ومن العجيب أنى رأيت فى منهاج دراساته التى يلقيها على طلاب الاستشراق: تفسير آيات من القرآن الكريم من الكشاف للزمخشرى "أى والله وهو لا يحسن فهم عبارة بسيطة فى جريدة عادية" ودراسة أحاديث من البخارى ومسلم، وأبواب من الفقه فى أمهات كتب الحنفية والحنابلة، وسألته عن مراجع هذه الدراسات؛ فأخبرنى أنها من كتب المستشرقين أمثال: جولدتسيهر، ومرجليوث، وشاخت، وحسبك بهؤلاء عنواناً على الدراسات المدخولة المدسوسة الموجهة ضد الإسلام والمسلمين" (1) . ... يقول الأستاذ سرور: "ليكتب إخواننا المستشرقون المسلمون عن فساد الحضارة الأوربية، وعن انهيار وتفكك الأسرة الغربية، وليقدموا لنا دراسات وأبحاثاً عن عقائد وتصورات المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى، وعن الخرافات والأساطير التى اتخذوها ديناً، وليكشفوا فضائح المستشرقين، وفساد مناهجهم، وليترجموا أمهات الكتب الإسلامية إلى الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية وغيرها من اللغات التى يجيدونها، وليكونوا دعاة إلى اللهعز وجل فى أقوامهم، وليحرصوا على دراسة الإسلام وفهمه فهماً صحيحاً ليس فيه أى غلو أو انحراف، وليعيدوا النظر فى جميع التصورات والمفاهيم المشوهة عن الإسلام التى سبق وأخذوها عن بنى قومهم. هذا ما ننصحهم به ورحم الله عز وجل امرءاً عرف قدر نفسه أ. هـ. (2) .

_ (1) السنة ومكانتها فى التشريع ص 14، وانظر: الاستشراق والمستشرقون للدكتور السباعى ص67 (2) دراسات فى السيرة النبوية ص 175، 176 بتصرف.

.. وإذا كان ما سبق بيان لموقف المسلمين من كتابات المستشرقين وعدم الاعتماد عليها فى فهم ديننا، ولا الاعتماد عليها فيما نكتبه عن الإسلام ومصادره من قرآن، وسنة، وسيرة، وتاريخ … إلخ. حتى لو كان هؤلاء المستشرقين مسلمين للأسباب السابقة. فإن هذا لا يعنى أن نلقى تلك الكتابات بعيداً، ونقول: إنها كلام فارغ … صحيح أن فيه كذباً وتضليلاً: صحيح أنه صادر عن حقد عميق، ولكنه ليس كلاماً فارغاً، ولا يخدمنا فى شئ أن نلقيه بعيداً، ثم نجر اللحاف وننام … لأن هذا "الكلام الفارغ" هو الحديد والنار اللذان يحاربنا بهما أعداؤنا فى بلادهم وبلادنا. والحديد والنار لا يقابلان إلا بالحديد والنار، وفى ميدان العلم. الحديد والنار، هما العمل، والعمل الطويل نواجه به مكر أعدائنا فإذا كان أعداؤنا يعملون بتخطيط ومكر، فعلينا أن نخطط ونمكر لنفسد عليهم خططهم ومكرهم. وإذا كانوا يكتبون عن الإسلام والمسلمين "كلاماً فارغاً … فلنشمر نحن عن سواعدنا ولنكتب نحن الشئ المليان أداءً للأمانة التى حملنا الله عز وجل إياها فى أعناقنا بتبليغ رسالته إلى خلقه كافة. كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1) أ. هـ.

_ (1) الآية 28 من سورة سبأ. وانظر: نقد كتاب فييت (مجد الإسلام) للدكتور حسين مؤنس ملحق بكتاب الفكر الإسلامى وصلته بالاستعمار الغربى للدكتور محمد البهى ص 470، وللاستزادة فى بيان موقف المسلمين من الحركة الاستشراقية انظر: الاستشراق والخلفية الفكرية للدكتور محمود زقزوق ص 147 وما بعدها، والفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار الغربى للدكتور البهى ص 421 وما بعدها.

الفصل الثالث: أعداء السنة النبوية من أهل الأهواء والبدع حديثا

الفصل الثالث: أعداء السنة النبوية من أهل الأهواء والبدع حديثاً العلمانية، البهائية، القاديانية ... وتحته مبحثان: المبحث الأول: التعريف بأعداء السنة من أهل الأهواء والبدع حديثاً وبيان خطرهم المبحث الثانى: موقف أهل الأهواء والبدع حديثاً من السنة النبوية. وتحته ثلاثة مطالب: المطلب الأول: العلمانيون وموقفهم من السنة النبوية. المطلب الثانى: البهائيون وموقفهم من السنة النبوية. المطلب الثالث: القادبانيون وموقفهم من السنة النبوية. المبحث الأول: التعريف بأعداء السنة من أهل الأهواء والبدع حديثاً وبيان خطرهم ... إن من أخبث وأخطر ما يواجه المسلمين فى عصرهم الحاضر انتشار المذاهب اللادينية بينهم من العلمانية (1)

_ (1) العلمانية لغةً: لم يوجد لها مكان فى معاجم اللغة العربية! أما فى بعض المعاجم الحديثة فقد جاء: أ- فى المعجم العربى الحديث تأليف الدكتور خليل الجسر: "علمانى: ما ليس كنيسياً ولا دينياً". ب-فىالمعجم الوسيط لمجمع اللغة فى القاهرة:"العلمانى: نسبة إلى العلم، وهو خلاف الدينى أو الكهنوتى - وعدم وجود الكلمة فى المعجم القديم يدل على حداثتها، ويلاحظ بعض الباحثين أنها وردت أولاً فى المعاجم اللبنانية المسيحية فى وقت مبكر (1870م) - وفى المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، صدرت طبعته الأولى سنة 1960م. انظر: الاتجاهات الفكرية المعاصرة للدكتور على جريشة ص 73. وجاء فى الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب المعاصرة ص 367. - العلمانية بالإنجليزية (SECULARISM) وترجمتها الصحيحة: اللادينية أو الدنيوية، وهى دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وتعنى فى جانبها السياسى بالذات اللادينية فى الحكم، وهى اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم (SCIENCE) والمذهب العلمى (SCIENTISM) 0 وبعض العلمانيين ينكرون وجود الله أصلاً. وبعضهم يؤمنون بوجود الله لكنهم يعتقدون بعدم وجود أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان، فالعلمانية فى نظر هؤلاء فصل الدين عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادى. انظر: الموسوعة الميسرة ص 370. - يقول فضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى: "العلمانية فى الشرق لا معنى لها إلا معاداة الإسلام، والتربص له فى كل مرصد. والعمل على طعنه فى كل مكان يتوهم أن فيه مقتله، ولذا فقد كتب الكاتبون من المتحمسين "للعلمانية" فى مجالات عدة كلها تتعلق "بالإسلام"، وكلها يتصل بمحاربة الإسلام. ومناصبته العداء. انظر: الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى ص 223، وانظر: فى الموسوعة الميسرة أفكار ومعتقدات "العلمانية" ص 370. وانظر: أساليب الغزو الفكرى للعالم الإسلامى للدكتور على جريشة والدكتور محمد الزيبق ص 59-74، والعلمانية وموقفها من العقيدة والشريعة للدكتور عبد العظيم المطعنى ص 58-62، والعلمانية وموقف الإسلام منها للدكتور عزت عبد المجيد مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة رقم 1109، والعلمانية نشأتها وتطورها، وآثارها فى الحياة الإسلامية المعاصرة للدكتور سفر الحوالى.

، والبهائية (1)

_ (1) البهائية نسبة إلى: (بهاء الله) لقب يدعى به ميرزا حسين على وهو الزعيم الثانى للمذهب الذى تتولاه الطائفة المسماة بالبهائية له كتاب سماه (الأقدس) وقد توفى البهاء سنة 1892م. - وتسمى هذه الطائفة الباببة نسبة إلى "الباب" وهو لقب ميرزا على محمد رضا الشيرازى (1235-1265هـ) (1819 – 1849م) الذى ابتدع هذه النحلة، وأعلن أنه الباب سنة 1844م/1260هـ. انظر: البابية والبهائية فى الميزان لجماعة فن نوابغ العلماء ص 11، وجاء فى الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب المعاصرة البابية والبهائية حركة نشأت سنة 1260هـ-1844م تحت رعاية الاستعمار الروسى واليهودية العالمية والاستعمار الإنجليزى بهدف إفساد العقيدة الإسلامية، وتفكيك وحدة المسلمين، وصرفهم عن قضاياهم الأساسية الموسوعة الميسرة ص 63، وانظر: البهائية فى خدمة الاستعمار ص 11-30. - وجاء فى فتوى لجنة الفتوى بالأزهر الشريف أن مذهب البهائية باطل: ليس من الإسلام فى شئ … ومن يعتنقه من المسلمين يكون مرتداً خارجاً عن دين الإسلام، فإن هذا المذهب قد اشتمل على عقائد تخالف الإسلام، ويأباها كل الإباء، منها ادعاء النبوة لبعض زعماء هذا المذهب، وادعاء الكفر لمن يخالفه وادعاء أن المذهب ناسخ لجميع الأديان، إلى غير ذلك. انظر: البابية والبهائية فى الميزان= =ص93، 94، وانظر: أفكار ومعتقدات البهائية فى الموسوعة الميسرة ص 63، 64، وفرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وموقف الإسلام منها للدكتور غالب عواجى 1/405 - 479، والبهائية وسائل وغايات لفضيلة الأستاذ للدكتور طه حبيشى ص 13-59

، والقاديانية (1) ، وغير ذلك من المذاهب الهدامة التى نشأت وترعرعت فى أحضان أعداء الإسلام من اليهودية العالمية والصليبية الحاقدة المستعمرة، فتحت رعاية هؤلاء نشأت تلك المذاهب الفاسدة بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم، وإفساد عقيدتهم، وتفكيك وحدتهم، وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية.

_ (1) القاديانية: حركة نشأت سنة 1900م بتخطيط من الاستعمار الإنجليزى فى القارة الهندية بهدف إبعاد المسلمين عن دينهم وعن فريضة الجهاد بشكل خاص حتى لا يواجهوا المستعمر باسم الإسلام وكان لسان حال هذه الحركة هو مجلة الأديان التى تصدر باللغة الإنجليزية. انظر: الموسوعة الميسرة ص 389، ويقول الدكتور غالب عواجى: القاديانية هى إحدى الفرق الباطنية الخبيثة … وتسمى فى الهند وباكستان بالقاديانية، وسموا أنفسهم فى إفريقيا وغيرها من البلاد التى غزوها بالأحمدية تمويها على المسلمين أنهم ينتسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، انظر: فرق معاصرة 2/487، وفى الحقيقة هم ينتسبون إلى ميرزا غلام أحمد القاديانى (1839 – 1908م) أداة التنفيذ الأساسية لإيجاد القاديانية. وكان ينتمى إلى أسرة اشتهرت بخيانة الدين والوطن. ومن مؤلفاته "إعجاز أحمدى"،"براهين أحمدية"، "تجليات الهية" وغير ذلك، انظر: الموسوعة الميسرة ص 389، "والقاديانية ثورة على النبوة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وثورة على الإسلام ومؤامرة دينية وسياسية كما يذكر الندوى" القاديانى والقاديانية ص 5، وللاستزادة وانظر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام 2/487 – 573، والفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار للدكتور محمد البهى ص 38-42، والقاديانية لفضيلة الشيخ الخضر حسين ص30-87، والقاديانية ومصيرها فى التاريخ لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص6-194.

.. واستطاع أعداء الإسلام أن يستميلوا كتاباً وأساتذة جامعيين وغير جامعيين وأدباء وشعراء وصحفيين، يحملون أفكار ومعتقدات تلك المذاهب الهدامة، من أبناء الشعوب المسلمة، وينشرونها بأقلامهم وألسنتهم، ليكونوا أكثر تأثيراً فى الأجيال الناشئة (1) . وهؤلاء على حد تعبير الشيخ محمد الغزالى -رحمه الله تعالى- سفراء فوق العادة لليهود والنصارى، والفرق بينهم وبين السفراء الرسميين أن هؤلاء لهم تقاليد تفرض عليهم الصمت، وتصبغ حركاتهم بالأدب، أما أولئك المستشرقين السفراء؛ فوظيفتهم الأولى أن يثرثروا فى الصحف وفى المجالس وأن يختلقوا كل يوم مشكلة موهومة ليسقطوا من بناء الإسلام لبنة، وليذهبوا بجزء من مهابته فى النفوس، وبذلك يحققون الغاية الكبرى من الزحف المشترك الذى تكاتفت فيه الصهيونية والصليبية فى العصر الحديث، إن هؤلاء النفر من حملة الأقلام الملوثة أخطر على مستقبلنا من الأعداء السافرين، فإن النفاق الذى برعوا فيه يخدع الأغرار بالأخذ عنهم، وقد يقولون كلمات من الحق تمهيداً لألف كلمة من الباطل تجئ عقيبها (2) أ. هـ. ... ويقول الدكتور مصطفى السباعى – رحمه الله تعالى -: ومن المؤسف أن يسير وراء أعداء الإسلام فى الحاضر فئة ممن لا نشك فى صدق إسلامهم من العلماء والكتاب، ولكنهم منخدعون بمظهر التحقيق العلمى "الكاذب" الذى يلبسه هؤلاء الأعداء من المستشرقين والمؤرخين والغربيين عن حقيقة أهدافهم ومقاصدهم، فإذا هم – وهم مسلمون – ينتهون إلى الغاية التى يسعى إليها أولئك – وهم يهود أو مسيحيون أو استعماريون – من إشاعة الشك والريبة فى الإسلام وحملته، من حيث يدرون أو لا يدرون، فالتقى أعداء الإسلام وبعض أبنائه على صعيد واحد لا يشرف هؤلاء ولا أولئك، لا فى ميدان العلم، ولا فى سجل التاريخ.

_ (1) أجنحة المكر الثلاثة للأستاذ عبد الرحمن الميدانى ص 134. (2) ظلام من الغرب فى المقدمة.

.. ومن الملاحظ أن هؤلاء الذين ينخدعون من المسلمين بالمستشرقين والمؤرخين والكاتبين من أعداء الإسلام الغربيين، لا يوقعهم فى الفخ الذى نصبه لهم هؤلاء ألا أحد أربعة أمور غالباً: 1- إما جهلهم بحقائق التراث الإسلامى، وعدم إطلاعهم عليه من ينابيعه الصافية. 2- وإما انخداعهم بالأسلوب العلمى "المزعوم" الذى يدعيه أولئك الخصوم. 3- وإما رغبتهم فى الشهرة والتظاهر بالتحرر الفكرى من ربقه التقليد كما يدعون. 4- وإما وقوعهم تحت تأثير "أهواء" و "انحرافات" فكرية، لا يجدون مجالاً للتعبير عنها إلا بالتستر وراء أولئك المستشرقين والكاتبين بتلقف آرائهم الفاسدة ومبادئ مذاهبهم الباطلة وترديدها كالبغبغاء، متوهمين أن ذلك فيه عز للإسلام والمسلمين، فأضروا بأنفسهم وبغيرهم وشغبوا على دينهم، وأحدثوا بلبلة فكرية، حار فيها العوام وأنصاف المتعلمين (1) . ويضيف فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الموجود عبد اللطيف عاملاً خامساً وهو:

_ (1) السنة ومكانتها فى التشريع ص 3،4، انظر: السنة النبوية الشريفة للدكتور أحمد كريمة، هدية مجلة الأزهر، عدد ربيع الأول لسنة 1418هـ ص26، 27. وانظر: دفاع عن السنة للدكتور أبو شهبة ص 372، وقصة الهجوم على السنة للدكتور على أحمد السالوس ص 35-37.

5- جهلهم بالسنة النبوية وعلومها وإن كان بعضهم برز فى تخصصه ومجاله العلمى الدقيق، وهؤلاء هم أدعياء العلم بالسنة النبوية الذين قرؤوا فيها قراءات عابرة لا تنهض من كبوة أو تبعث من رقدة، فعرفوا منها القشر دون اللباب، وخيل إليهم أنهم أعلم الخلق فى هذا الباب، وليس بالضرورة أن يكون أدعياء العلم بالسنة أتباعاً لواحد من هذه المذاهب الهدامة، أو لبعضها فى كل أصولها العقائدية؛ لأنهم قوم نشهد لهم بقوة الدين وتمام الفضل، لكنهم – فيما نراه – قلدوا غيرهم فى بعض أفكارهم المنحرفة من غير تروٍ، أو تعمق، وإن غالوا فى اعتزازهم بآرائهم، وسفهوا عقول مخالفيهم، وحملوهم عليها بقوة اللهجة والأسلوب. ... والمتأمل فى أحوال هؤلاء القوم يجد أن بينهم وبين العلم المتعمق فى السنة وعلومها بوناً شاسعاً، وليس بينهم وبينها من صلة إلا بمقدار قراءتهم لها فيما تمس الحاجة إليه منها. ... فهم ما بين خطيب، وفقيه، وأديب، وطبيب، وقانونى، ومتكلم، ومؤرخ، وغيرهم من الذين لم يتخصصوا فى السنة وعلومها، وإنما تخصصوا بغيرها من شتى الفنون، وقد يكون هناك الدعى على العلم والعلماء، ولم يتخصص فى شئ سوى الافتراء على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام - رضوان الله عليهم أجمعين (1) .

_ (1) السنة النبوية بين دعاة الفتنة وأدعياء العلم ص 129 - 131 بتصرف.

.. والدليل على استمالة أعداء الإسلام لبعض أبناء المسلمين لحمل أفكارهم وشبهاتهم حول السنة المطهرة ونشرها بين المسلمين ما قاله الأستاذ الصديق بشير نصر فى كتابه (ضوابط الرواية عند المحدثين) : "والذى تبين لى أن المستشرقين قد بذروا بذور الشك فى الحديث الشريف، وتعهدوها بالرعاية حتى عثروا على من يتولى أمرها من أبناء المسلمين المستغربين، شأنهم فى ذلك شأن غيرهم من المستشرقين فى المعارف الأخرى، والذى أكد لى هذا الظن وقوعى على كتاب بعنوان: "توثيق الأحاديث النبوية، مجادلات فى مصر الحديثة" لمؤلفه جانيبول. هذا الكتاب الذى اعتقد أنه وضع لتحسس مدى تأثير المستشرقين فى أبناء الإسلام، وكأنه وضع لمعرفة ما إذا كانت تلك البذور التى غرست قد أينعت وأثمرت أم لم تينع ولم تثمر بعد. ... وقد أكد هذا الكتاب لى حقيقة أن هؤلاء الناس يخططون لأمد بعيد، وكل كتاب يخرج منهم إنما هو وفق هذا المخطط المرسوم وإليك عرضاً سريعاً لهذا الكتاب. عرض كتاب (توثيق الأحاديث) لجاينبول: ... يقع هذا الكتاب (وما زال الكلام للأستاذ صديق) فى تسعة فصول هى على التوالى: 1- مسح لما صدر من كتب ومقالات فى توثيق الأحاديث. 2- التوثيق فى نظر محمد عبده. 3- النقاش حول التوثيق فى مجلة المنار. 4- مناقشات أخرى فى التوثيق. 5- مناقشة حول التدوين. 6- مناقشة حول العدالة. 7- مناقشة حول عدالة أبى هريرة. 8- مناقشة حول الوضع فى الحديث. 9- رواية الأحاديث. ... والكتاب يعرض لكل ما كتبه المسلمون فى الحديث، سواء كان على شكل كتب، أو مقالات ابتداء من محمد عبده، ورشيد رضا فى مجلة المنار، وانتهاءً بأحمد أمين، وهيكل، وأبى رية.

.. ثم يتحدث الكتاب عن الزوبعة التى أثارها كتاب (أضواء على السنة المحمدية) للشيخ أبى رية، والذى نشر سنة 1958م، والردود التى تعرض لها من علماء المسلمين؛ كالدكتور محمد أبو شهبة فى دفاع عن السنة، ومحمد السماحى فى أبو هريرة فى الميزان، ودفاع عن الحديث النبوى، وتفنيد شبهات خصومه لمجموعة من العلماء أمثال السباعى، وسليمان الندوى، ومحب الدين الخطيب، وعبد الرازق حمزة فى ظلمات أبى رية أمام أضواء السنة المحمدية، وعبد الرحمن اليمانى فى الأنوار الكاشفة لما فى كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة، ومصطفى السباعى فى السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى، ومحمد عجاج خطيب فى (أبو هريرة راوية الإسلام) ، والسنة قبل التدوين، ومن يقرأ كتاب (جاينبول) هذا، يرى مبلغ تحامله فيه، فهو يسفه ويسخر من كتاب المسلمين الثقات، الذين ذبوا عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويطرى ويمدح صنائع المستشرقين بالرغم من التفاوت العظيم بين كتابات أولئك الأفذاذ أمثال أبى شهبة واليمانى والسباعى، وتلك الدمى المتحركة أمثال: أمين، وأبى رية فاستمع إليه وهو يقول فى أحمد أمين: "شكوكه فى توثيق الأحاديث واضحة بينه، وضعت على أساس مناقشات العلماء الغربيين"، وينقل جاينبول كلام فيه بأنه: "الكاتب الفذ، وصاحب المحاولة الرائدة فى تقديم المنهج النقدى فى علم التاريخ الإسلامى والعربى". وعندما يأتى على ذكر "السباعى" يصف أسلوبه بأنه: خليط من السباب ويصفه بالسطحية.

المبحث الثانى: موقف أهل الأهواء والبدع حديثا من السنة النبوية

.. وهذا الكلام مجاف للواقع بكثير، فأسلوب السباعى - رحمه الله تعالى - هادئ رصين، ولم يتبع فيه أسلوب السباب والشتيمة كما يدعى جاينبول مطلقاً، وهذا الكتاب بين أيدينا يشهد على نفسه، وتلك -والعياذ بالله- عادة المستشرقين فى الطعن فى كل من تتبع أوهامهم وسقطاتهم، فهم لا يتورعون عن رميه بالتعصب والحمية تارة، وبالجهل والسطحية تارة أخرى، وإلا لو أنصف هؤلاء القوم لشهدوا بأن كتاب (السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى) للدكتور السباعى: هو كتاب القرن فى موضوعه، وجديته، فصاحبه لم يترك شاردة ولا واردة تتعلق بمبحثه إلا ذكرها، وما وقف على شبهة إلا هدمها، ولا وهم إلا بدده بأسلوب منهجى دقيق (1) . وصفوة القول فى الكتاب وصاحبه ما قاله الأستاذ جمال البنا فى كتابه السنة ودورها فى الفقه الجديد قال: كتاب السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى للدكتور السباعى يستحق به أن يكون "شافعى العصر الحديث" (2) . ولكن أنى للمستشرقين أن يشهدوا بذلك؟ فهم لا يشهدون بذلك إلا لمن تربوا على أيديهم وتبنوا آراءهم وأفكارهم الهدامة أ. هـ. المبحث الثانى: موقف أهل الأهواء والبدع حديثاً من السنة النبوية ... وتحته ثلاثة مطالب: المطلب الأول: العلمانيون وموقفهم من السنة النبوية. المطلب الثانى: البهائيون وموقفهم من السنة النبوية. المطلب الثالث: القاديانيون وموقفهم من السنة النبوية. المطلب الأول:العلمانيون وموقفهم من السنة النبوية

_ (1) ضوابط الرواية عند المحدثين 294 - 298 بتصرف. (2) السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 74.

المطلب الثانى: البهائيون وموقفهم من السنة النبوية

.. يتلخص موقف دعاة العلمانية من السنة النبوية الشريفة، فى موقف أساتذتهم من المستشرقين الذين حرصوا على إحياء شبهات أهل الفرق المبتدعة، والانطلاق من مناهجهم، للتشكيك فى حجية السنة النبوية ومكانتها التشريعية جملة وتفصيلاً تارة، والتشكيك فى حجية خبر الآحاد، ووجوب العمل به تارة أخرى، ولهم فى ذلك شبهات سيأتى ذكرها والرد عليها فى الباب الثانى. المطلب الثانى: البهائيون وموقفهم من السنة النبوية ... تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن -رحمها الله تعالى-: خلاصة موقف البهائيين من القرآن والسنة: 1- التأويل البهائى لآيات القيامة واليوم الآخر بما جهل المسلمون المراد بالقيامة الكبرى: انتهاء الدورة المحمدية بالظهور البهائى. فهذا برهان صدق القرآن، حباً من الله تعالى. 2- تعيين وقت الساعة وانتهاء أجل الأمة المحمدية، بالحساب اليهودى لفواتح السور، بعد أبجد هوز. 3- اتهام رواية الحديث ورواته، فليس صحيحاً منه إلا ما وافق الظهور الجديد للبهاء وأمكن تأويله به، وإلا فهو مختلق، وعلى شرطهم يصح الحديث فى العد اليهودى لحروف الفواتح، وما جاء عن المهدى ونزول عيسى - عليه السلام - آخر الزمان، مراداً بهما الباب الشيرازى والبهاء المازندرانى (1) . ... من ذلك قول: "المرزه حسين النورى بهاء الله: "والآن انظر إلى الناس كيف أنهم لا يدركون أبداً هذه الأحاديث المحكمة، ولكنهم يتمسكون بالأحاديث التى لا يعلم صحتها من سقمها … ويتمسكون ببعض الأحاديث التى لم يفهموا معناها، وبذا أعرضوا عن ظهور الحق وجمال الله، واستقروا فى سقر" (2) .

_ (1) المؤتمر العالمى الرابع للسيرة والسنة النبوية 2/546. (2) الحجج البهية للجرفادقانى نقلاً عن المصدر السابق 2/ 543.

.. ويقول "أبو الفضائل الجرفادقانى" مرشد ومربى حسين المازندرانى بهاء الله وشارح كتابه (الأيقان) : "ومع ذلك فليست كل الأحاديث باطلة، بل فيها ما هو الصحيح فيطابق الواقع - فى الظهور الجديد - فإن طابقت مدلولها كانت صحيحة لا محالة، وإلا فهى مختلقة. ... ويقول أيضاً: "ولما كانت هذه العلامات كلها منطبقة على بهاء الله، إذن المقصود بهذه الأحاديث هو بهاء الله. كنى عنه بعيسى بن مريم، وأضمر اسمه تعظيماً" (1) . ... ويقول الدكتور غالب عواجى مبيناً خلاصة موقف البهائيين من السنة النبوية المطهرة: "وكما أولوا آيات القرآن الكريم، أولوا كذلك الأحاديث النبوية على طريقتهم الباطنية الملحدة التى زعموا أن الأحاديث كلها شأن القرآن تدل على نهاية الشريعة المحمدية - وظهور القيامة بمجئ البهاء، والوقوف على ظاهر الأحاديث دون تأويلها بظهور البهاء - يعتبر كفراً بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، ويعتبر خروجاً بالأمة إلى الشرك والضلال، كما زعم البهائى الحاقد الدكتور رشاد خليفة إمام مسجد توسان بولاية أريزونا الأمريكية (2) . ... وقال فى كتابه "القرآن والحديث والإسلام": "والسنة أمر مهمل، والتمسك بها خطأ يجب على الأمة أن تقيل نفسها منه، وأن تصحح مسارها بإلقاء السنة عن كواهلها". ... ويقول أيضاً: "والنبى محظور عليه أن يبين من عنده كلمة من القرآن أو يفسرها" (3) ويقول: "إن المؤمنين مأمورون من الله بأن لا يأخذوا فى دينهم عن الرسول شيئاً غير القرآن، ولا أن يطيعوه فى كلمة غير ما يبلغ من القرآن" (4) .

_ (1) التبيان والبرهان نقلاً عن المصدر السابق 2/545. (2) فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام 1/469، وانظر: قصة هذا الرجل فى كتاب مسيلمة فى مسجد توسان لفضيلة الدكتور طه حبيشى. (3) انظر: القرآن والحديث والإسلام ص1، 2، 17، وقرآن أم حديث ص 16، وانظر: مسيلمة فى مسجد توسان ص 56. (4) القرآن والحديث والإسلام ص 17 وما بعدها.

.. وفى كتابه "قرآن أم حديث" ذهب إلى القول: "بأنه من المستحيل إتباع القرآن والحديث، إذ لابد من عمل اختبار، فالمؤمن بالقرآن منكر للحديث والسنة، والمؤمن بالحديث والسنة منكر للقرآن" (1) . ... وقال: "ثم كشف البحث الدائم من ذلك الوقت، عن حقيقة مذهلة: وهى أن الحديث والسنة بما لهما من مكانة مقدسة فى الشعوب الإسلامية، لا علاقة لها بالنبى محمد وأن الالتزام بالحديث والسنة يمثل عصياناً صارخاً لله ورسوله. وهذا الاكتشاف يتناقض مع معتقدات الجماهير المسلمة فى كل مكان. وبناءً على ذلك فإن شعبيتى، بل شعبية الإعجاز العددى القرآنى أيضاً عرضة لتهديد حياتى وسمعتى، بما يتوقع يقيناً من إبلاغهم أن الحديث والسنة هى بدع شيطانية. ولما كان الإقرار بأن الحديث والسنة بدع شيطانية تؤيده النصوص والأدلة الثابتة، فإن جميع ذوى الفكر الحر سوف يقبلون الاكتشافات المدونة فى كتابى هذا. وبالنسبة لهؤلاء فإن هذه النتائج تتضمن إحساساً جديداً بالخلاص التام، وباليقظة الكاملة، والوعى بأن الجماهير المسلمة سقطت فى الفخ ضحية للمخططات الشيطانية" أ. هـ. (2) . ... ويستدل المتنبئ الكذاب على أن السنة النبوية من عمل الشيطان بآيات من كتاب الله عز وجل وهى قد نزلت فى شياطين الأنس مثله، قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (3) .

_ (1) قرآن أم حديث المقدمة، وانظر: ص 22، والمسلم العاصى لأحمد صبحى منصور ص 28، والسنة فى مواجهة أعدائها ص 45. (2) القرآن والحديث والإسلام فى المقدمة. وانظر: المؤتمر العالمى الرابع للسيرة والسنة 2/557، 558 (3) الآية 112 من سورة الأنعام، وانظر: قرآن أم حديث ص 49.

.. ثم يستدل على أن رواة السنة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة المسلمين - مجرمون خونة - بقوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (1) . وإذا كان محظور على النبى صلى الله عليه وسلم بيان ما أجمل فى القرآن الكريم، وعدم طاعته صلى الله عليه وسلم فى كلمة غير القرآن، فالرجوع إلى السنة والعمل بها فيما فصلته مما أجمل فى القرآن، أو خصصته مما عمم، أو بينته مما أشكل، واستقلت بتشريعه دون سابق ذكر له فى القرآن الكريم، الرجوع إلى السنة فى كل ذلك والعمل بها، إنما هو فى نظر الدجال رشاد خليفة دليل على زيف إسلام المسلمين على مر تاريخهم إذ يقول: "يعلمنا القرآن الكريم أن الحديث هو الاختيار الضرورى للتمييز بين المسلم الحقيقى والمسلم المزيف، فالمسلم الحقيقى يصدق ربه ويعلم أن القرآن تام كامل مفصل، ولا يجوز الرجوع إلى غيره، أما المسلم المزيف فيصغى إلى الحديث ويرضاه…" (2) .

_ (1) الآية 31 من سورة الفرقان، وانظر: المصدر السابق ص22 - 25، والقرآن والحديث والإسلام ص13، 14، والمسلم العاصى ص 5،6، وعذاب القبر والثعبان الأقرع ص4،5. (2) قرآن أم حديث ص 22، وانظر: ص 44 -48، والقرآن والحديث والإسلام ص 20، 21، 42 والسنة فى مواجهة أعدائها ص 52.

.. وخلف رشاد خليفة فى موقفه هذا من السنة المطهرة صديقه الدكتور أحمد صبحى منصور، الذى تخرج فى الأزهر وحصل على العالمية فى التاريخ من الجامعة، وتبرأ من السنة فتبرأت منه الجامعة، وخرج منها مدحوراً إلى أمريكا ليكون حوارى المتنبئ رشاد خليفة (1) ، وليكتب من مسجد توسان "الأزهر يكفر بالقرآن" قائلاً: المشكلة الأزلية للأزهر أنه مسجد سيئ الاستخدام (مسجد ضرار) يقوم على حماية التراث البشرى (2) ، الذى يناقش القرآن الكريم، ويتهم كتاب الله بأنه غامض يحتاج إلى توضيح، وأنه ناقص يحتاج إلى تفصيل واستدل على ذلك بآيات تبين أن القرآن كامل وتام ومفصل ولا حاجة له إلى بيان السنة وتفصيلها" (3) .

_ (1) راجع قصته فى كتاب "مسيلمة فى مسجد توسان" لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى. (2) يقصد السنة النبوية فهى فى نظره "عمل شيطانى ورواة السنة مجرمون خونة" كما سبق حيث استدل بما استدل به مسليمة الكذاب رشاد خليفة. (3) سيأتى ذكر هذه الآيات والرد عليها فى شبهة الإكتفاء بالقرآن وعدم الحاجة إلى السنة ص184، 185.

.. ثم علق رشاد خليفة على مقالته قائلاً: "إن الأزهر يرفض التأكيدات المتكررة للقرآن بأنه كامل وتام ومفصل تماماً. إن الأزهر يأخذ موقفاً رسمياً من أن القرآن ليس كاملاً ولا مفصل، ومن ثم فإن الأزهر يعزز تلك البدع الشيطانية مثل الحديث والسنة، إن أى مسلم يمتلك قدراً من التفكير والبداهة يستطيع أن يرى أن الأزهر لا يحترم إرادة الرب، ولكنه يحترم إرادة إبليس. أحمد صبحى منصور هو أول عالم أزهرى يكتشف الحقيقة، ويقف فى وجه السلطات فى قلعة إبليس (الأزهر) وفى هذه السلسلة التاريخية من المقالات، أوضح منصور الطبيعة المحمدية للأزهر ودوره فى قلب المسلمين المخلصين إلى محمديين مؤلهين للوثنية" (1) أ. هـ.، ويشيرون بذلك إلى موقفهم من النبى صلى الله عليه وسلم حيث يعتبرون الصلاة والسلام على النبى صلى الله عليه وسلم شرك، وتقديره كفر ووثنية (2) ، وأنه لا عصمة للنبى صلى الله عليه وسلم من الكبائر يقول أحمد صبحى: [إن الرسول معرض للوقوع فى أعظم الذنوب وهو الشرك بالله … والرسل سيحاسبون ولو كانوا معصومين لكان حسابهم عبثاً وتعالى الله عن العبث] (3) أ. هـ.

_ (1) مجلة منظور المسلم نقلاً عن مسيلمة فى مسجد توسان ص 247-249. (2) انظر: القرآن والحديث والإسلام رشاد خليفة ص 10، 11، 12 والأنبياء فى القرآن أحمد صبحى منصور ص 31 وما بعدها. (3) الأنبياء فى القرآن ص 40، 45، وانظر: ص 23، 31، 32، 35. والقرآن والحديث والإسلام ص 8 وما بعدها وانظر: أيضاً ممن طعنوا فى عصمة النبى صلى الله عليه وسلم الدكتور نصر أبو زيد فى كتابه نقد الخطاب الدينى ص 126، والمستشار سعيد العشماوى فى كتابيه "الإسلام السياسى" ص86، "وأصول الشريعة" ص 143.

المطلب الثالث: القاديانيون وموقفهم من السنة النبوية

.. ومما هو جدير بالتنبيه: أن بعض دعاة اللادينية عندما يظهرون أمام المسلمين بتعظيم الإسلام ونبى الإسلام، وأن الإسلام حق، والرسول حق، يفعلون ذلك تقية ونفاقاً حتى يطمئن إليهم المسلمون، ثم يخلطون الحق بالباطل الدسم بالسم، بالتشكيك فى السنة النبوية وفى عقائد المسلمين، ويبدو هذا واضحاً فى مقالات أحمد صبحى منصور عندما يكتب تحت عنوان "القرآن هو الحل" و "القرآن لا يزال هو الحل" فى جرائدنا القومية وغيرها من الجرائد والمجلات اليسارية (1) أ. هـ. المطلب الثالث: القاديانيون وموقفهم من السنة النبوية

_ (1) انظر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام للدكتور غالب عواجى فصل السبب فى انتشار تعاليم البهائية 1/499 -473.

.. وكانت الحركة الإصلاحية التقدمية التى ادعاها السيد أحمد خان (1) ، المقدمة والتمهيد لنشأة القاديانية، تلك العقيدة التى تفرع منها فيما بعد ذلك المذهب الذى يعرف بالأحمدية (2) ، وفرقة أهل القرآن بالهند وباكستان (3) .

_ (1) هو السيد أحمد خان بن أحمد مير المتقى بن عمار الحسينى، ولد فى دهلى 17 أكتوبر عام 1817م، بدأ دراسته بالقرآن الكريم، ثم درس بعض كتب الفارسية والعربية، عمل فى المحاكم الإنجليزية –مساعد قاضى-مات عام 1897م، انظر: فى ترجمته دائرة المعارف البريطانية 1/369، والقرآنيون وشبهاتهم حول السنة للدكتور خادم حسين البهى ص 100. (2) أغلب المستشرقين مولعون باستمرار بوصف الإسلام بأنه الدين المحمدى، أو المذهب المحمدى نسبة إلى محمد كما تنتسب المسيحية إلى المسيح، ولكن هناك سبباً آخر لاستخدام هذا الوصف لدى الكثيرين منهم، وهو إعطاء الانطباع بأن الإسلام دين بشرى من صنع محمد وليس من عند الله أما نسبة المسيحية إلى المسيح فلا تعطى لديهم هذا الانطباع لاعتقادهم أن المسيح ابن الله. انظر الإسلام فى تصورات الغرب لفضيلة الدكتور محمود حمدى زقزوق ص 21 هامش، ومنهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 24. (3) انظر دراسات فى الحديث النبوى للدكتور محمد الأعظمى 28 وما بعدها، وقرآنيون وشبهاتهم حول السنة للدكتور خادم حسين ص100 ما بعدها.

.. والسيد أحمد خان قد وضع لبنة عامة للتشكيك فى السنة كلها فقال: "بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظلت الروايات تتناقل على الألسنة إلى عهد التصنيف فى الكتب المعتمدة، غير أننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن الهيئة التى دونت بها كتب الأحاديث تلك، التى كان مبناها روايات الذاكرة …، بينما البعد الزمنى كفيل بمزج الزائد بها وإضافة الجديد إليها" (1) . ... ويضيف قائلاً: "بأن ما دون فى هذه الكتب من الأحاديث إنما هى ألفاظ للرواة، ولا نعرف ما بين اللفظ الأصلى - الصادر من شفتيه عليه الصلاة والسلام والمعبر به من وفاق أو خلاف، وليس من العجب أن يخطئ أحد الرواة فى فهم الحديث مما يكون سبباً فى ضياع المفهوم الصحيح (2) ". ... وبناء على موقفه هذا جعل الأحكام المستنبطة من السنة بوجه عام أحكاماً لا يجب على المسلمين اتباعها، "وأن ما استخرج العلماء من نصوصها الحالية إنما هى أحكام اجتهادية لا نصية فيها ولا حتمية، لاحتمال ألا يكون ذلك مقصود عليه الصلاة والسلام" (3) .

_ (1) مقالات سير سيد جمع وترتيب محمد إسماعيل 1/23 نقلاً عن القرآنيون وشبهاتهم حول السنة للدكتور خادم حسين البهى ص 104 وسيأتى الرد على هذا فى شبهة التأخر فى تدوين السنة. (2) مقالات سير سيد 1/49 وسيأتى الرد على هذا فى شبهه رواية الحديث بالمعنى ص368-378 (3) مقالات سير سيد 1/69.

.. ثم خطا خطوة أخرى إلى الأمام فعاتب المحدثين، محملاً إياهم عدم تمحيص متون السنة مثل السند، فقال: "وإنا لنشكر للمحدثين جهودهم المبذولة فى هذا الشأن غير أن جل مساعيهم، بل كلها لم تتجاوز توثيق الرواة وعدمه، بينما أولئك الرواة كان قد مضى على وفاتهم زمن طويل، ثم أعقب ذلك دور التحقيق عنهم، بحيث يكون هو العمدة فى قبول الحديث ورده، فإن لم يكن هذا العمل مستحيلاً؛ فلا يخلو أن يكون أمراً فى غاية الصعوبة" (1) . ... ويقول فى المعنى نفسه: "وإنا لا ندرى عن الأحاديث التى وثقت أو وجهت الجهود إليها من حيث المضمون والمحتوى أم لا؟ وأى السبل سلكت فى ذلك" (2) . ... وأخيراً حاول السيد أن يجهز على السنة بوضعه الشروط التى يتعذر توفرها فى أغلب الأحاديث، يقول: فقال "والمعيار السليم لقبولها هو أن ينظر إلى إن المروى بمنظار القرآن فما وافقه أخذناه، وما لم يوافقه نبذناه …، وإن نسب شئ من ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب فيه توفر شروط ثلاثة: 1- أن يكون الحديث المروى قول الرسول بالجزم واليقين. 2- أن توجد شهادة تثبت أن الكلمات التى أتى بها الراوى هى الكلمات النبوية بعينها. 3- ألا يكون للكلمات التى أتى بها الرواة معانٍ سوى ما ذكره الشراح، فإن تخلف أحد هذه الشروط الثلاثة؛ لم يصح نسبة القول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنه حديث من أحاديثه" (3) .

_ (1) مقالات سير سيد1/23، وسيأتى الرد على هذا فى الجواب عن دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن ص667-672. (2) مقالات سير سيد 1/23. (3) مقالات سير سيد 1/40.

.. وهذه الحركة الإصلاحية، أو المجددين الإسلاميين (1) – الهنود – كان من المحبب إليهم تسمية أنفسهم المعتزلة المحدثين، كما حكى ذلك عنهم المستشرق جولد تسيهرفى كتابه "مذاهب التفسير الإسلامى" (2) ، ويرى جولد تسيهر أن تلك الحركة تستحق تنويهاً خاصاً لموقفها الجاد القوى (3) ، حيث يقفون موقفاً حراً بالكلية تجاه الحديث، على أنه مصدر الأسس التى يعد تخليدها عقبة فى سبيل حرية النمو، ويرى جولد تسيهر أن الحديث فى نظرهم (ونظره أيضاً) ، خرافة وأساطير كقصص ألف ليلة وليلة (4) ، ثم يحكى عنهم: أن الاعتماد على الحديث يجعل الإسلام مساوياً فى قيمته للعب الأطفال … ولا مكسب فى نظرهم للمرء من المرويات التى تشتمل عليها كتب الحديث بما فى ذلك صحيحى البخارى ومسلم – رضى الله عنهما – إلا الظن، وأن ما اشتملت عليه كتب الرجال، والتاريخ من أخبار هى جديرة بالشك فى وقوعها، فيقول جولد تسيهر نقلاً عن سير سيد أحمد خان بهادر فى كتابه "تبرئة الإسلام عن شين الأمة والغلام" "إذا أردنا أن ننظر إلى الأخبار التى تضمنتها تلك الكتب على أنها أسس للمسائل الدينية، فسيكون الإسلام –والعياذ بالله فى هذا- مساوياً فى

_ (1) الأستاذ أحمد أمين شبه سيد أحمد خان فى الهند، بالشيخ محمد عبده فى مصر من حيث إن كلاً منهما كان مصلحاً دينياً، وهو فى هذا القول تابع للمستشرقين كما قال الدكتور البهى فى كتابه الفكر الإسلامى وصلته بالاستعمار الغربى ص33، 38، 145، وانظر: مذاهب التفسير الإسلامى لجولد تسيهر ص347 وما بعدها. (2) ص 342. (3) مذاهب التفسير الإسلامى ص337،وانظر: ثناء جماعة من المستشرقين على السيد أحمد خان وعلى حركته القرآنية. فى كتاب وجهة الإسلام نظره فى الحركات الحديثة فى العالم الإسلامى لجماعة من المستشرقين ترجمة الأستاذ محمد عبد الهادى أبو ريده ص47،119،125-133، 223. (4) مذاهب التفسير الإسلامى ص 344، وانظر: وجهة الإسلام ص 126 وما بعدها.

قيمته للعب الأطفال، أو الخرافات ولا ريب أن المحدثين قد دفعهم القصد النبيل إلى جمع الأحاديث ونقدها، ولكن على الرغم من ذلك لا يكسب المرء من المرويات التى تشتمل عليها كتب الحديث-ولا يستثنى من ذلك البخارى ومسلم - إلا الظن. فكيف يكون الحال إذاً فى كتب الرجال والتاريخ وما فيها من أخبار جديرة بالشك فى وقوعها، إذا نحن أردنا أن نستمد القوانين الدينية من مثل هذه المصادر…" (1) . ... ولأن الأمة أجمعت على حجية السنة، واعتبارها المصدر الثانى من مصادر التشريع الإسلامى، ولم يخالف فى ذلك إلا من لاحظ له فى الإسلام، فقد طعن هؤلاء المعتزلة المحدثون فى حجية الإجماع، وادعى أحمد خان بهادر؛ أنه أول من يظهر معترضاً سبيل الإجماع (2) ، وكذب فما هو إلا ذيل لسلفه ومن تبعه فى إنكاره حجية الإجماع (3) . ... يقول جولد تسيهر: "وكما أنحت هذه الدوائر بمعول الهدم على اعتماد صحة الحديث، فقد سلطت ذلك المعول على ركن أساسى آخر فى بناء مذهب أهل السنة، فهم لا يعترفون بالإجماع، وهو سند أهل السنة فى شرعية العادات والمؤسسات المتقادمة العهد، بحجية معتبرة فى جميع الأزمان، ويسمون الاعتراف الأعمى به تقليداً يأباه الثقات من أهل السنة أنفسهم". ... ثم يصرح جولد تسهير بهدف الطعن فى الإجماع، وهو الطعن فى المجمع عليه، ومن حجية السنة واستقلالها بتشريع الأحكام فيقول: [وهم يطعنون بالوضع والاختلاق فى الأحاديث التى يعتمد عليها مذهب أهل السنة فى عدم تسرب الضلالة إلى إجماع الأمة] (4) أ. هـ.

_ (1) المصدر السابق ص344. (2) مذاهب التفسير الإسلامى ص 345. (3) انظر: أدلة حجية الإجماع فى مبحث أدلة حجية السنة ص480، 481. (4) مذاهب التفسير الإسلامى ص 345، وانظر: القرآنيون وشبهاتهم حول السنة للدكتور خادم بخش. مبحث (القرآنيون وموقفهم من عصمة النبى صلى الله عليه وسلم) ص 315، ومبحث (القرآنيون وموقفهم من ختم النبوة) ص 321.

الفصل الرابع:أهداف أعداء الإسلام قديما وحديثا

الفصل الرابع:أهداف أعداء الإسلام قديماً وحديثاً فى الكيد للسنة أهداف أعداء الإسلام فى الكيد للسنة المطهرة ... أجمعت أمة الإسلام قديماً وحديثاً على التمسك بسنة النبى صلى الله عليه وسلم، والعض عليها بالنواجذ، وضرورة تطبيقها، والسير على هديها فى كل جوانب حياة المسلمين؛ لأنها المصدر الثانى للتشريع الإسلامى المتلازم للمصدر الأول وهو القرآن الكريم ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وبهذين المصدرين معاً -القرآن الكريم والسنة النبوية- قام بناء الإسلام، وتأسست دولة الإسلام، واستمدت منهجها من القرآن الكريم والسنة النبوية معاً، ولم يمار فى هذه الحقيقة الساطعة إلا نفر ممن لا يعتد بخروجهم على إجماع الأمة من الخوارج والروافض قديماً ومن سار على دربهم حديثاً. ... وقد بلغ من سموا السنة المطهرة؛ أنها جذبت أنظار أعداء الإسلام إليها قديماً وحديثاً، فراحوا يراقبونها وما جاءت به معترفين بشموليتها لكل أمور الحياة، وأنها مفتاح نهضة المسلمين وحضارتهم، وهى فوق كل هذا الهيكل الحديدى الذى قام عليه صرح الإسلام، والعمل بها حفظ لكيان الإسلام وتقدمه، وتركها هدم لدين الإسلام وتأخر المسلمين. فها هو ذا مشرك ينطق بشمول السنة لكل أمور الحياة، معترفاً على نفسه ومن على شاكلته؛ بأنهم يحرصون على معرفة تعاليم السنة.

.. فعن سلمان (1) رضي الله عنه؛ أنه قيل له: "قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شئ حتى الخراءة؟ قال: قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجى باليمين أو أن نستبخى بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجى برجيع أو بعظم" (2) . ... وانظر إلى قول السائل: "لقد علمكم نبيكم كل شئ" تجد أنها تدل على تتبع هؤلاء لأمور السنة، واعترافهم - مع أهلها - بشمولها لكل أمور الحياة (3) . ... ولا تخفى مكانة السنة النبوية "الحديث" فى التشريع الإسلامى وأثرها فى الفقه الإسلامى منذ عصر النبى صلى الله عليه وسلم، والصحابة حتى عصور أئمة الاجتهاد، واستقرار المذاهب الاجتهادية، مما جعل الفقه الإسلامى ثروة تشريعية لا مثيل لها فى الثروات التشريعية لدى الأمم جميعها فى الماضى والحاضر، ومن يطلع على القرآن والسنة يجد أن للسنة الأثر الأكبر فى اتساع دائرة التشريع الإسلامى وعظمته وخلوده مما لا ينكره كل عالم بالفقه ومذاهبه. ... هذا التشريع العظيم الذى بهر أنظار علماء القانون والفقه فى جميع أنحاء العالم، هو ما حمل ويحمل أعداء الإسلام فى الماضى والحاضر على مهاجمة السنة، والتشكيك فى حجيتها، وصدق جامعيها، ورواتها من أعلام الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة المسلمين الثقات الأعلام.

_ (1) سلمان: هو سلمان الفارسى، صحابى جليل. له ترجمة فى: الإصابة 2/62 رقم 3369، والاستيعاب 2/634 رقم 1014، واسد الغابة 2/510 رقم 2150، وتاريخ الصحابة ص116 رقم 533، ومشاهير علماء الأمصار ص 56 رقم 274. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الطهارة، باب الاستطابة 2/154 رقم 262. (3) السنة النبوية مكانتها. عوامل بقائها. تدوينها لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد المهدى عبد القادر ص 66، 67.

.. وعلى هذا الهدف التقى أعداء الإسلام من زنادقة الفرس وغيرهم فى عصور الحضارة الإسلامية الزاهرة، مع أعداء الإسلام اليوم من المستشرقين ومن لف لفهم فى الحضارة الغربية الحاضرة (1) . ... هذا مع اعتراف المستشرقين، وعلى رأسهم صنمهم الأكبر "جولد تسهير" أننا لا نستطيع فهم الإسلام بدون القرآن والسنة، حيث لا يكفى القرآن وحده قائلاً: "إننا لا نفهم الإسلام بلا قرآن، لكن القرآن وحده بعيد عن أن يكفى لمواجهة العقلية الإسلامية التامة فى سيرها التاريخى" (2) . فهذا المستشرق أدرك أن السنة تجعل الإسلام ديناً شاملاً كاملاً، وبالتالى فلا سبيل لهدم هذا الدين إلا بالتشكيك فى السنة، والإدعاء بأن أكثرها موضوع، وهو المنهج الذى تبناه جولد تسهير. ... ومن هنا يظهر هدف أعداء الإسلام من وراء دعوتهم الخبيثة وهى الاكتفاء بالقرآن عن الحديث، فهدفهم هو هدم نصف الدين أو إن شئت فقل: "تقويض الدين كله؛ لأنه إذا أهملت الأحاديث والسنن فسيؤدى ذلك – ولا ريب – إلى استعجام كثير من القرآن على الأمة وعدم معرفة المراد منه، وإذا أهملت الأحاديث واستعجم القرآن فقل: على الإسلام العفاء (3) . وهذا ما يدركه أعداء الإسلام ويهدفون إليه، وفى ذلك يقول المبشر الأمريكى "جب": "الإسلام مبنى على الأحاديث أكثر مما هو مبنى على القرآن، ولكننا إذا حذفنا الأحاديث الكاذبة، لم يبق من الإسلام شئ وصار أشبه بصبيرة طومسون. وطومسون هذا رجل أمريكى، جاء إلى لبنان فقدمت له صبيرة فحاول أن ينقيها من البذر، فلما نقى منها كل بذرها لم يبق فى يده منها شئ" (4) .

_ (1) السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 2. (2) العقيدة والشريعة فى الإسلام للمؤلف ص41، وقارن بالسنة المفترى عليها للمستشار البهنساوى ص 327. (3) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهية ص 15، 16. (4) التبشير والاستعمار للدكتور مصطفى خالد، وعمر فروخ ص 98.

.. ويقول العلامة المجرى المسلم: محمد أسد "ليوبولدفايس" فى تصوير مكانة السنة فى الإسلام: "لقد كانت السنة مفتاحاً لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، فلماذا لا تكون مفتاحاً لفهم انحلال الحاضر؟ إن العمل بسنة رسول الله هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وأن ترك السنة هو انحلال الإسلام. لقد كانت السنة هى الهيكل الحديدى الذى قام عليه صرح الإسلام، وإنك إذا أزلت هيكل بناء ما، أفيدهشك بعد أن يتقوض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟ … إن التعبير الذى يتردد على مسامعنا اليوم كثيراً "لنرجع إلى القرآن الكريم، ولكن يجب ألا نجعل من أنفسنا مستعبدين للسنة" هذا التعبير يكشف بكل بساطة عن جهل بالإسلام، إن الذين يقولون هذا القول يشبهون رجلاً يريد أن يدخل قصراً ولكنه لا يريد أن يستعمل المفتاح الأصلى الذى يستطيع به وحده أن يفتح الباب (1) . ... ويكشف محمد أسد السر فى محاربة السنة: فيقول: "إن الهدف إسقاطها حتى يفقد المسلمون الصورة التطبيقية الحقيقية لحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون الأوائل، وبذلك يفقد الإسلام أكبر عناصر قوته (2) .

_ (1) الإسلام على مفترق الطرق ترجمة الدكتور عمر فروخ ص 87، 91. (2) الإسلام على مفترق الطرق ص 88 – 95، وانظر: من نفس الكتاب ص 108 (السنة النبوية تجعل المجتمع مستقراً متماسكاً)

ويقول: ولكى يستطيع نقده الحديث المزيفون أن يبرروا قصورهم وقصور بيئتهم، فإنهم يحاولون أن يزيلوا ضرورة اتباع السنة المطهرة؛ لأنهم إذا فعلوا ذلك كان بإمكانهم حينئذ أن يتأولوا تعاليم القرآن الكريم كما يشاؤون على أوجه من التفكير السطحى أى حسب ميول كل واحد منهم وطريقة تفكيره هو، ولكن تلك المنزلة الممتازة التى للإسلام على أنه نظام خلقى وعملى، ونظام شخصى واجتماعى تنتهى بهذه الطريقة إلى التهافت والاندثار، وإن الذين غرتهم المدينة الغربية لا يجدون مخرجاً من مأزقهم إلا برفض السنة على أنها غير واجبة الإتباع على المسلمين، ذلك لأنها قائمة على أحاديث لا يوثق بها، وبذلك يصح تحريف تعاليم القرآن الكريم لكى تظهر موافقته لروح المدينة الغربية أكثر سهولة. إن اطراح السنة اطراح لحقيقة الإسلام (1) . ... فالطعن فى السنة النبوية هدم للإسلام فى عباداته، ونظمه، وأخلاقه، وذلك هدف رئيسى من أهداف أعداء الإسلام وهم يحاربون السنة المطهرة، ويشككون فى حجيتها. فالإسلام هو عدوهم الحقيقى والمسلم فقط هو العدو اللدود لهم (2) ، وأعلنوا ذلك صراحة فقال "لورانس براون": "كان قادتنا يخوفوننا بشعوب مختلفة لكننا بعد الاختبار لم نجد مبرراً لمثل تلك المخاوف، كانوا يخوفوننا بالخطر اليهودى، والخطر اليابانى الأصفر، والخطر البلشفى، لكنه تبين لنا أن اليهود هم أصدقاؤنا، والبلاشفة الشيوعيون حلفاؤنا، أما اليابانيون، فإن هناك دولاً ديمقراطية كبيرة تتكفل بمقاومتهم، لكننا وجدنا أن الخطر الحقيقى علينا موجود فى الإسلام، وفى قدرته على التوسع والإخضاع، وفى حيويته المدهشة" (3) .

_ (1) المصدر السابق ص 97، 98، 110 بتصرف يسير. (2) انظر: الإسلام على مفترق الطرق ص 64 استمرارية عداوة العرب للإسلام والمسلمين. (3) انظر: التبشير والاستعمار للدكتور مصطفى خالد وعمر فروح ص 148.

.. ويبدو من تصريحات أعداء الإسلام من المستشرقين والمستعمرين أنهم يشنون الحرب على الإسلام لعوامل عديدة منها: 1- أنه العقبة القائمة فى تبشيرهم بالنصرانية وفى ذلك يقول المستر "بلس": "إن الدين الإسلامى هو العقبة القائمة فى طريق تقدم التبشير بالنصرانية فى أفريقية، والمسلم فقط هو العدو اللدود لنا؛ لأن انتشار الإنجيل لا يجد معارضاً لا من جهل السكان، ولا من وثنيتهم، ولا من مناضلة الأمم المسيحية وغير المسيحية" (1) . 2- أنه جدارٌ صلبٌ يهدر أطماعهم الاستعمارية فى أمتنا الإسلامية، ومن هنا قالوا: "إن ارتقاء الإسلام يهدد نمو مستعمراتنا بخطر عظيم" (2) . ... وقال لورانس: "إن الإسلام هو الجدار الوحيد فى وجه الاستعمار الأوربى" (3) ويقول "غلادستون" رئيس وزراء بريطانيا سابقاً: "ما دام هذا القرآن موجوداً فى أيدى المسلمين، فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هى نفسها فى أمان" (4) .

_ (1) الغارة على العالم الإسلامى شاتليه ص 15. (2) المصدر السابق ص 50. (3) التبشير والاستعمار ص 184. (4) الإسلام على مفترق الطرق ص 41.

3- إن الإسلام بحضارته المجيدة يهدد حضارتهم الزائفة، وفى ذلك يقول "أيوجين روستو" رئيس قسم التخطيط فى وزارة الخارجية الأمريكية ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس جونسون لشئون الشرق الأوسط حتى عام 1967: يقول: "يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هى خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية. لقد كان الصراع محتدماً بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصورة مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامى للتراث المسيحى. ويتابع قائلاً: "إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا، إنما هى جزء مكمل للعالم الغربى، فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقى الإسلامى، بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامى، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الوقف فى الصف المعادى للإسلام وإلى جانب العالم الغربى والدولة الصهيونية؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك؛ فإنها تتنكر للغتها، وفلسفتها، وثقافتها، ومؤسساتها". إن رستو يحدد أن هدف الاستعمار فى محاربة الإسلام فى أمتنا الإسلامية هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل، هو جزء من هذا المخطط، وأن ذلك ليس إلا استمرار للحروب الصليبية (1) . ... ويقول مسئول آخر فى وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952: "ليست الشيوعية خطر على أوربا فيما يبدو لى، إن الخطر الحقيقى الذى يهددنا تهديداً مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامى، فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربى، فهم يملكون تراثهم الروحى الخاص بهم ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد، دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية فى الحضارة الغربية.

_ (1) انظر: قادة الغرب يقولون للأستاذ عبد الودود يوسف ص23، 24.

.. فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعى فى نطاقه الواسع انطلقوا فى العالم يحملون تراثهم الحضارى الثمين، وانتشروا فى الأرض يزيلون منه قواعد الحضارة الغربية ويقذفون برسالتها إلى متاحف التاريخ. إن العالم الإسلامى عملاق مقيد، عملاق لم يكشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً، فهو حائر، وهو قلق، وهو كاره لانحطاطه وتخلفه، فلنعط هذا العالم الإسلامى ما يشاء، ولنقوى فى نفسه الرغبة فى عدم الإنتاج الصناعى والفنى، حتى لا ينهض، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف، بإبقاء المسلم متخلفاً، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه، فقد بؤنا بإخفاق خطير، وأصبح خطر العالم العربى، وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً ينتهى به الغرب، وتنتهى معه وظيفته الحضارية كقائد للعالم" (1) . وسلك أعداء الإسلام كل مسلك من أجل تحقيق أهدافهم فى محاربة الإسلام من: 1- تشكيك للمسلمين فى دينهم والادعاء كذباً؛ بأنه تركيب ملفق من اليهودية، والمسيحية، والوثنية العربية. 2- وتشكيكهم فى كتاب ربهم عز وجل كما قال المبشر تاكلى: "يجب أن نستخدم القرآن وهو أمضى سلاح فى الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضى عليه تماماً، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح فى القرآن ليس جديداً، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً (2) ، ويقول المبشر "وليم جيفورد بالكران": "متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربى يندرج فى طريق الحضارة الغربية بعيد عن محمد وكتابه (3) .

_ (1) جندالله ص 22، وانظر: قادة الغرب يقولون ص 36 - 38. (2) التبشير والاستعمار ص 40. (3) الغارة على العالم الإسلامى ص 35.

3- تدمير أخلاق المسلمين والتى لو رجعوا إليها لسادوا العالم شرقاً وغرباً كما قال "مرماديوك باكتول": "إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم فى العالم الآن بنفس السرعة التى نشروها سابقاً. بشرط أن يرجعوا إلى الأخلاق التى كانوا عليها حين قاموا بدورهم الأول؛ لأن هذا العالم الخاوى لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم" (1) . 4- تجزئة المسلمين أينما كانوا من الأرض، والقضاء على وحدتهم بتوسيع دائرة الخلاف بينهم بإحياء عقائد وآراء الفرق الهدامة، والتركيز على الشخصيات المنافقة والشعوبية فيها حتى يحال بين الأمة وبين الوحدة التى تصبح نعمة لهذا العالم الغارق فى بحور الظلمات يقول المبشر "لورانس براون": "إذا اتحد المسلمون فى إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة. أما إذا بقوا متفرقين؛ فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير. ويكمل حديثه: "يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير" (2) . ... والسنة النبوية المطهرة من الأسس القوية التى عليها وحدة المسلمين، وفى ذلك يقول الأستاذ (جمال البنا) : وهو يتحدث عن الأثر النفسى لإيمان الأمة بالسنة "بل لقد وصلت هذه "النفسية النمطية" من القوة درجة محت فيها الفروق بين الأجناس واللغات، فشخصية المسلم العربى هى شخصية المسلم الهندى أو السودانى أو حتى الأوربى الذى استسلم للتيار … فقد أوجدت السنة رباطاً و "كومنولث" إسلامى أقوى من أى كومنولث آخر …" (3) .

_ (1) انظر قادة الغرب يقولون ص 48. (2) جذور البلاء ص 202، وانظر: قادة الغرب يقولون ص 51. (3) السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 20، وفى ذلك رد على قاسم أحمد، وأحمد حجازى، فى زعمهما بأن العامل الأساسى فى فرقة المسلمين واختلافهم هو تمسكهم المبالغ فيه بالحديث. انظر: إعادة تقييم الحديث ص 60، ودفع الشبهات عن الشيخ الغزالى للدكتور أحمد حجازى السقا ص 39.

5- تشويه تاريخ الأمة الإسلامية الحالية والغابرة، بكل وسيلة من وسائل الكذب والافتراء، والتدليس بغية أن يكون هذا الجيل من أحفاد المسلمين أسيراً لثقافتهم اللادينية. 6- خداع المسلمين بربط كل صورة من صور التقدم الحضارى بالتخلى عن الإسلام، وبربط كل صورة من صور التخلف الحضارى بالاستمساك بالإسلام وبما ينادى به علماء المسلمين من عودة الأمة الإسلامية إلى كتاب ربها عز وجل وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم للنجاة مما هى فيه. ... كما جاء فى جريدة "التايمز" بتاريخ 14/3/1970م مقالاً غداة إقصاء سلطان عمان تقول فيها: "إن الأوضاع الاجتماعية والسياسية فى عمان كانت بالغة السوء والتخلف؛ لأنها ظلت على ما كانت عليه زمن النبى محمد صلى الله عليه وسلم (1) . وبعد ... فإذا كانت المعركة بين الإسلام وخصومة لم تنقطع منذ أكثر من خمسة عشر قرناً إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإنا لا نشك فى أن النصر حليف للحق دائماً وأبداً كما قال عز وجل {نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (2) .

_ (1) موقف الإسلام من المجتمع الجاهلى للدكتور جعفر السقا ص 48. (2) الآية 18 من سورة الأنبياء.

الباب الثانى: وسائل أعداء السنة قديما وحديثا فى الكيد

الباب الثانى: وسائل أعداء السنة قديماً وحديثاً فى الكيد للسنة النبوية المطهرة ... ويشتمل على تمهيد وستة فصول: الفصل الأول: شبهات حول حجية السنة النبوية. الفصل الثانى: وسيلتهم فى التشكيك فى حجية خبر الآحاد. الفصل الثالث: وسيلتهم فى التشكيك فى رواة السنة المطهرة. الفصل الرابع: وسيلتهم فى الطعن فى الإسناد وعلوم الحديث. الفصل الخامس: وسيلتهم فى الطعن والتشكيك فى كتب السنة المطهرة. الفصل السادس: وسيلتهم فى الاعتماد على مصادر غير معتبرة فى التاريخ للسنة الشريفة ورواتها الثقات الأعلام (رضوان الله عليهم أجمعين) . تمهيد: ... من المعلوم عند علماء المسلمين جميعاً أن السنة المطهرة هى المصدر الثانى للتشريع بعد كتاب الله عز وجل قديماً وحديثاً، ولم يخالف فى ذلك إلا من لا حظ له فى الإسلام. أجمعت على ذلك أمة الإسلام. ... ومعنى كون السنة هى المصدر الثانى للتشريع؛ أنها واجبة الاتباع والتنفيذ، وهى فى ذلك مثل القرآن الكريم سواء بسواء، ولكن أعداء الإسلام ومعهم بعض من ينتسبون زوراً وبهتاناً إليه ممن تظاهروا بالإسلام والمحافظة عليه، وتطهيره مما طرأ عليه من تغيير وتبديل لا يروقهم ذلك، ويحاولون التشكيك فى حجية السنة النبوية، والنيل منها محاولين أن يصلوا فى النهاية إلى الطعن فى الشريعة الإسلامية التى ختم الله بها دينه الذى بعث به جميع أنبيائه ورسله قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .

_ (1) جزء من الآية 19 من سورة آل عمران. (2) الآية 85 من سورة آل عمران.

.. وشبهات أعداء الإسلام حول السنة من حيث هى لا تشكل خطراً عليها، لأنها قلعة راسخة لا تؤثر فيها الشبهات، وإن كانت قد ألحقت بعقول بعض المسلمين نوعاً من الأذى. ولكن الخطورة فيها أنها استغلت للتشكيك فى الدين والطعن فى رسالة النبى صلى الله عليه وسلم، ولو أننا ضربنا صفحاً عن حكاية هذه الشبه، وبيان فسادها: لكان منا ذلك رأياً متيناً، ومذهباً صحيحاً. إذ الإعراض عن القول المطروح أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهاً للجهال عليه. غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد الشبهات التى يروجها أعداء الإسلام رأينا الكشف عن فساد هذه الشبه، وردها بقدر ما يليق بها من الرد، فذلك نصح للأنام، وأحمد للعاقبة إن شاء الله تعالى (1) . ... ولما كانت شبهات خصوم السنة وافتراءاتهم حول حجية السنة المطهرة، ووسائلهم فى الكيد لها كثيرة لا حصر لها ولا عد. وإذا كنا لن نستطيع أن نتتبع كل ناعق ينعق فى دين الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجب على كل مسلم أن يتنبه إلى حجر الزاوية الذى يرتكزون عليه فيحطمه ويسحقه، ويبحث عن القاعدة التى ينطلقون منها؛ فيخربها ويدمرها على من فيها. ... ... وهذا ما سنحرص عليه بمشيئة الله تعالى فى حديثنا عن وسائلهم فى الكيد للسنة المطهرة، خصوصاً بعد أن وسع أعداء الإسلام دائرة هذه الشبهات وجعلوها موضع نظر فى بحوثهم ودراستهم، فاغتر بها من اغتر من أبناء الإسلام. ... وسوف نبسط تلك الشبهات التى اتخذوها قواعد ينطلقون منها للتشكيك فى السنة المطهرة فى ستة فصول، نحلل من خلالها تلك الشبهات الواهية. ونبين مواقع التدليس فيها، والالتباس بشأنها، فلا تبقى حجة للمتنطعين فى حجية السنة، ولا يبقى فى قلب مؤمن شبهة أو ريب والله المستعان وبه التوفيق.

_ (1) اقتباس (بتصرف يسير) من كلام الإمام مسلم فى مقدمه صحيحه، باب بيان أن الإسناد من الدين 1/133.

الفصل الأول:شبهات حول حجية السنة النبوية الشريفة

الفصل الأول:شبهات حول حجية السنة النبوية الشريفة ... وينقسم إلى ثلاثة مباحث: 1- المبحث الأول: شبهات بنيت على آيات من القرآن الكريم. ونذكرها فى مطلبين: ... 1- المطلب الأول: شبهة الاكتفاء بالقرآن الكريم وعدم الحاجة إلى السنة النبوية والرد عليها. ... 2- المطلب الثانى: شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله عز وجل بحفظها والرد عليها. 2- المبحث الثانى: شبهات بنيت على أحاديث من السنة النبوية. وينقسم إلى تمهيد وثلاثة مطالب: ... 1- المطلب الأول: شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها. ... 2- المطلب الثانى: شبهة عرض السنة على العقل والرد عليها. ... 3- المطلب الثالث: وفيه الشبه الآتية: ... ... 1 - شبهة النهى عن كتابة السنة النبوية والرد عليها. ... ... 2- شبهة التأخر فى تدوين السنة المطهرة والرد عليها. ... ... 3- شبهة رواية الحديث بالمعنى والرد عليها. ... ... 4- شبهة كثرة الوضاعين للحديث والرد عليها. 3- المبحث الثالث: أدلة حجية السنة النبوية. وتحته خمسة مطالب: ... 1- المطلب الأول: العصمة. ... 2- المطلب الثانى: القرآن الكريم. ... 3- المطلب الثالث: السنة النبوية. ... 4- المطلب الرابع: إجماع الأمة. ... 5- المطلب الخامس: العقل والنظر.

المبحث الأول:شبهات بنيت على آيات من القرآن الكريم

المبحث الأول:شبهات بنيت على آيات من القرآن الكريم تمهيد: ... إننا لو فتشنا عن المحاربين لسنة النبى صلى الله عليه وسلم، لوجدنا أنهم يتظاهرون بإجلال القرآن واحترامه، وأنه الحجة التى ليس وراءها حجة، فيقولون: علينا بالاكتفاء بالقرآن الكريم فقط؛ فهو كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المصدر الأول للإسلام، وهو الذى سلم من التغيير والتبديل … إلى آخر ما يقولونه تظاهراً بحبهم للإسلام، ودفاعاً عنه، وغيرة على ما فى كتاب الله عز وجل من شريعة وأحكام، غير أنهم لا يريدون - مع ذلك - أن يضبطوا أنفسهم وعقولهم بهذا الذى أمر القرآن الكريم بضبط أنفسنا وعقولنا به، من اتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم مصطنعين لأنفسهم ما يشاءون من آيات القرآن الكريم، يستدلون بها على الاكتفاء بالقرآن وحده، وعدم حجية السنة والحاجة إليها. وما استدلوا به من آيات قرآنية بنوا عليها شبهتين جعلوهما قاعدتين ينطلقون منهما تشكيكاً فى حجية السنة. نذكرهما فى مطلبين: 1- المطلب الأول: شبهة الاكتفاء بالقرآن وعدم الحاجة إلى السنة النبوية والرد عليها. 2- المطلب الثانى: شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها. المطلب الأول:شبهة الاكتفاء بالقرآن الكريم وعدم الحاجة إلى السنة النبوية ... واستدلوا على ذلك من القرآن الكريم بآيات عدة وهى: 1- قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (1) . واستدل بهذه الآية الدكتور توفيق صدقى (2) ، ومحمود أبو ريه (3) ، ومحمد نجيب (4) ، وقاسم أحمد (5) .

_ (1) الآية 38 من سورة الأنعام. (2) مجلة المنار المجلد 9/516، 907، وأيده جمال البنا فى كتابه السنة ودورها فى الفقه الجديد ص33 (3) أضواء على السنة المحمدية 404. (4) الصلاة ص 23. (5) إعادة تقييم الحديث 86.

2- وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) . 3- وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} (2) 4- وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} (3) . ... واستدل بهذه الآيات الكريمات وما فى معناها (4) عدد من أعداء السنة المطهرة المنكرين لحجيتها قديماً وحديثاً، الزاعمين أن القرآن فى غنى عن السنة؛ لأن فيه بيان وتفصيل كل شئ؛ فقديماً على سبيل المثال لا الحصر: الطائفة التى ناظر الإمام الشافعى واحداً من أتباعها واستدلوا بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (5) .

_ (1) جزء من الآية 89 من سورة النحل. (2) جزء من الآية 114 من سورة الأنعام. (3) جزء من الآية 115 من سورة الأنعام. (4) كقوله تعالى: "وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " الآية 52 من سورة الأعراف، وقوله تعالى: "كِتَابٌ فُصِّلَتْءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" الآية 3 من سورة فصلت. (5) الآية 89 من سورة النحل، وانظر: الأم كتاب جماع العلم باب حكاية قول الطائفة التى ردت الأخبار كلها 7/250.

.. وحديثاً: الدكتور توفيق صدقى (1) ، وأبو رية (2) ، ومحمد نجيب (3) ، ومصطفى كمال المهدوى (4) ، وأحمد صبحى منصور (5) ، وقاسم أحمد (6) ، وجمال البنا (7) ، ورشاد خليفة (8) .

_ (1) مجلة المنار المجلد 9/907. (2) أضواء على السنة ص 404. (3) الصلاة ص 22. (4) مصطفى كمال المهدوى: مستشارى ليبى معاصر ينكر حجية السنة النبوية، من مؤلفاته: البيان بالقرآن من جزأين. وانظر: استشهاد بالآيات السابقة فى كتابه البيان بالقرآن 1/29،10. (5) الصلاة فى القرآن ص 32، 60، 61، ولماذا القرآن ص 10. (6) إعادة تقييم الحديث 86. (7) جمال البنا: هو جمال البنا ابن العالم المحدث الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا صاحب الفتح الربانى فى ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى، وشقيق الإمام الشهيد حسن البنا المرشد الأول، من مصنفاته التى طعن فيها فى حجية السنة النبوية المطهرة، الأصلان العظيمان، وكتاب السنة ودورها فى الفقه الجديد.وانظر: استدلاله بالآيات السابقة فى كتابه السنة ودورها فى الفقه الجديد ص33. (8) رشاد خليفة: هو رشاد عبد الحليم محمد خليفة، حصل على بكالوريوس الزراعة من جامعة عين شمس، عمل خبيراً زراعياً بالولايات المتحدة الأمريكية، كان عميلاً للبهائية ويدعو إليها، وينكر حجية السنة النبوية، ادعى النبوة ومات مقتولاً داخل مسجد قريب من جامعة أريزونا حيث كان يقوم بتدريس أفكاره البهائية التى تشكك فى الإسلام، وفى حجية السنة المطهرة، انظر: قصته فى كتابى الدفاع عن السنة ص42 وما بعدها، ومسيلمة فى مسجد توسان ص 16، 70، كلاهما لأستاذنا الدكتور طه حبيشى ص16،70. ورشاد خليفة صنيعة الصليبية العالمية للدكتور خالد نعيم ص 16-59، وانظر: استدلاله بالآيات السابقة فى قرآن أم حديث ص 6، والقرآن والحديث والإسلام ص 32.

5- وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) . واستدل بهذه الآية أبو رية (2) ، ومحمد نجيب (3) . 6- وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (4) . واستدل بهذه الآية الدكتور أحمد صبحى منصور (5) ، وإسماعيل منصور (6) . 7- وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (7) واستدل بهذه الآية الدكتور إسماعيل منصور (8) . 8- وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (9) . واستدل بهذه الآية محمد نجيب (10) ، وإسماعيل منصور (11) .

_ (1) جزء من الآية 3 من سورة المائدة. (2) أضواء على السنة ص 404. (3) الصلاة ص 23. (4) الآية 19 من سورة الأنعام (5) مجلة منظور المسلم نقلاً عن مسيلمة فى مسجد توسان ص 249. (6) إسماعيل منصور: هو إسماعيل منصور جودة، تخرج من جامعة القاهرة، وحصل على العالمية فى الطب البيطرى من الجامعة، تبرأ من السنة وزعم أنها أكذوبة كبيرة وخطيرة، وداهية كبرى أريد بها التشويش على كلام الله تعالى. من مصنفاته: تبصير الأمة بحقيقة السنة، وشفاء الصدر بنفى عذاب القبر، وبلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمين. وغير ذلك، انظر: استدلاله بالآيات السابقة فى تبصير الأمة بحقيقة السنة ص11. (7) الآية 170 من سورة الأعراف. (8) تبصير الأمة بحقيقة السنة ص15. (9) الآية 51 من سورة العنكبوت. (10) الصلاة ص 22. (11) تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 10.

.. هذه الآيات الكريمات وما فى معناها؛ استدل بها دعاة الفتنة على عدم حجية السنة النبوية المطهرة، وشبهتهم فى هذه الآيات؛ أنها تبين أن القرآن تام قد حوى كل شئ، كما فى آية الأنعام "وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ"، والله عز وجل ما فرط فى الكتاب من شئ، كما فى آية الأنعام "مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ" فأتى بالعام ثم فصله تفصيلاً، كما فى آية الأنعام "وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا" وغيرها، وأتى بالمجمل ثم بينه للناس تبيناً تاماً، كما فى أية النحل "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ" فهو لا يحتاج بعد هذا البيان إلى شئ آخر، وإلا لو احتاج إلى شئ آخر لكان القرآن غير صادق فيما قال، وهذا أمر مستحيل على الله عز وجل، ومستحيل على كلامه. ... هذه هى ناصية الشبهة الأولى وجماعها، وهم يذكرون لها حشداً عظيماً من الآيات التى تؤيدها سواء كان الدليل فى موضوعه كما فى الآيات التى استشهدوا بها سابقاً، أو فى غير موضوعه كما فى باقى الآيات "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" "وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ" "وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ" "أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ". ... فهؤلاء المدلسون ما عليهم إلا أن يفتحوا المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وينقلوا منه الآيات التى يشوشون بها على المسلمين، ويضعون أمام كل آية جملة تلائمها، ولا يهمهم بعد ذلك أبقيت وحدة الموضوع بين أيديهم أم لم تبق. ... على أية حال فإن هذه هى الشبهة الأولى فى أصلها الأصيل وكلياتها التى لا تخرج عنها مهما علا الضجيج أو ارتفع الصياح (1) .

_ (1) السنة فى مواجهة أعدائها للأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 63،64 بتصرف.

.. ويقول الدكتور السباعى - رحمه الله تعالى - تتلخص حجة من يرد الأخبار كلها كما حكاه الشافعى فى قولهم: إن القرآن جاء تبياناً لكل شئ، فإن جاءت الأخبار بأحكام جديدة لم ترد فى القرآن؛ كان ذلك معارضة من ظنى الثبوت وهى الأخبار، لقطعيه – وهو القرآن – والظنى لا يقوى على معارضة القطعى، وإن جاءت مؤكدة لحكم القرآن؛ كان الاتباع للقرآن لا للسنة، وإن جاءت لبيان ما أجمله القرآن، كان ذلك تبيناً للقطعى الذى يكفر منكر حرف منه، بظنى لا يكفر من أنكر ثبوته، وهذا غير جائز. ... وربما يتبادر إلى الذهن أنهم على هذا يقبلون المتواتر من الأخبار؛ لأنها قطعية الثبوت، فكيف عمم الشافعى بقوله: "رد الأخبار كلها"؟ والذى يظهر أنهم لا يعتبرون المتواتر قطعياً أيضاً بل هو عندهم ظنى؛ لأنه جاء من طرق آحادها ظنية، فاحتمال الكذب فى رواته لا يزال قائماً ولو كانوا جمعاً عظيماً" (1) أ. هـ. والجواب عن هذه الشبهة: ... إن أعداء السنة المطهرة فهموا أن المراد من الكتاب فى قوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) القرآن، ولكن مجموع الآيات ابتداء ونهاية، يفيد أن المراد بالكتاب هنا هو اللوح المحفوظ الذى حوى كل شئ، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها وصغيرها، جليلها ودقيقها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، على التفصيل التام كما جاء فى الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وعرشه على الماء" (3) .

_ (1) السنة ومكانتها فى التشريع ص 151. (2) جزء من الآية 38 من سورة الأنعام. (3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام 8/452 رقم 2653.

.. وهذا هو المناسب لذكر هذه الجملة عقب قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (1) . والمثلية فى الآية ترشح هذا المعنى؛ لأن القرآن الكريم لم ينظم للطير حياة كما نظمها للبشر، وإنما الذى حوى كل شئ للطير والبشر، وتضمن ابتداءً ونهاية للجميع هو اللوح المحفوظ. يقول الحافظ ابن كثير: أى الجميع علمهم عند الله عز وجل، لا ينسى واحداً من جميعها، من رزقه وتدبيره سواء كان برياً أو بحرياً؛ كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2) . أى مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها وحاصر لحركاتها وسكناتها" (3) . والآية نظير قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (4) . وقوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (5) . ... وعلى هذا الأساس، ففهم أن المراد بالكتاب فى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . هو القرآن غير دقيق، ويأباه السياق العام للآية وربطها بما قبلها، وبغيرها من الآيات التى فى معناها وسبق ذكرها.

_ (1) الآية 38 من سورة الأنعام. (2) الآية 6 من سورة هود. (3) تفسير القرآن العظيم 2/131، 132، وانظر: فتح القدير للشوكانى 3/61. (4) الآية 59 من سورة الأنعام. (5) جزء من الآية 3 من سورة سبأ.

.. ومن المعلوم بداهة أن الكلمة فى اللغة العربية يكون لها أكثر من معنى، ويتحدد المعنى المراد منها من خلال سياق الكلام الذى وردت فيه، وكلمة "الكتاب" تجئ فى القرآن بمعنى الفرض، والحكم، والقدر (1) . فبمعنى القدر قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} (2) . ... يقول الحافظ ابن كثير: أى لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفى المدة التى ضربها الله له، ولهذا قال تعالى: {كتاباً مؤجلاً} . وكقوله تعالى {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} (3) . وكقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} (4) . ... وبمعنى الفرض قوله تعالى: {الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (5) قال ابن عباس أى مفروضاً (6) ، والكتاب يأتى فى القرآن الكريم تارة مراداً به اللوح المحفوظ كما سبق وأن بينا، وتارة أخرى يأتى مراداً به القرآن الكريم كما فى قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (7) . إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

_ (1) القاموس المحيط 1/120، ومختار الصحاح ص 562. (2) الآية 145 من سورة آل عمران. (3) جزء من الآية 11 من سورة فاطر. (4) الآية 2 الأنعام، وانظر: تفسير القرآن العظيم 1/410. (5) الآية 103 من سورة النساء. (6) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/550. (7) الآية الأولى من سورة إبراهيم.

.. ومع هذا فنحن نسلم لكم أن المراد من الكتاب "القرآن"، ولكننا نقول لكم: إن هذا العموم غير تام، بل هو مخصص بقول الله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) . والذى يجعلنا نذهب إلى تخصيص هذا العام أمران: 1- لتتفق آيات القرآن ولا تتعارض فى ظاهرها؛ فإن القرآن ملئ بالآيات التى فوض الله نبيه صلى الله عليه وسلم فى شرح أحكامها. 2- إن كثيراً من الأمور الجزئية فى حياة المجتمع تحتاج إلى حكم، وليس فى القرآن إلا قواعده الكلية العامة. وعلى هذا فلا بأس أن يكون الكتاب فى الآية الكريمة هو القرآن الكريم (2) . ونقول لكم: نعم لم يفرط ربنا عز وجل فى كتابه فى شئ من أمور الدين على سبيل الإجمال، ومن بين ما لم يفرط فى بيانه وتفصيله إجمالاً بيان حجية السنة وجوب اتباعها والرجوع والتحاكم إليها؛ فالقرآن جامع - دون تفريط - كل القواعد الكبرى للشريعة التى تنظم للناس شئون دينهم ودنياهم، والسنة النبوية هى المبينة لجزئياتها وتفاصيلها وهى المنيرة للناس طريق الحياة، وتنسجم هذه الآية مع الآيات الأخرى التى تؤكد بالنص أهمية السنة تجاه ما فى الكتاب من القواعد التى تحتاج إلى تخصيص أو تقييد أو توضيح أو تبيين ... إلخ (3) .

_ (1) الآية 64 من سورة النحل. (2) انظر: البحر المحيط فى أصول الفقه للزركشى 1/441. (3) انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 384، 385، والسنة بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى 18-24.

.. وهنا نأتى للرد على الآيات الأخرى التى استدلوا بها على أن القرآن أنزل مفصلاً وتبياناً لكل شئ، فلا يحتاج بعد هذا البيان إلى السنة المطهرة. أما قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} (1) . وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) . ... فالمراد بالتفصيل والبيان هنا: تفصيل وبيان كل شئ من أحكام هذا الدين كقواعد كلية مجملة، أما تفاصيل تلك القواعد وما أشكل منها؛ فالبيان فيها راجع إلى السنة النبوية قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) فقاعدة وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتحاكم إلى سنته المطهرة من القواعد الكلية المجملة لهذا الدين، وفصلها ربنا عز وجل فى كتابه العزيز كما فى الآية السابقة. وقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (4) يقول ابن كثير فى تفسير قوله تعالى {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} عن ابن مسعود (5) رضي الله عنه قال: قد بين لنا فى هذا القرآن كل علم وكل شئ وقال مجاهد (6)

_ (1) جزء من الآية 114 من سورة الأنعام. (2) جزء من الآية 89 من سورة النحل. (3) الآية 44 من سورة النحل. (4) الآية 64 من سورة النحل. (5) ابن مسعود: هو عبد الله بن مسعود صحابى جليل. له ترجمة فى: الاستيعاب 3/987 رقم1659، واسد الغابة 3/381 رقم 3182، وتاريخ الصحابة ص 149 رقم 718، وتذكرة الحفاظ 1/13 رقم 5، وطبقات الحفاظ ص 14 رقم6، وتجريد أسماء الصحابة 1/334، ومشاهير علماء الأمصار ص 16 رقم 21، والإصابة 2/360 رقم 4969. (6) مجاهد: هو مجاهد بن جبر، بفتح الجيم، وسكون الموحدة، أبو الحجاج المخزومى مولاهم، المكى، ثقة، إمام فى التفسير، والعلم، مات سنة 104هـ وقيل قبل ذلك. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/159 رقم 6501، وتذكرة الحفاظ 1/92 رقم 83، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص42 رقم 81، والثقات للعجلى ص420 رقم 1538، والثقات لابن حبان 5/419، وطبقات المفسرين للداودى 2/305 رقم 617.

: كل حلال وحرام، وقول ابن مسعود أعم وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتى، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون فى أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم - وقال الأوزاعى: "تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ" أى بالسنة (1) . ... ولا تعارض بين القولين - ابن مسعود والأوزاعى - فابن مسعود يقصد العلم الإجمالى الشامل، والأوزاعى يقصد تفصيل وبيان السنة لهذا العلم الإجمالى. ... ومن هنا؛ فالقول بأن القرآن الكريم تبيانٌ لكل شئ قول صحيح فى ذاته بالمعنى الإجمالى السابق ولكن الفساد فيما بنوه عليه من الاستغناء عن السنة والاكتفاء بالقرآن ليؤولوه حسب أهوائهم. وإلا فرب العزة هو القائل فى نفس سورة النحل وقبل هذه الآية قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (2) .

_ (1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/582. (2) الآيتان 38، 39 من سورة النحل.

.. وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقال تعالى: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) فتلك ثلاث آيات كريمات فى نفس سورة النحل وسابقة لآية {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} والثلاث آيات تسند صراحة مهمة البيان والتفصيل إلى النبى صلى الله عليه وسلم صاحب السنة المطهرة، فهل يعقل بعد ذلك أن يسلب الله عز وجل هذه المهمة - البيان، التى هى من مهام الرسل جميعاً كما قال عز وجل {أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (3) . وقال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (4) . ويوقع التناقض بآية {الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} . إن كل الرافضين لحجية السنة، لابد أن يلتزموا بهذه النتيجة التى تعود بالنقض على الإيمان بالكتاب، وبمن أنزل الكتاب جل جلاله، سواء أقروا بلسانهم بهذا النقض أم لا، وتنبهوا إلى ذلك أم لا؟!!

_ (1) الآية 44 من سورة النحل. (2) الآية 64 من سورة النحل. (3) الآية 4 من سورة إبراهيم. (4) الآية 187 من سورة آل عمران.

.. ويجدر بنا أن نشير إلى نصوص لبعض العلماء تؤكد الذى قلناه فى معنى البيان الوارد فى الآية التى استشهدوا بها يقول الإمام الشاطبى (1) : "تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلى لا جزئى، وحيث جاء جزئياً فمأخذه على الكلية، إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل، إلا ما خصه الدليل مثل خصائص النبى صلى الله عليه وسلم. ويدل على هذا المعنى - بعد الاستقراء المعتبر - أنه محتاج إلى كثير من البيان، فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هى بيان للكتاب كما سيأتى شرحه إن شاء الله تعالى. ... وقد قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وإذا كان الأمر كذلك فالقرآن على اختصاره جامع، ولا يكون جامعاً إلا والمجموع فيه أمور كليات لأن الشريعة تمت بتمام نزوله؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم يتبين جميع أحكامها فى القرآن، إنما بينتها السنة، وكذا تفاصيل الشريعة من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود، وغير ذلك.

_ (1) الإمام الشاطبى: هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطى الشهير بالشاطبى، العلامة المؤلف النظار المفسر الأصولى اللغوى المحدث الورع الزاهد، له تأليف نفيسة منها: الموافقات فى أصول الفقه، والاعتصام فى الحوادث والبدع، توفى سنة790هـ. له ترجمة فى: شجرة النور الزكية محمد مخلوف ص 231 رقم 828، والمجددون فى الإسلام عبد المتعال الصعيدى ص 305، والفتح المبين عبد الله المراغى 2/204، وأصول الفقه تاريخه ورجاله للدكتور شعبان إسماعيل ص 384. (2) الآية 44 من سورة النحل. (3) جزء من الآية 3 من سورة المائدة.

.. فعلى هذا لا ينبغى فى الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر فى شرحه وبيانه وهو السنة؛ لأنه إذا كان كلياً وفيه أمور كلية كما فى شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها فلا محيص عن النظر فى بيانه، وبعد ذلك ينظر فى تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة، فإنهم أعرف به من غيرهم، وإلا فمطلق الفهم العربى لمن حصله يكفى فيما أعوز من ذلك، فبيان الرسول صلى الله عليه وسلمبيان صحيح لا إشكال فى صحته؛ لأنه لذلك بعث، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) ولا خلاف فى هذا البيان النبوى (2) . ... ويقول الدكتور إبراهيم محمد الخولى: "التبيين" هنا غير "التبليغ" الذى هو الوظيفة الأولى للنبى صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (3) ، و"التبيين" و "التبليغ" وظيفتان موضوعهما واحد هو "القرآن العظيم" عبر عنه فى آية "التبليغ" بهذا اللفظ: "ما أنزل إليك" وعبر عنه فى آية التبيين بلفظ مختلف: "ما نزل إليهم" وبينهما فروق لها دلالتها، مردها إلى الفروق بين الوظيفتين "فالتبليغ" تأدية النص؛ تأدية "ما أنزل" كما "أنزل" دون تغيير ما على الإطلاق، لا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير … ... و "التبيين" إيضاح، وتفسير، وكشف لمراد الله من خطابه لعباده، كى يتسنى لهم إدراكه، وتطبيقه، والعمل به على وجه صحيح. ... و "التبليغ" مسئولية "المبلغ" وهو المؤتمن عليها، وهذا سر التعبير: "وأنزلنا إليك" حيث عدى الفعل "أنزل" بـ "إلى" إلى ضمير النبى صلى الله عليه وسلم، المخاطب.

_ (1) الآية 44 من سورة النحل. (2) الموافقات للشاطبى 3/274 - 276، 300، 301، 330 - 338 بتصرف يسير. (3) الآية 67 من سورة المائدة.

.. و "التبيين": مهمة، فرضتها حاجة الناس لفهم ما خوطبوا به، وبُلَّغوه، وإدراك دلالته الصحيحة، ليطبقوه تطبيقاً صحيحاً. ... ومن هنا كانت المخالفة فى العبارة … "ونزل إليهم" … حيث عدى الفعل "نزل" بـ (إلى) مضافاً إلى الضمير "هم" … أى الناس، وعُدِّى الفعل "لتبين" إلى الناس بـ "اللام" أن كانت حاجتهم إلى "التبيين" هى السبب والحكمة من ورائه، وهى توحى بقوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بحاجة إلى ما احتاج إليه الناس من هذا التبيين، ولعمرى إنه لكذلك…، فقد أوحى إليه بيانه وألهمه، فالتقى فى نفسه "البيان" و "المبين" معاً، وأصبح مؤهلاً لأن يقوم بالوظيفتين: وظيفة البلاغ، ووظيفة التبيين على سواء …، واختلاف الناس فى فهم القرآن ما بين مصيب ومخطئ واختلافهم فى فهم درجات الإصابة، ودركات الخطأ … برهان بين على حاجتهم إلى "تبيين" لكتاب ربهم، ينهض به إمام الموقعين عن رب العالمين (1) . ... ويقول الإمام الشافعى: "والبيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع: فجماع ما أبان الله عز وجل لخلقه فى كتابه، مما تعبدهم به، لما مضى من حكمه جل ثناؤه من وجوه: 1- منها ما أبانه لخلقه نصاً مثل إجمال فرائضه فى أن عليهم صلاة، وزكاة، وحجاً، وصوماً، وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص على الزنا، والخمر، وأكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وبين لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك مما بين نصاً "إجمالياً". 2- ومنها ما أحكم فرضه بكتابه، وبين كيف هو على لسان نبيه مثل عدد الصلاة، والزكاة ووقتها، إلى غير ذلك من فرائضه التى أنزلها فى كتابه عز وجل.

_ (1) السنة بياناً للقرآن للدكتور إبراهيم محمد الخولى ص4، 5، 13، 47-69.

3- ومنها ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نص محكم، وقد فرض الله فى كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل (1) . تعليق: ... مما سبق من قول الإمامين الشاطبى والشافعى يتأكد ما ذكرناه فى أن المراد من معنى البيان والتفصيل الوارد فى الآيات التى استشهد بها أعداء السنة المطهرة؛ بيان وتفصيل القرآن لكل شئ من أحكام هذا الدين كقواعد كلية مجملة، ومن بين تلك القواعد التى فصلها وبينها ربنا عز وجل؛ وجوب اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إلى سنته المطهرة (2) ، ففى تلك السنة المطهرة إيضاح هذه القواعد وتفصيلها، فجاءت السنة موافقة ومؤكدة للقرآن، ومخصصة لعامه، ومقيدة لمطلقه، ومفصله لمجمله، وموضحة لمشكله، ومستقلة بتشريع أحكام دون سابق ذكر لها فى كتاب الله عز وجل كما سيأتى مفصلاً فى المبحث الثالث. ... يقول الإمام الشاطبى: "القرآن فيه بيان كل شئ على ذلك الترتيب المتقدم؛ فالعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة ولا يعوزه منها شئ؛ فهو أساس التشريع، وإليه ترجع جميع أحكام الشريعة الإسلامية، والتى منها السنة النبوية، فهى حاصلة فيه فى الجملة، والدليل على ذلك أمور:

_ (1) الرسالة للشافعى ص 20،22. (2) انظر: البحر المحيط للزركشى 1/441.

1- منها: النصوص القرآنية، كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3) وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (4) وأشباه ذلك من الآيات الدالة على أنه هدى وشفاء لما فى الصدور، ولا يكون شفاء لجميع ما فى الصدور إلا وفيه تبيان كل شئ (5) .

_ (1) الآية 3 من سورة المائدة. (2) الآية 89 من سورة النحل. (3) الآية 38 من سورة الأنعام. (4) الآية 9 من سورة الإسراء. (5) الموافقات 3/333، 334 بتصرف يسير.

2- ومنها: ما جاء فى الأحاديث والآثار المؤذنة بذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله" (1) . وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب؛ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "هَلْمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده". فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله (2) ، وأشباه هذا مما روى مرفوعاً وموقوفاً بالاقتصار على القرآن فقط. ... يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - الاقتصار على الوصية بكتاب الله؛ لكونه أعظم وأهم؛ ولأن فيه تبيان كل شئ إما بطريق النص، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم به لقوله تعالى: {ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) . وكلام الحافظ ابن حجر السابق نقله مبتوراً الأستاذ جمال البنا فقال: "التمسك بالقرآن والعمل بمقتضاه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله". وترك جمال البنا، بيان أن العمل بالقرآن الكريم يقتضى العمل بالسنة المطهرة كما صرح ابن حجر (4) .

_ (1) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الحج، باب حجة النبى صلى الله عليه وسلم 4/431، 432 رقم 1218 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شئ6/100 رقم1638 (3) جزء من الآية 7 من سورة الحشر، وانظر: فتح البارى 5/425، 426 رقم 2740 حديث عبد الله بن أبى أوفى رضي الله عنه. (4) السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 246.

المطلب الثانى:شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها

وهذا ما فعله أيضاً الدكتور أحمد صبحى منصور فى كتابه "حد الردة" نقل كلام الحافظ بن حجر الذى نقلناه، وبتر منه لفظة النبى صلى الله عليه وسلم فصارت العبارة: "فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به" (1) أ. هـ. … وفى هذا الجواب الأخير تعلم الجواب عن باقى الآيات التى استشهد بها أعداء السنة على الاكتفاء بالقرآن، وعدم حجية السنة، للاقتصار على ذكر القرآن فقط، والوصية به كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) . وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} (3) . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} (4) . وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} (5) وقوله تعالى {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (6) . وأشباه هذه الآيات الكريمة التى ورد الاقتصار فيها على الوصية بكتاب الله عز وجل، وما ذلك إلا كما علمنا، أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه فى الشرائع والأحكام واتباعه، والعمل بما فيه عمل بالسنة النبوية المستمدة حجيتها ومصدرتيها التشريعية منه. فهى من الوحى الغير متلو، والوحى ذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن فى قوله تعالى: {نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (7) وهذا ما أنكره أعداء السنة … فإلى بيان شبهتهم والرد عليها. المطلب الثانى:شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها والرد عليها

_ (1) حد الردة ص 89. (2) جزء من الآية 3 من سورة المائدة. (3) جزء من الآية 115 من سورة الأنعام. (4) جزء من الآية 170 من سورة الأعراف. (5) جزء من الآية 51 من سورة العنكبوت. (6) جزء من الآية 19 من سورة الأنعام. (7) الآية 9 من سورة الحجر.

.. زعم أعداء السنة المطهرة أن الله تعالى تكفل بحفظ القرآن دون السنة، واحتجوا لذلك بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) وقالوا: لو كانت السنة حجة ووحياً مثل القرآن؛ لتكفل الله عز وجل بحفظها؛ كما تكفل بحفظ القرآن الكريم. ... وممن ذهب إلى ذلك؛ الدكتور توفيق صدقى (2) ، وإسماعيل منصور (3) ، وأيدهما جمال البنا (4) ، وذهب إلى ذلك أيضاً فرقة (أهل القرآن) بالهند وباكستان (5) . الجواب: ... مما لا شك فيه أن منشأ هذه الشبهة فى كلمة (الذكر) حيث اقتصر فهم المنكرين لحجية السنة المطهرة على أن المراد بكلمة الذكر فى الآية هو "القرآن الكريم" وحده دون السنة، وأن الضمير فى قوله تعالى "له" عائد على القرآن، وأن الآية فيها حصر بتقديم الجار والمجرور وهذا الحصر يفيد عندهم قصر الحفظ على القرآن وحده دون ما عداه (6) . ... ونقول رداً على ذلك: إن رب العزة قد تكفل بحفظ ما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك الكتاب الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، والعقل، والتاريخ (7) . أولاً: أما الدليل من كتاب الله عز وجل على تكفل الله بحفظ السنة كما تكفل بحفظ كتابه الكريم:

_ (1) الآية 9 من سورة الحجر. (2) مجلة المنار المجلد 9/911 - 913. (3) تبصير الأمة بحقيقة السنة 23. (4) السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 33 وما بعدها. (5) مقام الحديث ص 6-18 نقلاً عن دارسات فى الحديث النبوى للدكتور محمد الأعظمى 1/32، وانظر القرآنيون وشبهاتهم حول السنة للدكتور خادم بخش ص 99. (6) السنة بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى ص25. (7) خلافاً لما زعمه الدكتور إسماعيل منصور فى تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 256.

1- قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) ، يقول فضيلة الأستاذ الدكتور محمد السيد ندا فى الآية الكريمة إخبار من الله تعالى: بأن السنة مبينة للقرآن، وقد تكفل الله بحفظه فى قوله تعالى: {نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) . فيلزم من هذا أن يكون قد تكفل أيضاً بحفظ السنة؛ لأن حفظ المبين يستلزم حفظ البيان للترابط بينهما.

_ (1) الآية 44 من سورة النحل. (2) الآية 9 من سورة الحجر.

2- وقال تعالى: {عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (1) . فإنه نص صريح يدل على أن الله قد تكفل بحفظ السنة على وجه الأصالة والاستقلال لا على طريق اللزوم والتتبع؛ لأنه تكفل فيه ببيان القرآن فى قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . أى بيان القرآن، والبيان كما يكون للنبى صلى الله عليه وسلم يكون لأمته من بعده. وهو يكون للنبى صلى الله عليه وسلم بالإيحاء به إليه ليبلغه للناس، وهو المراد فى الآية السابقة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وقوله تعالى: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (3) فالسنة النبوية على هذا منزلة من عند الله عز وجل (بوحى غير متلو) وفى هذا رد على ما زعمه الدكتور إسماعيل منصور؛ بأن البيان للذكر لم ينزل مع الذكر (القرآن) وإلا لكان النص على نحو: "وأنزلنا إليك الذكر وبيانه" (4) . ويكون البيان للأمة من بعده صلى الله عليه وسلم بحفظ السنة التى بلغهم النبى صلى الله عليه وسلم إياها. ... ولو شغب مشاغب بأن هذا الخطاب:"عَلَيْنَا بَيَانَهُ" متوجه إلى الله عز وجل فقط دون الأمة وإلا قال عز وجل:"عليكم بيانه" لما أمكنه هذا الشغب فى قوله عز وجل: {عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ} فمن الذى جمع القرآن الكريم؟! الله عز وجل بذاته المقدسة؟ أم قيض لذلك رجالاً من خلقه وعلى رأسهم من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام فمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؟!

_ (1) الآيات 17-19 من سورة القيامة. (2) الآية 44 من سورة النحل. (3) الآية 64 من سورة النحل. (4) تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 260.

فإن أجاب بالأولى، استغنى بجهله هذا عن مناظرته، وإن أجاب الثانية؛ بطل قوله بأن بيان الكتاب متوجه إلى الله عز وجل فى كتابه فقط وليس إلى نبيه صلى الله عليه وسلموإلى الأمة من بعده. وفى ذلك رد على ما زعمه الدكتور إسماعيل منصور بأن حفظ الرجال للسنة يجعلهم يتساوون مع الله عز وجل فى القدرة بحفظه كتابه عز وجل، فتستوى بذلك قدرة الله وقدرة المخلوقين (1) . ... يقول فضيلة الدكتور محمد السيد ندا: "فهذان دليلان على أن الله تكفل بحفظ السنة كما تكفل بحفظ القرآن، وتحقيقاً لهذا الوعد الكريم من الله عز وجل هيأ الأسباب لحفظها، والذود عن حياضها؛ فأثار فى نفوس المسلمين عوامل المحافظة عليها، والدفاع عنها؛ فكانت موضع اهتمامهم ومحل تقديرهم ورعايتهم منذ أن أشرقت شمسها إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (2) . 3- ويذكر الإمام ابن حزم دليلاً ثالثاً من كتاب الله على تكفله جل علاه بحفظ السنة فى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3) .

_ (1) المصدر السابق ص 258، 288، 289. (2) المؤتمر العالمى الرابع للسيرة والسنة 2/531، 532 بتصرف. (3) الآية 59 من سورة النساء.

.. يقول الإمام ابن حزم: "هذه الآية الكريمة جامعة لجميع الشرائع أولها عن آخرها، وذكرت أصولاً ثلاثة وهى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} . فهذا أصل وهو القرآن، ثم قال تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه، وصح لنا بنص القرآن، أن الأخبار هى أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . والبرهان على أن المراد بهذا الرد؛ إنما هو إلى القرآن، والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا، وإلى كل من يخلق ويركب روحه فى جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس؛ كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق، وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى لو شغب مشاغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكنه لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمكنه هذا الشغب فى الله عز وجل، إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى؛ فبطل هذا الظن، وصح أن المراد بالرد المذكور فى الآية التى نصصنا إنما هو إلى كلام الله تعالى، وهو القرآن وإلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم المنقول على مرور الدهر إلينا جيلاً بعد جيل، وأيضاً فليس فى الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلاً، ولا دليل عليه، وإنما فيه الأمر بالرد فقط، ومعلوم بالضرورة؛ أن هذا الرد إنما هو تحكيم أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم دون تكلف تأويل ولا

مخالفة ظاهر. ... والقرآن والخبر الصحيح بعض من بعض وهما شئ واحد فى أنهما من عند الله تعالى، وحكمها حكم واحد فى باب وجوب الطاعة لهما للآية المذكورة وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (1) . ... وكلام النبى صلى الله عليه وسلم كله وحى لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) . والوحى ذكر بإجماع الأمة كلها، والذكر محفوظ بالنص قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله فى الدين وحى من عند الله عز وجل؛ لا شك فى ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة فى أن كل وحى نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل. فالوحى كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه؛ فمضمون ألا يضيع منه، وألا يحرفٍ منه شئ، أبداً تحريفاً لا يتأتى البيان ببطلانه، إذ لو جاز غير ذلك؛ لكان كلام الله تعالى كذباً وضمانه خائساً، وهذا لا يخطر ببال ذى مسكة عقل، فوجب أن الدين الذى أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولى الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتى أبداً إلى انقضاء الدنيا قال تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (4) فإذا كان ذلك كذلك؛ فبالضرورى نتيقن أنه لا سبيل ألبته إلى ضياع شئ قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز عند أحد من الناس بيقين، إذ لو جاز ذلك؛ لكان الذكر غير

_ (1) الآيتان 20، 21 من سورة الأنفال. (2) الآيتان 3، 4 من سورة النجم. (3) الآية 9 من سورة الحجر. (4) الآية 19 من سورة الأنعام.

محفوظ، ولكان قول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) .كذباً ووعداً مخلفاً، وهذا لا يقوله مسلم ... فإن قال قائل: "إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده، فهو الذى ضمن تعالى حفظه دون سائر الوحى الذى ليس قرآناً. قلنا له وبالله تعالى التوفيق: "هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (2) فصح أنه لا برهان له على دعواه، فليس بصادق فيها، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحياً يبين بها القرآن، وأيضاً فإن الله تعالى يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) فصح أنه عليه الصلاة والسلام مأمور ببيان القرآن للناس. ... وفى القرآن مجمل كثير؛ كالصلاة، والزكاة، والحج، وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، ولكن بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان بيانه – عليه الصلاة والسلام – لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه؛ فقد بطل الانتفاع بنص القرآن، فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه، لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها، وما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب، ومعاذ الله من هذا (4) .

_ (1) الآية 9 من سورة الحجر. (2) الآية 111 من سورة البقرة. (3) الآية 44 من سورة النحل. (4) الأحكام فى أصول الأحكام لابن حزم 1/96، 117، 118 بتصرف يسير.

4- ويذكر الإمام ابن قيم الجوزية: دليلاً رابعاً من كتاب الله عز وجل على تكفله -جل جلاله- بحفظ السنة فى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2) . وقال تعالى: {الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) . ... يقول ابن قيم الجوزية: فنقول لمن جوز أن يكون ما أمر الله به نبيه من بيان شرائع الإسلام غير محفوظ، وأنه يجوز فيه، التبديل، وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطاً لا يتميز أبداً، أخبرونا عن إكمال الله تعالى لنا ديننا، ورضاه الإسلام لنا ديناً، ومنعه من قبول كل دين سوى الإسلام. أكل ذلك باق علينا ولنا وإلى يوم القيامة؟ أم إنما كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط؟ أولا للصحابة ولا لنا؟ ولابد من أحد هذه الوجوه. ... فإن قالوا: لا للصحابة ولا لنا؛ كان قائل هذا القول كافراً لتكذيبه الله جهاراً، وهذا لا يقوله مسلم. وإن قالوا: بل كل ذلك لنا وعلينا وإلى يوم القيامة؛ صاروا إلى قولنا ضرورةً، وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة والنعمة بذلك علينا تامة. ... وهذا برهان ضرورى وقاطع على أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الدين، وفى بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به ما ليس منه أبداً.

_ (1) الآية 3 من سورة المائدة. (2) الآية 85 من سورة آل عمران. (3) الآية 19 من سورة آل عمران.

.. وإن قالوا: بل كان ذلك للصحابة فقط، قالوا: الباطل، وخصصوا خطاب الله بدعوى كاذبة، إذ خطابه تعالى بالآيات الكريمة التى ذكرها عموم لكل مسلم فى الأبد، ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين الإسلام غير كامل عندنا، والله تعالى رضى لنا منه ما لم يحفظه علينا وألزمنا منه ما لا ندرى أين نجده، وافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة. ووضعوه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيهم صلى الله عليه وسلم - وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام، بل هو إبطال لدين الإسلام جهاراً، ولو كان هذا - ومعاذ الله أن يكون - لكان ديننا؛ كدين اليهود والنصارى الذين أخبر الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله. ... ونحن قد أيقنا بأن الله تعالى هو الصادق فى قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (1) وأنه تعالى قد هدانا للحق، فصح يقيناً أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، هدانا الله تعالى له، وأنه حق مقطوع به حفظه الله تعالى، وقد قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (2) .

_ (1) الآية 213 من سورة البقرة. (2) الآية 43 من سورة فاطر.

.. وقال تعالى: {تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (1) . فلو جاز أن يكون ما نقله الثقات الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به والقول بأنه سنة الله وبيان نبيه يمكن فى شئ منه التحويل أو التبديل؛ لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لها تبديل ولا تحويل كذباً، وهذا لا يجيزه مسلم أصلاً؛ فصح يقيناً لا شك فيه أن كل سنة سنها الله عز وجل لرسوله، وسنها رسوله لأمته، لا يمكن فى شئ منها تبديل ولا تحويل أبداً، وهذا يوجب أن نقل الثقات فى الدين؛ يوجب العلم بأنه حق كما هو من عند الله عز وجل (2) أ. هـ. ثانياً: أما الدليل من السنة النبوية الصحيحة على تكفل الله عز وجل بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (3) وقوله صلى الله عليه وسلم "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما؛ كتاب الله وسنتى، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض" (4) .

_ (1) الآية 64 من سورة يونس. (2) مختصر الصواعق المرسلة 2/543، 544. (3) سبق تخريجه ص 38. (4) سبق تخريجه ص 196، كما سبق أن ذكرت أن ما ورد فى الصحيحين بالاقتصار على الوصية بالكتاب محمول كما قال الحافظ ابن حجر "لكونه أعظم وأهم واتباع الناس لما فيه عمل بكل ما أمرهم به النبى صلى الله عليه وسلم فى سنته المطهرة.

.. ففى هذه الأحاديث وغيرها - مما سيأتى فى المبحث الثالث يخبر النبى صلى الله عليه وسلم؛ أن له سنة مطهرة تركها لأمته، وحثهم على التمسك بها، والعض عليها بالنواجذ؛ ففى اتباعها الهداية، وفى تركها الغواية، فلو كانت سنته المطهرة غير محفوظة، أو يمكن أن يلحقها التحريف والتبديل؛ فلا يتميز صحيحها من سقيمها، ما طالب أمته بالتمسك بها من بعده، فيكون قوله مخالفٌ للواقع، وهذا محال فى حقه صلى الله عليه وسلم فأمره بالتمسك بها، يدل على أنها ستكون محفوظة تأكيداً لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) . فدل ذلك على إخبار بالغيب صادق فى الواقع. ثالثاً: الدليل العقلى على تكفل رب العزة بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم: ... يقول الدكتور رءوف شلبى: "ليس بلازم فى الاحتمالات العقلية أن يكون المراد من الذكر القرآن الكريم وحده، لأمرين: 1- أنه لو كان المراد من الذكر القرآن الكريم وحده؛ لصرح المولى عز وجل به باللفظ، كما صرح به فى كثير من الموضوعات كما فى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) . وقوله تعالى: {هُوَ قُرْءَانٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (3) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ} (4) .

_ (1) الآية 9 من سورة الحجر. (2) الآية 9 من سورة الإسراء. (3) الآيتان 21، 22 من سورة البروج. (4) الآية 17 من سورة القمر.

2- لو كان المراد بالذكر القرآن لعبر عنه بالضمير {إنا نحن نزلناه} إذ افتتاح السورة فيه نص وذكر للقرآن {تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُبِينٍ} (1) والتعبير بالضمير فى نظر اللغة أجود؛ لأن العلم فى المرتبة الثانية من الضمير، إذ هو أعرف المعارف، وهو عمل يتفق مع منزلة القرآن، وتعتمده الصناعة الإعرابية. ... وإذن: فليس بالحتم أمام فهم العقل أن يكون المراد من الذكر هو القرآن فقط دون غيره، بل إن تفسير الذكر بالقرآن فقط احتمال بعيد فى نظر العقل؛ لعدم وجود مرشح لهذا التفسير يقوى على مواجهة الأمرين السالفين اللذين يقويان بالمنزلة والعرف النحوى. وإنه لأقرب من هذا التفسير أحد الاحتمالين: الأول: أن يكون المراد من الذكر الرسالة والشرف الذى استحقه الرسول صلى الله عليه وسلم واتصف به بنزول النبوة والقرآن عليه، ويقوى عندنا هذا الاحتمال أمام نظر العقل افتتاحة سورة "الحجر" حيث صورت مقالات الكافرين المعتدين على النبوة بأوصاف مفتراه ذكرها رب العزة فى كتابه حكاية على لسانهم {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) . ... فالآيتان الأوليان تصوران اتهامات الكافرين الكاذبة، والآيتان التاليتان ترد على هذه الاتهامات، وتعد بحفظ الرسالة والشرف الذى نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) الآيات الأولى من سورة الحجر، وانظر: شفاء الصدور فى تاريخ السنة ومناهج المحدثين للدكتور السيد محمد نوح 1/80. (2) الآيات 6 -9 من سورة الحجر.

.. ويرشح لهذا الاحتمال قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (1) فعود الضمير فى الآية "إنه" على ما ذكر قبلاً فى قوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} (2) دليل على أن التصريح به مراد الشرف، لا سيما ومن قبل ذلك قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (3) . فذكر القرآن بالنص أولاً، وذكره بالوحى ثانياً، ووصف ذلك بأنه ذكر للنبى صلى الله عليه وسلم ولقومه، مما يقوى الاحتمال العقلى، أن المراد من الذكر فى سورة الحجر هو الرسالة والشرف. الثانى: أن يكون المراد من الذكر الشريعة مطلقاً، ويرشح لهذا الاحتمال ما تناولته السورة بعد الآية التى معنا فى ذكر موقف الأمم السابقة مع رسلهم، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} (4) . ... والأنبياء يكلفون الأمم بالشرائع، والشريعة: كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والذى يستعرض حالات الأمم مع الأنبياء يقف أن محاجاة الكافرين مع الرسل، تدور كلها حول التكليف الذى مصدره ما ينزله الله بالوحى المعبر عنهما بالكتاب والسنة؛ فالسنة ليست من المسائل الخاصة بالنبى صلى الله عليه وسلم، كما سنبينه فى المبحث الثالث إن شاء الله تعالى.

_ (1) الآية 44 من سورة الزخرف. (2) الآية 43 من سورة الزخرف. (3) الآية 31 من سورة الزخرف. (4) الآيات 10-13 من سورة الحجر.

.. وتكون الآية التى معنا قد نبهت على أمر خطير: هو أنه إذا كان الأمر فى الأمم السالفة ينتهى إلى إلغاء الشريعة بعد معارك عنيفة بين الرسل وأممهم؛ فإن هذه الشريعة قرآناً وسنة سيحفظها رب العزة إلى قيام الساعة من كيد أعدائه وأعداء دينه كما وعد فى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) . ... وعلى ذلك فإن الذكر فى الآية مراد به الشريعة، ويكون الضمير فى قوله "له" عائد على الشريعة بمصدريها الأساسين القرآن الكريم، والسنة المطهرة (2) . قلت: ومما يرشح لهذا الاحتمال الثانى: تفسير الإمام الشاطبى للحفظ المضمون فى الآية الكريمة؛ بأنه حفظ أصول الشريعة وفروعها فيقول: "من العلم ما هو من صلب العلم، ومنه ما هو ملح العلم لا من صلبه، ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه. فهذه ثلاثة أقسام: ... القسم الأول: هو الأصل والمعتمد، والذى عليه مدار الطلب، وإليه تنتهى مقاصد الراسخين وذلك ما كان قطيعاً أو راجعاً إلى أصل قطعى. والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة فى أصولها وفروعها؛ كما قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) ؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التى بها يكون صلاح الدارين: وهى الضروريات والحاجيات، والتحسينات وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها وهى أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعى على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها، فلا إشكال فى أنها علم أصل، راسخ الأساس، ثابت الأركان (4) .

_ (1) الآية 9 من سورة الحجر. (2) السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى ص25-29 بتصرف. (3) الآية 9 من سورة الحجر. (4) الموافقات للشاطبى 1/32، 70، 2/368 - 371.

.. يقول الدكتور رءوف شلبى: "لكن بقى أن يقال: كيف يعود الضمير على القرآن والسنة معاً، ولم يذكر إلا القرآن وحده؟ ولكننا نجد فى القرآن الكريم نفسه استعمالاً للضمير استناداً على ما يفهم من السياق، ومدلولات الحديث، يشهد لهذا قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا} (1) . فتلك صفات الحور العين مع أنه لم يجر لهم ذكر فى قسم أصحاب اليمين فى سورة الواقعة، ولكن السياق العام للسورة وما ذكر فى الأقسام السابقة يجعل الذهن يدرك أن الضمير عائد على أمر مفهوم الفحوى والسياق والأسلوب. ... كذلك يقوى هذه الشهادة فى استعمال القرآن الضمير على ما يستند على الأسلوب النحوى، قوله تعالى: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (2) . ففى قوله: "توارت" ضمير فاعل يعود على الشمس مع أنه لم يجر لها ذكر فى السورة بالنص، ولكن السياق العام يجعل الذهن يدرك أن الضمير عائد على الشمس. وما معنا فى آية الحجر من هذا القبيل والكل استعمال قرآنى تزكيه اللغة، ويقويه الإعراب القرآنى، فليس هناك وجه للاعتراض، وعليه يسلم تفسير الذكر بالشريعة قرآناً وسنة (3) .

_ (1) الآيات 35 - 37 من سورة الواقعة. (2) الآية 32 من سورة ص. (3) السنة بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين ص 29، 30.

.. قلت: وفيما سبق رد على ما زعمه كذباً الدكتور إسماعيل منصور بأنه: "لو كانت السنة من الذكر الذى نزله الله تعالى؛ للزم بيان ذلك الحكم صراحة، ولما صح إبهامه حتى يأتى من باب التأويل "الفاسد" الذى لا يصح بأى حال! فضلاً عن أن الذكر قد ورد صراحة فى القرآن الكريم، ليدل على أنه القرآن الكريم وحده دون منازع - كما فى قوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (1) . وقوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (2) وغير ذلك من الآيات التى استدل بها على أن الذكر هو القرآن الكريم وحده (3) . ونسلم لكم أيها المعاندون لحجية السنة أن المراد بالذكر؛ هو القرآن الكريم وحده، وأن الضمير فى قوله تعالى: "له" عائد على القرآن المراد منه الذكر، ولكن الحصر الذى تستدلون به على أن السنة النبوية لم تدخل فى دائرة الحفظ لقصره على القرآن فقط، وترتبون على هذا الحصر عدم صحة الاحتجاج بالسنة، وأنها ليست مصدراً من مصادر التشريع. ... هذا الحصر ليس حصراً حقيقياً؛ بل هو حصر إدعائى، والدليل على ذلك؛ أن رب العزة قد حفظ أشياء كثيرة مما عداه منها: 1- حفظه جل جلاله للسماوات والأرض أن تزولا كما قال عز وجل {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (4) .

_ (1) الآية 50 من سورة الأنبياء. (2) الآية 58 من سورة آل عمران. (3) انظر: تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 23 - 25، 256 وما بعدها. (4) الآية 41 من سورة فاطر.

2- حفظه جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم من القتل كما قال عز وجل: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (1) . وإذا فسدت حقيقة القصر؛ فقد فسد المترتب عليها: وهو عدم الاعتراف بحجية السنة المطهرة (2) . ... يقول الدكتور عبد الغنى عبد الخالق (3) : "والحصر الإضافى بالنسبة إلى شئ مخصوص، يحتاج إلى دليل وقرينة على هذا الشئ المخصوص، ولا دليل عليه سواء أكان سنة أم غيرها. ... فتقديم الجار والمجرور ليس للحصر، وإنما هو لمناسبة رؤوس الآى. بل: لو كان فى الآية حصر إضافى بالنسبة إلى شئ مخصوص: لما جاز أن يكون هذا الشئ هو السنة؛ لأن حفظ القرآن متوقف على حفظها، ومستلزم له بما أنها حصنه الحصين، ودرعه المتين، وحارسه الأمين، وشارحه المبين؛ تفصل مجمله، وتفسر مشكله، وتوضح مبهمه، وتقيد مطلقه، وتبسط مختصره، وتدفع عنه عبث العابثين، ولهو اللاهين، وتأويلهم إ ياه على حسب أهوائهم وأغراضهم، وما يمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم. فحفظها من أسباب حفظه، وصيانتها صيانة له. ... ولقد حفظها الله تعالى كما حفظ القرآن فلم يذهب منها - ولله الحمد - شئ على الأمة؛ وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة" (4) . رابعاً: الدليل التاريخى على تكفله جل جلاله بحفظ السنة كما تكفل بحفظ القرآن الكريم:

_ (1) جزء من الآية 67 من سورة المائدة. (2) السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى ص30،31 بتصرف. (3) عبد الغنى: هو عبد الله الغنى محمد عبد الخالق، نشأ فى أسرة علمية عرفت بالعلم والدين والفضل، ولها نصيب من النسب الشريف، تخرج من كلية الشريعة عام 1935، وحصل على درجة العالمية (الدكتوراه) فى أصول الفقه سنة 1940م، وقد تخرج على يديه أجيال من العلماء الأجلاء. من مؤلفاته: حجية السنة، مات سنة 1983. انظر: ترجمته فى كتابه حجية السنة ص 5-18 بقلم الدكتور طه العلوانى. (4) حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 390، 391.

أنه لو تتبع أعداء الإسلام الحوادث والتاريخ، وتتبعوا السيرة النبوية العطرة؛ لظهر لهم بكل جلاء ووضوح وبما لا يدع مجالاً للشك؛ أن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم نالت من العناية والاهتمام لدى المسلمين ما لم تنله سيرة أى عظيم من العظماء، ولا بطل من الأبطال، ولا رئيس من الرؤساء، ولا ملك من الملوك. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى واقع الأمر ليس إنساناً عادياً، ولا رسولاً عادياً، ولا قائداً يشبه فى أخلاقه وصفاته الإنسانية أحداً، "فهو أفق وحده لا يدانيه أفق" ولذلك كان هو الأسوة، وهو النبراس المضئ. ... أدرك هذه الحقيقة أصحابه وتابعوهم، والمسلمون من بعدهم فعكفوا على نقل، وتدوين وحفظ، وتطبيق كل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، حتى الحركات والسكنات، وبالجملة. نقلت حياته برمتها وكلياتها وجزئياتها فى عباداته ومعاملاته، فى سلمه وحربه، وفى نومه ويقظته، فى أدق الأمور، وفيما نعده من أسرار حياتنا كمعاشرته، إلى غير ذلك بصورة لم تحظ بها سيرة أحد غيره من البشر. ... وهذا يمثل إشارة قوية إلى أن الله عز وجل تكفل بحفظ هذه السنة بما هيأ لها من رجال أفنوا أعمارهم فى ضبطها والسهر عليها، وتدوينها، وحفظها، وشرحها، وتمييز صحيحها من سقيمها؛ فنقشوها فى صفحات قلوبهم الأمينة، وفى كتبهم الواعية، فكان تكفله عز وجل بحفظ كتابه فى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) . يشمل السنة النبوية حيث قيض الله لها من الرواة الثقات والأئمة الأعلام، ما قيض لكتابه العزيز من ثقات كل قرن، وإلى أن يرث الأرض ومن عليها.

_ (1) الآية 9 من سورة الحجر.

.. ولولا إرادة المولى عز وجل بحفظها، لاندثرت مع تعاقب الدهور لكثرة ما وجه إليها من طعون، ولكثرة ما صادفت من أعداء أضمروا لها شراً، وأرادوا بها سوءاً، فجعلهم الله الأخسرين بما قيض لها من الرجال الأوفياء فى كل عصر، وفى كل جيل، وفى كل مكان (1) . ... وأخيراً فإننا لا نستطيع إلا أن نرتاب فى أمر هؤلاء الناس الذين قرروا إطلاق أنفسهم من ربقة القرآن الكريم وأحكامه، قبل أن يقرروا إطلاقها من مقتضيات السنة وأحكامها. ولكن شق عليهم أن يواجهوا الناس بخروجهم على القرآن الكريم وتعليماته، فأضافوا إلى القرآن الكريم ما لا مضمون له إلا ما تهواه أنفسهم ويتفق مع رغائبهم وأغراضهم … وكان غرضهم الوحيد من ذلك هو أن يبعدوا السنة عن طريقهم ويقطعوا ما بينها وبين القرآن الكريم من علاقة التفسير والتكامل والبيان. ... وقد سبقهم إلى ذلك - فى عصور سالفة - بعض الزنادقة والمارقين. فما كان حالهم فى الظهور والافتضاح إلا شراً ممن جاهروا بالكفر والعصيان ومحاربة كتاب الله عز وجل وغدت الأمة الإسلامية تتقى شرهم أكثر مما تتقى مجاهرة الكافر بكفره، والفاسق بفسقه (2) . ... "نعم" إن الاقتصار على الكتاب رأى قوم لا خلاق لهم، خارجين عن الطريقة المثلى، وخارجين عن السنة المطهرة، فأداهم ذلك إلى الانخلاع عن الجماعة، وتأويل القرآن على غير ما أنزل الله فضلوا وأضلوا" (3) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) انظر: مؤتمر السنة النبوية ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة بحث الشيخ عز الدين الخطيب وتعقيب فضيلة الأستاذ للدكتور/ أحمد عمر هاشم 2/58 - 560، 602 بتصرف، وراجع: هنا مبحث "الحديث النبوى تاريخ الإسلام" ص 50. (2) مؤتمر السنة ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة بحث الدكتور محمد البوطى 2/462. (3) الموافقات للإمام الشاطبى 4/401، 432 بتصرف.

المبحث الثاني: شبهات بنيت على أحاديث من السنة النبوية

المبحث الثاني: شبهات بُنْيَت على أحاديث من السنة النبوية ويشتمل على تمهيد وثلاثة مطالب: 1 - المطلب الأول: شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها. 2_ المطلب الثاني: شبهة عرض السنة النبوية على العقل والرد عليها. 3_ المطلب الثالث: وفيه الشبه الآتية: 1_ شبهة النهي عن كتابة السنة والرد عليها. 2_ شبهة التأخر في تدوين السنة والرد عليها. 3_ شبهة رواية الحديث بالمعنى والرد عليها. 4_ شبهة كثرة الوضاعين للحديث والرد عليها. تمهيد: بعد أن تحايل أعداء السنة المطهرة على بعض آيات من القرآن الكريم ليحوروا معانيها، ويستدلوا بهذا التحوير على صحة الاحتجاج بالسنة النبوية، نجدهم هنا باسم السنة ونصوصها يستشهدون بها أيضًا على إنكار حجيتها، ويتظاهرون بحرصهم على السنة، بل هم بإنكارهم حجيتها أشد حرصًا على السنة من المؤمنين بحجيتها (1) . وهكذا عكس المشاغبون القضية، ونظروا في السنة النبوية المطهرة، فما وافق دعواهم منها قبلوه، واعترضوا به على منازعيهم واحتجوا به مع وضعه أو ضعفه سندًا ودلالة، وهذا العمل مع جهالته أخطر منطق عكسي في التدليل على فساد الشيء بمادته، نصًّا وأسلوبًا؛ لأنه إذا كان من الخطأ والخطل (2) والخطر قبول الأحاديث الباطلة والموضوعة، وعزوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.، فمثله في البطلان رد الأحاديث الصحاح الثابتة بالهوى والعجب والتعالم على الله ورسوله، وسوء الظن بالأمة وعلمائها وأئمتها في أفضل أجيالها، وخير قرونها. إن قبول الأحاديث المكذوبة يدخل في الدين ما ليس منه، أما رد الأحاديث الصحيحة، فيخرج من الدين ما هو منه، ولا ريب أن كليهما مرفوض مذموم: قبول الباطل ورد الحق (4) .

_____ (1) انظر: السنة ودورها في الفقه الجديد للأستاذ جمال البنا خاتمة الكتاب (نخن أحرص على السنة منكم) ص 267. (2) السنة الإسلامية للدكتور رءوف شلبي ص 33. (3) الخطل: المنطق الفاسد المضطرب وقد "خطَِلَ" في كلامه من باب طَرِب و (أخطَلَ) أي أفحش. انظر: مختار الصحاح ص 181، والقاموس المحيط 3 / 357. (4) مؤتمر السنة ومنهجها في بناء المعرفة والحضارة بحث الدكتور يوسف القرضاوي 2 / 795، 796.

المطلب الأول: شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها.

ولأعداء السنة المطهرة شبهات على عدم حجية السنة بنوها على أحاديث مكذوبة، وضعيفة، وأخرى صحيحة مع ضعف دلالتها على ما احتجوا به. وسوف نذكر تلك الشبهات في ثلاثة مطالب: المطلب الأول: شبهة عرض السنة على القرآن الكريم والرد عليها. l واستدل بالحديث الأول قديمًا الشيعة الإثنى عشرية كما رواه الكليني في الكافي (1) . والرافضة منهم، والزنادقة كما حكاه الحافظ السيوطي في مفتاح الجنة (2) ، والطائفة التى ردت الأخبار كلها وناظر الإمام الشافعي واحدًا من أتباعها (3) ،

__ (1) أخرجه الكليني في الكافي كتاب فضل العلم، باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب 1 / 69 رقم 5 عن أبي عبد الله رضي الله عنه، وانظر: الشيعة هم أهل السنة للدكتور محمد التيجاني ص 244. (2) مفتاح الجنة ص 13، 14. (3) الرسالة 225.

وأهل الرأي كما حكاه أحمد أمين في فجر الإسلام (1) . والمعتزلة وهو أحد الأصوب الخمسة عند الإمام القاسم بن إسماعيل الرسي كما سبق في أصول المعتزلة (2) وحديثًا استدل به الدكتور توفيق صدقي (3) ، ويحيي كامل أحمد (4) . l واستدل بالحديث الثاني الدكتور توفيق صدقي (5) ، والأستاذ جمال البنا (6) . l واستدل بالحديث الثالث الدكتور توفيق صدقي (7) . l واستدل بالحديث الرابع الأستاذ جمال البنا (8) ، كما استدل بحديث "عبد الله بن أبي أوفى" (9) في وصية النبي صلى الله عليه وسلم. في مرض موته بالاقتصار على كتاب الله عزَّ وجلَّ (10) ، ونقل كلام الحافظ ابن حجر مبتورًا، وسبق بيان ذلك كما سبق بيان المراد من الأحاديث المرفوعة والموقوفة بالاقتصار على كتاب الله وحده (11) .

________ (1) فجر الإسلام ص 224، وانظر: البحر المحيط للزركشي عزاه إلى أكثر المتكلمين 4 / 351. (2) راجع: إن شئت ما سبق في أصول المعتزلة وموقفهم من السنة ص 105،110، وانظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 84. (3) مجلة المنار المجلد 9 / 523. (4) تطبيق الشريعة بين الحقيقة وشعارات الفتنة ص 12. (5) مجلة المنار المجلد 9 / 907. (6) السنة ودورها في الفقه الجديد ص 246. (7) مجلة المنار المجلد 9 / 907. (8) السنة ودورها في الفقه الجديد ص 246. (9) عبد الله بن أبي أوفى: صحابي جليل له ترجمة في: الاستيعاب 3 / 870 رقم 1478، واسد الغابة 3 / 181 رقم 2830، وتاريخ الصحابة ص 155 رقم 742، ومشاهير علماء الأمصار ص 62 رقم 320، وتجريد أسماء الصحابة 1 / 299، والإصابة 2 / 274 رقم 4573. (10) أخرجه البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب الوصايا، باب الوصايا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم. (وصية الرجل مكتوبة عنده) 5 /420 رقم 2740، ومسلم (بشرح النووي) كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شئ يوصي فيه 6/ 98 رقم 1634. (11) راجع: إن شئت ص 201، 202.

وحجة المنكرين لحجية السنة النبوية من الروايات السابقة: أنها تفيد عرض السنة على القرآن فما وافق القرآن؛ فهو من السنة، وتكون السنة في هذه الحالة لمحض التأكيد، والحجة هو القرآن فقط، وما خالف القرآن بإثبات حكم شرعي جديد؛ فهو ليس من السنة، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم. ولا حجة فيه. يقول محمد نجيب: "فإذا كانت سنة الرسول وحديثه متفقة مع سنة الله وحديثه فاتباعها حكم من متبعها أنها أحسن من سنة الله، وأنها حديث خير من حديث الله، وليس في هذا إلا تكذيب لله القائل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} (1) وهذا يحتم عدم الأخذ بسنة غير الله، وحديث غير الله، ولو كان متفقًا مع كلام الله فاتباعه خلط لدين الإنسان، وخروج عن الدين الخالص لله وحده إذ بذلك يكون الدين خليطًا. أما إذا كانت السنة والحديث غير متفقة مع كلام الله، وحديث الله، وسنة الله، فلا يمكن أن يعمل بها مسلم، أو أن يقبلها (2) . يقول الدكتور أحمد صبحي منصور: "..... مع أهمية المناقشة بالقرآن لكل ما جاء في التراث من أحكام فقهية وروايات خرافية (3) . ويقول الأستاذ جمال البنا: "هناك أحاديث جاءت بما لم يأت به القرآن، نحن نحكم عليها في ضوء القرآن، فما لا يخالف القرآن يقبل، وما يخالفه يستبعد، فتحريم زواج المرأة على عمتها وخالتها. وتحريم لحم الحمر الأهلية، أمور لانرى مانعًا فيها، ونجد فيها قياسًا سليمًا (4) . وهكذا اتخذ أعداء السنة من منهج عرض السنة على القرآن الكريم قاعدة ينطلقون منها للتشكيك في حجية السنة المطهرة وهدمها. وهم يصرحون بتلك الحقيقة وأهدافها. ومن قاعدة عرض السنة على كتاب الله عزَّ وجلَّ، انطلق أعداء الإسلام من الرافضة والزنادقة يشككون في حجية السنة المطهرة وتابعهم دعاة الفتنة وأدعياء العلم؛ أمثال الدكتور أحمد صبحي منصور، وإسماعيل منصور، ومحمود أبو رية، ومحمد نجيب، وقاسم أحمد وغيرهم ممن سبق ذكرهم وفيما يلي الجواب عن شبهتهم هذه. وتكلم العلماء عن هذا الحديث كلامًا يستلزم أن يكون من أشد الموضوعات أو الضعيف المردود ونختار من أقوالهم ما يأتي: قال الإمام الشافعي: "ما روي هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر.. وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء (5) . ويعلق الأستاذ أحمد شاكر (6) في تحقيقه لكتاب الرسالة على هذا الحديث فيقول: "هذا المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ولا حسن، بل وردت فيه ألفاظ كثيرة، كلها موضوع، أو بالغ الغاية في الضعف، حتى لا يصلح شيء منها للاحتجاج أو الاستشهاد (7) .

_____ (1) الآية 23 من سورة الزمر. (2) انظر: الصلاة ص 278، 279. (3) انظر: مجلة روزاليوسف العدد 3563 ص 36، وانظر: البحث في مصادر التاريخ الديني لأحمد صبحي منصور ص 40، 287. (4) السنة ودورها في الفقه الجديد ص 254، وسيأتي الرد على ذلك وأنه غير مخالف للقرآن في مبحث أدلة حجية السنة ص 533. (5) الرسالة للشافعي ص 225. (6) أحمد شاكر: هو العلامة محمد شاكر، يكني: أبا الأشبال محدث ومحقق، وقاضي شرعي، وعضو المحكمة الشرعية العليا "سابقًا" من مؤلفاته الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، ونظام الطلاق في الإسلام، وغير ذلك. مات سنة 1377هـ. انظر: ترجمته في كتابه كلمة الحق بقلم الأستاذ محمود محمد شاكر. (7) الرسالة للشافعي ص 224.

وقال الإمام بن عبد البر (1) : " وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بطاعته واتباعه أمرًا مطلقًا مجملاً لم يقيد بشئ، كما أمرنا باتباع كتاب الله، ولم يقل وافق كتاب الله كما قال بعض أهل الزيغ، قال عبد الرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث ... وهذه الألفاظ لاتصح عنه صلى الله عليه وسلم. عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه، وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل العلم، وقالوا: نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء، ونعتمد على ذلك، قالوا: فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه لكتاب الله؛ لأنا لم نجد في كتاب الله ألا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله، بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسى به، والأمر بطاعته

______ (1) الإمام ابن عبد البر: هو يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي، أبو عمر، كان حافظ علماء الأندلس، وكبير محدثيها في وقته، وكان أولاً ظاهريًا ثم صار مالكيًا، فقيهًا حافظًا مكثرًا عالمًا بالقراءات والحديث والرجال، والخلاف، كثير الميل إلى أقوال الشافعي، من مصنفاته. التمهيد شرح الموطأ، والاستذكار مختصره، والاستيعاب في معرفة الأصحاب، وجامع بيان العلم وفضله. وغير ذلك مات سنة 463هـ. له ترجمة في: تذكرة الحفاظ 3/ 1128 رقم 1013، وطبقات للسيوطي ص 431، 432 رقم 978، والديباج المذهب لابن فرحون ص440 رقم 626، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 2 / 458 رقم 23، والرسالة المستطرفة ص 15، وشجرة النور الزكية 1 / 119 رقم 337.

، ويحذر المخالفة عن أمره جملة على كل حال" (1) أ. هـ. وقال فضيلة الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف معقبًا على تقوية ابن عراق للحديث (2) ، تبعًا للسيوطى (3) : "الحديث باطل منكر جدًا، كما قال العقيلي وغيره، ومحاولة المؤلف تبعًا للسيوطي تقويته غلط، فإن الحديث من وضع بعض الزنادقة للتلاعب بالسنة، وغفل السيوطي، ثم المؤلف _ رحمهما الله _ عن هذا المقصد الخبيث" (4) . أما الحديث الثاني: إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ... إلخ فأخرجه الشافعي (5) ، والبيهقي (6) ، ومن من طريق طاووس (7) ،

______ (1) جامع بيان العلم وفضله 2 / 190، 191، وانظر: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 291، وإرشاد الفحول 1/ 157، 158، وكشف الخفاء للعجلوني 1 / 76، رقم 220، 2 / 386. (2) تنزيه الشريعة 1 / 264، 265، وانظر: الموضوعات لابن الجوزي 1 / 258. (3) اللآلئ المصنوعة 1 / 195، والنكت البديعات على الموضوعات ص 48، 49 رقم 23. (4) تنزيه الشريعة 1 / 265 هامش. وفيما سبق رد على الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة _ رحمه الله تعالى _ في تقويته للحديث في كتابه (لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث) ص 29، 30. وفيما سبق أيضًا رد على إدعاء جولدتسهير بأن المحدثين يقررون احتجاجًا بهذا الحديث، انظر: العقيدة والشريعة في الإسلام ص 55، وأعجب من إدعاء جولدتسهير، إدعاء أحد أدعياء العلم وهو يحيى كامل أحمد الذي وصف الذين حكموا بوضع هذا الحديث بأنهم ملاحدة قائلا: [إن بعض الملاحدة زعموا أن هذا الحديث (فيما جاءكم عنى فاعرضوه على كتاب الله..) من وضع الزنادقة، ليبيحوا لأنفسهم عدم التقيد بآيات القرآن، للتقول في أمور الدين بما يشاءون.. فيرددون الأباطيل والإسرائيليات والخرافات بدعوى أنها أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم. على حين أن القرآن يسقطها، ويثبت كذبها بتعارضها مع آياته الكريمة] أ. هـ. انظر تطبيق الشريعة بين الحقيقة وشعارات الفتنة ص 12، 13، والشيعة هم أهل السنة للدكتور محمد التيجاني ص 251، 252. (5) الأم كتاب جماع العلم، باب الصوم 7 / 288، وفي كتاب الصلاة، باب صلاة المريض 1 /80، 81. (6) المدخل إلى السنن والآثار كتاب السير، باب الرجل يموت في أرض العدو قبل الغنيمة 13/ 155 رقم 17742. (7) طاووس: هو طاووس بن كيسان اليماني، أبو عبد الرحمن، يقال اسمه ذكوان، وطاووس لقب، من أكابر التابعين تفقها في الدين ورواية للحديث وتقشفًا في العيش، وجرأة على وعظ الخلفاء والملوك، أصله من الفرس، ولكنه ولد في اليمن، متفق على توثيقه مات سنة 106هـ له ترجمة في: صفة الصفوة لابن الجوزي 2 / 284 رقم 243، ومشاهير علماء الأمصار ص 150 رقم 955، والثقات لابن حبان 4 / 391، الثقات للعجلي ص 234، رقم 720، والثقات لابن شاهين ص 182رقم 587، وتقريب التهذيب 1 / 448 رقم 3020، والكاشف 1 / 512 رقم 2461، ووفيات الأعيان 2/ 509 رقم 306.

وقال الإمام الشافعي: هذا منقطع، وكذلك صنع صلى الله عليه وسلم.، وافترض عليه أن يتبع ما أوحي إليه، ونشهد أن قد اتبعه صلى الله عليه وسلم. وما لم يكن فيه وحي فقد فرض الله في الوحي اتباع سنته، فمن قبل عنه فإنما قبل بفرض الله قال تعالى: {وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) . قال البيهقي: وقوله في الحديث: "في كتابه" إن صحت هذه اللفظة فإنما أراد فيما أوحى إليه، ثم ما أوحى إليه نوعان؛ أحدهما وحي يتلى، والآخر وحي لا يتلى (2) . ويشهد لما قاله البيهقي في أن المراد بكلمة "في كتابه" أعم من القرآن، ويشمل الوحي بنوعيه، المتلو، وغير المتلو. قوله صلى الله عليه وسلم. لوالد الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم: "والذي نفسي بيه لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد. وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام" (3) قال الحافظ ابن حجر: المراد بكتاب الله ما حكم به وكتب على عباده، ويؤيده رواية القرآن وهو المتبادر. وقال ابن دقيق العيد (4) : الأول أولى؛ لأن الرجم والتغريب ليسا مذكورين في القرآن إلا بواسطة أمر الله باتباع رسوله، قيل وفيما قال نظر لاحتمال أن يكون المراد ما تضمنه قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} (5) فبين النبي صلى الله عليه وسلم. أن السبيل جلد البكر ونفيه، وجلد الثيب ورجمه، فيما رواه الإمام مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهم (6) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذوا عنى. خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلا.

______ (1) جزء من الآية 7 من سورة الحشر. (2) مفتاح الجنة ص 42،43. (3) متفق عليه من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا 12/ 140 رقم 6827، 6828. وأخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا 6/ 214 رقم 1697، 1698 واللفظ له. (4) ابن دقيق العيد:هو محمد بن على وهب المنفلوطي، تقى الدين أبو الفتح، إمام حافظ فقيه، كان من أذكياء زمانه، وقل أن ترى العيون مثله، وله يد طولى في الأصول والمعقول، ولي قضاء الديار المصرية وتخرج به أئمة، من مصنفاته: الاقتراح في علوم الحديث، وشرح العمدة، مات سنة 702هـ له ترجمة في: طبقات الحفاظ للسيوطي 516 رقم 1134، وتذكرة الحفاظ للذهبي 4 / 1481 رقم 1168، والرسالة المستطرقة للكتابي ص 180، والديباج المذهب لابن فرحون ص 411 رقم 566، والدرر الكامنة 4/ 91 رقم 256، والبداية والنهاية 14/ 27، وشذرات الذهب 6/ 5، والوافي بالوفيات 4/ 193. (5) الآية 15 من سورة النساء. (6) عبادة بن الصامت: صحابي جليل له ترجمة في: الاستيعاب 2/ 807 رقم 1372، واسد الغابة 3/ 158 رقم 2891، وتاريخ الصحابة ص 190 رقم 1004، والإصابة 2/ 268 رقم 4515، ومشاهير علماء الأمصار ص66 رقم 334.

البكر بالبكر جلد مائة جلة مائة ونفى سنة، والثيب بالثيب. جلد مائة والرجم" (1) . قال الحافظ ابن حجر قلت: وهذا أيضًا بواسطة التبيين" (2) . وقلت: حتى لو صحت هذه اللفظة "في كتابه" وحملت على المتبادر منها وهو القرآن الكريم. فلا حجة في الحديث للمنكرين لحجية السنة، فالحديث عليهم لا لهم؛ لأن ما يحرمه أو يحله الرسول صلى الله عليه وسلم.، هو حرام أو حلال في كتاب الله عزَّ وجلَّ الذي أمر بطاعته، ونهى عن مخالفته صلى الله عليه وسلم. . ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح السنة من حديث المقدام بن معد يكرب الكندى (3) رضي الله عنه؛ أن رسول صلى الله عليه وسلم. قال: "يوشك الرجل متكئا على أريكته، يحدث بحديث من حديثي، فيقول بيننا وبينكم كتاب الله عزَّ وجلَّ، فما وجدنا من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. مثل ما حرم الله عزَّ وجلَّ (4) . قال الإمام الشافعي معقبًا: فقد ضيق رسول الله على الناس أن يردوا أمره بفرض الله عليهم اتباع أمره (5)

________ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب الحدود، باب حد الزني 6/ 240 رقم 1690. (2) انظر: فتح الباري 12/ 142 _ 144 رقمي 6827، 6828. (3) المقدام بن معد يكرب: صاحبي جليل له ترجمة في: الاستيعاب 4/ 1482 رقم 2562، واسد الغابة 5/ 244 رقم 5077، وتاريخ الصاحبة ص 240 رقم 1317، ومشاهير علماء الأمصار ص 69 رقم 365، والإصابة 3/ 455 رقم 8202. (4) أخرجه أبو داود في سننه كتاب السنة، باب في لزوم السنة 4/ 200 رقم 4604، والترمذي في سننه كتاب العلم، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم.5/ 36 رقم 2664 وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وأخرجه بن ماجة في سننه المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله والتغليظ على من عارضه 1/ 20 رقم 12، واللفظ له وابن جبان في صحيحه (الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان) ، باب الاعتصام بالسنة وما يتعلق بها نقلا وأمرًا وزجرًا 1/ 107 رقم 12، والحاكم في المستدرك 1/ 191 رقم 371، وسكوت عنه الحاكم والذهبي، وصححه أحمد شاكر في هامش الرسالة للشافعي ص 90، 91. (5) الرسالة للشافعي ص 226.

وقال الإمام البيهقي (6) : وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه فوجد تصديقه فيما بعده صلى الله عليه وسلم. (7) . أما قول الدكتور توفيق صدقي: "فهذا الحديث صح أو لم يصح فالعقل يشهد له ويوافق عليه، وكان يجب أن يكون مبدأ للمسلمين لايحيدون عنه" (1) فسيأتى الرد على ذلك في المطلب الثاني (شبهة عرض السنة على العقل) . _______ (6) الإمام البيهقي: هو أحمد بن الحسين بن علي، أبو بكر، كان أوحد أهل زمانه في الإتقان والحفظ والفقه والتصنيف، كان فقهيًا وأصوليًا وإمامًا من أئمة الحديث، من مصنفاته: السنن الكبرى، ودلائل النبوة، توفي سنة 458هـ. له ترجمة في: تذكرة الحفاظ 3 / 1132 رقم 1014، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص 433 رقم 979، ووفيات الأعيان 1 / 75 رقم 28، طبقات الشافعية لابن السبكي 4 /8 رقم 50، والبداية والنهاية 12/ 94، وشذرات الذهب 3 / 304. (7) دلائل النبوة للبيهقي 1/ 25.

(5) يعني معيار عرض السنة على القرآن بمفهوم أعداء السنة. (1) السنة ودورها في الفقه الجديد ص 7. (2) المصدر السابق ص 248. (3) السنة ودورها في الفقه الجديد ص 265. (4) مجلة روزاليوسف العدد 3563 ص 35. (5) تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 18 _ 20. (6) أضواء على السنة ص 19، 391 _ 395. (7) الصلاة ص 279. (8) إعادة تقييم الحديث ص 136. (1) الحديث والمحدثون ص 211. (1) الآية 7 من سورة الحشر. (2) الآية 80 من سورة النساء. (1) انظر: الأم كتاب جماع العلم، باب الصوم 7/ 288، وفي كتاب الصلاة، باب صلاة المريض 1/ 80، 81. (2) الإحكام في أصول الأحكام 2/ 212. (3) الآيتان 3،4 من سورة النجم. (4) انظر: الإحكام لابن حزم 2/ 212. (5) السنة ومكانتها في التشريع للدكتور السباعي ص 164. (6) انظر: نيل الأوطار 1/ 187. (7) ثوبان: هو ثوبان بن بجدر أبو عبد الله مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. صاحبي جليل له ترجمة في: الاستيعاب 2/ 218 رقم 282، واسد الغابة 1/ 480رقم 624، وتاريخ الصحابة ص 56 رقم 174، ومشاهير علماء الأمصار ص64 رقم 324، والإصابة 1/ 204 رقم 969. (8) الدارقطني كتاب الطهارة، باب في الوضوء من الخارج من البدن كالرعاف والقئ والحجامة ونحوه 1/ 151 رقم 41. (1) انظر: مجلة المنار المجلد 9/ 515 رقم 913. (2) الدارمي في سنته المقدمة، باب السنة قاضية على كتاب الله 1/ 153، 154 رقم 589 بلفظ: "السنة سنتان: سنة الأخذ بها فريضة: وتركها كفر، وسنة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيره حرج) . (3) مكحول: هو مكحول الشامي، أبو عبد الله، ثقة، فقيه كثير الإرسال مات سنة 113هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 2 / 211 رقم 6899، والكاشف 2 / 291 رقم 5620، وحاشية بن العجمي هامش على الكاشف 2/ 291 _ 293، والثقات للعجلي ص 439 رقم 1628، والثقات لابن حبان 5/ 446، ومشاهير علماء الأمصار ص 141 رقم 870. (4) الطبراني في الأوسط 4 / 392 رقم 4011، وقال الطبراني: (لم يرو هذا الحديث عن محمد إلا عيسى تفرد به عبد الله، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد إلى الطبراني في الأوسط، وقال: لم يروه عن أبي سلمة إلا عيسى بن واقد تفرد به عبد الله بن الرومي، ولم أر من ترجمة. انظر: مجمع الزوائد 1/ 172، وانظر مجمع البحرين في زوائد المجمعين الصغير والأوسط للطبراني 1/ 233 رقم 256. (5) انظر: ميزان الاعتدال 2/ 422 رقم 4317، ولسان الميزان 3/ 286 رقم 1208. (6) انظر: الإحكام للآمدي 1/ 127، وإرشاد الفحول للشوكاني 1/ 155، وأصول الفقه للخضري ص 250، 251. (1) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب الوضوء، باب لاتقبل صلاة بغير طهور 1/282 رقم 135، ومسلم (بشرح النووي) كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة 1/ 104 رقم 225 واللفظ له. (2) أخرجه الترمذي في سننه كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في المنى والمذي 1/ 193 رقم 114، وقال هذا حديث حسن. (3) عمران بن حصين: صاحبي جليل له ترجمة في: الاستيعاب 3/ 1208 رقم 1969، واسد الغابة 4/ 269 رقم 4048، وتاريخ الصحابة ص 183 رقم 949، ومشاهير علماء الأمصار ص 48 رقم 218، والإصابة 3/26 رقم 6024. (4) أخرجه البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب التميم باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء 1 / 533 رقم 344، وأخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة 300/ 199 رقم 682. (5) الآية 6 من سورة المائدة. (1) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعرى رضي الله عنه البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم.: " من حمل علينا السلاح فليس منا" 13/ 26 رقم 7071 ومسلم (بشرح النووي) كتاب الإيمان باب قول النبي صلى الله عليه وسلم. من "حمل علينا السلاح فليس منا" 1 رقم 100. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 6/ 479 رقم 1848. (3) الآية 33 من سورة المائدة. (4) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعور رضى الله عنه، البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب الديات، بال قول الله تعالى "النفس بالنفس والعين بالعين" 12/ 209 رقم 6878، ومسلم (بشرح النووي) كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم 6/ 179 رقم 1676. (5) الآية 217 من سورة البقرة. (6) منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص 499، وانظر: الموافقات للشاطبي 4/ 9 _ 14. (7) الآية 7 من سورة الحشر. صلى الله عليه وسلم. صلى الله عليه وسلم.

عنه كقوله تعالى: {وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) . ومثال السنة المحرمة: قوله صلى الله عليه وسلم. " لايجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها (2) فأصل ذلك التحريم في الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَف} (3) . وهذا استدلال من لا يرى استقلال السنة بالتشريع، وقد عرفت مما سبق استدلال من يرى استقلالها. فأمثال هذه السنة سواء كانت (واجبة أو محرمة) الأخذ بها هدى وتركها بعدم فعلها إذا كانت واجبة، وفعلها إذا كانت محرمة (ضلالة) كما في الحديث، وهو ما يتمشى مع تعريف الواجب والحرام عند الأصوليين. فالواجب: مرادف للفرض عند الجمهور، هو ما طلب الشارع فعله على وجه اللزوم بحيث يأثم تاركه وقال الآمدى: "والحق في ذلك أن يقال: الوجوب الشرعي عبارة عن خطاب الشارع بما ينتهض تركه سببًا للذم شرعًا في حالة ما" (4) . أما الحرام فهو ضد الواجب: قال الآمدى: والحق فيه أن يقال: هو ما ينتهض فعله سببًا للذم شرعًا بوجه ما من حيث هو فعل له (5) . أما قوله صلى الله عليه وسلم. في الحديث: " وسنة في غير فريضة"؛ فالمراد بذلك السنة المباحة والمندوبة وقوله: "الأخذ بها فضيلة وتركها ليس بخطيئة" أي في فعلها ثواب، وليس في تركها عقاب، وهذا هو "المباح والمندوب" عند أهل الأصول. فالمندوب: هو ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه، أو هو ما طلب الشارع فعله طلبًا غير حتم (6) .

_____ (1) الآية 7 من سورة الحشر. (2) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب النكاح، باب لاتنكح المرأة على عمتها 9/ 64 رقم 5109، ومسلم (بشرح النووي) كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح 5/ 205 رقم 1408. (3) الآية 23 من سورة النساء. (4) البحر المحيط للزركشي 1/ 181 _ 184، والإحكام للآمدي 1/ 92، وأصول الفقه للخضري ص 39. (5) الإحكام للآمدي 1/ 106. (6) أصول الفقه للخضري ص 54، وانظر: أصول الفقه للشيخ خلاف ص 111.

وقال الآمدي: فالواجب أن يقال: هو المطلوب فعله شرعًا من غير ذم على تركه مطلقًا (1) ومن ومن أسمائه: النافلة، والسنة، والمستحب، والتطوع وذلك عند الجمهور (2) . ومثاله: الرواتب مع الفرائض، وصلاة العيدين، والاستسقاء، والكسوف، وصدقة التطوع ... إلخ والأصل في ذلك حديث الأعرابي الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم. شرائع الإسلام وفرائضه، وأنه ليس عليه غيرها إلا أن التطوع "فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله على شيئًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم.: "أفلح أن صدق. أو دخل الجنة إن صدق" (3) . والمباح: هو ما خير الشارع المكلف فيه بين فعله وتركه من غير مدح ولا ذم (4) . وقال الأمدى: والأقرب في ذلك أن يقال: هو ما دل الدليل السمعى على خطاب الشارع بالتخيير فيه الفعل والترك من غير بدل (5) . ومن أسمائه: الحلال، والمطلق، والجائز (6) ، ومثاله قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَة} (7) . وقوله: "لحمزة بن عمرو الأسلمي (8) لما سأله عن الصيام في السفر: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" (9) .

_____ (1) الإحكام للآمدي 1/ 111. (2) البحر المحيط للزركشي 1/ 284. (3) متفق عليه من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإٍلام 1/ 130رقم 46، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التى هي أحد أركان الإسلام 1/ 198 رقم 11. (4) أصول الفقه الحضرى ص 60، وانظر: أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص 115. (5) الإحكام للآمدى 1/ 115. (6) البحر المحيط للزركشى 1 / 276. (7) الآية 101 من سورة النساء. (8) حمزة بن عمر الأسلمى: صحابي جليل له ترجمة في: الاستيعاب 1/ 375 رقم 542، واسد الغابة 2/ 71 رقم 1252، وتاريخ الصحابة ص 67 رقم 233، ومشاهير علماء الأمصار ص 22 رقم 51، والإصابة 1/ 354 رقم 1837. (9) متفق عليه من حديث عائشة _ رضى الله عنها _ البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب الصوم، باب الصوم في السفر والإفطار 4/ 211 رقم 1943، ومسلم (بشرح النووي) كتاب الصوم، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر 4/ 253 رقم 1121.

فأمثال هذه السنن المباحة والمندوبة الأخذ بها فضيلة ويثاب ويمدح الإنسان على فعلها، وإن تركها لم يكن مخطئًا، ولا عقاب ولا لوم عليه. وأصل هذه السنن في كتاب الله قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) . فهذا هو معنى الحديث على فرض صحته، فأين الدلالة فيه على عدم حجية السنة ووجوب عرضها على كتاب الله؟!! وبعد هذا ما قاله أهل العلم في أحاديث عرض السنة المطهرة على القرآن الكريم، التى أسس عليها أعداء الإسلام منهجًا خاصًا بهم في الحكم على صحة السنة بوجوب عرضها عل الكتاب. فما وافقه؛ فهو حجة، وما خالفه ولو مخالفة ظاهرة يمكن الجمع بينهما؛ فباطل مردود ليس من السنة. وهذا منهج باطل، مردود، عماده الكذب والخديعة: لأنه يفضي إلى نفي حجية السنة النبوية التى لها دور في بيان الكتاب وتفسيره، أو التى أفادت حكمًا مستقلاً: لأن كلاً من النوعين غير موجود فيه، فتكون وظيفة السنة مقصورة على تأكيد القرآن فقط، وبالتالى الحجة فيه وحده، ولا حجة في السنة على أي حكم شرعي بذاتها؛ لأنها لو كانت حجة على شئ لما توقف ذلك على ثبوت الشئ بحجة أخرى، وهذا كلام باطل لا يصح؛ لأن أحاديث العرض عند عرضها على كتاب الله وجدناها مخالفة لما فيه؛ لأنه لا يوجد في كتاب الله أن لا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلا ما وافق كتاب الله بل يوجد في كتاب الله إطلاق التأسى به، والأمر بطاعته مطلقة من غير تقييد، والتحذير من مخالفة أمره جملة على كل حال. وكما سبق من قول الأئمة: البيهقي، وابن عبد البر، وابن حزم (2) ومن ثم فقد رجعت أحاديث العرض على نفسها بالبطلان، ثم إنه ورد في بعض طرقها عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.: " إنه سيأتيكم منى أحاديث مختلفة، فما أتاكم موافقًا لكتاب الله وسنتى فهو مني، وما أتاكم مخالفًا لكتاب الله وسنتى فليس مني" (3) .

_ (1) الآية 21 من سورة الأحزاب، وانظر: التعريفات للجرجاني ص 161، 162. (2) راجع: ص 224، 225. (3) أخرجه الخطيب في الكفاية ص 603، وانظر: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالنسة ص 38.

قال البيهقي: تفرد به صالح بن موسى الطلحي، وهو ضعيف لا يحتج بحديثه (1) . قال السيوطي: قلت: ومع ذلك فالحديث لنا لا علينا: ألا ترى إلى قوله: "موافقًا لكتاب الله وسنتى" (2) . ومع أن أحاديث عرض السنة على القرآن الكريم لا وزن لها سندًا عند أهل العلم كما سبق، إلا أن معناها صحيح وعمل بها المحدثون في نقدهم للأحاديث متنًا فجعلوا من علامات وضع الحديث مخالفته لصريح القرآن الكريم والسنة النبوية والعقل. إلا أنهم وضعوا لذلك قيدًا وهو استحالة إمكان الجمع والتأويل، فإذا أمكن الجمع بين ما ظاهره التعارض من الكتاب أو السنة أو العقل _ جمعًا لا تعسف فيه يصار إلى الجمع والقول معًا ولا تعارض حينئذ، وإن كان وجه الجمع ضعيفًا باتفاق النظار، فالجمع عندهم أولى (3) . وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، وإلا فلنتعرف على الناسخ والمنسوخ فنصير إلى الناسخ ونترك المنسوخ، وإلا نرجح بأحد وجوه الترجيحات المفصلة في كتب الأصول وعلوم الحديث (4) ، والعمل بالأرجح حينئذ متعين، وهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأسًا، جهلاً به أو عنادًا كما قال الشاطبي (5) .

_____ (1) انظر: تقريب التهذيب 1/ 433 رقم 2902، والكاشف 1/ 499 رقم 2364، والمجروحين 1/ 369، والضعفاء والمتروكين للنسائي ص 136 رقم 314، والضعفاء لأبي زرعة الرازي 2/ 627 رقم 154، وخلاصة تهذيب الكمال ص 172. (2) مفتاح الجنة في الاحتجاج بالنسة ص 39. (3) قال الإمام فخر الدين الرازي في المحصول: "والدليل القاطع ضربان: عقلي، وسمعي فإن كان المعارض عقليًا نظرنا فإن كان خبر الواحد قابلاً للتأويل كيف كان أولناه فلم نحكم بردة " انظر: المحصول في أصول الفقه 2/ 210. (4) انظر: إرشاد الفحول 2/ 369 _ 408، والمحصول في أصول الفقه 2/ 434 _ 488، والإحكام للآمدي 4/ 206، والموافقات للشاطبي 4/ 640، والمستصفى للغزالي 2/ 392، والإبهاج في شرح المنهاج 3/ 208، والبحر المحيط 6/ 108 _ 194، والمعتمد في أصول الفقه 2/ 176 _ 178، وأصول السرخسي 2/ 145، 249، وفتح المغيث للعراقي ص 337 _ 339، وتدريب الراوي 2/ 198 _ 203، والاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي ص 59 _ 90، وانظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 172، 173. (5) الاعتصام باب في مأخذ أهل البدع بالاستدلال 1/ 200، 201، وانظر: الإحكام لابن حزم 1/ 161.

وإن لم يتمكن العالم من ذلك للتعادل الذهني فاختلفوا على مذاهب منها: 1_ التخيير 2_ تساقط الدليلين والرجوع إلى البراءة الأصيلة 3_ الأخذ بالأغلظ 4_ التوقف. ومعلوم بأن التوقف هنا حتى يمكن الجمع أو التأويل أو الترجيح. وكل ما سبق قال به من المعتزلة صاحب المعتمد في أصول الفقه في باب الأخبار المعارضة، وباب ما يترجح به أحد الخبرين على الآخر" (1) . قال الحافظ ابن حجر: "فصار ما ظاهرة التعارض واقعًا على هذا الترتيب الجمع إن أمكن، فاعتبار الناسخ والمنسوخ، والترجيح إن تعين، ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين، والتعبير بالتوقف أولى من التعبير بالتساقط، لأن خفاء ترجيح أحدهما على الآخر، إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة مع احتمال أن يظهر لغيره ما خفى عليه وفوق كل ذي علم عليم" (2) . ولا أعلم نقلاً عن أحد من العلماء برفض ورود الحديث بمجرد المخالفة الظاهرية مع القرآن الكريم، أو السنة، أو العقل مع إمكان الجمع، أو التأويل، أو الترجيح، حتى من نقل عنهم الأصوليون إنكار الترجيح وردوا عليهم إنكارهم، قالوا عند التعارض: يلزم التخيير أو الوقف (3) . نعم لم ينقل رد السنة وجحدها بمجرد المخالفة الظاهرية إلا عن أهل البدع والأهواء كما حكاه عنهم الإمام الشاطبي في كتابه الاعتصام (4) ، وتابعهم ذيولهم في العصر الحديث من أصحاب المذاهب اللادينية. وقصاري القول: إن أهل العلم مجمعون على أن السنة الصحيحة لا تخالف كتاب الله عزَّ وجلَّ، ولا تخالف سنة أخرى صحيحة مثلها، ولا تخالف العقل، وما يبدوا حينًا من تعارض هو من سوء الفهم لا من طبيعة الواقع، كما قال فضيلة الشيخ محمد الغزالي _ رحمه الله تعالى _: لا يتعارض حديث مع كتاب الله أبدًا، وما يبدو من تعارض هو من سوء الفهم لا من طبيعة الواقع " (5) .

____ (1) المعتمد في أصول الفقه 2/ 176، 188، وانظر: الإحكام للآمدي 4/ 221، والبحر المحيط 6/ 115، والمسودة في أصول الفقه لآل تيمية ص 449. (2) نزهة النظر ص 35، وانظر: فتح المغيث للسخاوي 3/ 73، وتدريب الراوي 2/ 202. (3) الإبهاج في شرح المنهاج 2/ 209، وفتح المغيث السخاوي 3/ 73، وانظر: المصادر السابقة نفس الأماكن. (4) الاعتصام باب في مأخذ أهل البدع بالاستدلال 1/ 199. (5) مائة سؤال في الإسلام 1/ 244، وانظر: المكانة العلمية لعبد الرازق في الحديث النبوي لفضيلة الأستاذ= =الدكتور إسماعيل الدفتار 2/ 626 مبحث (حقيقة التعارض إنما هي في الفهم) . ومختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين للدكتور نافذ حسين حماد ص 125 _ 188.

وعن دعوى تعارض الأحاديث مع بعضها يقول الحافظ ابن خزيمة: "لا أعرف أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. حديثان بإسنادين صحيحن متضادين، فمن كان عنده فليأتي به لأؤلف بينهما " (1) . قال الإمام ابن حزم: ليس في الحديث الذي صح شيء يخالف القرآن الكريم ولا سبيل إلى وجود خبر صحيح مخالف لما في القرآن أصلاً، وكل خبر شريعة فهو إما مضاف إلى ما في القرآن ومعطوف عليه ومفسر لجملته، وإما مستثنى منه لجملته، ولا سبيل إلى وجه ثالث. فإن احتجوا بأحاديث محرمة أشياء ليست في القرآن قلنا لهم: قد قال الله عزَّ وجلَّ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2) فكل ما حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. مثل الحمار الأهلي، وسباع الطير، وذوات الأنياب (3) ، وغير ذلك؛ فهو من الخبائث، وهو مذكور في الجملة المتلوه في القرآن ومفسر لها، والمعترض بها يسأل: أيحرم أكل عذرته أم يحلها؟ فإن أحلها خرج عن إجماع الأمة وكفر، وإن حرمها؛ فقد حرم ما لم ينص الله تعالى على اسمه في القرآن، فإن قال هي من الخبائث قيل له: وكل ما حرم عليه السلام؛ فهو كالخنزير، وكل ذلك من الخبائث. فإن قال قد صح الإجماع على تحريمها، قيل له: قد أقررت بأن الأمة مجمعة على إضافة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. من السنن إلى القرآن الكريم، مع ما صح عنه صلى الله عليه وسلم. قال: " لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " (4) .

__ (1) علوم الحديث لابن الصلاح ص 173، وتدريب الراوي 2/ 196، وفتح المغيث للعراقي ص 336، وفتح المغيث للسخاوي 3/ 71. (2) الآية 157 من سورة الأعراف. (3) سيأتى تخريجه ص 451، وانظر: أمثلة أخرى عل ما اعترضوا عليه من الأحاديث الصحيحة لمخالفتها في نظرهم القرآن الكريم، ولا مخالفة في الحقيقة في الباب الثالث، حديث رؤية الله عزَّ وجلَّ. (4) أخرجه أبو داود في سننه كتاب السنة، باب لزوم السنة 4/ 200 رقم 4605، والترمذي في سننه كتاب العلم، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم. 5/ 36 رقم 2663، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتغليظ على من عارضه 1/ 20 رقم 13 من حديث أبى رافع رضي الله عنه.

فهذا حديث صحيح بالنهى عما تعلل به هؤلاء الجهال (1) . ويقول ابن حزم في موضع آخر: "إذا تعارض الحديثان، أو الآيتان، أو الآية والحديث، فيما يظن من لا يعلم، ففرض على كل مسلم استعمال كل ذلك، لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض، ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله، ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها، وكل من عند الله عزَّ وجلَّ، وكل سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق" (2) . ويتأيد ما قاله ابن حزم بما قال الإمام الشاطبي عند كلامه على حديث العرض: "ما أتاكم عنى فاعرضوه على كتاب الله _ الحديث" قال: "إن الحديث إما وحي من الله صرف، وإما اجتهاد من الرسول _ عليه الصلاة والسلام _ معتبر بوحي صحيح من كتاب أو سنة، وعلى كلا التقديرين لا يمكن فيه التناقض مع كتاب الله؛ لأنه _ عليه الصلاة والسلام _ ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

______ (1) انظر: الإحكام في أصول الأحكام 2/ 215، 216 بتصرف، وانظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي فصل "الأحاديث النبوية وربطها بالقرآن" 2/127. (2) الإحكام في أصول الأحكام 1/ 161.

المطلب الثاني: شبهة عرض السنة النبوية على العقل والرد عليها

المطلب الثاني: شبهة عرض السنة النبوية على العقل والرد عليها لم يكتف أهل الزيغ والهوى بعرض السنة المطهرة على القرآن الكريم للحكم عليها قبولاً أو رفضًا، وإنما سلكوا مسلكًا آخر في الحكم عليها والتشكيك فيها بعرضها على العقل (الصريح) ، فما وافقه قبل ولو كان آحادًا _ صح أو لم يصح _ وما لم يوافقه _ حتى ولو مع إمكان التأويل _ ردوه ولو كان متواترًا صحيحًا. وهذا المسلك والمنهج (عرض السنة على العقل بالمفهوم السابق من أصول أهل الكفر والبدع والأهواء كما حكاه عنهم الأئمة: ابن قيم الجوزية، وابن أبي العز، وابن قتيبة، والشاطبي. يقول ابن قيم الجوزرية: وبالجملة فمعارضة أمر الرسل أو خبرهم بالمعقولات إنما هي طريقة الكفار" (1) . ويقول ابن أبي العز (2) : "كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته، وما ظنه معقولاً، فما وفقه قال: إنه محكم، وقبله، واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه، ثم رده، وسمى رده تقويضًا، أو حرفه وسمى تحريفه تأويلاً (3) . ويقول الشاطبي في باب (مأخذ أهل البدع بالاستدلال) : "ردهم للأحاديث التى جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ويدعون أنها مخالفة للعقول، وغير جارية على مقتضى الدليل، فيجب ردها، ولما ردوها بتحكم العقول كان الكلام معهم راجعًا إلى أصل التحسين والتقبيح العقليين، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول التى بنى عليها أهل الابتداع في الدين،

_____ (1) مختصر الصواعق المرسلة 1/ 121. (2) ابن أبى العز: هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبى القاسم السلمي الشافعي أبو محمد، أحد الأئمة الأعلام، الملقب بسلطان العلماء، من مصنفاته: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، والإلمام في أدلة الأحكام، والتفسير الكبير، مات سنة 660هـ. له ترجمة في: طبقات المفسرين للداودي 1/ 315 رقم 288، والبداية والنهاية 13 / 335، شذرات الذهب 5/ 301، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 2/ 873 رقم 10، وذيل طبقات الفقهاء للشافعيين للعبّادي ص 36. (3) شرح العقيدة الطحاوية 2/ 80.

بحيث أن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه (1) . وبهذه الشبهة قال أهل الزيغ والهوى حديثًا: مثل محمود أبو رية (2) ، وقاسم أحمد (3) ، وسعيد العشماوي (4) ، ومحمد شحرور (5) ، وإسماعيل منصور (6) ، وجمال البنا (7) ، ونصر أبو زيد وغيره. ومن الأحاديث التى يستشهد بها خصوم السنة المطهرة في وجوب عرضها على العقل، ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.:" إذا حدثتم عني بحديث تعرفونه ولاتنكرونه، قلته أو لم أقله، فصدقوا به، وإني أقول ما يعرف ولا ينكر وإذا حدثتم عني بحديث تنكرون، لا تعرفونه، فكذبوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف" (9) . وهذا الحديث استدل به قديمًا: الطائفة التى ردت الأخبار كلها، وناظر الإمام الشافعي واحدًا من أتباعها كما حكاه الإمام الشافعي عنهم (10) . واستدل به حديثًا؛ الدكتور توفيق صدقي (11) ، والأستاذ جمال البنا (12) ، وغيرهم ممن سبقوا. ووجه استدلالهم من هذا الحديث: أنه يفيد في نظرهم وجوب عرض ما نسب إلي النبي صلى الله عليه وسلم. على المستحسن المعروف عن الناس _ حتى ولو كانوا أهل زيغ وضلالة _ فما وافق عقول هؤلاء الناس؛ فهو من السنة حتى ولو لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم. فعلاً، وما خالف تلك العقول، فكذب ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.، ولم يقله حتى ولو جاء متواترًا صحيحًا فالحجة عندهم في تلك العقول لا في السنة النبوية المطهرة. الجواب عن الحديث:

________ (1) الاعتصام 1/ 186، 187، 2/ 589. (2) أضواء على السنة ص 19، 143. (3) إعادة تقييم الحديث ص 59. (4) حقيقة الحجاب وحجية الحديث ص 91، 92. (5) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 726. (6) تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 659. (7) السنة ودورها في الفقه الجديد ص 86، 161، وانظر: كتابه الإسلام والعقلانية ص 38 وما بعدها. (8) نقد الخطاب الديني ص 101، 103، 131، 132، وانظر له مفهوم النص ص 28. (9) أخرجه الدارقطني في سننه كتاب في الأقضية والأحكام وغير ذلك باب، كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبى موسى الأشعري 4/ 208 رقمي 18، 19، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول الأصل الرابع والأربعون فيما يعدونه صدق الحديث 1/ 357 واللفظ له. وأخرجه العقيلي في الضعفاء الكبير 1/ 32، 33 رقم 14، والخطيب في تاريخه 11/ 311 رقم 6268، والبخاري في تاريخه 3/ 473 رقم 1585. (10) الأم كتاب سير الأوزاعي، باب سهم الفارس الراجل وتفضيل الخيل 7/ 339. (11) مجلة المنار المجلد 9/ 522. (12) الأصلان العظيمان ص 231.

هذا الحديث الذي استشهد به خصوم السنة المطهرة روي من طرق مختلفة كلها ضعيفة لا يصلح شيء منها، بل ولا بمجموعها للاحتجاج والاستشهاد. وكشف عن ذلك علماء الحديث. فقال الإمام البيهقي: "قال ابن خزيمة: في صحة هذا الحديث مقال، لم نر في شرق الأرض ولا غربها أحدًا يعرف خبر ابن أبي ذئب (1) من غير رواية يحيي بن آدم (2) ، ولا رأيت أحدًا من علماء الحديث يثبت هذا عن أبي هريرة. وهو مختلف على يحيي بن آدم في إسناده ومتنه اختلافًا كثيرًا يوجب الاضطراب، منهم من ينكر أبا هريرة، ومنهم من لا يذكر ويرسل الحديث، ومنهم من يقول في متنه: "إذا رويتم الحديث عنى فاعرضوه على كتاب الله" (3) . وقال البخاري في تاريخه: وقال يحيى بن آدم عن أبى هريرة وهو وهم، ليس فيه أبو هريرة (4) ، وفي علل ابن أبي حاتم قال: قال أبي: هذا حديث منكر، الثقات لا يرفعونه (5) . أى لا يرفعون في إسناده فوق المقبري، ليوافق قول البخاري. وقال العقيلي في الضعفاء: ليس له إسناد يصح (6)

______ (1) هو: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبى ذئب القرشي العامري، أبو الحارث، المدني، أحد الأعلام، ثقة فقيه فاضل. مات 158هـ. وقيل 159 هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 2/ 105 رقم 6102، والكاشف 2/ 194 رقم 5001 والثقات لابن شاهين ص 278 رقم 1140، والجمع بين رجال الصحيحين لابن القيسراني 2/ 444 رقم 1695. (2) هو: يحيى بن آدم بن سليمان الكوفي، أبو زكريا، مولى بني أمية، أحد أعلام ثقة حافظ فاضل مات سنة 203هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 2/ 296 رقم 7523، والكاشف 2/ 360 رقم 6124، والثقات للعجلي 468 رقم 1789، والتعريف برواة مسند الشاميين للدكتور على جماز ص 463 رقم 874. (3) انظر: مفتاج الجنة في الاحتجاج بالسنة ص 39. (4) التاريخ الكبير 3/ 474 رقم 1585 ترجمة سعيد المقبري. (5) العلل لابن أبى حاتم 2/ 310. (6) الضعفاء الكبير 1/ 32، 33 رقم 14.

والحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (1) ، وتعقبه في حكمه الحافظ السيوطي في كتابيه النكت البديعات على الموضوعات (2) ، واللآلئ المصنوعة (3) مقويا الحديث بشواهده، ووافقه على ذلك ابن عراق في تنزيه الشريعة (4) ، وتعقب السيوطي، وابن عراق في تقوية الحديث بشواهده الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف _ رحمه الله تعالى _ وسبق قوله في حديث عرض السنة على القرآن (5) . كما تعقب الأستاذ المعلمي اليماني الإمام السيوطى في شواهد الحديث بروايتي أحمد وابن ماجة. فالشاهد الأول " رواية أحمد" بين فيه وهمه؛ بأنه ذكرها بسند متن آخر وهو: "المؤمن القوي خير وأفضل ... إلخ (6) ، والمتن الشاهد في رواية أحمد في سنده أبو معشر (7) : وهو نجيح السندي، كان أول أمره ضعيفًا، ثم اختلط اختلاطًا شديدًا، وجاء بأحاديث منكرة، ولا سيما في روايته عن سعيد المقبري، وهو الذي روى عنه هذا الحديث الشاهد (8) ، مع أن سعيدًا نفسه اختلط أيضًا (9) ، قال الحافظ الهيثمي (10) : أبو معشر نجيح ضعفه أحمد وغيره وقد وثق (11) .

_____ (1) الموضوعات 1/ 257، 258. (2) النكت البديعات على الموضوعات ص 48 رقم 23. (3) اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1/ 213. (4) تنزيه الشريعة 1/ 264. (5) راجع: ص 221. (6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/ 366. (7) المصدر السابق 2/ 367، 483. (8) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة 279 هامش؛ والكاشف 2/ 317 رقم 5802، والتقريب 2/ 241 رقم 7126، وتهذيب التهذيب 10/ 419 رقم 758، ولسان الميزان 7/ 409 رقم 5015 وميزان الاعتدال 4/ 246 رقم 9017، والجرح والتعديل 8/ 493 رقم 2263، والمغنى 2/ 694، والضعفاء لابن نعيم ص 153 رقم 254، والضعفاء والمتروكين ص 235 رقم 618. (9) نهاية الاغتباط بمن رمى من الرواة بالاختلاط ص 132 رقم 40. (10) الحافظ الهيثمي هو: على بن أبى بكر بن سليمان، نور الدين أبو الحسن، إمام حافظ، رافق الحافظ العراقي في السماع، سمع جميع ما سمعه، من مصنفاته مجمع الزوائد، وبغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، وغير ذلك، مات سنة 807هـ. له ترجمة في:طبقات الحافظ للسيوطي ص 545 رقم 1178، وأنباء الغمر 2/ 307، وشذرات الذهب 7/ 70، والأعلام 4/ 266. (11) مجمع الزوائد 1/ 154.

كما تعقب المعلمي اليماني الإمام السيوطي في الشاهد الثاني رواية ابن ماجة؛ بأن في سندها المقبري (1) . وهو عبد الله بن سعيد أبي سعيد، متروك ساقط البتة (2) . وأمثل شاهد روي في هذا المعنى، واستشهد به الحافظ السيوطي ما أخرجه أحمد والبزار عن أبى حميد وأبى أسيد مرفوعًا: " إذا سمعتم الحديث عنى تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب؛ فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عنى تنكره قلوبكم وتنفر أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد؛ فأنا أبعدكم منه" (3) . والحديث أخرجه البخاري في تاريخه بلفظ: " إذا جاءكم الحديث عني يلين قلوبكم، فأنا أمرتكم به "، ثم أخرج من طريق عباس بن سهل عن أبى بن كعب قال:" إذا بلغكم عن النبي صلى الله عليه وسلم. ما يعرف ويلين الجلد، فقد يقول النبي صلى الله عليه وسلم. الخير، ولا يقول إلا الخير. قال البخاري: هذا أشبه وأصح (4) . قال البيهقي؛ يعني أصح من رواية من رواه عن أبي حميد، أو أبي أسيد وقد رواه ابن لهيعة، عن بكير بن الأشج، عن عبد الملك بن سعيد عن القاسم بن سهل، عن أبى بن كعب قال ذلك بمعناه، فصار الحديث المسند معلولاً (5) . وهذا ما رجحه المعلمي من أربعة أوجه في تحقيقه للحديث في الفوائد المجموعة (6) . وبالجملة: فالحديث بطرقه وشواهده لايصلح للاحتجاج والاستشهاد.

______ (1) اخرجه ابن ماجة في سننه المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله والتغليظ على من عارضه 1/ 23 رقم 21. (2) الفوائد المجموعة ص 279 هامش، وانظر: في ترجمة عبد الله المقبري، الكاشف 1/ 558 رقم 2752، والتقريب 1/ 497 رقم 3367، وتهذيب التهذيب 5/ 237 رقم 412، وميزان الاعتدال 2/ 429 رقم 4353، ولسان الميزان 7/ 263 رقم 3532، والجرح والتعديل 5/ 71 رقم 336، والمغنى 1/ 340، وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 199، والضعفاء والمتروكين ص 152 رقم 360. (3) أخرجه أحمد في مسنده 33/ 497، 5/ 425، وأخرجه البزار (كشف الأستار) 1/ 105، وقال البزار لا نعلمه يروى من وجه أحسن من هذا، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 149، 150، رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح. (4) التاريخ الكبير 5/ 514 رقم 1349. (5) مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة ص 41. (6) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني ص 281، 282 هامش.

يقول الإمام الشوكاني: "فهذا الحديث بشواهده لم تسكن إليه نفسي، وإني أظن أن ابن الجوزي قد وفق للصواب بذكره في موضوعاته" (1) . ويشهد لبطلان الحديث ما فيه من إباحة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.:"قلته أو لم أقله فصدقوا به". وفي لفظ: "ما بلغكم عنى من قول حسن لم أقله فأنا قلته". قال ابن حزم:" وهذا هو نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.؛ لأنه حكى عنه أنه قال: " لم أقله فأنا قلته" فكيف ما لم يقله أيستجيز هذا إلا كذاب زنديق كافر أحمق (2) ؟. قلت: وفي هذا رد على ما زعمه كذبًا جولدتسيهر من أن المحدثين يقررون "احتجاجًا" مثل حديث "ما قيل من قول حسن فأنا قلته" (3) . وحسبنا بهذه الطائفة المستشهدة بهذا الحديث أنهم مقرون على أنفسهم، بأنهم كاذبون، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أنه قال: " من حدث عنى بحديث يرى أنه كذب؛ فهو أحد الكاذبين" (4) أ. هـ. وعلى فرض صحة الحديث، فلا دلالة فيه على عدم حجية السنة النبوية، فكل ما يدل عليه أنه من أدلة صدق الحديث أن يكون وفق ما جاءت به الشريعة من المحاسن، فإن جاء على غير ذلك كان دليلاً على كذبه، ونحن نقول بذلك على ما هو مقرر عند المحدثين من علامات وضع الحديث، تكذيب الحسن له (5) . ويقول الحكيم الترمذي (6) في تأويل الحديث: " قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا حدثتم عنى بحديث تعرفونه، ولا تنكرونه" فنقول من تكلم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. بشئ من الحق، وعلى سبيل الهدي؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم سابق إلى ذلك القول وإن لم يكن قد تكلم بذلك اللفظ الذي أتى به من بعده،

_____ (1) المصدر السابق ص 281. (2) أخرجه ابن حزم في الإحكام 2/ 213 بسند فيه اشعث بن بزار، وقال فيه: كذاب ساقط لا يؤخذ حديثه، وبسند آخر فيه الحارث والعرزمي وعبد الله بن سعيد، وضعف الأولين وقال في الثالث كذاب مشهور. وانظر: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ص 39، 40. (3) العقيدة والشريعة في الإسلام ص 55. (4) سبق تخريجه ص 40. (5) المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن قيم الجوزرية ص 51، وانظر: السنة ومكانتها في التشريع للدكتور السباعي ص 164. (6) الحكيم الترمذي هو: الإمام أبو عبد الله محمد بن على بن الحسن، الزاهد، الواعظ، المؤذن، صاحب التصانيف النافعة، منها نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول، والرد على المعطلة، وختم الأولياء عاش إلى= =حدود 320هـ. له ترجمة في: تذكرة الحفاظ 2/ 645 رقم 668، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 286 رقم 642، ولسان الميزان لابن حجر 5/ 308، رقم 1033، وطبقات الشافعية لابن السبكي 2/ 145، وتاريخ بغداد 11/ 373رقم 6226.

فقد أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بأصله مجملاً كما ثبت في صحيح السنة من حديث ابن مسعور صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: " ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به، ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه" (1) . فلذلك قال: " فصدقوا به قلته أو لم أقله"، أي إن لم أقله بذلك اللفظ الذي يحدث به عنى فقد قلته بالأصل والأصل مؤد عن الفرع، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم. بالأصل، ثم تكلم أصحابه والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين من بعده بالفروع، فإذا كان الكلام معروفًا عن المحققين غير منكر؛ فهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم. قاله أو لم يقله، يجب علينا تصديقه _ وخاصة إذا لم يكن مما يقال من قبل الرأي ولم يرفعوه؛ لأن الأصل قد قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. وأعطاه لنا، وإنما قال ذلك لأصحابه الذين عرفهم بالحق، فإنما يعرف الحق المحق بهم، وهم أولوا الألباب والبصائر (2) رضوان الله عليهم أجمعين. أما الشواهد لهذا الحديث وهو متن: "إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم ... إلخ". فعلى فرض صحته فلا دلالة فيه على وجوب عرض السنة على العقل، فكل ما يدل عليه التثبيت عند سماع الحديث وخاصة إذا كانت فيه ظلمة وركاكة ومجازفات باردة لا يقول مثلها النبي وهذا ما قرره المحدثون، وجعلوه من دلائل الوضع في الحديث وإن صح سنده (3) . وفي ذلك يقول ابن الجوزي: "واعلم أن الحديث المنكر يقشعر له جلد طالب العلم، وينفر منه قلبه في الغالب" وروى عن الربيع بن خثيم (4)

___ (1) أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب البيوع 2/ 5 رقم 2136، وسكت عنه هو والذهبي، وأخرجه من حديث جابر، وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي، ومن وجه آخر عن جابر وصححه الذهبي على شرط مسلم. (2) نوادر الأصول، الأصل الرابع والأربعون فيما يعدونه صدق الحديث 1/ 360، 361. (3) المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن قيم الجوزية ص 50 رقم 53. (4) الربيع بن خثيم: بضم المعجمة وفتح المثلثة، ابن عائد بن عبد الله الثوري، أبو يزيد الكوفي، ثقة عابد مخضرم= =رباني حجة، قال له ابن مسعود: لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأحبك، مات سنة 63هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 294 رقم 1893، والكاشف 1/ 391 رقم 1529، والثقات لابن حبان 4/ 224، والثقات للعجلي ص 154 رقم 419 والثقات لابن شاهين ص 126 رقم 339، ومشاهير علماء الأمصار ص 125 رقم 737.

قال: "إن للحديث ضوءًا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكرة" (1) . يقول الأستاذ يحيي المعلمي اليماني: "وعلى فرض صحة الخبر، فلا سبيل إلى أن يفهم منه ما تدفعه القواطع، فمن المقطوع به، أن معارف الناس وآراءهم وأهواءهم تختلف اختلافًا شديدًا، وأن هناك أحاديث كثيرة، تقبلها قلوب، وتنكرها قلوب. وبهذا يعلم أن ما يعرض للسامع من قبول واستبشار، أو نفور واستنكار. قد يكون حيث ينبغي، وقد يكون حيث لاينبغي، وأنما هذا _ والله أعلم _ إرشاد إلى ما يستقبل به الخير عند سماعه، وقد يكون منشأ ذلك: أن المنافقين كانوا يرجفون بالمدينة ويشيعون الباطل، فقد يشيعون ما إذا سمعه المسملون، وظنوا صدقه ارتابوا في الدين، أو ظنوا السوء برسول الله، فأرشدوا إلى ما يدفع عنهم بادرة الارتياب، وظن السوء، ومع العلم بأن بادى الظن ليس بحجة شرعية، عليهم النظر والتدبر، والأخذ بالحجج المعروفة (2) . وبعد فهذا قول أهل العلم في حديث: "إذا حدثتم عني بحديث تعرفونه ولا تنكرونه ... إلخ" وشواهده وتبين لنا أنه لا حجة فيه لأعداء السنة وفي منهجهم بعرض السنة على العقل حيث الحكم عليها بالقبول أو الرفض. ونقول أيضًا في بيان تهافت وبطلان شبهة: "عرض السنة على العقل" سائلين القائلين بها: l أيهما الحاكم على الآخر النقل أم العقل؟ l ما أراد بالعقل الصريح الذي ترددونه؟ وما حدوده؟ وما مدى الاتفاق عليه؟ l وهل يتعارض النقل مع العقل؟ وإذا تعرضا فأيهما أحق التقديم؟ وأخيرًا هل أهمل المحدثون _ حقًا _ العقل في قبولهم للحديث وتصحيحه كما تدعون؟ الجواب إننا إذا نظرنا في كتب الأصول نجد الإجابة على السؤال الأول أيهما الحاكم على الآخر النقل أم العقل؟ فعند أهل الأصول العلم بالأحكام (الحكم، والحاكم، والمحكوم عليه، والمحكوم فيه) هو القطب الأول من الأقطاب الأربعة التى تندرج تحتها أصول الفقه، من هنا كان لابد من تعريف الحكم حيث له تعلق بالحاكم، والمحكوم عليه، والمحكوم فيه.

________ (1) الموضوعات لابن الجوزي 1/ 103، والكفاية ص 605. (2) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني ص 282 هامش.

فنقول: الحكم لغة: المنع والصرف، ومنه الحكمة للحديدة التى في اللجام، وبمعنى الإحكام، ومنه الحكيم في صفاته سبحانه (1) . وفي الاصطلاح: على المختار من قول الآمدي قال هو: "خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية" (2) وإذا تبين أن الحكم (خطاب الشارع) علم أنه لا حاكم على المكلفين سوى الله عزَّ وجلَّ ولا حكم إلا ما حكم به عزَّ وجلَّ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُون} (3) وهذا بإجماع الأمة سوى من شذ من المعتزلة، حيث حكموا العقل وجعلوه حاكمًا. وأنكر ذلك شارح مسلم الثبوت وقال:" إن هذا مما لايجترئ عليه أحد ممن يدعى الإسلام، بل إنما يقولون: "إن العقل معرف لبعض الأحكام الإلهية سواء ورد به الشرع أم لا. وهذا مأثور عن أكابر مشايخنا أيضًا (4) . والجمهور من الأصوليين، والمحدثين، والفقهاء، على خلاف ما ذهب إليه العلامة ابن عبد الشكور (5) ؛ حيث أثبتوا أن المعتزلة حكموا عقولهم، وجعلوها حاكمة لا محكومة بحكم خالقها.

___ (1) البحر المحيط للزركشي 1/ 117. (2) الإحكام للآمدي 1/ 90. (3) الآية 50 من سورة المائدة. (4) لفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/ 25. (5) ابن عبد الشكور: هو محب الله بن عبد الشكور البهاري الهندي، الفقيه الحفنى الأصولى المنطقي، توفي سنة 1119هـ. له ترجمة في الفتح المبين عبد الله المراغي 3/ 122، وأصول الفقه تاريخه ورجاله للدكتور شعبان إسماعيل ص 507، 508.

ولهذا فرع علماء الأصول على مسئلة (أنه لا حاكم سوى الله، ولا حكم إلا ما حكم به) فرعوا على ذلك خلافًا للمعتزلة: "أن العقل لايحسن ولايقبح، ولا يوجب شكر المنعم، وأنه لا حكم قبل ورود الشرع" (1) . ثم إن الله عزَّ وجلَّ جعل العقول في إدراكها حدًا تنتهى إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري عزَّ وجلَّ في إدراك جميع ما كان، وما يكون، وما لايكون، إذا لو كان كيف يكون. فمعلومات الله لا تنتاهي، ومعلومات العبد متناهية، والمتناهي لا يساوى ما لايتناهي، وهذا قول ابن خلدون (2) : "واعلم أن الشارع أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا؛ لاطلاعه على ما وراء الحس، والعقل يقف عاجزًا عن إدراك عالم ما وراء الطبيعة، ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها، والوقوف على تفصيل الوجود كله، وسفه رأيه في ذلك، وأعلم أن الوجود منحصر في مداركه لايعدوها (3) . ويقول الشاطبي مبطلا زعم من قال: إن مصالح الدنيا تدرك بالعقل في قوله: "إن مصالح الدار الآخرة ومفاسدها لا تعرف إلا بالشرع. وأما الدنيوية فتعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات". ويقول الشاطبي ردًا: "أما إن ما يتعلق بالآخرة لا يعرف إلا بالشرع فكما قال، وأما ما قال في الدنيوية فليس كما قال من كل وجه، بل ذلك من بعض الوجوه دون بعض. ولذلك لما جاء الشرع بعد زمان فترة، تبين به ما كان عليه أهل الفترة من انحراف الأحوال عن الاستقامة، وخروجهم عن مقتضى العدل في الأحكام ومن أجل

_ (1) انظر: تفصيل ذلك في المستصفى للغزالي 1/ 8، والإحكام للآمدى 1/ 76 _ 90، والإبهاج في شرح المنهاج 1/ 43، 135، وإرشاد الفحول 1/ 56، وأصول الفقه للخضري ص 23، 24. (2) ابن خلدون: هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون، أبو زيد، الفيلسوف المؤرخ العالم البحاثة، ولي قضاء المالكية بمصر، اشتهر بكتابه (العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر" مات سنة 808هـ. له ترجمة في: الضوء اللامع 4/ 145 رقم 378، والأعلام 3/ 330. (3) المقدمة الفصل العاشر في علم الكلام ص 508، وانظر: الإسلام على مفترق الطرق الأستاذ محمد أسد ص 100 وما بعدها.

هذا القصور في تلك العقول وقع الإعذار والإنذار كما قال عزَّ وجلَّ: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) . ولو كان الأمر على ما قال بإطلاق، لم يحتج في الشرع إلا إلى بث مصالح الدار الآخرة، خاصة وذلك لم يكن، وإنما جاء بما يقيم أمر الدنيا والآخرة معًا، وإن كان قصده بإقامة الدنيا والآخرة، فليس بخارج عن كونه قاصدًا لإقامة مصالح الدنيا، حتى يتأتى فيها سلوك طريق الآخرة، وقد بث في ذلك من التصرفات، وحسم من أوجه الفساد التى كانت جارية، ما لا مزيد عليه. فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل، اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها، بعد وضع الشرع أصولها فذلك لا نزاع فيه" (2) . ومن هنا وجب أن يقدم ما حقه التقديم _ وهو الشرع _ ويؤخر ما حقه التأخير وهو نظر العقل؛ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكمًا على الكامل؛ ولأنه خلاف المعقول والمنقول، ولذلك قال: اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك، تنبيها على تقدم الشرع على العقل (3) . ومن قدم العقل على الشرع لزمه القدح في العقل نفسه؛ لأن العقل قد شهد للشرع والوحي بأنه أعلم منه، فلو قدم عليه؛ لكان ذلك قدحًا في شهادته، وإذا بطلت شهادته؛ بطل قبول قوله، بل إن من قدم العقل على الشرع؛ لزمه القدح في الشرع أيضًا. يقول الإمام الشاطبي: أولاً: "إنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل، لم يكن الحد الذي حده النقل فائدة، لأن الفرض أنه حد له حدًا، فإذا جاز تعديه صار الحد غير مفيد، وذلك في الشريعة باطل، فما أدى إليه مثله. ثانيًا: ما تبين في علم الكلام والأصول، من أن العقل لايحسن ولا يقبح، ولو فرضناه متعديًا لماحده الشرع، ولكان محسنًا ومقبحًا، وهذا خلف.

_______ . (1) الآية 165 من سورة النساء. (2) الموافقات 2/ 360 وانظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام ابن عبد السلام 1/ 5 _ 10. (3) الاعتصام للشاطبي 2/ 568.

ثالثًا: أنه لو قدم العقل على النقل؛ لجاز إبطال الشريعة بالعقل، وهذا محال باطل. وبيان ذلك: أن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدودًا في أفعالهم، وأقوالهم، واعتقاداتهم وهو جملة ما تضمنته. فإن جاز للعقل تعدى حد واحد، جاز له تعدى جميع الحدود؛ لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله، وتعدى حد واحد هو بمعنى إبطاله، أي ليس هذا الحد بصحيح، وإن جاز إبطال واحد، جاز إبطال السائر، وهذا لايقول به أحد، لظهور محاله" (1) فكان تقديم العقل على النقل _ لا لشئ إلا لأنه عقل _ يتضمن القدح في العقل والنقل _ كما مر وهذا ظاهر لا خفاء فيه. ويقول الدكتور السباعي _ رحمه الله تعالى _: ولننظر إلى المسألة من ناحة أخرى. ولنفرض أن تحكيم العقل في الأحاديث هو الصواب، فنحن نسأل: أي عقل هذا الذي تريدون أن تحكموه؟ أعقل الفلاسفة؟ إنهم مختلفون، وما من متأخر منهم إلا وهو ينقض قول من سبقه. أعقل الأدباء؟ إنه ليس من شأنهم، فإن عنايتهم _ عفا الله عنهم _ بالنوادر والحكايات. أعقل علماء الطب، أم الهندسة، أم الرياضيات؟ مالهم ولهذا؟ أعقل المحدثين؟ إنه لم يعجبكم، بل إنكم تهمونه بالغباوة والبساطة. أعقل الفقهاء؟ إنهم مذاهب متعددة، وعقليتهم _ في رأيكم _ لعقلية المحدثين. أعقل الملحدين؟ إنهم يرون أن إيمانكم بوجود الله، جهل منكم وخرافة. أعقل المؤمنين بوجود الله؟ فنحن نسألكم: عقل أي مذهب من مذاهبهم ترتضون؟ أعقل أهل السنة والجماعة؟ هذا لا يرضى الشيعة، ولا المعتزلة. أم عقل المعتزلة؟ إنه لا يرضى جمهور طوائف المسلمين فأي عقل ترتضون (2) ؟ فمجرد الاتفاق على طبيعة العقل الحاكم غير واردة.

_______ (1) الموافقات 1/ 78، 79، وانظر: مختصر الصواعق المرسلة 1/ 110. (2) السنة ومكانتها في التشريع 39، 40.

يقول ابن قيم الجوزية: "فإن قالوا: إنما تقدم العقل الصريح الذي لم يختلف فيه اثنان على نصوص الأنبياء فقد رموا الأنبياء بما هم أبعد الخلق منه، وهو أنهم جاءوا بما يخالف العقل الصريح هذا وقد شهد الله وكفى بالله شهيدا، وشهد بشهادته الملائكة وأولوا العلم؛ أن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. هي الطريقة البرهانية للحكمة كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُم} (1) . وقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم} (2) فالطريقة البرهانية هي الواردة بالوحي كتابًا وسنة معظمة للرشد داعية إلي الخير، والطريقة العقلية _ التقليدية التخمينية هي المأخوذة من رجل _ من يونان _ وضع بعقله قانونا من مقدمتين ونتيجة _ يصحح بزعمه علوم الخلائق وعقولهم، فلم يستفد به عاقل تصحيح مسألة واحدة في شئ من علوم بنى آدم، بل ما وزن به علم إلا أفسده، وما برع فيه أحد إلا انسلخ من حقائق الإيمان كانسلاخ القميص عن الإنسان (3) . ونقول لمن حكموا عقولهم في شرع الله عزَّ وجلَّ، وقدموها عليه: إن تحكيم العقل وهو مخلوق في خالقه بحيث يقولون: يجب عليه بعثه الرسل، ويجب عليه الصلاح والأصلح، ويجب عليه اللطف، ويجب عليه كذا، وكيف يجوز هذا في حق الله عزَّ وجلَّ مما ورد في صفاته وأسمائه جل جلاله _ في كتابه العزيز وسنة نبيه المطهرة؟ وكيف المعجزة؟ وكيف اليوم الآخر، وما فيه من حساب، وعقاب، وجنة، ونار، وميزان، وصراط، وشفاعة ... ؟ إلى آخر ما ينطق به في تلك الأشياء (الإلهيات والنبوات والمعجزات للأنبياء والسمعيات الغيبية) .

_______ (1) الآية 174 من سورة النساء. (2) الآية 113 من سورة النساء. (3) مختصر الصواعق المرسلة 1/ 112، 113 بتصرف.

نقول: إن قولكم بعقولكم في تلك الأمور _ اعتراضًا _ هذا يجب، هذا يستحيل، كيف هذا. هذا منكم اجتراء على الله عزَّ وجلَّ، وعلى عظمته جل جلاله، واعتراض على حكمه وشرعه الحكيم، وتقديم بين يدي الله ورسوله، ومن أجل البارى وعظمه وعظم حكمه وشرعه، لم يجترئ على ذلك، فلله عزَّ وجلَّ الحجة البالغة والحكمة الكاملة، ولا معقب لحكمه؛ فوجب الوقوف مع قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} (1) . وقوله تعالى: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} (2) . وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِه} (3) . ويكفيك في فساد عقل معارض الوحي قرآنًا وسنة اجتراءه على عصمة ربه عزَّ وجلَّ. فكيف نجعل العقل حاكمًا على شرعه "كتابًا وسنة"، ونقدمه عليه بعد كل هذا، وكيف نتصور أن الشارع الحكيم يشرع شيئًا يتناقض مع العقول المحكومة بشرعه الحنيف. يقول الدكتور السباعي: "من المقرر في الإسلام أنه ليس فيه ما يرفضه العقل، ويحكم باستحالته ولكن فيه _ كما في كل رسالة سماوية _ أمور قد "يستغربها" العقل ولا يستطيع أن يتصورها (4) في (الإلهيات والنبوات والمعجزات والسمعيات) فتلك الأمور فوق نطاق العقل وإدراكه، وقد يحصل الغلط في فهمها فيفهم منها ما يخالف صريح العقل، فيقع التعارض بين ما فهم من النقل وبين ما اقتضاه صريح العقل، فهذا لايدفع (5) . يقول ابن خلدون:" لأن هذه العقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعديل عليه ... ، فإذا هدانا الشارع إلى مدرك؛ فينبغي أن نقدمه على مداركنا، ونثق به دونها، ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه، بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادًا وعلمًا، عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع، ونعزل العقل عنه" (6) .

_______ (1) الآية 149 من سورة الأنعام. (2) الآية 23 من سورة الأنبياء. (3) الآية 41 من سورة الرعد. (4) السنة ومكانتها في التشريع ص 34 بتصرف يسير. (5) انظر: أمثلة على ذلك مما رفضوه بعقولهم والرد عليهم في الباب الثالث حديث رؤية الله عزَّ وجلَّ 2/ 219-229، وحديث عذاب القبر ونعيمه 2/ 282-294، وانظر أيضًا:حديث الذباب 2 / 342-353. (6) المقدمة لابن خلدون الفصل الحادي عشر، في علم الإلهيات ص 548 بتصرف يسير.

ويقول في موضع آخر: "وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح؛ فأحكامه يقينية، لا كذب فيها غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال ... ، ومن يقدم العقل على السمع في أمثال هذا القضايا، فذلك لقصور في فهمه، واضمحلال رأيه، وقد تبين لك الحق من ذلك" (1) . وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية: " إن ما علم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء؛ لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة. ومن تأمل ذلك فيما تنازع العقلاء فيه من المسائل الكبار؛ وجد ما خالف النصوص الصريحة الصحيحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها. فتأمل ذلك في مسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد؛ تجد ما يدل عليه صريح العقل، ونحن نعلم قطعا أن الرسل لايخبرون بمحالات العقول، وإن أخبروا بمجازات العقول فلا يخبرون بما يحيله العقل (2) . ونختم قضية التعارض بين العقل والنقل بسؤال افترضه الإمام يحيي بن الحسين القاسم الرسي العلم الثاني من علمى الأئمة الزيدية (ت 298هـ) قال: "فإن قيل: هل يجوز أن تتضاد حجج الله وتختلف، فما تثبته حجة العقل تبطلها حجة الكتاب والسنة، وما تثبته حجة الكتاب والسنة تبطلها حجة العقل؟ فإن قال: نعم.ويكون ذلك ويوجد، استغنى عن مناظرته بجهله، واستدل على كفره بذلك، وخالف الخلق أجمعين، وقال بما لم يقل به أحد من العالمين، وافتضح عند نفسه فلا عن غيره؛ لأنه يزعم أن حجج الله تتناقض وتتضاد، وما تناقض وتضاد فليس بحجة الله على العباد....، ولو تناقضت حججه، لبطلت فرائضه، ولو بطلت فرائضه؛ لبطل معنى إرساله للرسل....، فبان بحمد الله، لكل ذي عقل وفهم وتمميز أن من قال بتناقض حجج الرحمن غير عارف به ولا مقر به، ومن لم يعرف الله جل جلاله فلم يعبده، ومن لم يعبده فقد عبد غيره ومن عبد غيره؛ فهو من الكافرين، ومن كان الكافرين فقد خرج بحمد الله من حد المؤمنين، فنعوذ بالله من الجهل والعمى ونسأله الزيادة في الرحمة والهدي" (3) .

_______ (1) المصدر السابق الفصل العاشر في علم الكلام، ص 509 بتصرف يسير. (2) مختصر الصواعق المرسلة 1/ 114 وما بعدها. (3) رسائل العدل والتوحيد للدكتور محمد عمارة 2/ 301 _ 303 بتصرف. وانظر: مختصر الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية 1/ 114 _ 130، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 1/ 171، وانظر: ما سبق في الجواب عن شبهة عرض السنة على القرآن ص 236-239.

يقول الإمام البيهقي: " وعلى الأحوال كلها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. الثابت عنه: قريب من العقول موافق للأصول، لا ينكره عقل من عقل عن الله الموضع الذي وضع به رسول الله صلى الله عليه وسلم.، من دينه، وما افترض على الناس من طاعته، ولا ينفر منه قلب من اعتقد بتصديقه فيما قال واتباعه فيماحكم به، وكما هو جميل حسن من حيث الشرع، جميل في الأخلاق حسن عند أولى الألباب (1) . وأخيرًا هل أهمل المتحدثون _ حقًا _ العقل في قبولهم للحديث وتصحيحه كما زعم أعداء السنة النبوية المطهرة؟ هذا السؤال أجاب عنه الشيخ عبد الرحمن المعلمي _ رحمه الله تعالى _ في كتابه الأنوار الكاشفة بقوله: "كلا، راعوا ذلك في أربعة مواطن: أولاً: عند السماع، ثانيًا: عند التحديث، ثالثًا: عند الحكم على الرواة، رابعًا: عند الحكم على الحديث. أولاً: أما مراعاة المحدثين للعقل في قبول الحديث ورده عند السماع: فيبدو ذلك واضحًا في اعتمادهم صحة سماع الصبي متى كان مميزًا فاهمًا للخطاب ورد الجواب، سواء كان ابن خمس، أو أقل، وروى ذلك بعد بلوغه الحلم، ومتى لم يكن العقل فهم الخطاب، ورد الجواب لم يصح سماعه حتى قال ابن الصلاح (2) : وإن كان ابن خمسين سنة (3) . ويقول المعلمي في شرح ذلك "فالمثبتون إذا سمعوا خبرًا تمتنع صحته أو تبعد، لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإذا حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرت مصلحة لذكرة، ذكروه مع القدح فيه وفي الرواي الذي عليه تبعته (4) .

_______ (1) مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ص 41. (2) ابن الصلاح: هو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري الشافعي، أبو عمرو، كان من أعلام الدين، وأحد فضلاء عصره في التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، متبحرًا في ذلك يضرب به المثل، من مؤلفاته، علوم الحديث، وشرح مسلم، وغير ذلك. مات سنة 643هـ وله ترجمته في: طبقات الحفاظ للسيوطي ص 503 رقم 1107، وتذكرة الحفاظ 4/ 1430 رقم 1141، والبداية والنهاية 13/ 168، والعبر 5/ 177، وشذرات الذهب 5/ 221، وطبقات المفسرين للداودي 1/ 382 _ 384 رقم 327، وطبقات الشافعية لابن هداية الله ص 84. (3) علوم الحديث لابن الصلاح ص 97، وانظر: فتح المغيث للسخاوي 2/ 14، 15، وتدريب الراوي للسيوطي 2/ 6. (4) الأنوار الكاشفة عبد الرحمن المعلمي ص 6.

ويقول الأستاذ أبو غدة _ رحمه الله تعالى _: المراد بمراعاة العقل عند السماع، فحص التلميذ الواعي وانتباهه لحال الشيخ الرواي، الذي يريد أن يتلقى عنه، قبل سماعه منه، فإذا وجه سيئ الحفظ، أو مضطربًا في الحديث أو شديد التدليس عند التحديث، أو يروى الواهيات، أو المنكرات، أو يسوق الموضوعات والخرافات، أو يقلب الأسانيد أو المتون، أو صاحب بدعة تتصل بحديثه، أو لا تتصل: أعرض عن التحمل عنه، والسماع منه. وكانوا يوغلون، ويدققون جدًا في البحث عن الشيخ والكشف عن حاله قبل الأخذ عنه، حتى يقال لهم: أتريدون أن تزوجوه؟ روى الخطيب في الكفاية بسنده إلى: "شاذان الأسود بن عامر _ قال: سمعت الحسن بن صالح يقول: كنا إذا أردنا أن نكتب عن الرجل سألنا عنه حتى يقال لنا: أتريدون أن تزوجوة؟ " (1) . وكثير من طلبة الحديث كانوا لايكتبون عن أحد حتى يسألوه عنه أئمة الشأن الذين يعرفون الرواة، ومن يجوز أن يكتب عنه، ومن لا يحل كتب حديثه للاحتجاج أو الاعتبار، فعن أبى العباس بن باذام قال: قال لي والوليد بن مسلم القرشي: وكنت إذا أردت أن آتي الشيخ أسمع منه شيئًا، سألت عنه قبل أن آيته الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، فإذا رأيًا أن أتيه أتيته" (2) ونحو ذلك كثير منتشر في أخبار الراوة والمحدثين. وكثيرًا ما كان بعض الطلبة يمتحنون الشيوخ قبل التلقى عنهم، فيقلبون لهم بعض الأسانيد في بعض الأحاديث، ويركبون عليها المتون، ويسألهم عنها على أنها من أحاديثهم وروايتهم، يفعلون هذا عمدًا: امتحانًا للشيخ قبل السماع منه، فإن انتبه عرفوا ضبطه ومتانة حفظه وشدة يقظته ودقة وعيه، وأخذوا عنه، وإن تلقن وأقر: الحديث المقلوب والمغلوط تركوا الرواية عنه. ومن نماذج مراعاتهم للعقل في قبول الحديث ورده عند السماع. 1_ ما رواه الدارقطنى في سننه عن سفيان بن عيينة قال: دخلت على الحجاج بن أرطاة (3) ، وسمعت كلامه، فذكر شيئًا أنكرته، فلم أحمل عنه شيئًا.

_______ (1) الكفاية في علم الرواية ص 93. (2) تهذيب الكمال للمزي 3/ 1475. (3) الحجاج بن أرطاة: هو حجاج بن أرطاة _ بفتح الهمزة _ ابن ثور بن هبيرة النخعي، أبو أرطاة الكوفي،= =القاضي، أحد فقهاء، صدوق، كثير الخطأ، والتدليس. مات سنة 149هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 188 رقم 1122، والكاشف 1/ 311 رقم 928، وتذكرة الحفاظ 1/ 186 رقم 181، طبقات الحفاظ للسيوطي ص 87 رقم 172، والثقات للعجلي ص 107 رقم 250، ومعرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد الذهبي ص 5 رقم 78، وحاشية سبط ابن العجمي على الكاشف 1/ 311.

وقال يحيى بن سعيد القطان: رأيت الحجاج بن أرطاة بمكة، فلم أحمل عنه شيئًا " (1) . 2_ وروي الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عبد الله المبارك (2) ، قال: لو خيرت بين أن أدخل الجنة وبين أن ألقى عبد الله محرر الجزري الرمى (3) قاضى الرقة _ لاخترت أن ألقاه، ثم أدخل الجنة، فلما رأيته كانت بعرة أحب إلى منه" (4) . ثانيًا: وأما مراعاة المحدثين للعقل في قبول الحديث ورده عند الحديث _ لا عند السماع والتحمل، فيبدو ذلك واضحًا في اشتراطهم العدالة، والضبط في صحة قبولهم للحديث، وتصحيحه. ومن شروط العدالة بعد الإسلام: البلوغ والعقل، فلا يقبل حديث غير البالغ على الصحيح (5) ، ولا المجنون سواء المطبق والمنقطع إذا أثر في الإفاقة (6) .

_______ (1) الدارقطني في سننه كتاب الحدود والديات وغيره 3/ 175 رقم 266. (2) عبد الله بن المبارك: هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، أحد الأئمة الأعلام وكان ثقة، عالمًا ربانيًا، متثبتًا، صحيح الحديث مات سنة 181هـ. له ترجمة في: تذكرة الحفاظ 1/ 274 رقم 260، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص 123 رقم 249، والثقات للعجلي ص 275 رقم 876، والثقات لابن حبان 7/ 7، والديباج المذهب ص 212 رقم 261، وطبقات المفسرين لداودي 1/ 250رقم 232، ومشاهير علماء الأمصار ص 227رقم 1564، والفهرست لابن النديم ص 377، 378. (3) عبد الله بن محرر، بمهملات، الجزري، القاضي، متروك، مات في خلافة أبي جعفر. له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 528 رقم 3584، والكاشف 1/ 592 رقم 2944، والضعفاء والمتروكين للنسائي ص 148 رقم 348، والمجروحين لابن حبان 2/ 22، والجرح والتعديل 5/ 176 رقم 824، والضعفاء لأبي نعيم ص 151 رقم 118. (4) مسلم (بشرح النووي) المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين 1/ 131، وانظر: لمحات من تاريخ السنة وعلوم الخديث الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ص 172 _ 174. (5) انظر: فتح المغيث للسخاوى 1/ 307، وهو الذي حكاه النووى عن الأكثرين، انظر: تدريب الراوي 1/ 300. (6) انظر: فتح المغيث للسخاوي 1/ 307 وما بعدها، وتدريب الراوي 1/ 300.

وأما الضبط فيعرف بمدى موافقته لأهل الحفظ، فإن وافقهم غالبًا، ولو أتى بأنقص لا يتغير به المعنى، أو في المعنى؛ فهو ضابط محتج بحديثه، وإن وافقهم نادرًا، وكثرت مخالفته لهم والزيادة عليهم فيما أتى به؛ فهو مخطئ مغفل، عديم الضبط، لا يحتج بحديثه، وإلى ذلك أشار الإمام الشافعي _ رحمه الله تعالى _ فيمن تقوم به الحجة؛ فقال: "إذا شارك أهل الحفظ وافق حديثهم" (1) . ويقول أيضًا: "ولا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه، إلا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه، بأن الحديث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكثر دلالة بالصدق منه" (2) . وقال الخطيب في الكفاية:"باب وجوب اطراح المنكر والمستحيل من الأحاديث" (3) يقول الأستاذ عبد الرحمن المعلمي: وفي الرواة جماعة يتسامحون عند السماع وعند التحديث، لكن الأئمة بالمرصاد للرواة، فلا تكاد تجد حديثًا بين البطلان، إلا وجدت في سنده واحدًا أو أثنين أو جماعة قد جرحهم الأئمة (4) . يقول الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة _ رحمه الله تعالى _: "إن المحدثين الحفاظ المتوسعين في جمع الحديث جرت عادتهم على سماع ما يحدث به من الأحاديث وما لا يحدث به، لأنه ينفع في وجوه كثيرة من علوم الحديث، ولذلك قالوا وقرروا هذا القاعدة، التى عبر عنها الحفاظ يحيى ين معين بقوله: "إذا كتبت فقمش وإذا حدثت ففتش" أى عند تحمل الحديث وتلقيه عن شيوخ الرواية، يجمعون منه ما استطاعوا عن كل شيخ، ولكن عند تحديثهم يفتشون فيما تحملوه من الأسانيد والمتون، فلا يحدثون إلا بالأسانيد المتصلة بالعدول الثقات الضابطين عن مثلهم، والمتون الخالية من الشذوذ والعلة. وما تبين لهم من كذب أو وهم أو بلايا للرواة في الأسانيد، أو الشذوذ، أو علة في المتنون يمكسون عن التحديث بها، ولا يذكرونها إلا مع البيان لما في تلك الأسانيد أو المتنون من ضعف وشذوذ، وربما يحرقون هذه الكتب ويقطعونها، وكل هذا تجده مذكورًا في تراجم طائفة كبيرة من الرواة المجروحين.

_______ (1) الرسالة للإمام الشافعي ص 371 فقرة رقم 1001، وانظر: فتح المغيث للسخاوى 1/ 328. (2) الرسالة للشافعي ص 399 فقرة رقم 1099. (3) الكفاية ص 603. (4) الأنوار الكاشفة ص 6، 7.

ونسوق هنا نموذج من ذلك: جاء في الميزان، وتهذيب التهذيب في ترجمة "خالد بن يزيد بن أبى مالك الدمشقي "قال ابن أبى الحواري" (1) : سمعت يحيى بن معين يقول: بالشام كتاب ينبغي أن يدفن: "كتاب الديات" لخالد بن يزيد بن أبى مالك. لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة. قال أحمد بن أبى الحواري. قد كنت سمعت هذا الكتاب من خالد بن يزيد، ثم أعطيته لابن عبدوس العطار، فقطعه وأعطى للناس فيه الحوائج" (2) . ثالثًا: وأما مراعاة المحدثين للعقل عند الحكم على الرواة: فهذا يظهر كثيرًا في كتب التراجم، فالأئمة كثيرًا ما يجرحون الراوى بخبر واحد منكر جاء به فضلاً عن خبرين أو أكثر، ويقولون: للخبر الذي تمتنع صحته أو تبعد: "منكر" أو "باطل"، وتجد ذلك كثيرًا في تراجم الضعفاء، وكتب العلل والموضوعات والمتثبتون لا يوثقون الراوى حتى يستعرضوا حديثه، وينقدوه حديثًا حديثًا (3) . رابعًا: وأما مراعاة المحدثين للعقل عند الحكم على متون الأحاديث فهذا واضح في جعلهم من دلائل الوضع في الحديث مخالفته لبدهيات العقل (4) ، إلا أن ذلك مقيدٌ بعدم إمكان التأويل والمقصود بالتأويل هنا: محاولة التوفيق بين ما ظاهره التعارض بين المنقصول والمعقلو وبشرط:"ألا يسرح العقل في مجال النظر والتأويل _ وهو يوفق _ إلا بقدر ما يسرحه النقل" (5) . كما أن العقل مقيد بالمستنير بكتاب الله عزَّ وجلَّ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. الثابتة. وفي ذلك يقول الحكيم الترمذي: "وإنما تعرف، وتنكر العقول التى لها إلى الله سبيل يصل إلى الله ونور الله سراجه والعقل بصيرته، والحق خبئته والسكينة طابعه فرجع إلى خلقه والحق عنده أبلج يضئ في قلبه كضوء السراج يقينًا وعلمًا به كما قال ربيع بن خُيثم: " إن على الحق نورًا وضوءًا كضوء النهار نعرفه، وإن على الباطل ظلمة كظلمة الليل ننكرة".

_______ (1) ابن أبي الحواري: هو أحمد بن عبد الله بن ميمون بن العباس التغلبي بفتح المثناة وسكون المعجمة وكسر اللام، يكني أبا الحسن بن أبي الحواري، بفتح المهملة والواو الخفيفة وكسر الراء، ثقة زاهد. مات سنة 246هـ له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 39 رقم 61، والكاشف 1/ 197 رقم 51، والثقات لابن حبان 8/ 24، والإرشاد للخليلي ص 134، 135، ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور 3/ 162. (2) ميزان الاعتدال 1/ 645 رقم 2475، وتهذيب التهذيب 3/ 126 رقم 232، وانظر: لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ص 174 _ 176. (3) الأنوار الكاشفة للمعلمي ص 7. (4) انظر: تدريب الراوي للسيوطي 1/ 276، وتوضيح الأفكار للصنعاني 2/ 96 وهذا ما قاله ابن خلدون في مقدمته، مقررًا ما قرره أهل الحديث، بدليل دفاعه عن النقل وتقديمه على العقل إذا تعارض معه، وسفه عقول من يقدمون العقل على النقل عند التعارض الظاهرى، انظر المقدمة ص 508، ولكن قاسم أحمد في إعادة تقييم الحديث ص 59، استدل بكلام ابن خلدون على وجوب أن تكون السنة مؤيدة بالقرآن والقياس العقلي _ بمفهوم أعداء السنة. ولا حجة له فيما نقله عن ابن خلدون، لقوله بالقاعدة بمفهوم أهل الحديث. (5) الموافقات للشاطبي 1/ 78.

فالمحققون هكذا صفتهم يعرفون الحق والباطل وكذلك وعد الله تعالى المتقين فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (1) . أما العقل المخلط المكب على شهوات الدنيا المحجوب عقله عن الله عزَّ وجلَّ فليس هو المغنى بهذا؛ لأن صدره مظلم، فكيف يعرف الحق؟ وإنما شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: "إذا جاءكم عنى حديث تعرفونه، ولا تنكرونه" (2) . قلت: ومما سبق يتبين لنا أن "قاعدة عرض السنة على العقل" في الحكم على السنة النبوية المطهرة، قاعدة مقررة عند المحدثين والفقهاء، وطبقوها فعلاً في قبولهم للأحاديث وتصحيحها، إلا أنها مقيدة باستحالة التأويل بالجمع بين ما ظاهره التعارض بين النقل وما استغربه العقل الواقف عند الحدود التى وضعها له خالقه، فلا يحسن إلا ما حسنه الشرع، ولا يقبح إلا ما قبحه الشرع، ولا يقدم حكمه على حكم رب العباد عزَّ وجلَّ. وأخيرًا: صدق الفاروق عمر رضي الله عنه قال: " ألا إن أصحاب الرأى أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوا فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا، ألا وإنا نقتدى ولا نبتدى، ونتبع ولا نبتدع، ما نضل ما تمسكنا بالأثر" وفي رواية قال: "إياكم ومجالسة أصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنة، أعيتهم السنة أن يحفظوها، ونسوا الأحاديث أن يعوها، وسئلوا عما لا يعلمون، فاستحيوا أن يقولوا لا نعلم، فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا كثيرًا، وضلوا عن سواء السبيل، إن نبيكم لم يقبضه الله حتى أغناه الله بالوحي عن الرأي، ولو كان الرأي أولى من السنة، لكان باطن الخفين أولى بالمسح من ظاهرهما" (3) .

_______ (1) الآية 29 من سورة الأنفال. (2) نوادر الأصول للحكيم الترمذي الأصل الرابع والأربعون فيما يعدونه صدق الحديث 1/ 361، وانظر: قواعد التحديث للقاسمي ص 165. (3) الفقيه والمتفقه للخطيب 1/ 453، 454 رقمى 477، 478، وقال ابن قيم الجوزية وأسانيد هذه الآثار = =عن عمر في غاية الصحة. انظر: أعلام الموقعين 1/ 55، وانظر: في نفس المصدر 1/ 66، 67، "معنى الرأي، ومتى يكون محمودًا، ومتى يكون مذمومًا"، وانظر: المدخل إلى السنة للأستاذ الدكتور عبد المهدي ص 114، 259.

وقال الحافظ ابن عبد البر: "ومن أعف نفسه من النظر، وأضرب عما ذكرنا، وعارض السنن برأيه، ورام أن يردها إلى مبلغ نظره؛ فهو ضال مضل، ومن جهل كذلك كله أيضًا وتقحم في الفتوى بلا علم؛ فهو أشد عمى وأضل سبيلاً ... واعلم يا أخي: أن القرآن والسنة هما أصل الرأى ... ومن جهل الأصل لم يصل الفرع أبدًا" (1) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_______ (1) جامع بيان العلم وفضله 2/ 173 بتصرف يسير.

المطلب الثالث:وفيه الشبه الآتية

المطلب الثالث:وفيه الشبه الآتية: أولاً: شبهة النهى عن كتابة السنة المطهرة والرد عليها. ثانيًا: شبهة التأخر في تدوين السنة المطهرة والرد عليها. ثالثًا: شبهة رواية الحديث بالمعنى والرد عليها. رابعًا: شبهة أن الوضع وكثرة الوضاعين للحديث أضعفت الثقة بالسنة النبوية. والرد عليها. أولاً: شبهة النهى عن كتابة السنة المطهرة وفيما ما يلى: أ _ استعراض الشبهة وأصحابها والرد عليها بما يلي: أولاً: ذكر نماذج من الأحاديث والآثار الواردة في النهى عن كتابة السنة النبوية. ثانيًا: بيان درجة الأحاديث والآثار الواردة في النهى عن كتابة السنة النبوية. ثالثًا: الجواب عن زعمهم بأن النهى يدل على عدم حجية السنة النبوية. رابعًا: بيان علة النهى عن كتابة السنة كما وردت في الأحاديث والآثار التى استشهد بها خصوم السنة على شبهتهم. ب _ بيان علة النهى عن كتابة السنة عند أعدائها والرد على مزاعمهم الآتية: أولاً: أن النهى عن كتابة السنة المطهرة يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم. وأصحابه رضي الله عنه أرادوا ألا يكون مع كتاب الله عزَّ وجلَّ كتاب آخر. ثانيًا: أن النهى يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم. وأصحابه رضي الله عنه أرادوا ألا تكون السنة دينًا عامًا دائمًا كالقرآن الكريم. ثالثًا: أن النهى عن الإكثار من التحديث دليل على أن الصحابة رضي الله عنه كانوا يجتهدون في مقابل السنة الشريفة ولا يأخذون بها. رابعًا: أن النهى عن الإكثار من الرواية يدل على حجية السنة، واتهام على من أبى بكر وعمر رضي الله عنه للصحابة بالكذب.

شبهة النهى عن كتابة السنة استعراض الشبهة وأصحابها تتخلص هذه الشبهة في زعم المستشرقين وذيولهم من أعداء السنة: أن السنة النبوية لو كانت حجة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. بكتابها، ولعمل الصحابة والتابعون رضي الله عنه أجمعين من بعده على جمعها وتدوينها، حتى يحصل القطع بثبوتها بكتابتها كما هو الشأن في القرآن الكريم، ولكن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم. _ نهى عن كتابتها، وأمر بمحو ما كتب منها، وكذلك فعل الصحابة والتابعون، ولم يقتصر الأمر منهم على ذلك، بل امتنع بعضهم عن التحديث، أو قلل منه، ونهى الآخرون عن الإكثار منه. واستدل بتلك الشبهة بعض غلاة الشيعة حيث ذهبوا إلى عدم صحة النهى عن كتابة السنة النبوية من النبي صلى الله عليه وسلم.، وسقم قول من يقول بذلك والذهاب إلى أن النهى عن كتابة السنة والمنع من التحديث بها كان نابعًا من موقف سياسى اتخذه الخليفة أبو بكر، ثم عمر، ومن بعده الخلفاء للحد من نشر فضائل أهل البيت، وتخوفًا من اشتهار أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. في فضل على وأبنائه ما دل على إمامتهم. مضافًا إلى مساس هذا التحديث بأصل مشروعية خلافتهم. وأن روايات منع الكتابة إنما اختلفت في وقت متأخر لتبرير منع الشيخين أبى بكر وعمر_ رضى الله عنهما _ ومن حذا حذوهما. وعلى أساس هذه الشبهة بنى على الشهرستاني (1) كتابه "منع تدوين الحديث أسباب ونتائج" (2) ، وكذا مرتضى العسكري (3) في كتابه (معالم المدرستين) (4) ، وزكريا عباس داود (5) في كتابه "تأملات في الحديث عند السنة والشيعة (6) ،

_______ (1) علي الشهرستاني: كاتب شيعي معاصر، من مصنفاته منع تدوين الحديث أسباب ونتائج، طعن فيه في حجية السنة النبوية وفي رواتها من الصحابة الأعلام، وخاصة أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية (رضى الله عنهم أجمعين) . (2) منع تدوين الحديث ص 19، 185، 210، 357، 365، 505. (3) مرتضى العسكري: كات شيعي معاصر، وعميد كلية أصول الدين الأهلية ببغداد (سابقًا) من مصنفاته: عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى، ومعالم المدرستين، وخمسون ومائة صحابي مختلق، وأحاديث عائشة وأطوار من حياتها، وهو في كل مؤلفاته السابقة يٌعلن مذهب الرافضة في السنة والصحابة. (4) معالم المدرستين المجلد 2/ 60، 61. (5) زكريا عباس داود: كاتب سورى شيعي معاصر، من مؤلفاته تأملات في الحديث عند السنة والشيعة، أعلن فيه مذهب الرافضة في السنة والصحابة. (6) تأملات في الحديث ص 37، 42، 44_ 62.

ومروان خليفات (1) في كتابه (وركبت السفينة) (2) وغيرهم من أعداء السنة (3) . واتفق المستشرقون مع الشيعة في عدم صحة النهى عن كتابة السنة في أول الأمر في عهد النبوة المباركة، بناءً على رأيهم في السنة النبوية بأنها وضعت على النبي صلى الله عليه وسلم. ونسبت إليه، مما هي إلا نتيجة للتطور الديني، والسياسي، والاجتماعي للمسلمين (4) . وقد تزعم هذه الفرية صنمهم الأكبر "جولدتسيهر"، والذي ذهب إلى أن الأحاديث الواردة في النهى عن كتابة السنة، والأحاديث الأخرى التى تحث على كتابتها، ما هي إلا أثر من آثار تسابق أهل الحديث في جانب وأهل الرأى في جانب آخر، إلى وضع الأقوال المؤيدة لنزعيتهم المتناقضتين. فأهل الحديث يذهبون إلى كتابة السنة؛ لتكون دليلاً على صحتها والاحتجاج بها. فيقول: " إن الجميع متفقون على أنه لا يمكن إنكار أن تدوين الأحاديث كان له خصوم، وهذه الكراهية للكتابة لم تكن موجودة منذ البداية، ولكنها نشأت بسبب التحامل الذي ظهر فيما بعد (5) ويقول في موضع آخر: " وفي هذا الموضوع هنالك مجموعتان من الآراء في حالة تناقض، ولكي نبين ذلك لابد لنا من الرجوع إلى حقب زمنية مبكرة من هذا النزاع. وللفريقين آراؤهما الخاصة، وقد سيقت في صورة أحاديث نبوية، فيروى أحد الفريقين قول النبي صلى الله عليه وسلم.: "لا تكتبوا عنى شيئًا سوى القرآن، ومن كتب شيئًا فليمحه" (6) بينما يروى ابن جريج من الفريق الثاني حديثًا عن ابن عمرو؛ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم.: "هل أقيد العلم؟ " فوافقه النبي صلى الله عليه وسلم. على ذلك، وعندما سئل عن معنى تقييده أجاب بأنها الكتابة (7)

_______ (1) مروان خليفات: كاتب سورى معاصر حصل على العالية (الليسانس) من كلية الشريعة بسوريا، تشيع وغالي في تشيعه من مؤلفاته: وركبت السفينة. (2) وركبت السفينة ص 173 _ 180. (3) مثل محمود أبو رية القائل عقب حديث (لاتكتبوا عنى.. إلخ) هذا الحديث الذي بنينا عليه كتابنا هذا، انظر: أضواء على السنة ص 34، وانظر: ممن قال بهذه الشبهة حسين الدركاهي الرافضي في مقدمة كتاب كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين لابن المطهر الحليى. (4) سيأتى تفصيل تلك الشبهة والرد عليها في شبهة التأخر في تدوين السنة ص 346-374. (5) دراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا، العدد 10، ص 566. (6) سيأتى تخريجه انظر: ص 271. (7) أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب العلم 1/ 188 رقم 362، وانتقده الذهبي بأن فيه ابن المؤمل ضعيف، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 152، وعزاه للطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن معين وابن حبان، وقال ابن سعد: ثقة قليل الحديث، وقال الإمام أحمد: أحاديثه مناكير. والحديث أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 68، والمحدث الفاصل ص 364.

وقد حدث حماد بن سلمة أن جد عمرو بن شعيب سأل النبي صلى الله عليه وسلم.: هل يكتب كل ما سمعه منه. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم.: "نعم" فقال له: في الغضب والرضا؟ قال: نعم؛ فإني لا أقول في الغضب والرضا إلى الحق (1) . ويقول أبو هريرة: "إن رجلاً من الأنصار جلس يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم. الأحاديث فلم يقدر على حفظها، فشكى ذلك إليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم. "استعن على ذلك بيمينك" (2) . وباختراع هذه الأحاديث حاول كلا الفريقين المتنافسين أن يقدم الحجج على صحة مذهبه دون أن يكشف أي منهم عن دوافعه. وسبب هذه القناعات الدينية" (3) . أما ذيول المستشرقين من دعاة اللادينية، فمع اعترافهم بصحة النهى عن كتابة السنة من النبي صلى الله عليه وسلم. في أول الأمر _ لعلل سيأتى ذكرها إلا أنهم أعرضوا عن تلك العلل، وسفهوا رأى من يقول بها من أئمة المسلمين من المحدثين والفقهاء وسائر علماء المسلمين إلى يومنا هذا. بالرغم من أن علة النهى عن كتابة السنة في أول الأمر واردة في الأحاديث التى استشهدوا بها على عدم حجية سواء كانت أحاديث مرفوعة أو آثار موقوفة ومقطوعة. وهم في نفس الوقت أعرضوا عن الأحاديث التى تحث على كتابة السنة النبوية وأكثرها مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم. وأكثر منها موقوف على الصحابة، ومقطوع على التابعين، وفيه حرص كل منهم على كتابة السنة وتدوينها، وهم أنفسهم الذين روى عنهم النهى عن كتابة السنة، والنهى عن الإكثار منها. ولم يبين لنا خصوم السنة سر هذا التناقض الظاهرى في المرويات في الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمقطوعة؟ مع عدم إقرارهم بعلة وحكمة النهى؟

_______ (1) أخرجه أبو داور في سننه كتاب العلم، باب في كتاب العلم 3/ 318 رقم 3646. (2) أخرجه الترمذي في سننه كتاب العلم، باب الرخصة فيه 5/ 38 رقم 2666 وقال: ليس إسناده بذاك القائم. ونقل عن الإمام البخاري أن أحد رجال الإسناد وهو الخليل بن مرة منكر الحديث. وأخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 65 من عدة طرق في بعضها (الخليل بن مرة) . وأخرجه الخطيب أيضًا في الجامع لأخلاق الراوي 1/ 249 رقم 503. وفي إسناده (الخليل بن مرة) أ. هـ. (3) دراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير. نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10/ 567، 568.

ولا يمكن أن يقبل منهم الإجابة بأن سر هذا التناقض في الروايات الناهية للكتابة والمرخصة لها _ بأن النهى ناسخ للإذن، وأن هذا النهى من النبي صلى الله عليه وسلم. والصحابة والتابعين _ رضى الله عنهم أجمعين _ دليل منهم على أنهم أرادوا ألا يجعلوا الأحاديث دينًا وشريعة عامة؛ كالقرآن، كما ذهب إلى ذلك الدكتور توفيق صدقى وتأثر به الأستاذ محمد رشيد رضا _ رحمه الله _ وتابعه في ذلك محمود أبو رية، وجمال البنا، وعبد الجواد ياسين، وغيرهم. إذ لا دليل على ذلك كما سيأتي في موضعه (1) . ثم إن أعداء السنة وهم في إنكارهم لحجية السنة النبوية خلطوا بين النهى عن كتابة السنة وبين تدوينها _ حيث فهموا خطأ أن التدوين هو الكتابة _ وعليه فإن السنة النبوية _ ظلت محفوظة في الصدور لم تكتب إلا في نهاية القرن الأول الهجري، في عهد عمر بن عبد العزيز، وهو فهم غير صحيح، كما سيأتي في شبهة التأخر في التدوين. ثم إنهم خانوا الأمانة العلمية. وهم يؤرخون للسنة المطهرة إذ استدلوا على عدم حجيتها بأحاديث مرفوعة وأخرى موقوفة على الصحابة، ومقطوعة على التابعين _ وكلها تنهى عن كتابتها ومحو ما كتب منها، وجمعوا تلك الأحاديث من كتب الأئمة وهم يستعرضونها تمهيدًا للرد عليها، فنقلوا هذه الأحاديث التى تشير إلى شبهتهم، ولم ينقلوا الرد. فالحافظ الخطيب البغدادي في كتابه تقييد العلم، عقد بابا بعنوان "الآثار والأخبار الواردة عن كراهة كتابة العلم"، ثم أتبعه بباب ثان بعنوان "وصف العلة في كراهة كتاب الحديث"، ثم أتبعه بباب ثالث بعنوان "الآثار والأخبار الواردة عن إباحة كتابة العلم" (2) . وكذلك فعل الحافظ ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" عقد بابا بعنوان "ذكر كراهية كتابة العلم وتخليده في الصحف" ثم أتبعه بباب عنوانه "بيان أن السلف كانوا يكرهون كتابة الحديث" وبعده باب بعنوان "ما ورد في كراهية السلف كتابة العلم، وإنما كانوا يعتمدون على الحفظ" وبعده باب "ذكر الرخصة في كتابة العلم" وأخيرًا باب "استحباب السلف كتابة العلم خشية النسيان" (3) .

_______ (1) انظر: ص 305-314. (2) تقييد العلم ص 29 _ 113. (3) انظر: جامع بيان العلم 1/ 63 _ 77.

وكذلك فعل الحافظ الدارمي في كتابه السنن: ففي المقدمة عقد بابا وأسماه "من لم ير كتابة الحديث" وأتبعه بباب "من رخص في كتابة العلم" (1) . هذا فضلا عن الأبواب التى تحدثوا فيها عن حجية السنة، فما على خصوم السنة إلا بنقل الباب الذي يؤيدهم في دعواهم "الآثار والأخبار الواردة عن كراهة كتابة العلم" وغض الطرف عن بقية الأبواب التى تفحمهم وتفضح كذبهم وتقيم عليهم الحجة كـ "باب وصف العلة في كراهة كتابة الحديث" وباب "الآثار والأخبار الواردة عن إباحة كتابة العلم". وهذا دأب أعداء الإسلام دائما يتصيدون أدلتهم من تراثنا الإسلامي الخالد، ولا يكلفون أنفسهم شيئا _ فهو قوم تخصصوا في الخيانة العلمية وإلباس الحق ثوب الباطل. وممن سلك ذلك المسلك واستدل بتلك الشبهة من أعداء السنة: "الدكتور توفيق صدقى (2) ، ومحمود أبو رية (3) ، وقاسم أحمد (4) ، وأحمد صبحي منصور (5) ، وإسماعيل منصور (6) ، ومحمد شحرور (7) ، وأحمد حجازي السقا (8) ، وجمال البنا (9) ، ومصطفى المهدوي (10) ، ونيازي عز الدين (11) ، ورشاد خليفة (12) ،

_______ (1) انظر: سنن الدرامي المقدمة 1/ 130 _ 140. (2) مجلة المنار المجلد 9/ 913. (3) أضواء على السنة ص 46. (4) إعادة تقييم الحديث ص 114 _ 128. (5) حد الردة ص 89، وعذاب القبر ص 5، 6، ومجلة روزاليوسف العدد 3530 ص 50. (6) تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 7، 14، 225. (7) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 546، 565. (8) حقيقة السنة النبوية ص 12. (9) الأصلان العظيمان ص 268، 269، والسنة ودورها في الفقه الجديد ص 7. (10) البيان بالقرآن 1/ 25. (11) إنذار من السماء ص 117، 134. (12) القرآن والحديث والإسلام ص 19.

وعبد الجواد ياسين (1) ، وأحمد أمين (2) ، وحسين أحمد أمين (3) ، ومحمد حسين هيكل (4) وغيرهم. نماذج من الأحاديث والآثار الواردة في النهى عن كتابة السنة النبوية: أولاً: الأحاديث المرفوعة: 1_ حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن؛ فليمحه؛ وحدثوا عنى ولا حرج، ومن كذب على متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار" (5) وفي رواية عنه قال: " استأذنا النبي في الكتابة فلم يأذن لنا" (6) . 2_ حديث أبى هريرة رضي الله عنه (7) قال: كنا قعودًا نكتب ما نسمع من النبي صلى الله عليه وسلم.، فخرج علينا؛ فقال: ما هذا تكتبون؟ فقلنا: ما نسمع منك، فقال: أكتاب مع كتاب الله؟ فقلنا: ما نسمع. فقال: اكتبوا كتاب الله امحضوا كتاب الله، أكتاب غير كتاب الله، امحضوا كتاب الله أو خلصوه، قال: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد، ثم أحرقناه بالنار. قلنا: أي رسول الله أنتحدث عنك؟ قال: نعم. تحدثوا عنى ولا حرج، ومن كذب على متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار

_______ (1) عبد الجواد ياسين: قاضى مصرى سابق، تخرج من كلية الحقوق في جامعة القاهرة سنة 1976، من مؤلفاته "السلطة في الإسلام العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ) شكك في هذا الكتاب في حجية السنة وفي رواتها. انظر: استشهاده بالشبهة التى معنا في كتابة السلطة في الإسلام ص 238. (2) أحمد أمين: هو: أحمد أمين ابن الشيخ إبراهيم الطباخ، تخرج بمدرسة القضاء الشرعي، وتولى القضاء ببعض المحاكم الشرعية، ثم عين مدرسًا بكلية الآداب بالجامعة المصرية فعميدًا لها. من مؤلفاته: " فجر الإسلام، وضحاه، وظهره" وقد تحدث في كتبه السابقة عن الحديث فمزج بالدسم، وخلط الحق بالباطل. مات سنة 1954 م. له ترجمة في الأعلام 1/ 379، انظر: استشهاده بالشبهة التى معنا في كتابيه فجر الإسلام ص 208، 21، 233، وضحى الإسلام 2/ 106. (3) حسين أحمد أمين: كاتب مصري معاصر، وهو ابن الأستاذ أحمد أمين. من مؤلفات حسين أحمد أمين "دليل المسلم الحزين" ردد فيه طعون المستشرقين في حجية السنة، وانظر استشهاده بالشبهة التى معنا في كتابه دليل المسلم الحزين ص 43. (4) محمد حسين هيكل: كاتب مصرى من رواد المدرسة العقلية الحديثة؛ تأثر فيما كتب عن السنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم. بالمستشرقين. انظر: تأثره بالشبهة التى معنا في كتابة حياة محمد ص 55. (5) أخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث، وحكم كتابه العلم 9/ 356 رقم 3004. (6) أخرجه الترمذي كتاب العلم: باب ما جاء في كراهية كتابة العلم 5/ 37 رقم 2665. قال أبو عيسى: وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه أيضًا عن زيد بن أسلم، رواه همام عن يزيد بن أسلم وأخرجه الدارمي في سننه المقدمة، باب من لم ير كتابة الحديث 1/ 131 رقم 451، والخطيب في تقييد العلم ص 32، والقاضي عياض في الإلماع ص 148. (7) ستأتي ترجمته في مبحث (أبو هريرة راوية الإسلام رغم أنف الحاقدين) 2/ 103-116.

ثانيا: الآثار الموقوفة والمقطوعة:

قال فقلنا: يارسول الله أنتحدث عن بني إسرائيل؟ قال: نعم. تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج؛ فإنكم لا تحدثون عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه" (1) . 3_ وروي أيضًا عن زيد بن ثابت مرفوعًا (2) . ثانيًا: الآثار الموقوفة والمقطوعة: ذهب إلى النهى عن كتابة السنة النبوية جمع من الصحابة والتابعين منهم: 1_ أبو بكر الصديق رضي الله عنهم (3) فعن عائشة _ رضى الله عنها _ قالت: جمع أبى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت خمسمائة حديث. فبات ليلة يتقلب كثيرًا. قالت فغمنة فقلت: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنيه هلمي الأحاديث التى عندك. فجئته بها. فدعا بنار فأحرقها وقال: خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل أئمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثنى. فأكون قد نقلت ذلك" (4) . وفي رواية أخرى، زاد بعد قوله فأكون قد نقلت ذلك، ويكون قد بقى حديث لم أجده فيقال: لو كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ماغاب على أبى بكر. إني حدثتكم الحديث ولا أدرى لعلي لم أتتبعه حرفًا حرفًا.

_______ (1) أخرجه أحمد في المسند 3/ 12 _ 13، والخطيب في تقييد العلم ص 34، وفيه عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم، متفق على ضعفه انظر: في ترجمته: تقريب التهذيب 1/ 570 رقم 3879، والضعفاء والمتروكين للنسائي ص 158 رقم 377، والضعفاء لابي نعيم ص 102 رقم 122 والمجروحين لابن حبان 2/ 57، والتاريخ الصغير ص 208 رقم 370، والتاريخ الكبير 5/ 284 رقم 922، والجرح والتعديل 5/ 233 رقم 1107، ولسان الميزان 8/ 488 رقم 13376. (2) أخرجه أبو داود في سنته كتاب العلم، باب في كتاب العلم 3/ 318 رقم 3647، وأحمد في المسند 5/ 182، وابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 63، والخطيب في تقييد العلم ص 35، والقاضي عياض في الإلماع ص 148. (3) أبو بكر الصديق: صحابي جليل له ترجمة في: الاستيعاب 3/ 963 رقم 1633، واسد الغابة 13/ 310 رقم 3066، وتاريخ الصحابة 23 رقم 1، وتذكرة الحفاظ 1/ 2 رقم 1، ومشاهير علماء الأمصار ص 10 رقم 2، والإصابة 2/ 341 رقم 4835. (4) ذكره الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ 1/ 5 وقال لا يصح. والعجب ممن يدعون الأمانة العلمية مثل صاحب أضواء على السنة الذي نقل الرواية السابقة من التذكرة، ولم ينقل حكم الذهبي!!، انظر: أضواء على السنة ص 49، وأعجب منه كذب إسماعيل منصور على الإمام الذهبي حيث قال إسماعيل منصور بعد نقله الراوية السابقة من التذكرة "وحسب المنصف أن يرى هذه الرواية وهي كما وردت موثقة في تذكرة الحفاظ للذهبي) أ. هـ. انظر: تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 226.

قال الحافظ ابن كثير: هذا غريب من هذا الوجه جدًا، وعلى بن صالح لا يعرف، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أكثر من هذا المقدار بآلاف ولعله إنما اتفق له جمع تلك الأحاديث فقط ثم رأى ما رأى لما ذكر. وقال الحافظ السيوطي (1) أو لعله جمع ما فاته سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثه عنه به بعض الصحابة كحديث الجدة (2) ونحوه، والظاهر أن ذلك لا يزيد على هذا المقدار، لأنه كان أحفظ الصحابة وعنده من الأحاديث ما لم يكن عند أحد منهم كحديث: (ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض) (3) ، ثم خشى أن يكون الذي حدثه وهم فكره نقل ذلك، وذلك صريح في كلامه (4) أ. هـ. 2_ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عن عروة بن الزبير (5) : أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك،

_______ (1) السيوطي: هو عبد الرحمن بن أبى بكر محمد السيوطي، جلال الدين، كان إمامًا حافظًا بارعًا ذا قدم راسحة في علوم شتى، فكان مفسرًا، محدثًا فقهيًا أصوليًا، لغويًا، مؤرخًا، له تأليف بلغت نحو ستمائة مصنف منها: الأشباه والنظائر في القواعد الفقهية، والأشباه والنظائر في العربية، والدر المنثور في التفسير بالمأثور، والإتقان في علوم القرآن، والجامع الكبير والصغير، والأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة مات سنة 911هـ. له ترجمة في: حسن المحاضرة للسيوطي 1/ 335 رقم 77 وشذرات الذهب 8/ 51، وطبقات المفسرين للسيوطي ص 3، والبدر الطالع للشوكاني 1/ 328 رقم 228. (2) سيأتى تخريجه 2/ 25،26. (3) أخرجه الترمذي في سننه كتاب الجنائز، باب رقم 33، 3/ 338 رقم 1018 وقال: أبو عيسى هذا حديث غريب. وعبد الرحمن بن أبى بكر المليكي يضعف من قبل حفظه. وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه. فرواه ابن عباس عن أبى بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم. أيضا. وهذا الشاهد الذي ذكره الترمذي أخرجه ابن ماجة في سنته كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم. 1/ 520 رقم 1628 واللفظ له. وفي إسناده الحسين بن عبد الله الهاشمي فيه خلاف انظر: مصباح الزجاجة للبوصيري 1/ 542. (4) انظر منتخب كنز العمال 4/ 58، 59؛ ودلائل التوثيق المبكر للسنة للدكتور امتياز أحمد ص 503، وانظر: كذب محمود أبو رية على محمد رشيد رضا بأنه صحح هذه الرواية، في حين أن رشيد رضا نقل حكم الأئمة السابق انظر مجلة المنار 10/ 764، وأضواء على السنة ص 49 هامش. (5) عروة بن الزبير: هو عروة بن الزبير بن خويلد الأسدي، أبو عبد الله المدنى، روى عن أبويه، وخالته، وعلى، وخلق، وعنه بنوه عثمان، وعبد الله، والزهري، كان فقيها عالما كثير الحديث ثبتا مأمونا، مات سنة 94هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 671 رقم 4577، والكاشف 2/ 18 رقم 3775، والطبقات الكبرى لابن سعد 5/ 179، والثقات للعجلي ص 331 رقم 1121، والثقات لابن حبان 5/ 694، وتذكرة الحفاظ 1/ 62 رقم 51، والبداية والنهاية 9/ 101، ومشاهير علماء الأمصار ص 82 رقم 428.

فأشاروا عليه بأن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله عز وجل فيها شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، فقال: " إني كنت أردت أن أكتب السنن وإنى ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكتبوا عليها، وتركوا كتاب الله تعالى، وإنى والله لا ألبس كتاب الله بشئ أبدًا" (1) . 3_ علي بن أبي طالب رضي الله عنه روى عنه قال: "أعزم على كل من عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم، وتركوا كتاب ربهم" (2) . 4_ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فعن أبى نضرة قال (3) : قيل لأبى سعيد لو اكتتبنا الحديث فقال: لا نكتبكم، خذو عنا كما أخذنا عن نبينا (4) صلى الله عليه وسلم. . وعنه من طريق آخر: "قال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف، إن نبيكم صلى الله عليه وسلم. كان يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا كما كنا نحفظ" (5) . وعنه من طرق آخر: " قال: قلت لأبي سعيد الخدرى رضي الله عنه: إنك تحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حديثًا عجيبًا، وإنا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص قال أردتم أن تجعلوه قرآنًا لا، لا، ولكن خذوا عنا، كما أخذنا عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم. (6) . 5_ أبو هريرة رضي الله عنه روى عنه أنه قال: نحن لا نكتب ولا نكتب" (7) . بفتح نون الفعل الأول، وضم نون الفعل الثاني.

_______ (1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 64، والخطيب في تقييد العلم ص 49. (2) أخرجه بن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 63، 64. (3) أبو نضرة: هو المنذر بن مالك بن قطعة، بضم القاف وفتح المهملة، العبدي أبو نضرة، مشهور بكنيته، روى عن أبي سعيد الخدري، وابن عباس، وعن على مرسلاً، وعنه قتادة، وعوف، وابن أبى عروبة وخلق. متفق على توثيقه مات سنة 108هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 2/ 213 رقم 6915، والكاشف 2/ 295 رقم 5632، والثقات للعجلى 439 رقم 1633، والثقات لابن حبان 5/ 420، طبقات ابن سعد 7/ 207، ومشاهير علماء الأمصار ص 122 رقم 709. (4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 64. (5) المصدر السابق 1/ 64، وأخرجه الخطيب في المحدث الفاصل ص 379، وتقييد العلم ص 36، 37. (6) أخرجه الدارمي في سننه المقدمة، باب من لم ير كتابة الحديث 1/ 133 رقم 471، وابن المبارك في مسنده ص 142 رقم 231، وقال المحقق الأستاذ صبحي البدري السامرائي إسناده صحيح، وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 64، والخطيب في تقييد العلم ص 38، والمحدث الفاصل ص 363. (7) أخرجه الدامي في سننه المقدمة، باب من لم يرك كتابة الحديث 1/ 133، رقم 472 وابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 66، والخطيب في تقييد العلم ص 42.

وروي عن سيعد بن أبى الحسن (1) قال: "لم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أكثر من أبى هريرة حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.، وإن مروان زمن ما كان على المدينة أراد أن يكتب حديثه، فأبى، وقال: "ارووا كما نروى" فلما أبى عليه تغفله فأقعد له كاتبًا لقنًا ثقافًا فجعل أبو هريرة يحدثه ويكتب الكاتب، حتى استفرغ حديثه أجمع، قال: ثم قال مروان: تعلم أنا قد كتبنا حديثك أجمع؟ قال: "وقد فعلتم؟ قال نعم. قال فاقرءوه على إذا، قال: فاقرؤوه عليه، فقال أبو هريرة: أما إنكم قد حفظتم، وإن تطعنى تمحه، قال: فمحاه" (2) . 6_ ابن عباس _ رضى الله عنهما _ روى عنه أنه قال: "إنا لا نكتب العلم ولا نكتبه" (3) وفي رواية قال: "إنا لا نكتب في الصحف إلا الرسائل والقرآن" (4) . 7_ ابن مسعود رضي الله عنه روى عنه: أن علقمة (5) جاءه بكتاب أو صحيفة من مكة أو اليمن فيها أحاديث في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. فدعا جاريته ثم دعا بطست فيها ماء فجعل يمحوها ويقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِين} (6) القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بما سواه (7) .

_______ (1) هو سعيد بن أبى الحسن البصري، أخو الحسن البصري، روى عن أمه، وأبى هريرة، وعنه أخوه، وعوف، وسليمان التيمي، متفق على توثيقه، مات سنة 100 هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 350 رقم 2291، والكاشف 1/ 433 رقم 866، والثقات للعجلى ص 182 رقم 536، والثقات لابن حبان 4/ 276، مشاهير علماء الأمصار ص 115 رقم 657. (2) أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 41. (3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 64، والخطيب في تقييد العلم ص 42. (4) أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 42، 43 ز (5) علقمة هو: علقمة بن قيس بن عبد الله النخعى الكوفي، أبو شبل، أخو يزيد بن قيس، روى عن أبى بكر وعمرو ابن مسعود، وعنه ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد، وابن أخته إبراهيم النخعي، وسلمه بن كهيل، وآخرون ثقة ثبت فيه عابد مات 62هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 687 رقم 4697، والكاشف 2/ 34 رقم 3873، وتذكرة الحفاظ 1/ 48 رقم 24، وطبقات الحافظ ص 20 رقم 24، والثقات للعجلى 339 رقم 1161، والبداية والنهاية 8/ 219، ومشاهير علماء الأمصار ص 125 رقم 741. (6) الآية 3 من سورة يوسف. (7) أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 54.

وفي رواية لابن عبد البر زيادة قال أبو عبيد (1) : يرى أن هذه الصحيفة أخذت من أهل الكتاب، لهذا كره عبد الله النظر فيها (2) . وفي رواية للدارمي عن مرة الهمداني (3) ، قال: جاء أبو مرة الكندي بكتاب من الشام فحمله فدفعه إلى عبد الله بن مسعود، فنظر فيه فدعا بطست ثم دعا بماء فمرسه فيه، وقال: إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم الكتب وتركهم كتابهم. قال حصين: فقال مرة: أما إنه لو كان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب (4) . 8_ أبو موسى الأشعرى (5) رضي الله عنه روى عن أبى بردة (6) قال: كتبت عن أبى كتبًا كثيرة فمحاها وقال "خذ عنا كما أخذنا" (7) .

_______ (1) أبو عبيد هو: القاسم بن سلام بالتشديد، البغدادي، أبو عبيد، الإمام المشهور ثقة، فاضل، مصنف، له أقواله في شرح الغريب، مات سنة 224هـ له ترجمة في: تقريب التهذيب 2/ 19 رقم 5479، تهذيب التهذيب 8/ 315 رقم 572، الكاشف 2/ 128 رقم 4511، وسؤالات مسعود بن على السجزي للحاكم ص 249 رقم 338، وتاريخ بغداد 12/ 403 رقم 6868، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 1/ 150 رقم 44. (2) جامع البيان العلم 1/ 66. (3) مرة الهمداني هو: مرة بن شراحيل الهمذاني، بسكون الميم، أبو إسماعيل الكوفي، هو الذي يقال له مرة الطيب، وإنما سمى طيبًا لكثرة عبادته، روى عن ابن مسعود وعمر، وعنه عمرو بن مرة، وابن أبى خالد، ثقة عابد مات 76هـ. وقيل بعد ذلك في: تقريب التهذيب 2/ 170 رقم 6583، الكاشف 2/ 253 رقم 5361، الثقات للعجلى 424 رقم 1555، مشاهير علماء الأمصار 127 رقم 754، والأنساب المتفقة في الخط لابن القيسراني ص 99 رقم 162. (4) أخرجه الدارمي في سننه المقدمة، باب من لم ير كتابه الحديث 1/ 134 رقم 477. (5) أبو موسى الأشعرى: صحابي جليل له ترجمة في: الاستيعاب 3/ 979 رقم 1639، واسد الغابة 6/ 299 رقم 6296، وتاريخ الصحابة ص 154 رقم 741، وتذكرة الحفاظ 1/ 23 رقم 10، ومشاهير علماء الأمصار ص 47 رقم 216، والإصابة 2/ 359 رقم 10950. (6) أبو بردة هو: أبو بردة بن أبى موسى الأشعرى، قيل اسمه عامر، وقيل الحارث، روى عن أبيه، وعلى، والزبير، وعنه عبد الله، ويوسف، وحفيدة، بريد ابن عبد الله، متفق على توثيقه، مات سنة 104هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 2/ 360 رقم 7981، والكاشف 2/ 407 رقم 6508، وتذكرة الحفاظ 1/ 95 رقم 86، وطبقات الحفاظ ص 43 رقم 84، وطبقات ابن سعد 7/ 133، والثقات للعجلى ص 491 رقم 1903، مشاهير علماء الأمصار ص 130 رقم 776. (7) أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 39.

وعنه من طريق آخر عن أبى بردة قال: كان أبو موسى يحدثنا بأحاديث فنقوم أنا ومولى لي فنكتبها، فحدثنا يومًا بأحاديث فقمنا لنكتبها فظن أنا نكتبها فقال: "أتكتبان ما سمعتما منى؟ " قالا: نعم. قال: فجيئاني به" فدعا بماء فغسله، وقال "احفظوا عنا كما حفظنا" (1) . وعنه من طريق آخر عن أبى بردة أبى موسى قال كتبت عن أبى كتابًا فقال: "لولا أن فيه كتاب الله لأحرقته، ثم دعا بمركن أو بإجانة (2) فغسلها، ثم قال: دع عنى ما سمعت منى، ولا تكتب عنى؛ فإنى لم أكتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كتابًا كدت تهلك أباك" (3) . 9_ عمرو بن دينار (4) _ رحمه الله _: روى عن سفيان الثوري (5) قال: قيل لعمرو: إن سفيان يكتب، فاضطجع وبكى وقال "احرج على من يكتب عنى" قال سفيان: "وما كتبت عنه شيئًا، كنا نحفظ" (6) . 10_ الضحاك (7) _ رحمه الله _: روى عنه أنه قال: "لاتتخذوا للحديث كراريس ككرايس المصاحف" (8) وعنه من طريق آخر قال: "يأتى على الناس زمان تكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف بغبارة لا ينظر فيه" (9) .

_______ (1) أخرجه بن عبد البر في جامع البيان العلم 1/ 66، والخطيب في تقييد العلم ص 39، 40. (2) إجابة: إناء فيه ماء متغير الطعم واللون. انظر: النهاية في غريب الحديث 1/ 26. (3) أخرجه ابن أبى شيبة في المصنف 9/ 53، والطبراني في الكبير، ولم أجده في الجزء المطبوع من المعجم، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 151، وعزاه إلى الطبراني في الكبير والبزار بنحوه إلا أن البزار قال: (احفظ كما حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.، ورجاله رجال الصحيح أ. هـ. (4) هو: عمرو بن دينار المكي، أبو محمد، روى عن بن عباس، وبن عمر، وجابر، وعنه شعبة والسفيانان، ومالك، ثقة ثبت، وما قيل عنه من التشيع فباطل، مات سنة 126هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 734 رقم 5040، والكاشف 2/ 75 رقم 4152، والثقات للعجلى 363 رقم 1257، والثقات لابن حبان 5/ 167، والتاريخ الكبير للبخاري 6/ 328 رقم 2544. (5) سفيان الثوري: هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، أمير المؤمنين في الحديث، روى عن عمرو بن دينار، وابن المنكدر، وسلمة بن كهيل، وعنه القطان، وعلى بن الجعد، والفريابي، متفق على توثيقه، مات 161هـ له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 371 رقم 3452، الكاشف 1/ 449 رقم 1996، والثقات للعجلى 190 رقم 571، وتذكرة الحفاظ والأنساب المتفقه في الخط لابن القيسراني ص 43 رقم 41. (6) أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 47. (7) الضحاك هو: الضحاك بن مزاحم الهلالي، الخرساني، أبو القاسم، أبو محمد، صدوق كثير الإرسال مات سنة 105هـ. له ترجمة في تقريب التهذيب 1/ 444 رقم 2989، والكاشف 1/ 509 رقم 2437، والثقات لابن حبان 6/ 185، ومشاهير علماء الأمصار ص 227 رقم 1562. (8) اخرجه الخطيب في تقييد العلم، ص 47. (9) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 65.

11_ عبيدة السلماني (1) رضي الله عنه _ رحمه الله _: " روى عنه أنه دعا بكتبه عند موته، فمحاها وقال: أخشى لأن يليها أحد بعدى، فيضعوها في غير مواضعها (2) . 12_ إبراهيم (3) _ رحمه الله _: روى عن فضيل بن عمرو (4) قال: قلت لإبراهيم: إني آتيك وقد جمعت المسائل، فإذا رأيتك كأنما تختلس منى وأنت تكره الكتابة قال: لا عليك؛ فإنه ما طلب إنسان علمًا إلا آتاه الله منه ما يكفيه، وقل ما كتب رجل كتابًا إلا اتكل عليه" (5) . 13_ علقمة _ رحمه الله _ روى أن مسروق (6) قال له: أكتب لي النظائر قال: أما علمت أن الكتاب يكره؟ قال: بلى إنما أريد أن أحفظها ثم أحرقها، قال "فلا بأس" (7) . 14_ ابن عون (8) _ رحمه الله _ روى عن حماد بن زيد (9) قال:

_______ (1) عَبيدة السلماني هو: عبيدة بن عمرو السلماني بسكون اللام، ويقال بفتحها. أبو عمرو الكوفي، تابعي كبير، مخضرم، فقيه ثبت مات سنة 72هـ أبو بعدها، والصحيح أنه مات قبل سنة سبعين. له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 649 رقم 4429، والكاشف 1/ 694 رقم 3647، والثقات للعجلى 325 رقم 1092، والثقات لابن حبان 5/ 139، ومشاهير علماء الأمصار 125 رقم 735، وتذكرة الحفاظ 1/ 50 رقم 27. (2) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 67، والخطيب في تقييد العلم ص 61. (3) إبراهيم هو: إبراهيم بن سويد النخعي روى عن علقمة، والأسود، وعنه فضيل بن عمرو، وسلمة بن كهيل، ثقة، لم يثبت أن النسائي ضعفه له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 57 رقم 184، والكاشف 1/ 213 رقم 145، والثقات للعجلى 52 رقم 26، والثقات لابن حبان 6/ 6، مشاهير علماء الأمصار 194 رقم 1290. (4) هو فضيل بن عمرو الفقيمي، بالفاء والقاف مصغرًا، أبو النضر الكوفي، روى عن إبراهيم، والشعبي، وجمع، وعنه أبان من تغلب، وحجاج بن ارطأة، ثقة، مات سنة 110هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 2/ 15 رقم 5447، والكاشف 2/ 142 رقم 4487، والجرج والتعديل 7/ 73 رقم 415، والثقات للعجلى 384 رقم 1356، والثقات لابن حبان 7/ 314، ومشاهير علماء الأمصار 197 رقم 1313. (5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 68. (6) مسروق هو: مسروق بن الأجدع بن مالك الهمذاني الوادعي، أبو عائشة الكوفي روى عن أبى بكر ومعاذ وعلقمة، وعنه إبراهيم، وأبو إسحاق، ويحيي بن وثاب، ثقة فقهي عابد، مخضرم، مات سنة 63هـ له ترجمة في: تقريب التهذيب 2/ 175 رقم 6622، والكاشف 2/ 256 رقم 5391، مات سنة 63هـ له ترجمة في: تقريب التهذيب 2/ 175 رقم 6622، والكاشف 2/ 256 رقم 5391، والثقات للعجلى 426 رقم 1561، والثقات لابن حبان 5/ 456، ومشاهير علماء الأمصار ص 126 رقم 746، وتذكرة الحفاظ 1/ 49 رقم 26. (7) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم 1/ 66، والخطيب في تقييد العلم ص 58، 59. (8) ابن عون: هو عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصري، من أتباع التابعين، روى عن أبى وائل، وإبراهيم، وحماد، وعنه شعبة، والقطان، متفق على توثيقه مات سنة 150هـ. له ترجمة في: تقريب التهذيب 1/ 520 رقم 3530، والكاشف 1/ 582 رقم 2896، والثقات للعجلى 270 رقم 859، والثقات لابن شاهين 183 رقم 590، ومشاهير علماء الأمصار 180 رقم 1185. (9) هو: حماد بن زيد درهم الأزدى، الجهضمي، أبو إسماعيل البصري، روى عن ابن عون، وثابت، وأبى= =حمزة، وعنه مسدد، وعلى، متفق على توثيقه مات سنة 179هـ. له ترجمة في تقريب التهذيب 1/ 238 رقم 1503، والكاشف 1/ 349 رقم 1219، والثقات لابن شاهين ص 102 رقم 239، والثقات لابن حبان 6/ 217، والثقات للعجلى ص 130 رقم 329، ومشاهير علماء الأمصار ص 188 رقم 1244.

درجة الأحاديث الواردة في النهى عن كتابة السنة:

قال لي ابن عوان: "إنى أرى هذه الكتب، يا أبا إسماعيل ستضل الناس" (1) . درجة الأحاديث الواردة في النهى عن كتابة السنة: تكلم عن بيان درجة الأخبار والآثار الواردة في النهى عن كتابة السنة الشيخ عبد لرحمن المعلمى في كتابه (الأنوار الكاشفة) (2) ، هذا فضلا عن حكم بعض أئمة الحديث قديما على بعضها، كما مر حكم الذهبي، وابن كثير على رواية أبى بكر الصديق رضي الله عنه وإحراقه للأحاديث التى جمعها، والحافظ الهيثمي تكلم عن بعضها في مجمع الزوائد (3) . وخلاصة القول في الأحاديث المرفوعة: إنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. في النهى عن كتابة السنة إلا حديث أبى سعيد الخدرى الذي أخرجه مسلم مع اختلاف بعض العلماء في رفعه ووقفه، واعتبروا ذلك علة، فقال الحافظ ابن حجر: "ومنهم من أعل حديث أبى سعيد وقال: الصواب وقفه على أبى سعيد، قاله البخاري وغيره" (4) . واعتقد أن هذا الرأى مجانب للصواب؛ حيث إن الحديث مخرج في صحيح الإمام مسلم مرفوعا _ كما سبق ويؤيد الرفع أمران: أولاً: ما ذهب إليه جمهور المحدثين وصححوه في مسألة "حكم تعارض الرفع والوقوف من بعض الثقات أو من راو واحد" أن الحكم للرفع كما قال ابن الصلاح؛ لأن الرافع مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيًا فالمثبت مقدم عليه؛ لأنه علم ما خفى عليه. ويقول الحافظ العراقي في تخريجه الكبير للإحياء عقب حكم اختلف راويه في رفعه، ووقفه الصحيح الذي عليه الجمهور: أن الراوي إذا روى الحديث مرفوعًا وموقوفًا، فالحكم للرفع؛

_______ (1) أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 57. (2) الأنوار الكاشفة ص 34 _ 43، وانظر: دراسات في الحديث النبوي للدكتور الأعظمى 1/ 76 _ 78. (3) مجمع الزوائد 1/ 150 _ 152. (4) فتح الباري 1/ 251 رقم 113، وقال العلامة أحمد محمد شاكر: وهذا غير جيد، فإن الحديث صحيح. انظر: الباعث الحثيث ص 111.

لأن معه في حالة الرفع زيادة، هذا هو المرجح عند أهل الحديث (1) . ونحوه قول الخطيب: اختلاف الروايتين في الرفع والوقف لا يؤثر في الحديث ضعفًا؛ لجواز أن يكون الصحابي يسند الحديث، ويرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. مرة، ويذكره مرة على سبيل الفتوى بدون رفع، فيحفظ الحديث عنه على الوجهين جميعًا (2) ، وهذا ما نقله الماوردي عن الشافعي _ رحمه الله_ أنه يحمل الموقوف على مذهب الراوي، والمسند على أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم. يعنى فلا تعارض حينئذ (3) . ثانيًا: على فرض صحة وقف هذا الحديث على أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه: لكان له حكم المرفوع المسند؛ لأن النهى عن كتابة السنة النبوية _ وهي المصدر الملازم للقرآن الكريم في التشريع الإسلامي، هذا النهى مما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا يقال من قبل الرأى، فله حكم المرفوع المسند، جزم به الرازي في المحصول وغير واحد من أئمة الحديث تحسينًا للظن بالصحابي (4) ، بل وبالصحابة جميعًا الذين امتثلوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم. بالنهى عن الكتابة مع وجود علة النهى، والأذن بالكتابة مع عدمها، حفاظًا على القرآن الكريم والسنة النبوية معًا، فما استمدت السنة حجيتها إلا من كتاب الله عزَّ وجلَّ، ومن كتاب الله والسنة النبوية معًا استمدت بقية المصادر التشريعية حجيتها. فلأن الحديث مما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا مجال للرأى فيه، فحكمه الرفع، ولا سيما وقد رفعه الراوى أيضًا (5) . وفي صحة هذا الحديث رد على بعض غلاة الشيعة في زعمهم عدم صحة النهى عن كتابة السنة من النبي صلى الله عليه وسلم. وأن روايات النهى عن كتابة السنة اختلفت في وقت متأخر لترير منع الشيخين أبى بكر وعمر من حذا حذوهما. وفي ذلك أيضًا إبطال للأساس الذي أسسوا عليه كتبهم في مسألة كتابة السنة وتدوينها كما فعل مرتضى العسكرى، وعلى الشهرستاني، ومروان خليفات وغيرهم ممن سبقوا.

_______ (1) انظر: المغيث للسخاوي 1/ 194، 195، وشرح الفية العراقي المسماة بالتبصرة والتذكرة للعراقي 1/ 178، وتدريب الراوي للسيوطي 1/ 221 _ 223، وتوضيح الأفكار للصنعاني 1/ 343. (2) الكفاية للخطيب ص 587، 588. (3) انظر: البحر المحيط للزركشي 4/ 341، والمحصول للرازي 2/ 229، 230، وفتح المغيث للسخاوى 1/ 195. (4) المحصول للرازي 2/ 221، وانظر: فتح المغيث للسخاوي 1/ 144، وتدريب الراوى 1/ 190، 191، وتوضيح الأفكار 1/ 280. (5) انظر: فتح المغيث للسخاوي 1/ 195.

أما الآثار الموقوفة فصحح منها الحافظ الهيثمي رواية أبى بردة بن أبى موسى الأشعري بإسناد الطبراني في المعجم الكبير، والبزار في مسنده وبقية الروايات الموقوفة، وكذا المقطوعة يؤيد بعضها بعضًا، وتصلح حجة في بابها (1) . ويشهد لذلك اعتبار الأئمة؛ كالخطيب، وابن عبد البر، والدارمي وغيرهم اعتمادهم بعض تلك الروايات في بيان موقف الصحابة والتابعين من كتابة السنة، وكراهيتهم للتدوين؛ لعلل سيأتى ذكرها. وفي ذلك رد على المستشرقين التابعين لصنمهم الأكبر "جولدتسيهر" في زعمه؛ بأن أحاديث النهى عن كتابة السنة مخترعة من قبل أهل الرأى لتأييد مذهبهم في إنكار صحة السنة والاحتجاج بها. وفي ذلك يقول الدكتور يوسف العش ردًا على جولدتسيهر: "إنه لم يصب حين قال: إن من ادعى عدم جواز الكتابة هم أهل الرأى، وأن مخالفيهم هم من أهل الحديث، فالخلاف لم يكن بين هاتين الفئتين؛ لأن من أهل الرأى من امتنع عن الكتابة كعيسى بن يونس (187هـ) ، وحماد بن زيد (179هـ) ، وعبد الله بن إدريس (192هـ) ، وسفيان الثوري (161هـ) ، وبينهم من أقرها كحماد بن سلمة (167هـ) ، والليث بن سعد (175هـ) ، وزائدة بن قدامة (161هـ) ، ويحيي بن اليمان (189هـ) وغيرهم. ومن المحدثين من كره الكتابة كابن عليه (200هـ) ، وهشيم بن بشير (183هـ) ، وعاصم بن ضمرة (174هـ) ، وغيرهم، ومنهم من أجازها كبقية الكلاعي (197هـ) ، وعكرمة بن عمار (159هـ) ، ومالك بن أنس (179هـ) وغيرهم (2) .

_______ (1) انظر: شروط الاحتجاج بالضعيف في علوم الحديث لابن الصلاح ص 35، وفتح المغيث للسخاوي 1/ 86، 87، وتدريب الراوي 1/ 176، 177، والباعث الحثيث ص 34. (2) انظر: تقييد العلم للخطيب، تصدير الدكتور يوسف العش ص 21، 22، ودلائل التوثيق المبكر للسنة للدكتور امتياز أحمد ص 209، 231.

الجواب عن زعم أعداء السنة بأن النهى عن كتابة السنة يدل على عدم حجيتها:

الجواب عن زعم أعداء السنة بأن النهى عن كتابة السنة يدل على عدم حجيتها: أما أعداء السنة من دعاة اللادينية فمع اعترافهم بصحة النهى عن كتابة السنة من النبي صلى الله عليه وسلم. ومن صحابته الكرام؛ إلا أنهم اتخذوا من ذلك النهى دليلا على عدم حجية السنة النبوية. غاضين الطرف كما سبق وأن أشرت عن علل النهى الواردة في نفس الأحاديث السابقة التى احتجوا بها، بل غاضين الطرف من الأمر الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم. لأصحابة رضي الله عنهم عقب نهيهم عن الكتابة وهو التحديث والتبليغ للسنة النبوية بعد حفظها، وهو نفس الأمر الصادر من الصحابة للتابعين بعد نهيهم عن الكتابة، وعلى نفس الدرب صار التابعون من الناهين للكتابة، أمروا من نهوهم عن الكتابة من تابعي التابعين بحفظ السنة وتبليغها كما حفظوها عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصدق النبي صلى الله عليه وسلم. فيما تنبأ به: "تسمعون، ويسمع منكم، ويسمع ممن سمع منكم" (1) . يقول الدكتور عبد الغنى عبد الخالق _ رحمه الله _: "وكيف يكون نهيه صلى الله عليه وسلم. دليلا على عدم الحجية والنبي صلى الله عليه وسلم. عقب هذا لنهى مباشرة عندما أمر الصحابة بالتحديث عنه، وفي الوقت نفسه يتوعد من يكذب عليه متعمدًا أشد الوعيد، كما في حديث أبى سعيد الخدري الذي رواه مسلم. ويقول صلى الله عليه وسلم. في حجة الوداع: " ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه (2) . ويقول أيضا: نضر الله امرءًا سمع منا حديثًا، فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" (3) ويقول صلى الله عليه وسلم. لوفد عبد القيس _

_______ (1) أخرجه أبو داود في سننه كتاب العلم، باب فضل نشر العلم 3/ 321 رقم 3659، وأحمد في مسنده 1/ 321، والحاكم في المستدرك كتاب العلم: باب فضيلة مذاكرة الحديث 1/ 95 وقاال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وليس له علة ولم يخرجاه، وفي الباب أيضا عن ابن مسعود، ووافقه الذهبي وقال على شرطهما ولا علة له. (2) البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب التوحيد، باب قال الله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} 13 / 433 رقم 7447، ومسلم (بشرح النووي) كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض 6/ 182 رقم 1679 واللفظ له من حديث أبى بكر رضي الله عنه. (3) سبق تخريجه ص 39.

بعد أن أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: "احفظوه وأخبروا به من وراءكم" (1) . ويقول: " ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عنى وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما حرم الله" (2) . يقول الدكتور عبد الغنى عبد الخالق: " أليس الأمر بالتحديث والتبليغ والحفظ، والإبعاد على الكذب عليه أشد الوعيد، والنهى عن عدم الأخذ بالسنة؛ دليلاً على أن السنة لها شأن خطير، وفائدة جليلة للسامع والمبلغ؟ فما هذه الفائدة وما هذا الشأن العظيم؟ أليس هو أنها حجة في الدين، وبيان للأحكام الشرعية. كما يدل عليه تعقيبهصلى الله عليه وسلم. الأمر بالتبليغ والتحديث _ في الروايات السابقة _ بقوله صلى الله عليه وسلم.: " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" " احفظوه وأخبروا من وراءكم" وقوله صلى الله عليه وسلم. ".. إلا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. مثل ما حرم الله " وقوله صلى الله عليه وسلم. "وحدثوا عنى ولا حرج" ألا يشعرك هذا القول أن القصد من تبليغ السامع الحديث لمن بعده، أن يأخذ الغائب ما اشتمل عليه الحديث من فقه وحكم شرعي؟ وهل يكون ذلك إلا إذا كان الحديث حجة، ودليلاً تثبت به الأحكام التى تضمنها؟ وهل يصح أن يذهب من عنده ذرة من عقل وإيمان إلى أن أمره صلى الله عليه وسلم. بالتحديث والتبليغ إنما كان لمجرد التسلية والمسامرة في المجالس كما يفعل بتواريخ الملوك والأمراء؟ كلا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم. أجل وأعظم وأشد عصمة من أن يأمر أمته بما لا فائدة فيه، وبما هو مدعاة للهوهم وعبثهم. وإليك ما قاله الشافعي _ تعليقًا على حديث "نضر الله أمرءًا سمع منا شيئًا ... " المتقدم مما فيه تأييد لما ذكرنا لك.

_______ (1) البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان 1/ 157 رقم 53، ومسلم "بشرح النووي" كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله وشرائع الدين 1/ 212 رقم 17، واللفظ له، من حديث بن عباس _ رضى الله عنهما _. (2) أخرجه الترمذي في سننه كتاب العلم، باب ما نه ى عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم. 5/ 37 رقم 2664، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وأخرجه ابن ماجة في سننه المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتغليظ على من عارضه 1/ 20 رقم 12 من حديث المقدام بن معد يكرب.

.. قال رضي الله عنه: "فلما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها أمراً يؤديها، والامرء واحد -: دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يؤدى عنه حلال، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة فى دين ودنيا، ودل على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه ويكون له حافظاً، ولا يكون فيه فقيهاً" (1) أ. هـ. ... ثم نقول "ولا زال الكلام للدكتور عبد الغنى": لا شك فى أنه صلى الله عليه وسلم إنما نص على خصوص الكذب عليه، وخصه بهذا الوعيد الشديد مع دخوله فى عموم الكذب المعلوم حرمته للجميع؛ لأن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم مستلزم لتبديل الأحكام الشرعية، واعتقاد الحلال حراماً، والحرام حلالاً.وهذا الاستلزام لم يتفرع إلا عن حجية السنة، وأنها تدل على الأحكام الشرعية. ... وإذا أردت أن تتحقق مما قلناه؛ فعليك بما رواه الشيخان عن المغيرة؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن كذباً علىَّ ليس ككذب على أحد. فمن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (2) ثم انظر إلى ما رواه مسلم عن أبى هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يكون فى آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم (3) .

_ (1) الرسالة للشافعى ص 402، 403، رقم الفقرات 1103، 1104، وانظر: سنن الدارمى المقدمة، باب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم السنن 1/145 من رقم 542 - 561. (2) البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت3/191رقم1291، ومسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول اللهصلى الله عليه وسلم1/101 رقم4 واللفظ له. (3) مسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب النهىعن الرواية عن الضعفاء والاحتياط فى تحملها1/111رقم7

.. وأخبرنى بربك: إذا لم يكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، فعلام هذا التحذير من الأحاديث المكذوبة عنه؟ ولم يحصل بها الضلال والفتنة؟ ولو كان المقصود من التحديث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد التسلية واللهو كرواية الأشعار وأخبار العرب وغيرهم أفلا يستوى الصادق منها والكاذب فى هذا المعنى؟ ولو كان هناك فرق بينهما أفيستحق هذا الفرق التحذير الشديد من الضلال والفتنة؟ كلا. ... وبالجملة: فكل ما نقلناه لك من هذه الأحاديث ونحوها يؤيد ما قلناه من حجية السنة، وهو بمثابة التصريح من الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك عند من له سمع يسمع وعقل يدرك، وهو فى الوقت نفسه صريح فى رغبته صلى الله عليه وسلم فى نقل السنة والمحافظة عليها. فكيف مع هذا كله يزعم زاعم بأن نهيه عن كتابتها دليل على رغبته فى عدم نقلها والمحافظة عليها وعلى عدم حجيتها {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} (1) . ... قلت: بل كيف مع هذا يصح زعم زاعم أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الكتابة ناسخ للإذن كما ذهب إلى ذلك الأستاذ محمد رشيد رضا (2) ، وتابعه على ذلك محمود أبو رية (3) ، وجمال البنا (4) وغيرهم.

_ (1) الآيتان 52،53 من سورة الروم، وانظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص424 - 426 بتصرف. (2) مجلة المنار المجلد10/767،768،ووجهة نظر رشيد رضا فىهذا الأمر لم تجد التأييد الكافى حتىمن تلاميذه، ومنهم محمد الخولى أيد أئمة الحديث فى أن النهى سبق الجواز-انظر: مفتاح السنة ص16 (3) أضواء على السنة 48. (4) الأصلان العظيمان 268 - 275 والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 198.

.. وإذا افترضنا صحة هذا القول منهم (1)

_ (1) وهو لا يصح بحال "أن يكون النهى ناسخ للإذن لأمور ثلاثة: 1- أن أحاديث الإذن متأخرة: فحديث أبى شاة عام الفتح. وذلك فى أواخر حياة النبى صلى الله عليه وسلم وحديث أبى هريرة فى المقارنة بينه وبين عبد الله بن عمرو متأخر أيضاً لأن أبا هريرة متأخر الإسلام. وهو يدل أيضاً على أن عبد الله كان يكتب بعد إسلام أبى هريرة وحديث همه صلى الله عليه وسلم بكتابة كتاب لن تضل الأمة بعده كان فى مرض موته صلى الله عليه وسلم. ويبعد جداً أن يكون حديث أبى سعيد الخدرى قد تأخر عن هذه الأحاديث كلها خصوصاً حديث (الهم، ولو كان حديث أبى سعيد فى النهى متأخر عن هذه الأحاديث فىالإذن والجواز، لعرف ذلك عند الصحابة يقيناً صريحاً 2- إجماع الأمة القطعى بعد عصر الصحابة والتابعين على الإذن وإباحة الكتابة وعلى أن الإذن متأخر عن النهى كما سبق. وهو إجماع ثابت بالتواتر العملى عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول -رضى الله عنهم أجمعين-كما قال الأستاذ أحمد محمد شاكر فى الباعث الحثيث ص112، وانظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 447. 3- سيأتى قريباً: أنه لا نسخ أصلاً حيث يصار إلى النسخ عند تعذر الجمع بين الدليلين المتعارضين وهو ممكن لنا كما سيأتى. فلا يصح أن يكون أحدهما ناسخاً للآخر ص 290،291.

، فأين دليل نسخ الإذن بالتحديث والتبليغ الذى هو أبلغ فى حجية السنة كما مر، بل وأبلغ وأقوى من النقل بالكتابة على ما سيأتى فى شبهة تأخر التدوين وهذا الإذن بالتحديث كما هو وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب نهيه عن الكتابة، هو أيضاً وارد عن الصحابة والتابعين عقب نهيهم عن الكتابة انظر إلى قول أبى سعيد الخدرى: "… إن نبيكم كان يحدثنا فنحفظ فاحفظوا كما كنا نحفظ" وفى لفظ آخر "خذوا عنا كما أخذنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وانظر إلى قول أبى هريرة: "ارووا كما كنا نروى" وأبى موسى الأشعرى "خذ عنا كما أخذنا" وفى لفظ آخر "احفظوا عنا كما حفظنا" وكل هذه الروايات سبقت وهى مما استشهدوا بها على شبهتهم، وروى عن سليم بن عامر (1) ، قال: كان أبو أمامة إذا قعدنا إليه يجيئنا من الحديث بأمر عظيم ويقول للناس: "اسمعوا واعقلوا، وبلغوا عنا ما تسمعون. قال سليم: بمنزلة الذى يشهد على ما علم" (2) . ... وعن سليم بن عامر قال كنا نجلس إلى أبى أمامة فيحدثنا حديثاً كثيراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سكت قال أعقلتم بلغوا كما بلغتم (3) .

_ (1) هو سليم بن عامر الكلاعى، ويقال الخبائرى بخاء معجمة وموحدة، أبو يحيى الحمصى روى عن أبى الدرداء، وعوف بن مالك، وعنه ثور ومعاوية بن صالح. ثقة وغلط من قال أدرك النبىصلى الله عليه وسلم مات سنة 130هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/381 رقم 2535، والكاشف 1/456 رقم 2064، والثقات للعجلى ص 199 رقم 600، والتاريخ الكبير 4/125 رقم 2190 (2) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب البلاغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليم السنن 1/146 رقم 544 (3) أخرجه الطبرانى فى الكبير 8/187، والخطيب فى شرف أصحاب الحديث ص 168 رقم 189، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/140 وعزاه إلى الطبرانى فى الكبير بسند حسن.

.. وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: "إنا كنا نحفظ الحديث، والحديث يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما إذا ركبتم الصعب والذلول، فهيهات (1) أ. هـ. ... وعلى نفس درب الصحابة صار تلاميذهم من التابعين أمروا من نهوهم عن الكتابة بالتحديث بعد حفظهم. انظر إلى قول سفيان الثورى عقب نهى شيخه عمرو بن دينار "وما كتبت عنه شيئاً كنا نحفظ". ... فالصحابة رضي الله عنهم صاروا على المنهج النبوى، نهوا عن الكتابة مع وجود علتها، وفى نفس الوقت أذنوا بالكتابة مع الأمن من العلة، وعلى دربهم صار التابعون رضي الله عنهم، وفى نفس الوقت الكل (النبى صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين) أمروا بالحفظ والتحديث (2) .

_ (1) أخرجه ابن ماجة فى المقدمة، باب التوقى فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/25 رقم 27، وابن المبارك فى مسنده 141 رقم 229، واللفظ لابن ماجة، ورجال إسناده ثقات. (2) وما جاء عن بعض الصحابة من الامتناع عن التحديث أو الإقلال منه، والنهى عن الإكثار منه، فذلك منهم كان إتباع لأمر النبى صلى الله عليه وسلم، ولمنهجه فى الحفاظ على رسالة الإسلام قرآناً وسنة. كما سيأتى قريباً ص 325-332.

علة النهى عن كتابة السنة كما وردت فى الأحاديث والآثار

فلا تعارض حينئذ بين كراهيتهم لكتابة الحديث وبين حبهم ورغبتهم فى روايته، على ما زعمه الدكتور حسين الحاج (1) . فهل عند من يزعمون عدم حجية السنة، أو يزعمون أن النهى عن الكتابة ناسخ للأذن؟ هل عندكم دليل لنسخ هذا الأمر النبوى بحفظ سنته وتبليغها للناس كافة؟؟ وإن لم تجدوا دليلاً ولن تجدوا، فعلام يدل عندكم هذا الأمر النبوى-بحفظ سنته وتبليغها؟ هل يدل على مجرد اللهو والعبث؟ أم يدل على أنه صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين أرادوا ألاَّ يجعلوا السنة القولية ديناً وشريعة عامة كالقرآن، كما ذهب إلى ذلك خصوم السنة، وتأثر بهم بعض المسلمين (2) ، وتلك دعوى يكذبها قول وفعل النبى صلى الله عليه وسلم، ومن صار على دربه إلى يوم الدين، وسيأتى تفصيل ذلك فى: علة النهى عن كتابه السنة عند أعدائها (3) . علة النهى عن كتابة السنة كما وردت فى الأحاديث والآثار التى استشهد بها خصوم السنة على شبهتهم

_ (1) حسين الحاج: هو حسين الحاج حسن، كاتب سورى لبنانى، حصل على العالمية، من جامعة القديس يوسف، وكانت رسالته بعنوان (نقد الحديث فى علم الرواية وعلم الدراية) خلط فيها بين الحق والباطل، ودس السم فى الدسم، وكانت جل اعتماده فى مراجعه على ما كتبه محمود أبو رية، وطه حسين، وأمثالهما، ورسالته مطبوعة. ومن مؤلفاته أدب العرب فى صدر الإسلام، ونظم إسلامية، وغير ذلك. قال فى معرض كلامه عن نشأة الحديث: "أما إذا انتقلنا إلى عصر الصحابة وجدناهم غالباً يكرهون تدوين الحديث، بينما يرغبون فى روايته، وهو أمر غريب، يحبون رواية الحديث ويكرهون تدوينه! سؤال يحتاج إلى بحث وتفسير"!! انظر: نقد الحديث فى علم الرواية والدراية 1/142. (2) كالأستاذ محمد رشيد رضا (رحمه الله تعالى) (3) انظر: ص 298، 299-306.

.. أشرت فيما سبق عند عرض شبهة النهى عن كتابة السنة إلى أن أصحابها أغمضوا أعينهم عن علة النهى، وسفهوا رأى من يقول بها من أئمة المسلمين من المحدثين والفقهاء، وسائر علماء المسلمين إلى يومنا هذا، بالرغم من أن هذه العلة واردة فى نفس الأحاديث التى احتجوا بها علينا. ... وأولى هذه العلل كما جاء فى الأحاديث: المحافظة على كتاب الله عز وجل وصيانته عن خلطه بالسنة دون تمييز بينهما. ويبدو هذا واضحاً فى رواية أبى هريرة: "أكتاب مع كتاب الله … امحضوا كتاب الله أو خلصوه" وهذه الرواية مع ضعف سندها لوجود عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ المتفق على ضعفه (1) ، إلا أن رواية أبى بردة بن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه والتى أخرجها الطبرانى فى الكبير والبراز فى مسنده بإسناد صحيح، كما قال الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد (2) تشهد لصحة رواية أبى هريرة، كما تشهد لصحة هذه العلة؛ ففيها التصريح الذى لا لبس فيه بأن الأحاديث كتبت بجوار القرآن فى صحيفة واحدة بلا تمييز يؤمن معه سلامة القرآن. وهذا قول أبى موسى الأشعرى صريحاً: "لولا أن فيه كتاب الله لأحرقته". ... ففى رواية أبى هريرة، وكذا فى قول أبى موسى الأشعرى ما يبين أن السنة فى عهد النبوة والصحابة كانت تكتب بجوار القرآن فى صحيفة واحدة بلا تمييز يحفظ معه القرآن من اشتباهه بالسنة التى كتبت بجواره. ... ويؤكد ذلك القراءات الشاذة، فما هى إلا تفسير لبعض كلمات القرآن كتبت بجوارها للإيضاح والبيان- ومن فعل ذلك من الصحابة كان محققاً لما تلقاه عن النبى صلى الله عليه وسلم قرآناً، وذلك كقراءة ابن عباس-رضى الله عنهما-: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (3)

_ (1) راجع: ص 262. (2) مجمع الزوائد 1/151. (3) الآية 198 من سورة البقرة.

فى مواسم الحج (1) وكقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} (2) من أم (3) ، وكقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} (4) متتابعات (5) . ... فمثل هذا عند الأئمة من القراءات الشاذة، وحكمة التفسير (6) على خلاف فى العمل به هل له حكم الرفع أم هو مذهب الراوى (7) ؟ ... وإذا كان هذا يؤكد أنه وجد من الصحابة من يكتب السنة بجوار القرآن فى صحيفة واحدة، مع خطورة هذا الأمر، فقد وجد فى التابعين من يكتب الرأى بجوار السنة ولا يبعد كتابتهم الرأى بجوار القرآن.

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ" 8/34 رقم 4519. (2) جزء من الآية 12 من سورة النساء. (3) أخرجه الدارمى فى سننه كتاب الفرائض، باب الكلالة 2/462 رقم 2975، وسعيد بن منصور فى سننه كتاب التفسير، باب تفسير سورة النساء 3/1187 رقم 592، والبيهقى فى سننه كتاب الفرائض، باب فرض الأخوة والأخوات للأم 6/231. (4) جزء من الآية 89 من سورة المائدة. (5) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/91، ونيل الأوطار 8/238. (6) انظر: الإتقان للسيوطى 1/208 فقرات رقم 1049، 1109-1111، ومناهل العرفان للزرقانى 1/429. (7) عند البخارى ومسلم أن تفسر الصحابى الذى شهد الوحى والتنزيل حديث مسند إذا كان ما فسره ما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا مدخل للرأى فيه.

.. يدل على هذا ما روى عن الشعبى (1) أن مروان (2) أجلس لزيد بن ثابت (3) رجلاً وراء الستر، ثم دعاه فجلس يسأله ويكتبون فنظر إليهم زيد، فقال: يا مروان عذراً إنما أقول برأيى" (4) وروى عن يحيى بن سعيد (5) قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب (6)

_ (1) انظر: تدريب الراوى للسيوطى 1/192، 193، وفتح المغيث للسخاوى 1/138، 139. (2) الشعبى هو: عامر بن شراحيل بن عبد ذى كبار، الشعبى الحميرى، أبو عمرو، علامة التابعين، كان إماماً حافظاً يضرب المثل بحفظه، روى عن على، وأبى هريرة، وعائشة، وابن عمر وغيرهم. مات سنة 103هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/461 رقم 3103، والكاشف 1/522 رقم 2531، والثقات للعجلى ص243 رقم 751، ووفيات الأعيان 3/12-16 رقم 317. (3) مروان هو ابن الحكم بن أبى العاص، بن أميه، أبو عبد الملك الأموى، المدنى، ولى الخلافة فى آخر سنة 64هـ. لا تثبت له صحبة- روى عن عمر، وعثمان، وعلى، وعنه سهل بن سعد، وعلى بن الحسين، وعروة مات سنة 105هـ. له ترجمة فى: الجرح والتعديل 8/271، وتقريب التهذيب 2/171 رقم 6588، والكاشف 2/253 رقم 5363. (4) طبقات ابن سعد 5/117، وسير أعلام النبلاء للذهبى 2/476 رقم 102. (5) هو: يحيى بن سعيد بن فروخ، التميمى، أبو سعيد القطان البصرى، أحد الأئمة الأعلام، ثقة حافظ متقن، كان رأساً فى العلم والعمل، روى عن هشام بن عروة، وحميد والأعمش. وعنه أحمد وعلى ويحيى مات 198هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/303 رقم 7584، والكاشف 2/366 رقم 6175، ومشاهير علماء الأمصار ص 192 رقم 1278، وتذكرة الحفاظ 1/298 رقم 280، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 131 رقم 268. (6) سعيد بن المسيب بن حزن، الإمام، أبو محمد المخزومى، أحد العلماء الإثبات، الفقهاء الكبار، روى عن عمر وعثمان وسعد، وعنه الزهرى، ويحيى بن سعيد وقتادة، مات بعد التسعين. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/364 رقم 2403، والكاشف 1/444 رقم 1960، تذكرة الحافظ 1/54 رقم 38، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص25 رقم 37، ومشاهير علماء الأمصار ص81 رقم 426.

، فسأله عن شىء، فأملاه عليه، ثم سأله عن رأيه؛ فأجابه فكتب الرجل فقال رجل من جلساء سعيد: أيكتب يا أبا محمد رأيك؟ فقال سعيد للرجل: ناولينها فناوله الصحيفة فخرقها" (1) . ... وكان مجاهد يقول لأصحابه: "لا تكتبوا عنى كل ما أفتيت به، وإنما يكتب الحديث. ولعل كل شىء أفتيتكم به اليوم أرجع عنه غداً" (2) . ... ومن هنا ندرك صحة علة النهى عن كتابة شىء -فى أول الأمر- سوى القرآن الكريم صيانة لهذا الكتاب المعجز ممن كانوا حديثى عهد بالإسلام ولم يعتادوا على أسلوبه وأكثرهم من الأعراب الذين لم يكونوا فقهوا فى الدين. ... وفى نفس الوقت تعليم للصحابة وللأمة من بعدهم المنهج الأمثل فى المحافظة على هذا الكتاب الخالد. مع العلم بأن النهى فى أول الأمر كان يشمل وقت نزول القرآن أو بعده، ممن يمكن أن تقع فى يده هذه الصحيفة وهو من غير أهل العلم حتى إذا تعلموا الدرس، جاء الإذن بكتابة السنة لمن اعتادوا أسلوب القرآن وتمييزه كعبد الله بن عمرو وغيره ممن أذن لهم النبى صلى الله عليه وسلم، مع استمرار النهى عن كتابة السنة مع القرآن فى صحيفة واحدة حتى وإن كان مميزاً بينهما.

_ (1) أخرجه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/144. (2) الميزان للشعرانى 1/32، وانظر: قواعد التحديث للقاسمى ص 52، وانظر: أثر آخر عن جابر بن زيد فى جامع بيان العلم 2/31، وانظر: تقييد العلم ص 20، تصدير الدكتور يوسف العش.

أما رفض دعاة اللادينية وغلاة الشيعة لهذه العلة بحجة أن تلك العلة تعنى جعل الأحاديث من جنس القرآن فى الأسلوب والبلاغة، وفى ذلك إبطال لإعجاز القرآن الكريم (1) . ... فأقول: ليس فى ذلك إبطال لإعجاز القرآن، بل حفاظاً لهذا الإعجاز بمنهج نبوى طبقة النبى صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، واستوعبه الخلفاء وطبقوه كما فهموه من النبى صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا كان هناك من كبار الصحابة من يدرك ويميز بين الأسلوب القرآنى وإعجازه وبين الأسلوب النبوى، فهناك من عامة الصحابة من لا يدرك ذلك، وهذا هو حال جميع الناس فى جميع العصور والأمصار وهذا أمر بديهى لا يجادل فيه منصف. ... فكان من المنهج الربانى فى المحافظة على كتابه العزيز النهى عن كتابة ما سواه فى أول الأمر؛ لأنه متعبد بلفظه فى الصلاة وغيرها، ولا يجوز إبدال حرف منه بآخر؛ فكان لابد من المحافظة على هذا الإعجاز ممن لا يدركه فى زمن النبوة المباركة، وجميع العرب فيما بعد ذلك، وجميع الأعاجم والمستعربين فى جميع العصور. ممن لا يؤمن أن يلحقوا ما يجدون فى الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام رب العباد.

_ (1) ممن ذهب إلى ذلك توفيق صدقى فى مقالة (الإسلام هو القرآن وحده) انظر: مجلة المنار المجلد 9/515 ومحمود أبو ريه فى أضواء على السنة ص 50، 51، وإسماعيل منصور فى تبصير الأمة بحقيقة السنة ص26، 291، 310، وجمال البنا فى: السنة ودورها فى الفقه الجديد ص199، وعبد الجواد ياسين فى السلطة فى الإسلام ص 244، ومن غلاة الشيعة مروان خليفات فى كتابه وركبت السفينة ص 181، وزكريا عباس داود فى تأملات فى الحديث عند السنة والشيعة ص40،41. وغيرهم من أعداء السنة السابق ذكرهم عند استعراض الشبهة وأصحابها.

.. أما سؤال بعضهم: لماذا لم يأمر النبىصلى الله عليه وسلم بكتابة السنة فى صحف على حدتها، ويكتب عليها ما يفيد أنها أقوال النبى صلى الله عليه وسلم فتتميز السنة على القرآن فلا يؤمن اختلاطهما (1) . فنقول: أذن النبى صلى الله عليه وسلم بكتابة سنته المطهرة فى صحف على حدتها، وميزها من أذن له النبى صلى الله عليه وسلم بذلك كعبد الله بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وأبى هريرة وغيرهم ممن عددهم الدكتور الأعظمى فى كتابه "دراسات فى الحديث النبوى" (2) كما أملى النبى صلى الله عليه وسلم كثير من سنته المطهرة فى حياته المباركة، وهذا ما استوعبه الدكتور امتياز أحمد فى كتابه "دلائل التوثيق المبكر للسنة" (3) . فالنبىصلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة فى أول الأمر، ثم أذن بعد ذلك، وكان النهى دائر مع الخوف، والإذن دائر مع الأمن وجوداً وعدماً، وكان خلال الإذن كتابات ولكن لم تدون تلك الكتابات فى مكان واحد، كيف والقرآن نفسه كتب فى عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يدون فى مكان واحد بين دفتيه إلا فى عهد الصديق رضي الله عنه.

_ (1) ممن سأل هذا توفيق صدقى انظر: مجلة المنار المجلد 9/912، وتابعه عليه إسماعيل منصور فى تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 27، 28، ونيازى عز الدين فى إنذار من السماء ص 114. (2) انظر: دراسات فى الحديث النبوى فصل كتابة الصحابة والكتابات عنهم 1/92 وانظر: دلائل التوثيق المبكر للسنة ص 500-541. (3) انظر: دلائل التوثيق المبكر للسنة، فصل الكتابات المبكرة 368-415، وانظر: السنة قبل التدوين للدكتور عجاج الخطيب ص343-361.

.. ومع وجود كتابات فى زمن النبوة فى وقت الإذن إلا أنهصلى الله عليه وسلم لم يأمر بكتابة سنته كلها للفرق الشاسع بين حجم القرآن، وحجم السنة التى من وظيفتها الشرح والبيان له، وعادة الشرح أن يكون أكبر حجماً من المشروح، ولو فرض كتابة السنة كلها زمن النبوة كما كتب القرآن الكريم، وأُمن من التمييز بينهما لم يؤمن انشغال الناس بها دون القرآن. وهذه هى العلة الثانية الواردة فى الأحاديث التى تنهى عن كتابة السنة: خشية الانشغال عن القرآن الكريم ومضاهاته بغيره من الكتب حتى ولو كانت السنة. ... والمراد بالانشغال بالسنة عن القرآن الكريم تقديمها فى الاهتمام بها قبل الاهتمام أولاً بكتاب الله عز وجل مما يؤدى إلى ترك كتاب الله عز وجل وإهماله وهذا ما صرح به الفاروق عمر رضي الله عنه بعد عدوله عن تدوين السنة وموافقة الصحابة "وإنى والله لا ألبس كتاب الله بشىء أبداً" (1) وإعلان سيدنا عمر رضي الله عنه هذا على ملأ من الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- وإقرارهم بذلك يدل على استقرار أمر هذه العلة فى نفوسهم (2) . ... وأكثر صراحة من ذلك فى تأكيد المراد بالانشغال بالمعنى السابق قول الضحاك-رحمه الله- "يأتى على الناس زمان تكثر فيه الأحاديث حتى يبق المص-حف بغبارة لا ينظر فيه".

_ (1) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب من لم ير كتابة الحديث 1/132 رقم 464. (2) انظر: منهج نقد المتن للدكتور نور الدين عتر ص 44، والسنة فى مواجهة أعدائها لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 243.

.. وعن أبى خالد الأحمر (1) قال: "يأتى على الناس زمان تعطل فيه المصاحف، لا يقرأ فيها، يطلبون الحديث والرأى، ثم قال: أياكم وذلك؛ فإنه يصفق الوجه، ويكثر الكلام، ويشغل القلب" كما كان الخوف من التشبه بالقرآن الكريم فى شكله، وفى ذلك يقول أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه: "أتريدون أن تجعلوها مصاحف" ويقول الضحاك: "لا تتخذوا للحديث كراريس ككراريس المصاحف" وروى عن إبراهيم النخعى: أنه كان يكره أن يكتب الحديث فى الكراريس ويقول: "يشبه بالمصاحف" (2) . كذا كان هناك خوف من التشبه بالقرآن فى روايته باللفظ وعدم إجازة رواية السنة بالمعنى، وذلك واضح فى رواية أبى سعيد الخدرى لما قال له أبو نضرة: إنك تحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً عجيباً، وإنا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص" فكانت إجابة أبى سعيد: "أردتم أن تجعلوه قرآناً لا، لا، ولكن خذوا عنا كما أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ، وفى رواية ابن المبارك فى مسنده "لن أكتبكموه، ولن أجعله قرأناً". وكان يشتد الخوف والغضب إذا كان التشاغل والمضاهاة بكتب أهل الكتاب.

_ (1) أبو خالد الأحمر هو: سليمان بن حيان الأزدى الكوفى روى عن عاصم الأحول، ويحيى بن سعيد الأنصارى، وعنه أحمد، وإسحاق، وهناد، صدوق يخطئ، مات سنة 190هـ أو قبلها. له ترجمة فى: تقريب التهذيب1/384 رقم2555، والكاشف1/458 رقم2080، والثقات للعجلى 201 رقم 607، ولسان الميزان 8/375 رقم 12825، وتهذيب الكمال 11/394 رقم 2504. (2) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب من لم ير كتابة الحديث 1/132 رقم 464. (3) انظر: آثر آخر عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فى جامع بيان العلم 1/79.

.. كما جاء فى رواية جابر بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله بنسخة من التوراة، فقال يا رسول الله، هذه نسخة من التوراة فسكت فجعل يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير فقال: أبو بكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله، من غضب الله ومن غضب رسوله، رضينا بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذى نفس محمد بيده، لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتمونى لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوتى لاتبعنى (1) ، وفى بعض

_ (1) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب ما يتقى من تفسير حديث النبى صلى الله عليه وسلم 1/126 رقم 435، وأحمد فى مسنده 3/387، والسنة لابن أبى عاصم 1/27 رقم 50. واللفظ للدارمى وفيه مجالد بن سعيد، الجمهور على تضعيفه لأنه اختلط فى آخر عمره. لكن روايته لهذا الحديث مقبولة؛ لأنه قد سمعه منه هشيم قبل الاختلاط قال ابن عدى: رواية القدماء عنه كهشيم وشعبة وحماد بن زيد مقبولة، وقال ابن عدى: له عن الشعبى عن جابر أحاديث صالحة يعنى كما فى سند هذا الحديث، قال يعقوب بن سفيان صدوق، وأخرج له مسلم مقروناً، وقال النسائى: ليس سند هذا الحديث، قال يعقوب بن سفيان صدوق، وأخرج له مسلم مقروناً، وقال النسائى: ليس بالقوى، وقال مرة: ثقة، انظر: مجمع الزوائد 1/173، 174، وانظر: تقريب التهذيب 2/159 رقم 6498، والكاشف 2/239 رقم 5286، والثقات للعجلى ص420 رقم 1537، والضعفاء للنسائى ص 223 رقم 579، والمجروحين لابن حبان 3/10، والحديث صحح إسناده الحافظ ابن كثير من رواية أحمد فقال يعد إيراده فى (بيان الإذن فى الرواية عن أخبار بنى إسرائيل) قال: تفرد به أحمد وإسناده على شرط مسلم. انظر: البداية والنهاية 2/123، وانظر من نفس المصدر 1/185.

الروايات: " ... ثم جعل أى النبى صلى الله عليه وسلم يتبعه رسماً رسماً فيمحوه بريقة وهو يقول: "لا تتبعوا هؤلاء؛ فإنهم قد هوكوا وتهوكوا" حتى محا آخره حرفاً حرفاً (1) . وعلى هذا الدرب صار الصحابة كما روى عن عمر بن الخطاب؛ أنه أتى برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس (2) فقال له عمر: أنت فلان ابن فلان العبدى قال: نعم، فضربه بعصا معه فقال الرجل: مالى يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: اجلس فجلس فقرأ عليه {الر تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (3) . ... فقرأها عليه ثلاثاً وضربه ثلاثاً، فقال الرجل: مالى يا أمير المؤمنين فقال: أنت الذى نسخت كتب دانيال (4) ، قال: مرنى بأمرك اتبعه قال: انطلق فامحه بالحميم (5) والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه أنت، ولا تقرئه أحداً من الناس، فلئن بلغنى عنك أنك قرأته أو أقرأته أحداً

_ (1) انظر: تفسير القرآن العظيم 2/468. (2) بلدة بخورستان فى بلاد فارس بها قبر دانيال النبى عليه السلام، وفتحت الأهواز فى أيام عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وكان آخر ما فتح منها السوس، انظر: معجم البلدان 3/280، 281. (3) الآيات 1-3 من سورة يوسف (4) دانيال: أحد أنبياء بنى إسرائيل فى الفترة ما بين داود وسليمان وبين زكريا وعيسى بن مريم عليهما السلام، وقد ذكر الحافظ ابن كثير فى كتابه: البداية والنهاية شىء من خبره تحت عنوان "شىء من خبر دانيال عليه السلام" 2/37. (5) الحميم هو: المار الحار. انظر: القاموس المحيط 4/102.

من الناس؛ لأنهكتك عقوبة، ثم قال له: اجلس فجلس بين يديه قال: انطلقت أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب، ثم جئت به فى أديم (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الذى فى يدك يا عمر؟ فقلت: يا رسول الله: كتاب نسخته لنزداد علماً إلى علمنا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحمرت وجنتاه (2) … ونقل قصته بنحو رواية جابر بن عبد الله السابقة. ومثل هذه القصة وقعت مع الإمام أبى حنيفة لما دخل شخص الكوفة بكتاب دانيال فكاد أبو حنيفة أن يقتله، وقال له أكتاب ثَمَّ غير القرآن والحديث (3) ؟

_ (1) أديم، أى جلد، وقيل المدبوغ منه. انظر: لسان العرب 1/45. (2) أخرجه أبو يعلى فى مسنده ولم أجده فى الجزء المطبوع من المسند، وعزاه إليه الحافظ الهيثمى وقال: فيه عبد الرحمن إسحاق الواسطى، ضعفه أحمد، وجماعة كما قال الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/173، 182.فهل يعاب عمر رضي الله عنه فى اقتداءه بالنبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الأمر أم يمدح؟ وهل فى هذه القصة دليل على كراهة عمر للتحديث والتدوين بشكل مطلق، سواء كان من سنة النبى أو غيرها، وسواء كان من صحيح ما ورد من أخبار الأمم السالفة أو سقيمها، كما زعم على الشهرستانى فى كتابه منع تدوين الحديث ص105-107. (3) انظر: قواعد التحديث للقاسمى ص 298.

.. وكذلك صنع ابن مسعود رضي الله عنه فى الصحيفة التى قُدِمَ بها عليه من الشام محاها ثم تلا نفس الآية التى تلاها عمر {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (1) . ... وقال: "القلوب أوعية فاشغولها بالقرآن ولا تشغلوها ما سواه، إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم الكتب وتركهم كتاب ربهم". وهو يعنى بالكتب هنا كتب أهل الكتاب أو ما أخذت عنها كما قال أبو عبيد أحد رواة هذا الحديث فى رواية ابن عبد البر: "يرى أن هذه الصحيفة أخذت من أهل الكتاب فلهذا كره عبد الله النظر فيها". ... ويؤكد مرة الهمدانى الراوى عن ابن مسعود كما فى رواية الدارمى أن الصحيفة ليست من السنة، وإنما كانت من كتب أهل الكتاب بقوله: "أما أنه لو كان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب". وفيما سبق رد على ما ذهب إليه بعض غلاة الشيعة، أن محو السنة فى زمن الخلفاء، لأجل ما فى الأحاديث من فضائل لأهل البيت وحجتهم رواية ابن مسعود عند الخطيب (2) .

_ (1) وفيما سبق أبلغ رد على ما ذهب إليه بعض غلاة الشيعة من أن النهى عن الكتابة نابع من موقف سياسى. أى سياسة هنا! أليس فى قصة عمر مع ناسخ كتاب (دانيال) عليه السلام سنة بقصته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فجاء النهى من عمر ابتداء بنهى النبى صلى الله عليه وسلم له لعلة خشية الاشتغال بها عن كتاب الله وسنة رسوله وهى نفس العلة التى فهمها ابن مسعود وسائر الصحابة وسائر الأئمة من بعدهم. (2) معالم المدرستين مرتضى العسكرى المجلد 2/44-45، ومنع تدوين الحديث لعلى الشهرستان ص64، وقد تناقض فى ذلك مرة بتأييده لذلك هنا ص 64 ثم رفضه لذلك السبب وتضعيفه ص66، 70 ثم تأييده ثانية ص 71، 81، 358، 361، 362.

.. ولو فُرِضَ صحة رواية الخطيب، أن الصحيفة التى محاها ابن مسعود كانت فيها أحاديث فى فضائل أهل البيت، فذلك المحو محمول على أنها كانت أحاديث مكذوبة فى فضائل أهل البيت، وإلا لو كانت صحيحة لكانت من السنة وما محاها رضي الله عنه كما قال مرة الهمدانى "أما إنه لو كانت من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب (1) . وكتب أهل الكتاب هذه هى التى قال فيها أيضاً ابن عون: "إنى أرى هذه الكتب يا أبا إسماعيل ستضل الناس. وهذه الكتب أو ما أخذ منها هو ما جعل السلف الصالح يكرهون الكتابة خشية الاشتغال بها عن القرآن الكريم والسنة النبوية معاً.

_ (1) وما زعمه بعض غلاة الشيعة من أن سبب النهى عن كتابة السنة زمن أبى بكر وعمر هو خوفهم من اشتهار أحاديث فضائل أهل البيت–عليهم الصلاة والسلام يكذبه الواقع فكتب السنة الصحيحة بين أيدينا، تشهد بكذب هذا الزعم، بمجرد النظر فى كتب المناقب وفضائل الصحابة، نجدها مملؤة بالأحاديث الصحيحة الواردة فى فضائل آل البيت–عليهم الصلاة والسلام–ثم إن النهى عن كتابة السنة لم يرد فقط عن أبى بكر وعمر كما يزعمون وإنما ورد أيضاً عن الإمام على كرم الله وجهه وعلته فى ذلك هى نفس أخوانه من الصحابة وعلى رأسهم سيدنا عمر رضي الله عنه حيث قال الإمام على:"فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم"

.. وفى ذلك يقول الخطيب (1) –رحمه الله تعالى–: "فقد ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول إنما هى لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونهى عن الكتب القديمة أن تتخذ؛ لأنه لا يعرف حقها من باطلها، وصحيحها من فاسدها. مع أن القرآن كفى منها، وصار مهيمناً عليها" (2) . ... وفى نفس الوقت الذى كان فيه نهى عن الكتابة سواء فى عهد النبوة، أو الصحابة، أو التابعين؛ كان الأمر بالتحديث بالسنة وتبليغها. وكان هذا التبليغ للسنة معتمداً بجوار الكتابة على ملكة الحفظ، والتى هى العمدة والأساس فى وصول القرآن والسنة إلينا سالمين من التصحيف والتحريف والتبديل. وملكة الحفظ من مفاخر العرب وهى ملكة طبعوا عليها، والاعتماد على الكتابة يضعفها مع أهميتها، فكان التوجيه النبوى بالنهى عن الكتابة لتقوية تلك الملكة. ... كما قال صلى الله عليه وسلم: "نضر الله أمرأ سمع منا حديثاً فحفظه". وقوله صلى الله عليه وسلم "احفظوه وأخبروا به من وراءكم".

_ (1) الخطيب: هو أحمد بن على بن ثابت بن مهدى، أبو بكر، أحد الأئمة الأعلام وحفاظ الإسلام، من مؤلفاته، الكفاية فى علم الرواية، وتقييد العلم، والفقيه والمتفقة، وشرف أصحاب الحديث، وغير ذلك مات سنة 462 هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 3/1135 رقم 1015،= =والتقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد لابن نقطة ص153 رقم 176، ووفيات الأعيان 1/92 رقم 34، تهذيب بن عساكر 1/399، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 433 رقم 980، والرسالة المستطرفة ص 52، وشذرات الذهب 3/311، والعبر 3|/253، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 2/441 رقم 1. (2) تقييد العلم ص 57، ونفس المعنى قاله الحافظ ابن عبد البر فى جامع بيان العلم 1/68.

.. وصار الصحابة والتابعون على الدرب نهوا عن الكتابة خوف الإتكال عليها وترك الحفظ لا سيما والإسناد قريب والعهد غير بعيد وهذه هى العلة الثالثة المصرح بها فى الأخبار والآثار الواردة فى النهى عن الكتابة. 3- خوف الاتكال على الكتابة وترك الحفظ، وفى ذلك يقول إبراهيم النخعى: "وقل ما كتب رجل كتاباً إلا اتكل عليه" ويقول سفيان: "بئس المستودع العلم القراطيس" ومن كتب كتب ليحفظه فإذا حفظه محاه كما فى قول مسروق: "إنما أريد أن احفظها ثم أحرقها" فأقره علقمة بقوله "فلا بأس" وروى مثل ذلك عن ابن شهاب ومالك، وعاصم بن ضمرة، وغيرهم (1) ومر قول أبى سعيد الخدرى "احفظوا عنا كما حفظنا" وقول سفيان الثورى: "وما كتبت عنه شيئاً كنا نحفظ" (2) .

_ (1) انظر: سنن الدارمى فى المقدمة، باب من رخص فى كتابه العلم 1/139 رقم 508، وتقييد العلم ص 58-60، وجامع بيان العلم 1/64. (2) ومع ذمة الاتكال على الكتاب وأمره بالحفظ، كان مع ذلك يكتب احتياطاً واستيثاقاً فيما رواه عنه ابن عبد البر قال سفيان: إنى أحب أن أكتب الحديث على ثلاثة أوجه حديث أكتبه أريد= =أن اتخذه ديناً، وحديث رجل أكتبه فأوقفه لا أطرحه ولا أدين به، وحديث رجل ضعيف أحب أن أعرفه ولا أعبأ به" انظر: جامع البيان العلم وفضله 1/76.

4- والعلة الرابعة الواردة فى نفس أحاديث النهى عن الكتابة "خوف صيران الأحاديث إلى غير أهلها" فلا يعرف أحكامها، ويحمل جميع ما فيها على ظاهره وربما زاد فيها ونقص، فيكون ذلك منسوباً إلى كاتبها فى الأصل، وهذا كله وما أشبهه قد نقل عند المتقدمين الاحتراس منه" (1) ولعل الأصل فى ذلك ما صح من أنه صلى الله عليه وسلم، "كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. مخافة أن يناله العدو (2) ". ... وعلى هذا يحمل ما ورد عن الصديق رضي الله عنه فى إحراقه ما جمعه من أحاديث على فرض صحته (3) ونحوه قول عَبِيْدة السلْمَانى: بعد محو كتبه عند موته: "أخشى أن يليها أحد بعدى، فيضعوها فى غير مواضعها". ويقول أبو قلابة فى وصيته لأحد تلاميذه المقربين أيوب السختيانى: "ادفعوا كتبى إلى أيوب إن كان حياً، وإلا فأحرقوها (4) . ... ويقول الأوزاعى: "كان هذا العلم شريفاً إذا كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه، فلما صار فى الكتب؛ ذهب نوره، وصار إلى غير أهله" (5) . ... هذه هى علل النهى عن كتابة السنة تعلن عن نفسها بوضوح فى الأخبار والآثار التى استشهد بها أصحاب هذه الشبهة.

_ (1) تقييد العلم ص 61. (2) متفق عليه من حديث ابن عمر رضى الله عنه أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجهاد والسير، باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو 6/155 رقم 2990، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإمارة، باب النهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو إذ خيف وقوعه بين أيديهم 7/17 رقم 1869 واللفظ له. (3) انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 457. (4) تقييد العلم ص 62. (5) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب من لم ير كتابة الحديث 1/132 رقم 467، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 1/68.

وقد يتساءل بعضهم (1) عن سبب العدول عن علل كراهة كتابة السنة وإباحة كتابتها فى عصر التدوين وما بعده إلى يومنا هذا. ... والإجابة على هذا؛ هى ما أجاب به الخطيب بقوله: "إنما اتسع الناس فى كتب العلم وعولوا على تدوينه فى الصحف بعد الكراهة لذلك، لأن الروايات انتشرت، والأسانيد طالت، وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت والعبارات بالألفاظ اختلفت، فعجزت القلوب عن حفظ ما ذكرنا … مع رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمن ضعف حفظه فى الكتاب، وعمل السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين بذلك" (2) . ... وكما قال ابن الصلاح: "ولولا تدوينه فى الكتب لدرس فى الأعصر الآخرة" (3) ، ولقد صدق رحمه الله تعالى. وبعد ... فقد ظهر واضحاً جلياً أن النهى عن كتابة السنة ليس لذاته، بل لعلل نصت عليها الأحاديث ذاتها التى نهت عن كتابة السنة وتدوينها. تلك العلل التى أغمض أعداء السنة أعينهم عنها بالرغم من وجودها صراحة فى نفس الأخبار والآثار التى احتجوا بها لشبهتهم، فإن سلموا بصحة تلك الأحاديث فعليهم التسليم بالعلل الواردة فيها، ولا يكونوا ممن قال فيهم رب العزة {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (4) . ... وإن لم يسلموا بصحة ما استشهدوا به من الأخبار والآثار لم يبق لشبهتهم أساس فى أن النهى عن كتابة السنة زمن النبوة، والصحابة، والتابعين، دليل على عدم حجية السنة المطهرة، لأنه فى الوقت الذى كان فيه نهى عن الكتابة زمن النبوة، والصحابة، والتابعين، كان فى الوقت ذاته إذن بالكتابة.

_ (1) مثل نيازى عز الدين فى إنذار من السماء ص127،وإسماعيل منصور فى تبصير الأمة ص311-318. (2) تقييد العلم ص 64، 65. (3) فتح المغيث للسخاوى 2/145، تدريب الراوى 2/65. (4) جزء من الآية 85 البقرة.

ولا أقول هنا بنسخ أحدهما للآخر (1) ،لأن النسخ لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع وهو ممكن هنا. وهذا ما ذهب إليه الدكتور عبد الغنى-رحمه الله تعالى- فى الجمع بين أحاديث النهى وأحاديث الإذن. قال: "وقد قال بالنسخ جمهور العلماء (2) ، واختاره بعض المتأخرين (3) . والحق أنه لا نسخ أصلاً، وأن النهى دائر مع الخوف -من العلل السابقة- والأذن دائر مع الأمن وجوداً وعدماً ... فإنه يجب أن لا نقول بالنسخ إلا عند عدم إمكان الجمع بغيره، وقد أمكننا الجمع بتخصيص النهى بحالة الخوف، والإذن بحالة الأمن، مع التحديث والتبليغ فى الحالتين، وهو جمع معقول المعنى. فما الذى يضطرنا إلى القول بالنسخ؟ ثم إنه لا داعى للتخصيصات بالصحف أو الأشخاص أو الأزمنة كما يذكر فى بعض أقوال الجمع، بل المدار فى النهى على حصول الاشتباه من كتابة السنة مع القرآن أو مستقلة ومن كاتب الوحى أو من غيره. وفى زمن نزول الوحى أو فى غيره. والمدار فى الإذن على الأمن من الاشتباه فى هذه الأحوال كلها (4) أ. هـ. ... وهكذا شاءت إرادة الله عز وجل، أن يكون النهى عن كتابة السنة جزء من هذا المنهاج العظيم الذى حفظت به رسالة الإسلام القائمة على الكتاب والسنة معاً.

_ (1) لا نسخ النهى بالإذن، ولا الإذن بالنهى، ولو صح الأول فلا يصح الثانى بحال كما سبق ص276 (2) أى نسخ أحاديث النهى بأحاديث الإذن، على ما حكاه ابن تيمية فى جوابه فى كتابة صحة أصول مذهب أهل المدينة ص 37. وفى مقابل الجمهور من عكس فذهب إلى أن الإذن منسوخ بالنهى كالأستاذ محمد رشيد رضا ومن تابعه وسبق الرد عليه ص 276-278. (3) كالأستاذ الخولى فى مفتاح السنة ص 17، والأستاذ أحمد محمد شاكر فى الباعث الحثيث ص112 (4) حجية السنة للدكتور عبد الغنى 446 – 447 بتصرف.

علة النهى عن كتابة السنة عند أعدائها والرد على مزاعمهم الآتية

.. وفى ذلك يقول الدكتور همام عبد الرحيم: "ولولا ذلك لكثرت الشروح والتعليقات على آيات القرآن الكريم، ثم اختلط الأمر على الكاتبين أو من يأتى بعدهم، فلا يستطيعون تمييز النص المتعبد بتلاوته عن سائر النصوص -سنة كانت أو رأى فقيه- وهذا ما حدث لرسالات الأنبياء قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اختلطت الحقيقة بالخيال، والخطأ بالصواب، والوحى بالرؤى والأحلام. حتى ذهب الأصل واختفى تحت وطأة الزيادات والإضافات، فلم يعد للوحى تميزه وهيمنته، وأصبح الوحى عند اليهود والنصارى: حركة التاريخ بمعنى أن كل شىء يحدث فى التاريخ يضاف إلى الوحى، باعتباره إرادة الله وحركة ذلك فى الأحداث. وما القراءات الشاذة -عندنا كما سبق. إلا إضافات تفسيرية كتبت إلى جانب الآيات (1) ، ثم ظن الكاتب أنها من القرآن الكريم، ولكن الكثرة الكاثرة من الصحابة الذين أفردوا النص ولم يكتبوا شيئاً إلى جانبه، بالإضافة إلى الذين حفظوه كل هؤلاء تواترت الرواية القرآنية عنهم، وحكموا على الزيادة بالشذوذ وعدم القبول (2) أ. هـ. علة النهى عن كتابة السنة عند أعدائها والرد على مزاعمهم الآتية أولاً: أن النهى عن كتابة السنة يدل على أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - أرادوا ألا يكون مع كتاب الله عز وجل كتاب آخر. ثانياً: أن النهى يدل على أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه أرادوا ألا تكون السنة ديناً عاماً دائماً كالقرآن الكريم. ثالثاً: أن النهى عن الإكثار من التحديث دليل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يجتهدون فى مقابل السنة الشريفة ولا يأخذون بها. رابعاً: أن النهى عن الإكثار من الرواية دليل على عدم حجية السنة النبوية، واتهام من أبى بكر وعمر -رضى الله عنهما- للصحابة بالكذب.

_ (1) راجع: ص279، 280. (2) الفكر المنهجى عند المحدثين للدكتور همام عبد الرحيم ص 40، 41.

استعراض شبه النهى عن كتابة السنة عند أعدائها والرد عليها

استعراض شبه النهى عن كتابة السنة عند أعدائها والرد عليها ... زعم أعداء السنة أن العلة الحقيقية فى نهى النبى صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين عن كتابة السنة هو: أولاً: أنهم لم يريدوا أن يكون مع كتاب الله عز وجل كتاب آخر. وفى ذلك يقول جمال البنا: "والحق الذى لا مراء فيه أن الرسول نهى عن تدوين أحاديثه. حتى لا يكون مع كتاب الله كتب أخرى، وحديث أبى هريرة صريح فى هذا قال أبو هريرة خرج علينا لرسول الله ونحن نكتب أحاديثه ... وذكر الحديث ثم قال وهذا هو ما فعله أبو بكر عندما أحرق الأحاديث المدونة التى كانت عنده قبل أن يموت. كما أن عمر بعد أن استشار الصحابة فى كتابة السنن ... وذكر الحديث" (1) . ... وبنفس هذه العلة وأدلتها يصرح نيازى عز الدين فيقول بعد اعتراضه على علة الخوف من اختلاط السنة بالقرآن: "وذلك التخوف لم يكن موجوداً من الأساس، بدليل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأحاديث كبار الصحابة، بل كان الخوف كله من أمر آخر ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم وذكره الصحابة أجمعون، وقد قرأنا قبل قليل فى حديث أبى هريرة، وفى الحديث المروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما أراد أن يكتب السنن وهو ألا يكون إلى جانب كتاب الله كتاب آخر، وانشغال الناس بالحديث عن كتاب الله وهذا التخوف ما زال موجوداً إلى اليوم ... ثم يقول فى موضع آخر، وهذا السبب وحده -يعنى ألا يكون إلى جانب كتاب الله كتاب آخر- ملزم بعدم كتابة الأحاديث إلى يوم يبعثون- ولا يمكن لهذا الأمر أن ينسخ أبداً" (2) . ثانياً: وتارة ثانية يزعم خصوم السنة أن العلة فى نهى النبى صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، عن كتابة السنة المطهرة هو: أنهم لم يريدوا أن يجعلوها ديناً وشريعةً عامةً كالقرآن الكريم.

_ (1) السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 199. (2) إنذار من السماء ص 123، 127.

.. وفى ذلك يقول توفيق صدقى: "إن ما بينته السنة للعرب فى ذلك الزمن لا يصلح لجميع الأمم فى الأوقات المختلفة" (1) وفى موضع آخر يقول: "وكان بعض الصحابة ينهى عن التحديث ولو كانت السنة عامة لجميع البشر لبذلوا الوسع فى ضبطها ولتسابقوا فى نشرها بين العالمين ولما وجد بينهم متوان أو متكاسل أو مثبط لهم" (2) . ... وبهذا القول تأثر الأستاذ محمد رشيد رضا (3)

_ (1) مجلة المنار المجلد 9/521، 908 – 912. (2) المصدر السابق 9/913. (3) الأستاذ محمد رشيد رضا: هو محمد رشيد بن على رضا، البغدادى الأصل، الحسينى النسب، صاحب مجلة المنار، وتفسير المنار، والوحى المحمدى، والوهابيون والحجاز، وغير ذلك من مؤلفاته النافعة. وهو رحمه الله أحد رواد المدرسة العقلية الحديثة، كان فى أول أمرة متأثراً بوجهة شيخه محمد عبده، وكان مثله فى أول الأمر قليل البضاعة من الحديث قليل المعرفة بعلومه، ولكنه كما قال الدكتور السباعى – رحمه الله -: "منذ أن استلم لواء الإصلاح بعد وفاة الإمام محمد عبده، وأخذ يخوض غمار الميادين الفقهية والحديثية وغيرهما وأصبح مرجع المسلمين فى أنحاء العالم فى كل ما يعرض لهم من مشكلات، كثرت بضاعته من الحديث وخبرته بعلومه، حتى غدا آخر الأمر حامل لواء السنة وأبرز أعلامها … ويقول الدكتور السباعى رداً على استشهاد أبى رية بكلام السيد رشيد رضا فى كتابه أضواء على السنة قال: "وكنت أتردد على بيته فأستفيد من علمه وفهمه للشريعة ودفاعه عن السنة ما أجد من حق تاريخه علىّ أن أشهد بأنه كان من أشد العلماء أخذاً بالسنة (القولية) وإنكاراً لما يخالفها فى المذاهب الفقهية وإنى على ثقة بأنه لو كان حياً حين صدر (أبو رية) كتابه، لكان أول من يرد عليه فى أكثر من موضع فى ذلك الكتاب، أ. هـ. ومات رحمه الله سنة 1354هـ – 1935م. له ترجمة فى الأعلام 6/361، وانظر: المجددون فى الإسلام للأستاذ عبد المتعال الصعيدى ص 539 – 544، والسنة ومكانتها للدكتور السباعى ص 30، ومنهج المدرسة العقلية الحديثة فى التفسير للدكتور فهد الرومى ص170–187، ومحمد رشيد رضا وجهوده فى السنة للدكتور يوسف عبد المقصود، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة رقم 1266.

-رحمه الله- إذ يقول: "هل الأحاديث ويسمونها بسنن الأقوال دين وشريعة عامة وإن لم تكن سنناً متبعة بالعمل بلا نزاع ولا خلاف لا سيما فى الصدر الأول (1) ؟ إن قلنا: نعم فأكبر شبهة ترد علينا؛ نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن كتابة شىء عنه غير القرآن (2) ، وعدم كتابة الصحابة للحديث (3) ، وعدم عناية علمائهم وأئمتهم كالخلفاء بالتحديث بل نقل عنهم الرغبة عنه (4) ، ونفس هذا الكلام كرره فى موضع آخر قائلاً: "وإذا أضفت إلى هذا ما ورد فى عدم رغبة كبار الصحابة فى التحديث بل فى رغبتهم عنه بل فى نهيهم عنه قوى عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث ديناً عاماً دائماً، كالقرآن. ولو كانوا فهموا عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة، ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وثقوا به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة المعروفة للجمهور بجريان العمل بها" (5) .

_ (1) الحق أن السنة القولية كانت متبعة بالعمل كالسنة العملية وهذا بلا نزاع ولا خلاف منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا. وهذا ما سنثبته إن شاء الله تعالى فى الرد على هذه الشبهة انظر: ص 299-306 (2) سبق الرد على ما ذهب إليه بأن النهى ناسخ للإذن ص 276. (3) سيأتى ما يثبت كتابتهم فى الجواب عن شبهة التأخر فى التدوين ص 347-353. (4) مجلة المنار المجلد 9/929 وسيأتى استعراض هذه الشبهة والرد عليها ص 298، 299-306. (5) مجلة المنار المجلد 10/768.

.. وأيد الأستاذ رشيد رضا فى ذلك محمود أبو رية (1) ، وجمال البنا فى كتابه: "السنة ودورها فى الفقه الجديد" إذ يقول: "ولا جدال فى صحة ما ذهب إليه السيد رضا-رحمه الله- من أن الصحابة "لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث ديناً دائماً كالقرآن" فالحق أبلج، ولا يقف فى سبيله تلك الدعاوى والتعلات" (2) ، وفى موضع آخر يصرح بذلك من قوله قا ئلاً: "نهى الرسول عن كتابة حديثه ورفض الخلفاء والصحابة الكتابة، الدلالة الوحيدة التى تستخلص من هذه الوقائع: الرسول والخلفاء الراشدون والصحابة أرادوا عدم تأبيد ما جاءت به السنن من أحكام" (3) ... وهكذا يذهب أعداء السنة إلى أن علة النهى عن كتابة السنة هى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة أرادوا ألا يجعلوا مع كتاب الله عز وجل كتاب آخر، وأنهم ما أرادوا أن تكون السنة ديناً عاماً دائماً كالقرآن الكريم، ويستدلون على ذلك بما مر من حديث أبى هريرة مرفوعاً وحديثى أبى بكر وعمر الموقوفان، ويزعمون أن تلك الأحاديث صريحة فى دعواهم. الجواب عن شبهة أن النهى عن كتابة السنة يدل على أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه أرادوا ألا يكون مع كتاب الله عز وجل كتاب آخر.

_ (1) أضواء على السنة ص48 – 50. (2) السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 225. (3) السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 202، وانظر: السلطة فى الإسلام للمستشار عبد الجواد ياسين ص 238.

إن ما استدل به أعداء السنة على زعمهم لا حجة لهم فيه، لأنه إذا جاء فى حديث أبى هريرة قوله صلى الله عليه وسلم "أكتاب غير كتاب الله" ألم يقل صلى الله عليه وسلم بعدها مباشرة (امحضوا كتاب الله أو خلصوه) وهو مما يشير إلى العلة الحقيقية فى النهى، وهى: صيانة كتاب الله مما اختلط به من السنة بلا تمييز؛ بدليل: رواية أبى بردة بن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه وهى أصح سنداً من رواية أبى هريرة. ثم أليس فى حديث أبى هريرة رضي الله عنه أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالتحديث والتبليغ وهو أبلغ فى حجية السنة كما مر … وكذا حديث أبى بكر رضي الله عنه على فرض صحته أليس فيه دليل على كتابة السنة فى عهده صلى الله عليه وسلم، وما حرقه رضي الله عنه لما جمعه من أحاديث ليس شكاً منه فى حجية السنة، كيف! وقد علل ذلك بخشيته أن يكون الذى حدثه وَهِمَ فَكَرِهَ تقلد ذلك كما خشى أن يتوهم متوهم أن ما جمعه هو كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول هذا المتوهم، كما قال أبو بكر معللاً صنيعه: "لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غاب على أبى بكر" ثم يصرح رضي الله عنه بعد ذلك مباشرة بأنه حدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجمع فى الصحيفة التى حرقها كل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "إنى حدثتكم الحديث ولا أدرى لعلى لم أتتبعه حرفاً حرفاً".

.. أما حديث عمر رضي الله عنه ففيه أبلغ حجة على حجية السنة عند الصحابة أجمع رضي الله عنهم فعمر رضي الله عنه عندما هم بكتابة السنة -ليس مجرد الكتابة. فهى كانت مكتوبة- وإنما المراد بالكتابة تدوينها تدويناً عاماً فى مكان واحد، كما كان رضي الله عنه صاحب اقتراح تدوين القرآن الكريم تدويناً عاماً فى مكان واحد زمن أبو بكر الصديق رضي الله عنه وتردد أبو بكر وزيد بن ثابت فى هذا التدوين فى أول الأمر -كان منهم تورعاً كما قالوا: "كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فهل يستطيع مخلوق على وجه الأرض أن يقول أن تردد أبو بكر وزيد –رضى الله عنهما- دليل على عدم حجية كتاب الله عز وجل عندهم (1) ؟؟ ألم يقل لهم الفاروق عمر "أنه والله خير"، فكان الأمر كما قال. ... وعندما هم بتدوين السنة تدويناً عاماً، كالقرآن، واستشار فى ذلك الصحابة هل تردد واحد منهم؟ كلا! كما جاء فى الحديث "فأشاروا عليه بأن يكتبها" ولكنه عدل عن هذا التدوين فى زمنه لعدم الأمن من انشغال الناس بها والاهتمام بها على حساب كتاب الله عز وجل (2) حتى لا يبقى المصحف بغبارة لا ينظر فيه كما قال الضحاك، وهذا هو معنى قوله "وإنى والله لا ألبس كتاب الله بشىء أبداً"، ولم يقل: "حسبنا كتاب الله". ولو كان المراد بالانشغال عن السنة فى قول النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم خشيتهم أن تكون السنة حجة وكتاباً آخر مع كتاب الله عز وجل كما فهم أعداء الإسلام وزعمهم بأن هذا السبب "ملزم بعدم كتابة الأحاديث إلى يوم يبعثون، ولا يمكن لهذا الأمر أن ينسخ أبداً" كما مر من قول نيازى عز الدين. لو كان هذا -الفهم الأعوج- هو المراد بالانشغال الذى كان من أجله النهى عن كتابة السنة:

_ (1) انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 454. (2) المصدر السابق ص 455.

أ- ما كان للنبى صلى الله عليه وسلم أن يكتب. ب- ولما كان له أن يأذن بالكتابة عنه. ج- وما كان له أن يأمر بالتحديث عنه. د-ولما كان للصحابة والتابعين أن يقتدوا بالنبىصلى الله عليه وسلم فيما سبق، من الكتابة والإذن بالتحديث هـ- ولما كان هناك مَعْنَى [لَهِمِّ] عمر بالتدوين وإقرار الصحابة له على ذلك ثم عدوله عنه، إذ كيف يهم بتدوين شىء ليس بحجة، وكيف يجوز على الصحابة أجمع إقراره على هذا التدوين؟ و بل ولم يجز تدوين السنة تدويناً رسمياً فى عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ز- ولما جاز إجماع الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا على كتابتها وتدوينها ح- بل ولما جاز منهم الإجماع على حجيتها واعتبارها المصدر التشريعى الثانى الملازم لكتاب الله عز وجل لا ينفصل أحدهما عن الآخر. ثانياً: الجواب عن شبهة أن النهى عن كتابة السنة يدل على أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أرادوا ألا تكون السنة ديناً عاماً دائماً كالقرآن الكريم: ... إذا بطل هذا الفهم الأعوج من أعداء الإسلام لمعنى"خوف النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم من الانشغال بالسنة عن كتاب الله، بألا يكون مع كتاب الله كتاب آخر، بطل أيضاً ما فهموه من أن النهى عن كتابة السنة من النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين رضي الله عنهم. دلالته عدم صلاحية السنة لكل زمان ومكان، وعدم تأبيد ما جاء به السنن من أحكام. وهذا ما تأثر به رشيد رضا -رحمه الله- وعبر عنه بأنهم:"لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث ديناً عاماً دائماً كالقرآن". وكيف يصح القول بأن مراد النبى صلى الله عليه وسلم من نهيه عن كتابة سنته ألا تكون ديناً عاماً دائماً كالقرآن.

1- فعلام إذن يقرنها مع كتاب الله عز وجل مبيناً أن الاعتصام بهما عصمة من الضلال فى قوله: "إنى قد تركت فيكم ما إن اعتصتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه" (1) . 2- وعلام يأمر بتبليغ سنته المطهرة فى قوله: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع (2) . 3- وعلام يوصى بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين والعض عليها بالنواجذ عند الاختلاف فى قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يعش منكم: فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (3) . 4- وعلام التحذير الشديد من الكذب صلى الله عليه وسلم: "إن كذباً على ليس ككذب على أحد. فمن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (4) . 5- وعلام يحذر ممن يأتيه الأمر مما أمر به أو نهى عنه فيعترض ويقول: "بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، ثم يبين صلى الله عليه وسلم أن ما يجرمه بوحى مثل ما حرمه الله فى كتابه قائلاً: "إلا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله" (5) وذلك التحريم دينٌ دائمٌ إلى يوم القيامة كما سيأتى من قول عمر ابن عبد العزيز: "فما أحل على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة".

_ (1) سبق تخريجه ص 196. (2) سبق تخريجه ص 273. (3) سبق تخريجه ص 38. (4) سبق تخريجه ص 275. (5) سبق تخريجه ص 223.

6- علام يصف الزائغ عن سنته المطهرة بأنه هَالِكٌ كما قال صلى الله عليه وسلم: "قد تركتكم على البيضاء. ليلها كنهارها. لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك" (1) .

_ (1) جزء من حديث طويل أخرجه ابن ماجة فى سنته المقدمة، باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين 1/29 رقم 43، وابن أبى عاصم فى كتاب السنة، باب ذكر قول النبى صلى الله عليه وسلم تركتم على مثل البيضاء وتحذيره أياهم أن يتغيروا عما يتركهم عليه 1/26 رقم 48، واللفظ لابن ماجة.

.. فعلام يدل هذا إذا لم تكن السنة النبوية حجة وديناً عاماً دائماً كالقرآن الكريم! إن كل ما نقلناه هنا من هذه الأحاديث ونحوها كثير بمثابة التصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن سنته المطهرة حجة ودينٌ عامٌ دائمٌ ملازمٌ للقرآن الكريم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (1) وهذا ما فهمه الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أول المخاطبين بما سبق من الأحاديث، وهم أول المخاطبين بكتاب الله عز وجل وفيه الأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفة أمره قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) . ... فهل هذا الأمر الإلهى بإتباع أمر نبيه صلى الله عليه وسلم الوارد فى سنته المطهرة أراد به رب العزة ألا يكون ديناً عاماً دائماً كالقرآن؟؟؟

_ (1) الآية 37 من سورة ق. (2) جزء من الآية 63 من سورة النور.

إن القول بهذا طعن فى القرآن نفسه، وفى عالمية الدعوة الإسلامية؛ ثم إن رب العزة يقسم بذاته المقدسة على عدم إيمان من لم يحكم رسوله فى كل شأن من شئون حياته ومن المعلوم بالضرورة أننا نحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بذاته وهو حى، فإذا انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حكمنا سنته المطهرة، على أنه ليس فقط أن نحكم الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته، بل لابد وأن تمتلئ قلوبنا بالرضا والسعادة بهذا الحكم النبوى وأن نخضع له خضوعاً كاملاً مع التسليم التام قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وعلى ذلك يؤكد النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" (2) . ... ولم يخالف فى ذلك أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقول بخلاف هذا إلا من جهل طريقتهم فى العمل بأحكام الدين وكيف كانوا يأخذونها.

_ (1) الآية 65 من سورة النساء. (2) أخرجه ابن أبى عاصم فى السنة باب ما يجب أن يكون هوى المرء تبعاً لما جاء به النبىصلى الله عليه وسلم 1/12 رقم 15، والبغوى فى شرح السنة كتاب الإيمان، باب رد البدع والأهواء 1/145 رقم 104 وقال النووى فى أربعينه: "هذا حديث صحيح رويناه فى كتاب الحجة بإسناد صحيح" انظر: جامع العلوم والحكم 2/393، وقواعد التحديث للقا سمى ص 45.

.. فالصحابة أجمع وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين كانوا يعظمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحكمونه فى كل شأن من شئون حياتهم. فعن ميمون بن مهران (1) قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه الخصم نظر فى كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضى بينهم قضى به، وإن لم يكن فى الكتاب، وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتانى كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فى ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاءاً فيقول أبو بكر: الحمد لله الذى جعل فينا من يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به (2) أ. هـ. ... وعن جابر بن زيد (3) ، أن ابن عمر لقيه فى الطواف، فقال له: يا أبا الشعثاء، إنك من فقهاء البصرة، فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت (4) .

_ (1) ميمون بن مهران: هو ميمون بن مهران الجزرى أبو أيوب الرقى، روى عن عائشة، وأبى هريرة، وأبى عباس، وطائفة، وعنه أبو بشر، والأوزاعى، وخلق كثير، متفق على توثيقه. مات 117هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1/98 رقم 91، وتقريب التهذيب 2/234 رقم7075، والكاشف 2/302 رقم 5764، والثقات للعجلى ص 445 رقم 1669. (2) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة 1/69، 70 رقم 161، وانظر: إعلام الموقعين 2/62. (3) جابر بن زيد، أبو الشعثاء الأزدى، روى عن ابن عباس، وعنه قتادة، وأيوب، وخلق. متفق على توثيقه مات93هـ. له ترجمة فى تقريب التهذيب1/152رقم867،والكاشف1/287 رقم728، والثقات للعجلى ص 93 رقم 194. (4) الدارمى فى سننه المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة 1/70، 71 رقم 164، وجامع بيان العلم 2/56.

.. وأخرج الدارمى عن شريح (1) : أن عمر بن الخطاب كتب إليه: "إن جاءك شىء فى كتاب الله فاقض به، ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس فى كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقض بها، فإن جاءك ما ليس فى كتاب ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس فى كتاب الله ولم يكن فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أى الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم، وإن شئت أن فتأخر فتتأخر، ولا أرى التأخير إلا خيراً لك (2) ، ونحو ذلك روى عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهم (3) -رضى الله عنهم أجمعين-. ... وبذلك كانت مصادر الأحكام فى الصدر الأول أربعة: القرآن الكريم: وهو المصدر الأول لهذا الدين وعمدة الملة، وكانوا يفهمونه واضحاً جلياً، لأنه بلسانهم نزل مع ما امتازوا به من معرفة أسباب نزوله. السنة النبوية: وهى المصدر الثانى الملازم للمصدر الأول، وقد اتفقوا على اتباعها متى ظفروا بها. القياس، أو الرأى المستند إلى كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) شريح هو: القاضى شريح بن الحارث بن قيس الكندى أبو أميه الكوفى، روى عن عمر، وعلى، وابن مسعود رضى الله عنهم، وعنه الشعبى والنخعى وابن سيرين وطائفة، مخضرم ثقة. مات قبل الثمانين أو بعدها له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1/59 رقم 44، والثقات للعجلى 216 رقم660، وتقريب التهذيب 1/416 رقم 782، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص27 رقم 42. (2) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة 1/71، 72 رقم 167، وانظر: جامع بيان العلم 1/56. (3) انظر:سنن الدارمى، وجامع بيان العلم فى الأماكن السابقة، وانظر:أعلام الموقعين 1/57-86.

الإجماع المستند إلى نص من كتاب أو سنة أو قياس (1) . ... ولم يزل أئمة الإسلام من المحدثين والفقهاء من التابعين فمن بعدهم إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة على تحكيم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول القاسمى: "كان عندهم أنه إذا وجد فى المسألة قرآن ناطق فلا يجوز التحول إلى غيره، وإذا كان القرآن محتملاً لوجوه فالسنة قاضية عليه، فإذا لم يجدوا فى كتاب الله أخذوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان مستفيضاً دائراً بين الفقهاء، أو كان مختصاً بأهل بلد، أو أهل بيت أو بطريق خاصة، وسواء عمل به الصحابة والفقهاء أو لم يعملوا به، ومتى كان فى المسألة حديث فلا يتبع فيها خلاف أثر من الآثار، ولا اجتهاد أحد من المجتهدين، وإذا فرغوا جهدهم فى تتبع الأحاديث، ولم يجدوا فى المسألة حديثاً، أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة والتابعين، ولا يتقيدون بقوم دون قوم، ولا بلد دون بلد ... فإن اتفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شئ فهو المقنع، وإن اختلفوا أخذوا بحديث أعلمهم علماً، وأورعهم ورعاً، أو أكثرهم ضبطاً، أو ما اشتهر عنهم، ... وكانت هذه الأصول مستخرجة عن صنيع الأوائل وتصريحاتهم (2) كما مر فى الأحاديث الموقوفة.

_ (1) انظر: تاريخ التشريع الإسلامى للشيخ محمد الخضرى ص 75، 76، وأصول الفقه الإسلامى للدكتور طه جابر العلوانى ص6-10. (2) انظر: قواعد التحديث للقاسمى، مبحث الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأى ص 338، للاستزادة انظر: من نفس المصدر باب السنة حجة على جميع الأمة وليس عمل أحد حجة عليها ص 273 – 281 وباب حال الناس فى الصدر الأول وبعده ص 344 – 351، وانظر: أعلام الموقعين فصل "أئمة الإسلام يقدمون الكتاب والسنة" 2/229، وجامع بيان العلم وفضله، "باب معرفة أصول العلم وحقيقته" 2/23 – 29.

فأين الاتفاق الذى زعمه محمد رشيد رضا -ومن قال بقوله من أعداء السنة- أن الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم لم يعملوا بالأحاديث القولية ولم تكن عندهم سنناً متبعة بالعمل؟ بل أين نزاع صحابى واحد فى عدم العمل بالأحاديث القولية وعدم اعتبارها من السنة المطهرة؟! ... وكيف يصح هذا القول فى حق أناس أشربت قلوبهم بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته المطهرة وتعظيمها وتوقيرها وزجر من لم يعظمها وهجره.

.. يدل على ذلك ما روى عن عبد الله بن المغفل (1) رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يخذف (2) فقال له لا تخذف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف أو كان يكره الخذف-وقال: إنه لا يصاد به صيداً ولا ينكأ (3) به عدو، ولكنها قد تكسر السن، وتفقأ العين.ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذف -أو كره الخذف- وأنت تخذف؟ لا أكلمك كذا وكذا" (4) ،وفى رواية للدارمى:"والله لا أشهد لك جنازة ولا أعودك فى مرض، ولا أكلمك أبداً" (5)

_ (1) عبد الله بن المغفل صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 2/372 رقم 4988، والاستيعاب 3/996 رقم 1667، وتاريخ الصحابة 160 رقم 776، ومشاهير علماء الأمصار 48 رقم221، واسد الغابة 3/395 رقم 3202. (2) الخذف هو: وضع الحصاة أو النواة بين السبابتين ثم الرمى بها، انظر: النهايةفىغريب الحديث2/16 (3) ينكأ: ويكتب بغير همز، والمعنى: تكثر الجراح والقتل فى العدو، انظر: النهاية فى غريب الحديث5/117 (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الذبائح والصيد، باب الخذف والبندقة 9/522 رقم5479، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الصيد، باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو، وكراهة الخذف 7/117 رقم 1954. (5) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأذان، باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد 2/409 رقم 873، والدارمى فى سنته المقدمة، باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث فلم يعظمه ولم يوقره 1/128 رقم 440 واللفظ له.

.. وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها. فقال فلان ابن عبد الله إذا والله أمنعها! فأقبل عليه ابن عمر، فشتمه شتمة لم أره شتمها أحداً قبله، ثم قال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: إذاً والله أمنعها؟!! (1) . ... وفى رواية لابن عبد البر: قال بلال بن عبد الله بن عمر (2) فقلت أما أنا فسأمنع أهلى فمن شاء فليسرح أهله فالتفت إلى وقال: لعنك الله، لعنك الله، لعنك الله، تسمعنى أقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يُمْنَعْنَ، وقام مغضباً" (3) . ... وعن عبادة بن الصامت أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن درهمين بدرهم، فقال فلان: ما أرى بهذا بأساً يداً بيد، فقال عبادة أقول: قال النبى صلى الله عليه وسلم وتقول: لا ارى به بأساً؟!! والله لا يظلنى وإياك سقفٌ أبداً" (4) .

_ (1) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة باب تعجيل عقوبة من مؤلفه عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث فلم يعظمه ولم يوقره 1/128 رقم 442. (2) بلال بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، القرشى، العدوى، ثقة، وعده يحيى القطان: فى فقهاء المدينة. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/140 رقم 783، والكاشف 1/277 رقم 659، والثقات للعجلى ص 87 رقم 173، والثقات لابن حبان 4/65. (3) جامع بيان العلم 2/195. (4) أخرجه الدارمى فى سننه فى المقدمة، باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث فلم يعظمه ولم يوقره 1/129 رقم 443،وانظر: شذرات من علوم السنة لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد الأحمدى ص 84 –97.

.. وعلى الدرب صار التابعون فمن بعدهم من أئمة المسلمين، فعن قتادة (1) ، قال: حدث ابن سيرين رجلاً بحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم فقال رجل: قال فلان كذا وكذا. فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبى صلى الله عليه وسلم وتقول: قال فلان وفلان كذا وكذا؟ !! لا أكلمك أبداً (2) .

_ (1) قتادة هو: قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسى، أبو الخطاب البصرى الأكمه، أحد الأعلام روى عن أنس، وابن سيرين، وابن المسيب، وخلق، وعنه أبو حنيفة، وشعبة والأوزاعى وخلق، ثقة ثبت، قال أحمد: كان قتادة أحفظ أهل البصرة لم يسمع شيئاً إلا حفظه، مات 117هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1/122 رقم 107، وطبقات الحفاظ ص54 رقم 104، وتقريب التهذيب 2/26 رقم 5535، والكاشف 2/134 رقم 4551. (2) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبىصلى الله عليه وسلم حديث فلم يعظمه ولم يوقره 1/128 رقم 441.

.. وقال الحميدى (1) : سأل رجل الشافعى عن مسألة، فأفتاه قائلاً: قال النبى صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال الشافعى: أرأيت فى وسطى زناراً؟ أترانى خرجت من الكنيسة؟ أقول: قال النبى صلى الله عليه وسلم، وتقول لى: أتقول بهذا؟ أروى عن النبى صلى الله عليه وسلم ولا أقول به (2) ؟ ... ومن هنا حث السلف الصالح على التأدب مع السنة المطهرة فيمن دعى إلى التحاكم إليها يقول الإمام النووى -رحمه الله-: "وكذلك ينبغى إذا قال له صاحبه: هذا الذى فعلته خلاف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك أن لا يقول: لا التزم الحديث، أو لا أعمل بالحديث، أو نحو ذلك من العبارات المستبشعة، وإن كان الحديث متروك الظاهر لتخصيص أو تأويل أو نحو ذلك، بل يقول عند ذلك: هذا الحديث مخصوص أو متأول أو متروك الظاهر بالإجماع وشبه ذلك" (3) .

_ (1) الحميدى: هو عبد الله بن الزبير الأزدى أبو بكر المكى أحد الأئمة روى عن ابن عيينة، ومسلم الزنجى، وخلق، وعنه البخارى، والذهلى، وخلق. قال أحمد: الحميدى عندنا إمام، وقال أبو حاتم هو: ثقة إمام، وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث مات 219هـ. له ترجمة فى تذكرة الحفاظ 2/413 رقم 419، وطبقات الحفاظ ص181 رقم 400، وتقريب التهذيب 1/492 رقم 3331، والكاشف 1/552 رقم 2721، والتقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد لابن نقطة ص 307 رقم 374، وشذرات الذهب 2/45، وسير أعلام النبلاء 10/616 رقم212، والوافى بالوفيات 17/179، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 1/138 رقم 33 (2) أعلام الموقعين 2/266، وانظر: مناقب الشافعى للرازى ص 317. (3) الأذكار، باب ما يقول من دعى إلى حكم الله تعالى ص 280.

.. قوم هذا حالهم فى تعظيمهم وتوقيرهم لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وتحكيمها فى كل شأن من شئون حياتهم، وزجرهم وهجرهم -ولو كان قريباً لهم- من لم يتأدب معها إذا دعى إلى التحاكم إليها، كيف يقال أنهم يريدوا أن يتخذوا الأحاديث ديناً عاماً دائماً كالقرآن (1) ؟!!! ... اللهم إن هذا إنكار لإجماع الأمة منذ عهد نبيها صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا! وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها - بحجية السنة المطهرة واتخاذها ديناً عاماً دائماً ملازماً لكتاب الله عز وجل وهذا الإجماع قائم على الحقائق الثابتة فى كتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين والصحابة أجمع رضي الله عنهم أجمعين وعلى هذا الإجماع أئمة المسلمين من التابعين فمن بعدهم إلى يومنا هذا.

_ (1) ممن رد هذه الشبهة الدكتور محمد أبو زهو فى الحديث والمحدثون ص 237 – 238، والدكتور الأعظمى فى دراسات فى الحديث 1/80، والدكتور يوسف عبد المقصود فى رسالته للدكتوراه (محمد رشيد رضا وجهوده فى خدمة السنة) رد أيضاً موقف السيد رشيد رضا من التدوين، والجمع بين أحاديث النهى والإباحة وأيد رد فضيلة الدكتور محمد أبو زهو على السيد رشيد رضا قال "وبعد هذا اقول: إنه ليس من دليل قائم يساند الشيخ محمد رشيد رضا فيما يذهب إليه فى التدوين … والدليل الذى عليه هو فى جانب الشيخ محمد أبى زهو أ. هـ.، وانظر: محمد رشيد رضا وجهوده فى خدمة السنة ص 282-283.

وما أصدق ما قاله عمر بن عبد العزيز فى إحدى خطبه قال: "يا أيها الناس، إن الله لم يبعث بعد نبيكم نبياً، ولم ينزل بعد هذا الكتاب الذى أنزله عليه كتاباً، فما أحل الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فهو حرام إلى يوم القيامة، ألا إنى لست بقاض ولكنى منفذ، ولست بمبتدع ولكنى متبع، ولست بخير منكم غير أنى أثقلكم حملاً، ألا وأنه ليس لأحد من خلق الله أن يطاع فى معصية الله، ألا هل أسمعت" (1) . ... وقال أيضاً -رحمه الله- "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها اتباع لكتاب الله عز وجل، واستكمال لطاعة الله عز وجل، وقوة على دين الله عز وجل، ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها ولا النظر فى شئ خالفها، من اهتدى بها فهو المهتد، ومن انتصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله تعالى ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً" (2) . وقال الحافظ ابن عبد البر: "ليس لأحد من علماء الأمة يثبت حديثاً عن النبى صلى الله عليه وسلم ثم يرده دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله، أو إجماع، أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه، أو طعن فى سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته، فضلاً عن أن يتخذ إماماً ولزمه إثم الفسق (3) أ. هـ. والله أعلم

_ (1) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب ما يتقى من تفسير حديث النبى صلى الله عليه وسلم وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم 1/126 رقم 433. (2) انظر: الشريعة للآجرى ص 48، 65، وجامع بيان العلم لابن عبد البر 2/186، 187. (3) جامع بيان العلم 2/194.

استعراض شبهة أن النهى عن الإكثار من التحديث دليل على أن الصحابة

استعراض شبهة أن النهى عن الإكثار من التحديث دليل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يجتهدون فى مقابل السنة الشريفة، ولا يأخذون بها والرد عليها ذهب بعض غلاة الشيعة إلى تقسيم الصحابة إلى مدرستين (1) ، أو إلى طائفتين (2) ، باعتبار تعاملهم مع النصوص الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم: المدرسة أو الطائفة الأولى: "طائفة التعبد المحض" وهى التى انتهجت منهاج الطاعة والامتثال المطلق للأحكام الصادرة عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ويعنون بهم أنفسهم. المدرسة أو الطائفة الثانية: "طائفة الاجتهاد والرأى" وهى التى انتهجت منهاج الاجتهاد فى مقابل النص وخرجوا عليه وتأولوه -ويعنون بهم أهل السنة من السلف وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون- - رضي الله عنهم - (3) . ... ويستدلون على هذا التقسيم الباطل، بمواقف اجتهادية وقعت من الصحابة زمن النبوة وبعدها.

_ (1) على حد تعبير السيد مرتضى العسكرى فى كتابه "معالم المدرستين". (2) على حد تعبير على الشهرستانى فى كتابه "منع تدوين الحديث أسباب ونتائج". (3) معالم المدرستين المجلد 2/67، ومنع تدوين الحديث ص 85، وركبت السفينة لمروان خليفات ص233، 295، وتأملات فى الحديث زكريا عباس ص 48-62، والشيعة هم أهل السنة للدكتور محمد التيجانى ص 27، 28، 31.

والجواب: يبطل التقسيم السابق الذى ذهب إليه بعض غلاة الشيعة ما هو مقرر عند الأصوليين من اتفاقهم على جواز الاجتهاد (1) بعد الرسول صلى الله عليه وسلم (2) أما فى عصره صلى الله عليه وسلم فقد اختلفوا فيه، فذهب أكثر أهل الأصول على جوازه فى حضرته وغيبته صلى الله عليه وسلم والتعبد به (3) ومنع من ذلك الجبائى (4)

_ (1) الاجتهاد لغة: مأخوذ من الجهد، وهو المشقة والطاقة، فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه ما لا مشقة فيه وقال الرازى فى المحصول: هو فى اللغة عبارة عن استفراغ الوسع، فى أى فعل كان يقال استفرغ وسعة فى حمل الثقيل، ولا يقال: استفرغ وسعة فى حمل النواة. انظر: القاموس المحيط 1/283، والمحصول 2/489، والإحكام لابن حزم 8/629. وأما فى عرف الفقهاء: فهو: استفراغ الوسع فى النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه. وهذا سبيل مسائل الفروع، ولذلك تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد، والناظر فيها مجتهد وليس هذا حال الأصول انظر: المحصول للرازى 2/489، وانظر: تقرير الاستناد فى تفسير الاجتهاد للإمام السيوطى ص29-66. (2) نقل هذا الاتفاق الآمدى فى الإحكام 4/152، والرازى فى المحصول 2/494، والسبكى وولده فى الإبهاج 3/252. (3) اختاره جماعة من المحققين منهم الغزالى فى المستصفى 2/354، وأبى الحسين فى المعتمد 2/213 (4) الجبائى هو: محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائى أبو على. ينسب إلى جبى -من قرى البصرة-كان من أئمة المعتزلة، ورئيس علماء الكلام فى عصره، وإليه تنسب الطائفة الجبائية. له مقالات وآراء انفرد بها. من آثاره:"كتاب الأصول" "التفسير الكبير" وغير ذلك مات سنة303 هـ. له ترجمة فى: وفيات الأعيان 4/267-269 رقم 607، وسير أعلام النبلاء 14/183رقم 102، والبداية والنهاية 11/134، ولسان الميزان 6/320 رقم 7783، وطبقات المفسرين للداودى 2/191 رقم 529، وطبقات المعتزلة لابن المرتضى ص7، 57، 68، والأعلام 6/256.

وأبى هاشم (1) ، وهو قول ضعيف كما قال الزركشى: لأنه لا يؤدى إلى مستحيل فإن أرادوا منع الشرع توقف على الدليل وهو مفقود (2) . ... ويدل على ما سبق، من وقوع الاجتهاد من الصحابة -بما فيهم الإمام علىَّ كرم الله وجهه- زمن النبوة بحضرته وغيبته صلى الله عليه وسلم، والتعبد بذلك الاجتهاد.

_ (1) أبو هاشم: هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب بن أبى على الجبائى من رؤوس المعتزلة هو وأبوه له تصانيف منها "تفسير القرآن" "والجامع الكبير" مات 321هـ. له ترجمة فى: البداية والنهاية 11/188، وتاريخ بغداد 11/56 رقم 5735، والفهرست لابن النديم 305، ولسان الميزان 4/359 رقم 5180، وطبقات المفسرين للداودى 1/307 رقم 281، وطبقات المعتزلة لأحمد المرتضى ص7،77، وفضل الاعتزال وطبقات المعتزلة للقاضى عبد الجبار ص 290-294 (2) البحر المحيط فى أصول الفقه للزركشى 6/220، وانظر: تاريخ التشريع الإسلامى للشيخ محمد الخضرى ص74 وما بعدها، والفقه الإسلامى مرونته وتطوره لفضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق ص 37-43.

.. حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه (1) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال: "كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضى بما فى كتاب الله، قال فإن لم يكن فى كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم يكن فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: اجتهد رأيى، قال معاذ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدرى، ثم قال: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ".

_ (1) معاذ بن جبل: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 3/426 رقم 8055، وتاريخ الصحابة ص229 رقم 1231، واسد الغابة 5/187 رقم 4960، والاستيعاب 3/1402 رقم 2416، ومشاهير علماء الأمصار ص63 رقم 321. (2) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأى فى القضاء 3/303 رقم 3592، وأخرجه الترمذى فى سننه كتاب الأحكام، باب ما جاء فى القاضى كيف يقضى 3/616 رقمى 1327، 1328 وقال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندى= =بمتصل. قال ابن قيم الجوزية: هذا الحديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك … فلا يعرف فى أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل فى ذلك، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث؟ وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة فى إسناد حديث فاشدد يديك به. انظر: أعلام الموقعين 1/202، وقال الشوكانى هو حديث مشهور له طرق متعددة، ينهض مجوعها للحجية. انظر: إرشاد الفحول 2/322، هذا والحديث مما تلقاه الناس بالقبول، وأجمعوا على معناه، واشتهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم، وما كان كذلك يحكم له بالصحة وكان غنياً عن الإسناد، انظر: تدريب الراوى 1/67،فالحديث صحيح رغم أنف بعض غلاة الشيعة، فى زعمهم أن الحديث من وضع أهل السنة. انظر: الشيعة هم أهل السنة للدكتور محمد التيجانى ص155

.. يقول الإمام ابن قيم الجوزية: "وقد اجتهد الصحابة فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم فى كثير من الأحكام ولم يعنفهم كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلوا العصر فى بنى قريظة (1) ، فاجتهد بعضهم وصلاها فى الطريق، وقال لم يرد منا التأخير، وإنما أراد سرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخروها إلى بنى قريظة فصلوها ليلاً، نظروا إلى اللفظ، وما عنف واحداً من الفريقين، وهؤلاء سلف أهل الظاهر، وهؤلاء سلف أصحاب المعانى والقياس (2) . واجتهد سعد بن معاذ (3) فى بنى قريظة وحكم فيهم باجتهاده، فصوبه النبى صلى الله عليه وسلم وقال: "لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل" (4) .

_ (1) الحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المغازى، باب مرجع النبىصلى الله عليه وسلممن الأحزاب.. إلخ 7/471 رقم 4119، وأخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين 6/340 رقم 1770 من حديث ابن عمر-رضى الله عنهما -. (2) أعلام الموقعين 1/203 بتصرف. (3) سعد بن معاذ: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 2/37 رقم 3204، وتاريخ الصحابة ص112 رقم 504، والاستيعاب 2/602 رقم 958، واسد الغابة 2/461 رقم 2046. (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجهاد والسير، باب إذا نزل العدو على حكم رجل 6/191 رقم 3043، وأخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم عدل أهل للحكم 6/335 رقم 1768، واللفظ له من حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه.

.. وعن زيد بن أرقم (1) رضي الله عنه قال: كان على رضي الله عنه باليمن فأتى بإمرأة وطئها ثلاثة نفر فى طهر واحد فسأل اثنين أتقران لهذا بالولد فلم يقرا، ثم سأل اثنين أتقران لهذا بالولد فلم يقرا، ثم سأل اثنين، حتى فرغ، يسأل اثنين اثنين عن واحد فلم يقروا، ثم أقرع بينهم فألزم الولد الذى خرجت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثى الدية، فرفع ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم "فضحك حتى بدت نواجذه". وفى رواية فقال: "لا أعلم إلا ما قال على رضي الله عنه (2) ".

_ (1) زيد بن أرقم: صحابى جليل له ترجمة فى ت: الإصابة 1/560 رقم 2880، والاستيعاب 2/535 رقم 837، وتاريخ الصحابة 107 رقم 476، ومشاهير علماء الأمصار 59 رقم296، واسد الغابة 2/342 رقم 1819. (2) أخرجه أحمد فى المسند 4/373، 374. وانظر فى المسند 1/77، اجتهاده فى قصة أخرى وإقرار النبى صلى الله عليه وسلم له من حديثه رضي الله عنه بسند قال فيه الهيثمى فيه حنش وثقة أبو داود، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، انظر: مجمع الزوائد 6/287، أما حديث زيد بن أرقم فقال فيه الشوكانى إسناده صحيح إرشاد الفحول 2/323، وانظر: أعلام الموقعين 1/203.

.. وعن البراء بن عازب (1) رضي الله عنه قال: لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب على ابن أبى طالب رضي الله عنه بينهم كتاباً، فكتب "محمد رسول الله" فقال: المشركون لا تكتب محمد رسول الله، لو كنت رسولاً لم نقاتلك فقال لعلى: امحُهُ فقال على: ما أنا بالذى أَمْحاهُ، فَمَحَاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِيَدِه ... الحديث" (2) .

_ (1) البراء بن عازب: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 1/142 رقم 618، والاستيعاب 1/155 رقم 173، وتاريخ الصحابة ص42 رقم 103، ومشاهير علماء الأمصار ص55 رقم 272، واسد الغابة 1/362 رقم 389. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الصلح باب كيف يكتب "هذا ما صالح فلان ابن فلان … إلخ 5/357 رقم 2698، وأخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية فى الحديبية 6/376 رقم 1783، واللفظ للبخارى.

.. ففى امتناعه رضي الله عنه من محو اسمه الشريف من الصحيفة أبلغ رد على ما يذهب إليه غلاة الشيعة من تقسيم الصحابة إلى مدرستين أو طائفتين، زاعمين أن الإمام على رضي الله عنه لم يجتهد زمن النبوة وأنه رضي الله عنه وشيعته من طائفة التعبد المحض وباقى الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون وسائر أهل السنة من طائفة الاجتهاد والرأى فى مقابل النص. ولا يخفى أن امتناعه رضي الله عنه بعد طلب النبى صلى الله عليه وسلم محو ما كتب اجتهاد منه فى مقابل النص النبوى. وإذا كان هذا موقف اجتهادى منه فى صلح الحديبية، فموقف الفاروق عمر الاجتهادى فى نفس الصلح، طعن به، على الشهرستانى، فى عقيدة عمر رضي الله عنه، وهو قول عمر للنبى صلى الله عليه وسلم "ألست نبى الله حقاً؟ قال بلى. قلت فلم نعطى الدَّنِيَّةَ فى ديننا إذاً؟ …إلخ الحديث" (1) استدل بذلك على أنه رضي الله عنه شك فى صحة قول الرسول وعدم الاطمئنان بكلامه صلى الله عليه وسلم، وأن هذا النص يوضح أنه رضي الله عنه لم يكن من أتباع مسلك التعبد المحض (2) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الشروط، باب الشروط فى الحرب، والمصالحة مع أهل الحرب … إلخ 5/390 رقمى 2731، 2732، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية فى الحديبية 6/377 رقم 1785. (2) منع تدوين الحديث أسباب ونتائج ص 92، 93.

والحقيقة أنه لو لم يرد عن سيدنا عمر رضي الله عنه سوى حديث تقبيله الحجر الأسود وقوله رضي الله عنه: "إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" (1) لكفى فى بيان أنه من أهل التعبد المحض بالسنة المطهرة، وهو القائل: "إنه سيأتى ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله" (2) . ... والحق أن فى نفس القصة ما يدحض افتراء الشهرستانى ومن قال بقوله، فموقف عمر لم يكن شكاً بل طلباً لكشف ما خفى عليه، وحثاً على إذلال الكفار، لما عرف من قوته فى نصرة الدين. فإن أراد على الشهرستانى الشك فى الدين فمردود بما وقع فى رواية ابن إسحاق (3) " أن أبا بكر لما قاله له: الزم غَرْزه (4) فإنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله" (5) . ... وإن أراد على الشهرستانى الشك فى المصلحة وعدمها، فمردود أيضاً.

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الحج، باب ما ذكر فى الحجر الأسود 3/540 رقم1597، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود فى الطواف 5/20 رقم 1270 واللفظ للبخارى. (2) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة1/62رقم119 (3) ابن إسحاق: هو محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبى، مولاهم المدنى، نزيل العراق، إمام المغازى، صدوق يدلس، ورمى بالتشيع والقدر، مات سنة 150هـ ويقال بعدها. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1/172 رقم 167، والثقات للعجلى 400 رقم 1433، والثقات لابن شاهين 280 رقم 1147، وتقريب التهذيب 2/54 رقم 5743. (4) الغرز للإبل بمنزلة الركب للفرس، والمراد به التمسك بأمره وترك المخالفة له كالذى يمسك بركب الفارس فلا يفارقه. انظر: فتح البارى 5/408 رقم 2733، والنهاية فى غريب الحديث والأثر 3/359. (5) السيرة النبوية لابن هشام 3/317.

قال الحافظ ابن حجر: "والذى يظهر أنه توقف منه ليقف على الحكمة فى القصة وتنكشف عنه الشبهة، ونظيره قصته فى الصلاة على رأس المنافقين عبد الله بن أبى ابن سلول. فعن ابن عمر -رضى الله عنهما- أنه قال "لما توفى عبد الله بن أبى جاء ابنه عبد الله (1) بن عبد الله، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه قميصه، وأمره أن يكفنه فيه، ثم قام يصلى عليه، فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه فقال: تصلى عليه وهو منافق، وقد نهاك الله أن تستغفر لهم؟ قال: إنما خيرنى الله أو أخبرنى الله - فقال "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" (2) فقال: سأزيده على سبعين. قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه، ثم أنزل الله عليه {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (3) .

_ (1) عبد الله بن عبد الله بن أبى: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 2/335 رقم 2802، ومشاهير علماء الأمصار ص31 رقم 103 والاستيعاب 3/940 رقم 1590، وتاريخ الصحابة ص164 رقم 816، واسد الغابة 3/297 رقم 3039. (2) جزء من الآية 80 من سورة التوبة. (3) الآية 84 من سورة التوبة، والحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب "وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ" 8/189 رقم 4672، ومسلم (بشرح النووى) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب صفات المنافقين وأحكامهم 9/134رقم2774 واللفظ للبخارى.

.. يقول الحافظ ابن حجر: "وإن كان فى الأولى (أى فى قصة الحديبية) لم يطابق اجتهاده الحكم بخلاف الثانية طابق اجتهاده الحكم، ونزل القرآن الكريم مؤيداً لهذا الاجتهاد، بقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (1) . ... إلا أنه رضي الله عنه بالرغم من اجتهاده فى هذا الموقف ترك رأى نفسه، واجتهاده، وتابع النبى صلى الله عليه وسلم وصلى معه كما جاء فى الحديث: "فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلينا معه" وإلا فقد جاء اجتهاده رضي الله عنه موافقاً لحكم الله عز وجل. ... أما موقفه الاجتهادى فى صلح الحديبية، فقد عمل أعمالاً صالحة ليكفر عنه هذا التوقف فى الامتثال للأمر النبوى ابتداءً، وورد ذلك صريحاً فى رواية ابن إسحاق: "وكان

_ (1) وفى ذلك أبلغ رد على الرافضى على الشهرستانى واستدلاله بهذه القصة على أن عمر رضي الله عنه كان من طائفة الاجتهاد فى مقابل النص. انظر: منع تدوين الحديث ص 94.

5عمر يقول مازلت اتصدق، وأصوم، وأصلى، وأعتق من الذى صنعت يومئذٍ مخافة كلامى الذى تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيراً" (1) . ... وعند الواقدى (2) من حديث ابن عباس -رضى الله عنهما- "قال عمر لقد اعتقت بسبب ذلك رقاباً وصمت دهراً" (3) ويقول رضي الله عنه مبيناً ندمه على عدم رضائه عن الصلح ابتداءً، ثم امتثاله لأمر النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس: اتهموا الرأى على الدين، فلقد رأيتنى أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيى اجتهاداً، فوالله ما آلوا عن الحق، وذلك يوم أبى جندل (4) والكتاب بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل مكة، فقال: اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم" فقالوا: ترانا قد صدقناك بما تقول؟ ولكنك تكتب كما كنت تكتب -: باسمك اللهم. فرضى رسول الله وأبيت عليهم، حتى قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ترانى أرضى، وتأبى أنت"؟ فرضيت" (5)

_ (1) السيرة النبوية لابن هشام 3/317. (2) الواقدى هو: محمد بن عمر بن واقد الواقدى، قاضى العراق، رغم دقته فى المغازى وإمامته فيها إلا أنهم ضعفوه فى الحديث قال الذهبى: الواقدى وإن كان لا نزاع فى ضعفه، فهو صادق اللسان كبير القدر، وقال ابن حجر: متروك مع سعة علمه، من أشهر مؤلفاته "المغازى" و"الردة"، مات 207هـ. له ترجمة فى: لسان الميزان 9/531 رقم 15615، والكاشف 2/205 رقم 5078، والمجروحين لابن حبان 2/290، والتقريب 2/117 رقم 6195، وتهذيب الكمال للمزى 26/180 رقم 5501. (3) فتح البارى 5/408، 409 رقمى 2731، 2732. (4) أبو جندل هو: ابن سهيل بن عمرو صحابى جليل.له ترجمة فى: الإصابة4/34رقم 9699، وتاريخ الصحابة ص271رقم1507،واسد الغابة6/53رقم5775،والاستيعاب4/1621 رقم 2898. (5) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المغازى، باب غزوة الحديبية وقول الله تعالى "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ" 7/522، 523 رقم 4189، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية فى الحديبية6/377-379 رقم 1785 وأخرجه البزار بسند رجاله رجال الصحيح، كذا فى مجمع الزوائد6/145، 146، واللفظ للبزار.

.. يقول الحافظ ابن حجر: "وإلا فجميع ما صدر منه كان معذوراً فيه بل هو مأجور لأنه مجتهد فيه" وقد غفر الله عز وجل له، ولمن شهدوا بيعه الرضوان يوم الحديبية قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (1) . ... وشهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية: فعن جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فقال لنا النبى صلى الله عليه وسلم: "أنتم اليوم خير أهل الأرض" (2) . ... وشهد لهم بالجنة فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار، إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحدٌ الذين بايعوا تحتها" قالت (حفصة) (3) بلى يا رسول الله! فانتهرها. فقالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (4) فقال النبى صلى الله عليه وسلم قد قال عز وجل: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (5) .

_ (1) الآية 18 من سورة الفتح، وانظر: فتح البارى 5/409 رقمى 2731، 3732. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المغازى، باب غزوة الحديبية وقول الله تعالى:"لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ" الآية 7/507 رقم 4154، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإمارة باب استحباب مبايعة الإمام الجيش 7/6 رقم 1856 واللفظ له. (3) حفصه بنت عمر إحدى أمهات المؤمنين وصحابيه جليلة لها ترجمة فى: الإصابة4/273رقم 396، وتاريخ الصحابة ص83رقم339،واسد الغابة7/67رقم6852،والاستيعاب4/1811رقم3297 (4) الآية 71 من سورة مريم. (5) الآية 72 من سورة مريم والحديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة 8/296 رقم 2496.

.. ففى الأحاديث السابقة وغيرها مما ذكرها أهل الأصول دليل على وقوع الاجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم بما فيهم الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه زمن النبوة بحضرته وغيبته صلى الله عليه وسلم فى المصالح الدنيوية والعبادات أيضاً (1) . ... ومن المعلوم أن اجتهادهم رضي الله عنهم بحضرته وغيبته صلى الله عليه وسلم يصير حجة وشرعاً ويتعبد به بإقراره صلى الله عليه وسلم لا بمجرد اجتهادهم (2) . ... وإن لم يقره صلى الله عليه وسلم أو لم يبلغه اجتهادهم كان اجتهادهم فيه الخلاف المعروف فى قول الصحابى (3) . اللهم إلا إذا قال أحدهم قولاً لا يقال من قبل الرأى، ولا مجال للاجتهاد فيه فحكمه الرفع، على ما هو مقرر عند الأصوليين والمحدثين (4) .

_ (1) من الأدلة التى استدل بها على ذلك قوله تعالى "وشاورهم فى الأمر" استدل بها الإمام السرخسى على أن المشاورة فى أحكام الشرع، كما فى مصالح الدنيا فقال: "ألا ترى أنه شاورهم فى أمر الآذان والقصة فيه معروفة، وشاورهم فى مفاداة الأسارى يوم بدر". أصول السرخسى 2/93، 94، 131، وبهذه الأدلة استدل الزركشى فى البحر المحيط كما استدل بقوله صلى الله عليه وسلم "قد سن لكم معاذ" البحر المحيط 6/223، 225. (2) إرشاد الفحول 2/323، وأعلام الموقعين 2/232. (3) الإحكام للآمدى 4/130، والمسودة لآل تيمية ص 336، وأصول السرخسى 2/105-116، وإرشاد الفحول 2/268، والأدلة المختلف فيها وأثرها فى الفقه للدكتور عبد الحميد أبو المكارم ص 279 –316. (4) المحصول للرازى 2/221، وتدريب الراوى 1/190، 191، وفتح المغيث للسخاوى 1/144، وتوضيح الأفكار للصنعانى 1/280

.. وكذا إذا اجتهدوا فى شىء، وأجمعوا عليه، فيصير حجة بلا خلاف حتى يكفر جاحده (1) . وهذا الاجتهاد من الصحابة زمن النبوة وإقرار النبى صلى الله عليه وسلم لهم، قد أقرهم رب العزة عليه، ولم يبين أنهم قد اخطأوا فيه، مع أن الزمان كان زمان وحى. فلو كانوا فى عملهم هذا مخطئين: لما أقرهم الله تعالى عليه، لأن تقريره تعالى فى زمان الوحى حجة بمثابة الوحى المنزل (2) . ... فكان اجتهادهم حجة وسنة يعمل بها ويرجع إليها (3) ، ولِمَ لا وقد قرن صلى الله عليه وسلم سنتهم بسنته فى وجوب الاتباع فى قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى" (4) وقال: "اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر" (5) وعلى ذلك سلف الأمة من الصحابة (6) والتابعين فمن بعدهم من أئمة المسلمين (7) .

_ (1) كذا فى أصول السرخسى 1/318، وانظر: الإحكام للآمدى 1/255، والمستصفى للغزالى 1/198، والبحر المحيط للزركشى 4/482. (2) حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 285. (3) الموافقات للشاطبى 4/450، وانظر من نفس المصدر 3/300 (بيان الصحابى حجة) ، والبحر المحيط (التخصيص بقول الصحابى) 3/398. (4) سبق تخريجه ص 38. (5) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب المناقب، باب مناقب أبى بكر وعمر رضي الله عنهم 5/570 رقمى 3662، 3663، وباب مناقب عمار بن ياسر رضي الله عنه 5/626 رقم 3799، وقال: هذا حديث حسن، وابن ماجة فى سننه المقدمة، باب فى فضائل اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/48 رقم 49، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وانظر أعلام الموقعين 2/225، 226. (6) انظر: أثر عن ابن عباس -رضى الله عنهما- فى سنن الدارمى المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة 1/71 رقم 166، وانظر: جامع بيان العلم 1/57. (7) انظر: ما روى عن عمر بن عبد العزيز فى سنن الدارمى المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة 1/70 رقم 162.

.. وبالجملة فما سنه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة لا يجوز العدول عنها، فأين هذا من قول غلاة الشيعة أن الخلفاء الراشدين وأتباعهم من بقية الصحابة باستثناء -الإمام على وشيعته- يجتهدون ويقدمون رأيهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) ، كيف وقد تقدم عنهم جميعاً تعظيمهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيمه فى كل شأن من شئون حياتهم، وزجرهم، وهجرهم من لم يعظم قوله صلى الله عليه وسلم وقد تواتر من شيمهم أنهم كانوا يطلبون حكم الواقعة من كتاب الله عز وجل، فإن لم يصادفوه فتشوا فى سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدوها تشاوروا، ورجعوا إلى الرأى عند الاضطرار حيث لا يوجد منه بد، ولم يلزموا أحداً العمل به، ولم يحرموا مخالفته، ولا جعلوا مخالفه مخالفاً للدين، بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده. فعن عمر رضي الله عنه أنه لقى رجلاً فقال: ما صنعت؟ قال قضى علىٌّ وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال، فما منعنك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكنى أردك إلى رأى، والرأى مشترك، فلم ينقض ما قال على وزيد" (2) .

_ (1) منع تدوين الحديث ص 90-98، ومعالم المدرستين 2/379. (2) أعلام الموقعين 1/65.

.. وإذا ظهر لهم النص مع اجتهادهم رجعوا إليه وتركوا رأيهم، يدل على ذلك: ما روى أن عمر رضي الله عنه كان يقول: "الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها" حتى أخبره الضحاك بن سفيان (1) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابى من ديته، فرجع إليه عمر" (2) . وروى عنه أنه جاء إليه رجل من ثقيف فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر، ألها أن تنفر؟ فقال عمر لا، فقال له الثقفى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتانى فى مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت به، فقام إليه عمر يضربه بالدرة، ويقول له: لم تستفتنى فى شئ قد أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ؟ وغير ذلك من الأحاديث الواردة عن عمر وغيره من الصحابة (4) .

_ (1) الضحاك بن سفيان رضي الله عنه صحابى جليل له ترجمة فى: تاريخ الصحابة ص141 رقم 687، والإصابة 2/206 رقم 4186، والاستيعاب 2/742 رقم 1250، واسد الغابة 3/47 رقم 2556. (2) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الفرائض، باب فى المرأة ترث من دية زوجها 3/129، 130 رقم 2927، والترمذى فى سننه كتاب الديات، باب ما جاء فى المرأة هل ترث من دية زوجها 4/19 رقم 1415، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، وأخرجه أيضاً فى كتاب الفرائض، باب ما جاء فى ميراث المرأة من دية زوجها 4/371 رقم 2110، وقال: حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجة فى سننه كتاب الديات، باب الميراث من الدية 2/85 رقم 2642، والشافعى فى الرسالة ص 426 رقم 1172، وانظر: أعلام الموقعين 2/265. (3) أعلام الموقعين 2/263. (4) انظر: المصدر السابق 2/260-275، والدارمى فى سننه المقدمة، باب الرجل يفتى بشئ ثم يبلغه عن النبى صلى الله عليه وسلم فيرجع إلى قول النبى صلى الله عليه وسلم 1/161 أرقام 641 – 644.

.. وعلى ذلك إجماع الأمة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة المسلمين، قال عمر ابن عبد العزيز: "لا رأى لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1) . وقال الشافعى: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس" (2) . ... وبعد: فقد تحقق لك جواز الاجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم فى عصر النبوة المباركة، وبعده واتفاق الأمة منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم -إلى يومنا هذا- ولم ينكر أصل الاجتهاد واحد من الصحابة بما فيهم الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه، وإنما كانوا يتناظرون فى الذب عن وجوه الاجتهاد والدعاء إلى غيرها من الاجتهاد (3) . ... وإذا كانت الوقائع التى جرت فيها فتاوى علماء الصحابة، وأقضيتهم لا يحصرها عد، ولا يحويها حد حيث كانوا قايسين فى قريب من مائة سنة (4) . إذا تقرر كل ذلك بطل ما يذهب إليه غلاة الشيعة من الطعن فى الصحابة باجتهادهم زمن النبوة المباركة وبعده، وبطل ما يزعمونه من أن الصحابة طائفتان فى تعاملهم مع السنة المطهرة. طائفة التعبد المحض -ويعنون بهم الإمام على وشيعته، وطائفة الاجتهاد، والأخذ بالرأى وترك السنة- ويعنون بهم أهل السنة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون. فهذا التقسيم محض كذب، من رافضة امتلأت قلوبهم حقداً وبغضاً على سلف هذه الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من صار على دربهم من أهل السنة رضي الله عنهم.

_ (1) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب ما يتقى من تفسير حديث النبى صلى الله عليه وسلم، وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم 1/125 رقم 432. (2) أعلام الموقعين 2/263. (3) البرهان فى أصول الفقه للجوينى 2/14 فقرة رقم 713. (4) المصدر السابق 2/13 فقرة رقم 711.

الصحابة - رضي الله عنهم - والنهى عن كثرة التحديث:

وبالجملة "من طعن فى السلف من نفاة القياس لاحتجاجهم بالرأى فى الأحكام فكلامه كما قال الله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (1) . الصحابة - رضي الله عنهم - والنهى عن كثرة التحديث: ... بقى من شبهه (النهى عن كتابة السنة) ما زعمه بعض دعاة الفتنة (2) -ومن تأثر بهم من المسلمين (3) من أن امتناع بعض الصحابة عن التحديث ونهى كبار الصحابة عن الإكثار من التحديث دليل على عدم حجية السنة. ... ومما استدلوا به على ذلك الآثار الآتية:

_ (1) مثل محمود أبو رية فى الأضواء ص53-57،وجمال البنا فى السنة ودورها فى الفقه الجديد ص16، وعبد الحسين شرف الدين فى كتابه أبو هريرة ص 134، ومرتضى العسكرى فى معالم المدرسين المجلد 2/44، 45، 64، وعلى الشهرستانى فى منع تدوين الحديث أسباب ونتائج ص 57، 64، وزكريا عباس داود فى تأملات فى الحديث عند السنة والشيعة ص 42 - 48 وغيرهم. (2) كالأستاذ محمد رشيد رضا -رحمه الله- حيث قال: "ما ورد فى عدم رغبة كبار الصحابة فى التحديث بل فى رغبتهم عنه بل فى نهيهم عنه قوى عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث ديناً عاماً دائماً كالقرآن" انظر: مجلة المنار المجلد 10/768. (3) الآية 5 من سورة الكهف. وانظر: أصول السرخسى 2/133.

ما روى من مراسيل ابن أبى مُلَيْكَةَ (1) قال: إن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه (2) .

_ (1) ابن أبى مُلَيْكَةَ هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبى مُلَيْكَةَ (بالتصغير) أبو بكر أدرك ثلاثين من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وكان إماماً فقيهاً حجة فصيحاً مفوهاً، متفق على توثيقه، مات 117هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ1/100رقم 94،وتقريب التهذيب1/511رقم 3465، والكاشف 1/571 رقم 2838، والثقات للعجلى ص 268 رقم 848، ومشاهير علماء الأمصار ص107 رقم 597. (2) تذكرة الحافظ 1/2، 3.

وما روى عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (1) قال: والله مامات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق، عبد الله بن حذيفة (2) ،وأبا الدرداء (3) ، وأبا ذر (4) ، وعقبة بن عامر (5)

_ (1) إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف هو: إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهرى القرشى. روى عن عمر، وعلى، وعمار، وعنه ابناه سعد، وصالح، والزهرى، وقال العجلى: تابعى ثقة مدنى، وذكره ابن حبان فى الثقات، وقيل له رؤية، واختلف فى سماعه، من عمر بن الخطاب فأثبته يعقوب بن شيبة، والواقدى، والطبرى، وغيرهم والظاهر إنه لم يسمع منه، فإنه مات سنة 96، وقيل 95 وعمره 75 سنة فلم يدرك من حياة عمر إلا سنتين أو ثلاث. وهذا ما رجحه الهيثمى فى مجمع الزوائد1/149، قال: إبراهيم ولد سنة عشرين، ولم يدرك من حياة عمر إلا ثلاث سنين، وهذا ما رجحه أيضاً أحمد محمد شاكر فى الإحكام لابن حزم 2/266 هامش. وإبراهيم له ترجمة فى: مشاهير علماء الأمصار ص 88 رقم 450، والاستيعاب 1/61 رقم 2، والثقات لابن حبان 4/4، وتاريخ الثقات للعجلى ص 53 رقم 29، وتقريب التهذيب 1/60 رقم206، والكاشف 1/217 رقم 165. (2) عبد الله بن حذيفة غير معروف، وإنما فى الصحابة عبد الله بن حذافة. (3) أبو الدرداء هو: عويمر بن عامر بن زيد الأنصارى الخزرجى صحابى جليل له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1/24 رقم، واسد الغابة 4/306 رقم 4142، والإصابة 3/45 رقم 6132، والاستيعاب 3/1227 رقم 2006، وتاريخ الصحابة ص 182 رقم 941. (4) أبو ذر هو: أبو ذر الغفارى جندب بن جنادة صحابى جليل. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1/17 رقم7،واسد الغابة6/93رقم5869،والاستيعاب4/1652رقم2944،والإصابة4/63رقم9877 (5) عقبة بن عامر هو: عقبة بن عامر الجهنى صحابى جليل له ترجمة فى: مشاهير علماء الأمصار ص72 رقم 378، وتذكرة الحفاظ 1/42 رقم 20، واسد الغابة 4/51 رقم 3711، والاستيعاب 3/1073رقم 1824، وتاريخ الصحابة ص179 رقم 925، والإصابة 2/489 رقم 5617.

، فقال ما هذه الأحاديث التى أفشيتم عن رسول الله فى الآفاق؟ قالوا: تنهانا؟ قال لا، أقيموا عندى، لا والله لا تفارقوننى ما عشت، فنحن أعلم، نأخذ منكم، ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات (1) . وعنه من رواية أخرى: قال بعث عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود، وأبى الدرداء وأبى مسعود الأنصارى (2) فقال ما هذا الحديث الذى تكثرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسهم بالمدينة حتى استشهد لفظهم سواء (3)

_ (1) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 17/101. (2) أبو مسعود الأنصارى هو: عقبة بن عمرو بن ثعلبة. صحابى جليل له ترجمة فى: مشاهير علماء الأمصار ص 55 رقم 270، والاستيعاب 3/ 1074 رقم 1827، واسد الغابة 4/55 رقم 3717، وتاريخ الصحابة ص179 رقم 922، والإصابة 2/490 رقم 5622. (3) أخرجه الخطيب فى شرف أصحاب الحديث باب ذكر نهى عمر بن الخطاب عن رواية الحديث وبيان وجهه ومعناه ص 159 رقم 174 بلفظه. وأخرجه ابن حزم فى الإحكام فصل (فى فضل الإكثار من الرواية للسنن) 2/266 بنحو رواية الحاكم، وقال ابن حزم هذا مرسل ومشكوك = =فيه من (شعبة) فلا يصح، ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو فى نفسه ظاهر الكذب والتوليد وأخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم 1/193 رقمى 374، 375 بنحوه، وفيه أبى ذر بدلاً من أبى مسعود الأنصارى، وقال صحيح على شرط الشيخين، وإنكار عمر أمير المؤمنين على الصحابة كثرة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى، وعزاه الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/149 إلى الطبرانى فى الأوسط بنحوه وقال: قلت هذا أثر منقطع، وإبراهيم ولد سنة عشرين ولم يدرك من حياة عمر إلا ثلاث سنين وابن مسعود كان بالكوفة ولا يصح هذا عن عمر. وذكره الحافظ الذهبى فى التذكرة 1/7 بنحوه وليس فيه (فحبسهم بالمدينة) ولا (ثم أطلقهم عثمان) التى عزاها أبو رية فى الأضواء ص 54 إلى الذهبى فى التذكرة، وإنما ذكرها بلا سند، أبو بكر بن العربى فى العواصم من القواصم ص 87، والأثر منقطع كما قال الهيثمى، وابن حزم. والله أعلم.

وروى عن السائب بن يزيد (1) قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبى هريرة: لتتركن الحديث عن الأول، أو لألحقنك بأرض دوس، وقال لكعب الأحبار (2) : لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة" (3) ، وعنه من طريق آخر قال: أرسلنى عثمان بن عفان إلى أبى هريرة فقال: قل له يقول لك أمير المؤمنين: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... بنحو الرواية السابقة (4) .

_ (1) السائب بن يزيد: صحابى جليل له ترجمة فى: مشاهير علماء الأمصار ص 36 رقم 141، وتاريخ الصحابة ص123 رقم 575، والاستيعاب 2/576 رقم 902، واسد الغابة 4/380 رقم 4291، والإصابة 2/12 رقم 3084. (2) كعب الأحبار هو: ابن ماتع الحميرى، أبو إسحاق، المعروف بكعب الأحبار، كان من أهل اليمن، فسكن الشام، قال ابن حجر ثقة مخضرم، وقال الذهبى فى السير: "وكان حسن الإسلام متين الديانة من نبلاء العلماء، وذكره ابن حبان فى الثقات، وقال محمد عوامه فى تحقيقه للكاشف "ولا مجال للمنابر السياسية لتخطب هنا، وتكثر الكلام والتجريح فيه نعم انظر: "مقالات الكوثرى ص32،وانظر معه فتح البارى6/353، 13/334، 335. له ترجمة فى: مشاهير علماء الأمصار ص145 رقم 911،والثقات لابن حبان5/333، وتقريب التهذيب 2/43 رقم5666، والكاشف 2/148 رقم 4662، وسير أعلام النبلاء 3/489 - 494 رقم 333. (3) البداية والنهاية 8/110. (4) أخرجه الخطيب فى المحدث الفاصل باب، من كره كثرة الرواية ص 554 رقم 746.

وروى عن قرظة ابن كعب قال (1) : بعث عمر بن الخطاب رهطاً من الأنصار إلى الكوفة، فبعثنى معهم، فجعل يمشى معنا حتى أتى صرار (2) -وصرار: ماء فى طريق المدينة- فجعل ينفض الغبار عن رجليه، ثم قال: إنكم تأتون الكوفة، فتأتون قوماً لهم أزيز (3) بالقرآن، فيأتونكم فيقولون قدم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قدم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فأعلموا أن أسبغ الوضوء ثلاث، وثنتان تجزيان، ثم قال: إنكم تأتون الكوفة، فتأتون قوماً لهم أزيز بالقرآن فيقولون: قدم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قدم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم فيه. قال قرظة: وإن كنت لأجلس فى القوم فيذكرون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنى لمن أحفظهم له، فإذا ذكرت وصية عمر سكت. قال أبو محمد (الإمام الحافظ الدارمى) معناه عندى: الحديث عن أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس السنن والفرائض" (4)

_ (1) قرظة بن كعب هو: ابن ثعلبة الأنصارى صحابى جليل له ترجمة فى: مشاهير علماء الأمصار ص61 رقم 309، والاستيعاب 3/1306 رقم 1268، واسد الغابة 4/380 رقم 4291، والإصابة 3/231 رقم 7113، وتجريد أسماء الصحابة 2/14. (2) صرار: بئر قديمة على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق وقيل موضع بالمدينة انظر: معجم البلدان 3/398. (3) أريز: أى حركة واهتياج وحده. انظر: النهاية فى غريب الحديث لابن الأثير 1/45. (4) أخرجه ابن ماجة فى المقدمة، باب التوقى فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/25 رقم 28، والدارمى فى المقدمة، باب من هاب الفتيا مخافة السقط 1/97 رقمى 279، 280 واللفظ له، والحاكم فى المستدرك كتاب العلم 1/183 رقم 347، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد له طرق تجمع ويذاكر بها، وقرظة ابن كعب الأنصارى صحابى جليل سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما سائر رواته فقد احتجا بهم. ووافقه الذهبى، فقال: صحيح وله طرق. وأخرجه ابن المبارك فى مسنده ص 139 رقم 226.

الجواب عن شبهة نهى الصحابة عن الإكثار من الرواية

.. وفى رواية: "إنكم تأتون أهل قرية لهم دوى بالقرآن كدوى النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جودوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم امضوا وأنا شريككم، فلما قدم قرظة، قالوا حدثنا قال: نهانا عمر بن الخطاب" (1) . وروى عن عثمان بن عفان (2) رضي الله عنه قال: "لا يحل لأحد يروى حديثاً لم يسمع به فى عهد أبى بكر ولا فى عهد عمر، فإنه لا يمنعنى أن أحدث عن رسول الله أن لا أكون من أوعى أصحابى، إلا أنى سمعته يقول: من قال على فقد تبوأ مقعده من النار" (3) ، وغير ذلك من الآثار الواردة عن بعض الصحابة فى التقليل من الرواية، وسيأتى بعضها فى الإجابة على هذه الشبهة. الجواب عن شبهة نهى الصحابة عن الإكثار من الرواية، وامتناع بعضهم عن كثرة التحديث دليل على عدم حجية السنة ... بالآثار السابقة، وغيرها، احتج قديماً كما قال الحافظ ابن عبد البر، بعض من لا علم له ولا معرفة من أهل البدع وغيرهم الطاعنين فى السنن، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد فى سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التى لا يوصل إلى مراد كتاب الله إلا بها، والطعن على أهلها (4) . ... وتابع على ذلك حديثاً ذيولهم من المستشرقين، وغلاة الشيعة، ودعاة اللادينية، وجعلوا ذلك ذريعة إلى عدم حجية السنة النبوية.

_ (1) جامع بيان العلم 2/120، 121. (2) عثمان بن عفان: صحابى جليل له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1/8 رقم3، ومشاهير علماء الأمصار ص11 رقم4، والاستيعاب 3/1037 رقم 1778، واسد الغابة 3/578 رقم 3589، والإصابة 2/462 رقم 5464. (3) أخرجه أحمد فى مسنده 1/65. (4) جامع بيان العلم 2/121.

.. ولو صدق هؤلاء القوم فى ادعائهم المنهجية، والنزاهة فى البحث العلمى، لبينوا للقارئ عناوين الأبواب التى نقلوا منها الآثار السابقة فى مصادرها الحديثية، فلو فعلوا ذلك لتبين للقارئ لهم، بطلان دعواهم وما فهموه من هذه الآثار، حيث أن عناوين الأبواب الواردة فيها، مشتملة على علة، وفقه هذه الآثار، التى تفحمهم وتدحض دعواهم. فانظر: إلى الحافظ ابن عبد البر يذكر بعض هذه الآثار فى جامع بيان العلم فى باب عنوانه: "ذكر من ذم الإكثار من الحديث دون التفهم والتفقه فيه" (1) وتأمل "دون التفهم والتفقه فيه". والحاكم فى المستدرك يذكر بعضها فى كتاب العلم فى باب عنوانه "أمر عمر رضي الله عنه بتجريد القرآن وتقليل الرواية" (2) ، وتأمل "تجريد القرآن" وهو فقه مستنبط من صريح قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والإمام ابن ماجة فى سننه يذكر بعضهافى باب "التوقى فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ، والدارمى فى باب "من هاب الفتيا مخافة السقط" (4) ، وباب "اتقاء الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم والتثبت فيه" (5) . والهيثمى فى مجمع الزوائد باب "الإمساك عن بعض الحديث" (6) وباب "التثبت والإمساك عن بعض الحديث وبعض الفتيا" (7) . ... ولو تأملنا فى عناوين الأبواب السابقة، الواردة فيها الآثار، التى استشهد بها المشاغبون على عدم حجية السنة، لوجدنا تلك العناوين، مطابقة تماماً، لحكمة النهى عن الإكثار من التحديث، وهذا ما سيظهر جلياً الآن بإذن الله تعالى.

_ (1) المصدر السابق 2/120-133. (2) انظر: المستدرك للحاكم 1/183 رقم 347. (3) انظر: سنن ابن ماجة 1/24 أرقام 23-29. (4) انظر: سنن الدارمى 1/94 أرقام 266-287. (5) انظر: سنن الدارمى 1/87 أرقام 231: 238. (6) انظر: مجمع الزوائد 1/149. (7) مجمع الزوائد 2/182، 183.

.. وبالرغم من ضعف بعض الآثار السابقة كما سبق، إلا أنه مع ضعفها حجة لنا لا علينا، فلا حجة لأعداء السنة، فى الآثار التى استشهدوا بها، ولا دليل فيها على ما ذهبوا إليه، لأنها اشتملت على الوجوه والأسباب التى من أجلها، امتنع بعض الصحابة عن التحديث، ونهوا عن الإكثار منه، وتلك الوجوه والأسباب هى: أولاً: خوف الخطأ أو الزيادة والنقصان فى حديث النبى صلى الله عليه وسلم والدخول فى وعيد النبى صلى الله عليه وسلم الوارد فى قوله صلى الله عليه وسلم "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (1) وبذلك صرحت الآثار الواردة عمن امتنع عن التحديث أو لم يكثر منه. ... فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إنه ليمنعنى أن أحدثكم حديثاً كثيراً أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد على كذباً فليتبوأ مقعده من النار" (2) . ... وفى رواية أخرى عنه قال: "لولا أنى أخشى أن أخطئ لحدثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك أنى سمعته يقول: "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (3) .

_ (1) سبق تخريجه ص 275. (2) أخرجه البخارى فى صحيحه كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبى صلى الله عليه وسلم 1/243 رقم 108 (3) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب اتقاء الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم وأتثبت فيه 1/88 رقم 235

.. وعن عبد الله بن الزبير (1) قال: قلت للزبير (2) : إنى لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان. قال: أما إنى لم أفارقه، ولكن سمعته يقول: "من كذب على فليتبوأ مقعده من النار" (3) .

_ (1) عبد الله بن الزبير: صحابى جليل. له ترجمة فى: تاريخ الصحابة ص 150 رقم 722، ومشاهير علماء الأمصار ص38 رقم 154، والاستيعاب 3/905 رقم 1535، واسد الغابة 3/241 رقم2949، والإصابة 2/309 رقم 4700. (2) الزبير بن العوام: صحابى جليل له ترجمة فى: مشاهير علماء الأمصار ص 13 رقم 9، واسد الغابة 2/307 رقم 1732، وتجريد أسماء الصحابة 1/188، والاستيعاب 2/510 رقم 808، والإصابة 2/5 رقم 2799. (3) أخرجه البخارى فى صحيحه كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبىصلى الله عليه وسلم1/242 رقم 107.

.. وعن دُجَيْنُ أبى الغُصْن (1) قال: دخلت المدينة فلقيت أسلم (2) -مولى عمر بن الخطاب- فقلت: "حدثنى عن عمر، فقال: لا استطيع أخاف أن أزيد أو أن أنقص، كنا إذا قلنا لعمر حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخاف أن أزيد أو أن انقض؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كذب علىّ، فهو فى النار" (3) . ... وعلى هذا يحمل ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه من هيبة التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) ، وهكذا أمسك بعض الصحابة عن كثرة التحديث خوفاً من الخطأ أو الزيادة والنقصان فى الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

_ (1) دُجَيْنُ: هو ابن ثابت، أبو البَرْبُوعى؛ البصرى يروى عن هشام بن عروة، وأسلم مولى عمر، وروى عنه، ابن المبارك، ومسلم، ليس حديثه بشئ، يقلب الأخبار ولم يكن الحديث شأنه له ترجمة فى: الضعفاء والمتروكين ص99 رقم 187، والمجروحين 1/290، ولسان الميزان 3/36 رقم 3307، والجرح والتعديل 1/444 رقم 2017، والضعفاء الكبير للعقيلى 2/45 رقم475، والكامل فى الضعفاء لابن عدى 3/105 رقم 641. (2) أسلم هو: أسلم العدوى مولى عمر، روى عن عمر، وأبى بكر، ومعاذ، وعنه ابنه زيد، ونافع، ثقة مخضرم مات 80 هـ وقيل بعد 60هـ له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/89 رقم 407، والكاشف 1/242 رقم 341. (3) أخرجه أحمد فى مسنده 1/46، 47. وفيه دجين بن ثابت أبو الغصن وهو ضعيف ليس بشئ. انظر: مجمع الزوائد 1/142. (4) الحديث أخرجه ابن ماجة فى المقدمة، باب التوقى فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/24 رقم23، بإسناد صحيح كما قال البوصيرى فى مصباح الزجاجة 1/48 رقم 9.

.. وإذا كان الإكثار من التحديث مظنة الخطأ بخلاف الإقلال، فالضبط فيه أكثر، فإن هذا لا يمنع من وجود بعض المكثرين المتميزين بالاتقان والدقة مع إكثارهم كأبى هريرة رضي الله عنه ولذلك أذن له عمر-وهو أشهر المتشددين-بالرواية لثقته بتثبته وأمانته يدل على ذلك قول أبى هريرة: بلغ عمر حديثى فأرسل إلىَّ فقال: "كنت معنا يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيت فلان"؟ قال: قلت نعم، وقد علمت لِمَ تسألنى عن ذلك؟ قال: ولم سألتك؟ قلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، قال: أما إذا فاذهب فحدث" (1) . ... وما أنكر عليه عمر، إنما كان من حديثه عن "الأول" (2) ، أى أهل الكتاب، أو الحديث عن بدء الخليقة، ونحوه مما لا يترتب عليه عمل (3) . ولهذا الأمر نفسه كان نهى عمر لكعب الأحبار -رحمه الله-. ... فبطل بذلك ما ادعاه محمود أبو رية، وعبد الحسين شرف الدين، من مفتريات على أبى هريرة من أن عمر رضي الله عنه ضربه بالدرة على إكثاره (4) . وأن أبا هريرة لم يكن له شأن زمن النبوة ... ولم يستطع أن يفتح فاه بحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم إلا بعد موت عمر (5) .

_ (1) البداية والنهاية 8/107، وسير أعلام النبلاء 2/434. (2) بترها مروان خليفات فى كتابه وركبت السفينة ص 175. (3) الإحكام لابن حزم 2/266. (4) شيخ المضيرة لمحمود أبو رية ص112، وأبو هريرة لعبد الحسين شرف الدين ص 197. (5) شيخ المضيرة ص 117.

كما أنه لا معنى لما زعمه رشيد رضا وتابعه عليه أبو رية فى أنه لو طال عُمْرُ، عمر بن الخطاب حتى مات أبو هريرة لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة عنه، ومنها 446 حديثاً فى البخارى ما عدا المكرر (1) . ... وما كان كبار الصحابة فى نهيهم عن الإكثار من الرواية بدعاً فى ذلك وإنما هم متبعون لأمر النبى صلى الله عليه وسلم ولمنهجه فى الحفاظ على رسالة الإسلام قرآناً وسنة. وفى ذلك يقول أبو عبد الله الحاكم: "انكار عمر أمير المؤمنين على الصحابة كثرة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة" (2) والسنة هنا ما روى عن أبى قتادة رضي الله عنه؛ أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "يا أيها الناس إياكم وكثرة الحديث عنى، فمن قال علىَّ فلا يقل إلا حقاً أو إلا صدقاً ومن قال علىَّ ما لم أقل متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (3) .

_ (1) مجلة المنار المجلد 11/851، وشيخ المضيرة ص117، وراجع فى الدفاع عن اتهام أبى هريرة بالإكثار كتاب أبو هريرة للدكتور عجاج الخطيب، ودفاع عن أبى هريرة للشيخ عبد المنعم صالح، وانظر: فى هذا البحث (أبو هريرة راوية الإسلام رغم أنف الحاقدين) ص638-652. (2) المستدرك1/193تعقيباً علىحديث حبس عمر لبعض الصحابة، والحديث سبق تخريجه ص319-320 (3) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم، باب التوقى عن كثرة الحديث 1/111 وقال: هذا حديث على شرط مسلم ووافقه الذهبى فقال: على شرط مسلم.

.. وما روى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: "لا يحل لأحد يروى حديثاً لم يسمع به فى عهد أبى بكر ولا فى عهد عمر ... الحديث، ومثل ذلك النهى عن معاوية رضي الله عنه قال: "أيها الناس إياكم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً كان يذكر على عهد عمر رضي الله عنه فإن عمر كان يخيف الناس فى الله عز وجل" (1) أى كان عمر رضي الله عنه شديداً فى دين الله عز وجل يأمر بالتثبت فى النقل، فلا يحدث بشىء عن النبى صلى الله عليه وسلم إلا بما تيقن من نسبته إليه صلى الله عليه وسلم خشية الوقوع فى الوعيد الوارد فى قوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عنى حديثاً يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" (2) . فقوله (يُرى) بضم الياء أى يظن، ويجوز فتحها أى يعلم، وفى (الكاذبين) روايتان (إحداهما) بفتح الباء على إرادة التثنية (والأخرى) بكسرها على صيغة الجمع (3) . يقول الإمام النووى (4) " ... فمن روى حديثاً علم أو ظن وضعه ولم يبين حال رواته ووضعه فهو داخل فى هذا الوعيد، مندرج فى جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم" (5) .

_ (1) أخرجه الخطيب فى شرف أصحاب الحديث ص163 رقم 179، وذكره الذهبى فى التذكرة 1/7 (2) سبق تخريجه ص 34. (3) المنهاج شرح مسلم للنووى 1/99. (4) الإمام النووى هو: أبو زكريا يحيى بن شرف بن مرى، الحورانى، الشافعى، كان إماماً بارعاً حافظاً متقناً، اتقن علوماً شتى، وهو صاحب التصانيف النافعة فى الحديث، والفقه، وغيرها "كشرح مسلم" وشرح المهذب، والأذكار، ومختصر اسد الغابة، والمبهمات، وغير ذلك، مات 676هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 4/1470 رقم 1162، وشذرات الذهب 5/345، وطبقات الشافعية 8/395، والعبر 5/312. (5) المنهاج شرح مسلم للنووى 1/106.

وكفى بهذه الجملة وعيداً شديداً فى حق من روى حديثاً، وهو يظن أنه كذب، فضلاً عن أن يتحقق ذلك، ولا يبينه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعل المحدث بذلك مشاركاً لكاذبة فى وضعه" (1) ، وهذا ما كان يخشاه الصحابة وعلى رأسهم عمر رضي الله عنه فكان نهيه عن الإكثار من الرواية إتباعاً لسنة النبى صلى الله عليه وسلم وخشية منه أن يتسع الناس فى الرواية فيقع الكذب والتدليس من المنافق، والفاجر، والأعرابى، فينسبون إلى النبى صلى الله عليه وسلم ما لم يقله كما تنبأ بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: "سيكون فى آخر أمتى أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم" وقال صلى الله عليه وسلم: "يكون فى آخر الزمان دجالون كذابون. يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم. فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم".

_ (1) قاله الأستاذ أحمد محمد شاكر على هامش فتح المغيث للعراقى 120.

.. وهذا من أسباب ترك التحديث عن الرسولصلى الله عليه وسلمكما قال ابن عباس-رضى الله عنهما- "إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يكذب عليه. فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه وهذا أيضاً ما جعل الصحابة - رضي الله عنهم - يأخذون من أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم إلا ما كان معروفاً زمن أبى بكر وعمر -رضى الله عنهما- كما جاء من قول عثمان ومعاوية -رضى الله عنهما- حيث كان التثبت والاحتياط وعدم الكذب فى زمانهما، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم يأخذ من الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما يعرف، كما قال ابن عباس -رضى الله عنهما-:"إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا. وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف" (1) . وعلى الدرب الصحابة صار من بعدهم: فعن الشعبى -رحمه الله- قال: "كره الصالحون الأولون الإكثار من الحديث، ولو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما حدثت إلا بما أجمع عليه أهل الحديث (2) . فقوم يحتاطون لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم كما أمرهم، أتكون تلك الحيطة دليل على عظم شأن السنة فى نفوسهم، وحجيتها، أم دليل على عدم حجيتها، واتخاذها ديناً عاماً دائماً كالقرآن؟

_ (1) الأحاديث والآثار السابقة أخرجها مسلم فى صحيحه (بشرح النووى) المقدمة، باب النهى عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط فى تحملها 1/111، 112 رقمى 6،7 وفى هذا المعنى حديث موقوف على معاذ بن جبل رضي الله عنه. أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب تغير الزمان وما يحدث فيه 1/77 رقم 199. (2) تذكرة الحفاظ 1/83.

ثانياً: من الوجوه والأسباب التى كان الصحابة من أجلها يمتنعون أو ينهون عن الإكثار من التحديث، إذا كان المخاطبون بالأحاديث قوم حديثى عهد بالإسلام ولم يكونوا قد أحصوا القرآن واتقنوه فيخافون عليهم الاشتغال عنه بالأحاديث قبل اتقانه هو أولاً إذ هو الأصل لكل علم (1) . ... ويشير إلى هذا السبب صراحة قول عمر رضي الله عنه: "إنكم تأتون أهل قرية لهم دوى بالقرآن كدوى النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جودوا القرآن" أى جودوا الأصل الأول، وهو القرآن، وابدؤا به أولاً، ولا تبدؤا بالأحاديث؛ فتشغلوهم عن إتقان القرآن. ويدل على ذلك صراحة رواية الحاكم: "فلا تبدءونهم بالأحاديث فيشغلونكم جردوا القرآن وأقلوا الرواية". ... وعلى هذا المنهاج صار السلف الصالح من أئمة الحديث فكان كثير منهم لا يقبلون الطلاب فى حلقاتهم إلا إذا وثقوا من دراستهم للقرآن الكريم، وحفظ بعضه على الأقل، وفى هذا يقول حفص بن غياث (2) : أتيت الأعمش فقلت: حدثنى، قال أتحفظ القرآن؟ قلت. لا. قال اذهب فاحفظ القرآن، ثم هلم أحدثك. قال فذهبت فحفظت القرآن، ثم جئته، فاستقرأنى، فقرأته، فحدثنى" (3) .

_ (1) جامع بيان العلم 2/121. (2) حفص بن غياث هو: ابن طلق بن معاوية النخعى، أبو عمر، الكوفى، القاضى، ثقة فقيه، تغير حفظه قليلاً فى الآخر، روى عن عاصم الأحول، ويحى ابن سعيد، والأعمش، وعنه أحمد، ويحيى، وإسحاق. مات 94، وقيل 95هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/229 رقم 1436، والكاشف 1/343 رقم 1165، والثقات للعجلى 125 رقم 310. (3) المحدث الفاصل 1/19، وانظر: السنة قبل التدوين ص 155.

.. أو يكون النهى متعلقاً بالأحاديث عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس أحاديث السنن والفرائض كما قال الحافظ الدارمى معناه عندى: "الحديث عن أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس السنن والفرائض" (1) . ... ويؤكد هذا قول عمر رضي الله عنه: "أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به" (2) أى أقلوا الرواية إلا فيما يترتب عليه عمل شرعى، فيدخل فى ذلك جميع الأحكام والآداب وغيرها، ولا يخرج إلا القصص ونحوه، فاستحب رضي الله عنه الإقلال من القصص ونحوه، ولم يمنع من الإكثار فيما فيه عمل. أما تعليق محمود أبو رية على هذا الأثر وقوله: "فيما يعمل به" أى أى السنة العملية" (3) . فإن أراد السنة العملية المتواترة، فلا يخفى بطلانه، لأن هذا اصطلاح محدث (4) . ويؤيد ما سبق، ما روى عن أبى موسى أنه قال حين قدم البصرة: "بعثنى إليكم عمر بن الخطاب أعلمكم كتاب ربكم، وسنتكم، وأنظف طرقكم" (5) . ثالثاً: من الأسباب التى كان الصحابة يمتنعون أو ينهون من أجلها عن الإكثار من التحديث، خوفهم الاشتغال بكثرة الحديث عن تدبره وتفهمه، لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه (6) .

_ (1) راجع: ص 320، 321، وانظر: جامع بيان العلم 2/121. (2) البداية والنهاية 8/110. (3) أضواء علىالسنة ص55 هامش، وتابعه المستشار عبد الجواد ياسين فىكتابه السلطة فى الإسلام ص240 (4) الأنوار الكاشفة ص 57. (5) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم السنن1/149رقم560 (6) قاله ابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/123، ونقله عن جماعة فقهاء المسلمين 2/124، وقاله الخطيب فى شرف أصحاب الحديث ص 161.

وهذا ما وقع فيه أهل البدع والأهواء المنكرين لحجية السنة قديماً، وحديثاً، أخذوا بظاهر تلك الآثار بدون تفقه، وتدبر للمعانى المرادة منها، وهو ما بينه أئمة الحديث فى عناوين الأبواب التى ذكروا فيها هذه الآثار، تلك العناوين التى لم يذكرها أعداء السنة المطهرة، إما عن جهل، وإما عن علم، وتدليس منهم على القارئ. ولا يخفى أيضاً أن الإكثار، يجعل المكثر، يسرد الحديث سرداً سريعاً يلتبس على المستمع، وهذا ما أنكرته أم المؤمنين عائشة –رضى الله عنها- على أبى هريرة رضي الله عنه فى الحديث الذى رواه الشيخان، عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أن عائشة –رضى الله عنها- قالت: "ألا يعجبك أبو هريرة! جاء فجلس إلى جنب حجرتى، يحدث عن النبى صلى الله عليه وسلم يسمعنى ذلك. وكنت أسبح. فقام قبل أن أقضى سبحتى. ولو أدركته لرددت عليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم (1) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المناقب، باب صفة النبى صلى الله عليه وسلم 6/655 رقم 3568، ومسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبى هريرة الدوسىرضي الله عنه 8/291 رقم 2493.

رابعاً: إنهم كانوا ينهون أو يمتنعون عن التحديث والإكثار منه، إذا كانت الأحاديث من المتشابهات التى يعسر على العامة، وضعاف العقول فهمها، فيحملونها على خلاف المراد منها، ويستدلون بظاهرها، ويكون الحكم بخلاف ما فهموا، وقد تؤدى تلك المتشابهات إلى تكذيب الله ورسوله (1) . ... وفى ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" (2) ويقول على رضي الله عنه "حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله" (3) . ... يقول الإمام الذهبى:"فقد زجر الإمام على رضي الله عنه، عن رواية المنكر، وحث على التحديث بالمشهور، وهذا أصل كبير فى الكف عن بث الأشياء الواهية والمنكرة من الأحاديث فى الفضائل والعقائد والرقائق، ولا سبيل إلى معرفة هذا من هذا إلا بالإمعان فى معرفة الرجال" (4)

_ (1) شرف أصحاب الحديث 161، 162، والبداية والنهاية 8/106، وانظر: الموافقات للشاطبى فصل (ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره) 4/548. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب النهى عن الحديث بكل ما سمع 1/108 رقم 5. (3) أخرجه البخارى (بشرح النووى) كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا 1/272 رقم 127، بدون (ودعوا ما ينكرون) (4) تذكرة الحفاظ 1/13.

.. ويقول الإمام ابن حجر: والمراد بقوله "بما يعرفون" أى يفهمون. وقوله: "ودعوا ما ينكرون" أى يشتبه عليهم فهمه. وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغى أن يذكر عند العامة. وممن كره التحديث ببعض دون بعض، الإمام أحمد فى الأحاديث التى ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك فى أحاديث الصفات، وأبو يوسف فى الغرائب، ومن قبلهم أبى هريرة رضي الله عنه حيث يروى عنه البخارى أنه قال: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته. وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم" (1) . ... قال ابن حجر: وحمل العلماء الوعاء الذى لم يبثه على ما يتعلق بالفتن، واشراط الساعة وتغير الأحوال والملاحم فى آخر الزمان، فينكر ذلك من لم يألفه ويعترض عليه من لا شعور له به" (2) . ويؤيد ذلك قول أبى هريرة: "لو حدثتكم بكل ما فى جوفى لرميتمونى بالبعر" قال الحسن: راوى الحديث عن أبى هريرة: صدق والله … لو أخبرنا أن بيت الله يهدم أو يحرق ما صدقه الناس" (3) .

_ (1) أخرجه البخارى فى صحيحه كتاب العلم، باب حفظ العلم 1/261 رقم 120، وانظر: فتح البارى 1/272 رقم 127. (2) فتح البارى 1/262 رقم 120. (3) أخرجه بن سعد فى الطبقات الكبرى 4/57، 119.

ويؤيد أن الأحاديث المكتومة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها قوله رضي الله عنه: "إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة. ولولا آيتان فى كتاب الله ما حدثت حديثاً ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (1) . ... وأبو هريرة فى كل هذا، بل والصحابة أجمع، لا يكتمون علماً ينتفع به حتى ولو كان هذا العلم ليس فيه حكم شرعى. كيف! وهو رضي الله عنه الراوى لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه، إلا أتى به يوم القيامة مُلْجَماً بلجامٍ من النار" (2) .

_ (1) الآيتان 159، 160 من سورة البقرة، والحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب حفظ العلم 1/258 رقم 118. (2) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب العلم، باب كراهية منع العلم 3/321 رقم 3658، والترمذى فى سننه كتاب العلم، باب ما جاء فى كتمان العلم 5/29 رقم 2649، وقال أبو عيسى: حديث حسن، وأخرجه ابن ماجة فى سننه المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه1/98 رقم261، والحاكم فى المستدرك كتاب العلم 1/181 رقمى 344، 345، وقال صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى.

وهذا أبو ذر رضي الله عنه يقول: "لَوْ وَضَعْتُم الصَّمْصَامَة (1) على هَذِهِ (وأَشارَ إلى قَفَاهُ) ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنىِّ أُنفِذُ كَلَمةً سَمِعْتُها مِنَ النبىِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ تُجيزوا علىَّ لأَنْفَذْتُها" (2) . فالمراد بمنع التحديث هنا كما قال الحافظ ابن حجر فى ضابطه: "أن يكون ظاهر الحديث يقوى البدعة، وظاهره فى الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب (3) . وهذا يعنى أن من لا يخشى عليه ذلك يبلغونه خروجاً من إثم كتمان العلم. ويقول صاحب توجيه النظر: "إن المحدث يجب عليه أن يراعى حال من يحدثهم، فإذا كان فيما ثبت عنده ما لا تصل إليه أفهامهم وجب عليه ترك تحديثهم به دفعاً للضرر، فليس كل حديث يجب نشره لجميع الناس" (4) .

_ (1) الصَّمْصَامَةُ بمهملتين الأولى مفتوحة هو السيف الصَّارم الذى لا ينثنى، وقيل الذى له حد واحد، انظر: النهاية فى غريب الحديث والأثر3/52،والقاموس المحيط4/138،ومختار الصحاح ص370 (2) أخرجه البخارى معلقاً فى صحيحه (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب العمل قبل القول والعمل 1/192، وأخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب البلاغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليم السنن 1/146 رقم 545. (3) فتح البارى 1/272 رقم 127. (4) توجيه النظر ص 63.

.. وعلى هذا يحمل مرسل ابن أبى مليكه عن أبى بكر الصديق رضي الله عنه، فلو كان له أصل فكونه عقب الوفاة النبوية -كما جاء فى الرواية- يشعر بأنه يتعلق بأمر الخلافة، كأن الناس عقب البيعة بقوا يختلفون، يقول أحدهم: أبو بكر أَهْلُهَا؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال كيت وكيت، فيقول آخر: وفلان، قد قال له النبى صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، فَأَحَبَ أبو بكر صرفهم عن الخوض فى ذلك، وتوجيهم إلى القرآن وفيه قوله تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (1) . ... وما فعله الفاروق عمر رضي الله عنه وصار فيه على نهجه الصحابة رضي الله عنهم من المنع من التحديث والإكثار منه كان اتباعاً لمنهاج النبى صلى الله عليه وسلم القائل: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع"، وعلى الدرب صار أئمة المسلمين من التابعين فمن بعدهم. فعن ابن وهب قال: قال لى مالك: اعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع. ولا يكون إماماً أبداً، وهو يحدث بكل ما سمع" ونحوه روى عن عبد الرحمن بن مهدى (2) ، وغيره. بقى الكلام على حبس عمر رضي الله عنه لبعض الصحابة؛ وهل يكفى لحبسهم أنهم أكثروا من الرواية؟! وهل كان هذا من عمر طعناً منه فى الصحابة، وتكذيباً لهم كما زعم بعض غلاة الشيعة (3) ؟! الجواب:

_ (1) جزء من الآية 38 من سورة الشورى، وانظر: الأنوار الكاشفة للمعلمى ص 54. (2) الآثار السابقة أخرجها مسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب النهى عن الحديث بكل ما سمع 1/107 رقم 5. (3) كعلى الشهرستانى فى كتابه منع تدوين الحديث، استدل بمرسل ابن أبى مليكة على اتهام أبى بكر لجميع الصحابة بالكذب على رسول صلى الله عليه وسلم انظر: منع تدوين الحديث ص49، كما استدل بحديث قرظة على اتهام عمر أيضاً لجميع الصحابة بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظر: منع تدوين الحديث ص104،105.

أولاً: أما حبس عمر رضي الله عنه لبعض الصحابة فعلى فرض صحة الأثر، فليس المراد بالحبس أنه زج بهم فى السجن (وحاشاه من ذلك) ، وإنما المراد أنه رضي الله عنه استبقائهم فى المدينة حتى يتثبت من لفظهم ويشهد لذلك رواية الخطيب السابقة (لفظهم سواء) (1) أى أنه استبقاهم فى المدينة ليتثبت من لفظهم، ويؤيد ذلك أنهم لما قالوا له تنهانا؟ قال لا، أقيموا عندى، لا والله لا تفارقونى ما عشت، فنحن أعلم، نأخذ منكم، ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات" فمع إنكاره عليهم الإكثار لم يمنعهم منه، عندما قالوا له تنهانا؟ فأجاب لا، أقيموا عندى أى استبقاهم فى المدينة لماذا؟ ليس لمنعهم من الإكثار، وإنما كما قال "نأخذ منكم، ونرد عليكم" فالأمر إذن تثبت فى الحديث فكانوا كما جاء فى الأثر (لفظهم سواء) .

_ (1) هذه اللفظة ذكرها الخطيب كما سبق، ولم يذكرها على الشهرستانى، رغم أنه عزا الرواية إلى الخطيب فى شرف أصحاب الحديث، انظر: منع تدوين الحديث ص 186.

ومما يؤكد لنا أنه لم يزج بأحد فى السجن، ما جاء فى رواية الرَامَهُرْمُزِى من قول شيخه أبى عبد لله البرى قال: "يعنى منعهم الحديث، ولم يكن لعمر حبس" (1) وهذا على فرض صحة الأثر، وإلا فهو منقطع، لأنه من طريق إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ولم يسمع من عمر كما رجحه الهيثمى وأحمد محمد شاكر، وابن حزم وقال: "ثم هو فى نفسه ظاهر الكذب والتوليد، لأنه لا يخلوا عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفى هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث وعن تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وألزمهم كتمانها وجحدها وألاَّ يذكروها لأحد، فهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل هذا، ولئن كان سائر الصحابة متهمين فى الكذب على النبى صلى الله عليه وسلم فما عمر إلا واحد منهم، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلاً، ولئن كان حبسهم، وغيرهم متهمين لقد ظلمهم! فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أى الطريقتين الخبيثتين شاء، ولابد له من أحدهما. وإنما معنى نهى عمر رضي الله عنه من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو صح، فهو بَيْنٌ فى الحديث الذى أوردناه من طريق قرظة، وهو إنما نهى عن الحديث بالأخبار عمن سلف من الأمم، وعما أشبه. ... وأما نهى عن الحديث بالسنن عن النبى صلى الله عليه وسلم فهذا ما لا يحل لمسلم أن يظنه بمن دون عمر من عامة المسلمين، فكيف بعمر رضي الله عنه.

_ (1) المحدث الفاصل ص133، وانظر: السنة قبل التدوين ص 110.

ودليل ما قلنا أن عمر قد حدث بحديث كثير عن النبى صلى الله عليه وسلم. فإن كان الحديث عنه عليه السلام مكروهاً، فقد أخذ عمر من ذلك بأوفر نصيب، ولا يحل لمسلم أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه نهى عن شىء وفعله، لأنه قد روى عنه رضي الله عنه خمسمائة حديث ونيف، على قرب موته من موت النبى صلى الله عليه وسلم فصح أنه كثير الرواية، والحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم، وما فى الصحابة أكثر رواية عن النبىصلى الله عليه وسلممن عمر بن الخطاب إلا بضعة عشر منهم فقط.فصح أنه قد أكثر الرواية عن النبى صلى الله عليه وسلم، فصح بذلك التأويل الذى ذكرناه لكلامه رضي الله عنه " (1) أ. هـ.

_ (1) الإحكام لابن حزم 2/266، 267 بتصرف يسير، وانظر: الرد القويم على المجرم الأثيم للشيخ حمود بن عبد الله التويجرى ص 102 – 110.

.. قلت: وكيف يظن بعمر بنهيه عن الإكثار من الرواية ليتثبت فيها كما سبق، أنه يأمر بكتمان ما أنزل الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهو المعظم الموقر لسنة النبى صلى الله عليه وسلم الحاكم بها فى كل شأن من شئون حياته، وشئون رعيته (1) ، وهو القائل رضي الله عنه: "تعلموا الفرائض، واللحن والسنن، كما تعلمون القران" (2) ، وهو القائل أيضاً: "سيأتى ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله" (3) وهو القائل: "إياكم وأصحاب الرأى فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأى فضلوا وأضلوا" (4) . ... فصح بكل هذا أن عمر رضي الله عنه أَمَرَ بتعليم السنن، وبين أن أصحابها أعلم الناس بكتاب الله عز وجل، وفى المقابل أعداء السنن، وأجهل الناس بكتاب الله عز وجل هم أهل الرأى المذموم. فهل يصح بعد هذا القول بأن نهى عمر عن الإكثار من الرواية كتماناً للسنة أو أنه أراد ألا تكون السنة ديناً عاماً دائماً كالقرآن؟!! "سبحانك هذا بهتان عظيم. أو أنه رضي الله عنه كان يتهم الصحابة جميعاً بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بهذا متهماً لنفسه بأنه من أصحاب الرأى، ومتهماً لنفسه أيضاً بالكذب فما هو إلا واحد من الصحابة؛ وهذا قول لا يقوله مسلم أصلاً كما سبق من قول بن حزم.

_ (1) سبق تفصيل ذلك راجع إن شئت ص 301-304. (2) أخرجه الدارمى فى سنته كتاب الفرائض، باب فى تعليم الفرائض 2/441 رقم 2850، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/123. وسبق قول أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه لأهل البصرة "بعثنى إليكم عمر أعلمكم كتاب ربكم وسنتكم"، راجع ص 329. (3) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة 1/62 رقم 119، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/123، وابن حزم فى الإحكام 2/267. (4) سبق تخريجه ص 62.

الجواب عن شبهة: "النهى عن الإكثار من التحديث اتهام من أبى بكر وعمر

كما أنه لا يقول بواحد من الأمرين السابقين إلا الرافضة أمثال (مرتضى العسكرى (1) ومروان خليفات (2) ، وزكريا عباس (3) ، وعلى الشهرستانى، الذى مال إلى الأمرين معاً: أولهما: "إن الخليفة عمر قد أمر بكتمان ما أنزل الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فمنع من التحديث لكتمان ما ورد فى فضائل أهل البيت وما يدل على إمامتهم" (4) . ثانيهماً: أن الخليفة عمر بن الخطاب وكذا أبو بكر (5) ؛ كانا يتهما الصحابة جميعاً بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاب على الإمام ابن حزم، ومن تبعه من الأعلام قديماً وحديثاً أنهم لم يرتضوا بهذين الأمرين وقال: "لذلك اضطروا إلى حمل نهى عمر على النهى عن التحديث بأخبار الأمم السالفة، وهذا حمل تبرعى لم يدل عليه دليل من روايات منعه" (6) . ... وصدق الإمام الذهبى: "فوالله ما يغض من عمر إلا جاهل … أو رافضى فاجر، وأين مثل أبى حفص، فما دار الفلك على مثل شكل عمر، وهو الذى سن للمحدثين التثبت فى النقل" (7) ، إن دعوى أن نهى عمر عن الإكثار من الرواية أنه يتهم الصحابة جميعاً بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوى لا برهان لها، إلا فى كتب الروافض من غلاة الشيعة، ومن قال بقولهم من المستشرقين، ودعاة اللادينية الملحدة. الجواب عن شبهة: "النهى عن الإكثار من التحديث اتهام من أبى بكر وعمر -رضى الله عنهما-، للصحابة بالكذب:

_ (1) معالم المدرستين المجلد 2/44، 45، 64. (2) وركبت السفينة ص 107 - 146، 173 - 181. (3) تأملات فى الحديث ص 42 - 62. (4) منع تدوين الحديث على الشهرستانى ص 57، 64. (5) المصدر السابق ص 49. (6) المصدر نفسه ص 104، 105، وسبق الرد بما جاء فى رواية السائب بن يزيد. (7) تذكرة الحفاظ 1/6.

إن الصحابة جميعاً وعلى رأسهم عمر، كانوا أبعد الناس فى أن يشك بعضهم فى صدق بعض، والأدلة على هذا متوافرة جداً، فقد كان الصحابى إذا سمع من صحابى آخر حديثاً صدق به، ولم يخالجه الشك فى صدقه، وأسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما لو كان سمعه بنفسه، وعلى هذا اعتماد أئمة الحديث فى مرسل الصحابى (1) . ... يدل على ذلك ما روى عن عمر رضي الله عنه قال: "كنت أنا وجار لى من الأنصار فى بنى أمية بن زيد، وهى من عوالى المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً، وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحى وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك…" (2) ، ولو لم يكن سوى هذا الحديث لكفى فى رد هذه الشبهة، ولكن كما قلنا الأدلة على هذا متوافرة جداً. فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "ليس كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال، ولكن الناس كانوا لا يكذبون يومئذ فيحدث الشاهد الغائب (3) ، وأخرج الطبرانى عن حميد قال كنا مع أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضاً" (4) .

_ (1) انظر: تدريب الراوى1/207،وفتح المغيث للسخاوى1/170،171،وتوضيح الأفكار 1/317 (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب التناوب فى العلم 1/223 رقم 89. (3) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم، باب فضل توقير العالم 1/216 رقم 438 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى. (4) أخرجه الطبرانى فى الكبير1/246 رقم 699، وعزاه إليه الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد1/153، وقال: رجاله رجال الصحيح.

وعن عائشة –رضى الله عنها- قالت: "ما كان خلق أبغض إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الكذب (1) وعن الأعمش –رحمه الله- قال: "لقد أدركت قوماً، لو لم يتركوا الكذب إلا حياءً لتركوه" (2) . ... وأخيراً: يقول عمر لأبى موسى الأشعرى لما حدثه بحديث (الاستئذان ثلاثاً) ، وطلب منه البينة على ذلك (3) . قال: "أما إنى لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) . وفى رواية: "فقال عمر لأبى موسى والله إن كنت لأميناً على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحببت أن أستثبت، ونحوه فى رواية أبى بردة حين قال أبى بن كعب لعمر: "يا بن الخطاب فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت" (5) .

_ (1) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب البر والصلة، باب ما جاء فى الصدق والكذب 4/307 رقم1973 وقال: هذا حديث حسن، وأخرجه أحمد فى مسنده 6/152، وابن أبى الدنيا فى مكارم الأخلاق 112 رقم 139، 145، والحديث ذكره الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/142، وعزاه إلى أحمد، والبزار، وقال إسناده صحيح. (2) أخرجه ابن أبى الدنيا فى الصمت ص 263 رقم 544. (3) القصة فى صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان11/28 رقم6245، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الآداب، باب الاستئذان 7/387 رقم 2154. (4) أخرجه مالك فى الموطأ كتاب الاستئذان، باب الاستئذان2/734، 735 رقم 3 وروايته منقطعة. (5) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الآداب، باب الاستئذان 7/387 رقم 2154.

قال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون حضر عنده من قرب عهده بالإسلام فخشى أن يختلق الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الرغبة، والرهبة، طلباً للمخرج مما يدخل فيه، فأراد أن يعلمهم أن من فعل شيئاً من ذلك ينكر عليه حتى يأتى بالمخرج (1) ، وزاد غيره فأراد عمر سد هذا الباب وردع غير أبى موسى لا شكاً فى روايته، فإن من دونه إذا بلغته قصته، وكان فى قلبه مرض أو أراد وضع حديث خاف من مثل قضية أبى موسى، فالمراد غيره (2) . وفى ذلك يقول الخطيب البغدادى: "وفى تشديد عمر على الصحابة فى رواياتهم حفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترهيب لمن لم يكن من الصحابة أن يدخل فى السنن ما ليس منها، لأنه إذا رأى الصحابى المقبول القول، المشهود بصحبة النبى صلى الله عليه وسلم، قد شدد عليه فى روايته، كان هو أجدر أن يكون للرواية أهيب، ولما يلقى الشيطان فى النفس من تحسين الكذب أرهب" (3) . ... وفى القصة دليل على ما كان الصحابة عليه من القوة فى دين الله وقول الحق والرجوع إليه وقبوله، فإن أبياً رضي الله عنه أنكر على عمر تهديد أبى موسى، وخاطبه مع أنه الخليفة (بيا ابن الخطاب) أو يا عمر؛ لأن المقام مقام إنكار" (4) . وفى ذلك رد على الرافضة الطاعنين فى الصحابة ووصفهم بالجبن والتقية خوفاً من درة عمر أو مهابة له، وأنهم وافقوه فى النهى عن كتابة السنة والإكثار منها تقية منهم وجبناً" (5) .

_ (1) شرح الزرقانى على الموطأ 4/426، وفتح البارى 11/32 رقم 6245. (2) شرح الزرقانى على الموطأ 4/426. (3) شرف أصحاب الحديث للخطيب ص 163. (4) شرح الزرقانى على الموطأ 4/426، 427. (5) منع تدوين الحديث على الشهرستانى ص 28، 228، وقد تناقض فى إفكه هذا، ووصفهم بالشجاعة فى موضع آخر ص 254، 342.

.. وهكذا كانت ثقة الصحابة جميعاً وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون، ثقة لا يشوبها شك، ولا ريبة، لما يؤمنون به من تدينهم بالصدق، وأنه عندهم رأس الفضائل، وبه قام الإسلام، وساد أولئك الصفوة المختارة من أهله الأولين" (1) . ... وبالجملة: ما فعله كبار الصحابة وتبعهم فيه الصحابة أجمع، ومن بعدهم من النهى أو الامتناع عن الإكثار من التحديث، كان لوجوه وأسباب وردت صراحة فى الآثار الواردة عنهم، وكانوا فى كل سبب من تلك الأسباب مقتدين بسنة النبى صلى الله عليه وسلم، وهو ما حرصنا على تأكيده فيما سبق. فما فعلوه كان احتياطاً للدين كتاباً وسنة ورعاية لمصلحة المسلمين لا زهداً فى الحديث النبوى، ولا تعطيلاً له. ولا إخفاءً لأحاديث فضائل أهل البيت، وما يدل على إمامتهم كما تزعم الرافضة، فأحاديث فضائل أهل البيت، وما يدل على إمامتهم، وعظيم منزلتهم، مدونة فى سائر كتب السنة (فى كتب المناقب، وفضائل الصحابة) . فلا يجوز أن يفهم أو يتوهم من منهاج الصحابة، القائم على المنهاج النبوى ومن تشدد عمر خاصة هجر الصحابة للسنة أو زهدهم فيها لعدم حجيتها، أو أنهم أرادوا ألا يجعلوها ديناً عاماً دائماً كالقرآن، معاذ الله أن يقول بهذا أحد منهم. فلا يقول بهذا إلا جاهل مغرور، أو رافضى فاجر، لا علم له بقليل من السنة، ولم تخالط قلبه روح الصحابة، ولا أنار سبيله، قبس من هداهم.

_ (1) السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 263.

.. فقد ثبت عن الصحابة جميعاً تمسكهم بالحديث النبوى، وتعظيمهم، وتوقيرهم له، وتحكيمهم له فى كل شأن من شئون حياتهم، وزجرهم وهجرهم كل من لم يعظم قوله صلى الله عليه وسلم، وقد حرصوا على المحافظة على الحديث النبوى بكل وسيلة تفضى إلى ذلك، فكان لهم جميعاً الفضل الأول فى المحافظة على كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتميز منهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عن عمر، وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

ثانيا: شبهة التأخر فى تدوين السنة النبوية والرد عليها

ثانياً: شبهة التأخر فى تدوين السنة النبوية والرد عليها استعراض الشبهة وأصحابها: ... روى الإمام البخارى -رحمه الله- فى صحيحه تعليقاً، قال: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبى بكر بن حزم (1) ، "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإنى خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،، ولتفشو العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً" (2) .

_ (1) أبو بكر بن حزم هو: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى البخارى، اسمه وكنيته واحد، وقيل أنه يكنى أبا محمد، من سادات التابعين، ثقة عابد، مات سنة 120هـ. وقيل غير ذلك له ترجمة فى: مشاهير علماء الأمصار ص 100 رقم 544، وتقريب التهذيب 2/367 رقم 8017، والكاشف 2/412 رقم 6537، والثقات لابن حبان 5/561، والجرح والتعديل 9/337 رقم 1492. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم 1/234، والدارمى فى سننه المقدمة، باب من رخص فى كتابة العلم 1/137 رقمى 487، 488، والخطيب فى تقييد العلم 1/105، 106.

.. بهذه الرواية تعلق أعداء الإسلام من الرافضة، والمستشرقين، ودعاة اللادينية المتفرنجة، فقالوا: إن السنة لم تدون إلا فى مطلع القرن الثانى الهجرى، لأن أول من أمر بتدوينها هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو قد تولى الخلافة سنة 99هـ وتوفى سنة 101هـ (1)

_ (1) أضواء على السنة محمود أبو رية ص 260. ويتناقض أعداء السنة عن جهل تارة، وعن علم تضليلاً للقارئ تارة أخرى، وهم يؤرخون للتدوين الرسمى للسنة المطهرة. فنرى مصطفى المهدوى يقول: "إن الثابت أن الأحاديث لم تدون إلا بعد زمن بعيد من وفاته صلى الله عليه وسلم وعلى رأس المائة الثالثة من الهجرة بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز. وأين عمر من المائة الثالثة؟ انظر: البيان بالقرآن 1/25، ثم يتناقض ويكذب على أئمة المسلمين قائلاً: "يتفق جمهور الفقهاء على أن تدوين هذا التراث إنما بدأ فى أواسط القرن الثانى الهجرى" انظر: المصدر السابق 1/197. ويقول سعيد العشماوى: (غير أن الأحاديث لم تجمع إلا فى عصر التدوين فى العصر العباسى الأول، وفى النصف الثانى من العام الثانى الهجرى) انظر: حقيقة الحجاب وحجية الحديث ص81، 82، 84، وأيد العشماوى فى تأريخه السابق المستشار عبد الجواد ياسين فى كتابه السلطة فى الإسلام ص 237، 238، 277 وقال بذلك أيضاً أحمد صبحى منصور فى كتبه الحسبة ص 8، ولا ناسخ ولا منسوخ ص 10، وعذاب القبر ص 6، والصلاة فى القرآن 44، والقرآن والحديث والإسلام لرشاد خليفة ص 36، ويذهب محمود أبو رية إلى أن التدوين المعتمد لدى الجمهور لم يقع إلا حوالى منتصف القرن الثالث إلى القرن الرابع، انظر: أضواء على السنة ص 268، ويذهب قاسم أحمد إلى أنه تم جمع السنة بعد فترة تمتد من قرنين إلى أربعة قرون من= =وفاة النبى صلى الله عليه وسلم. انظر: إعادة تقييم الحديث ص 94، وانظر: نقد الخطاب الدينى نصر أبو زيد ص126، وشفاء الصدر بنفى عذاب القبر إسماعيل منصور 1/117، والأصلان العظيمان جمال البنا ص275، وضحى الإسلام لأحمد أمين 2/106/107. ويذهب إسماعيل منصور إلى التأريخ للتدوين، تارة بأنه فى سنة 250هـ، وتارة فى سنة 200هـ. انظر: تبصير الأمة بحقيقة السنة ص7،13، 111، 288، ويذهب محمد شحرور إلى التأريخ بسنة 250هـ. انظر: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 565، ويذهب أحمد صبحى منصور إلى التأريخ بالقرن الثالث الهجرى انظر: عذاب القبر ص6، ومجلة روزاليوسف العدد 3559 ص 48، ويذهب محمد حسين هيكل إلى التأريخ بعصر المأمون المتوفى سنة 218هـ. انظر: حياة محمد ص55، والدكتور على حسن عبد القادر يؤرخ بسنة 200هـ. انظر: نظرة عامة فى تاريخ الفقه ص119.

.. وهذه المدة الطويلة تكفى لأن يحصل فيها من التلاعب والفساد ما قد حصل (1) . ولذا حصل فى السنة التبديل والزيادة ككتب أهل الكتاب، لعدم كتابتها فى عهده صلى الله عليه وسلم، وعدم حصر الصحابة لها فى كتاب معين، وعدم تبليغها للناس بالتواتر، وعدم حفظهم لها جيداً فى صدروهم، حتى أباحوا نقلها بالمعنى، واختلفت الرواية عنهم لفظاً ومعنى (2) ، ولا يمكن بغير الكتابة أن يحصر ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم أو فعله فى ثلاثة وعشرين عاماً مما سهل على قوم أن يستبيحوا لأنفسهم وضع الحديث ونسبته كذباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .

_ (1) مجلة المنار المجلد 9/515، وأضواء على السنة 258، 259، ودفع الشبهات عن الشيخ الغزالى لأحمد حجازى السقا ص 80. (2) مجلة المنار المجلد 9/911، وأضواء على السنة ص 80، 259. (3) فجر الإسلام أحمد أمين ص210،211، وحقيقة الحجاب وحجية الحديث للعشماوى ص84، والأصلان العظيمان جمال البنا ص 268.

أما غلاة الشيعة: فيزعمون أنهم حفظة السنة وأساس تدوينها، والسبق إلى التدوين فضيلة لهم، فهم أساس بناء مدرسة التعبد المحض (1) . أما أهل السنة وفى مقدمتهم أبى بكر وعمر –رضى الله عنهما- فهم أساس مدرسة الاجتهاد والرأى، وهم الذين منعوا تدوين الأحاديث، وأضاعوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم (2) ، التى قاموا بتدوينها على رأس المائتين بعد انقراض دولة بنى أمية، وتحول الدولة إلى بنى العباس (3) . أما المستشرقون: فيتلخص موقفهم من السنة النبوية وتدوينها، فى موقف المستشرق اليهودى (جولدتسيهر) الذى ذهب إلى: "أن القسم الأكبر من الحديث ليس إلا نتيجة للتطور الدينى، والسياسى، والاجتماعى فى القرنين الأول، والثانى، وأنه ليس صحيحاً ما يقال من أنه وثيقة للإسلام فى عهده الأول، عهد الطفولة، ولكنه أثر من آثار جهود الإسلام فى عصر النضوج" (4) .

_ (1) انظر: الشيعة وفنون الإسلام حسن الصدر ص27، 28، والمطالعات والمراجعات والردود لمحمد الحسين آل كاشف ص 56، ومعالم المدرستين لمرتضى العسكرى المجلد 2/375، ومنع تدوين الحديث أسباب ونتائج لعلى الشهرستانى ص 76، 342، 397، 424، 442، 447، وتأملات فى الحديث عند السنة والشيعة لزكريا عباس داود ص42. (2) منع تدوين الحديث أسباب ونتائج لعلى الشهرستانى ص312، 339، 468، 504، وتأملات فى الحديث لزكريا عباس داود ص 70، وركبت السفينة لمروان خليفات ص 107 وبقول الرافضة، قال المستشرقون، انظر: منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 59. (3) تأسيس علوم الشيعة حسن الصدر 278، 279. (4) العقيدة والشريعة فى الإسلام جولدتسهير ص53، 251، وانظر: دارسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير، نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10/564.

.. وهذا الذى زعمه جولدتسيهر؛ اتخذه المستشرقون وذيولهم "إنجيلاً مقدساً"، ورددوه فى بحوثهم ودوائر معارفهم (1) . ... وكان هذا الزعم لدى (شاخت) (2) حجر الأساس له، ولكل باحث يريد التشكيك فى السنة النبوية المطهرة، فأكد ما قاله سلفه جولد تسهير وتجاوزه بزعمه: "أنه لا صحة لأى حديث منسوب للنبى صلى الله عليه وسلم، وأن المجموعة الأولى المعول عليها من الأحاديث النبوية التى تعرف بأحاديث الأحكام، قد نشأت فى منتصف القرن الثانى الهجرى تقريباً، وهو التاريخ الذى يحدد حسب رأيه، بداية فترة تدوين الأحاديث (3) .

_ (1) انظر: دائرة المعارف الإسلامية 2/570 - ترديد (ماكدونالد) مقولة جولدتسيهر، وكذا (كارل بروكلمان) فى تاريخ الشعوب الإسلامية ص 71، وانظر دراسة الكتب المقدسة للدكتور موريس بوكاى ص152،273. وانظر: مفهوم النص نصر أبو زيد وزعمه بأن النص (قرأناً وسنة) منتج ثقافى وأن ذلك بديهية لا تحتاج لإثبات. مفهوم النص ص23 - 24. (2) شاخت: هو جوزيف شاخت. مستشرق ألمانى. ولد عام 1902/ عمل محاضراً للدراسات الإسلامية فى عدد من الجامعات. كان من أعضاء المجمع العلمى العربى فى دمشق. وقد أشتهر بدراسة التشريع الإسلامى، قال الدكتور السباعى: (ألمانى متعصب ضد الإسلام والمسلمين) من مصنفاته: إعادة تقييم الحديث، وأصول الفقه المحمدى، والتطور الحديث للفقه الإسلامى بمصر، وغير ذلك، له ترجمة فى: المستشرقون الألمان تراجمهم وما أسهموا به فى الدراسات العربية جمع صلاح الدين المنجد 2/803 - 805، والاستشراق للدكتور السباعى ص38، والأعلام 8/234 وجوزيف شاخت بقلم: برنارد لويس ترجمة الأستاذ الصديق بشير، ويوسف شاخت حياته وأثاره بقلم: روبير برو نشفيج ترجمة الدكتور عبد الحكيم الأربد. نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 11/622-644. (3) أصول الفقه المحمدى ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبا العدد 11/652

.. وكانت نزعة الشك عند شاخت أكثر شدة منها عند جولدتسيهر، ويتضح هذا من "القاعدة المنهجية" التى تترتب، حسب رأيه، على استنتاجات جولدتسهير. وهى "قاعدة السكوت عن الحديث فى موطن الاحتجاج دليل على عدم وجوده" استخدم شاخت هذه القاعدة كثيراً ليثبت عدم وجود كثير من الأحاديث إبان فترة الإسلام الأولى. ويعبر عن ذلك بقوله: "إن أحسن طريق لإثبات عدم وجود حديث فى عهد معين، هو أن نظهر أن ذلك الحديث لم يستعمل كدليل فقهى فى نقاش يستوجب الاستدلال بذلك الحديث لو كان بالفعل موجوداً …" (1) . ... وهذا الذى زعمه شاخت فى كتابه (أصول الفقه المحمدى) أصبح "إنجيلاً ثانياً" لعالم الاستشراق حيث غير من نظرة سلفه جولدتسيهر التشكيكية فى صحة الأحاديث إلى نظرة متيقنة فى عدم صحتها بقوله: "إن المجموعة الأولى المعول عليها من الأحاديث النبوية التى تعرف بأحاديث الأحكام، قد نشأت فى منتصف القرن الثانى الهجرى تقريباً لمواجهة أقوال الصحابة وغيرهم" (2) . ويقول: "يكاد يكون من المستحيل توثيق أى من هذه الأحاديث فيما يتعلق بأمور التشريع الدينى" (3) .

_ (1) سنعود إلى بقية نص هذا الكلام عند نقد قاعدة شاخت. انظر: أصول الفقه المحمدى ص140 نقلاً عن نقد قاعدة شاخت للأستاذ ظفر إسحاق الأنصارى بحث قدم لمؤتمر السنة ومنهجها فى بناء المعرفة والحاضرة 2/589. (2) أصول الفقه المحمدى ترجمة الأستاذ الصديق بشير، نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 11/652. (3) مدخل إلى الشريعة لشاخت نقلاً عن نقد قاعدة شاخت للأستاذ ظفر الأنصارى، انظر: مؤتمر السنة ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة 2/589.

الجواب عن شبهة التأخر فى تدوين السنة النبوية:

.. ولقد ترك كتابه هذا أثراً عميقاً فى تفكير دارسى الحضارة الإسلامية، حتى تنبأ البرفسور جب قائلاً: "أنه - يعنى كتاب شاخت سيكون فى المستقبل أساساً لكافة الدراسات عن الحضارة الإسلامية والتشريع، وعلى الأقل فى الغرب" (1) . ... وعن خطورة هذا الكتاب ومكانته عند المستشرقين يقول الأستاذ الصديق بشير: "وليس من قبيل المبالغة إذا قلت إن كل من كتب بعده من المستشرقين فى هذا الحقل المعرفى هم عيال عليه، وحسبك أنه لا تكاد توجد جامعة من جامعات الغرب لها اعتناء بالدراسات الإسلامية إلا ونجد هذا الكتاب مقرراً على طلابها" (2) أ. هـ. الجواب عن شبهة التأخر فى تدوين السنة النبوية: ... بادئ ذى بدء - نحن نجزم بصحة هذه الرواية التى صدرنا بها البحث، وهى التى تفيد أن عمر بن عبد العزيز؛ هو أول من أمر بتدوين السنة، نجزم بصحتها لأنها وردت فى أوثق مصادرنا، وأصحها بعد كتابه تعالى، ألا وهو صحيح البخارى، ولكننا نهدف من وراء هذا البحث إلى إثبات حقائق هامة وهى: 1- الحقيقة الأولى: أن الكثيرين خلطوا بين النهى عن كتابة السنة، وبين تدوينها حيث فهموا خطاً أن التدوين هو الكتابة، وعليه فإن السنة النبوية - ظلت محفوظة فى الصدور لم تكتب إلا فى نهاية القرن الأول الهجرى فى عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز-رحمه الله-

_ (1) دارسات فى الحديث النبوى للدكتور محمد الأعظمى المقدمة. (2) مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 11/646 بحث الأستاذ الصديق بشير (أصول الفقه المحمدى فى كتابات الغربيين)

الكتابة، والتدوين، والتصنيف فى اللغة:

.. ولو أن المعاصرين فهموا حقيقة الكتابة، وحقيقة التدوين، وأدركوا الفرق بينهما، لما تعارضت النصوص فى فهمهم، ولما صح تشكيك أعداء الإسلام فى السنة النبوية بدعوى تأخر تدوينها مدعين أنه دخلها الزيف، لأن العلم الذى يظل قرناً دون تسجيل لابد وأن يعتريه تغيير ويدخله التحريف، فإن الذهن يغفل والذاكرة تنسى، أما القلم فهو حصن آمان لما يدون به (1) . الكتابة، والتدوين، والتصنيف فى اللغة: ... وهذا تعريف موجز للكتابة والتدوين والتصنيف: يتضح منه الفرق بين الكتابة والتدوين: أ- الكتابة: قال فى اللسان:"كتب الشئ كتباً، وكتاباً، وكتابة، وكتبه خطه" فكتابة الشىء خطه (2) . ب- التدوين: قال فى اللسان: "والديوان مجتمع الصحف" (3) . وقال فى تاج العروس: "وقد دونه تدويناً جمعه. وعليه فالتدوين هو جمع الصحف المشتتة فى ديوان ليحفظها (4) . ج- التصنيف: قال فى اللسان: والتصنيف: تمييز الأشياء بعضها من بعض، وصنف الشئ ميز بعضه من بعض. وتصنيف الشئ جعله أصنافاً. وعليه فالتصنيف تمييز الجزئيات، كأن يميز المصنف الصواب من الخطأ، أو الأهم من المهم" (5) . ... ومن هذه التعاريف: يتضح لنا أن الكتابة غير التدوين، فالكتابة مطلق خط الشئ، دون مراعاة لجمع الصحف المكتوبة فى إطار يجمعها، أما التدوين فمرحلة تالية للكتابة ويكون بجمع الصحف المكتوبة فى ديوان يحفظها" (6) .

_ (1) انظر: السنة النبوية.مكانتها.عوامل بقائها.تدوينها.لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد المهدى عبد القادر 94-96، وانظر: تصدير الدكتور يوسف العش فى تقييد العلم للخطيب البغدادى ص7، 8. (2) لسان العرب 1/698، وانظر: القاموس المحيط 1/120، ومختار الصحاح ص 562. (3) لسان العرب 13/166. (4) تاج العروس 9/204. (5) لسان العرب 9/198. (6) السنة النبوية مكانتها للأستاذ الدكتور عبد المهدى عبد القادر ص 97.

أما التصنيف؛ فهو أدق من التدوين، فهو ترتيب ما دون فى فصول محدودة، وأبواب مميزة (1) . وعلى ذلك فقول الأئمة إن السنة دونت فى نهاية القرن الأول لا يفيد أنها لم تكتب طيلة هذا القرن، بل يفيد: أنها كانت مكتوبة لكنها لم تصل لدرجة التدوين وهو: جمع الصحف فى دفتر. وما فهمه المعاصرون، من أن التدوين هو الكتابة، فهو خطأ منشأه عدم التمييز بين الكتابة والتدوين (2) . وبالتالى فالمقولة "أول من دون العلم ابن شهاب الزهرى" (3) تم ترجمتها خطأ بمعنى: أول من كتب العلم (الحديث) كان ابن شهاب الزهرى، وانطلاقاً من هذا التفسير الخاطئ انبثقت نظرية أن كتابة الحديث بدأت متأخرة للغاية حتى عصر الزهرى فى نهاية القرن الأول، أو بداية القرن، الثانى الهجرى، … ولهذا فالمقولة السابقة يجب تفسيرها على أساس أن أول من دون أو صنف المجموعات المكتوبة من الأحاديث كان ابن شهاب الزهرى" (4) .

_ (1) انظر: تصدير الدكتور يوسف العش فى تقييد العلم ص 8، وانظر: دلائل التوثيق المبكر للسنة للدكتور امتياز أحمد ص 283، 284. (2) السنة النبوية. مكانتها. للأستاذ الدكتور عبد المهدى عبد القادر ص97. (3) ابن شهاب الزهرى: هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهرى، القرشى، أبو بكر، الفقيه الحافظ، متفق على جلالته واتقانه. مات سنة 125هـ وقيل قبل ذلك. له ترجمة فى: تقريب التهذيب2/133رقم 6315، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 49،50 رقم95، والكاشف 2/219 رقم 5152، وتذكرة الحفاظ 1/108 رقم 97، والثقات للعجلى ص412 رقم 1500، والثقات لابن حبان 5/351، والجرح والتعديل 8/71 رقم 318، ومشاهير علماء الأمصار ص 87 رقم 444، والثقات لابن شاهين ص276 رقم 1137. (4) انظر: دلائل التوثيق المبكر للسنة للدكتور امتياز أحمد ص 281، وانظر: شفاء الصدور فى تاريخ السنة ومناهج المحدثين للدكتور السيد محمد نوح ص108، 109

.. والمتتبع لكلام الأئمة السابقين يتضح له أنه كان معلوماً لديهم الفرق بين الكتابة والتدوين، وهم يؤرخون لتدوين السنة حيث كان مدار حديثهم على التدوين، وليس فى حديثهم شئ يتعلق بالكتابة، كقول الحافظ ابن حجر: "وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهرى على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير" (1) وقال أيضاً: "اعلم، علمنى الله وإياك أن آثار النبى صلى الله عليه وسلم لم تكن فى عصر الصحابة، وكبار تابعيهم مدونة فى الجوامع ولا مرتبة (2) أ. هـ. 2- الحقيقة الثانية: أن عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – حينما أمر بتدوين السنة لم يبدأ ذلك من فراغ، ولكنه اعتمد على أصول مكتوبة كانت تملأ أرجاء العالم الإسلامى كله، من خلال روح علمية نشطة، أشعلها الإسلام فى أتباعه، فأصبحوا يتقربون إلى الله تعالى بأن يزدادوا فى كل يوم علما، وخير العلوم–قطعاً– ما كان متعلقاً بالقران والسنة. وحينما نثبت أن تدوين السنة قام على أساس المكتوب فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم، وبإذن منه صلى الله عليه وسلم شخصياً، فإننا لن نتعسف الأدلة أبداً وصولاً إلى تلك الغاية؛ لأننا لن نقول فى هذا الشأن قولاً إلا ونشفعه بالدليل القوى المستمد من أوثق المصادر وآكدها وأصحها.

_ (1) فتح البارى 1/251 رقم 113، وانظر 1/235 رقم 100، وانظر: جامع بيان العلم لابن عبد البر 1/73، وتذكرة الحفاظ للذهبى 1/160، وشرح الزرقانى على الموطأ 1/14، والسنة النبوية. مكانتها. للدكتور عبد المهدى ص 94، 98. (2) هدى السارى ص 8.

نماذج من أشهر ما كتب من السنة النبوية فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم

كما نحب أن ننبه إلى أننا لسنا أبداً أول من قال بهذا القول، وإنما القول بأن السنة قد بدأت كتابتها منذ عصر النبى صلى الله عليه وسلم إلى زمن تدوينها تدويناً رسمياً أصبح حقيقة علمية مؤكدة ثبتت بالبراهين القطعية، وتضافرت على إثبات هذه الحقيقة الساطعة أقوال جملة من الباحثين الثقات الأثبات (1) . كالدكتور محمد عجاج الخطيب فى كتابه "السنة قبل التدوين" والدكتور محمد مصطفى الأعظمى فى كتابة: "دراسات فى الحديث النبوى"، والدكتور امتياز أحمد فى كتابه: "دلائل التوثيق المبكر للسنة والحديث"، والدكتور رفعت فوزى عبد المطلب فى كتابه: "توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى أسسه واتجاهاته) وغيرهم. نماذج من أشهر ما كتب من السنة النبوية فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم وبعده إلى زمن التدوين الرسمى: 1- ما ورد عن أبى هريرة رضي الله عنه: أنه لما فتح الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب فى الناس، فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاة فقال: يا رسول الله اكتبوا لى، فقال: اكتبوا له" (2) .

_ (1) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير للدكتور مروان شاهين ص 68 بتصرف. (2) الحديث بطوله ونص الخطبة فى صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب كتابة العلم 1/248 رقم 112.

2- وأيضاً كتابه صلى الله عليه وسلم فى الصدقات والديات والفرائض والسنن، الذى أرسله إلى عمرو بن حزم (1) ، حين بعثه إلى اليمن، أخرجه النسائى، وأبو عبيد القاسم فى الأموال (2) . 3- وَكَتَبَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنس بن مالك رضي الله عنه فرائض الصدقة، الذى سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى البحرين" (3) .

_ (1) هو: عمرو بن حزم بن عبد عوف الأنصارى الخزرجى، ثم البخارى، كنيته أبو الضحاك، وأول مشاهده الخندق. وهو ابن خمس عشرة سنة، واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل نجران سنة 10هـ بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد، فأسلموا، وكتب له كتاباً فيه الفرائض، والسنن، والصدقات، والديات. انظر: الاستيعاب 3/1173، وتخريج الدلالات السميعة على ما كان فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية ص 67، مات بالمدينة سنة 51، وقيل: 53، وقيل: 54هـ. له ترجمة فى: الإصابة2/532 رقم 5810، واسد الغابة 4/202 رقم 3905، والاستيعاب 3/1172 رقم 1907، وتجريد أسماء الصحابة1/404،وتاريخ الصحابة ص174رقم 886،ومشاهير علماء الأمصار ص30رقم96. (2) النسائى فى سننه كتاب القسامة، باب ذكر حديث عمرو بن حزم فى العقول واختلاف الناقلين له 8/57 رقم 4853-4859، والأموال ص 358-362، وانظر: دلائل التوثيق المبكر للسنة ص368 وما بعدها. ذكر كثير من الكتابات والصحف التى كتبت فى عهده صلى الله عليه وسلم، وانظر: "مكاتيب الرسول" للأستاذ على الأحمدى جمع فيه مؤلفه كتب الرسول وصحفه ورسائله التى بكتب الحديث والسيرة. (3) الحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الزكاة، باب العرض فى الزكاة 3/365 رقم 1448، وفى باب زكاة الغنم 3/371 رقم 1454 بتمامة، وفى غير هذين الموضعين. وانظر: دراسات فى الحديث النبوى للدكتور محمد الأعظمى 1/93.

4- وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عتبة بن فرقد (1) بأذربيجان كتاباً فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام" (2) . ... ومع أن الفاروق عمر كان يوصف بأنه واحد من أشد المعارضين لكتابة الحديث، ومنع تدوينها كما يزعم غلاة الشيعة، إلا أننا على العكس نراه أول متثبت لكتابة الأحاديث بهمِّه بتدوين السنة المطهرة. فكان أول مقترح بتدوينها حفاظاً لها كما كان أول مقترح بتدوين القرآن الكريم تدويناً عاماً فى مكان واحد حفاظاً لكتاب الله عز وجل زمن أبو بكر الصديق رضي الله عنه ففى همِّه بكتابة السنة - ليس مجرد الكتابة -فهى كانت مكتوبة- وإنما المراد بالكتابة تدوينها تدويناً عاماً فى مكان واحد. وهذا الهمُّ بالتدوين فيه أبلغ حجة وأبلغ رد على غلاة الشيعة الزاعمين أن أهل السنة، وفى مقدمتهم أبى بكر وعمر-رضى الله عنهما-، كانوا من أنصار منع تدوين السنة. وهذا يكذبه الواقع، فعمر رضي الله عنه عندما همَّ بتدوين السنة استشار فى ذلك أهل الحل والعقد فلم يتردد واحد منهم فى الموافقة كما جاء فى الأثر: "فأشاروا عليه بأن يكتبها" (3) فإذا كان الأمر كما يزعمون فلماذا يَهِّمُ عمر رضي الله عنه إذن بالتدوين؟ وعلام وافقوه كلهم على هذا؟ ألا يدل هذا الهمّ والموافقة على حجية السنة عندهم كما سبق (4) .

_ (1) عبتة بن فرقد صحابى جليل له ترجمة فى الإصابة 2/455 رقم 5412، وتجريد أسماء الصحابة 1/371، وتاريخ الصحابة لابن حبان ص 187 رقم 979، واسد الغابة 3/561 رقم 3557 (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب اللباس، باب لبس الحرير للرجال، وقدر ما يجوز منه 10/295 رقم 5828. (3) سبق تخريجه ص 264، 265. (4) راجع: ما سبق فى الجواب عن شبهة النهى عن كتابة السنة ص 298، 299، وانظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 455.

ويدل على أنهم من أنصار تدوين السنة المطهرة، وحفظتها رغم أنف الرافضة! ولا يمكن أن نستنتج من همِّ عمر بالتدوين ثم عدوله عنه أنه لم يكن راغباً فى تدوين الأحاديث فى كتب أو أن التدوين منهى عنه، كلاَّ، إذ كيف يصح أن يهم بشئ منهى عنه ويوافقه عليه الصحابة أجمع؟ وكيف يرفض تدوين السنة فى حين أنه كتب إلى عُمَّاله كتاباً كما مر فى كتابه إلى عتبة بن فرقد رضي الله عنه؟ وهو القائل "قيدوا العلم بالكتاب" (1) ، وهو الجامع الوثائق الخاصة بالزكاة والخراج والمسائل المالية الأخرى (2) ، وهو نفسه الذى أدخل نظام الدواوين فى الأعمال الرسمية (3) . ... كل هذه الحقائق تدحض دعوى الرافضة - الذين امتلأت قلوبهم حقداً وبغضاً على الفاروق عمر رضي الله عنه، وزعمهم أنه تزعم دعوى منع تدوين السنة، وصار على دربه الصحابة فمن بعدهم من التابعين وسائر أئمة أهل السنة.

_ (1) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم 1/187، 188 رقمى 359، 360 وقال: صحيح من قول عمر، وقد أسند من وجه غير معتمد، ووافقه الذهبى وقال وصح مثله من قول أنس رضي الله عنه. وانظر: جامع بيان العلم 1/72، وتقييد العلم 87، 88، وكشف اللثام عن أسرار تخريج أحاديث سيد الأنام للأستاذ الدكتور عبد الموجود 1/108-110. (2) سنن أبى داود كتاب الزكاة، باب فى زكاة السائمة 2/98 - 99 رقم 1570 والأموال للقاسم بن سلام ص 367 رقم 934. (3) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 3/203، وانظر: دلائل التوثيق المبكر للسنة للدكتور امتياز أحمد ص 198.

نعم إن السنة لم تدون فى عهد ابن الحطاب لأن التدوين منهى عنه، بل لعلة أساسية هى: إبعاد الأمة الإسلامية عن الخطأ الأثيم الذى ارتكبه أهل الكتاب من قبل بتبديل كتاب الله التوراة، والإنجيل بوصايا الرسل وجعلوها هى الكتب المنزَّلة (1) . كذلك حفاظاً على كتاب الله عز وجل والتمكين له أولاً فى قلوب المؤمنين كما مر فى وصيته لقرظة بن كعب رضي الله عنه وهو متوجه إلى الكوفة. ... لهذا خشى أن تدون السنة فينكب عليها المسلمون، ويتشاغلوا بها عن القرآن الكريم فيتشبهون بأهل الكتاب كما قال "ثم تذكرت فإذا أناس من أهل الكتاب من قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنى والله لا ألبس كتاب الله بشئ" (2) . ... من أجل هذا فهو يمتنع عن التدوين بعد أن استشار، وظل يستخير ربه شهراً كاملاً. يقول فضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى "وكان الصواب ما رأى عمر، فالعصر عصر صحابة للنبى صلى الله عليه وسلم لا عصر تابعين، وهم أشبه ما يكون بحوارى عيسى عليه السلام، ولنا فى أهل الكتاب تجربة حين سجل أصحاب النبى عيسى عليه السلام ما سمعوه وما رأوه، نسبت الأناجيل إليهم لا إلى عيسى ولا إلى الله، … فكان الحذر والحيطة من عمر رضي الله عنه بالعدول عن التدوين، إذ لو فعل لم يأمن أن تتعدد كتب السنة بتعدد قائليها، وتتنوع بتنوع أسماء كاتبيها، فتكون أناجيل فى الأمة، ويهمل الكتاب الأصلى الذى هو درة التاج وقلادة العقد لمن هذه البصيرة النافذة إن لم تكن لعمر بعد النبى صلى الله عليه وسلم؟ ولمن هذا القول الفصل إن لم يكن للفاروق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ولمن هذا الحرص الشديد إن لم يكن لهذا الغيور على دينه؟

_ (1) السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للأستاذ الدكتور رءوف شلبى ص 170، 171، وقارن بحجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 456، 457. (2) سبق تخريجه ص265.

فياليت قومى يعلمون (1) أ. هـ. وعودة إلى أشهر ما كتب من السنة فى زمن النبوة وبعده إلى زمن التدوين الرسمى 5- الصحيفة الصادقة التى كتبها جامعها عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم تصل هذه الصحيفة كما كتبها عبد الله بن عمرو بخطه فقد وصل إلينا محتواها، لأنها محفوظة فى مسند الإمام أحمد (2) ، حتى ليصح أن نصفها بأنها أصدق وثيقة تاريخية تثبت كتابة الحديث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزيدنا اطمئناناً إلى صحة هذه الوثيقة أنها كانت نتيجة طبيعة محتومة لفتوى النبى صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو، عندما أتى إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقال: "كنت أكتب كل شئ أسمعه منك أريد حفظه فنهتنى قريش وقالوا: أتكتب كل شئ تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم فى الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتابة، (هنا يفتى النبى صلى الله عليه وسلم) فأومأ بأصبعه إلى فيه وقال: "اكتب، فوالذى نفسى بيده ما يخرج منه إلاَّ حق" (3) . ... وآية اشتغال ابن عمرو بكتابة هذه الصحيفة وسواها من الصحف قول أبى هريرة رضي الله عنه: "ما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه منى إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب" (4) .

_ (1) السنة فى مواجهة أعدائها ص 243، 244. (2) انظر: مسند عبد الله بن عمرو فى مسند أحمد 2/158 - 226. (3) أخرجه أبو داود فى سنته كتاب العلم باب فى كتاب العلم 3/318 رقم 3646. (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب كتابة العلم 1/249 رقم 113.

وهذا لا يعارضه ما روى أن أبى هريرة رضي الله عنه كان يكتب، فعن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمرى (1) قال: "تحدثت عن أبى هريرة بحديث فأنكره فقلت إنى سمعته منك، فقال: إن كنت سمعته منى فهو مكتوب عندى، فأخذ بيدى إلى بيته فأرانا كتباً كثيرة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد ذلك الحديث، فقال: قد أخبرتك أنى إن كنت حدثتك به فهو مكتوب عندى" (2) . ... ويمكن الجمع بين ذلك بأنه لم يكن يكتب فى العهد النبوى ثم كتب بعده. قال الحافظ ابن حجر: قلت: وأقوى من ذلك أنه لا يلزم من وجود الحديث مكتوباً عنده أن يكون بخطه، وقد ثبت أنه لم يكن يكتب، فتعينَّ أن المكتوب عنده بغير خطه" (3) .

_ (1) الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمرى المدنى، نزيل مصر، تابعى، صدوق روى عن أبى هريرة، وابن عمر، وعنه، عبيد الله بن أبى جعفر، وابن إسحاق، والمصريون. مات بالإسكندرية. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/10 رقم 5416، والكاشف 2/121 رقم4462، والثقات للعجلى ص 383 رقم 1350، والثقات لابن حبان 5/296. (2) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة الدوسى رضي الله عنه 3/584 رقم 6169، وسكت عنه الحاكم وقال الذهبى: هذا منكر لم يصح، وأخرجه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم 1/74. (3) فتح البارى 1/250 رقم 13.

6- والصحيفة الصحيحة التى كتبها همام بن منبه (1) ، زوج ابنة أبى هريرة رضي الله عنه كتبها أمام أبى هريرة، ولهذه الصحيفة مكانة خاصة فى تدوين الحديث، لأنها وصلت إلينا كاملة سالمة كما رواها ودونها همَّام بن منبه عن أبى هريرة، فكانت جديرة باسم "الصحيفة الصحيحة" (2) على مثال "الصحيفة الصادقة" لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد سبقت الإشارة إليها. ونحب أن ننبه أن مصطلح "صحيفة وكتاب وجزء ونسخة … إلخ لا يعنى بالضرورة "مجموعات صغيرة أو مذكرة عن الحديث" كما كان يعتقد أحياناً وهذا ما أكد صحته الدكتور امتياز أحمد فى كتابه "دلائل التوثيق المبكر للسنة" (3) . ... وهذه الكتابات السابقة وغيرها الكثير (4) ؛ تقطع بكتابة السنة المطهرة فى عصر النبوة والصحابة والتابعين (5) .

_ (1) همام بن منبه هو: ابن كامل الصنعانى، أبو عتبة، أخو وهب. روى عن أبى هريرة، ومعاوية، وعنه ابن أخيه عقيل بن معقل، ومعمر، متفق على توثيقه. مات سنة 132هـ على الصحيح. له ترجمة فى تقريب التهذيب 2/270 رقم 7343، والكاشف 2/339 رقم 5984، والثقات للعجلى ص 461 رقم 1750، والثقات لابن شاهين ص 344 رقم 1471. (2) وهذه الصحيفة أخرجها الإمام أحمد بنصها فى مسنده 2/312 - 319، وقد طبعت عدة مرات بتحقيق الدكتور محمد حميد الله. انظر: السنة النبوية. مكانتها. لفضيلة الدكتور عبد المهدى ص 119، وعلوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص 32. (3) ص 148، 158، 161. (4) انظر: دراسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 1/84 - 142، ودلائل التوثيق المبكر للسنة للدكتور امتياز ص 463 - 590. (5) وفى تلك الكتابات رد على الأستاذ محمد رشيد رضا، ومن تابعه كمحمود أبو رية، والسيد صالح أبو بكر (فى أن الصحابة لم يكتبوا، وعدم كتابتهم دليل على أنهم لم يريدوا أن تكون السنة ديناً عاماً دائماً كالقرآن. وسبق تفصيل الرد على ذلك ص 298-306.

وتؤكد ما سبق وأن ذكرناه فى التوفيق بين النهى عن كتابة السنة والإذن بكتابتها، وهو أن النهى دائر مع الخوف من علة النهى التى سبق تفصيلها، والإذن دائر مع الأمن منها (1) ... وهذا يؤكده أيضاً أن كل من نُقل عنه (أى من الصحابة والتابعين) النهى عن كتابة السنة فقد نُقل عنه عكس ذلك أيضاً (2) ، ما عدا شخصاً أو شخصين، وقد ثبتت كتابتهم أو الكتابة عنهم، وبذلك صرح الدكتور محمد مصطفى الأعظمى (3) ، وأكده باستفاضة فى كتابه (دراسات فى الحديث النبوى) حيث عقد الفصل الأول من الباب الرابع لبيان كتابة الصحابة ومن كتب عنهم فى حياتهم (4) ، والفصل الثانى فى "كتابة كبار التابعين، ومن كتب عنهم فى حياتهم (5) حتى زمن التدوين الرسمى فى عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، بل وبعد زمنه أيضاً (6) ... كل ذلك يؤكد الحقائق التى سبق ذكرها من الفرق بين الكتابة، والتدوين وأن عمر بن عبد العزيز حينما أمر بالتدوين الرسمى للسنة لم يبدأ من فراغ ولكنه اعتمد على أصول الكتابات - التى سبق ذكر بعضها وكانت تملأ أرجاء العالم الإسلامى.

_ (1) راجع: علة النهى عن كتابة السنة ص 281، 288، 291، 292. (2) بل والندم على عدم الكتابة، كما روى عن عروة بن الزبير رضي الله عنه إذ يقول: "كتبت الحديث ثم محوته، فوددت أنى فديته بمالى وولدى وأنى لم امحه". أخرجه الخطيب فى تقييد العلم ص 60. (3) انظر: دراسات فى الحديث النبوى 1/76. (4) انظر: المصدر السابق 1/92-142. (5) انظر: دراسات فى الحديث النبوى 1/143 - 167. (6) انظر: دراسات فى الحديث النبوى 1/168 - 325. فأين كل هذا مما زعمه الدكتور موريس بوكاى من أنه ليس هناك أية مجموعة أحاديث قد ثبتت نصوصها فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم. انظر: دراسة الكتب المقدسة ص 152.

نقد قاعدة شاخت:

وفى ذلك رد على الصنم الأكبر للمستشرقين (جولدتسيهر) ومن تابعه من بنى جنسه، وغيرهم من المفتونين بهم من أدعياء العلم: "من أنه ليس صحيحاً ما يقال أن الحديث وثيقة للإسلام فى عهده الأول.. إلخ" (1) . نقد قاعدة شاخت: ... وأبلغ رد على "جوزيف شاخت" فى أنه لا صحة لأى حديث منسوب للنبى صلى الله عليه وسلم فى أحاديث الأحكام، وأن المجموعة الأولى من أحاديث الأحكام، قد نشأت فى منتصف القرن الثانى الهجرى. أبلغ رد عليه فى ذلك ما سبق ذكره من كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى واليه (عمرو بن حزم رضي الله عنه) والكتاب فى الصدقات، والديات، والفرائض، والسنن، أليس هذا الكتاب فى الأحكام الفقهية التى يشكك فيها شاخت؟ ... وكذلك كتاب عمر إلى عامله عتبة بن فرقد بالنهى عن الحرير، وكتابه فى الزكاة، والخراج، والمسائل المالية الأخرى. وكتاب أبى بكر لعامله أنس بن مالك لما وجهه إلى البحرين. أليس ذلك وغيره مما ذكرناه، من أحاديث الأحكام الفقهية التى يزعم "شاخت" ومن صار على دربه أنها نشأت فى منتصف القرن الثانى الهجرى؟!

_ (1) للاستزادة فى الرد على هذه الشبهة انظر: الحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 302، 303، والسنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 195 -197، والسنة قبل التدوين للدكتور عجاج ص249،ومنهج النقد فى علوم الحديث للدكتور نور الدين عتر ص463-466

.. ويقول الدكتور ظفر إسحاق الأنصارى (1) فى نقد قاعدة شاخت: "إن قراءة عابرة لكتاب (أصول الفقه المحمدى) لجوزيف شاخت توضح أن قاعدته فى البحث واستدلالاته سطحيان للغاية فقاعدته (المنهجية المزعومة) القائمة على إنكار وجود خبر أو أثر بناء على سكوت المصادر عنه، وهو ما يقوم عليه موقف شاخت من إنكار توثيق الأحاديث بصفة عامة. فقوله: "إن حديثاً ما سيعد غير موجود فى وقت من الأوقات إذا لم يحتج بذلك الحديث فى مواطن الخلاف حيث يكون الاستدلال به أمراً لازماً" (2) . ... إنَّ التجاء شاخت إلى هذه الحجة بدا كأنه يوحى بأن علماء المسلمين فى القرون الأولى كانوا فى حالة (نقاش وجدل) مستمر، وهو افتراض يرفضه العقل السليم بداهة ولا تسلم لشاخت قاعدته إلا إذا سلمنا بالافتراضات الآتية: 1- أنه كلما ذكرت الأحكام الشرعية فى القرون الأولى من الهجرة المباركة ذكرت معها أدلتها المؤيدة، ولا سيما الأحاديث. 2- أن الأحاديث المعروفة لفقيه ما (أو محدث) ينبغى أن تعرض بالضرورة عند كل فقهاء عصره ومحدثيه فى زمنه. 3- أن جميع الأحاديث التى (نشرت) فى عهد معين، قد دونت تدويناً كاملاً، وصارت مشهورة على نطاق واسع، وأصبحت محفوظة تماماً، بحيث أننا إذا لم نجد حديثاً فى كتاب من كتب أحد العلماء المعروفين فهذا يعنى بالضرورة، عدم وجود ذلك الحديث فى عهده، سواء فى منطقته أو فى سائر أنحاء العالم الإسلامى آنذاك. ... ولا يسلم واحد من هذه الافتراضات مع الشهادات التاريخية والحقائق المعروفة فى تلك القرون الأولى.

_ (1) مدير مركز البحوث الإسلامية - بالجامعة الإسلامية - إسلام آباد - باكستان. (2) أصول الفقه المحمدى ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد11/698

أولاً: لأن من المصنَّفات المتقدمة مدون فيها أحكام فقهية مستنبطة من آيات القرآن الكريم، ومن أحاديث نبوية دون أى إشارة إلى تلك الآيات أو الأحاديث حيث كان أولئك المؤلفون يكتفون بتسجيل آراء مذاهبهم، ولم يهتموا بالضرورة، ببيان الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة رضي الله عنهم لتأييد تلك الآراء، هذا إذا كان عنده علم بها، وقد يكون سبب عدم ذكره للحديث عدم بلوغه وعلمه به أو لأنه لم يثبت عنده، أو لمعارضة الحديث لما هو أقوى منه سنداً أو دلالة، كالإمام مالك -رحمه الله- فى تقديمه عمل أهل المدينة على خبر الواحد. ثانياً: "إن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأمة، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يحدث، أو يفتى أو يقضى، أو يفعل الشئ، فيسمعه أو يراه من يكون حاضراً، ويبلغه أولئك - أو بعضهم - لمن يبلغونه، فينتهى علم ذلك إلى من شاء الله تعالى من العلماء، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ثم فى مجلس آخر قد يحدث، أو يفتى، أو يقضى، أو يفعل شيئاً، ويشهده بعض من كان غائباً عن ذلك المجلس ويبلغونه لمن أمكنهم. فيكون عند هؤلاء من العلم، ما ليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ما ليس عند هؤلاء. وإنما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم، بكثرة العلم، أو جودته. وأما إحاطة واحد بجميع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يمكن ادعاؤه قط. واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين رضي الله عنهم الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وأحواله. ... وإذا كان هذا هو حال أعلم الأمة وأفقهها، وأتقاها وأفضلها؛ فمن بعدهم أضعف وخفاء بعض السنة عليهم أولى، فلا يحتاج ذلك إلى بيان.

.. فمن اعتقد، أن كل حديث قد بلغ كل واحد من الأئمة، أو إماماً معيناً، فهو مخطئ خطأ فاحشاً قبيحاً" (1) . ثالثاً: لا يسلم الافتراض الثالث لما هو معلوم، وسيأتى أن السنة النبوية قد مرت بمراحل ثلاث: 1-الكتابة، 2-التدوين، 3-التصنيف. ... "ولا يقولنَّ قائلٌ: إنَّ هذه الأحاديث قد دونت وجمعت فخفاؤها والحال هذه بعيد، لأن هذه الدواوين المشهورة فى السنن، إنما جمعت بعد ذهاب الأئمة المتبوعين (رحمهم الله) ومع هذا، فلا يجوز أن يدعى انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى دواوين معينة. ... ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فليس كل ما فى الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة، وهو لا يحيط بما فيها" (2) . ... وهكذا لم يسلم واحد من الافتراضات الثلاثة حتى تسلم لشاخت قاعدته. يقول الدكتور ظفر: "ويكون من المفيد البحث عن الأحاديث التى وجدت فى الكتب السابقة، ولكنها لم تذكر فى الكتب اللاحقة، وهذا يعنى إمكان العمل على طريق معاكس لافتراض شاخت، وهذا سوف يأتى بنتائج مهمة للغاية، لأنه إذا كان من الممكن وهو فى نظرنا من الممكن - أن نثبت أن كثيراً من الأحاديث الواردة فى كتب متقدمة لا توجد فى كتب

_ (1) رفع الملام عن الأئمة لأعلام لابن تيمية ص 9، 10، 17، وانظر: علوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص 303 وما بعدها. (2) رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص 17، 18.

متأخرة، فضلاً عن الكتب المعاصرة، وكان ذلك لأن فقهاء العصر الذى نتكلم عنه لم يعتبروا أنفسهم ملزمين بذكر الأحاديث الكثيرة التى عرفوها ولو كانت مؤيدة لآرائهم، هذا فضلاً عن الأحاديث التى لم يحيطوا بها علماً كما سبق، فهذا كله يضع استدلال شاخت موضع شكوك خطيرة، ويبطل قاعدته التى على أساسها كان تشكيكه فى الأحاديث والوثوق بها بصفة عامة ... وحتى يظهر بطلان قاعدة شاخت قام الدكتور ظفر بعقد مقارنة لطائفة من الآراء الفقهية لبعض فقهاء القرن الثانى الهجرى، وذلك من خلال مقارنة "موطأ الإمام مالك" برواية (يحيى الليثى) (1) ورواية (الشيبانى) (2) حيث أن عدداً كبيراً من الأحاديث الموجودة بموطأ مالك برواية يحيى الليثى، ولا توجد بموطأ رواية الشيبانى. على الرغم من أن الشيبانى كان الأصغر سناً، وتأخر عهده عن الإمام مالك. والأعجب من ذلك أننا نرى أحياناً أن بعض أحاديث الموطأ للإمام مالك التى تؤيد آراء مذهب الإمام الشيبانى، لا توجد فى موطأ الشيبانى أصلاً.

_ (1) يحيى الليثى هو: يحيى بن يحيى بن كثير الليثى مولاهم القرطبى، أبو محمد، صدوق فقيه، قليل الحديث، وله أوهام مات سنة234هـ، على الصحيح. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/318 رقم 7697،وتهذيب التهذيب 11/300 رقم 580، وسير أعلام النبلاء 10/519 رقم 168، وشذرات الذهب 2/82، والديباج المذهب ص 431 رقم 608 (2) الشيبانى: هو محمد بن الحسن الشيبانى صاحب أبى حنيفة، قال فى الميزان: لينه النسائى وغيره من قبل حفظه. وقال ابن عدى لم تكن له عناية بالحديث، وقد استغنى أهل الحديث عن تخريج حديثه وكان من بحور العلم قوياً فى مالك. له ترجمة فى: سير أعلام النبلاء 9/134 رقم 45، ولسان الميزان 5/121 رقم 410، ووفيات الأعيان 4/184 رقم 567، وشذرات الذهب 1/321، والمجروحين لابن حبان 2/275، والجرح والتعديل 7/227 رقم 1253.

.. وهذا مثالاً لتأكيد ما قلناه: يشتمل باب أوقات الصلاة فى الموطأ برواية يحيى الليثى على ثلاثين حديثاً (1) ،بينما لا نجد منها فى موطأ مالك برواية الشيبانى (2) إلا أربعة أحاديث" (3) . ... وهكذا مرت السنة النبوية منذ عهد النبوة المباركة بمراحل ثلاث حتى ظهور المصنفات الحديثية: 1-الكتابة 2-التدوين 3-التصنيف. ... وفى ذلك يقول العلامة فؤاد سزكين فى "تاريخ التراث العربى" يقول: "فقد مرت مكتبة الحديث بالمراحل التالية: أ- كتابة الأحاديث: وقد سجلت الأحاديث فى هذه المرحلة فى كراريس الواحد منها له اسم الصحيفة أو الجزء، وتمت هذه المرحلة فى عصر النبوة والصحابة وأوائل التابعين. ب- تدوين الحديث: وفى هذه المرحلة ضمنت التسجيلات المتفرقة، وتم هذا فى الربع الأخير من القرن الأول للهجرة، والربع الأول من القرن الثانى.

_ (1) انظر: الموطأ برواية يحيى الليثى 1/37 وما بعدها. (2) انظر: الموطأ برواية الشيبانى ص 31 وما بعدها. (3) انظر: مؤتمر السنة النبوية ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة 2/587 - 595، وانظر: توثيق الأحاديث النبوية (نقد قاعدة شاخت، للدكتور ظفر ترجمة الأستاذ جمال محمد نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 11/694 - 706. ومزيد من الرد على شاخت فى كتابه أصول الفقه المحمدى، انظر: دراسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 2/440 - 456.

ج- تصنيف الحديث: وقد رتبت الأحاديث فى هذه المرحلة وفق مضمونها، فى فصول وأبواب، وبدأ هذا مع الربع الثانى من القرن الثانى، واستمر إلى أن ظهرت فى أواخر القرن الثانى للهجرة طرق أخرى لترتيب الأحاديث وفق أسماء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب يحمل الواحد منها اسم المسند" (1) أهـ. حتى إذا أطل علينا القرن الثالث الهجرى كانت السنة النبوية قد استقرت فى بطون الكتب المعروفة لدينا الآن وعلى رأسها الكتب الستة (2) ومسند الإمام أحمد، ومن أجل هذا، ولأنه العصر الذىتميز فيه صحيح السنة من ضعيفها اعتبره العلماء العصر الذهبىللسنة المطهرة (3)

_ (1) تاريخ التراث العربى المجلد 1/119، وانظر: السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور رءوف شلبى ص160 – 195، وتوثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى أسسه واتجاهاته للدكتور رفعت فوزى ص23- 71. (2) الكتب الستة هى صحيحا البخارى ومسلم، وسنن كل من: الترمذى، والنسائى، وأبو داود، وابن ماجة وهناك غيرها كثير صدر فى القرن الثالث الهجرى وفيما بعده من القرون مثل سنن الدارمى، والدارقطنى، وصحيح ابن حبان، وابن خزيمة، ومصنف ابن أبى شيبة، وسنن سعيد بن منصور، وسنن البيهقى، وغيرها كثير وكثير. انظر: الرسالة المستطرفة للكتانى ص 10-62، وفى رحاب السنة الكتب الصحاح الستة لدكتور محمد أبو شهبة ص 25-28. (3) انظر: لمحة عابرة عن التدوين فى القرنين الثانى والثالث بعبارة موجزة للحافظ ابن حجر فى هدى السارى ص 8-9، والحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 316 - 420، وعلوم الحديث للدكتور مروان شاهين ص 67-90. وانظر: مقارنة بين الأسس التى تم بموجبها جمع وتدوين السنة النبوية ومقارنة ذلك بطرق وجمع وتدوين الأناجيل فى منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 480 - 493.

.. هذا ولم يكن تدوين السنة قائماً على المكتوب فقط وإنما كان قائماً جنباً إلى جنب بجانب المحفوظ فى الصدور، فالعبرة عند المحدثين بالعدالة، والضبط وهو نوعان: 1- ضبط صدر وهو: أن يحفظ الراوى ما سمعه ويثبت منه ويعيه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء إن حدَّث حفظاً. 2- ضبط كتاب وهو: أن يصون الراوى كتابه من أن يتطرق إليه خلل من حين كتابته أو سماعه إلى أن يؤدى منه ولا يدفعه إلى من يمكن أن يغير فيه إن كان منه يروى (1) وعلى هذين النوعين كان تبليغ سنة النبىصلى الله عليه وسلمعلى مر العصور، وبالحفظ أكثر فى القرون الأولى (2) . كما أن الحفظ أقوى من الكتابة لبعده عن التصحيف والغلط، ومن هنا فهو مرجح على المكتوب إذا تعارض حديث مسموع وحديث مكتوب. قال الآمدى: "وأما ما يعود إلى المروى فترجيحات الأول: أن تكون رواية أحد الخبرين عن سماع من النبى صلى الله عليه وسلم والرواية الأخرى عن كتاب.فرواية السماع أولى: لبعدها عن تطرق التصحيف والغلط" (3) .

_ (1) توضيح الأفكار 2/119-120، وتدريب الراوى 1/301، وفتح المغيث للسخاوى 1/314، وانظر: مقاصد الحديث فى القديم والحديث لفضيلة الدكتور مصطفى التازى 2/64، واختلافات المحدثين والفقهاء فى الحكم على الحديث للدكتور عبد الله شعبان ص397-409. (2) انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى مبحث (الكتابة ليست من لوازم الحجية والكتابة لا تفيد القطع ص 399-402، والمكانة العلمية لعبد الرزاق بن همام فى الحديث النبوى لفضيلة الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار مبحث "الكتابة ليست أوثق من الحفظ القلبى إذا توافرت دواعيه 1/239، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة رقم 2332 لسنة 1396هـ 1976م. (3) الإحكام للآمدى 4/215، وانظر: الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ للحازمى ص 64.

.. ويدل على أن الكتابة دون الحفظ قوة ما هو مقرر عند أهل الحديث والأصول أن أعلى وجوه الأخذ من الشيخ سماع لفظه، واتفاقهم على صحة رواية الحديث بالسماع (1) ، واختلافهم فى صحة الرواية بطريق المناولة أو المكاتبة. مع ترجيح تصحيحهما (2) . ... وفوق كل هذا دلالة على قوة الحفظ فى المكانة عن الكتابة أن الاعتماد فى نقل القرآن الكريم والقطع به، إنما حصل على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب. فالحفظ وحده كان الاعتماد عليه فى نقل القرآن الكريم فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم، وعمر وسنين من عهد عثمان، لأن تلك القطع التى كتب فيها القرآن فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم كانت مفرقة عند بعض الصحابة لا يعرفها إلا من هى عنده، وسائر الناس غيره يعتمدون على حفظهم. ثم لما جمعت فى عهد أبى بكر لم تنشر هى ولا الصحف التى كتبت عنها، بل بقيت عند أبى بكر، ثم عند عمر، ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين حتى طلبها عثمان، ثم اعتمد عليه فى عامة المواضع التى يحتمل فيها الرسم وجهين أو أكثر، واستمر الاعتماد عليه حتى استقر تدوين القراءات الصحيحة" (3) ، وكان الاعتماد عليها وعلى نقل القرآن بالحفظ.

_ (1) تدريب الراوى 2/8، وفتح المغيث للسخاوى 2/20، وتوضيح الأفكار 2/295. (2) تدريب الراوى 2/44-58، وفتح المغيث للسخاوى 2/100 - 127، وتوضيح الأفكار 2/329 - 343، وإرشاد الفحول 1/252، 253. (3) الأنوار الكاشفة عبد الرحمن المعلمى ص 77.

.. يقول المحقق ابن الجزرى: (1) "ثم إن الاعتماد فى نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب. وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة، ففى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربى قال لى قم فى قريش فأنذرهم، فقلت له: أى رب إذن يَثْلَغُوا رَأْسى حتى يدعوه خُبْزَةً فقال: إنى بمتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتاباً لا يَغْسِلُهُ الماء، تَقْرَؤُهُ نَائِماً وَيْقَظانَ، فابعث جنداً أبعث مثلهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق ينفق عليك" (2) . فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج فى حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء بل يقرأ فى كل حال كما جاء فى صفة أمته: "أنا جيلهم صدورهم". وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا فى الكتب، ولا يقرأونه كله إلا نظراً، لا عن ظهر قلب" (3) . ويقول الشيخ محمد الزرقانى -رحمه الله-: "قلنا غير مرة إن المعوَّل عليه فى القرآن الكريم إنما هو التلقى والأخذ، ثقة عن ثقة، وإماماً عن إمام إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وإن المصاحف لم تكن ولن تكون هى العمدة فى هذا الباب، إنما هى مرجع جامع للمسلمين، على

_ (1) ابن الجزرى هو: محمد بن محمد بن على بن يوسف بن الجزرى، أبو الخير، كان إماماً فى القراءات لا نظير له، حافظاً للحديث وغيره أتقن منه، ولى قضاء الشام وشيراز، من مؤلفاته: النشر فى القراءات العشر، وطبقات القراء، وغير ذلك مات سنة 833هـ. له ترجمة فى: طبقات الحفاظ للسيوطى ص549 رقم 1183، والدرر الكامنة لابن حجر 3/395، وطبقات المفسرين للداودى 2/64 رقم430، وشذرات الذهب 7/204، والبدر الطالع للشوكانى 2/257. (2) مسلم (بشرح النووى) كتاب الجنة، باب الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار 9/214 رقم 2865. (3) النشر فى القراءات العشر 1/6، وانظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 407، ومناهل العرفان للشيخ الزرقانى 1/243.

كتاب ربهم، ولكن فى حدود ما تدل عليه وتعينه، دون ما لا تدل عليه ولا تعينه. وقد عرفت أن المصاحف لم تكن منقوطة، ولا مشكولة، وأن صورة الكلمة فيها كانت لكل ما يمكن من وجوه القراءات المختلفة، وإذا لم تحتملها كتبت الكلمة بأحد الوجوه فى مصحف، ثم كتبت فى مصحف آخر بوجه آخر وهلم جراً. ... فلا غرو أن كان التعويل على الرواية والتلقى هو العمدة فى باب القراءة والقرآن (1) نقول: كل هذا رداً على من يشككون فى تدوين السنة على المحفوظ فى الصدور بحجة أن الحفظ خوان (2) ، وقوة حفظ الحفاظ خرافة (3) ، لأن الحفظ وإن كان خوان وضعيف عندهم وعند أهل العصور المتأخرة فى زماننا فلا يصح هذا القول فى عرب العصور الأولى الذين كان جُّل اعتمادهم فى تواريخهم وأخبارهم وسائر أحوالهم على الحفظ (4) . وازداد عندهم هذا الأمر بعد دخولهم فى الإسلام، وقيضهم الله عز وجل لحفظ الشرع وصيانته وحمله وتبليغه لمن بعدهم (5) .

_ (1) مناهل العرفان للزرقانى 1/411. (2) أضواء على السنة ص 268. (3) دراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10/571، وانظر: بلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمن لاسماعيل منصور ص 23، 133. (4) انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 403، وضوابط الرواية عند المحدثين للأستاذ الصديق بشير ص 126. (5) انظر: حجية السنة ص 404، وضوابط الرواية عند المحدثين ص 124، 128، ومبحث نوادر الحفظ وعجائب الحفاظ ص 129.

فكانوا يتذاكرون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فرادى أو مجتمعين مع اليقظة، وشدة التحرى، وبذل الوسع فى إصابة النص الوارد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم وحفظه، عملاً بتوجيهه صلى الله عليه وسلم، فى الحث على حفظ السنة وتبليغها فى قوله:"نضر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" (1) وقوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس-بعد أن أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع:"احفظوه وأخبروا به من وراءكم" (2) ... فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا نكون عند النبى صلى الله عليه وسلم، وربما كنًّا نحواً من ستين إنساناً فيحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقوم فنتراجعه بيننا، هذا، وهذا، وهذا، فنقوم وكأنما قد زرع فى قلوبنا" (3) . ... وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: "إنى لأجزئ الليل ثلاثة أجزاء فثلث أنام وثلث أقوم، وثلث أتذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) . كما كان ابن عباس وزيد بن أرقم يتذاكران السنة (5) ، كما تذاكر أبو موسى وعمر بن الخطاب حتى الصبح (6) . وحفلت مذاكره السنة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريره لها.

_ (1) سبق تخريجه ص 273. (2) سبق تخريجه ص 274. (3) أخرجه الخطيب فى الفقيه والمتفقه 2/263 رقم 950، والإلماع للقاضى عياض ص 142. (4) الدارمى فى سننه المقدمة، باب العمل بالعلم وحسن النية فيه 1/94 رقم 264، والجامع لأخلاق الراوى 2/319، 320. (5) مسند أحمد 4/374. (6) أخرجه الخطيب فى الفقيه والمتفقه 2/267 رقم 954.

.. فعن معاوية بن أبى سفيان قال: … وكنت مع النبى صلى الله عليه وسلم يوماً فدخل المسجد فإذا هو بقوم فى المسجد قعود، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ما يقعدكم؟ قالوا: صلينا الصلاة المكتوبة ثم قعدنا نتذاكر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا ذكر شيئاً تعاظم ذكره" (1) . بل كان صلى الله عليه وسلم يستمع لمذاكرتهم، ويوجههم إلى الدقة فى الحفظ وبذل الطاقة فى إدراك النص وحفظه كما جاء فى حديث البراء بن عازب وتعليم النبى صلى الله عليه وسلم له دعاء النوم، فلما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فرددتهن لاستذكرهن فقلت آمنت برسولك الذى أرسلت قال قل: آمنت بنبيك الذى أرسلت" (2) . وفى الحث على مذاكرة السنة وحفظها كان الصحابة رضي الله عنهم يحضون، فهذا أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه يقول: "تذاكروا الحديث فإنكم إلا تفعلوا يندرس" (3) .

_ (1) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم، باب إن الله تعالى إذا ذكر شيئاً تعاظم ذكره 1/172 رقم 321 وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبى. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) فى عدة مواضع منها: كتاب الوضوء، باب فضل من بات على الوضوء 1/426 رقم 247، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع 9/38 رقم 2710 واللفظ له. (3) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم، باب فضيلة مذاكرة الحديث 1/173 رقم 324.

الجواب على ما يزعمه بعض غلاة الشيعة بأن لهم فضل السبق فى التدوين:

.. وعن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: "تذاكروا الحديث فإن مذاكرة الحديث تهيج الحديث" (1) وروى مثل ذلك عن ابن سعود وابن عباس وغيرهم، وعلى دربهم صار التابعون فمن بعدهم (2) . الجواب على ما يزعمه بعض غلاة الشيعة بأن لهم فضل السبق فى التدوين: سبق وأن فصلنا بالأدلة القوية أن السنة النبوية كُتِبت فى عهد النبوة وبإذنه صلى الله عليه وسلم كما أنها كُتِبت فى عهد الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وأصبحت كتابة السنة فى مرحلة مبكرة (فى عصر النبى نفسه) حقيقة لا تقبل الشك ولا ينكرها إلا جاحد، وعلى تلك الكتابات بجوار المحفوظ فى الصدور اعتمد عمر بن عبد العزيز فى التدوين الرسمى للسنة المطهرة فكان له الفضل كل الفضل رغم أنف أعداء السنة المطهرة (3) .

_ (1) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم، باب فضيلة مذاركة الحديث 1/173 رقم 323. (2) انظر: دراسات فى الحديث للدكتور الأعظمى 2/330 - 334، وانظر: كشف اللثام للدكتور عبد الموجود 1/72 - 79. (3) كإسماعيل منصور الذى وصف تدوين الخليفة عمر بن عبد العزيز بأنه "كان مخالفاً للمنهاج النبوى الأمثل، ولمنهاج الصحابة الأفاضل، كل المخالفة، وبذلك فقد وقعت به أكبر كارثة فى تاريخ المسلمين". انظر تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 232، والرافضى على الشهرستانى يصفه بعدم خلوص النية فى التدوين. انظر: منع تدوين الحديث ص 309.

ولم لا يكون له الفضل وقد تحقق على يده ما تنبأ به النبى صلى الله عليه وسلم (1) من تدوين سنته المطهرة فى قوله صلى الله عليه وسلم: "أى الخلق أعجب إليكم إيماناً؟ قالوا الملائكة قال: وكيف لا يؤمنون وهم عند ربهم؟ وذكروا الأنبياء قال: وكيف لا يؤمنون والوحى ينزل عليهم؟ قالوا فنحن؟ قال وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ قالوا فمن يا رسول الله؟ قال قوم يأتون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بها" (2) . قال الحافظ السخاوى: استدل بهذا الحديث على الوجادة وهو علم من أعلام النبوة من إخباره عما سيقع، وهو تدوين القرآن وكتبه فى صحفه وكتابة الحديث" (3) . ... ويقول الدكتور على السالوس: رداً على دعوى أن الشيعة لهم فضل السبق فى التدوين قال: "والفرق التى ظهرت فى تاريخ الإسلام، ولها عقائد خاصة بها، لم تظهر كتبها إلا بعد استقرار عقائدها، ووضوحها لدى معتنقيها. وهذا أمر بديهى، لأن الكتب إنما توضع لتأييد هذه العقائد، والدعوة لها، فلابد أن تسبق العقائد هذه الكتب بل إن هناك مرحلة تلى العقائد وتسبق الكتب، وهى وضع الأخبار وتناقلها والاحتجاج بها قبل أن تجمع فى كتاب، وقبل أن يوضع كتاب مرة واحدة.

_ (1) بل وكان فعله رضي الله عنه تحقيقاً لما هم به أبيه عبد العزيز بن مروان عندما كان والياً على مصر، وجده عمر بن الخطاب - رضى الله عنهم أجمعين - انظر: السنة قبل التدوين 373 - 375. (2) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة باب ذكر فضائل الأمة بعد الصحابة والتابعين 4/96 رقم 6993 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبى بل محمد= =ابن أبى حميد ضعفوه. والحديث عزاه الهيثمى إلى البزار بسند حسن فى مجمع الزوائد 10/65، وأشار إلى تصحيحه الحافظ السخاوى فى فتح المغيث 2/140.وانظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/41،42. (3) فتح المغيث للسخاوى 2/144.

الجواب على ما يزعمه بعض الرافضة

.. فبالنسبة للشيعة مثلاً: وجدنا بعد موت كل إمام حدوث تفرق جديد، فكانت كل فرقة تحتج بأخبار تؤيد ما انتهت إليه فى تلك المرحلة، إلى أن تصل إلى الإمام الأخير الذى تستقر عنده آراؤها، وما كانت أى فرقة لتضع أخباراً فى إمام إلا بعد ولادته، لأنها لا تعلم الغيب فى واقع الأمر، وإن زعم منها من زعم أنه يعلم مثل هذا العلم". ثم أخذ فضيلة الأستاذ الدكتور السالوسى يؤكد كلامه ببعض ما جاء فى كتاب من كتب الشيعة أنفسهم، وهو كتاب فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختى، وسعد بن عبد الله القمى، والاثنان عاشا فى القرن الثالث، وأدركا بداية القرن الرابع وبعد أن فصل ذلك قال: "ونلحظ أن كل هذه الفرق أكدت أن الحسن العسكرى لا خلف له ما عدا فرقة مع فرقة الإمامية. ومعنى هذا أن الشيعة الإثنى عشرية لم تبدأ فى وضع الأخبار التى تتصل بالإثنى عشر إماماً إلا بعد الحسن العسكرى، أى فى النصف الثانى من القرن الثالث. وبعد هذا تبدأ مرحلة الكتب. والواقع العملى يؤيد ما بينته هنا، فكتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم أولها ظهر فى القرن الرابع، وهو الكافى - الذى يعد عندهم مثل البخارى عندنا - ثم جاء بعده باقى الكتب" (1) . فأين فضل سبق التدوين الذى يزعمونه كذباً؟! الجواب على ما يزعمه بعض الرافضة أن أهل السنة وفى مقدمتهم أبى بكر وعمر -رضى الله عنهما- أضاعوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم

_ (1) مع الشيعة الإثنى عشرية 3/83-104، وراجع كيفية أخذ الشيعة العلم من أهل البيت، وكيف أن جميع فنونهم من الكلام والعقائد والتفسير ونحوها مستمدة من كتب غيرهم، وانظر حال رواة كتب الحديث الأربعة عندهم والمملؤة بمن هو فاسد العقيدة، وكذاب بإجماعهم، فى مختصر التحفة الإثنى عشرية للألوسى 66،69. وانظر: أصول الرواية عند الشيعة الإمامية للدكتور= =عمر الفرماوى مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة، وأصول الحديث للدكتور عبد الهادى الفضلى ص 47-61.

هذا الزعم بهتان عظيم لا يجرؤ على القول به إلا شيعة غلاة ملاحدة ومن قال بقولهم من أعداء الإسلام؛ لأن السنة النبوية من الذكر الذى وعد رب العزة بحفظه فى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) . وسبق تفصيل ذلك بأدلته من الكتاب، والسنة، والعقل، والتاريخ (2) . ولو كانت السنة النبوية المطهرة ضائعة غير محفوظة كما يزعم الرافضة ما طالب رب العزة عباده باتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفة أمره، كما قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) وقال تعالى: {وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) . ثم كيف يصح أن يسند رب العزة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مهمة البيان فى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (5) ثم يضيع هذا البيان؟!! ... وكيف يصح أيضاً أن يطالب النبى صلى الله عليه وسلم أمته بالتمسك بسنته كما قال صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ" (6) وقال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله عز وجل وسنتى؟! (7) فلو كانت السنة

_ (1) الآية 9 من سورة الحجر. (2) راجع: ص 198-212. (3) الآية 63 من سورة النور. (4) الآية 7 من سورة الحشر. (5) الآية 44 من سورة النحل. (6) سبق تخريجه ص 38. (7) سبق تخريجه ص 196.

المطهرة غير محفوظة أو يمكن أن يلحقها التحريف والتبديل والضياع لكان ذلك القول تكذيب لرب الغرة بما أخبر به فى كتابه من الوعد بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم التى أمرنا باتباعها وتحكيمها فى كل شئون حياتنا، وذلك فى عشرات الآيات القرآنية. فالقول بضياع السنة النبوية لا يقوله مسلم، ويكذبه الواقع التاريخى الذى يشهد بنقل سنة النبى صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير حتى الحركات والسكنات، وبالجملة نقلت حياته كلها برمتها فى عباداته ومعاملاته، فى سلمه وحربه، وفى نومه ويقظته، فى أدق الأمور، وفيما نعده من أسرار حياتنا، كمعاشرته، وما يقوله عندما يخرج من بيته، إلى غير ذلك نقلت حياته برمتها وكلياتها وجزئياتها بماذا؟ بأدق طرق النقل الذى لا تعرف له الدنيا مثيلاً، فكان فى ذلك التطبيق، وكان فى ذلك النقل، وكان فى ذلك التدوين إشارة قوية إلى أن الله عز وجل تكفل بحفظ هذه السنة النبوية بما هيأ لها من رجال أفنوا أعمارهم فى ضبطها والسهر عليها، وتدوينها، وحفظها، وشرحها وتمييز صحيحها من سقيمها، فنقشوها فى صفحات قلوبهم الأمينة، وفى كتبهم الواعية، فكان تكفله عز وجل بحفظ كتابه فى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) يشمل السنة النبوية حيث قيض الله لها من ثقات الحفظة من الرواة الثقات العدول، والأئمة الأعلام ما قيض لكتابه العزيز من ثقات الحفظة فى كل قرن، وإلى أن يرث الأرض ومن عليها (2) .

_ (1) الآية 9 من سورة الحجر. (2) مؤتمر السنة النبوية ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة (بحث للشيخ عز الدين الخطيب، وتعقيب فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم 2/558 - 560، 602 بتصرف وتقديم وتأخير.

.. وفى ذلك يقول الإمام الشاطبى فى المسألة الثانية عشرة: (هذه الشريعة معصومة من الضياع والتبديل إلى أن تقوم الساعة) بعد أن تحدث عن حفظ القرآن الكريم وقال فيه "أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلاً عن القراء الأكابر" قال عن حفظ السنة النبوية: "ثم قيض الحق سبحانه رجالاً يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم، وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى فى الأخذ لفلان عن فلان، حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) فى بطون كتب السنة الموجودة بين أيدينا الآن، ولم يفقد منها شئ. يقول الإمام الشافعى -رحمه الله-: "لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شئ فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن … وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها: دليلاً على أن يطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم، بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه، حتى يأتى على جميع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبى هو وأمى، فيتفرد جملة العلماء بجمعها وهم درجات فيما وعوا منها" (2) .

_ (1) الموافقات للشاطبى 2/368 - 371، وراجع من نفس المصدر 1/32، 70. مقابلة بما سبق فى الرد على شبهة أن السنة لو كانت حجة لتكفل الله بحفظها ص198-212. (2) الرسالة للشافعى ص 42، 43 رقم الفقرات 139، 140، 141.

.. يقول الأستاذ أحمد شاكر -رحمه الله- معقباً على كلام الإمام الشافعى: "هذا الذى قاله الشافعى فى شأن السنن: نظر بعيد، وتحقيق دقيق، واطلاع واسع على ما جمع الشيوخ والعلماء من السنن فى عصره، وفيما قبل عصره. ولم تكن دواوين السنة جمعت إذ ذاك، إلا قليلاً مما جمع الشيوخ مما رووا. ثم اشتغل العلماء الحفاظ بجمع السنن فى كتب كبار وصغار، فصنف أحمد بن حنبل -تلميذ الشافعى- مسنده الكبير المعروف، وقال يصفه: "إن هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه، فإن كان فيه، وإلا فليس بحجة. ومع ذلك فقد فاته شئ كثير من صحيح الحديث، وفى الصحيحين أحاديث ليست فى المسند. ... وَجَمَعَ العلماء الحفاظ الكتب الستة، وفيها كثير مما ليس فى المسند، ومجموعها مع المسند يحيط بأكثر السنة، ولا يستوعبها كلها. ولكننا إذا جمعنا ما فيها من الأحاديث مع الأحاديث التى فى الكتب الأخرى المشهورة، كمستدرك الحاكم، والسنن الكبرى للبيهقى، والمنتقى لابن الجارود، وسنن الدارمى، ومعاجم الطبرانى الثلاثة، ومسندى أبى يعلى، والبزار: إذا جمعنا الأحاديث التى فى هذه الكتب استوعبنا السنن كلها إن شاء الله، وغلب على الظن أن لم يذهب علينا شئ منها، بل نكاد نقطع به. وهذا معنى قول الشافعى: "فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن". وقوله "فيتفرد جملة العلماء بجمعها" وكان الشافعى قد قاله نظراً، قبل أن يتحقق بالتأليف عملاً، لله دره (1) . أ. هـ. وبعد ... فهذه سنة النبى صلى الله عليه وسلم مستقره فى بطون الكتب المعتمدة من علماء الأمة الثقات مميزاً صحيحها من ضعيفها فمنها:

_ (1) هامش الرسالة للشافعى ص 43، 44.

ما هو معلوم الصحة كالصحيحين (للبخارى والمسلم) ، والموطأ والمستخرجات، وصحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح أبى عوانة، والصحاح لابن السكن، والمنتقى لابن الجارود، والمختارة لضياء المقدسى، ومستدرك الحاكم على ما فيه من تعقبات (1) . ومنها ما جمع بين الصحيح، والحسن، والضعيف وهو منبه عليه فى كتبهم أو مميزاً محكوم عليه فى تخريجاتهم، وذلك ككتب السنن وعلى رأسها السنن الأربعة: وهى سنن أبى داود، والترمذى والنسائى، وابن ماجة، وكذا سنن الدارمى، والدراقطنى وسنن سعيد بن منصور، والسنن الكبرى للبيهقى، وغيرها الكثير (2) ، هذا فضلاً عن كتب المسانيد، ومن أشهرها وأجمعها مسند الإمام أحمد، ومسند أبى يعلى الموصلى، ومسند أبى داود الطيالسى وغيرهم الكثير (3) . وكذا كتب المصنفات كمصنف عبد الرازق، ومصنف ابن أبى شيبة (4) ، وكتب المعاجم ومن أشهرها معاجم الطبرانى الثلاثة (الصغير، والكبير، والأوسط) (5) . ... وهذه الكتب الحديثية وغيرها الكثير تتحدى فى طرق جمعها وتدوينها وصحتها طرق أهل الكتاب فى جمع وتدوين عهدهم القديم والجديد (6) .

_ (1) الرسالة المستطرفة ص 20 وما بعدها. (2) المصدر السابق 37. (3) المصدر نفسه 62. (4) الرسالة المستطرفة ص40. (5) المصدر السابق ص 135. (6) راجع: منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 460-550 حيث عقدت مقارنة بين السير الذاتية لأصحاب الكتب الستة وبين سير أصحاب أسفار العهد الجديد، وبين شروط الحديث الصحيح عند علماء الحديث، وتطبيق هذه الشروط على أسفار العهد الجديد.

وتتحدى طرق الشيعة الرافضة الممتلئة كتبهم وعلى رأسها أصولهم الأربعة (الكافى) و (من لا يحضره الفقيه) و (التهذيب) و (الاستبصار) بالكذابين والملاحدة، والشعوبيين، وفاسدى العقيدة، والمذمومين من أئمتهم، وكل ما يخطر ببالك من نقائص (ورغم هذا يصرح علماؤهم بأن كل ما فى هذه الأربعة صحيح واجب العمل به (1) ،وسبب ذلك أن دينهم من أصله فاسد، وهل يثمر الفاسد إلا الفساد؟ (2) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) انظر: أصول الحديث للدكتور عبد الهادى الفضلى ص210-219. (2) انظر: مختصر التحفة الإثنى عشرية ص69. ومقدمة محقق الكتاب الأستاذ محب الدين الخطيب.

ثالثا: شبهة رواية الحديث بالمعنى والرد عليها

ثالثاً: شبهة رواية الحديث بالمعنى والرد عليها ... زعم أعداء السنة من غلاة الشيعة، والمستشرقين، ودعاة اللادينية: أن تأخر تدوين السنة كان له ضرر كبير على السنة من روايتها بالمعنى، وزعموا بأن رواية الحديث بالمعنى هى القاعدة الأصلية الثابتة المقررة عند علماء الحديث، حيث كان اهتمامهم بالمعنى أكثر من اهتمامهم باللفظ حتى وصلت إلينا الأحاديث وقد انطمست معالم ألفاظها ومعانيها، ولذلك لم يحتجّ النحاة بالأحاديث المروية، ولم يستشهدوا بها فى إثبات اللغة أو قواعد النحو، لأن ألفاظها مرهونة بالتأثر الشخصى للرواة (1) . ... تلك هى خلاصة شبهة أعداء الإسلام حول رواية الحديث بالمعنى، والتى من خلالها يشككون فى حجية السنة النبوية، ومكانتها التشريعية. والجواب:

_ (1) دراسات محمدية لجولدتسيهر ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوةبليبيا العدد10 ص571-573. وانظر: مجلة المنار المجلد 9 ص 911، 913. مقال الدكتور توفيق صدقى "الإسلام هو القرآن، وحدة" وأضواء على السنة ص 20، 21، 76 - 82، 97، 107، 259، والأضواء القرانية للسيد صالح أبو بكر ص 35، وتبصير الأمة بحقيقة السنة ص 104، 177، 220، 238، 239، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 58، 61، 162، ونقد الخطاب الدينى للدكتور لنصر أبو زيد ص 119، 126، ونقد الحديث فى علم الرواية وعلم الدراية للدكتور حسين الحاج، 1/315 - 325، وانظر: له أيضاً أدب العرب فى صدر الإسلام ص93، وتأملات فى الحديث عند السنة والشيعة ص 75 - 83، ودين السلطان ص 75، وإنذار من السماء 113، ونقد الخطاب الدينى لنصر أبو زيد ص 119، 126، ونحو تطوير التشريع الإسلامى لأحمد نعيم ص 45، ودراسة الكتب المقدسة لموريس بوكاى ص 290.

.. أولاً وقبل بيان فساد زعم دعاة الفتنة وأدعياء العلم بأن رواية الحديث بالمعنى هى القاعدة الأصلية الثابتة المقررة عند علماء الحديث، وأن اهتمامهم بالمعنى أكثر من اللفظ قبل بيان بطلان هذا الزعم، نحرر أولاً القول فى حكم رواية الحديث بالمعنى عند علماء الأمة من المحدثين، والفقهاء، والأصوليين، حيث سيتضح جلياً كيف قلب أعداء السنة المطهرة الأصل إلى فرع؟ والفرع إلى أصل؟ ... من المعلوم أن للعلماء فى رواية الحديث بالمعنى مذاهب عدة (1) ، نستخلص منها مذهبين: المذهب الأول: أن رواية الحديث بالمعنى لا تجوز لمن لا يعلم مدلول الألفاظ فى اللسان العربى ومقاصدها وما يحيل معناها والمحتمل من غيره، والمرادف منها، وذلك على وجه الوجوب بلا خلاف بين العلماء، لأن من اتصف بذلك لا يؤمن بتغييره من الخلل، ووجب على من هذا حاله أن يروى الحديث بالألفاظ التى سمع بها مقتصراً عليها بدون تقديم، ولا تأخير ولا زيادة ولا نقص لحرف فأكثر، ولا إبدال حرف أو أكثر بغيره، ولا مشدَّدٍ بمثقل، أو عكسه (2) ؛ "إذ جميع ما يفعله من ذلك تحكم بالجهالة، وتصرف على غير حقيقة فى أصول الشريعة، وتقوُّلٌ على الله ورسوله بما لم يحط به علماً" (3) .

_ (1) انظرها فى: إرشاد الفحول 1/234 - 239، وتوجيه النظر ص 298 - 314، وانظر: السنة النبوية للدكتور أحمد كريمة ص 65 - 69 وأصول السرخسى 1/355 - 357، والحديث= =النبوى فى النحو العربى ص 64 وما بعدها. والسير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث فى النحو العربى 1/54 - 56 كلاهما للدكتور محمود فجال. (2) فتح المغيث للسخاوى 2/207 بتقديم وتأخير، وانظر: تدريب الراوى 2/98. (3) الإلماع للقاضى عياض ص 174.

.. أما من كان عالماً بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، خبيراً بما يحيل معانيها، بصيراً بمقادير التفاوت بينهما. فاختلف فيه السلف وأصحاب الحديث وأرباب الفقه والأصول، فالمعظم منهم أجاز له الرواية بالمعنى إذا كان قاطعاً بأنه أدى معنى اللفظ الذى بلغه سواء فى ذلك الحديث المرفوع، أو غيره (1) . ... المذهب الثانى: المنع من الرواية بالمعنى مطلقاً، بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين عارف بمعانى الألفاظ أو غير عارف، وهو مذهب كثير من السلف، وأهل التحرى فى الحديث، وهو مذهب الإمام مالك، ومعظم المحدثين، وهو مذهب الظاهرية (2) .

_ (1) خلافاً للإمام مالك حيث رخص فى غير حديث النبى صلى الله عليه وسلمولم يرخص فيه، ومن ذلك قوله:"ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" فلا تعد اللفظ، وما كان من غيره فأصبت المعنى فلا بأس" انظر: الكفاية للخطيب ص 188، 189، وجامع بيان العلم 1/81، وتدريب الراوى 2/99، 101، وفتح المغيث للسخاوى 2/208، وفح المغيث للعراقى 3/48-49، وتوضيح الأفكار 2/392 (2) انظر: إرشاد الفحول للشوكانى 1/236، 237، وانظر: السنة النبوية للدكتور أحمد كريمة ص65،66.

.. وهنا يظهر لنا جلياً أن الأصل فى رواية الحديث روايته باللفظ للعالم بالألفاظ ومدلولاتها وغيره، والفرع هو الترخص فى الرواية بالمعنى للعالم دون غيره. وهذا هو خلاصة المذهب الأول، وهو المختار عند الجمهور من السلف وأصحاب الحديث والفقه والأصول واختاره منهم الآمدى (1) وقال: ويدل عليه النص والإجماع والأثر، والمعقول. ... أما النص: فإن النبى صلى الله عليه وسلم كان مقرراً لآحاد رسله إلى البلاد فى إبلاغ أوامره ونواهيه بلغة المبعوث إليهم دون لفظ النبى صلى الله عليه وسلم وهو دليل الجواز (2) . ... وأيضاً: فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بتبليغ سنته المطهرة فى حياته وبعد وفاته فى أحاديث كثيرة منها: "ألا ليبلغ الشاهدُ الغائبَ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه" (3) . ... هذا فى الوقت الذى كان فيه النهى عن كتابة السنة المطهرة: "لا تكتبوا عنى ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه وحدثوا عنى ولا حرج – الحديث" (4) فلو كان اللازم لهم أن يؤدوا تلك الألفاظ التى بلغت أسماعهم بأعيانها بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير … لكتبها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل جاءنا عن أحد منهم أنه فعل ذلك من أجل رواية الأحاديث بلفظها بلا تقديم ولا تأخير؟!

_ (1) الإحكام للآمدى 2/93، وانظر: إرشاد الفحول 1/237، والمستصفى 1/168، 169، والمحصول للرازى 2/231، 233، وتدريب الراوى 2/99، ونزهة النظر ص 44، وفتح= =المغيث للسخاوى 2/208 - 217، والكفاية ص 202، 203، ودفاع عن السنة للدكتور أبوشهبة 32، 55، 63، والسنة للدكتور أحمد كريمة ص 66، واختلافات المحدثين والفقهاء فى الحكم على الحديث للدكتور عبد الله شعبان ص 291-298. (2) الإحكام للآمدى 2/93، 94. (3) سبق تخريجه ص 273. (4) سبق تخريجه ص 259.

كيف، وسائر الأخبار تشهد بأنهم كانوا يؤدونها حفظاً وبعضهم كتابة، ويقدمون، ويؤخرون، وتختلف ألفاظ الرواية فيما لا يتغير معناه فلا ينكر ذلك منهم، ولا يرون بذلك بأساً" (1) . ... يقول الأستاذ عبد الرحمن المعلمى: "هذا أمر يقينى لا ريب فيه، وعلى ذلك جرى عملهم فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. من بقى منهم حافظاً للفظ على وجهة أداه كذلك ومن بقى ضابطاً للمعنى ولم يبق ضابطاً للفظ أداة بالمعنى من غير نكير منهم (2) . ... يقول الدكتور أبو زهو بعد أن أفاد المعنى السابق: فدل ذلك على أن "المقصود منها (أى السنة) المعنى دون اللفظ، ولذلك لم يتعبد بتلاوتها، ولم يقع التحدى بنظمها، وتجوز روايتها بالمعنى" (3) . ويدل أيضاً على أن المقصود من السنة المعنى دون اللفظ ما قاله الإمام الآمدى: "أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يذكر المعنى فى الكرات المتعددة بألفاظ مختلفة، بل المقصود إنما هو المعنى، ومع حصول المعنى، فلا أثر لاختلاف اللفظ، وهذا أحد وجوه دليل العقل التى استشهد بها الآمدى (4) . ... وهذا المقصود كان يعيه الصحابة جيداً وحرصوا على تعليمه لمن بعدهم يدل على ذلك ما روى عن أبى نضرة، أنه قال: قلت لأبى سعيد الخدرى رضي الله عنه: إنك تحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً عجيباً، وإنا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص. قال: أردتم أن تجعلوه قرآناً لا، لا، ولكن خذوا عنا كما أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) . ...

_ (1) نوادر الأصول للحكيم الترمذى 2/549، 550 بتصرف. (2) الأنوار الكاشفة ص 78 بتصرف وتقديم وتأخير. (3) الحديث والمحدثون ص 200. (4) الإحكام للآمدى 2/94. (5) سبق تخريجه ص 265.

فتأمل قول أبى نضرة: (إنا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص) 0 ثم قول أبى سعيد (أردتم أن تجعلوه قرآناً لا لا، ولكن خذوا عنا …) (1) . فدل ذلك على أن الأصل فى كتاب الله عز وجل اللفظ، لأنه متعبد بتلاوته ومتحدى بأقصر سورة منه، وليست كذلك السنة المطهرة. وليس هذا هو مفهوم ولا مقصود أبى سعيد الخدرى وحده، بل هو مقصود ومفهوم الصحابة أجمع، ويدل على ذلك روايتهم للقصة الواحدة بألفاظ مختلفة من غير إنكار من أحد منهم، فكان إجماعاً تصير به الحجة (2) . ... ويشهد لصحة ذلك أيضاً الرخصة فى قراءة القرآن الكريم على سبعة أحرف (3) ، وهذه الأحرف الستة الزائدة، عبارة عن أنواع من المخالفة فى بعض الألفاظ للفظ الحرف الأول بدون اختلاف فى المعنى (4) .

_ (1) راجع فى ذلك أيضاً ما نقله السيوطى فى التدريب 2/100 عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. (2) فتح المغيث للسخاوى 2/215 وانظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 189، والإحكام للآمدى 2/94، والكفاية ص 308. (3) استدل بذلك الإمام الشافعى فى الرسالة ص 274 فقرة رقم 752، وانظر: ما قاله تعليقاً ص274 فقرة رقم 753. (4) الأنوار الكاشفة ص 76، وقال فى الهامش: (المراد بالاختلاف فى المعنى هو الاختلاف المذكور فى قول الله تعالى: "ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" الآية 82 من سورة النساء، فأما أن يدل أحد الحرفين على معنى، والآخر على معنى آخر، وكلا المعنيين معاً حق، فليس باختلاف بهذا المعنى أ. هـ. وإذا كان هذا من رأفة الله عز وجل بعباده مع كتابه، فبالحديث أولى. وقد روى ما هو شبيه بهذا عن يحيى بن سعيد القطان فى الكفاية ص 316، وانظر: الجواب عن الطعون الموجهة إلى حديث القراءات فى الباب الثالث.

.. واحتج حماد بن سلمة بأن الله تعالى أخبر عن موسى عليه السلام وعدوه فرعون بألفاظ مختلفة فى معنى واحد، كقوله تعالى: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} (1) وقوله تعالى {بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ} (2) ، وكذلك قصص سائر الأنبياء عليهم السلام فى القرآن، وقولهم لقومهم بألسنتهم المختلفة، وإنما نقل إلينا ذلك بالمعنى (3) ، لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمى، ومنه ما يأتى فى موضع بألفاظ، وفى آخر بغيرها … ويطول فى موضع، ويختصر فى آخر" (4) . وهذا يشهد لجواز التعبير عن المعنى الواحد بألفاظ متعددة. ... ومن أقوى الحج كما قاله الحافظ ابن حجر ما حكاه الخطيب البغدادى من: "اتفاق الأمة من جواز شرح الشريعة للعجم بلسانهم للعارف به، فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى، فجوازه باللغة العربية أولى" (5) . وهذا هو أحد وجوه أدلة العقل التى استشهد بها الآمدى فى الإحكام (6) . ... فإن قيل: إن هذه الأدلة السابقة معارضة لقول النبى صلى الله عليه وسلم: "نضر الله أمراً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" (7) ومعارض لقوله صلى الله عليه وسلم للبراء بن عازب رضي الله عنه لما استذكر دعاء النوم قائلاً: (آمنت برسولك الذى أرسلت، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم، قل: آمنت بنبيك الذى أرسلت" (8) .

_ (1) جزء من الآية 7 من سورة النمل. (2) جزء من الآية 10 من سورة طه. (3) فتح المغيث للسخاوى 2/214. (4) الأنوار الكاشفة ص 78، ونفس المعنى قاله الدكتور أبو زهو فى الحديث والمحدثون ص 209، وانظر: توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 425. (5) فتح المغيث للسخاوى 2/214، وانظر: الكفاية ص 303-305، وتدريب الراوى 2/101. (6) الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 2/94. (7) سبق تخريجه ص 34. (8) سبق تخريجه ص 361.

أجيب عن الحديث الأول: من وجهين: الوجه الأول: القول بموجبه، وذلك لأن من نقل معنى اللفظ من غير زيادة ولا نقصان يصح أن يقال أدى ما سمع كما سمع. ولهذا، يقال لمن ترجم لغة إلى لغة، ولم يغير المعنى، أدى ما سمع كما سمع. ويدل على أن المراد من الخبر إنما هو نقل المعنى دون اللفظ، ما ذكره الخبر من التعليل وهو اختلاف الناس فى الفقه، إذ هو المؤثر فى اختلاف المعنى. وأما الألفاظ التى لا يختلف اجتهاد الناس فى قيام بعضها مقام بعض، فذلك مما يستوى فيه الفقيه، والأفقه، ومن ليس بفقيه، ولا يكون مؤثراً فى تغيير المعنى. ... الوجه الثانى: أن هذا الخبر بعينه يدل على جواز نقل الخبر بالمعنى دون اللفظ، لأن رواة هذا الخبر نفسه قد رووه على المعنى، فقال بعضهم: رحم الله مكان نضر الله ومن سمع بدل (امرأ سمع) وروى "مقالتى" بدل (منا حديثاً) (وبلغه) مكان (أداه) وروى (فرب مبلغ أفقه من مبلِّغ) مكان (فرب مبلغ أوعى من سامع) ، وألفاظ سوى هذه متغايرة تضمنها هذا الخبر. فالظاهر يدل على أن هذا الخبر نقل على المعنى، فلذلك اختلفت ألفاظه، وإن كان معناها واحداً. فالحديث حجة لنا لا علينا (1) .

_ (1) الإحكام للآمدى 2/95، وانظر: فتح المغيث للسخاوى 2/215، والكفاية للخطيب ص 305

أما الحديث الثانى "لا ونبيك"؛ ففى الاستدلال به نظر؛ لاحتمال أن يكون المنع؛ لكونها ألفاظ أذكار توفيقية، ولها خصائص وأسرار لا يدخلها القياس، فيجب المحافظة على اللفظ الذى وردت به" (1) . أو لعله أراد أن يجمع بين الوصفين فى موضع واحد، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم نبى مرسل، فهو إذن أكمل فائدة، وذلك يفوت بقوله: (وبرسولك الذى أرسلت) وأيضاً فالبلاغة مقتضية لذلك لعدم تكرار اللفظ لوصف واحد فيه، زاد بعضهم أو لاختلاف المعنى، لأن برسولك يدخل جبريل وغيره من الملائكة الذين ليسوا بأنبياء" (2) . قلت لا تعارض بين الحديثين المعترض بهما على ما سبق ذكره من الأدلة، فهى كلها تشهد برأى الجمهور المختار وهو أن الأصل رواية الحديث باللفظ على فرض التسليم بما اعترض به من حديث: "نضر الله إمراً" وحديث "لا ونبيك". والفرع هو الترخص فى الرواية بالمعنى للعالم بالألفاظ ومدلولاتها دون غيرها، ويشهد لذلك ما سبق ذكره من أدلة، وحينئذ فلا تعارض.

_ (1) فتح المغيث للسخاوى 2/215. (2) المصدر السابق 2/266 وانظر: الكفاية ص 306.

.. وحتى مع التسليم بأن الأصل هو الرواية بالمعنى، فلسنا نرى أن الرواية بالمعنى تفضى إلى النتائج الخطيرة التى يزعمها دعاة الإلحاد؛ لأن اختلاف ألفاظ الأحاديث لا يرجع إلى الرواية بالمعنى وحدها، بل يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كانت تختلف ألفاظه بتعدد الأزمنة والأمكنة، والحوادث والأحوال، والسامعين والمستفتين، والمتخاصمين والمتقاضين، والوافدين والمبعوثين، ففى كل ذلك تختلف ألفاظه صلى الله عليه وسلم، إيجازاً، واطناباً، وتقديماً، وتأخيراً، وزيادة، ونقصاناً، بحسب ما تقتضيه الحال ويدعوا إليه المقام (1) . فقد يسأل عن أفضل الأعمال مثلاً؛ فيجيب كل سائل بجواب غير جواب صاحبه، … فيظن من لا علم له أن هذا من باب التعارض، أو من عدم ضبط الرواة، أو من آثار الرواية بالمعنى، وواقع الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان طبيب النفوس، فيجيب كل إنسان عن مسألته بما يناسبه، وبما يكون أنفع له أو للناس فى جميع الظروف أو فى الظرف الذى كان فيه الاستفتاء" (2) أ. هـ.

_ (1) وهذا من أساليب القرآن الكريم انظر: إلى قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" الآيتان 6،7 من سورة البقرة وقوله تعالى: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" الآية 23 من سورة الجاثية. فقارن التقديم والتأخير فى الختم على القلب والسمع فى الآيتين البقرة والجاثية. (2) الحديث والمحدثون ص 207، 208، وانظر: دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 55.

.. ويرجع اختلاف الأحاديث أيضاً إلى أنها ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبى صلى الله عليه وسلم وهى كثيرة، ومنها ما أصله قولى، ولكن الصحابى لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبى صلى الله عليه وسلم بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا … وأشباه هذا وهذا كثير أيضاً. وهذان الضربان ليسا محل نزاع. ولا دخل للرواية بالمعنى فيهما، والكلام فى ما يقول الصحابى فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت، أو نحو ذلك، ومن تتبع هذا فى الأحاديث التى يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو فى بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذا حكوا قوله صلى الله عليه وسلم يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم من يحاول أن يؤديها، فيقع له تقديم وتأخير أو إبدال الكلمة بمرادفها (1) .

_ (1) انظر: الأنوار الكاشفة للأستاذ عبد الرحمن المعلمى ص 79.

ومنهم من يشدد ويصحح ما يسمعه من الرواة من تغيير اللفظ النبوى بالتقديم والتأخير، أو استبدال كلمة بمرادفها، كابن عمر رضي الله عنه فعن عُبَيْد بن عمير (1) ؛ أن ابن عمر كان جالساً مع أبيه وعندهم مغيرة بن حكيم – رجل من أهل صنعاء – إذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضين (2) من الغنم"، فقال عبد الله بن عمر: ليس هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: لو علمت علمه، علمت أنه لم يقل إلا حقاً ولم يتعمد الكذب، فقال: إنه لثقة، ولكنى شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال، هذا فقال كيف يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق مثل الشاة بين الغنمين". فقال عُبَيْد بن عُمَير هى واحدة إذا لم يجعل الحرام حلالاً والحلال حراماً، فلا يضرك أن قدمت شيئاً أو أخرته؛ فهو واحد" (3) .

_ (1) عُبَيْد بن عُمَير هو: ابن قتادة الليثى أبو عاصم المكى، ولد على عهد النبى صلى الله عليه وسلم قاله مسلم، وعده غيره فى كبار التابعين، وكان قاضى أهل مكة، مجمع على ثقته، مات قبل ابن عمر. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/645 رقم 4401، وتذكرة الحفاظ 1/50 رقم 28، وطبقات الحفاظ ص22 رقم 28، وخلاصة تذهيب الكمال ص 21، وطبقات القراء لابن الجزرى 1/496. (2) الربيض: الغنم نفسها، والربض: موضعها الذى تربض فيه، أراد أنه مذبذب كالشاة الواحدة بين قطيعين من الغنم، أو بين مربضيهما. انظر: النهاية فى غريب الحديث 2/185. (3) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب من رخص فى الحديث إذا أصاب المعنى 1/105 رقم318، والخطيب فى الكفاية ص 268، 269 واللفظ له، وانظر: توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 417.

.. وسمع ابن عمر أيضاً رجلاً يردد حديث الأركان الخمسة، فقدم بعضها وآخر بعضاً مخالفاً بذلك الرواية التى سمعها ابن عمر بنفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن عمر –رضى الله عنهما-: "اجعل صيام رمضان أخرهن، كما سمعت من فى رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1) . ... وروى الخطيب بسنده عن العلاء بن سعد بن مسعود قال: قيل لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك لا تحدث كما يحدث فلان وفلان؟ فقال: ما بى ألا أكون سمعت مثل ما سمعوا، أو حضرت مثل ما حضروا، ولكن لم يدرس الأمر بعد، والناس متماسكون، فأنا أجد من يكفينى، وأكره التزيد والنقصان فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" (2) . ... وفى عصر التابعين، وأتباع التابعين ظل كثير من الرواة يؤدى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظه ونصه، حتى فى الحروف وفى ذلك يقول الأعمش: "كان العلم عند أقوام كان أحدهم لأن يخر من السماء أحب إليه من أن يزيد فيه واواً أو ألفاً أو دالاً" (3) . ... وكان مالك -رحمه الله- يتقى فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الباء والتاء ونحوهما (4) . وممن اعتمد ذلك الإمام مسلم -رحمه الله- فإنه فى صحيحه يميز اختلاف الرواة حتى فى حرف من المتن، وربما كان بعضه لا يتغير به معنى، وربما كان فى بعضه اختلاف فى المعنى، ولكنه خفىٌ لا يفطن له، إلا من هو فى العلم بمكان، وكذا سلكه الإمامان البخارى، وأبو داود، وسبقهما لذلك شيخهما الإمام أحمد (5) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم 1/64 رقم 8، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام1/209رقم16 وانظر: الكفاية ص 271. (2) الكفاية ص 266. (3) المصدر السابق ص 274. (4) انظر: الكفاية ص 275، وانظر: تدريب الراوى 2/101، والإلماع ص 179. (5) فتح المغيث للسخاوى 2/211.

.. ومن أمثلة ذلك: ما روى عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأسلم وغفار، وشئ من مزينة وجهينة، أو شئ من جهينة ومزينة، خير عند الله، قال: أحسبه قال يوم القيامة، من أسد، وغطفان، وهوازن وتميم" (1) وهناك من اشتد حرصه على لفظ سماعه فأبى تبديل حرف مشدد بمخفف، فعن أم كلثوم بنت عقبة (2) - رضى الله عنها - قالت: "ليس الكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً أو نمى خيراً. قال حماد سمعت هذا الحديث من رجلين فقال أحدهما: نمى خيراً خفيفة، وقال الآخر: نمى خيراً مثقلة (3) . ... وأشد من كل هذا تحرج بعضهم من تغيير اللحن الوارد فى كلام الراوى صحابياً كان أو تابعياً، لأنه سمعه هكذا، فلا ضير من استعمال (حوث) بدلاً من "حيث" (4) ، أو "لغيت" بدلاً من "لغوت" (5) ، و "عوثاء السفر"، بدلاً من "وعثائه" (6) ؛ ولذلك رووا عن محمد بن سيرين؛ أنه "كان يلحن كما يلحن الراوى" (7) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المناقب، باب ذكر أسلم وغفار ومزينه وجهينة وأشجع 6/627 رقم 3523، ومسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة 8/314 رقم 2521 واللفظ له. (2) أم كلثوم بنت عقبة: صحابية جليلة لها ترجمة فى: الإصابة 4/491 رقم 12238، وتاريخ الصحابة لابن حبان ص 274 رقم 1546، والاستيعاب 4/1953 رقم 4203، واسد الغابة 7/376 رقم 7585. (3) أخرجه الخطيب فى الكفاية ص278، وابن عبد البر فى ترجمة أم كلثوم –رضى الله عنها- فى الاستيعاب 4/1953 رقم 4203. (4) انظر: الكفاية ص 280. (5) المصدر السابق ص 281. (6) المصدر نفسه ص 277. (7) الكفاية ص 285، وانظر: أثر عن أبى معمر فى سنن الدارمى المقدمة، باب من رخص فى الحديث إذا أصاب المعنى 1/106 رقم 320.

.. ثم رأى العلماء أن يميزوا فى هذا الموضوع بين لحن يحيل المعنى، وآخر لا يحيله، فرأوا أنه لابد من تغيير اللحن الذى يفسد المعنى، وقالوا بضرورة رد الحديث إلى الصواب إذا كان راويه قد خالف موجب الإعراب" (1) . ... وبكل ذلك يسقط قول دعاة الفتنة وأدعياء العلم: "أن الرواية بالمعنى هى القاعدة الثابتة فى رواية الحديث (2) ، وأن الرواة تناقلوا الحديث بألفاظهم فى جميع العصور (3) .

_ (1) فتح المغيث للسخاوى 2/230، وللعراقى 3/55، والكفاية ص 297، والإلماع ص 185، وانظر: علوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص 83. (2) ممن صرح بذلك إسماعيل منصور فى كتابة تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 238، 239، وأيده جمال البنا فى كتابه السنة ودورها فى الفقه الجديد" ص 58، 61، 162، وانظر: السير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث فى النحو العربى، فصل "الرواية بالمعنى مرتبطة بعصر التدوين" 1/48، والحديث النبوى فى النحو العربى ص 64-83. (3) الحديث والمحدثون ص 203.

"ومن أجل ذلك كله نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون: "إن الرواية بالمعنى لم يكن لها أثر فى ثبوت السنة وحجيتها ولم تفض إلى النتائج الخطيرة التى يزعمها دعاة الإلحاد، لأنها كانت قبل فساد اللسان العربى، من صحابة عايشوا الوحى، وتنزلاته، وخالطوا صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم، ومن أئمة كبار فى اللغة والشرع معاً، وكانوا يرونها رخصة عند الاضطرار (1) ، وكان نسيانهم قليلاً، بل نادراً، فإن كان ففى بعض حروف العطف، أو المفردات، أو بعض الجمل" (2) . ... وكانوا يقيدون ذلك ببعض العبارات الدالة على الحيطة والورع فى روايتهم بالمعنى كقولهم: "أو كما قال"، "أو كما ورد" "أو نحوه" "أو شبهه" (3) .

_ (1) ولم يرخصوا بها فيما تضمنته بطون الكتب، لأن من ملك تغيير اللفظ، فلا يملك تغيير تصنيف غيره، وهذا بلا خلاف كما قال ابن الصلاح فى علوم الحديث 189 وانظر: الباعث الحثيث ص120، 121 هامش. (2) الحديث والمحدثون 207 بتصرف. (3) روى ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجة فى سننه المقدمة، باب التوقى فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/24 رقم 23. وقال البوصيرى فى مصباح الزجاجة 1/48 إسناده صحيح، احتج الشيخان بجميع رواته، وأخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم 1/193 رقم 376، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ووافقه الذهبى، وأخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب من هاب الفتيا مخافة السقط 1/97 رقم 281، وابن المبارك فى مسنده 140 رقمى2270، 228، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 1/79، والخطيب فى الكفاية ص 310، والقاضى عياض فى الإلماع ص 177.

الاحتجاج بالسنة والاستشهاد بها فى قواعد النحو واللغة:

يقول الأستاذ محمد أسد: "إذا كان مئات الصحابة قد حفظوا جميع القرآن الكريم غيباً بلفظه، وبما فيه من فروق ضئيلة فى الرسم (التهجئة) فلا ريب فى أنه كان ممكناً لهم، وللتابعين من بعدهم أن يحفظوا أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم متفرقة كما حفظوا القرآن سواء بسواء، ولكن من غير أن يزيدوا على الأحاديث أو أن ينقصوا منها شيئاً. إن المحدثين يرون أن الحديث الصحيح ما رُوى واحداً فى معناه ولكن بأسانيد مختلفة مستقلة" (1) . الاحتجاج بالسنة والاستشهاد بها فى قواعد النحو واللغة: ... عرفنا فيما سبق أن الأصل فى رواية الحديث روايته بلفظه، وذلك منذ عصر النبوة المباركة، والصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى عصر التدوين الرسمى للسنة. والفرع هو الترخص فى روايته بالمعنى للعالم بالألفاظ ومدلولاتها، كما عرفنا كيف كانوا يتشددون فى الرواية باللفظ والاعتراض على من يقدم ويؤخر فى اللفظ النبوى، أو يستبدل كلمة بمرادفها، بل كان سقوط أحدهم من السماء أحب إليه من أن يزيد فى الحديث واواً أو ألفاً أو دالاً، وبلغ من شدة المحافظة على اللفظ النبوى أن بعضهم يأبى تبديل حرف مشددَّ بمخفف أو العكس، بل ويأبى بعضهم تغيير اللحن الوارد فى كلام شيخه ما دام سمعه منه، حتى إذا شك الراوى فى لفظين أوردهما جميعاً متشككاً كما جاء فى الحديث: "وهل يكُبُّ النَّاسَ فى النَّارِ على وُجُوهِهِمْ أَوْ على مَنَاخِرِهِمْ إلا حَصَائِدُ أَلْسَنِتْهم" (2) . وهكذا حافظ رواة السنة على لفظ النبى صلى الله عليه وسلم، حتى وصلت إلينا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم سالمة من كل تحريف وتبديل.

_ (1) الإسلام على مفترق الطرق ص 96. (2) أخرجه الترمذى فى سنته كتاب الإيمان، باب ما جاء فى حرمة الصلاة 5/13 رقم 2616، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

.. نعم: وصلت إلينا السنة المطهرة بلفظ النبى صلى الله عليه وسلم، بلفظ أبلغ ما عرف فى لغة العرب، وعرف الدارسون من البيان البشرى، وفى ذلك يصف أبو حيان بلاغة السنة قائلاً: "والثانى: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها السبيل الواضح، والنجم اللائح، والقائد الناصح، والعلم المنصوب والأمر المقصود، والغاية فى البيان والنهاية فى البرهان، والمفزع عند الخصام، والقدرة لجميع الأنام" (1) . ... من أجل ذلك؛ فإن الاحتجاج بالحديث فى اللغة، والنحو أمر طبيعى، وما زعمه المانعون من عدم الاحتجاج به؛ لأنه روى بالمعنى، ولا نستطيع الجزم بأنه لفظ النبى صلى الله عليه وسلم (2) فهذا الزعم يسقط بما سبق ذكره، وتفصيله من أن الأصل فى رواية الحديث أن تكون باللفظ، والفرع هو الترخص فى روايتها بالمعنى للعالم بالألفاظ ومدلولاتها، ولفظه فى هذه الحالة أيضاً حجة، ولِمَ لا، وعلماء اللغة عندما جمعوا اللغة العربية النقية البعيدة عن الخطأ واللحن كانوا يذهبون إلى البوادى ليستمعوا إلى اللغة من فصحاء العرب، ومن بلغاء البادية مختارين القبائل التى اشتهرت بفصحاتها، مثل قريش، وتميم، وهذيل وأسد وغيرهم.

_ (1) البصائر والذخائر 1/8، وانظر: ما قاله الجاحظ فى البيان والتبيين 2/17، 18، وانظر: بلاغة الرسول للدكتور على محمد العمارى، والحديث النبوى للدكتور محمد الصباغ ص 51. (2) انظر: الاقتراح فى علم أصول النحو للسيوطى ص 19، وقارن بكشف الظنون ص405-407، والسير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث فى النحو العربى للدكتور محمود فجال 1/20-24.

.. وكانوا يتحرون فى اختيار الفصحاء، فلم يأخذوا إلا من الذى وثقوا فى فصاحته، ولم يشكوا فى مخالطته لغير العرب، وقد حدد العلماء بعض العصور التى أخذوا عنها اللغة؛ كالعصر الجاهلى، وصدر الإسلام، وبنى أمية، حتى القرن الثانى الهجرى، ولم يلتفتوا إلىما جاء بعد ذلك عن العرب من شعر ونثر، باعتبار أنه لا يحتج به (1) . وكل هذا ينطبق على رواة السنة والأحاديث المروية، لأن الرواية بالمعنى كانت فى القرن الأول قبل فساد اللسان العربى وعلى قلة وفى حدود ضيقة، هذا فى الوقت الذى كانت فيه كتابات عديدة للصحابة فى زمن النبوة وبعده، وكذلك كتابات التابعين فمن بعدهم حتى زمن التدوين الرسمى للسنة فى القرن الأول نفسه، مما يرجح أن الذى فى مدونات الطبقة الأولى لفظ النبى صلى الله عليه وسلم نفسه، فإن كان هناك إبدال لفظ بمرادفه فالذى أبدله عربى فصيح يحتج بكلامه العادى، حتى إذا دونت السنة المطهرة منع من الرواية بالمعنى وتغيير الفظ المدون بلا خلاف كما قال ابن الصلاح (2) . ... ويقول الدكتور محمد الصباغ: "ومهما يكن من أمر الحديث فإنه أحسن حالاً بكثير من الأشعار والأبيات التى يلجأ إليها النحويون ويملؤون بها كتبهم، وبعضها منحول، والآخر مشكوك فيه، أو مجهول لا يعرف قائله (3) .

_ (1) دراسات فى تراث العرب اللغوى للأستاذ فتحى جمعة ص 14-16، وانظر: مجلة الوعى الإسلامى العدد 375 لسنة 1417 ص72. (2) علوم الحديث لابن الصلاح ص 136، وانظر: الحديث والمحدثون ص 218، 220، والحديث النبوى للدكتور الصباغ ص 131، وعلوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص329، 330، والسير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث فى النحو العربى للدكتور محمود فجال 1/62 - 64. (3) الحديث النبوى للدكتور الصباغ 132.

.. ويقول الأستاذ سعيد الأفغانى: "إن ما فى روايات الحديث من ضبط ودقة وتحر لا يتحلى ببعضه كل ما يحتج به النحاة، واللغويون من كلام العرب (1) . ثم إن المطلوب فى نقل قواعد اللغة والنحو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هو غلبة الظن، والغالب على الظن أن الحديث لم يتغير لفظه (2) .

_ (1) أصول النحو للأستاذ سعيد الأفغانى ص47 وانظر: علوم الحديث للدكتور الصباغ ص331،332 (2) انظر: الاستشهاد والاحتجاج باللغة للأستاذ محمد عيد ص 109 - 112، والحديث والمحدثون للدكتور أبو زهو ص219، والحديث النبوى فى النحو العربى للدكتور فجال ص107،108.

أما ما زعموه من وقوع اللحن فى بعض الأحاديث بسبب عجمة بعض الرواة (1) ؛ فهو شئ –إن وقع- قليلٌ جداً، لا ينبنى عليه حكم، ولا يقوم بهذا الزعم حجة لأحد ولا يصح أن يمنع من أجله الاحتجاج بالحديث الصحيح (2) ، وهل يمنع عاقل الاحتجاج بالقرآن إذا لحن به بعض الناس؟!! 0 ثم إن اللحن كان موجوداً فى غير نصوص السنة من موارد اللغة التى اعتمد عليها النحاة من شعر ونثر، ورغم ذلك فقد قبلت؛ لأن العبرة بغلبة العصر لا بلحن الأفراد. ولم يقل أحد أنه لا يحتج بهما فى اللغة والنحو (3) . ثم إن ما ذكره هؤلاء من اللحن فى الأحاديث الصحيحة لم يكن لحناً وإنما هو لغة من لغات العرب - وسيأتى بعد قليل أمثلة على ذلك - وقد حذر العلماء من اللحن فى الحديث أشد التحذير، وعد بعضهم الحديث الملحون كذباً على النبى صلى الله عليه وسلم: قال الأصمعى (4)

_ (1) انظر: الاقتراح ص 21. (2) الحديث النبوى للدكتور الصباغ ص 132، وانظر: الحديث النبوى للدكتور فجال ص 122. (3) الاستشهاد والاحتجاج باللغة ص110 - 114 بتصرف، وانظر: السير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث للدكتور فجال 1/102. (4) الأَصْمَعِىُّ: بفتح الألف، وسكون الصاد المهملة، وفتح الميم، وبالعين المهملة فى آخره. هذه النسبة إلى الجد، وهو الإمام المشهور أبو سعيد عبد الملك بن قُرَيْب بن أعصر الباهلى الأَصْمَعِىُّ، من أهل البصرة، أحد أئمة اللغة والنحو والغريب والأخبار، والملاحم والنوادر، أثنى عليه فى السنة، أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وقال ابن حجر فى التقريب: صدوق سنى. من مؤلفاته: اللغات، والنوادر، والنسب، وغريب الحديث، وغير ذلك، مات سنة 217هـ، وقيل قبل ذلك. له ترجمة فى: اللباب فى تهذيب الأنساب لابن الأثير 1/70، والفهرست لابن النديم ص 86، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير1/144 رقم 38، وتقريب التهذيب 1/618 رقم 4219، وتهذيب الأسماء واللغات للنووى 2/273، ونزهة الألباب فى طبقات الأدباء لابن الأنبارى ص112،وإنباه الرواه على أنباه النحاة للقفطى2/197،ولسان الميزان9/492 رقم 15492.

: "إن أخوف ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو أن يدخل فى جملة قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (1) . لأنه لم يكن يلحن فمهما رويت عنه ولحنت فيه (2) فقد كذبت عليه (3) . أما ما زعموه من أن أحداً من أئمة النحو المتقدمين لم يحتج فى كتبه بالحديث (4) . فذلك إن صح كما يقول الدكتور محمود فجال: فليس معناه أنهم كانوا لا يجيزون الاستشهاد به إذ لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به، فـ (سيبويه) مثلاً إذا ذهبنا نقرأ كتابة المسمى بـ (الكتاب) فلن نجد فيه كلاماً رفعه للنبى صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة، وفى (الكتاب) نصوص كثيرة توافق الأحاديث النبوية … ولكن (سيبويه) لم يستشهد بها على أنها أحاديث من النبى صلى الله عليه وسلم بل على أنها من كلام العرب.

_ (1) سبق تخريجه ص 275. (2) المراد باللحن هنا: مخالفة صواب الإعراب، ويطلق أيضاً على النطق بكلمة على وجه لا يثبت عند العرب، وإن لم يكن خطأ فى الإعراب، واستعمله فى ذلك الفقهاء وأهل اللغة؛ كالنووى، والحريرى. أفاده فضيلة الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف - رحمه الله - على هامش تحقيقه لتدريب الراوى 2/106. (3) رواه ابن الصلاح فى علوم الحديث ص110-114،والقاضى عياض فى الإلماع ص 183-184، وذكره العراقى فى فتح المغيث 3/53، والسخاوى فى فتح المغيث 2/224، والسيوطى فى التدريب 2/106، والصنعانى فى توضيح الأفكار 2/393 - 394 وقال عقبة: "قلت وإنما قال الأصمعى "أخاف" ولم يجزم، لأن من لم يعلم بالعربية، وإن لحن لم يكن متعمداً الكذب" انتهى. وانظر: بقية أقوال المحدثين فى التحذير من اللحن فى المصادر السابقة. (4) انظر: الاقتراح فى علم أصول النحو ص 21، والسير الحثيث للدكتور فجال 1/22.

.. قال (سيبويه) فى كتابة (1) : "وأما قولهم: كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه" (2) فانظر كيف جعله كلاماً صادراً من العرب الذين يحتج بكلامهم (3) . ... يقول الدكتور محمود فجال: إن عدم استدلال بعضهم بالحديث على أنه مرفوع للنبى صلى الله عليه وسلم لا يعنى أنهم لا يجيزون الاستدلال به، وإنما يعنى عدم خبرتهم بهذا العلم الدقيق، وهو علم رواية الحديث ودرايته، لأن تحصيله بحاجة إلى فراغ، وطول زمان، كما يعنى عدم تعاطيهم إياه (4) . ... أما (ابن مالك) فهو إمام فى الحديث بالإضافة إلى إمامته فى علم العربية، وهذا هو السبب الذى حدا به إلى الاستشهاد بالحديث. ... قال (الصلاح الصفدى) : كان-ابن مالك-أمة فى الإطلاع على الحديث، فكان أكثر ما يستشهد بالقرآن، فإن لم يكن فيه شاهدٌ عَدَلَ إلى الحديث، فإن لم يكن فيه شاهدٌ عَدَلَ إلى أشعار العرب (5) .

_ (1) انظر: الكتاب لسيبوبه 1/396. (2) الحديث بنحوه أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجنائز، باب ما قيل فى أولاد المشركين 3/290 رقم 1385، ومسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب كل مولود يولد على الفطرة وحكم أطفال الكفار وأطفال المسلمين 8/458 رقم 2658. (3) فهارس كتاب سيبويه للأستاذ محمد عبد الخالق ص 762، وانظر: الحديث النبوى فى النحو العربى للدكتور فجال ص 109. (4) الحديث النبوى فى النحو العربى ص 110، 126. (5) بغية الوعاة فى طبقات اللغويين والنحاة للسيوطى 1/134، وانظر: الحديث النبوى للدكتور فجال ص110، 126.

.. والقدامى لم يثيروا هذه القضية، ولم يناقشوا مبدأ الاحتجاج بالحديث، وبالتالى لم يصرحوا برفض الاستشهاد به، وإنما هو استنتاج من المتأخرين الذين لاحظوا - خطأ - أن القدامى لم يستشهدوا بالحديث، فبنوا عليه أنهم يرفضون الاستشهاد به ثم حاولوا تعلل ذلك. إذاً فقد كان المتأخرون مخطئين فيما أدعوه من رفض النحاة القدامى الاستشهاد بالحديث وكانوا واهمين حينما ظنوا أنهم هم أيضاً برفضهم الاستشهاد بالحديث إنما ينهجون نهجهم. ونحن نحمل (ابن الضائع) و "أبا حيان" تبعة شيوع هذه القضية الخاطئة فهما أول من روج لها، ونادى بها، وعنهما أخذها العلماء، دون تمحيص أو تحقيق ثقة فى حكمهما … ولعل منشأ تلك الفكرة الخاطئة، هو أن القدماء سكتوا عن الاستشهاد بالحديث، واكتفوا بدخوله تحت المعنى العام لكلمة (نصوص فصحاء العرب) ثم حين جاء من بعدهم ودونوا هذه الفكرة كانوا يفهمون ذلك فلم يخصوا الحديث النبوى بنص مستقل، فلما جاء (ابن الضائع) و (أبو حيان) وغيرهما ولم يجدوا نصاً مستقلاً يعد الحديث من مصادر الاحتجاج، ظنوا أن القدماء لم يكونوا يستشهدون به، وسجلوا هذا الظن على أنه حقيقة واقعة، وجاء من بعدهم فنقلوا عنهم دون تمحيص، وتابعوهم من غير بحث. ... ويؤيد هذا الافتراض أن (السيوطى) استنبط من قول صاحب (ثمار الصناعة) : (النحو علم يستنبط بالقياس والاستقراء من كتاب الله تعالى - وكلام فصحاء العرب) أن النحاة لم يكونوا يستشهدون بالحديث، فعقب على ذلك بقوله: "فقصره عليهما، ولم يذكر الحديث" (1)

_ (1) الاقتراح للسيوطى 1/134، وانظر: الحديث النبوى للدكتور فجال ص 111.

.. يقول الدكتور محمود فجال:"وهناك أسباب كثيرة تحمل على الشك فى صحة ما نسب إلى الأقدمين من رفضهم الاستشهاد بالحديث، بل هناك من الدلائل ما يكاد يقطع-إن لم يكن يقطع فعلاً - أنهم كانوا يستشهدون به، ويبنون عليه قواعدهم، سواء منهم من اشتغل باللغة أو النحو أو بهما معاً. ولهذا لا يسع الباحث المدقق أن يسلم بما ادعاه المتأخرون. وسنده فى ذلك ما يأتى: أولاً: أن الأحاديث أصح سنداً من كثير مما ينقل من أشعار العرب، ولهذا قال (الفيومى) بعد أن استشهد بحديث: "فأثنوا عليه شراً" على صحة إطلاق الثناء على الذكر بشر (1) قال: "قد نقل هذا العدل الضابط، عن العدل الضابط عن العرب الفصحاء عن أفصح العرب، فكان أوثق من نقل أهل اللغة؛ فإنهم يكتفون فى النقل عن واحد ولا يعرفون حاله (2) . ثانياً: أن المحدثين الذين ذهبوا إلى جواز الرواية بالمعنى شرطوا فى الراوى أن يكون محيطاً بجميع دقائق اللغة، وإلا فلا يجوز له الرواية بالمعنى.على أن المجيزين الرواية بالمعنى معترفون بأن الرواية باللفظ هى الأولى، ولم يجيزوا النقل بالمعنى إلا فيما لم يدون فى الكتب وفى حالة الضرورة فقط (3) .وقد ثبت أن كثيراً من الرواة فى الصدر الأول كانت لهم كتب يرجعون إليها عند الرواية، ولا شك أن كتابة الحديث تساعد على روايته بلفظه وحفظه عن ظهر قلب مما يبعده عن أن يدخله غلط أو تصحيف. ثالثاً: أن كثيراً من الأحاديث دون فى الصدر الأول قبل فساد اللغة على أيدى رجال يحتج بأقوالهم فى العربية، فالتبديل على فرض ثبوته، إنما كان ممن يسوغ الاحتجاج بكلامه. فغايته تبديل لفظ يصح الاحتجاج به بلفظ كذلك (4) .

_ (1) لسان العرب 14/124، والقاموس المحيط 4/304. (2) انظر: مجلة مجمع اللغة العربية 3/201. (3) مجلة المجمع 3/204. (4) انظر: خزانة الأدب ولب لباب العرب لعبد القادر البغدادى 1/6.

رابعاً: أن اللغويين احتجوا بالحديث فى اللغة، لأجل الاستدلال على معانى الكلمات العربية، وهو ما دفع (السهيلى) إلى أن يقول: "لا نعلم أحداً من علماء العربية خالف فى هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان فى شرح التسهيل، وأبو الحسن بن الضائع فى شرح الجمل، وتابعهما على ذلك الإمام السيوطى (1) أ. هـ. ... ويقول الدكتور صبحى الصالح معللاً عدم احتجاج أئمة النحو المتقدمين بالحديث قال: "فذلك إن صح – عائد إلى أن كتب الحديث لم تكن متوفرة لغير ذوى الاختصاص فى ذلك الحين، ولولا ذلك لاقتصروا على الاستشهاد بها دون الأشعار، وقد تلافى المتأخرون هذا، فكانوا يحتجون دائماً بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى معجماتهم التى اشتملت على أنقى الألفاظ وأفصحها مصحوبة بشروحها وشواهدها، كما فى "تهذيب" الأزهرى، و (صحاح) الجوهرى و (مقاييس) ابن فارس، و (فائق) الزمخشرى وغيرهم (2) .

_ (1) أصول التفكير النحوى للدكتور على أبى المكارم ص 136-141، وانظر: الحديث النبوى للدكتور فجال ص 112، 113 (2) علوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص 332.

.. وفاقهم فى ذلك كله (ابن مالك) وبلغ الذروة فى كتابه "شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" فقد عقده للأحاديث التى يشكل أعرابها، وذكر لها وجوهاً يستبين بها أنها من قبيل العربى الصحيح (1) . بل إن (ابن الضائع) و (أبا حيان) وهما على رأس من رفض الاستشهاد بالحديث لم تخل كتبهما من بعض الأحاديث وقد فطن إلى هذا (ابن الطيب الفاسى) فقال: "بل رأيت الاستشهاد بالحديث فى كلام أبى حيان نفسه مرات، ولا سيما فى مسائل الصرف، إلا أنه لا يقر له عماد، فهو فى كل حين فى اجتهاد" (2) . ... ويقول الأستاذ سعيد الأفغانى: "وأغلب الظن أن من لم يستشهد بالحديث من المتقدمين لو تأخر به الزمن إلى العهد الذى راجت فيه بين الناس ثمرات علماء الحديث من رواية ودراية لقصروا احتجاجهم عليه بعد القرآن الكريم، ولما التفتوا قط إلى الأشعار والأخبار التى لا تلبث أن يطوقها الشك إذا وزنت بموازين فن الحديث العلمية الدقيقة (3) .

_ (1) انظر: الدراسة النحوية للأحاديث الواردة فى أكثر شروح ألفية ابن مالك للدكتور محمود فجال فى كتابة الحديث النبوى فى النحو العربى ص138-315،وانظر: دراسة نحوية للأحاديث الواردة فى شرح الكافى للرضى للدكتور محمود فجال فى كتابه السير الحثيث1/119-324، 2/325-543. (2) تحرير الرواية فى تقرير الكفاية لأبى الطيب الفاسى ص96، وانظر: الحديث النبوى للدكتور فجال ص 106. (3) أصول النحو ص 49 وقارن بالحديث النبوى للدكتور فجال ص123، والسنة النبوية فى مواجهة التحدى للدكتور أحمد عمر هاشم ص 122-123.

.. ويمكننا أن نعد قرار مجمع اللغة العربية فى مصر قولاً معتمداً فى موضوع الاحتجاج بالحديث فى اللغة والنحو. وهذا القرار هو: "إن العرب الذين يوثق بعربيتهم، ويستشهد بكلامهم هم عرب الأمصار إلى نهاية القرن الثانى وأهل البدو من جزيرة العرب إلى آخر القرن الرابع" (1) . ... كما رأى المجمع الاحتجاج بأنواع من الأحاديث لا ينبغى الاختلاف بالاحتجاج بها فى اللغة، وهى: الأحاديث المدونة فى الصدر الأول، ككتب الأصول الستة فما قبلها، على أن يحتج بها على الوجه التالى: أ- الأحاديث المتواترة والمشهورة. ب- الأحاديث التى تستعمل ألفاظها فى العبادات. ج- الأحاديث التى تعد من جوامع الكلم. د- كتب النبى صلى الله عليه وسلم ومعاهداته. هـ- الأحاديث المروية لبيان أنه كان صلى الله عليه وسلم يخاطب كل قوم بلغتهم. و الأحاديث التى دونها من نشأ بين العرب الفصحاء (2) . ن- الأحاديث التى عرف من رجال روايتها أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى، مثل القاسم بن محمد ورجاء بن حيوة، وابن سيرين. ج- الأحاديث المروية من طرق متعددة، وألفاظها واحدة (3) .

_ (1) نقل هذا القرار الأستاذ عباس حسن فى كتابه (اللغة والنحو بين القديم والحديث) ص 24، وانظر: الحديث النبوى للدكتور الصباغ ص 130، والحديث النبوى فى النحو العربى للدكتور فجال ص 127-132. (2) كالأئمة مالك والشافعى، ولذلك قال الإمام أحمد بن حنبل فى الشافعى: "إن كلامة فى اللغة حجة" انظر: الاقتراح للسيوطى ص 24. (3) مجمع اللغة العربية، مجموعة القرارات العلمية فى خمسين عاماً أخرجها وراجعها محمد شوقى أمين، وإبراهيم الترزى ص 5، وانظر: أمثلة على كل ما سبق فى الحديث النبوى للدكتور الصباغ ص133 - 135.

.. يقول الأستاذ جواد رياض بعد أن نقل قرار مجمع اللغة السابق: "ومن هنا؛ فإننا نستطيع أن نعتمد على الأحاديث الصحيحة اعتماداً كلياً فى تأييد بعض قواعد النحو التى نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتى توافق لغة من لغات العرب، حتى ولو خالفت رأى جمهور النحاة، لأن قول الرسول حجة فى تصحيح أقوالنا كما هو حجة فى تصحيح أعمالنا، وما ذكره هؤلاء من اللحن فى الأحاديث الصحيحة لم يكن لحناً وإنما هو لغة من لغات العرب. مثل ما روى عن أنس رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه نهى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُل قائماً، قال قَتَادَةُ فَقُلْنَا فالأَكْلُ فقال: "ذَاكَ أَشَرُّ أَوْ أَخْبَثُ" (1) . ... وفى حديث آخر قال: "… فوالَّذى نَفْسِى بِيَده إِنَّهُمْ لأَخْيَرُ مِنْهُمْ" (2) . وطبقاً لما هو معروف عند أهل اللغة، فإنهم ينكرون لفظ "أَشَرَّ" و "أَخْيَرُ" ويقولون الصواب (خير) و (شر) بدون ألف كما قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} (3) وقال تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (4) . ولكن لا يقبل إنكارهم فإن لفظ "أشر" و "أخير"

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الأشربة، باب كراهية الشرب قائماً 7/213 رقم 2024 (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل غفار وأسلم وجهينه 8/315 رقم 2522. (3) الآية 24 من سورة الفرقان. (4) الآية 34 من سورة الفرقان.

صحيح أيضاً، وهو عربى فصيح، وهو لغة من لغات العرب، وإن كانت قليلة الاستعمال، وبالتالى فلا يقبل إنكار هذه اللغة أو ردها ما دامت قد تكررت فى الأحاديث الصحيحة، ويوجد لها نظائر مما لم يكن معروفاً عند اللغويين وجارياً على قواعدهم، لأن النحويين كما قال الإمام النووى لم يحيطوا إحاطة قطعية بجميع كلام العرب، ولهذا يمنع بعضهم ما ينقله غيره من العرب كما هو معروف (1) . ومن هنا يتبين أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم (أَشَرَّ) و (أَخْيَرُ) صحيح حتى ولو كان مخالفاً لرأى جمهور النحاة، فالاحتجاج بالحديث الصحيح هو الأولى (2) .

_ (1) المنهاج شرح صحيح مسلم 7/217 رقم 2024، 8/313 رقم 2522 وانظر: مجلة الوعى الإسلامى، العدد 375 لسنة 1417هـ، ص 73. (2) مجلة الوعى العدد السابق نفس الصفحة.

وأخيراً: (لا نملك إلا أن نرد قضية الاحتجاج إلى معيار لا يخطئ أبداً، وهو معيار الفصاحة والصفاء والسلامة من الفساد، فلا يحتج فى الحديث، ولا فى غيره، بمن لابس الضعف لغته، وخالطت العجمة كلامه، وتسربت الركة إلى لفظه مهما يَسمُو مقامه. وكان هذا المعيار الدقيق كفيلاً - لو عرفه اللغويون المتقدمون فى وقت مبكر - بإرساء قواعد اللغة وأصول النحو على دعائم ثابتة قوية، وبقطف ثمار تلك الأصول فى نتاج نحوى غنى بالشواهد كنتاج ابن مالك، وابن هشام، من رجال النحو المتأخرين وأئمته الأعلام" (1) . ومذهبهم هو الأصل السديد الصحيح، وهو الذى أخذ به جمهور علماء اللغة الذين امتلأت معجماتهم التى تركوها بالحديث، وكذلك كتب أئمة النحو المتقدمين؛ كابن فارس، وابن جنى، وابن برى، والسهيلى، حتى قال ابن الطيب: "لا نعلم أحد من علماء اللغة خالف هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان (745هـ) فى شرح التسهيل، وأبو الحسن بن الضائع (680) فى شرح الجمل، وتابعهما فى ذلك الإمام السيوطى (2) أ. هـ. ... والحق ما قاله الإمام مالك لا ما قاله أبو حيان، وكلام ابن الضائع كلام ضائع (3) . وما احتجوا به على منعهم للاحتجاج ظهر لك ضعفه، لأن ما تعللوا به ورد بصورة أدق وأضبط من الذى احتجوا به هم أنفسهم من شعر ونثر (4) . أ. هـ. والله أعلم.

_ (1) علوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص 333. (2) أصول التفكير النحوى 136 - 141، وانظر: الحديث النبوى للدكتورالصباغ ص 130، 131. (3) تحرير الرواية فى تقرير الكفاية ص 101، وانظر: الحديث النبوى للدكتور محمود فجال ص 108، 109. وللاستزادة فى هذا الموضوع، انظر: موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث للدكتورة خديجة الحديثى. (4) راجع أصول النحو للأستاذ سعيد الأفغانى ص 41.

رابعا: شبهة أن الوضع وكثرة الوضاعين للحديث أضعفت الثقة بالسنة النبوية

رابعاً: شبهة أن الوضع وكثرة الوضاعين للحديث أضعفت الثقة بالسنة النبوية استعراض الشبهة وأصحابها: ... زعم أعداء السنة المطهرة من غلاة الشيعة، والمستشرقين، وأذيالهم من دعاة اللادينية، أن من آثار تأخر تدوين الحديث إلى ما بعد المائة الأولى من الهجرة، أن اتسعت أبواب الرواية وفاضت أنهار الوضع بغير ضابط ولا قيد - منذ فتنة عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى لقد بلغ ما روى من الأحاديث الموضوعة عشرات الألوف لا يزال كثير منها منبثاً بين تضاعيف الكتب المنتشرة بين المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، مما يجعل الثقة بصحة الأحاديث ضعيفة، ويجعل المرء لا يطمئن إلى السنة النبوية من حيث ورودها (1) .

_ (1) أضواء على السنة محمودأبو رية ص 18، 268، وانظر له قصة الحديث المحمدى ص 49 - 56 وشيخ المضيرة ص 218، وانظر الأضواء القرآنية للسيد صالح أبو بكر 1/35، ومجلة المنار المجلد 9/516 - 517، والصلاة لمحمد نجيب ص 11 - 14، وفجر الإسلام 210، 211، وضحى الإسلام 2/123 كلاهما لأحمد أمين، ودليل المسلم الحزين لحسين أحمد أمين ص 45 وإعادة تقييم الحديث لقاسم أحمد ص 98، ونحو تطوير التشريع الإسلامى لعبد الله النعيم ص 44-50، والأصلان العظيمان 218، والسنة ودورها فى الفقه الجديد كلاهما لجمال البنا ص12، 90، 91، 109، 161، 262، وحقيقة الحجاب وحجية الحديث لسعيد العشماوى ص 84، وتبصير الأمة بحقيقة السنة ص111، 113، 290، 427، وبلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمين كلاهما لإسماعيل منصور ص 471، والخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة لصالح الوردانى ص 81، وتأملات فى الحديث زكريا عباس داود ص 131-164والإمام الشافعى لنصر أبو زيد 97، 98، والسلطة فى الإسلام لعبد الجواد ياسين 236 - 258، ودراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10 ص 489 - 514، ودراسة الكتب المقدسة لموريس بوكاى 13، 156،158،290،298، 302، وخمسون ومائة صحابى مختلف لمرتضى العسكرى1/50، 51

.. هذه هى خلاصة شبهتهم التى طعنوا بها فى حجية السنة المطهرة، وفى مصدريتها التشريعية، كما طعنوا بها فى عدالة حملة الإسلام من أهل القرون الثلاثة الفاضلة الذين شهد لهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخيرية من صحابته الكرام رضي الله عنه والتابعين لهم بإحسان من أئمة المسلمين من المحدثين والفقهاء. ... فطعنوا بهذه الشبهة فى حجية السنة حيث ذهب الصنم الأكبر للمستشرقين جولد تسيهر إلى (أن القسم الأكبر من الحديث ليس إلا نتيجة للتطور الدينى والسياسى والاجتماعى للإسلام فى القرنين الأول والثانى، وأنه ليس صحيحاً ما يقال أنه وثيقة للإسلام فى عهده الأول عهد الطفولة، ولكنه أثر من آثار جمهور الإسلام فى عصر النضوج، وتابعه على ذلك سائر المستشرقين (1) ، وذيولهم من دعاة الفتنة، وأدعياء العلم فى أمتنا الإسلامية؛ مثل أحمد صبحى منصور القائل: "بدلاً من أن يعكف المسلمون على القرآن ومنهجه العقلى فإنهم أضاعوا قروناً فى تأليف الروايات والاختلاف حولها، وفى تأليف الخرافات والبحث عنها" (2) . ... ويقول أيضاً: "… لأن تلك المرويات التى كانت تعبر عن عصور السابقين وثقافتهم أصبحت فى عصرنا تسئ للإسلام، علاوة على أنها أكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان (3) ، فتأمل هل هناك فرق فى المعنى بين ما قاله أحمد صبحى وجولدتسيهر؟!! ... ومن أسباب وضع الحديث طعن أعداء الإسلام فى عدالة حمل الإسلام من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين.

_ (1) سبق تفصيل ذلك والرد عليه فى شبهة التأخر فى تدوين السنة ص 344-353. (2) مجلة روزاليوسف العدد 3530 ص 50. (3) انظر: مجلة روزاليوسف العدد 3563 ص 36، وكرر هذا الكلام إجمالاً فى كتبه الآتية: حد الردة ص 5، 89، والمسلم العاصى ص 8،9، وعذاب القبر ص 5،6، ولا ناسخ ولا منسوخ ص 10، وانظر السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 11.

1- فاتهموا الصحابة العدول الثقات رضي الله عنهم بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم كانوا يكذِّب بعضهم بعضاً، وأنهم تسارعوا على الخلافة وانقسموا شيعاً وأحزاباً (وأخذ كل حزب يدعم موقفه بحديث يضعه على النبى صلى الله عليه وسلم، واشتد ذلك الأمر فى العصر الأموى، والعباسى حيث تحولت تلك الأكاذيب إلى أحاديث، وتم تدوينها فى العصر العباسى ضمن كتب الحديث الصحاح) (1) .

_ (1) قاله أحمد صبحى فى كتابه الحسبة ص 10، 39، وانظر مجلة روزاليوسف العدد 3563 ص 35، والصلاة فى القرآن ص56،57، وانظر: الحديث فى الإسلام للمستشرق الفريد غيوم ص20-30 نقلاً عن منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 57، 58.

2- واتهموا أئمة المسلمين الثقات من المحدثين والفقهاء بأنهم نافقوا الحكام والسلاطين، وكانوا لهم جنوداً واخترعوا لهم من الأحاديث ما يثبت ملكهم وسلطانهم، وعلى دربهم صار علماء المسلمين إلى يومنا هذا. وفى ذلك يقول نيازى عز الدين: "السلطان (1) كان يستخدم الأحاديث، وعلماء الحديث، ورجال الدين أصلاً من أجل إقناع الشعب الذى هو الرأى العام عنده بوجهة نظره دائماً، فكل هؤلاء كانوا يعملون للسلطان بأجر موضوع يقابل خدماتهم المطلوبة، فعليهم تنفيذ الأوامر (لذلك سميناهم فى هذا الكتاب بجنود السلطان؛ لأنهم يتلقون الأوامر وعليهم الطاعة الدائمة لتلك الأوامر مهما كانت) (2) ويقول فى موضع آخر: "وجنود السلطان استخدموا الأحاديث التى وضعوها ظلماً باسم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليتوصل السلطان إلى ما يريد من إخضاع الشعب بأقل تكاليف ممكنة" (3) .

_ (1) المراد بالسلطان فى نظر المؤلف هو معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه، وصرح بذلك فى كتابه دين السلطان ص 34، 41، 795. (2) دين السلطان ص 62. (3) دين السلطان ص 92 وراجع من نفس المصدر ص 10، 114، 117، 119، 153، 154، وانظر: إنذار من السماء ص 10، 124، 125، 129، 130، 134، 695، 715. كلاهما لنيازى عز الدين. وانظر: وعاظ السلاطين للدكتور على الوردى ص 15-262.

.. وهذا الكذب ترديد لما قاله قديماً جولد تسيهر فى العقيدة والشريعة فى الإسلام قائلاً: "ولا نستطيع أن نعزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخرة وحدها، بل هناك أحاديث عليها طابع القدم، وهذه إما قالها الرسول صلى الله عليه وسلم أو هى من عمل رجال الإسلام القدامى … فالحق أن كل فكرة، وكل حزب وكل صاحب مذهب يستطيع دعم رأيه بهذا الشكل، وأن المخالف له فى الرأى يسلك أيضاً هذا الطريق ومن ذلك لا يوجد فى دائرة العبادات أو العقائد أو القوانين الفقهية أو السياسية مذهب أو مدرسة لا تعزز رأيها بحديث أو بجملة من الأحاديث، ظاهرها لا تشوبه أى شائبة" (1) . ... ونفس هذا الكذب ردده حسين أحمد أمين فى كتابه دليل المسلم الحزين قائلاً: "ومن ثم فقد لجأ الفقهاء والعلماء إلى تأييد كل رأى يرونه صالحاً ومرغوباً فيه بحديث يرفعونه إلى النبى صلى الله عليه وسلم (2) . ... وردده أحمد أمين فى فجر الإسلام قائلاً: "فلا تكاد ترى فرعاً فقهياً مختلفاً فيه إلا وحديث يؤيد هذا وحديث يؤيد ذلك" (3) . ... وردده أحمد صبحى مؤيداً فى ذلك أحمد أمين قائلاً فى دفاعه عن حل زواج المتعة: "وذلك يذكرنا بما قاله العلامة أحمد أمين فى كتابة فجر الإسلام. "أن الخلافات الفقهية كانت من أهم أسباب اختراع الأحاديث" (4) .

_ (1) العقيدة والشريعة ص49،50، وانظر: له دراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10 ص 511، 521. وانظر: أصول الفقه المحمدى لشاخت ترجمة الصديق بشير نقلاً عن المرجع السابق العدد 11 ص 689. راجع: منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتور عزية على طه ص 64 ما بعدها. (2) دليل المسلم الحزين ص 45. (3) فجر الإسلام ص 214. (4) مجلة روزاليوسف العدد 3564 ص 23.

الجواب على شبهة أن الوضع وكثرة الوضاعين للسنة أضعفت الثقة بالسنة الشريفة

.. ويقول أيضاً: "إن كل ما كتبه الأئمة السابقون (يعنى ما دونوه فى كتب السنة المطهرة) ليس ديناً وإنما هو فكر دينى يقبل الخطأ والصواب (1) . ... وردد ذلك من غلاة الشيعة على الشهرستانى فى كتابه (منع تدوين الحديث أسباب ونتائج" قائلاً: "السنة المتداولة اليوم ليست سنة الرسول بل هى سنة الرجال فى كم ضخم من أبوابها ومفرداتها" (2) وفى موضع آخر: يصف السنة المطهرة بأنها "فقه الرجال" (3) . الجواب على شبهة أن الوضع وكثرة الوضاعين للسنة أضعفت الثقة بالسنة الشريفة تمهيد: ... صحيح: أنه كان هناك وضاعون وكذابون لفقوا أقوالاً، ونسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن الأمر لم يكن بهذه البساطة التى تخيلها أصحاب هذه الشبهة، وأثاروا بها الوساوس فى النفوس، وقد جهلوا أو تجاهلوا الحقائق التى سادت الحياة الإسلامية فيما يتعلق بالسنة النبوية. فقد كان إلى جانب ذلك عدد وفير من الرواة الثقات المتقنين العدول، وعدد وفير من العلماء الذين أحاطوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسياج قوى يعسر على الأفاكين اختراقه ... واستطاع هؤلاء المحدثون بسعة إطلاعهم، ونفاذ بصيرتهم، وجدهم واجتهادهم ومثابرتهم أن يعرفوا الوضاعين، وأن يقفوا على نواياهم ودوافعهم، وأن يضعوا أصابعهم على كل ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الوضع والكذب والافتراء.

_ (1) انظر: مجلة روزاليوسف العدد 3563 ص 36، وقارن شيخ المضيرة لمحمود أبو ريه ص170، والإمام الشافعى وتأسيس الأيدلوجية الوسطية للدكتور نصر أبو زيد ص98، والسلطة فى الإسلام لعبد الجواد ياسين ص 260، وإعادة تقييم الحديث لقاسم أحمد ص98، 99 وغيرهم. (2) منع تدوين الحديث ص 302. (3) المصدر السابق ص 330.

فهؤلاء الوضاعون لم يترك لهم الحبل على الغارب يعبثون فى الحديث النبوى كما يشاؤون، ولم يترك لهم المجال لأن يَنْدَسُوا بين رواة الأحاديث النبوية الثقات العدول دون أن يعرفوا. ... فقد أدرك العلماء الثقات من المحدثين هذا الاتجاه عند الوضاعين فضربوا عليهم حصار فكرياً، وعلمياً، وعملياً، وميزوهم، وكشفوهم، وكشفوا أساليبهم، وأهدافهم، ودوافعهم، وذكروهم فرداً فرداً وبينوا حكم الدين فى كل منهم (1) ، كما استعدوا عليهم الحكام والأمراء بمنعهم من التحديث، كما ميزوا الصحيح والضعيف والموضوع فدون كل على حده، وتلك مزية للسنة لم يصل إليها أى علم من العلوم، إلا أن أعداء الإسلام استطاعوا أن يصوروا هذه المزية على أنها عيب!!! بزعمهم أن الموضوع يوجد فى السنة بلا تمييز (2) . وإذا كان العلماء قديماً وحديثاً اتسعت مباحثهم فى التعريف بالحديث الموضوع، وبدايته، وأسبابه، وحكم روايته، وضوابط معرفته، وأشهر المصنفات فيه، وكتبوا فى ذلك ما يفى بالغاية - حتى يصح أن يقال: لم يدع الكاتبون زيادة لمستزيد فيه، فلنذكر خلاصة بعض تلك المباحث ففيها بيان جهود علماء الحديث فى مقاومة حركة الوضع والوضاعين، وهتك سترهم، حتى خرجت السنة النبوية المطهرة سالمة من تحريفهم وإفكهم.فإلى بيان ذلك.

_ (1) مؤتمر السنة النبوية ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة بحث الشيخ عز الدين التميمى2/569-570. (2) السنة النبوية. مكانتها. لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد المهدى عبد القادر ص 54.

التعريف بالحديث الموضوع لغة واصطلاحا:

التعريف بالحديث الموضوع لغة واصطلاحاً: ... الموضوع لغة: اسم مفعول، مأخوذ من وضع الشئ يضعه وضعاً، إذا حطه وأسقطه. أو مأخوذ من الضعة، وهى الانحطاط فى الرتبة ويأتى (وضع) لمعانٍ عدة، منها: الإسقاط، كوضع الجنابة عنه أى أسقطها وكوضع الأمر، أو الشئ عن كاهله، أى أسقطه. ويأتى بمعنى الترك، ومنه: إبل موضوعة، أى متروكة فى المرعى. ويأتى بمعنى الافتراء والاختلاف كوضع هذه القصة، أى: اختلقها وافتراها. والأحاديث الموضوعة: المختلقة (1) . والموضوع فى اصطلاح المحدثين: هو الحديث الكذب، المختلق، المصنوع فهو مما نسب إلى النبى صلى الله عليه وسلم كذباً واختلاقاً، مما لم يقله أو يفعله أو يقره، فالمناسبة بين المعنى اللغوى، والاصطلاحى ظاهرة؛ لأن الموضوع فيه معنى السقوط، وفيه انحطاط فى رتبته عن غيره، وفيه معنى التوليد وإيجاد ما لم يكن موجوداً (2) . وتسمية الكلام (الموضوع) : حديثاً، لا مانع منها، فهو حديث بالنظر إلى المعنى اللغوى، كما أشار إليه الحافظ السخاوى فى فاتحة كتابه المقاصد الحسنة بقوله: "ولاحظت فى تسميتها أحاديث - المعنى اللغوى -" (3) ، وهو أيضاً (حديث) بحسب زعم واضعه، وبالنظر إلى ظاهر الأمر قبل البحث والكشف له، وإن كان اصطلاحاً ليس بحديث. ... ويشهد لتسمية الكلام المكذوب (حديثاً) قوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عنى بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" (4) ، ففى هذا الحديث سمى النبى صلى الله عليه وسلم، الكلام المكذوب (حديثاً) والحديث الموضوع: تارة يكون كلاماً يخترعه الكذاب من عند نفسه، ثم يضيفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الأحاديث الموضوعة.

_ (1) لسان العرب 8/396، 397، والقاموس المحيط 3/91، 92. (2) انظر: تدريب الراوى 1/274، وفتح المغيث للسخاوى 1/274، وتوضيح الأفكار 2/68، وتنزيه الشريعة لابن عراق 1/5. (3) المقاصد الحسنة ص 3. (4) سبق تخريجه ص 34.

.. وتارة يأخذ الواضع كلام غيره كبعض كلمات السلف الصالح من الصحابة والتابعين، أو بعض كلمات الحكماء، أو بعض الأخبار الإسرائيليات، أو غير ذلك، ثم ينسبه للرسول صلى الله عليه وسلم. ... وتارة يأخذ الواضع حديثاً ضعيف الإسناد، فيركب عليه إسناداً صحيحاً ليروج ويقبل. وتارة ينسب الكلام المستقيم ككلام بعض الصحابة أو غيرهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم خطأ وغلطاً، فيقال فيه أيضاً: حديث موضوع (1) أ. هـ. بداية الوضع فى الحديث وبراءة الصحابة رضي الله عنهم منه: ... اختلف العلماء فى بداية ظهور الوضع فى الحديث إلى قولين:

_ (1) لمحات من تاريخ السنة ص 80، 81 وانظر: تفصيل ذلك فى الموضوعات لابن الجوزى 1/35، وتنزيه الشريعة لابن عراق 1/15-16.

1- القول الأول: ذهب إلى أن بدايته فى عهد النبوة المباركة، وبه قال الدكتور صلاح الدين الأدلى (1) ، والدكتور فاروق حماده (2) ، واستدلوا على ذلك بما روى عن بُرَيْدَة رضي الله عنه (3) قال: جاء رجل إلى قوم فى جانب المدينة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى أن أحكم برأيى فيكم، فى كذا وكذا. وقد كان خطب امرأة منهم فى الجاهلية، فأبوا أن يزوجوه، فبعث القوم إلى النبى صلى الله عليه وسلم يسألونه، فقال: "كذب عدو الله". ثم أرسل رجلاً فقال: "إن أنت وجدته ميتاً فأحرقه" فوجده قد لدغ فمات، فحرقه، فعند ذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (4)

_ (1) منهج نقد المتن عند علماء الحديث ص 40، 41. (2) المنهج الإسلامى فى الجرح والتعديل ص 271 - 273. (3) بُرَيْدَةُ هو: بُرَيْدَةُ بن الحُصَيْب، صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 1/185 رقم 217، وتاريخ الصحابة ص 43 رقم 108، ومشاهير علماء الأمصار ص 78 رقم 414، واسد الغابة 1/367رقم 398، والإصابة 1/146 رقم 632. (4) أخرجه ابن عدى فى الكامل 4/1371، ونقله عنه ابن الجوزى فى مقدمة كتابة (الموضوعات) 1/55، 56 من حديث بريدة رضي الله عنه، وفى إسناده بروايته عند ابن عدى، وروايتيه عند ابن الجوزى (صالح بن حيان القرشى) اتفقت كلمة المحدثين النقاد على تضعيفه وجرحه، كما تراه فى ترجمته فى: تهذيب التهذيب 4/386، وتقريب التهذيب 1/427 رقم 2862، والجرح والتعديل 4/398 رقم 1739، والمجروحين لابن حبان 1/365، والضعفاء والمتروكين للنسائى ص135 رقم 311، وخلاصة تذهيب تهذيب الكمال ص 170 وترجم له الحافظ الذهبى فى الميزان 2/292 فذكر من منكراته هذا الحديث نفسه، وقال: رواه كله صاحب (الصارم المسلول) ص 169 من طريق البغوى عن يحيى الحمانى عن على بن مسهر وصححه، ولم يصح بوجه. والحديث أخرجه الطبرانى فى الأوسط 3/59 عن عبد الله بن عمرو بن العاصرضي الله عنه، وفى إسناده عطاء بن السائب الكوفى وقد اختلط كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/145، وقد نص الطبرانى أن هذا الحديث لم يروه عن عطاء إلا وهيب بن خالد، وقد ذكر أبو داود أنه سمع منه بعد اختلاطه. انظر: نهاية الاغتباط ص241 رقم 71، وفى تهذيب التهذيب 7/203 رقم 385 رواية وهيب عنه فى جملة ما يدخل فى الاختلاط، هذا وقد تتبع الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة هذا الحديث برواياته المتعددة فى كتابه "لمحات من تاريخ السنة" تحت عنوان "بطلان الأحاديث الدالة على وجود الكذب على النبى صلى الله عليه وسلم فى حياته ص 56 – 65، وقال: وأما الحديث الذى جاء فى سبب ورود حديث "من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"، فهو حديث منكر لا يصح الالتفات إليه ولا التعويل عليه، انظر: لمحات من تاريخ السنة ص 56

2- القول الثانى: ذهب إلى أن بداية الوضع فى الحديث، كانت باندلاع الفتنة التى أشعل فتيلها أقوام من الحاقدين على الإسلام، ويعتبر الدكتور السباعى سنة أربعين من الهجرة هى الحد الفاصل بين صفاء السنة وخلوصها من الكذب والوضع، وبين التزايد فيها واتخاذها وسيلة لخدمة الأغراض السياسية والانقسامات الداخلية بعد أن اتخذ الخلاف بين علىّ ومعاوية -رضى الله عنهما- شكلاً حربياً سالت به دماء وأزهقت منه أرواح، وبعد أن انقسم المسلمون إلى طوائف متعددة (1) . وربما بدأ قبل ذلك، فى الفتنة التى كانت زمن عثمان رضي الله عنه، هذا إذا اعتبرناها الفتنة المذكورة فى خبر ابن سيرين، والتى جعلها بداية لطلب الإسناد. ... وأياً كانت بداية الوضع فى الحديث "زمن النبوة المباركة" أو "زمن الفتنة" فلا يمكن أن يكون الوضع فى الحديث وقع من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم العدول الثقات المعروفين بالخيرية، والتقى، والبر والصلاح، والذين يدور عليهم نقل الحديث.

_ (1) السنة ومكانتها للدكتور السباعى ص 75، وممن ذهب إلى القول الثانى الدكتور همام سعيد فى كتابه الفكر المنهجى عند المحدثين ص 51، والدكتور أبو لبابة فى كتابه أصول علم الحديث ص89-91، والأستاذ أبو غدة فى كتابه لمحات من تاريخ السنة ص 73 - 76 وغيرهم.

وعلى فرض صحة الروايات التى تشير إلى أن بداية الوضع زمن النبوة المباركة. فليس فيها ما يشكك فى صدق الصحابة، ولا ما يطعن فى عدالتهم، إذ كان معهم منافقون، وهم الذين كانت تصدر منهم أعمال النفاق، فلا يبعد أن يكون الرجل الوارد فى تلك الروايات واحد من المنافقين، وبذلك قال الدكتور صلاح الدين الأدلبى (1) ، والدكتور فاروق حمادة (2) دفاعاً عن تهمة الصحابة بالكذب عليه - صلى الله عليه

_ (1) منهج نقد المتن عند علماء الحديث ص 41. (2) المنهج الإسلامى فى الجرح والتعديل ص 273، وسبقهم إلى ذلك الإمام ابن حزم فى كتابة الإحكام فى مباحث المرسل فصل (ليس كل من أدرك النبى صلى الله عليه وسلم ورآه صحابياً 2/218. فبعد أن روى الحديث السابق من رواية بريدة رضي الله عنه وفى إسناده أيضاً "صالح بن حيان القرشى"، قال ابن حزم: فهذا من كان فى عصره صلى الله عليه وسلم يكذب عليه كما ترى فلا يقبل إلا من سمى وعرف فضله، وقبل ذكره للحديث قال: "وقد كان فى المدينة فى عصره عليه السلام منافقون بنص القرآن، وكان بها أيضاً من لا ترضى حاله "كهيت" المخنث الذى أمر عليه السلام بنفيه، والحكم ابن أبى العاص الطريد وغيرهما، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة أ. هـ. وهذا الذى قاله الإمام ابن حزم قبل روايته لحديث بريدة يؤكد حمله تلك الرواية على رجل من المنافقين، لا على أحد من الصحابة العدول الثقات. ومن العجب أن محمود أبو رية استشهد برواية ابن حزم ولم ينقل كلامه السابق. انظر: أضواء على السنة ص 65، وتابعه على ذلك من الشيعة زكريا عباس داود فى كتابه تأملات فى الحديث ص 123، كما لم يلتفت الأستاذ أبو غدة –رحمه الله- إلى أن ابن حزم حمل رواية بريدة على رجل من المنافقين، فغلط الأستاذ أبو غدة الإمام ابن حزم ظناً منه أنه اعتد بصحة الحديث عندما ذكره فى موضعين من كتابه. انظر: لمحات من تاريخ وعلوم الحديث للأستاذ أبو غدة ص 58 هامش.

وسلم - فى زمانه، وهما من أصحاب القول الأول أن بداية الوضع زمن النبوة المباركة. أما ما زعمه غلاة الشيعة والمستشرقون ودعاة اللادينية: أن بداية الوضع كانت فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم ووقعت من صحابته الكرام، واستدلالهم على ذلك بالروايات السابقة (1) . وغيرها مما جاء فيها تخطئة بعض الصحابة لبعضهم، واستشهادهم بذلك على أنهم كانوا يشكون فى صدق بعضهم بعضاً. ... فهذا لا يقوله إلا قوم امتلأت قلوبهم حقداً وبغضاً على من اختارهم واصطفاهم ربهم عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وتبليغ رسالته إلى الخلق كافة.

_ (1) انظر: أضواء على السنة ص 65، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 139، وإنذار من السماء ص 700، 701، ودين السلطان ص 258، 325، وتبصير الأمة بحقيقة السنة ص 294،428، وفجر الإسلام ص 211، ومعالم المدرستين المجلد 1/435، والنص والاجتهاد عبد الحسين شرف الدين ص 335، وتأملات فى الحديث عند السنة والشيعة زكريا داود ص 126، ودراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10 ص539.

.. يقول الدكتور أبو لبابة حسين: "لا يختلف منصفان فى أن العصر الأول للإسلام يعد أنظف العصور وأسلمها من حيث استقامة المجتمع وتوفيق رجاله وصلاحهم ولا غرو، فإن جلّ القيادات كانت من الصحابة (1) ، كما أن التربية القرآنية التى غرسها صلى الله عليه وسلم فى صحبه، وتعهدها بالرعاية كانت عاملاً فعالاً فى تطهير نفوس الأصحاب مما يطرأ عادة على القلوب والنفوس من أهواء ورغائب تكون مدعاة للكذب والافتراء، ولا سيما والقرآن الكريم يتوعد الكاذبين بأشد الوعيد، ويصف الكذب بأنه ظلم قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} (2) ، {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (3) . ... وكيف يكذبون! وقد اشتهر وأعلن فيهم وتواتر عنهم قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (4) وكيف نتصور وصفهم بالكذب وعشرات من الآيات القرآنية، وعشرات أخرى من الأحاديث النبوية تزكيهم وتصفهم بالصدق، والإخلاص، والتقوى؟!!

_ (1) أصول علم الحديث للدكتور أبو لبابة ص89،وراجع: ما سبق فى الجواب عن شبهة نهىالصحابة عن الإكثار من الرواية اتهام من أبى بكر وعمر –رضى الله عنهما- للصحابة بالكذب ص336-339. (2) الآية 32 من سورة الزمر. (3) الآية 69 من سورة يونس. (4) سبق تخريجه ص 275.

.. بل إنه كما يقول الدكتور السباعى -رحمه الله-: "ليس من السهل علينا أن نتصور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فدوا الرسول بأرواحهم وأموالهم وهجروا فى سبيل الإسلام أوطانهم وأقرباءهم، وامتزج حب الله وخوفه بدمائهم ولحومهم: ليس من السهل أن نتصور هؤلاء الأصحاب يقدمون على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كانت الدواعى إلى ذلك (1) … ولقد دلنا تاريخ الصحابة فى حياة الرسول وبعده، أنهم كانوا على خشية من الله وتقى يمنعهم من الافتراء على الله ورسوله، وكانوا على حرص شديد على الشريعة وأحكامها، والذب عنها، وإبلاغها إلى الناس، كما تلقوها عن رسوله يتحملون فى سبيل ذلك كل تضحية ويخاصمون كل أمير أو خليفة أو أى رجل يرون فيه انحرافاً عن دين الله عز وجل لا يخشون لوماً، ولا موتاً، ولا أذى، لا اضطهاداً.

_ (1) قارن بالإسلام على مفترق الطرق للأستاذ محمد أسد ص 94.

نماذج من جراءة الصحابة فى حفظ الشريعة:

نماذج من جراءة الصحابة فى حفظ الشريعة: 1- فهذا الفاروق عمر رضي الله عنه الذى تهابه أعتى الإمبراطوريات ويخاف سطوته العادلة أشجع الرجال، تقف فى وجهه امرأة لتقول له: لا، وذلك حين دعا إلى أمر رأت فيه هذه المرأة مخالفة لتعاليم القرآن، فقد خطب الناس يوماً فقال: "أيها الناس لا تغالوا فى مهور النساء لو كان ذلك مكرمة عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتتصدى له امرأة على مسمع من الصحابة فتقول له: "يا أمير المؤمنين! كتاب الله عز وجل أحق أن يتبع أو قولك؟ قال: بل كتاب الله عز وجل، فما ذلك؟ قالت نهيت الناس آنفاً أن يغالوا فى صدق النساء والله عز وجل يقول فى كتابه العزيز: {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (1) فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر، مرتين أو ثلاثاً ثم رجع إلى المنبر فقال للناس: إنى نهيتكم أن تغالوا فى صدق النساء ألا فليفعل كل رجل فى ماله ما بدا له (2)

_ (1) جزء من الآية 20 من سورة النساء. (2) أخرجه سعيد بن منصور فى سننه باب ما جاء فى الصداق 1/166، 167 رقم 598 وأخرجه أبو يعلى فى مسنده وفيه "كل الناس أفقه من عمر"، قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 4/284: فيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف وقد وثق.

2- ويذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى محاربة الممتنعين عن أداء الزكاة فيعارضه عمر طالما أن نصاً نبوياً يمنع دماء من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهو قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله، فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال والله لو منعونى عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه حق" (1) . 3- وهذا على بن أبى طالب رضي الله عنه يعارض عمر رضي الله عنه فى همه برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فقال له علىّ: ليس ذاك لك: إن الله عز وجل يقول فى كتابه {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (2) فقد يكون فى البطن ستة أشهر، والرضاع أربعة وعشرين شهراً فذلك تمام ما قال الله: ثلاثون شهراً، فخلى عنها عمر" (3) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب استتابة المرتدين، باب قتل من أبى قبول الفرائض 12/288 رقم 6924، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله 1/232 رقم 32، واللفظ له. (2) جزء من الآية 15 من سورة الأحقاف. (3) أخرجه سعيد بن منصور فى سننه، باب المرأة تلد لستة أشهر 2/66 رقم 2074.

4- وهذا أبو سعيد الخدرى رضي الله عنه ينكر على مروان من الحكم والى المدينة تقديم الخطبة على صلاة العيد مبيناً أنه عمل مخالف للسنة النبوية (1) . 5- وها هو ابن عمر-كما يروى لنا الذهبى فى "تذكرة الحفاظ" يقوم-والحجاج (2) يخطب فيقول: أى ابن عمر متكلماً عن الحجاج: عدو الله استحل حرم الله وخرب بيت الله وقتل

_ (1) قصة الحديث أخرجها (بشرح فتح البارى) كتاب العيدين، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر 2/520 رقم 956، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان كون النهى عن المنكر من الإيمان 1/296 رقمى 78، 79، وانظر: إنكار كعب بن عجرة رضي الله عنه على عبد الرحمن ابن أم الحكم خطبته يوم الجمعة قاعداً قائلاً: "انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً وقال الله تعالى: "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" أ. هـ. الآية 11 من سورة الجمعة، والحديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجمعة باب قوله تعالى: "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" 3/416 رقم 864. (2) الحجاج: هو الحجاج ابن يوسف بن أبى عقيل الثقفى، الأمير، المشهور، الظالم، المبير، وقع ذكره وكلامه فى الصحيحين وغيرهما، وليس بأهل بأن يروى عنه، ولى إمرة العراق عشرين سنة، مات سنة 95هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/190 رقم 1144، ووفيات الأعيان 2/29 رقم 149، والجرح والتعديل 3/168 رقم 717، والكاشف 1/313 رقم 946، وسير أعلام النبلاء 4/343 رقم 117، ولسان الميزان 2/333 رقم 2351.

أولياء الله، وروى الذهبى أن الحجاج خطب فقال: إن ابن الزبير بدل كلام الله، فقال ابن عمر: كذبت لم يكن ابن الزبير يستطيع أن يبدل كلام الله ولا أنت، قال الحجاج: إنك شيخ قد خرفت اقعد. قال ابن عمر: أما إنك لو عدت عدت) (1) . ... مثل هذه الأخبار، ومئات أمثالها قد استفاضت بها كتب التاريخ، وهى تدل دلالة قاطعة على ما كان عليه الصحابة من الشجاعة، والأمانة، والجرأة فى الحق، والتفانى فى الدفاع عنه، بحيث يستحيل أن يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعاً لهوى أو رغبة فى دنيا، إذ لا يكذب إلا الجبان، كما يستحيل عليهم أن يسكنوا عمن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين لا يسكتون عن اجتهاد خاطئ يذهب إليه بعضهم بعد فكر وإمعان نظر. وهذا غاية ما يكون بينهم من خلاف فقهى لا يتعدى اختلاف وجهات النظر فى أمر دينى وكل منهم يطلب الحق وينشده (2) . وما يرد من ألفاظ التكذيب على ألسنة بعضهم، فإنما هو تخطئة بعضهم لبعض، وبيان ما وقع فيه بعضهم من وَهَم الكلام.

_ (1) تذكرة الحفاظ 1/37، 39. (2) السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 76 - 78 بتصرف.

.. والكذب بهذا المعنى لا يعصم منه أحد، لا من الصحابة، ولا ممن دونهم، وقد جاءت كلمة "الكذب" فى أحاديث كثيرة بمعنى الخطأ، من ذلك: قول النبى صلى الله عليه وسلم: "كذب من قال ذلك" (1) فى الرد على من ظن أن عامر بن الأكوع (2) : "قتل نفسه فى غزوة خيبر حيث أصابه سيفه، وهو يبارز "مرحباً" ملك اليهود وقوله صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل (3) ، ليس كما قال، قد حللت فانكحى". وذلك فى الرد على أبى السنابل الذى قال لسبيعة بنت الحارث (4) ، وقد وضعت حملها بعد وفاة زوجها بأيام: إنك لا تحلين حتى تمكثى أربعة أشهر وعشراً. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كذب أبو السنابل، ليس كما قال" (5) .

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر 6/404 رقم 1802، وباب غزوة ذى قرر وغيرها 6/419 رقم 1807. (2) عامر بن الأكوع: صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 2/785 رقم 1317، واسد الغابة 3/114 رقم 2680، وتجريد أسماء الصحابة 1/283، والإصابة 3/350 رقمى 364، 393. (3) أبو السنابل: هو حَبَّةُ بن بَعْكَكٍ، صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 1/318 رقم 468، واسد الغابة 1/669 رقم 1030، وتاريخ الصحابة ص 77 رقم 299، ومشاهير علماء الأمصار ص 28 رقم 84، والإصابة 1/304 رقم 1565. (4) سبيعة بنت الحارث: صحابية جليلة لها ترجمة فى: تاريخ الصحابة ص130 رقم 630، والاستيعاب 4/1859 رقم 3370، واسد الغابة 7/138 رقم 6979، والإصابة 4/326 رقم 11278. (5) أخرجه سعيد بن منصور فى سننه كتاب الطلاق، باب فى عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 1/350 رقمى 1506، 1508.

.. وعلى نحو هذا الاستعمال لكلمة "كذب" جاء استعمال الصحابة لها، كقول ابن عباس - رضى الله عنهما - عن نوف البكالى (1) : "كذب نَوْف" عندما قال صاحب الخضر ليس موسى بنى إسرائيل، وإنما موسى آخر - ونوف من الصالحين العباد، ومقصود ابن عباس: اخطأ نوف (2) .

_ (1) نَوْف البكالى: هو نَوْف، بفتح النون وسكون الواو، ابن فَضَالة، بفتح الفاء والمعجمة، البكالى، بكسر الموحدة وتخفيف الكاف، ابن امرأة كعب، شامى مستور، وإنما كذب ابن عباس ما رواه عن أهل الكتاب، مات سنة بعد التسعين من الهجرة. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/255 رقم 7239، والجرح والتعديل 8/505 رقم 2311. (2) انظر: الفكر المنهجى عند المحدثين للدكتور همام عبد الرحيم ص 52.

.. ومنه قول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "كذب أبو محمد" حيث قال: "الوتر واجب" ومنه قول عائشة - رضى الله عنها - لما بلغها أن أبا هريرة يحدث بأنه "لا شؤم إلا فى ثلاث" قالت: "كذب - والذى أنزل على أبى القاسم - من يقول: "لا شؤم إلا فى ثلاث - ثم ذكرت الحديث" (1) . "واسْتَمَعَ الزبير بن العوام رضي الله عنه، إلى أبى هريرة يحدث، فجعل يقول كلما سمع حديثاً: كذب … صدق … كذب، فسأله عروة ابنه: يا أبت ما قولك: صدق … كذب. قال: يا بنى: أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك فيه، ولكن منها ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه" (2) . فعائشة والزبير-رضى الله عنهما - لا يريدان بقولهما - كذب أى اختلق - حاشاهم من ذلك - وإنما المراد اخطأ فى فهم بعض الأحاديث ووضعها فى غير محل الاستشهاد بها، كما صرح الزبير بن العوام رضي الله عنه، فعدالة أبى هريرة بين الصحابة أعظم من أن تمس بجرح، وما اتهم به كذباً من أعداء الإسلام تصدى للرد عليه رهط من علماء الإسلام (3) .

_ (1) أخرجه أبو داود كتاب الصلاة، باب فيمن لم يوتر 2/62 رقم 1420، والنسائى فى سننه كتاب الصلاة، باب المحافظة على الصلوات الخمس والمحافظة عليها 1/230 رقم 461، والموطأ كتاب صلاة الليل، باب الأمر بالوتر 1/120 رقم 13. (2) البداية والنهاية لابن كثير 8/ 112، وانظر: توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 34. (3) انظر بعض من تصدى للدفاع عنه فى "مبحث أبو هريرة راوية الإسلام رغم آنف الحاقدين" ص638

.. فهذا كله من الكذب الخطأ، ومعناه "اخطأ قائل ذلك". وسمى كذباً، لأنه يشبهه؛ لأنه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق، وإن افترقا من حيث النية والقصد (1) وما استدرك به بعض الصحابة بعضاً فى الرواية لا يعد كذباً، كيف لا والصحابة يتفاوتون فى روايتهم عن النبى صلى الله عليه وسلم بين مكثر ومقل، يحضر بعضهم مجلساً للرسول صلى الله عليه وسلم يغيب عنه آخرون، فينفرد الحاضرون بما لم يسمعه المتخلفون، حتى يبلغوا به فيما بعد. ومن هذا القبيل كتاب "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة" للإمام بدر الدين الزركشى. كما وقع لجماعة من الصحابة غيرها، استدركوا على مثيلهم، ونفوا ما رواه وخطؤوه فيه. ... ويدل على ما سبق ما رواه الحاكم عن البراء بن عازب رضي الله عنه: "ليس كلنا كان يسمع حديث النبى صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال، ولكن كان الناس لم يكونوا يكذبون فيحدث الشاهد الغائب" (2) .

_ (1) انظر: لسان العرب 1/704، وانظر: فتح البارى 1/242، والمكانة العلمية لعبد الرزاق الصنعانى فى الحديث النبوى لفضيلة الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار مبحث (مراجعة الصحابة بعضهم لبعض فى ضبط ما يروونه لا تعنى الاتهام) 1/295. (2) سبق تخريجه ص 336.

.. وعن القاسم بن محمد (1) قال: "لما بلغ عائشة قول عمرو بن عمر مرفوعاً: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه قَالَتْ إِنَّكُم لَتُحَدِّثُونِّىٍ عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ وَلاَ مُكَذَّبَيِنْ وَلِكَنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ (2) ، وفى رواية قالت: "يغفر الله لأبى عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسى أو اخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية تبكى عليها فقال: إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب فى قبرها" (3) . ... كل ذلك وغيره الكثير، يدل على ثقة الصحابة بعضهم ببعض، ثقة لا يشوبها شك ولا ريبة، لما يؤمنون به من تدينهم بالصدق، وأنه عندهم رأس الفضائل، وبه قام الإسلام، وساد أولئك الصفوة المختارة من أهله الأولين وصدقت عائشة - رضى الله عنهما - ما كَانَ خُلُق أَبْغضَ إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب (4) .

_ (1) القاسم بن محمد: هو القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق التيمى، ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة، روى عن عائشة، وأبى هريرة، وفاطمة بنت قيس، وعنه الزهرى، وأبو الزناد. مات سنة 106هـ على الصحيح. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/23 رقم 5506 والكاشف 2/130 رقم 4528 والثقات للعجلى ص387 رقم 1370، وتذكرة الحفاظ 1/96 رقم 88، والثقات لابن حبان 5/302، ومشاهير علماء الأمصار ص 82 رقم 427. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه3/501رقم929 (3) أخرجه مسلم فى الموضع السابق 3/503 رقم 932، وانظر: فتح البارى 3/184 حيث نقل عن القرطبى قوله: "إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوى بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفى مع إمكان حمله على محمل صحيح.. إلخ". (4) سبق تخريجه ص 337.

الرد على زعم أعداء السنة المطهرة بأن لفظه "متعمدا" فى حديث "من كذب على" مختلفة:

.. وعلى هذا: فإذا ورد على لسان أحد من الصحابة نفى ما رواه نظيره، أو قوله فى مثيله: كذب فلان …، أو نحو هذا من العبارات، فالمراد به أنه أخطأ أو نسى؛ لأن الكذب عند أهل السنة هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه عمداً أو نسياناً أو خطأ، ولكن الإثم يختص بالعامد، كما جاء فى الحديث: "من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (1) . قال الإمام النووى بعد تعريفه للكذب عند أهل السنة: "وقالت المعتزلة، شرطة العمدية ودليل خطاب هذه الأحاديث لنا، فإن قيده عليه السلام بالعمد، لكونه قد يكون عمداً، وقد يكون سهواً، مع أن الإجماع والنصوص المشهورة فى الكتاب والسنة متوافقة متظاهرة على أنه لا إثم على الناسى والغالط، فلو أطلق صلى الله عليه وسلم الكذب لتوهم أنه يأثم الناسى أيضاً فقيده وأما الروايات المطلقة، فمحمولة على المقيدة بالعمد (2) . أ. هـ. الرد على زعم أعداء السنة المطهرة بأن لفظه "متعمداً" فى حديث "من كذب علىّ" مختلفة: ... زعم أعداء السنة بأن لفظة "متعمداً" مختلقة، وأدرجها العلماء ليسوغوا بها، وضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبة من غير عمد، كما كان يفعل الصالحون من المؤمنين ويقولون "نحن نكذب له لا عليه" أو يتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم على سبيل الخطأ، أو الوهم أو سوء الفهم … إلخ" (3) .

_ (1) سبق تخريجه ص 275. وانظر: لمحات من تاريخ السنة للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ص 73. (2) المنهاج شرح مسلم للنووى 1/104. (3) انظر: أضواء على السنة ص 60، وتابعه جمال البنا فى كتابة السنة ودورها فى الفقه الجديد ص139 وقال بقولهم نيازى عز الدين فى كتابيه إنذار من السماء ص 700، 701، ودين السلطان ص 170، 243، 258، 325، وانظر: تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 294.

.. الجواب: هذا الزعم كله هراء لأن "لفظة متعمداً" أخرجها البخارى فى صحيحه فى أكثر رواياته (1) ،واتفق معه الإمام مسلم فى تخريجها فى صحيحه (2) . وأفاض الحافظ ابن حجر فى بيان ثبوتها (3) ، ورغم ذلك يكذب محمود أبو رية بذكره للبخارى وابن حجر ضمن من لا يثبتون هذه الزيادة (4) .

_ (1) البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبى صلى الله عليه وسلم 1/243، 244 رقمى 108، 110. (2) انظر: مسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول اللهصلى الله عليه وسلم100،101رقمى3،4 (3) فتح البارى 1/242 رقمى 108، 110. (4) أضواء على السنة ص 62 هامش.

.. يقول فضيلة الدكتور محمد أبو شهبة: ولا أحد يدرى - كيف يجتمع الوضع حسبة مع عدم التعمد؟ إن معنى الحسبة أن يقصد الواضع وجه الله، وثوابه، وخدمة الشريعة – على حسب زعمه – بالترغيب فى فعل الخير والفضائل، وهم قوم من جهلة الصوفية، والكرامية، جوزوا الوضع فى الترغيب والترهيب، وربما تمسكوا بقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) . وقوله صلى الله عليه وسلم "من كذب علىَّ ليضل به الناس" (2) . فكيف يجامع قصد الوضع، عدم التعمد؟! وتفسير الحسبة بأنها عن غير عمد غير مقبول ولا مسلم.

_ (1) جزء من الآية 144 من سورة الأنعام. (2) قال الحافظ ابن حجر: الحديث أخرجه البزار من حديث ابن مسعود وقد اختلف فى وصله وإرساله، ورجح الدارقطنى والحاكم إرساله، وأخرجه الدارمى من حديث يعلى بن مرة بسند ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة كما فسر قوله تعالى "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ": والمعنى أن مال أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر فلا مفهوم له كقوله تعالى: "لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً" وقوله تعالى: "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ" فإن قتل الأولاد، ومضاعفة الربا والإضلال فى هذه الآيات إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا اختصاص الحكم أ. هـ. انظر: فتح البارى 1/241، 6/626، وفتح المغيث للسخاوى 1/288، 289، وانظر: الموضوعات لابن الجوزى 1/94 - 98.

.. ثم إن رفع إثم الخطأ أو السهو ليس بهذه الكلمة، وإنما ثبت بأدلة أخرى، وقد تقرر فى الشريعة أنه لا إثم على المخطئ والناسى، ما لم يكن بتقصير منه فذكر الكلمة لا يفيد هؤلاء الرواة شيئاً ما دام هذا أمراً مقرراً، والسر فى ذكرها أن الحديث لما رتب وعيداً شديداً على الكاذب، والمخطئ، والساهى، والناسى، لا إثم عليهم، كان من الدقة والحيطة فى التعبير التقييد بالعمد، وذلك لرفع توهم الإثم على المخطئ والغالط والناسى، وهو ما نقله الإمام النووى عن مذهب أهل السنة والمعتزلة أيضاً. ... على أن أئمة الحديث وإن قالوا برفع الإثم عن المخطئ، والناسى، والغالط، فقد جعلوا ما ألحق بالحديث غلطاً، أو سهواً، أو خطأً، من قبيل الشبيه بالموضوع فى كونه كذباً فى نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تحل روايته إلا مقروناً ببيان أمره، وإلى هذا ذهب الأئمة، الخليلى، وابن الصلاح، والعراقى، وغيرهم، وقد اعتبره بعض أئمة الجرح - كابن معين، وابن أبى حاتم - من قبيل الموضوع المختلق، وذهب بعض الأئمة إلى أنه من قبيل المدرج، ومهما يكن من شئ فقد جعلوا هذا النوع من الغلط أو الوهم مما يطعن فى عدالة الراوى وضبطه (1) أ. هـ. ... فأين هذا الذى يقرره الجهابذة من المحدثين مما يزعمه الأفاكون أمثال محمود أبو رية، فى قوله كلمة "متعمداً" "يتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم على سبيل الخطأ، أو الوهم أو سوء الفهم … إلخ"؟!!

_ (1) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص52، 53 بتصرف، وانظر: رد الأئمة للراوى المتساهل فى التحمل والأداء وصور من ذلك التساهل فى: فتح المغيث للسخاوى 1/385-389، وتدريب الراوى 1/299،340، وتوضيح الأفكار 2/255 - 258.

جهود حملة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة المسلمين

.. يقول الشيخ المعلمى اليمانى: "ولا يتوهمن أحد أن كلمة "متعمداً" تخرج من حدث جازماً وهو شاك، كلا فإن هذا متعمد بالإجماع، ولا نعلم أحداً من الناس حتى من أهل الجهل والضلالة زعم أن كلمة "متعمداً" تخرج هذا، وإنما وجد من أهل الجهل والضلال من تشبث بكلمة "علىَّ" فقال: نحن نكذب له لا عليه. فلو شكك محمود أبو ريه، ومن قال بقوله، فى كلمة "علىَّ" لكان أقرب (1) . جهود حملة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة المسلمين فى مقاومة حركة الوضع فى السنة النبوية

_ (1) الأنوار الكاشفة ص 72، وانظر: مزيد من الرد على أكاذيب محمود أبو ريه حول هذا الحديث فى الأنوار الكاشفة، مع دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شبهة.

.. للوضع فى الحديث أسبابه التى فصلها علماء المسلمين قديماً وحديثاً (1) ، والذى يهمنا هنا هو بيان جهود حملة الإسلام، ورواة السنة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم فى مقاومة تلك الأسباب وأصحابها (2) ، وبيان زيف أعداء السنة بأن الفتن التى وقعت بين المسلمين كانت ضرراً كبيراً على السنة حتى اختلط الموضوع بالصحيح منها، وأصبحت غير مميزة مما يضعف الثقة بحجية السنة، وكذلك بيان إفكهم بأن الكذابين، والجهلة، والفسقة من الوضاعين، كانوا من علماء المسلمين الأثبات، وأن الملوك والأمراء استغلوهم فى وضع ما يوافق رغباتهم ويثبت ملكهم. ... بادئ ذى بدء نحب أن نقرر أنه إذا كانت الفتن التى وقعت بين المسلمين والتى بدأت بمقتل سيدنا عمر رضي الله عنه واشتدت بمقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه وتوالت بفتنة على ومعاوية -رضى الله عنهما - إذا كانت تلك الفتن ذات أثر سلبى على السنة النبوية، فإنها كانت فى الوقت نفسه سبباً فى بناء أقوى الطرق العلمية للنقد والتمحيص، ليس فى الحديث فقط بل فى سائر العلوم الإسلامية.

_ (1) انظر: الموضوعات لابن الجوزى 1/37 - 47، وتنزيه الشريعة لابن عراق 1/11 – 17، وفتح المغيث للسخاوى 1/278–286،وتدريب الراوى 1/281، والسنة ومكانتها للدكتور السباعى ص 79 – 89، والوضع فى الحديث للدكتور عمر بن حسن فلاته. مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة رقم 901، وانظر: مقارنة بين أسباب الوضع فى الحديث، وأسباب الوضع فى العهد الجديد، فى منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 493 – 495. (2) تلك الجهود التى يتجاهلها أعداء السنة عندما يتحدثون عن الوضع فى السنة على الرغم من أن ما يستشهدون به على الوضع فى السنة من أسبابه وأصنافه، الفضل فى التعريف بذلك إنما هو لأهل الحديث.

يقول الدكتور همام سعيد: "مما لا شك فيه أن فتناً كثيرة وقعت فى عصر الصحابة أولها مقتل عمر رضي الله عنه، ثم مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم الفتنة الكبرى بين على ومعاوية - رضى الله عنهما - ولقد استهدفت هذه الفتن الإسلام فى أصوله وفروعه، وأراد موقدوها أن يفسدوا على المسلمين أمور دينهم، ومما لا ريب فيه أن الفتنة ذات أثر سلبى، ولكنها فى الوقت نفسه كانت سبباً فى بناء المنهج الإسلامى، ليس فقط فى الحديث وحده، بل فى العقيدة والفقه، وأصوله. وفى الحقيقة إذا كان المسلمون قد أضاعوا دولتهم من خلال الفتنة، فقد وجدوا المنهج من خلال الفتنة وأثر الفتنة فى بناء المنهج أمر لابد أن نلتفت إليه، وما ظهر الجرح والتعديل، وطلب الإسناد وسائر علوم الحديث إلا من خلال وجود الفتنة، تماماً كما ظهر علم النحو من خلال وجود اللحن فى اللغة (1) . ... ولعل بروز الفتنة فى ذلك العصر المبكر، والصحابة متوافرون كان فى غاية الفائدة بالنسبة للسنة النبوية. وكم ستكون المشكلة كبيرة لو أن هذه الفتن وقعت بعد انتهاء عصر الصحابة رضي الله عنهم.

_ (1) انظر: مؤتمر السنة النبوية ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة، تعليق الدكتور همام عبد الرحيم على بحث الشيخ عز الدين التميمى 2/602، 603.

.. إن حدوث الفتن أفاد السنة المطهرة فائدة كبيرة، ويمكن أن نقارن هذا الأثر الإيجابى بأثر اللحن على اللغة العربية، إذ عندما ظهر اللحن وفشا، واختلط العرب بالعجم، ظهرت الحاجة إلى تقعيد النحو وضبطه وتدوين شواهده، فكان اللحن مفسدة من جهة أثره على الفطرة اللغوية السليمة، ولكنه كان حافزاً لحفظ اللغة وتأسيس مناهجها. وإن فشو اللحن فى ذلك الزمن المبكر حيث الفصاحة والبيان والفطرة اللغوية فى قلب الجزيرة العربية، قد مكن العلماء من استنباط القواعد وجمعها، والتوصل إلى مناهج الضبط اللغوى. ولو تأخر اللحن حتى زالت السليقة عن طريق الاختلاط بين العرب والعجم لحدثت مشكلة لا حل لها ولا علاج. ... وكذلك الحال بالنسبة للحديث، فقد ظهرت الفتن والصحابة أحياء، والرواية قريبة من مصدرها الأصلى، وخطوط الاتصال بين الصحابة والنبى صلى الله عليه وسلم قائمة مفتوحة كل هذا ساعد على استقرار المنهج، ولو تأخرت الفتنة، ووقعت بعد عصر الصحابة، وقد بعدت الرواية عن مصدرها، فإنه لا يمكن عندئذ استكمال القواعد المنهجية. ... لقد أثرت الفتنة على النظام السياسى الإسلامى، ولكنها فى الوقت ذاته ساعدت على تأصيل مختلف العلوم الإسلامية، وأبرزت مناهجها. ... ولقد خاب ظن أعداء الإسلام من غلاة الشيعة، والمستشرقين، ودعاة الإلحاد المتكئين على الفتنة باعتبارها مصدر تشكيك بالسنة النبوية. وكان الأجدر أن يعلموا أن الحديث قد أخذ من المغانم أكثر مما دفع من المغارم.

.. وهذا ابن عباس -رضى الله عنهما- يأتيه من يحدثه، فلا يلتفت لحديثه، تطبيقاً لقاعدة (إن من لا يعرف حاله لا يقبل حديثه) جاء بُشَير العدوى (1) إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس، مالى لا أراك تسمع حديثى؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: "إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف" وفى رواية عن ابن عباس قال: "إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن يكذب عليه فلما ركب الناس الصعب والذلول، تركنا الحديث عنه" (2) . كما كان الصحابة - رضي الله عنهم -أول من نبهوا إلى صفة من يقبل حديثه ومن يرد. ويروى لنا الخطيب فى ذلك، عن ابن عباس -رضى الله عنهما- أنه قال: "لا يكتب الحديث عن الشيخ المغفل" (3) . ... فهذه النصوص وغيرها مما سبق (4) ، تدل بجلاء على تشمير الصحابة لتحذير الناس من الوقوع فى أحابيل الكذب، كما تدل على أنهم لم يكونوا فى غفلة عن ظاهرة الوضع، بل انتبهوا لها، وقاوموا الوضاعين بالتشهير والتحذير.

_ (1) بُشَير العدوى هو: بُشَير - مصغراً - ابن كعب بن أبى الحميرى العدوى أبو أيوب البصرى، ثقة مخضرم. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/133 رقم 731، والكاشف 1/272 رقم 614، والثقات للعجلى ص 83 رقم 159، والتعريف برواة مسند الشاميين ص 65 رقم 79. (2) الآثار السابقة سبق تخريجها ص 277، 327. (3) الكفاية فى علم الرواية ص 233. (4) راجع: قول سيدنا عثمان ومعاوية رضى الله عنهما فى الجواب عن شبهة نهى الصحابة عن الإكثار من الرواية دليل على عدم حجية السنة، واتهام من أبى بكر وعمر للصحابة بالكذب ص326.

.. وعلى نهج الصحابة فى التثبت والتحرى، درج الأئمة من التابعين وأتباعهم، فها هو محمد بن سيرين، التابعى الكبير، يعلن عن أثر الفتنة، على البحث والنقد، فيقول: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع، فلا يؤخذ حديثهم (1) . وفى رواية عنه قال: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" (2) . وكثيراً ما كان التابعون، وأتباعهم يتذاكرون الحديث، فيأخذوا ما عرفوا ويتركوا ما أنكروا، قال الإمام الأوزاعى: "كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما يعرض الدرهم الزيف، على الصيارفة فما عرفوا منه أخذنا، وما تركوا تركناه (3) ، وروى الإمام مسلم فى مقدمة صحيحه عن ابن أبى مليكة قال: كتبت إلى ابن عباس أن يكتب لى ويخفى عنى.فقال: ولد ناصح أنا اختار له الأمور اختياراً وأخفى عنه: فدعا بقضاء علىّ0 فجعل يكتب منه أشياء. ويمر به الشئ فيقول: والله ما قضى بهذا علىّ إلا أن يكون ضل (4) .

_ (1) سبق تخريجه ص 128. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين 1/119، وانظر: الفكر المنهجى عند المحدثين للدكتور همام عبد الرحيم ص 56 - 58 بتصرف. (3) انظر: الجرح والتعديل2/20، 21، والمحدث الفاصل ص 64، والكفاية فى علم الرواية ص 605، والموضوعات لابن الجوزى1/103،وانظر: نحوه عن الأعمش فى معرفة علوم الحديث للحاكم ص16 (4) أخرجه مسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب النهى عن الرواية عن الضعفاء 1/112، 113.

.. وكانوا دائماً يرجعون إلى من يثقون به، قال سفيان الثورى "كنا إذا اختلفنا فى شئ سألنا عنه مِسْعَر (1) وكان أئمة الحديث على جانب عظيم من الوعى والإطلاع، فقد كانوا يحفظون الصحيح، والضعيف، والموضوع حتى لا يختلط عليهم، وعلى من بعدهم الحديث، وليميزا الخبيث من الطيب، وفى هذا يقول الإمام سفيان الثورى: "إنى لأروى الحديث على ثلاثة أوجه: أسمع الحديث من الرجل اتخذه ديناً، وأسمع من الرجل أقف حديثه، وأسمع من الرجل لا أعبأ بحديثه وأحب معرفته (2) .

_ (1) مِسْعَر: هو مِسْعَر بن كِدام بن ظهير الهلالى، أبو سلمة الكوفى متفق على توثيقه، مات سنة 155هـ وقيل 153 هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/176 رقم 6626، وتذكرة الحفاظ 1/188 رقم 183، والثقات للعجلى ص 426 رقم 1562، ومشاهير علماء الأمصار ص 200 رقم 1344، والكاشف 2/256 رقم 5395، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 88 رقم 173، وانظر المحدث الفاصل ص 75. (2) أخرجه الخطيب فى الكفاية ص 568، والجامع لأخلاق الراوى ص 157 وابن عدى فى الكامل فى الضعفاء 1/ 2.

.. وروى الخطيب عن الإمام أحمد بن حنبل (1) أنه رأى يحيى بن معين بصنعاء فى زاوية، وهو يكتب صحيفة معمر (2) عن أبان (3) عن أنس، فإذا طلع عليه إنسان كتمه، فقال له أحمد بن حنبل: تكتب صحيفة مَعْمَر، عن أبان، عن أنس، وتعلم أنها موضوعة، فلو قال لك قائل: إنك تتكلم فى أبان ثم تكتب حديثه على الوجه؟ فقال: رحمك الله يا أبا عبد الله، أكتب هذه الصحيفة عن

_ (1) الإمام أحمد بن حنبل: هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانى المروزى، نزيل بغداد، أبو عبد الله، أحد الأئمة، ثقة حافظ، فقيه حجة، من مصنفاته: الزهد، والمسند، الذى جعله للناس إماماً، مات سنة 241هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/44 رقم 96، وتذكرة الحفاظ 2/431 رقم 438، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 189 رقم 417، وطبقات المفسرين للداودى 1/71 رقم 65، والإرشاد فى معرفة علماء الحديث ص 187، 88، والتقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد ص 158 رقم 182، وشذرات الذهب 2/96، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 1/104 رقم 5. (2) مَعْمَر: هو مَعْمَر بن راشد، الأزدى مولاهم، أبو عروة البصرى، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل، إلا أن فى روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئاً، وكذا فيما حدث به بالبصرة، روى عن الزهرى، وهمام، وعنه غندر وعبد الرزاق. مات سنة 154هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/202 رقم 6833، والكاشف 2/282 رقم 5567، والثقات للعجلى ص 435 رقم 1611، والإرشاد للخليلى ص 19. (3) أَبَان: أَبَان بن أبى عياش، فيروز البصرى، أبو إسماعيل العبدى، متروك، روى عن أنس، وأبى العالية، وجمع، وعنه فضيل، ويزيد بن هارون، وخلق، متروك، مات فى حدود 140هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/51 رقم 142، والكاشف 1/207 رقم 110، والمجروحين لابن حبان 1/96، والضعفاء والمتروكين للنسائى ص 45 رقم 21، والجرح والتعديل 2/295 رقم 1087، والضعفاء الصغير للبخارى ص 24 رقم 32، ولسان الميزان 1/37 رقم 25.

عبد الرزاق (1) عن معمر، على الوجه، فأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة، حتى لا يجئ بعده إنسان فيجعل بدل أَبَان، ثابتاً (2) ، ويرويها عن مَعْمَر، عن ثابت، عن أنس ابن مالك، فأقول له: كذبت إنما هى عن مَعْمَر عن أبان، لا عن ثابت (3) أ. هـ. بالإضافة إلى ما سبق فإن المحدثين كانوا يحاربون الكذابين علانية ويمنعونهم من التحديث، ويستعدون عليهم السلطان.

_ (1) عبد الرزاق: هو عبد الرزاق بن همام بن نافع، الحميرى مولاهم، أبو بكر الصنعانى، ثقة حافظ مصنف، شهير، عمى فى آخر عمره فتغير، وكان يتشيع، روى عن ابن جريج، ومعمر، وثور، وعنه أحمد، وإسحاق، مات سنة 211هـ له ترجمة فى: تقريب التهذيب1 /599 رقم 4078، والكاشف 1/651 رقم 3362، والثقات للعجلى ص 302 رقم 1000، وطبقات ابن سعد 5/548، والجرح والتعديل 6/38 رقم 204، وتذكرة الحفاظ 1/364 رقم 357، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 158 رقم 337، وطبقات المفسرين للداودى 1/302 رقم 278، ولسان الميزان 8/507 رقم 13458. (2) ثابت: هو ثابت بن أَسْلم البُنَانىُّ: بضم الموحدة ونونين مخففين، أبو محمد البصرى، ثقة، عابد، روى عن أنس، وابن عمر، وابن الزبير، وخلق: وعنه الحمَّادان، ومعمر، وأُمم. مات سنة بضع وعشرين ومائة. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/145 رقم 812، والكاشف 1/281 رقم681، والجمع بين رجال الصحيحين 1/65 رقم 251، والثقات للعجلى ص 89 رقم180، والثقات لابن حبان 4/89، ومشاهير علماء الأمصار ص 114 رقم 650، ولسان الميزان 8/241 رقم 12091. (3) أخرجه الخطيب فى الجامع لأخلاق الراوى ص 157.

.. يقول الإمام الشافعى رحمه الله: "لولا شعبة (1) ما عرف الحديث بالعراق، كان يجئ إلى الرجل فيقول: لا تحدث وإلا استعديت عليك السلطان" (2) . ... ومن تلك القواعد التى قاوم بها علماء الحديث حركة الوضع نقد الرواة وبيان حالهم، فلم يقبلوا رواية إلا من كان عدلاً ضابطاً، وعلى ذلك إجماع جماهير أئمة الحديث والفقه والأصول. يقول ابن الصلاح: "أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلاً ضابطاً لما يرويه، وتفصيله أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً سالماً من أسباب الفسق، وخوارم المرؤة، متيقظاً غير مغفل، حافظاً إن حدث من حفظه، ضابطاً لكتابه إن حدث من كتابه، وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالماً بما يحيل المعانى" (3)

_ (1) شعبة: هو شعبة بن الحجاج بن الورد العتكى مولاهم، أبو بسطام الواسطى ثم البصرى، ثقة، حافظ متقن، كان الثورى يقول: هو أمير المؤمنين فى الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السنة، وكان عابداً، مات سنة 160هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/418 رقم 2798، والكاشف 1/485 رقم 2278، وتذكرة الحفاظ 1/193 رقم 187، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 89 رقم 176، والثقات للعجلى ص 220 رقم 665، ومشاهير علماء الأمصار ص 207 رقم 1399. (2) أخرجه الخطيب فى الجامع لأخلاق الراوى ص149،وانظر: السنة قبل التدوين ص 228-232، وتوثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 135، 136، وشفاء الصدور فى تاريخ السنة ومناهج المحدثين للدكتور السيد محمد نوح 1/123. (3) علوم الحديث لابن الصلاح ص 84، 85.

.. وخرج بشرط العدالة: الكافر، والفاسق، والمبتدع، والصبى غير البالغ، والمجنون، والخارم للمروءة بفعل الذنوب الصغائر التى تدل على الخسة كسرقة الشئ الحقير أو فعل المباحات التى تورث الاحتقار، وتذهب بكرامة الإنسان، كالبول فى الطريق بحيث يراه الناس، وفرط المزاح الخارج عن حد الأدب، والأكل فى الطريق، ونحو ذلك، فلا تقبل رواية الكافر بالإجماع سواء أعلم من دينه الاحتراز عن الكذب أم لم يعلم، وكيف تقبل رواية من يكيد للإسلام ليل نهار، وكيف نأتمنهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الله عز وجل أمرنا بالتوقف فى خبر الفاسق فى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (1) فإذا كان الفاسق لا تقبل روايته مع صحة اعتقاده فإن الكافر لا تقبل روايته من باب أولى؛ لأن الكفر فسق وزيادة. ... ولا تقبل رواية صاحب البدعة إذا كفر ببدعته؛ كالرفض الكامل، والغلو فيه، والحط من شأن أبى بكر وعمر- رضى الله عنهما - والدعاء إلى ذلك فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة كما قال الحافظ الذهبى (2) .

_ (1) الآية 6 من سورة الحجرات، وانظر: تدريب الراوى 1/299، وفتح المغيث للسخاوى 1/28، 314، وتوضيح الأفكار للأمير الصنعانى 2/114 - 118. (2) ميزان الاعتدال 1/ 4، وانظر: توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص146 وما بعدها.

.. كما خرج بشرط العدالة الكذاب، أو المتهم بالكذب، فبإجماع أهل العلم لا يؤخذ حديث من كذب على النبى صلى الله عليه وسلم تغليظاً وزجراً بليغاً عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة، فلا يقاس الكذب فى الرواية على الكذب فى الشهادة أو فى غيرها، ولا على أنواع المعاصى الأخرى (1) . ... وخرج بشرط الضبط من عرف بالتساهل فى سماعه أو إسماعه، كمن لا يبالى بالنوم فى السماع منه أو عليه، أو يحدث لا من أصل صحيح مقابل على أصله أو أصل شيخه أو عرف بقبول التلقين فى الحديث، بأن يلقن الشئ فيحدث به من غير أن يعلم أنه من حديثه، أو عرف بكثرة السهو فى روايته، إذا لم يحدث من أصل صحيح، بخلاف ما إذا حدث منه فلا عبرة بكثرة سهوه، لأن الاعتماد حينئذ على الأصل لا على حفظه، أو عرف بكثرة الشواذ والمناكر فى حديثه (2) ، وكل هذا يخرم الثقة بالراوى وبضبطه. ... وبالتأمل فى الضوابط والقيود الموضوعة لمعرفة من تقبل روايته ومن ترد، يتبين لك عبقرية واضعها من علماء هذه الأمة، والدقة المتناهية فيما وضعوا من قواعد ألمت بصغائر الموضوع، ودقائقه فكانت منهجاً دقيقاً متفرداً لم ولن تعرف له الدنيا نظيراً هيهات لا يأتى الزمان بمثله ... *** ... إن الزمان بمثله لشحيح ...

_ (1) الباعث الحثيث للعلامة أحمد محمد شاكر ص 85، 86، وانظر: اختلافات المحدثين والفقهاء فى الحكم على الحديث للدكتور عبد الله شعبان ص 322-355. (2) تدريب الراوى1/339، وانظر: فتح المغيث للسخاوى 1/383-389 وتوضح الأفكار 2/255، وانظر: مقاصد الحديث فى القديم والحديث للدكتور مصطفى التازى ص 79، واختلافات المحدثين والفقهاء فى الحكم على الحديث ص402-409.

.. وتبين لك مما سبق كيف أن تلك الضوابط والقيود أخرجت أصناف الوضاعين الوارد ذكرهم فى أسباب الوضع، فلم تقبل مروياتهم، فحفظت بذلك السنة النبوية المطهرة من خبثهم ومكرهم (1) ، وليس الأمر كما يصوره أعداء الإسلام من اختلاط أمرهم على المحدثين، وضياع مروياتهم فى كتب السنة الصحاح بلا تميي، ز‍ فعلماء الأمة عندما اشترطوا فيمن تقبل روايته: أن يكون عدلاً ضابطاً، لم يتساهلوا فى ذلك البتة، وما وقع من تساهل كان فى فعل بعض المباحات، مثل الإفراط فى المزاح، والمداعبة، والأكل فى الأسواق، ونحو ذلك من ضروب المباحات التى لا يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، وإن كانت تنتقص من مقامات فاعليها لما تعارف عليه الناس واشتهر عندهم على أنها من خوارم المروءة، وهى فى نفس الوقت لا تؤثر لا على عدالة الراوى بالسقوط للتفاوت المعروف بين المتشددين والمتساهلين فى قبول ورد من خرمت مروءته ببعض الصغائر (2) . وكذلك لا تؤثر أيضاً على عدم الوثوق فى هذا المنهج العظيم الذى هو غاية الاعتدال والإنصاف، لا شطط ولا غلو (3) .

_ (1) انظر: مقارنة بين تطبيق شروط الحديث الصحيح عند علماء الحديث وتطبيق نفس الشروط على أسفار العهد الجديد فى كتاب منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص481 - 483. (2) انظر: الكفاية للخطيب فصل بعنوان "باب ذكر بعض أخبار من استفسر فى الجرح فذكر ما لا يسقط العدالة" الكفاية ص 110. (3) ضوابط الرواية عند المحدثين للأستاذ الصديق بشير ص 118، 119 بتصرف، وانظر: لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ص 108 - 112.

.. ومما يؤكد عدم تساهل المحدثين فى شروط من تقبل روايته ومن ترد، اتفاقهم على أن العدالة وحدها، غير كافية فى قبول رواية الراوى، بل لابد معها من الضبط، يدل على ذلك ما أخرجه الإمام مسلم فى مقدمة صحيحه عن أَبِى الزِّنَاد - رحمه الله - قال: "أدركت بالمدينة مِائَةً كُلُّهُمْ مَأَمُونٌ ما يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الحَدِيثُ يُقَالُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ". وعن عبد الله بن المبارك: قال قلت لسفيان الثورى: إن "عَبَّادَ بْنَ كَثِير" من تعرف حاله وإذا حدث جاء بأمر عظيم. فترى أن أقول للناس: لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان بلى قال عبد الله: فكنت، إذا كنت فى مجلس ذكر فيه عَبَّادٌ، أثنيتُ عليه فى دينه وأقول: "لا تَأْخُذُوا عَنْه". وعن يحيى بن سعيد القطان قال: "لم نَرَ الصَّالحينَ فى شئ أَكْذَبَ منهم فى الحديث". وعن أيوب السختيانى قال: "إن لى جاراً. ثم ذكر من فضله. ولو شهد عندى على تَمْرتَين ما رأيتُ شهادَتَهُ جَائِزَةً.

.. وعن عبد الله بن المبارك - رحمه الله - قال: "بَقِيُّة صُدَوُقُ اللِّسَانِ. ولكنَّهُ يَأْخُذُ عَمَّنُ أَقْبَلَ وأَدْبَرَ" (1) . وقال يحيى بن معين رحمه الله: "إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم فى الجنة منذ أكثر من مائتى سنة" (2) قال السخاوى: "أى أناس صالحون، ولكنهم ليسوا من أهل الحديث" (3) ويقول الإمام مالك: "لا يؤخذ العلم عن أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك لا يؤخذ من رجل صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا سفيه معلن بالسفه، وإن كان من أروى الناس. ولا من رجل يكذب فى أحاديث الناس، وإن كنت لا تتهمه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة لا يعرف ما يحدث" (4) . ... وبلغ من دقة المحدثين فى تتبع صفات الراوى الثقة المقبول الرواية، تتبعهم لما يطرأ على ضبط الرواة من تغير، كمن ضعف حديثه فى بعض الأوقات دون بعض، ومن ضعف حديثه فى بعض الأماكن دون بعض، ومن ضعف حديثه عن بعض الشيوخ دون بعض (5) وصدق الإمام الشعبى: "والله لو أصبت تسعاً وتسعين مرة، واخطأت مرة لعدوا على تلك الواحدة (6) .

_ (1) أخرج الآثار السابقة الإمام مسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات 1/119 - 126، وانظر: توجيه النظر لابن حجر ص 25. (2) أخرجه الخطيب فى الجامع لأخلاق الراوى ص 160. (3) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 69. (4) جامع بيان العلم 2/48، والكفاية ص249، والجرح والتعديل 2/32، والإلماع ص 60. (5) انظر: تفصيل ذلك فى شرح علل الترمذى 2/552 - 672، وانظر: ضوابط الراوية عند المحدثين ص 122. (6) تذكرة الحفاظ 1/77.

.. وهكذا بهذا المنهاج العظيم الذى لا تعرف له الدنيا بأسرها مثيلاً خاب ظن الوضاعين من الكفره، والزنادقة، والمبتدعة، والجهلة من الصالحين، والمتصوفة، كما قال الإمام الشعرانى فى العهود الكبرى: "واعلم يا أخى، أن أكثر من يقع فى خيانة هذا العهد المتصوفة الذين لا قدم لهم فى الطريق، فربما رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس من كلامه، لعدم ذوقهم، وعدم فرقانهم بين كلام النبوة وكلام غيرها، وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا -رحمه الله- يقول: "إنما قال بعض المحدثين أكذب الناس الصالحون، لغلبة سلامة بواطنهم، فيظنون بالناس الخير، وأنهم لا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرادهم بالصالحين: المتعبدون الذين لا غوص لهم فى علم البلاغة، فلا يفرقون بين كلام النبوة وغيره، بخلاف العارفين فإنهم لا يخفى عليهم ذلك" (1) . ... وواضح مما سبق أن صلاح الكذابين: ليس المراد منه الصلاح الحقيقى الذى يتمثل فى صلاح العلماء، وأئمة الدين، وحفاظ الحديث، بل هو الصلاح الذى تحدث عنه الأئمة سابقاً، وإلا كان يجب أن يكون سعيد بن المسيب، وعروة، والشافعى، ومالك، وأحمد، وأبو حنيفة والبخارى، ومسلم، وغيرهم من أئمة المسلمين، من أكذب الناس فى الحديث، وهل هناك مسلم يقول بذلك؟ (2) . ... وإذا كان أئمة المسلمين هم أكذب الناس فى الحديث – وحاشاهم من ذلك – فمن إذن الذى كشف كذبهم؟ الكفرة والزنادقة وغلاة المبتدعين (3) ؟ ... ومن الذى عرَّف بالموضوع، وبأسبابه، وبأصنافه، وبعلاماته، وصنف فيه المصنفات المتعددة؟ أهم الكفرة والزنادقة أم ماذا؟

_ (1) انظر: قواعد التحديث للقاسمى ص 164. (2) السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 230. (3) انظر: قواعد التحديث للقاسمى ص 163 بيان ضرر الموضوعات على غير المحدثين وأن الدواء لمعرفتها الرسوخ فى الحديث.

.. كلا إنهم حراس الأرض، وخلفاء وجنود الله فى أرضه، إنهم الجهابذة الذين قال فيهم ابن المبارك لما قيل له: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة وتلا قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) . وفيهم قال يحيى بن يمان: "إن لهذا الحديث رجالاً خلقهم الله عز وجل منذ يوم خلق السماوات والأرض، وإن وكيعاً منهم" (2) رجال قال فيهم هارون الرشيد لما أخذ زنديقاً فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقى؟ قال: لأريح العباد منك. فقال: يا أمير المؤمنين: أين أنت من ألف حديث؟ وفى رواية من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم، أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام ما قال النبى منها حرفاً؟ فقال له هارون الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبى إسحاق الفزارى (3) وعبد الله ابن المبارك؟ ينخلانها – نخلاً – فيخرجانها حرفاً حرفاً؟ " (4) .

_ (1) الآية 9 من سورة الحجر، وانظر: الكفاية ص 80. (2) الجرح والتعديل لابن أبى حاتم 1/18. (3) أبو إسحاق الفزازى هو: إبراهيم بن محمد بن الحارث بن حذيفة الفزارى، الإمام، متفق على توثيقه، له تصانيف.مات سنة185، وقيل 186هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/63 رقم 230، وتذكرة الحفاظ 1/273 رقم 259، والكاشف 1/220 رقم 186، والثقات للعجلى ص 54 رقم 37، وتذكرة الحفاظ 1/273 رقم 259، وتهذيب التهذيب 1/152 رقم 271 (4) انظر: تذكرة الحفاظ 1/273 ترجمة أبى إسحاق الفزازى، وتهذيب التهذيب 1/152 رقم271، وانظر: تاريخ الخلفاء للسيوطى ص 174، والأسرار المرفوعة فى الأخبار الموضوعة للملاعلى القاري ص 40، وللمزيد من الرد على هذه الشبهة، انظر: الوضع فى الحديث للدكتور عمر حسن فلاته. مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة رقم 901.

.. والحقيقة أن المحدثين، وما ابتكروه من علم مصطلح الحديث، الذى تفردت به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم، وتميزت بتأسيسه، وإنشائه، وتقعيده، والتفنن فيه، كان من أكبر النتائج النافعة التى تولدت عن تلك الحملة الضارية على السنة النبوية المطهرة. قصدت مساتى فاجتلبت مسرتى ... *** ... وقد يحسن الإنسان من حيث لا يدرى (1) كما كان هذا العلم صخرةً صلبةً تكسرت عليها كل المؤامرات التى حيكت فى الظلام على أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم، وخرجت السنة النبوية من المعركة الطويلة سليمة منتصرة (2) ، ولا يمكن أن تكون حركة الوضاعين وما وضعوا من أحاديث دليلاً على ضعف السنة بمجموعها، وبالتالى عدم حجيتها. لأن الوضاعين وما وضعوه لم يخف قط على المحدثين. ... يقول الأستاذ محمد أسد: "فوجود الأحاديث الموضوعة إذن لا يمكن أن يكون دليلاً على ضعف نظام الحديث فى مجموعه، لأن تلك الأحاديث الموضوعة لم تخف قط على المحدثين كما يزعم بعض النقاد الأوربيين عن سذاجة، وتابعهم على ذلك بعض أدعياء العلم من أبناء أمتنا الإسلامية" (3) .

_ (1) لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ص 189. (2) انظر: بحث الشيخ عز الدين الخطيب التميمى فى مؤتمر السنة النبوية ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة 2/550. (3) الإسلام على مفترق الطرق ص 96 بتصرف، وانظر: مقدمة الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف فى المقاصد الحسنة للسخاوى.

.. ونختم هذه الشبهة بما ذكره الإمام ابن القيم الجوزية فى مختصر الصواعق المرسلة قال: قال الإمام أبو المظفر (1) : [فإن قالوا قد كثرت الآثار فى أيدى الناس واختلطت عليهم، قلنا: ما اختلطت إلا على الجاهلين بها، فأما العلماء بها؛ فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم والدنانير، فيميزون زيوفها ويأخذون خيارها، ولئن دخل فى أغمار الرواة من وسم بالغلط فى الأحاديث، فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث، وورثة العلماء حتى أنهم عدو أغاليط من غلط فى الإسناد والمتون، بل تراهم يعدون على كل واحد منهم كم فى حديث غلط، وفى كل حرف حرف، وماذا صحف، فإن لم ترج عليهم أغاليط الرواة فى الأسانيد، والمتون، فكيف يروج عليهم وضع الزنادقة، وتوليدهم الأحاديث التى يرويها الناس حتى خفيت على أهلها. وهو قول بعض الملاحدة، وما يقول هذا إلا جاهل ضال مبتدع كذاب يريد أن يهجن بهذه الدعوة الكاذبة صحاح أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم، وآثاره الصادقة، فيغالط جهال الناس بهذه الدعوى، وما احتج مبتدع فى رد آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أوهن ولا أشد استحالة من هذه الحجة، فصاحب هذه الدعوى يستحق أن يسف فى فيِهِ، وينفى من بلد الإسلام] (2) أ. هـ.

_ (1) الإمام أبو المظفر هو: منصور بن محمد بن عبد الجبار، أبو المظفر السمعانى، التميمى المروزى، الحنفى، ثم الشافعى، أحد الأئمة الأعلام، كان من فحول النظر، بحراً فى الوعظ، سئل عن أخبار الصفات فقال: عليكم بدين العجائز وصبيان الكتاتيب، صنف فى التفسير، والفقه، والحديث، والأصول. من مؤلفاته: البرهان والاصطلام، والقواطع فى أصول الفقه، والقدر، والمنهاج لأهل السنة، وغير ذلك. مات سنة 489هـ. له ترجمة فى: طبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 2/489 رقم 20، واللباب فى تهذيب الأنساب لابن الأثير 2/138، 139، وشذرات الذهب 2/392، وطبقات المفسرين للداودى 2/339 رقم 651، والبداية والنهاية 12/164 (2) مختصر الصواعق المرسلة2/561،552،وانظر: مائة سؤال عن الإسلام للشيخ محمد الغزالى1/43

شبهة أن حملة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم كانوا جنودا للسلاطين

شبهة أن حملة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم كانوا جنوداً للسلاطين والملوك فى العصر الأموى، والعباسى والرد عليها استعراض الشبهة وأصحابها: ... زعم أعداء السنة المطهرة، من أن حملة الإسلام من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم من أئمة المسلمين، من الفقهاء والمحدثين كانوا جنوداً للسلاطين والملوك فى العصر الأُموى، والعباسى، يضعون لهم من الأحاديث ما يوافق رغباتهم ويثِّبت ملكهم. ... ويستدلون على ذلك بأحاديث منها: الأحاديث التى تدعوا إلى طاعة الحكام، والأمراء، وتدعوا إلى اجتناب الفتن، والنجاة من شرورها: ... مثل قوله صلى الله عليه وسلم "من رأى من أميره شيئاً يكرهه، فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً، فمات؛ فميتَةٌ جاهليةٌ" (1) . ... وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون. فمن كِرهَ فقد بَرئَ، ومن أَنكر فقد سَلِمَ0 ولكن من رَضِىَ وتَابع" قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صَلَّوْا". أى من كره بقلبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ (2) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الفتن، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم: (سترون من بعدى أموراً تنكرونها 13/7 رقم 7045، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين6/480 رقم 1849، واللفظ له من حديث ابن عباس رضى الله عنهما. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإمارة، باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما خلف الشرع وترك قتالهم ما صلوا ونحو ذلك6/484رقم 1854،من حديث أم سلمة رضى الله عنها.

.. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسى كافراً، ويمسى مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشى، والماشى فيها خير من الساعى، قالوا فما تأمرنا؟ قال: "كونوا أحلاس بيوتكم" (1) . ... ونحو ذلك من الأحاديث التى استشهد بها جولد تسيهر على أن أهل الحديث أو الفقهاء كما يسميهم لعبوا دوراً خطيراً فى تثبيت أنظمة الحكم بوضع هذه الأحاديث التى تأمر بطاعتهم أو باعتزال الأمر وتركه (2) .

_ (1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الفتن، باب النهى عن السعى فى الفتنة 4/101 رقم 4262. (2) دراسات محمدية جولدتسيهر ص89، 95 نقلاً عن ضوابط الرواية عند المحدثين ص340، 342، وانظر: العقيدة والشريعة ص58 وانظر: دراسات محمدية الفصل الثالث (الحديث النبوى وصلته بنزاع الفرق فى الإسلام" ترجمة الإستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 8/522 وما بعدها.

وعلى هذا الزعم بنى نيازى عز الدين كتابه (دين السلطان) ؛ فهو يعنى بالسطان معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه، وسيدنا معاوية فى زعمه هو الذى فتح باب الروايات بالأحاديث المفتراة لتحل محل القرآن، وأصبحت ديناً، وساعده على ذلك جنوده من الفقهاء، والمحدثين، وفى ذلك يقول: "والتاريخ الإسلامى يحدثنا أن معاوية كان من دهاة العرب … فأعاد عقلية الجاهلية بتوقيفه أحكام القرآن، من خلال فتح باب الروايات بالأحاديث المفتراة لتحل محل القرآن. وقد وجد كثيراً من المساعدين من بين أصحاب المصالح من علماء السوء، والحساد، والمنافقين من أعداء الإسلام" (1) . ... وبنفس هذا الزعم تقول الرافضة طاعنين بذلك فى عقيدة أهل السنة.

_ (1) دين السلطان ص36،37 وراجع من نفس المصدر ص 34-41،795 حيث تصريحه بأن معاوية هو السلطان، وجنوده فى وضع الأحاديث، هم المحدثون، والفقهاء، وانظر: أيضاً من نفس المصدر ص 11، 103، 110، 114، 117، 119، 124، وانظر:152،202،671،حيث استشهاده بالأحاديث السابقة، وقارن بكتابة إنذار من السماء ص 39، 123، وأصول الحديث للدكتور عبد الهادى الفضلى ص 133، والشيعة هم أهل السنة للدكتور محمد التيجانى ص260، وأحاديث أم المؤمنين عائشة، أدوار من حياتها لمرتضى العسكرى ص 284 وما بعدها.

يقول صالح الوردانى بعد أن ذكر نماذج من الأحاديث السابقة وما فى معناها قال: "إن هذه الروايات، وهذه العقيدة، هى التى خلقت فقهاء السلاطين، وخلقت الحكام الطغاة الظالمين فى تاريخ المسلمين … ولولا هذه الروايات وهذه العقيدة ما هيمنت القبلية، والأموية، والعباسية، على واقع المسلمين. فإن جميع الحكومات التى قامت من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، اعتمدت هذه الروايات فى دعم سلطانها ونفوذها وإضفاء المشروعية عليها" (1) .

_ (1) أهل السنة شعب الله المختار ص 88، وانظر: له أيضاً الخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة ص55-61، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص 292 وما بعدها، وانظر: قراءة فى صحيح البخارى لأحمد صبحى منصور ص 41.

.. ويقول رافضى آخر زكريا عباس داود: "إننا عندما نبحث فى أسباب الوضع نلاحظ أن الجانب السياسى، كان دافعاً قوياً لمعاوية كى يوظف السنة لخدمة أهدافه …، ولذا عمد لاستخدام مجموعة من الصحابة، والتابعين، كى يضعوا أحاديث تبرر له أعماله، وتضفى الشرعية الدينية على ملكه (1) . ... وممن قال بذلك أيضاً: عبد الحسين شرف الدين (2) ، ومرتضى العسكرى (3) ، ومحمود أبو رية (4) ، ومحمد نجيب (5) ، وعلى الشهرستانى (6) ، وعلى الوردى (7) ، وجمال البنا (8) ، وعبد الجواد ياسين (9) ، وإدريس الحسينى (10) ، والسيد صالح أبو بكر (11)

_ (1) تأملات فى الحديث عند السنة والشيعة ص 145. (2) عبد الحسين شرف الدين: هو عبد الحسين شرف الدين الموسوى، شيعى إمامى، ولد فى الكاظمية، ببغداد سنة1290هـ من مؤلفاته: أبو هريرة، والنص والاجتهاد. مات سنة1377هـ -1957م.ترجم له محمد صادق الصدر فى مقدمة كتاب النص والاجتهاد ص5-39، انظر: استشهاد بالشبهة التى معنا فى كتابيه النص والاجتهاد ص331-332،وأبو هريرة ص39 - 51. (3) معالم المدرستين المجلد 1/361، والمجلد 2/53، وأحاديث عائشة أدوار من حياتها ص 255، 359 - 409. (4) أضواء على السنة ص 126، 137، 179، وشيخ المضيرة ص 170 - 263. (5) الصلاة ص 37-41. (6) منع تدوين الحديث أسباب ونتائج ص 32، 274، 352، 362، 387، 494. (7) على الوردى: كاتب معاصر، من مؤلفاته: وعاظ السلاطين، انظر: استشهاده بالشبهة التى معنا فى كتابه وعاظ السلاطين ص 116-138-165. (8) السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 182، 256. (9) السلطة فى الإسلام ص 258 - 292، 301. (10) إدريس الحسينى: كاتب صحفى معاصر، تشيع، من مؤلفاته:"لقد شيعنى الحسين-الانتقال الصعب فى رحاب المعتقد والمذهب" والخلافة المغتصبة، انظر: استشهاده بالشبهة التى معنا فى الخلافة المغتصبة ص179، ولقد شيعنى الحسين ص 247 - 290. (11) السيد صالح أبو بكر: كاتب مصرى، كان ينتمى إلى جماعة أنصار السنة بالإسكندرية، وعندما أصدر كتابه الأضواء القرآنية فى اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخارى منها، والذى تابع فيه محمود أبو رية، قررت جماعة أنصار السنة فصله من الجماعة. انظر: استشهاده بالشبهة التى معنا فى الأضواء القرآنية ص 45.

أولا: الجواب عن الطعن فى صحة إسلام سيدنا معاوية - رضي الله عنه -

.. والناظر فيما قاله أعداء السنة سابقاً يرى أنهم يطعنون فيما يأتى: أولاً: فى صحة إسلام معاوية رضي الله عنه، ووصفهم له بأنه كان منافقاً اعتماداً على ما ورد من أنه أسلم يوم الفتح، وكان من الطلقاء المؤلفة قلوبهم، وأنه فتح باب الوضع فى السنة، وصرح بذلك الرافضة السابق ذكرهم، وتبعهم على ذلك دعاة اللادينية. ثانياً: وصفهم حملة الإسلام من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم من أئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين، بأنهم كانوا كذابين وفقهاء سلطة. ثالثاً: طعنهم فى الملوك والأمراء الأمويين، والعباسين، بأنهم بعيدين عن تعاليم الإسلام مستغلين علماء المسلمين بوضع ما يثبت ملكهم. رابعاً: طعنهم فى أحاديث طاعة أولى الأمر، وأحاديث الفتن. ... والجواب عما سبق فيما يلى: أولاً: الجواب عن الطعن فى صحة إسلام سيدنا معاوية رضي الله عنه، وأنه فتح باب الوضع فى السنة النبوية: ما طعن به أعداء السنة المطهرة فى صحة إسلام سيدنا معاوية رضي الله عنه، دافع عنه فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو شهبة بقوله: "وقد غاب عن أعداء الإسلام أن الكاتبين فى تاريخ الصحابة ذكروا عن الواقدى، وابن سعد، أنه أسلم بعد الحديبية قبل الفتح، وأنه أخفى إسلامه مخافة أهله، وأنه كان فى عمرة القضاء مسلماً، وإذا كان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم فى رأى البعض، ففى رأى الكثيرين أنه ليس من المؤلفة قلوبهم، قال ابن عبد البر: "معاوية وأبوه من المؤلفة قلوبهم، ذكره فى ذلك بعضهم"، وهو يشعر بأن الكثيرين لا يرون هذا الرأى، ولذا نجد الحافظ المحقق ابن حجر لم يذكر فى ترجمته شيئاً من هذا، وإنما ذكر فى ترجمة أبيه أنه من المؤلفة قلوبهم (1) .

_ (1) انظر: فى ترجمته: الاستيعاب 3/1416 رقم 2435، وتاريخ الصحابة ص 231 رقم 1239، واسد الغابة 5/201 رقم 4984، والإصابة 4/433 رقم 8068. وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 7/406، وفتح البارى 7/130 رقم 3764، والبداية والنهاية 8/120.

ومهما يكن من شئ فقد أسلم وحسن إسلامه، وحتى لو كان ممن أسلموا يوم الفتح، فلا يقدح ذلك فى عدالته وصحبته، بعد تزكية رب العزة لمن أسلموا بعد الفتح أيضاً قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) . وكيف يصح الطعن فى صحة إسلامه رضي الله عنه، وقد كان أحد كتبه الوحى بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم (2) ، يدل على ذلك ما روى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى معاوية ليكتب له، فقال: أنه يأكل، ثم بعث إليه، فقال: إنه يأكل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أشبع الله بطنه" (3) .

_ (1) الآية 10 من سورة الحديد. (2) دفاع عن السنة ص65 بتصرف، وانظر تطهير الجنان واللسان لابن حجر الهيتمى ص7،وما بعدها (3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب البر والصلة، باب من لعنه النبى صلى الله عليه وسلم أو سبه … إلخ 8/399 رقم 3604، وأخرجه أبو داود الطيالسى فى مسنده ص 359 رقم 2746واللفظ له، والبيهقى فى دلائل النبوة 6/243.

.. يقول الأستاذ محب الدين الخطيب (1) - رحمه الله -: "قد يستغل بعض الفرق من أعداء الإسلام (2) . هذا الحديث ليتخذوا منه مطعناً فى معاوية رضي الله عنه وليس فيه ما يساعدهم على ذلك، كيف وفيه أنه كان كاتب النبى صلى الله عليه وسلم؟! ... فالظاهر أن هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم غير مقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب فى وصل كلامها بلا نية كقوله صلى الله عليه وسلم: تربت يمينك. ويمكن أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم بباعث البشرية التى أفصح عنها هو نفسه صلى الله عليه وسلم فى أحاديث كثيرة متواترة منها حديث عائشة – رضى الله عنها – مرفوعاً: "… أَوَ مَاَ عَلِمْتِ مَا شَرَطْتُ عَلَيْهِ رَبِىِّ؟ قُلْتُ: اللَّهُمَّ "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَىُّ المُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاَةً وَأَجْراً" (3) . ولم تعرف عن معاوية رضي الله عنه دخلة فى إيمانه ولا ريبة فى إخلاصه لإسلامه ولا فى إمارته.

_ (1) الخطيب هو: محب الدين الخطيب بن أبى الفتح محمد بن عبد القادر بن صالح الخطيب، من كبار الكتاب الإسلاميين، ولد فى دمشق وتعلم بها، أصدر مجليته (الزهراء) و (الفتح) ، وكان من أوائل مؤسسى جمعية الشبان المسلمين، وتولى تحرير مجلة الأزهر الشريف، وانشأ المطبعة السلفية ومكتبتها، من مؤلفاته: تاريخ مدينة الزهراء بالأندلس، وغير ذلك. مات سنة 1969م. له ترجمة فى: الأعلام 5/282. (2) انظر: دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين صالح الوردانى ص 264. (3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب البر والصلة، باب من لعنة النبى صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه 8/396 رقم 2600، وانظر: البداية والنهاية 8/122، 123 وانظر: العواصم من القواصم تعليق الأستاذ محب الدين الخطيب ص 213.

.. يقول القاضى أبو بكر بن العربى، مبيناً ما اجتمع فى معاوية من خصال الخير إجمالاً قال: "معاوية اجتمعت فيه خصال: وهى أن عمر جمع له الشامات كلها وأفرده بها، لما رأى من حسن سيرته، وقيامه بحماية البيضة وسد الثغور، وإصلاح الجند، والظهور على العدو، وسياسة الخلق. وقد شهد له فى صحيح الحديث بالصحبة والفقه، فيما رواه البخارى فى صحيحه بسنده عن ابن أبى مليكه قال: "أوتر معاوية بعد العشاء بركعة وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس، فقال: دعه؛ فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفى رواية أخرى قيل لابن عباس: هل لك فى أمير المؤمنين معاوية؛ فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه (1) ... يقول ابن العربى: "وشهد بخلافته فى حديث أم حرام – رضى الله عنها– فيما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام عندها القيلولة ثم استيقظ وهو يضحك؛ لأنه رأى ناساً من أمته غزاة فى سبيل الله يركبون ثبج البحر – أى وسطه ومعظمه – ملوكاً على الأسرة. ثم وضع رأسه فنام واستيقظ وقد رأى مثل الرؤيا الأولى فقالت له أم حرام: أدع الله أن يجعلنى منهم، فقال، أنت من الأولين"، فركبت أم حرام البحر فى زمن معاوية فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر. فهلكت" (2) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر معاوية رضي الله عنه 7/130 رقمى 3764، 3765، وانظر: كتاب مروان بن الحكم إلى معاوية بن أبى سفيان يستفتيه فى مجنون قتل رجلاً. أخرجه مالك فى الموطأ كتاب العقول، باب ما جاء فى دية العمد إذا قبلت وجناية المجنون 2/648 رقم 3، وانظر: اسد الغابة 5/202 رقم 4984. (2) أخرجه البخارى (بشرح البارى) كتاب الجهاد السير، باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء 6/13 رقم 2788، 2789، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإمارة، باب فضل الغزو فى البحر 7/65 رقم 1912.

قال الحافظ ابن كثير: يعنى بالأول جيش معاوية حين غزا قبرص ففتحها سنة 27 أيام عثمان بن عفان، بقيادة معاوية، عقب إنشائه الأسطول الإسلامى الأول فى التاريخ، وكانت معهم أم حرام فى صحبة زوجها عبادة بن الصامت. ومعهم من الصحابة أبو الدرداء وأبو ذر وغيرهم. وماتت أم حرام فى سبيل الله وقبرها بقبرص إلى اليوم. قال ابن كثير: ثم كان أمير الجيش الثانى يزيد بن معاوية فى غزوة القسطنطينية. قال: وهذا من أعظم دلائل النبوة (1) فى الشهادة لسيدنا معاوية، وابنه يزيد بالفضل، والمغفرة والجنة كما جاء فى حديث أم حرام مرفوعاً: "أول جيش من أمتى يركبون البحر قد أوجبوا (2) . وأول جيش من أمتى يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا" (3) . ... يقول الإمام ابن تيمية: "لم يكن من ملوك المسلمين ملك خيراً من معاوية، ولا كان الناس فى زمان ملك من الملوك خيراً منهم فى زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده، وإذا نسبت إلى أيام أبى بكر وعمر ظهر التفاضل. ... وقد روى أبو بكر بن الأثرم - ورواه ابن بطه من طريقه عن قتادة قال: "لو أصبحتم فى مثل عمل معاوية لقال أكثركم: هذا المهدى". وروى ابن بطه بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال: لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدى.

_ (1) البداية والنهاية 8/229، وانظر: النهاية فى الفتن والملاخم 1/17، وفتح البارى 6/23، 120 أرقام 2799، 2800، 2924. (2) "قد أوجبوا" قال ابن حجر: أى فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة، قال المهلب وفى الحديث: منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر، ومنقبه لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر. انظر: فتح البارى 6/120 –121 رقم 2924. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل فى قتال الروم 6/120 رقم 2924.

.. وروى الأثرم عن أبى هريرة المكتب قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله، فقال الأعمش، فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا فى حلمه؟ قال: لا والله، بل فى عدله. وعن أبى إسحاق السبيعى أنه ذكر معاوية فقال: لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم: كان المهدى. ... وهذه الشهادة من هؤلاء الأئمة الأعلام لأمير المؤمنين معاوية صدى استجابة الله عز وجل دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم لهذا الخليفة الصالح يوم قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعله هادياً، مهدياً، واهد به" (1) . ... وقبل أن ننهى الكلام على شهادات الصحابة، والتابعين، وآراء العلماء، فى معاوية، ننقل رأياً طريفاً للمؤرخ العلامة ابن خلدون فى اعتبار معاوية من الخلفاء الراشدين قال: "إن دولة معاوية وأخباره كان ينبغى أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين وأخيارهم فهو تاليهم فى الفضل والعدالة والصحبة (2) .

_ (1) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب المناقب، باب مناقب لمعاوية بن أبى سفيانرضي الله عنه5/645رقم 3842 من حديث عبد الرحمن بن عميرة رضي الله عنه، وقال الترمذى: هذا حديث حسن غريب. وانظر: منهاج السنة 3/185، والبداية والنهاية 8/124 - 125. (2) تاريخ ابن خلدون 2/458.

ويقول أيضاً فى مقدمته: مدافعاً عن إيثاره ابنه يزيد بالعهد، دون من سواه قال: "إنما هو مراعاة المصلحة فى اجتماع واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بنى أمية … وهم عصابة قريش (1) وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره … حرصاً على الاتفاق، واجتماع الأهواء الذى شأنه أهم عند الشارع، ولا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه، دليل على انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم فى الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة فى قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك وعدالتهم مانعة منه" (2) .

_ (1) انظر: دفاعه عن حديث (الأئمة من قريش) ورده لما اعترض به عليه من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، فى المقدمة ص 214، وانظر: تأويل مختلف الحديث ص 115. (2) المقدمة 228، 233 وانظر: دفاعه عما وجه إليه من اعتراض على اخذه العهد لابنه يزيد ص240 وراجع: للاستزادة: العواصم من القواصم للقاضى أبو بكر بن العربى، والصواعق المحرقة وتطهير الجنان واللسان كلاهما لابن حجر الهيتمى.

.. "نذكر جميع هذه الشهادات، وقبلها الأحاديث النبوية فى فضل معاوية (1) ، مع اعترافنا يشهد الله بفضل على بن أبى طالب رضي الله عنه، وأنه أفضل منه والحق غالبه معه، وكل كان مجتهداً (2) . وقد جاء فى الحديث الصحيح: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم اخطأ؛ فله أجر" (3) . ... وقد أوردنا هذه الأمثلة القليلة التى لا يسع المقام لأكثر منها؛ ليعلم الناس أن الصورة الحقيقية لمعاوية رضي الله عنه تخالف الصورة الكاذبة التى يصورها الزنادقة من الرافضة ومن تابعهم من أعداء الإسلام، والسنة المطهرة، تلك الصورة التى تنكر ما جاء فى السنة المطهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، والتابعين، من الشهادة له بالصحبة، والفقه، والملك العادل، وحسن السيرة، حتى شهد له من أدركه كمجاهد والأعمش بأنه المهدى.

_ (1) لا يشك أحد فى أنه وضع فى فضائل معاوية وكذا الخلفاء الراشدون أحاديث كثيرة، ولكن أحصاها الأئمة، وبينوا الموضوع منها، من الصحيح، وقد عرض الحافظ ابن كثير لما ورد فى فضائل معاوية رضي الله عنه وميز الصحيح من الموضوع، انظر: البداية والنهاية 8/120 – 147، وراجع: كتب الموضوعات باب المناقب. وانظر: مجمع الزوائد 9/356. (2) انظر: مقدمة ابن خلدون ص 227، ومختصر التحفة الإثنى عشرية 305 - 324، والعواصم من القواصم ص 172 وما بعدها، ومنهاج السنة لابن تيمية ص 205، والبداية والنهاية 8/129. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو اخطأ 13/330 رقم 7352، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 6/254رقم1716 من حديث عمرو بن العاصرضي الله عنه

ثانيا: الجواب عن اتهام رواه السنة بأنهم كانوا كذابين وفقهاء سلطة:

.. فهل من كان هذا حاله يكون له دخل أو حتى رضا بالوضع فى السنة المطهرة سواء فى فضائله، وفضائل الشام أو فى وضع ما يثبت ملكه، أو غير ذلك مما يزعمه أعداء الإسلام من الرافضة ومن شايعهم؟! نعم إذا لم تستح فأصنع ما شئت. ثانياً: الجواب عن اتهام رواه السنة بأنهم كانوا كذابين وفقهاء سلطة: أما ما زعمه دعاة الفتنة وأدعياء العلم، من أن حملة الإسلام من الصحابة، والتابعين فمن بعدهم من أئمة المسلمين من الفقهاء، والمحدثين، كانوا كذابين وفقهاء سلطه؛ فقد رد هذا الزعم الدكتور السباعى تحت عنوان "هل استجاز علماؤنا الكذب دفاعاً عن الدين؟ فقال: "إن أعداء الإسلام من غلاة الشيعة، والمستشرقين، ودعاة الإلحاد، لم يصلوا ولن يصلوا إلى مدى السمو الذى يتصف به رواة السنة من الترفع عن الكذب حتى فى حياتهم العادية، بل لم ولن يصل أعداء الإسلام إلى مبلغ الخوف الذى استقر فى نفوسهم بجنب الله خشية ورهبة، ولا مدى استنكارهم لجريمة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال منهم من قال بكفر من يفعل ذلك، وقتله وعدم قبول توبته (1) ، إن أعداء الإسلام معذورون إذ لم يفهموا عن علمائنا هذه الخصائص؛ لأنه لا يوجد لها ظل فى نفوسهم ولا فيمن حولهم، ومن اعتاد الكذب ظن فى الناس أنهم أكذب منه، واللص يظن جميع الناس لصوصاً مثله … وإلا فمن الذى يقول فى قوم جاهروا بالإنكار على بعض ولاتهم لأنهم خالفوا بعض أحكام السنة؛ وتعرض بعضهم للضرب والإهانة والتنكيل فى سبيل الجهر بكلمة الحق - أنهم استباحوا لأنفسهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفوا إلى سنته المطهرة أحكاماً لم يقلها صلى الله عليه وسلم. أيها الناس أليست لكم عقول تحكمون بها؟ أم أنتم تتكلمون لقومٍ لا عقول لهم (2) ؟!

_ (1) انظر: الباعث الحثيث للشيخ أحمد شاكر ص 65. (2) السنة ومكانتها فى التشريع ص 201، 202 بتصرف.

أمثلة على نزاهتهم فى حكمهم على الرجال

.. نعم إن قوماً لم يحابوا فى حكمهم على الرجال أحداً لا أباً، ولا ابناً، ولا أخاً، ولا صديقاً، ولا أستاذاً، لذلك عنوان صدق ديانتهم، ونزاهتهم، وأمانتهم، وعنوان غلاء الحفاظ على السنة الشريفة لديهم، وأنها عندهم أغلى من الأباء والأجداد، والأولاد، والأحفاد، فكانوا مضرب المثل فى الصدق والتقوى والأمانة (1) . ... وهاك أمثلة على نزاهتهم فى حكمهم على الرجال: المجرحون لآبائهم: الإمام على بن المدينى سأل عن أبيه فقال: "سلوا عنه غيرى" فأعادوا المسألة، فأطرق ثم رفع رأسه فقال: "هو الدين، إنه ضعيف" (2) . المجرحون لأبنائهم:

_ (1) انظر: لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث للأستاذ أبو غدة ص 160 بتصرف، وانظر: دلائل النبوة للبيهقى 1/47. (2) انظر: ميزان الاعتدال 2/401، ولسان الميزان 8/430 رقم 13114، ترجمة عبد الله بن جعفر بن نجيح والد على بن الدينى، والمجروحين لابن حبان 2/14،15، وقال: ابن حجر فى التقريب: ضعيف، يقال: تغير حفظه بآخره" انظر: تقريب التهذيب 1/483 رقم 3266، وتهذيب الكمال للمزى 14/379 رقم 3206.

الإمام أبو داود السجستانى "صاحب السنن قال: ابنى عبد الله كذاب (1) ، ونحوه قول الذهبى فى ولده أبى هريرة، أنه "حفظ القرآن، ثم تشاغل عنه حتى نسيه (2) . المجرحون لإخوانهم: زيد بن أبى أُنَيْسة قال: لا تأخذوا عن أخى يحى المذكور بالكذب (3) . المجرحون لأختانهم:

_ (1) انظر: ميزان الاعتدال 2/433 رقم 4368، ولسان الميزان 4/31 رقم 4631، ترجمة عبد الله بن سليمان بن الأشعث. وقال ابن عَدِى: هو مقبول عند أصحاب الحديث، وأما كلام أبيه فيه، فما أدرى أَيْشِ تبين له منه. انظر: الكامل فى الضعفاء 4/265 رقم 1101، وقال الذهبى فى ترجمته من تذكرة الحفاظ، وأما قول أبيه فيه، فالظاهر أنه أن صح عنه، فقد عَنَى أنه كذاب فى كلامه، لا فى الحديث النبوى، وكأنه قال هذا وعبد الله شابٌ طرى، ثم كبر وساد" انظر: تذكرة الحفاظ 2/772 رقم 768، وقال فى السير: هو حجة فيما نقله، انظر: سير أعلام النبلاء 13/231 رقم 118. (2) انظر: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوى ص 83، 84. (3) انظر: ميزان الاعتدال 4/364 رقم 9463، ولسان الميزان 9/283 رقم 14826، ترجمة يحيى بن أبى أَنَيْسه. قال فيه الحافظ فى التقريب: ضعيف. انظر: تقريب التهذيب 2/297 رقم7535، وتهذيب الكمال 31/223 رقم 6789.

شعبة بن الحجاج قال: لو حَاَبْيتُ أَحَداً لحابيت هِشَام بْنُ حَسَّان كان ختنى (1) ،ولم يكن يحفظ" (2) . المجرحون لبعض أقاربهم: أبو عروبة الحرانى: قال الذهبى فى ترجمة الحُسَيْنُ بن أبى السَّرِىّ العسقلانىُّ: "قال أبو عروبة الحرانى: هو خال أمى، وهو كذاب" (3) . من الذين لم يحابوا مشايخهم: يحيى بن سعيد القطان: روى الإمام ابن أبى حاتم عن عبد الرحمن بن مهدى قال: اختلفوا يوماً عند شعبة، فقالوا: اجعل بيننا وبينك حكماً فقال: قد رضيت بالأحول يعنى يحيى بن سعيد القطان، فما برحنا حتى جاء يحيى فتحاكموا إليه فقضى على شعبة - وهو شيخه ومنه تعلم وبه تخرج، فقال له شعبة: ومن يطيق نقدك أو من له مثل نقدك يا أحول؟! ". ... قال ابن أبى حاتم: "هذه غاية المنزلة – ليحيى بن سعيد القطان – إذ اختاره شيخه شعبة من بين أهل العلم، ثم بلغ من دالته بنفسه وصلابته فى دينه أن قضى على شعبة" شيخه ومعلمه (4) .

_ (1) ختنى: الختن كل ما كان من قبل المرأة مثل الأب والأخ، وخاتن الرجل الرجل إذا تزوج إليه.انظر: مختار الصحاح ص169، والقاموس المحيط 4/214، 215، والنهاية فى غريب الحديث 2/10 (2) ميزان الاعتدال 3/487، ولسان الميزان 9/252 رقم 14726 ترجمة هشام بن حسان القُرْدُوسى، وقال ابن حجر: أحد الأعلام، ضعفه القطان عن عطاء، وفى تقريب التهذيب قال: ثقة، من أثبت الناس فى ابن سيرين، وفى روايته عن الحسن وعطاء مقال، لأنه كان يرسل عنهما. انظر: تقريب التهذيب 2/266 رقم 7315، وتهذيب الكمال للمزى 30/181 رقم 6572. (3) انظر: ميزان الاعتدال 1/536، ولسان الميزان 8/272 رقمى 11280، 2291، وقال ابن حجر فى التقريب "ضعيف" انظر: تقريب التهذيب 1/218 رقم 1348، وتهذيب الكمال 6/468 رقم 1331. (4) مقدمة الجرح والتعديل 1/232 رقم 102 ترجمة يحيى بن سعيد القطان.

وبلغ من نزاهة أئمة الحديث أنهم كانوا لا يقبلون شفاعة إخوانهم للسكوت عمن يرون جَرْحه، وكيف يرتضون تلك الوساطة، وهم الذين طَعَنُوا فى أبنائهم، وآبائهم، وإخوانهم، لما رأوا منهم ما يستوجب القّدْحَ. وقد ضَرَبَ شعبة بن الحجاج فى هذا أروع الأمثال لما كلمه حماد بن زيد، وعباد ابن عباد، وجرير بن حازم، كلموه فى رجل ليكف عنه، قال حماد ابن زيد، فكأنه لان وأجابنا. قال: فذهبت يوماً أريد الجمعة فإذا شعبة ينادينى من خلفى، فقال: ذاك الذى قلتم لى فيه لا أراه يسعنى". قال عبد الرحمن ابن مهدى: كان شعبة يتكلم فى هذا حسبة (1) . نماذج لما كان عليه سلفنا الصالح من جراءة فى الحق مع خلفائهم وملوكهم وأمراءهم، لا يخشون لوماً، ولا موتاً، ولا أذى، ولا اضطهاداً: أما موقف الصحابة مع خلفائهم فقد سبق بما يغنى عن إعادته هنا عند الحديث عن بداية الوضع وبراءة الصحابة منه (2) . ... ونزيد هنا بموقف لأبى بن كعب رضي الله عنه مع الفاروق عمر رضي الله عنه أخرجه ابن راهوية عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رد وعلى أبى بن كعب رضي الله عنه قراءة آية، فقال أبى: لقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت يليهك يا عمر الصفق بالبقيع. فقال عمر رضي الله عنه: صدقت إنما أردت أن أجربكم هل منكم من يقول الحق؟ فلا خير فى أمير لا يقال عنده الحق ولا يقوله" (3) .

_ (1) انظر: الجرح والتعديل لابن أبى حاتم 1/171، وللاستزادة فى هذا المبحث انظر: فتح المنان بمقدمة لسان الميزان للأستاذ محمد المرعشلى ص 187-191. (2) راجع: ص 397. (3) ذكره صاحب كنز العمال 13/361 رقم 36766.

.. وروى أن أبى بن كعب قرأ: {الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} (1) فقال عمر رضي الله عنه كذبت. قال: أنت أكذب. فقال رجل: تكذب أمير المؤمنين؟ قال: أنا أشد تعظيماً لحق أمير المؤمنين منك. ولكن كذبته فى تصديق كتاب الله عز وجل، ولم أصدق أمير المؤمنين فى تكذيب كتاب الله عز وجل، فقال عمر: صدق" (2) . فانظر كيف يمتحن عمر الصحابة فى مدى جهرهم بكلمة الحق إذا عدل عنها الأمير، وانظر كيف كان الصحابة يعرفون لأمرائهم حقهم، فإذا عدلوا عن الحق لم تأخذهم فى الله لومة لائم. ... أما عن موقف الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة الإسلام، من ملوكهم وأمراءهم، فقد مر موقف أبو سعيد الخدرى من مروان وإلى المدينة، وكذا موقف ابن عمر من الحجاج (3) . وسيأتى موقف آخر للإمام الزهرى مع هشام بن عبد الملك الأموى، بعد ذكر بعض المواقف لأئمة الإسلام من ملوك وأمراء بنى العباس. منها ما ذكره الحافظ الذهبى فى ترجمة - ابن أبى ذئب الإمام الثبت - قال الإمام أحمد: "دخل بن أبى ذئب على المنصور فلم يهبه أن قال له الحق، وقال الظلم ببابك فاش، وأبو جعفر، أبو جعفر".

_ (1) جزء من الآية 107 من سورة المائدة. (2) أخرجه ابن جرير فى تفسيره 5/107 رقم 13977، دون ذكر رد عمر عليه، وانظر: الدر المنثور 3/606. (3) راجع: ص 398، 399، وانظر: موقف آخر فى السياسة الشرعية لابن تيمية ص 12، يدخل فيه أبومسلم الخولانى على معاوية بن أبى سفيانرضي الله عنه فيعظه موعظة بليغة، ولم يسميه فيها بالأمير بل بالأجير.

صلة علماء المسلمين بالملوك والأمراء:

وعن محمد بن إبراهيم تلميذ بن أبى ليلى قال: "كنت عند أبى جعفر المنصور - وعنده بن أبى ذئب، فقال أبو جعفر: ما تقول فى الحسن بن زيد -وكان والياً للمدينة أيام المنصور- قال يأخذ بالإحنة - أى الحقد ويقضى بالهوى. فقال له الحسن: الله الله، والله ما سلم منه أحد، وإن شئت فسله عن نفسك يا أمير المؤمنين. قال محمد بن إبراهيم - فجمعت ثيابى والسياف قائم على رأس أبى جعفر، مخافة أن يأمر به فيقتل، فيصيب دمه ثوبى، قال ما تقول فى؟ قال - اعفنى يا أمير المؤمنين. قال لابد أن تقول. قال إنك لا تعدل فى الرعية ولا تقسم بالسوية. فتغير وجه أبى جعفر فقام إبراهيم بن يحيى والى المدينة أيام المهدى- وقال: طهرنى بدمه يا أمير المؤمنين؟ قال له ابن أبى ذئب - اقعد يا بنى فليس فى دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله طهور" (1) . ... وموقف سفيان الثورى - رحمه الله - مع أبى جعفر المنصور مشهور؛ فقد كان سفيان -رحمه الله- قوالاً بالحق، شديد الإنكار، حتى مات فى البصرة مختبئاً من المهدى (2) ، وما موقف المحدثين - وعلى رأسهم أحمد بن حنبل - رحمه الله - مع الأمراء العباسيين فى محنة خلق القرآن ببعيد. وغير ذلك الكثير، ولولا أن المقام لا يحتمل المزيد لنقلت لك أخباراً مشرقة عن هؤلاء الأفذاذ (3) . صلة علماء المسلمين بالملوك والأمراء: ... زعم أعداء السنة، أعداء الإسلام، أن صلات علماء المسلمين بالملوك والأمراء مكنت لهم أن يستغلوهم فى وضع الأحاديث الموافقة لأهوائهم وتثبيت سلطانهم.

_ (1) أدب الشافعى ص 32، وذكر القصة باختصار الذهبى فى التذكرة 1/192، وانظر: فى نفس الصفحة، موقفاً آخر للمهدى هاب فيه ابن أبى ذئب. (2) تذكرة الحفاظ 1/206 وانظر: الثقات للعجلى ص 54 رقم 37 حكى عن أبى إسحاق الفزارى أنه أمر سلطان ونهاه فضربه مائة سوط. (3) انظر: للمزيد كتاب "الإسلام بين العلماء والحكام" للأستاذ عبد العزيز البدرى.

يقول الدكتور السباعى رداً على ذلك: "ولا ندرى كيف تكون الصلة بين أئمة المسلمين الثقات الأثبات، وبين الملوك والأمراء علامة على استغلالهم لهم، وقديماً كان العلماء يتصلون بالخلفاء والملوك، دون أن يمس هذا أمانتهم فى شئ، فقديماً تردد الصحابة على معاوية، وتردد التابعون. ... فهؤلاء الأئمة إذا اتصلوا بهؤلاء الأمراء والملوك، أو اتصلوا هم بهم، لا سبيل إلى أن يؤثر ذلك فى دينهم، وأمانتهم، وورعهم، والمستفيد منهم على كل حال، هم المسلمون الذين يغدو علماؤهم ويروحون من حلقات العلم إلى مجالس الخلفاء يروون حديثاً، أو يبثون فكرة، أو يبثون حكماً، أو يبينون حكماً، أو يؤدبون لهم ولداً، أو يذكروهم بما للأمة عليهم من حقوق وما عليهم من واجبات. ... انظر: إلى ما رواه ابن عساكر بسنده إلى الشافعى -رحمه الله- أن هشام بن عبد الملك سأل سليمان بن يسار عن تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) فقال هشام: كذبت: إنما هو على بن أبى طالب، ويظهر أن هشاماً لم يكن جاداً فيما يقول، ولكنه يريد أن يختبر شدتهم فى الحق - فقال سليمان بن يسار: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، ثم وصل ابن شهاب، فقال له هشام: من الذى تولى كبره منهم؟ فقال الزهرى: هو عبد الله بن أبى بن سلول، فقال له هشام: كذبت. إنما هو على بن أبى طالب، قال الزهرى وقد امتلأ غضباً: أنا أكذب؟ لا أبالك! فوالله لو نادانى مناد من السماء أن الله أحل الكذب ما كذبت…حدثنى فلان، وفلان، أن الذى تولى كبره منهم، هو عبد الله بن أبى بن سلول،… وفى القصة فقال هشام: إنا نهيج الشيخ.مما يدل على أنه لم يكن جاداً فى قوله "كذبت".

_ (1) جزء من الآية 11 من سورة النور.

ألا ترى فى هذه الحادثة ما يدلك على أن الصلة بين العلماء والخلفاء أدنى وأضعف من أن تصل إلى دينهم وأمانتهم؟ رجل يقول لخليفة المسلمين: لا أبا لك! وهى كلمة لا يقولها رجل عادى لآخر مثله يحترمه، لدليل على أن صلتهم بالخلفاء والأمراء ليست صلة ضعيف بقوى، ولا مخدوع بخادع بل صلة واثق بدينه، معتز بعلمه يغضب إن كُذِّب، ويثور إذا حُرِّفت حقيقة من حقائق التاريخ المتصل بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل يزأر فى وجه الخليفة زئير الأسد لأنه كذَّبه فى تفسير آية من كتاب الله عز وجل خلاف ما يعلم أهل العلم من قبله، هل من المعقول أن يميل إلى أهواء الخليفة، فيضع له أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أصل لها؟! ألا ترى إلى قول الزهرى: "أنا أكذب؟ لا أبالك! فوالله لو نادانى مناد من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبت". إن الزهرى كان من ذلك الطراز الممتاز فى تاريخ الإنسانية الذين ربَّاهم محمد صلى الله عليه وسلم وأخرجهم للدنيا آيات باهرات فى صدق اللهجة وسموا النفس، والترفع عن الكذب حتى ولو كان مباحاً (1) . أ. هـ. ... يقول الأستاذ الصديق بشير: "ثم هل أولئك الفقهاء من الخور، وقلة الورع بحيث يستغلهم الحكام لتثبيت حكمهم؟! إن تاريخ هؤلاء ينفى ذلك بشدة، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن حرم على نفسه مخالطة السلاطين الظلمة (2) . بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن يضرب، ويحبس، لرفضه تولية القضاء كأبى حنيفة -رحمه الله- (3) .

_ (1) السنة ومكانتها للدكتور السباعى ص 213 - 216 بتصرف. (2) إحياء علوم الدين 2/155، 166، وانظر: ضوابط الرواية عند المحدثين ص 347. (3) تذكرة الحفاظ 1/168، وانظر: تاريخ الخلفاء للسيوطى ص 248 وانظر: تاريخ محنة الفقهاء والمحدثين مع خلفاء بنى العباس فى كتاب تاريخ المذاهب الإسلامية للعلامة محمد أبو زهرة.

وانظر كيف كان الخلفاء يهابون العلماء، هاهو الخليفة المهدى يدخل مسجد النبى صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا قام إلا ابن أبى ذئب فقيل له: قم، فهذا أمير المؤمنين، قال: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال المهدى: دعوه فقد قامت كل شعرة فى رأسى (1) . ... وانظر كيف يتمنى أبو جعفر المنصور أن يجلس فى وسط المحدثين لينال من صالح دعائهم لما قيل له: هل بقى من لذات الدنيا شئ لم تنله؟ قال: بقيت خصلة، أن أقعد فى مصطبة، وحولى أصحاب الحديث، يقول المستملى: من ذكرت، رحمك الله، قال: فغدا عليه الندماء، وأبناء الوزراء بالمحابر والدفاتر، فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابهم المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، برد الآفاق، ونقلة الحديث (2) . ... ثم ماذا يبتغى هؤلاء من مسايرتهم لأهواء الأمويين والعباسيين أيبتغون المال؟ أم الشهرة؟ إن التاريخ يشهد بأنهم لم يستعبدهم المال ولا الشهرة، وقد قيل أنه لم ير السلاطين والملوك والأغنياء فى مجلس أحقر منهم فى مجلس الأعمش، مع شدة حاجته وفقره (3) . وهل يبلغ الحمق، والغباوة بهم، أن يبيعوا دينهم، وسمعتهم بين المسلمين، وهم لا يطمعون فى مال ولا جاه ولا منصب؟ أ. هـ.

_ (1) تذكرة الحفاظ 1/192. (2) تاريخ الخلفاء للسيوطى ص 248. (3) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوى ص 83.

ثالثا: الجواب عن اتهام الملوك والأمراء الأمويين العباسيين، فى دينهم

ثالثاً: الجواب عن اتهام الملوك والأمراء الأمويين العباسيين، فى دينهم، ودعوى استغلالهم لعلماء المسلمين لوضع ما يثبت ملكهم: حال الملوك والأمراء الأمويين والعباسيين من الدين: ... يحرص أعداء الإسلام، والسنة المطهرة، أن يصوروا لنا الأمويين، والعباسيين، جماعة دنيويين ليس لهم هم إلا الفتح، والاستعمار، والحقد على آل البيت، وأنهم كانوا فى حياتهم العادية جاهليين لا يمتون إلى تعاليم الإسلام وآدابه بصلة، وهذا افتراء على الواقع والتاريخ فمن المسَّلم به أن ما بين أيدينا من نصوص التاريخ التى تمثل لنا العصر الأموى، والعباسى، لا تعدوا إلا أن تكون أخباراً تناقلتها الألسنة دون تحقيق، وهى من وضع غلاة الشيعة، والروافض الذين أحدثوا الفتنة فى صفوف الأمة الإسلامية، منذ مقتل الفاروق عمر، فعثمان، فعلى، رضي الله عنهم استمراراً بصراعهم مع الأمويين والعباسيين، فهؤلاء الرافضة هم الذين ناصبهم الأمويون، والعباسيون العداء، وحاربوهم، تماماً كما حاربهم الإمام علىّ رضي الله عنهم. ... وما ناصبوا العداء يوماً قط لآل البيت رضي الله عنهم وإنما هى الفتنة التى كان يشعلها الرافضة بين آل البيت، وبين أمية وبنى العباس، على مر التاريخ. ... ومن هنا فلا يصح الاعتماد بدون تمحيص على كتب الأخبار والتاريخ فيما يتعلق بالأمويين والعباسيين (1) .

_ (1) لا سيما وأهل التاريخ ربما وضعوا من أناس، ورفعوا أناساً، إما لتعصب أو لجهل، أو لمجرد اعتماد على نقل من لا يوثق به، أو لغير ذلك من الأسباب، انظر: قاعدة فى المؤرخين للإمام السبكى ص 69 وما بعدها، وانظر: السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 197، والعواصم من القواصم ص 256 – 262، وشبهات حول العصر العباسى الأول للدكتور مؤيد فاضل ملا رشيد ص13 وما بعدها.

يقول الدكتور محمد مظهر صديقى: "لأنها كتبت فى الأمصار العراقية، وبخاصة فى الكوفة والبصرة وبغداد - بيئة الفتنة والرافضة، ولم تنج من تعصب المؤلفين ورواة الأخبار الذين لم يبتعد أكثرهم عن العصبية بكافة أنواعها" (1) . ... يقول الدكتور السباعى: "هذا شئ، وشئ آخر أنه حتى فى هذه الحالة فإنا نجد نصوصاً كثيرة تكذب أعداء السنة فيما رموا به أمراء الأمويين، والعباسيين، من إنحراف عن الإسلام وتحدٍّ لأحكامه، فابن سعد، يروى لنا فى طبقاته، عن نُسك، عبد الملك، وتقواه، قبل الخلافة، ما جعل الناس يلقبونه بحمامة المسجد، حتى لقد سئل بن عمر رضي الله عنه أرأيت، إذا تفانى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسأل؟ فأجابهم: سلوا هذا الفتى وأشار إلى عبد الملك (2) .

_ (1) الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامى ص 9 بتصرف، وانظر: شبهات حول العصر العباسى الأول ص 36 وما بعدها. (2) وانظر: ثناء ابن عمر، وأبى الزناد، والشعبى، وغيرهم فى البداية والنهاية لابن كثير 9/62-63

وهذا مالك رضي الله عنه قد احتج بقضاء عبد الملك بن مروان فى موطأه وأبرزه فى جملة قواعد الشريعة (1) . أما أبوه مروان بن الحكم فأقضيته وفتاواه كثيرة فى الموطأ (2) ،وفى الصحيح عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك ابن مروان كتب: إنى أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك أمير المؤمنين، على سنة الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ما استطعت، وإن بنى قد أقروا بمثل ذلك (3) . ... وقل مثل ذلك فى الوليد بن عبد الملك، فلقد أنشئت فى عصره أكثر المساجد المعروفة اليوم، حتى كان عصره للمسلمين عصراً عمرانياً، وقل مثل ذلك فى بقية الخلفاء بما فيهم يزيد ابن معاوية رضي الله عنه الذى اتهم كذباً وزوراً بأكاذيب من صنع الرافضة.

_ (1) من ذلك ما أخرجه فى الموطأ فى كتاب الأقضية، باب المستكرهة من النساء 2/564رقم14، وفى كتاب المكاتب، باب القضاء فى المكاتب2/604 رقم 3، وانظر: العواصم من القواصم ص263، ومقدمة ابن خلدون ص 228. (2) من ذلك ما أخرجه فى الموطأ فى كتاب المكاتب، باب عتق المكاتب إذا أدى ما عليه قبل محله 2/612 رقم 9، وانظر: لورع مروان، وابنه عبد الملك، فيما رواه الإمام مالك عن عبد الملك ابن مروان أنه وهب لصاحب له جارية ثم سأله عنها فقال قد هممت أن أهبها لابنى فيفعل بها كذا وكذا، فقال عبد الملك: لمروان كان أورع منك، وهب لابنه جارية ثم قال لا تقربها فإنى قد رأيت ساقها منكشفة، انظر: الموطأ كتاب النكاح، باب النهى عن أن يصيب الرجل أمة كانت لأبيه 2/426 رقم38. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس 13/205 رقم 7203.

ولا ندرى كيف يتهم بالفسق من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، له بالخير والمغفرة، فى قوله صلى الله عليه وسلم "… وأول جيش من أمتى يغزون مدينة قيصر مغفور له"؟ (1) وكان هذا الجيش هو جيش يزيد بن معاوية – وكان أميراً عليه فى غزوة القسطنطينية (2) . وكيف يعهد له أبوه (معاوية) رضي الله عنه بالخلافة "وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق. حاشا الله معاوية من ذلك" (3) . وكيف يصح وصف يزيد بالفسق وهو يحدث نفسه إن ولى الإمارة أن يسير على سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه لما قال له أبوه: كيف تراك فاعلاً إن وليت؟ قال: كنت والله يا أبة عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب. فقال معاوية: سبحان الله يا بنى، والله لقد جهدت على سيرة عثمان فما أطقتها، فكيف بك وسيرة عمر؟ (4) . ... ويقول العلامة ابن خلدون مدافعاً عن أمراء الدولة الأموية قائلاً: "… وإن كانوا ملوكاً فلم يكن مذهبهم فى الملك مذهب أهل البطالة، والبغى، إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم، إلا فى ضرورة تحملهم على بعضها، مثل خشية افتراق الكلمة الذى هو أهم لديهم من كل مقصد. يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتباع والاقتداء، وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم. فقد احتج مالك فى الموطأ بعمل عبد الملك، وأما مروان فكان فى الطبقة الأولى من التابعين، وعدالتهم معروفة ثم تدرج الأمر فى ولد عبد الملك وكانوا من الدين بالمكان الذى كانوا فيه" (5) .

_ (1) سبق تخريجه ص 423. (2) البداية والنهاية 8/229. (3) مقدمة ابن خلدون مبحث فى انقلاب الخلافة إلى الملك ص 228، ومبحث فى ولاية العهد ص234، 240. (4) البداية والنهاية 8/232، وانظر: العواصم من القواصم ص 221 - 228، والصواعق المحرقة ص208، وتطهير الجنان ص7-43 كلاهما لابن حجر الهيتمى. (5) المقدمة، مبحث فى انقلاب الخلاقة إلى الملك ص 228.

ويقول أيضاً مدافعاً عن أمراء الدولة الأموية والعباسية معاً فى معرض دفاعه عن أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد: "ثم إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك، وسليمان، من بنى أمية، والسفاح، والمنصور، والمهدى، والرشيد من بنى العباس، وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم، وحسن رأيهم للمسلمين، والنظر لهم، ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانهم، وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة فى ذلك، فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء، فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينياً (1) ، وهى حفظ وحدة المسلمين، وإنه لفى رواية الإمام مالك فى موطأه لأمراء بنى أمية مثل عبد الملك بن مروان وأبوه مروان، وجمعه لموطأه فى أيام بنى العباس، والدولة لهم، والحكم بأيديهم، لأكبر دليل على أنه لم يكن هناك صراع بين بنى أمية وبنى العباس، وإنما كان الصراع بينهم وبين أعداء الإسلام على مر التاريخ من الرافضة والزنادقة. وحتى لو فرض أنه كان هناك صراع، فلم يكن لهذا الصراع أى تأثير على علماء المسلمين فيما يحفظون، ويدونون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فلِمَ لم يغير وينكر أمراء بنى العباس ما فى الموطأ؟

_ (1) المصدر السابق مبحث فى ولاية العهد ص 233.

وأين ما زعمه أعداء الإسلام من استغلالهم لعلماء المسلمين فى وضع ما يوافق رغباتهم؟ نعم كان هناك من يتقرب إلى الملوك والأمراء بوضع ما يوافق فعلهم، ولكن هؤلاء الأدعياء لم يكونوا يمتون إلى العلم بصلة، وهم غير العلماء الذين نهضوا لجمع الحديث وتدوينه ونقده، وفى نفس الوقت لم يغفل الأمراء عن كذبهم كما حدث من غياث بن إبراهيم النخعى (1) مع الخليفة المهدى العباسى (2) لما رآه يلعب بالحمام فحدثه بحديث أبى هريرة رضي الله عنه: "لا سبق إلا فى خف أو نصل أو حافر" وزاد فيه: "أو جناح" فأمر المهدى بعشرة آلاف درهم، فلما قام قال المهدى: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما استجلبت ذلك أنا فأمر بذبح الحمام فذبحت.

_ (1) غياث هو: ابن إبراهيم النخعى، الكوفى، اتفقوا على تركة، فهو كذاب خبيث، كما وصفه يحيى ابن معين. انظر: الضعفاء للنسائى 195 رقم 509، والمجروحين لابن حبان 2/200، وميزان الاعتدال 3/337 رقم 6673، ولسان الميزان 5/421 رقم 6556، والجرح والتعديل 7/57 رقم 327، والكامل فى الضعفاء 6/8 رقم 1554، والضعفاء والمتروكين لابن الجوزى 2/247 رقم 2689.وانظر: الباعث الحثيث للشيخ أحمد شاكر ص 71، فقد ذكر أنه فعل نحواً من ذلك مع الخليفة الرشيد. (2) انظر: مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 8 ص 568 تعليق الأستاذ الصديق بشير على الفصل الثالث من دراسات محمدية لجولدتسهير، والذى اتهم فيه الخليفة المهدى بأن ابن عدى عده فى قائمة الوضاعين" وتحريف جولدتسهير لهذا النص، الذى فهم منه ذلك.

.. يقول الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله تعالى -:"لم يكن المهدى مغفلاً ولا جاهلاً، بل كان عاقلاً عالماً، من الملوك الذين ينشأون فى العلم الذى هو شرط من شروط الولاية، فعامل المتزلف إليه بجود الملوك، وأراد قطع السبب الذى تزلف به الكذاب، وفطم نفسه عن التعلق بالحمام فذبحها - ولم يأت فى الخبر أنه طرحها - ولم ينتفع بها آكل، ومثل هذا لا يغيب عن مثل الخليفة المهدى العالم (1) . الذى نكل بالزنادقة أيما تنكيل أيام دولته، وعين لهم رجلاً سماه "صاحب الزنادقة" وكل إليه أمر إبادتهم والقضاء عليهم وأمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب فى الرد على الملحدين، وإقامة البراهين على المعاندين وإيضاح الحق للشاكيِّن، وأوصى ابنه الهادى بالعمل على إبادة الزنادقة، وشرح له أمرهم، وسوء نيتهم نحو الإسلام والمسلمين، وجاء عنه أنه قال: "والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها حتى لا أترك منها عيناً تطرف" وقد أنفذ الهادى وصية أبيه بكل أمانة" (2) . ... وخلاصة القول: أن ما وقع من وضع فى السنة أيام الأمويين والعباسيين، وقع من غلاة الشيعة الرافضة، والزنادقة، وغيرهم ممن لا يمتون إلى العلم بصلة، وأمثال هؤلاء هم الذين كانوا فى صراع دائم مع الدولة الأموية، والعباسية، أما ما يزعمه أعداء الإسلام، والسنة المطهرة، بأن الوضع وقع من العلماء الذين دأبوا على نشر السنة المطهرة، وحفظها وتنقيتها أمثال الزهرى، والأوزاعى، والثورى، وابن حنبل، والبخارى، وغيرهم من رواة السنة، فذلك كذب وافتراء يرده تاريخنا الإسلامى السالم من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

_ (1) لمحات من تاريخ السنة ص 127 هامش، وانظر: ترجمة أمير المؤمنين أبى جعفر المنصور المهدى فى سير أعلام النبلاء 7/400، 403 رقم 147، والبداية والنهاية 10/124، وتاريخ الخلفاء ص253، وشذرات الذهب 1/230، 245، وتاريخ بغداد 5/391 - 401 رقم 2917، والوافى بالوفيات 3/300 - 302. (2) الحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص 339.

رابعا: الجواب عن طعن أعداء السنة فى أحاديث طاعة أولى الأمر

رابعاً: الجواب عن طعن أعداء السنة فى أحاديث طاعة أولى الأمر، وأحاديث الفتن ما زعمه أعداء السنة من أن أحاديث طاعة أولى الأمر، وأحاديث اجتناب الفتن وضعها أهل الحديث لتثبيت أنظمة الحكم، فتلك دعوى يردها النقل والنظر. ... يقول الأستاذ الصديق بشير: "فأما النقل: فإن الأحاديث التى ذكروها - ومعظمها فى الصحيحين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل وهى تدعو إلى طاعة الحكام والأمراء، وتدعوا إلى اجتناب الفتن، والنجاة من شرورها، ويظن أنها وضعت من أجل تثبيت الحكام، إما بطاعتهم، أو باعتزال الأمر وتركه، فهذه الأحاديث لو افترضنا جدلاً صحة ادعائهم، فالقرآن الكريم يؤكدها ويصدقها، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) ووجوب طاعة ولى الأمر بطاعته لله ورسوله، وقول تعالى: ذاماً الفتن ومحذراً من الارتكاس فيها {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (2) . وقال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (3) . وكون الفتنة أشد من القتل لأن شرورها لا تنقطع كالنار لا تبقى على شئ. فهذا إذن أكبر دليل على أن مجموع تلك الأحاديث التى تحض على الطاعة، وتجنب الفتن سبقت الخلافات والنزاع حول الحكم. ... وأما النظر: فإنه يكذب هذا الادعاء، لأن اجتماع الفقهاء أو أهل الحديث أو جمعيهم على وضع هذه المبادئ كما يسميها"جولدتسيهر" ويقول بها الرافضة، ومن قال بقولهم.لا يمكن أن يتحقق، واجتماعهم على الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتأتى. ففى زمن بنى أمية كان هناك كثير من الصحابة أمثال: أنس بن مالك (ت93هـ) ، وعبد الله بن عمر (ت 73هـ) ، وعبد الله ابن عباس (ت 68هـ) ، وأبو هريرة (ت 59هـ) ، وعبد الله بن عمرو (ت 65هـ) ، والنعمان بن بشير (ت 64هـ) .

_ (1) الآية 59 من سورة النساء. (2) الآية 25 من سورة الأنفال. (3) جزء من الآية 191 من سورة البقرة.

.. وكان هناك عدد كبير من الفقهاء والأعلام أمثال: سعيد بن المسيب (ت 91هـ) ، وعروة بن الزبير (ت 94هـ) ، وخارجة بن زيد (ت 100هـ) وبقية الفقهاء السبعة المشهورون. وأمثال: سالم بن عبد الله (ت 106هـ) ، والشعبى (ت 105هـ) ، وابن سيرين (110هـ) ، وهذه الدولة العباسية بدأت بخلافة أبى العباس السفاح سنة (132هـ) ، وكان ممن حضر قيامها من أئمة الفقهاء ربيعة الرأى (ت 134هـ) ، وعطاء الخراسانى (ت 135هـ) والأوزاعى (ت 157هـ) ، وأئمة المذاهب الأربعة. ... فهل من الممكن أن يتفق أمثال هؤلاء – وهم من هم فى الورع والعلم – على تثبيت نظام من الأنظمة، ودعوة الناس إلى مؤازرته والخضوع له، ولو أدى بهم ذلك إلى اختلاق الأحاديث، لتأكيد هذه الدعوة، وكأنهم شرذمة من المتآمرين؟! وإذا صح لغيرهم أن يفعلوا ذلك، فهل يرضى هؤلاء بذلك، وهم يعلمون أنه خطر يهدد الإسلام، وأن السكوت عليه خيانة للمسلمين؟! ... وكيف ترضى الفرق الأخرى التى تنازع نظام الحكم القائم بهذا الصنيع وهى تعلم أنه دس واختلاق؟! والعقل يقول: إنه لو أحس هؤلاء بأن تلك الأحاديث موضوعة لغرض تثبيت نظام الحكم الذى ينازعونه لشنعوا بذلك أيمَّا تشنيع، ولشهَّروا بواضيعها أيما تشهير، ولكن هذا لم يوجد؛ لأنه لم يصح إلا فى ذهن الرافضة وجولدتسهير، ومن تبعهم فى ملتهم من أبناء جلدتنا. وكيف فاتهم أن عصر بنى أمية وبنى العباس لم يخل من علماء نقد الحديث، وهم علماء الجرح والتعديل أمثال: شعبة بن الحجاج (ت 159هـ) ، وسفيان الثورى (ت 161هـ) ، وعبد الرحمن بن مهدى (ت 198هـ) ، ويحيى بن سعيد القطان (ت 198هـ) ، وهم وغيرهم الذين غربلوا الحديث، وحذفوا الموضوعات وأظهروها، فهل غابت عنهم تلك الأحاديث التى ذكرها أعداء الإسلام، ومعظمها فى الصحيحين، حتى يأتى أدعياء العلم فى آخر الزمان ليبينوا لنا أنها موضوعة؟!

ثم ما المنهج الذى اتبعوه فى النقد؟ ليس ثمة منهج إلا مجموعة أفكار فاسدة وهواجس تعشعش فى أذهانهم، ولو افترضنا أن أعداء الإسلام لا يقصدون أنهم وضعوا هذه الأحاديث، أى اختلقوها فإن مجرد تسخيرهم لها لتثبيت دعائم الحكم الأموى مرة، والحكم العباسى مرة أخرى، مسبة أيضاً، وفرية لا يقولها عاقل! ... كما أن إشاعة هذه الأحاديث النبوية مصلحة للناس قبل أن تكون مصلحة للحكام؛ لأنه فى أغلب الفتن لا يتأذى بويلاتها إلا الناس، ولا يبلغ الحكام إلا دخانها، وفى الفتن تختلط الأمور وتتداخل، فيدعى كل طرف فيها أنه على حق، وأن غيره على باطل، ومن لم يتبين أى الأطراف على حق، كان أولى به أن يعتزل الفتن، وهو الصواب. ... كما أن هذا الدين الحنيف جاء داعياً إلى التكتل والجماعة، وحذر من الفرقة والانقسام لأن هلاك المسلمين فى تفرقهم شيعاً وأحزاباً، يقول تبارك وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (2) ويقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (3) . ... والأحاديث النبوية التى تدعوا إلى الجماعة، وعدم الخروج عنها توضح هذه الحقيقة القرآنية، حقيقة أن فساد أمر المسلمين بافتراقهم، وهى حقيقة يعيها جيداً أعداء الإسلام، إلاَّ أنهم يتجاهلون هذه الحقيقة ليزعموا أن هذه الأحاديث موضوعة، لخدمة الحكام، وذلك بعدم دفع المسلمين إلى الخروج على الحكام ولو كانوا جائرين، وتجاهلوا أن: من عقيدة المسلمين عدم الخروج على السلطان لجور أو ظلم ما لم يأمر بمعصية.

_ (1) الآية 103 من سورة آل عمران. (2) الآية 159 من سورة الأنعام. (3) الآية 105 من سورة آل عمران.

يقول الإمام الطحاوى فى عقيدته: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة" (1) . ... ويقول شارح العقيدة الطحاوية: "فقد دل الكتاب، والسنة على وجوب طاعة أولى الأمر ما لم يأمروا بمعصية، فتأمل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) كيف قال: وأطيعوا الرسول، ولم يقل: وأطيعوا أولى الأمر منكم! لأن أولى الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله، وأعاد الفعل مع الرسول؛ لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله، بل هو معصوم فى ذلك، وأما ولى الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ... وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا؛ فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم (3) وقل من خرج على إمام إلا كان ما تولد عن فعله من الشر أعظم ما تولد من الخير، يقول ابن تيمية فى حكم قتل الأئمة والخروج عليهم: "إن من قال: إن قتلهم حد، قال: إن جنايتهم؛ توجب من الفتنة، والفساد أكثر مما يوجبه جناية بعض قطاع الطريق لأخذ المال" (4) .

_ (1) شرح العقيدة الطحاوية 2/111. (2) جزء من الآية 59 من سورة النساء. (3) شرح الطحاوية 2/114. (4) منهاج السنة 3/201.

.. وأخيراً: بماذا يفسر أعداء الإسلام، ما رواه من طعنوا فيهم من المحدثين، من أحاديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" (1) ،ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (2) . ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" (3) وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر واليسر: والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف فى الله لومة لائم" (4) . ماذا يقول أعداء الإسلام فى هذه الأحاديث التى ظاهرها مجابهة السلطان إذا أمر بالمعاصى، أو استحلها، أو عطل حداً من حدود الله؟!

_ (1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الملاحم، باب الأمر والنهى4/124رقم4344،والترمذى فى سننه كتاب الفتن، باب ما جاء فى أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر 3/409 رقم 2174. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب كون النهى عن المنكر من الإيمان 1/296 رقم 49 من حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء فى غير معصية 6/466 رقم 1839 من حديث ابن عمر رضي الله عنه. (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس 13/204 رقمى 7199، 7200، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء فى غير معصية وتحريمها فى معصية 6/468 رقم 1709 واللفظ له.

.. إن الذين رووا هذه الأحاديث، هم أنفسهم الذين رووا تلك الأحاديث التى ينكرونها، فكيف لهم الخروج من هذه الورطة التى أوقعوا أنفسهم فيها؟ إن طاعة ولى الأمر ليست على الإطلاق، بل هى مقيدة بطاعته لله ورسوله، تلك الطاعة التى لا تكون إلا بإقامة حكم الله فى الناس. وهذا يبين أنه ليس ثمة مصلحة لهؤلاء المحدثين، والفقهاء، إلا خدمة هذا الدين، وليسوا أداة فى أيدى الحكام يسخرونها متى شاؤوا وكيف شاؤوا (1) . بل كانوا حفظة الشريعة وحراس الأرض، ولولاهم لدرس الإسلام، فهم فرسان هذا الدين الذين وقفوا بالمرصاد لحركة الوضاعين من أعداء الإسلام، وأسفر صمودهم عن أدق منهج، وأحكمه فى نقد الروايات وتمحيصها، والتمييز بين غثها وسمينها، فأبلوا فى ذلك أحسن البلاء وبرزوا فى هذا المضمار، واستحدثوا فيه العلوم وقعدوها، وضبطوها وأَصَّلوها، وجاؤوا بالعجب العجاب فى حفظ السنة المطهرة (2) . فكانوا آية تصدق آية {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) ضوابط الرواية عند المحدثين ص 342 - 347 بتصرف، وانظر: مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 8/579 - 583، وللاستزادة فى الجواب عن هذه الشبهة انظر: منهج السنة فى العلاقة بين الحاكم والمحكوم لفضيلة الأستاذ الدكتور يحيى إسماعيل حبلوش. (2) الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث فى القرن الثانى الهجرى للدكتور عبد المجيد محمود ص3 بتصرف. (3) الآية 9 من سورة الحجر.

المبحث الثالث: أدلة حجية السنة النبوية المطهرة

المبحث الثالث: أدلة حجية السنة النبوية المطهرة ... وتحته خمس مطالب: المطلب الأول: العصمة. المطلب الثانى: القرآن الكريم. المطلب الثالث: السنة النبوية. المطلب الرابع: إجماع الأمة. المطلب الخامس: العقل والنظر. وفيه ما يلى: أ- ذكر نماذج من المسائل العجيبة التى استنبطها أعداء السنة من القرآن الكريم بدون رجوعهم إلى بيان النبى صلى الله عليه وسلم، واستعراض بدائلهم عن السنة المطهرة. ب- بيان علاقة القرآن الكريم بالسنة الشريفة. ج- بيان رتبة السنة النبوية من القرآن الكريم. د- الكلام عن استقلال السنة بتشريع الأحكام، وتحرير الخلاف فى ذلك، والرد على من اتخذ كلام الإمام الشاطبى فى مسألة استقلال السنة بتشريع الأحكام ستاراً للتشكيك فى حجية السنة واستقلالها بتشريع أحكام. هـ- بيان مضار إنكار السنة النبوية. و حكم منكر السنة النبوية. المطلب الأول: العصمة ... السنة النبوية أصل من أصول الدين، وحجة على جميع المسلمين، وقد دل على ذلك: العصمة، والقرآن الكريم، والسنة النبوية وإجماع الأمة، والعقل والنظر. أولاً: العصمة: ... قبل أن أذكر تعريف العصمة، وبيان دلالتها على حجية السنة، بل وحجية القرآن الكريم أيضاً، ينبغى أن أنبه على أن الكلام عن العصمة فى الحقيقة من مباحث علم الكلام (1) ؛ لأنه علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى، وذات رسله من حيث ما يجب لهم، وما يجوز، وما يستحيل فى حقهم. ... لكن علماء الأصول تناولوا العصمة بالحديث فى مباحث السنة، نظراً لشدة التصاقها بها، حيث تتوقف حجية السنة بل والقرآن أيضاً على عصمة النبى صلى الله عليه وسلم (2) ، إذا علم ذلك أقول وبالله التوفيق:

_ (1) الإبهاج فى شرح المنهاج 2/263. (2) انظر: دراسات أصولية فى السنة للدكتور محمد إبراهيم الحفناوى ص 19 بتصرف.

.. العصمة فى اللغة: المنع والحفظ والوقاية. يقال عصمته فانعصم واعتصمت بالله: إذا امتنعت بلطفه من المعصية، وهذا طعام يعصم أى: يمنع من الجوع، ومنه قوله تعالى - على لسان ابن نوح عليه السلام -: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} (1) أى يمنعنى من تغريق الماء، ويقال دعى إلى مكروه فاستعصم. أى امتنع وأبى وطلب العصمة منه، قال تعالى حكاية عن امرأة العزيز حين راودت يوسف عليه السلام عن نفسه: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} (2) أى تأبى عليها ولم يحبها إلى ما طلبت (3) . ... ... وفى الاصطلاح: حفظ الله للمكلف من الذنب، مع استحالة وقوعه من المحفوظ، والمراد عصمتهم - أى الأنبياء - من ذلك ظاهراً وباطناً، فالله تعالى عصم ظاهرهم من الزنا، وشرب الخمر، والكذب، وغير ذلك، وعصم باطنهم من الحسد، والرياء وحب الدنيا إلى غير ذلك من منهيات الباطن" (4) . ... وقيل فى تعريفها: هى خُلُق، مانع عن ارتكاب المعصية، غير ملجئ إلى تركها، فلا يكون مضطراً فى ترك المعصية (5) .

_ (1) الآية 43 من سورة هود. (2) جزء من الآية 32 من سورة يوسف. (3) انظر: لسان العرب 12/403، والقاموس المحيط 4/151، والمصباح المنير 2/566، وانظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 87 هامش. (4) حاشية البيجورى على الجوهرة ص 160. (5) دراسات أصولية فى السنة للدكتور محمد إبراهيم الحفناوى ص19، 20، وانظر: البحر المحيط للزركشى 4/169-172، وإرشاد الفحول 1/159-164.

دلالة العصمة على حجية القرآن والسنة:

دلالة العصمة على حجية القرآن والسنة: ... يقول الدكتور عبد الغنى عبد الخالق - رحمه الله -: "اعلم أنه تجب عصمة الأنبياء عن أى شئ يخل بالتبليغ: ككتمان الرسالة، والكذب فى دعواها، والجهل بأى حكم أنزل عليهم، والشك فيه، والتقصير فى تبليغه، وتصور الشيطان لهم فى صورة الملك، وتلبيسه عليهم فى أول الرسالة وفيما بعدها، وتسلطه على خواطرهم بالوساوس، وتعمد الكذب فى أى خبر أخبرو به عن الله تعالى، وتعمد بيان أى حكم شرعى، على خلاف ما أنزل عليهم: سواء أكان ذلك البيان بالقول أم بالفعل، وسواء أكان ذلك القول خبراً أم غيره. ... فذلك كله: قد انعقد الإجماع من أهل الشرائع على وجوب عصمتهم منه لدلالة المعجزات التى أظهرها الله على أيديهم (القائمة مقام قوله تعالى: صدق رسلى فى كل ما يبلغون عنى) وعليه فإنه لو جاز عليهم شئ من ذلك، لأدى إلى إبطال دلالتها. وهو محال (1) . ... كما انعقد الإجماع على أنهم معصومون من السهو، والغلط فيما يخل بالتبليغ، والذاهبين إلى تجويز ذلك عليهم يجمعون على اشتراط التنبيه فوراً من الله تعالى وعدم التقرير عليه (2)

_ (1) حجية السنة ص 97، 102، 251. (2) المصدر السابق ص 99 وما بعدها، وانظر: النفحات الشذية فيما يتعلق بالعصمة والسنة النبوية للشيخ محمد الطاهر الحامدى ص 21 وما بعدها. وانظر: المحصول للرازى 1/501 وما بعدها، والمنهاج شرح مسلم للنووى 8/136 رقم 2371.

.. وذلك يستلزم: أن كل خبر بلاغى - بعد تقرير الله له عليه - صادق مطابق لما عند الله إجماعاً: فيجب التمسك به يدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (1) فكلمة "ينطق" فى لسان العرب تشمل كل ما يخرج من الشفتين من قول أو لفظ (2) ، أى ما يخرج نطقه صلى الله عليه وسلم عن رأيه، إنما هو بوحى من الله عز وجل (3) . ... ولقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفى والاستثناء، وهذا واضح فى إثبات أن كلامه صلى الله عليه وسلم محصوراً فى كونه وحياً لا يتكلم إلا به، وليس بغيره (4) .

_ (1) الآيتان 3،4 من سورة النجم. (2) انظر: القاموس المحيط 3/277، ومختار الصحاح ص 666، ولسان العرب 10/354. (3) تفسير القرطبى 17/84، 85. (4) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير لفضيلة الأستاذ الدكتور مروان شاهين ص55

الوحى قسمان:

.. فيثبت بذلك حجية قوله صلى الله عليه وسلم فى حق القرآن: "هذا كلام الله عز وجل (1) ، وقوله فى الأحاديث القدسية: "قال رب العزة كذا"، أو نحو هذه العبارة، وقوله: "ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان، متكئ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه. ألا لا يحل لكم الحمار الأهلى، ولا كل ذى ناب من السباع، ولا كل ذى مخلب من الطير، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغنى عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه" (2) . ... فهذه كلها أخبار، معصوم عن الكذب: فتكون حججاً دالة على أن الوحى قسمان: القسم الأول: الكتاب المعجز المتعبد بتلاوته. والقسم الثانى ما ليس بكتاب وهو قسمان: 1- حديث قدسى، وهو ما نزل لفظه (3) .

_ (1) انظر: فى حجية السنة للعلامة الدكتور عبد الغنى، دفعه لافتراض أن القرآن كلام الله لا يثبت بذلك القول. حجية السنة ص 250. (2) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب لزوم السنة 4/200 رقم 4604، والترمذى فى سننه كتاب العلم، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبى صلى الله عليه وسلم 5/37 رقم 2664، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (3) اختلف العلماء فى ذلك هل اللفظ من عند الله، أو من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتصر الأستاذ الكبير الدكتور عبد الله دراز للرأى القائل بأن لفظ الحديث القدسى من عند رسول اللهصلى الله عليه وسلم= =فيقول عن هذا الرأى "وهذا أظهر القولين فيه عندنا، لأنه لو كان منزلاً بلفظه لكان له من الحرمة والقدسية فى نظر الشرع ما للنظم القرآنى، إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منزلين من عند الله، فكان من لوازم ذلك وجوب المحافظة على نصوصه، وعدم جواز روايته بالمعنى إجماعاً: وحرمة مس المحدث لصحيفته، ولا قائل بذلك كله أ. هـ. انظر: النبأ العظيم ص 16

2- وحديث نبوى وهو: ما نزل معناه، وعبر عنه النبى صلى الله عليه وسلم، بلفظ من عنده (1) . وهذا القسم لقبه رب العزة بالحكمة (2) فى آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {… وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) . ... وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (4) .

_ (1) حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 280. (2) الحكمة فى اللغة تطلق على عدة معان منها: العلم، والفقه، والعدل، والحلم، والنبوة. انظر: لسان العرب 12/140،141، والقاموس المحيط 4/100، والمعجم الوسيط 1/190. (3) الآية 231 من سورة البقرة. (4) الآية 164 من سورة آل عمران.

السنة النبوية وحى من الله تعالى:

.. ومما هو جدير بالذكر أن رب العزة قد بين فى كتابه العزيز أن نوعى الوحى المعبر عنهما بالكتاب والسنة ليسا من المسائل الخاصة بالنبى صلى الله عليه وسلم وإنما هى سنة عامة فى الأنبياء جميعاً قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَاءَاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (1) ويقول رب العزة فى حق آل إبراهيم: {فَقَدْءَاتَيْنَاءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} (2) ويقول عز وجل فى حق عيسى عليه السلام: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (3) . السنة النبوية وحى من الله تعالى: ... ذهب العلماء إلى أن الوحى بالنسبة إلى السنة المطهرة ينقسم إلى قسمين: 1- القسم الأول: قسم أوحى الله تعالى بمعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بألفاظ من عنده. وهذا القسم هو الأعم الأغلب من السنة النبوية. أما القسم الثانى: فهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى، فإن وافق قوله أو فعله مراد الله تعالى، فالأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح. أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك.

_ (1) الآية 81 من سورة آل عمران. (2) الآية 54 من سورة النساء. (3) الآية 110 من سورة المائدة.

والقسم الثانى هذا هو الأقل فى السنة الشريفة (1) ويدخل فى هذا القسم ما صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة والطبيعة وأقره الله عليها، كشؤونه فى طعامه وشرابه ولباسه، وجلوسه ونومه وما ماثل ذلك، فإن ذلك كله بعد تقرير الله عز وجل له، يكون بمنزلة الوحى حجة على العباد ما لم يقم دليل على خصوصيته بالنبى صلى الله عليه وسلم (2) . ومن الأدلة على أن السنة النبوية وحى منزل من عند الله عز وجل قوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} (3) فهذه الآية-من سورة النساء-تدل على أن الحكمة نزلت من عند الله تعالى مثل القرآن الكريم، وفى سورة الإسراء يقول رب العزة: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (4) . والآية واضحة فى أن الحكمة وحى من الله تعالى مثل القرآن الكريم.

_ (1) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير لفضيلة الأستاذ الدكتور مروان شاهين ص 54 (2) حجية السنة للعلامة الدكتور عبد الغنى ص 340 بتصرف. (3) الآية 113 من سورة النساء. (4) الآية 39 من سورة الإسراء.

.. ومن دقة الأداء القرآنى فى التعبير عن هذين النوعين من الوحى (الكتاب والسنة) ؛ أنه فصل بينهما بواو العطف إذا اجتمعا، ليبين أن هذين النوعين مختلفان لضرورة التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، فالمنطق يقتضى أن الشئ لا يعطف على نفسه وصاحب العقل الفصيح يلمح الإشارة فى قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) حيث فرق رب العزة، بين الكتاب والحكمة بحرف العطف ليدل على تغايرهما، وأفرد الضمير العائد عليهما، ليدل على وحدة مصدرهما وأن المشكاة واحدة (2) .

_ (1) الآية 231 من سورة البقرة. (2) السنة فى مواجهة أعدائها لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 66 بتصرف، وفيما سبق رد على ما زعمه مؤلف لماذا القرآن أن أفراد الضمير دليل على أن الحكمة هى القرآن، ولو كانت شيئاً آخر غير القرآن لقال يعظكم بهما، انظر: لماذا القرآن لأحمد صبحى منصور ص 28.

وأنت تستطيع أن تتأمل فى أية الأحزاب، كما تأملها الإمام الشافعى من قبل، يتضح لك أنها أوضح مما ذكر فى الدلالة على أن المراد بالحكمة السنة المطهرة، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (1) . فالتلاوة هنا المرة بعد المرة، والمتلو هنا شيئان، أولهما: آيات الله فى كتابه، وثانيهما: الحكمة وهى صنف آخر من الوحى المتلو، ولا يكون ذلك إلا السنة النبوية المطهرة (2) .

_ (1) الآية 34 من سورة الأحزاب. (2) السنة فى مواجهة أعدائها لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 67، وأنظر: الرسالة للإمام الشافعى ص 78، 79 فقرات رقم 252 - 257، والفقيه والمتفقه للخطيب 1/258 رقم256، ومختصر الصواعق المرسلة لابن قيم 2/511، والمدخل إلى السنن للبيهقى حيث نقل بأسانيده عن الحسن، وقتادة، ويحيى بن أبى كثير - رحمهم الله – أنهم قالوا الحكمة فى هذه الآية يقصد آية "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ"هى السنة، وللإستزادة انظر: السنة بياناً للقرآن للدكتور إبراهيم الخولى ص32-46.

.. ولو شغب أعداء الإسلام على تفسير "الحكمة" بالسنة المطهرة، واعترضوا على ذلك (1) . قلنا لهم: ماذا تقولون فى آيات تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) . ... فهذه الآيات الكريمات تدلنا على أن التوجه إلى بيت المقدس كان مشروعاً من قبل، وكان ذلك التوجه حقاً وصواباً واجباً عليهم قبل التحول إلى الكعبة، فأين ذلك كله فى القرآن الكريم؟ ... ألا يدل ذلك على أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا عاملين بحكم لم ينزل به القرآن، وأن عملهم هذا كان حقاً وواجباً عليهم؟!!

_ (1) انظر: مجلة المنار المجلد 9/908 مقال الدكتور توفيق صدقى "الإسلام هو القرآن وحده" والصلاة لمحمد نجيب ص277، وأصول الفقه المحمدى لشاخت نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 11/665، قرآن أم حديث ص 29، والقرآن والحديث والإسلام ص 6 كلاهما لرشاد خليفة،= =والصلاة فى القرآن ص 12، 14، ولماذا القرآن ص 26 - 28 كلاهما لأحمد صبحى منصور، والإمام الشافعى نصر أبو زيد ص 89، والكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 568، والدولة والمجتمع ص232-235،كلاهما لمحمد شحرور، وإعادة تقييم الحديث لقاسم أحمد ص75-78، وإنذار من السماء نيازى عز الدين ص 95 وما بعدها، ودليل المسلم الحزين لحسين أحمد أمين ص 44، وتبصير الأمة بحقيقة السنة لإسماعيل منصور ص 21، 114، 117،320. (2) الآيات 142 - 144 من سورة البقرة.

.. ولا يصح أن يقال: إن عملهم هذا كان بمحض عقولهم واجتهادهم. إذ العقل لا يهتدى إلى وجوب التوجه إلى قبلة "ما" فى الصلاة، فضلاً عن التوجه إلى قبلة معينة، وفضلاً عن أن النبىصلى الله عليه وسلمكان أثناء صلاته إلى بيت المقدس راغباً كل الرغبة فى التوجه إلى الكعبة المشرفة ... إذن: كان التوجه إلى بيت المقدس بوحى غير القرآن وهو السنة المطهرة (1) . ومن الأدلة على أن السنة النبوية وحى من عند الله من السنة نفسها قوله صلى الله عليه وسلم لوالد الزانى بامرأة الرجل الذى صالحه على الغنم والخادم، والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد. وعلى ابنك جلد مائة، وتغريب عام" (2) ، وليس فى القرآن المتلوا إلا الجلد مائة، ومن ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يستبطئن أحد منكم رزقه". إن جبريل عليه السلام ألقى فى روعى أن أحداً منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس، وأجملوا فى الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه؛ فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله بمعصية" (3) .

_ (1) حجية السنة للعلامة الدكتور عبد الغنى ص 336 بتصرف. (2) سبق تخريجه ص 222. (3) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب البيوع2/5رقم 2136من حديث ابن مسعود وسكت عنه هو والذهبى، وأخرجه الحاكم فى نفس الأماكن السابقة من حديث جابر بن عبد اللهرضي الله عنه وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبى، وانظر: الرسالة للإمام الشافعى ص93فقرة رقم306.

.. وفى الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما أخاف عليكم بعدى، ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها" فقال رجل: أو يأتى الخير بالشر يا رسول الله؟ قال: فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له ما شأنك؟ تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك؟ قال: وَرَأَيْنَا أنه يُنْزَلُ عليه، فأفاق يَمْسَحُ عَنْهُ الرُّحَضَاءَ0 وقال: "أين هذا السائل" (وكأنه حمده) فقال: "إنه لا يأتى الخير بالشر…الحديث" (1) .فالحديث هنا صريح فى أنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحى فيما يسأل عنه، فينزل عليه بما ليس بقرآن: "وهو دليل قطعى على أن السنة كانت تنزل كما ينزل القرآن" (2) ، ويستأنس لذلك بما روى عن حسان بن عطية (3) ؛ أنه قال: "كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القران" (4)

_ (1) البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 11/248 رقم 6427، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الزكاة، باب ليس الغنى عن كثرة العرض 4/154 رقم 1052 واللفظ له من حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه. (2) البحر المحيط فى أصول الفقه للزركشى 6/216. (3) حسان: هو حسان بن عطية المعاربى، أبو بكر الدمشقى، ثقة، فقيه، عابد، ومن أفاضل أهل زمانه، مات بعد العشرين ومائة من الهجرة. له ترجمة فى: تقريب التهذيب1/199رقم1028، ومشاهير علماء الأمصار ص211 رقم 1423، والكاشف 1/320 رقم 1004، والثقات للعجلى ص 112 رقم 269، وحلية الأولياء 6/70 رقم 330، وصفوة الصفوة 4/222 رقم 755. (4) أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب السنة قاضية على كتاب الله 1/153 رقم 588، والخطيب فى الفقيه والمتفقه 1/266، 267 رقمى 268، 269، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/191، وأبو داود فى المراسيل ص 167 رقم 567، وانظر: الموافقات 4/408، ومختصر الصواعق المرسلة 2/512، وحجية السنة للعلامة عبد الغنى ص 337، وشذرات فى علوم السنة لفضيلة الأستاذ الدكتور الأحمدى أبو النور ص 32.

هذا كله فضلاً عن أن الإجماع قد انعقد على أنه كان يوحى إليه غير القرآن الكريم (1) . وتأسيساً على ما سبق، فإننا نقول: إن السنة الشريفة وحى من الله تعالى ابتداءً وهذا هو الأغلب، أو اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم وأقره ربه عليه إما بالموافقة أو بالتصحيح، ويكون مرد ذلك إلى الوحى أيضاً بإقرار الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (2) . وهذا النوع من الوحى يسميه جمهور الحنفية وحياً باطناً (3) . فتبين لك من هذا كله: أن جميع ما صدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير حتى الحركات، والسكنات فهى وحى من عند الله تعالى بعد إقرار الله عز وجل عليه (4) . ... والعصمة التى نتحدث عنها هنا تغنينا وحدها فى إثبات حجية جميع أنواع السنة القولية والفعلية والتقريرية والاجتهادية. إجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتشكيك بعض دعاة الفتنة وأدعياء العلم فى أن السنة المطهرة كلها وحى

_ (1) حجية السنة للعلامة الدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 338. (2) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير لفضيلة الأستاذ الدكتور مروان شاهين ص54 (3) انظر: أصول السرخسى 2/90 وما بعدها. (4) انظر: حجية السنة للعلامة الدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 340، 341 بتصرف.

.. زعم بعض دعاة الفتنة وأدعياء العلم أن إجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم ليس من الوحى الإلهى واتخذوا من ذلك مدخلاً للطعن فى السنة النبوية، وأنها ليست كلها وحى من عند الله تعالى (1) ، ويستدلون على ذلك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوارد فى قصة تأبير النخل بمختلف رواياته عن طلحة بن عبيد الله (2) رضي الله عنه قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل. فقال: "ما صنع هؤلاء؟ " فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر فى الأنثى فيلقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أظن يغنى ذلك شئ" قال فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنى إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذونى بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً، فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله عز وجل.

_ (1) راجع: ما سبق فى الرد على الرافضة الذين طعنوا فى اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم، واتخذوا منه مدخلاً للطعن فى عدالتهم ص 307-318. (2) طلحة بن عبيد الله: صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 2/764 رقم 1280، واسد الغابة 3/84 رقم 2627، والإصابة 2/229 رقم 4266، وتاريخ الصحابة ص 24 رقم 5، ومشاهير علماء الأمصار 12 رقم 8.

.. وفى حديث رافع بن خديج (1) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به. وإذا أمرتكم بشئ من رأى فإنما أنا بشر".قال عكرمة: أو نحو هذا.وفى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنتم أعلم بأمر دنياكم" (2) ... وهذا الحديث من زمن طويل كان المشجب الذى يعلق عليه من شاء، ما شاء من أمور الشرع التى يراد التحلل منها (3) ، فقد أراد بعضهم أن يحذف النظام السياسى كله من الإسلام بهذا الحديث وحده، لأن أمر السياسة أصولاً وفروعاً من أمر دنيانا، فنحن أعلم به. فليس من شأن الوحى أن يكون له فيها تشريع أو توجيه، فالإسلام عند هؤلاء دين بلا دولة، وعقيدة بلا شريعة، وأراد آخرون أن يحذفوا النظام الاقتصادى كله من الإسلام كذلك، بسبب هذا الحديث الواحد المهم أن بعض الناس أراد أن يهدم بهذا الحديث الفرد كل ما حوت دواوين السنة الزاخرة، من أحاديث البيوع، والمعاملات، والعلاقات الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث لينسخ به جميع أقواله وأعماله وتقريراته الأخرى، التى تكون السنة النبوية المطهرة.

_ (1) رافع بن خديج: صحابى جليل له ترجمة فى: اسد الغابة 2/232 رقم 1580، والاستيعاب 2/489 رقم 726، والإصابة 1/495 رقم 2526، وتاريخ الصحابة ص 97 رقم 419، وتجريد أسماء الصحابة 1/173، ومشاهير علماء الأمصار ص 18 رقم 29. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأى ص 8/127، 128، أرقام 2361 – 2363. (3) السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين ص32، وانظر: تاريخ المذاهب الإسلامية للعلامة محمد أبو زهرة ص 241 وما بعدها.

.. وهذا الغلو من بعض الناس، هو الذى جعل عالماً كبيراً مثل المحدث الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر - رحمه الله - يعلق على هذا الحديث فى مسند الإمام أحمد فيقول: "هذا الحديث مما طنطن به ملحدوا مصر، وصنائع أوروبة فيها، من عبيد المستشرقين، وتلامذة المبشرين، فجعلوه أصلاً يحجون به أهل السنة وأنصارها، وخدام الشريعة وحماتها، إذا أرادوا أن ينفوا شيئاً من السنة، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام، فى المعاملات وشئون الاجتماع وغيرها، يزعمون أن هذه من شئون الدنيا، ويتمسكون برواية أنس: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" (1) والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين، ولا بالألوهية، ولا بالرسالة، ولا يصدقون القرآن فى قرارة نفوسهم. ومن آمن منهم فإنما يؤمن لسانه ظاهراً، ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه، لا عن ثقة وطمأنينة، ولكن تقليداً وخشية، فإذا ما جد الجد، وتعارضت الشريعة، الكتاب والسنة، مع ما درسوا فى مصر أو فى أوروبة لم يترددوا فى المفاضلة، ولم يحجموا عن الاختيار، وفضلوا ما أخذوه عن

_ (1) بل وينكرون أركان الإسلام، انظر إلى ما يزعمه جمال البنا فى كتابه السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 193، قائلاً: "بيان النبى صلى الله عليه وسلم فى العبادات من صلاة أو زكاة أو صيام أو حج أو شورى … إلخ، ليس تشريعاً دائماً لازماً" أ. هـ. وراجع من نفس المصدر ص 170، 195، 203، 225، وانظر: له الأصلان العظيمان ص 240 وما بعدها، وانظر: "الإسلام هو القرآن وحده" مقال الدكتور توفيق صدقى فى مجلة المنار المجلد 9/910، 911، وأضواء على السنة محمود أبو رية ص 42، 44، 93، وانظر: قصة الحديث المحمدى ص 14 - 17، ودراسة الكتب المقدسة للدكتور موريس بوكاى ص293،299،والإمام الشافعى ص84، ونقد الخطاب الدينى ص 126 كلاهما للدكتور نصر أبو زيد، والكتاب والقرآن قراءة معاصرة للدكتور محمد شحرور ص553، والسلطة فى الإسلام للمستشار عبد الجواد ياسين ص 248 وما بعدها.

سادتهم، واختاروا ما أشربت قلوبهم، ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك أو ينسبهم الناس إلى الإسلام. والحديث واضح صريح، لا يعارض نصاً، ولا يدل على عدم الاحتجاج بالسنة فى كل شأن، وإنما كان فى قصة تلقيح النخل أن قال لهم: "ما أظن ذلك يغنى شيئاً" فهو لم يأمر ولم ينه، ولم يخبر عن الله، ولم يسن فى ذلك سنة حتى يتوسع فى هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع (1) أ. هـ. ... ومن اجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم، وقوله "أنتم أعلم بأمر ديناكم"، ذهب بعض علماء المسلمين الأجلاء إلى تقسيم السنة النبوية المطهرة إلى قسمين: 1- سنة تشريعية ملزمة ودائمة. 2- سنة غير تشريعية غير ملزمة ولا دائمة. ... وقصدوا بغير التشريع ثلاثة أنواع: 1- ما سبيله سبيل الحاجة البشرية، كالأكل والشرب والنوم والمشى والتزاور … إلخ. 2- ما سبيله سبيل التجارب والعادة الشخصية أو الاجتماعية، كالذى ورد فى شئون الزراعة والطب، وطول اللباس وقصره.

_ (1) انظر: مسند الإمام أحمد 2/177 رقم 1935 هامش، وانظر: الرد القويم على المجرم الأثيم للشيخ التويجرى ص 133-136.

3- ما سبيله سبيل التدبير الإنسانى كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية ونحو ذلك فهذه الأنواع الثلاثة ليس شرعاً يتعلق به طلب الفعل أو الترك، وإنما هو من الشئون البشرية التى ليس مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم فيها تشريعاً ولا مصدر تشريع (1) وبهذا التقسيم قال غير واحد من علماء المسلمين (2) . وبالغ بعضهم حتى كاد يخرج قضايا المعاملات، والأحوال المدنية كلها، من دائرة السنة التشريعية. حيث كان يرى أن كثيراً من أوامر الرسول ونواهيه فى المعاملات كان أساسها الاجتهاد لا الوحى (3)

_ (1) الإسلام عقيدة وشريعة للأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت ص 499 وما بعدها. (2) كالأستاذ محمد رشيد رضا فى مجلة المنار المجلد 9/858، والدكتور عبد المنعم النمر - رحمه الله - فى كتبه (السنة والتشريع) و (الاجتهاد) و (علم أصول الفقه) والشيخ عبد الجليل عيسى فى كتابه (اجتهاد الرسول) ، والشيخ على حسب الله فى كتابه (التشريع) ، والشيخ محمد الغزالى-رحمه الله- فى كتابة "كيف نفهم الإسلام" نقله عن الشيخ محمد المدنى، والدكتور محمد سليم العوا فى العدد الافتتاحى من مجلة "المسلم المعاصر"، والدكتور يوسف القرضاوى فى كتابه السنة مصدراً للمعرفة والحضارة 41، وغيرهم. انظر: العصريون معتزلة اليوم للأستاذ يوسف كمال ص53-72. (3) انظر: السنة والتشريع ص 25، 26، وعلم أصول الفقه ص 24 وما بعدها كلاهما لفضيلة الدكتور عبد المنعم النمر - رحمه الله - وما ذهب إليه لا يفيده فى دعواه، لأن الاجتهاد إذا أقر كان بمنزلة الوحى لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ، كما هو مقرر فى علم الأصول، ولهذا يسميه علماء الحنفية (الوحى الباطن) 0 هكذا قال فضيلة الأستاذ الدكتور القرضاوى رداً على الدكتور= =النمر فى كتابه السنة مصدراً للمعرفة والحضارة ص 17 هامش. ولا أدرى لماذا بعد ذلك يؤيد أنصار مدرسة تقسيم السنة إلى تشريع، وغير تشريع؟! أليس كل ما يقال فيه أنه سنة غير تشريعية ينطبق عليه ما قاله هنا من إقرار رب العزة لاجتهاد نبيه صلى الله عليه وسلم فيصير وحياً، حتى ولو كانت درجته الإباحة، كما سيأتى تفصيله بعد قليل؟!

.. حتى انتهى به هذا الاتجاه إلى أن حرم برأيه ما أحلته السنة النبوية! وما أجمع المسلمون - من جميع المذاهب والمدارس الفقهية - على حله، وذلك هو (بيع السلم) الذى رخص فيه النبى صلى الله عليه وسلم لحاجة الناس إليه، بعد أن وضع له الضوابط اللازمة لمنع الغرر والنزاع. ويسميه بعضهم (السلف) أيضاً، وبه جاء الحديث، ومضى عليه عمل الأمة أربعة عشر قرناً. ففى الصحيحين عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يسلفون فى الثمار السنة والسنتين، فقال: "من أسلف فى تمر، فليسلف فى كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" (1) . بل قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجله، قد أحله الله فى كتابه، وأذن فيه. ثم قرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) وكلمة "أشهد" بمثابة "القسم": فهذا رأى ترجمان القرآن.

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب السلم، باب السلم فى وزن معلوم 4/501 رقم 2240، ومسلم (بشرح النووى) كتاب المساقاة، باب السلم 6/46 رقم 1604 واللفظ له، وانظر: نيل الأوطار 5/226. (2) الآية 282 من سورة البقرة.

.. ولكن فضيلة الشيخ عبد المنعم النمر قال عن السلم: "وهو بيع معدوم موصوف فى الذمة، ويسير عليه كثير من الناس فى الأرياف، مستغلين حاجات الزراع استغلالاً سيئاً، مما يجعلنا نميل إلى تحريمه. من أجل هذا الاستغلال الكريه المحرم فى الإسلام (1) ، يقول الدكتور القرضاوى: "وكان أولى بالشيخ هنا أن يقتصر على تحريم الظلم والاستغلال، ولا يتعدى ذلك إلى تحريم التعامل الثابت بالسنة والإجماع" (2) . ... وإذا كان عمدة الأدلة عند من يذهبون إلى أن السنة المطهرة ليست كلها وحى، أو يذهبون إلى تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، إذا كان عمدة أدلتهم جميعاً، اجتهاده صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر ديناكم" فلنحرر القول فى اجتهاده صلى الله عليه وسلم، وبيان المراد من قوله "أنتم أعلم بأمر ديناكم" فإلى تفصيل ذلك.

_ (1) السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد المنعم النمر ص 42، 43، وانظر: له أيضاً علم أصول الفقه ص 28. (2) السنة مصدراً للمعرفة والحضارة للدكتور القرضاوى، وانظر: السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين ص 28.

اجتهاد النبى - صلى الله عليه وسلم - فى الشريعة الإسلامية كله وحى

اجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم فى الشريعة الإسلامية كله وحى من عند الله عز وجل ... يقول فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين: "اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم" موضوع قديم، قتله العلماء بحثاً، ولم يترك الأوائل للأواخر بشأنه شيئاً. ... وخلاصته أنهم اختلفوا: فمنهم من لم يجز له صلى الله عليه وسلم الاجتهاد، واعتبر ما ورد من ذلك صورة اجتهاد، وليس اجتهاداً فى الواقع والحقيقة، لأن الله معه صلى الله عليه وسلم وهو مع الله، ولأنه فى جل أوقاته صلى الله عليه وسلم يناجى من لا نناجى، وإلهامه وحى ورؤيا منامه وحى. ورب العزة يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (1) . ويفسرون ما ظاهره الخطأ فى الرأى والرجوع إلى قول الغير بأن ذلك اجتهاد فى الظاهر لتدريب الأمة على البحث والتفكير والاجتهاد فى الأسباب والأخذ بالمشورة، وحقيقته: أن الله يوحى إليه أن قل كذا، وسيقول لك فلان كذا، فقل له كذا، ويشهد لهذا ما روى عن على بن أبى طالب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن جبريل هبط، فقال له خَيِّرْهُمْ يعنى أصحابكَ فى أُسارَى بَدْرٍ القتل أو الفداء، على أن يُقْتَلَ منهم قَاتِلٌ مِثْلُهم، قالوا الفداءَ، ويقتل منَّا (2) .

_ (1) الآيتان 3، 4 من سورة النجم. (2) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب السير، باب ما جاء فى قتل الأسارى والفداء 4/114، 115 رقم1567 قال الترمذى: هذا حديث حسن غريب من حديث الثورى. وفى الباب عن ابن مسعود وأنس، وأبى برزة، وجبير بن مطعم، انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/326.

.. وجمهور المحققين من العلماء على أن النبى صلى الله عليه وسلم؛ يجوز له أن يجتهد، وأنه اجتهد فعلاً (1) وأن اجتهاده فى بعض الأحيان القليلة كان خلاف حكم الله، فجاء الوحى بتصحيح الحكم، والإرشاد إلى ما ينبغى (2) ، كما فى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (3) . وفى مغازى الأموى أن حُبَابُ بْنُ المُنْذِرِ (4) رضي الله عنه لما أشار على النبى صلى الله عليه وسلم بتغير مكان نزوله يوم بدر ورجع النبى صلى الله عليه وسلم إلى رأيه، نزل ملك من السماء، وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذلك الملك: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك إن الرأى ما أشار به الحُبَابُ بْنُ المُنذِرِ (5) .

_ (1) قال الآمدى فى الإحكام 4/143 وهو المختار. (2) انظر: الإحكام للآمدى 4/143 - 187، والإحكام لابن حزم 5/125 - 133، والمستصفى للغزالى 2/350 - 354، والإبهاج فى شرح المنهاج 2/246، وأصول السرخسى 1/5،= =والمعتمد 2/210، والمحصول للرازى 2/489، والبحر المحيط للزركشى 6/214 – 219، وانظر: حجية السنة للعلامة الدكتور عبد الغنى ص145–240، والنفحات الشذية فيما يتعلق بالعصمة والسنة للشيخ محمد الحامدى ص103،وأصول الفقه للشيخ محمد الخضرى ص426 (3) الآيتان 1،2 من سورة النجم. (4) حُبَابُ بْنُ المُنْذِرِ صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 1/302 رقم 1557، والاستيعاب 1/458 رقم 483، واسد الغابة 1/665 رقم 1023، وتاريخ الصحابة ص 78 رقم 301، ومشاهير علماء الأمصار ص 32 رقم 112. (5) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/292.

أو جاء الوحى بإمضاء حكم اجتهاده مع التنبيه بما ينبغى، كما فى قوله تعالى عن أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) . ... نعم نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن له بالاجتهاد واجتهد. ونعم نقول: إن بعض اجتهاداته لم تصادف الصواب، لكن أين حكم الله تعالى فى الأمر الذى اجتهد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصب؟ ... إن ما يصدر عن النبى صلى الله عليه وسلم من اجتهاد إما أن يوافق حكم الله أو لا، فإن وافق حكم الله فهو حكم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن لم يوافق حكم الله عدَّله إلى حكمه جل شأنه، وإذن تصبح الأحكام الدينية التى حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكام الله فى النهاية، وقبل لقائه الرفيق الأعلى (2) . وتصير تلك الأحكام حجة إجماعاً بلا شك (3) .

_ (1) الآية 67 من سورة الأنفال. (2) السنة والتشريع للدكتور موسى لاشين ص 18-20 بتصرف وانظر: تاريخ المذاهب الإسلامية للعلامة محمد أبو زهرة ص 239 - 240 وانظر مناهل العرفان فى علوم القرآن للشيخ الزرقانى 2/418-425. ويقول الإمام الشاطبى: "فاعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة، معضود بالمعجزة الدالة على صدق ما قال وصحه ما بين، وأنت ترى الاجتهاد الصادر منه معصوماً بلا خلاف، إما بأنه لا يخطئ ألبته، وإما بأنه لا يقر على خطأ إن فرض، فما ظنك بغير ذلك؟ انظر: الموافقات 2/458 وراجع من نفس المصدر ص404. (3) انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 283، وانظر: مصادر الشرعية الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية للمستشار الدكتور على حريشة ص 38-39، والفقه الإسلامى مرونته وتطوره لفضيلة الإمام الأكبر جاد الحق على جاد الحق ص 26-31.

أما ما ذهب إليه بعض علمائنا الأجلاء من تقسيم السنة النبوية إلى قسمين: سنة تشريعية ملزمة عامة ودائمة، وسنة غير تشريعية ولا ملزمة. فيقول رداً على ذلك فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين: "غفر الله للقائلين بأن السنة تشريع وغير تشريع، وللقائلين بالمصلحة. غفر الله لهم وسامحهم، لقد فتح هؤلاء وهؤلاء باباً لم يخطر لهم على بال. ... القائلون بأن السنة تشريع وغير تشريع قصدوا بغير التشريع ما ورد منها خاصاً بالصناعات، والخبرات كالزراعة والطب، ولم يخطر ببالهم أن من سيأتى بعدهم سيستدل بتقسيمهم ليدخل المعاملات، وأحاديث البيع، والشراء، والإجارة، ويدخل ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم من أحاديث فى العادات، وشئون الاقتصاد، والسياسة، والإدارة، والحرب، وغير ذلك فى السنة غير التشريعية، وهم من هذا القول برءاء. أما ما جعلوه مما سبيله الحاجة البشرية، كالأكل والشرب والنوم … إلخ من السنة غير التشريعية، فهذا الكلام على عمومه مرفوض، وفى حاجة إلى تحقيق. فالأكل والشرب مثلاً - كلام عام يشمل المأكول والمشروب، ويشمل الأوانى والهيئة أو الكيفية. فهل بيان المأكول والمشروب المحرم، والمكروه، والمباح، من السنة غير التشريعية (1) ؟

_ (1) السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين ص 22.

هل حديث: "أحلت لكم ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال" (1) وحديث: "أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) . سنة غير تشريعية؟! اللهم لا. أحل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيبات، وحرم علينا الخبائث؛ فالمأكول، والمشروب سنة تشريعية من حيث الحل والحرمة، أما أنه أكل نوعاً من الحلال وترك غيره يأكل نوعاً آخر، فالتشريع فيها الإباحة، إباحة ما أُكِلَ وما لم يأكل مما لم ينه عنه. ... وأما الأوانى: فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الأكل والشرب فى صحائف الذهب والفضة، ونهى عن الأكل فى أوانى الكفار إلا بعد غسلها. وهذا تشريع قطعاً.

_ (1) أخرجه ابن ماجة فى سننه كتاب الأطعمة، باب الكبد والطحال2/295 رقم3314، والدارقطنى فى سننه كتاب الأشربة وغيرها، باب الصيد والذبائح والأطعمة وغير ذلك4/271،272 رقم25 من حديث ابن عمر - رضى الله عنهما - وفيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال ابن الجوزى: أجمعوا على ضعفه، وقال البوصيرى: لكن لم ينفرد به عبد الرحمن بن زيد عن أبيه فقد تابعه عليه سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر. قال البيهقى: إسناد الموقوف صحيح، وهو فى معنى المسند أ. هـ. انظر: مصباح الزجاجة 3/85، قال الشوكانى فى نيل الأوطار 8/147، 148 وكذا صحح الموقوف أبو زرعة، وأبو حاتم، وهو فى حكم المرفوع فيحصل الاستدلال بهذه الرواية، أ. هـ. بتصرف، وانظر: فتح البارى 9/580 - 585 رقمى 5536/5537 وتعليق المغنى على الدارقطنى 4/271، 272. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الطب 7/109 رقم 1944، وانظر: نيل الأوطار 8/118 وما بعدها.

.. أما أنه صلى الله عليه وسلم أكل فى قصعة من الفخار، ونحن نأكل فى الأوانى الفاخرة غير الذهبية والفضية، فهذا من المباحات والإباحة تشريع (1) . ... ... وأما الهيئة: فهناك هيئات مأمور بها وهيئات منهى عنها، وهيئات أخرى كثيرة مباحة، والكل تشريع. "يا غلام سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك" (2) هيئة أكل مشروعة (3) ، و"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنفس فى الإناء" (4) هيئة ممنوعة شرعاً فى نفس الإناء، ومستحبة خارج الإناء (5) ، أما أنه صلى الله عليه وسلم أكل بأصابعه ويده. ونحن نأكل بالملاعق، والشوك، والسكاكين، فهو من المباحات المشروعة. فماذا فى الأكل والشرب من السنة غير التشريعية؟!! ... إن قصدوا بالسنة غير التشريعية فى ذلك السنة غير الملزمة، وهى المباحات كان الخلاف بيننا لفظياً. ... وإن قصدوا ما هو مطلوب على وجه الوجوب أو الندب، وما هو منهى عنه على وجه الحرمة أو الكراهة فهو غير مسلم.

_ (1) السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين ص 23، وسيأتى مزيد من بيان شرعية (المباح) بعد قليل. (2) البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين 9/431 رقم 5376، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما 7/209 رقم 2022. من حديث عمر بن أبى سلمة رضي الله عنه. (3) انظر: مجلة الأزهر عدد ربيع الآخر1418هـ ص630مقال (التيامن فطرة إلهية وأفضلية تاريخية". (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأشربة، باب النهى عن التنفس فى الإناء 10/95 رقم 5630، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الأشربة، باب كراهية التنفس فى نفس الإناء واستحباب التنفس ثلاثاً خارج الإناء 7/217 رقم 267 من حديث أبى قتادة رضي الله عنه. (5) انظر: فتح البارى، وشرح النووى فى الأماكن السابقة.

ومثال ذلك يقال فى النوم واللبس، وكل ما هو خاص بالحاجة والطبيعة البشرية كما يقولون، حتى قضاء الشهوة مع الزوجة له قواعده وأصوله وحدوده المشروعة (1) . ... والتحقيق أنه من الخطأ أن نطلق هذا الإطلاق "السنة غير التشريعية على ما سموه الحاجة البشرية من أكل وشرب، وما سبيله التجارب، والعادة الشخصية أو الاجتماعية من زراعة وطب، ولباس إلى آخره، وكذا ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم بوصفه إماماً ورئيساً للدولة المسلمة، أو بوصفه قاضياً فكل هذه الأمور التى أطلقوا عليها، سنة غير تشريعية، منها الواجب شرعاً، ومنها المحرم شرعاً، ومنها المكروه، ومنها المندوب، ومنها المباح، وحتى إذا أردنا كيفية هذه الأمور نجد منها الممنوع شرعاً، كما سبقت الإشارة إليه قريباً (2) . ... أما القائلون بالمصلحة كمصدر من مصادر التشريع فقد اشترطوا لها ألاَّ تصادم نصاً من الكتاب أو السنة الصحيحة، فهم أخذوا بمراعاة المصالح فيما لم يرد فيه قرآن أو حديث صحيح، أما ما ورد فيه قرآن أو حديث صحيح فالمصلحة فيما جاء به النص" (3) .

_ (1) السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين ص 22-24 بتصرف، وانظر: للأستاذ محمد أسد فى كتابه "الإسلام على مفترق الطرق" تحليل قيم لما جاءت به السنة من آداب وتقاليد تتعلق بشئون الحياة وعادات الناس، وأثرها فى تميز الشخصية المسلمة، ينبغى أن يقرأ ويدرس، ويستفاد منه. الإسلام على مفترق الطرق ترجمة الدكتور عمر فروخ، والدكتور مصطفى الخالدى، الفصلين الأخيرين ص 87 - 110. (2) انظر: المزيد من التفصيل فىالسنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور موسىشاهين ص33 وما بعدها. (3) السنة والتشريع لفضيلة الدكتور موسى شاهين ص 24.

.. واعتقد كما قال الدكتور فتحى عبد الكريم: "أن القائلين بالسنة التشريعية، والسنة غير التشريعية قد فاتهم المعنى الدقيق للتشريع الإسلامى، حيث قصر بعضهم وصف التشريع على الواجب، والحرام، ونفاه عن المندوب، والمكروه، والمباح، وأدخل بعضهم المندوب والمكروه فى التشريع، ونفاه عن المباح وحده (1) . ... وفى ذلك يقول العلامة الدكتور عبد الغنى عبد الخالق - رحمه الله - "هذا وإخراج الأمور الطبيعية من السنة أمر عجيب، وأعجب منه: أن يدعى بعضهم ظهوره، مع إجماع الأئمة المعتبرين على السكوت عنها، وعدم إخراجها.

_ (1) السنة تشريع لازم ودائم ص 44، وانظر: دراسات فى السنة وعلوم الحديث للدكتور محمد المنسى ص 228-232.

.. ولست أدرى: لم أخرجها هؤلاء؟!! أأخرجوها: لأنها لا يتعلق بها حكم شرعى؟ وكيف يصح هذا مع أنها من الأفعال الاختيارية المكتسبة، وكل فعل اختيارى من المكلف لابد أن يتعلق به حكم شرعى: من وجوب أو ندب أو إباحة أو كراهة أو حرمة – وفعل النبى الطبيعى مثل الفعل الطبيعى من غيره، فلابد أن يكون قد تعلق به واحد من هذه الأحكام؟ وليس هذا الحكم الكراهة، ولا الحرمة، لعصمته وليس الوجوب، ولا الندب: لعدم القربة فيه. فلم يبق إلا الإباحة وهى حكم شرعى. فقد دل الفعل الطبيعى منه صلى الله عليه وسلم على حكم شرعى، وهو الإباحة فى حقه، بل وفى حقنا أيضاً: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) . ولقد أجمع الأصوليون فى باب أفعاله صلى الله عليه وسلم على أن أفعاله الطبيعية تدل على الإباحة فى حقه صلى الله عليه وسلم وفى حق أمته، وكل يحكى الاتفاق على ذلك، عن الأئمة السابقين (2) .

_ (1) الآية 21 من سورة الأحزاب. (2) انظر: المحصول للرازى 1/501، والإحكام للآمدى 1/159، والموافقات 4/437، والإبهاج فى شرح المنهاج 2/264، والمعتمد فى أصول الفقه 1/334، والبرهان للجوينى 1/181،= =والبحر المحيط 4/176، وفواتح الرحموت 2/180، وإرشاد الفحول 1/165، ودراسات أصولية فى السنة النبوية للدكتور محمد الحفناوى ص 65، وانظر: حجية السنة للعلامة الدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 79.

.. أم أخرجوها: لأنهم ظنوا أن الإباحة ليست حكماً شرعياً؟ وهذا لا يصح أيضاً: فإن الأصوليين مجمعون على شرعيتها – اللهم إلا فريقاً من المعتزلة ذهب إلى عدم شرعيتها: فَهْماً منه: أن الإباحة انتفاء الحرج عن الفعل والترك (1) . وذلك ثابت قبل ورود الشرع، وهو مستمر بعده: فلا يكون حكماً شرعياً، والجمهور ينكرون: أن هذا المعنى ثابت قبل ورود الشرع، وأنه لا يسمى حكماً شرعياً ولكنهم يقولون: ليس هذا هو معنى الإباحة الشرعية، إنما هى خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك من غير بدل. ولا شك أن هذا حكم شرعى، وأنه غير ثابت قبل ورود الشرع. ولو التفت هذا الفريق إلى هذا المعنى لم ينازع فيه. فليس هناك خلاف حقيقى بينهما، فالإباحة حكم شرعى يحتاج إلى دليل، والفعل الطبيعى منه صلى الله عليه وسلم يدل عليه. ونظرة واحدة فى باب أفعاله صلى الله عليه وسلم فى أى كتاب من كتب أصول الفقه – ترشدك إلى الحق فى هذا الموضوع (2) .

_ (1) انظر: التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/144. (2) انظر: الإحكام للآمدى 1/114، والمحصول للرازى 1/20، والبرهان للجوينى 1/106-108، وأصول السرخسى 1/14، وفواتح الرحموت 1/112، والموافقات 1/95 3/193، 293، والمستصفى 1/75، والإبهاج فى شرح المنهاج 1/60، والبحر المحيط 1/241، 275، وإرشاد الفحول 1/186، وأصول الفقه للشيخ محمد الخضرى ص 60، وانظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 80، وآراء المعتزلة الأصولية دراسة وتقويماً ص152، 251، ومصادر الشريعة الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية للمستشار الدكتور على جريشة ص 35 –38.

وأعلم أن التأسى به صلى الله عليه وسلم واجب، وعلى ذلك جمهور الفقهاء والمعتزلة يقول فخرالدين الرازى فى المحصول: "قال جماهير الفقهاء والمعتزلة: التأسى به واجب، ومعناه: أنا إذا علمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل فعلاً على وجه الوجوب: فقد تعبدنا أن نفعله على وجه الوجوب وإن علمنا أنه تنفل به: كنا متعبدين بالتنفل به، وإن علمنا أنه فعله على وجه الإباحة كنا متعبدين باعتقاد إباحته، وجاز لنا أن نفعله. ... وقال أبو على بن خلاد من المعتزلة: نحن متعبدون بالتأسى به فى العبادات، دون غيرها: كالمناكحات، والمعاملات.ومن الناس من أنكر ذلك فى الكل، واحتج أبو الحسين محمد ابن على الطيب المعتزلى: بالقرآن والإجماع: أما القرآن فقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) ولم يفرق الله تعالى بين أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا كانت مباحة أو لم تكن مباحة. وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) .أمر بالاتباع: فيجب.

_ (1) الآية 21 من سورة الأحزاب. (2) جزء من الآية 158 من سورة الأعراف.

.. أما الإجماع فهو: "أن السلف رجعوا إلى أزواجه فى قبلة الصائم" (1) ، وفى أن "من أصبح جنباً لم يفسد صومه" (2) وذلك يدل على أن أفعاله لابد من أن يمتثل فيها طريقه (3) ، ونقل الإمام الزركشى عن الكعبى البلخى رأس طائفة المعتزلة الكعبية قوله: "المباح مأمور به، لأن فعله ترك الحرام وهو واجب، فالمباح واجب" (4) . ويقول الإمام الشاطبى فى رده على من قال: "ترك المباح طاعة على كل حال. قال الشاطبى: "بل فعل (المباح) طاعة بإطلاق لأن كل مباح ترك حرام. ألا ترى أنه تركَ المحرمات كلّها عند فعل المباح، فقد شغلَ النفسَ به عن جميعها. وهذا الثانى أولى؛ لأن الكلية هنا تصح، ولا يصح أن يقال كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهى عنه بإطلاق، فظهر أن ما اعُترض به لا ينهض دليلاً على أن ترك المباح طاعة (5) ، ويشهد لهذا قول الإمام السرخسى فى أصوله: "ترك العمل بالحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام كما أن العمل بخلافه حرام" (6) .

_ (1) انظر: حديث عمر بن أبى سلمة رضي الله عنه، فى صحيح مسلم (بشرح النووى) كتاب الصيام، باب بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته 4/233 رقم 1108، وانظر: نيل الأوطار 4/210 وما بعدها. (2) انظر: حديث عائشة-رضى الله عنها-فى صحيح مسلم (بشرح النووى) كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 4/237 رقم 1110، وانظر: نيل الأوطار 4/212. (3) المحصول فى أصول الفقه 1/511،512، وقارن بالمعتمد فى أصول الفقه 1/353 - 355، والتقرير والتحبير 2/303، ونهاية السول فى شرح منهاج الوصول 2/55 وما بعدها. (4) البحر المحيط فى أصول الفقه 1/241، 4/186، والتقرير والتحبير 2/307. (5) الموافقات 1/100 (6) أصول السرخسى 2/7.

نقض دليل تقسيم السنة النبوية إلى سنة تشريعية وغير تشريعية

نقض دليل تقسيم السنة النبوية إلى سنة تشريعية وغير تشريعية ... تحت هذا العنوان قال الدكتور فتحى عبد الكريم: "الدليل الأساسى الذى يستند إليه القائلون بتقسيم السنة إلى سنة تشريعية وغير تشريعية هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوارد فى قصة تأبير النخل بمختلف رواياته، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" ففى رأى أنصار تقسيم السنة إلى سنة تشريعية وغير تشريعية أنه "لو لم يكن غير هذا الحديث الشريف فى تبيين أن سنته صلى الله عليه وسلم ليست كلها شرعاً لازماً، وقانوناً دائماً لكفى. ففى نص عبارة الحديث - بمختلف رواياته - تبيين أن ما يلزم إتباعه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو ما كان مستنداً إلى الوحى فحسب" (1) . ولقد كان يكفى ما سبق ذكره رداً على نقض هذا الدليل، لأن معنى كون السنة النبوية دليلاً شرعياً عند الأصوليين أنها تفيدنا حكماً من الأحكام الشرعية، أىَّ حكم كان: من وجوب، أو ندب، أو حرمة، أو كراهة، أو إباحة. كان يمكن أن نرد بذلك وينتهى الموضوع، لولا أن وجه الخطورة فى الأمر (2) : أن فئة ضالَّة أكثرت من الاستشهاد بهذا الحديث، وأرادت به عزل السنة، عن شئون الحياة العملية كلها! ... فالعادات، والمعاملات، وشئون الاقتصاد، والسياسة، والإدارة، والحرب ونحوها، يجب أن تترك للناس ولا تدخل السنة فيها آمرة ولا ناهية ولا موجهة ولا هادية (3) . فهل يسندهم ذلك الحديث فى تلك الدعوى الخطيرة؟!.

_ (1) مجلة المسلم المعاصر العدد الافتتاحى ص33 مقال الدكتور محمد العوا"السنة التشريعية وغير التشريعية" (2) السنة تشريع لازم ودائم ص 32، 33 بتصرف. (3) انظر: السنة مصدراً للمعرفة والحضارة للدكتور القرضاوى ص 20.

.. يقول فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين: فى ردِّه على الدكتور عبد المنعم النمر – رحمه الله تعالى – هذا الحديث (أنتم أعلم بأمر دنياكم) هو عمدة أدلة الباحث فى بحثه: وهذه الجملة (أنتم أعلم بأمر دنياكم) تنقسم إلى ثلاثة مقاطع: "أنتم" والمراد من المخاطبين. و "أعلم" والمراد من المفضل عليه و "شئون دنياكم" وتحديد المراد منها. وبعبارة أخرى: من؟ أعلم من من؟ وبأى شئ هو أعلم؟ هناك احتمالات فى المراد بهذه الجملة لنتصورها ثم نختار منها ما يصلح لأن يكون مراد المشرع الحكيم: الاحتمال الأول: أنتم أيها الذين تلقحون النخل أعلم بما يصلح النخل منى وممن لا علم له بالزراعة، أى أنتم أعلم بشئون دنياكم هذه التى تباشرونها، والتى لم تنجح فيها مشورتى، أعلم منى ومن مثلى، فالحديث على هذا واقعة عين أو واقعة حال، لا يستدل بها على غيرها أصلاً. ... الاحتمال الثانى: أنتم أيها الذين تلقحون النخل ومن على شاكلتكم من أهل الصناعات والمهارات والخبرات أعلم بصنائعكم منى. وممن ليس من أهل الصناعات، والكلام على التوزيع، على معنى: أن كل أهل صنعة أعلم بها ممن ليسوا من أهلها، كما يقال: أهل مكة أدرى بشعابها. ... الاحتمال الثالث: أنتم أيها الذين تلقحون النخل بالمدينة أعلم بما يصلح النخل منى ومن غيركم من زارعى النخل فى البلاد والأزمان المختلفة، وهذا الاحتمال واضح البطلان، ففى بعض البلاد، وفى بعض الأزمان، من هم أعلم منهم بذلك. ... الاحتمال الرابع: أنتم أيها الذين تلقحون النخل بالمدينة أعلم بالخبرات والصناعات المختلفة منى ومن غيرى، حتى من أهل الصناعات أنفسهم، على معنى أنتم أعلم بالطب مثلاً منى ومن الأطباء. وهذا الاحتمال واضح البطلان.

.. هذه الاحتمالات الأربعة مبنية على أن المراد من شئون الدنيا الصناعات والمهارات والخبرات، فإذا أردنا من شئون الدنيا مصالح كل فرد أو مصالح كل مجموعة من مباحات الدنيا؛ كالمقارنة بين شراء بيت أو شراء سيارة كان الاحتمال الآتى: ... الاحتمال الخامس: أنتم الذين تلقحون النخل بالمدينة، ومثلكم جميع الناس، أعلم بشئون دنياكم، وما يصلح لكم من غيركم، والكلام على قاعدة: مقابلة الجمع بالجمع، تقتضى القسمة آحاداً، تقول: أعطيت الطلاب كتباً على معنى أعطيت كل طالب كتاباً، فيصبح المعنى كل واحد أعلم من غيره بشئون ومصالح نفسه، وهذا الاحتمال إن صح فى المباحات، لا يصح فى الواجبات والمحرمات، فالشرع وحده هو الذى حددها على أنها المصلحة (1) ، بناء على سبق علم الله الذى خلق. ثم إن هذا الاحتمال لا يتناسب مع قصة الحديث، ومما هو واضح أن الاحتمال الثانى هو المراد، ثم يليه الأول، وعلى كل حال لا يصح الاستدلال بالحديث على إباحة التغيير فى المعاملات؛ لأن الحديث - كما رأينا - تطرق إليه أكثر من احتمال، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. احتمال دخول المعاملات مستبعد:

_ (1) راجع: ما سبق ذكره من كلام الإمام الشاطبى وغيره فى الجواب عن شبهه عرض السنة ص244

.. مع أن احتمال دخول المعاملات فى الحديث كأحد الاحتمالات مستبعد أصالة وابتداء (1) ؛ لأن المعاملات كما يفهم من معناها علاقة الأفراد والجماعات بعضهم ببعض فيما يتعلق بمعاشهم، وهذه العلاقة تحكمها دائماً قواعد وأصول وضوابط، لئلا يحيف بعض الأطراف على بعض، والأمم غير الإسلامية وضعت لذلك قوانين، والإسلام وضع لها أرقى أنواع التشريع وليس من المعقول أن الله عز وجل الذى أنزل أطول آياته فى القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا

_ (1) يقول فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين: "إدخال المعاملات الممنوعة شرعاً تحت هذا الحديث، هو الذى لم نسمع به من قبل، ولم يسبق به الدكتور عبد المنعم النمر على مدى علمى، وأرجو ألا يتبعه فى ذلك أحد أ. هـ. انظر: السنة والتشريع ص 34.

إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) وحدد فيها كتابة الدين، ومواصفات الكاتب وواجباته، وحق المدين فى الإملاء، وإملاء وليه فى حالة عدم صلاحيته، وصفات الشهود، وشروطهم، وواجباتهم، وقال تعالى: "ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ". ليس من المعقول أن الله الذى اهتم بالدَّين هذا الاهتمام يترك البيع والشراء وتفصيل الربا، والرهن، والشركة وغيرها من المعاملات دون تشريع. ... هل يعقل أن يترك البشرية هَمَلاً يأكل بعضهم مال بعض ظلماً وعدواناً تحت عنوان "أنتم أعلم بشئون دنياكم"؟ ... هل يعقل مسلم أن يترك الله تعالى هذه القوانين لمحمد صلى الله عليه وسلم دون رقابة أو تصحيح؟ فيخطئ، فتعمل الأمة مجتمعة بالخطأ أربعة عشر قرناً حتى يبعث الله لها من يرعى مصالحها، ويخالف حكم محمد صلى الله عليه وسلم؟ أظن أن العقل المسلم يستبعد ذلك كل الاستبعاد. ... يقول فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين: "بقى فى نفسى تساؤل بخصوص حديث تأبير النخل ربما يثور فى نفوس البعض، هو: لماذا ألهم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشير عليهم بهذه الإشارة مع أنها لم تكن فى مصلحتهم؟ ولماذا جعلهم الله يستسلمون لمجرد الإشارة، وهم المعروفون بالمراجعة والنقاش وكثرة السؤال؟ ... ولماذا لم يتدارك الله هذه المشورة بالتصحيح قبل أن تنتج شيصاً للمسلمين يسخر منه اليهود، وأعداء الإسلام حين يصح نخلهم ويسوء نخل المسلمين بسبب مشورة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟؟. ... وسنحاول تلمس حكمة لهذه الحادثة، فإن حصلت بها قناعة واطمئنان فالحمد لله، وإلاَّ فنحن مؤمنون أرسخ الإيمان بأن لله عز وجل فى ذلك حكمة، وهو الحكيم الخبير. ولعل الحكمة فى ذلك تدور حول ثلاث أمور:

_ (1) الآية 282 من سورة البقرة.

أولاً: صرف بلاء الأعداء عن المؤمنين الذين لم تقوا شوكتهم بعد. ألم يكن من الجائز أن يطمع الكافرون فى المدينة وتمرها، فيهاجموها من أجل نزول محمد صلى الله عليه وسلم فيها؟ فخروج التمر شيصاً جعلها غير مطمع، وصرف الله بذلك هجوم الكافرين حتى يستعد المؤمنون؟ احتمال. ثانياً: تعليمهم الأخذ بأسباب الحياة بهذا الدرس العملى الذى كان قاسياً عليهم فتنافسوا بعده فى أسباب الحياة. ثالثاً: اختبارهم فى صدق إيمانهم، فهذه الحادثة حتى اليوم فى هذا البحث ابتلاء واختبار، وقد نجح الصحابة رضوان الله عليهم فى هذا الاختبار القاسى - وهم فى أول الإيمان، نجاحاً باهراً، فقد استمروا فى طاعة أوامره صلى الله عليه وسلم، ولم يرد إلينا ردة أحد بسببها، بل لم يرد عتاب أحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليها رغم خسارتها، مما يشهد لهم بالإيمان الصادق المتين (1) . ولعل تلك الحكمة الأخيرة هى أوجه الحكم فى هذه الحادثة. والله أعلم بحكمته. ... وبعد: إذا كانت عصمة النبى صلى الله عليه وسلم دليل على حجية الكتاب، والسنة معاً، فلننتقل إلى الدليل الثانى من أدلة حجية السنة، وهو القرآن الكريم.

_ (1) السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين ص 32 - 47 بتصرف، وانظر: مزيد من بيان المراد بهذا الحديث فى الأنوار الكاشفة لعبد الرحمن اليمانى ص 27-40، والسنة تشريع لازم ودائم ص 33 وما بعدها، والسنة مصدراً للمعرفة والحضارة ص 14-17.

المطلب الثانى: من أدلة حجية السنة المطهرة القرآن الكريم

المطلب الثانى: من أدلة حجية السنة المطهرة القرآن الكريم يقول فضيلة الأستاذ الدكتور مروان شاهين: لقد اشتدت عناية القرآن الكريم بتلك المسألة فوَّجه إليها آيات كثيرة تنوعت بين آيات تأمر فى وضوح بوجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم، وبين آيات أخرى تأمر بوجوب طاعته، طاعة مطلقة، فيما يأمر به، وينهى عنه، وبين آيات أخرى تنهى عن مخالفته وتحذِّر من ذلك وتبين جزاء المنافقين المرجفين فى دين الله عز وجل العاملين على هدم كيان السنة النبوية، والذين حصروا معنى الآيات الواردة فى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فى طاعته فى القرآن الكريم فقط (1) . ... ونحن لن نستطيع ذكر هذه الآيات كلها - وإلا طال المقام بنا جداً، ولكننا سننبه إلى بعض هذه الآيات فقط، ودلالتها على حجية السنة النبوية الشريفة ووجوب التمسك بها (2) .

_ (1) انظر: مجلة المنار المجلد 9/517، 908، 924 مقال الدكتور توفيق صدقى "الإسلام هو القرآن وحده" والقرآن والحديث والإسلام ص 7، 31، وقرآن أم حديث ص 2-5 كلاهما لرشاد خليفة وإنذار من السماء لنيازى عز الدين ص573، 580، 853، والبيان بالقرآن لمصطفى المهدوى 1/10 وما بعدها، ولماذا القرآن ص43، 49، والصلاة فى القرآن ص42، 62 كلاهما لأحمد صبحى منصور، والصلاة لمحمد نجيب ص271، 278، والسنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص190 وما بعدها، وبلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمين لإسماعيل منصور ص21،24، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص 129، وأهل السنة شعب الله المختار ص 77، والخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة ص 40، 41، 199 ثلاثتهم لصالح الوردانى. (2) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير ص 43 بتصرف.

1- من هذه الآيات قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} (1) . 2- وقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) فمقتضى ذلك أن نؤمن بالله وبرسوله، والإيمان معناه هنا التصديق والإذعان برسالتهصلى الله عليه وسلموبجميع ما جاء به من عند اللهعز وجلمن كتاب وسنة، بمقتضى عصمته التى توجب التصديق بكل ما يخبر به عن رب العزة.كقوله صلى الله عليه وسلم فى حق القرآن:"هذا كلام الله عز وجل، وقوله فى الأحاديث القدسية:"قال رب العزة كذا"أو نحو هذه العبارة وقوله صلى الله عليه وسلم:"ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه"وقد سبق تفصيل ذلك قريباً فى مبحث العصمة (3) فالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم جزء من الإيمان بالله تعالى، والشك والارتياب فى ذلك الإيمان، شك وارتياب فى الإيمان بالله ورسوله معاً، وحينئذ لا يكون هناك إيمان أبداً. يقول الإمام الشافعى فى رسالته: "فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذى ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله، فلو آمن عبد به، ولم يؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم: لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبداً، حتى يؤمن برسوله معه (4) ، ومن هنا وجبت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم - بمقتضى هذا الإيمان - فى كل ما يبلِّغه عن ربه، سواء ورد ذكره فى القرآن أم لا.

_ (1) الآية 136 سورة النساء. (2) الآية 158 من سورة الأعراف. (3) راجع: ص 445. (4) الرسالة ص 75 فقرات رقم 239، 240.

.. يقول الإمام الشافعى: "وما سنَّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكم: فبحكم الله سنَّه، وكذلك أخبرنا الله فى قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) ، وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب. وكل ما سن فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل فى اتباعه طاعته، وفى العدول عن اتباعها معصيته التى لم يعذر بها خلقاً، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجاً" (2) . 3- ومن أهم الآيات دلالة على حجية السنة، ووجوب التمسك بها قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) يقول ابن قيم الجوزية: "أقسم سبحانه بنفسه، وأكده بالنفى قبله على نفى الإيمان عن العباد، حتى يحكِّموا رسوله فى كل ما شجر بينهم، من الدقيق والجليل، ولم يكتف فى إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده، حتى ينتفى عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه، ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلموا تسليما، وينقادوا انقيادا (4) . ... ويقول أيضاً فى مختصر الصواعق المرسلة: "فقد أقسم الله سبحانه بنفسه على نفى الإيمان عن هؤلاء الذين يقدمون العقل على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه، وإن آمنوا بلفظه" (5) . ... ويقول فى موضع آخر: "وفرض تحكيمه، لم يسقط بموته، بل ثابت بعد موته، كما كان ثابتاً فى حياته، وليس تحكيمه مختصاً بالعمليات دون العلميات كما يقوله أهل الزيغ والإلحاد (6) .

_ (1) جزء من الآيتين 52، 53 الشورى. (2) الرسالة ص 88، 89 الفقرات رقم 292، 293، 294. (3) الآية 65 من سورة النساء. (4) أعلام الموقعين 1/51، وانظر: مختصر الصواعق المرسلة 2/520. (5) مختصر الصواعق المرسلة 1/113. (6) المصدر السابق 2/520.

4- ويقول رب العزة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) ودلالة الآية على حجية السنة من عدة وجوه: أولاً: النداء بوصف الإيمان فى مستهل الآية: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا " ومعنى ذلك أن المؤمنين لا يستحقون أن ينادوا بصفة الإيمان إلا إذا نفذوا ما بعد النداء وهو طاعة الله تعالى، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولى الأمر (2) . ثانياً: تكرار الفعل "أَطِيعُوا " مع الله عز وجل، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، وتكرار ذلك فى آيات كثيرة وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا (3) وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) . ... يقول الإمام الشاطبى: "تكراره الفعل "وَأَطِيعُوا" يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما فى الكتاب، ومما ليس فيه مما هو من سنته" (5) .

_ (1) الآية 59 من سورة النساء. (2) تيسير اللطيف الخبير لفضيلة الدكتور شاهين مروان ص 44. (3) الآية 92 من سورة المائدة. (4) الآية 56 من سورة النور. (5) الموافقات 3/38.

.. وقال العلامة الألوسى: "… وأعاد الفعل: "وَأَطِيعُوا" وإن كان طاعة الرسول مقرونة بطاعة الله عز وجل، اعتناءً بشأنه صلى الله عليه وسلم وقطعاً لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس فى القرآن، وإيذاناً بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثم لم يعد فى قوله: "وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ " إيذاناً بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم (1) ، بل طاعتنا لهم مرتبطة بطاعتهم هم لله ورسوله، فإن هم أطاعوا الله ورسوله فلهم علينا حق السمع والطاعة وإلا فلا، لأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق (2) . ... ومما هو جدير بالذكر هنا أن فرض الله عز وجل طاعة رسوله ليست له وحده بل هى حق الأنبياء جميعاً قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (3) . فرب العزة جل جلاله يقرر هنا قاعدة:"أن كل رسول جاء من عنده جل جلاله يجب أن يطاع" ... ولماذا لا يطاع هذا الرسول الذى جاء بالمنهج الحق الذى يصلح الخلل فى تلك البيئة التى أرسل إليها؟ إن عدم الطاعة حينئذ – هو نوع من العناد والجحود والتكبر. كما أن فى عدم الطاعة اتهاماً للرسالة بالقصور، واتهاماً للرسول فى عصمته من الكذب فى كل ما يبلغ به عن ربه عز وجل من كتاب أخبرنا عنه بقوله "هذا كتاب الله"، ومن سنة مطهرة أخبرنا عنها بقوله: "أوتيت القرآن ومثله معه" (4) وقوله: "وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله" (5) .

_ (1) روح المعانى 5/6. (2) أعلام الموقعين 1/48. (3) الآية 64 من سورة النساء. (4) سبق تخريجه ص 445. (5) سبق تخريجه ص 223، وانظر: تيسير اللطيف الخبير للدكتور مروان ص 45، 46.

3- ثالث الوجوه دلالةً على حجية السنة من آية النساء قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ؛ فالرد إلى الله عز وجل هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه فى حياته، وإلى سنته بعد وفاته (1) . وعلى هذا المعنى إجماع الناس كما قال ابن قيم الجوزية (2) . ... وتعليق الرد إلى الكتاب والسنة على الإيمان كما فى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} يعنى أن الذين يردون التنازع فى مسائل دينهم وحياتهم، دقها وجلها، جليها وخفيها – إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هم فقط المؤمنون حقاً كما وصفتهم بذلك الآية الكريمة، أما غيرهم فلا ينطبق هذا الوصف عليهم.

_ (1) قاله ميمون بن مهران فيما رواه عنه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/187، وانظر: الرسالة للشافعى ص 80، 81 فقرات رقم 264، 265، 266 (2) أعلام الموقعين 1/49، وانظر: السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص152.

.. ثم يحدثنا الله تعالى بعد هذه الآية مباشرة، عن أناس يزعمون أنهم يؤمنون بالله ورسوله. ومقتضى هذا الإيمان أن يحكموا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فى كل شئون حياتهم - ولكنهم - لا يفعلون ذلك وإنما يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت مع أنهم قد أمروا أن يكفرو به قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (1) . ففى نهاية الأمر حكم الله تعالى على من يعرض عن حكم الله تعالى ورسوله ويتحاكم إلى الطواغيت بأنهم منافقون (2) ، وصدق رب العزة: {وَيَقُولُونَءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (3) .

_ (1) الآية 61 من سورة النساء. (2) تيسير اللطيف الخبير للدكتور مروان ص 45، وانظر: أعلام الموقعين 1/50. (3) الآيات 47-52 من سورة النور، وانظر: تعليق الإمام الشافعى على الآيات فى الرسالة ص 84، 85 فقرات رقم 278 - 281.

.. ويتأكد هذا المعنى جلياً فى قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (1) "فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار يعد قضائه جل جلاله وقضاء ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالاً مبيناً" (2) .

_ (1) الآية 36 من سورة الأحزاب. (2) أعلام الموقعين 1/51.

.. ونختم المطاف مع الآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة فيما يأمر به، وينهى عنه، بقوله تعالى: {وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وهناك آيات كثيرة لم نتعرض لذكرها خشية الإطالة. فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الآيات التى تحذر من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم وتنهى عن مخالفته نجدها كثيرة ونشير أيضاً إلى بعضها قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) وقال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (3) .

_ (1) الآية 7 من سورة الحشر، وقد استدل بهذه الآية على أن ما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم حجة ابن مسعود. انظر: صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب (وما آتاكم الرسول فخذوه) 8/498 رقم 4886، كما استدل بها أيضاً عمران بن حصين، انظر: دلائل النبوة للبيهقى 1/25، 26، وانظر: مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة ص 21، واستشهد بالآية أيضاً الإمام الشافعى على حجية السنة، وحجية قول الصحابى. انظر: مناقب الإمام الشافعى للإمام فخر الدين الرازى ص 304، والفقيه والمتفقه 1/445 رقم 468. (2) الآية 14 من سورة النساء. (3) الآيتان 40، 41 من سورة النساء.

.. وفى سورة التوبة قال تعالى {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} (1) وفى سورة النور قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) . أين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى القرآن، لمن زعموا أن آيات طاعة الرسول فى القرآن مراد بها طاعته فى القرآن فقط؟ 0 وفى سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} (3) . ... وفى سورة محمد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} (4) .

_ (1) الآية 63 من سورة التوبة. (2) الآية 63 من سورة النور. (3) الآيات 64-66 من سورة الأحزاب. (4) الآية 32 من سورة محمد.

المطلب الثالث: من أدلة حجية السنة، السنة النبوية نفسها

.. وفى سورة المجادلة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَاءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) . وفى سورة المجادلة أيضاً قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} (2) إن الآيات السابقة تصرح بأن مخالفة منهج الله ورسوله، يدخل النار، ويورث الذل، والخزى، والفتنة، والكبت، ويحبط العمل. فليختر المسلم لنفسه ما يشاء (3) أ. هـ. المطلب الثالث: من أدلة حجية السنة، السنة النبوية نفسها ... الأحاديث الدالة على حجية السنة كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنى أُوتيتُ القُرآن ومِثْلَهُ مَعَهُ ألا يُوشكُ رجُلُ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وَجَدْتُمْ فيه من حَلاَلٍ فأحلُّوهُ، وما وجدتم فيه من حرام فَحرِّمُوهُ، ألا لا يَحلُّ لكم الحمار الأَهْلِى، ولا كُلُّ ذى ناب من السِّبَاع، ولا لُقَطَةُ مُعَاهِد، إلا أن يستغنى عنها صاحبها". ... وهذا الحديث صحيح ثابت لا مطعن فيه، لا من جهة النقل والرواية، ولا من جهة العقل والدراية (4) . أما النقل والرواية فالحديث صحيح رواه الأئمة أبو داود، والترمذى، وابن ماجة، والدارمى فى سننهم (5) .

_ (1) الآية 5 من سورة المجادلة. (2) الآية 20 من سورة المجادلة. (3) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير للدكتور مروان ص 48 وما بعدها بتصرف. وانظر: مزيد من الأدلة القرانية على حجية السنة كتاب حجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص 291: 308. (4) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شبهة ص 216. (5) سبق التخريج ص 445.

.. وأما العقل والدراية: فإن بناء الفعل للمجهول "أوتيت" يدل على أن الله تعالى أعطى لرسوله صلى الله عليه وسلم القرآن ومثله معه. فما هو المماثل للقرآن الذى تلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه؟ لا يمكن أن يكون هذا المماثل شيئاً غير السنة الشريفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بهذين الأصلين معاً القرآن والسنة – ولم يأتنا بشئ غيرهما – علماً بأن الحديث القدسى مندرج فى السنة الشريفة (1) . وقد دل على هذا الفهم القرآن الكريم، مما سبق ذكره من الآيات الكريمات الدالة على حجية السنة.ودل على ذلك الفهم أيضاً الأحاديث المتكاثرة التى تؤيد هذا المعنى. نقول هذا رداً على المرجفين فى دين الله عز وجل العاملين على هدم كيان السنة المطهرة، الطاعنين فى صحة الحديث، وفى معناه (2) . أما الأحاديث التى تؤيد المعنى السابق، وتؤكد حجية السنة المطهرة، قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً منا شيئاً، فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع (3) . ووجه دلالة الحديث على حجية السنة كما يراها كبار العلماء: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها … فدل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه، إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه؛ لأنه إنما يؤدى عنه حلال يؤتى، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ ويعطى، ونصيحة فى دين ودنيا" (4) .

_ (1) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير ص 57، وانظر: إرشاد الفحول للشوكانى 1/156، 157. (2) انظر: أضواء على السنة لمحمود أبو رية ص52،وتبصير الأمة بحقيقة السنة لإسماعيل منصور ص318 (3) سبق تخريجه ص34. (4) الرسالة للشافعى ص 402، 403 فقرة رقم 1103.

.. وقال الإمام البيهقى: "لولا ثبوت الحجة بالسنة لما قال صلى الله عليه وسلم فى خطبته، بعد تعليم من شهده أمر دينهم: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع" (1) . وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" (2) وهذا يؤكد قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (3) وقال صلى الله عليه وسلم: "كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعنى؛ دخل الجنة، ومن عصانى؛ فقد أبى" (4) . ... وهذا يؤكد ما سبق ذكره من الآيات الدالة على أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة مستقلة. والأحاديث غير ذلك كثيرة (5) ، مرت الإشارة إلى بعضها. كحديث "عليكم بسنتى" (6) وغيره (7) أ. هـ. والله تعالى أعلى وأعلم.

_ (1) سبق تخريجه ص 273، وانظر: دلائل النبوة للبيهقى، مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة ص19 (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه 8/120 رقم 1337. (3) جزء من الآية 63 من سورة النور. (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنة النبى صلى الله عليه وسلم 13/263 رقم 7280 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. (5) مزيد من الأحاديث الدالة على حجية السنة، انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 308-322 (6) سبق تخريجه ص38. (7) راجع: ص 196، 273-274.

المطلب الرابع: من أدلة حجية السنة النبوية الشريفة الإجماع

المطلب الرابع: من أدلة حجية السنة النبوية الشريفة الإجماع ... أجمعت أمة الإسلام من الصحابة - رضى الله عنهم أجمعين -، والتابعين، والأئمة المجتهدين، وسائر علماء المسلمين من بعدهم إلى يومنا الحاضر، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ على حجية السنة النبوية، ووجوب التمسك بها، والعض عليها بالنواجذ، والتحاكم إليها، وضرورة تطبيقها، والسير على هديها فى كل جوانب حياة المسلمين، ولم يمار فى هذه الحقيقة الساطعة إلا نفر ممن لا يعتد بخروجهم على إجماع الأمة من الخوارج، والروافض، ومن أحيا مذاهبهم من دعاة الإلحاد فى عصرنا. قال الإمام الشوكانى – رحمه الله -: "إن ثبوت حجية السنة المطهرة، واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف فى ذلك إلا من لاحظَّ له فى دين الإسلام" (1) . ... فالكتب الإسلامية المعتمدة كلها، تزخر بشتى الأدلة التى تشهد، بأن علماء الأمة الأجلاَّء متفقون اتفاقاً يقينياً منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا، على وجوب الاحتكام إلى السنة المطهرة، إن تعذَّر العثورُ على الدليل فى القرآن الكريم، وعدم تجاوزها أبداً إلى غيرها من الأدلة الأخرى التى أشار إليها القرآن إن وجد الدليل فيها، بل كان الواحد منهم يرجع عن اجتهاده فوراً وبدون أدنى تردد، حينما يجد حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف ما أفتى به (2) . وقد دللنا فيما سبق على ذلك، ولا داعى لإعادة الأدلة وهنا أو سرد أكثر مما ذكرنا فى هذا المقام سابقاً (3) .

_ (1) إرشاد الفحول 1/158. (2) انظر: منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص 118، 119. (3) راجع ص 316، وانظر: مزيد من الأدلة على تمسك السلف من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الأئمة من الأئمة المجتهدين بالسنة. فى كتاب حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 283– 291، 345- 382، وانظر: قواعد التحديث للقاسمى مبحث (ما روى عن السلف فى الرجوع إلى الحديث) ص 302.

.. وعلى ذلك أيضاً تشهد كتب علم الكلام، وعلم الأصول: يقول الدكتور عبد الغنى عبد الخالق - رحمه الله -: "لا نجد فى كتب الغزالى، والآمدى، وفخر الدين الرازى، والجوينى، وأبى الحسين المعتزلى، والسرخسى، وجميع من اتبع طرقهم فى التأليف،: من الأصوليين تصريحاً ولا تلويحاً: بأن فى هذه المسألة خلافاً. وهم الذين استقصوا كتب السابقين ومذاهبهم، وتتبعوا الاختلافات حتى الشاذة منهم، واعتنوا بالرد عليها أشد الاعتناء. بل نجدهم - فى هذه المسألة - لا يهتمون بإقامة دليل عليها، وكأنهم قصدوا بعدم التصريح بإقامة دليل عليها: إكبارها وإجلالها، وإعظام شأنها عن أن ينازع فيها منازع، أو يتوقف فيها متوقف (1) . فصاحب المُسلم وشارحه يقولان: "إن حجية الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، من علم الكلام، لكن تعرض الأصولى لحجية الإجماع، والقياس؛ لأنهما كثر فيهما الشغب من الحمقى؛ من الخوارج، والروافض: خذلهم الله تعالى. وأما حجية الكتاب والسنة: فمتفق عليها عند الأمة: ممن يدعى التدين كافة فلا حاجة إلى الذكر (2) .

_ (1) وإلى ذلك ذهب الكمال بن الهمام، انظر: تيسير التحرير لمحمد أمين 3/22، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/225، وكذا السعد التفتازنى فى التلويح فى كشف حقائق التنقيح 1/38. (2) فواتح الرحموت 1/16، 17 بتصرف.

يقول الدكتور عبد الغنى عبد الخالق وليت شعرى، كيف يتصور: أن يكون نزاع فى هذه المسألة بين المسلمين، وأن يأتى رجل: فى رأسه عقل، ويقول: أنا مسلم، ثم ينازع فى حجية السنة بجملتها؟ مع أن ذلك مما يترتب عليه عدم اعترافه بالدين الإسلامى كله من أولة إلى آخره. فإن أساس هذا الدين هو الكتاب، ولا يمكن القول بأنه كلام الله مع إنكار حجية السنة جملة، فإن كونه كلام الله، لم يثبت إلا بقول الرسول الذى ثبت صدقه بالمعجزة: "إن (هذا كلام الله وكتابه) " وقول الرسول (هذا من السنة) التى يزعم: أنها ليست بحجة. فهل هذا إلا إلحاد وزندقة، وإنكار للضرورى من الدين: يقصد به تقويض الدين من أساسه؟ ... وهل إنكار حجية شئ من أقواله، أو أفعاله، أو تقريراته صلى الله عليه وسلم بعد الاعتراف بعصمته التى ذكرناها: إلا القول: بوجود الليل، مع الاعتراف بطلوع الشمس (1) ؟!

_ (1) حجية السنة للدكتور عبد الغنى 248-252 بتصرف.

أعداء الإسلام وطعنهم فى حجية الإجماع الدال على حجية السنة والرد عليهم

أعداء الإسلام وطعنهم فى حجية الإجماع الدال على حجية السنة والرد عليهم ... ومما هو جدير بالذكر هنا، أن ذيول الحمقى من الخوارج، والروافض فى عصرنا الحاضر، أكثروا من الشغب فى حجية الإجماع، وهم يشككون فى حجية السنة، ويطعنون فى الشريعة الإسلامية (1) . دليل حجية الإجماع:

_ (1) انظر: العقيدة والشريعة لجولدتسيهر ص61، وانظر: له أيضاً دراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير، نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10/498، وأصول الفقه المحمدى لشاخت نقلاً عن المصدر السابق العدد 11/649، والحديث فى الإسلام للمستشرق الفريد غيوم ص20،23، نقلاً عن منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة عزية على طه ص 63، والبيان بالقرن لمصطفى المهدوى 2/522، والإمام الشافعى لنصر أبو زيد ص 85، وإنذار من السماء لنيازى عزالدين ص 182 وبلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمين لإسماعيل منصور ص 492، والخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة لصالح الوردانى ص 55، 110، ومجلة المنار المجلد 9/520، 918 "مقال الإسلام هو القرآن وحده"، والسلطة فى الإسلام لعبد الجواد ياسين ص 227 - 231، والكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 723، والدولة والمجتمع ص 235، كلاهما لمحمد شحرور، ونحو تطوير التشريع الإسلامى لعبد الله أحمد النعيم ص50 وما بعدها.

وحجية الإجماع وعدمه، مسألة قتلها علماء الأصول والكلام بحثاً وخلاصة القول كما فى فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت: "أن الإجماع حجة قطعاً، ويفيد العلم الجازم عند الجميع من أهل القبلة، ولا يعتد بشرذمة من الحمقى الخوارج، والشيعة، والنظام من المعتزلة، لأنهم حادثون بعد الاتفاق يشككون فى ضروريات الدين؛ مثل السوفسطائية فى الضروريات العقلية" (1) . يقول الآمدى: "وقد احتج أهل الحق فى ذلك بالكتاب والسنة والمعقول" (2) .أما من الكتاب فقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (3) .

_ (1) فواتح الرحموت 2/213 بتصرف يسير، وانظر: المحصول للرازى 2/8، والإبهاج فى شرح المنهاج 2/352، والمستصفى 1/173، وأصول السرخسى 1/295، والموافقات 1/35، والبحر المحيط للزركشى 4/440-441، والمعتمد فى أصول الفقه 2/4، والرسالة للشافعى فقرات رقم1102، 1105، 1309، 1320، وإرشاد الفحول 1/292، ونهاية السول فى شرح منهاج الأصول للأسنوى 2/147 وما بعدها، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/80. (2) الإحكام للآمدى 1/183. (3) الآية 115 من سورة النساء.

.. وهذه الآية هى أقوى الأدلة وبها تمسك الإمام الشافعى –رحمه الله- ووجه الاحتجاج بها، جمع الله تعالى بين مشاقة الرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين فى الوعيد، فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحاً لما جمع بينه وبين المحرم من مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فى التوعد كما لا يحسن التوعد على الجمع بين الكفر وأكل الخبز المباح؛ فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين محظورة، ومتابعة غير سبيل المؤمنين: عبارة عن متابعة قول أو فتوى غير قولهم، وفتواهم. وإذا كانت تلك محظورة، وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة (1) .

_ (1) المحصول للرازى 1/8 وقارن بالإحكام للآمدى 1/183.

.. ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يجمع أمتى أو قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار" (1) وقال صلى الله عليه وسلم: "…عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة؛ فليلزم الجماعة، من سرته حسنته وساءته سيئته؛ فذلك المؤمن" (2) .

_ (1) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب الفتن، باب ما جاء فى لزوم الجماعة 4/405 رقم 2167 من حديث ابن عمر، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وأخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم 1/119 أرقام 391- 397 من طرق عدة، وقال: روى هذا الحديث بأسانيد عن المعتمر ابن سليمان، يصح بمثلها الحديث، ثم ذكر له شواهد من حديث ابن عباس وأنس. ووصف الإمام الغزالى الحديث فى المستصفى 1/175 بالتواتر المعنوى، وبذلك قال الشاطبى فى الموافقات 1/39، وانظر: من نفس المصدر3/64، وانظر: الاعتصام 2/517. (2) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب الفتن، باب ما جاء فى لزوم الجماعة 4/404، 405 رقم 2165 من حديث ابن عمر وقال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقد روى من غير وجه عن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم 1/197، 198 رقم 387 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبى.

.. أما دليل العقل: فيقول إمام الحرمين الجوينى: "والدليل على كونه حجة أنا وجدنا العصور الماضية، والأمم المنقرضة متفقة على تبكيت من يخالف إجماع العلماء، علماء الدهر، فلم يزالوا ينسبون المخالف إلى المروق، والمحادة، والعقوق، ولا يعدون ذلك أمر هيناً بل يرون الاجتراء على مخالفة العلماء ضلالاً مبيناً (1) ، ويستحيل أن يكون ذلك إلا لدلالة أو أمارة وإلا استحال اتفاقهم على المنع من مخالفته (2) . أ. هـ. والله أعلم.

_ (1) البرهان فى أصول الفقه 1/263، وانظر: التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3/113. (2) المحصول للرازى 1/46، وانظر: المستصفى للغزالى 1/173، وللاستزادة فى الجواب انظر: مصادر الشريعة الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية للمستشار الدكتور على حريشة ص 52-62.

المطلب الخامس: من أدلة حجية السنة المطهرة العقل والنظر

المطلب الخامس: من أدلة حجية السنة المطهرة العقل والنظر لقد دلّ الاستقراء على أن الكتاب العزيز فرض على الناس فرائضَ مجملة تحتاج إلى تفسير، وشرح وبيان، كأداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، والقيام بمناسك الحج. لذلك، فقد ذهب العلماء، والمحققون (دون اعتبار لقول من شذ من المرجفين فى دين الله تعالى، العاملين على هدم كيان السنة النبوية) (1) إلى أنه يتحتم شرعاً وعقلاً الرجوع إلى السنة لتفصيل مجمله وبيان كيفية أدائه لوضع الصور التطبيقية لتوجيهاته. ومما يستعان به فى تأييد ذلك: 1- ما روى أن رجلاً قال لعمران بن حصين رضي الله عنه: لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال له عمران: "إنك امرؤ أحمق: أتجد فى كتاب الله الظهر أربعاً لا تجهر فيها بالقراءة؟ ثم عدد عليه الصلاة والزكاة، ونحو هذا، ثم قال: "أتجد هذا فى كتاب الله مفسَّراً؟ إن كتاب الله أبهم هذا، وإن السنَّة تفسِّر ذلك (2) .

_ (1) انظر: مجلة المنار المجلد 9/517 مقال الدكتور توفيق صدقى (الإسلام هو القرآن وحده) ، والصلاة لمحمد نجيب ص277، 306، والصلاة فى القرآن لأحمد صبحى منصور 32، وقرآن أم حديث ص 7، والقرآن والحديث والإسلام ص 20، 33 كلاهما لرشاد خليفة، وتبصير الأمة لإسماعيل منصور ص 17، 325 وغيرهم مما سبق ذكرهم فى شبهة "الاكتفاء بالقرآن وحده". (2) أخرجه ابن المبارك فى مسنده ص 143 رقم 233، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/191، والحازمى فى الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ ص 98.

2- وروى أن رجلاً قال لمطرف بن عبد الله بن الشخير (1) : لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال له مطرف: "والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا". 3- وفى هذا المعنى قال الأوزاعى: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب". قال ابن عبد البر: "يريد أنها تقضى عليه - أى تفصل فيه - وتبين المراد منه" (2) . 4- وقال يحيى بن أبى كثير: "السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب قاضياً على السنة" (3) . ويوضح الإمام الشاطبى ما يقصد العلماء بقولهم إن السنة قاضية على الكتاب فيقول: "الجواب أن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقدمها عليه، واطراح الكتاب، بل إن ذلك المعبر فى السنة هو المراد فى الكتاب، فكأن السنة بمنزلة التفسير، والشرح لمعانى أحكام الكتاب (4) . وهذا ما صرح به الإمام أحمد-رحمه الله-وتحاشا أدباً لفظ (قاضية على الكتاب) عندما سئل عن الأثر السابق فقال:"ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكن السنة تفسر الكتاب وتبيِّنهُ" (5) .

_ (1) مطرف: هو مطرف بن عبد الله بن الشخير العامرى، أبو عبد الله، من كبار التابعين، ثقة عابد فاضل، مات سنة 95هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/188 رقم 6728، ومشاهير علماء الأمصار ص 113 رقم 645، وتذكرة الحفاظ 1/64، 65 رقم 54، وخلاصة تذهيب الكمال ص249،والكاشف الذهبى2/269 رقم 5478، والثقات للعجلى ص 431 رقم 1586. (2) الآثار السابقة أخرجها ابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/191، والحازمى فى الاعتبار ص 100 (3) أخرجه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/191، والحازمى فى الاعتبار ص 99. (4) الموافقات 4/394، 395. (5) طبقات الحنابلة لابن أبى يعلى 1/25، وانظر: الموافقات 4/408، 409.

ماذا لو اكتفينا بالإستناد إلى القرآن وحده، ولم نعبأ بالسنة المطهرة

ماذا لو اكتفينا بالإستناد إلى القرآن وحده، ولم نعبأ بالسنة المطهرة ... ثم لو سلمنا جدلاً أنه يكفى الاستناد إلى القرآن وحده، ولم نعبأ بالسنة أبداً، وتركنا القرآن يخطئ فيه المخطئون، ويتعمد فيه الكذب الكاذبون، ويتلاعب فيه الملحدون الذين طمس الله على قلوبهم وأعمى بصيرتهم، ويخوض فيه المنافقون بما يمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم، ويعبث فيه أهل الأهواء والبدع والضلال، بما تسوله لهم نفوسهم. هل يزول الخلاف بين الناس أم يزيد؟ مما لا ريب فيه أنه يزيد (1) لأن هؤلاء الذين يزعمون أنهم قادرون على استنباط كل شئ من القرآن الشريف بدون رجوع إلى بيان صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم. نراهم يكثرون من المسائل العجيبة التى استنبطوها بزعمهم من القرآن، ومن الغرائب أن كثيراً من الأحكام التى يردونها لثبوتها بالسنة نجد أصلها موجوداً فىالقرآن الكريم عند إمعان النظر، وأغرب من ذلك تناقضهم واختلافهم فى ما يستنبطون من القرآن، فكل واحد منهم مستقل بنفسه مخالف للآخر (2) . بحيث تراهم فى سذاجتهم وتدليسهم يعبثون بعقول الناس غاية العبث، يدخلون على الشريعة أموراً ليست منها، ويخرجون منها أموراً هى من أساساتها. ودونك الأمثلة:

_ (1) منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص119 - 123 بتصرف واختصار، وانظر: الإسلام على مفترق الطرق ص 97، والقرآنيون وشبهاتهم حول السنة للدكتور خادم بخش مبحث (منهج القرآنيين فى تفسير القرآن الكريم) ص 257 وما بعدها. (2) تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها للعلامة السيد سليمان البدوى ص4-5 بتصرف.

نماذج من المسائل العجيبة التى استنبطها أعداء السنة من القرآن الكريم

نماذج من المسائل العجيبة التى استنبطها أعداء السنة من القرآن الكريم بدون رجوعهم إلى بيان النبى صلى الله عليه وسلم، واستعراض بدائهم عن السنة المطهرة ... الذين يقولون: إن القرآن قد احتوى على كل شئ وفصله تفصيلاً، ولا داعى للسنة، لو أنك واجهتهم بالصلاة، وكيفية أدائها، لرأيت بعضهم يقول: "إن القرآن يفرض على المسلم أن يصلى فى كل وقت من أوقات الصلاة أكثر من ركعة، ولم يحدد له عدداً مخصوصاً وتركه يتصرف كما يشاء" وبعبارة أخرى: إن الإنسان يجب عليه أن يصلى ركعتين على الأقل، وله أن يزيد على ذلك ما شاء أن يزيد بحيث لا يخرج عن الاعتدال والقصد … وبعد ذلك فللمسلم الاختيار فيما يفعل على حسب ما يجده من نفسه ومن قوته، أما الصلاة المعروفة اليوم بمواقيتها وهيئاتها، فما كان يعرفها الرسول نفسه ولا أصحابه، وهى غير واجبة على الأمة الإسلامية فى جميع الأزمنة والأمكنة، أو فهى لا تدل على وجوب ما فوق الركعتين" (1) . ... وفى موضع آخر يقول: "وإذا فليس عندنا دليل قطعى على وجوب هذه الأعداد - من الصلوات والركعات - والله لا يتعبدنا بالظن، وحيث أن هذا الأمر لم يصل إلينا بالتواتر القولى دل ذلك على أن الله لا يريد منا المحافظة على هذه الأعداد والاستماتة عليها وهو المطلوب" (2) . ... فإذا كان الدكتور توفيق صدقى لا يؤمن بالصلاة المعروفة اليوم؛ لأنها متواترة عملاً لا قولاً فى نظره، نجد آخر على مذهبه يؤمن بالصلاة المعروفة اليوم بمواقيتها وعددها وهيئتها … إلخ ويكفيه نقلها بالتواتر العملى (3) . وهو ما لم يكف توفيق صدقى!

_ (1) قاله الدكتور توفيق صدقى فى مقاله (الإسلام هو القرآن وحده) انظر: مجلة المنار المجلد 9/517-520 بتصرف. (2) انظر: مجلة المنار المجلد 9/920، 921 بتصرف. (3) تبصير الأمة بحقيقة السنة للدكتور إسماعيل منصور ص 17، 18.

وقائل آخر يذهب إلى أن كيفية أداء الصلاة لم تأت مفصلة فى الشريعة الإسلامية فى كتاب الله عز وجل، وإنما جاءت مفصلة فى شريعة أخرى، وهى شريعة سيدنا إبراهيم-عليه السلام-، فإذا سألت وكيف نقلت إلينا شريعة إبراهيم وأين هى؟! ومن أولئك الذين نقلوها؟ قالوا لك: لقد نقلت إلينا جيلاً بعد جيل، وتوارثها الذين نقولها أبو جهل، وأبو لهب، وغيرهم من مشركى قريش، كانوا يؤدون الصلوات الخمس مثلنا تماماً ويحجون مثلنا (1) . وإذا كان توفيق صدقى يذهب إلى أن عدد الركعات فى كل صلاة لا يقل عن ركعتين، وإنما يزيد وأجاز تلك الزيادة على حسب ما يجده الإنسان من وقته. نرى آخر يرفض كل ما سبق، ويلزم بأن الصلوات كلها واحدة ركعتين ركعتين (2) . وإذا تأملنا فى الصلوات المفروضة عندهم لرأينا ما يضحك ويبكىمن التناقض البين فيما يستنبطون بفهمهم السقيم من كتاب الله عز وجل فالصلوات المفروضة عند بعضهم أربع، وعند آخر ست. ... أما من قال هى أربع: فقال: هى طرفى النهار أى فى (أولة) وهى صلاة الصبح، وآخر النهار، وهى صلاة المغرب، وطرفى الليل أى فى أوله، وهى صلاة الفجر، وفى آخره وهى صلاة العشاء. ... أما صلاة الظهر فهى عنده من الفروض التى لا ذكر لها فى القرآن، وهى من الفروض التى زادها أعداء الإسلام (3) ، هكذا يهزي محمد نجيب فى كتابه (الصلاة) (4) . ... أما من يقول بأنها ست فيزيد على الصلوات الأربع السابقة صلاتى الظهر والليل، أما الظهر؛ فهى تبدأ عنده من ساعة توسط الشمس (كبد) السماء، وإلى أن يصير ظل كل شئ مثله!

_ (1) قرآن أم حديث ص 7-10، والقرآن والحديث والإسلام ص 20، 23 كلاهما لرشاد الخليفة وانظر: الصلاة فى القرآن لأحمد صبحى منصور ص 101. (2) الصلاة لمحمد نجيب ص 65، والبيان بالقرآن لمصطفى المهدوى 1/123. (3) وعليه فمن قال بهذا ممن سيأتى ذكرهم ممن هو على مذهبه الفاسد، وملته الباطلة هو من أعداء الإسلام. (4) الصلاة ص 652 - 662.

.. أما صلاة الليل فهى عنده اثنتين صلاة الليل الأولى، وتبدأ من دلوك الشمس إلى (الغسق) باستمرار غير منقطع، والثانية وهى من غياب الشفق إلى منتصف الليل، هذا فضلاً عن صلاة قيام الليل وهى مندوبة عنده (1) . ... أما أحمد صبحى منصور فيذهب إلى: "أن فرائض الصلاة وركعاتها معروفة للعرب مثل معرفتهم لأيام الأسبوع، فإن القرآن يذكر بعض الفرائض مثل الفجر، والظهر، والعشاء فى سياق حديثه عن تشريع آخر قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} (2) . ... فتأمل هنا كيف يقر أحمد صبحى، وكذا من سبقه مصطفى المهدوى، بأن الظهر من فرائض الصلاة، وهى عندهم لها دليل من القرآن الكريم، وهو ما ينكره محمد نجيب ويصف، من يقول بذلك بأنه من أعداء الإسلام؟ ... وعن قبلة المسلمين الأولى، والتى لا ذكر لها فى القرآن الكريم تراهم يتناقضون فى تحديدها حسب استنباط كل منهم من القرآن الكريم.

_ (1) البيان القرآن لمصطفى المهدوى 1/107 - 113، وانظر: الاعتصام للشاطبى حكايته هذا القول عن أهل البدع والأهواء قديماً. الاعتصام 1/61، وانظر: الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى لفضيلة الدكتور طه حبيشى ص509 وما بعدها. (2) الآية 58 من سورة النور، وانظر: الصلاة فى القرآن لأحمد صبحى منصور ص 37، 38.

.. فيذهب محمد نجيب إلى: أن القبلة الأولى هى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، لا بيت المقدس، ويعلل ذلك بأنه: "قد ورد فى القرآن الكريم أن الله عز وجل أمر سيدنا موسى وسيدنا هارون باتخاذ بيوتهما قبلة لهما وللمؤمنين عندما يصلون متجهين إليها قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (1) فكان لابد للرسول وللمسلمين معه أن يقتدوا بسيدنا موسى، ويتخذوا من بيت النبى الذى اختاره ليكون قبلة كما اتخذ موسى بيته قبلة (2) ، ويذهب إلى أن تلك القبلة لم تنسخ فيقول: "والأمر بالقبلة الأولى ليس أمراً قد انتهى أمره فلا لزوم له فى القرآن إذ أنه أمر موجود ليتبعه المسلمون إذا اقتضى الأمر ذلك (3) أ. هـ. ... هذا فى حين نرى مصطفى المهدوى يذهب إلى أن القبلة الأولى منسوخة، ويصرح بأن تلك القبلة الأولى لا علم له بها فيقول: "وكان الله –تبارك وتعالى- قد شاء أن يستقبل رسوله فى صلاته قبلة أخرى، الله أعلم بها حيث جعلها من سنة نبيه ثم نسخها بقرآن" (4) . ... أما أحمد صبحى؛ فيقر بتوجه النبى صلى الله عليه وسلم، ومن آمن معه نحو بيت المقدس فيقول: "فالعرب مسلمون ومشركون كانوا يتوجهون فى الصلاة إلى الكعبة، وامتحنهم الله بأن أمرهم بالتوجه نحو القدس، وأطاع النبى والمؤمنون معه، وصبروا على أقاويل السفهاء، وبعد أن نجح النبى، والمؤمنون فى الاختبار نزل الوحى يجيب برجاء رسول الله بالعودة إلى التوجه للبيت الحرام (5) أ. هـ. ... ولم يبين لنا أحمد صبحى من أين دليله فى توجه النبى صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه نحو بيت المقدس؟!!

_ (1) الآية 87 من سورة يونس. (2) الصلاة لمحمد نجيب 51، 52، 616. (3) المصدر السابق ص 618. (4) البيان بالقرآن 1/120 بتصرف. (5) الصلاة فى القرآن ص 39.

ثم إن إقراره بذلك يتناقض مع عدم إيمانه بالنسخ فى الشريعة الإسلامية بمعنى الحذف والإلغاء (1) . حيث نسخ القرآن الكريم ما ورد فى السنة المطهرة من التوجه فى الصلاة أول الأمر إلى بيت المقدس. ... ومن طرائف أحمد صبحى منصور؛ أنه عندما زعم أن فرائض الصلاة وركعاتها كانت معروفة للعرب وعلينا اتباعها ذهب إلى أن: "تشريع الوضوء والطهارة والغسل والتيمم لم يكن معروفاً من قبل (أى فى الجاهلية) وجاء بيانه فى آيتين فى المدينة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا (2) فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (3) وهذا يعنى أن أهل الجاهلية وهم يعرفون الصلاة بركعاتها وهيئتها … إلخ كانوا يصلون من غير طهارة؟!! ... ولأن الدليل الإسلامى على تشريع الوضوء والطهارة … إلخ مدنى كما فى آية النساء، وكذا آية المائدة (4) . فالمسلمون أيضاً طوال الفترة المكية كانوا يصلون من غير طهارة؟!!

_ (1) انظر: كتابه لا ناسخ ولا منسوخ فى القرآن. (2) حدثنى مصطفى منصور، أحد أتباع أحمد صبحى منصور، أن أحمد صبحى فسر التيمم فى الآية بأنك تخرج منديلاً من ثوبك فتمسح به يديك، فقلت لمصطفى ولكن ربنا عز وجل يقول: "صَعِيدًا طَيِّبًا" والصعيد ما علا الأرض من التراب الطاهر، قال لى ليس هذا شرطاً، وإنما الصعيد ما علا فيكفيك أنك تضرب بيديك فى الهواء فهو صعيد! (3) الآية 43 من سورة النساء، وانظر: الصلاة فى القرآن ص 39، 40 هامش. (4) الآية 6 من سورة المائدة.

ونقول لهؤلاء جميعاً ما زعمتموه عبثاً من أن الصلوات المفروضة على المسلمين فى اليوم والليلة، إنما هى مرتان أو أربع أو ست، وأن طريقة الصلاة كذا وكذا لا كما يصليها المسلمون. فالواجب عليكم أن تثبتوا لنا أن النبى صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ما كانوا يصلون فى اليوم والليلة إلا مرتين، أو ست، وأنهم ما كانوا يصلون إلا بالطريقة التى تزعمونها، وأنه بعد تدوين كتب الحديث صار المسلمون يصلون خمس مرات، وزادوا فيه كذا وكذا من الأركان تبعاً للمحدثين، والفقهاء، فإن لم تستطيعوا إثبات ذلك - ولن تستطيعوه إلى يوم القيامة - يكون مآل دعواكم أن النبى صلى الله عليه وسلم اخطأ فى فهم الوحى الذى أنزل عليه (حاشاه من ذلك) وأنتم (أيها الأعاجم الجهلة) وفقتم لإصلاح ذلك الخطأ وبيان الصواب. ... فهل يمكن لمسلم، بل لعاقل أن يتفوه بهذا الكلام الجنونى؟ أعاذنا الله من ذلك (1) . وعن بقية أركان الإسلام من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن صيام، وزكاة، وحج، حدث ولا حرج عن شذوذ ما يستنبطون بما تمليه عليهم نفوسهم المريضة. ... فشهادة أن محمداً رسول الله، والتى هى جزء لا يتجزأ من شهادة أن لا إله إلا الله، هذه الشهادة تكرارها بجانب شهادة أن لا إله إلا الله؛ يعد شركاً أكبر (2) .

_ (1) تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها للعلامة السيد الندوى ص 27، 28، بتصرف. (2) قرآن أم حديث ص20،33،والقرآن والحديث والإسلام ص38،41،43، كلاهما لرشاد خليفة.

.. ويقول المتنبئ الكذاب رشاد خليفة عن صيغة التشهد، وما فيها من حمد وتمجيد، لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وآله: "لقد أمرنا الله ألا نذكر أى اسم فى الصلاة سوى اسمه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) إلا أن جماهير المسلمين اليوم ابتدعوا بدعة، حمد محمد، وإبراهيم وتمجيدها وهم يصلون لربهم … لقد أغوى الشيطان المسلمين بترديد بدعة "التشهد"، حيث يمطرون محمداً وإبراهيم بالحمد والتمجيد. أليس هذا شركاً صارخاً؟ (2) ... ويعلل محمد نجيب بأن حمد وتمجيد نبيين (محمد وإبراهيم) –عليهما الصلاة والسلام- دون غيرهما فيه تفريق بين رسل الله (3) وبذلك حدثنى مصطفى منصور أحد أتباع أحمد صبحى عن أحمد صبحى أنه قال: "لا يجب تكرار شهادة أن محمداً رسول الله فى الآذان حتى لا يكون هناك تفرقة بين رسل الله عز وجل، ولأننا لو قلنا بهذه الشهادة لوجب علينا أن نشهد أيضاً بأن إبراهيم رسول الله، وموسى رسول الله، وعيسى رسول الله … وهكذا وهو أمر يطول. وتناسى هؤلاء أن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وإعلان تلك الشهادة هو إيمان بكل الأنبياء، لأنه صلى الله عليه وسلم خاتمهم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَاءَاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (4) .

_ (1) الآية 18 من سورة الجن. (2) القرآن والحديث والإسلام لرشاد خليفة ص 38، وانظر: الصلاة فى القرآن لأحمد صبحى منصور ص 51 - 56. (3) الصلاة محمد نجيب ص 78، 79. (4) الآية 81 من سورة آل عمران.

.. وما قيل فى الصلاة من تناقض، يقال مثله فى بقية أركان الإسلام من صيام، وزكاة، وحج، فتلك العبادات جاءت مفصلة فى شريعة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - يقول المتنبئ الكذاب رشاد خليفة: "جميع العبادات بتفاصيلها (عدد الصلوات وعدد الركعات، ومقدار الزكاة، وكيفية الصيام، وكيفية الحج) نزلت على إبراهيم-عليه السلام-أما محمد-عليه السلام-فكانت مهمته الوحيدة هى تبليغ القرآن (ما على الرسول إلا البلاغ) : {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (1) . وهكذا نتعلم من القرآن أن الصلاة بتفاصيلها، والزكاة بتفاصيلها، والصيام بتفاصيله، والحج بتفاصيله؛ قد تم تعليمهم لإبراهيم –عليه السلام-، ثم تواترت إلينا جيلاً بعد جيل" (2) أ. هـ. ... وهذه الشعائر الإسلامية عدم ذكر تفاصيلها فى القرآن الكريم فى نظر بعض أعداء السنة؛ لأنها متروكة لأولى الأمر لاختيار المناسب منها كل حسب الزمان والمكان.

_ (1) الآيتان 26، 27 من سورة الحج. (2) قرآن أم حديث ص 16، وانظر: القرآن والحديث والإسلام ص 22، 24، 28.

يقول توفيق صدقى: "إن ربع العشر فى الزكاة إذا قام بإصلاح حال الفقراء، والمساكين، وأبناء السبيل، والغارمين، وبالنفقة منه على العاملين على الزكاة، والمؤلفة قلوبهم، وفى سبيل الله، وفى تحرير الرقاب، إذا قام بكل هذه الشئون فى زمن أو بلد فليس ضرورياً أن يكون كافياً كذلك فى زمن آخر، أو فى بلدة أخرى. ومن ذلك تعلم حكمة الله فى عدم تعيين شئ من ذلك فى كتابه تعالى، فما بينته السنة للعرب فى ذلك لا يصلح لجميع الأمم فى الأوقات المختلفة" (1) . وممن قال بذلك محمود محمد طه (2) ، وتابعه عبد الله أحمد النعيم (3) ، وجمال البنا الذى يصرح بأن الحكمة فى عدم ذكر القرآن الكريم تفاصيل الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج،

_ (1) انظر: مجلة المنار المجلد 9/521،522 مقال (الإسلام هو القرآن وحده) بتصرف، وانظر: المجلد 9/909، 913، والقرآنيون وشبهاتهم حول السنة للدكتور خادم بخش ص 366-430. (2) محمود محمد طه: واحد من دعاة الفتنة وأدعياء العلم، سودانى الجنسية، ادعى النبوة، وزعم أن الزكاة تشريع مؤقت ملائم للعصور الأولى القاصرة، ولذا لا تصلح لهذا العصر الراقى المتطور، بل يجب أن نترقى فى هذا العصر إلى روح الإسلام وهى العدالة الاشتراكية، كما أنكر أحاديث التوحيد. فقد يصل المرء إلى درجة الإلهية، وأجاز إٍسقاط الصلاة للخواص. أعدمه على زندقته حاكم السودان (جعفر النميرى) انظر: المحاضرة الدفاعية عن السنة للدكتور محمد أمان على الجامى ص 7 وما بعدها. (3) عبد الله أحمد النعيم: كاتب سودانى، حصل على العالمية فى القانون من جامعة أدنبره/أسكوتلندا، رئيس الجمعية الدولية للدراسات القانونية فى العالم الثالث (نيويورك) منذ1990-حتى الآن. = =من تلاميذ مسيلمة الكذاب محمود محمد طه، ويدعوا إلى فكره. انظر: كتابه نحو تطوير التشريع الإسلامى. وانظر: الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 570 وما بعدها.

والشورى … إلخ؛ أن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ليس تشريعاً دائماً ولازماً؛ فتركنا الإسلام لما يستجد فى كل زمان ومكان. ولو فصل القرآن لأوقع الحرج على الأجيال الآتية، ولا مانع من تأبد السنة إذا كانت فى أخلاق النبى صلى الله عليه وسلم وسياسته، وصدقه، وكرمه أو موقفه كقائد ورجل دولة. ولكن عندما يكون الأمر أمر "الأحكام" فلا تأبد للسنة، فهذا ما يتفاعل مع الزمان والمكان ويتأثر بالأوضاع (1) . ... ويقول محمد شحرور: "علينا اعتبار كل الأحاديث المتعلقة بالحلال والحرام والحدود التى لم يرد نص فيها فى الكتاب على أنها أحاديث مرحلية قيلت حسب الظروف السائدة" (2) وينكر مصطفى المهدوى الحدود فى الإسلام زاعماً أنها ما هى إلا الأحكام الشرعية مثل أحكام الصيام، وأحكام الطلاق، وأحكام المواريث (3) . وعند ذكره لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (4) . ... قال: "إن الله يرخص لأولى الأمر اختيار الجزاء المناسب دون تحديد؛ كالحبس، والغرامة، والتوبيخ، والحرمان من بعض الحقوق المدنية والسياسية" (5) أ. هـ.

_ (1) السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 92، 193، 202. (2) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 572. (3) البيان بالقرآن 2/335. (4) الآية 33 من سورة المائدة. (5) البيان بالقرآن 2/339.

.. ويتجرأ الدكتور أحمد زكى أبو شادى من مصر: على جواز تبدل الأحكام وفق الظروف والأسباب ليس فى السنة النبوية فقط، بل فى القرآن الكريم أيضاً فيقول: "القرآن الكريم، والأحاديث النبوية مبادئ خلقية وسلوكية مسببة، بحيث أن أحكامها عرضة للتبدل بتبدل الأحوال والأسباب، ففيه شواهد هادئة على ضوئها وأسبابها وظروفها، لا أحكام متزمتة لا تقبل التعديل وفقاً لتبدل الأسباب والظروف" (1) . ... ولا يقف الأمر عند هؤلاء النابتة الضالة عند هذا الحد، وإنما نجدهم ينكرون من الأمور المتواترة والبديهية ما لا ينكره إلا جاهل مغرور حيث تجد بعضهم ينكر زواج سيدنا إبراهيم -عليه السلام- بهاجر، ويزعم أن إسماعيل -عليه السلام- ليس ابن إبراهيم يقول مصطفى المهدوى: "إننا لا نعرف لإبراهيم -عليه السلام- إلا زوجاً واحدة، هى التى بشرها الله بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، أما إسماعيل -عليه السلام- فلم يقل أحد أنه ابن إبراهيم من زوج أخرى إلا اليهود فى أسفارهم، ومن شايعهم فى ذلك من المسلمين فيما جاؤوا به من الأساطير" (2) ، ثم يذهب المهدوى إلى أن هبة إسماعيل لإبراهيم فى قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (3) هذه الهبة هبة عون وتوفيق، كما قال عز وجل فى حق سيدنا موسى -عليه السلام -: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} (4) ولكن ماذا هو قائل فى قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (5) هل الهبة هنا هبة عون وتوفيق؟

_ (1) ثورة الإسلام ص 57. (2) البيان بالقرآن 2/538. (3) الآية 39 من سورة إبراهيم. (4) الآية 53 من سورة مريم، وانظر: البيان بالقرآن 2/539. (5) الآية 38 من سورة آل عمران.

.. ويؤكد المهدوى ما يهذى به قائلاً: "وليس فى القرآن بينةٌ ظاهرة على أن إسماعيل كان ابناً لإبراهيم، ولا نعلم له زوجاً غير التى جاءتها البشرى ولا نعلم أن له ابناً غير إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" (1) وهكذا أعمى الله بصيرته عن البينة الظاهرة فى كتابه بأن إسماعيل كان ابناً لإبراهيم من زوجته هاجر فى قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} (2) وقوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} (3) فالذبيح فى الآية الكريمة: إنما هو ابنه إسماعيل –عليه السلام – باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، وما حملهم على تحريف الذبيح بأنه إسحاق إلا لأنه أبوهم، وإسماعيل أبو العرب الذين يسكنون الحجاز والذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسدوهم. على أمر الله فى إسماعيل – عليه السلام – والفضل الذى ذكره الله منه لصبره لما أمر به فأرادوا أن يجروا هذا الشرف إليهم، فحرفوا كلام الله وزادوا فيه، وهم قوم بهت، ولم يقروا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

_ (1) البيان بالقرآن 2/540. (2) الآية 37 من سورة إبراهيم. (3) الآيات 100 - 102 من سورة الصافات.

ومن أحسن ما استدل به محمد بن كعب القرظى (1) ، على أن الذبيح إسماعيل، وليس إسحاق من قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (2) . قال فكيف تقع البشارة بإسحاق، وأنه سيولد له يعقوب، ثم يؤمر بذبح إسحاق وهو صغير قبل أن يولد له؟ " (3) أ. هـ. ... ومن العجيب أن المهدوى ذكر قصة ابتلاء سيدنا إبراهيم - عليه السلام - بابنه الذبيح ولم يصرح لنا بمن هو الذبيح؟!! (4) فإن قال هو إسحاق فهذا مما جاء فى أسفار اليهود التى ينكرها وينكر ما جاء فيها أيضاً من زواج سيدنا إبراهيم - عليه السلام - بهاجر وأن له منها ابنه إسماعيل عليه السلام!! وإن قال الذبيح هو إسماعيل وهو الحق فذلك من السنة المطهرة التى يجحدها، والتى تصرح، بأن إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام - من زوجته هاجر!! فياترى من يكون الذبيح عنده؟!! ... ويذهب مصطفى المهدوى إلى إنكار زواج النبى صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع فيقول: "ولا نعلم عدد أزواجه صلى الله عليه وسلم، ولكننا نعلم بيقين: أنه لم يكن ليجمع بين أكثر من أربع زوجات فى وقت واحد" (5) !!

_ (1) محمد هو: محمد بن كعب بن سليم القرظى أبو حمزة، من عباد أهل المدينة وعلمائهم بالقرآن ثقة حجة مات سنة 120هـ وقيل قبل ذلك. له ترجمة فى تقريب التهذيب 2/128 رقم 6277، والكاشف 2/213 رقم 5129، ومشاهير علماء الأمصار ص 85 رقم 436، والثقات للعجلى 411 رقم 1495، والبداية والنهاية 9/268، وشذرات الذهب 1/136. (2) الآية 71 من سورة هود. (3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/14-19، وانظر: البداية والنهاية 1/144 - 150. (4) البيان بالقرآن 2/540 - 543. (5) المصدر السابق 2/623 وراجع من نفس المصدر 1/385 - 386.

.. ويفرق بين الاحتلام، والجنابة فى وجوب الغسل فيقول: "إنه ليس من المنطق فى شئ أن نقيس الاحتلام بالجنابة، كما يقول البعض، فيفرض الاغتسال من الاحتلام كما فرض الاغتسال من الجناية" (1) أ. هـ. ... وليس هذا فقط، بل نجد من شواذ استنباط أعداء السنة من القرآن الكريم تصريح بعضهم بأن لحم الكلب والحمار حلال؛ لاقتصار المحرمات فى القرآن الكريم على قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (2) . بل ويحللون الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها فى وقت واحد:

_ (1) البيان بالقرآن 1/114. (2) الآية 145 من سورة الأنعام.

يقول جمال البنا: "هناك أحاديث جاءت بما لم يأت به القرآن، نحن نحكم عليها فى ضوء القرآن فما لا يخالف القرآن يقبل، وما يخالفه يستبعد، فتحريم زواج المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم لحم الحمر الأهلية أمور لا نرى مانعاً فيها، ونجد فيها قياساً سليماً (1) .

_ (1) دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى للدكتور أحمد حجازى السقا ص8، 61 هامش، وص 199، وانظر: له أيضاً: حقيقة السنة النبوية ص 9، وانظر: السنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص 254، ولماذا القرآن لأحمد صبحى منصور ص 64، وهؤلاء فيما ذهبوا إليه تبع لأسلافهم من المبتدعة كما حكاه عنهم ابن قتيبة فى تأويل مختلف الحديث ص 194، والشاطبى فى كتابيه: الاعتصام باب بيان معنى الصراط المستقيم التى انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان 2/560، والموافقات 4/422، ومن شواذ فكر أعداء السنة، وما يدل على صلتهم بأعداء ديننا وأمتنا، وقولهم بما يحقق أهدافهم، ما حدثنى به مصطفى منصور، عن أحمد صبحى منصور، أنه زعم أن المسجد الأقصى ليس فى فلسطين وإنما هو فى سيناء، فلما قلت له وأين الدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل، قال آية الإسراء، وآية التين، ففى آية الإسراء يقول= =تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى"، الآية 1 من سورة الإسراء، وفى سورة التين يقول تعالى: "وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ" الآيتان 2،3 من سورة التين وقال: فكما ربط بين المسجدين فى سورة الإسراء، ربط هنا بينهما فى سورة التين بين البلد الأمين، وهو المسجد الحرام، وطور سنين وهو المسجد الأقصى؟!! وهذا أيضاً ما كان يقول به مسيلمة الكذاب (محمد رشاد خليفة فى أحاديثه الإذاعية فى مسجد توسان بأمريكا، وفى العالم العربى، كما حدثنى بذلك فضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى.

كلمة أخيرة فى بدائل السنة عند أعدائها

وهكذا يفترون على الشريعة بما فهموا ويدينون به ويخالفون الراسخين فى العلم وإنما دخلوا فى ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم، واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط (1) . وليت شعرى إذا كان إهمال السنة يؤدى إلى كل هذا الهراء واللغط فى القرآن الكريم، ألا يكون حفظه وفهمه متوقفاً على حفظها ومستلزماً له؟! نعم الكتاب أحوج إلى السنة، من السنة إلى الكتاب. كلمة أخيرة فى بدائل السنة عند أعدائها يقول فضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى بعد أن تعرض للبديل عن السنة النبوية المطهرة فى نظر أعدائها قال: "والقوم قد أرادوا أن يملأوا هذه الساحة بواحدة من ثلاث: أرادوا أن يملأوها بالإبراهيمية. وأرادوا أن يملأوها بما تعارف عليه الناس.

_ (1) انظر: الاعتصام للشاطبى، باب فى مأخذ أهل البدع بالاستدلال 1/191.

وأرادوا أن يملأوها بإعادة صياغة المنظومة الإسلامية على ما يريدون، فانتهوا بعد هذا العناء كله إلى نتيجة محددة وهى أنهم قد ملأوا الفراغ بالفراغ، وقبضوا فى أيديهم على الماء والهواء، وشددوا القبضة ظانين أن الهواء لا يتفلت، وأن الماء لا يتسرب، وسوف يفتحون أيديهم يوماً فيجدونها صفراً، وسوف يقدمون على الله يوماً فلا يجدون إلا تحقيق هذا النص الكريم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (1) . قال الحافظ ابن عبد البر: "أهل البدع أجمع أضربوا عن السنن وتأولوا الكتاب على غير ما بينت السنة، فضلوا وأضلوا، وأخرج بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ستجدون أقواماً يدعونكم إلى كتاب الله عز وجل وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وعليكم بالعتيق (2) أ. هـ.

_ (1) الآيتان 39، 40 من سورة النور، وانظر: السنة فى مواجهة أعدائها ص 160، واللعاب الأخير فى مجال إنكار سنة البشير النذير ص84. (2) جامع بيان العلم وفضله، باب فيمن تأول القرآن أو تدبره وهو جاهل بالسنة 2/193.

يا أهل الكتاب، ويا أهل الهوى، تعالوا لننظر ماذا يوجد فى الحديث

.. ويقول الأستاذ محمد أسد مؤكداً ما سبق أن ذكرناه أن غياب السنة يزيد الخلاف بين الناس فى فهم تعاليم القرآن الكريم قال: "وفى الحقيقة يجب علينا أن نعتبر أن السنة إنما هى التفسير الوحيد لتعاليم القرآن الكريم والوسيلة الوحيدة لاجتناب الخلاف فى تأويل التعاليم وتطبيقها فى الحياة العملية" (1) أ. هـ. ... وفى موضع آخر يقول: "من أجل هذا كله نرانا مضطرين إلى أن نعمل بسنة بنينا صلى الله عليه وسلم قلباً وقالباً إذا أردنا أن نخلص وجهنا للإسلام (2) أ. هـ. يا أهل الكتاب، ويا أهل الهوى، تعالوا لننظر ماذا يوجد فى الحديث، وأى مقدار منه يصلح أن يكون مجالاً للبحث والمناقشة ... وأقول للمنكرين لسنة النبى صلى الله عليه وسلم المتمسحين كذباً بإيمانهم بكتاب الله عز وجل تعالوا لننظر ماذا يوجد فى الحديث، وأى مقدار منه يصلح أن يكون مجالاً للبحث والمناقشة: 1- لا يخفى أن القسم الأعظم من الحديث تاريخى، أعنى أنه يشتمل على أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام، ووقائعهم، وبيان جليل أعمالهم، وهذا القسم غير قابل للبحث والمناقشة عند كل ذى عقل سليم، لأنه عبارة عن جزء من تاريخ العالم، مثل سائر تواريخ الأمم، إلا أنه يمتاز عنها بصحة المأخذ وضبط الرواية، وتسلسل الأسانيد، ومطابقتها لأصول النقد. بحيث أن هذا الوصف لا يشاركه فيه تاريخ أمة من الأمم، لا الرومان، ولا الفرس، ولا اليونان، ولا الهند، ولا مصر … إلخ. 2- والقسم الثانى: أخلاقى تهذيبى، يحتوى على الحكم والآداب والنصائح، مثل مدح الصدق، والعدل، والإحسان، والاتحاد، والتعاون، وسائر الفضائل والحث عليها وذم الكذب، والظلم، والفسق، والفساد، وسائر الرذائل والصد عنها. فهذه الأمور تؤيدها الفطرة الإنسانية، وأصولها موجودة فى القرآن فهل فيها شئ يستحق الرد؟!!

_ (1) الإسلام على مفترق الطرق ص90. (2) المصدر السابق ص 103.

3- العقائد: أصول العقائد مذكورة فى القرآن (1) ، مثل التوحيد، والصفات الإلهية، والرسالة، والبعث، وجزاء الأعمال. ولا يوجد فى الحديث الصحيح إلا ما يؤيد هذه الأصول ويوضحها ويقررهها، أو يكون من جزئياتها ونظائرها، ولا يوجد فيها ما يكون مخالفاً لعقائد القرآن، أو زائداً عليها بحيث لا يكون له أصل فى القرآن. وكل ما يستشكل من الأحاديث الصحيحة فى العقائد تجد مثله فى القرآن، ويجرى فيه ما يجرى فى القرآن من التفويض أو التأويل، حسب اختلاف مدارك الأفهام والطبائع الإنسانية، فمنها ما يقبل التسليم والتفويض، ومنها ما لا يقنعه إلا التأويل الموافق لعقله والذى يطمئن به قلبه. وأما الأحاديث التى فيها مخالفة للقرآن أو العقل السليم فلا تجدها إلا من الموضوعات والواهيات. ومثلها لا يجوز ذكرها إلا مع بيان وضعها - فضلاً عن التمسك بها. وهذا بإجماع المسلمين. 4- الأحكام: هذا القسم أكثره ثابت بالأحاديث المستفيضة المشهورة، وهى قد رويت بطرق كثيرة صحيحة، ولكنها لم تبلغ حد التواتر وبعضها من الآحاد ولكنها صحاح. وأما الأحاديث الضعيفة فهى عند الجمهور من المحدثين والفقهاء لا تقبل فى الأحكام، والمحققون لا يقبلونها فى غير الأحكام أيضاً (2) . ... فأما الاحتجاج بالخبر المستفيض المشهور فلا يتصور وجود عاقل ينكر ثبوت الحكم بمثل هذا الخبر، ولزوم العمل به لمن يبلغه، وإلا بطل نظام العالم، فهذه قوانين الحكومات إذا نشرت فى عدة جرائد معتبرة، أو فى الجريدة الرسمية للحكومة يلزم العمل بتلك القوانين لكل أحد من رعايا تلك الحكومة، ولا يسعه الاعتذار بأنها لم تبلغه بالتواتر.

_ (1) انظر: الموافقات للشاطبى 4/396 المسألة الثالثة "أصول السنة فى القرآن" وانظر: فى نفس المصدر 4/434، ومختصر الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية 2/508. (2) انظر: تفصيل ذلك فى الأجوبة الفاضلة للعلامة اللكنوى ص 46 - 59.

.. وأما الآحاد الصحاح فكذلك العمل بها جار فى سائر أنحاء العالم، مثلاً إذا أتانا رجل معتبر، وبلغنا أن فلاناً يطلبك، فحالاً نلبى طلبه، ولا نسأله أن يأتينا بالشهود على صحة قوله، إلا إذا وجدت هناك قرينة مانعة عن قبول خبرة فحينئذ نتثبت قبل الذهاب. ... وهكذا الأمر فى الأحاديث الآحادية الصحيحة: تقبل فى الأحكام ويعمل بها ما لم يوجد أمر مانع من قبولها، مثل كونها مخالفة للقرآن أو السنة المتواترة أو المشهورة، أو كونها متروكة العمل فى زمن الخلفاء الراشدين والصحابة، ففى هذه الحالة يحق لكل عالم أن يتوقف - وأقول يتوقف ولا يرد ويجحد - العمل بها، وأن يبحث عنها إلى أن يزول الإشكال، ويطمئن إليه الخاطر. وأما ترك العمل بالآحاد الصحاح مطلقاً من غير وجود علة مانعة من قبولها فغير معقول، ومخالف لما هو جار فى سائر المعاملات الدنيوية" (1) أ. هـ. ... أما زعمكم بأن أحاديث الأحكام من العبادات (صلاة، وصيام، زكاة، وحج) ومن معاملات وحدود … إلخ أحاديث غير صالحة لكل زمان ومكان، والأمر فيها متروك لأولى الأمر كل يختار ما يناسب زمانه ومكانه، حتى لو اقتضى الأمر تركها بالكلية والأخذ بما يخالفها من تشريعات وضعية. ... فهذا ما لا يقوله مسلم يؤمن بالله رباً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وبالإسلام عقيدة وشريعة صالحة لكل زمان ومكان. ... لأن أحاديث الأحكام التى توجد فى الأحاديث الصحيحة هى مأخوذة ومستنبطة من القرآن الكريم، استنبطها النبى صلى الله عليه وسلم من القرآن بتأييد إلهى، ووحى ربانى وهذا الاستنباط يسمى فى اصطلاح القرآن تارة "تبيناً" وتارة "إراءة" قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ

_ (1) تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها للعلامة السيد الندوى، ص 14 - 17.

لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقال جل جلالة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (2) . وأصبح لهذا البيان صفة المبين من حيث وجوب قبوله ووجوب العمل به وصالحيته لكل زمان ومكان، ولا يقول بخلاف هذا مسلم. ... ويقول الأستاذ محمد أسد رداً على من يفرقون فى الالتزام بين أوامر الرسول فى العبادات وبين غيرها من الأوامر التى تنظم حياة المجتمعات: "وإنه لمن الجهل بالإسلام أن يحاول أحدنا أن يفرق بين أوامر للرسول تتعلق بأمور تعبدية روحية خالصة، وبين غيرها من التى تتصل بقضايا المجتمع وقضايا حياتنا اليومية، وإن القول بأننا مجبرون على اتباع الأوامر المتعلقة بالنوع الأول، ولكننا لسنا مجبرين على أن نتبع الأوامر المتعلقة بالنوع الثانى، إنما هو نظر سطحى، وهو فوق ذلك مناهض فى روحه للإسلام، مثل الفكرة القائلة بأن بعض أوامر القرآن الكريم قد قصد بها العرب الذين عاصروا نزول الوحى، لا النخبة من الأكياس (الجنتلمان) الذين يعيشون فى القرن العشرين. إن هذا بخس شديد لقدر النور النبوى الذى قام به المصطفى صلى الله عليه وسلم (3) أ. هـ.

_ (1) الآية 44 من سورة النحل. (2) الآية 105 من سورة النساء، وانظر: تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها للندوى ص18. (3) الإسلام على مفترق الطرق ص88، 89، وانظر: ما قاله عن الإسلام كدين ودولة ص 110.

كلمة أخيرة للمنكرين للسنة النبوية

كلمة أخيرة للمنكرين للسنة النبوية، والقاصرين مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم على بلاغ القرآن الكريم فقط ... ونقول لمن ينكرون هذا البيان النبوى قاصرين مهمة النبى صلى الله عليه وسلم على بلاغ القرآن الكريم فقط متبجحين فى قولهم: "محمد ممنوع من التفوه بأى تعاليم دينية سوى القرآن" (1) ، وقولهم:"أمر محمد بتبليغ القرآن فقط بدون أى تغيير، وألا يختلق أى شئ آخر" (2) وقولهم:"إن مهمة الرسول الوحيدة: هى تبليغ القرآن بدون أى تغيير، أو إضافة، أو اختزال، أو شرح" (3) . ... نقول لكم والله ما نبغى بالقرآن بدلاً ولكن أخبرونا كيف نفهم القرآن؟ أو بعبارة أعم من هذه: كيف نفهم مراد القائل من كلامه؟ ... ولا يخفى أن علم أصول الفقه جل مباحثه تدور حول هذه المسألة، أعنى طريقة فهم معنى الكلام والاستنباط منه؛ فمثلاً إذا وردت فى القرآن الكريم كلمة لها معان متعددة عند العرب، أو كلمة لها معنى حقيقى ومعنى مجازى، فكيف نعين المراد بتلك الكلمة؟ أو إذا ورد لفظ عام فكيف نعلم أن المقصود منه جميع أفراده أو بعضها، أو إذا ورد حكم مطلق فكيف نعرف هل هو باق على إطلاقه أم قيد منه شئ؟ إلى غير ذلك من المسائل. ... وهناك أمر آخر، وهو أن المعانى المفهومة من الكلام على أنواع: فمنها ما يفهم من ألفاظه صراحة، ومنها ما يفهم منه بطريق الإشارة والكناية، ومنها ما يفهم من سياق الكلام، فلا يقال لشئ منها أن هذا الكلام لا يشمله.

_ (1) القرآن والحديث والإسلام لرشاد خليفة ص 2. (2) المصدر السابق ص 3. (3) المصدر نفسه ص 13،وانظر من نفس المصدر ص17،18،33، وانظر: قرآن أم حديث ص2،16، وانظر: الصلاة محمد نجيب271،272،ولماذا القرآن 43-48،والمسلم العاصى ص13

.. فكذلك الأمر فى القرآن، أعنى إذا كان الشئ غير مذكور فيه صراحة ولكنه يفهم من سياقه أو إشاراته، فلا يقال إنه ليس فى القرآن مطلقاً. وإذا كان النبى صلى الله عليه وسلم مأموراً بتبين القرآن والحكم بين الناس بما أراه الله عز وجل كما سبق فى آيتى النحل، والنساء، ونزلت مثلاً آيات الصيام، ولم يذكر فيها حكم الأكل والشرب بالنسيان فى الصوم، فجاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أكلت ناسياً فى الصوم. فأفتاه النبى صلى الله عليه وسلم بأن صومه صحيح (1) لأن الخطأ والنسيان معفو عنهما، مستنبطاً من قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (2) . ... فهل يقال: إن هذا الحديث مخالف للقرآن؛ لأنه ليس فيه أن الصوم لا يفسده الأكل بالنسيان؟ أو يقال: إنه لم يكن للنبى صلى الله عليه وسلم أن يستنبط هذا الحكم من الآية الأخرى التى لا تتعلق بالصوم؟!! ... وهنا نريد أن نسأل هؤلاء المنكرين لسنة النبى صلى الله عليه وسلم: إذا كان يجوز لكم أن تستنبطوا من القرآن كل ما تريدون، وتفسروه كما تفهمون، مع بعدكم عن العصر والمحيط اللذين نزل فيهما القرآن، ومع كونكم أعجاماً من غير أهل اللسان أفما كان يحق هذا لمن نزل عليه القرآن، وأمر بتبيينه على الوجوب (3) ، وكان أفصح أهل اللسان، بل أحق الناس بالبيان، والاستنباط من القرآن؟!

_ (1) ففى الصحيح مرفوعاً: "من نسى وهو صائم، أكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الصوم باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً 4/183، 184 رقم 1933، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الصيام باب أكل الناسى وشربه وجماعه لا يفطر 4/291، رقم 1155 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه واللفظ لمسلم. (2) جزء من الآية 5 من سورة الأحزاب. (3) انظر: البحر المحيط للزركشى 3/483.

تفاوت الأفهام: ... ثم لا يخفى على أحد أن كل الناس ليسوا سوء فى الاستعداد والفهم وصفاء الذهن، ولهذا السبب يقرأ القرآن الكريم كل أحد ولكنهم يختلفون فى فهم معانيه، فالعالم يفهم منه ما لا يفهمه الجاهل، وقد سبق بيان نماذج من المسائل الشاذة التى استنبطها الشواذ بعقولهم من القرآن الكريم، وتناقضوا تناقضاً فاضحاً فيما بينهم. فإذا كان العالم يفهم ما لا يفهمه الجاهل، والعلماء أيضاً متفاوتون فى الفهم والعلم كما قال رب العزة: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (1) فأى فهم أولى بالقبول، وبتوحيد كلمة المسلمين، أفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أم فهم المنكرين لسنته؟!! ... قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) وقال تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) . وقديماً دخل رجل من أهل الكوفة على الإمام أبى حنيفة، والحديث يقرأ عنده، فقال الرجل: دعونا من هذه الأحاديث! فزجره الإمام أشد الزجر، وقال له: لولا السنة ما فهم أحد من القرآن. ثم قال للرجل: ما نقول فى لحم القرد؟ وأين دليله من القرآن؟ فأفحم الرجل، فقال للإمام: فما تقول أنت فيه؟ فقال: ليس هو من بهيمة الأنعام (4) أ. هـ.

_ (1) جزء من الآية 76 من سورة يوسف، وانظر: تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها للندوى ص5-8 بتصرف. (2) جزء من الآية 59 من سورة النساء. (3) جزء من الآية 43 من سورة النحل. (4) انظر: الميزان للشعرانى 1/58، وقواعد التحديث للقاسمى ص 298، ولمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث للأستاذ أبو غدة ص 32، 33.

علاقة القرآن الكريم بالسنة الشريفة:

علاقة القرآن الكريم بالسنة الشريفة: ... تبين فيما سبق أن الله عز وجل قد أوكل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مهمة بيان ما فى القرآن الكريم وذلك فى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (2) . ... ومن هنا نستطيع القول أن علاقة القرآن الكريم بالسنة المطهرة هى علاقة البيان، وهذا البيان له أنواع متعددة، يمكن حصرها فى ثلاثة أقسام رئيسية (3) : أولاً: أن تأتى السنة مؤكدة لما جاء فى القرآن الكريم ومثبتة له. ثانياً: أن تأتى السنة مبينة لما فى القرآن الكريم ويأتى هذا البيان على أربعة أنواع: 1- تفصيل المجمل ... ... ... 2- تقييد المطلق ... 3- تخصيص العام ... ... ... 4- توضيح المشكل ثالثاً: أن تستقل السنة بتأسيس الأحكام من غير أن يسبق لها ذكر فى القرآن الكريم: والأصل فى ذلك ما ورد فى القرآن الكريم من آيات توجب على المؤمنين طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة فيما يأمر به، وينهى عنه، وتحذر من مخالفة أمره، وسبق تفصيل ذلك فى مبحث الأدلة القرآنية على حجية السنة (4) .

_ (1) الآية 44 من سورة النحل. (2) الآية 105 من سورة النساء. (3) أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 2/288. (4) راجع: ص 469-475، وانظر: تيسير اللطيف الخبير لفضيلة الدكتور مروان شاهين ص31 بتصرف.

أولا: تأكيد السنة للقرآن الكريم:

أولاً: تأكيد السنة للقرآن الكريم: ... بمعنى أن يأتى ذكر الشئ فى القرآن الكريم، ونفس الشئ أيضاً تذكره السنة المطهرة والعلاقة الجامعة بينهما - حينئذ - هو تأكيد السنة لما ورد فى القرآن الكريم فمن ذلك مثلاً قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (1) ونجد نفس المعنى تقريباً فيما روى عن أبى موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يملى للظالم. فإذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (2) ومن ذلك أيضاً قوله تعالى فى حق سيدنا إبراهيم -عليه السلام- {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} (3) ونجد نفس المعنى فى قول النبى صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم النبى - عليه السلام - قط، إلا ثلاث كذبات. ثنتين فى ذات الله قوله: "إِنِّي سَقِيمٌ". وقوله تعالى: "بل فعله كبيرهم هذا". وواحدة فى شأن سارة … الحديث" (4) .

_ (1) الآية 102 من سورة هود. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" 8/ 205 رقم 4686، وأخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم 8/378 رقم 2583 واللفظ له. (3) الآية 89 من سورة الصافات. (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى: "واتخذ الله إبراهيم خليلا" 6/447 رقم 3358، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، وانظر: الموافقات 4/436، 8/134 - 135 رقم 2271 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه واللفظ لمسلم، وتأويل مختلف الحديث ص 44 وما بعدها.

ثانيا: بيان السنة لما جاء فى القرآن الكريم

.. والأمثلة على تأكيد السنة الشريفة للقرآن الكريم كثيرة جداً فيما يتعلق بالعبادات من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، ووسائل ومقدمات تلك العبادات من الطهارة، وكذا تأكيد السنة للقرآن الكريم فيما يتعلق بالمعاملات من البيع، والربا، والقرض، والرهن، والشركة، والوكالة … إلخ، وكذا تأكيد السنة للقرآن فيما بتعلق بالجنايات، والحدود فى الإسلام، وكذا التأكيد فيما يتعلق بالأحوال الشخصية من زواج، وطلاق، وميراث…إلخ وقد استوعب تفصيل ذلك بالأمثلة الأستاذ محمد سعيد منصور فى كتابه (منزلة السنة من الكتاب وأثرها فى الفروع الفقهية) (1) : وبالجملة فهذا النوع من البيان النبوى وهو التأكيد، يشمل كل جوانب التشريع القرآنى. ثانياً: بيان السنة لما جاء فى القرآن الكريم ولهذا البيان أنواع (2) منها: 1 - تفصيل المجمل (3) : بمعنى أن يأتى الشئ فى القرآن الكريم مجملاً وموجزاً لا نستطيع أن نفهم المراد منه إلا بعد تفصيله، فتتولى السنة ذلك التفصيل (4) .

_ (1) انظر: ص 129 - 337. (2) راجع: مراتب البيان فى الرسالة للشافعى ص 21 - 53 فقرات من رقم 53-178، وانظر: البرهان فى أصول الفقه للجوينى 1/39 وما بعدها، وإرشاد الفحول للشوكانى 2/31 - 35. (3) انظر: فى تعريفه لسان العرب لابن منظور 11/128، ومختار الصحاح للرازى ص 47، وانظر: المعتمد فى أصول الفقه 1/293، وأصول السرخسى 1/168، والإحكام للآمدى 2/165. (4) وقد يأتى الشئ مجملاً فى السنة فيبينه القرآن الكريم مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس" الحديث، ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه فى سورة براءة بقوله: "فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ" الآية 5 من سورة التوبة، وانظر: البحر المحيط للزركشى 3/489.

.. من ذلك مثلاً ما ورد فى القرآن الكريم عن الصلاة وهى ركن الإسلام الأول بعد الشهادتين، وبها يتحدد الفرق بين المؤمنين وغيرهم، فماذا جاء عن الصلاة فى القرآن الكريم؟ لقد جاء الحديث عنها موجزاً ومختصراً، فى قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (1) . وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (2) . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (3) إن هذه الآيات توضح: أن الله تعالى قد أوجب الصلاة على المؤمنين من غير أن يبين لنا أوقاتها، والفرائض الواجبة علينا، وعدد ركعات كل فرض - وأركان الصلاة وشروطها - وغير ذلك مما يتعلق بالصلاة. ... فجاءت السنة الشريفة، وفصلت ذلك المجمل، وعلمت الناس الصلاة، وكل ما يتعلق بتفصيلاتها فى قوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتمونى أصلى" (4) ولولا السنة لما عرفنا كيف نصلى! ... ومثل ما قلناه عن الصلاة نقوله عن سائر العبادات من زكاة، وصيام، وحج؛ فقد جاء ذكر كل ذلك مجملاً فى القرآن الكريم، وتولت السنة المطهرة تفصيله وبيان المراد منه

_ (1) الآية 103 من سورة النساء. (2) الآية 56 من سورة النور. (3) الآية 9 من سورة المؤمنون. (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة 2/131، 132 رقم 631، ومسلم (بشرح النووى) كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب من أحق بالإمامة 3/187، 188 رقم 674، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.

روى الخطيب البغدادى فى كتابه (الكفاية فى علم الرواية) (1) : "أن عمران بن حصين رضي الله عنه كان جالساً ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن. فقال له: أدنه - أى قرب منى - فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، تقرأ فى اثنتين؟!! أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بالصفا والمروة؟ ثم قال: أى قوم – أى: يا قوم-، خذوا عنا فإنكم – والله إن لا تفعلوا لتضلن" وفى رواية من طريق آخر: "أن رجلاً قال لعمران بن حصين: ما هذه الأحاديث التى تحدثوناها؟ وتركتم القرآن! قال عمران: أرأيت لو أبيت أنت وأصحابك إلا القرآن، من أين كنت تعلم أن صلاة الظهر عدتها كذا وكذا، وصلاة العصر عدتها كذا، وحين وقتها كذا، وصلاة المغرب كذا، والموقف بعرفه، ورمى الجمار كذا، واليد من أين تقطع؟ أمن هاهنا أم هاهنا أم من هاهنا؟ ووضع يده على مفصل الكف، ووضع عند المرفق، ووضع يده عند المنكب. اتبعوا حديثنا ما حدثناكم وإلا والله ضللتم" (2) أ. هـ. ... هاهى أركان الإسلام الأساسية – التى بنى عليها الإسلام – يتوقف القيام بها على السنة المطهرة. ونستطيع أن نقول: لولا السنة ما تمكن المسلمون من إقامة بنيان الإسلام، ولم يقتصر الأمر على العبادات فقط – بل مقدماتها ووسائلها، من أحكام الطهارة وما يتعلق بها، وكذا المعاملات، والجنايات، والأحوال الشخصية، وغير ذلك (3) .

_ (1) الكفاية ص 48، ودلائل النبوة للبيهقى 1/25، وانظر: مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة ص21 (2) الكفاية ص 48، 49. (3) انظر: أمثلة على ذلك فى منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص351–397، وانظر: منزلة السنة فى التشريع الإسلامى للدكتور محمد أمان الجامى ص 22-30.

2- تقييد المطلق

.. فكيف تكون حياة الناس مستقيمة لو لم يأت تفصيل كل ذلك فى السنة المطهرة؟! إن هذا النوع فقط من أنواع بيان السنة للقرآن الكريم – وهو تفصيل المجمل – يؤكد فى جلاء ووضوح أن القرآن الكريم محتاج إلى السنة الشريفة، كما يثبت فى يقين؛ أنه لولا السنة لضاع القرآن - بعدم فهمه - وهذا ما يهدف إليه أعداؤنا حينما يشككون فى السنة الشريفة. فما بالنا ببقية الأنواع التى سنوالى ذكرها؟!! 0 2- تقييد المطلق (1) : وذلك بأن يأتى الشئ مطلقاً فى القرآن الكريم، وتقيده السنة مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) . والآية الكريمة لم تقيد قطع اليد بموضع محدد، لأن اليد تطلق على الأصابع، والكف، والرسغ، والساعد، والمرفق، والعضد. ولكن السنة الشريفة بينت ذلك وقيدت القطع بمقدار الكف فقط من يد واحدة. وذلك حينما أتى بسارق إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقطع يده من مفصل الكف (3) فلولا السنة لما استطعنا إقامة الحد على وجهه الصحيح.

_ (1) انظر فى تعريفه: لسان العرب 10/226 وما بعدها، والمعجم الوسيط لإبراهيم أنيس وآخرون 2/563، والمحصول للرازى 1/457 وما بعدها، والإتقان فى علوم القرآن 3/82،83، وفواتح الرحموت 1/360، والإحكام للآمدى 2/162، وانظر: منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص 429 وما بعدها. (2) الآية 38 من سورة المائدة. (3) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى كتاب السرقة، باب السارق يسرق أولاً فتقطع يده اليمنى من مفصل الكف 8/270، 271.

3- تخصيص العام

3- تخصيص العام (1) : وذلك بأن يأتى اللفظ عاماً ينطبق على كثيرين فتأتى السنة الشريفة وتبين أن هذا العموم ليس مراداً، بل المراد بعض أفراد ذلك العام فقط، وليس الجميع، ويكون ذلك تخصيصاً من السنة للجميع، ويكون ذلك تخصيصاً من السنة لما ورد عاماً فى القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (2) .

_ (1) انظر فى تعريفه لغة: لسان العرب 12/424،425، ومختار الصحاح ص 191، والمعجم الوسيط 2/629 واصطلاحاً انظر: المعتمد فى أصول الفقه 1/189، وأصول السرخسى 1/125، والإحكام للآمدى 2/54، والإبهاج فى شرح المنهاج 2/82، وانظر: منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص 398 وما بعدها. (2) الآية 11 من سورة النساء.

.. وهذا عام يثبت فى كل أب وأم موروثين ويثبت أيضاً فى كل ابن وارث، فجاءت السنة فخصصت المورث بغير الأنبياء وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم، "لا نورث ما تركناه صدقة" (1) ، وخصصت السنة الوارث أيضاً بغير القاتل وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لقاتل شئ" (2) كما خصصت السنة الإثنين معاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم" (3) . فكأن معنى الآية بعد التخصيص هو أن كل مورث من أب وأم يرثه أبناؤه إلا أن يكون الموِّرث نبياً، فإن الأنبياء لا يورثون، وإلا أن يكون الوارث قاتلاً لأصله المورث فإنه - فى هذه الحالة - لا يرثه وإلا أن يختلف الدِّين بين المورث والوارث. فإنه لا توارث عند اختلاف الدِّين (4) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الفرائض، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم لا نورث، ما تركنا صدقة 12/8 رقم 6730 ومسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد والسير، باب قول النبىصلى الله عليه وسلم لا نورث، ما تركنا صدقة 6/319، 320 رقم 1758 من حديث عائشة -رضى الله عنها-. (2) أخرجه مالك فى الموطأ كتاب العقول، باب ما جاء فى ميراث العقل والتغليظ منه2/660 رقم10 من حديث عمر رضي الله عنه. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، وإذا أسلم قبل إن يقسم الميراث فلا ميراث له 12/51 رقم 6764، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الفرائض 6/58 رقم 1614 من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. (4) تيسير اللطيف الخبير للدكتور مروان ص31-36، وانظر: نيل الأوطار للشوكانى 6/74.

4- توضيح المشكل

4- توضيح المشكل (1) : وذلك بأن تكون هناك بعض الألفاظ فى القرآن الكريم لا نفهم معناها، فتوضحها لنا السنة الشريفة، مثل ما روى فى الصحيحين عن عائشة-رضى الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حوسب يوم القيامة، عذب" قالت فقلت: أليس قد قال الله عز وجل: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} (2) ؟ فقال: "ليس ذاك الحساب. إنما ذاك العرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب" (3) . فالسيدة عائشة - رضى الله عنها - أشكل عليها الحساب فى قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} . لما سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "من حوسب يوم القيامة عذب" فبين لهى صلى الله عليه وسلم بأن المراد بالحساب فى الآية الكريمة العرض، وأنه من نوقش الحساب يوم القيامة عذب. ... يقول فضيلة الأستاذ الدكتور مروان شاهين: ليس معنى أن السنة تفصل مجمل القرآن الكريم، أو تقيد مطلقه، أو تخصص عامه، أو توضح مشكلة أقول: ليس معنى ذلك أن كل عام فى القرآن يحتاج إلى تخصيص، وأن كل مطلق يحتاج إلى تقييد، وأن كل مجمل يحتاج إلى تفصيل؟ كلا ليس المراد ذلك. فإن كثيراً من عام القرآن باق على عمومه لأن عمومه مراد، وكثيراً من إطلاق القرآن باق على إطلاقه؛ لأن إطلاقه مراد، وهكذا فى المجمل.

_ (1) انظر فى تعريفه لغة: المعجم الوسيط 1/491، ومختار الصحاح ص 145، وانظر: أصول السرخسى 1/168 وتعريفه اصطلاحاً، انظر: أصول السرخسى 1/168، والإتقان للسيوطى 3/72 - 81، وانظر: منزلة السنة من الكتاب ص 343 وما بعدها. (2) الآية 8 من سورة الانشقاق. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الرقاق باب من نوقش الحساب عذب 11/407 رقم 6537، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إثبات الحساب 9/225، 226 رقم 2876.

أنواع بيان السنة للقرآن الكريم تسمى نسخا عند السلف الصالح

وإنما المراد: أن ما يحتاج إلى شئ من ذلك - فقط - هو الذى يتولى الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه بواحد من أنواع البيان - كما ذكرناه سلفاً (1) أ. هـ. أنواع بيان السنة للقرآن الكريم تسمى نسخاً عند السلف الصالح ... مما هو جدير بالذكر هنا أن تفصيل المجمل، وتقييد المطلق، وتخصيص العام، وتوضيح المشكل، ونحو ذلك من أنواع بيان السنة - كان يعرف بالنسخ عند السلف الصالح، من الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم حتى الإمام الشافعى. ويبين ذلك الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله - فيقول: مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ، رفع الحكم بجملته تارة، وهو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام، والمطلق، والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد وتفسيره وتبيينه، حتى أنهم يسمون الاستثناء، والشرط، والصفة، نسخاً لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد (2) . ... وأكد الإمام الشاطبى هذا المعنى فقال: "يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم فى الإطلاق أعم منه فى كلام الأصوليين، فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخاً، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخاً، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخاً، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعى بدليل شرعى متأخر نسخاً" (3) . ثم ساق الإمام الشاطبى أمثلة عديدة لما اعتقده السلف أنها قضايا نسخ، وهى فى حقيقة الأمر من باب تقييد المطلق أو تخصيص العام، أو بيان المجمل ونحو ذلك (4) .

_ (1) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير ص38، 39، وللإستزادة فى أنواع بيان السنة للقرآن انظر: السنة بياناً للقرآن، الفصل الثالث منهج السنة فى تبيين القرآن ص70-259. (2) أعلام الموقعين 1/35. (3) الموافقات 3/99، 100. (4) المصدر السابق 3/100 - 109.

.. وإذا كانت أنواع بيان السنة للقرآن الكريم تسمى نسخاً عند المتقدمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن سبقوا الإمام الشافعى، رأيت أن الأمر يهون وتختفى معظم الإشكالات، والنزاعات المتشعبة بين العلماء فى النسخ بين القرآن والسنة؛ لأن من أنكر نسخ السنة (متواترة كانت أو آحاداً) للقرآن الكريم، جعل المسائل التى قيل فيها نسخ من السنة للقرآن نوع من أنواع بيان السنة للقرآن الكريم، وهذا البيان واجب العمل به. وهذا هو المطلوب فى مسألتنا هذه، حيث أن القضية لا تعدو الخلاف فى الاصطلاح. فمن سمى البيان نسخاً من المتقدمين، ومن جعل نسخ السنة للقرآن بياناً من المتأخرين كل منهما يعمل بالسنة المطهرة، ويحتج بها ويعرف مكانتها بالنسبة لكتاب الله عز وجل بل وللإسلام كله. يقول الإمام الآمدى: "ثم إننا نرى أنه من الأهمية بمكان أن نقرر أنه لا خلاف بين العلماء المجيزين للنسخ فى جواز نسخ القرآن بالقرآن، ونسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة، ونسخ الآحاد بالآحاد، ونسخ الآحاد بالمتواتر من باب أولى (1) ، وأن ذلك كله ليس له فى الواقع كبير أثر، إلا فى المسألة التى نحن بصددها وهى أنواع بيان السنة للقرآن الكريم، أو نسخ الكتاب بالسنة أ. هـ.

_ (1) الإحكام للآمدى 2/267، وأصول السرخسى 2/67، والمسودة لآل تيمية ص 201 وما بعدها

إنكار أعداء الإسلام للنسخ لأنه بيان للسنة وهم يجحدونه

إنكار أعداء الإسلام للنسخ لأنه بيان للسنة وهم يجحدونه ... إذا عرفنا أن أنواع بيان السنة للقرآن الكريم تسمى نسخاً عند السلف الصالح، أدركنا لماذا ينكر أعداء الإسلام من ملاحدة، ومبشرين، ومستشرقين، النسخ فى الشريعة الإسلامية (1) . وأمعنوا فى هذا النكران بشبهات ساقطة وتأويلات غير سائغة، طعنوا بها فى صدر الدين الحنيف، ونالوا من قدسية القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة (2) . وخلاصة القول فى مسألة النسخ عند أهل الأصول ما قاله الإمام الشوكانى: "أن النسخ جائز عقلاً واقع سمعاً، بلا خلاف فى ذلك بين المسلمين، إلا ما يروى عن "أبى مسلم الأصبهانى" (3) فإنه قال: إنه جائز عقلاً، غير واقع، وإذا صح هذا عنه فهو دليل على أنه جاهل بهذه الشريعة الإسلامية جهلاً فظيعاً، وأعجب من جهله بها حكاية من حكى عنه الخلاف فى كتب الشريعة، فإنه إنما يعتد بخلاف المجتهدين، لا بخلاف من

_ (1) انظر: طعون أحمد صبحى منصور فى النسخ فى كتابة (لا ناسخ ولا منسوخ) ، والصلاة فى القرآن ص 39، وانظر: مقالات توفيق صدقى فى مجلة المنار المجلد 9/110 - 119، والمجلد 10/683-689، والمجلد 11/141-220، 292-302، 594 - 692، وإنذار من السماء 122، 437، 523، ودين السلطان ص629، والأصلان العظيمان ص 133 وما بعدها، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 12،15، والبيان بالقرآن 1/12، 2/793 وغيرهم. (2) راجع هذه الشبهات والرد عليها فى مناهل العرفان فى علوم القرآن للشيخ الزرقانى 2/214-353، وانظر: السنة مع القرآن لفضيلة الدكتور سيد أحمد المسير ص 189 وما بعدها. (3) هو: أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهانى، كان نحوياً كاتباً بليغاً متكلماً، معتزلياً، عالماً بالتفسير وغيره، له جامع التأويل لمحكم التنزيل، والناسخ والمنسوخ وغيرهما مات سنة 322هـ له ترجمة فى: لسان الميزان5/737 رقم7137، وبغية الوعاة1/59 رقم 107، والفهرست ص220، ومعجم الأدباء 5/241، والوافى بالوفيات 2/244 رقم 646، وطبقات المفسرين للداودى 2/109 رقم 466.

النسخ جائز عقلا، واقع شرعا، من غير فرق بين كونه فى الكتاب أو السنة

بلغ من الجهل إلى هذا الغاية. ... وأما الجواز: فلم يحك الخلاف فيه إلا عن بعض طوائف اليهود والنصارى (1) ، وليس بنا إلى نصب الخلاف بيننا وبينهم حاجة، ولا هذه بأول مسألة خالفوا فيها أحكام الإسلام، حتى يذكر خلافهم فى هذه المسألة، ولكن هذا من غرائب أهل الأصول. على أنا قد رأينا فى التوراة فى غير موضع أن الله سبحانه رفع عنهم أحكاماً لما تضرعوا إليه، وسألوا منه رفعها، وليس النسخ إلا هذا (2) . ... والحاصل: أن النسخ جائز عقلاً، واقع شرعاً، من غير فرق بين كونه فى الكتاب أو السنة. وقد حكى جماعة من أهل الأصول اتفاق أهل الشرائع عليه فلم يبق فى المقام ما يقتضى تطويل المقال (3) . ... وما حكى عن أبى مسلم الأصبهانى؛ فالنقل عنه مضطرب، فمن قائل: إنه يمنع وقوع النسخ سمعاً على الإطلاق. ومن قائل: إنه ينكر وقوعه فى شريعة واحدة ومن قائل: إنه ينكر وقوعه فى القرآن خاصة.

_ (1) انظر: مناهل العرفان فى علوم القرآن للشيخ الزرقانى 2/218 - 223، والإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم 4/482 وما بعدها، وفى الإبهاج بشرح المنهاج لابنا السبكى قالا: "وأعلم أنه لا يحسن ذكر هؤلاء المبتدعين فى وفاق ولا خلاف، ولكن السبب فى تحمل المشقة بذكرهم التنبيه على أنهم لم يخالفوا جميعاً فى ذلك، أ. هـ.،الإبهاج فى شرح المنهاج2/228 (2) راجع ما ذكره العلامة رحمت الله الهندى فى كتابه إظهار الحق، وما أثبته من وقوع النسخ فى العهد العتيق، وفى الشريعة الموسوية والعيسوية 1/377 -398. (3) إرشاد الفحول 2/75، 76 بتصرف يسير.

أهمية علم الناسخ والمنسوخ فى الشريعة الإسلامية

يقول الشيخ الزرقانى - رحمه الله - ورجحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات، وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن. وأبعد الروايات عن الرجل هى الرواية الأولى؛ لأنه لا يعقل أن مسلماً، فضلاً عن عالم كأبى مسلم، ينكر وقوع النسخ جملة، اللهم إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط، فإنها تهون حينئذ، على معنى أن ما نسميه نحن نسخاً، يسميه هو تخصيصاً بالزمان مثلاً. وإلى ذلك ذهب بعض المحققين. قال التاج السبكى (1) : "إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذى نسميه نحن نسخاً، ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه، ويسميه تخصيصاً" (2) أ. هـ. أهمية علم الناسخ والمنسوخ فى الشريعة الإسلامية ... إن معرفة علم الناسخ والمنسوخ، والإحاطة به فى القرآن الكريم، والسنة المطهرة، من أولويات ما يجب أن يعرفه كل من يتصدر للقضاء أو الفتيا أو بيان الحلال والحرام. إذ لا يمكن استنباط الأحكام من أدلتها من غير معرفة الناسخ والمنسوخ، والذى بدونه يوجب الإنسان على نفسه، وعلى عباد الله أمراً لم يوجبه الله عز وجل أو يضع عنهم فرضاً أوجبه الله.

_ (1) السبكى هو: الإمام الفقيه، المحدث الحافظ، المفسر الأصولى، على بن عبد الكافى بن يوسف، شيخ الإسلام، قال فيه ولده ليس بعد الذهبى، والمزى، أحفظ منه. مات سنة 756 هـ. له ترجمة فى: وطبقات الحفاظ للسيوطى ص525، 526 رقم 1148، والبداية والنهاية لابن كثير 14/195، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلى 6/180،وطبقات المفسرين للداودى1/416رقم360. (2) رفع الحاجب ص 251، وانظر: الإبهاج فى شرح المنهاج 2/228، ومناهل العرفان 2/223، وإلى ذلك ذهب الدكتور محمد الحفناوى فى هامش تحقيقه لكتاب الناسخ والمنسوخ لابن شاهين ص30، وكذلك الدكتور شعبان إسماعيل فى هامش تحقيقه لكتاب إرشاد الفحول للشوكانى 2/76، 77، وبقولهم أقول والله أعلم.

وفى ذلك يقول: يحيى بن أكثم (1) : ليس من العلوم كلها علم هو واجب على العلماء، وعلى المتعلمين، وعلى كافة المسلمين، من علم ناسخ القرآن ومنسوخه، لأن الأخذ بناسخه واجب فرضاً، والعمل به واجب لازم ديانة، والمنسوخ لا يعمل به، ولا ينتهى إليه، فالواجب على كل عالم علم ذلك لئلا يوجب على نفسه، وعلى عباد الله أمراً لم يوجبه الله أو يضع عنهم فرضاً أوجبه الله" (2) . ... وقد اهتم السلف الصالح بمعرفة الناسخ والمنسوخ، وأولوه عناية كبيرة منذ عصر الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة المسلمين إلى يومنا هذا. فعن عبد الله بن حبيب السلمى (3) قال: "مر على بن أبى طالب رضي الله عنه على قاصٍ فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال "هلكت وأهلكت" (4) . وعن محمد بن سيرين، قال: سئل حذيفة عن شئ فقال: إنما يفتى أحد ثلاثة: من عرف الناسخ والمنسوخ، قالوا: ومن يعرف ذلك؟ قال عمر، أو رجل ولى سلطانً، فلا يجد من ذلك بدا أو متكلف" (5) .

_ (1) يَحْيَى بنُ أَكْثَم هو: ابن محمد بن قطن التميمى، المروزى، أبو محمد، القاضى المشهور، فقيه صدوق، إلا أنه رمى بسرقة الحديث، ولم يقع ذلك له، وإنما كان يرى الرواية بالإجازة والوجادة، مات سنة 243هـ وقيل قبل ذلك. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/297 رقم7534، والكاشف الذهبى 2/361 رقم 6133، ولسان الميزان 9/282 رقم 14823، وتهذيب الكمال 31/207 رقم 6788. (2) بيان العلم وفضله لابن عبد البر، باب بيان أنه ليس من العلوم علم واجب إلا العلم بناسخ القرآن ومنسوخه 2/28. (3) هو: أبو عبد الرحمن، عبد الله بن حبيب السلمى الكوفى، متفق على توثيقه مات 73هـ تقريباً. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/485، 486 رقم 3282، والكاشف 1/544 رقم 2681، والثقات للعجلى ص 253 رقم 792. (4) الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ للحازمى ص 48، والناسخ والمنسوخ للزهرى ص 15. (5) الاعتبار فى الناسخ والمنسوخ ص 49.

.. وعن الضحاك بن مزاحم قال: مر ابن عباس بقاص يقص فركضه برجله، فقال: تدرى ما الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال هلكت، وأهلكت" (1) . ... وأقوال أئمة المسلمين فى هذا الباب تكثر جداً (2) ، نختار منها قول الإمام القرطبى: قال: "معرفة هذا الباب - أى الناسخ والمنسوخ - أكيدة، وفائدته عظيمة، لا يستغنى عن معرفته العلماء ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل فى الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام" (3) أ. هـ.

_ (1) المصدر السابق ص 50، والناسخ والمنسوخ للزهرى ص 16. (2) راجع نماذج من أقوالهم فى الاعتبار للحازمى ص 44 وما بعدها، وتدريب الراوى2/189، وفتح المغيث للسخاوى2/57، وفتح المغيث للعراقى ص330، وتوضيح الأفكار للصنعانى 2/416. (3) تفسير القرطبى 2/62.

بيان رتبة السنة النبوية من القرآن الكريم

بيان رتبة السنة النبوية من القرآن الكريم ... قبل أن نتحدث عن النوع الثالث من أنواع بيان السنة للقرآن الكريم وهو: "استقلالها بتشريع الأحكام دون أن يسبق لها ذكر فى القرآن الكريم" نبين هنا رتبة السنة الشريفة من القرآن الكريم لما فى ذلك من ارتباط بهذا النوع الثالث من أنواع بيان السنة لكتاب الله عز وجل. ... يقول الأستاذ محمد سعيد منصور: "لا خلاف بين علماء المسلمين قديماً وحديثاً إلا من شذ من بعض الطوائف المغرضة المنحرفة-من غلاة الشيعة، والخوارج، والروافض، والمستشرقين، وبعض المتكلمين حديثاً ممن يتكلمون بلغتنا وينتسبون إلى أمتنا - فى أن كلاً من الكتاب والسنة وحى من عند الله تعالى، وحجة لمعرفة الحلال والحرام، ودليل يجب على المجتهد التمسك به والعمل بمقتضاه، وكذلك لا نزاع بينهم فى أن الكتاب الكريم، يمتاز عن السنة، ويفضل عنها، بأن لفظه من عند الله عز وجل، متعبد بتلاوته، معجز للبشر عن أن يأتوا بمثله بخلافها فهى دونه منزلة فى هذه النواحى" (1) . ... يقول العلامة الدكتور عبد الغنى عبد الخالق -رحمه الله-: ولكن ذلك لا يوجب التفضيل بينهما من حيث الحجية: بأن تكون مرتبتها التأخر عن الكتاب فى الاعتبار والاحتجاج، فتهدر ويعمل به وحده، لو حصل بينهما التعارض.

_ (1) منزلة السنة من الكتاب ص469، 470 بتصرف.

.. وإنما كان الأمر كذلك: لأن حجية الكتاب إنما جاءت من ناحية أنه وحى من عند الله تعالى. ولا دخل للأمور المذكورة فيها. فلو لم يكن الكتاب معجزاً ولا متعبداً بتلاوته، وثبتت الرسالة بغيره من المعجزات؛ لوجب القول بحجيته؛ كما كان الأمر كذلك فى الكتب السابقة والسنة المطهرة مساوية للقرآن من هذه الناحية؛ فإنها وحى مثله. فيجب القول بعدم تأخرها عنه فى الاعتبار. ثم إن التحقيق عند علماء الكلام: أن الرسول لا يشترط فى رسالته نزول كتاب، بل الشرط: إنما هو نزول شريعة ليبلغها الأمة، وإظهار المعجزة على يده، كما هو بين فى شرح العقائد النسفية وحواشيه (1) . ... ويدل على ذلك أيضاً: أن الله تعالى أرسل موسى - عليه السلام - إلى فرعون؛ ليأمره بالإيمان به، والاهتداء بهديه، وإرسال بنى إسرائيل معه. ولم يكن قد نزل عليه – فى ذلك الحين – التوراة: لأنها إنما نزلت بعد هلاك فرعون، وخروج بنى إسرائيل من مصر –كما هو معلوم – ومع ذلك قامت الحجة على فرعون بهذا الأمر: لما أقام له موسى –عليه السلام- المعجزة، فلما خالفه اعتبر عاصياً ربه، مستحقاً اللعنة، والعذاب. فحجية الوحى الغير المتلو لا تتوقف على ورود المتلو بها: لأن كلا منهما من عند الله. وهذا تثبته المعجزة - قرآناً أو غيره - المثبتة لعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم فى تبليغ ما جاء به عن الله تعالى. ... ولو سلمنا استلزام الفرعية للتأخر مطلقاً، لقلنا: إن ما كان أقل من سورة لم تثبت قرآنيته إلا بقوله صلى الله عليه وسلم: هذا كلام الله، كما تقدم بيانه فى مبحث العصمة (2) . فعلى هذا يقال: إن الكتاب متأخر عنها فى الاعتبار؟ ‍‍ ... بل الحق: أن كلاً منهما معضد للآخر، ومساوٍ له: فى أنه وحى من عند الله، وفى قوة الاحتجاج به، وأنه لا يؤثر فى ذلك نزول لفظ الكتاب ولا إعجازه، ولا التعبد بتلاوته، ولا أنه قد ورد فيه ما يفيد حجيتها.

_ (1) 1/54. (2) راجع: ص 444، 445.

.. وحيث إنهما من عند الله: فلا يمكن الاختلاف بينهما فى الواقع، ويستحيل أن يوجد كتاب وسنة - كل منهما قطعى الدلالة والثبوت - بينهما تعارض مع الاتحاد فى الزمن وغيره، مما يشترط لتحقق التعارض فى الواقع. ... وأما أنهما قد يتعارضان فى الظاهر - إذا كانت دلالتها أو دلالة أحدهما ظنية، أو كانت دلالتها قطعية ولم يتحد الزمن: فهذا أمر جائز واقع كثيراً. وحينئذ يجب على المجتهد اعتبارهما كما لو كانا آيتين أو سنتين: حيث أنهما متساويان فينسخ المتأخر منهما المتقدم إذا ثبت له تأخره، ويرجح أحدهما على الآخر بما يصلح مرجحاً، ويجمع بينهما إن أمكن. وإلا توقف إلى أن يظهر الدليل فأما أن نقول بإهدار أحدهما مباشرة - بدون نظر فى أدلة الجمع والترجيح والنسخ: فهذا لا يصح بحال أن يذهب ذاهب إليه. ... ولذلك نجد علماء الأصول، والفقه، والحديث، يقولون: بتخصيص السنة لعام الكتاب، وتقييدها لمطلقه، ونسخها له، وأنها تؤوله وتوضح مجملة، وتبين أن المراد منه خلاف ظاهره. كما يحصل ذلك من الكتاب بالنسبة للسنة. ... نعم فى بعض هذه المسائل خلافات كثيرة، ولكن يجب أن يعلم أن مرجعها إلى مدارك أخرى وذلك كظنية الطريق فى خبر الواحد، وقطعية القرآن، وليس مرجعها إلى السنة من حيث ذاتها، ومن حيث أنها متأخرة عن الكتاب، بدليل أن من يمنع نسخ القرآن بخبر الواحد مثلاً، يمنع نسخ السنة المتواترة به أيضاً، ويجوز نسخ القرآن بالخبر المتواتر وبالعكس. ولو كان المدرك التأخر فى الاعتبار لما قال إلا بنسخ السنة بالقرآن. ... ومن ذلك كله: تعلم بطلان ما ذهب إليه الإمام الشاطبى فى الموافقات (1) : من أن رتبة السنة التأخر عن الكتاب فى الاعتبار" (2) . ثم ذكر الدكتور عبد الغنى شبه الإمام الشاطبى وردها (3) .

_ (1) الموافقات 4/392. (2) حجية السنة ص 485 - 489 بتصرف يسير. (3) المصدر السابق ص 489 - 494.

بيان أن الخلاف فى المسألة لفظى

.. وقد سبق الدكتور عبد الغنى فى قوله هذا الإمام الشافعى فى الرسالة (1) ، وابن حزم فى الإحكام (2) ، وحديثاً الدكتور السباعى (3) . بيان أن الخلاف فى المسألة لفظى ... الحق: أن قول الإمام الشاطبى بتأخر رتبة السنة عن الكتاب فى الاعتبار راجعة إلى المدارك التى ذكرها الدكتور عبد الغنى عبد الخالق كظنية الطريق فى خبر الواحد، وقطعية القرآن، وهو ما عبر عنه الإمام الشاطبى فى أول حججه على تأخر رتبة السنة عن الكتاب قال: "أن الكتاب مقطوع به، والسنة مظنونة" (4) . ولو تأملنا فى بقية حججه لرأينا أنه ليس فيها ما يدل على التفضيل بين الكتاب والسنة من حيث الحجية، ووجوب العمل بهما، بحيث إذا وقع تعارض ظاهرى بينهما يعمل بالكتاب دون السنة، بدون نظر فى أدلة الجمع والترجيح والنسخ. فهذا لا يصح بحال أن يذهب ذاهب إليه، ولا يصح نسبة ذلك إلى الإمام الشاطبى. وما قد يفهم من قوله فى السنة الزائدة: "إن لم تكن بياناً فلا يعتبر بها إلا بعد أن لا يوجد فى الكتاب" (5) فهذا الكلام لا يفهم منه رد الإمام الشاطى للسنة الزائدة الصحيحة عن النبى صلى الله عليه وسلم (وحاشاه من ذلك) كل ما فى الأمر أنه يذهب إلى أن السنة كلها، بيانية كانت أو زائدة، داخلة فى البيان النبوى للقرآن الكريم - كما سنفصله بعد قليل -. يدل على ذلك ما ذكره فى مسألة "أصول السنة فى القرآن الكريم" (6) ومسألة: "السنة التشريعية لا يلزم أن يكون لها أصل فى الكتاب" (7) .

_ (1) الرسالة ص 33 فقرات رقم 102، 103. (2) الإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم 1/96،97. (3) السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور مصطفى السباعى ص 379، وانظر: منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور، ص 470. (4) الموافقات 4/392. (5) المصدر السابق 4/393. (6) الموافقات 4/396. (7) المصدر السابق 4/434.

فكل سنة زائدة عما فى القرآن الكريم عند من يرى استقلال السنة بالتشريع هى عنده لها أصل فى القرآن الكريم، ويدخلها فى السنة البيانية، ولم ينازع فى حجيتها، ووجوب العمل بها خلافاً لمن تأول كلامه فى هذه المسألة، ومسألة (استقلال السنة بالتشريع) ونازع فى الحجية. ... وهنا نرى أنه ليس فى حقيقة الأمر خلاف! وإنما هو إن صح التعبير، صورة خلاف اعتبارية لمدارك بعيدة كل البعد عن منزلة السنة التشريعية، وحجيتها، ووجوب العمل بها. وتتلخص هذه المدارك فيما كان عليه السلف الصالح إذا عرض عليهم قضاء، يبحثون أولاً فى كتاب الله عز وجل، فإذا لم يجدوا فى كتاب الله، انتقلوا إلى السنة المطهرة (1) . وهل فى ذلك ما يخدش فى أصل مسألتنا وهى: أن القرآن والسنة فى مرتبة واحدة، فى الاحتجاج ووجوب العمل بهما؟ ... وإلى ذلك ذهب الأستاذ محمد سعيد منصور ثم قال: "وجملة القول: أن السنة إذا صحت تكون منزلتها ومنزلة الكتاب، سواء بسواء فى الاعتبار، والاحتجاج عند المجتهدين عامة" (2) أ. هـ. ... ويقول المستشار الدكتور على جريشة رداً على من وهن من رتبة السنة المطهرة فجعلها فى مستوى المذكرة التفسيرية بالنسبة للقانون، قال: "السنة ليست مذكرة تفسيرية، لأن المذكرة التفسيرية لا يمكن أن ترتفع إلى نفس مرتبة التشريع، بل وتحوى أى إلزام، والسنة غير ذلك … ترتفع مع الكتاب إلى أن تكون المصدر الرئيسى للشرعية.

_ (1) المصدر نفسه 4/393. (2) منزلة السنة من الكتاب ص 481 بتصرف يسير.

استقلال السنة بتشريع الأحكام

وربما كان مرجع الشبهة أن السنة فى جزء كبير منها مبينة للكتاب …، لكن بيان السنة منه التخصيص، والتقييد، والتأكيد، ثم التفصيل والتفسير …، إلى جواز السنة الزائدة التى تأتى بأحكام مستقلة … وفى الجزء المفسر، والمفصل يتوافر الإلزام كما يتوافر للقرآن…، ولا تهبط السنة إلى مستوى عدم الإلزام، كما تهبط المذكرة التفسيرية للقانون (1) ". ومما يؤسف له أن بعض علماء المسلمين قد أساؤا فهم الإمام الشاطبى فى مسألتنا هذه، ومسألة استقلال السنة بالتشريع، فأنكروا السنة الزائدة، كما اتخذ أعداء السنة المطهرة من كلام الشاطبى فى المسألتين ستاراً، للتشكيك فى حجية السنة النبوية واستقلالها بتشريع الأحكام أ. هـ. استقلال السنة بتشريع الأحكام ... لا يقتصر دور السنة على بيان ما فى القرآن الكريم فقط، فتؤكده تارة، أو تفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتوضح مشكله، تارة أخرى. ... نقول: لا يقتصر دور السنة على ذلك فقط - رغم أهمية هذا وخطورته، بل لها مهمة أخرى جليلة وعظيمة. وهى أنها تؤسس أحكاماً على جهة الاستقلال وهذا ما عنيناه بالمهمة الثالثة للسنة فى تقسيمنا السابق (2) . إذ أن فى السنة أحكاماً كثيرة جديدة لم ترد فى القرآن لا نصاً ولا صراحة، ويتفق العلماء أجمع على وجود تلك الأحكام، ولكنهم يختلفون خلافاً لفظياً حول تسمية تلك الأحكام التى استقلت السنة المطهرة بتأسيسها. ... فالجمهور من العلماء يقولون: إن هذا هو الاستقلال فى التشريع بعينه؛ لأنه إثبات لأحكام لم ترد فى الكتاب.

_ (1) مصادر الشريعة الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية ص 32، 33. (2) تيسير اللطيف الخبير للدكتور مروان ص 36، 37.

بيان أن الخلاف لفظى مع فريق وحقيقى مع آخر:

.. أما الإمام الشاطبى ومن نحا نحوه: فإنهم مع إقرارهم بوجودها، إلا أنهم يقولون: إنها ليست زيادة على شئ ليس فى القرآن، وإنما هى زيادة الشرح، المستنبط من المشروح بإلهام إلهى، ووحى ربانى، وتأييد سماوى (1) . وبعبارة أخرى هى داخلة تحت أى نوع من أنواع السنة البيانية، أو داخلة تحت قاعدة من قواعد القرآن الكريم. يقول الدكتور السباعى: "وأنت ترى هنا أن الخلاف لفظى، وأن كلا منهما يعترف بوجود أحكام فى السنة لم تثبت فى القرآن الكريم، ولكن أحدهما لا يسمى ذلك استقلالاً، والآخر يسميه. والنتيجة واحدة (2) ، وهى حجية تلك الأحكام الزائدة ووجوب العمل بها. بيان أن الخلاف لفظى مع فريق وحقيقى مع آخر: ... لقد ذكر الإمام الشاطبى ستة مآخذ للمخالفين فى بيان أن كل ما ورد فى السنة مبين فى الكتاب، الخمسة الأولى منها أيدها الإمام الشاطبى، وكان الخلاف فيها بين الفريقين خلافاً لفظياً لا ينبنى عليه عمل (3) . ... أما الذين أثاروا خلافاً حقيقياً حول هذه المسألة؛ فهم أصحاب المأخذ السادس، إذ يقولون فيه: "ومنها - يعنى أن جميع السنة بيان للكتاب - النظر إلى تفاصيل الأحاديث، فى تفاصيل القرآن، وإن كان فى السنة بيان زائد، ولكن صاحب هذا المأخذ يتطلب أن يجد كل معنى فى السنة مشاراً إليه - من حيث وضع اللغة لا من جهة أخرى - أو منصوصاً عليه فى القرآن (4) .

_ (1) منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص 499. (2) السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 375 بتصرف. (3) انظر: هذه المآخذ فى الموافقات 4/406 - 428، وانظر: - إن شئت - مناقشتها والرد عليها فى حجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 526 - 536. (4) الموافقات 4/428، وانظر: مصادر الشرعية الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية للمستشار الدكتور على جريشة ص 29-31.

.. فهذا هو المأخذ الذى لو تم، لكان مبطلاً لما اتفق عليه الجميع، من وجود سُّنة جاءت بما لم ينص عليه الكتاب نصاً، ويمكن للمجتهد أن يأخذ به بحسب أوضاع اللغة، ومعانيها الحقيقية والمجازية، ولكنه لن يتم ولا يمكن تطبيقه على جميع ما ورد فى السنة، ومحاولة تطبيقه محاولة فاشلة (1) . ... وقد اعترف الإمام الشاطبى نفسه بذلك بعد أن غاص فى عمق أدلة هذا المأخذ، وكانت الغاية التى انتهى إليها الاعتراف ببطلان هذا المأخذ وانحراف أصحابه، إذ يقول تعليقاً على هذا المأخذ: "ولكن القرآن لا يفى بهذا المقصود على النص والإشارة العربية التى تستعملها العرب أو نحوها، وأول شاهد فى هذا الصلاة، والحج، والزكاة، والحيض، والنفاس، واللقطة، والقراض، والمساقاة، والديات، والقسامات، وأشباه ذلك من أمور لا تحصى. ... فالملتزم لهذا (أى المأخذ السادس) لا يفى بما ادعاه، إلا أن يتكلف فى ذلك مآخذ لا يقبلها كلام العرب، ولا يوافق على مثلها السلف الصالح، ولا العلماء الراسخون فى العلم، ولقد رام بعض الناس فتح هذا الباب (2) الذى شرع فى التنبيه عليه فلم يوف به إلا على التكلف المذكور، والرجوع إلى المأخذ الأول فى مواضع كثيرة لم يتأت له فيها نص ولا إشارة إلى خصوصات ما ورد فى السنة، فكان ذلك نازلاً بقصده الذى قصد (3) . إذاً فهو قول غير صحيح، وبعيد كل البعد عن الحقيقة أ. هـ.

_ (1) انظر: حجية السنة للدكتور عبد الغنىص 535. (2) فتحه مصطفى المهدوى فى كتابة البيان بالقرآن، وكانت المحاولة فاشلة، وصدق فيه ما قاله الإمام الشاطبى هنا. (3) الموافقات 4/431.

الإمام الشاطبى ومن أساء فهمه من علماء المسلمين

الإمام الشاطبى ومن أساء فهمه من علماء المسلمين ومن اتخذ كلامه من أعداء السنة ستاراً للتشكيك فى حجية السنة، واستقلالها بتشريع الأحكام ... عرفنا فيما سبق أن الإمام الشاطبى عندما قال بتأخر مرتبة السنة عن الكتاب، كان ذلك لمدارك بعيدة كل البعد عن منزلة السنة التشريعية، وحجيتها ووجوب العمل بها. فكان الخلاف ببينه وبين جمهور العلماء خلافاً لفظياً - كما سبق -. ... وعرفنا أيضاً: أنه فى مسألة استقلال السنة بالتشريع، أقر بوجود الأحكام التى استقلت بها السُّنة، إلا أنه لم يسم ذلك (استقلالاً) وإنما سماه (بياناً) فهو يرى أن وظيفة السنة البيان بأنواعه، من تفصيل مجمل، وتقييد مطلق، وتخصيص عام، وتوضيح مشكل، وما جاء زائداً فى السُّنة هو فى نظره نوع من أنواع البيان، وداخل تحت قاعدة من قواعد القرآن الكريم. ... وفى كل الأحوال هذا البيان حجة ويجب العمل به. ومن هنا كان الخلاف بينه وبين جمهور العلماء فى تلك المسألة أيضاً خلافاً لفظياً لا يترتب عليه عمل. اللهم إلا أصحاب المأخذ السادس الذين أنكروا ورود السنة بما لم ينص عليه الكتاب.فكان الخلاف بينهم وبين الجمهور خلافاً حقيقياً، وقد علمت أن الإمام الشاطبى لم يتابعهم على ذلك. إلا أن بعض علماء المسلمين أساء فهم الإمام الشاطبى فى المسألتين (تأخر مرتبة السنة فى الاعتبار عن القرآن) و (استقلال السنة بالتشريع) التى عنون لها بـ (أصول السنة فى القرآن الكريم) (1) . والتى فصلها فى عنوان (كيفية رجوع السنة إلى الكتاب) (2) ، حيث فهموا أن الإمام الشاطبى لا يؤمن إلا بالسنة البيانية المفسرة، أما المستقلة فلا، حيث زعموا أنه يرى أن السنة لا تستقل بتشريع أحكام زائدة، فمهمة الرسول البلاغ والبيان فقط. ... وممن فهم ذلك الشيخ محمد عبد العزيز الخولى - رحمه الله - فى كتابه (مفتاح السنة) بعد أن استشهد بكلام الشاطبى فى أن السنة راجعة فى معناها إلى الكتاب، تفصل مجمله، وتبين مشكله، وتبسط مختصره، وذكر بيان الشاطبى فى كيفية رجوع السنة إلى الكتاب.

_ (1) الموافقات 4/396. (2) المصدر السابق 4/406.

قال الأستاذ عبد العزيز الخولى: "وأما ما ورد فى السنة من الأحكام، فإن كان مخالفاً لظاهر القرآن فالقرآن مقدم عليه، ويعتبر ذلك طعناً فى الحديث من جهة متنه ولفظه، وإن صح سنده، فإن الحديث لا يكون حجة إلا إذا سلم سنده ومتنه من الطعن، ولذلك أجاز بعض المسلمين نكاح المرأة على عمتها أو خالتها (1) . ... وهنا يظهر واضحاً جلياً كيف أساء الشيخ فهم كلام الإمام الشاطبى حتى اتخذ الخولى لنفسه مذهباً فى العمل بظاهر القرآن فقط، والذهاب إلى عدم حجية السنة المبينة أيضاً. بدليل أنه بعد أن ذكر نماذج من الأحكام التى استقلت بها السنة، مثل: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وتحريم الحمر الأهلية، وكل ذى ناب من السباع، ورجم المحصن- الذى زعم أن الأدلة فيه مضطربة، ويصح أن تشمله آية {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (2) . ... بعد أن ذكر ذلك قال: "وإن كان ما فى السنة لا يخالف ظاهر القرآن، فهو اجتهاد من الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع إلى أصل قرآنى عرفه الرسول، وجهلناه نحن أو عرفناه (3) . فتأمل قوله فى البيان النبوى: (وجهلناه نحن أو عرفناه) إذ العبرة عنده فى أول الأمر وآخره، هى: ظاهر القرآن سواء عرف السنة البيانية، أم جهلها، فهى فى حالة معرفته بها لم تضف جديداً، وفى هذه الحالة العبرة بالقرآن، وفى حالة استقلالها بتشريع أحكام جديدة، تكون السنة مخالفة لظاهر القرآن؛ فلا حجة فيها هكذا يزعم!

_ (1) مفتاح السنة ص 6-10. (2) الآية 33 من سورة المائدة. (3) مفتاح السنة ص 11.

.. يقول الدكتور عبد الغنى عبد الخالق: "وليت شعرى إذا لم تكن السنة مبينة، ولا مستقلة فماذا بقى فى السنة، مما يكون حجة – إلا المؤكد؟ وكيف يمكن الجمع بين قوله هذا، وبين قوله (1) : "وإن الرسول صلى الله عليه وسلم وظيفته البيان، وتبليغ ما أنزل إليه من ربه" (2) . فلا أدرى علام إذن يستشهد بكلام الإمام الشاطبى الذى يقول: بأن السنة بيان للقرآن الكريم، وحتى ما استقلت به السنة داخل فى هذا البيان الواجب العمل به!! ... وإذا كان حقاً فهم مراد الشاطبى من كلامه، فلم لم يؤمن بما آمن به الشاطبى من أن الأحكام الزائدة فى السنة داخلة فى القرآن الكريم فى بيانه أو قواعده (3) ؟! تلك الأحكام التى انكرها الشيخ مع إيمان الإمام الشاطبى بها كما سبق وسنفصله بالأمثلة بعد قليل. وأعجب من هذا كله زعمه بأن الذى أجاز نكاح المرأة على عمتها أو خالتها بعض المسلمين - وهم فى نظره الخوارج والشيعة، والروافض (4) . فهل هؤلاء مسلمون؟!! ... وممن أساء فهم الإمام الشاطبى أيضاً، وأساء فى النقل عنه فضيلة الشيخ عبد الله المشَّد - رحمه الله - فى فتواه المشهورة التى سئل فيها عن حكم من أنكر استقلال السنة بإثبات الإيجاب والتحريم يعد كافراً أم لا؟ (5) .

_ (1) المصدر السابق ص 8. (2) حجية السنة ص 489 هامش. (3) سيأتى تضعيفه بلا حجة لحديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه. (4) صرح بذلك فى هامش كتابه مفتاح السنة ص 7. انظر: نيل الأوطار للشوكانى6/148،نقل عن القرطبى إجماع المسلمين على التحريم، واستثنى الخوارج.قال: ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين (5) نقل هذه الفتوى بنصها فضيلة الشيخ محمد الغزالى -رحمه الله- فى كتابه تراثنا الفكرى ص 176 وما بعدها، ونقلها أيضاً أحمد صبحى منصور من الكتاب السابق فى كتابه حد الردة، ونقلها مختومة بتوقيع الشيخ المشَّد - رحمه الله - فىكتابه لماذا القرآن؟

.. إذ يقول الشيخ مستشهداً بالإمام الشاطبى: "إن السنة لا تستقل بإثبات الواجب والمحرم، لأن وظيفتها فقط تخصيص عام القرآن، وتقييد مطلقه، وتفسير مجمله، "ويجب أن يكون ذلك بالأحاديث المتواترة لا الآحادية. وقال أيضاً: "وأجاب الشاطبى عما أورده الجمهور عليه من قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) بأن المراد من وجوب طاعة الرسول، إنما هو فى تخصيصه للعام، وتقييده للمطلق، وتفسيره للمجمل، وذلك بالحديث المتواتر" (2) . وليت شعرى من يجرؤ على القول بأن بيان السنة للقرآن أو استقلالها بإثبات الواجب والمحرم، يجب أن يكون بالسنة المتواترة؟ فإذا كان هذا الكلام من زيادات الشيخ على كلام الإمام الشاطبى فأين دليله على ما زعمه؟!! ... وإذا كان هذا من كلام الإمام الشاطبى كما يوهمه كلام الشيخ، فغير صحيح، لأن الشاطبى فى كلامه عن بيان السنة للقرآن الكريم فى أكثر من موضع فى كتابه "الموافقات" لم يشترط هذا الشرط لا صراحة ولا إشارة (3) . ويشهد لصحة ما أقول أن الإمام الشاطبى - رحمه الله - فى كل مواضع كلامه عن بيان السنة للقرآن استشهد بأحاديث كثيرة كلها آحاد. بما فى ذلك الموضع الذى تكلم فيه عن استقلال السنة بتشريع أحكام زائدة عما فى القرآن، من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة، وخالتها، وتحريم كل ذى ناب من السباع، والحمر الأهلية، ونكاح المتعة، وإيجابه حد الردة، والرجم، وحد شرب الخمر، وغير ذلك الكثير مما ثبت بالسنة إيجاباً وتحريماً، وكانت السنة فى كل ذلك آحاداً (4) ، ولم يشترط التواتر، ولا حتى نسب هذا الشرط إلى أحد ممن يعتد به، فلا أدرى من أين جاء الشيخ المشد بها الشرط؟!!

_ (1) جزء من الآية 59من سورة النساء. (2) تراثنا الفكرى للشيخ محمد الغزالى ص 178. (3) انظر: الموافقات 3/274، 300، 330، 339، 382، 389، 4/396، 406. (4) المصدر السابق 4/422، 432 وما بعدها.

كيف والإمام الشاطبى هو القائل: "وأخبار الآحاد هى عمدة الشريعة، وهى أكثر الأدلة" (1) . ... وفى كتابه الاعتصام يقول رداً على من طعن فى أخبار الآحاد، لأنها تفيد الظن قال: "فعلى كل تقدير: خبر الواحد صح سنده، فلابد من استناده إلى أصل فى الشريعة قطعى، فيجب قبوله، ومن هنا قبلناه مطلقاً" (2) . ويقول فى كتابه الموافقات: "الظنى الراجع إلى أصل قطعى إعماله أيضاً ظاهر، وعليه عامة أخبار الآحاد، فإنها بيان للكتاب" (3) أ. هـ. ... ولو لم يكن إلا هذا لكفى فى الرد على ما نسبه الشيخ المشد إلى الإمام الشاطبى، أو اشترطه هو بغير بينة. ولكن كيف: والإمام الشاطبى فى كل مواضع كلامه عن بيان السنة للقرآن، يحتج بأحاديث آحاد على إثباتها للواجب والمحرم، ويكفى أن تنظر لصحة ما أقول: المسائل الآتية فى كتابه الموافقات: "من مقاصد الشرع، عدم التسوية بين المندوب، والواجب"، و"البيان والإجمال فى المباح والمكروه والمندوب"، و"البيان والإجمال فى المكروه والحرام" (4) . ... وأعجب مما سبق تضعيف الشيخ المشد لحديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه، ونسبته هذا التضعيف إلى الإمام الشاطبى وهو من هذا التضعيف برئ.

_ (1) الموافقات 3/82 مسألة قلة المتشابه. (2) الاعتصام 1/190، وسيأتى كلامه مفصلاً فى الرد على شبة منكرى حجية خبر الآحاد انظر: ص564. (3) الموافقات 3/14. (4) المصدر السابق 3/286 - 298.

.. يقول الشيخ المشد: "وقد رد الشاطبى (1) على ما استدل به الجمهور مما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم قوله: "يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث من حديثى فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، إلا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله" بأن من بين رواة هذا الحديث "زيد بن الحُباب" وهو كثير الخطأ، ولذلك لم يرو عنه الشيخان حديثاً واحدا" (2) . وسبقه إلى القول بهذا الشيخ محمد عبد العزيز الخولى فى كتابه (مفتاح السنة) (3) أ. هـ. ... والحق أن الحديث صحيح لا مطعن فيه، فقد أخرجه الأئمة أبو داود، والترمذى وقال فيه حسن صحيح، وأخرجه ابن حبان فى صحيحه، وحكم بصحته ابن حزم، وغيره من العلماء (4) والحديث فى كل الطرق السابقة ليس فيه"زيد بن الحُباب"إنما هو فى رواية ابن ماجة. ومع ذلك فقد قال الحافظ ابن حجر فى التقريب "زيد بن الحُباب" صدوق يخطئ فى حديث الثورى" (5) ورواية زيد هنا فى حديثنا إنما هى من حديث معاوية بن صالح، وليست من حديث سفيان الثورى (6) . ... وفى نفس الوقت لم ينفرد (زيد بن الحُباب) بالرواية عن معاوية بن صالح، فقد أخرجه الحاكم فى المستدرك من طريقين عن عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح، ومن طريق أحمد (7) فى المسند عن عبد الرحمن بن مهدى، عن معاوية بن صالح (8) .

_ (1) انظر: الموافقات 4/399. (2) نقلاً عن تراثنا الفكرى للشيخ محمد الغزالى ص 178، 179. (3) انظر: مفتاح السنة ص 10. (4) راجع: تخريج الحديث ص 223. (5) انظر: تقريب التهذيب 1/327 رقم 2130. (6) انظر: سنن ابن ماجة المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتغليظ على من عارضه 1/20 رقم 12. (7) انظر: المسند 4/130، 131، 132. (8) انظر: المستدرك للحاكم كتاب العلم 1/191، 192 رقم 371.

.. وما نسبه الشيخ المشد من نسبة تضعيف الحديث إلى الإمام الشاطبى يبطله قول الإمام الشاطبى: قوله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الرجل منكم متكئاً على أريكته" إلى آخره لا يتبادل ما نحن فيه (أى مسألة استقلال السنة بتشريع الأحكام) فإن الحديث إنما جاء فيمن يطرح السنة معتمداً علىرأيه فى فهم القرآن، وهذا لم ندعه فى مسألتنا هذه، بل هو رأى أولئك الخارجين عن الطريقة المثلى.وقوله صلى الله عليه وسلم:"ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله" (1) صحيح أ. هـ. ... أليس فى هذا حكم من الإمام الشاطبى باعتماده صحة الحديث، وأخذه بما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هو زائد من الأحكام التى ليست فى كتاب الله عز وجل وله حكم ما حرم رب العزة فى كتابه العزيز من الحجية، ووجوب العمل به، إلا أنه لا يسمى هذا الزائد استقلالاً، وإنما يسميه بياناً، وهو مما لم يستوعبه الشيخ المشَّد–رحمه الله–حتى ختم فتواه بقوله: "إن الإيجاب والتحريم لا يثبتان إلا بالدليل اليقينى القطعى الثبوت والدلالة، وهذا بالنسبة للسنة لا يتحقق إلا بالأحاديث المتواترة، وحيث أنها تكاد تكون غير معلومة لعدم اتفاق العلماء عليها فإن السنة لا تستقل بإثبات الإيجاب والتحريم–إلا أن تكون فعلية أو تنضاف إلى القرآن الكريم وعلى هذا فمن أنكر استقلال السنة بإثبات الإيجاب والتحريم، فهو منكر لشئ اختلف فيه الأئمة، ولا يعد مما علم بالضرورة، فلا يعد كافراً" (2) .

_ (1) الموافقات 4/432، وانظر: الاعتصام 1/61. (2) نقلاً عن تراثنا الفكرى للشيخ محمد الغزالى ص 179. ومما هو جدير بالذكر أنه يلتمس لعلمائنا الأجلاء العذر فى عدم إدراك مراد الإمام الشاطبى، لأنه قد عبر عن مذهبه بعبارات موهمة للخلاف الحقيقى مع جمهور العلماء، وأقام الأدلة وطعن فى أدلة الجمهور، بدون موجب لذلك كله. أفاده الدكتور عبد الغنى عبد الخالق فى كتابه حجية السنة ص537.

.. وهذه الفتوى تمسح بها دعاة الفتنة وأدعياء العلم، وهم يشككون فى حجية السنة المطهرة، مثل أحمد صبحى منصور استشهد بها فى كتابيه "حد الردة" (1) ، "ولماذا القرآن" (2) وسعيد العشماوى فى كتابيه "الربا والفائدة فى الإسلام" (3) ، "وحقيقة الحجاب" (4) ، وجمال البنا فى كتابه (كلا لفقهاء التقليد ثم كلا لأدعياء التنوير) (5) . ... وممن تغالى فى إساءة فهم كلام الإمام الشاطبى واتخذه ستاراً لمذهبه، وهو يشكك فى حجية السنة، أحمد حجازى السقا إذ يقول: "اتفقت كلمة علماء المسلمين على أن القرآن مصدر الشريعة، وما عدا القرآن من أقوال النبى صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته، لم يتفقوا على قبوله كله مصدراً للشريعة كما اتفقوا على قبول القرآن كله. فما كان من أقواله وأفعاله وتقريراته مفسراً ومبيناً وشارحاً وصح سنده. فقد اتفقوا على قبوله مع القرآن. وما كان غير مفسر، ومبين وشارح لم يتفقوا عليه كلهم" (6) . ولم يبين لنا حقيقة هذا الاختلاف، وقد علمت أنه خلاف لفظى لا ينبنى عليه عمل. ورغم ذلك يضلل أحمد حجازى بقوله عن الأحكام التى استقلت السنة بتأسيسها: "وهذا القسم هو محل النزاع بين العلماء. فمن قائل: إن الأحاديث التى تشرع تشريعات لا ذكر لها فى القرآن ترفض، ومن قائل: إنها تقبل" (7) . وعلى عادته لم يسم لنا مَنْ مِنَ العلماء المعتد بهم الذى قال أن التشريعات التى لا ذكر لها فى القرآن ترفض.

_ (1) حد الردة ص 95 - 98. (2) لماذا القرآن ص 155 - 157. (3) الربا والفائدة فى الإسلام ص 8. (4) حقيقة الحجاب وحجية الحديث ص 96 وما بعدها. (5) كلاثم كلا ص68-71. (6) حقيقة السنة النبوية ص 7، وانظر: أضواء على السنة المحمدية لمحمود أبو رية ص39 وما بعدها. (7) حقيقة السنة النبوية ص 9.

ثم يفترى كذباً بنسبة ذلك الرفض، والخلاف إلى الفقهاء بقوله: "إن الأحاديث المستقلة بتشريع عن القرآن هى محل نظر، وبحث، وأخذ، ورد، بين الفقهاء، وهى التى ميزت المذاهب الفقهية عن بعضها، ووسعت دائرة الخلاف بين المسلمين، ويجب على علماء المسلمين أن يقبلوا من السنة: (أ) النوع المفسر، (ب) النوع الموافق. وذلك لتقيل الخلافات بين المسلمين (1) . ولم يسم لنا من هم المسلمون الذين اختلفوا؟ ونفس هذا الكذب ردده فى كتابه (دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى) إذ يقول: "إذا كانت الآية القرآنية تدل على حكم. ووجد فى الأحاديث: أ- حديث موافق للآية. ب- وحديث غير موافق. ... ففى هذه الحالة يجب على الفقيه أن يأخذ بالحديث الموافق للآية، ويترك الحديث غير الموافق للآية، وإن كان صحيح السند من رواية مسلم بن الحجاج" (2) . ... وهو فى كل هذا الذى يزعمه كذباً يتمسح بكلام الإمام الشاطبى فى الموافقات، موهماً بأن الإمام الشاطبى يقول بكذبه (3) .

_ (1) المصدر السابق ص 15. (2) دفع الشبهات ص 65، 66. (3) انظر: حقيقة السنة ص 10، ودفع الشبهات ص 60 هامش.

تمسح دعاة الفتنة وأدعياء العلم بإيمانهم بالسنة البيانية

تمسح دعاة الفتنة وأدعياء العلم بإيمانهم بالسنة البيانية وبيان مرادهم وهدفهم من ذلك ... التمسح بالإيمان بالسنة البيانية بالمفهوم الذى قال به أحمد حجازى السقا ردده (دعاة على أبواب جهنم) ممن هم من جلدتنا، ويتكلمون بلغتنا، وينتسبون إلى أمتنا الإسلامية. مثل إسماعيل منصور إذ يقول: "إن السنة الحقة هى سنة واحدة، سنة الله عز وجل، وليست هناك سنة أخرى غيرها، وإنما للرسول صلى الله عليه وسلم، بيان نبوى للقرآن الكريم "نرفعه على العين والرأس متى ثبت تحقيقاً، لا يخالف - بأى حال - أحكام ومدلولات القرآن الكريم (1) فنقبله كبيان فحسب وليس تشريعاً مستقلاً" (2) . ... ثم يصف قيمة السنة البيانية بقوله: "إنها للاستئناس لا للاستدلال، وللبيان لا للإثبات، الأمر الذى يجعل الآخذين بها والرافضين لها -أمام الشرع-على حدٍ سواء. فلا إلزام لأى طرف منهما على قبول رأى الآخر، فالآخذ بها فعله مقبول، والرافض لها فعله مقبول كذلك" (3) ... ويقول الرافضى صالح الوردانى: "القرآن هو المصدر الوحيد الذى نمسك به بين أيدينا وليس محل خلاف، وما دونه من المصادر هى محل خلاف بين المسلمين، وعلى رأسها مصدر السنة أو الأحاديث، وحيث إن السنة هى تبيين للقرآن فإن هذا التبيين إنما يكون فى حدود القرآن ولا يتجاوزه، وإذا ما تبين لنا أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هى تبليغ ما يوحى إليه من ربه فلا يجوز للرسول أن يضيف أحكاماً فوق أحكام القرآن، فمهمته تنحصر فى تبليغ القرآن، وتبيينه للناس، وتنتهى هذه المهمة بوفاته" (4) .

_ (1) بلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمين ص 21. (2) المصدر السابق ص 24، وانظر: مجلة المنار المجلد 9/908، 924 مقال الدكتور توفيق صدقى (الإسلام هو القرآن وحده) (3) تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 663. (4) الخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة ص 40، 41 بتصرف، وانظر: له أيضاً أهل السنة شعب الله المختار ص 79، 80.

نماذج من الأحاديث التى استقلت السنة النبوية بتشريعها

ويقول أيضاً: "إن الرسول إنما كان يدعوا دائماً إلى التمسك بهدى القرآن وحكمه، لا بهديه وحكمه هو. فهو وظيفته التبيين والتبليغ فقط" (1) . ثم أخذ يجحد ما استقلت بتأسيسه السنة من أحكام. مثل تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وحد الردة، ونكاح المتعة، وغير ذلك الكثير مما استقلت به السنة (2) . وللمنكرين حجية السنة المطهرة، واستقلالها بتشريع الأحكام نقول لهم ما قاله العلامة الشوكانى: "إن ثبوت حجية السنة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف فى ذلك إلا من لاحظ له فى دين الإسلام" (3) . نماذج من الأحاديث التى استقلت السنة النبوية بتشريعها ... أسهب الإمام ابن قيم الجوزية-رحمه الله-فى أعلام الموقعين، فى ذكر الأحكام المستقلة الثبوت بالسنة (4) ، وقال: "أحكام السنة التى ليست فى القرآن إن لم تكن أكثر منها، لم تنقص عنها، فلو ساغ لنا رد كل سنة زائدة كانت على نص القرآن لبطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها إلا سنة دل عليها القرآن، وهذا هو الذى أخبر النبى صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع ولابد من وقوع خبره" (5) . ومن أمثلة ما استقلت السنة المطهرة بتشريعه، وأنكره أعداء الإسلام، والسنة المطهرة:

_ (1) دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص 129. (2) انظر: المصادر السابقة فى نفس الأماكن. (3) إرشاد الفحول 1/158. (4) انظر: أعلام الموقعين 2/287-290. (5) انظر: المصدر السابق 2/290.

1- تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها (1) ، وتحريم الحمر الأهلية (2) وكل ذى ناب من السباع، وكل ذى مخلب من الطير (3) ، وأنه يحرم من الرضاعة

_ (1) سبق تخريجه ص 228، وانظر: نيل الأوطار 6/146، وسبل السلام 3/998 ومنزلة السنة من الكتاب ص 304، ومن التوجيهات النبوية للأسرة الإسلامية لفضيلة الأستاذ الدكتور سعيد صوابى ص10-54. (2) سبق تخريجه ص445، وانظر: نيل الأوطار 8/113، وسبل السلام 1/49، 3/1002، 4/1387. (3) سبق تخريجه ص 445، وانظر: نيل الأوطار 8/115، وسبل السلام 4/1385، 1386.

ما يحرم من النسب" (1) وأنه لا يقتل مسلم بكافر (2) ، وحد شارب الخمر (3) ، وحد الرجم (4) ، وحد الردة (5) ، والنهى عن زواج المتعة (6)

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب النكاح، باب (وأمهاتكم اللآتى أرضعنكم) 9/43 رقم 5100، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة 5/278 رقم 1447 من حديث ابن عباس - رضى الله عنهما - وانظر: نيل الأوطار 6/317، وسبل السلام 3/1151، والموافقات 4/423، ومنزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص 295 -297. (2) جزء من حديث طويل أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجهاد، باب فكاك الأسيرة وغيره 6/193 رقم 3047 من حديث على بن أبى طالب رضي الله عنه. وانظر: نيل الأوطار 7/8، وسبل السلام 3/1188. (3) الحديث أخرجه الترمذى فى سننه كتاب الحدود، باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه ومن عاد فى الرابعة فاقتلوه 4/39 رقم 1444 من حديث معاوية وجابر -رضى الله عنهما–وانظر: نيل الأوطار 7/138،وسبل السلام4/1311 وما بعدها، ومنزلة السنة من الكتاب ص286. (4) الحديث سبق تخريجه ص222، وسيأتى دفاع الشاطبى عن المنكرين للحد قريباً، وانظر: نيل الأوطار 7/86، وسبل السلام 4/1267 وما بعدها، ومنزلة السنة من الكتاب ص 273 وما بعدها. (5) الحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله 6/173 رقم 3017 من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وانظر: نيل الأوطار 7/190. ومنزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص 289 وما بعدها. (6) ففى الحديث عن على رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى، عن نكاح المتعة، يوم خيبر، وعن لحوم الحمرالأهلية" أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب المغازى، باب غزوة خيبر 7/549 رقم 4216. ومسلم (بشرح النووى) كتاب النكاح، باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة 5/198، 199 رقم 1407، وانظر: نيل الأوطار 6/133، وسبل السلام 3/1001، والموافقات 3/96.

ماذا قال الإمام الشاطبى فى الأحكامالتى استقلت السنة بتأسيسها؟

وغير ذلك الكثير والكثير، مما استقلت السنة المطهرة بتشريعة، وجاء متواتراً (1) . ماذا قال الإمام الشاطبى فى الأحكامالتى استقلت السنة بتأسيسها؟ ... أحب هنا أن نذكر كلام الإمام الشاطبى فى بعض الأحاديث السابقة، وكيف أقر بتأسيس السنة أحكاماً زائدة على ما فى القرآن الكريم، ولكنه لم يسم ذلك استقلالاً كما سماه الجمهور، وإنما سماه بياناً، وأدخله تحت قواعد القرآن الكريم وأقر بحجيته، ووجوب العمل به، وهو ما نازع فيه من استشهد بكلامه. مما يؤكد ما سبق أن ذكرناه أن بعض علمائنا الأجلاء أساء فهم كلام الإمام الشاطبى، كما اتخذ بعض أعداء السنة المطهرة كلامه ستاراً للتشكيك فى حجية السنة، ومكانتها التشريعية. ... يقول الإمام الشاطبى - رحمه الله -: "إن الله تعالى حرم الجمع بين الأم وابنتها فى النكاح، وبين الأختين، وجاء فى القرآن: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (2) فجاء نهيه صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها من باب القياس، لأن المعنى الذى لأجله ذم الجمع بين أولئك موجود هنا: وقد روى فى هذا الحديث: "فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" والتعليل بشعر بوجه القياس" (3) . ...

_ (1) انظر: فى تواتر الأحاديث السابقة، نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتانى، واتحاف ذوى الفضائل المشتهرة بما وقع فى نظم المتناثر لعبد العزيز الغمارى، ضمن مجموعة الحديث الصديقية. (2) جزء من الآية 24 من سورة النساء. (3) الموافقات 4/422 وما بعدها، وانظر: نيل الأوطار 6/148.

.. ويقول أيضاً فى كتابه الاعتصام باب بيان معنى الصراط المستقيم الذى انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان. قولهم (1) : "إن الحديث جاء بأن المرأة لا تنكح على عمتها، ولا على خالتها، وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، والله تعالى لما ذكر المحرمات لم يذكر من الرضاع إلا الأم والأخت، ومن الجمع إلا الجمع بين الأختين، وقال بعد ذلك: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (2) فاقتضى أن المرأة تنكح على عمتها وعلى خالتها، وإن كان رضاع سوى الأم والأخت حلالاً. ... وهذه الأشياء من باب تخصيص العموم لا تعارض فيه على كل حال" (3) . فتأمل كيف سمى ذلك الحكم الزائد فى السنة تخصيصاً لعموم القرآن الكريم، ولم يسمه استقلالاً كما سماه جمهور العلماء؛ فكان الخلاف لفظياً.

_ (1) يحكى الإمام هذا الكلام عن أهل الابتداع قديماً، وتابعهم حديثاً أحمد حجازى السقا فى كتابه حقيقة السنة النبوية ص9، ودفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص7،60، 198،والسنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص 254، والخدعة لصالح الوردانى ص 41، وانظر له أيضاً أهل السنة شعب الله المختار ص80، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص130،131،ولماذا القرآن لأحمد صبحى منصور ص 62 - 66، ودين السلطان لنيازى عز الدين ص 908 وما بعدها. (2) جزء من الآية 24 من سورة النساء. (3) الاعتصام 2/560، وفى كتابه الموافقات قال: "أن ما يحرم من الرضاع يحرم من النسب" بيان نبوى ملحق بقوله تعالى:"وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ" جزء من الآية23 من سورة النساء فألحق بهاتين سائر القربات من الرضاعة التى يحرمن من النسب كالعمة والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، وأشباه ذلك أ. هـ. انظر: الموافقات 4/424.

.. وانظر كيف أخذ بهذا الحكم الزائد، ولم يأخذ به من استشهد بكلامه موهماً أنه لا يأخذ به، فأساء فى فهم كلام الإمام، وأساء فى النقل عنه كما مر. ... وعن الأحكام الزائد فى السنة المطهرة، مثل تحريم الحمر الأهلية، وكل ذى ناب من السباع، وكل ذى مخلب من الطير. قال عن الأحكام السابقة: "إن الله تعالى أحل الطيبات وحرم الخبائث، وبقى بين هذين الأصليين أشياء يمكن لحاقها بأحدهما، فبين (1) عليه الصلاة والسلام، فى ذلك ما اتضح به الأمر، فنهى عن أكل كل ذى ناب من السباع، وكل ذى مخلب من الطير، ونهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وقال إنها رجس (2) : وسئل ابن عمر عن القنفد فتلا قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (3) فقال له شيخ عنده سمعت أبا هريرة: يقول ذكر عند النبى صلى الله عليه وسلم: فقال:"خبيثة من الخبائث" فقال ابن عمر: إن كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو كما قال مَا لَمْ نَدْرِ" (4) .

_ (1) انظر: كيف آمن بهذا الحكم الزائد بياناً وأنكره المبتدعة. أمثال جمال البنا فى السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 254، وأحمد حجازى السقا فى دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص 7، 61، 198، وحقيقية السنة النبوية ص 9، ونيازى عز الدين فى دين السلطان ص 905 وما بعدها. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المغازى، باب غزوة خيبر 7/534 رقم 4198 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (3) الآية 145 من سورة الأنعام. (4) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الأطعمة، باب فى أكل حشرات الأرض 3/354 رقم 3799، وانظر: الموافقات 4/414 - 415، ونيل الأوطار 8/117، وسبل السلام 4/1393.

.. وعن حديث على بن أبى طالب مرفوعاً "لا يقتل مسلم بكافر" يقول الإمام الشاطبى: "وأما أن لا يقتل مسلم بكافر" فقد انتزعها العلماء من الكتاب، كقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (1) … ويمكن أن يؤخذ حكم المسألة مأخذ القياس، لأن الله تعالى قال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (2) فلم يقده من الحر للعبد، والعبوديةُ من آثار الكفر فأولى أن لا يُقاد من المسلم للكافر" (3) . فانظر كيف أخذ بالسنة الزائدة على أنها بيانية على قاعدته ومصطلحه. ورغم ذلك وجد من يطعن فى الحديث (4) بحجة مخالفته للقرآن: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (5) .

_ (1) الآية 141 من سورة النساء. (2) جزء من الآية 178 من سورة البقرة. (3) الموافقات 4/432، وانظر: فواتح الرحموت 1/298، والتقرير والتحبير 1/232، ونيل الأوطار 7/8، وسبل السلام 3/1188، وقال الإمام الزركشى: "إن حديث عدم قتل المسلم بالذمى= =متواتر عند الشافعية دون الحنفية" وما تواتر عند الكافة، وعند أهل الصناعة، منكره معاند كافر كمنكر القرآن" انظر: البحر المحيط فى أصول الفقه 4/247. (4) انظر: البيان بالقرآن لمصطفى المهدوى 1/432، ودفع الشبهات عن الشيخ الغزالى لأحمد حجازى السقا ص 151 وما بعدها. (5) جزء من الآية 45 من سورة المائدة.

ويقول الإمام الشاطبى فى حد الرجم: "قولهم (1) : هذا مخالف لكتاب الله عز وجل، لأنه قضى بالرجم والتغريب، وليس للرجم ولا للتغريب فى كتاب الله ذكر، فإن كان الحديث باطلاً فهو ما أردنا، وإن كان حقاً فقد ناقض كتاب الله بزيادة الرجم والتغريب. يقول الإمام الشاطبى رداً على دعوى المخالفة: فهذا اتباع للمتشابه، لأن الكتاب فى كلام العرب، وفى الشرع يتصرف على وجوه منها الحكم، والفرض كقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (2) ، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (3) وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} (4) ، فكان المعنى: لأقضين بينكما بكتاب الله، أى بحكم الله الذى شرع لنا، ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم فى القرآن، كما أن الكتاب يطلق على القرآن، فتخصيصهم الكتاب بأحد المحامل، من غير دليل اتباع لما تشابه من الأدلة" (5) .

_ (1) يحكى الإمام هذا الكلام عن أهل الابتداع قديماً، وحديثاً تابعهم رشاد خليفة فى "القرآن والحديث والإسلام" ص 39. وأحمد حجازى السقا فى دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص 108، وغيرهم ممن سيأتى ذكرهم قريباً. (2) جزء من الآية 24 من سورة النساء. (3) جزء من الآية 183 من سورة البقرة. (4) جزء من الآية 77 من سورة النساء. (5) الاعتصام 1/199، 200، 2/558، 559، ومزيد من الرد انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 88، 177، ومع الشيعة الإثنى عشرية فى الأصول والفروع للدكتور على السالوس 1/96،115،وضلالات منكرى السنة لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص295وما بعدها، والسنة بياناً للقرآن للدكتور إبراهيم الخولى ص23 وما بعدها.

.. ثم قال الإمام الشاطبى: "وقول من زعم (1) أن قوله تعالى فى الإماء: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (2) لا يعقل مع ما جاء فى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم رجم، ورجمت الأئمة بعده؛ لأنه يقتضى أن الرجم ينتصف، وهذا غير معقول، فكيف يكون نصفه على الإماء؟ هذا ذهاباً منهم إلى أن المحصنات هن ذوات الأزواج، وليس كذلك، بل المحصنات هنا المراد بهن الحرائر، بدليل قوله أول الآية: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (3) وليس المراد هنا إلا الحرائر؛ لأن ذوات الأزواج لا تنكح" (4) أ. هـ. وبعد

_ (1) حكاية منه عن أهل الابتداع قديماً، وتابعهم حديثاً. توفيق صدقى فى مقاله "الإسلام هو القرآن وحده"، انظر: مجلة المنار المجلد 9/523، 524، وأحمد حجازى السقا فى كتابيه إعجاز القرآن" ص 79، ودفع الشبهات ص 108، والسيد صالح أبو بكر فى الأضواء القرآنية ص 313،314، ومصطفى المهدوى فى البيان بالقرآن 1/334، 356، ونيازى عز الدين فى دين السلطان ص948 وما بعدها، وأحمد صبحى منصور فى لماذا القرآن ص112 وغيرهم. (2) جزء من الآية 25 من سورة النساء. (3) الآية 25 من سورة النساء. (4) الاعتصام 2/509، 560، وانظر: نظرة القرآن إلى الجريمة والعقاب للدكتور محمد عبد المنعم القيعى، وعقوبة الحد فى ضوء القرآن الكريم وأثرها فى إصلاح المجتمع للدكتور محمد زواوى عبد الله، ومنهاج السنة فى الحدود وأثره فى صلاح المجتمع للدكتور عبد المنعم عطية.

مضار إنكار السنة النبوية

إن الأحكام التى انفردت بها السنة كثيرة. وكلها تعطى الدليل الأكيد على أن السنة لها صلاحية تأسيس الأحكام على سبيل الاستقلال - فهى فى ذلك مثل القرآن الكريم، وما شرعته السنة حجة يجب العمل به مثل القرآن الكريم تماماً، وعلى هذا انعقد إجماع من يعتد به من علماء الأمة قديماً وحديثاً. ... والذى يقبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما يقبل أيضاً عن الله تعالى لأن الله تعالى؛ هو الذى أوجب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال سبحانه: {وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) . ... يقول الإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعى -فى كتابه الرائع الرسالة بأسلوبه الفصيح البليغ: "وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم: فبحكم الله سنه.وكذلك أخبرنا الله فى قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} (2) وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسن فيما ليس فيه بعينه نص كتاب، وكل ما سن فقد ألزمنا اتباعه" (3) ،والانتهاء إلى حكمه. فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل" (4) أ. هـ. مضار إنكار السنة النبوية ... إن الاعتداء على السنة النبوية بإنكارها والتشكيك فى حجيتها يفتح أبواب شر تقوض بنيان الإسلام وذلك لما يلى: أولاً: أن الأحكام الشرعية العلمية الأصولية "العقائد" يتوقف بنيانها وتفاصيلها على السنة النبوية بعد، ومع القرآن الكريم، فإنكار السنة النبوية يهدد العقائد بالبتر والإبهام، فيمس ما يتعلق بالإلهيات، والنبوات، والسمعيات، وما سوى ذلك من مسائل العقائد…، فهل يقام دين على عقائد مبتورة مبهمة؟

_ (1) الآية 7من سورة الحشر. (2) جزء من الآيتين 52، 53 من سورة الشورى. (3) الرسالة للشافعى ص 88 فقرات رقم 292، 293، 294. (4) المصدر السابق ص 22 فقرة رقم 58.

ثانياً: القضاء على أصول الأحكام الشرعية العملية "أصول الفقه الإسلامى" لأن هذا العلم يتصدى للأدلة التى تبنى عليها الأحكام، وقد أجمع الأصوليون على أن السنة النبوية المصدر الثانى للتشريع الإسلامى، وعلى هذا فإنكار السنة النبوية يجعل الفقه الإسلامى فى مهب الرياح لعدم ارتكازه على أدلة ولافتقاره إلى أسس. ثالثاً: تحطيم فقه الفروع (المذهبى والمقارن) ؛ لأن جل المسائل الفقهية والوقائع تستند إلى السنة النبوية إما بالبيان والإيضاح كمواقيت وأعداد وهيآت الصلوات المفروضة. وإما بالاستقلال مثل كفارة من أفسد صوم رمضان، وعقوبتى شارب المسكر والمرتد، وأسس الجهاد، والآداب والسلوكيات وفضائل الأعمال وغير ذلك مما سبق ذكره. رابعاً: تشويه علوم القرآن الكريم لاستنادها فى كثير من قضاياها على السنة النبوية، وتهديد علم التفسير لارتكازه فى جل ما يعرض له على السنة النبوية وهكذا: بإنكار السنة النبوية تمسى الأمة بغير تشريع واضح المعالم قوى الدلالة، فقد تعرض أصول التشريع، وفروعه للاهتراء وللاجتراء. ... إن إنكار السنة النبوية يمهد السبل للتشكيك فى القرآن نفسه، وتعطيل الآيات التى تحث وتحض على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخاذه قدوة وتحكيمه والرضا بحكمه وإيثار طاعته على ما سواه" (1) . ... إن الطعن فى السنة النبوية هدم للإسلام فى عقائده، وعباداته، ونظمه، وأخلاقه، وهدم لوحدته وسبب فى تخلف المسلمين عن ركب الحضارة ".

_ (1) السنة النبوية للدكتور أحمد محمود كريمة ص 27، 28.

حكم منكر السنة النبوية

يقول الأستاذ محمد أسد: "لقد كانت السنة مفتاحاً لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، فلماذا لا تكون مفتاحاً لفهم انحلالنا الحاضر؟ إن العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وإن ترك السنة هو انحلال الإسلام (1) ، وهذا ما يخطط له أعداء الإسلام سواء الظاهرون العداوة له المتظاهرون عليه أو اللابسون عباءته بهتاناً وزوراً! أ. هـ. حكم منكر السنة النبوية ... يقول الإمام محمد بن الحسين الآجرى (2) فى كتابه الشريعة: "جميع فرائض الله عز وجل التى فرضها الله جل وعلا فى كتابه، لا يعلم الحكم فيها، إلا بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا قول علماء المسلمين، من قال غير هذا خرج عن ملة الإسلام، ودخل فى ملة الملحدين" (3) . ... وقال الإمام ابن حزم: "ولو أن امرءاً قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا فى القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو: أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر فى ذلك. وقائل هذا أو نحوه كافر مشرك، حلال الدم والمال، وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم (4) .

_ (1) الإسلام على مفترق الطرق للأستاذ محمد أسد ص 87. (2) الآجرى هو: الإمام، الحافظ، المحدث، القدوة، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادى، صاحب "الشريعة - فى السنة -" و "الأربعين" كان عالماً عاملاً صاحب سنة ديناً ثقة. مات سنة 360هـ. له ترجمة فى: طبقات الحفاظ للسيوطى ص 379 رقم 856، وتذكرة الحفاظ 3/936 رقم 888، والبداية والنهاية لابن كثير 11/288، والعبر 2/318، ووفيات الأعيان 1/488، والفهرست ص 360. (3) الشريعة ص 50. (4) الإحكام فى أصول الأحكام 2/214 بتصرف يسير.

.. وقال الحافظ السيوطى: "فاعلموا رحمكم الله أن من ينكر كون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف فى الأصول حجة، كفر وخرج عن دائرة الإسلام، وحشر مع اليهود والنصارى، أو مع من شاء من فرق الكفرة (1) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة ص 14، ورغم كل هذه الأقوال وغيرها كثير ترى أحمد حجازى السقا فى كتابه دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى يذهب إلى أن إنكار الأحاديث كلها لا يكفر" انظر: دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص 77، والاستزادة فى حكم منكر السنة انظر: جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/33، والسنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص149 - 151، وحجية السنة للدكتور عبد الغنى ص 252 - 255، والسنة النبوية للدكتور أحمد كريمة ص 79.

الفصل الثانى وسيلتهم: فى التشكيك فى حجية خبر الآحاد

الفصل الثانى: وسيلتهم فى التشكيك فى حجية خبر الآحاد وتحته تمهيد وأربعة مباحث: المبحث الأول: التعريف بالمتواتر، وبيان كثرة وجوده ودرجة ما يفيده من العلم، وحكم العمل به، وحكم جاحده. المبحث الثانى: التعريف بالآحاد، وبيان درجة ما يفيده من العلم، وحجيته، ووجوب العمل به. المبحث الثالث: منكروا حجية خبر الواحد قديماً وحديثاً استعراض شبههم والرد عليها. المبحث الرابع: شروط حجية خبر الواحد، ووجوب العمل به عند المحدثين والرد على شروط المعتزلة ومن قال بقولهم قديماً وحديثاً. تمهيد ... إذا كان الذين ينكرون حجية السنة عامة، قلة قليلة خالفت المسلمين أجمع، وأنكرت ما هو معلوم من الدين بالضرورة - فإن خطورتهم من أجل هذا لم تكن كبيرة، ولم تكن مثل خطورة من أنكروا أخبار الآحاد، فهم أكثر منهم عدداً، ولهم شبههم، التى اتخذوها وسيلة للطعن فى حجية السنة عامة، وشبههم فى هذه الوسيلة من الممكن أن تنطلى على كثير من الناس لو تركت وشأنها. وقبل أن نتعرض لتفنيد شبهاتهم. نذكر أولاً ما اصطلح عليه جمهور العلماء من تقسيم السنة من حيث السند، وعدد الرواة فى كل طبقة إلى متواتر (1) ، وآحاد (2) معرفين بكل قسم لغة، واصطلاحاً، ودرجة ما يفيده من العلم، وحجيته، ووجوب العمل به. فإلى بيان ذلك فى المباحث التالية: المبحث الأول التعريف بالمتواتر وبيان كثرة وجوده، ودرجة ما يفيده من العلم، وحكم العمل به، وحكم جاحده أولاً: التعريف بالمتواتر لغة واصطلاحاً: المتواتر لغة: مجئ الواحد إثر الواحد بفترة بينهما، وذلك مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} (3) . أى متتابعين رسولاً بعد رسول بينهما فترة.

_ (1) يطلق عليه الإمام الشافعى (علم العامة) أو (علم الإحاطة) انظر: الرسالة ص 478 فقرة رقم 1329 (2) يسميه الشافعى (علم الخاصة) انظر: الرسالة ص 478 فقرة رقم 1330. (3) الآية 44 من سورة المؤمنون.

ثانيا: اختلاف العلماء فى وجود المتواتر:

.. فالمواترة المتابعة، ولا تكون بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة، وإلا فهى مداركة ومواصلة (1) .والخلاصة أن التواتر هو: التتابع مع التراخى، أو بدون التراخى، والأول أقوى. ... أما فى الاصطلاح: فقد عرفه العلماء قديماً وحديثاً تعريفات كثيرة، ولعل من أجمعها وأمنعها ما عرفه به فضيلة الأستاذ الدكتور مصطفى أمين التازى - رحمه الله- بقوله: "هو ما رواه جمع كثير، يحيل العقل اتفاقهم على الكذب عادة أو صدوره منهم اتفاقاً، عن مثلهم، فى كل طبقة من طبقاته، وأن يكون مستند انتهائهم الحس، ويصحب خبرهم إفادة العلم بنفسه لسامعه (2) . ثانياً: اختلاف العلماء فى وجود المتواتر: ... يقول فضيلة الأستاذ الدكتور (مصطفى التازى) - رحمه الله -: "لا خلاف فى أن الأخبار المتواترة تقع كثيراً فى حياة دنيا الناس اليومية، ففى كل يوم نسمع عن حادثة تقع فى ناحية من النواحى النائية، أو نسمع بتصريح يصدر عن مسئول فى بلد من البلاد فتطير به وكالات الأنباء وتذيعه جميع الإذاعات فى أنحاء العالم فينتشر الخبر بين الناس ويعلم به القريب والبعيد على سواء، ثم لا يكذب من أحد، فيحصل به العلم الجازم عند سامعيه، بصحة الخبر ونسبته إلى قائليه، ولا شك أن هذا من الأخبار المتواترة التى استوفت شروط التواتر، وإنما الخلاف بين العلماء فى وجود الخبر المتواتر فى السنة النبوية، وقد ذهبوا فى هذا الخلاف إلى ثلاثة مذاهب:

_ (1) انظر: القاموس المحيط 2/150،151، ومختار الصحاح ص707، 708، والمصباح المنير2/647. (2) مقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/7 وانظر: نزهة النظر لابن حجر ص 17، والإحكام للآمدى 2/14، 15، والبحر المحيط 4/231، وإرشاد الفحول 1/200، والإبهاج فى شرح المنهاج 2/285، والحصول للرازى 2/108، وانظر: قواعد التحديث للقاسمى ص146.

1- المذهب الأول: وعليه ابن حبان والحازمى وغيرهما أن الحديث المتواتر فى السنة المستوفى لشروط التواتر لا وجود له بالمرة، وإنما الموجود منه هو الحديث الآحاد الذى قد يبلغ درجة الاستفاضة والشهرة (1) . 2- المذهب الثانى: أن الحديث المتواتر فى السنة نادر قليل يعز وجوده، وعليه الحافظ أبو عمرو المعروف بابن الصلاح حيث يقول فى مقدمته علوم الحديث: "ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه" (2) . 3- المذهب الثالث: وهو مذهب الجمهور أن الحديث المتواتر فى السنة له وجود كثير، وأيد ذلك بأنه يوجد بالفعل أحاديث متواترة كثيرة فى كتب الحديث المشهورة، مثل الكتب الستة والمسانيد، وغيرها، وهذه الكتب قد انتشرت واشتهرت بين أهل العلم وقطعوا بصحة نسبتها إلى أصحابها الذين صنفوها وألفوها، وكثيراً ما تجتمع هذه الكتب، وتتفق على إخراج أحاديث قد تعددت طرقها فىكل طبقات رواتها تعدداً يحيل العقل تواطؤهم على الكذب عادة أو صدوره منهم اتفاقاً، وقد انتهت إلى قول من أقوال الرسول، أو فعل من أفعاله، أو بيان حالة من حالاته. ... وقد أفادنا اجتماعها العلم بصحة نسبة هذه الأحاديث إلى قائلها، ولا شك أن ذلك هو الحديث المتواتر المستوفى لشروطه التى سبق ذكرها.

_ (1) شروط الأئمة الخمسة للحازمى ص 31، 32، 37. (2) علوم الحديث ص 162.

وقد نص على هذا الحافظ ابن حجر فقال فى شرحه على نخبة الفكر: "ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجوداً وجود كثرة فى الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدى أهل العلم شرقاً وغرباً المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث، وقد تعددت طرقه تعدداً تحيل العادة تواطؤهم على الكذب إلى آخر الشروط أفاد العلم اليقينى بصحته إلى قائله، ومثل ذلك فى الكتب المشهورة كثير (1) أ. هـ. ... وقد رد الجمهور على أصحاب المذهبين الأولين القائلين بعدم وجود الحديث المتواتر، أو بعزة وجوده، بأن قولهما إنما نشأ من الآتى: عدم معرفة طرق الأحاديث وعدم الوقوف على أحوال رواتها وصفاتهم. وإما لعدم إطلاعهم عليها. وإما لعدم استيعابهم ذلك، وقصر باعهم عن الوقوف عليها. ولو عرفوا ذلك لعلموا أن هناك أحاديث كثيرة ينطبق عليها شروط التواتر (2) . ... ويمكن الجمع بين هذه المذاهب الثلاثة بما يلى: أولاً: أن القائلين بعدم وجود الحديث المتواتر إنما أرادوا المبالغة فى بيان قلته وندرة وجوده، وبذلك عاد أصحاب المذهب الأول إلى المذهب الثانى.

_ (1) نزهة النظر ص 19، وانظر: تدريب الراوى 2/178 - 179، والبحر المحيط 4/248، والمدخل إلى السنة النبوية لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد المهدى عبد القادر ص 331. (2) انظر: طعن فضيلة الشيخ شلتوت - رحمه الله - فى هذا الرأى تحت عنوان "الإسراف فى وصف الأحاديث بالتواتر وأسبابه" الإسلام عقيدة وشريعة ص 62 - 65.

ثانياً: يجمع بين المذهب الثانى القائل بعزة وجود الحديث المتواتر، ومذهب الجمهور القائل بكثرة وجوده، بأن القائلين بعزته إنما أرادوا الأحاديث المتواترة تواتراً لفظياً، وأن القائلين بكثرته إنما أرادوا الأحاديث المتواترة تواتراً معنوياً، وهذا حق؛ لأن المتواتر لفظاً قليل، وأهل الحديث لا يكادون يتفقون إلا على القليل منه، والمتواتر معنى كثير" (1) أ. هـ.

_ (1) وبذلك قال شارح مسلم الثبوت 1/120 وما بعدها، وانظر: مقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/19 - 22، ودراسات أصولية فى السنة ص 161، وانظر: أمثلة على الأحاديث المتواترة فى الأزهار المتناثرة فى الأخبار المتواترة للسيوطى، ونظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتانى، وإتحاف ذوى الفضائل المشتهرة بما وقع من الزيادة فى نظم المتناثر على الأزهار المتناثرة للسيد عبد العزيز بن محمد بن الصديق الغمارى، ضمن مجموعة الحديث الصديقية.

ثالثا: ما يفيد المتواتر من العلم:

ثالثاً: ما يفيد المتواتر من العلم: ... قام الإجماع على أن الخبر المتواتر يفيد العلم، وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، لا لاعتقاد المعتقد، وشذ عن الإجماع بعض الفرق؛ مثل البراهمة (1) والسُمَنية (2) ، والنظام من المعتزلة على ما حكاه عنه البغدادى فى أصول الدين (3) . ... فزعموا أن الأخبار ليست طريقاً لإفادة العلم، وإنما العلم سبيله؛ إما الحس، وإما أن يكون من الضروريات، وهو زعم باطل، ورأى فاسد لا يعتد به، قام الدليل على خلافة. وقد تعرض للرد عليهم الإمام الآمدى فى كتابه "الإحكام فى أصول الأحكام" فقال: "اتفق الكل على أن الخبر المتواتر يفيد العلم خلافاً للسُمَينة والبراهمة، فى قولهم لا علم فى غير الضروريات إلا بالحواس دون الأخبار وغيرها. ودليل ذلك ما يجده كل عاقل من نفسه من العلم الضرورى بالبلاد النائية، والأمم السالفة، والقرون الخالية، والملوك، والأنبياء، والأئمة، والفضلاء المشهورين والوقائع الجارية بين السلف الماضين، بما يرد علينا من الأخبار حسب وجداننا كالعلم بالمحسوسات عند إدراكنا لها بالحواس. ومن أنكر ذلك فقد سقطت مكالمته وظهر جنونه أو مجاحدته" (4) .

_ (1) البراهمة: قوم ينكرون الرسالة، ويعبدون الله عبادة مطلقة، لا من حيث إرسال نبى، ولا رسول معين، وينكرون الأنبياء والمرسلين مطلقاً، ويزعمون أنهم أولاد إبراهيم عليه السلام، ومنهم جماعة فى الهند يعبدون الأوثان. انظر: كشاف اصطلاحات الفنون1/215، وفواتح الرحموت 2/113. (2) السُمُينة: بضم السين وفتح الميم، نسبة إلى "سومان" وهم قوم من عبدة الأصنام، يقولون بالتناسخ، وبأنه لا طريق للعلم سوى الحس. انظر:كشاف اصطلاحات الفنون 4/52، وكشف الأسرار 2/262، وفواتح الرحموت 2/113. وانظر: فى الرد على شبهاتهم فواتح الرحموت 1/113، وتوجيه النظر ص 57، 64، ومقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/24-28. (3) أصول الدين ص 20. (4) الإحكام للآمدى 2/15، وانظر: مقاصد الحديث للدكتور مصطفى التازى 2/22.

ويقول الإمام الشوكانى: "واعلم أنه لم يخالف أحد من أهل الإسلام، ولا من العقلاء فى أن خبر التواتر يفيد العلم الضرورى، وما روى من الخلاف فى ذلك عن السُمَنية، والبراهمة فهو خلاف باطل، لا يستحق قائله الجواب عليه" (1) . وهذا ما نقوله لأهل الزيغ والإلحاد المنكرين للمتواتر القولى من السنة النبوية (2) وجوداً، وحجية، قاصرين دعواهم كذباً ونفاقاً على الإيمان بالسنة العملية المتواترة (3) . نقول لهم: سقطت مكالمتكم وظهر جنونكم ومجاحدتكم ولا تستحقون الجواب عليكم.

_ (1) إرشاد الفحول 1/202. (2) انظر: مختصر الصواعق المرسلة 2/520. (3) انظر: "مقال الإسلام هو القرآن وحده" للدكتور توفيق صدقى فى مجلة المنار المجلد 9/517، 912، 924، ومقال النسخ فى الشرائع الإلهية المجلد 9/687، 688، وأضواء على السنة لمحمود أبو رية ص 39، 42، والأصلان العظيمان ص 303 وما بعدها، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 137 كلاهما لجمال البنا. وتبصير الأمة بحقيقة السنة لإسماعيل منصور ص 18، وعذاب القبر والثعبان الأقرع لأحمد صبحى ص 9، 16، 17، والإمام الشافعى لنصر أبو زيد ص 107، والسلطة فى الإسلام لعبد الجواد ياسين ص 210، 238 وغيرهم.

رابعا: حكم العمل بالحديث المتواتر:

رابعاً: حكم العمل بالحديث المتواتر: ... الخبر المتواتر عن النبى صلى الله عليه وسلم قولاً كان أو فعلاً أو تقريراً يفيد علم اليقين والقطع (1) ، ويجب العمل به بلا خلاف؛ لأنه يفيد القطع بثبوت نسبة الحديث إلى النبى صلى الله عليه وسلم من غير حاجة إلى البحث عن أحوال الرواة …، ولذلك لم يذكره من المحدثين، فى أبحاث علم الحديث دراية إلا القليل كالحاكم، والخطيب فى أوائل الكفاية (2) ،وابن عبر البر (3) ، وابن حزم (4) . وقال ابن الصلاح: إن أهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الخطيب قد ذكره ففى كلامه ما يشعر بأنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك كونه لا تشمله صناعتهم (5) . ...

_ (1) لأن درجة علم المتواتر ضرورية على ما رجحه الحافظ ابن حجر، ورد على من قال بأن درجة العلم نظرية. انظر: نزهة النظر ص 17، 18. (2) الكفاية، باب الكلام فى الأخبار وتقسيمها ص 50. (3) جامع بيان العلم 2/33. (4) الإحكام فى أصول الأحكام تقسيم الأخبار عن الله تعالى 1/102. (5) علوم الحديث ص 162، وانظر: فتح المغيث للسخاوى 3/37.

خامسا: حكم منكر المتواتر:

يقول فضيلة الدكتور مصطفى التازى: "ووجهتهم فى ذلك أن هذا العلم إنما يبحث عن أحوال الراوى والمروى ليعرف المقبول من الحديث فيعمل به، والمردود منه فلا يعمل به، والحديث المتواتر مقبول قطعاً مفيد للعلم يجب الأخذ به بدون توقف (1) ، وأجاب من ذكره فى أبحاث علم الحديث دراية بأنه ليس مقصوداً بالذات، وإنما ذكر لبيان الحكم عليه بالقبول، ووجوب العمل به (2) ، ولا شك أن من أهداف هذا العلم الحكم على الحديث بالقبول أو الرد، ولأن معرفة الحديث الآحاد إنما تكمل بذكر ما يقابله من الحديث المتواتر؛ فيتميز كل منهما عن الآخر، ويعرف حكمه. خامساً: حكم منكر المتواتر: واعلم أن من أنكر حديثاً متواتراً انعقد الإجماع على تواتره يخرج عن جماعة المسلمين (3) ،وإن لم ينعقد الإجماع على تواتره بل وقع الخلاف فيه يكون منكره من الفاسقين" (4) .

_ (1) مقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/24، وانظر: نزهة النظر ص15،والمكانة العلمية لعبد الرازق فى الحديث النبوى لفضيلة الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار 1/28-33، وانظر: شذوذ الدكتور أحمد حجازى السقا فى كتابه "دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى"، وزعمه أنه ليس من إجماع على العمل بالخبر المتواتر، دفع الشبهات ص 113. (2) انظر: نزهة النظر ص 15، ومقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/24. (3) انظر: البحر المحيط للزركشى 4/247، وأصول السرخسى 1/283، والمنهج الإسلامى فى الجرح والتعديل للدكتور فاروق حمادة ص362،وخبر الواحد فى السنة للدكتورة سهير رشاد ص15. (4) مقاصد الحديث فى القديم والحديث للدكتور مصطفى التازى 2/23، 24.

المبحث الثانى التعريف بالآحاد وبيان درجة ما يفيده من العلم

.. يقول الحافظ ابن عبد البر: "وأما أصول العلم فالكتاب، والسنة، وتنقسم السنة قسمين: أحدهما: إجماع تنقله الكافة عن الكافة فهذا من الحجج القاطعة للأعذار إذا لم يوجد هناك خلاف، ومن رد إجماعهم فقد رد نصاً من نصوص الله، يجب استتابته عليه، وإراقة دمه إن لم يتب، لخروجه عما أجمع عليه المسلمون، وسلوكه غير سبيل جميعهم (1) أ. هـ. المبحث الثانى التعريف بالآحاد وبيان درجة ما يفيده من العلم، وحجيته ووجوب العمل به أولاً: التعريف بالآحاد لغة واصطلاحاً: ... الآحاد لغة: جمع أحد بمعنى الواحد (2) ، وينطبق المعنى اللغوى لخبر الواحد على حقيقة اسمه فهو ما رواه فرد واحد. ... واصطلاحاً: هو ما لم يجمع شروط المتواتر (3) ، أو هو ما كان من الأخبار غير منته إلى حد التواتر (4) . والتعريفان بمعنى واحد، ومثلهما أيضاً تعريف فضيلة الدكتور مصطفى التازى قال: "هو ما رواه واحد أو أكثر، ولم يصل فى الكثرة إلى حد التواتر، أو وصل ولكن فقد شرطاً من شروطه" (5) . ... وينقسم الحديث الآحاد باعتبار عدد الرواة فى كل طبقة من طبقات إسناده إلى ثلاثة أقسام: (1) مشهور (2) عزيز (3) غريب (6) .

_ (1) جامع بيان العلم وفضله 2/33، 34. (2) انظر: القاموس المحيط 1/340، ومختار الصحاح ص 711. (3) نزهة النظر لابن حجر ص 22. (4) الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 2/31. (5) مقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/37. (6) انظر: فى التعريف بهذه الأقسام الثلاثة عند جمهور المحدثين المصدر السابق ص 38 -50، وانظر: نزهة النظر لابن حجر ص 19 - 24، ودراسات أصولية فى السنة النبوية للدكتور محمد الحفناوى ص 165 - 168.

.. وعلى هذا التقسيم الجمهور من المحدثين والفقهاء والأصوليين، إلا الحنفية فقد جعلوا المشهور قسيماً للآحاد (1) وليس قسماً منه كما يرى الجمهور. ... وعليه فالسنة عند الأحناف من حيث السند تنقسم إلى ثلاثة أقسام: (1) متواتر (2) مشهور (2) (3) آحاد (3) . ... والمشهور عند الأحناف يفيد علم الطمأنينة لا علم اليقين (4) ، وهذه المرتبة دون المتواتر (5) ، وفوق الآحاد. وهو عندهم فى درجة المتواتر من حيث صلاحيته لبيان القرآن الكريم بكل أنواع البيان السابقة، بما فى ذلك الزيادة على القرآن فهى مقبولة عندهم بالاتفاق، ولكن الأحناف يعتبرون الزيادة نسخاً للنص القرآنى (6) وهم لا يرفعون الآحاد إلى هذه الدرجة فى علاقته بالقرآن الكريم.

_ (1) انظر: مقارنة بين المشهور الحنفى، وخبر الآحاد عند الجمهور فى كتاب "هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا خبر الآحاد" للأستاذ مصطفى محمد سلامة ص 25 - 33. (2) انظر: فى التعريف به والأمثلة له عند الأحناف، فى المصدر السابق ص25 - 33، 35. (3) انظر: مقارنة بينة عند الأحناف، وعند الجمهور فى المصدر نفسه ص 48. (4) انظر: هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا خبر الآحاد ص29 وقال الأستاذ مصطفى محمد سلامة وهذا قول عامة الحنفية، ولهذا قالوا إن جاحده فقط يضلل (المصدر السابق ص33،40) ، وانظر: أصول السرخسى 1/293، أما الجصاص فىجماعة من الحنفية فقالوا، إنه يفيد العلم اليقينى وجاحده كافر، المصدر السابق ص32،40.ورغم إجماع الحنفية علىحجية المشهور، إلا أن عيسىبن أبان، أبى إلا أن يشذ، فقال، هو حجة بشرط عدم مخالفته للقياس.انظر هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا ص32. (5) انظر: الفرق بين المتواتر، والمشهور عند الأحناف، فى هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا ص 34. (6) انظر: أصول السرخسى 2/82، والمعتمد فى أصول الفقه 2/426، والإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 3/155.

ما يفيده خبر الآحاد من العلم عند الجمهور

ما يفيده خبر الآحاد من العلم عند الجمهور ... عرفنا فيما سبق أن الخبر المتواتر يفيد اليقين والقطع، فهو مقطوع بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فى نفس الوقت يوجد فى النفس العلم الضرورى بمضمون الخبر، فلا يحتاج بعد ذلك إلى نظر واستدلال. ... وهذا الرأى هو ما اتفق عليه العلماء جميعاً إلا من لا يعتد بخلافه. ولكن الخلاف جرى بين العلماء فى الحديث المقبول من الآحاد بأقسامه الثلاثة المشهور، والعزيز، والغريب، ومحل الخلاف بين العلماء هو: هل حديث الآحاد يفيد العلم أو الظن؟ وإذا كان يفيد العلم، فما هى الدرجة التى يفيدها؟ هل يفيد العلم القطعى أو النظرى؟ ... للعلماء فى ذلك مذاهب شتى، نوجزها فيما يلى: ذهب أكثر أهل العلم، وجمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والمالكية، والمعتزلة، والخوارج إلى أنه لا يفيد العلم مطلقاً أى سواء بقرينة، أو بغير قرينة (1) واختاره الإمام النووى حيث قال معقباً على ما قاله ابن الصلاح، ومن شايعه، بأنه يفيد العلم إذا احتفت به قرينة قال: "وخالفه المحققون والأكثرون" فقالوا: يفيد الظن (2) مالم يتواتر (3) . ويتعقب الحافظ ابن حجر الإمام النووى، فيما ذهب إليه، فيقول: "ما ذكره النووى، مسلم من جهة الأكثرين، أما المحققون فلا، فقد وافق ابن الصلاح أيضاً محققون (4) ، وهم من أصحاب القول الثالث.

_ (1) انظر: المستصفى 1/145، ودراسات أصولية فى السنة النبوية ص 169، وخبر الواحد فى السنة وأثره فى الفقه الإسلامى للدكتورة سهير رشاد مهنا ص23. (2) سيأتى بيان مراد أئمة المسلمين بالظن، وكيف أساء فهمه أعداء السنة ليطعنوا به فى حجية خبر الواحد انظر ص 563 –566. (3) تدريب الراوى 1/132. (4) المصدر السابق 1/133.

2- ذهب قوم من أهل الحديث إلى أنه يفيد العلم النظرى بنفسه سواء بقرينة، أو بغير قرينة، متى توافرت فيه شروط الصحة والقبول - من اتصال السند، وعدالة الراوى، وضبطه، وعدم الشذوذ، وعدم العلة، وحكى هذا الرأى ابن الصباغ عن قوم من أهل الحديث (1) ، وبه قال الإمام ابن حزم فى الإحكام وقال: "وهو قول الحارث بن أسد المحاسبى، والحسين بن على الكرابيسى، وأبو الوليد سليمان بن خلف المالكى المعروف بالباجى. وعزاه لأحمد بن حنبل فى إحدى الروايتين عنه (2) ، وذكره ابن خويز منداد عن مالك بن أنس (3) ، وإن نازعه فيه المازرى بعدم وجود نص له فيه، وحكاه ابن حزم عن داود الظاهرى (4) ، وحكاه ابن قيم الجوزية فى مختصر الصواعق المرسلة عن الإمام الشافعى -رحمه الله- (5) . 3- وذهب بعض أهل الحديث، ومعهم بعض أهل الأصول والفقه، إلى أن خبر الآحاد إذا احتفت به قرينة خارجية تدل على مزيد من صحة ثبوت الخبر إلى من أخبر به، يفيد العلم النظرى اليقينى (6) .

_ (1) تدريب الراوى 1/75. (2) المصدر السابق 1/75، وانظر: الإحكام للآمدى 2/32، والبحر المحيط 4/262، وصحح الإمام ابن قيم الجوزية الرواية عن أحمد بأنه يفيد العلم، وضعف ما رواه الأثرم عن أحمد بخلاف ذلك. انظر: مختصر الصواعق المرسلة 2/533. (3) الإحكام لابن حزم 1/106. (4) تدريب الراوى 1/75. (5) مختصر الصواعق المرسلة 2/528، 530. (6) انظر: المحصول 2/141، والإحكام للآمدى 2/32، والبحر المحيط 4/265، ومقاصد الحديث فى القديم والحديث للدكتور مصطفى التازى 2/52، ودراسات أصولية فى السنة ص 186.

.. وبهذا الرأى قال ابن الصلاح ودافع عنه دفاعاً شديداً فى مقدمته، وبه قال جماعات من أئمة الأصول والفقه، منهم الآمدى (1) ، والسبكى (2) ، وابن الحاجب (3) ، واختاره المحققون من أهل الحديث منهم ابن حجر (4) ، وابن قيم الجوزية (5) ، وابن كثير وقال: "وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه، والله أعلم، ثم وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية، مضمونة: أنه نقل القطع بالحديث الذى تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة: منهم القاضى عبد الوهاب المالكى، والشيخ أبو حامد الإسفرائينى، والقاضى أبو الطيب الطبرى، والشيخ أبو إسحاق الشيرازى من الشافعية، وابن حامد، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الخطاب، وابن الزاغونى، وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخسى من الحنفية: قال:"وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم: كأبى إسحاق الإسفرائينى، وابن فورك.

_ (1) الإحكام 2/32 وعزاه إلى النظام من المعتزلة، وكذا عزاه ابن قيم الجوزية فى مختصر الصواعق 2/535، والسرخسى فى أصوله 1/330. (2) الإبهاج فى شرح المنهاج 2/299. (3) شرح عضد الملة والدين على مختصر المنتهى لابن الحاجب 2/55. (4) نزهة النظر ص 22. (5) مختصر الصواعق المرسلة 2/523 - 563.

قال وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة" (1) وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطاً. فوافق فيه هؤلاء الأئمة" (2) . ... وانتصر لابن الصلاح أيضاً البلقينى فقال: "ما قاله النووى وابن عبد السلام، ومن تبعهما ممنوع، فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين مثل قول ابن الصلاح" (3) ثم ذكر ما نقله ابن كثير عن شيخه ابن تيمية. ... ويمكن الجمع بين تلك المذاهب الثلاثة بما قاله الحافظ ابن حجر فى نزهة النظر قال: "والخلاف فى التحقيق لفظى، لأن من جوز إطلاق العلم قيده بكونه نظرياً، وهو الحاصل على الاستدلال بواسطة القرائن، ومن أبى الإطلاق خص لفظ العلم بالمتواتر، وما عداه عنده كله ظنى بمعنى العلم أيضاً، كما فى قوله تعالى {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} (4) .أى ظننتموهن، فالعلم قد يطلق ويراد به الظن (5) وهم لا ينفون أن ما احتفت به القرائن أرجح مما خلا عنها" (6) . وإليك بعض هذه القرائن التى تجعل خبر الآحاد مفيداً للعلم النظرى عند من يقول به:

_ (1) ونص على ذلك أيضاً الإمام ابن دحية على ما سيأتى فى حجية خبر الواحد ووجوب العمل به، وانظر: الباعث الحثيث للشيخ أحمد محمد شاكر ص29، 30، والحديث حجة بنفسه فى العقائد والأحكام للألبانى ص57-60. (2) وقال بذلك أيضاً أبو الحسن البصرى المعتزلى فى "المعتمد فى أصول الفقه" 2/84، ويشذ الشاذ عبد الجواد ياسين ويصف هذا بأنه مذهب فاسد". وانظر: السلطة فى الإسلام ص 258، وانظر: ما قاله حسن السقاف فى مقدمة كتاب ابن الجوزى دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ص55 وما بعدها. (3) تدريب الراوى 1/132. (4) جزء من الآية 10 من سورة الممتحنة. (5) الإحكام للآمدى 2/32. (6) نزهة النظر ص 22 بتصرف، وانظر: البحر المحيط 4/264، 266، ومقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/53.

1- إخراج الشيخين البخارى ومسلم للحديث فى صحيحهما، أو إخراج أحدهما له مما قام الإجماع على تسليم صحته بأن لم يعترض عليه أحد من الحفاظ. وذلك لجلالة قدر الشيخين، وثبوت أقدامهما فى هذا الشأن، وتقدمهما على غيرهما فى معرفة الخبر الصحيح وتمييزه عن غيره. ... ولتلقى الأمة لكتابيهما بالقبول اعتقاداً وعملاً، وهذا التلقى وحده أقوى فى إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، وممن صرح بأن هذه القرينة تجعل خبر الآحاد مفيداً للعلم النظرى، من سبق ذكرهم من الأئمة الأعلام الذين ذكرهم ابن كثير نقلاً عن شيخه ابن تيمية (1) ، وبهذه القرينة قال أيضاً الحافظ ابن حجر فى نزهة النظر (2) ، وزاد من القرائن على ما ذهب إليه ابن الصلاح ومن نقل عنهم. 2- شهرة الحديث عند علماء الحديث لمجيئه من طرق متعددة متباينة مع سلامتها من ضعف الرواة وخلوها من العلل القادحة، وممن صرح بأن هذه القرينة تجعل خبر الآحاد يفيد العلم النظرى أبو بكر بن فورك، وأبو منصور البغدادى وغيرهما. 3- تسلسل الخبر بالأئمة المتقنين، والحفاظ الضابطين، كالحديث الذى يرويه الإمام أحمد وغيره عن الإمام الشافعى، ويرويه الإمام الشافعى، وغيره عن الإمام مالك … إلخ.

_ (1) مقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/53، 54. (2) نزهة النظر ص 22، وقال بذلك الأستاذ محمد رشيد رضا -رحمه الله -فى مجلة المنار وأيد ما قاله الحافظ ابن حجر، انظر: مجلة المنار المجلد 19/348، 349.

.. فإن هذه القرينة تجعل خبر الآحاد مفيداً للعلم النظرى عند سامعه، وذلك لجلالة قدر هؤلاء الرواة للحديث من الأئمة الأعلام، والفقهاء العظام، إذ فى كل واحد منهم من الصفات اللائقة الموجبة لقبول خبره ما لا يوجد فى غيره، مما تجعل الواحد منهم أمة وحده، يقوم مقام العدد الكثير والجم الغفير (1) . ... والذى أرجحه من ذلك كله هو ما ذهب إليه ابن حزم، وابن الصلاح، وابن حجر، وغيرهم - من أن ما رواه الشيخان أو أحدهما أو ما احتفت به قرائن أخرى - كما ذكر ابن حجر أو ما استوفى شروط الصحة الخمسة، المتفق عليها بين علماء الأمة، مقطوع بصحته، ويفيد العلم النظرى. وإلى ذلك ذهب الشيخ أحمد محمد شاكر-رحمه الله تعالى –: حيث يقول بعد أن استعرض آراء العلماء فى ذلك: "والحق الذى ترجحه الأدلة الصحيحة، ما ذهب إليه ابن حزم، ومن قال بقوله من أن الحديث الصحيح، مقطوع بصحته، ويفيد العلم اليقينى النظرى، سواء كان فى أحد الصحيحين أم فى غيرهما، وهذا العلم اليقينى نظرى برهانى، لا يحصل إلا للعالم المتبحر فى الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل (2) ، المميز بين صحيحه وسقيمه، وغثه وثمينة، وأصيله ودخيله، أما من ليس من أهل هذا الشأن، فإن هذه القرائن ولو كثرت، لا تفيدهم علماً، فمثلهم لا يعتد به فى هذا المقام، ولا تبنى عليه هنا الأحكام (3) .

_ (1) مقاصد الحديث فى القديم والحديث2/54،55،وانظر: نزهة النظر ص 23، وعلم الحديث لابن تيمية ص155، وإرشاد الفحول1/212، 213، ودراسات أصولية فى السنة ص 177-181، وانظر: قرائن الشيعة فى إفادة خبر الواحد للعلم فى كتاب أصول الحديث للدكتور عبد الهادى الفضلى ص83-87. (2) الباعث الحثيث ص 30، وانظر: المكانة العلمية لعبد الرزاق فى الحديث النبوى لفضيلة الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار 1/33 -42، مبحث: "إفادة خبر الواحد العلم". (3) مقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/55.

.. يقول الشيخ أحمد محمد شاكر: "وأكاد أوقن أنه هو مذهب من نقل عنهم البلقينى ممن سبق ذكرهم من الأئمة الأعلام، وأنهم لم يريدوا بقولهم ما أراد ابن الصلاح من تخصيص أحاديث الصحيحين بذلك، وإلا فالأمة قد تلقت غيرهما من كتب السنة من السنن، والمسانيد والمصنفات، بالقبول، مع تصريح كل من الإمامين البخارى ومسلم بأنهما لم يستوعبا كل الصحيح فى صحيحهما. ... وهذا العلم اليقينى النظرى يبدو ظاهراً لكل من تبحر فى علم من العلوم وتيقنت نفسه بنظريته، واطمئن قلبه إليها، ودع عنك تفريق المتكلمين فى اصطلاحاتهم بين العلم والظن، فإنما يريدون بهما معنى غير ما نريد" (1) . وبعد إن الكلمة الفصل والأخيرة، فى كل مسألة علمية على أهلها، إذ لا ينبئك مثل خبير. وفى المثل: الخيل أعلم بفرسانها. فالقول الفصل لأهل اللغة إذا كان المتعلق لغوياً، وللفقهاء إذا كانت المسألة فقهية، وللمحدثين إذا كان الكلام يتعلق بصحة الحديث، وهذه مسلمات لا يختلف فيها اثنان. لهذا فإن معرفة كون الدليل قطعياً أو ظنياً من أحكام أهل الحديث، لمعرفتهم طرقه وتشعبها، ولا تعويل على غيرهم من المتكلمين والأصوليين، كما قال ابن قيم الجوزية فى مختصر الصواعق المرسلة (2) والله أعلم.

_ (1) الباعث الحثيث ص 30، 31 بتصرف. (2) انظر: مختصر الصواعق المرسلة 2/537، 561.

ثانيا: حجية خبر الواحد ووجوب العمل به:

ثانياً: حجية خبر الواحد ووجوب العمل به: ... اهتم علماء الإسلام فى القديم والحديث بالبحث فى مسألة وجوب العمل بخبر الواحد وصحة الاحتجاج به، فأطالوا فى شأنها، واعتنوا بتحقيقها، وما قيل فيها، وكل ما يتعلق بها - وما مر وما سيأتى -إلا نذر يسير من ذلك، فقد ألف فى هذه المسألة كثير من أهل الحديث، وأئمة الفقه، وأصحاب الأصول، فكتبوا فيها أبواباً مطولة، وفصولاً مطنبة، وكان أقدم من ألف فى ذلك فيما بلغنا أمامنا الشافعى - رحمه الله تعالى - حيث وضع باباً طويلاً فى كتابيه الأم (1) والرسالة (2) أجاد القول فيه وأحسن الرد على سائل يسأله الدليل على طلب العمل بخبر الواحد، كما كتب فى هذه المسألة أيضاً الإمام النووى فى شرحه على صحيح مسلم (3) ، والحافظ ابن حجر العسقلانى فى شرحه فتح البارى على صحيح البخارى (4) كما كتب غيرهما لا سيما أهل الأصول (5) فى كتبهم.

_ (1) انظر: الأم 7/288. (2) انظر: الرسالة، باب خبر الواحد ص 369 - 471 فقرات رقم 998 - 1308. (3) انظر: صحيح مسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن 1/170 (4) انظر: فتح البارى، كتاب أخبار الأحاد 13/244 - 258. (5) انظر: الإحكام للآمدى 2/30 - 70، والإبهاج فى شرح المنهاج 2/299 – 348، والإحكام لابن حزم 1/95 – 143، والبحر المحيط 4/255 – 267، والمعتمد فى أصول الفقه 2/92-140، وأصول السرخسى 1/321، والمستصفى للغزالى 1/145 - 155، وفواتح الرحموت 2/121 وما بعدها، والبرهان للجوينى 1/222 وما بعدها، والمحصول للرازى 2/170 - 193، وإعلام الموقعين 1/31 وما بعدها، وإرشاد الفحول 1/207 - 232.

.. وسر كل هذا الاهتمام بهذه المسألة وحكمته، أن هذه المسألة من أهم قواعد الدين وأشدها عند علماء المسلمين إذ ينبنى عليها معظم أحكام الشرع، ويتوقف على إثباتها كثير من معرفة الحلال والحرام، كما يترتب على إثباتها طلب العمل بالأوامر والنواهى النبوية التى لم يثبت أغلبها إلا عن طريق خبر الواحد" (1) . ... وإذا كان هناك خلاف بين العلماء فى الدرجة التى يفيدها خبر الواحد من علم أو ظن، فإن هذا الخلاف لم يوجد بين من يعتد بهم - فى حجية خبر الواحد، ووجوب العمل به، حتى من قال منهم بأن درجة خبر الآحاد الظن. ... فالذى عليه السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأصحاب الحديث، والفقه والأصول، أن خبر الواحد حجة من حجج الشرع يحتج به، ويلزم من بلغه العمل به، ولو لم يحتف بقرائن خارجية، تدل على تأكيد طلب العمل به، إذا كان هذا الخبر عند أهل الحديث مقبولاً، بأن تحققت فيه الشروط الخمسة المتفق عليها لصحة الحديث،من اتصال السند، وعدالة الراوى، وضبطه، وعدم الشذوذ، وعدم العلة (2) . ... وهاك بعض أقوال أهل العلم فى حجية خبر الواحد، ووجوب العمل به، متى صح. قال شمس الأئمة السرخسى: "خبر الواحد حجة باعتبار أنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله حجة موجبة للعمل، ولكن امتنع بثبوت العلم به لشبهة فى النقل" (3) . وقال أيضاً: "قال فقهاء الأمصار - رحمهم الله -، خبر الواحد حجة للعمل به فى أمر الدين، ولا يثبت به علم اليقين، وقال بعض من لا يعتد بقوله: خبر الواحد لا يكون حجة فى الدين أصلاً (4) .

_ (1) مقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/55، 56، وانظر: المدخل إلى السنة النبوية لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد المهدى مبحث (الآحاد هو المعول عليه فى الإسلام) ص 273. (2) مقاصد الحديث فى القديم والحديث 2/56. (3) أصول السرخسى 1/298. (4) المصدر السابق 1/321.

.. وقل ابن حزم: "القسم الثانى من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد، فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب العمل به، ووجب العلم بصحته أيضاً (1) . ... وقال أبو الحسين محمد بن على الطيب المعتزلى: "ذهب جل القائلين بأخبار الآحاد إلى قبول الخبر، وإن رواه واحد" (2) . ... وقال الإمام النووى: "الذى عليه جماهير المسلمين، من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء، وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع، يلزم العمل بها، ويفيد الظن، ولا يفيد العلم، وأن وجوب العمل به، عرفناه بالشرع لا بالعقل" (3) . ... وقال الإمام ابن دحية (4) : "وعلى قبول خبر الواحد الصحابة والتابعون وفقهاء المسلمين، وجماعة أهل السنة يؤمنون بخبر الواحد، ويدينون به فى الاعتقادات" (5) أ. هـ.

_ (1) الإحكام لابن حزم 1/106، 135. (2) المعتمد فى أصول الفقه 2/138. (3) انظر: المنهاج شرح مسلم، المقدمة، باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن 1/170. (4) ابن دحية: هو أبو الخطاب، عمر بن الحسن أبو الخطاب بن دحية الأندلسى المحدث، يلقب بذى النسبين، نسبة إلى دحية الكلى صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الحسين بن على رضي الله عنه. كان بصيراً بالحديث معتنياً به معروفاً بالضبط، له حظ وافر من اللغة. من مصنفاته: الابتهاج فى أحاديث المعراج، والعلم المشهور فى فضائل الأيام والشهور. وغير ذلك مات سنة 633هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 4/1420 رقم 1136، وطبقات الحفاظ للسيوطىص 501 رقم 1102، ولسان الميزان 5/163، رقم 6086، ووفيات الأعيان 3/448 رقم 497، وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادى 4/202 رقم 115. (5) انظر: الابتهاج فى أحاديث المعراج ص 78.

.. وقال الحافظ ابن عبد البر: "والضرب الثانى من السنة خبر الآحاد الثقات الأثبات المتصل الإسناد؛ فهذا يوجب العمل عند جماعة علماء الأمة الذين هم الحجة والقدوة، ومنهم من يقول: إنه يوجب العلم والعمل جميعاً" (1) . ... ويقول الشيخ محمد الخضرى (2) :"إنه تواتر عن الصحابة فى وقائع لا تحصى، العمل بخبر الواحد، ومجموع هذه الوقائع تفيد إجماعهم على إيجاب العمل بأخبار الآحاد، وكثيراً ما كانوا يتركون آراءهم التى ظنوها باجتهادهم، إذا روى لهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" (3) . وبعد ... فهذه بعض أقوال علماء المسلمين قديماً وحديثاً، وغيرها كثير، فى حجية خبر الواحد، ووجوب العمل به، أما الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة فهى متوافرة، وسنذكر بعضها بمشيئة الله تعالى، فى ردنا على شبهات من أنكروا حجية خبر الواحد. ... وإذا كان إجماع من يعتد به منعقد على كفر من رد حديثاً متواتراً انعقد الإجماع على تواتره، ولا يقولون بكفر من رد حديث آحاد لشك فى ثبوته، "فمما لا شك فيه أن من شك وطعن فى جميع أحاديث الآحاد ولم يأخذ بها يكون منكراً للسنة ويكفر" (4) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) جامع بيان العلم وفضله 2/34. (2) الخضرى: هو محمد بن عفيفى الباجورى، المعروف بالشيخ الخضرى، من علماء الشريعة، والأدب، وتاريخ الإسلام، مصرى، تخرج بمدرسة دار العلوم، من مصنفاته، أصول الفقه، وتاريخ التشريع الإسلامى. مات سنة 1345هـ. له ترجمة فى: الأعلام 7/151. (3) أصول الفقه ص 280، وانظر: اختلافات المحدثين والفقهاء فى الحكم على الحديث للدكتور عبد الله شعبان على ص224-225. (4) السنة المفترى عليها للمستشار سالم البهنساوى ص 161، وانظر: من نفس المصدر، مبحث "استحالة العمل بغير اعتقاد".

المبحث الثالث: منكروا حجية خبر الواحد قديما وحديثا

المبحث الثالث: منكروا حجية خبر الواحد قديماً وحديثاً استعراض شبههم والرد عليها تمهيد: ... إذا كان علماء الأمة من المحدثين، والفقهاء، والأصوليين، اصطلحوا على تقسيم السنة باعتبار عدد الرواة فى كل طبقة إلى متواتر وآحاد، أو إلى متواتر ومشهور وآحاد كما قسم الأحناف، فإن هذه التقسيمات لم تكن فى عصر الصحابة أو التابعين، وإنما دعت الحاجة إلى هذا التقسيم بعد شيوع الفتن وبدء تمحيص السنة وتحديد مراتبها، وكان لهذا التقسيم آثاره بين جمهور الفقهاء فى تخصيصهم لعموم الكتاب، وتقييدهم لمطلقه، وتوضيحهم لمشكله بخبر الآحاد، خلافاً للأحناف الذين اشترطوا فى أنواع البيان السابقة، أن يكون الخبر فيها مشهوراً، على ما سبق تفصيله عند التعريف بالآحاد. ... وأهم أثر لتقسيم الأحاديث إلى متواتر وآحاد هو فى أمر من رد الحديث، فمن أخذ باصطلاح المتواتر والآحاد - وهم أغلبية الفقهاء - لا يقولون بكفر من رد الأحاديث؛ لأنها ظنية الثبوت بينما يرون كفر من رد الأحاديث المتواترة. ... ومن قال: "إن التواتر والآحاد قطعى الثبوت يقولون بكفر من رد شيئاً من الأحاديث سواء كانت بطريق التواتر أو الآحاد" (1) . ... وقبل أن يصطلح علماء الأمة على التقسيم السابق، كان جميع أهل الإسلام على قبول خبر الواحد الثقة عن النبى صلى الله عليه وسلم، يجرى على ذلك كل فرقة فى علمها، كأهل السنة، والخوارج والشيعة، والقدرية (2) ، حتى بدأت فتنة التشكيك فى خبر الآحاد على أيدى متكلمى المعتزلة بعد القرن الثانى الهجرى، فعرفوا خبر الآحاد بأنه: ما لا يعلم كونه صدقاً ولا كذباً (3)

_ (1) السنة المفترى عليها للمستشار سالم البهنساوى ص 139، 140، وانظر: البحر المحيط 4/266، ودراسات أصولية فى السنة ص 181. (2) ورغم هذه الحقيقة يضلل أحمد حجازى، القارئ فى كتابه دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى "بزعمه أن الصدر الأول للإسلام، وفيه كان الخوارج والشيعة … ولم تكن فيه سنة بأخبار آحاد!! " انظر: دفع الشبهات ص 64. (3) شرح الأصول الخمسة ص 769.

واشترطوا العدد فى الرواية كما فى الشهادة، فخالفوا الإجماع فى ذلك. "وكان قصدهم من ذلك رد الأخبار وتعطيل الأحكام، وتلقف ما قالوه بعضُ الفقهاء الذين لم يكن لهم فى العلم قدمٌ ثابتة، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول" وبذلك صرح ابن قيم الجوزية فى مختصر الصواعق المرسلة (1) . ... ويدل على كل ما سبق ما قاله ابن حزم فى الإحكام، قال: "فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبى صلى الله عليه وسلم، ويجرى على ذلك كل فرقة فى علمها، كأهل السنة، والخوارج، والشيعة، والقدرية، حتى حدَّث متكلموا المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع فى ذلك، ولقد كان عمرو بن عبيد (ت سنة 144هـ) يتدين بما يروى عن الحسن ويفتى به، هذا أمر لا يجهله من له أقل علم (2) . ... ويقول الحافظ أبو بكر الحازمى: "ولا أعلم أحداً من فرق الإسلام القائلين بقبول خبر الواحد اعتبر العدد سوى متأخرى المعتزلة، فإنهم قاسوا الرواية على الشهادة، واعتبروا فى الرواية ما اعتبروا فى الشهادة، وما مغزى هؤلاء إلا تعطيل الإحكام كما قال أبو حاتم ابن حبان" (3) .

_ (1) مختصر الصواعق المرسلة 1/558، وما قاله ابن قيم الجوزية قاله شيخه ابن تيمية فى كتابه الفتاوى بمعناه قال: "كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به، أنه يوجب العلم، وهذا الذى ذكره المصنفون فى أصول الفقه من أصحاب أبى حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد، إلا فرقه قليلة من المتأخرين، اتبعوا فى ذلك طائفة من أهل الكلام"، انظر: مجموع الفتاوى13/351،وانظر: السنة المفترى عليها ص 166. (2) الإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم 1/110، وحكاه الشاطبى عنهم فى الاعتصام 1/187. (3) شروط الأئمة الخمسة ص 47. وراجع موقف المعتزلة من السنة ص 114-117.

.. وطعن أيضاً فى خبر الواحد طوائف من الشيعة فذهبوا إلى أن خبر الواحد لا يكون حجة أصلاً فى الدين، فلا يوجب العلم ولا العمل، وينسب هذا الرأى إلى الشريف المرتضى (ت 436هـ) من الشيعة، فهو يقول: "لابد فى الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم … ولذلك أبطلنا العمل بأخبار الآحاد، لأنها لا توجب علماً ولا عملاً، وأوجبنا أن يكون العمل تابعاً للعلم، لأن راوى خبر الواحد إذا كان عدلاً فغاية ما يقتضيه الظن بصدقه، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذباً (1) .

_ (1) أصول الفقه للمظفر 1/70، نقلاً عن توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 90، وحكاه الرازى أيضاً عن المرتضى اختصاراً فى المحصول 2/188.

وحكى هذا الرأى أيضاً الإمام الغزالى فى المستصفى عن جماهير القدرية، ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاسانى حيث ذهبوا إلى تحريم العمل بخبر الواحد سمعاً (1) ، وحكاه أيضاً الآمدى (2) ، عن القاسانى (3) والرافضة وابن داود (4) . وبالجملة من مآخذ أهل البدع بالاستدلال نفى أخبار الآحاد جملة. والاقتصار على ما استحسنته عقولهم فى فهم القرآن (5) . ... وتابع هذه الفرق الضالة فى الطعن فى حجية خبر الآحاد من على شاكلتهم من أهل الزيغ والهوى فى عصرنا.

_ (1) المستصفى من علم الأصول 1/148. (2) الإحكام فى أصول الأحكام 1/48. وانظر البرهان فى أصول الفقه للجوينى 1/228، والتقرير والتحبير 2/272-275. (3) القاسانى هو: أبو بكر محمد بن إسحاق القاسانى: نسبة إلى "قاسان" بلدة قريبة من "أصبهان" غالب أهلها من الروافض، وعامة العلماء يقولون "القاشانى" بالشين بالمعجمة، والصواب ما أثبتناه كما ضبطه ابن حجر فى "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه" وكان القاسانى أحد أعلام أهل الظاهر، تتلمذ علىداود الظاهرى، وخالفه فى كثير من المسائل الأصولية من مؤلفاته "كتاب الرد على الداود الظاهرى فى إبطال القياس" توفى بعد الثلاثمائة للهجرة. له ترجمة فى: طبقات الفقهاء للشيرازى ص 176، وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه 3/1147، والفهرست ص 357. (4) ابن داود هو: محمد بن داود على بن خلف الظاهرى، كان فقيهاً، أديباً. مناظراً، شاعراً. له تصانيف كثيرة منها "الوصول إلى معرفة الأصول" واختلاف مسائل الصحابة و "الإنذار" و"الإعذار"توفى سنة 297هـ. له ترجمة فى: تاريخ بغداد 5/256 رقم 2750، والنجوم الزاهرة 3/171،وطبقات الفقهاء للشيرازى ص175،وشذرات الذهب2/226،والفهرست ص364. (5) الاعتصام للشاطبى 1/187، وحكى ذلك أيضاً عنهم ابن قتيبة فى كتابه تأويل مختلف الحديث ص 84 وما بعدها.

استعراض شبه منكرى حجية خبر الواحد قديما وحديثا والرد عليها

فوجدنا منهم من يقول: "وجوب عدم الاعتداد بحديث الآحاد بالكلية إذ الأصل فيها الكذب والاستثناء هو الصدق (1) . ... ووجدنا من يقول: "الضرب الثانى من أفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم مما لم يصل إلى الناس بطريق التواتر المستفيض، فلا يستطيع عاقل أن يدخله فى دائرة الوحى الثابت ثبوتاً لا شك فيه، ومن ثم فهو ليس ضرورياً لقيام الدين (2) . ... ووجدنا من يقول: "فما يؤمنكم أن خبر الواحد ليس من يهودى مثل ابن سبأ؟ ورواية الواحد أوجدت فى الدين أموراً سيئة منها: أولاً: التعارض فى المعنى والتعارض يحير الناس فى معرفة الحق. ثانياً: أوجدت أحاديث الآحاد تفرقة واختلافاً فى صفوف المسلمين. إذ هى التى فرقتهم إلى سنيين، وشيعة، يضرب بعضهم رقاب بعض.وهى التىفرقتهم إلى السلف والخلف…فياأيها السلفيون: هذه نتائج أحاديث الآحاد فى المجتمعات الإسلامية وقد أمرنا الله تعالى بأن نحتاط للدين، وبأن نكون أمة واحدة، وبأن نسمع ونعقل.فابتعدوا عن أحاديث الآحاد" (3) . استعراض شبه منكرى حجية خبر الواحد قديماً وحديثاً والرد عليها

_ (1) قاله إسماعيل منصور فى كتابه تبصير الأمة بحقيقة السنة ص360، 652. (2) قاله عبد الجواد ياسين فى كتابه السلطة فى الإسلام ص 246، 247. (3) قاله أحمد حجازى السقا فى كتابه دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص 38-41، وانظر: ما قاله محمود أبو رية فى أضواء على السنة ص 41، 42، 279، 280، 363 وما بعدها. وما قاله جمال البنا فى كتابيه الأصلان ص 299، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 110 وغيرهم ممن سبق ذكرهم.

.. أقوى ما شغب به من أنكر قبول خبر الواحد أن نزغ بقول الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1) وقالوا العمل بخبر الواحد اقتفاء لما ليس لنا به علم، وشهادة وقول بما لا نعلم. لأن العمل به موقوف على الظن قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (2) . ... وقالوا قد ذم الله من اتبع الظن، وبين أنه لا غناء له فى الحق. فكان على عمومه (3) وبهذه الآيات وما فى معناها استدل أهل الزيغ والبدع قديماً (4) ، وتابعهم حديثاً أهل الزيغ والإلحاد ممن أنكروا حجية السنة كلها، واتخذوا الطعن فى خبر الواحد، وسيلة من وسائلهم؛ للتشكيك فى حجية السنة النبوية المطهرة (5) . ومما استدل به المعتزلة فى رد خبر الواحد من الأحاديث والآثار:

_ (1) الآية 36 من سورة الإسراء. (2) الآية 28 من سورة النجم. (3) المعتمد فى أصول الفقه 2/124، وانظر: المحصول للرازى 2/186، 192، 205، والإحكام للآمدى 2/35، وأصول السرخسى 1/321. (4) حكاه عنهم أهل الأصول السابق ذكرهم فى الأماكن السابقة، وحكاه الإمام الشاطبى قائلاً: "وربما احتج طائفة من نابتة المبتدعة على رد الأحاديث بأنها إنما تفيد الظن، انظر: الاعتصام1/189. (5) انظر: مجلة المنار المجلد 9/912 - 913 مقال "الإسلام هو القرآن وحده" للدكتور توفيق صدقى، وقرآن أم حديث ص 32، 55، والقرآن والحديث والإسلام ص 7 كلاهما لرشاد= =خليفة، وحد الردة ص92، وعذاب القبر ص 10، 16، 17، والصلاة فى القرآن ص 43 ثلاثهم لأحمد صبحى منصور، والأصلان العظيمان ص 297، 309، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 111 كلاهما لجمال البنا، ونقد الحديث فى علم الرواية والدراية للدكتور حسين الحاج حسين 1/522، والسلطة فى الإسلام لعبد الجواد ياسين ص 285، وغيرهم ممن سبق ذكرهم فيمن أنكروا حجية السنة كلها.

قصة ذى اليدين (1) ، وتوقف النبى صلى الله عليه وسلم فى خبره، حتى تابعه عليه غيره. روى عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتى العشيى. إما الظهر وإما العصر. فسلم فى ركعتين. ثم أتى جْذِعاً فى قِبْلَة المسجد فاستند إليه مُغْضَباً، وفى القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يتكلما، وخرج سَرَعَانُ النَّاسِ0 قُصِرَتِ الصلاةُ، فَقَامَ ذُو اليَدَيْنِ فقال: يا رسول الله! أَقْصِرَتِ الصلاةُ أم نَسِيتَ؟ فنظر النبى صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً. فقال: "ما يقول ذُو اليَدَيْنِ؟ " قالوا: صدق لم تصل إلا ركعتين. فصلى ركعتين وسلم، ثم كبر ثم سجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر وسجد، ثم كبر ورفع وسلم" (2) . 2- وقصة أبى بكر حين توقف فى خبر المغيرة بن شعبة، فى ميراث الجدة حتى تابعه محمد ابن سلمة.

_ (1) ذُو اليَدَيْن: هو الخِرْبَاقُ بن عمرو السلمى، يقال له ذو اليدين، لأنه كان فى يديه طول، وقيل أنه كان قصير اليدين.وهو صحابى جليل: له ترجمة فى الإصابة: 1/489 رقم 2243، وتاريخ الصحابة لابن حبان ص91رقم389،والاستيعاب2/457رقم688،واسد الغابة2/162رقم1433. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء فى إجازة خبر الواحد الصدوق فى الأذان، والصلاة، والصوم، والفرائض، والأحكام 13/245 رقم 7250، ومسلم (بشرح النووى) كتاب المساجد، باب السهو فى الصلاة والسجود له 3/66 رقم 573 واللفظ له.

روى عن قُبيصة بن ذؤيب (1) رضي الله عنه قال: "جاءت الجدة إلى أبى بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال: مالك فى كتاب الله عز وجل من شئ، وما علمت لك فى سنة نبى الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فارجعى حتى اسأل الناس، فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن سلمة (2) فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه تسأله ميراثها، فقال: مالك فى كتاب الله تعالى شئ، وما كان القضاء الذى قضى به إلا لغيرك، وما أنا بزائد فى الفرائض، ولكن هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها" (3) . 3- وقصة عمر رضي الله عنه وتوقفه فى خبر أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه فى الاستئذان حتى تابعه أبو سعيد الخدرى رضي الله عنه:

_ (1) قُبيصة هو: قُبيصة بن ذؤيب الخزاعى الكعبى، أبو سعيد، من فقهاء أهل المدينة وعبادهم، من أولاد الصحابة، كان مولده يوم الفتح، وله رؤية مات سنة 86هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/26 رقم 5529، وتذكرة الحفاظ 1/60 رقم 47، والثقات للعجلى ص 388 رقم 1377، وطبقات الحفاظ ص 28 رقم 45، والثقات لابن حبان 5/317، والعبر 1/101. (2) محمد بن مسلمة: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 3/383 رقم 7822، وتاريخ الصحابة ص 226 رقم 1213، والاستيعاب 3/1377 رقم 2344، ومشاهير علماء الأمصار ص30 رقم 93، واسد الغابة 5/106 رقم 4768. (3) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الفرائض، باب فى الجدة 3/121،122 رقم 2894 واللفظ له، والترمذى فى سننه كتاب الفرائض، باب ما جاء فى ميراث الجدة4/366رقم2101 قال أبوعيسى: وفى الباب عن بُرَيْدَةَ وهذا أحسن وهو أصح من حديث ابن عيينة.

روى عن أبى سعيد قال: كنا فى مجلس عند أبى بن كعب (1) ، فأتى أبو موسى الأشعرى مُغْضَباً حتى وَقَفَ. فقال: أَنْشُدُكُمُ الله هل سمع أَحدٌ منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الاستئذانُ ثلاثٌ. فإن أذن لك وإلا فارجع" قال أُبىُّ بن كعب. وما ذاك؟ قال: أستأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاثَ مراتٍ. فلم يؤذن لى فرجعت. ثم جئْتُهُ اليوم فدخلت عليه، فأخبرته أنى جئت أمس فسلمت ثلاثاً ثم انصرفت، قال: قد سمعناك ونحن حينئذ على شُغْلٍ فَلَوْمَا استأذنتَ حتى يُؤْذَنَ لك؟ قال: استأذَنْتُ كما سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فوالله لأوجعنَّ ظهرَكَ وبطنَكَ أو لَتَأْتِينَّ بمن يشهد لك على هذا. فقال أُبى بن كعب: فوالله! لا يقوم معك إلا أحدثنا سناً. قم. يا أبا سعيد فقمتُ حتى أتيتُ عُمرَ فقلتُ: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ هَذَا (2) .

_ (1) أبى بن كعب: صحابى جليل له ترجمة فى اسد الغابة 1/168 رقم 34، والإصابة 1/19 رقم32، وتذكرة الحفاظ 1/17 رقم 6، ومشاهير علماء الأمصار ص 19 رقم 31، وتاريخ الصحابة ص 29 رقم 21. والاستيعاب 1/65 رقم 6. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً 11/28 رقم 6245، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الآداب، باب الاستئذان 7/387 رقم 2153.

الرد على شبه منكرى حجية خبر الآحاد

.. قالوا ففيما سبق بيان أن الصحابة كانوا لا يقبلون خبر الواحد، وكانوا يعتبرون لطمأنينة القلب عدد الشهادة كما كانوا يعتبرون لذلك صفة العدالة، ومن بالغ فى الاحتياط فقد اعتبر فى قبول الخبر أقصى عدد الشهادة أربع لأن ما دون ذلك محتمل للعلم (1) . كما استشهد بعض خصوم السنة برد عمر خبر فاطمة بنت قيس فى المطلقة ثلاثاً، بأنه لا سكنى لها ولا نفقة لمخالفته لقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) . ... ورد عائشة - رضى الله عنها - لخبر عمر وابنه عبد الله - رضى الله عنهما - فى "تعذيب الميت ببعض بكاء أهله عليه" لمخالفته فى رأيها لقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (3) . وغير ذلك مما استشهد به خصوم السنة، وسيأتى تخريجه والرد عليه فى الجواب عما اشترطوه لصحة قبول خبر الواحد. الرد على شبه منكرى حجية خبر الآحاد إن ما ذكره أهل الزيغ والابتداع قديماً من أدلة على عدم حجية خبر الواحد، وتبعهم فيها أهل الزيغ والهوى فى عصرنا، ما ذكروه من أدلة لا حجة لهم فيها، بل هو حجة لنا عليهم

_ (1) انظر: المعتمد فى أصول الفقه 2/115، وأصول السرخسى 1/331، والمحصول للرازى 2/186، والإحكام للآمدى 2/35، 60، وتدريب الراوى 1/73.واستشهد بذلك حديثاً محمود أبو رية فى أضواء على السنة ص 57، 58، وأحمد أمين فى فجر الإسلام ص 210،= =وأحمد حجازى السقا فى دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص 113، وجمال البنا فى كتابيه الأصلان العظيمان ص 299، 300، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 112، 113، وإسماعيل منصور فى تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 367 وغيرهم، وانظر: ما كتبه حسن السقاف فى تقديمه لكتاب ابن الجوزى دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ص 27-45. (2) الآية 1 من سورة الطلاق. (3) الآية 38 من سورة النجم.

.. فما زعموه من أن العمل بخبر الواحد اقتفاء ما ليس لنا به علم استناداً إلى قول رب العزة {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (1) . فهذه الآية حجة لنا عليهم فى هذه المسألة، لأنا لم نقف ما ليس لنا به علم، بل قد صح لنا به العلم من انعقاد إجماع من يعتد به على حجية خبر الواحد ووجوب العمل به، والإجماع قاطع فاتباعه لا يكون اتباعاً لما ليس لنا به علم، ولا اتباعاً للظن (2) . قال الشوكانى: "ولا نزاع فى أن خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلم، لأن الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه، وهكذا خبر الواحد إذ تلقته الأمة بالقبول … ومن هذا القسم أحاديث صحيحى البخارى ومسلم - رحمهما الله تعالى (3) - فسقط اعتراضهم بهذه الآية. ... أما ما ضلل به أهل الزيغ والهوى من ربط ظنية خبر الآحاد، بالظن الوارد فى قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} (4) وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (5) وقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" (6) .

_ (1) الآية 36 من سورة الإسراء. (2) انظر: الإحكام للآمدى 1/35، 46، والإحكام لابن حزم 1/111. (3) إرشاد الفحول للشوكانى 1/212، 213. (4) الآية 23 من سورة النجم. (5) الآية 28 من سورة النجم. (6) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأدب، باب "يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" 10/499 رقم 6066، ومسلم (بشرح النووى) كتاب البر والصلة، باب تحريم الظن، والتجسس، والتنافس، والتناجش وغيرها 8/361 رقم 2563 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

هذا الإطلاق والربط من أفرى، الفرى لأن الظن الوارد فى الآيات السابقة، والحديث الشريف وارد فى معرض ترك الحق الثابت باليقين، واتباع للهوى الذى لا دليل عليه، وليس كذلك الظن المنسوب إلى أحاديث الآحاد. فإطلاق كلمة "الظن" على أحاديث الآحاد وهى فى حقيقتها أكثر السنة النبوية، وربطها بالمعنى الوارد فى الآيات السابقة، والحديث النبوى، وقول بعض الأئمة إن خبر الآحاد لا يفيد إلا الظن، ثم نتيجة هذا الربط بأن خبر الآحاد من أكذب الحديث ولا يغنى من الحق شيئاً هذا الربط ونتيجته ضلال مبين. ... يقول المستشار سالم البهنساوى: "وأعظم من ذلك تلقين أكثر مدرسى الفقه الإسلامى بالجامعات الإسلامية هذه الظنية فى نفوس الطلاب دون بيان حقيقة المراد بهذه الكلمة، مما يسر اقتناع الطلاب بالتيارات الإلحادية المنحرفة التى تشكك فى حجية السنة، أو ترد بعض الأحاديث الصحيحة فى العقائد أو المعاملات أو غير ذلك بحجة أن الحديث آحاد، والآحاد يفيد الظن، والظن لا يغنى من الحق شيئاً، ومن ثم تصبح هذه الأقوال جناية ضد السنة النبوية، لأنها خلت من بيان المقصود من هذه الظنية، وأنه لا أثر لها على حجية السنة، ووجوب العمل بها، فى العبادات والمعاملات والحدود … إلخ (1) . ... إن الظن الوارد فى هذه الآيات غير الظن الذى يتحدث عنه أهل الكلام، غير الظن الذى وصف به خبر الآحاد على لسان أئمة المسلمين من الفقهاء، والمحدثين، والأصوليين. وبالتالى من الخطأ البين حصر معنى الظن فيما استدلوا به.

_ (1) السنة المفترى عليها للمستشار البهنساوى ص 148، 149، 155، 160 بتصرف.

التعريف بالظن لغة واصطلاحا:

وإليك المراد بحقيقة هذه الكلمة عند علماء الأمة. التعريف بالظن لغة واصطلاحاً: ... قال الفيروزابادى: "الظن التردد الراجح بين طرفى الاعتقاد غير الجازم (1) ، قال الأستاذ محمد رشيد رضا: وهو تعريف مأخوذ من اصطلاح علماء المعقول كالمناطقة والفلاسفة (2) ، ومثله قول الجرجانى: الظن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، وقيل الظن أحد طرفى الشك بصفة الرجحان، ويستعمل فى اليقين والشك (3) ، وعلى هذا صار أهل الأصول فى تعريفهم للظن (4) . ... فمن استعمالاته فى اليقين قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (5) وقال تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} (6) . ويطلق اليقين على الظن كما فى قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} (7) أى ظننتموهن. "وليس معنى ذلك أن كل يقين ظن، وإنما المراد أن الظن على مراتب، منها ما يرادف اليقين، ومنها ما هو دونه فبينهما العموم والخصوص بإطلاق" (8) . ... فخبر الآحاد وإن كان ظنياً "بمعنى احتمال الخطا والوهم والكذب على الراوى" فإن هذا الاحتمال بعد التثبت والتأكد من عدالة الراوى، ومقابلة روايته بروايات أقرانه من المحدثين، يصبح الاحتمال بخطأه ووهمه - ضعيفاً - فيفيد الخبر العلم اليقينى، ولا سيما إذا احتفت به قرينة من القرائن السابق تفصيلها. وحتى مع القول بأن خبر الواحد يفيد الظن الراجح بصدق الخبر، فإن هذا الظن يستند إلى أصل قطعى وهو القرآن الكريم.

_ (1) القاموس المحيط 4/241، وانظر: مختار الصحاح ص 406. (2) انظر: مجلة المنار المجلد 19/343. (3) التعريفات ص 187 رقم 934، وانظر: كشاف اصطلاحات الفنون 4/939، 940. (4) انظر: الإحكام للآمدى 1/31، والبحر المحيط للزركشى 1/74. (5) جزء من الآية 249 من سورة البقرة. (6) جزء من الآية 24 من سورة ص. (7) جزء من الآية 10 من سورة الممتحنة. (8) انظر: مجلة المنار المجلد 19/344.

يقول الشاطبى: "وهذه هى الظنون المعمول بها فى الشريعة أينما وقعت، لأنها استندت إلى أصل معلوم، فهى من قبيل المعلوم جنسه ... فعلى كل تقدير: خبر واحد صح سنده فلابد من استناده إلى أصل فى الشريعة قطعى، فيجب قبوله، ومن هنا قبلناه مطلقاً، كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شئ فلابد من ردها (1) . ... يقول الدكتور السباعى: ثم إن الشرع الحنيف قد جاء بتخصيص القطعى بظنى، كما فى الشهادة على القتل والمال باثنين، مع أن حرمة المال والدم مقطوع بهما، وقد قبلت فيهما شهادة الاثنين وهى ظنية (2) . أما قياسهم الرواية على الشهادة فى اعتبار العدد بحجة أن الرواية شرع عام والشهادة شرع خاص ولم يقبل فيها رواية الواحد، فلأن لا تقبل فى حق كل الأمة من باب أولى. هذا الكلام منقوض بسائر الأمور التى هى معتبرة فى الشهادة لا فى الرواية كالحرية، والذكورية والبصر، وعدم القرابة" (3) ، وقد حرر الحافظ السيوطى فى التدريب الفرق بين الرواية والشهادة فيما يقرب من إحدى وعشرين فرقاً، فانظرها؛ فإنها مهمة (4) . ... ثم إن القول بظنية سنة الآحاد لا تنطبق على جميع السنة، بل على ما كان منها ضعيفاً أو الأحاديث التى حدث كلام فى صحتها، لاسيما وقد ذهب المحققون من أهل الحديث والأصول، والفقه، إلى إفادة الخبر العلم فيما تلقته الأمة بالقبول كأحاديث الصحيحين أو ما احتفت به قرينة من القرائن الخارجية السابق ذكرها.

_ (1) الاعتصام 1/190، وانظر: الموافقات 3/14 وما بعدها. (2) السنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 152، وانظر: الإحكام للآمدى 2/62، والمحصول للرازى 2/193، والمدخل إلى السنة النبوية لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد المهدى عبد القادر ص 313، 318، 320. (3) المحصول للرازى 2/206، وانظر: الإحكام لابن حزم 1/111، 127. (4) تدريب الراوى 1/331 - 334.

.. وكذلك فإن الحكم على كون الدليل قطعياً أو ظنياً من الأمور النسبية: يقول ابن قيم الجوزية: "كون الدليل من الأمور الظنية أو القطعية أمر نسبى يختلف باختلاف المدرك المستدل، ليس هو صفة للدليل فى نفسه، فهذا أمر لا ينازعه فيه عاقل، فقد يكون قطعياً عند زيد، ما هو ظنى عند عمرو، فقولهم إن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة المتلقاة بين الأمة بالقبول لا تفيد العلم، بل هى ظنية هو إخبار عما عندهم، إذ لم يحصل لهم من الطرق التى استفاد بها العلم أهل السنة ما حصل لهم (1) . ولمعرفتهم بذلك فالكلمة الفصل والأخيرة فى المسألة لهم ولا تعويل على غيرهم كالمتكلمين. ويقول الدكتور صالح أحمد رضا:"وأين الدليل على أن الله عز وجل منعنا بالعمل بالظن، وأمرنا دائماً وأبداً باليقين؟

_ (1) مختصر الصواعق المرسلة 2/576.

إن الله تعالى لم يطالبنا إلا بالظن الذى يغلب صدقه، أما الوصول إلى اليقين القاطع الذى ليس معه أى احتمال، فهذا لا يطلب من الإنسان المسلم، إذ ليس فى مقدوره أن يصل إلى اليقين، ولهذا عندما تكلم العلماء عن القرآن الكريم قالوا: إن بعضه قطعى الثبوت قطعى الدلالة، وبعضه قطعى الثبوت ظنى الدلالة، وقد قال تعالى فى محكم كتابه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) فالراسخون فى العلم هم الذين يعودون بالمتشابه إلى المحكم، ويفهمون بذلك الجميع، ومن يطلع على علم أصول الفقه يتبين الفروق بين العموم والخصوص، ودلالات الألفاظ على المعانى ودرجة تلك الدلالة مما جرى فيه اختلاف العلماء فى كل زمان، وفهمهم من كتاب الله تعالى، مما يدل على أننا لسنا متعبدين باليقين …. فقد أوجب الله تعالى علينا قبول قول شاهدين والعمل بمقتضى شهادتها فى إثبات الحقوق، والدماء، ولا شك أن خبر الشاهدين هو خبر آحاد ومع ذلك فخبرهما معتبر شرعاً (2) . ... أما ما استدلوا به من الأخبار والآثار المرفوعة والموقوفة على عدم حجية خبر الواحد فهو أيضاً حجة عليهم لا لهم. لأن الأخبار والآثار السابقة قبلها من توقف فيها، بموافقة راوى آخر، ولم تبلغ بذلك رتبة التواتر، ولا خرجت عن رتبة الآحاد. ... فانضمام أبى بكر وعمر وغيرهما، مع خبر ذى اليدين عمل بخبر آحاد.

_ (1) الآية 7 من سورة آل عمران. (2) ظاهرة رفض السنة وعدم الاحتجاج بها للدكتور صالح أحمد رضا ص 58-60.

وكذلك الحال فى قصة أبى بكر وعمر، فانضمام محمد بن مسلمة إلى المغيرة بن شعبة لم يجعل حديث الجدة ينتقل من خبر آحاد إلى خبر متواتر. وكذلك انضمام أبى سعيد الخدرى إلى أبى موسى الأشعرى رضي الله عنهم لم ينقل الحديث إلى رتبة التواتر. ... قال الإمام الآمدى: "فعلم من ذلك أن ما ردوه من الأخبار أو توقفوا فيه لم يكن لعدم حجية خبر الآحاد عندهم، وإنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض، أو فوات شرط؛ لا لعدم الاحتجاج بها فى جنسها، مع كونهم متفقين على العمل بها، ولهذا أجمعنا على أن ظواهر الكتاب والسنة حجة، وإن جاز تركها والتوقف فيها لأمور خارجة عنها (1) . 1- فتوقف النبى صلى الله عليه وسلم فى خبر ذى اليدين لتوهم غلطه لانفراده بذلك السؤال دون من صلى معه صلى الله عليه وسلم، مع كثرتهم، فاستبعد الرسول صلى الله عليه وسلم حفظه دونهم، فحيث وافقه الباقون على ذلك، ارتفع توهم غلط ذى اليدين، وعمل بموجب خبره، فلم يلزم من ذلك رد خبر الواحد مطلقاً" (2) . ... وهذه كتب الآثار طافحة بأمثلة عديدة تؤيد اعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم لخبر الواحد حجة فقد "بعث رسله واحداً واحداً إلى الملوك، ووفد عليه الآحاد من القبائل فأرسلهم إلى قبائلهم، وكانت الحجة قائمة بإخبارهم عنه صلى الله عليه وسلم مع عدم اشتراط التعدد (3) . وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع" (4) . وقل مثل ذلك فى قصة أبى بكر وعمر - رضى الله عنهما - فتوقف أبى بكر فى خبر المغيرة بن شعبة فى ميراث الجدة. هذا ليس منه مطرداً، فهو يريد مزيداً من التثبت والتحوط لا اتهاماً للمغيرة باعتباره راوياً فرداً، ولا طعناً فى حجية خبر الواحد.

_ (1) الإحكام للآمدى 2/61. (2) الإحكام للآمدى 1/62، وانظر: فتح البارى 13/250 رقم 7254 - 7260. (3) تدريب الراوى 1/73. (4) سبق تخريجه ص 34، 273.

بدليل أنه قبل خبر عائشة وحدها فى أن النبى صلى الله عليه وسلم مات يوم الاثنين وقبل أيضاً خبرها وحدها فى قدر كفن النبى صلى الله عليه وسلم فعن عائشة - رضى الله عنها - قالت: "دخلت على أبى بكر رضي الله عنه فقال: فى كم كفنتم النبى صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فى ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص، ولا عمامة، وقال لها فى أى يوم توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت يوم الاثنين. قال: فأى يوم هذا؟ قالت يوم الاثنين. قال: أرجوا فيما بينى وبين الليل … الحديث" (1) . 3- وأما قصة عمر رضي الله عنه وتوقفه فى خبر أبى موسى فى الاستئذان، فإن أبا موسى أخبره بذلك الحديث عقب إنكاره عليه رجوعه بعد الثلاث، وتوعده، فأراد التثبت خشية أن يكون دافع بذلك عن نفسه (2) . يدل على ذلك ما جاء فى إحدى طرق الحديث أن أبى ابن كعب قال لعمر:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك يا ابن الخطاب! فلا تكونن عذاباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمقال سبحان الله! إنما سمعت شيئاً. فأحببت أن أتثبت" (3) . ... وفى رواية:"والله إن كنت لأمينا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أحببت أن أتثبت (4) ،وفى رواية:"أما إنى لم أتهمك.ولكن خشيت أن يتقوَّل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) وقد قبل عمر رضي الله عنه أخبار آحاد كثيرة دون توقف.

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجنائز، باب موت يوم الاثنين 3/297 رقم 1387 (2) انظر: تدريب الراوى 1/73، والرسالة للشافعى ص 433 فقرات رقم 1189، 1196. (3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الآداب، باب الاستئذان 7/387 رقم 7254. (4) انظر: فتح البارى 11/32 رقم 6245. (5) أخرجه مالك فى الموطأ كتاب الاستئذان، باب الاستئذان 2/734 رقم 30، وانظر: شرح الزرقانى 4/425 - 427، والرسالة للشافعى ص 435، 436 فقرات رقم 1195 - 1200.

أدلة حجية خبر الآحاد

فقد قبل خبر عبد الرحمن بن عوف وحده فى أخذ الجزية من المجوس. فيما روى عنه رضي الله عنه أنه ذكر المجوس، فقال: ما أدرى كيف أصنع فى أمرهم. فقال: عبد الرحمن ابن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" (1) . 2- ومر قبوله خبر الضحك بن سفيان فى توريث امرأة أشيم من دية زوجها (2) . ومر حديث تناوبه هو وجار له من الأنصار فى سماع الوحى (3) . أ. هـ. والله أعلم. أدلة حجية خبر الآحاد ... سبق وأن ذكرنا أن علماء المسلمين من أهل الحديث، وأئمة الفقه، وأصحاب الأصول - فى القديم والحديث - اهتموا بهذه المسألة وكتبوا فيها أبواباً مطولة وفصولاً مطنبة، وفصلوا فيها الأدلة المستمدة من القرآن، والسنة، وعمل الصحابة، والتابعين، على حجية خبر الآحاد ووجوب العمل به. وخلاصة القول فى هذه الأدلة مسلكين على ما اختاره القاضى البيضاوى وعصبته كإمام الحرمين، والغزالى، والسبكى وولده، وفخر الدين الرازى، وغيرهم.

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب 6/297 رقمى 3156، 3157، وأخرجه مالك فى الموطأ كتاب الجزية، باب جزية أهل الكتاب والمجوس 1/233 رقم 42 واللفظ له، وانظر: الرسالة للشافعى ص431 رقم 1185. (2) راجع: ص 316. (3) راجع: ص 336.

1- المسلك الأول

1- المسلك الأول: يستند إلى أمر متواتر، لا يتمارى فيه إلا جاحد، ولا يدرؤه إلا معاند، وذلك أنا نعلم باضطرار من عقولنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل الرسل، ويحملهم تبليغ الأحكام، وتفاصيل الحلال والحرام، وربما كان يصحبهم الكتب، وكان نقلهم أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الآحاد، ولم تكن العصمة لازمة لهم، فكان خبرهم فى مظنة الظنون، وجرى هذا مقطوعاً به، متواتراً لا اندفاع له، إلا بدفع التواتر، ولا يدفع المتواتر إلا مباهت (1) . ... إلا أن المعترضين على قبول خبر الواحد قد أثاروا شبهة حول هذا المسلك وذلك بقولهم: "إن إرسالهم "أى الرسل والمبعوثون" إنما كان لقبض الزكاة والفتيا ونحو ذلك" (2) . ... وقد تولى الإجابة عن هذه الشبهة الحافظ ابن حجر فبين أن هذا الاعتراض "مكابرة" لأن العلم حاصل بأن إرسال الأمراء كان لأعم من قبض الزكاة، وإبلاغ الأحكام، وغير ذلك، ولو لم يشتهر من ذلك إلا تأمير معاذ بن جبل رضي الله عنه وقوله له: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب. فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات فىيومهم وليلتهم، فإذا فعلوا، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإذا أَطَاعُوا بها، فخذ منهم وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ (3) . لو لم يكن إلا هذا الحديث لكان فيه الغناء.

_ (1) انظر: البرهان للجوينى 1/228، والإبهاج فى شرح المنهاج 2/307، 308، والمستصفى 1/151، 152، والمحصول للرازى 2/180. (2) القائل ذلك أبو الحسين البصرى المعتزلى فى المعتمد 2/121، 122. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المغازى، باب بعث أبى موسى، ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع 7/661 رقم 4347، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام 1/228 رقم 19.

مع العلم أن "الأخبار طافحة بأن أهل كل بلد منهم، كانوا يتحاكمون إلى الذى أمر عليهم، ويقبلون خبره، ويعتمدون عليه من غير التفات إلى قرينة" (1) . ... وقديماً استدل الإمام الشافعى بهذا المسلك فى الرسالة فقال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه وعلى كل سرية واحد، وبعث رسله إلى الملوك إلى كل ملك واحداً، ولم تزل كتبه تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهى فلم يكن أحد من ولاته يترك إنفاذ أمره، وكذا كان الخلفاء من بعده (2) . وبهذا المسلك أيضاً استدل الإمام البخارى فى صحيحه فى كتاب إخبار الآحاد باب ما كان يبعث النبى صلى الله عليه وسلم من الأمراء والرسل واحداً بعد واحد (3) . وقال ابن عباس: بعث النبى صلى الله عليه وسلم دحية الكلبى (4) بكتابه إلى عظيم بصرى أن يدفعه إلى قيصر (5) . ... والأمثلة على أمراء السرايا والبعوث، وأمراء البلاد، ورسله إلى الملوك، كتب السير والتاريخ، ودواوين السنة زاخرة بها (6) .

_ (1) انظر: فتح البارى 13/247، 248 رقم 7258 - 7260. (2) الرسالة ص 412 - 419 فقرات رقم 1228، 1145 - 1147، 1151، وانظر: فتح البارى 13/254 رقمى 7264 - 7265. (3) انظر: صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) 13/254. (4) دحية الكلبى صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 2/461 رقم 701، واسد الغابة 2/197 رقم 1507، والإصابة 1/473 رقم 2395، ومشاهير علماء الأمصار 72 رقم 380، وتاريخ الصحابة 94 رقم 404. (5) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب بدء الوحى 1/42، 43 رقم 7. (6) انظر: فتح البارى 13/254، 255 رقمى 7264-7265، وطبقات ابن سعد1/16 وما بعدها، وزاد المعاد 3/595 - 697، وسيرة ابن هشام 4/600، 606، 607 - 650.

2- المسلك الثانى

2- المسلك الثانى: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الواحد، وذلك فى وقائع شتى لا تنحصر، وآحادها إن لم تتواتر فالمجموع منها متواتر، ولو أردنا استيعابها لطالت الأنفاس وانتهى القرطاس، فلا وجه لتعدادها إذ نحن على قطع بالقدر المشترك منها وهو رجوع الصحابة إلى خبر الواحد إذا نزلت بهم المعضلات، واستكشافهم عن أخبار النبى صلى الله عليه وسلم عند وقوع الحادثات، وإذا روى لهم تسرعوا إلى العمل به (1) ، فهذا ما لا سبيل إلى جحده ولا إلى حصر الأمر فيه (2) . ... وعلى ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم "أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت حجية خبر الواحد، والانتهاء إليه فى وجوب العمل به" (3) .

_ (1) راجع: ص316 وما بعدها، وانظر: الرسالة للشافعى ص422-431فقرات رقم1161-1183. (2) الإبهاج فى شرح المنهاج 2/306، وانظر: البرهان للجوينى1/229،والمستصفى1/148–150، والمحصول 2/180، والرسالة ص 420 فقرة رقم 1157، والتقرير والتحبير 2/272-275. (3) انظر: الرسالة ص 457 رقم 1248.

.. وفى كتاب الله عز وجل، أدلة لا حصر لها تدل على: صحة المسلكين السابقين. ففى القرآن الكريم قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (1) . وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} (2) . وقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} (3) . وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إنا إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} (4) . وقال عز وجل {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (5) . فلو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة، لتعذر خطاب جميع الناس شفاها، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم، وهو مسلك جيد (6) ، ينضم إلى المسلكين السابقين وبه قال الإمام الشافعى فى الرسالة (7) . وقال الإمام الشافعى بعد ذكره قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} (8) . قال: فظاهر الحجج عليهم باثنين ثم ثالث، وكذا أقام الحجة على الأمم بواحد، وليس الزيادة فى التأكيد مانعة أن تقوم الحجة بالواحد إذ أعطاه الله ما يُباين به الخلق غير النبيين" (9) .

_ (1) الآية الأولى من سورة نوح. (2) الآية 65من سورة الأعراف. (3) الآية 72 من سورة الأعراف. (4) الآية 163 من سورة النساء. (5) الآية 20 من سورة يس. (6) انظر: فتح البارى 13/248 رقم 7258 - 7260. (7) الرسالة ص 435 فقرة رقم 1201. (8) الآيتان 13، 14 من سورة يس (9) الرسالة ص 437 فقرة رقم 1213.

وبالجملة فكل خبر واحد فى القرآن الكريم، وفى السنة المطهرة، يشهد بحجية خبر الواحد ووجوب العمل به (1) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) انظر: ما استدل به ابن قيم الجوزية على ذلك فى مختصر الصواعق المرسلة 2/550-558، وانظر: الإحكام لابن حزم 1/115، والمدخل إلى السنة لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد المهدى ص284، 286.

المبحث الرابع شروط حجية خبر الواحد ووجوب العمل به

المبحث الرابع شروط حجية خبر الواحد ووجوب العمل به عند المحدثين والرد على شروط المعتزلة ومن قال بقولهم قديماً وحديثاً شروط حجية خبر الواحد عند المحدثين: ... اتفق أهل الحديث أجمع على: أنه يشترط لصحة الحديث، وحجيته، ووجوب العمل به خمسة شروط: (1) اتصال السند (2) عدالة الراوى (3) ضبط الراوى (4) عدم الشذوذ (5) عدم العلة. ... يقول ابن الصلاح: "أما الحديث الصحيح فهو الحديث المسند الذى يتصل اسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللاً" (1) أهـ. والشرطان الآخران (عدم الشذوذ، وعدم العلة) من الشروط المعتبرة فى صحة المتن عند المحدثين، ولم يصرح بهما أئمة الفقه والأصول، لأن أكثر العلل التى يعلل بها المحدثون لا تجرى على أصول الفقهاء، فنراهم يأخذون بالحديث. وإن كان فيه بعض كلام للمحدثين بناء على أصولهم التى أصلوها وقواعدهم التى ارتضوها (2) .

_ (1) علوم الحديث لابن الصلاح ص15، 16. (2) والتى منها أن الفقيه قد يعلم صحة الحديث إذا لم يكن فى سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة فيحمله ذلك على قبوله والعمل به- كما يذهبون إلى صحة الحديث إذا تلقاه الناس بالقبول، وإن لم يكن له إسناد صحيح، كما قال ابن عبد البر فى حديث البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتتة) انظر: تدريب الراوى1/67، 68، والأجوبة الفاضلة 228- 237، وانظر: ما قيل فى حديث البحر من علل والجواب عنها فى نيل الأوطار 1/14، وانظر: اختلافات المحدثين والفقهاء فى الحكم على الحديث للدكتور عبد الله شعبان على ص 218-221.

.. قال الحافظ السيوطى فى التدريب: "قال العراقى (1) : وأما السلامة من الشذوذ والعلة فقال ابن دقيق العيد فى الإقتراح: إن أصحاب الحديث زادوا ذلك فى حد الصحيح قال: وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء، فإن كثيراً من العلل التى يعلل بها المحدثون لا تجرى على أصول الفقهاء. ... قال الحافظ العراقى: والجواب أن من يصنف فى علم الحديث؛ إنما يذكر الحديث عند أهله لا عند غيرهم من أهل علم آخر، وكون الفقهاء، والأصوليين، لا يشترطون فى الصحيح هذين الشرطين (2) ؛ لا يغير الحد عند من يشترطهما (3) . ولذلك قال ابن الصلاح بعد أن حد تعريف الحديث الصحيح فى الشروط الخمسة السابقة قال: "فهذا هو الحديث الذى يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث" (4) . وهذه الشروط كافية ومطمئنة للتأكد من ثبوت نسبة الحديث إلى قائله، سواء كان الحديث مرفوعاً أو موقوفاً أو مقطوعاً.

_ (1) العراقى هو: الحافظ الإمام الكبير، أبو الفضل، زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقى، من أئمة المسلمين، وحفاظ الحديث، له مؤلفات كثيرة منها "الألفية" فى علوم الحديث و"نكت ابن الصلاح" و"المراسيل" وغير ذلك مات سنة 806هـ له ترجمة فى طبقات الحفاظ للسيوطى ص543 رقم 1175، وحسن المحاضرة 1/360 وإنباء الغمر بأنباء العمر لابن حجر 2/275، وشذرات الذهب 7/55. (2) تعرض أئمة الأصول لهذين الشرطين بمصطلحهم فى مباحث (ضبط المتن) كما فى أصول السرخسى1/355،وفى المحصول للرازى2/210بعنوان (البحث فى الأمور العائدة إلى المخبر عنه) (3) تدريب الراوى 1/64، 65. (4) علوم الحديث لابن الصلاح ص16.

يقول فضيلة الدكتور محمد أبو شهبة –رحمه الله تعالى-: على أنه لا ينبغى أن يغيب عن ذهن القارئ الفطن أن الرواية فى الإسلام بشروطها من اتصال الأسانيد، ونقل العدول الضابطين، عن مثلهم إلى آخر السند، والحفظ واليقظة وعدم الغفلة، ضمانات كافية لترجيح الصدق والصواب، ترجيحاً قوياً على الكذب والخطأ، وترجيح الحفظ والضبط على جانب الغفلة والسهو (1) . ... هذا وهناك شروطاً أخرى مختلف فيها، بعضها أجاب عنها العلماء بأنها داخلة فى نفس الشروط الخمسة السابقة، من ذلك اشتراط أن يكون الراوى مشهوراً بطلب الحديث، واشتراط أن يكون الراوى معروفاً بالفهم والمعرفة والمذاكرة، وكثرة السماع. وأجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر: بأن اشتراط شهرة الطلب يغنى عنها شرط ضبط الراوى، واشتراط أن يكون معروفاً بالفهم والمعرفة يغنى عن ذلك شرط عدم العلة؛ لأن العلة لا تعرف إلا بما ذكر من الفهم والمعرفة والمذاكرة وغيرهما (2) . ... وهناك شروطاً أخرى اشترطها بعض الأئمة، ولم يتفق عليها جمهور الفقهاء، والمحدثين، وأصحاب الأصول. من ذلك اشتراط فقه الراوى. وأجاب عن ذلك الرازى فى المحصول بقوله: "لا يشترط كون الراوى فقهياً سواء كانت روايته موافقة للقياس، أو مخالفة له: خلافاً لأبى حنيفة – رحمه الله – فيما يخالف القياس، ولنا الحجة فى ذلك من الكتاب، والسنة، والعقل. ... أما الكتاب: فقوله تعالى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} (3) . فوجب أن لا يجب التبين فى غير الفاسق، سواء كان عالماً أو جاهلاً. ...

_ (1) الإسراء والمعراج لفضيلة الدكتور أبو شهبة ص 21، وانظر: المدخل إلى السنة النبوية لفضيلة الدكتور عبد المهدى ص 300، مبحث (شروط المحدثين مطمئنة) (2) تدريب الراوى 1/70. (3) جزء من الآية 6 من سورة الحجرات.

شروط المعتزلة لصحة خبر الواحد:

وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً، فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" (1) . ... وأما العقل: فهو أن خبر العدل يفيد ظن الصدق؛ فوجب العمل به، لما تقدم من أن العمل بالظن واجب" (2) . وهناك شروطاً أخرى اشترطها بعض فقهاء الأحناف والمالكية لحجية خبر الواحد ووجوب العمل به. ويهمنا هنا من هذه الشروط، الشروط المشتركة بين المعتزلة والأحناف، والتى قال بها بعضهم متأثراً بالمعتزلة. وكانت تلك الشروط وسيلة من وسائل أهل الزيغ والهوى فى الطعن فى حجية السنة عامة، وفى حجية خبر الآحاد خاصة. ومن هنا وجب التنويه على ذلك، وبيان أشهر تلك الشروط المختلف فيها، والتى خالف فيها المعتزلة ومن تأثر بهم، جمهور علماء الأمة من المحدثين والفقهاء والأصوليين، بل وناقضوا أنفسهم بالعمل بخلاف ما اشترطوا!! شروط المعتزلة لصحة خبر الواحد: من هذه الشروط ما اشترطه متأخروا المعتزلة من العدد فى الرواية كما فى الشهادة، وكانوا أول من اشترطوا ذلك مخالفين كل فرقة فى علمها من السنة والخوارج والشيعة والقدرية كما قال ابن حزم، وأبو بكر الحازمى وغيرهما، وكان غرضهم من ذلك، رد الأخبار وتعطيل العمل بخبر الآحاد كما جزم بذلك الأئمة الحازمى، وابن قيم، وعبد القادر البغدادى، وقلدهم فى ذلك الشرط بعض الفقهاء (3) ، ولم يقفوا على مقصودهم من ذلك كما سبق من قول الإمام ابن قيم الجوزية. واشترطوا أيضاً لصحة قبول خبر الواحد ألا يخالف ظاهر كتاب الله عز وجل فإذا ورد مخالفاً له؛ كان دليلاً على عدم صحته، وعلى الزيافة فيه كما يعبر السرخسى (4) .

_ (1) سبق تخريجه ص 34، 273. (2) المحصول 2/208. (3) انظر: شرح الأصول ص769، وأصول السرخسى 1/313. (4) أصول السرخسى 1/365، وراجع: موقف المعتزلة من السنة ص

واشترطوا ألا يكون خبر الواحد زائداً عن النص القرآنى، وإلا كان نسخاً، ولا يثبت نسخ ما يوجب علم اليقين إلا بمثل ما يوجب علم اليقين من متواتر أو مشهور، أما آحاد فلا (1) واشترطوا ألا يكون فى الحدود؛ لأنها تسقط بالشبهة، وخبر الواحد يحتمل أن راويه كذب أوسها أو أخطأ، فكان ذلك شبهه فى درء الحد. وهو قول الكَرْخِى (2) من الحنفية، وأبى عبد الله البصرى المعتزلى (3) فى أحد قوليه (4) .

_ (1) أصول السرخسى 1/292، وانظر: أعلام الموقعين 2/289، والاعتصام 2/558 وما بعدها. (2) الكَرْخِى هو: عبيد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم، أبو الحسن الكرخى الحنفى، كان شيخ الحنفية بالعراق. من مؤلفاته "المختصر" و"شرح الجامع الكبير" و"شرح الجامع الصغير". توفى سنة340هـ له ترجمة فى شذرات الذهب2/358،وتاج التراجم فى طبقات الحنفية لابن قطلوبغا ص39، وطبقات المعتزلة لابن المرتضى ص 130، وتاريخ بغداد 10/353 رقم 5507، ولسان الميزان 4/528 رقم 5442. (3) البصرى هو: الحسين بن على، أبو عبد الله البصرى الحنفى، شيخ المتكلمين، وأحد شيوخ المعتزلة توفى سنة 369. له ترجمة فى تاريخ بغداد 8/73 رقم 4153، والفوائد البهية فى تراجم الحنفية للكنوىص67،وطبقات المفسرين للداودى1/159 رقم151،وطبقات المعتزلة لابن لمرتضى ص105، ولسان الميزان 2/559 رقم 2797. (4) المعتمد فى أصول الفقه 2/96، 98، وفواتح الرحموت 2/136، والبحر المحيط 4/348، وإرشاد الفحول 1/231، وانظر: مختصر الصواعق المرسلة 2/578.

واشترطوا ألا يكون فى العقائد. لأن خبر الواحد ظنى، والعقيدة قطعية. وهو قول السرخسى الحنفى، وأبى الحسين البصرى المعتزلى، وطوائف من أهل الكلام (1) . واشترطوا ألا يثبت به حكم شرعى (فخبر الواحد لا يثبت به فرض ولا تحريم) ، وهو قول السرخسى من الحنفية، وأبى الحسين البصرى من المعتزلة (2) . ... تلك هى أشهر الشروط التى اشترطها المعتزلة، وقال بها بعض فقهاء الأحناف متأثرين بهم، والسرفى هذا التأثر يبدو طبيعياً فى نشأتهم فى بغداد، بيئة المعتزلة، وغيرهم من الفرق التى كانت مصدراً للفتن والحركات الثورية فى العالم الإسلامى.

_ (1) أصول السرخسى 1/322، والمعتمد فى أصول الفقه 2/102، 549 ومختصر الصواعق المرسلة 2/586، وشرح الأصول الخمسة ص 769، والمختصر فى أصول الدين للقاضى عبد الجبار= =ضمن رسائل العدل والتوحيد للدكتور محمد عمارة 1/268، والنص والاجتهاد لعبد الحسين شرف الدين ص 335، وراجع إن شئت موقف المعتزلة من السنة ص 120، 121، هذا وتأثر فضيلة الشيخ شلتوت –رحمه الله – بهذا الشرط وبالغ بحكايته الإجماع إذ يقول: "إن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة، ولا يصح الإعتماد عليها فى شأن المغيبات، قول مجمع عليه، وثابت بحكم الضرورة العقلية التى لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء!! " انظر: الإسلام عقيدة وشريعة ص61. وهو مما حكاه أيضاً محمود أبو رية قائلاً: "ومما اتفق عليه جميع النظار أن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها فى العقائد مهما قويت أسانيدها وتعددت طرقها"، انظر: أضواء على السنة ص24. (2) أصول السرخسى 1/334، 335، والمعتمد فى أصول الفقه 2/97، 98 وأصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص116. وقال بهذا الشرط فضيلة الشيخ محمد الغزالى –رحمه الله- فى قوله: "إن خبر الواحد لا ينهض على إثبات حرمة أو إثبات فريضة) ، أنظر: مائة سؤال عن الإسلام 1/249.

.. ويفصح لنا الإمام الزركشى (1) عن سر اشتراط الأحناف للشروط السابقة وغيرها بقوله: "قال الأستاذ أبو منصور عبد القادر البغدادى: وهذه أصول مهدوها من أجل أخبار احتج بها أصحابنا عليهم فى مواضع عجزوا عن دفعها فردوها من هذه الوجوه التى ذكرنا. وقالوا بأمثالها فى الضعف مع مخالفتها للقرآن الكريم" (2) . ... قلت: وهذا هو السر أيضاً فى اشتراط الشروط السابقة من المعتزلة، فقد أرادوا بها محاجة خصومهم من أهل السنة. وإلا (فلو أنصف أهل الفرق من الأمة لأقروا بحجية خبر الواحد ووجوب العمل به. فإنك تراهم مع اختلافهم فى طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بخبر الواحد. ترى أصحاب القدر يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوَّدانِهِ، ويُنَصِّرَانِهِ، ويُشَرِّكَانِهِ" (3) .

_ (1) الزركشى هو: محمد بن بهادر بن عبد الله، أبو عبد الله الزركشى، الشافعى، الفقيه الأصولى المحدث، من مؤلفاته "البحر المحيط" و"شرح جمع الجوامع" توفى سنة794هـ له ترجمة فى شذرات الذهب 6/335، والفتح المبين فى طبقات الأصوليين لعبد الله مصطفى المراغى 2/209. (2) البحر المحيط 4/349. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبى فمات هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبى الإسلام 3/260 رقمى 1358، 1359، وأخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موت أطفال الكفار، وأطفال المسلمين 8/458 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

.. وبقوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث القدسى: "… وإنى خلقت عبادى حنفاء. كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين؛ فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطاناً" (1) . ... وترى أهل الإرجاء يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك؛ إلا دخل الجنة- قيل: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق" (2) . وترى الرافضة يحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليردن على الحوض رجال ممن صاحبنى. حتى إذا رأتيهم ورفعوا إلى، اختلجوا دونى. فلأقولن: أى رب أصيحابى. أصيحابى. فليقالن لى: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك" (3) .

_ (1) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التى يعرف بها فى الدنيا أهل الجنة وأهل النار 9/214 رقم 2865 من حديث عِيَاضِ بن حَمارَ المُجَاشِعِىِّ رضي الله عنه. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجنائز، باب فى الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله 3/132 رقم 1237، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات مشركاً دخل النار 1/370 رقم 94 من حديث أبى هريرةرضي الله عنه. (3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الفضائل، باب إثبات حوض النبى صلى الله عليه وسلم وصفاته 8/66 رقم 2304 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

وترى الخوارج يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم، فسوق، وقتاله، كفر" (1) . وبقوله: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن" (2) . إلى غير ذلك من الأحاديث التى يستدل بها أهل الفرق، وهى كلها خبر آحاد (3) . ... إن الشروط التى اشترطها بعض فقهاء الأحناف والمالكية لقبول خبر الآحاد، وبالأخص الشروط التى اشترطها المعتزلة، وتأثر بها بعض الأحناف والتى سبق ذكرها؛ اتخذها أهل الزيغ والهوى وسيلة للتشكيك فى حجية السنة المطهرة عامة، وخبر الآحاد خاصة (4) . ووجدنا بعضهم فى عصرنا يردد الشروط السابقة بأشد التعبيرات وأوسعها فى المعنى. فوجدنا من يقطع بأن: أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها فى العقائد مهما قويت أسانيدها وتعددت طرقها (5) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر 1/135 رقم 48، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان قول النبىصلى الله عليه وسلم سباب المسلم فسوق وقتاله كفر 1/330 رقم 64 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المظالم، باب النهى بغير إذن صاحبة5/143رقم2475، وأخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الايمان، باب بيان نقصان الايمان بالمعاصى، ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفى كماله 1/317 رقم 57 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. (3) مختصر الصواعق المرسلة 2/558، 559. (4) انظر: أصول الفقه المحمدى لشاخت الفصل الرابع (الأحاديث فى مدارس الفقه القديمة – ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة الإسلامية بليبيا العدد 11 ص671- 687. وانظر: أضواء على السنة محمود أبو رية ص365، 369-398، والأصلان العظيمان ص297، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص96، وتبصير الأمة بحقيقة السنة ص363 وغيرهم. (5) انظر: أضواء على السنة لمحمود أبو رية ص24.

ووجدنا من يقول: إن كل مسلم يبنى عقيدته على دليل ظنى؛ يكون قد ارتكب جرماً وإثماً ووجدنا من يقول: إن أحاديث الآحاد لا تصلح فى العقوبات لخطورتها. ووجدنا من يقول: إن خبر الآحاد لا يصلح فى الأمور الدستورية والسياسية لأهميتها (1) ووجدنا من يقول: إن أحاديث سنة (الآحاد) لا يعمل به فى الأمور الاعتقادية، فلا يعتبر ما ورد فيه فرضاً دينياً، أو واجباً دينياً، بل يؤخذ به فى أمور الحياة على سبيل الاستئناس والإسترشاد (2) . ... ومما هو جدير بالذكر: أن الإمام الشافعى قد أفاض فى مناقشة شروط الأحناف والمالكية، وفندها فى كتابيه (الأم) و (الرسالة) . ومن مهارة الإمام فى دفاعه وتفنيده حجج الأحناف والمالكية فيما اشترطوه من شروط زائدة على ما اشترطه أهل الحديث- لصحة خبر الواحد طعن اعداء الإسلام فى دفاع الإمام الشافعى وعابوه.

_ (1) كالدكتور عبد الحميد متولى فى كتابه مبادئ نظام الحكم فى الإسلام، والدكتور محمد سعاد، وغيرهم. انظر: مصادر الشريعة الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية للمستشار الدكتور على جريشة، وانظر: السنة المفترى عليها للمستشار البهنساوى ص154، 341، 358، 359. (2) حقيقة الحجاب وحجية الحديث ص95، 105، والربا والفائدة فى الإسلام ص8 كلاهما لسعيد العشماوى، وانظر: أضواء على السنة لمحمود أبو ريه ص378 والسنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص150، وتبصير الأمة بحقيقة السنة لإسماعيل منصور ص369 وغيرهم.

وممن سلك هذا المسلك جوزيف شاخت فى الثلاثة فصول الأولى من كتابه (أصول الفقه المحمدى) (1) وتابعه نصر أبو زيد فى كتابه (الإمام الشافعى وتأسيس الايديلوجية الوسطية) (2) ، وجمال البنا فى كتابيه الأصلان (3) ، والسنة ودورها فى الفقه الجديد (4) ، وإسماعيل منصور فى تبصير الأمة بحقيقة السنة (5) ، ومحمد شحرور فى الدولة والمجتمع (6) وغيرهم

_ (1) انظر: الفصل الأول منه بعنوان (النظرة التقليدية للفقه الإسلامى) والفصل الثانى بعنوان (مدارس الفقه القديمة وموقف الشافعى منها) ، والفصل الثالث بعنوان "الشافعى والأحاديث الفقهية" وغير ذلك فى أماكن متفرقة من كتابه. ترجمه الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 11 ص648 – 667. (2) انظر: الإمام الشافعى وتأسيس الإيديلوجية الوسطية ص 5-146. (3) انظر: الأصلان العظيمان ص298-299. (4) انظر: السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 15، 61، 96. (5) انظر: تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 375. (6) انظر: الدولة والمجتمع ص 235.

.. والحق: أن الإمام الشافعى لم يكن وحده فى الميدان يدافع عن رأى جمهور علماء الأمة ضد شروط الأحناف والمالكية، وإنما كان هناك غيره على ما حكاه الإمام ابن أبى حاتم الرازى فى كتابه آداب الشافعى (1) ، إلا أنه -رحمه الله- أفاض فى الدفاع أكثر من غيره، وارتضى علماء الأمة من بعده دفاعه وصوبوه ودافعوا عنه (2) . ... يقول الاستاذ عبد الحليم الجندى دفاعاً ضد أعداء الإسلام فيما اتهموا به الإمام الشافعى من وضعه أصول خالف فيها بزعمهم من سبقه، قال: "وإنك لترى- بادئ الرأى- أن الأصول التى عرضتها "الرسالة" أصول مسلمة لاشبهة فيها، تسليم الكشوف العلمية، وأنها قواعد عملية قبل أن تكون فلسفية أو نظرية، ولهذا عبرت العصور عصراً، بعد عصر، عماداً

_ (1) انظر: آداب الشافعى لابن أبى حاتم ص 169. (2) ومن هؤلاء الأئمة الأعلام الذين أفاضوا فى ذلك بعد الإمام الشافعى الإمام ابن قيم الجوزية فى كتابه أعلام الموقعين عن رب العالمين 2/271 وما بعدها. هذا فضلاً عن تحقيقات أئمة أصول الفقه فىمباحثهم فى خبر الآحاد. أما ما ينسب من تلك الشروط السالفة إلى الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المقبولين عند الأئمة قبولاً عاماً. فقد دافع عن ذلك ابن تيمية فى كتابيه رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وصحة أصول مذهب أهل المدينة، انظر: أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 2/229، والإنصاف فى بيان سبب الإختلاف فى الأحكام الفقهية للعلامة أحمد الدهلوى ص16- 43، والسنة المطهرة بين أصول الأئمة وشبهات صاحب فجر الإسلام وضحاه، والسنة مع القرآن كلاهما لفضيلة الأستاذ الدكتور سيد أحمد المسير، وكيف نتعامل مع السنة النبوية للدكتور يوسف القرضاوى مبحث (جميع الفقهاء يحتكمون إلى السنة) ص54، 55.

الجواب: عن الشروط السابقة ومن قال بها قديما وحديثا

للعلماء فى حقول الفكر، وأنها ولدت كاملة، إذ كانت وليدة الاستقراء الشامل، فغدت، منذ وجدت، من المسلمات يتتابع عليها الفقهاء فى شتى المذاهب. بما فيهم رافضوا القياس الذين يعتمدون على النصوص وحدها (1) . الجواب: عن الشروط السابقة ومن قال بها قديماً وحديثاً أولاً: ما اشترطوه من العدد لصحة قبول خبر الآحاد: ... فقد مر قريباً الرد على ما احتجوا به فى اشتراط العدد من قصة توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم: فى خبر ذى اليدين، وتوقف عمر فى خبر أبى موسى الأشعرى. وغير ذلك.

_ (1) الإمام الشافعى ناصر السنة وواضع الأصول ص215، والانصاف فى بيان سبب الاختلاف للدهلوى ص16، 36، وانظر للاستزادة: نقض كتاب نصر أبو زيد، ودحض شبهاته للدكتور رفعت فوزى، ونقض مطاعن نصر أبو زيد فى القرآن والسنة والصحابة وأئمة المسلمين للدكتور إسماعيل سالم، ومناقب الشافعى للرازى، وآداب الشافعى ومناقبه لابن أبى حاتم، ومناقب الشافعى للبيهقى، والمدخل لدراسة القرآن والسنة والعلوم الإسلامية للدكتور شعبان محمد إسماعيل 2/410-417، وأصول الفقه الإسلامى للدكتور طه جابر العلونى ص 15-25.

والحق أن اشتراط العدد لصحة قبول خبر الآحاد [بدعة ضالة منكرة يأباها واقع الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم، ويرفضها العقل والمنطق السليمان المجردان من الهوى والزيغ، فيستحيل فى الواقع أن يسير الرسولصلى الله عليه وسلم، فى كل أحيانه مع كوكبة من أصحابه تبلغ حد التواتر، لا يتركونه فى حله، أو فى ترحاله، أو فى يقظته، أو فى فراش نومه حتى يتم التصديق بما جاء عنه من آحاد الصحابة، ويستحيل فى عرف العقل والمنطق أن يتقاعس المسلمون عن الدعوة، وينفضوا أيديهم عن مقومات حياتهم ووجودهم من تجارة وزراعة ونحوها، فلا يبرحون المدينة، ولا يتجاوزون رسولهم صلى الله عليه وسلم، إلى غيره، ليتفرغوا جميعاً. لنقل ما يصدر عنه حتى يتم تصديق الأصحاب فيما يبلغونه عنه، فالواقع، والعقل، والمنطق كلهم يرفض ذلك ويزدريه، ويرثى على المتمسكين بشرط العدد، مجافاتهم للعقل والمنطق، وعدم إدراكهم لواقع الأشياء، فقد كان بعض الصحابة يشغلهم الصفق فى الأسواق، وكان بعضهم يشغله الجهاد فى سبيل الله عز وجل، وكان منهم من يلازم الرسولصلى الله عليه وسلم، على ملء بطنه، يحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون، من أجل ذلك كان يروى عنه الواحد، والإثنان، والثلاثة، والأكثر، ومن أجل ذلك أيضاً كانت إحدى نسائه تروى عنه بعض ما يحدث منه فى البيت مما تفرد عنه أصحابه، وما يحدث بين المرأة وزوجها من أمور تشريعية (1) . ويقول الحافظ ابن حجر: "وأما من شرط العدد، فهو قول شاز مخالف لما عليه الجمهور، بل تقبل رواية الواحد إذا جمع أوصاف القبول" (2) .

_ (1) السنة النبوية بين دعاة الفتنة وأدعياء العلم لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد الموجود عبد اللطيف ص119، 120. (2) انظر: لسان الميزان 1/26، 27.

ثانيا: ما اشترطوه لصحة قبول خبر الواحد:

.. ويقول فضيلة الدكتور أبو شهبة: "ثم ما هذه البدعة السيئة، بدعة أن الخبر ما دام لم يتواتر لا يقبل ولا يؤخذ به ولو أن كل مسألة من مسائل العلم والمعرفة لم نكتف فيها إلا بالتواتر لما سلم لنا من المعارف إلا القليل، بل لو أننا طبقنا هذه القاعدة على علم التاريخ والآداب لما سلم لنا منها إلا شئ أقل من القليل" (1) . ... ومع كل هذا فإن المحدثين لم يهملوا العدد، وإنما اعتبروه فى تقسيمهم لخبر الآحاد إلى غريب، وعزيز، ومشهور. والترجيح بكثرة العدد عند التعارض، وها أنت قد سمعت آنفاً ما ذكره أئمة الحديث وجهابذته من أن الحديث المتواتر يوجد بكثرة فى كتب الحديث المشهورة مثل الكتب الستة والمسانيد وغيرها (2) . ثانياً: ما اشترطوه لصحة قبول خبر الواحد: بألا يخالف ظاهر كتاب الله عز وجل فقد استدلوا لذلك بأدلة منها ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، "تكثر الأحاديث لكم بعدى، فإذا روى لكم عنى حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فما وافقه فاقبلوه، واعلموا أنه منى، وما خالفه فردوه، وأعلموا أنى منه برئ" (3) .

_ (1) الإسراء والمعراج لفضيلة الدكتور محمد أبو شهبه ص 21. (2) راجع: إن شئت ص 539-541. (3) الأم 7/307- 308، وأصول السرخسى 1/365، والمعتمد فى أصول الفقه 2/80.

واستدلوا أيضاً بما روى عن أبى بكر وعمر وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم فى ردهم خبر فاطمة بنت قيس (1) –رضى الله عنها-، فيما روى عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم، فى المطلقة ثلاثا قال:"ليس لها سكنى ولا نفقة" فرد ذلك عمر رضي الله عنه، بقوله:"لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لقول إمرأة لا ندرى لعلها حفظت أو نسيت.لها السكنى والنفقة قال الله عز وجل: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) . واستدلوا أيضاً برد عائشة (رضى الله عنها) حديث عمر وابنه عبد الله -رضى الله عنهما- فى تعذيب الميت ببعض بكاء أهله عليه، فردت ذلك عائشة بقولها "يرحم الله عمر لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد" ولكن قال: "إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه" حسبكم القرآن: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (3) .

_ (1) فاطمة بنت قيس: صحابية جليلة لها ترجمة فى: الإصابة4/384رقم11608 والإستيعاب 4/1901 رقم4062، وتاريخ الصحابة ص209 رقم1114، واسد الغابة 7/224 رقم 7193. (2) الآية الأولى من سورة الطلاق، والحديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها 5/356 رقم 1480، وانظر: رقم 1481. (3) الآية 38 من سورة النجم، والحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجنائز، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إن كان النوح من سنته3/181رقمى 1287، 1288، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه 3/502، 503 رقمى 927، 929.

واستدلوا برد على بن أبى طالب رضي الله عنه لخبر معقل بن سفيان رضي الله عنه فيما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أنه سئل عن رجل تزوج امراة ولم يفرض لها صداقاً، ولم يدخل بها حتى مات. فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها. لاوكس ولا شطط. وعليها العدة ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعى (1) ، فقال: قضى رسول اللهصلى الله عليه وسلم، فى بروع بنت واشق، إمرأة منا. مثل الذى قضيت. ففرح بها ابن مسعود" (2) فرد ذلك على بن أبى طالب رضي الله عنه بقوله: "لا ندع كتاب ربنا لقول أعرابى بوال على عقبيه" (3) .

_ (1) معقل بن سنان الأشجعى: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 3/446 رقم 815، واسد الغابة 5/221 رقم 5033، والاستيعاب 3/1431 رقم 2460، وتاريخ الصحابة 239 رقم1311، ومشاهير علماء الأمصار ص57 رقم 281. (2) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسم صداقاً حتى مات 2/237 رقم 2114، والترمذى فى سننه كتاب النكاح، باب ما جاء فى الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها 3/450 رقم 1145، وقال: وفى الباب عن الجراح. وحديث ابن مسعود حسن صحيح. واللفظ للترمذى. (3) هذه الزيادة أخرجها سعيد بن منصور فى سننه1/232رقم931، وأخرجها عبد الرازق فى مصنفه 6/293. قال الشوكانى فى هذه الزيادة (لم يثبت عنه من وجه صحيح ولو سلم ثبوته فلم ينفرد بالحديث معقل المذكور بل روى من طريق آخر غيره، بل معه الجراح كما وقع عند أبى داود، والترمذى وناس من اشجع، انظر: نيل الأوطار 6/173. وقال الصنعانى فى سبل السلام "وأما الرواية عن على رضي الله عنه- فقال فى البدر المنير لم يصح عنه، انظر: سبل السلام 3/1045

.. واستدل بالأحاديث السابقة أو بعضها كل من محمود أبو رية فى (أضواء على السنة) (1) ، وأحمد أمين فى (فجر الإسلام) (2) ، وأحمد حجازى السقا فى كتابة (دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى) (3) ، وجمال البنا فى (السنة ودورها فى الفقه الجديد) (4) ، وإسماعيل منصور فى (تبصير الأمة بحقيقة السنة) (5) ، ونيازى عز الدين فى (دين السلطان) (6) وغيرهم. ... وتأثر بهذا الشرط والمنهج، فضيلة الشيخ محمد الغزالى – غفر الله له وزاد فى إحسانه وتجاوز عن سيئاته- فى كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) إذ يقول معقباً على قول عائشة -رضى الله عنها- (حسبكم القرآن) يقول الشيخ: "وعندى أن ذلك المسلك الذى سلكته أم المؤمنين أساس لمحاكمة الصحاح إلى نصوص الكتاب الكريم" (7) . ... والجواب: إن ما استدل به على رد خبر الآحاد إذا كان زائداً على النص القرآنى لا حجة لهم فيه فحديث (عرض السنة على القرآن) سبق تخريجه وبيان وضعه (8) . وبقية الأخبار التى جاء فيها رد بعض الصحابة لبعض الأخبار لمجرد تعارضها الظاهرى مع القرآن لا حجة لهم فيها أيضاً. والحق مع الخبر وهو موافق لكتاب الله عز وجل. وقد أفاض فى الدفاع عن خبر فاطمة ابن قيم الجوزية فى زاد المعاد (9) . وقال الشوكانى ما قيل فى الخبر من أنه مخالف للقرآن فوهم (10) .

_ (1) انظر: أضواء على السنة ص 73، 74. (2) انظر: فجر الإسلام ص 216، 217. (3) انظر: دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص 104، 105، 156، 193. (4) انظر: السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 113. (5) انظر: تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 305، 398، 399، 409، 419. (6) انظر: دين السلطان ص941. (7) انظر: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص 23. (8) راجع: ص 218-221. (9) انظر: زاد المعاد 5/522 – 542. (10) نيل الأوطار 6/303.

ومما هو جدير بالذكر أن أبا حنيفة النعمان –رحمه الله- قال بخبر فاطمة (1) . وكذلك الحال فى خبر تعذيب الميت ببعض بكاء أهله عليه، الحق مع الخبر، ولا مخالفة فيه لكتاب الله عز وجل، كما هو واضح من ترجمة الإمام البخارى لباب الحديث (يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إن كان النوح من سنته) (2) . ... أما ما قاله على بن أبى طالب رضي الله عنه رداً على خبر معقل بن سنان رضي الله عنه؛ فقد سبق من قول الشوكانى وغيره أن هذا لم يصح عنه، ولو سلمت صحته فلم ينفرد به معقل، والجمهور مع الخبر فهو أيضاً صحيح موافق لكتاب الله عز وجل (3) . ... ومع أن الجمهور مع الأخبار التى توقف فيها بعض الصحابة لتعارضها الظاهرى مع القرآن الكريم فقد حملوا هذا التوقف من الصحابة على التثبت والإحتياط، ولم يكن ذلك منهم مسلكاً مطرداً بدليل ما سبق ذكره من حالهم فى احتجاجهم بخبر الواحد والعمل به. ومما هو جدير بالذكر أن من اشترطوا هذا الشرط من الأحناف، خالفوه، وقبلوا أخباراً بأسانيد ضعيفة مع مخالفتها للقرآن الكريم، وقد أكثر من تفصيل ذلك ابن قيم الجوزية (4) .

_ (1) المنهاج شرح مسلم للنووى 5/359، وانظر: نيل الأوطار 6/303، وسبل السلام 3/1126 (2) انظر: صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) 3/181، وانظر: نيل الأوطار 4/102، 106، والإجابة لايراد ما استدركته عائشة على الصحابة للإمام الزركشى ص102، 103. (3) انظر: نيل الأوطار6/173،وسبل السلام3/1045،وأحكام القرآن لابن العربى 1/219،والجامع لأحكام القرآن للقرطبى3/197،ومنهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوى للدكتور الأدلبى ص135 (4) أعلام الموقعين 2/288 وما بعدها.

ثالثا: ما زعموه أن زيادة خبر الواحد على النص القرآنى تعد نسخا:

ثالثاً: ما زعموه أن زيادة خبر الواحد على النص القرآنى تعد نسخاً: فقد أفاض فى الرد على ذلك الامام ابن قيم الجوزية، مبيناً المراد بالنسخ فى السنة الزائدة على القرآن الكريم، قائلاً: "ما تعنون بالنسخ الذى تضمنته الزيادة بزعمكم؟ أتعنون أن حكم المزيد على القرآن من الإيجاب، والتحريم، والإباحة بطل بالكلية، أم تعنون به تغير وصفه بزيادة شئ عليه من شرط أو قيد أو مانع أو تخصيص أو ما هو أعم من ذلك؟ ... فإن عنيتم الأول فلا ريب أن زيادة خبر الواحد لا تتضمن ذلك، فلا تكون ناسخة. وإن عنيتم الثانى، فهو حق، ولكن لا يلزم منها بطلان حكم المزيد عليه، ولا رفعه، ولا معارضته، بل غاية الزيادة بخبر الواحد كالشروط، والموانع، والقيود، والمخصصات، وشئ من ذلك لا يكون نسخاً يوجب إبطال الأول ورفعه رأساً. وإن كان نسخاً بالمعنى العام الذى يسميه السلف نسخاً، وهو رفع الحكم الظاهر فى القرآن بتخصيص أو تقييد أو توضيح … إلخ، فهذا كثير من السلف يسميه نسخاً. حتى سمى الاستثناء نسخاً، فإن أردتم هذا المعنى، فلا مشاحة فى الاسم، ولكن ذلك لا يسوغ رد السنن الناسخة للقرآن بهذا المعنى، ولا ينكر أحد ممن يعتد به نسخ القرآن بالسنة بهذا المعنى بل هو متفق عليه بين الناس، وإنما تنازعوا فى جواز نسخ القرآن بالسنة، النسخ الخاص الذى هو رفع أصل الحكم وجملته بحيث يبقى بمنزلة ما لم يشرع البتة (1) .

_ (1) أعلام الموقعين 2/297 بتصرف، وانظر: البحر المحيط 4/348، والإحكام لابن حزم 1/113، والسنة مع القرآن لفضيلة الدكتور سيد أحمد المسير ص 52 - 64.

.. ومما هو جدير بالذكر هنا أن الأحناف مع قولهم بعدم قبول خبر الواحد إذا كان زائد على القرآن، فقد قبلوا أحكاماً كثيرة زائدة على ما فى القرآن بعضها من السنة المشهورة كحد الرجم، وتحريم الجمع بين المرأة، وعمتها والمرأة وخالتها، وغير ذلك من الأحكام الزائدة على ما فى القرآن وقبلوها لأنها ثبتت بسنة مشهورة تفيد عندهم علم طمأنينة القلب (1) . هذا فى حين أن أهل الزيغ والهوى عندما يستدلون بمذهب الأحناف وبشرطهم يتجاهلون هذا إما عن عمدٍ للتضليل، وإما عن جهل بشرطهم، وهو جعلهم المشهور قسيماً للمتواتر فى إفادة العلم، وقبول ما أثبته زائداً على النص القرآنى. وهو ما رفضه أعداء السنة فى خبر الرجم، والجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها … وغير ذلك بالرغم من استشهادهم بشرط الأحناف بعدم قبولهم خبر الواحد إذا كان زائد على القرآن الكريم. ... فتأمل كيف استغلوا ذلك الشرط للتشكيك فى حجية خبر الواحد، والطعن فى الأحكام التى استقلت السنة بتشريعها!! واعلم: أن من اشترط ذلك الشرط؛ فقد اشترطه على هوى فى نفسه، حيث طبقه حيث اشتهى، ورفضه أيضاً حيث اشتهى، وقد أكد ذلك غير واحد من الأئمة بعد ذكرهم أمثلة كثيرة على مخالفتهم لما اشترطوه، وقبولهم أحكاماً زائدة على ما فى القرآن. يقول ابن حزم: "فمن أين جوزتم أخذ الزائد على ما فى القرآن كما ذكرنا حيث اشتهيتم، ومنعتم منه حيث اشتهيتم، وهذا ضلال لا خفاء به، وكل ما وجب العمل به فى الشريعة فهو واجب أبداً فى كل حال (2) .

_ (1) انظر: الأم للشافعى 7/11 وما بعدها. (2) الإحكام لابن حزم 1/114، وانظر: الأم 7/15، وأعلام الموقعين 2/289، 293 وما بعدها.

رابعا: أما ما اشترطوه فى صحة خبر الواحد بألا يكون فى الحدود

رابعاً: أما ما اشترطوه فى صحة خبر الواحد بألا يكون فى الحدود: فقد رد ذلك أئمة الأصول يقول الإمام الآمدى: "اتفقت الشافعية، والحنابلة، وأبو يوسف (1) ، وأبو بكر الرازى (2) من أصحاب أبى حينفة، وأكثر الناس على قبول خبر الواحد فيما يوجب الحد، وفى كل ما يسقط بالشبهة، خلافاً لأبى عبد الله البصرى، والكرخى. ودليل ذلك أنه يغلب على الظن، فوجب قبوله لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلىَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض. فأقضى له على نحو مما أسمع منه. فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً؛ فإنما أقطع له به قطعة من النار" (3) . ولأنه حكم يجوز إثباته بالظن، بدليل ثبوته بالشهادة، وبظاهر الكتاب، فجاز إثباته بخبر الواحد كسائر الأحكام ظنية، والمسألة الظنية، فكان الظن كافياً فيها. وسقوطه بالشبهة لو كان، لكان مانعاً من الأعمال، والأصل عدم ذلك، وعلى من يدعيه بيانه.

_ (1) أبو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، أبو يوسف، صاحب أبى حنيفة، تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء، المهدى، والهادى، والرشيد، وهو أول من وضع الكتب على مذهب أبى حنيفة مات سنة 182هـ. له ترجمة فى: وفيات الأعيان لابن خلكان 5/421، وتاج التراجم فى طبقات الحنفية لابن قطلوبغا ص 81. (2) أبو بكر الرازى هو: أحمد بن على الرازى، أبو بكر الجصاص، الفقيه الحنفى، من أهل الرأى، سكن بغداد، وانتهت إليه رئاسة الحنفية. توفى سنة 370هـ. له ترجمة فى الفتح المبين فى طبقات الأصوليين للمراغى1/214، والجواهر المضية فى طبقات الحنفية لعبد القادر محمد القرشى1/84. (3) أخرجه البخارى بشرح (فتح البارى) كتاب المظالم، باب إثم من خاصم فى باطل وهو يعلمه 5/128 رقم 2458، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة 6/245 رقم 1713. واللفظ له من حديث أم سلمة - رضى الله عنها -.

خامسا: ما اشترطوه بألا يكون خبر الواحد فى العقيدة

فإن قيل: خبر الواحد مما يدخله احتمال الكذب، فكان ذلك شبهة فى درء الحد، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) (1) فهو باطل بإثباته بالشهادة، فإنها محتملة للكذب، ومع ذلك يثبت بها" (2) . خامساً: ما اشترطوه بألا يكون خبر الواحد فى العقيدة. فقد سبق وأن ذكرنا أن أصول العقائد مذكورة فى القرآن الكريم، مثل التوحيد، والصفات الإلهية، والرسالة، والبعث، وجزاء الأعمال، ولا يوجد فى الحديث الصحيح إلا ما يؤيد هذه الأصول ويوضحها ويقررها، وكل ما يستشكل من الأحاديث الصحيحة فى العقائد تجد مثله فى القرآن، ويجرى فيه ما يجرى فى القرآن من التفويض أو التأويل، ولا يوجد فيها ما يكون مخالفاً لعقائد القرآن، أو زائداً عليها بحيث لا يكون له أصل فى القرآن (3) . وحتى مع التسليم جدلاً بأن أحاديث العقائد زائدة عما فى القرآن الكريم. فالقول بأن خبر الواحد ظنى، والعقائد قطعية فلا تؤخذ إلا من الأدلة القطعية. هذا القول غير صحيح، لأنه مع فرض أن خبر الآحاد فى العقائد ظنى، فهو خبر ظنى راجع إلى أصل قطعى وهو القرآن الكريم، فيجب العمل به.

_ (1) أخرجه الدارقطنى فى سننه كتاب الحدود والديات 3/84 رقم 9، وفيه المختار بن نافع، قال البخارى: وهو منكر الحديث قال: وأصح ما فيه حديث سفيان الثورى عن عاصم عن أبى وائل عن عبد الله بن مسعود "قال ادرءوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم" وروى عن عقبة بن عامر، ومعاذ، وغير واحد من الصحابة، موقوفاً عليهم، ورواه ابن حزم فىكتاب الاتصال عن عمر موقوفاً عليه. قال الحافظ: وإسناده صحيح. انظر: نيل الأوطار 7/105. (2) الإحكام للآمدى 2/106، 107، وانظر: البحر المحيط 4/348، وفواتح الرحموت 2/136، والتقرير والتحبير 2/276، وارشاد الفحول 1/231. (3) راجع: ص 497.

.. يقول الإمام الشاطبى: "الظنى الراجع إلى أصل قطعى إعماله أيضاً ظاهر، وعليه عامة أخبار الآحاد، فإنها بيان للكتاب لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) .

_ (1) الآية 44 من سورة النحل، وانظر: الموافقات 3/14.

ويقول الإمام ابن قيم الجوزية: "الذين قالوا لا يحتج بخبر الواحد فى العقائد من التوحيد، والصفات الإلهية، والبعث قالوا: الأخبار قسمان متواتر وآحاد، فالمتواتر وإن كان قطعى السند لكنه غير قطعى الدلالة، فإن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين، وبهذا قدحوا فى دلالة القرآن على الصفات وقالوا: الآحاد لا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طريقها، ولا من جهة متنها. فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته، وأفعاله من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية، وبراهين نقلية، وهى فى التحقيق كما قال الله تعالى: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (1) .

_ (1) الآية 39 من سورة النور، وانظر: مختصر الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية 2/506، وقارن بشرح العقيدة الطحاوية 2/79، 80، وتأثر فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت بهذا المنطق الفلسفى الذى يرى أن دليل العقل يفيد اليقين، أما الأدلة النقلية فلا، وينسب ذلك إلى كثير من العلماء فيقول: "وقد اتفق العلماء على أن الدليل العقلى الذى سلمت مقدماته، وانتهت فى أحكامها إلى الحس أو الضرورة يفيد ذلك اليقين ويحقق الإيمان المطلوب. أما الأدلة النقلية فقد ذهب كثير من العلماء إلى أنها لا تفيد اليقين، ولا تحصل الإيمان المطلوب، ولا تثبت بها وحدها عقيدة…والذين ذهبوا إلى أن الدليل النقلى يفيد اليقين، ويثبت العقيدة شرطوا فيه أن يكون قطعياً فى وروده، قطعياً فى دلالته، انظر: الإسلام عقيدة وشريعة ص 53.

إن هذه التفرقة بين العقائد والأحكام فى العمل بخبر الآحاد، لا تعرف عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من التابعين، ولا من تابعهم، ولا عن أحد من أئمة الإسلام، وإنما يعرف عن رءوس أهل البدع ومن تبعهم" (1) . ... ومما هو جدير بالذكر هنا أن بعض الحنفية ممن قال بهذا الشرط نقضه بنفسه بقبوله الآثار المروية فى عذاب القبر ونحوها، لأن بعضها مشهور، وبعضها آحاد أيضاً كما يصرح السرخسى بقوله: "فأما الآثار المروية فى عذاب القبر ونحوها فبعضها مشهور، وبعضها آحاد وهى توجب عقد القلب عليه" (2) .

_ (1) مختصر الصواعق المرسلة 2/578، وقارن بالسنة المفترى عليها للبهنساوى ص168،172، وانظر: البحر المحيط فى أصول الفقه للزركشى 4/261، 262 مسألة (إثبات أسماء الله بأخبار الآحاد) ومسألة (إثبات العقيدة بخبر الآحاد) 0 وانظر: فتوى الشيخ محمد رشيد رضا (أحاديث الآحاد يحتج بها فى العقائد) فى مجلة المنار المجلد 19/342 وما بعدها. وانظر: الإبانة عن أصول الديانة للأشعرى ص27–29،ومذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطى ص105، وموقف المدرسة العقلية من السنة1/163، والابتهاج فى أحاديث المعراج لابن دحية ص 78، وراجع قوله السابق ص 553، وانظر: المدخل إلى السنة النبوية للأستاذ الدكتور عبد المهدى ص291 مبحث (حجية الآحاد فى العقائد) ، والحديث حجة بنفسه فى العقائد والأحكام للأستاذ الألبانى ص45-65. (2) أصول السرخسى 1/329.

ونفس الشئ وقع فيه المعتزلة يقول القاضى عبد الجبار: "فإن قال: أفتجوزون ما ورد فى الأخبار من عذاب القبر، ومنكر ونكير، والمساءلة، والمحاسبة، والميزان، والصراط، وغير ذلك؟ قيل له نعم، نؤمن بجميع ذلك على الوجه الذى نجوز له لا على ما يظنه الحشو من أنه يعذبهم وهم موتى فى قبورهم، ولا كما تقوله المجبره من أنه لا أصل لعذاب القبر، وقد تظاهرت الأخبار بذلك، ولا يمتنع أن يتولى ذلك من يلقب من الملائكة بمنكر ونكير، ليكون أعظم فى التعذيب، وكذلك المسألة، والمحاسبة، وغير ذلك … فنحن نؤمن بما جاء فى ذلك من الأخبار، ولا خلاف بين الأمة فى ذلك" (1) . فهلا آمن أهل الزيغ والهوى بما آمن به من استدلوا بشرطهم (2) ؟! أم كفاهم شرطهم ليكون وسيلة لهم للتشكيك فى حجية خبر الآحاد فى العقائد؟!! 0

_ (1) المختصر فى أصول الدين ضمن رسائل العدل والتوحيد للدكتور محمد عمارة 1/277، 278، وانظر: شرح الأصول الخمسة ص 730. (2) انظر: تعميم أحمد صبحى منصور فى قوله:"أمور الغيبيات لا تؤخذ إلا من القرآن والحديث المتواتر هو قول علماء الأصول" وقد علمت أنه قول المعتزلة، ومن تأثر بهم من فقهاء الأحناف.انظر: عذاب القبر والثعبان الأقرع ص 16، وشفاء الصدر ينفى عذاب القبر لإسماعيل منصور.

سادسا: أما شرطهم لصحة قبول خبر الواحد بألا يثبت به حكم شرعى من فرض أو تحريم.

سادساً: أما شرطهم لصحة قبول خبر الواحد بألا يثبت به حكم شرعى من فرض أو تحريم. فيقول رداً على ذلك الإمام ابن قيم الجوزية بقوله: "إن خبر الواحد لو لم يفد العلم لم يثبت به الصحابة التحليل والتحريم، والإباحة، والفروض، ويجعل ذلك ديناً يدان به فى الأرض إلى آخر الدهر. فهذا الصديق رضي الله عنه زاد فى الفروض التى فى القرآن فرض الجدة، وجعله شريعة مستمرة إلى يوم القيامة، بخبر محمد ابن مسلمة والمغيرة بن شعبة فقط، وجعل حكم ذلك الخبر فى إثبات هذا الفرض حكم نص القرآن فى إثبات فرض الأم، ثم اتفق الصحابة والمسلمون بعدهم على إثباته بخبر الواحد … وأثبت عمر بن الخطاب ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحاك بن سفيان الكلابى وحده، وصار ذلك شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة وأثبت شريعة عامة فى حق المجوس بخبر عبد الرحمن بن عوف وحده (1) . ... وهذا أكثر من أن يذكر، بل هو إجماع معلوم منهم، ولا يقال على هذا إنما يدل على العمل بخبر الواحد فى الظنيات، ونحن لا ننكر ذلك لأنا قد قدمنا أنهم أجمعوا على حجيته والعمل بموجبه، ولو جاز أن يكون خبر الواحد كذباً أو غلطاً فى نفس الأمر لكانت الأمة مجمعة على قبول الخطأ والعمل به وهذا قدح فى الدين والأمة (2) .

_ (1) الآثار السابقة التى استشهد بها ابن قيم الجوزية سبق تخريجها ص316، 568. (2) مختصر الصواعق المرسلة 2/556، 557 بتصرف.

سابعا: ما ذهب إليه البعض من إسقاط الشرعية من خبر الآحاد فى المجال الدستورى والسياسى:

سابعاً: ما ذهب إليه البعض من إسقاط الشرعية من خبر الآحاد فى المجال الدستورى والسياسى: فيقول رداً على ذلك المستشار الدكتور على جريشة: (أسقط البعض الشرعية) عن أحاديث الآحاد فى المجال الدستورى، فقال إنها لا تصلح مصدراً لهذا اللون من الأحكام (1) ،ومن قبل هذا رفض الخوارج والمعتزلة العمل بها، ولقد كانت حجة ذلك البعض القول بأهمية الأحكام الدستورية، وعلى الجانب الآخر عدم يقينية أحاديث الآحاد، وعدم شهرتها، الذى استدلوا منه على عدم صحتها، ثم مسلك بعض الصحابة منها إذ اشترطوا اليمين أو رواياً آخر. وفى رد هادئ على هؤلاء نقول بعون الله: إن الأحكام الدستورية ليست إلا فرعاً من فروع القانون العام، إلى جواره فروع أخرى فى ذلك القسم من القانون، ثم قسم آخر بفروعه هو قسم القانون الخاص. ونحن لا نوهن من أهمية الأحكام الدستورية … ولكننا فى الوقت نفسه لا نرتفع بها فوق أحكام السنة فى جزءها الأكبر (أحاديث الآحاد) وما نرى الأحكام الدستورية إلا جزءاً من الأحكام العملية التى اتفق الفقهاء فى المذاهب الأربعة على العمل بأحاديث الآحاد فيها. ولئن كانت الأحكام الدستورية تقابل فى اصطلاحاتنا الفقهية مباحث الإمامة، فإن مباحث الإمامة عند الفقهاء من أهل السنة ليست سوى أحكام فروع لا ترتفع إلى مرتبة الأصول … ولم يفعل ذلك إلا الغلاة من الشيعة؟ أما اشتراط اليقينية … فلم يشترطها أحد من الفقهاء فى أحكام الفروع وإن اشترطتها الأكثرية فى مجال الاعتقاد باعتباره مبنياً على اليقين.

_ (1) قال بذلك الدكتور عبد الحميد متولى فى كتابه (مبادئ نظام الحكم فى الإسلام) ص189،191، 196، 197.وفى كتابه ترديد لكثير مما قاله على عبد الرازق فى كتابه الإسلام وأصول الحكم.

.. أما القول بأن عدم شهرة أحاديث الآحاد دليل عدم صحتها، فإنه لا ارتباط بين الشهرة والصحة، كما أنه لا ارتباط بين الحق والواقع، فقد يكون الحق واقعاً وقد يكون غير واقع، كما قد يكون الواقع حقاً، وقد يكون غير حق … كذلك قد يكون المشهور صحيحاً أو غير صحيح، وقد يكون الصحيح مشهوراً أو غير مشهور. أما مسلك بعض الصحابة منها فقد قدمنا أن أحداً منهم لم يرفض حديث آحاد ما دام صحيحاً، أما ما اشترطوه من حلف أو راو آخر فقد قدمنا أنه لا يخرج الحديث عن مرتبة الآحاد (1) أ. هـ. ... ولم يقف خصوم السنة المطهرة فى عصرنا على ما اشترطه المعتزلة ومن تأثر بهم من بعض فقهاء الأحناف. فلم يكتفوا فى شروطهم لقبول خبر الواحد بعرضه على القرآن الكريم، ولا إلى عرضه على العقل، ولا ما سبق من الشروط، وإنما اشترطوا أيضاً لقبول خبر الواحد عرضه على العلم التجريبى فما وافقه قبل وإلا فلا (2) .

_ (1) راجع: إن شئت ما سبق فى الرد على شبه منكرى حجية خبر الآحاد ص 566، وانظر: مصادر الشرعية الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية للمستشار الدكتور على جريشة ص34،35 (2) انظر: دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف العلمية الحديثة للدكتور موريس بوكاى ص12-290-302، وفجر الإسلام لأحمد أمين ص 217، 218، وانظر: له أيضاً ضحى الإسلام 2/132، والسنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص 264، ودين السلطان لنيازى عز الدين ص 460-467، وإعادة تقييم الحديث لقاسم أحمد ص 123.وسيأتى الجواب عن ذلك إجمالاً فى الباب الثالث مبحث (شبهة الطاعنين فى أحاديث الطب والرد عليها) ص868-874.

واشترطوا عرضه على التوراة والإنجيل

واشترطوا عرضه على التوراة والإنجيل، والفلسفات الحديثة فما خالفهم قبل وإلا فلا، وزعموا أنه من الإسرائيليات (1) . أما ما اشترطوه من عرض السنة النبوية على العهد القديم والجديد فما وافقهما كان دليلاً على أنه من الإسرائليات. فيقول رداً على ذلك الدكتور محمد أبو شهبة -رحمه الله-: "ليس من الإنصاف فى شئ أن نقول: إن ما وجد فى الدين الإسلامى، ووجد فى اليهودية أو النصرانية أن يكون مأخوذاً منها، فقد توافق القرآن الكريم الذى لا شك فى تواتره، وصونه عن أى تحريف، والتوراة والأنجيل فى بعض التشريعات، والأخلاقيات والقصص، فهل معنى هذا أنه مأخوذ منها؟ أعتقد أن الجواب بالنفى.

_ (1) انظر: العقيدة والشريعة فى الإسلام ص51، 148، 153، ومذاهب التفسير الإسلامى ص190، ودراسات محمدية ص520 ثلاثتهم لجولدتسيهر، وانظر: ضحى الإسلام 1/340، والبيان بالقرآن لمصطفى المهدوى 2/645، ودين السلطان لنيازى عز الدين ص166، وأضواء على السنة لمحمود أبو رية ص145 – 191.

حديث "النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة"

.. ومما ينبغى أن يعلم أن الشرائع السماوية مردها إلى الله سبحانه، وأن العقائد، والفضائل الثابتة، والضروريات التى لا تختلف باختلاف الأزمان، ولا باختلاف الرسالات أمور مقررة فى كل دين. وصدق الله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) لكن هذه الأصول، والفضائل، والأخلاقيات، والضروريات جاءت فى الدين الاسلامى أوفى ما تكون وأكمل ما تكون، وأصلح ما تكون، لكل زمان ومكان. ولما كان الأمر كذلك فليس فى العقل، ولا فى الشرع ما يمنع أن تتوافق فى بعض التشريعات، وفى بعض الأخلاقيات، وما حرف من: الكتب السماوية السابقة لم يحرف جميعه. وقد كان القرآن الكريم- بحكم أنه سلم من التحريف والتبديل، وتوافرت الدواعى والأسباب لوصوله إلى الأمة الإسلامية كما أنزله الله تبارك وتعالى. مهيمناً أى شاهداً على الكتب السماوية السابقة، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه فهو باطل قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (2) أهـ. ... ومن الأحاديث التى زعم أعداء السنة المطهرة أنها من الإسرائيليات لموافقتها ما عند أهل الكتاب. حديث "النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة".

_ (1) الآية 13 من سورة الشورى. (2) الآية 48 من سورة المائدة، وانظر: دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 253، 254 والحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهو ص185، والسنة النبوية فى مواجهة التحدى للدكتور أحمد عمر هاشم ص 39-41.

قال محمود أبو ريه: "روى هذا الحديث أبو هريرة، وقد أخذه من كعب الأحبار، القائل: "أربعة أنهار الجنة، وصفها الله عز وجل فى الدنيا، النيل نهر العسل فى الجنة، والفرات نهر الخمر فى الجنة، وسيحان نهر الماء فى الجنة، وجيحان نهر اللبن فى الجنة" (1) .

_ (1) نهاية الإرب للنويرى10/220 وانظر: أضواء على السنة، ص 208،وشيخ المضيرة ص103

.. واستدل نيازى عز الدين بما استدل به محموداً أبو ريه: وقال نيازى: "لنسمع التوراة ماذا تقول فى "سفر التكوين"، الإصحاح الثانى الفقرات من 10 – 14 وكان نهر يخرج من عدن يسقى الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤوس اسم الواحد (فيشون) وهو المحيط بأرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد". ... يقول نيازى عز الدين عن حديث "النيل، وسيحان، وجيحان، والفرات، من أنهار الجنة"، وأسلوب الحديث كما تلاحظون تواترياً وهذا ما قصدت إليه، وهكذا فإن معرفة كتب أهل الكتاب ضرورية من أجل نقد الأحاديث كما رأيتم (1) . والجواب:

_ (1) دين السلطان لنيازى عز الدين ص 168، وانظر: قراءة فى صحيح الإمام البخارى لأحمد صبحى منصور ص 37.

.. إن الحديث الذى رواه أبو هريرة: صحيح غاية الصحة، وهو فى صحيح مسلم بلفظ: "سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل كلها من أنهار الجنة" (1) . وفى الحديث الصحيح أيضاً؛ أنه صلى الله عليه وسلم "رأى ليلة المعراج عند سدرة المنتهى أربعة أنهار، يخرج من أصلها نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل إما هذه الأنهار؟ قال أما النهران الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات" (2) . ... وفى رواية: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السماء الدنيا إذ بنهرين يطردان، فقال: "ما هذان يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات عنصرهما" (3) .

_ (1) أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب ما فى الدنيا من أنهار الجنة 9/193 رقم 2839، وقال الإمام النووى فى شرحه على مسلم 9/193 "اعلم أن سيحان، وجيحان غير سيحون، وجيحون، فأما سيحان وجيحان المذكوران فى هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة فى بلاد الأرمن، فجيحان نهر المصيصة، وسيحان نهر إذنة، وهما نهران عظيمان جداً. وأما قول الأزهرى فى صحيحه جيحان نهر بالشام فغلط…واتفقوا كلهم على أن جيحون بالواو نهر وراء خرسان عين بلخ، واتفقوا على أنه غير جيحان، وكذا سيحون غير سيحان، ثم أنكر الإمام النووى على القاضى عياض تسويته بين سيجان وجيحان، وسيحون وجيحون. (2) جزء من حديث طويل أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة 6/348، 349 رقم 3207، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم 1/490، 491 رقم 164، واللفظ لمسلم. (3) جزء من حديث طويل أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب التوحيد، باب ما جاء فى قوله عز وجل "وكلم الله موسى تكليماً" 13/486 رقم 7517.

والحديث ليس على حقيقته كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء، وإنما الكلام على سبيل التشبيه، وأن هذه الأنهار تشبه أنهار الجنة فى صفتها وعذوبتها، وكثرة خيراتها ونفعها للناس، وهو تأويل مقبول ومستساغ لغة وشرعاً ومن تتبع كلام العرب فى الجاهلية، وصدر الإسلام يجد من أمثال ذلك الشئ الكثير (1) . وقيل: إن فى الكلام حذفاً، والتقدير "من أنهار أهل الجنة" ففيه تبشير من النبى صلى الله عليه وسلم أن الله سينجز له وعده، وسينصره، وسيظهر له دينه على الأديان كلها حتى يبلغ مواطن هذه الأنهار الأربعة وغيرها – إذ ذكرها على سبيل التمثيل لا الحصر – وهذا ما كان فلم يمضى قرن من الزمان حتى امتد سلطان الإسلام من المحيط الأطلسى إلى بلاد الهند (2) . ... وذهب بعض العلماء إلى أن الحديث على ظاهره وفى ذلك يقول الحافظ ابن دحية: "قرأت فى تفسير القرآن العظيم، عند قول الله الكريم {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (3) أنهما النيل والفرات، أنزلا من الجنة من أسفل درجة منها على جناح جبريل، فأودعهما بطون الجبال، ثم إن الله سيرفعهما ويذهب بهما عند رفع القرآن، وذهاب الإيمان، فلا يبقى على الأرض خير، وذلك قوله جل من قائل: {فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (4) . ذكره النحاس فى "معانى القرآن العزيز" له بأتم من هذا، وأسنده فاختصرته (5) .

_ (1) انظر: الإسراء والمعراج ص 61، ودفاع عن السنة ص127 كلاهما للدكتور محمد أبو شهبة. (2) دفاع عن السنة للدكتور أبو شهبة ص 127، وانظر: السنة ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة 2/888. (3) الآية 18 من سورة المؤمنون. (4) جزء من الآية 18 من سورة المؤمنون. (5) معانى القرآن للإمام أبى جعفر النحاس4/450،451،وانظر: الابتهاج فىأحاديث المعراج ص148

.. وقال الحافظ ابن دحية: "فإن قيل كيف طريق الجمع بين رواية إن النيل والفرات عند سدرة المنتهى أصلهما فى السماء السابعة، ورواية أنهما فى السماء الدنيا لذكره عنصرهما، وهو أصلهما. قلنا طريق الجمع بين الحديثين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى فى أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران، فسأل عنهما جبريل فقال: "أما الباطنان فنهران فى الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات". ... ثم فى حديث شريك عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم "فإذا هو فى السماء الدنيا بنهرين يطردان"، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات، عنصرهما. ولنا فى التأويل وجهان سديدان: ... إحداهما: أن يكون محمولاً على ظاهره، ويكون معناه أنه لما رأى عند سدرة المنتهى هذين النهرين مع نهرى الجنة، وذلك فى السماء السابعة، ورأى فى السماء الدنيا هذين النهرين دون نهرى الجنة، كان لاختصاصهما بسماء الدنيا معنى، سمى ذلك الاختصاص عنصراً، ولا يمتنع أن يكون لجميع الأربعة الأنهر أصل واحد هو عند سدرة المنتهى، ثم يكون لاختصاص هذين النهرين بسماء الدنيا أصل من حيث الاختصاص وهو الامتياز لهما دون نهرى الجنة، سمى ذلك الامتياز والاختصاص عُنْصُراً، أى عنصر امتيازهما، واختصاصهما، فهذا وجه سديد. ... والوجه الثانى: أن يكون عنصرهما مبتدأ يتعلق به خبر سابق، لم يتقدم له ذكر من حيث اللفظ، لكن من حيث العهد، ويكون معناه: هذا النيل والفرات، فيتم الكلام، ثم يكون عنصرهما ما كنت رأيت عند سدرة المنتهى يا محمد، فاكتفى بالعهد السابق عن إعادة الكلام. وهذا وجه سديداً أيضاً. وقد صح الجمع بين الحديثين، فلم يتعارضا، ولم يتنافيا، ولم يتناقضا.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: فى صحيح مسلم "سيحان، وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة"، فأسنده الإمام أحمد فى مسنده عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فجرت أربع أنهار من الجنة: الفرات، والنيل، وسيحان وجيحان" (1) . ... قال الحافظ ابن دحية: "وسند أحمد كالشمس فى صحته" (2) ، وزيادة لفظ "فجرت" وهو مفيد. ... والكلام على معنى هذا الحديث يأخذ طرفاً مما تقدم، وهو أن هذه الأنهار لها مزية تشريف على سائر الأنهار التى بالأرض، وذلك التشريف هو كونها فى الجنة، على معنى أنها فجرت منها، كما نص عليه فى حديث أحمد ثم ينتقل الكلام إلى كونها بالأرض جارية، ولا بعد فى ذلك، فإن الأنهار المذكورة إذا كان تفجيرها من الجنة، والجنة فى السماء كما قال تعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (3) . وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (4) . على مذهب أهل الحق فى أن الجنة مخلوقة، وأنها لا تبيد من بين سائر المخلوقات. ... هذا قول جميع العلماء فى الجنة والنار، وأنهما لا تبيدان، ولم يخالف فى ذلك سوى طائفة من أهل البدع والأشرار. فتكون الأنهار المذكورة من الجنة تفجرت، أى جرى أصلها؛ لأن التفجير يليق بهذا المعنى، ومنه سمى "الفجر" لأنبثاث النور الساطع. كذلك هذه الأنهار لما كان لها أنبثاث وجريان سمى تفجيراً، وإليه الإشارة بقوله:"من الجنة"أى كان هذا التفجير فى الأصل من الجنة، ثم انبثت فى الأرض فهذا ما يحمل عليه هذا المعنى ولا معارضة فيه، لما تقدم" (5) أ. هـ.

_ (1) المسند 2/260، 261. (2) الابتهاج فى أحاديث المعراج ص151. (3) الآية 15 من سورة النجم. (4) جزء من الآية 133 من سورة آل عمران. (5) الابتهاج فى أحاديث المعراج ص 150 – 152.

.. وأما ما ذكره محمود أبو رية عن كعب الأحبار؛ فقد عزاه إلى نهاية الأرب، وهو لا يعتمد عليه فى ثبوت الأحاديث، وكلامه وإن ثبت؛ فهو محمول أيضاً على التشبيه، وبقليل من التأمل يتبين لنا أن إدعاء تأثر أبى هريرة فيما رواه بكعب بعيد، ولا يعدو أن يكون تظناً وتخميناً، فالحديثان متغايران والأقرب أن يكون كلام كعب تفسيراً لحديث أبى هريرة على ضوء ما فهمه من قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} (1) . ... وأما ما زعمه نيازى عز الدين من ورود ذلك الحديث فى التوراة فى "سفر التكوين"؛ فقد سبق وأن بينا أنه ليس فى العقل، ولا فى الشرع ما يمنع أن تتوافق فى بعض التشريعات، وما حرف ما الكتب السماوية السابقة لم يحرف جميعه، والقرآن الكريم بحكم أنه سلم من التحريف، والتبديل، هو المهيمن على الكتب السماوية السابقة، فما وافقه منها؛ فهو حق، وما خالفه فهو باطل، وليس العكس كما يزعم أعداء السنة الشريفة. ... يقول فضيلة الدكتور أبو شهبة: "وأياً كان التأويل فالحديث مستساغ لغة وشرعاً، وقد كان الصحابة بذكائهم، وصفاء نفوسهم، وإحاطتهم بالظروف والملابسات التى قيل فيها هذا الحديث وأمثاله، يدركون ما يريده النبى صلى الله عليه وسلم من مثل هذا الحديث الذى قد يشكل ظاهره على البعض، ولذلك لم يؤثر عن أحد منهم - على ما كانوا عليه من حرية الرأى والصراحة فى القول - استشكال مثل هذا الحديث (2) أ. هـ.

_ (1) الآية 15 من سورة محمد، وانظر: دفاع عن السنة للدكتور أبو شهبة ص 127، 128. (2) دفاع عن السنة للدكتور أبو شهبة ص 127.

وبعد [فإن خبر الآحاد متى ثبت على شرط المحدثين، صار أصلاً من أصول الدين، ولا يحتاج عرضه إلى أصل آخر، لأنه إن وافقه فذاك، وإن خالفه لم يجز رد أحدهما، وليس سائر الأصول أولى بالقبول منه، ولا يجوز أن تتنافى أصول الدين، حاشا لله من هذا.] (1) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) انظر الأحكام لابن حزم 1/114، وقواعد التحديث للقاسمى ص 98 وراجع إن شئت ما سبق تفصيله فى الجواب عن (شبهة عرض السنة على العقل) و (شبهة عرض السنة على القرآن) ص231-235، 241-249.

الفصل الثالث: وسيلتهم فى الطعن فى رواة السنة المطهرة

الفصل الثالث: وسيلتهم فى الطعن فى رواة السنة المطهرة ... وتحته مبحثان: 1- المبحث الأول: طعنهم فى عدالة الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-. 2- المبحث الثانى: طعنهم فى عدالة أهل السنة من المحدثين والفقهاء الأصوليين وسائر أئمة المسلمين -رضوان الله عليهم أجمعين-. المبحث الأول: طعنهم فى عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - وفيه تمهيد وستة مطالب: التمهيد ويتضمن: أ- هدف أعداء الإسلام من طعنهم فى الصحابة - رضي الله عنهم -. ب- وحكم أئمة المسلمين فيمن ينتقص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. المطلب الأول: التعريف بالصحابة لغة واصطلاحاً. المطلب الثانى: التعريف بالعدالة لغة واصطلاحاً. المطلب الثالث: أدلة عدالة الصحابة. المطلب الرابع: شبهات حول عدالة الصحابة والرد عليها. المطلب الخامس: سنة الصحابة - رضي الله عنهم - حجة شرعية. المطلب السادس: أبو هريرة رضي الله عنه راوية الإسلام رغم أنف الحاقدين. تمهيد وفيه هدف أعداء الإسلام من طعنهم فى الصحابة - رضي الله عنهم -، وحكم أئمة المسلمين فيمن ينتقص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. أولاً: هدف أعداء الإسلام من طعنهم فى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... الطعن فى عدالة رواة السنة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين فمن بعدهم إلى الأئمة أصحاب المصنفات الحديثية، من وسائل أعداء الإسلام- من غلاة المبتدعة الرافضة، والخوارج، والمعتزلة، والزنادقة (1) - فى الطعن فى السنة المطهرة. ... وغرضهم من ذلك تحطيم الوسيلة التى وصلت السنة النبوية بها، وإذا تحطمت الوسيلة يصبح الأصل معتمداً على لا شئ فيصبح لا شئ.

_ (1) حكاه عنهم الشاطبى فى الاعتصام 1/186، والبغدادى فى أصول الدين ص 19، وابن قتيبة فى تأويل مختلف الحديث ص 28.

ثانيا: حكم أئمة المسلمين فيمن ينتقص صحابة رسول الله

وقديماً صرح بذلك أحد الزنادقة فيما رواه الخطيب البغدادى فى تاريخه عن أبى داود السجستانى قال: "لماء جاء الرشيد بشاكر - رأس الزنادقة ليضرب عنقه- قال: أخبرنى، لم تعلِّمون المتعلم منكم أول ما تعلمونه الرفض - أى الطعن فى الصحابة-؟ قال: إنا نريد الطعن على الناقلة، فإذا بطلت الناقلة أوشك أن نبطل المنقول" (1) . ... وبذلك صرح ذيل (شاكر) محمود أبو ريه فى كتابه أضواء على السنة قائلاً: "إن عدالة الصحابة تستلزم ولا ريب الثقة بما يروون، وما رووه قد حملته كتب الحديث بما فيه من غثاء، وهذا الغثاء هو مبعث الضرر وأصل الداء" (2) . ثانياً: حكم أئمة المسلمين فيمن ينتقص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... وما أصدق قول الإمام الحافظ أبى زُرْعة الرازى (3) -رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن، والسنن، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة" (4) .

_ (1) انظر: تاريخ بغداد 4/308. (2) أضواء على السنة ص 340. (3) أبو زُرْعة الرازى هو: عُبَيدُ الله بِنُ عبد الكريم بن يزيد القرشى المخزومى، أحد الأئمة الأعلام، وحفاظ الإسلام، وفضائله أكثر من أن تعد، مات سنة 264هـ. له ترجمة فى تذكرة الحفاظ= =2/557 رقم 579، وطبقات الحفاظ للسيوطى 253 رقم 561، والعبر 1/379 رقم 264، وخلاصة تهذيب الكمال للخزرجى ص 213، والإرشاد للخليلى ص 226، وطبقات المفسرين للداودى 1/375 رقم 321، وأبو زرعة الرازى وجهوده فى السنة النبوية للدكتور سعدى الهاشمى 1/45-242. (4) رواه الخطيب فى الكفاية ص 97، والحافظ ابن حجر فى الإصابة 1/10.

.. وعن عبد الله بن مصعب (1) قال: قال المهدى: ما تقول فيمن ينتقص الصحابة؟ فقلت زنادقة، لأنهم ما استطاعوا أن يصرحوا بنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنقصوا أصحابه، فكأنهم قالوا: كان يصحب صحابة السوء) (2) .

_ (1) هو عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، ولى للرشيد إمرة المدينة، وقال فيه الخطيب: كان محموداً فى ولايته، جميل السيرة مع جلالة قدرة، ووثقة ابن حبان مات سنة 184هـ. له ترجمة فى: تعجيل المنفعة ص271 رقم583، وتاريخ بغداد 10/173 رقم5313، والثقات لابن حبان 7/56، وميزان الاعتدال 2/505 رقم 4609، والتاريخ الكبير للبخارى 5/211 رقم 678. (2) أخرجه الخطيب البغدادى فى تاريخه 10/175، ونقله الحافظ ابن حجر فى تعجيل المنفعة، ترجمة عبد الله بن مصعب ص 271 رقم 583.

.. وصدق شمس الأئمة السرخسى: "الشريعة إنما بلغتنا بنقلهم فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام دواؤه السيف إن لم يتب" (1) .

_ (1) أصول السرخسى 2/132. وتكفير ساب الصحابة ذهب إليه فريق من أهل العلم من الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية. انظر الشرح والإبانة لابن بطة ص162، والنهى عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص 23، وفتاوى السبكى 2/580، والصارم المسلول على شاتم الرسول ص 570، والإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم 1/149، وأصول السرخسى 2/132 وما بعدها. وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم، بل يفسق ويضلل، ولا يعاقب بالقتل، بل يكتفى بتأديبه، وتعزيره تعزيراً شديداً حتى يرجع. وإن لم يرجع تكرر عليه العقوبة حتى يظهر التوبة. انظر: الشفا للقاضى عياض 2/54 وما بعدها. نقل من ذهب إلى هذا القول من أهل العلم. وإذا كان لكل فريق أدلته على ما ذهب إليه. فالقول الذى تطمئن إليه النفس ويرتاح إليه القلب أن من أبغضهم جميعاً أو أكثرهم أو سبهم سباً يقدح فى دينهم، وعدالتهم، فإنه يكفر بهذا، لأن هذا يؤدى إلى إبطال الشريعة بكاملها لأنهم هم الناقلون لها، "أما من سب أحداً من الصحابة فهو فاسق، ومبتدع بالإجماع، إلا إذا اعتقد إنه مباح أو يترتب عليه ثواب كما عليه بعض الشيعة أو اعتقد كفر الصحابة فإنه كافر بالإجماع" كذا قال الملا على القارئ انظر: مجموعة رسائل ابن عابدين كتاب تنبيه الولاة والحكام 1/367. وقال القاضى عياض - رحمه الله -: "وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة، وتكفير جميع الأمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم إذ لم تقدم علياً، وكفرت علياً إذ لم يتقدم، ويطلب حقه فى التقديم، فهؤلاء قد كفروا … لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها" الشفاء 2/286، ومزيد من حكم ساب الصحابة وعقوبته انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة فى الصحابة للدكتور ناصر على الشيخ2/856-870.

نعم إن الصحابة رضي الله عنهم "هم حجر الزاوية فى بناء الأمة المسلمة، عنهم قبل غيرهم تلقت الأمة كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالغض من شأنهم والتحقير لهم، بل النظر إليهم بالعين المجردة من الاعتبار، لا يتفق والمركز السامى الذى تبوءوه، ولا يوائم المهمة الكبرى التى انتدبوا لها ونهضوا بها. كما أن الطعن فيهم والتجريح لهم، يزلزل بناء الإسلام، ويقوض دعائم الشريعة، ويشكك فى صحة القرآن، ويضيع الثقة بسنة سيد الأنام! لذلك عنى علماء الإسلام قديماً وحديثاً بالدفاع عن عدالة الصحابة، لأنه -كما رأيت- دفاع عن الإسلام، ولم يكن ذلك الدفاع نزوة هوى، ولا عصبية بل كان نتيجة لدراسات تحليلية، وأبحاث تاريخية، وتحقيقات بارعة واسعة، أحصتهم عدداً، ونقدتهم فرداً فرداً، وعرضتهم على أدق موازين الرجال مما تباهى به الأمة الإسلامية كافة الأمم والأجيال. ... وبعد هذا التحقيق والتدقيق، خرج الصحابة رضي الله عنهم من بوتقة هذا البحث، وإذا هم خير أمة أخرجت للناس، وأسمى طائفة عرفها التاريخ، وأنبل أصحاب لنبى ظهر على وجه الأرض، وأوعى وأضبط جماعة لما استحفظوا عليه من كتاب الله، وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اضطر أهل السنة والجماعة، أن يعلنوا رأيهم هذا كعقيدة، فقرروا أن الصحابة كلهم عدول. ولم يشذ عن هذا الرأى إلا المبتدعة والزنادقة قبحهم الله" (1) . ... وطعون المبتدعة والزنادقة قديماً وحديثاً فى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة سبق ذكر بعضها من الطعن فى اجتهادهم (2) ، والطعن فى صدقهم واتهامهم بالكذب (3) .

_ (1) مناهل العرفان فى علوم القرآن للشيخ محمد الزرقانى 1/334، 335. (2) راجع: ص 307-318. (3) راجع: ص 333-339.

المطلب الأول: التعريف بالصحابة لغة واصطلاحا

وسوف نتناول هنا بمشيئة الله تعالى نماذج من الطعون والشبهات التى طعنوا بها فى عدالة الصحابة، واتخذها أهل الزيغ والإلحاد قديماً وحديثاً، وسيلة للتشكيك فى حجية السنة، ومكانتها التشريعية. على أن نفرد أيضاً ترجمة لراوية الإسلام الأول أبو هريرة رضي الله عنه لنتعرف على مكانته فى الإسلام، وإلى أى مدى انحط أعداء الإسلام بالطعن فيه وصولاً للطعن فى السنة المطهرة هذا بعد أن نُعرف بالصحابة والعدالة لغة واصطلاحاً، ونثبت عدالتهم من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة على ذلك. فإلى بيان ذلك. المطلب الأول: التعريف بالصحابة لغة واصطلاحاً ... الصحابة فى اللغة: يقال استصحبه أى دعاه إلى الصحبة ولازمه، وكل شئ لازم شيئاً فقد استصحبه (1) . ... وقال أبو بكر الباقلانى: "لا خلاف بين أهل اللغة فى أن القول "صحابى" مشتق من الصحبة، وأنه ليس بمشتق من قدر منها مخصوص، بل هو جار على كل من صحب غيره قليلاً كان أو كثيراً … يقال صحبت فلاناً حولاً، ودهراً، وسنة، وشهراً، ويوماً، وساعة، فيوقع اسم المصاحبة بقليل ما يقع منها وكثيرة. وذلك يوجب فى حكم اللغة: إجراء هذا على من صحب النبىصلى الله عليه وسلمولو ساعة من نهار (2)

_ (1) لسان العرب 1/519، والقاموس المحيط 1/91، والصحاح للجوهرى 1/162، ومختار الصحاح ص 356. (2) انظر: الكفاية ص 100، واسد الغابة 1/119، 120.

الصحابة فى الاصطلاح

.. وقال الإمام ابن تيمية: "والأصحاب جمع صاحب، والصاحب اسم فاعل من صحبه يصحبه، وذلك يقع على قليل الصحبه وكثيرها" (1) . وعلى هذا التعريف اللغوى جرى أصحاب الحديث فى تعريفهم بالصحابى اصطلاحاً: فذهبوا إلى إطلاق (الصحابى) على كل من صحب النبى صلى الله عليه وسلم، ولو ساعة واحدة فما فوقها. الصحابة فى الاصطلاح: قال الإمام بدر الدين الزركشى-رحمه الله-: "ذهب الأكثرون إلى أن الصحابى من اجتمع - مؤمناً - بمحمدصلى الله عليه وسلم وصحبه ولو ساعة، روى عنه أو لا، لأن اللغة تقتضى ذلك، وإن كان العرف يقتضى طول الصحبة وكثرتها … وهو ما ذهب إليه جمهور الأصوليين، أما عند أصحاب الحديث فيتوسعون فى تعريفهم لشرف منزلة النبى صلى الله عليه وسلم (2) . ... يقول ابن حزم: "فأما الصحابة - رضي الله عنهم - فهم كل من جالس النبى صلى الله عليه وسلم ولو ساعة، وسمع منه ولو كلمة فما فوقها، أو شاهد منه عليه السلام أمراً يعيه" (3) . ... والتعريفات التى وضعها العلماء للصحابة (اصطلاحاً) كثيرة، ولكن التعريف الصحيح المعتمد هو ما قرره الحافظ ابن حجر بقوله: "وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابى هو من لقى النبى صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة على الأصح. ثم شرح التعريف فقال: "فيدخل فيمن لقيه" من طالت مجالسته له، أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يرو ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية، ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى.

_ (1) الصارم المسلول ص 575، وانظر: الروض الباسم فى الذب عن سنة أبى القاسم لابن الوزير اليمانى 1/57 - 60 قرر بتوسع واستدل أن تسمية يسير المخالطة (صحبة) ثابت بالكتاب والسنة، وعبارات الأئمة أ. هـ. (2) البحر المحيط فى أصول الفقه 4/301. (3) الإحكام فى أصول الأحكام لابن حزم 5/86.

ومن هنا كان التعبير باللقى أولى من قول بعضهم: "الصحابى من رأى النبى صلى الله عليه وسلم" لأنه يخرج حينئذ ابن أم مكتوم ونحوه من العميان وهم صحابة بلا تردد. ويخرج "بقيد الإيمان" من لقيه كافراً ولو أسلم بعد ذلك إذا لم يجتمع به مرة أخرى. وقولنا"به"يخرج من لقيه مؤمناً بغيره كمن لقيه مؤمناً من مؤمنى أهل الكتاب قبل البعثة. ويدخل فى قولنا "مؤمناً به" كل مكلف من الجن والإنس …0 وخرج بقولنا "ومات على الإسلام" من لقيه مؤمناً به ثم ارتد ومات على ردته والعياذ بالله - كعبيد الله بن جحش، وابن خطل، ويدخل فيه من ارتد وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت سواء اجتمع به صلى الله عليه وسلم مرة أخرى أم لا، كالأشعث بن قيس فإنه كان ممن ارتد وأتى به إلى أبى بكر الصديق أسيراً، فعاد إلى الإسلام فقبل منه، وزوجه أخته، ولم يتخلف أحد عن ذكره فى الصحابة، ولا عن تخريج أحاديثه فى المسانيد وغيرها. ... وهذا هو الصحيح المعتمد، ووراء ذلك أقوال شاذة أخرى كقول من قال لا يعد صحابياً إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة: من طالت مجالسته، أو حفظت روايته، أو ضبط أنه غزا معه، أو استشهد بين يديه، وكذا من اشترط فى صحة الصحبة بلوغ الحلم، أو المجالسة ولو قصرت" (1) . قال الحافظ السيوطى مؤيداً ابن حجر "وهو المعتبر" (2) . وذهب إليه الجمهور من الأصوليين، منهم الآمدى فى الإحكام (3) ، وابن عبد الشكور فى فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت (4) ، والزركشى فى البحر المحيط (5) ، والشوكانى فى إرشاد الفحول (6) وغيرهم.

_ (1) انظر: الإصابة 1/10 - 12، ونزهة النظر ص 51، 52. (2) تدريب الراوى 2/216. (3) انظر: الإحكام للآمدى 2/84، 85. (4) انظر: فواتح الرحموت 2/158. (5) انظر: البحر المحيط 4/302، 305. (6) انظر: إرشاد الفحول 1/279، 280.

السر فى التعميم فى تعريف الصحابى:

.. ويقول الحافظ السخاوى مؤيداً رأى شيخه ابن حجر "والعمل عليه عند المحدثين والأصوليين" (1) . السر فى التعميم فى تعريف الصحابى: ... التعميم فى تعريف الصحابى نظراً إلى أصل فضل الصحبة، ولشرف منزلة النبى صلى الله عليه وسلم، ولأن لرؤية نور النبوة قوة سريان فى قلب المؤمن، فتظهر آثارها على جوارح الرائى فى الطاعة والاستقامة مدى الحياة، ببركته صلى الله عليه وسلم ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن رآنى وآمن بى، وطوبى لمن رأى من رآنى، ولمن رأى من رأى من رآنى وآمن بى" (2) . ... وفى ذلك يقول الإمام السبكى: "والصحابى هو كل من رأى النبى صلى الله عليه وسلم مسلماً، وقيل: من طالت مجالسته، والصحيح الأول، وذلك لشرف الصحبة، وعظم رؤية النبى صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رؤية الصالحين لها أثر عظيم، فكيف رؤية سيد الصالحين؟! فإذا رآه مسلم ولو لحظة، انطبع قلبه على الاستقامة، لأنه بإسلامه متهيئ للقبول، فإذا قابل ذلك النور العظيم، أشرق عليه وظهر أثره فى قلبه وعلى جوارحه" (3) .

_ (1) انظر: فتح المغيث للسخاوى 3/85. (2) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر فضائل الأمة بعد الصحابة والتابعين4/96،من حديث عبد الله بن بسررضي الله عنه، وقال الحاكم هذا حديث قد روى بأسانيد قريبة عن أنس بن مالك رضي الله عنه بما علونا فى أسانيد منها، وأقرب هذه الروايات إلى الصحة ما ذكرناه، وقال الذهبى (جميع بن ثوب) واه. والقول ما قاله الحاكم، انظر: مجمع الزوائد 10/20. (3) الإبهاج فى شرح المنهاج 1/15، وانظر: البحر المحيط للزركشى 4/301، وفتح البارى 7/9 رقم 3651 حديث (خير الناس قرنى، ثم الذين يلونهم - الحديث)

طريق معرفة الصحبة:

يقول الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله -: "فالتعميم فى تعريف (الصحابى) نظراً إلى أصل فضل الصحبة، وأما تفاوت من يشملهم هذا اللقب فى الفضل والدين وسائر خصال الخير … فهذا أمر وراء ذلك" (1) أ. هـ. طريق معرفة الصحبة: ... تثبت الصحبة بأمور متعددة منها: التواتر كأبى بكر الصديق المعنى بقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (2) وسائر العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم. أو باشتهار قاصر عن التواتر وهو الاستفاضة كعكاشة بن محصن، وضمام بن ثعلبة وغيرهما، أو بتواتر بها. أو بقول صاحب آخر معلوم الصحبة، إما بتصريح بها كأن يجئ عنه أن فلاناً له صحبة مثلاً أو نحوه، كقوله: كنت أنا وفلان عند النبى صلى الله عليه وسلم أو دخلنا على النبى صلى الله عليه وسلم. بشرط أن يعرف إسلام المذكور فى تلك الحالة. 4- وكذا تعرف بقول آحاد ثقات التابعين على الراجح من قبول التزكية من عدل واحد" (3) . المطلب الثانى: التعريف بالعدالة لغة واصطلاحاً ... العدالة لغة: العدل ضد الجور، يقال عدل عليه فى القضية فهو عادل، وبسط الوالى عدله ومعدلته ومعدلته، وفلان من أهل المعدلة، أى: من أهل العدل، ورجل عدل، أى: رضا ومقنع فى الشهادة.

_ (1) لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث ص 51. (2) جزء من الآية 40 من سورة التوبة. (3) انظر: فتح المغيث للسخاوى3/87،88،وتدريب الراوى2/213،214،والكفاية ص98-101.

والعدالة: وصف بالمصدر معناه ذو عدل، قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1) ويقال: رجل عدل ورجلان عدل، ورجال عدل، وامرأة عدل، ونسوة عدل، كل ذلك على معنى رجال ذوو عدل، ونسوة ذوات عدل، فهو لا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث، فإن رأيته مجموعاً، أو مثنى أو مؤنثاً، فعلى أنه قد أجرى مجرى الوصف الذى ليس بمصدر، وتعديل الشئ تقويمه، يقال عدلته فاعتدل، أى قومته فاستقام (2) أ. هـ. ... فمن هذه التعاريف اللغوية يتبين أن معنى العدالة فى اللغة الاستقامة فى الدين، والعدل هو المتوسط فى الأمور من غير إفراط فى طرفى الزيادة والنقصان، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (3) أى عدلاً فالوسط والعدل بمعنى واحد (4) . والعدالة اصطلاحاً: تنوعت فيها عبارات العلماء من محدثين وأصوليين وفقهاء، إلا أنها ترجع إلى معنى واحد وهو أنها: ملكة أى صفة راسخة فى النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة. ... والتقوى ضابطها: امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات من الكبائر ظاهراً، وباطناً من شرك أو فسق أو بدعة. ... والمروءة ضابطها: آداب نفسية تحمل صاحبها على التحلى بالفضائل والتخلى عن الرذائل، وترجع معرفتها إلى العرف. وليس المراد بالعرف هنا سيرة مطلق الناس بل الذين نقتدى بهم، وقد سبق بيان ما يخل بها (5) ، ومجمله الاحتراز عما يذم به العدل عرفاً.

_ (1) جزء من الآية 2 من سورة الطلاق. (2) انظر: لسان العرب 11/430، والصحاح للجوهرى 5/1760 - 1761، ومختار الصحاح ص415، 416، والقاموس المحيط 4/13، والمصباح المنير 2/397. (3) الآية 143 من سورة البقرة. (4) الإحكام للآمدى 2/69، ومقاصد الحديث فى القديم والحديث لفضيلة الدكتور التازى 2/64. (5) راجع: ص 410.

معنى عدالة الصحابة

.. ولا تتحقق العدالة فى الراوى إلا إذا اتصف بصفات خمسة: الإسلام- والبلوغ والعقل والسلامة من أسباب الفسق وخوارم المروءة (1) . وليس المقصود من العدل أن يكون بريئاً من كل ذنب، وإنما المراد أن يكون الغالب عليه التدين، والتحرى فى فعل الطاعات. وفى ذلك يقول الإمام الشافعى: "لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً، ولو كان كل مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً، ولكن العدل من اجتنب الكبائر وكانت محاسنه أكثر من مساويه" (2) . ويعبر أبو يوسف عن هذا الاتجاه حين يقول: "من سلم أن تكون منه كبيرة من الكبائر التى أوعد الله تعالى عليها النار، وكانت محاسنه أكثر من مساوئه فهو عدل" (3) . ونخلص مما سبق فيما يخص عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - "أن المنافقين الذين كشف الله ورسوله - سترهم، ووقف المسلمون على حقيقة أمرهم، والمرتدين الذين ارتدوا فى حياة النبى وبعد وفاته، ولم يتوبوا ويرجعوا إلى الإسلام، وماتوا على ردتهم، هم بمعزل من شرف هذه الصحبة، وبالتالى بمعزل عن أن يكونوا من المرادين بقول جمهور العلماء والأئمة إنهم عدول، وفى تعريف العلماء للصحبة ما ينفى عنها هؤلاء وأولئك. ومعنى عدالة الصحابة: "أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما اتصفوا به من قوة الإيمان، والتزام التقوى، والمروءة، وسموا الأخلاق والترفع عن سفاسف الأمور. وليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصى أو من السهو أو الغلط فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم.

_ (1) انظر: فتح المغيث للسخاوى 3/315 - 317، وتوضيح الأفكار للصنعانى 2/114 - 118، ومقاصد الحديث فى القديم والحديث للدكتور التازى 2/65، 66. (2) انظر: الروض الباسم فى الذب عن سنة أبى القاسم لابن الوزير اليمانى 1/28. (3) نقلاً عن توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى للدكتور رفعت فوزى ص 129.

ومما ينبغى أن يعلم أن الذين قارفوا إثماً ثم حدوا - كان ذلك كفارة لهم، وتابوا وحسنت توبتهم، التى لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوستعهم، وهم فى نفس الوقت قلة نادرة جداً لا ينبغى أن يغلب شأنهم وحالهم على حال الألوف المؤلفة من الصحابة الذين ثبتوا على الجادة والصراط المستقيم، وجانبوا المآثم، والمعاصى ما كبر منها وما صغر، وما ظهر منها وما بطن، والتاريخ الصادق أكبر شاهد على هذا (1) أ. هـ. ويؤكد ما سبق الإمام الأبيارى (2) بقوله: "وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم، واستحالة المعصية عليهم، وإنما المراد: قبول روايتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا أن يثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك، ولله الحمد، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير، فإنه لا يصح، وما صح فله تأويل صحيح" (3) انتهى.

_ (1) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 92، 244 بتقديم وتأخير وانظر: الحديث والمحدثون للدكتور محمد أبو زهر ص 150 وما بعدها، وتدريب الراوى 2/216 هامش. (2) الأبيارى هو: على بن إسماعيل بن على بن عطية الأبيارى، نسبه إلى "إبيار" بلدة بمديرية الغربية، وهى بفتح الهمزة وبعدها ياء مثناة من تحت وبعدها ألف، ثم راء مهملة، وبعضهم يصحفها بانبار بنون بعد الهمزة. وهو من العلماء الأعلام، وأئمة الإسلام، فقيه مالكى محدث أصولى. من مؤلفاته "شرح البرهان" لإمام الحرمين فى الفقه مات سنة 618هـ. له ترجمة فى: الديباج المذهب 306 رقم 409، وحسن المحاضرة للسيوطى 1/454، ومعجم المؤلفين 7م37، وشجرة النور الزكية 1/166 رقم 520. (3) انظر: فتح المغيث للسخاوى3/96،وفتح الباقى على الفية العراقى للإمام زكريا الأنصارى 3/14، والبحر المحيط للزركشى 4/300، وإرشاد الفحول 1/278، والشفا للقاضى عياض 2/52.

المطلب الثالث أدلة عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -

المطلب الثالث أدلة عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - ... إن العدالة التى نثبتها لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم نعطها هبة لهم من عند أنفسنا - فنحن أقل من ذلك فضلاً عن أننا لا نملك ذلك، وإنما العدالة ثابتة لهم جميعاً بنص الكتاب والسنة الشريفة - سواء منهم من تقدم إسلامه ومن تأخر، ومن هاجر ومن لم يهاجر، ومن اشترك فى الغزوات ومن لم يشترك، ومن لابس الفتنة ومن لم يلابسها (1) . فهذه العدالة لهم جميعاً تضافرت عليها الأدلة من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة. أولاً: دلالة القرآن الكريم على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -: لقد وصف رب العزة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدالة وأثنى عليهم فى آيات يطول ذكرها منها:

_ (1) انظر: تيسير اللطيف الخبير فىعلوم حديث البشير النذير للدكتور مروان ص95بتقديم وتأخير.

1- قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) ووجه الاستدلال بهذه الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أن وسطاً بمعنى "عدولاً خياراً" (2) ، ولأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة (3) . وقد ذكر بعض أهل العلم أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص، وقيل: "إنه وارد فى الصحابة دون غيرهم (4) . 2- وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (5) ووجه دلالة هذه الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أنها أثبتت الخيرية المطلقة لهذه الأمة على سائر الأمم قبلها، وأول من يدخل فى هذه الخيرية المخاطبون بهذه الآية مباشرة عند النزول، وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وذلك يقتضى استقامتهم فى كل حال، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة، ومن البعيد أن يصفهم الله عز وجل بأنهم خير أمة ولا يكونوا أهل عدل واستقامة، وهل الخيرية إلا ذلك؟

_ (1) الآية 143 من سورة البقرة. (2) انظر: جامع البيان للطبرى 2/7، وتفسير الرازى 4/97، والجامع لأحكام القرآن 2/154، وتفسير القرآن العظيم 1/190. (3) ويؤيد ذلك ما أخرجه الترمذى فى سنته عن بهز عن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى قوله: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" قال صلى الله عليه وسلم إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" أ. هـ. أخرجه الترمذى كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران 5/211 رقم 3001، وقال الترمذى: هذا حديث حسن. (4) انظر: الكفاية ص 93. (5) الآية 110 من سورة آل عمران.

.. كما أنه لا يجوز أن يخبر الله تعالى بأنه جعلهم أمة وسطاً – أى عدولاً – وهم على غير ذلك، فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق، وأنهم وسط أى عدول بإطلاق" (1) . وهكذا سائر الآيات التى جاءت بمدحهم قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) فالصادقون هم المهاجرون، والمفلحون هم الأنصار، بهذا فسر أبو بكر الصديق، هاتين الكلمتين، من الآيتين، حيث قال فى خطبته يوم السقيفة مخاطباً الأنصار:"إن الله سمانا (الصادقين) وسماكم (المفلحين) ،وقد أمركم أن تكونوا حيثما كنا، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3) . فهذه الصفات الحميدة فى هاتين الآيتين كلها حققها المهاجرون والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتصفوا بها، ولذلك ختم الله صفات المهاجرين بالحكم بأنهم صادقون، وختم صفات الذين آزروهم ونصروهم وآثروهم على أنفسهم بالحكم لهم بأنهم مفلحون.

_ (1) الموافقات 4/450 - 452 بتصرف، وانظر: عقيدة أهل السنة والجماعة فى الصحابة للدكتور ناصر على الشيخ 2/801، 802. (2) الآيتان 8،9 من سورة الحشر. (3) الآية 119 من سورة التوبة وانظر: العواصم من القواصم لابن العربى ص 62، والبداية والنهاية 5/217 وما بعدها.

وهذه الصفات العالية لا يمكن أن يحققها قوم ليسوا بعدول" (1) . وحتى الآيات التى جاء فيها عتاب لهم أو لبعضهم شاهدة بعدالتهم حيث غفر الله لهم ما عاتبهم فيه وتاب عليهم قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وتأمل ختام العتاب "إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" وهل بعد مغفرة الله عز وجل من شئ؟! 0 وقال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وتأمل ختام الآية "إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (3) . ... وغير ذلك من الآيات الشاهدة بمغفرة الله عز وجل لهم لما ارتكبوا من بعض المعاصى - وسيأتى ذكر بعضها فى الرد على الشبهات حول عدالة الصحابة. إن تلك الآيات التى جاء فيها عتاب للصحابة أو لبعضهم لارتكابهم بعض المعاصى لخير دليل شاهد على ما سبق ذكره، من أن المراد بعدالتهم جميعاً عصمتهم من الكذب فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنى عدالتهم عصمتهم من المعاصى أو من السهو أو الغلط، فهذا لم يقل به أحد من أهل العلم. وحتى مع ارتكاب بعضهم لبعض الذنوب، فقد امتن الله عز وجل عليهم بالتوبة والمغفرة لذنوبهم.

_ (1) عقيدة أهل السنة والجماعة فى الصحابة 2/807. (2) الآيات 67 - 69 من سورة الأنفال. (3) الآية 118 من سورة التوبة.

ثانيا: دلالة السنة المطهرة على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -:

وما هذه المنة من ربهم عز وجل إلا بيان لعباده مؤمنهم وكافرهم إلى قيام الساعة. بعظم مكانة من اختارهم لصحبة سيد أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم، وأن التجريح والقدح فى تلك المكانة والعدالة إنما هو تجريح وقدح فيمن بوأهم تلك المكانة، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس!!! نعوذ بالله عز وجل من الخذلان. ثانياً: دلالة السنة المطهرة على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -: ... لقد وصف النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه بالعدالة، وأثنى عليهم فى أحاديث يطول تعدادها منها: 1- قوله صلى الله عليه وسلم:"ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" (1) "ففى هذا الحديث أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح، ولا ضعيف إذ لو كان فيهم أحد غير عدل، لاستثنى فى قوله صلى الله عليه وسلم وقال: "ألا ليبلغ فلان منكم الغائب" فلما أجملهم فى الذكر بالأمر بالتبليغ لمن بعدهم، دل ذلك على أنهم كلهم عدول، وكفى بمن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً" (2) . 2- وقال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ قوم تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِم يَمِيَنهُ ويَميِنُهُ شَهَادَتَهُ" (3) وهذه الشهادة بالخيرية مؤكدة لشهادة رب العزة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (4) .

_ (1) سبق تخريجه ص 273. (2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 1/91. (3) البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، ومن صحب النبى صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه 7/5 رقم 3651، ومسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم 8/324 رقم 2533 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه واللفظ للبخارى. (4) الآية 110 من سورة آل عمران.

3- وقوله صلى الله عليه وسلم: "النجومُ أَمنةٌ للسماءِ، فإذا ذهبتِ النجوُمِ، أَتى السماءَ ما تُوعدُ، وأَنا أَمَنةٌ لأَصْحَابى. فإذا ذهبتُ أَتَى أَصْحَابِى ما يُوعدونَ، وأَصْحَابى أَمنةٌ لأُمَّتِى، فإِذا ذهب أصحابى أتى أُمِتى ما يُوعَدُون" (1) . 4- وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختار أصحابى على العالمين، سوى النبيين والمرسلين، واختار لى من أصحابى أربعة أبا بكر، وعمر وعثمان، وعلياً رضي الله عنهم فجعلهم أصحابى قال فى أصحابى كلهم خير، وأختار أمتى على الأمم، وأختار من أمتى أربعة قرون، القرن الأول والثانى والثالث، والرابع" (2) . وهذا الحديث مؤكد لقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (3) .

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب بيان أن بقاء النبىصلى الله عليه وسلم آمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة 8/322 رقم 2531 من حديث أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه. (2) أخرجه البزار فى مسنده انظر: كشف الأستار كتاب المناقب، باب مناقب أصحاب النبىصلى الله عليه وسلم1/88، وقال الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد 10/16رواه البزار ورجاله ثقات، وفى بعضهم خلاف. (3) الآية 29 من سورة الفتح.

ويؤكد ابن مسعود رضي الله عنه ما سبق من الآية والحديث قائلاً: "إن الله نظر فى قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر فى قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون عن دينه" (1) . يقول الإمام الآمدى: "واختيار الله لا يكون لمن ليس بعدل" (2) . 5- وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابى. لا تَسُبُّوا أصحابى: فوالذى نفسى بيده! لو أن أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذهباً، ما أَدركَ مُدَّ أَحَدِهِم، ولا نَصِيَفهُ" (3) .

_ (1) أخرجه أحمد فى مسنده 1/379، وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/178 رواه أحمد ورجاله موثقون. ورواه ابن عبد البر فى مقدمة الاستيعاب 1/12، 13. (2) الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى 2/82. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل الصحابة، باب قول صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذاً خليلاً" 7/25 رقم 3673، ومسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة 8/332 رقم 2540 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه واللفظ لمسلم.

ثالثا: دلالة إجماع الأمة على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -:

يقول الصحابى الجليل سعيد بن زيد بن عمرو (1) ، أحد العشرة المبشرين بالجنة - رضي الله عنهم - لما سمع رجلاً من أهل الكوفة يسب رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "… والله لمشهد شهده رجل يغبر فيه وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل من عمل أحدكم، ولو عمر عمر نوح عليه السلام" (2) . يقول فضيلة الشيخ محمد الزرقانى - رحمه الله - "فأنت ترى من هذه الشهادات العالية فى الكتاب والسنة، ما يرفع مقام الصحابة إلى الذروة، وما لا يترك لطاعن فيهم دليلاً، ولا شبهة دليل. والواقع أن العقل المجرد من الهوى والتعصب، يحيل على الله فى حكمته ورحمته، أن يختار لحمل شريعته الختامية، أمة مغموزة، أو طائفة ملموزة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومن هنا كان توثيق هذه الطبقة الكريمة طبقة الصحابة، يعتبر دفاعاً عن الكتاب، والسنة، وأصول الإسلام من ناحية، ويعتبر إنصافاً أدبياً لمن يستحقونه من ناحية ثانية، ويعتبر تقديراً لحكمة الله البالغة فى اختيارهم لهذه المهمة العظمى من ناحية ثالثة. كما أن تَوْهِينهم والنيل منهم، يعد غمزاً فى هذا الاختيار الحكيم، ولمزاً فى ذلك الاصطفاء والتكريم، فوق ما فيه من هدم الكتاب، والسنة، والدين" (3) أ. هـ. ثالثاً: دلالة إجماع الأمة على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -:

_ (1) له ترجمة فى: الاستيعاب 2/614 رقم 982، واسد الغابة 2/476 رقم 2076، والإصابة 2/44 رقم 3271، وتاريخ الصحابة ص25 رقم 8، ومشاهير علماء الأمصار ص 13 رقم 11. (2) أخرجه أبو داود فىسنته كتاب السنة، باب فى الخلفاء4/212 رقم4650،وأخرجه أحمد فىمسنده 1/187، واللفظ له، وصحح إسناده الشيخ أحمد محمد شاكر فى تعليقه على المسند 3/108. (3) مناهل العرفان فى علوم القرآن 1/336 - 337.

.. أجمعت الأمة - إلا من شذ ممن لا يعتد بخلافهم (1) . على ما سبق من تعديل الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم للصحابة أجمع، والنقول فى هذا الإجماع كثيرة عن علماء الأمة، من المحدثين، والفقهاء، والأصوليين. ... يقول الخطيب البغدادى: "إنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شئ مما ذكرناه، لأوجبت الحال التى كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة فى الدين، وقوة الإيمان واليقين: القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين. هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء" (2) . ... وقال ابن الصلاح: "للصحابة بأسرهم خصيصة، وهى أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب، والسنة، وإجماع من يعتد به فى الإجماع من الأمة" (3) . ... وقال العراقى: "إن جميع الأمة مجمعة على تعديل من لم يلابس الفتن منهم وأما من لابس الفتن منهم وذلك حين مقتل عثمان رضي الله عنه فأجمع من يعتد به أيضاً فى الإجماع على تعديلهم إحساناً للظن بهم، وحملاً لهم فى ذلك على الاجتهاد" (4) .

_ (1) راجع أقوالهم فى: تدريب الراوى 2/214، وفواتح الرحموت 2/155 - 156، والبحر المحيط 4/299، 300، وإرشاد الفحول 1/274 - 278. (2) الكفاية ص 96. (3) علوم الحديث ص 176. (4) شرح الفية العراقى المسماة بالتبصرة والتذكرة للعراقى 3/13، 14.

.. وقال الإمام الغزالى: "والذى عليه سلف الأمة، وجماهير الخلق، أن عدالتهم معلومة بتعديل الله عز وجل إياهم وثنائه عليهم فى كتابه، فهو معتقدنا فيهم، إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به، وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل – ثم ذكر بعض ما دل على عدالتهم من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم قال: فأى تعديل أصح من تعديل علام الغيوب –سبحانه- وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم فى الهجرة، والجهاد، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء والأهل، فى موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصرته، كفاية فى القطع بعدالتهم" (1) . ... فهذه النقول المباركة للإجماع من هؤلاء الأئمة وغيرها كثير. كلها فيها بيان واضح، ودليل قاطع على أن ثبوت عدالة الصحابة عموماً بلا استثناء، أمر مفروغ منه، ومسلم به. فلا يبقى لأحد شك، ولا ارتياب بعد تعديل الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة على ذلك (2) . ... "وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة، علمت أنه إذا قال الراوى عن رجل من الصحابة، ولم يسمه كان ذلك حجة، ولا يضر الجهالة، لثبوت عدالتهم على العموم" (3) .

_ (1) المستصفى 1/164، وانظر: الإحكام للآمدى 2/81، 82، والبحر المحيط للزركشى 4/299 (2) انظر: المكانة العلمية لعبد الرزاق الصنعانى فى الحديث النبوى لفضيلة الأستاذ الدكتور إسماعيل الدفتار 1/291 مبحث (لا يستثنى فى ثبوت العدالة أحد من الصحابة) ، وانظر: توضيح الأفكار 2/470، 471، وعقيدة أهل السنة والجماعة فى الصحابة للدكتور ناصر الشيخ 2/814. (3) إرشاد الفحول للشوكانى 1/278، وانظر: فتح المغيث للسخاوى 3/97.

.. قال الإمام الجوينى: "ولعل السبب فى قبولهم من غير بحث عن أحوالهم، والسبب الذى أتاح الله الإجماع لأجله، أن الصحابة هم نقلة الشريعة، ولو ثبت توقف فى رواياتهم، لانحصرت الشريعة على عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما استرسلت على سائر الأعصار" (1) . أولئك آبائى فجئنى بمثلهم ... ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع غمرهم الله برحمته ورضوانه … آمين.

_ (1) البرهان فى أصول الفقه 1/242، وانظر: إرشاد الفحول 1/275.

المطلب الرابع شبهات حول عدالة الصحابة والرد عليها

المطلب الرابع شبهات حول عدالة الصحابة والرد عليها ... إن لأهل الزيغ والإلحاد قديماً وحديثاً شبهات كثيرة يطعنون بها فى عدالة الصحابة، وأساس تلك الشبهات الرافضة الذين فاقوا اليهود والنصارى فى خصلتين كما قال الشعبى -رحمه الله- فيما رواه عنه ابن الجوزى فى الموضوعات قال: "… فضلت الرافضة على اليهود والنصارى بخصلتين.سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب موسى-عليه السلام- وسئلت النصارى فقالوا أصحاب عيسى-عليه السلام-، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا حوارى محمد، وأمروا بالاستغفار لهم فسبوهم" (1) . ... فمن مطاعنهم فى عدالة الصحابة: ما استدلوا به من: 1- قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (2) وقالوا نزلت فى أكثر الصحابة الذين انفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العير التى جاءت من الشام، وتركوه وحده فى خطبة الجمعة، وتوجهوا إلى اللهو، واشتغلوا بالتجارة، وذلك دليل على عدم الديانة (3) .

_ (1) الموضوعات 1/339. (2) الآية 11 من سورة الجمعة. (3) مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 271 -272، وانظر الصافى فى تفسير القرآن للكاشانى 2/701، وتفسير القمى لعلى بن إبراهيم القمى 2/367، ومجمع البيان للطبرسى 5/287، 288، وتفسير فرات الكوفى لفرات بن إبراهيم ص 185، وأعيان الشيعة لمحسن الأمين 1/114، وأضواء على السنة لمحمود أبو رية ص 359، وركبت السفينة لمروان خليفات ص 223، والإفصاح فى إمامة على بن أبى طالب لمحمد بن النعمان العكبرى ص 37.

2- واستدلوا أيضاً بما ورد فى القرآن الكريم من آيات تتحدث عن النفاق والمنافقين، وحملوها على أتقى خلق الله، وأطهرهم (رضوان الله عليهم أجمعين) كقوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (1) . ... وأيدوا ذلك بما جاء فى السنة المطهرة من أحاديث يطلق فيها لفظ الصحابة على المنافقين.

_ (1) الآية 101 من سورة التوبة.

مثل حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "أتى رَجُلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالجِعْرَانَة مُنْصَرَفَهُ من حُنين. وفى ثوب بلال فِضَةٌ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها. يعطى الناس. فقال: يا محمدُ! اعْدِلْ0 قال "ويلك ومن يَعْدِلُ إذا لم أَكُنْ اَعْدِلُ؟ لقد خِبْتُ وَخَسِرْتُ إن لم أكن أعدِلُ" فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعنى يا رسول الله فأقُتل هذا المنافق. فقال: "مَعَاذ الله! أَنْ يتحدث الناس أَنى أَقْتُلُ أَصْحَاِبى. إِنَّ هذا وأصحابَهُ يقرأون القرآنّ لا يُجاوزُ حَنَاجِرَهُم. يَمرُقُونَ منه كما يَمْرُقُ السَّهْمُ من الرَّمِيِة" (1) .

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم 4/170، 171 رقم 1063، وانظر: الفصول المهمة فى تأليف الأمة لعبد الحسين الموسوى ص 203، والصحابة فى نظر الشيعة الإماميةلأسد حيدر ص 31 – 32، ومقدمة مرآة العقول فى شرح أخبار آل الرسول لمرتضى العسكرى 1/8، ومعالم المدرستين له أيضاً المجلد 1/130، وأضواء على السنة محمود أبو رية ص 354، 356، والحسبة ص 60 وما بعدها، ولماذا القرآن ص 82 – 84 كلاهما لأحمد صبحى منصور، وانظر: له أيضا مقاله (الصحابة بين القداسة والتكفير) مجلة روزاليوسف العدد 3564 ص 22–24، والنص والاجتهاد لعبد الحسين شرف الدين ص335، 336، وركبت السفينة لمروان خليفات ص 219 – 223، ومساحة للحوار لأحمد حسين يعقوب ص 131، 169، 171، ونظرية عدالة الصحابة له أيضاً ص 39،وأهل السنة شعب الله المختار لصالح الوردانى ص 37، 102، ومع الدكتور موسى الموسوى فى كتابه الشيعة والتصحيح للدكتور علاء الدين القزوينى ص 151، 153، والإفصاح فى إمامة على للشيخ محمد العكبرى ص 37، 39، والخلافة المغتصبة لإدريس الحسينى ص 45، 91، والشيعة هم أهل السنة للدكتور محمد التيجانى ص285.

3- واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} (1) وقوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (2) وقالوا. الفرار من الزحف من أكبر الكبائر (3) .

_ (1) الآية 155 من سورة آل عمران. (2) الآية 25 من سورة التوبة. (3) مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 273، وانظر: تفسير الصافى للكاشانى 1/691، وتفسير القمى لعلى إبراهيم القمى 1/287، والميزان فى تفسير القرآن محمد حسين الطباطبائى 9/226، وركبت السفينة لمروان خليفات ص230،والإفصاح فى إمامة على بن أبىطالب لمحمد بن النعمان العكبرى ص 36، 41، ولقد شيعنى الحسين لإدريس الحسينى ص 350.

4- واستدلوا من السنة المطهرة: بقوله صلى الله عليه وسلم: "… ألا وإنه سَيْجَاءُ برجالٍ من أمتى فيؤخذُ بِهمْ ذات الشمال، فأقول: يا ربِّ أُصيحَابى، فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (1) فيقال: إن هؤلاء لا يَزَالوا مُرْتَدِّينَ على أعقابِهِم منذ فَارَقْتَهُم" (2) .

_ (1) جزء من الآية 117 من سورة المائدة. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب قوله تعالى: "وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ " 8/135 رقم 4625، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة 9/210 رقم 2860 من حديث ابن عباس، واللفظ للبخارى وانظر: مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 272، وشبهات حول الشيعة لعباس الموسوى ص 115، 116، ثم اهتديت لمحمد التيجانى ص 119، 120، وأعيان الشيعة لمحسن الأمين 1/117، ومعالم المدرستين: لمرتضى العسكرى المجلد 1/132، والنص والاجتهاد لعبد الحسين شرف الدين ص 337، وركبت السفينة 224 - 228، ونظرية عدالة الصحابة ص 53-54، والخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة 98، ومع الدكتور موسى الموسوى للدكتور علاء الدين القزوينى ص 152، 153 - 159، والإفصاح فى إمامة على بن أبى طالب ص 30، 31، والخلافة المغتصبة ص 193، ولقد شيعنى الحسين ص349، وأضواء على السنة ص354-356، وأهل السنة شعب الله المختار ص 37.

5- واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" (1) وقالوا: تقاتل الصحابة فى صفين والجمل (2) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الفتن، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض 13/29 رقم 7080، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان معنى قول النبى صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض 1/332 رقم 65 من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (2) أضواء على السنة ص 354، وانظر: نظرية عدالة الصحابة لأحمد حسين يعقوب ص 53، والخلافة المغتصبة لإدريس الحسينى ص93، والفتنة الكبرى (عثمان) لطه حسين ص170-173، دين السلطان لنيازى عز الدين ص 34، 103، 110، 124، 795، والسلطة فى الإسلام لعبد الجواد ياسين ص 241، 260، 267، والصلاة لمحمد نجيب 32 – 37، وحوار ومناقشة كتاب عائشة لهشام آل قطيط ص312 وغيرهم.

.. واستدل آخرون بالطعن فى عدالة الصحابة بما تمليه عليهم عقولهم الضالة من فهم أعوج لسيرة الصحابة، وتاريخهم المجيد، كما فعل مفتى الماركسية خليل عبد الكريم (1) فى كتابه "مجتمع يثرب العلاقة بين الرجل والمرأة فى العهدين المحمدى والخليفى" فقد صور مجتمع المدينة المنورة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، وصحابته الأطهار، تصويراً شائناً قبيحاً، وجعله أشبه بمجتمع الحيوانات التى لا هم لها إلا إشباع الغرائز الجنسية بأى شكل، وبغير ضابط من دين أو خلق، غير مكترثين بالنصوص الدينية التى تمنعهم من هذا الهبوط" (2) .

_ (1) خليل عبد الكريم: كاتب مصرى معاصر، حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة فؤاد الأول - جامعة القاهرة حالياً. أطلق عليه "مفتى الماركسية" أونة، "والشيوعى الملتحى" آونة أخرى. انظر: السنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص 163. (2) انظر: مجلة الأزهر مقال "لا تسبوا أصحابى" لفضيلة الشيخ عبد المقصود عسكر عدد ربيع الأول 1418هـ - يوليه 1997 ص 384.

الجواب عن الشبهات السابقة حول عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -

.. كما أصدر كتاباً آخر بعنوان "شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة" وهو من ثلاثة أسفار، الأول بعنوان "محمد والصحابة" والثانى "الصحابة والصحابة" والثالث "الصحابة والمجتمع" تناول فيها المؤلف تاريخ الصحابة، وسيرتهم بأسلوب فج قبيح ينبئ عن سوء فهمه، وجهله، وحقده الدفين، ضد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك فعل سعيد العشماوى (1) وغيرهم (2) . الجواب عن الشبهات السابقة حول عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - إن ما استدل به الرافضة ومن تابعهم طعناً فى عدالة الصحابة لا حجة لهم فيه لما يلى: أولاً: قصة انفضاض أكثر الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العير القادمة من الشام، وتركهم خطبة الجمعة، إنما وقع ذلك فى بدء زمن الهجرة، ولم يكونوا إذ ذاك واقفين على الآداب الشرعية كما ينبغى، كما أن كبار الصحابة كأبى بكر وعمر كانوا قائمين عنده، كما ثبت ذلك فى الأحاديث الصحيحة.

_ (1) انظر: له الخلافة الإسلامية، وأصول الشريعة، وحصاد العقل وغير ذلك. (2) سبق ذكر من طعن فى الصحابة باتهامهم بالكذب. وانظر: فيمن طعن فى عدالة الصحابة بحجة أنهم بشر لا عصمة لهم. نقد الحديث فى علم الرواية والدراية لحسين الحاج 1/350، 351، وإنذار من السماء ص39، 69،127،154، وتبصير الأمة بحقيقة السنة ص396-426، والدولة والمجتمع محمد شحرور 160 وما بعدها، والإمام الشافعى لنصر أبو زيد ص55،56،76، والأصلان العظيمان ص 284 - 288 والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 24 - 28، 30، 65، 85، 261.

فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: بينما النبى صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة، فابتدرها (1) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنى عشر رجلاً فيهم أبو بكر وعمر ونزلت الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (2) ، ولذا لم يشفع عليهم، ولم يوعدهم سبحانه وتعالى بعذاب ولم يعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً" (3) . ورد آخر على هذه القصة وهو: أنه ورد فى بعض الأخبار أنها وقعت لما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة على الخطبة يوم الجمعة، وانفضاضهم وقع فى الخطبة، وليس فى الصلاة كما هو الظاهر من بعض الروايات، والتى ركز عليها بعض الرافضة، كمحمود أبو رية (4) ، ومروان خليفات (5) ، وغيرهم. ... ويدل على أن الانفضاض كان فى الخطبة ما جاء فى رواية مسلم السابقة: بينما النبى صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً.

_ (1) ابتدرها: أى أسرعوا إليها. لسان العرب 4/48. (2) الآية 11 من سورة الجمعة، والحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب تفسير "وإذا رأوا تجارة أو لهواً 8/511 رقم 4899، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الجمعة،= =باب فى قوله تعالى: "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" 3/415 رقم863 واللفظ له. (3) مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 272 بتصرف، وانظر: روح المعانى للألوسى 28/107. (4) أضواء على السنة ص 359. (5) وركبت السفينة ص 223.

يقول الحافظ ابن حجر: "ترجيح كون الانفضاض وقع فى الخطبة لا فى الصلاة، هو اللائق بالصحابة تحسيناً للظن بهم، وعلى تقدير أن يكون فى الصلاة حمل على أن ذلك وقع قبل النهى كآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (1) وقبل النهى عن الفعل الكثير فى الصلاة ونزول قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) . ويؤيد ذلك: ما رواه أبو داود فى المراسيل أن هذه القصة كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الجمعة قبل الخطبة، مثل العيدين، فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس فى ترك الجمعة شئ، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} فقدم النبى صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة (3) . وهو ما رجحه أيضاً النووى فى شرحه على مسلم (4) . وعلى كل تقدير أنه فى الصلاة، فلم يكن تقدم لهم نهى عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة، وفهموا منها ذم ذلك، اجتنبوه" (5) .

_ (1) الآية 33 من سورة محمد. (2) الآية 2 من سورة المؤمنون وانظر: فتح البارى 2/493 رقم 936 بتصرف يسير. (3) المراسيل ص 50 رقم 61. (4) المنهاج شرح مسلم 3/416، 417 رقم 863، وانظر: تفسير القرآن العظيم 4/367. (5) انظر: فتح البارى 2/493 رقم 936.

ثانيا: أما نسبة النفاق إلى خيار هذه الأمة بدعوى أنه كان فى المدينة منافقين

.. يقول الألوسى: "ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً" إن أريد بها رواية البيهقى فى شعب الإيمان (1) عن مُقَاتِل بن حيان (2) أنه قال: بلغنى والله أعلم أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يلتفت إليه، ولا يعول عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين، ولتثبت صحته، وأنى بذلك؟ وبالجملة: الطعن فى الصحابة بهذه القصة التى كانت من بعضهم فى أوائل أمرهم، وقد أعقبها منهم عبادات لا تحصى، سفه ظاهر، وجهل وافر" (3) . ثانياً: أما نسبة النفاق إلى خيار هذه الأمة بدعوى أنه كان فى المدينة منافقين، وأن النبى صلى الله عليه وسلم أطلق لفظ الصحابة عليهم: "معاذ الله! أن يتحدث الناس أنى أقتل أصحابى". هذه الشبهة أوهى من بيت العنكبوت، وهى فرية واضحة لا تثبت لها قدم.

_ (1) الرواية أوردها السيوطى فى الدر المنثور: 8/166، ولم يعزها لغيره. (2) هو: مقاتل بن حَيَّان النَّبَطىُّ، أبو بسطام البَلْخِىُّ، صدوق فاضل، اخطأ الأزدى فى زعمه أن وكيعاً كذبه، إنما كذب مقاتل بن سليمان. مات قبيل الخمسين بأرض الهند. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/210 رقم6891، وتذكرة الحفاظ 1/174 رقم 168، وطبقات المفسرين للداودى 2/329، وخلاصة تهذيب الكمال ص 330، ولسان الميزان 9/198 رقم 14548. (3) روح المعانى للألوسى 28/107.

أولاً: لأن إطلاق لفظ الصحابة على المنافق كما جاء فى الحديث هذا الإطلاق لغوى، وليس اصطلاحى نظير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} (1) وقوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (2) فإضافة صحبة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المشركين والكافرين إنما هى صحبة الزمان والمكان لا صحبة الإيمان، وذلك كقوله تعالى فى حق سيدنا يوسف - عليه السلام -: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (3) . فالصحبة فى الحديث الشريف، بمعناها اللغوى كما فى الآيات السابقة، وليست الصحبة الاصطلاحية، فتعريفها السابق يخرج المنافقين والمرتدين.

_ (1) الآية 184 من سورة الأعراف. (2) الآية 2 من سورة النجم، وفى هذه الآية وما فى معناها بطلان لسؤال الرافضى مروان خليفات ومن قال بقوله. قال: قال تعالى "وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ" الآية 101 من سورة التوبة، قال: فنصت الآية على أن هناك منافقين لا يعلمهم إلا الله فمن هم حتى نتجنب أخذ الأحاديث عنهم" أ. هـ. انظر: وركبت السفينة ص 230، 231، ونسى خليفات على فرض التسليم بزعمه، ما أفاض فيه رب العزة من ذكر أوصافهم فى سورة التوبة، وغيرها من سائر سور القرآن، كما تناسى وعد الله المذكور فى ختام الآية، وهو فضحهم فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم: "نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ" وإلا فالخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم كان فى بدء الأمر ثم أعلمه رب العزة بأسمائهم، فضلاً عما= =ذكر فى القرآن من صفاتهم، ويؤكد هذا أخبار النبى صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم بأسمائهم، وسيأتى قريباً ذكر الحديث. (3) الآية 39 من سورة يوسف.

ثم كيف يكون المنافقون من الصحابة بالمعنى الاصطلاحى وقد نفاه عنهم رب العزة بقوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} (1) . ثم إن المنافقين لم يكونوا مجهولين فى مجتمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولم يكونوا هم السواد الأعظم، والجمهور الغالب فيهم، وإنما كانوا فئة معلومة آل أمرهم إلى الخزى والفضيحة، حيث علم بعضهم بعينه، والبعض الآخر منهم علم بأوصافه، فقد ذكر الله فى كتابه العزيز من أوصافهم، وخصوصاً فى سورة التوبة، ما جعل منهم طائفة متميزة منبوذة، لا يخفى أمرها على أحد، كما لا يخفى على أحد حالهم فى زماننا. فأين هذه الفئة المنافقة ممن أثبت الله لهم فى كتابه نقيض صفات المنافقين، حيث أخبر عن رضاه عنهم، من فوق سبع سماوات، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس" (2) . ويدل على ما سبق من قلة المنافقين فى المجتمع الإسلامى، وأنهم فئة معلومة تكفل رب العزة بفضحهم فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم. ما رواه حذيفة بن اليمان (3) رضي الله عنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنافقين. قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم فى أمتى - وفى رواية - فى أصحابى إثنا عشر منافقاً فيهم ثمانيةٌ لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يَلِجَ الجَمَلُ فى سم الخياط. ثَمانيةٌ منهم تَكْفِيكُهُمُ الدُّبِيْلَةُ، سِرَاجٌ من النارِ، يظهرُ فى أكتافِهِم حتى يَنْجُمَ من صُدَورِهِم" (4) .

_ (1) الآية 56 من سورة التوبة. (2) انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة فى الصحابة للدكتور ناصر الشيخ 3/963. (3) له ترجمة فى: الإستيعاب1/334 رقم 492، واسد الغابة 1/706 رقم 1113، والإصابة 1/317 رقم 1652، وتاريخ الصحابة 73 رقم 267، ومشاهير علماء الأمصار ص55 رقم 267. (4) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب صفات المنافقين 9/136، 137 رقم 2779.

وعن ابن عباس -رضى الله عنهما- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ظل حجرةٍ من حجره، وعنده نفرٌ من المسلمين قد كان يقلصُ عنها الظل، قال: سيأتيكم رجل ينظر إليكم بعين شيطان فلا تكلموه، فدخل رجل أزرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تسبُنى أنت وفلانٌ وفلان، لقوم دعا بأسمائهم، فانطلق إليهم فدعاهم فحلفوا واعتذروا فأنزل الله عز وجل {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (1) . ... أما ما استدل به محمود أبو رية من قول "أُسَيْدُ بن حُضَيْر، لسعدُ بنُ عبادةُ إنك منافق تجادل عن المنافقين" وقوله فهؤلاء البدريون منهم من قال لآخر منهم: "إنك منافق ولم يكفر النبى لا هذا ولا ذاك" (2) . هذا الذى يزعمه الرافضى محمود أبو ريه من فرط جهله، وتضليله وبتره لسبب ذلك القول.

_ (1) الآية 18 من سورة المجادلة، والحديث أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب التفسير، باب تفسير سورة المجادلة 2/524 رقم 3795، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبى، وأخرجه البيهقى فى دلائل النبوة 5/282، 283 واللفظ له. (2) أضواء على السنة ص 359.

وهو كما جاء فى الصحيحين فى قصة الإفك لما قال صلى الله عليه وسلم وهوعلى المنبر: "يا معشر المسلمين من يعذرنى من رجل قد بلغ أذاه فى أهل بيتى فوالله ما علمت على أهلى إلا خيراً. ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً. وما كان يدخل على أهلى إلا معى" فقام سعد بن معاذ الأنصارى فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه. وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت عائشة - رضى الله عنها - فقام سعد بن عبادة (1) ، وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً. ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله! لا تقتله، ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير (2) ، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله! لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين …" (3) . فكما هو واضح من قصة الحديث أن قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة "فإنك منافق" وقع منه على جهة المبالغة، فى زجره عن القول الذى قاله حمية للخزرج، ومجادلته عن ابن أُبى، وغيره.

_ (1) سعد بن عبادة صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 2/30 رقم 3173، والاستيعاب 2/594 رقم 944، وأسد الغابة 2/441 رقم 2012، ومشاهير علماء الأمصار 15 رقم 20. (2) أسٍيد بن حضير صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 1/49 رقم 185، وتاريخ الصحابة ص30 رقم 25، ومشاهير علماء الأمصار ص20 رقم 36، والاستيعاب 1/92 رقم 54، واسد الغابة 1/240 رقم 170. (3) جزء من حديث طويل أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب "لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً … إلى قوله هم الكاذبون" 8/306-308= =رقم 4750 ومسلم (بشرح النووى) كتاب التوبة، باب فى حديث الإفك وقبول توبة القاذف 9/115، 118 رقم 2770.

ولم يرد أُسيدُ بإطلاقه "فإنك منافق" لم يرد به نفاق الكفر، وإنما أراد أنه كان يظهر المودة للأوس، ثم ظهر منه فى هذه القصة، ضد ذلك فأشبه حال المنافق، لأن حقيقته إظهار شئ وإخفاء غيره. ولعل هذا هو السبب فى ترك إنكار النبى صلى الله عليه وسلم (1) وهو أقوى دليل على الخصم. ... ومع كل هذا فقد تقرر أن العدالة لا تعنى العصمة من الذنوب، أو السهو، أو الخطأ، ومن فضل الله عليهم - رضي الله عنهم - أن وعدهم بالمغفرة، ولا سيما أهل بدر، وهم من أهلها فعن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب حاطب بن أبى بلتعه إلى أهل مكة فأطلع الله تعالى عليه نبيه صلى الله عليه وسلم فبعث علياً والزبير فى أثر الكتاب فأدركا امراة على بعير فاستخرجاه من قرن من قرونها، فأتيا به نبى الله صلى الله عليه وسلم فقرئ عليه، فأرسل إلى حاطب فقال "يا حاطب إنك كتبت هذا الكتاب؟ " قال نعم: يا رسول الله قال: "فما حملك على ذلك"؟ قال: يا رسول الله، إنى والله لنا صح لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنى كنت غريباً فى أهل مكة وكان أهلى بين ظهرانيهم، فخشيت عليهم، فكتبت كتاباً لا يضر الله ورسوله شيئاً، وعسى أن يكون فيه منفعة لأهلى. قال عمر: فاخترطت سيفى وقلت: يا رسول الله أمكنى منه فإنه قد كفر فأضرب عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن الخطاب وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل هذه العصابة من أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإنى قد غفرت لكم" (2) أ. هـ.

_ (1) فتح البارى 8/330 رقم 4750 بتصرف، وانظر: منهاج السنة لابن تيمية 3/192. (2) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أهل بدر 4/87 رقم 6966، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى.

ثالثا: أما ما استدلوا به من فرار بعض الصحابة يوم الزحف

ثالثاً: أما ما استدلوا به من فرار بعض الصحابة يوم الزحف فى غزوتى أحد وحنين، ما استدلوا به حجة عليهم. ففى عتاب الفرار يوم أحد قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} ثم ختم العتاب بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (1) . ولا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع (2) ". وفى عتاب الفرار يوم حنين قال عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} ثم يمتن رب العزة عليهم بقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (3) . وهل تنزل السكينة إلا على قوم مؤمنين؟! نعم تنزل السكينة على قوم مؤمنين ليزدادوا بها إيماناً مع إيمانهم، وصدق رب العزة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (4) ويقول عز وجل: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (5) . وهل بعد تلك الشهادات العلا لهم بالإيمان والتقوى من تعيير؟!!

_ (1) الآية 155 من سورة آل عمران. (2) روح المعانى للألوسى 4/99، وانظر: مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 273. (3) الآية 26 من سورة التوبة. (4) الآية 4 من سورة الفتح. (5) الآية 26 من سورة الفتح.

رابعا: أما استدلالهم بحديث الحوض

رابعاً: أما استدلالهم بحديث الحوض، وما جاء فيه من وصف الصحابة بالردة. فهذا من زندقة الرافضة، ومن تلبيسهم، وتضليلهم. فإن المراد بالأصحاب هنا ليس المعنى الاصطلاحى عند علماء المسلمين، بل المراد بهم مطلق المؤمنين بالنبى صلى الله عليه وسلم المتبعين لشريعته، وهذا كما يقال لمقلدى أبى حنيفة أصحاب أبى حنيفة، ولمقلدى الشافعى أصحاب الشافعى وهكذا، وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع، وكذا يقول الرجل للماضين الموافقين له فى المذهب: "أصحابنا" مع أن بينه وبينهم عدة من السنين، ومعرفته صلى الله عليه وسلم لهم مع عدم رؤيتهم فى الدنيا بسبب أمارات تلوح عليهم يعرفها النبى صلى الله عليه وسلم. فعن حذيفة قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم:"إن حوضى لأبعد من أَيَلَةَ مِن عَدَنٍ (1) ،والذى نفسى بيده! إنى لأزودُ عنه الرجال كما يَزُودُ الرجلُ الإبلَ الغريبةَ عن حوضه"، قالوا: يا رسول الله! أو تعرفنا؟ قال: "نعم تَرِدُون علىَّ غُرًّا مُحَجَّلينَ من آثار الوضوء. ليست لأَحدٍ غَيْرِكُم" (2) . ... ولو افترضنا أن المراد بالأصحاب فى الحديث، الأصحاب فى زمنه صلى الله عليه وسلم. فالمراد بهم: الذين صاحبوه صحبة الزمان والمكان مع نفاقهم، كما سبق من قوله تعالى: {ما ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (3) . وعلى هذا فالمراد بالمرتدين من أصحابه فى الحديث هم الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق رضي الله عنه.

_ (1) أيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر حالياً) مما يلى الشام. معجم البلدان 1/347، وعدن: مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن. معجم البلدان 4/100، وبحر الهند يسمى الآن المحيط الهندى. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء 2/137 رقم 248. وانظر: مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 272. (3) الآية 2 من سورة النجم.

خامسا: أما ما احتجوا به من حديث "لا ترجعوا بعدى كفارا

وقد علمت أن التعريف الاصطلاحى للصحابة يخرج من ارتد ومات على ردته - والعياذ بالله -. وفى الحديث ما يؤيد المعانى السابقة، كقوله صلى الله عليه وسلم "أصيحابى" بالتصغير، كما جاء فى بعض الروايات، قال الخطابى: "فيه إشارة إلى قلة عدد من وقع لهم ذلك، وإنما وقع لبعض جفاة الأعراب، ولم يقع من أحد من الصحابة المشهورين" (1) . وفى قوله صلى الله عليه وسلم: "فيقال": هل شعرت ما عملوا بعدك" "فيه إشارة إلى أنه لم يعرف أشخاصهم بأعيانها، وإن كان قد عرف إنهم من هذه الأمة" (2) . أما حمل الحديث على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى الاصطلاحى-فهذا ما لا يقوله مسلم!! وهو ما يدحضه ما سبق ذكره من تعديل الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة على ذلك أ. هـ. خامساً: أما ما احتجوا به من حديث "لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" والزعم بأن الصحابة استحل بعضهم دماء بعض فى صفين والجمل. ... فالحق أن هذه الشبهة من أخطر الشبه التى احتج بها الرافضة الزنادقة، وأذيالهم من دعاة العلمانية، الذين اتخذوا من تلك الفتن مادة دسمة، طعنوا بها فى عدالة الصحابة، وفتنوا بذلك عوام المسلمين، وممن لا علم له، بضربهم على (الوتر الحساس) وهو: دعوى ظلم الصحابة لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك الفتن".

_ (1) انظر: فتح البارى 8/135،136 رقم 4625، وانظر: تأويل مختلف الحديث ص 213-215. (2) فتح البارى 11/484 رقم 6593، ومختصر التحفة الإثنى عشرية ص 273.

وهذا ما فعله طه حسين فى كتابه "الفتنة الكبرى - عثمان بن عفان رضي الله عنه" (1) . وقال بقوله محمود أبو رية (2) ، وغير واحد من دعاة الرافضة واللادينية (3) . حتى وجدنا من يجهر من الرافضة قائلاً: "معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه" - كافر ابن كافر - ولعنة الله على معاوية، فقد بغى على الحق، وخرج على طاعة الإمام على، وشتت شمل المسلمين، وفرق كلمتهم، فأساس فرقة المسلمين إلى الآن هو معاوية الذى خرج عن طاعة الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه" (4) . ... والجواب عن هذا الإفك يطول (5) ، وهو بحاجة إلى تحقيق دقيق (6) . نكتفى هنا بخلاصة القول. وهو أنه لا حجة لهم فى الحديث، ولا فى الفتن التى وقعت بين سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم أجمعين-، والتى أشعلها سلفهم من الخوارج، والرافضة، والزنادقة. فقوله: "لا ترجعوا بعدى". بصيغة النهى والتحذير من قتال المؤمن. ... وإطلاق الكفر على قتال المؤمن مبالغة فى التحذير من ذلك، لينزجر السامع عن الإقدام عليه وليس ظاهر اللفظ مراداً، أو أنه على سبيل التشبيه لأن ذلك فعل الكافر" (7) . والمعنى لا تفعلوا فعل الكفار فتشبهوهم فى حالة قتل بعضهم بعضاً (8) .

_ (1) انظر: الفتنة الكبرى ص 170 - 173. (2) انظر: أضواء على السنة ص 360 - 362. (3) انظر: دين السلطان لنيازى عز الدين ص 34، 103، 110، 124، 795، والسلطة فى الإسلام لعبد الجواد ياسين ص 260 وما بعدها. (4) قال ذلك الرافضى حسن شحاته (قبحه الله تعالى) انظر: مجلة روز اليوسف العدد3562 ص35. (5) راجع إن شئت ما سبق من الجواب فى الطعن فى صحة إسلام سيدنا معاويةرضي الله عنه ص420-425. (6) ممن حقق فى تلك الفتن الإمام ابن العربى فى العواصم من القواصم، وابن تيمية فى منهاج السنة. وغيرهما والأمر فى حاجة إلى مزيد من التحقق. والله أعلم. (7) انظر: فتح البارى 13/30 أرقام 7076 - 7080. (8) انظر: المصدر السابق 1/262 رقم 121.

.. وقيل: المعنى كفاراً بحرمة الدماء، وحرمة المسلمين، وحقوق الدين، وقيل: كفاراً بنعمة الله، وقيل المراد ستر الحق، والكفر لغة الستر، لأن حق المسلم على المسلم أن ينصره ويعينه، فلما قاتله كأنه غطى على حقه الثابت له عليه، وقيل: إن الفعل المذكور يفضى إلىالكفر، لأن من اعتاد الهجوم على كبار المعاصى جره شؤم ذلك إلى أشد منها فيخشى أن لا يختم له بخاتمة الإسلام، وقيل: اللفظ على ظاهره للمستحل قتال أخيه المسلم.وقيل غير ذلك (1) . ... وما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من قتال لم يكن عن استحلال له حتى يحمل الحديث على ظاهره وأن قتالهم كفر، كما استدل الخوارج ومن شايعهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (2) . كيف والقرآن الكريم يكذبهم فى هذا الفهم السطحى قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) . فسماهم أخوة، ووصفهم بأنهم مؤمنون، مع وجود الاقتتال بينهم، والبغى من بعضهم على بعض.

_ (1) المصدر نفسه 12/201، 202 رقم 6868، 13/30 أرقام 7076 - 7080. (2) سبق تخريجه ص577. (3) الآيتان 9، 10 من سورة الحجرات.

.. يقول الحافظ ابن كثير: "وبهذا استدل البخارى (1) وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم، وهكذا ثبت فى صحيح البخارى من حديث الحسن (2) ، عن أبى بكرة (3) رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر-والحسن بن على إلى جنبه-وهو يقبل على الناس مرة، وعليه أخرى ويقول: إن ابنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (4)

_ (1) صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الإيمان، باب المعاصى من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بإرتكابها إلا بالشرك لقوله صلى الله عليه وسلم لأبى ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية" وقول الله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" وباب "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" فسماهم مؤمنين 1/106 رقمى 30، 31. (2) الحسن هو: ابن على بن أبى طالب - رضى الله عنهما - صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 1/328 رقم 1719، والاستيعاب 1/383 رقم 555، وأسد الغابة 2/13 رقم 1165، ومشاهير علماء الأمصار 12 رقم 6. (3) أبو بكرة هو: نفيع بن مسروح بن كلده، صحابى جليل، له ترجمة: فى الإصابة 3/571 رقم8793، واسد الغابة 5/334 رقم 5289، وتاريخ الصحابة ص249 رقم 1373، ومشاهير علماء الأمصار ص48 رقم 220 والاستيعاب 4/1614 رقم 2877. (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الصلح، باب قول النبىصلى الله عليه وسلم للحسن بن على رضي الله عنه"إن ابنى هذا سيد … الحديث" وقوله جل ذكره "فأصلحوا بينهما" 5/361 رقم 2704.

فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، أصلح الله تعالى به بين أهل الشام، وأهل العراق، بعد الحروب الطويلة، والواقعات المهولة" (1) . ... يقول الإمام ابن تيمية:"والذين قاتلوا الإمام على رضي الله عنه لا يخلوا: إما أن يكونوا عصاة، أو مجتهدين مخطئين أو مصيبين، وعلى كل تقدير، فهذا لا يقدح فى إيمانهم، ولا فى عدالتهم، ولا يمنعهم الجنة، بما سبق من تصريح القرآن الكريم، من تسميتهم إخوة، ووصفهم بأنهم مؤمنون، وتأكيد النبى صلى الله عليه وسلم ذلك بما سبق من رواية الحسن بن على عن أبى بكرة رضي الله عنه. ولهذا اتفق أهل السنة على أنه لا تفسق واحدة من الطائفتين، وإن قالوا فى إحداهما أنهم كانوا بغاة (2) والبغى إذا كان بتأويل كان صاحبه مجتهداً، والمجتهد المخطئ لا يكفر، ولا يفسق وإن تعمد البغى فهو ذنب من الذنوب، والذنوب يرفع عقابها بأسباب متعددة كالتوبة، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وشفاعة النبى صلى الله عليه وسلم ودعاء المؤمنين، وغير ذلك (3) . وعلى هذا القول إجماع الأمة من علمائها.

_ (1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/211. (2) ويعنون بهذه الطائفة التى بغت طائفة معاوية رضي الله عنه ودليلهم فى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعمار "تقتلك الفئة الباغية" أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر أخيه 9/266 رقم 2916، من حديث أم سلمة –رضى الله عنها- وكان عمار رضي الله عنه يقاتل مع الإمام على رضي الله عنه والوصف بالبغى هنا لا ينفى عنهم العدالة كما تشهد بذلك آية الحجرات فى قوله تعالى: "فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ". (3) منهاج السنة 2/205 بتصرف وانظر: أصول الدين للبغدادى ص 289 وما بعدها.

يقول الإمام الآمدى: "فالواجب أن يحمل كل ما جرى بينهم من الفتن على أحسن حال، وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من اعتقاده أن الواجب ما صار إليه، وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين. وإلا فجمهور الصحابة وسادتهم تأخروا عن تلك الفتن والخوض فيها كما قال محمد بن سيرين: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف فما حضر منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين" وإسناد هذه الرواية كما قال ابن تيمية أصح إسناد على وجه الأرض (1) . وعلى هذا فالذى خاض فى تلك الفتن من الصحابة إما أن يكون كل مجتهد مصيباً، أو أن المصيب واحد، والآخر مخطئ فى اجتهاده مأجور عليه. وعلى كلا التقديرين، فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة، إما بتقدير الإصابة فظاهر، وإما بتقدير الخطأ مع الاجتهاد فبالإجماع" (2) . يقول الإمام الجوينى: "أما التوقف فى تعديل كل نفر من الذين لابسوا الفتن، وخاضوا المحن، ومتضمن هذا، الانكفاف عن الرواية عنهم، فهذا باطل من دين الأمة، وإجماع العلماء على تحسين الظن بهم، وردهم إلى ما تمهد لهم من المآثر بالسبيل السابقة، وهذا من نفائس الكلام" (3) أ. هـ. ...

_ (1) منهاج السنة 3/186. (2) الإحكام للآمدى 2/82 بتصرف وانظر: فواتح الرحموت 2/155، 156، والبحر المحيط 4/299، وإرشاد الفحول 1/275، والباعث الحثيث ص 154، وعقيدة أهل السنة فى الصحابة الكرام للدكتور ناصر الشيخ مبحث (الحرب التى دارت بين على بن أبى طالب، وبعض الصحابة - رضى الله عنهم- وموقف أهل السنة منها 2/700 – 748، وانظر: الرد القويم على المجرم الأثيم للشيخ التويجرى ص 182-184. (3) البرهان فى أصول الفقه 1/241، 242.

وأخيراً: دع عنك - أخى المسلم - ترهات المبتدعة الذين يجادلون فى عدالة الصحابة جميعاً - وينفون العدالة عن بعضهم - اتباعاً للهوى أو انقياداً للشيطان. وأشد سخفاً من ذلك، ما يتجرأ به البعض فى زماننا هذا حينما يتحدثون عن الصحابة بأسلوب غير لائق، وينصب نفسه حكماً فيما شجر بينهم من خلاف، ويقبل رواية هذا، ويرفض رواية ذلك، وهو لا يملك سبباً واحداً من أسباب ذلك كله" (1) . واعلم أن أمثال هؤلاء لهم خبيئة سوء، ومتهمين فى دينهم، يدل على ذلك ما روى عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه سئل عن رجل تنقص معاوية، وعمرو بن العاص أيقال له رافضى؟ فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحدٌ أحداً من الصحابة إلا وله داخلة سوء". وفى رواية أخرى قال: "إذا رأيت رجلاً يذكر أحداً من الصحابة بسوء فاتهمه على الإسلام" (2) . ويسئل الإمام النسائى عن معاوية بن أبى سفيان - رضى الله عنهما - فيقول: "إنما الإسلام كدار لها باب، فباب الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب - أى نقبه - إنما يريد دخول الدار، قال: فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة (3) . وصدق عمر بن عبد العزيز "تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا تخضب بها السنتنا" (4) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى أعلم

_ (1) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير لفضيلة الدكتور مروان شاهين ص 95. (2) البداية والنهاية 8/142. (3) تهذيب الكمال للحافظ للمزى 1/339 ترجمة الإمام النسائى. (4) انظر: فتح المغيث للسخاوى 3/96.

المطلب الخامس: سنة الصحابة - رضي الله عنهم - حجة شرعية

المطلب الخامس: سنة الصحابة - رضي الله عنهم - حجة شرعية ... إذا كان أعداء الإسلام يشككون فى عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - فهم أيضاً يشككون فى سنتهم، وسنة الخلفاء الراشدين. يقول محمد شحرور: "فإذا سألنى سائل الآن ألا يسعك ما وسع الصحابة فى فهم القرآن؟ فجوابى بكل جرأة ويقين هو: كلا لا يسعنى ما وسعهم، لأن أرضيتى العلمية تختلف عن أرضيتهم، ومناهج البحث العلمى عندى تختلف عنهم، وأعيش فى عصر مختلف تماماً عن عصرهم والتحديات التى أواجهها تختلف عن تحدياتهم" (1) . ... والحق أن هذا كلام من يرى الشريعة الإسلامية قرأناً وسنة غير صالحة لكل زمان ومكان، فكلامه هو وغيره من أعداء السنة المطهرة فى سنة الصحابة لا قيمة له. لأن سنة الصحابة وهى ما جاء عنهم من قول أو فعل أو تقرير إذا كان مما لا يقال من قبل الرأى، ومما لا مجال للاجتهاد فيه، فله حكم المرفوع المسند تحسيناً للظن بهم، وجزم بذلك الرازى فى المحصول، وغير واحد من أئمة الأصول والحديث (2) . وإذا كانت سنتهم فى غير ذلك، فقد اختلف العلماء فى ذلك.

_ (1) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص567،وانظر: منع تدوين الحديث لعلى الشهرستانى133،142، 166، 249، 334-340، 503، وركبت السفينة لمروان خليفات ص 280، ونظرية عدالة الصحابة لأحمد حسين يعقوب 56-58، والإفصاح فى إمامة على بن أبى طالب لمحمد العكبرى ص140، 141، والخلافة المغتصبة لإدريس الحسينى، وغيرهم ممن طعنوا فى عدالة الصحابة. (2) انظر: المحصول 2/221، والإحكام للآمدى 2/87، وأعلام الموقعين 4/123، وفتح المغيث للسخاوى 1/144، وتدريب الراوى 1/190، 191، وتوضيح الأفكار 1/280.

والراجح من هذا الخلاف (1) أن سنتهم كسنة الرسول يعمل بها، ويرجع إليها، وانتصر لهذا الرأى غير واحد من أئمة الأصول، منهم الشاطبى - رحمه الله - فبعد أن ذكر الآيات والأحاديث الدالة على عدالتهم قال: "فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق، وأنهم وسط أى عدول بإطلاق، وإذا كان كذلك فقولهم معتبر، وعملهم مقتدى به. ... ثم استدل الشاطبى لما رجح بأدلة منها: 1- ما جاء فى الحديث من الأمر باتباعهم، وأن سنتهم فى طلب الاتباع كسنة النبى صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" (2) 2- أن جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل، فقد جعل طائفة قول أبى بكر وعمر حجة ودليلاً، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلاً، وبعضهم يعد قول الصحابى على الإطلاق حجة ودليلاً، ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة وهذه الآراء - وإن ترجح عند العلماء خلافها - ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلى هو المعتمد فى المسألة، وذلك أن السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم، يهابون مخالفة الصحابة، ويتكثرون بموافقتهم، وأكثر ما تجد هذا المعنى فى علوم الخلاف الدائرة بين الأئمة المعتبرين، فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قوَّوها بذكر من ذهب إليها من الصحابة، وما ذاك إلا لما اعتقدوا فى أنفسهم وفى مخالفيهم من تعظيمهم، وقوة مآخذهم دون غيرهم، وكبر شأنهم فى الشريعة، وأنهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فضلاً عن النظر معهم فيما نظروا فيه. ... ويؤيد هذا ما جاء عن السلف الصالح، من تزكيتهم والحث على متابعتهم.

_ (1) انظر: الأدلة المختلف فيها وأثرها فى الفقه الإسلامى للدكتور عبد الحميد أبو المكارم ص 303، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادى، باب ما جاء فى قول الواحد من الصحابة 1/437. (2) سبق تخريجه ص 38.

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من كان مستناً فليستن (1) بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم فى آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" (2) . ... وقال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتدٍ، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيراً. ... وفى رواية بعد قوله -وقوة على دين الله - ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر فى رأى خالفها، من اهتدى بها مهتد … الحديث" (3) . فقال مالك فأعجبنى عزم عمر على ذلك" (4) والآثار فى هذا المعنى يكثر إيرادها، وقد استوعب كثيراً منها الإمام ابن قيم الجوزية فى كتابه أعلام الموقعين عن رب العالمين (5) .

_ (1) ذهب الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة إلى أن هذا هو الأصح فى بداية الأثر، وأن ابن قيم الجوزية، وابن عبد البر، تأولاه (من كان متأسياً) انظر: لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث ص 38. (2) أخرجه البغوى فى شرح السنة كتاب الإيمان، باب رد البدع والأهواء 1/214، وأخرجه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/97، وذكره ابن قيم الجوزية فى أعلام الموقعين 4/139. (3) سبق تخريجه ص39. (4) الموافقات 4/452 - 455، وانظر: الاعتصام 2/519. (5) أعلام الموقعين 4/118 - 156، وانظر: الرسالة للشافعى ص 596 فقرات رقم 1682، 1805 – 1811.

.. ويقول الإمام الشاطبى فى موضع آخر من كتابه مبيناً أن بيان الصحابى حجة، قال: "وأما بيان الصحابة، فإن أجمعوا على ما بينوه، فلا إشكال فى صحته أيضاً، كما أجمعوا على الغسل من التقاء الختانين المبين لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (1) وهذا الإجماع حجة موجبة للعلم، ولا يعتد بخلاف من خالفهم، كما حكاه السرخسى (2) ،عن أبى حازم القاضى (3) وإن لم يجمعوا عليه فهل يكون بيانهم حجة أم لا؟ هذا فيه نظر وتفصيل. ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم فى البيان، من وجهين: أحدهما: معرفتهم باللسان العربى، فإنهم عرب فصحاء، لم تتغير ألسنتهم، ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم، فهم أعرف فى فهم الكتاب والسنة من غيرهم، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صح اعتماده من هذه الجهة. ثانيهما: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنزيل الوحى بالكتاب والسنة، فهم أقعد فى فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب التنزيل، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات، فالعمل عليه صواب، وهذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف فى المسألة، فإن خالف بعضهم فالمسالة اجتهادية" (4) .

_ (1) جزء من الآية 6 من سورة المائدة. (2) أصول السرخسى 1/317، وانظر: علم أصول الفقه وتاريخ التشريع الإسلامى للشيخ أحمد إبراهيم ص 24، 25. (3) أبو حازم هو: سلمة بن دينار المخزومى، عالم المدينة، وقاضيها، وشيخها، قال فيه ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث مات سنة 140هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/376 رقم 2496، وتذكرة الحفاظ 1/133 رقم 119، وشذرات الذهب 1/208، والعبر 1/189، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص60 رقم 117. (4) الموافقات 3/300، 301.

.. ويقول فى كتابه الاعتصام: "الصحابة هم المتقلدون لكلام النبوة، المهتدون للشريعة، الذين فهموا أمر دين الله بالتلقى من نبيه مشافهة على علم، وبصيرة بمواطن التشريع، وقرائن الأحوال، بخلاف غيرهم: فإذا كل ما سنوه، فهو سنة، من غير نظير فيه، بخلاف غيرهم، فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالاً للنظر رداً وقبولاً" (1) . سنة الصحابة مصدراً للأحكام الدستورية: يقول المستشار الدكتور على حريشة بعد أن رد اعتراضات المنكرين لحجية مذهب الصحابى (2) ، قال: وسنة الصحابة يمكن أن تكون مصدراً للأحكام الدستورية: ولقد كان نظام الخلافة وليد اجتهاد الصحابة فضرورة البيعة – وهى مظهر رضا المسلمين – كانت عليها سنة الصحابة، فلم يل أحدهم دون بيعة، ولم يكن الاستخلاف بالنسبة لمن استخلفوا إلا ترشيحاً، واستمرار الخلافة مدى حياة الخليفة … كان سنة للصحابة، تحقق بها ميزات عجز عنها كل من النظام الجمهورى، والنظام الملكى على السواء، فقد وفرت الثبات الذى ينقص الأنظمة الجمهورية، ونفت التوارث الذى يعيب الأنظمة الملكية. ... وهكذا يتبين أن سنة الخلفاء كانت مصدراً لكثير من الأحكام الدستورية على غير ما يذهب إليه بعض "المجتهدين" "المحدثين" (3) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) الاعتصام 2/519. (2) مصادر الشريعة الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية ص 42 – 48. (3) كالأستاذ الدكتور عبد الحميد متولى فى كتابه مبادئ نظام الحكم فى الإسلام ص 263، وفى كتابه ترديد لكثير مما قاله على عبد الرازق فى كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ، انظر: مصادر الشريعة الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية ص 49.

المطلب السادس: أبو هريرة - رضي الله عنه - راوية الإسلام رغم أنف الحاقدين

المطلب السادس: أبو هريرة رضي الله عنه راوية الإسلام رغم أنف الحاقدين ... لهج أعداء السنة، أعداء الإسلام، قديماً وحديثاً، وشغفوا بالطعن فى أبى هريرة وتشكيك الناس فى إسلامه، وفى صدقه وروايته، وما إلى ذلك أرادوا! وإنما أرادوا أن يصلوا إلى التشكيك فى راوية السنة الأول، وأحفظ من رواها فى دهره، فأبو هريرة رضي الله عنه على رأس السبعة المكثرين من الرواية الذين عناهم من أنشد: سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا *** ... من الحديث عن المختار خير مضر أبو هريرة، سعد، جابر، أنس ... *** صديقة، وابن عباس، كذا ابن عمر فأبو هريرة هو أكثرهم حديثاً فقد روى (5374) حديثاً، ثم عبد الله بن عمر روى (2630) حديثاً، ثم أنس بن مالك روى (2286) حديثاً، ثم عائشة أم المؤمنين روت (2210) حديثاً، ثم ابن عباس روى (1660) حديثاً، ثم جابر بن عبد الله روى (1540) حديثاً، ثم أبو سعيد الخدرى (سعد بن مالك) روى (1170) حديثاً (1) . وما اتهم به أبو هريرة رضي الله عنه، من أكاذيب وافتراءات من قبل أرباب الأهواء قديماً وحديثاً، سندهم فيه إما روايات مكذوبة أو ضعيفة، وإما روايات صحيحة لم يفهموها على وجهها، بل تأولوها تأويلاً باطلاً يتفق وأهواءهم.

_ (1) انظر: تدريب الراوى2/216-218،وفتح المغيث للسخاوى3/97،وشذرات الذهب1/63.

وقد تصدى للرد على تلك الطعون رهط من علماء الإسلام. على رأسهم أبى هريرة نفسه، وصدق على دفاعه - على ما سيأتى - كبار الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم من أئمة المسلمين، منهم الحاكم فى المستدرك، وابن عساكر فى تاريخه، وابن كثير فى البداية والنهاية، وابن قتيبة فى تأويل مختلف الحديث، وعبد المنعم صالح العلى فى كتابه دفاع عن أبى هريرة، والدكتور محمد السماحى فى كتابيه "أبو هريرة فى الميزان"، والمنهج الحديث فى علوم الحديث، والدكتور السباعى فى كتابه "السنة ومكانتها فى التشريع، والدكتور عجاج الخطيب فى كتابيه السنة قبل التدوين، وأبو هريرة راوية الإسلام، والشيخ عبد الرحمن المعلمى فى كتابه (الأنوار الكاشفة) ، والدكتور أبو زهو فى الحديث والمحدثون، والدكتور أبو شهبة فى دفاع عن السنة، والدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف فى كتابه "المختصر فى علم رجال الأثر" وفى مقدمة كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمى وغيرهم. ونكتفى هنا بترجمة للصحابى الجليل نتعرف بها على مكانته فى الإسلام، وبراءته مما نسب إليه من أكاذيب. وذلك بعد أن نتعرف على أصناف الطاعنين فيه، والذين ذكرهم الإمام ابن خزيمة (1) بقوله: "إنما يتكلم فى أبى هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معانى الأخبار.

_ (1) ابن خزيمة هو: الحافظ الكبير، أبو بكر، محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة النيسابورى، انتهت إليه الإمامة، والحفظ فى عصره بخرسان، قال فيه ابن حبان: ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح وزيادتها حتى كأن السنن نصب عينيه إلا ابن خزيمة قط.ومصنفاته: تزيد على مائة وأربعين كتاباً، منها صحيحة فى السنن، مات سنة 311هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 2/720 رقم 734، والبداية والنهاية 11/149، والوافى بالوفيات للصفدى2/196،وشذرات الذهب2/262،وطبقات الشافعية للسبكى2/109.

1- إما معطل جهمى يسمع أخباره التى يرونها خلاف مذهبهم الذى هو كفر، فيشتمون أبا هريرة، ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه، تمويهاً على الرعاء، والسفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة. 2- وإما خارجى يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام، إذا سمع أخبار أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم خلاف مذهبهم الذى هو ضلال لم يجد حيلة فى دفع أخباره بحجة وبرهان، كان مفزعة الوقيعة فى أبى هريرة. 3- أو قدرى اعتزل الإسلام وأهله، وكفر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التى قدرها الله تعالى، وقضاها قبل كسب العباد لها، إذا نظر إلى أخبار أبى هريرة التى قد رواها عن النبى صلى الله عليه وسلم فى إثبات القدر لم يجد حجة يؤيد صحة مقالته التى هى كفر وشرك، كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبى هريرة، لا يجوز الاحتجاج بها. 4- أو جاهل يتعاطى الفقه، ويطلبه من غير مظانة، إذا سمع أخبار أبى هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه، وأخباره تقليداً بلا حجة ولا برهان، تكلم فى أبى هريرة، ودفع أخباره التى تخالف مذهبه، ويحتج بأخباره على مخالفته إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه، وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبى هريرة أخباراً لم يفهموا معناها" (1) . قلت: والله إن من يتكلم فى أبى هريرة فى عصرنا لا يخرج فى عقيدته، ومذهبه عما ذكرهم الإمام ابن خزيمة - رحمه الله تعالى -.

_ (1) مستدرك الحاكم 3/587.

أبو هريرة - رضي الله عنه - إسلامه وصحبته:

أبو هريرة رضي الله عنه إسلامه وصحبته: قدم أبو هريرة مهاجراً من اليمن إلى المدينة ليالى فتح خيبر فى المحرم سنة سبع من الهجرة، وكان قد أسلم على يد الطفيل بن عمرو (1) فى اليمن، وشهد هذه الغزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولازمه إلى آخر حياته يخدمه، ويتلقى العلم عنه صلى الله عليه وسلم، ويتحدث هو عن ذلك لما سأله مروان بن الحكم قائلاً له: "إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، وإنما قدمت قبل وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بيسير، فقال أبو هريرة: نعم! قدمت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات، وأقمت معه حتى توفى، أدور معه فى بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله يومئذ مقل (أى فقير) ، وأصلى خلفه، وأحج، وأغزو معه، فكنت والله أعلم الناس بحديثه، قد والله سبقنى قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار، وكانوا يعرفون لزومى له فيسألونى عن حديثه، منهم عمر، وعثمان، وعلى، وطلحة والزبير، فلا والله ما يخفى على كل حديث كان بالمدينة. قال: فوالله ما زال مروان يقصر عن أبى هريرة، ويتقيه بعد ذلك، ويخافه، ويخاف جوابه (2)

_ (1) الطفيل بن عمرو: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 2/225 رقم 4254، وتاريخ الصحابة ص145 رقم 705، والاستيعاب 2/757 رقم 1274، واسد الغابة 3/77 رقم 2613. (2) البداية والنهاية 8/111، 112، وانظر: الاستيعاب لابن عبد البر 4/1771 رقم 3208.

خلقه وتقواه:

وفيما سبق رد على دعوى الرافضة ومن قال بقولهم: "إن أبا هريرة لم يصاحب النبى صلى الله عليه وسلم إلا سنة وتسعة أشهر (1) ، فالمعروف أن أبا هريرة أسلم عام خيبر، وخيبر كانت فى جمادى الأولى سنة سبع (2) . وبين خيبر ووفاة النبى صلى الله عليه وسلم أربع سنوات، إلا شهرين تقريباً فإن الوفاة كانت فى ربيع الأول سنة 11هـ (3) . خلقه وتقواه: كان رضي الله عنه، صادق اللهجة، خفيف الروح محبباً إلى الصحابة، وكان رضي الله عنه تقياً ورعاً كثير التعبد، شديد الخشية لله تعالى، وكان يقول:"وأيم الله لولا آية فى كتاب الله ما حدثتكم بشئ أبداً، ثم يتلو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (4) . وكان صواماً قواماً يتناوب قيام الليل، هو وزوجته، وخادمه، فيما رواه عنه أبو عثمان النهدى (5) رضي الله عنه قال: "تضيفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته، وخادمه يتعقبون الليل أثلاثاً: يصلى هذا، ثم يوقظ الآخر فيصلى، ثم يوقظ الثالث" (6) .

_ (1) انظر: شبهات حول الشيعة لعباس الموسوى ص 141، وشيخ المضيرة ص 135، وأضواء على السنة ص 200 كلاهما لمحمود أبو ريه، والسلطة فى الإسلام لعبد الجواد ياسين ص 241، والشيعة هم أهل السنة للدكتور محمد التيجانى السماوى ص220. (2) انظر: طبقات ابن سعد 2/81. (3) انظر: سير أعلام النبلاء 2/589 - 590. (4) الآية 159 من سورة البقرة. (5) أبو عثمان النهدى هو: عبد الرحمن بن مل، مخضرم، ثقة ثبت عابد، مات سنة 95هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/592 رقم 4031، وتذكرة الحفاظ 1/65 رقم 56، وشذرات الذهب 1/118، وطبقات ابن سعد 7/61. (6) انظر: البداية والنهاية 8/113، وتذكرة الحافظ 1/36.

وقد أرسله النبى صلى الله عليه وسلم مع العلاء بن الحضرمى (1) إلى البحرين لينشر الإسلام، ويفقه المسلمين فى الدين (2) . كما استعمله الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على البحرين فترة ثم عزله، وبعد ذلك دعاه عمر ليوليه فلم يقبل أبو هريرة وقال: "أخشى أن أقول بغير علم، وأقضى بغير حلم، وأن يضرب ظهرى وينزع مالى، ويشتم عرضى" (3) . يقول الإمام الجوينى: "وهذا مما يتمسك به فى أبى هريرة رضي الله عنه فعمر مع تنزهه عن المداراة والمداجاة والمداهنة، اعتمده وولاه فى زمانه أعمالاً جسيمة، وخطوباً عظيمة، وكان يتولى زماناً على الكوفة وكان يبلغه روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن من أهل الرواية، لما كان يقرره عمر رضي الله عنه مع العلم بإكثاره (4) . ... ولم يشترك أبو هريرة فى الفتن التى حدثت بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بل اعتزلها. ولم يفارق الحجاز منذ استعمله عمر على البحرين ثم عزله. ولم يزل يسكن المدينة، وبها كانت وفاته.

_ (1) العلاء بن الحضرمى: صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 3/1085 رقم 1841، واسد الغابة 4/71 رقم3745، وتاريخ الصحابة ص184 رقم 954، ومشاهير علماء الأمصار ص75 رقم 400، والإصابة 2/497 رقم 5642. (2) البداية والنهاية 8/116، وانظر: زاد المعاد 3/692، 693. (3) البداية والنهاية 8/114، 115. (4) البرهان فى أصول الفقه 1/240.

.. وفى هذا رد على الرافضة الزنادقة ومن قال بقولهم. من اشتراك أبى هريرة فى الفتنة بين على ومعاوية-رضى الله عنهما-"فكان يأكل مع معاوية فإذا حضرت الصلاة صلى خلف علىرضي الله عنه، فإذا قيل له فى ذلك قال: مضيرة (1) معاوية أدسم، والصلاة خلف علىّ أفضل" (2) ... فهذه القصة التى بنى عليها الرافضى محمود أبو رية تسمية كتابه "شيخ المضيرة أبو هريرة" هذه القصة لا يصدقها عاقل، والأحداث التاريخية تكذبها. يقول الدكتور محمد أبو شهبة: "كيف يصح هذا فى العقول، وعلىّ كان بالعراق، ومعاوية كان بالشام، وأبو هريرة كان بالحجاز، إذ الثابت أنه بعد أن تولى إمارة البحرين فى عهد عمر رضي الله عنه لم يفارق الحجاز (3) . وقال الإمام ابن عبد البر: استعمله عمر على البحرين ثم عزله، ثم أراده على العمل، فأبى عليه، ولم يزل يسكن المدينة وبها كانت وفاته (4) . وبهذا يتبين لنا كذب ادعاءاتهم، ويظهر لنا مدى حقدهم، اللهم إلا إذا كانت الشيعة ترى أن أبا هريرة أعطى بساط سليمان أو كانت الأرض تطوى له طياً!!! (5) .

_ (1) شيخ المضيرة لمحمود أبو رية ص 61 وانظر له أيضاً: أضواء على السنة ص 197-199، وشبهات حول الشيعة لعباس الموسوى ص 144. (2) المضيرة: مريقة تطبخ بلبن وأشياء، وهى عند العرب أن تطبخ اللحم باللبن البحت الصريح الذى قد حذى اللسان حتى ينضج اللحم. لسان العرب 5/178. (3) دفاع عن السنة ص 99. (4) الاستيعاب 4/1771. (5) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 99، وانظر: الشيعة والصحابة للدكتور عمر الفرماوى ص 97، 98.

قوة ذاكرته وروايته:

.. وعودة إلى خلقه وتقواه رضي الله عنه: فقد اشتهر رضي الله عنه بالتواضع، والمرح، فكان يداعب الأطفال، ويمازح الناس ويلاطفهم، ومن ذلك أنه كان يمر فى السوق، يحمل الحزمة من الحطب على ظهره-وهو يومئذ أمير مروان على المدينة فيقول: أوسعوا الطريق للأمير (1) . فمعاوية رضي الله عنه استعمله فى عهده على المدينة ثم عزله وولى عليها مروان، ثم استخلفه مروان عليها حين توجه إلى الحج" (2) . قوة ذاكرته وروايته: لقد لازم أبو هريرة رسول الله منذ قدم عليه مهاجراً، ينهل من عمله، ويتلقى عنه أحاديثه ويحفظها، واجتهد فى ذلك حتى صار أحفظ أصحابه، وأكثرهم رواية للحديث، فقد روى (5374) خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً نبوياً - كما فى مسند بقى ابن مخلد- اتفق الشيخان البخارى ومسلم على (325) ثلاثمائة وخمسة وعشرين حديثاً منها، وانفرد البخارى بثلاثة وتسعين، ومسلم بمائة وتسعة وثمانين (3) ،وقيل غير ذلك. ... وهذه الروايات التى زادت على خمسة آلاف هى بالمكرر. وذكر الدكتور الأعظمى فى كتابه: أبو هريرة فى ضوء مروياته (4) أن أحاديثه فى المسند والكتب والسنة هى 1336 حديثاً فقط، وذلك بعد حذف الأسانيد المكررة. وهذا القدر يستطيع طالب عادى أن يحفظه فى أقل من عام، فما بالك بمن كان حفظه من معجزات النبوة" (5) .

_ (1) انظر: ما قاله الدكتور السباعى دفاعاً ضد من طعن فى مزاح أبى هريرة رضي الله عنه فى السنة ومكانتها فى التشريع ص 337-341، وانظر: دفاع عن السنة للدكتور أبو شهبة ص 106-108. (2) البداية والنهاية 8/116، 117. (3) تدريب الراوى 2/216، 217، وانظر: سير أعلام النبلاء 2/632. (4) أبو هريرة فى ضوء مروياته ص 76، نقلاً عن (مع الشيعة الإثنى عشرية فى الأصول والفروع) للدكتور على السالوس 3/77. (5) مع الشيعة الإثنى عشرية فى الأصول والفروع 3/77.

ويقول الدكتور أبو شهبة: "وأحب ألا يعزب عن بالنا أن هذه الخمسة آلاف والثلاثمائة والأربعة والسبعون حديثاً، الكثير منها لا يبلغ السطرين أو الثلاثة، ولو جمعتها كلها لما زادت عن جزء فأى غرابة فى كثرة مروياته مع حداثة صحبته، مع أن السنين الأربع ليست بالزمن القصير فى عمر الصحبة (1) ، ولا سيما ما توافر له دون غيره من الصحابة من أمور كانت سبباً فى تفوقه فى الرواية وكثرة مروياته منها:

_ (1) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 103، 104.

أسباب كثرة مروياته:

أسباب كثرة مروياته: أولاً: شدة ملازمته للنبى صلى الله عليه وسلم منذ قدم مهاجراً إليه سنة سبع من الهجرة يدور معه فى بيوت نسائه يخدمه، ويصلى خلفه، ويحج، ويغزو معه كما حدث عن نفسه، ومما أعانه على التفرغ لذلك أنه كان فقيراً، ولم تكن له زوجه، ولا أولاد حينئذ - ونحو ذلك مما يشغل، مع شدة حرصه على تلقى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم، وشهد له النبى صلى الله عليه وسلم بهذا الحرص ومن الآثار الدالة على ذلك: ما جاء فى الصحيح عنه رضي الله عنه قال: "يقولون: إن أبا هريرة قد أكثر والله الموعد. ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يتحدثون مثل أحاديثه؟ وسأخبركم عن ذلك: إن إخوانى من الأنصار كان يشغلهم عمل أراضيهم. وإن إخوانى من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق. وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملئ بطنى فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: "أيكم يبسط ثوبه فيأخذ من حديثى هذا، ثم يجمعه إلى صدره، فإنه لن ينس شيئاً سمعه، فبسطت بردة على حتى فرغ من حديثه، ثم جمعتها إلى صدرى، فما نسيت بعد ذلك اليوم شيئاً حدثنى به. ولولا آيتان أنزلهما الله فى كتابه ما حدثت شيئاً أبداً: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (1) .

_ (1) الآيتان 159، 160 من سورة البقرة، والحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب حفظ العلم 1/258 رقم 118، ومسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من أبى هريرة 8/290، 292 رقم 2492 واللفظ له.

ثانياً: دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالحفظ وعدم النسيان، ومما يدل على ذلك الرواية السابقة، وما رواه الحاكم فى المستدرك عن زيد بن ثابت، أن رجلاً جاء إليه فسأله عن شئ فقال له زيد: عليك بأبى هريرة، فإنه بينما أنا وأبو هريرة فى المسجد وفلان فى المسجد ذات يوم ندعوا الله تعالى، ونذكر ربنا خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا قال: فجلس وسكتنا. فقال عودوا للذى كنتم فيه، قال زيد فدعوت أنا وصاحبى قبل أبى هريرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا قال: ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إنى أسألك مثل الذى سألك صاحباى هذان وأسألك علماً لا ينسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمين"فقلنا يا رسول الله ونحن نسأل الله علماً لا ينسى فقال:"سبقكما بها الدوسى" (1) . ثالثاً: إن أبا هريرة تميز بقوة ذاكرته وحفظه وحسن ضبطه، خاصة بعد أن دعا له الرسول بالحفظ وعدم النسيان - كما سبق - فكان حافظاً متقناً ضابطاً لما يرويه.

_ (1) أخرجه النسائى فى سننه الكبرى كتاب العلم، باب مسألة علم لا ينسى 3/440 رقم 5870، والحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة الدوسىرضي الله عنه3/582 رقم6158 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبى فى التلخيص بقوله فيه حماد = =ابن شعيب ضعيف، وكذا قال فى سير أعلام النبلاء 2/600، وفى موضع آخر من السير 2/616 ذكر الخبر بإسناد آخر فيه الفضل بن العلاء بدلاً من حماد، ثم قال: تفرد به الفضل ابن العلاء وهو صدوق، وقال: ابن حجر فى الإصابة 4/208 سند النسائى جيد. وانظر: تهذيب التهذيب 12/266

.. ويدل على ذلك قصة امتحان مروان له فيما رواه الحاكم عن أبى الزُّعَيْزِعَة (1) كاتب مروان بن الحكم، أن مروان بن الحكم دعا أبا هريرة فأقعدنى خلف السرير، وجعل يسأله وجعلت أكتب حتى إذا كان عند رأس الحول، دعا به فأقعده وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا آخر" (2) وقد نقل هذه القصة الذهبى فى سير أعلام النبلاء، ثم عقب بقوله: "قلت هكذا فليكن الحفظ" (3) . ... وهذه القصة نقلها أيضاً ابن حجر فى الإصابة (4) ، وابن كثير فى البداية (5) ، وهى تدل على قوة حفظه وإتقانه، كما شهد له بذلك الصحابة، والتابعون فمن بعدهم من أئمة المسلمين إلى يومنا هذا على ما سيأتى بعد قليل. ... وكان رضي الله عنه يراجع ما يسمعه من النبى صلى الله عليه وسلم تأكيداً لحفظه، فقد روى عنه أنه قال: "جزأت الليل ثلاثة أجزاء: ثلثاً أصلى، وثلثاً أنام، وثلثاً أذكر فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) . رابعاً: أدرك أبو هريرة كبار الصحابة، وروى عنهم كثيراً من الأحاديث فتكامل علمه بها واتسع أفقه فيها.

_ (1) ابن الزعيزعة: ذكره الدولابى فى الكنى فقال: "أبو زعيرة كاتب مروان" ص 183، ثم ذكره باسم أبى الزعيزعة، وذكر له خبراً عن مروان الكنى انظر ص 184، روى عن مكحول، وعمرو بن عبيد الأنصارى، والنضر بن محرز. قال أبو حاتم: مجهول، وقال الذهبى: أبو الزعيزعة عن مكحول لا يكاد يعرف. عداده فى الشاميين انظر: الجرح والتعديل 9/375 رقم 1734، وميزان الاعتدال 4/525 رقم 10200، ولسان الميزان 7/655 رقم 9985. (2) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة 3/583 رقم 6164، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى. (3) سير أعلام النبلاء 2/598. (4) الإصابة 4/205. (5) البداية والنهاية 8/106. (6) المصدر السابق 8/113.

خامساً: امتداد عمره رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث عاش بعده نحو سبعة وأربعين عاماً، واحتياج الناس إليه فكان يحدثهم ويبث بينهم ما يحفظه من أحاديث، وأعانه على ذلك: ابتعاده عن الفتن وغيرها من المشاغل ووجوده فى المدينة، والناس يفدون إليها، وكانت له حلقة فى مسجد الرسول يحدث الناس فيها بالأحاديث النبوية، فساعد ذلك على انتشار مروياته وتداولها، وكثرة أتباعه وتلامذته، حتى بلغوا نحو ثمانمائة من الصحابة والتابعين كلهم يجلونه ويثقون به ويثنون عليه على ما سيأتى بعد قليل. ... قال الإمام البخارى - رحمه الله -: "روى عنه نحواً من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم، من الصحابة والتابعين وغيره" (1) . ومن أشهر من روى عنه من الصحابة: زيد ابن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة، وأبو أيوب الأنصارى. ومن أشهر من روى عنه من التابعين: مروان بن الحكم، والحسن البصرى، وسعيد بن المسيب، وعامر الشعبى، وعروة ابن الزبير، وهمام بن منبه - وقد كتب عنه الصحيفة المشهورة (2) . وغيرهم كثير.

_ (1) انظر: تهذيب التهذيب 12/265، والبداية والنهاية 8/107، وتذكرة الحفاظ 1/33. (2) الإصابة 7/201، 202،وتهذيب التهذيب 12/263 - 265، وتذكرة الحفاظ 1/32، 33، وسير أعلام النبلاء 2/418 - 436، وانظر: من كتب عنه فى دراسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 1/97 - 99.

شهادة الرسول والصحابة ومن بعدهم من أهل العلم بقوة حفظه

شهادة الرسول والصحابة ومن بعدهم من أهل العلم بقوة حفظه وإتقانه وكثرة سماعه وحرصه على الحديث 1- روى عنه رضي الله عنه أنه قال ذات يوم: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألنى عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه (1) . 2- وعن ابن عمر-رضى الله عنهما- أنه مر بأبى هريرة رضي الله عنه، وهو يحدث عن النبى صلى الله عليه وسلم: من تبع جنازة فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان أعظم من أحد. فقال ابن عمر: يا أبا هريرة انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق إلى عائشة -رضى الله عنها- فقال لها: يا أم المؤمنين أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان؟ فقالت: اللهم نعم، فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يشغلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها. ... فقال ابن عمر: يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه (2) . وكان ابن عمر يترحم عليه فى جنازته ويقول: "كان يحفظ على المسلمين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) . ...

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب الحرص على الحديث1/233 رقم 99. (2) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة 3/584 رقم 6167 وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبى. (3) طبقات ابن سعد 4/340، وسير أعلام النبلاء 2/604، والبداية والنهاية 8/111، وفتح البارى 1/258 رقم 118.

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رجل لابن عمر: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر: أعيذك بالله أن تكون فى شك مما يجئ به، ولكنه اجترأ وجبنا" (1) ومعنى "اجترأ" هنا أى على سؤال النبى صلى الله عليه وسلم والتعلم منه، فى حين كانوا يهابون سؤال النبى صلى الله عليه وسلم. يدل على ذلك ما رواه الحاكم عن أبى بن كعب رضي الله عنه قال: كان أبو هريرة جريئاً على النبى صلى الله عليه وسلم يسأله عن أشياء لا نسأله عنها (2) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل. فيسأله ونحن نسمع … الحديث" (3) .

_ (1) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة الدوسى رضي الله عنه 3/83 رقم 6165، وسكت عنه الحاكم والذهبى. (2) أخرجه الحاكم فى الأماكن السابقة 3/584 رقم 6166، وسكت عنه الحاكم، والذهبى. (3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام 1/201 رقم 12

3- وعن مالك بن أبى عامر قال: كنت عند طلحة بن عبيد الله فدخل عليه رجل فقال: يا أبا محمد والله ما ندرى هذا اليمانى أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنتم، تقول على رسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقل - يعنى أبا هريرة - فقال طلحة: والله ما يشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوماً أغنياء لنا بيوت وأهلون كنا نأتى نبى الله صلى الله عليه وسلم طرفى النهارى ثم نرجع، وكان أبو هريرة رضي الله عنه مسكيناً لا مال له، ولا أهل ولا ولد وإنما كانت يده مع يد النبى صلى الله عليه وسلم وكان يدور معه حيثما دار، ولا نشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع، ولم يتهمه أحد منا، أنه تقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل" (1) . وهذا الخبر ذكره ابن حجر فى الإصابة وزاد فى قوله طلحة: "قد سمعنا كما سمع، ولكنه حفظ ونسينا" (2) . 4- وقال ابن خزيمة: وقد روى عن أبى هريرة أبو أيوب الأنصارى مع جلالة قدره، ونزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، ولما يقبل له: تحدث عن أبى هريرة وأنت صاحب منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع، وإنى إن أحدث عنه أحب إلىَّ من أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى ما لم أسمعه منه (3) .

_ (1) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة 3/585 رقم 6172، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبى على شرط مسلم. (2) الإصابة 4/209. (3) انظر: المستدرك للحاكم كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة 3/586 رقم 6175، وانظر: البداية والنهاية 8/109.

5- وعن محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى (1) أنه قعد فى مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبى صلى الله عليه وسلم بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، ثم يتراجعون فيه، فيعرفه بعضهم ثم يحدثهم بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، ثم يعرفه. حتى فعل ذلك مراراً. قال: فعرفت يومئذ أنه أحفظ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) . 6- ولم يكن أبو هريرة رضي الله عنه من أهل الحفظ فقط وإنما كان من أهل الفقه وشهد له بذلك الصحابى الجليل ابن عباس رضي الله عنه. يقول الحافظ السخاوى:"ولا عبرة برد بعض الحنفية روايات سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه، وتعليلهم بأنه ليس فقيهاً، فقد عملوا برأيه فى الغسل ثلاثاً من ولوغ الكلب وغيره، وولاه عمر رضي الله عنه الولايات الجسيمة. وقال ابن عباس له كما فى مسند الشافعى (3) ، وقد سئل عن مسألة "افته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة، فأفتى، ووافقه على فتياه" (4) .

_ (1) هو: محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى، أبو مالك المدنى، له رؤية وليس له سماع إلا من الصحابة قتل يوم الحرة سنة 63هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/118 رقم 6202، والكاشف 2/206 رقم 5081، وطبقات ابن سعد 5/71. (2) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب معرفة الصحابة، باب ذكر أبى هريرة 3/585 رقم 6171، وسكت عنه هو والذهبى. وانظر: سير أعلام النبلاء 2/617، وفتح البارى 1/259 رقم 118 (3) انظر: مسند الشافعى ص 450 رقم 1292، وأخرجه أيضاً الإمام مالك فى الموطأ كتاب الطلاق، باب طلاق البكر 2/447 رقم39،والبيهقى فى السنن كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء فى إمضاء الطلاق الثلاث وإن كن مجموعات 7/335. (4) فتح المغيث للسخاوى 3/96.

7- وعن أبى صالح السمان (1) قال: "كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بأفضلهم" (2) . وفى هذا رد على من يحاول الربط بين المنزلة فى الدين وكثرة الرواية، فالربط بينهما ليس من التحقيق العلمى فى شئ (3) . ... وقال الإمام الشافعى: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث فى دهره" (4) . وقال الإمام الذهبى: "أبو هريرة إليه المنتهى فى حفظ ما سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأدائه بحروفه" (5) . وقال أيضاً: "وكان من أوعية العلم، ومن كبار أئمة الفتوى مع الجلالة، والعبادة، والتواضع (6) 10- وقال شمس الأئمة السرخسى: "إن أبا هريرة ممن لا يشك أحد فى عدالته، وطول صحبته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن كل هذه النقول وغيرها كثير تبين لنا مدى افتراء الرافضة، والمستشرقين، وضعفاء الإيمان الذين اتهموا أبا هريرة بالكذب، والخيانة، فى رواية الحديث، بسبب كثرة أحاديثه مع قلة صحبته. وأعتقد أنه ليس هناك ما يدعوا إلى اتهام أبى هريرة بتلك الافتراءات، وقد تهيأت له الأسباب السابقة التى أعانته على هذا التفوق فى الرواية، وشهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، ومن بعدهم من أئمة المسلمين السابق ذكرهم (7) .

_ (1) أبو صالح السمان هو: ذكوان أبو صالح السمان الزيات، المدنى، روى عن سعد بن أبى وقاص، وأبى هريرة، وأبى الدرداء، وغيرهم، وعنه منصور، والأعمش، وسهيل ابنه، متفق على توثيقه، مات سنة 101هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/287 رقم 1846، والكاشف 1/386 رقم 1489، والثقات للعجلى 150 رقم 404. (2) البداية والنهاية 8/109، 110. (3) دفاع عن السنة للدكتور أبو شهبة ص 105. (4) الرسالة للشافعى ص 281 رقم 772، والبداية والنهاية 8/110. (5) سير أعلام النبلاء 2/619. (6) تذكرة الحفاظ 1/33. (7) أصول السرخسى 1/340.

.. وأى غرابة فى حفظ أبى هريرة أحاديث لم تبلغ خمسة آلاف وخمسمائة ومعلوم أن العرب قد اشتهروا وامتازوا بقوة حفظهم، ووجد فى الصحابة والتابعين من كان آية عجباً فى قوة الذاكرة، وسرعة الحفظ؛ فالإمام أحمد بن حنبل، والبخارى، وأبو زرعة، وأشباههم، كان كل واحد منهم يحفظ عشرات الألوف من الأحاديث بأسانيدها" (1) . ... يقول الدكتور السباعى دفاعاً عن أبى هريرة: "إن صحابياً يظل يحدث الناس سبعاً وأربعين سنة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على مسمع من كبار الصحابة، وأقرب الناس إليه من زوجته وأصحابه، ثم لا يلقى إلا تجلة وإعظاماً، يرجع إليه فى معرفة الأحاديث، ويهرع إليه التابعون من كل جانب … ويبلغ الآخذون عنه ثمانمائة من أهل العلم … وكلهم يجمعون على جلالته والثقة به … وتمر هذه القرون وكلها شهادات صدق فى أحاديثه وأخباره … ويأتى اليوم من يزعم أن المسلمين جميعاً … لم يعرفوه على حقيقته، وأنه فى الواقع كان يكذب ويفترى، إن موقفاً كهذا يقفه بعض الناس من مثل هذا الصحابى العظيم، لجدير بأن يجلب لأهله والقائلين به الاستخفاف، والازدراء بعلومهم، وعقولهم جميعاً (2) . ... إن حب هذا الصحابى الجليل لعلامة على الإيمان وبغضه لعلامة على النفاق وهذا تصديقاً لدعوة النبى صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو هريرة بأن يدعو الله له بأن يحببه هو وأمه إلى عباده المؤمنين. ويحببهم إليهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب عبيدك هذا -يعنى أبا هريرة- وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين" يقول أبو هريرة فما خلق الله مؤمناً يسمع بى ولا يرانى إلا أحبنى (3) .

_ (1) السنة ومناهج المحدثين للدكتور رجب صقر ص 66 بتصرف. (2) السنة ومكانتها فى التشريع ص 319 بتصرف يسير. (3) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبى هريرة الدوسى رضي الله عنه 8/290 رقم 2491.

.. يقول الحافظ ابن كثير:"وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس، وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته من إيراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس فى الجوامع المتعددة فى سائر الأقاليم فى الإنصات يوم الجمعة بين يدى الخطبة، والإمام على المنبر، وهذا من تقدير الله العزيز العليم، ومحبة الناس له رضي الله عنه (1) أ. هـ. ... يقول فضيلة الأستاذ الدكتور على أحمد السالوس: [هذا أبو هريرة وعاء العلم، فكيف نجد فى عصرنا من ينسب نفسه للإسلام ويعرض عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، والأئمة الأعلام الهداة المهديين، ويأخذ بقول الضالين المضلين؟! (2) . هذا المسلك يفسره العلامة المرحوم الشيخ أحمد شاكر فيقول: "وقد لهج أعداء السنة، أعداء الإسلام، فى عصرنا، وشغفوا بالطعن فى أبى هريرة، وتشكيك الناس فى صدقه وفى روايته. وما إلى ذلك أرادوا، وإنما أرادوا أن يصلوا -زعموا- إلى تشكيك الناس فى الإسلام، تبعاً لسادتهم المبشرين، وإن تظاهروا بالقصد إلى الاقتصار على الأخذ بالقرآن، أو الأخذ بما صح من الحديث فى رأيهم، وما صح من الحديث فى رأيهم إلا ما وافق أهواءهم، وما يتبعون من شعائر أوروبا وشرائعها. ولن يتورع أحدهم عن تأويل القرآن، إلى ما يخرج الكلام عن معنى اللفظ فى اللغة التى نزل بها القرآن، ليوافق تأويلهم هواهم وما إليه يقصدون!! ... وما كانوا بأول من حارب الإسلام من هذا الباب، ولهم فى ذلك سلف من أهل الأهواء قديماً. والإسلام يسير فى طريقه قدماً، وهم يصيحون ما شاءوا، لا يكاد الإسلام يسمعهم، بل هو إما يتخطاهم لا يشعر بهم، وإما يدمرهم تدميراً.

_ (1) البداية والنهاية 8/108. (2) قصة الهجوم على السنة للدكتور على السالوس ص 88.

ومن عجب أن تجد ما يقول هؤلاء المعاصرون، يكاد يرجع فى أصوله ومعناه إلى ما قال أولئك الأقدمون! بفرق واحد فقط: أن أولئك الأقدمين، زائغين كانوا أم ملحدين، كانوا علماء مطلعين أكثرهم ممن أضله الله على علم!! أما هؤلاء المعاصرون، فليس إلا الجهل والجرأة، وامتضاغ ألفاظ لا يحسنوها، يقلدون فى الكفر، ثم يتعالون على كل من حاول وضعهم على الطريق القويم!! " (1) . وبعد فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة هم خير جيل عرفته البشرية، وهم أبرز وجوه حضارتنا، وأكثرها إشراقاً، وأخلدها ذكراً، وأنبلها أخلاقاً، وهم بشر، ولكنهم فى القمة ديناً وخلقاً رغم أنف الحاقدين. رضى الله عن صحابة رسول الله، وعلى الحافظ علينا شرائع الدين أبى هريرة رضي الله عنه وجعلنا الله عز وجل من محبيه، وجمعنا معه فى واسع جنته (2) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) انظر: مسند الإمام أحمد بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر 12/84-85 هامش. (2) انظر ترجمته فى: الإصابة 7/425 - 445 رقم 10674، وتذكرة الحفاظ 1/32 رقم 16، واسد الغابة 6/313 رقم 6326، والاستيعاب 4/1768 رقم 3208، وتجريد أسماء الصحابة 2/209، وتاريخ الصحابة ص 181 رقم 940، ومشاهير علماء الأمصار ص 21 رقم 46، وغير ذلك من المراجع السابقة.

المبحث الثانى طعنهم فى عدالة أهل السنة

المبحث الثانى طعنهم فى عدالة أهل السنة وفيه تمهيد وأربعة مطالب: التمهيد ويتضمن: موقف أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً من أهل السنة، وأئمة المسلمين، وأساليبهم فى الطعن فى أهل السنة. المطلب الأول: بيان المراد بأهل السنة. المطلب الثانى: سلامة طريقة أهل السنة فى فهم الشريعة الإسلامية وبيان تحقيق النجاة لهم. المطلب الثالث: شرف أصحاب الحديث. المطلب الرابع: الجواب عن دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن. التمهيد ويتضمن موقف أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً من أهل السنة، وأئمة المسلمين وأساليبهم فى الطعن فى أهل السنة. ... ليس فى الدنيا مبتدع، ولا من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع، إلا وهو يطعن فى أهل السنة من المحدثين، والفقهاء، والمفسرين…إلخ وينظر إليهم بعين الحقارة ويسمونهم بأسماء هم أولى بها منهم، فالجهمية يسمونهم مشبهة ونابته، والقدرية يسمونهم مجبرة، والزنادقة يسمونهم الحشوية، والمعتزلة يسمونهم زوامل أسفار، والرافضة يسمونهم نواصب … إلخ. وكل ذلك عصبية، وغياظ لأهل السنة، ولا اسم لهم إلا اسم واحد وهو "أصحاب السنة". ولا يلتصق بهم ما لقبهم به أهل البدع كما لم يلتصق بالنبى صلى الله عليه وسلم تسمية كفار مكة ساحراً، وشاعراً، ومجنوناً، ولم يكن اسمه عند الله، وعند ملائكته، وعند انسه، وجنه، وسائر خلقه، إلا رسولاً نبياً برياً من العاهات كلها قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} (1) . فالوقيعة فى أهل السنة من علامات أهل البدع والزيغ قديماً وحديثاً.

_ (1) الآية 48 من سورة الإسراء، وانظر: قواعد التحديث للقاسمى ص 58.

فالشيعة الرافضة، والخوارج كفرو أهل السنة لأنهم ضبطوا آثار الصحابة، وقاسوا فروعهم على فتاوى الصحابة" (1) . فمن وثق الصحابة الذين كفروهم وأخذ بسنتهم فهو مثلهم فى الكفر. ... والمعتزلة ردوا فتاوى أهل السنة وقبحوها فى أسماع العامة، لينفروا الأمة من اتباع السنة وأهلها (2) . ويروى فى ذلك ابن قتيبة عن عمرو بن النضر. قال: مررت بعمرو بن عبيد فجلست إليه، فذكر شيئاً، فقلت: ما هكذا يقول أصحابنا. قال: ومن أصحابك لا أبا لك؟ ... قلت: أيوب، وابن عون، ويونس، والتيمى. فقال: أولئك أرجاس أنجاس أموات غير أحياء (3) . يقول ابن قتيبة معلقاً على ما قاله عمرو بن عبيد: "وهؤلاء الأربعة الذين طعنهم، غرة أهل زمانهم فى العلم، والفقه، والاجتهاد فى العبادة، وطيب المطعم، وقد درجوا على ما كان عليه مَنْ قبلهم من الصحابة والتابعين. وهذا يدل على أن أولئك أيضاً عنده أرجاس أنجاس (4) . وذكر الشاطبى عن عمرو بن عبيد أنه قال: "ما كلام الحسن البصرى، وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة" (5) .

_ (1) الفرق بين الفرق ص 282، وانظر: أهل السنة شعب الله المختار لصالح الوردانى ص 54، 55، والشيعة هم أهل السنة للدكتور محمد التيجانى ص159-163. (2) الاعتصام 1/186. (3) تأويل مختلف الحديث ص 82، ورواه ابن حبان فى المجروحين 1/83، وذكره الشاطبى فى الاعتصام 1/187. (4) تأويل مختلف الحديث ص 82 بتصرف يسير، وانظر: ما حكاه ابن حبان عن أبى حاتم فى المجروحين 1/84. (5) الاعتصام 1/187.

وحكى الذهبى وابن كثير عن عمرو بن عبيد أنه روى له حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "إن أحدكم يُجمع خلقُهُ فى بطنِ أُمه أربعين يوماً. ثم يكون فى ذلك علقةً مثلَ ذلكَ ثم يكون فى ذلك مُضغةً مثلَ ذلك. ثم يُرسلُ المَلَكُ فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربعِ كلماتٍ: بكتب رزقِهِ، وأجلِهِ، وعملِهِ، وشقىٌّ أو سعيدٌ … الحديث" (1) . فقال: "لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت ليس على هذا أخذت ميثاقنا" (2) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب القدر، باب 11/486 رقم 6594، ومسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمى، فى بطن أمه، وكتابه رزقه وعمله وشقاوته وسعادته 8/440 رقم 2643. (2) ميزان الاعتدال 3/278، وانظر: البداية والنهاية 10/81، 82، يقول ابن كثير بعد حكايته ذلك عنه قال: "وهذا من أقبح الكفر، لعنه الله إن كان قال هذا، وإن كان مكذوباً عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه" أ. هـ. البداية والنهاية 10/82. هذا وقد كذب بهذا الحديث وزعم أنه من وضع جنود السلطان من الفقهاء والمحدثين - نيازى عز الدين فى كتابه دين السلطان ص 650، 651. مؤيداً فى ذلك فكر عمرو بن عبيد المعتزلى، فى أنه لا قدر والأمر أنف أ. هـ.

ويروى الحاكم عن الإمام أحمد بن حنبل –رحمه الله- أن أحمد بن الحسن (1) قال له يا أبا عبد الله ذكروا لابن أبى فتيلة بمكة أصحاب الحديث فقال: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أبو عبد الله وهو ينفض ثوبه، فقال: زنديق! زنديق! زنديق! ودخل البيت (2) . وقال أحمد بن سنان القطان (3) : "ليس فى الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه" (4) . ... يقول أبو عبد الله الحاكم: "وعلى هذا عهدنا فى أسفارنا، وأوطاننا، كل من ينسب إلى نوع من الإلحاد والبدع، لا ينظر إلى الطائفة المنصورة، إلا بعين الحقارة، ويسميها الحشوية" (5) قلت: وما قاله الإمام الحاكم وغيره، هو ما عهدناه فى زماننا ممن ينتسب إلى نوع من الإلحاد والبدع.صاروا علىدرب أسلافهم يبغضون أهل الحديث، وينظرون إليهم بعين الحقارة، ويسمونهم كما سماهم أهل الزيغ قديماً، حشوية، وزوامل أسفار…إلخ، ويطعنون فى عدالتهم.

_ (1) أحمد بن الحسن: هو أحمد بن الحسن بن جُنَيدب، أبو الحسن الترمذى، ثقة حافظ، سمع أحمد بن حنبل، وعنه البخارى، والترمذى، وخلق، مات سنة 242هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/32 رقم 25، والكاشف 1/192 رقم 20، والجمع بين رجال الصحيحين 1/9 رقم 13، والثقات لابن حبان 8/27، والجرح والتعديل 2/47 رقم 33. (2) معرفة علوم الحديث ص 4. (3) أحمد بن سنان هو: أحمد بن سنان بن أسد بن حبان، أبو جعفر، القطان الواسطى، متفق على توثيقه مات سنة 259هـ وقيل قبلها. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/35 رقم 44، وتذكرة الحفاظ 1/521 رقم 538، وطبقات الحفاظ ص231 رقم 516، وشذرات الذهب 2/137، والعبر 2/16، والجمع بين رجال الصحيحين 1/7 رقم 5. (4) معرفة علوم الحديث ص 4. (5) المصدر السابق ص 4.

فما قاله قديماً ابن أبى فتيلة فى أصحاب الحديث بأنهم قوم سوء، قاله فى زماننا نيازى عز الدين فى كتابيه "دين السلطان" (1) ، و"إنذار من السماء" إذ يقول: "فإما أن نختار طريق آبائنا، وأجدادنا، ومشايخنا السالف، الذى قد عرفنا قبل قليل بالبرهان القاطع أننا ضللنا به، حين تركنا منهج القرآن، وتركناه حتى نسج عليه العنكبوت خيوطه" (2) . ... ويقول: "أهل الحديث ورواته، كانت مهنتهم رواية الأحاديث وكتابتها، فهم يرتزقون مما يرددون ويكتبون. وقالوا: إن ما كتبوه بأيديهم (وحى آخر) من عند الله مثل القرآن، وقالوا: إن كتاب الله هو القرآن، وما معهم من الروايات والأقاويل كتاب الحكمة، ظناً وظلماً، فهم قالوا عن أكاذبيهم إنها من عند الله، تماماً كما فعل أهل الكتاب من قبلهم فى تحريفاتهم. وهم أيضاً يظنون أن الله سبحانه وتعالى لا يقصدهم فى هذه الآية {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (3) بينما هى تنطبق عليهم الانطباق التام (4) . ... ويقول أيضاً طاعناً فى عدالة وجهاد من أيد الله به الدين يوم المحنة، قال: "لذلك نجد الإمام أحمد بن حنبل الذى كان صديقاً حميماً لرؤساء المحفل السرى الخفى، لم يرض أن يقول بخلق القرآن فجلده المأمون، لأنه وجد جلده أرحم من قتله على يد أصدقائه إن قال بعكس تعليماتهم كلها" (5) .

_ (1) دين السلطان ص 11، وانظر من نفس المصدر ص 114، 117، 119، 153، 154. (2) إنذار من السماء ص 134، وانظر من نفس المصدر: ص 124، 129، 130، 665. (3) الآية 11 من سورة الطور. (4) إنذار من السماء ص 705. (5) دين السلطان ص 153.

ونفس هذا الهراء نسبه إلى أبى حنيفة النعمان قائلاً: "أبو حنيفة النعمان كان صديقاً لأحبار اليهود الذين ادعوا أنهم أحبار الإسلام بإعلانهم إسلامهم، أمثال: يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف القاضى، الذى كان من أكبر أصحاب أبى حنيفة" (1) . ... وانظر إلى ما يقوله إسماعيل منصور متفوقاً على سلفه ابن أبى فتيلة فى طعنه فى رموز الإسلام القائلين بحجية السنة. يقول: "ونحن نشفق على قائليه وهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد، وكذلك البخارى ومسلم - رحمهم الله جميعاً - لأنهم "عفا الله عنهم" يستحقون الشفقة والدعاء لهم بالعفو، فإن الله تعالى لو أخذهم بما قالوا (يعنى حجية السنة) لكان أخذه تعالى لهم أليماً شديد لمخالفتهم لكلامه تعالى (مخالفة صريحة) … فإنهم قد استدرجوا إلى مكيدة إبليس اللعين (بحسن نية منهم) فأخذوا بمنهج التبديل ذى الروايات والحكايات، وتركوا كتاب الله تعالى وهم لا يشعرون، حتى أصلوا ظاهرة التحول عن كلام الله، إلى كلام غيره من البشر، وعلموا الناس أن يتركوا ظاهر القرآن الكريم، إلى قول زيد، وعبيد، من الرواة، وهى خطة إبليس اللعين "عليه اللعنة إلى يوم الدين" وهذا واضح تمام الوضوح (2) .

_ (1) دين السلطان ص 154، ونفس هذه الطعون قال بها أحمد صبحى منصور، وطعن بها المحدثين، والفقهاء، وخص بطعونه من المحدثين الإمام البخارى - رحمه الله - انظر: كتبه التالية: حد الردة، والحسبة، ولا ناسخ ولا منسوخ، ولماذا القرآن، والصلاة فى القرآن، وعذاب القبر والثعبان الأقرع، وقراءة فى صحيح البخارى. (2) بلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمين ص 475، 476.

.. ويقول أيضاً واصفاً أهل السنة بالخرافة و … و …، وأن فى اتباعهم خسران الدنيا والآخرة قال: "يا أفراد عش الوطاويط (الخفافيش) أخرجوا إلى النور (نور القرآن الكريم) ولا تظلوا حبيسى الظلام "ظلام الأقوال البشرية، والروايات القصصية" … يا أتباع مملكة الوهم، وضحايا التأليف فى الدين، وصرعى الروايات والقصص والظنون والأوهام، أفيقوا من سباتكم الغطيط وانهضوا من رقادكم الطويل، وطهروا أنفسكم وعقيدتكم بألا تساووا كلام البشر بكلام الله رب العالمين (1) . ماذا تقولون لنا يا أهل الخرافة من الروايات والحكايات والقصص والخزعبلات؟؟ ماذا تقولون؟؟ إن من يتبعكم سيخسر الدنيا والآخرة لا محالة؟؟ سيخسر الدنيا؛ لأنه يعيش فى غير نصرة الله تعالى: "كما يعيش أكثر المسلمين الآن"، ويخسر الآخرة لأنه سيموت على هذا الضلال المبين "يعنى الإيمان بحجية السنة" فلا يكون له فى الآخرة من خلاق (2) أ. هـ. ... إن هذا الهراء ما كنت لاستحل حكايته إلا لبيان أن من أساليب الطعن فى حجية السنة من الزنادقة قديماً وحديثاً بغض أهل السنة، والطعن فى عدالتهم، وفى علومهم، لتنفير الأمة من إتباع السنة وأهلها. ولنتأمل كيف فاق زنادقة يومنا، زنادقة الأمس بالطعن فى أهل السنة. إن طعون الحاقدين من المستشرقين، وأهل الزيغ فى أهل السنة كثيرة، وقد سبق ذكر بعضها والجواب عنها كزعمهم أن المحدثين، والفقهاء، كانوا وضاعين ذهبوا إلى تأييد كل ذرأى يرونه صالحاً ومرغوباً فيه بحديث يرفعونه إلى النبى صلى الله عليه وسلم (3) .

_ (1) المصدر السابق ص18. (2) المصدر نفسه ص477، وانظر: له تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 135 - 140. (3) راجع إن شئت ص 417-431.

المطلب الأول: بيان المراد بأهل السنة

.. وكزعمهم أن المحدثين والفقهاء فى العصر الأموى، والعباسى، كانوا فقهاء سلطة (1) ونكتفى هنا بالرد على دعواهم تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن، وذلك بعد بيان عدالة أهل السنة، وأنهم الجماعة، والجمهور، والسواد الأعظم، لهذه الأمة الإسلامية لسيرهم على طريقة النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأخيار -رضوان الله عليهم أجمعين- ولا عبرة بمن خالفهم من أهل الزيغ والهوى قديماً وحديثاً. لخروجهم على طريقة النبى صلى الله عليه وسلم وتكفيرهم أصحابه، والطعن فى عدالة من قال بعدالتهم (2) وبيان ذلك فى الأربعة مطالب الآتية: المطلب الأول: بيان المراد بأهل السنة ... عندما نتحدث عن عدالة أهل السنة فإننا لا نعنى بهم أهل الحديث فقط، وإنما مرادنا بهم الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الإمام عبد القادر البغدادى فى كتابه الفرق بين الفرق من: (1) علماء التوحيد (2) علماء الفقه (3) علماء الحديث (4) علماء النحو ... (5) علماء القراءات والتفسير (6) الزهاد الصوفية. ... الذين لم يخلط كل صنف منهم علمه بشئ من بدع أهل الأهواء الضالة، ومن مال منهم إلى شئ من الأهواء الضالة لم يكن من أهل السنة، ولا كان لقوله حجية فى عمله. 7- والصنف السابع: المجاهدون فى سبيل الله، يحمون حمى المسلمين، ويذبون عن حريمهم وديارهم، ويظهرون فى ثغورهم مذاهب أهل السنة والجماعة.

_ (1) راجع إن شئت ص 425-441. (2) انظر: فيمن طعن فى أهل السنة.أضواء على السنة62،وشيخ المضيرة ص33، وإعادة تقييم الحديث ص 116، والبيان بالقرآن 2/514، 805، وحد الردة ص 67، 74، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 13،14،16،95،262، 269 وأهل السنة شعب الله المختار 31 وما بعدها، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص32،والخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة ص29،111 وما بعدها. وغير ذلك من المراجع السابق ذكرها فيمن طعن فى حجية السنة أو عدالة الصحابة.

المطلب الثانى: سلامة طريقة أهل السنة فى فهم الشريعة الإسلامية

8- والصنف الثامن منهم: عامة البلدان الذين اعتقدوا تصويب علماء السنة، ورجعوا إليهم فى معالم دينهم، وقلدوهم فى فروع الحلال والحرام، ولم يعتقدوا شيئاً من بدع أهل الأهواء الضالة. ... قال الإمام عبد القادر البغدادى: فهؤلاء أصناف أهل السنة والجماعة، ومجموعهم أصحاب الدين القويم، والصراط المستقيم" (1) أ. هـ. ... ويقول الدكتور ناصر الشيخ معرفاً بهم فى نص جامع قال: أهل السنة هم المتمسكون بما جاء فى الكتاب والسنة، والتزموا بما فيهما قولاً وعملاً، وكان معتقدهم موافقاً لما جاء فيهما، وموافقاً لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة الكرام - رضي الله عنهم -، والتابعين لهم بإحسان، وأتباعهم من أئمة الدين ممن شهد لهم بالإمامة، وعرف عظم شأنهم فى الدين، وتلقى الناس كلامهم خلف عن سلف. ... دون من رمى ببدعة، أو شهر بلقب غير مرضى، كالخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، والمعتزلة، والكرامية، ونحو هؤلاء (2) أ. هـ. المطلب الثانى: سلامة طريقة أهل السنة فى فهم الشريعة الإسلامية وبيان تحقيق النجاة لهم ... عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة".

_ (1) الفرق بين الفرق ص 276 - 279 بتصرف واختصار. (2) عقيدة أهل السنة والجماعة فى الصحابة 1/29.

هذا الحديث أخرجه جماعة من الأئمة منهم أبو داود (1) ، والترمذى وصححه (2) ، وابن ماجة (3) ، والحاكم وصححه (4) ، وله شواهد عن جماعة من الصحابة كأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبى بن كعب، وأبى الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبى سفيان وغيرهم (5) . ... وجاء فى هذه الشواهد تفسير للفرقة الناجية بأسانيد تقام بها الحجة فى تصحيح هذا الحديث (6) . كما قال الحاكم فى المستدرك ووافقه الذهبى (7) .

_ (1) سنن أبى داود كتاب السنة، باب شرح السنة 4/197، 198 رقم 4596. (2) سنن الترمذى كتاب الإيمان، باب ما جاء فى افتراق الأمة 5/25 رقم 2640 وقال: هذا حديث حسن صحيح. (3) سنن ابن ماجة كتاب الفتن، باب افتراق الأمم 2/492 رقم 3991. (4) المستدرك كتاب العلم، باب تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملة كلها فى النار إلا واحدة 1/217 رقم 441 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى. (5) قال بتواتر الحديث الكتانى، وعبد الله الغمارى، وعبد العزيز الغمارى، انظر: نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص 45 رقم 18، وإتحاف ذوى الفضائل المشتهرة بما وقع من الزيادة فى نظم المتناثر على الأزهار المتناثرة ضمن مجموعة الحديث الصديقية ص 185. (6) خلافاً لمن ذهب إلى عدم صحة الحديث. انظر: الخلافة ونشأة الأحزاب الإسلامية للدكتور محمد عمارة ص 129 وما بعدها. (7) المستدرك 1/218.

من هذه الشواهد حديث معاوية وأنس - رضى الله عنهما - مرفوعاً: "إن أهل الكتاب تفرقوا فى دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها فى النار إلا واحدة، وهى الجماعة (1) . ... وفى حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: "إنى بنى إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين كلهم فى النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هى يا رسول الله قال: "ما أنا عليه وأصحابى" (2) . ... يقول الإمام الشاطبى: "إن الجماعة - فى الحديث الشريف - هى الصحابة على الخصوص فإنهم الذين أقاموا عماد الدين، وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك، … ولفظ الجماعة وتفسيره هنا مطابق للرواية الأخرى فى قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنا عليه وأصحابى" (3) .

_ (1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب شرح السنة 4/198 رقم 4597، والحاكم فى المستدرك كتاب العلم، باب تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملة كلها فى النار إلا واحدة 1/218 رقم 443، كلاهما من حديث معاوية رضي الله عنه، وأخرجه ابن ماجة فى سننه كتاب الفتن،= =باب افتراق الأمم 2/492 رقم 3991 من حديث أنس رضي الله عنه، وقال البوصيرى فى مصباح الزجاجة 3/239 "هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات". (2) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب الإيمان، باب ما جاء فى افتراق الأمة 5/26 رقم 2641، وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، وأخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب العلم، باب تفترق هذه الأمة … 1/218 رقم 444. (3) الاعتصام 2/518، 519 بتصرف.

.. يقول الإمام عبد القادر البغدادى مبيناً صحة طريقة أهل السنة فى فهم الشريعة الإسلامية وتحقيق النجاة لهم بنص الحديث السابق. قال: "إن النبى صلى الله عليه وسلم لما ذكر افتراق أمته بعده ثلاثاً وسبعين فرقة، وأخبر أن فرقة واحدة منها ناجية، سئل عن الفرقة الناجية، وعن صفتها، فأشار إلى الذين هم، على ما عليه هو وأصحابه. ولسنا نجد اليوم من فرق الأمة من هم على موافقة الصحابة رضي الله عنهم غير أهل السنة والجماعة، من مجتهدى الأمة وعلمائها أهل الشريعة العاملين بها، دون الرافضة، والمعتزلة، والخوارج، والجهمية، وجميع أهل البدع والأهواء، فهم غير داخلين فى لفظ الجماعة قطعاً، لخروجهم على طريقة النبى صلى الله عليه وسلم وطريقة أصحابه رضي الله عنهم. ... ثم كيف يكون الرافضة، والخوارج، والقدرية، وسائر أهل البدع موافقين للصحابة؟ وهم بأجمعهم لا يقبلون شيئاً مما روى عن الصحابة فى أحكام الشريعة، لامتناعهم من قبول روايات الحديث، والسير، والمغازى، من أجل تكفيرهم للصحابة، ولأصحاب الحديث الذين هم نقلة الأخبار والآثار، ورواة التواريخ والسير، ومن أجل تكفيرهم فقهاء الأمة الذين ضبطوا آثار الصحابة، وقاسوا فروعهم على فتاوى الصحابة. ولم يكن بحمد الله ومَنِّهِ فى الخوارج، ولا فى الروافض، ولا فى القدرية، ولا فى سائر أهل الأهواء الضالة إمام فى الفقه، ولا إمام فى رواية الحديث، ولا إمام فى اللغة والنحو، ولا موثوق به فى نقل المغازى والسير والتواريخ، ولا إمام فى الوعظ والتذكير، ولا إمام فى التأويل والتفسير، وإنما كان أئمة هذه العلوم، على الخصوص والعموم، من أهل السنة والجماعة (1) .

_ (1) راجع: بيان فضائل أهل السنة، وأنواع علومهم وأئمتهم، وبيان آثارهم فى الدين والدنيا، فى: الفرق بين الفرق ص 321 - 325، وانظر: الاعتصام للشاطبى 2/509 وما بعدها.

وأهل الأهواء الضالة إذا ردوا الروايات الواردة عن الصحابة فى أحكامهم وسيرهم لم يصح اقتداؤهم بهم. وبان من هذا أن المقتدين بالصحابة من يعمل بما قد صح بالرواية الصحيحة فى أحكامهم وسيرهم، وذلك سنة أهل السنة دون ذوى البدعة، وصحح بصحة ما ذكرناه، صحة وسلامة طريقتهم فى فهم الشريعة الإسلامية، وتحقيق نجاتهم لحكم النبى صلى الله عليه وسلم بنجاة المقتدين بأصحابه (1) . والحمد لله على ذلك (2) أ. هـ. ... يقول الإمام الشاطبى – رحمه الله -: "فعلى هذا القول فمن خرج عن جماعة أهل السنة، فهم الذين شذوا، وهم نهبة الشيطان، ويدخل فى هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لما عليه النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فمن خرج عن جماعة أئمة العلماء المجتهدين من أهل السنة مات ميتة جاهلية، لأن جماعة الله العلماء، جعلهم الله حجة على العالمين، وهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لن يجمع أمتى على ضلالة" (3) . فهم جماعة أهل الإسلام والسواد الأعظم، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم. ومن شذ شذ إلى النار" (4) فإن قيل: "فإن أهل المقالات المختلفة، يرى كل فريق منهم أن الحق فيما اعتقده، وأن مخالفه على ضلال وهوى، وكذلك أصحاب الحديث، فيما انتحلوا، فمن أين علموا علماً يقيناً، أنهم على حق؟

_ (1) راجع: الفرق بين الفرق فصل عصمة الله أهل السنة من تكفير بعضهم بعضاً أو تكفير سلفهم والطعن فيهم ص 320 – 321. (2) الفرق بين الفرق ص 279 - 283 بتصرف، وانظر: الاعتصام للشاطبى 2/515 - 523. (3) سبق تخريجه ص 481. (4) الاعتصام 2/517 - 519 بتصرف.

المطلب الثالث شرف أصحاب الحديث

.. قيل لهم: إن أهل المقالات، وإن اختلفوا، ورأى كل صنف منهم أن الحق فيما دعا إليه، فإنهم مجمعون لا يختلفون.على أن من اعتصم بكتاب الله عز وجل، وتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد استضاء بالنور، واستفتح باب الرشد، وطلب الحق من مظانه. وليس يدفع أهل السنة عن ذلك إلا ظالم لأنهم لا يردون شيئاً من أمر الدين، إلى استحسان، ولا إلى قياس ونظر، ولا إلى كتب الفلاسفة المتقدمين، ولا إلى أصحاب الكلام المتأخرين (1) أ. هـ. ... فإن قالوا: فإنه يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الأخبار الشرعية التى قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم معصومون فى نقلها، وأن كل واحد منهم معصوم فى نقله من تعمد الكذب. قلنا لهم نعم. هكذا نقول، وبهذا نقطع ونبت. وكل عدل روى خبراً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله فى الدين أو فعله صلى الله عليه وسلم، فذلك الراوى العدل معصوم من تعمد الكذب - مقطوع بذلك عند الله تعالى - لما تقدم من تعهد رب العزة بحفظ جميع الشريعة من كتاب وسنة" (2) . وفى هذا رد على الدجالين الزاعمين، بأنهم فى ردهم للسنة المطهرة، والأحاديث الصحيحة لا يردون قول النبى صلى الله عليه وسلم وإنما يردون قول رواة السنة من الصحابة، والتابعين فمن بعدهم إلى أصحاب المصنفات الحديثية!!! المطلب الثالث شرف أصحاب الحديث إذا كان الحديث بعد القرآن هو عمدة كل صنف من الأصناف السابقة من أهل السنة، وإذا كانت دواوين أصحاب الحديث، بعد القرآن دعائم الإسلام التى قامت عليها صروحه.

_ (1) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 83 بتصرف يسير.وانظر: ما قاله ابن قيم فى مختصر الصواعق المرسلة إجابة على هذا السؤال، وبيان الفرق بين أهل السنة وأهل الأهواء2/571-576. (2) الإحكام لابن حزم 1/126.

فإن ذلك يدلنا على عظم مكانة المحدثين بين علماء أهل السنة جميعاً فهم بحق يصدق فيهم قول سفيان الثورى- رحمه الله -: "الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض" (1) . ويقول يزيد بن زُريع (2) : "لكل دين فرسان، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد" (3) . ويقول أبو حاتم الرازى - رحمه الله -: "لم يكن فى أمة من الأمم منذ خلق الله آدم، أمناء يحفظون آثار الرسل إلا فى هذه الأمة. فقال له رجل: يا أبا حاتم ربما رووا حديثاً لا أصل له، ولا يصح؟ فقال: علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم ذلك للمعرفة، ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار وحفظوها" (4) . ... وإذا تقرر أنه لا قيام للإسلام بدون سنة صدق فيهم ما قاله الإمام أبو داود الطيالسى (5) : "لولا هذه العصابة لا ندرس الإسلام"يعنى أصحاب الحديث الذين يكتبون الآثار" (6) .

_ (1) أخرجه الخطيب فى شرف أصحاب الحديث ص 91 رقم 80. (2) يزيد بن زُريع هو: يزيد بن زريع، بتقديم الزاى، مصغراً، البصرى، أبو معاوية، متفق على توثيقه. مات سنة 182هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/324 رقم 7741، والكاشف 2/382 رقم 6301، والثقات للعجلى 478 رقم 1841، والجمع بين رجال الصحيحين 2/573، 574 رقم 2237، ورجال صحيح البخارى للكلاباذى 2/807 رقم 1355. (3) أخرجه الخطيب فى شرف أصحاب الحديث ص 91 رقم 81. (4) المصدر السابق ص 89 رقم 77. (5) أبو داود الطيالسى هو: سليمان بن داود بن الجارود البصرى، أحد الأئمة الأعلام، وحفاظ الإسلام مات سنة 203هـ. له ترجمة فى تذكرة الحفاظ 1/351 رقم 340، وتقريب التهذيب 1/384 رقم 2558، وطبقات الحفاظ السيوطى ص153رقم327،والثقات للعجلى201،202 رقم 609، وشذرات الذهب 2/12، والتقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد لابن نقطة ص277 رقم 343، وتهذيب الكمال للمزى 11/401 رقم 2507. (6) أخرجه الخطيب فى شرف أصحاب الحديث ص 101 رقم 101.

ويقول الإمام الخطيب البغدادى: "وقد جعل الله تعالى أهله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبى صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون فى حفظ ملته، … قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظاً ونقلاً حتى ثبتوا بذلك أصلها، وكانوا أحق بها وأهلها، وكم ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها، فهم الحفاظ لأركانها. وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأياً تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، إذا اختلف فى حديث، كان إليهم الرجوع، فما حكموا به، فهو المقبول المسموع. ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد فى قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذهبهم لا يتجاسر، من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذلهم الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير" (1) . ورحم الله هارون الرشيد القائل: "طلبت أربعة فوجدتها فى أربعة: طلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث وطلبت الكفر فوجدته فى الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته مع المعتزلة" (2) أ. هـ. ... رضى الله عن تلك الأنفس التى نهضت لحفظ الدين، ورضى الله عمن أحيا آثارهم من اللاحقين "آمين".

_ (1) شرف أصحاب الحديث ص 28 - 31 بتصرف وتقديم وتأخير، وانظر: ما قاله الحاكم فى معرفة علوم الحديث ص2-4، وجمال الدين القاسمى فى قواعد التحديث ص60، والسنة بين دعاة الفتنة وأدعياء العلم لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد الموجود ص 11. (2) شرف أصحاب الحديث ص 108 رقم 104.

المطلب الرابع: الجواب عن دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن

المطلب الرابع: الجواب عن دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن ... إن دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن واعتمادهم على السند، أطلقها بعض المستشرقين (1) الحاقدين للنيل من ديننا، ومن هذا العلم الشريف الذى خص الله به هذه الأمة على سائر الأمم، وهى دعوى باطلة تبناها من سار على هديهم من دعاة اللادينية (2) ، وتأثر بها بعض المسلمين (3) .

_ (1) انظر: العقيدة والشريعة ص 50، ودراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد10 ص508، وانظر: دائرة المعارف الإسلامية 7/335-337. (2) أضواء على السنة ص 288 وما بعدها، وإعادة تقييم الحديث ص 118 وما بعدها، والسلطة فى الإٍسلام ص 259، وحقيقة الحجاب وحجية الحديث ص 91، ودليل المسلم الحزين ص 59، وتبصير الأمة بحقيقة السنة ص 173، 180، 352، 384، 655، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 117، والإسلام والعقلانية لجمال البنا ص 37 وما بعدها، وأهل السنة شعب الله المختار ص 24، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص 13، 33، والخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة ص 81 وما بعدها وغير ذلك. (3) انظر: فجر الإسلام 217، 218، وضحى الإسلام 2/130، 132 وظهر الإسلام 2/48، وانظر: حياة محمد للدكتور محمد هيكل ص 55، ومصادر التاريخ الإسلامى ومناهج البحث فيه للدكتورة سيدة إسماعيل كاشف ص 21 وغيرهم.

.. يقول الأستاذ الصديق بشير: "وسبب فساد هذا الزعم لو أحسنا الظن بقائليه من المستشرقين؛ أن المنهج النقدى للأخبار عند الغربيين منصب على المتن وحده، ولم ينل السند عندهم كبير نصيب لأنهم لا يعولون عليه، وإن تكلموا عن السند فلا يتعدى بعض المفاهيم النظرية التى ليس لها رصيد فى واقعهم النقدى وذلك مخالف للمنهج النقدى عند المسلمين فقد طبق عملياً بشكل واسع ومنقطع النظير، وهى قفزة عريضة لم يصلها الأوربيون حتى اليوم، وأنى لهم ذلك وأخبارهم القديمة منقطعة الأسانيد قد يئسوا أن يصلوها (1) . ورحم الله ابن حزم إذ يقول: "نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبى صلى الله عليه وسلم مع الاتصال، خص الله به المسلمين دون سائر الملل، وأما مع الإرسال والإعضال، والطرق المشتملة على كذاب أو مجهول الحال، فكثير فى نقل اليهود والنصارى (2) ، وغيرهم من أهل الملل الأخرى وأهل البدع والأهواء. ... ويبدو تهافت دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن بما اشترطه أصحاب الحديث لصحة الخبر، وبما وضعوه من علامات يعرف بها وضع الخبر. وكيف يهملون ضبط المتن وما قام علم الحديث دراية إلا لخدمة علم الحديث رواية!! وبتعبير آخر ما كانت علوم الحديث بأسرها إلا لضمان ضبط المتن، والتأكد من صحة نسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم. ... ولا نبالغ إذا قلنا أن الشروط الخمسة التى وضعها علماء الحديث لصحة الخبر كلها شروط لضبط المتن، وما يبدو من ظاهر الشروط لضبط السند هو فى حقيقة الأمر يتعلق بالمتن ظاهراً وباطناً. فالشروط الثلاثة الأولى لصحة الخبر وهى اتصال السند، وعدالة الراوى، وضبط الراوى هى فى الظاهر شروط خاصة بضبط السند. وفى الحقيقة أن فقدان أى شرط منهم يخل بضبط المتن.

_ (1) ضوابط الرواية عند المحدثين ص 39، 40. (2) الفصل فى الملل والنحل 2/81 – 84 بتصرف، وانظر: تدريب الراوى 2/159.

لأن عدم اتصال السند ينتج عنه أنواع من الحديث الضعيف: المنقطع، والمعضل، والمعلق، والمدلس، والمرسل، وكلها تخل بصحة المتن. وفقدان عدالة الراوى ينتج عنها من الحديث الضعيف المخل بضبط المتن. الموضوع، والمتروك، والمنكر. وفقدان ضبط الراوى ينتج عنه من أنواع الضعيف المخل بضبط المتن: المدرج، والمقلوب، والمضطرب، والمصحف، والمحرف، وغير ذلك. فماذا بقى من شروط صحة الخبر سوى شرطى عدم الشذوذ، وعدم العلة، وفقدهما ينتج عنهما الحديث الشاذ، والمعلل، وهما يخلان بضبط المتن. فأين من كل هذا ما يفترى كذباً على المحدثين من عدم اهتمامهم بنقد المتن عشر معشار السند؟!! ... إن علماءنا لم يفرقوا هذا التفريق الظاهر بين نقدهم لسند الحديث، ونقدهم للمتن وليس أدل على ذلك ما قرروه من أنه لا تلازم بين صحة السند وصحة المتن. فصحة السند لا يلزم منها صحة المتن، إذ قد يكون شاذاً أو معللاً أو موضوعاً معناه باطلاً، كما أنه لا يلزم من ضعف السند، ضعف المتن إذ يجئ بسند آخر صحيح. ومن هنا قيدوا فى حكمهم على الحديث بالصحة أو بالحسن أو بالضعف بالإسناد دون متن الحديث فيقولون: إسناد صحيح دون حديث صحيح، وإسناد حسن، أو إسناد ضعيف، دون حديث حسن، أو حديث ضعيف. ... "والحاصل أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن، إذ قد يصح السند أو يحسن لاستجماع شرائطهما، ولا يصح المتن لشذوذ أو علة وقد لا يصح السند، ويصح المتن، من طرق أخرى" (1) .

_ (1) توضيح الأفكار للصنعانى 1/234.

يقول الدكتور صبحى الصالح مؤكداً عدم تفرقة المحدثين بين السند والمتن فى حكمهم على الحديث: "على أننا لن نرتكب الحماقة التى لا يزال المستشرقون، وتلامذتهم المخدوعون بعلمهم "الغزير" يرتكبونها كلما عرضوا للحديث النبوى، إذ يفصلون بين السند والمتن مثلما يفصل بين خصمين لا يلتقيان أو ضرتين لا تجتمعان، فمقاييس المحدثين فى السند لا تفصل عن مقاييسهم فى المتن إلا على سبيل التوضيح والتبويب والتقسيم. وإلا فالغالب على السند الصحيح أن ينتهى بالمتن الصحيح، والغالب على المتن المعقول المنطقى الذى لا يخالف الحس أن يرد عن طريق سند صحيح (1) . ... ولبيان أن المحدثين لم يفرقوا بين السند والمتن التفريق الظاهر فى مباحثهم، وأن كلامهم على السند هو كلام عن المتن ومن أجله، نذكر بعض الأمثلة على ذلك: منها زيادة الثقات فهى كما لا يخفى ترتبط بالمتن لأنها زيادة تطرأ عليه من راوٍ ثقة. قال ابن حجر: "وزيادة راويهما – أى الصحيح والحسن – مقبولة ما لم تقع منافيه لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة، لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافى بينها، وبين رواية من لم يذكرها، فهذه تقبل مطلقاً، لأنها فى حكم الحديث المستقل الذى ينفرد به الثقة، ولا يرويه عن شيخه غيره.

_ (1) علوم الحديث ومصطلحه ص 283.

.. وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها، رد الرواية الأخرى فهذه التى يقع الترجيح بينها، وبين معارضها، فيقبل الراجح، ويرد المرجوح" (1) . ومثل لذلك بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أى العمل أفضل؟ قال الصلاة لوقتها" (2) زاد الحسن ابن مكرم، وبندار بن بشار فى روايتهما: فى أول وقتها، وصححها الحاكم (3) وغيره. وهى مقبولة فهل الكلام على السند هنا إلا لضبط المتن وأجله.

_ (1) نزهة النظر ص 30. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل الصلاة لوقتها 2/12 رقم 527 ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال 1/350، 351 رقم 137. (3) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب الصلاة، باب فى مواقيت الصلاة 1/300 رقمى 674، 675 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى، وانظر: تدريب الراوى1/248

ومنه "المصحف" وهو الذى وقع فيه تصحيف، ويكون فى الإسناد والمتن. ومن الثانى حديث: "احتجر النبى صلى الله عليه وسلم فى المسجد (1) . أى اتخذ حجرة، صحفة بعضهم بقوله: "احتجم" وهذا القسم من تصحيف اللفظ، وقد يكون فى المعنى كمن سمع خطيباً يروى حديث: "لا يدخل الجنة قتات" (2) ، فبكى وقال: ما الذى أصنع، وليست لى حرفة سوى بيع القت؟ يعنى الذى يعلف الدواب" (3) . ... يقول الأستاذ الصديق بشير: "ولعل من أوسع المباحث المتعلقة بنقد المتن والتى تفوق فيها علم الحديث، على منهج النقد الغربى للمضمون والمتن مبحث "تحرى النص، والمجئ باللفظ". وهذه كما يقول أسد رستم: "مأثرة أخرى من مآثر علماء الحديث فإنهم قالوا بالأمانة فى نقل الحديث، وفرضوا وجوب تحرى النص لأجل الوقوف على اللفظ الأصلى، ومنهم من أبى أن يقوم اللحن أو أن يصلح الخطأ واكتفى بإبداء رأيه على الهامش (4) . وأسد رستم يشير بذلك إلى ما اشترطه أرباب هذا الفن فى عدم جواز الرواية بالمعنى "إن لم يكن الراوى عالماً بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، خبيراً بما يحيل معانيها، بصيراً بمقادير التفاوت بينها.

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأذان، باب صلاة الليل 3/251 رقم 731، ومسلم (بشرح النووى) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة النافلة فى بيته 3/325، 326 رقم 781 من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأدب، باب النميمة من الكبائر 10/487 رقم6056، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم النميمة 1/389 رقم 169 من حديث حذيفة رضي الله عنه (3) فتح المغيث للسخاوى 3/69، وانظر: علوم الحديث للدكتور صبحى الصالح ص 254-262. (4) مصطلح التاريخ ص 33، وانظر: ضوابط الرواية عند المحدثين ص 46.

ففى هذه الحالة يتعين على الراوى الرواية باللفظ الذى سمعه، ولا تجوز له الرواية بالمعنى بلا خلاف" (1) . وهل كل ذلك إلا حفاظاً من المحدثين على سلامة المتن؟ ... وليس أدل على عناية المحدثين بنقد المتون من جعلهم من أمارة الحديث الموضوع، مخالفته للعقل، أو المشاهدة والحس، مع عدم إمكان تأويله تأويلاً قريباً محتملاً، وأنهم كثيراً ما يردون الحديث لمخالفته للقرآن، أو السنة المشهورة الصحيحة، أو التاريخ المعروف مع تعذر التوفيق" (2) . ... ومن نماذج سبر المحدثين المتن فى نقدهم للحديث خبر وضع الجزية عن يهود خيبر، وهو ما حكاه غير واحد من العلماء؛ كالحافظ السبكى (3) ، وابن كثير (4) ، والسخاوى (5) "أن بعض اليهود أظهروا كتاباً، وادعوا أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة بعض الصحابة رضي الله عنهم وذكروا أن خط على رضي الله عنه عليه. وحمل الكتاب فى سنة سبع وأربعين وأربعمائة إلى رئيس الرؤساء أبى القاسم على بن الحسن وزير القائم بأمر الله الخليفة العباسى، فعرضه رئيس الرؤساء، على الحافظ الخطيب البغدادى، فتأمله ثم قال: هذا مزور.

_ (1) تدريب الراوى 2/98، وراجع: إن شئت ما سبق فى الجواب على شبهة رواية الحديث بالمعنى ص368-369. (2) دفاع عن السنة للدكتور أبو شهبة ص 31، ولمزيد فى الرد على هذه الشبهة انظر: منهج النقد عند علماء الحديث، والسنة المطهرة والتحديات كلاهما للدكتور نور الدين عتر، ومنهج نقد المتن عند علماء الحديث للدكتور صلاح الدين الأدلبى، واهتمام المحدثين بنقد الحديث سنداً ومتناً، ودحض مزاعم المستشرقين وأتباعهم للدكتور محمد لقمان السلفى. (3) طبقات الشافعية الكبرى 4/35. (4) البداية والنهاية 12/108 – 109. (5) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص24، 25.

.. فقيل له: من أين لك هذا؟ قال: فيه شهادة معاوية، وهو إنما أسلم عام الفتح سنة ثمان من الهجرة، وفتح خيبر كان فى سنة سبع، ولم يكن معاوية مسلماً فى ذلك الوقت، ولا حضر ما جرى فى خيبر، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وهو قد مات فى سنة خمس، فى يوم بنى قريظة، قبل فتح خيبر بسنتين، فاستحسن ذلك منه رئيس الرؤساء، واعتمده وأمضاه، ولم يجز اليهود على ما فى الكتاب لظهور تزويره وبطلانه. ... وقد سبق الحافظ الخطيب البغدادى إلى كشف كذب هذا الكتاب وتزويره: الإمام ابن جرير الطبرى، كما حكاه الحافظ ابن كثير فى البداية والنهاية" (1) . وتعرض الحافظ ابن قيم الجوزية لهذا الكتاب المزور بأيدى اليهود فى كتابيه "أحكام أهل الذمة" (2) ، و"المنار المنيف فى الصحيح والضعيف" (3) ، وبين كذبه وتزويره من عشرة وجوه، ثم قال وأحضر هذا الكتاب بين يدى شيخ الإسلام ابن تيمية، وحوله اليهود يزفونه ويجلُّونه، وقد غشى بالحرير والديباج، فلما فتحه وتأمله بزق عليه وقال: هذا كذب من عدة أوجه. وذكرها، فقاموا من عنده بالذل والصغار" (4) . بكل ما سبق تسقط دعوى تقصير المحدثين فى نقدهم للمتن أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) البداية والنهاية 12/109. (2) أحكام أهل الذمة 1/7-9. (3) المنار المنيف فى الصحيح والضعيف ص 102 – 105، وانظر: لمحات من تاريخ السنة للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ص 170 – 172. (4) المنار المنيف فى الصحيح والضعيف ص 105.

الفصل الرابع: وسيلتهم فى الطعن فى الإسناد وعلوم الحديث

الفصل الرابع: وسيلتهم فى الطعن فى الإسناد وعلوم الحديث ... وتحته تمهيد ومبحثان: التمهيد ويتضمن: بيان أن الإسناد دليلنا على صحة الكتاب والسنة. وهدف أعداء الإسلام من الطعن فى الإسناد. المبحث الأول: شبه الطاعنين فى الإسناد والرد عليها. المبحث الثانى: أهمية الإسناد فى الدين، واختصاص الأمة الإسلامية به عن سائر الأمم التمهيد ويتضمن بيان أن الإسناد دليلنا على صحة الكتاب والسنة، وهدف أعداء الإسلام من الطعن فى الإسناد. ... الطعن والتشكيك فى الإسناد كان ولا يزال، هدفاً من أهداف أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، للتشكيك فى الوحى الإلهى -قرآناً وسنة-. فالإسناد دليلنا على صحة كتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن المعلوم أن لصحة أى قراءة من القرآن وقبولها؛ لابد أن يتوافر فيها ثلاثة شروط: صحة إسنادها. موافقتها للغة العربية ولو بوجه. موافقتها للرسم العثمانى ولو احتمالاً. ... وإذا اختل أى ركن من هذه الأركان كانت القراءة شاذة، ولا تعد قرآناً حتى ولو كانت من القراءات السبع وفى ذلك أنشد صاحب الطيبة فقال: وكل ما وافق وجه النحو ... وكان للرسم احتمالاً يحوى وصح إسناداً، هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وحيثما يختل ركن أثبت ... شذوذه لو أنه فى السبعة (1) أليس فى هذا دليل على أن القرآن الكريم منقول بالإسناد أيضاً؛ كالحديث؟ نعم هناك فرق بين القرآن وبين الحديث فى عدد الرواة النقلة؛ فالقرآن منقول بالتواتر، والحديث منقول برواية رجال معدودين، ولكنهم ليسوا مجاهيل بل هم رجال مشهورون، أحوالهم معلومة، وأسانيدهم محفوظة. وهذا الفرق يقتضى التفاوت فى درجات اليقين والوثوق، لا فى نفس القبول والاعتبار (2) ".

_ (1) مناهل العرفان فى علوم القرآن 1/416، وانظر: فتح البارى 9/649 رقم 4991. (2) تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها للسيد سليمان الندوى ص 10، 11.

.. وإذا كان القرآن منقولاً بالرواية، فالطعن فى الإسناد طعن فى الدين، وإبطال للكتاب والسنة وهو ما صرح به (شاكر) -رأس الزنادقة فى عصره- عندما سئل عن سر تعليمهم المتعلم فيهم أول ما يعلمونه الطعن فى الصحابة، وهم أول رجال السند قال: "إنا نريد الطعن على الناقلة فإذا بطلت الناقلة أوشك أن نبطل المنقول". وصدق الإمام أبو زرعة الرازى -رحمه الله-: " ... هؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة (1) ". ... ومن هنا كان أهل الإلحاد قديماً وحديثاً يحرصون على الطعن والتشكيك فى الإسناد الذى هو خصيصة فاضلة لهذه الأمة ولم يكن هناك شئ أثقل عليهم من سماع الحديث وروايته بإسناد. يدل على ما سبق ما رواه الحاكم فى معرفة علوم الحديث قال: "سمعت الشيخ أبا بكر أحمد ابن إسحاق الفقيه (2) وهو يناظر رجلاً، فقال الشيخ: حدثنا فلان. فقال له الرجل: دعنا من حدثنا إلى متى حدثنا. فقال له الشيخ: قم يا كافر، ولا يحل لك أن تدخل دارى بعد هذا، ثم التفت إلينا فقال: ما قلت قط لأحد لا تدخل دارى إلا لهذا" (3) . وروى الحاكم أيضاً عن أحمد بن سلام الفقيه قال: "ليس شئ أثقل على أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته بإسناد (4) ".

_ (1) راجع: ص 600، 601. (2) أحمد بن إسحاق: هو أبو بكر، أحمد بن إسحاق بن أيوب الصبغى الفقيه، كان عالماً بالحديث والرجال، والجرح والتعديل، وفى الفقه كان المشار إليه فى وقته، ثقة مأمون. سمع منه كبار الحفاظ، منهم أبو عبد الله الحاكم، وكلما روى عنه وجمع بينه وبين جماعة يقول: أبو بكر هو الإمام المقدم.له ترجمة فى: الإرشاد فى معرفة علماء الحديث للحافظ الخليل القزوينى ص318،319. (3) معرفة علوم الحديث ص 4. (4) المصدر السابق ص 4.

المبحث الأول: شبه الطاعنين فى الإسناد والرد عليها

.. وتابع هؤلاء السلف خلفهم من المستشرقين ودعاة اللادينية، فذموا الإسناد، وذموا المحدثين لاهتمامهم به، وطعنوا فى بداية استعمال الأسانيد فى الأحاديث النبوية، وزعموا أن الأسانيد مختلقة من قبل المحدثين، إلى غير ذلك من طعونهم التى نستعرضها ونجيب عليها فى المبحث التالى: المبحث الأول: شبه الطاعنين فى الإسناد والرد عليها ... ذهب بعض أعداء الإسلام من المستشرقين إلى التشكيك فى بداية استعمال الأسانيد فى الأحاديث النبوية. فذهب "شاخت" إلى أن الفتنة المذكورة فى قول محمد بن سيرين "لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة ... " (1) هى فتنة الخليفة الأموى الوليد بن يزيد سنة 126هـ. يقول شاخت: "ويروى عن التابعى ابن سيرين أن الناس لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى كانت الفتنة، وسوف نرى فيما بعد أن الفتنة التى اندلعت بمقتل الخليفة الأموى الوليد بن يزيد سنة 126هـ، قبيل نهاية الحكم الأموى تتفق فى الزمن مع نهاية خير القرون التى سادت فى أثنائها السنة النبوية، وحيث أن ابن سيرين توفى سنة (110هـ) فلنا أن نستنتج من ذلك أن هذه العبارة موضوعة عليه. وعلى أية حال ليس هنالك ما يدعوا إلى افتراض أن استعمال الإسناد بشكل منتظم قد حدث قبل بداية القرن الثانى للهجرة (2) . ... ويذهب مستشرق آخر وهو "روبسون" إلى أن الفتنة المقصودة فى كلام ابن سيرين هى فتنة عبد الله بن الزبير سنة (72هـ) عندما أعلن نفسه خليفة، بحجة أن تاريخ هذه الفتنة يتوافق مع مولد ابن سيرين، ووجود كلمة الفتنة فى موطأ الإمام مالك التى تشير إلى فتنة ابن الزبير" (3) .

_ (1) سبق تخريجه ص 128. (2) أصول الفقه المحمدى ترجمة الأستاذ الصديق البشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 11 ص689، 699. (3) نقلاً عن دارسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 2/395، وضوابط الرواية عند المحدثين للأستاذ الصديق بشير ص 64.

.. وهدفهم من ذلك كما صرح شاخت، التشكيك فى الجزء الأعظم من الأسانيد الموجودة فى كتب السنة المطهرة، وأنه قد اختلقها المحدثون فى القرن الثانى الهجرى، بل وفى القرن الثالث أيضاً. والنتيجة أن متون تلك الأسانيد مختلقة أيضاً، وتلك هى غايتهم من الطعن فى بداية استعمال الأسانيد فى الأحاديث النبوية. ويذهب جولدتسيهر إلى أن أسانيد الأحاديث مخترعة من قبل المحدثين فيقول: "هناك بعض الناس لا يشعرون بأى تردد فى اختراع أسماء جديدة يخدعون بها المستمعين السذج، وفى القرن الذى ألف فيه ابن عدى كتابه "الكامل فى معرفة الرجال" كان هنالك أبو عمرو لاحق بن الحسين، يخترع أسماء يضعها فى أسانيده مثل: طغرال، وطربال، وكركدن، ويعزو إليهم أحاديث (1) . وهذا الذى قاله جولدتسيهر قاله غير واحد من المستشرقين (2) ودعاة اللادينية. يقول عبد الجواد ياسين: "ولم يكن من العسير على من اختلق "المتن" أن يختلق "الإسناد" فكم من أحاديث مختلقة -باعتراف علماء الحديث- تم تركيبها على أسانيد مقبولة عندما أصبحت الأسانيد المقبولة جواز مرور رسمى للحديث" (3) . ويقول أحمد حجازى السقا: "فالسلسلة الذهبية للحديث، وهى أعلى سلسلة فى السند قد عمل الضعفاء والمتروكون مثلها، والأسانيد الصحيحة، قد عملوا مثلها" (4) . وتتابع دعاة اللادينية فى ذم الإسناد، وذم المحدثين لاهتمامهم به.

_ (1) دراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10 ص505، 506، والعقيدة والشريعة فى الإسلام ص 54 وما بعدها. (2) كالمستشرق (روبسون) زعم أن الأسانيد العائلية اخترعت لنشر الأحاديث الموضوعة. انظر: دراسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 2/435. (3) السلطة فى الإسلام ص 260. (4) دفع الشبهات عن الشيخ محمد الغزالى ص 109، وانظر: من نفس المصدر ص 102، 126.

ويجاب على هذه الشبه بما يلى:

فوجدنا من يصف أهل الحديث بأنهم "عبيد الأسانيد" (1) و "أسرى الأسانيد" (2) . ووجدنا من يصف الإسناد بأنه نوع من التزمت (3) . ... ووجدنا إسماعيل منصور يقول: "إن هذا التعلق غير الطبيعى بالسند، والمبالغة فى الاعتداد به وربط الأحكام الشرعية به -واعتباره بالدرجة الأولى- أساساً لصحة الحديث كل ذلك مجتمعاً قد أثمر افتراقاً كبيراً بين المسلمين، وصيرورتهم فرقاً وشيعاً وأحزاباً يعارض بعضها بعضاً، وقاتل بعضها بعضاً، ويكيد بعضها لبعض على مر السنين (4) . ... ويقول طاعناً فى علوم الحديث كلها: "ما أقامه البعض من أهل هذا العلم من إنشاء ما يسمى بعلم الحديث، إنما هو بالحياد المطلق، وَهْمٌ لا يثبت، وظن لا يستقيم" (5) . ويجاب على هذه الشبه بما يلى: ... بادئ ذى بدء نحب أن نقول للطاعنين فى الإسناد، كلمة مهمة قالها العلامة السيد سليمان الندوى، وهو يتحدث عن تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها. قال تحت عنوان: (الرواية أمر ضرورى) : "لا مندوحة لعلم من العلوم، ولا لشأن من شؤون الدنيا عن النقل والرواية؛ لأنه لا يمكن لكل إنسان أن يكون حاضراً فى كل الحوادث، فإذاً لا يتصور علم الوقائع للغائبين عنها إلا بطريق الرواية شفاهاً أو تحريراً، وكذلك المولودون بعد تلك الحوادث لا يمكنهم العلم بها إلا بالرواية عمن قبلهم. هذه تواريخ الأمم الغابرة والحاضرة، والمذاهب والأديان، ونظريات الحكماء والفلاسفة، وتجارب العلماء واختراعاتهم، هل وصلت إلينا إلا بطريق النقل والرواية؟

_ (1) أضواء على السنة لمحمود أبو ريه ص 62. (2) السنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال الدين ص 12، 15، 84. (3) ظهر الإسلام لأحمد أمين 3/86، 88. (4) تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 377. (5) المصدر السابق ص 656، وانظر: من نفس المصدر ص 145، 165، 176، وانظر: حد الردة لأحمد صبحى منصور 87، 91، والقرآن والحديث والإسلام لمحمد رشاد خليفة ص 40.

.. فهل كان الدين الإسلامى بدعاً من الحوادث حتى لا تنقل أحكامه وأخباره بهذا الطريق؟ أم كان الواجب اتخاذ طريق آخر لنقل أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأخباره غير الرواية؟! ... لنفرض أن هؤلاء المنكرين علينا رواية الأحاديث -بالأسانيد- أصبحوا زعماء لمن كان على شاكلتهم، فهل هناك طريقة -غير الرواية- لتبليغ استنباطهم، وتحقيقاتهم لأفراد جماعتهم البعيدين عن حلقات دروسهم، أو الذين سيولدون بعدهم (1) ؟!! حرى بالمشككين فى الإسناد وعلوم الحديث الإمساك عن لغوهم. وإلا فأين أسانيدهم المتصلة إلى أممهم البائدة؟ بل أين أخبارهم الصحيحة عن أنبيائهم وعظمائهم؟ بل أين الضوابط التى تثبت صحة أخبارهم فيما سبق؟! ... أما ما زعمه شاخت من حملة الفتنة المذكورة فى كلام محمد بن سيرين على فتنة مقتل الوليد بن يزيد سنة (126هـ) علماً بأن وفاة ابن سيرين كانت سنة (110هـ) كما ذكر هو أيضاً. فيقول رداً على ذلك الدكتور همام عبد الرحيم: "ولو أنصف شاخت وفكر بنزاهة وموضوعية لما قال إن ابن سيرين يتحدث عن فتنة وقعت بعد وفاته بست عشرة سنة! (2) . وزعمه بأن ذلك الخبر مكذوب على ابن سيرين فهو ما لا دليل عليه، ويكذبه إخراج الإمام مسلم له فى مقدمة صحيحه (3) ، والترمذى (4) ، والدارمى (5) .

_ (1) تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها ص 9، 10. (2) الفكر المنهجى عند المحدثين ص 59. (3) مسلم (بشرح النووى) فى المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين 1/119. (4) الترمذى فى كتاب العلل بآخر السنن 5/695. (5) الدارمى فى المقدمة، باب فى الحديث عن الثقات 1/123 رقم 416.

.. أما ما زعمه "روبسون" من حملة الفتنة المذكورة فى كلام ابن سيرين على فتنة ابن الزبير، فهو زعم بعيد؛ لأن عبارة ابن سيرين تقول: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد"، ولم يقل: "كنا لا نسأل عن الإسناد" وهذه العبارة التى استخدمها تفيد؛ أنه يتكلم عن شيوخه من الصحابة رضي الله عنهم (1) . ... ويقول الدكتور أكرم ضياء العمرى: "ما استند إليه روبسون غير صحيح فإن تقدير عمر محمد بن سيرين للإفادة منه فى تفسير كلامه لا يمكن الاعتماد عليه فابن سيرين قد يتكلم عن أحداث بعيدة عن عصره معتمداً على دراسته لتاريخ الحديث الذى عنى به كثيراً" (2) . والذى يؤكد هذا الرأى قول عبد الله بن عباس وهو من صغار الصحابة (3) ، لما جاءه بشير بن كعب العدوى فجعل يحدث ويقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه فقال: يا ابن عباس مالى لا أراك تسمع لحديثى، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع! فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف" (4) . فكأنه رضي الله عنه أراد أن يقول: إنه لما دخل فى هذا الأمر من هم ليسوا من أهله، صار الإعراض عن سماعهم، والنظر فيه أولى، فكان بذلك الإذن فى التحرج من قبول مطلق الأخبار مجردة من أسانيدها" (5) .

_ (1) الفكر المنهجى عند المحدثين ص 59. (2) بحوث فى تاريخ السنة المشرفة ص 5 – 52. (3) ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان ابن ثلاث عشرة سنة يوم توفى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل ابن خمس عشرة سنة. انظر: الاستيعاب لابن عبد البر 3/933 رقم 1588. (4) سبق تخريجه ص 327. (5) ضوابط الرواية عند المحدثين ص 65.

ثم إن الفتنة إذا أطلقت فهى الفتنة الكبرى التى عصفت بالخلافة الراشدة. وإذا قيل: الفتنة بالتعريف (بأل) التى هى للعهد، فهى الفتنة المعهودة التى لا يجهلها أحد (1) أ. هـ. ... والحق –الذى لا مراء فيه- أن اشتراط السند، والبحث عن الإسناد، بدأ مع زمن النبوة المباركة. وفى ذلك يقول الحاكم: "طلب الإسناد العالى سنة صحيحة" ثم ذكر حديث أنس بن مالك فى مجئ الأعرابى (2) وقوله: "يا محمد أتانا رسولك فزعم كذا … الحديث" (3) . فقد استنبط الحاكم من هذا الحديث أصل طلب الإسناد والعلو فيه؛ لأنه سمع أركان الإسلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن وصدق، ولكنه أراد أن يسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة (4) . ولو كان طلب الإسناد والعلو فيه غير مستحب لأنكر عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم سؤاله إياه عما أخبره رسوله عنه ولأمره بالاقتصار على ما أخبره الرسول عنه (5) .

_ (1) الفكر المنهجى عند المحدثين ص 59. (2) هو الصحابى الجليل ضمام بن ثعلبة كما جاء صريحاً فى رواية أنس عند الحاكم فى المستدرك كتاب المغازى والسير 3/55، 56 رقم 4830 وقال: صحيح ووافقه الذهبى. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب العلم، باب ما جاء فى العلم وقوله تعالى: "وَقُل رَّبِّ زِدْنَى عِلْمَاً" 1/179 رقم 63، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام 1/201 رقم 12. (4) فتح البارى 1/183 رقم 63، وانظر: تدريب الراوى 2/160، 161. (5) معرفة علوم الحديث للحاكم ص 6 بتصرف يسير.

واستمر طلب الإسناد والبحث عنه مع زمان الصحابة، ودليل ذلك سؤال عمر رضي الله عنه أبا موسى الأشعرى -وغيره (1) - أن يأتوا بشاهد على صحة ما رووا من الأحاديث. وهذا طلب أشد من عموم السند، إذ هو طلب لإثبات نسبة الكلام إلى النبى صلى الله عليه وسلم، وكلام ابن سيرين دليل لهذا التقدم فى طلب الإسناد (2) . وإذا كانت بداية الإسناد متواضعة فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم، وفى حياة الصحابة للبعد عن الكذب، إلى زمن الفتنة، فإن هذا العلم اشتد الأخذ به بعد الفتنة، حتى ما قارب القرن الأول نهايته، حتى بلغ علم الإسناد مبلغاً عظيماً (3) أ. هـ. ... أما ما زعمه بعض دعاة الفتنة، وأدعياء العلم من المستشرقين، ومن قال بقولهم، من أن الأسانيد اخترعت من قبل الضعفاء والكذابين، وركبت على المتون المختلقة، وإيهامهم بأن ذلك التبس على المحدثين. ... فنقول نعم: اخترعت الأسانيد وركبت عليها المتون المختلفة ولكن هذا لم يخفى على جهابذة المحدثين وأئمة الجرح والتعديل-فلقد تنبهوا إلى هذا قبل أن يدعى أدعياء العلم بأكثر من ألف سنة، ولم يخف عليهم ذلك، كما يحاول الإيهام بذلك أهل الزيغ والهوى. ... ولذلك نجد علماء الحديث كما سبق وأن قلنا-يقررون عدم التلازم بين صحة السند وصحة المتن، وينبهون على الكذابين المختلقين للأسانيد. وفى ذلك يقول ابن الجوزى (ت 597هـ) وهو يبين أصناف الوضاعين.

_ (1) انظر: المصدر السابق ص 14، 15، وانظر: ما ساقه الحاكم فى معرفة علوم الحديث ص 7 على رحلة غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم فى طلب الإسناد، وانظر: تدريب الراوى 2/160، 161، والسنة المطهرة والتحديات للدكتور نور الدين عتر ص 36، 37. (2) الفكر المنهجى عند المحدثين ص 60. (3) دراسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 2/392 بتصرف، وللمزيد من الرد على هذه الشبهة انظر: المصدر نفسه 2/397 – 433.

القسم الرابع: قوم استجازوا وضع الأسانيد لكل كلام حسن، ومن هؤلاء محمد بن سعيد (1) القائل: "لا بأس إذا كان كلاماً حسناً أن نضع له إسناداً" (2) . ... وفى ذلك أيضاً يقول ابن عراق فى كتابه (3) (تنزيه الشريعة) وهو يبين أصناف الوضاعين. الصنف السادس: "قوم حملهم الشره ومحبة الظهور على الوضع، فجعل بعضهم لذى الإسناد الضعيف إسناداً صحيحاً مشهوراً، وجعل بعضهم للحديث إسناداً غير إسناده المشهور ليستغرب ويطلب. قال الحاكم أبو عبد الله: ومن هؤلاء إبراهيم بن اليسع، وهو ابن أبى دحيه كان يحدث عن جعفر الصادق، وهشام بن عروة، فيركب حديث هذا، على حديث ذاك، لتستغرب تلك الأحاديث بتلك الأسانيد، قال: ومنهم حماد بن عمرو النصيبى، وبهلول بن عبيد، وأصرم بن حوشب. قال الحافظ ابن حجر: وهذا داخل فى قسم المقلوب، ... وقال الأستاذ الإسفرايينى: "إن: من قلب الإسناد ليستغرب حديثه، ويرغب فيه، يصير دجالاً كذاباً تسقط به جميع أحاديثه، وإن رواها على وجهها" (4) .

_ (1) هو: محمد بن سعيد بن حسان بن قيس الأسدى، الشامى المصلوب، ويقال له: ابن أبى عتبة، أو ابن أبى قيس، أو ابن الطبرى، وقيل إنهم قلبوا اسمه على مائة وجه ليخفى، كذبوه، وقال أحمد: قتله المنصور على الزندقة. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/79 رقم 5926، والكاشف 2/174 رقم4871،والمجروحين لابن حبان 2/247، والضعفاء والمتروكين للنسائى ص213رقم543، والجرح والتعديل 7/262 رقم 1436، ولسان الميزان 9/105 رقم 14225. (2) الموضوعات لابن الجوزى 1/41، 42. (3) ابن عراق هو أبو الحسن، سعد الدين على بن محمد بن علىبن عراق، الكنانى الدمشقى، له مؤلفات نافعة من أهمها كتابة تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، مات سنة 963هـ. له ترجمة فى: شذرات الذهب 8/337، والرسالة المستطرفة ص 150، والإعلام 5/12. (4) انظر: تنزيه الشريعة 1/15، والموضوعات 1/41 – 43.

وفى حديث:"إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة، ويتجلى لك خاصة يا أبا بكر" يقول الحافظ الخطيب: "لا أصل له وضعه محمد بن عبد سنداً، ومتناً" (1) . وكذلك تنبه جهابذة المحدثين إلى الأسانيد العائلية وانتقدوها كثيراً، ولم يغفلوا عنها، كما زعم "روبسون" وغيره، بل قبلوا منها ما يستحق القبول، ورفضوا منها ما يستحق الترك والرفض، وكانوا منصفين فى حكمهم، فأعطوا كل ذى حق حقه، وأصَّلوا فى ذلك علماً يعرف بـ "رواية الآباء عن الأبناء وعكسه" (2) . فمن أمثلة ما قبلوه على الراجح: سند عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وبهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده (3) . ومن أمثلة ما ردوه: سند كثير بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه، عن جده (4) ، وسند موسى بن مطير، عن أبيه (5) ، وغيرهم كثير ممن امتلئت بهم كتب المجروحين والمتروكين، مما يبين أن علماء الحديث لم يغفلوا عنهم كما يزعم دعاة الفتنة وأدعياء العلم.

_ (1) انظر: اللآلئ المصنوعة 1/263، والموضوعات 1/306 - 307. (2) صنف فيه غير واحد من المحدثين منهم ابن أبى خيثمة، والمزى، وغيرهم، ومن أجمع المصنفات فيه ما صنفه الحافظ العلائى فى كتابه "الوشى المعلم فيمن روى عن أبيه عن جده عن النبىصلى الله عليه وسلم". (3) انظر: تدريب الراوى 2/257-259، وفتح المغيث للسخاوى 3/154 - 156، وفتح المغيث للعراقى ص381-383،والباعث الحثيث171-173، ومعرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد للذهبى ص76 رقم55،وسؤالات مسعود بن على السجزى للحاكم ص147رقم150. (4) انظر: المجروحين لابن حبان 2/221 - 222، وميزان الاعتدال للذهبى 3/406. (5) انظر: المجروحين 2/242، وميزان الاعتدال 4/223 وإن شئت مزيد من الرد انظر: دراسات فى الحديث النبوى للدكتور الأعظمى 2/435 - 436.

المبحث الثانى: أهمية الإسناد فى الدين واختصاص الأمة الإسلامية به عن سائر الأمم

المبحث الثانى: أهمية الإسناد فى الدين واختصاص الأمة الإسلامية به عن سائر الأمم ... الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص الأمة الإسلامية، لم يؤتها أحد من الأمم قبلها، وبه حفظ الدين من عبث العابثين، فكان الدعائم التى حفظ بها الدين قرآناً وسنة، ولذلك كان جزءاً من الدين، فهو الطرق التى أوصلت لنا الأخبار والآثار، صحيحة لا تشوبها شائبة. وقد تكاثرت فى بيان شأن الإسناد، وأهميته، وفضله، كلمات العلماء، وتعددت وتنوعت أقوالهم فى تعظيم أمره. ومن خيرها وأدقها تشخيصاً لموقع الإسناد كلمة الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله عنه قال: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا قيل له من حدثك؟ بقى (1) أى بقى حيران ساكتاً. وقال أيضاً: "بيننا وبين القوم –أى المبتدعة والكذبة- القوائم يعنى الإسناد" (2) . وقال سفيان الثورى: "الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأى شئ يقاتل؟ " (3) .

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) فى المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين 1/120، والترمذى فى كتاب العلل الملحق بآخر السنن 5/695 واللفظ له. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين 1/120. (3) أخرجه ابن حبان فى المجروحين 1/27، والخطيب فى شرف أصحاب الحديث 88 رقم 76.

وقال الإمام الشافعى: "مثل الذى يطلب الحديث بلا سند كمثل حاطب ليل" (1) وسبق قول ابن حزم: "نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبى صلى الله عليه وسلم مع الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الملل، أما مع الإرسال والإعضال … والنقل بالطريق المشتملة على كذاب، أو مجهول الحال فكثير من نقل اليهود والنصارى…" (2) . ... لكل ما سبق اهتم المسلمون بالإسناد "وقد نشأ عن اهتمامهم به ووضوح أهميته فى تلقى المنقول: أن اشترط "الإسناد" فى تلقى سائر العلوم الإسلامية، كالتفسير، والفقه، والتاريخ، والرجال، والأنساب، واللغة، والنحو، والأدب، والشعر، والحكايات، حتى دخل فى سياق الكلمة الواحدة من أخبار الحمقى والمغفلين، وأخبار المضحكين ... ، كما دخل فى سياق الكلمة الواحدة فى التفسير، كما تراه فى "تفسير الإمام ابن جرير الطبرى" وكما تراه فى كتاب الخطيب البغدادى: "التطفيل وحكايات الطُّفَيليين" و "البخلاء" وكتب ابن الجوزى: "أخبار الحمقى والمغفلين"، و"أخبار الأذكياء"، و"ذم الهوى"، و"اللُّقَط فى حكايات الصالحين"، فتراه فى هذه الكتب يسوق سنداً طوله ثلاثة أسطر أو أكثر، من أجل نقل جملة صغيرة أو كلمة واحدة عن قائلها" (3) .

_ (1) ذكره الزرقانى فى شرح المواهب اللدنية 5/453، والمناوى فى فيض القدير 1/433. (2) الفصل فى الملل والنحل 2/81 –84 بتصرف، وانظر: تدريب الراوى 2/159، ولمزيد من معرفة فضل الإسناد انظر: فتح المغيث للسخاوى 3/5-7، وتدريب الراوى 2/159، 160، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص 6، والأجوبة الفاضلة للكنوى ص 21، 22. (3) لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ص143،144 بتصرف يسير.

.. "ومن علامات الاهتمام بالإسناد، وأماراته تلك التصانيف الضخمة التى ألفت فى الرجال، فنشأ بذلك علم مستقل من علوم الحديث، وهو علم الرجال، وهذا علم واسع تتقطع فيه الأنفاس، فمنه كتب معرفة الصحابة، وكتب الطبقات، وكتب الجرح والتعديل، وكتب الأسماء والكنى والألقاب، وكتب المؤتلف والمختلف، وكتب المتفق والمفترق والمتشابه، وكتب الوفيات، وهى فى مجموعها تدل دلالة عظيمة على الجهد المبذول فى نقد الأخبار، وليس الأمر كما يتوهم الكثيرون ممن لا علم لهم بهذا الأمر" (1) أ. هـ. ... ومن علامات الاهتمام بالإسناد "علم الجرح والتعديل" وهو كسائر علوم الحديث مما تفردت به الأمة الإسلامية عن سائر الأمم، وتميزت بتأسيسه، وإنشائه، والتفنن فيه، وقد أداها إلى إبداعه: الحفاظ على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم من التقول والدخيل، والمكافحة للدجالين والمشعوذين والخراصين، فكان هو من أكبر النتائج النافعة التى تولدت عن تلك الحملة الضارة على السنة المطهرة. قَصدتَ مَسَاتِى فاجتلبت مَسَرَّتِى ... *** ... وقد يُحِسنُ الإِنسانُ من حيث لا يَدِرى فنشأ هذا العلم من عهد النبوة المباركة برعماً لطيفاً، ثم نما وازداد، وقوى واشتد فى القرن الأول، والثانى، وامتد واتسع وبدأ يتكامل فى القرن الثالث، والرابع، وهكذا حتى اكتمل فى القرن التاسع من الهجرة الشريفة، فكثرت فيه الكتب، وتنوعت فيه المؤلفات، ثم درست فيه فى عصرنا بعض المسائل والجزئيات والشخصيات دراسة خاصة، فقارب النُّضجَ والاحتراق، وإن كان هذا العلم ليس له غاية ولا نهاية.

_ (1) ضوابط الرواية عند المحدثين للأستاذ الصديق بشير ص 71،72، وانظر: من نفس المصدر ص212 وما بعدها.

.. وبهذا العلم العظيم الذى لم تكن فيه محاباة لأحد مهما كان لا أباً، ولا ابناً،، ولا أخاً، ولا صديقاً، ولا أستاذاً، تمكن السلف والخلف من كشف العلل فى كل علم منقول حديثاً نبوياً، أو كلاماً عادياً، أو شعراً أو نثراً أدبياً، أو تاريخاً شخصياً أو سياسياً ... ، فكان هذا العلم مجهراً صادقاً، ونظارة صافية، تعزل للناظر بها: الصحيح عن القريح، وتميز له الزين من الشين، والصدق من الكذب، وتزن له المحامد والمثالب، بالقسطاس المستقيم (1) أ. هـ. ... وإذا كانوا قديماً قالوا: الحق ما شهد به الأعداء فلننظر إلى ما قاله المستشرق "شبرنجر" فى مقدمته الإنجليزية على كتاب الإصابة فى أحوال الصحابة لابن حجر، قال: "لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا يوجد الآن أمة من الأمم المعاصرة، أتت فى علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون فى هذا العلم العظيم الخطر، الذى يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشئونهم" (2) أ. هـ. ... ويقول الأستاذ محمد أسد عن علوم الحديث: "إنه علم تام الفروع على أشد ما يمكن أن يكون من الدقة، غايته الوحيدة البحث فى معانى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وشكلها وطريقة روايتها (3) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ص 189 بتصرف يسير. (2) نقلاً عن الرسالة المحمدية للسيد سليمان الندوى ص 62، وانظر شهادة الدكتور موريس بوكاى فى دراسة الكتب المقدسة ص 290، رغم أنه لم يدافع عن السنة بل كان متحاملاً عليها ومخالفاً لها، كما سبق بيانه فى موقفنا من الحركة الاستشراقية. (3) الإسلام على مفترق الطرق ص 92 – 93 بتقديم وتأخير.

الفصل الخامس: وسيلتهم فى الطعن والتشكيك فى كتب السنة المطهرة

الفصل الخامس: وسيلتهم فى الطعن والتشكيك فى كتب السنة المطهرة وتحته مبحثان: المبحث الأول: أساليب أعداء السنة فى الطعن فى المصادر الحديثية. المبحث الثانى: الجواب عن زعم أعداء السنة أن استدراكات الأئمة على الصحيحين دليل على عدم صحتها. المبحث الأول: أساليب أعداء السنة فى الطعن فى المصادر الحديثية ... من وسائل أعداء السنة -أعداء الإسلام- فى الطعن فى حجية السنة المطهرة طعنهم فى المصنفات الحديثية، وأساليبهم فى ذلك كثيرة ومكررة فكما طعنوا فى عدالة الصحابة عموماً وخصوا بالطعن رموزهم من الخلفاء الراشدين، وأكثرهم رواية أبو هريرة رضي الله عنه وطعنوا فى عدالة أئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين وطعنوا فى رموزهم، كابن شهاب الزهرى أشهر راوى فى التابعين وأكثرهم حديثاً (1) ، كما طعنوا فى الأئمة الأربعة وغيرهم من حفاظ الإسلام وأئمة الدين، إذ بفقدان الثقة بهم تفقد بغيرهم من باب أولى. وهكذا هم هنا يسلكون نفس الأسلوب فى طعنهم فى كتب السنة: فتارة يوجهون سهامهم المسمومة إلى كتب السنة عموماً طعناً وسخرية. ... ... يقول إسماعيل منصور: "يجب أن تعرف الأمة فى جميع بقاع الأرض بحقيقة كتب الحديث والسنة عند جميع فرق المسلمين وهى أنها أقوال ظنية منسوبة إلى رواة ينسبونها بدورهم إلى رسول الله وليست هى أقواله صلى الله عليه وسلم بالضرورة" (2) .

_ (1) انظر: دفاع الدكتور السباعى عنه فى السنة ومكانتها ص 206 - 226. (2) تبصير الأمة بحقيقة السنة ص 432، 658.

.. ... ويسخرون من كتب السنة المطهرة بوصفها بـ "كتب صفراء" (1) ، و"طراش دينى" (2) ، و"زبالة" (3) . وتارة يشككون فى كتب الأصول الستة، وفى كتب السنن، والمسانيد، والمعاجم، والمصنفات، وغير ذلك بحجة أن فى تلك المصنفات الحديثية الصحيح، والحسن، والضعيف، والمنكر والمتروك … (4) . ... هكذا يطلقون الكلام والحكم على عوانه إيهاماً للقارئ بأن ذلك موجود فى المصنفات الحديثية بدون تمييز أو حكم للأئمة عليها. وتارة يشككون فى أصح المصنفات الحديثية، ويركزون هجومهم عليها إذ بسقوطها واهتزاز الثقة بها تهتز الثقة ببقية كتب السنة من باب أولى. وبذلك يصرحون. ... قال عبد الجواد ياسين: "ولأن البخارى ومسلم يجبان ما دونهما من الكتب فى مفهوم أهل السنة فسوف نحاول التركيز على مروياتهما فى هذا الصدد" (5) . ... وهو ما قاله محمود أبو ريه وهو يتكلم عن مسند أحمد ظعناً فيه قال: "على أننا قد رأينا أن نتكلم عن مسند أحمد الذى هو أشهرها لنبين للمسلمين حقيقته، ونكشف عن درجته بين كتب الحديث ليقاس عليها درجة سائر المسانيد ويغنينا ذلك عن الكلام فى غيره" (6) .

_ (1) انظر: دراسات محمدية لجولدتسيهر ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10 ص 567، والمسلم العاصى لأحمد صبحى منصور ص 29 وانظر له أيضاً الصلاة فى القرآن ص 63، وانظر: إنذار من السماء لنيازى عز الدين ص 677. (2) قالها أحمد صبحى منصور انظر: جريدة أفاق عربية عدد ربيع الآخر لسنة 1418هـ. (3) سمعت هذا منه فى ندوة بدار ابن خلدون بالدراسات الإنمائية بالمقطم-عليه من الله ما يستحق -. (4) انظر: أضواء على السنة لمحمود أبو ريه ص 317 – 330. (5) السلطة فى الإسلام ص 292، وانظر: دين السلطان ص 103 – 113. (6) أضواء على السنة ص 323، وانظر: فى الرد عليه كتاب الحافظ ابن حجر "القول المسدد فى الذب عن المسند".

.. ويهمنا هنا من الوسائل السابقة فى طعنهم فى كتب الحديث ما يحرصون عليه دائماً وأبداً من التشكيك والطعن فى أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل صحيحى البخارى ومسلم، ولا يخرج طعنهم فيهما عن مسلكين: أولهما: استدلالهم على عدم صحتهما بأحاديث تخالف فى فكرهم المريض ظاهر القرآن، أو العقل، أو العلم، أو كما يزعمون تطعن فى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أو توافق ما فى التوراة والإنجيل مما يدل فى نظرهم أنها إسرائيليات (1) . وغير ذلك من القواعد التى سلكوها للحكم على الحديث بالصحة وسبق بيان بطلانها (2) وسيأتى فى الباب الثالث نماذج من هذه الأحاديث والرد عليها. ثانيهما: استدلالهم باستدراكات الأئمة على الصحيحين بأنها دليل على عدم صحتهما.

_ (1) أضواء على السنة ص299-316، وانظر: الأضواء القرآنية فى اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخارى منها للسيد صالح أبو بكر 2/123، وفجر الإسلام 218، وضحى الإسلام 1/340، 2/122، 130 – 132، ودفع الشبهات عن الشيخ الغزالى لأحمد حجازى السقا ص 24، 31، والبيان بالقرآن 1/10 وما بعدها، والصلاة فى القرآن ص 63، ولماذا القرآن ص80-154، والقرآن والحديث والإسلام ص 40، وتبصير الأمة بحقيقة السنة ص 124، 127، 247، 432، 658، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 28، 237، والسلطة فى الإسلام 292-348، والإسلام بدون حجاب ص 25-30، وتأملات فى الحديث عند السنة والشيعة ص 224-225، وأهل السنة شعب الله المختار ص 23 وما بعدها، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص 34-326، وحوار ومناقشة كتاب عائشة أم المؤمنين لهشام آل = =قطيط ص17 فى الهامش، وهناك عزا إلى مراجع أخرى شيعية، ودين السلطان لنيازى عز الدين، وهو من أكبر الكتب التى تناولت الطعن فى الصحيحين بهذا المسلك، والكتاب يقرب من ألف صفحة، وانظر له أيضاً: إنذار من السماء ص 696، 713. (2) راجع: إن شئت ص 214-254، 575-592.

المبحث الثانى: الجواب عن زعم أعداء السنة أن استدراكات الأئمة على الصحيحين دليل على عدم صحتهما

يقول جولدتسهير: "إنه من الخطأ اعتقاد أن مكانة هذين الكتابين مردها لعدم التشكيك فى أحاديثهما أو نتيجة لتحقيق علمى. وسلطان هذين الكتابين يرجع لأساس شعبى لا صلة له بالتدقيق الحر للنصوص، وهذا الأساس هو إجماع الأمة، وتلقى الأمة لهما بالقبول يرفعهما إلى أعلى المراتب، وبالرغم من أن نقد هذين الكتابين غير لائق وغير مسموح به، وبرغم التقدير العام للصحيحين فى الإسلام صنف الدارقطنى (ت 385هـ) كتابه "الاستدراكات والتتبع" فى تصنيف مائتى حديث مشتركة بينهما" (1) أ. هـ. ... وهذه الاستدراكات من بعض الأئمة على الصحيحين اتكأ عليها جولدتسيهر، وغيره وهم يطعنون فى الصحيحين ومكانتهما، ولا حجة لهم فى ذلك، لما يلى فى المبحث الثانى. المبحث الثانى: الجواب عن زعم أعداء السنة أن استدراكات الأئمة على الصحيحين دليل على عدم صحتهما إن صحيحى البخارى ومسلم لم يؤخذا قضية مسلمة أبعدت عنهما بحث النقاد وتوثيقهم لهما، وإنما الذى حدث هو العكس فقد درس الأئمة كلاً من الكتابين سنداً ومتناً، وعرضوهما على أدق المقاييس النقدية الصحيحة التى التزمها صاحبا الصحيحين فى كتابيهما، فنظر الأئمة فيما اشترطه كل منهما هل وفىَّ به أم أخلا؟

_ (1) دراسات محمدية ص 236 نقلاً عن ضوابط الرواية عند المحدثين ص 392، وممن قال به جمال البنا فى السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 25، 131، 159 وغيرهم ممن سبق ذكرهم.

فكانت النتيجة أن "استدرك جماعة من الحفاظ على البخارى ومسلم عدة أحاديث رأوا أنهما أخلا فيهما بشرطهما، وأنهما لا تبلغ فى صحتها مبلغ ما غلب عليهما إخراجه، وتكلموا فى هذه الأحاديث من جهة أسانيدها، ومن جهة متونها، ولا يصل استدراكهم أو تكلمهم فى هذه الأحاديث إلى حد النزول بها إلى درجة الوضع، بل ولا حتى إلى درجة الضعف الذى لا يحتمل. غاية ما هناك أنهم رأوا قصورها عن درجة ما دأب عليه الشيخان وما التزماه من إخراج أصح الصحيح" (1) . يدل على ذلك ما قاله الحافظ العقيلى: "لما صنف البخارى كتاب الصحيح عرضه على ابن المدينى، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين وغيرهم؛ فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة، إلا أربعة أحاديث. قال العقيلى: والقول فيها قول البخارى وهى صحيحة (2) ". ... قال الإمام النووى: "قد استدرك جماعة على البخارى ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه، ... وقد ألف الإمام الحافظ الدارقطنى فى بيان ذلك كتابه المسمى بالاستدراكات والتتبع، وذلك فى مائتى حديث مما فى الكتابين، ولأبى مسعود الدمشقى أيضاً عليهما استدراك، ولأبى الغسانى الجيانى فى كتابه تقييد المهمل فى جزء العلل منه، استدراك أكثره على الرواة عنهما، وفيه ما يلزمهما، وقد أجيب عن كل ذلك أو أكثره (3) ". ... وإذا كان الإمام النووى فى شرحه على مسلم دفع ما أورد على الإمام مسلم، فقد جاء بعده الإمام الحافظ ابن حجر وتتبع المواضع المنتقدة على البخارى تفصيلاً فأجاد فى ذلك فى مقدمته "هدى السارى" مقدمة فتح البارى.

_ (1) انظر: الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين لفضيلة الأستاذ الدكتور أحمد محرم 2/222. (2) هدى السارى ص 9، 514. (3) انظر: صحيح مسلم (بشرح النووى) مقدمة الشارح، فصل فى الأحاديث المستدركة على البخارى ومسلم 1/49.

والتى يقول العلماء فى شأنها: أنها لو كتبت بماء الذهب ما استوفيت حقها. ففيها فضلاً عن الرد على الطعون التى وجهت إلى صحيح البخارى، مجموعة من الفصول الهامة تتعلق بدراسة الصحيح، وصاحبه، وتراجمه، ومناسباته وغير ذلك من المباحث الهامة المتعلقة بالصحيح. ... وقد مكث ابن حجر فى كتابتها أربع سنوات تقريباً، فهدى بها فعلاً كل من يريد أن يدرس صحيح الإمام البخارى. ويعرف مكانته بين كتب السنة حيث هو على رأسها. والإمام ابن حجر فى هدى السارى لم يدافع عن صحيح الإمام البخارى فقط. وإنما دافع عن الصحيحين معاً إجمالاً فقال: "والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول: لا ريب فى تقديم البخارى ومسلم على أهل عصرهما، ومن بعده من أئمة هذا الفن فى معرفة الصحيح والمعلل؛ فإنهم لا يختلفون فى أن على بن المدينى كان أعلم أقرانه بعلل الحديث وعنه أخذ البخارى ذلك حتى كان يقول: ما استصغرت نفسى عند أحد إلا عند على بن المدينى، ومع ذلك فكان على بن المدينى إذا بلغه ذلك عن البخارى يقول: دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه، وكان محمد بن يحيى الذهلى أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهرى وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعاً. وروى الفربرى عن البخارى قال: "ما أدخلت فى الصحيح حديثاً إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته. وقال مكى بن عبد الله سمعت مسلم بن الحجاج يقول: عرضت كتابى هذا على أبى زرعة الرازى فكل ما أشار أن له عله تركته. فإذا عرف أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضاً لتصحيحهما، ولا ريب فى تقديمهما فى ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة (1) .

_ (1) هدى السارى ص 364، 365.

ثم ذكر الحافظ -رحمه الله- المواضع المنتقدة وأجاب عنها من حيث التفصيل وأجاد فى ذلك (1) . وظهر له أن أكثر المواضع المنتقدة الجواب فيها قوى، وأن النادر اليسير هو ما تكلف فيه الجواب (2) . ومن هنا قال الأستاذ الدكتور أبو شهبة -رحمه الله -: "ولعل من هذه الأحاديث التى وقع فيها التكلف فى الجواب والحق فيها مع الناقد "المنصف" حديث "شَرِيْكُ بنُ أبى نَمِر عن أنس فى الإسراء" وهو حديث طويل، فقد خالف فيه شريك أصحاب أنس فى إسناده ومتنه بالتقديم والتأخير، وزيادته المنكرة وأشد أوهامه قوله –شريك-: "إن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه" (3) ، وقد أنكرها الخطابى، وابن حزم، وعبد الحق، والقاضى عياض، والنووى وغيرهم، واعتبروا ذلك غلطاً من شريك، وشريك ليس بمتهم بالكذب، وقصارى أمره أنه غلط والتبس عليه الأمر (4) .

_ (1) المصدر السابق ص 266، 364-402، وانظر: تدريب الراوى 1/135-140. (2) انظر: هدى السارى ص 366، 402. (3) انظر: صحيح البخارى بشرح (فتح البارى) كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: "وكلم الله موسى تكليماً" 13/486 رقم 7517 وأشار إليه مسلم فى صحيحه (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات1/488 رقم162. (4) انظر دفاع ابن حجر عنه فى فتح البارى 13/494 رقم 7517، وانظر: فى ترجمته: تقريب التهذيب 1/418 رقم 2796، والثقات للعجلى ص 217 رقم 663، والثقات لابن حبان 4/360، والكاشف 1/485 رقم 2277، ومعرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد للذهبى ص 116 رقم 155.

ومما يعتذر به عن البخارى، ويجعل النقد ليس ذا أثر أن البخارى أخرج الروايات الصحيحة فى الإسراء (1) ، وهو بصنيعه هذا ينبهنا من طرف خفى لا يخفى على اللبيب ما فى رواية شَرِيك من الأغلاط. فلله در البخارى فكم له من إشارات وتلميحات (2) . يقول الدكتور رفعت فوزى وهو يدفع الطعون التى وجهت إلى أحاديث الإسراء والمعراج: "وأنه مما يستفاد فى نقد هذه الرواية، النقد العلمى البناء الذى يحرص على جلاء الحقيقة دون اعتبار لمكانة البخارى ومكانة كتابه، كما يتجلى كذلك أن نقادنا قديماً وحديثاً، لم يغفلوا -كما زعم بعض الجاهلين- تناول متن الحديث بالنقد والتمحيص، وعرضه على القرآن الكريم، وعلى السنة الصحيحة، حتى ينفوا عنه الدخيل والموضوع" (3) .

_ (1) الحديث اخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) فى عدة أماكن من صحيحه منها كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة 6/348، 349 رقم 3207، وكتاب مناقب الأنصار، باب المعراج 7/241، 242 رقم 3887. (2) أعلام المحدثين ص 140، 141، وانظر: فى رحاب السنة الكتب الصحاح الستة ص 71، وانظر: فتح البارى 13/ 488، 489 رقم 7517، وانظر دفاع الدكتور رفعت فوزى فى كتابه "أحاديث الإسراء والمعراج دراسة توثيقية" ورده على السيد صالح أبو بكر وغيره ممن حاولوا إنكار السنة جميعها من خلال الهجوم على أحاديث الإسراء والمعراج، وانظر: الإبهاج فى أحاديث المعراج للإمام ابن دحية تحقيق الدكتور رفعت فوزى، وانظر: الإسراء والمعراج للدكتور أبو شهبة. (3) أحاديث الإسراء والمعراج دراسة توثيقية للدكتور رفعت فوزى ص 91، 92 بتصرف.

الجواب عمن تكلم فيه من رجال الصحيحين

الجواب عمن تكلم فيه من رجال الصحيحين: ... فى الصحيحين جماعة جرحهم بعض المتقدمين، وبلغ عدد من تكلم فيه من رجال البخارى ثمانون، ومسلم مائة وستون رجلاً (1) ، منهم عكرمة مولى ابن عباس، وعمرو بن مرزوق وسويد بن سعيد وغيرهم (2) . قد اتخذ أعداء السنة -أعداء الإسلام- ممن تكلم فيه من رجال البخارى ومسلم مدخلاً للطعن والتشكيك فى مكانة الصحيحين (3) . ولا حجة لهم فى ذلك؛ لأن ممن تكلم فيهم من رجال الصحيحين ليس مجمعاً على جرحهم غاية أمرهم: أنه جرحهم وقدح فيهم جماعة بينما عدلهم ومدحهم آخرون، فيكون قد ترجح عند صاحب الصحيح تعديلهم على الأقل فيما أخرجه من حديثهم، وربما أخرج لهم فى المتابعات والشواهد، وإن أخرج لهم فى الأصول فمقصوده أنهم شاركوا غيرهم من الثقات الأثبات؛ فالصحة حاصلة برواية الجميع" (4) . ... قال الحافظ ابن حجر: "ينبغى لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأى راوٍ كان مقتضياً لعدالته عنده، وصحة ضبطه، وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه فى الصحيح؛ فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيها.

_ (1) انظر: هدى السارى ص 13. (2) علوم الحديث لابن الصلاح ص 141 – 142، وانظر: تدريب الراوى 1/305 وفتح المغيث للسخاوى 1/334. (3) انظر: حد الرده لأحمد صبحى منصور ص 85 – 87. (4) الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين لفضيلة الأستاذ الدكتور أحمد محرم 2/229.

هذا إذا خرج له فى الأصول، فأما إن خرج له فى المتابعات، والشواهد، والتعاليق، فهذا بتفاوت درجات من أخرج له منهم فى الضبط وغيره، مع حصول اسم الصدق لهم، وحينئذ إذا وجدنا لغيره فى أحد منهم طعناً فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام، فلا يقبل إلا مبين السبب مفسراً بقادح يقدح فى عدالة هذا الراوى وفى ضبطه مطلقاً أو فى ضبطه لخبر بعينه، لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح، ومنها ما لا يقدح. وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسى يقول فى الرجل الذى يخرج عنه فى الصحيح، هذا جاز القنطرة؛ يعنى بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه، قال الشيخ أبو الفتح القشيرى فى مختصره وهكذا نعتقد وبه نقول ولا نخرج عنه، إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد فى غلبة الظن على المعنى الذى قدمناه، من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما" (1) أ. هـ. ... وقصارى القول وحماداه أن صاحب الصحيح أعرف بما رواه، وليس التكلم فى بعض الرواة بمقدم على توثيق صاحب الصحيح لهم، ولو سلم جرح كل جارح وقبل على إطلاقه ما قبل خبر ولا روى أثر. فأين ذاك الذى سلم من الطعن؟ ومتى كان الطعن مستنداً إلى حجة؟ (2) . قال الحافظ ابن حجر: "واعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن فى جماعة بسبب اختلافهم فى العقائد فينبغى التنبه لذلك وعدم الاعتداد به إلا بحق، وكذا عاب جماعة من الورعين جماعة دخلوا فى أمر الدنيا فضعفوهم لذلك، ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط (3) أ. هـ.

_ (1) هدى السارى ص 403. (2) الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين 2/232. (3) هدى السارى ص 404، وانظر: دفاعه عن الرجال المطعون فيهم ص 405 – 493، وانظر: البيان والتوضيح لمن أخرج له فى الصحيح ومس بضرب من التجريح للحافظ العراقى، ومعرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد للإمام الذهبى.

.. ومن كل ما سبق يظهر فساد ادعاء جولدتسيهر ومن قال بقوله "إن سلطان هذين الكتابين يرجع لأساس شعبى لا صلة له بالتدقيق الحر للنصوص، وهذا الأساس هو إجماع الأمة، وتلقى الأمة لهما بالقبول يرفعهما إلى أعلى المراتب". ... فهذا الكلام فاسد من أساسه، بما سبق بيانه من دراسة الأئمة لكل من الكتابين سنداً ومتناً، وعرضهما على أدق المقاييس النقدية الصحيحة التى اشترطها كل من البخارى ومسلم فى صحيحهما، وظهر من سبر الأئمة وفاء البخارى ومسلم بشرطهما، سوى أحاديث قليلة، والقول فيها قول البخارى ومسلم، وهى صحيحة. فظهر من ذلك الصحيحين ليسا جهد أفراد وإنما جهد أمة، وهم طائفة المحدثين، وهم المشتغلون بهذا الشأن وأعرف الناس به، وهم نقاد الأخبار الذين يتوقف على قولهم قبول الآثار النبوية أو ردها. وهم المعنيون بإجماع الأمة على صحة الكتابين، وتلقيهما بالقبول. وهو إجماع معصوم لا يقدح فيه إلا جاحد مغرور (1) . أما قول جولدتسيهر:"بالرغم من أن نقد هذين الكتابين غير لائق، وغير مسموح به ... " إلخ.

_ (1) يقول ابن خلدون: "… ولا تقولن-بضعف أو سوء حفظ-يتطرق إلى رجال الصحيحين فإن الإجماع قد اتصل فى الأمة على تلقيهما بالقبول، والعمل بما فيهما، وفى الإجماع أعظم حماية وأحسن دفعاً" أ. هـ.، انظر: المقدمة ص 345.

يتناقض مع آخر كلامه من أن الدارقطنى قد صنف فى نقدهما كتابه (الاستدراكات والتتبع) ودعواه أن نقد هذين الكتابين لا يجوز أو غير لائق أو غير مسموح به يكذبه الواقع، بما سبق من استدراك الأئمة الدارقطنى، والدمشقى، والغسانى، وفات هذا المستشرق وغيره من الطاعنين فى مكانة الصحيحين أن الخطورة لا تكمن فى تعرض الكتابين للنقد، ولكنها تكمن فى سلامتهما من الانتقادات أو الطعون التى وجهت إلى بعض أحاديثهما، فليس كل انتقاد يعول عليه، كما أن النقد أو الاستدراك قد يوجه لحالة معينة فيحسب من لا دراية له بهذا الموضوع أن النقد قد شمل كل أحوال الكتاب، كما هو الحال مع استدراكات الأئمة. وقد بين نقاد الحديث أن هذه الاستدراكات غير قادحة (1) فى صحة الصحيحين، ومكانتهما، خلافاً لأعداء السنة الذين يوهمون القارئ بخلاف ذلك. ... يقول فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد محرم: إن نسبة الوهم إلى بعض الرواة ممن روى لهم البخارى ومسلم، تقتضى الدقة فى التفرقة بين نسبة الوهم إلى بعض الرواة لشواهد تنتصب على ذلك، وبين نسبة الضعف أو الوضع إلى الصحيحين لا بحجة أو برهان، وإنما متابعة للشيطان وموافقة للهوى. وكن على حذر من مكمن الخطر فى التقليل من منزلة الصحيحين أو محاولة إنزالهما من عليائهما (2) . فالصحيحان هما أصح ما ألفه المحدثون، وقد أدى مؤلفاهما إلى الدين، وإلى الأمة الإسلامية خدمة جليلة لا تنكر، بل تذكر بالإكبار فتشكر، نسأله عز وجل أن يجزل ثوابهما ما استفاد من الكتابين مستفيد (3) أ. هـ. ...

_ (1) ضوابط الرواية عند المحدثين ص 393، 394 بتصرف. (2) الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين 2/228. (3) فى رحاب الكتب الستة ص 97، ولمزيد من الدفاع عن الصحيحين انظر: الحديث والمحدثون للدكتور أبو زهو ص 399 -403، وكتب السنة دراسة توثيقية للدكتور رفعت فوزى.

ونختم كلامنا عن الصحيحين بكلمة جامعة للشيخ أحمد شاكر –رحمه الله تعالى- نرى أنها عين الحق وندين لله بمضمونها ونلقاه مطمئنين على اعتقاد ما فيها من اليقين قال رحمه الله: "الحق الذى لا مريه فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمر، أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها ليس فى واحد منها مطعن أو ضعف، وإنما انتقد الدارقطنى وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث، على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ فى الصحة الدرجة العليا التى التزمها كل واحد منهما فى كتابه، وأما صحة الحديث فى نفسه، فلم يخالف أحد فيها، فلا يهولنك إرجاف المرجفين، وزعم الزاعمين أن فى الصحيحين أحاديث غير صحيحة، وتتبع الأحاديث التى تكلموا فيها، وانقدها على القواعد الدقيقة التى سار عليها أئمة أهل العلم،، واحكم على بينة، والله الهادى إلى سواء السبيل (1) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) الباعث الحثيث ص 29، وانظر: فى رحاب الكتب الستة ص 72.

الفصل السادس وسيلتهم فى الاعتماد على مصادر غير معتبرة فى التأريخ للسنة ورواتها

الفصل السادس وسيلتهم فى الاعتماد على مصادر غير معتبرة فى التأريخ للسنة ورواتها ويتضمن بيان أساليب دعاة الفتنة وأدعياء العلم فى الطعن فى السنة النبوية من خلال ثلاثة أنواع من المصادر: النوع الأول: مصادر غير معتبرة، وعليها جل اعتمادهم فى الحكم على السنة المطهرة. النوع الثانى: مصادر معتبرة حديثية، وهدفهم من ذلك تضليل القارئ. النوع الثالث: مصادر معتبرة غير حديثية، واعتمادهم ما ورد فيها من أحاديث مكذوبة. الفصل السادس وسيلتهم فى الاعتماد على مصادر غير معتبرة فى التأريخ للسنة ورواتها ... إن من القواعد المعلومة الكلية أن كل علم له مصادره المعتبرة التى تعرف بها حقائقه وقضاياه، فمن عرف بحقائق وقضايا علم ما، واعتمد فى ذلك على مصادر غير معتمدة ولا موثوقة لم يكن لبحثه أية قيمة علمية، ولا لمن يفعل ذلك مكان بين العلماء المحترمين (1) . ... وهذا ما يفعله دعاة الفتنة، وأدعياء العلم من المستشرقين، ودعاة الإلحاد فى أمتنا الإسلامية، تراهم وهم يتحدثون عن قضايا السنة النبوية المطهرة من تدوينها، وحجيتها، ومكانتها التشريعية، ورواتها من الصحابة والتابعين فمن بعدهم - رضي الله عنهم - أجمعين، يعتمدون فى حديثهم عن القضايا السابقة ثلاثة أنواع من المصادر: النوع الأول: مصادر غير معتبرة وعليها جل اعتمادهم فى الحكم على السنة النبوية. النوع الثانى: مصادر معتبرة حديثية وهدفهم من ذلك تضليل القارئ على ما سيأتى. 3- النوع الثالث: مصادر معتبرة غير حديثية، واعتمادهم ما ورد فيها من أحاديث مكذوبة. أما النوع الأول مصادرهم الغير معتبرة فتتنوع إلى ما يلى:

_ (1) انظر: السنة ومكانتها للدكتور السباعى ص 28.

1- كتب خصوم السنة وأهلها من الخوارج، والرافضة، والمعتزلة، والباطنية، كالأصفهانى (1) ؛ صاحب كتاب الأغانى (2) . وما كتبه أعداء الإسلام من المستشرقين بروح الحقد، والتعصب الأعمى ضد الإسلام والمسلمين فى "دوائر معارفهم -الغير إسلامية" وغير ذلك من كتبهم المسمومة. 2- كتب لا صلة بينها وبين علوم السنة ككتب الأدب، واللغة، والنحو، والشعر، والتاريخ لغير المحدثين. كتب من وضع الزنادقة، ولا يعرف لها مؤلف كألف ليلة وليلة (3) .

_ (1) الأصفهانى هو: على بن الحسين بن الهيثم الآموى، أبو الفرج الأصفهانى، كان شاعراً، مصنفاً، أديباً، قال الذهبى: والعجب أنه شيعى وهذا نادر فى أموى، وقال ابن الجوزى: إنه ومثله لا يوثق بروايته فإنه يصرح فى كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهوى شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، من مؤلفاته: الأغانى والأخبار والنوادر، وأخبار الطفيليين وغير ذلك. مات سنة 356هـ. له ترجمة فى: لسان الميزان 5/13 رقم 5837، والبداية والنهاية 11/280، والفهرست ص 183، 184، ووفيات الأعيان 3/307 رقم 417، وميزان الاعتدال 3/123 رقم 5825، وتنزيه الشريعة لابن عراق 1/87 رقم 304. (2) انظر: خطورة هذا الكتاب، وكيف اتكأ عليه أكثر من مستشرق، هو وكتاب ألف ليلة وليلة، فى طعنهم فى رواة السنة، وفتاوى الأئمة، وآراء الفقهاء، وتاريخ المسلمين، وأوعزو إلى = =المستغربين من أبناء أمتنا بالاعتماد عليه فى التأريخ لتاريخنا الإسلامى المجيد، انظر فى تفصيل ذلك أصالة الفكر الإسلامى فى مواجهة التغريب والعلمانية والتنوير الغربى للأستاذ أنور الجندى ص 410-416، وانظر له أيضاً: مقدمات العلوم والمناهج 1/369، 4/182، 188، وانظر: المستشرقون والتراث للدكتور عبد العظيم الديب ص 19-22. (3) انظر: أصالة الفكر الإسلامى ص 410-416، والمستشرقون والتراث ص 19-22.

المصادر التى اعتمد عليها الصنم الأكبر للمستشرقين "جولدتسيهر"

وحتى لا يقال إن فى هذا الكلام إجحاف وتجن على أصحاب المنهج العلمى -المزعوم- "وأهل التحقيق والتمحيص" لننظر فى المصادر التى اعتمد عليها الصنم الأكبر للمستشرقين "جولدتسيهر" وهو يهاجم السنة المطهرة فى كتابه "دراسات محمدية" (1) . نقل جولد تسيهر من كتب السنة الستة وموطأ مالك، وسنن الدارمى، ومصابيح السنة للبغوى، وهو وغيره فى هذه الكتب المعتمدة، يخدعون قارئهم على ما سيأتى. ... أما المصادر التى يعتمدها غالباً فى إصدار أحكامها فهى: حياة الحيوان الكبرى للدميرى. أدب القاضى للخصافى. الأغانى لأبى الفرج الأصفهانى. معجم الأدباء لياقوت الحموى. سيرة سيف بن ذى يزن. سيرة عنترة بن شداد. كتاب الخراج لأبى يوسف. فهرس ابن النديم. كشف الظنون لحاجى خليفة … إلخ. ... وهذا غير المراجع التى قدمها نظراؤه من المستشرقين، وكتبت بلا إنصاف، واعتمدت على مثل ما اعتمد عليه من المصادر (2) . ... ولننظر فى مصادر محمود أبو ريه فى كتابه "أضواء على السنة" (3) ، والتى اعتمد عليها فى تحقيقه العلمى المزعوم. فهو كسابقه اعتمد أيضاً على كتب السنة الستة والموطأ، والدارمى وغير ذلك من مصادر معتمدة وكان الهدف من ذلك خداع القارئ وإيهامه بأهمية البحث - كما سيأتى مفصلاً بعد قليل. ... أما المصادر التى اعتمد عليها فى إصدار أحكامه على السنة المطهرة ورواتها فهى: تاريخ التمدن الإسلامى لجرجى زيدان. العرب قبل الإسلام لجرجى زيدان. دائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين.

_ (1) هذا على سبيل المثال فى كتابه هذا، وقس على ذلك فى بقية كتبه "العقيدة والشريعة فى الإسلام" و "مذاهب التفسير الإسلامى" كما قس على ذلك غيره من المستشرقين. انظر: المستشرقون والتراث ص 19-22. (2) انظر: ضوابط الرواية عند المحدثين ص 306 – 313 بتصرف. (3) هذا على سبيل المثال فى كتابه هذا وقس على ذلك فى كتابه شيخ المضيرة أبو هريرة، وقس على مصادر أبى رية غيره من أعداء السنة.

النوع الثانى من مصادر أعداء السنة فمصادر معتبرة

تاريخ الشعوب الإسلامية لكارل بروكلمان. المسيحية فى الإسلام للقس إبراهيم لوقا. العقيدة والشريعة فى الإسلام لجولدتسيهر. أحاديث عائشة للسيد مرتضى العسكرى. ابن سبأ للسيد مرتضى العسكرى. أبو هريرة لعبد الحسين شرف الدين. أصل الشيعة وأصولها محمد الحسين آل كاشف. البيان والتبين للجاحظ. والحيوان للجاحظ … إلخ. ... وبهذه اللمحة السريعة فى مصادر بعض الطاعنين فى السنة المطهرة: يتضح بشكل جلى عدم نفعها فى أى دراسة للحديث الشريف، إما لبعد مادة بعضها عن الحديث الشريف، أو لأن البعض الآخر منها لا ينفع، لتحامل أصاحبها، وجلهم من المستشرقين، وغلاة الشيعة (1) ... أما النوع الثانى من مصادر أعداء السنة فمصادر معتبرة فى الحديث، والتفسير، والفقه، وعلوم القرآن، والسنة، وكتب الدفاع عنها، وقصدوا من وراء ذلك إيهام القارئ بأهمية بحوثهم، وأن تلك المصادر تنتهى إلى ما انتهوا إليه فى بحوثهم، والحق أنها كلها تكذبهم فى دعواهم. وإلا فهل هناك عاقل يجرؤ على القول بأن ما ذكره محمود أبو ريه من مصادر معتبرة تنتهى فى نتيجتها إلى ما انتهى إليه من طعن فى حجية السنة المطهرة، ورواتها الثقات الأعلام: كالمصادر التالية: تذكرة الحفاظ للذهبى. شروط الأئمة الستة والخمسة للمقدسى والحازمى. مقدمة ابن الصلاح. قواعد التحديث للقاسمى. شرح القارئ على نخبة الفكر لابن حجر. تقييد العلم للخطيب البغدادى. الموافقات والاعتصام للشاطبى. الإحكام للآمدى. الإحكام لابن حزم. ومنهاج السنة لابن تيمية. جامع بيان العلم وفضله. البداية والنهاية لابن كثير. والعواصم من القواصم للقاضى ابن العربى. وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة. فهل يجرؤ عاقل على القول: بأن تلك المصادر المعتمدة التى ذكرها محمود أبو رية وغيرها يقول أصحابها بمثل قوله الخبيث أو تنتهى إلى ما انتهى إليه "سبحانك هذا بهتان عظيم".

_ (1) انظر: ضوابط الرواية عند المحدثين، ص 311.

وقس على ذلك سائر دعاة الفتنة وأدعياء العلم من المستشرقين ودعاة اللادينية عندما يستشهدون فى هجومهم على السنة المطهرة بمصادر معتمدة، فالأمر لا يخرج عن إيهام القارئ وتضليله بأن أصحاب تلك المصادر الموثوقة ينتهون إلى ما انتهوا إليه. ... أما إذا ذكروا من تلك المصادر المعتبرة حقائق مسلماً بها عند أهل العلم فلا يخرج حالهم فى هذه الحالة عن ثلاثة أمور: أولهما: الاستشهاد بتلك الحقائق المسلم بها فى غير موضعها إيهاماً للقارئ بأن أصحاب تلك المصادر المعتبرة التى ذكرت تلك الحقائق يلتقون معهم فى فكرتهم ومقصدهم، ومن ذلك ما سبق فى شبهة الوضع، وكثرة الوضاعين، واستشهادهم بكلام الأئمة فى أسباب الوضع وأصناف الوضاعين بأن ذلك أضعف الثقة بالسنة وبحجيتها (1) هذا فى حين ذكر علماء المسلمين أسباب الوضع وأصناف الوضاعين فى مصادرهم لبيان جهود المحدثين فى كشف الكذابين، وأنه لم يخف أمرهم على حفاظ السنة، وأنها خرجت سليمة معافاة من فتنة الوضاعين فذكروا كل هذا كميزة وفضيلة (2) . إلا أن أعداء السنة نقلوا من مصادر علماء المسلمين تلك الميزة واستشهدوا بها فى غير موضعها ونشروها على أنها نقيصة. فتأمل كيف ينشرون مميزات السنة على أنها عيوب. ومن ذلك أيضاً ما سبق فى مسألة (استقلال السنة المطهرة بتشريع الأحكام) واتخاذ أعداء السنة كلام الإمام الشاطبى فى تلك المسألة ستاراً للتشكيك والطعن فى حجية السنة ومكانتها التشريعية (3) . ثانيهما: الاستشهاد من المصادر المعتبرة بحقائق مسلم بها لكنها "مبتورة" فيكتفون بذكر ما يشهد لدعواهم، ويغضون الطرف عما يفحمهم.

_ (1) راجع: إن شئت ما سبق فى الجواب عن شبهة الوضع ص 391. (2) راجع: إن شئت جهود حملة الإسلام فى مقاومة حركة الوضع والوضاعين ص 405-416. (3) راجع: ص 519-534.

ومن ذلك مما سبق فى "شبهة النهى عن كتابة السنة" حيث نقلوا من المصادر المعتبرة المؤرخة لذلك، الباب الذى يؤيدهم فى دعواهم كـ "باب الآثار والأخبار الواردة عن كراهة كتاب العلم"، وغضوا الطرف عن بقية الأبواب الواردة فى نفس المصادر المعتبرة التى استشهدوا بها، والتى ترد على شبهتهم، كـ "باب وصف العلة فى كراهية كتابة الحديث"، و"باب الآثار والأخبار الواردة عن إباحة كتابة العلم" (1) . ... ثالثهما: الاستشهاد من المصادر المعتبرة بتحريف النصوص عن مواضعها وهذا من مأخذ أهل البدع بالاستدلال (تحريف الأدلة عن مواضعها) كما قال الشاطبى (2) . ... ومن ذلك ما سبق فى "شبهة الاكتفاء بالقرآن، وعدم الحاجة إلى السنة المطهرة"، وتحريف أحمد صبحى منصور، وجمال البنا لكلام الحافظ ابن حجر فى شرحه للمراد من حديث عبد الله بن أبى أوفى فى وصية النبى صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الكتاب. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-:"الاقتصار على الوصية بالكتاب لكونه أعظم وأهم، ولأن فيه تبيان كل شئ إما بطريق النص، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم به لقوله تعالى: {وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) . أما أحمد صبحى منصور فاستشهد بكلام الحافظ ونقل كلامه هذا مبتوراً محرفاً بحذفه لفظه (النبى صلى الله عليه وسلم) فصارت العبارة: "فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به".

_ (1) راجع: ص 260، 261. (2) الاعتصام 1/202. (3) جزء من الآية 7 من سورة الحشر.

النوع الثالث من مصادر أعداء السنة فمصادر معتبرة غير حديثية

وكذلك صنع جمال البنا استشهد بكلام الحافظ مبتوراً محرفاً فقال: "أى التمسك به "يعنى القرآن" والعمل بمقتضاه إشارة إلى قوله: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله" (1) وترك بقية كلام الحافظ ابن حجر أن عمل الناس بالكتاب يقتضى العمل بكل ما أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم به لقوله تعالى: {وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) . أما النوع الثالث من مصادر أعداء السنة فمصادر معتبرة غير حديثية، يستشهدون بما فيها من أحاديث ضعيفة أو موضوعة تشهد لدعواهم. ومن ذلك استشهادهم بحديث عرض السنة على القرآن: "إذا روى لكم عن حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه، وإلا فردوه" (3) واعتمادهم صحة الحديث لمجرد وروده فى بعض كتب الفقه أو الأصول كالمحصول فى أصول الفقه (4) ، وأصول السرخسى (5) ، والمعتمد فى أصول الفقه (6) . وقد نقل غير واحد من أهل الزيغ والهوى هذا الحديث من مصادر معتبرة غير حديثية موهماً أن أصحاب تلك المصادر يقولون بعرض السنة على القرآن، بمفهومهم القائم على رد الحديث بمجرد التعارض الظاهرى حتى مع إمكان الجمع والتأويل. ... وممن فعل ذلك أحمد حجازى السقا فى كتابه "دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى" عزا حديث "عرض السنة على القرآن" إلى المحصول للرازى، موهماً أن الرازى، والفقهاء يقولون بالحديث (7) ، فى حين أن الرازى يحكى مخالفة عيسى بن أبان لجمهور علماء المسلمين بإيجابه عرض خبر الآحاد على القرآن الكريم (8) .

_ (1) سبق تخريجه ص 196، وانظر: المستشرقون والتراث للدكتور الديب ص 28 - 41. (2) راجع إن شئت ص 196. (3) سبق تخريجه وبيان وضعه انظر: ص218-223. (4) المحصول 2/215 (5) أصول السرخسى 1/365. (6) المعتمد فى أصول الفقه 2/80. (7) دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص 110. (8) المحصول 2/215.

ويجاب عن استشهادهم بأحاديث مكذوبة وردت فى مصادر معتبرة غير حديثية بما هو مقرر عند أهل الحديث وهو: أنه لا يكتفى بعزو الحديث إلى من ليس من أهله دون بيان: وإن جل كعظماء المفسرين، والفقهاء، والمتصوفة، والمؤرخين، وغيرهم، بل لابد من معرفة تعقبات المحدثين على ما أوردوه فى كتبهم وذكره عند العزو إليها، ما لم يكونوا من أئمته، أو دراسة أسانيدها ومتونها - إذا كانت خالية من تعقبات المحدثين ولم يكونوا من أئمته دراسة دقيقة فاحصة لمتبحر فى الحديث وعلومه، للوصول من وراء ذلك إلى الحكم بصحة الحديث أو ضعفه أو الحكم عليه بالوضع (1) كما فى حديث عرض السنة على القرآن.

_ (1) كشف اللثام عن أسرار تخريج أحاديث سيد الأنام 1/31.

.. وفى ذلك يقول الإمام عبد الرءوف المناوى (1) : "فلا أعزوا إلى شئ منها "أى المصادر" ولا أكتفى بعزوه إلى من ليس من أهله وإن جل كعظماء المفسرين … فكتب التفسير مشحونة بالأحاديث الموضوعة، وكأكابر الفقهاء "أى غير الأئمة الأربعة" فإن الصدر الأول من أتباع المجتهدين لم يعتنوا بضبط التخريج وتمييز الصحيح من غيره، فوقعوا فى الجزم بنسبة أحاديث كثيرة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وفرعوا عليها كثيراً من الأحكام مع ضعفها، بل ربما دخل عليهم الموضوع "نسياناً أو غلطاً دون عمد" (2) . ومثل هذه الأخطاء الحديثية لهؤلاء العلماء الأجلاء وهم غير متخصصين فى الحديث وعلومه - لا تقدح فى منزلتهم العلمية، ولا فى مؤلفاتهم ولا فى سلامة الأغراض التى من أجلها ألفوا كتبهم" (3) .

_ (1) هو: الإمام الحافظ عبد الرءوف بن تاج الدين المناوى، بضم الميم الشافعى القاهرى، من مؤلفاته: فيض القدير بشرح الجامع الصغير، والجامع الأزهر، وغير ذلك، مات سنة 1031هـ.= =له ترجمة فى: هداية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين لإسماعيل باشا 1/510،511، وكشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون للحاجى خليفة 1/561، والرسالة المستطرفة للكتانى ص 184. (2) فيض القدير 1/20، 21 بتصرف، وانظر: قواعد التحديث للقاسمى ص 182، 183 ومن الأمثلة علىذلك حديث:"من قضى صلاته من الفرائض فى آخر جمعة من رضان، كان ذلك جابراً لكل صلاة فاتنة فى عمره إلى سبعين سنة" قال العلامة ملا على القارى باطل قطعاً ولا عبرة بنقل صاحب النهاية وغيره من بقية شراح الهداية، فإنهم ليسوا من المحدثين، ولا أسندوا الحديث إلى أحد من المخرجين" انظر: الموضوعات الكبرى ص 242 رقم 953، وانظر: الأجوبة الفاضلة ص 29 - 35. (3) كشف اللثام 1/33

.. قال الإمام المناوى: "وهذا لا يقدح فى جلالتهم، بل ولا فى اجتهاد المجتهدين إذ ليس من شرط المجتهد الإحاطة بحال كل حديث فى الدنيا" (1) أ. هـ. ... قال العلامة اللكنوى: فإن قال قائل: فما بالهم أوردوا فى تصانيفهم الأحاديث الموضوعة – مع جلالتهم ونباهتهم – ولِمَ لم ينقدوا الأسانيد مع سعة علمهم؟ قلت: لم يُوردوا ما أوردوا: مع العلم بكونه موضوعاً، بل ظنَّوه مروياً وأحالوا نقد الأسانيد على نُقَّادِ الحديث، لكونهم أغنوهم عن الكشف الحثيث، إذ ليس من وظيفتهم البحث عن كيفية رواية الأخبار، إنما هو من وظيفة حملة الآثار، فلكل مقام مقال، ولكل فن رجال" (2) أ. هـ. وبعد ... فإن وسائل أعداء السنة فى الكيد لها لا تقف عند حد، وصدق الإمام الشاطبى –رحمه الله -: "ومن نظر إلى طريق أهل البدع فى الاستدلالات عرف أنها لا تنضبط، لأنها سيالة لا تقف عند حد" (3) . ... وبحسب كل مسلم أن يتنبه إلى القواعد الكلية التى ينطلقون منها للكيد للسنة المطهرة، ويعرف بطلان تلك القواعد، وأنه لا أساس لها فهى كمثل بيت العنكبوت. قال تعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (4) وهذا ما حرصت على تفصيله فى الفصول السابقة. ... ونأكده فى الباب الثالث بذكر نماذج من الأحاديث الصحيحة التى طعن فيها أهل الزيغ والهوى، والجواب عنه. فإن بيان ذلك.

_ (1) فيض القدير 1/21. (2) الأجوبة الفاضلة للكنوى ص 35، وانظر: قواعد التحديث للقاسمى ص 183. (3) الاعتصام 1/232. (4) الآية 41 من سورة العنكبوت.

الباب الثالث: نماذج من الأحاديث الصحيحة المطعون فيها

الباب الثالث: نماذج من الأحاديث الصحيحة المطعون فيها والجواب عنها وتحته تمهيد وعشرة فصول: التمهيد ويتضمن بيان: أ- طبيعة نقد الأحاديث الصحيحة عند أعدائها. ب- طبيعة الأحاديث الصحيحة المطعون فيها. الفصل الأول: حديث "إنما الأعمال بالنيات". الفصل الثانى: حديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف". الفصل الثالث: أحاديث "رؤية الله عز وجل" و"محاجة آدم موسى عليهما السلام" و"الشفاعة". الفصل الرابع:أحاديث ظهور"المهدى"وخروج"الدجال"و"نزول المسيح عليه السلام" الفصل الخامس: حديث "عذاب القبر ونعيمه". الفصل السادس: أحاديث "خلوة النبى صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار" و"نوم النبى صلى الله عليه وسلم عند أم سليم أم حرام" وحديث "سحر النبى صلى الله عليه وسلم". الفصل السابع: حديث "رضاعة الكبير". الفصل الثامن: حديث "وقوع الذباب فى الإناء". الفصل التاسع: ثمرات ونتائج الحديث الصحيح. الفصل العاشر: مضار رد الأحاديث النبوية الصحيحة. التمهيد ويتضمن بيان أ- طبيعة نقد الأحاديث الصحيحة عند أعدائها. ب- طبيعة الأحاديث الصحيحة المطعون فيها. ... يحرص أعداء السنة - أعداء الإسلام - فى عصرنا على تناول الأحاديث الصحيحة، وخاصة صحيحى البخارى ومسلم بالنقد والتجريح، المزور الباطل، وذلك كى يصلوا فى النهاية إلى التشكيك فى السنة جميعها وصرف المسلمين عنها، ويركزون على الصحيحين لأنه بسقوط الرأس يسقط الجسد كله. وقد عرفنا منذ قليل أن الصحيحين وهما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل ليسا جهد أفراد، وإنما هما جهد أمة، من جهابذة المحدثين، تناولوا الكتابين بالنقد والدراسة، وأسفرت تلك الدراسة عن صحة الكتابين صحة لا يشوبها أدنى شك، سوى أحرف يسيرة لا يصل الحال بها أبداً إلى درجة الوضع، بل ولا حتى إلى درجة الضعف الذى لا يحتمل، وإنما غاية هذه الأحرف قصور شروط الصحة فيها عما التزمه الشيخان من إخراج أصح الصحيح.

أ- طبيعة نقد الأحاديث الصحيحة عند أعدائها:

.. وقد عرفنا أيضاً أن المحدثين لم يقصروا فى نقد المتن، كما يزعم من عميت بصيرتهم، وكيف يقصرون! وهل قام علم الحديث دراية بجميع أنواعه إلا لخدمة علم الحديث رواية؟ وكيف يقصرون وما وضعوه من شروط لصحة الحديث من اتصال السند، وعدالة الراوى، وضبطه، وعدم الشذوذ، وعدم العلة - إلا لضمان سلامة المتن، والتأكد من صحة نسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم. وعرفنا كيف أن ما يبدوا ظاهراً من الشروط الخمسة من اختصاصه بالسند هو فى الحقيقة متعلق بالمتن ظاهراً وباطناً. أ- طبيعة نقد الأحاديث الصحيحة عند أعدائها: ... إن هؤلاء النابتة من أعداء ديننا وأمتنا، اتخذوا من تحكيم عقولهم الزائغة القاصرة، المقياس الأول والأخير فى نقدهم للأحاديث والحكم عليها، ويتخذون من ذلك ذريعة إلى إنكار الأحاديث، وتخطئة علماء السنة، وتخطئة الجمهرة من المسلمين الذين اهتدوا بهديهم وعلمهم، وساروا على دربهم، يدفعهم إلى ذلك عمى بصيرة، وحقد دفين على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يهدفون إلى أن يبتعد الناس عن نور النبوة المباركة وهديها المستقيم، وهم يطوون حقدهم وأهدافهم وراء تناول بعض الأحاديث التى تحتاج إلى فهم خاص، يتلاءم مع مبادئ الإسلام، والفهم الصحيح لتعاليمه وقيمه (1) ، مثل حديث (رضاعة الكبير) وسيأتى ذكره والجواب عنه بإذن الله تعالى.

_ (1) انظر: كتب السنة دراسة توثيقية للدكتور رفعت فوزى ص 108، 109 بتصرف.

ب- طبيعة الأحاديث الصحيحة المطعون فيها:

ب- طبيعة الأحاديث الصحيحة المطعون فيها: ... طبيعة الأحاديث التى اتخذها دعاة الفتنة وأدعياء العلم وسيلة للنيل من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنيل من رواتها الثقات الأعلام من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين فمن بعدهم من أئمة المسلمين أصحاب المصنفات الحديثية - شملت أبواب السنة كلها من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والفتن، والرقائق، والطب، والسيرة … إلخ. وهم يحرصون دائماً وهم يطعنون فى الأحاديث الصحيحة، أن تكون تلك الأحاديث من الأصول، والعقائد لزعزعة قلوب المؤمنين بعقائدهم حتى يصلوا إلى غايتهم قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (1) . ... وسوف نذكر نماذج من تلك الأحاديث الصحيحة التى طعنوا فيها فى ثمانية فصول. الفصل الأول: حديث "إنما الأعمال بالنيات" وتحته مبحثان: المبحث الأول: شبه الطاعنين فى حديث "إنما الأعمال بالنيات" والرد عليها. المبحث الثانى: مكانة حديث "إنما الأعمال بالنيات".

_ (1) الآية 89 من سورة النساء.

المبحث الأول: شبه الطاعنين فى حديث "إنما الأعمال بالنيات" والرد عليها

المبحث الأول: شبه الطاعنين فى حديث "إنما الأعمال بالنيات" والرد عليها ... أخرج الإمام البخارى فى صحيحه بسنده عن علقمة بن وقاص الليثى (1) قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى: فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". ... هذا الحديث الذى يمثل أصلاً من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده طعن فيه الصنم الأكبر للمستشرقين – جولدتسيهر – وضربه مثلاً على ما ذهب إليه من أن الحديث نتيجة للتطور الدينى خلال القرون الأولى، وقال: "وقد ارتفع شأن هذا الحديث إلى أن صار فكرة تسيطر على كل الأعمال الدينية يقول الله تعالى: "لاقونى بنياتكم ولا تلاقونى بأعمالكم" وهو حديث متأخر ظهر كصدى لاقتناع المؤمنين بذلك، وعلامة على قيمة أعمالهم الدينية" (2) . وتابع طعناً فى صحة الحديث دعاة اللادينية، يقول نيازى عز الدين: "إن هذا الحديث أحد ثلاثة أحاديث خطيرة افتراها جنود السلطان لقلب دين الله الذى فى القرآن؛ إلى دين السلطان الموجود فى أحاديث جنوده (3) .

_ (1) علقمة بن وقاص الليثى المدنى، ثقة ثبت، اخطأ من زعم أنه له صحبة. وقيل إنه ولد فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم روى عن عمر، وعائشة، وعنه ابناه، ومحمد بن إبراهيم التيمى، والزهرى مات فى خلافة عبد الملك بن مروان. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/687 رقم 4701، والكاشف 2/35 رقم 3877، والجرح والتعديل 6/405 رقم 2259، والثقات للعجلى ص 342 رقم 1164، وتذكرة الحفاظ 1/53 رقم 35، ومشاهير علماء الأمصار ص 89 رقم 459. (2) العقيدة والشريعة فى الإسلام ص 53، ودراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير، نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 11/544. (3) دين السلطان ص 560.

وبهذا الحديث استحل فى نظره – أئمة المسلمين ورواة السنة الثقات – جنود السلطان عنده – استحلوا بهذا الحديث التحايل فى دين الله، وحجته فى ذلك افتتاح الإمام البخارى به كتاب الحيل من صحيحه قال: حديث "إنما الأعمال" أول حديث يفتتح به البخارى فى صحيحه كتاب الحيل لأنه حجر الزاوية بالنسبة لكل تلك الأحاديث المفتراه على الله والرسول، فوضعها لنا فى أول جملة من كتابه، حتى يدل من كان يريد أن يعرف أن ذلك الحديث، كان المفتاح الذهبى لكل أبواب الاحتيال فى دين السلطان، التى فتحت كل تلك الأبواب على مصراعيها لجنود السلطان من أجل، تأليف فقه دين السلطان"] (1) أ. هـ. ... ويجاب على ما سبق بما يلى: أولاً: حديث "إنما الأعمال بالنيات" صحيح متفق على صحته (2) . قال الحافظ ابن حجر: "إن هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ" (3) .

_ (1) المصدر السابق ص 560، وانظر من نفس المصدر: ص 206، 672، وانظر: إنذار من السماء 697، وتبصير الأمة بحقيقة السنة إسماعيل منصور ص 353، والسنة ودورها فى الفقه الجديد جمال البنا ص158. (2) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" فى عدة أماكن من صحيحه منها، كتاب بدء الوحى، باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/15 رقم 1، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنية 7/61 رقم 1907، وأخرجه مالك فى الموطأ برواية محمد بن الحسن فى باب النوادر ص 341 رقم 983. (3) ظن الحافظ ابن حجر فى فتح البارى 1/17، وفى التلخيص الحبير أن البخارى ومسلم أخرجا الحديث عن مالك وليس فى الموطأ، وقد نبه الحافظ السيوطى على خطئه فى كتابه "منتهى الآمال فى شرح حديث إنما الأعمال" أ. هـ. أفاده فضيلة الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف على هامش الموطأ برواية الشيبانى ص 341.

ثانياً: هنالك كثير من نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة التى جاءت فى معنى هذا الحديث، تحث على الإخلاص وتذم الرياء مثل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (1) والآية تخاطب أهل الكتابين، وفى ذلك اشتراط النية فى صحة الأعمال للأمم السابقة (2) وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (4) ومن الأحاديث: حديث عائشة –رضى الله عنها – مرفوعاً: "يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا بِبَيداءَ من الأرض يُخسفُ بأولهم وآخرهم. قالت. قلت: يا رسول الله كيف يُخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أَسْوَاقُهُم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم" (5) وفى الحديث أيضاً عن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه مرفوعاً: "من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله" (6)

_ (1) الآية 5 من سورة البينة. (2) انظر: فتح البارى 1/16. (3) الآيتان 15، 16 من سورة هود. (4) الآية 110 من سورة الكهف. (5) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب البيوع، باب ما ذكر فى الأسواق4/397 رقم2118 واللفظ له، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب الخسف بالجيش الذى يؤم البيت 9/233 رقم 2884. (6) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا 6/33، 34 رقم 2810، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله 7/56، 57 رقم 1904 واللفظ لمسلم.

والأدلة من القرآن الكريم والسنة المطهرة كثيرة جداً فى تأييد معنى الحديث. ولكن جولدتسيهر ومن قال بقوله لم يطعن فى هذا الحديث من فراغ، فقد كان يعلم قدره وعظمته ومكانته فى الإسلام، وبذلك صرح فى كتابه دراسات محمدية قائلاً: "ويعد كلام النبى هذا واحداً من أعظم مبادئ الإسلام، ويعد واحداً من أربعة مبادئ أساسية عليها مدار الإسلام" (1) . وهنا يظهر تناقض جولدتسيهر حيث يذهب بأن الحديث من وضع الفقهاء، ونتيجة للتطور الدينى للإسلام، كما زعم فى كتابه العقيدة والشريعة، وهنا فى كتابه دراسات محمدية، يقر بأن الحديث من كلام النبى صلى الله عليه وسلم، وروى فى عهود مبكرة فى المدينة، ولم يقل وضعه الفقهاء وإنما قال: "وقد طبق الفقهاء هذه العبارة لكونها مبدأ أسمى فى معالجة المسائل الدينية والشرعية" (2) . ... وعلى كل حال فدعواه بأن الحديث متأخر، قد ظهر لك بطلانها من نص الحديث حيث خطب به الفاروق عمر رضي الله عنه وأسنده إلى الرسول، وصدق عليه من سمعه، وهم جمهور كبير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الإمام العينى أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطب به لما قدم المدينة (3) .

_ (1) دراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 10 ص544، 545. (2) دراسات محمدية نقلاً عن المصدر السابق ص 545، 546. (3) انظر: عمدة القارى 1/17.

أما قول جولدتسيهر: "لاقونى بنياتكم ولا تلاقونى بأعمالكم" فهذا خلاف ما دل عليه الحديث، فإن الحديث لم ينف الأعمال، بل شرط لصحتها النية، إذ العمل مطلوب شرعاً كما قال سبحانه: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) وقرنه بالإيمان فى أكثر من آية: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (2) . وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (3) أ. هـ. ... أما ما زعمه بعض النكرات أن أئمة المسلمين وضعوا حديث "إنما الأعمال"، واستحلوا به التحايل فى دين الله بحجة افتتاح الإمام البخارى للحديث فى كتاب الحيل من صحيحه فهذا من تضليله وجهله. أما تضليله فهو عدم ذكره اسم الباب الذى ذكر الإمام البخارى الحديث تحته وهو باب بعنوان "فى ترك الحيل وأن لكل إمرئ ما نوى فى الأيمان وغيرها". وواضح من عنوان الباب إبطال زعم النكرة أن الحديث دليل على استحلال الحيل. أما جهله فهو قلة عقله فى استيعاب فقه الإمام البخارى فى تراجمه فى أبوابه، وأنى له إدراك ذلك، وتلك "التراجم حيرت الأفكار، وأدهشت العقول والأبصار، ولقد أجاد القائل: أعى فحول العلماء حل رموز ما أبداه فى الأبواب من أسرار" (4) .

_ (1) الآية 72 من سورة الزخرف. (2) سورة العصر. (3) أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم 8/363 رقم 2564 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 2/48، 49. (4) انظر: هدى السارى ص 16، وتيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير لفضيلة الأستاذ الدكتور مروان شاهين ص 152.

.. فالإمام البخارى رحمه الله تعالى افتتح كتابه الحيل بحديث "إنما الأعمال بالنيات" وعنون للباب قبل ذكر الحديث بباب فى ترك الحيل …" (1) فأدخل كلمة "الترك" لئلا يتوهم أحد من أدعياء العلم من ترجمة الكتاب "كتاب الحيل" إجازة الحيل. قال الحافظ ابن حجر فى شرحه لعنوان الباب قال: قوله: "باب ترك الحيل" قال ابن المنير: أدخل البخارى الترك فى الترجمة، لئلا يتوهم أى من ترجمة الكتاب "كتاب الحيل" إجازة الحيل عموماً، فإن القول بجوازها عموماً إبطال حقوق وجبت، وإثبات حقوق لا تجب، فتحرى فيها لذلك. قال ابن حجر قلت: وإنما أطلق أولاً "كتاب الحيل" للإشارة إلى أن من الحيل ما يشرع فلا يترك مطلقاً. فضابطها إن كانت للفرار من الحرام، والتباعد من الإثم فحسن، وإن كانت لإبطال حق مسلم فلا بل هى إثم وعدوان" (2) . وقال ابن قيم الجوزية: "الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام، وتخليص الحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغى، فهذا النوع محمود يثاب فاعله. ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً والحق باطلاً والباطل حقاً، فهذا النوع الذى اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض" (3) . فإذا كان من النوع الباطل إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً. فهل هناك مسلم يجرؤ على القول بأن أئمة المسلمين ورواة السنة الثقات استحلوا أكبر الكبائر بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسبه شئ لم يقله، وجعله شرعاً إلى يوم الدين؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.

_ (1) انظر: صحيح البخارى "بشرح فتح البارى" 12/342 رقم 6953. (2) فتح البارى 12/342، 343 بتقديم وتأخير. (3) إغاثة اللهفان 1/354.

يقول ابن قيم الجوزية: "إن هذه الحيل المحرمة لا تجوز أن تنسب إلى إمام، فإن ذلك قدح فى إمامته، وذلك يتضمن القدح فى الأمة حيث إئتمت بمن لا يصلح للإمامة، وهذا غير جائز، ولو فرض أنه حكى عن واحد من الأئمة بعض هذه الحيل المجمع على تحريمها فإما أن تكون الحكاية باطلة، أو يكون الحاكى لم يضبط لفظه …، ولو فرض وقوعه منه فى وقت ما فلابد أن يكون قد رجع عن ذلك، وإن لم يحمل الأمر على ذلك لزم القدح فى الإمام، وفى جماعة المسلمين المؤتمين به، وكلاهما غير جائز، ولا خلاف بين الأمة؛ أنه لا يجوز الإذن فى التكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض، إلا المكره إذا اطمأن قلبه بالإيمان، ثم إن هذا على مذهب أبى حنيفة وأصحابه أشد (1) ، فإنهم لا يأذنون فى كلمات وأفعال دون ذلك بكثير، ويقولون: إنها كفر، حتى قالوا: لو قال الكافر لرجل: "إنى أريد أن أسلم" فقال له: "اصبر ساعة" فقد كفر، فكيف بالأمر بإنشاء الكفر؟ وقالوا: لو قال "مسيجد" أو صغر لفظ المصحف كفر.فعلمت أن الأئمة أعلم بالله ورسوله، ودينه، وأتقى له من أن يجيزوا، فضلاً عن أن يستحلوا–الحيل التى هى كفر أو حرام" (2) ، ولا ينسب ذلك إليهم إلا مارق ضال محتال.

_ (1) يقول ابن قيم هذا فى حقهم، دفاعاً عما نسب إلى الإمام وأصحابه من تجويز الحيل والفتوى بها (2) أعلام الموقعين 3/190، 191 بتصرف يسير، وللمزيد من الرد على تحريم الحيل، والرد على المجوزين لها انظر: ما كتبه الإمام الفذ ابن قيم فى كتابيه أعلام الموقعين، وإغاثة اللهفان فقد أفاض وأجاد فى تفصيل ذلك.

.. قال الحافظ ابن حجر: وقول البخارى: "وإن لكل امرئ ما نوى فى الأيمان وغيرها" من تفقه المصنف لا من الحديث قال ابن المنير: اتسع البخارى فى الاستنباط، والمشهور عند النظار حمل الحديث على العبادات فحمله البخارى عليها، وعلى المعاملات، وتتبع مالكاً فى القول بسد الذرائع، واعتبار المقاصد، فلو فسد اللفظ، وصح القصد ألغى اللفظ، وأعمل القصد، تصحيحاً وإبطالاً، قال: والاستدلال بهذا الحديث على سد الذرائع، وإبطال التحيل، من أقوى الأدلة" (1) . واستدل بذلك أيضاً ابن قيم الجوزية على تحريم الحيل. فقال حديث: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" الحديث أصل فى إبطال الحيل ويكفى وحده فى إبطال الحيل، ولهذا صدر به حافظ الأمة محمد بن إسماعيل البخارى كتاب الحيل من صحيحه (2) أ. هـ. ... فأين من كل هذا ما استدل به بعض النكرات أن افتتاح الإمام البخارى بهذا الحديث فى كتاب الحيل، دليل على استحلالها، واستحلال الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) فتح البارى 12/343، وانظر: مبحث "تجويز الحيل يناقض سد الذرائع" فى أعلام الموقعين 3/171، وإغاثة اللهفان 1/385. (2) انظر: إغاثة اللهفان 1/362، وأعلام الموقعين 3/176.

المبحث الثانى: مكانة حديث "إنما الأعمال بالنيات"

المبحث الثانى: مكانة حديث "إنما الأعمال بالنيات" ... قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "قد تواتر النقل عن الأئمة فى تعظيم قدر هذا الحديث" (1) . قال الحافظ العراقى: "هو قاعدة من قواعد الإسلام (2) . وقال الإمام أحمد "أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: "الأعمال بالنيات"، وحديث عائشة: "من أحدث فى أمرنا ما ليس منه، فهو رد" (3) وحديث النعمان بن بشير (4) :"الحلال بين، والحرام بين" (5) . ... قال الإمام ابن تيمية: "هو أصل عظيم من أصول الدين، بل هو أصل كل عمل، ولهذا قالوا: مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث، فذكروه منها، وذكر قول الإمام أحمد الذى سبق، وقال: والذى أمر الله به نوعان: أحدهما: العمل الظاهر، وهو ما كان واجباً أو مستحباً.

_ (1) فتح البارى 1/11. (2) طرح التثريب 2/5. (3) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود 5/355 رقم 2697، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور 6/256، 257 رقم 1718. (4) النعمان بن بشير: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 3/559 رقم 8728، والاستيعاب 4/1496 رقم2614، واسد الغابة5/310 رقم5237، وتاريخ الصحابة ص248 رقم1367، ومشاهير علماء الأمصار ص 65 رقم 332. (5) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/153رقم52، ومسلم "بشرح النووى" كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات 6/31 رقم 1599 وانظر: فتح البارى 1/11، وطرح التثريب 2/5، وجامع العلوم والحكم 1/61.

والثانى: العمل الباطن، وهو إخلاص الدين لله؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد": ينفى التقرب إلى الله بغير ما أمر الله به، أمر إيجاب أو أمر استحباب. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" إلى آخره يبين العمل الباطن، وأن التقرب إلى الله إنما يكون بالإخلاص فى الدين لله، كما قال الفضيل فى قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) . قال: أخلصه وأصوبه (2) . قال ابن تيمية: فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة النبوية، وعلى هذا دل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (3) وإن هذين الأصلين الإخلاص وصواب العمل؛ هما دين الإسلام الذى ارتضاه الله" (4) . ... ويقول أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدى: "لو صنفت كتاباً بدأت فى أول كل باب منه بحديث "إنما الأعمال"، وأوصى بذلك فقال: من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث" (5) .

_ (1) الآية 2 من سورة الملك. (2) انظر: جامع العلوم والحكم 1/72، وتفسير البغوى 4/369، وتفسير القرطبى 11/69 – 72، وتفسير ابن كثير 3/108 – 110، وفتح القدير 3/322 – 323. (3) الآية 110 من سورة الكهف. (4) الفتاوى لابن تيمية 8/249 – 250 بتصرف، وانظر: النبوات له ص 126. (5) انظر: سنن الترمذى كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء 4/154 عقب حديث "إنما الأعمال" رقم 1647، والأذكار للنووى ص 6، وعمدة القارى1/22، واللآلئ السنيات فى شرح حديث "إنما الأعمال بالنيات" للدكتور إبراهيم على سعده.

وحسبنا من هذه الأقوال بياناً لمكانة هذا الحديث، وإذا عرفت هذه المكانة، فهمت أن أعداء الإسلام لم يطعنوا فى هذا الحديث من فراغ، فقد علموا قدره وعظمته ومكانته فى الإسلام، فإذا سهل لهم أن يقدحوا فيه فغيره أولى بالقدح. ولكن الأمر على خلاف ما يظنون ويأملون.

الفصل الثانى: حديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف"

الفصل الثانى: حديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" وتحته أربعة مباحث: المبحث الأول: شبه الطاعنين فى حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف والرد عليها المبحث الثانى: معنى نزول القرآن على سبعة أحرف. المبحث الثالث: الأحرف السبعة أعم من القراءات السبع. المبحث الرابع: بقاء الأحرف السبعة فى المصاحف. المبحث الأول: شبه الطاعنين فى حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف والرد عليها ... حديث نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف طعن فيه الرافضة قديماً، وزعموا بأنه يثبت كفر الصحابة بوقوع التحريف اللفظى فى القرآن الكريم، وهم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإسلام (1) . وقديماً كان الإمام ابن حزم يرد على مزاعم وطعون قساوسة النصارى بأن القرآن فيه تحريف ونقص، وضاع كثير من أصوله وقراءاته باعتراف المسلمين من الشيعة الرافضة. فيجيبهم ابن حزم بقوله: "إن دعوى الشيعة ليست حجة على القرآن ولا على المسلمين، لأن الشيعة غير مسلمين … إنما هى فرق حدث أولها بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، وكان مبدؤها إجابة من خذله الله تعالى لدعوة من كاد للإسلام، وهى طائفة تجرى مجرى اليهود والنصارى فى الكذب والكفر (2) .

_ (1) الإحكام فى أصول الأحكام 1/94. (2) الفصل فى الملل والنحل 2/78، وانظر: مختصر التحفة الإثنى عشرية 30، 50، 82، والكافى للكلينى 1/341 - 453، وفصل الخطاب فى إثبات تحريف كتاب رب الأرباب للطبرسى ص156-157، وفرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وموقف الإسلام منها 1/231، والخطوط العريضة ص 27-30، والشيعة والسنة للأستاذ حسين الهى ظهير ص 65 -130.

ومن طعون الرافضة، استدل إخوانهم من المستشرقين، وتكلموا كثيراً فى موضوع القراءات بالأحرف السبعة محاولين إثبات أن هذه القراءات ليست من الوحى أساساً، وإنما نجمت عن "القراءة بالمعنى"، فلم يكن نص القرآن بحروفه بالنسبة لبعض المؤمنين هو المهم، ولكن المهم هو روح النص، ودليلهم ما جاء فى بعض الروايات وفيها "كلها شاف كاف، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب، نحو قولك: تعال وأقبل، وهلم، واذهب، وأسرع، وعجل" (1) . ولعل أول من ذهب إلى ذلك من المستشرقين جولدتسيهر، فى كتابه "مذاهب التفسير الإسلامى" حيث ذهب إلى أن اختلاف القراءات القرآنية راجع إلى خلو المصاحف العثمانية من النقط والشكل إذ يقول وهو يتحدث عن اختلاف القراءات القرآنية: "وإذاً فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط، واختلاف الحركات فى المحصول الموحد الغالب من الحروف الصامتة، كانا هما السبب الأول فى نشأة حركة اختلاف القراءات، فى نص لم يكن منقوطاً أصلاً، أو لم تتحر الدقة فى نقطه أو تحريكه" (2) . وردد هذا الرأى المستشرق الاسترالى الأصل "آرثرجفرى" وذكره فى مقدمة تحقيقه لكتاب "المصاحف" لابن أبى داود قال: "وكانت هذه المصاحف التى بعثها عثمان إلى الأمصار؛ كلها خالية من النقط والشكل، فكان على القارئ نفسه أن ينقط، ويشكل هذا النص على مقتضى معانى الآيات" (3) .

_ (1) أخرجه أحمد فى مسنده 5/41، 52، 114، 122، من حديث أبى بكره رضي الله عنه قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 7/151، ورواه أحمد والطبرانى بنحوه إلا أنه قال واذهب وأدبر، وفيه على = =ابن زيد بن جدعان، وهو سئ الحفظ، وقد توبع، وبقيه رجال أحمد رجال الصحيح أ. هـ. انظر: المعجم الكبير 10/182 رقم 10273 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (2) انظر: مذاهب التفسير الإسلامى لجولدتسهير ص 8، 53 وما بعدها. (3) المصاحف لابن أبى داود تحقيق آرثر ص 7، وانظر: إعادة قراءة القرآن لجاك بيرك ص 84، 89

.. ونتيجة ذلك كله هى القول بحدوث تغيير فى النص القرآنى (1) . وقد تابع هذين المستشرقين بعض العلماء العرب، من الجامعيين وغيرهم، وأذاعوه فى كتبهم. يقول الدكتور طه حسين (2) : "إن القرآن تلى بلغة واحدة، ولهجة واحدة هى لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناولها القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته، وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تبايناً كثيراً … إلى أن يقول: "والحق أن ليست هذه القراءات السبع من الوحى فى قليل ولا كثير، وليس منكرها كافراً ولا فاسقاً ولا مغتمزاً فى دينه، وإنما هى قراءات مصدرها اللهجات واختلافها، للناس أن يجادلوا فيها وأن ينكروا بعضها ويقبلوا بعضها" (3)

_ (1) انظر: الاستشراق لفضيلة الدكتور محمود حمدى زقزوق ص 109، 110، ومجلة الوعى الإسلامى مقال الدكتور حسن عزوزى آليات المنهج الاستشراقى فى دراسة مصنفات علوم القرآن العدد 396 ص 38 – 42. (2) طه حسين: هو طه حسين بن على بن سلامة بدأ حياته فى الأزهر، ثم الجامعة المصرية القديمة، وهو أول من نال شهادة منها سنة 1914م، وحصل على العالمية من فرنسا، وعمل أستاذاً بكلية الآداب، فعميداً للكلية، فمديراً للجامعة المصرية، فوزيراً للمعارف. من مؤلفاته: مستقبل الثقافة فى مصر، والشعر الجاهلى، وفى الأدب الجاهلى، والفتنة الكبرى، وغير ذلك من مؤلفاته التى تحمل سموم الاستشراق مات سنة 1973م، له ترجمة فى الأعلام 3/231، وانظر: رجال اختلف فيهم الرأى للأستاذ أنور الجندى. (3) فى الأدب الجاهلى ص 94،95، وممن قال بقوله المستشار سعيد العشماوى فى كتابه حصاد العقل ص72،73، والدكتور محمد أركون فى كتابه الفكر الإسلامى نقد واجتهاد ص 77-99، والدكتور نصر أبو زيد فى كتابيه "نقد الخطاب الدينى" ص53، "والإمام الشافعى" ص59-62، والمستشار مصطفى المهدوى فى كتابه "البيان بالقرآن 1/23، وانظر: رد الدكتور محمد محمد حسين على بحث جامعى فى كتابه "حصوننا مهددة من داخلها" ص 251-270.

ويقول الدكتور أحمد حجازى السقا بعد ذكره حديث عمر رضي الله عنه فى نزول القرآن على سبعة أحرف قال: "هذه الرواية التى اتفق عليها البخارى والمحدثون، وشبهها كثير تثبت التحريف اللفظى فى القرآن، فإن هذه الرواية وشبهها يكونون من الروايات الكاذبة التى وضعها المحدثون عمداً فى كتبهم للطعن فى القرآن الكريم" (1) . ... ويجاب على ما سبق بالآتى: أولاً: حديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" جاء متواتراً عن جمع من الصحابة - رضي الله عنهم - فأورده الحافظ السيوطى فى الأزهار المتناثرة من حديث عمر، وعثمان، وأبى بن كعب، وأنس، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وابن عباس، وابن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وعمر بن أبى سلمة، وعمرو بن العاص، ومعاذ ابن جبل، وهشام بن حكيم، وأبى بكرة، وأبى جهم، وأبى سعيد الخدرى، وأبى طلحة، وأبى هريرة، وأم أيوب (2) ، وزاد الكتانى حديث ابن عمر، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو ابن العاص (3) . فهؤلاء أربع وعشرون صحابياً، ما منهم إلا رواه وحكاه. ونكتفى هنا بسرد بعض الروايات عن بعضهم.

_ (1) دفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص 148. (2) الأزهار المتناثرة ص 49، 50 رقم 59 وانظر: تدريب الراوى 2/179، 180، وتوجيه النظر ص 49، وفتح البارى 9/643 رقم 4991، 4992، وفواتح الرحموت 2/15. (3) نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص173رقم197، وإتحاف ذوى الفضائل المشتهرة بما وقع من الزيادة فى نظم المتناثر على الأزهار المتناثرة عبد العزيز الغمارى، ضمن مجموعة الحديث الصديقية ص 212.

روى البخارى ومسلم ففى الصحيحين عن ابن عباس – رضى الله عنهما –؛ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرأنى جبريل على حروف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف" (1) . زاد مسلم: "قال ابن شهاب: بلغنى أن تلك السبعة فى الأمر الذى يكون واحداً لا يختلف فى حلالٍ ولا حرام" (2) .

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف 8/639 رقم 4991. (2) مسلم (بشرح النووى) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه 3/360 رقم 819.

وفى الصحيحين أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: سمعت هشام بن حكيم (1) يقرأ سورة الفرقان فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره فى الصلاة، فانتظرت حتى سلم، ثم لببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت له: كذبت فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنى هذه السورة التى سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنى سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتنى سورة الفرقان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله يا عمر: اقرأ يا هشام، فقرأ هذه القراءة التى سمعته يقرؤها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه" (2) .

_ (1) هشام بن حكيم: صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة 3/603 رقم 8963، والاستيعاب 4/1538 رقم 5374، ومشاهير علماء الأمصار ص 35 رقم 134. (2) البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف 8/639 رقم 4992، ومسلم (بشرح النووى) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف وبيان معناه 3/359 رقم 818.

.. وروى مسلم بسنده عن أبى بن كعب رضي الله عنه قال: "كنت فى المسجد، فدخل رجل يصلى، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبة. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ، فحسن النبى صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسقط فى نفسى من التكذيب وَلاَ إِذْ كنتُ فى الجاهلية. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشينى ضرب فى صدرى، ففضت عرقاً، وكأنما انظر إلى الله عز وجل فرقاً فقال لى: يا أُبى‍ أُرسلَ إِلىَّ: أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه: أن هون على أمتى، فرد إلى الثانية: اقرأه على حرفين فرددت إليه: أن هون على أمتى، فرد إلى الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، ولك بكل ردةٍ رددتها مسألة تسألينها. فقلت: "اللهم اغفر لأمتى، اللهم اغفر لأمتى، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم (1) أ. هـ. ... ومن هذه الروايات المتفق على صحتها يظهر إفك من زعم بأن روايات نزول القرآن على سبعة أحرف مكذوبة، كما يظهر إفك من زعم أن القرآن نزل بحرف واحد فقط. وظهر فى الروايات السابقة: "أن اختلاف القراء إنما حدث فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم" فيما تلاه عليهم وسمعوه منه مشافهة، ولم يأت هذا الخلاف نتيجة النظر فى المصحف المكتوب المقروء الخالى من النقط والشكل، كما زعم جولدتسيهر، وآرث جفرى ومن قال بقولهم.

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف وبيان معناه 3/360 رقم 820.

ثانياً: لو كان خلو المصاحف من الشكل والإعجام سبباً فى تنوع القراءات واختلافها، لكان القارئ الذى يقرأ الكلمة وفق رسم معين، يلتزمه فى أمثاله ونظائره حيث وقع فى القرآن الكريم، ولم يحدث هذا، وإليك مثالاً واحداً. قوله تعالى فى فاتحة الكتاب {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1) وقوله سبحانه {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} (2) وقوله تعالى فى سورة الناس {مَلِكِ النَّاسِ} (3) . فلو تأملت المواضع الثلاثة فى المصحف لوجدت الكلمة فيها كلها هكذا "ملك" بالميم واللام والكاف فقط، ولكن حفصاً يقرأ عن عاصم، فى الفاتحة "مالك" بالألف بعد الميم، وكذلك يقرأ آية آل عمران، أما فى سورة الناس فيقرأ "ملك" من دون الألف كان حفص يقرأ وفق رسم المصحف لقرأ فى المواضع الثلاثة "ملك"، ولكنه يقرأ بالرواية المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) . وكذلك قد تختلف القراءات أحياناً لغة ونحواً، وهكذا يبدو للناس فى ظاهر الأمر، ولكن الاختلاف فى الحقيقة راجع إلى التلقى والرواية، لا إلى القاعدة اللغوية أو النحوية. وهذا مثال واحد: قال الله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} .جاءت هذه الآية فى موضعين (5) ويقرأ القراء جميعاً "كلاً" بالنصب فى الآيتين، لكن ابن عامر يقرأ آية النساء بالنصب؛ كسائر القراء، أما آية الحديد فيقرأها وحده"وكل"بالرفع، وللنحويين فى توجيه الرفع والنصب كلام.

_ (1) الآية 4 من سورة الفاتحة. (2) الآية 26 من سورة آل عمران. (3) الآية 2 من سورة الناس. (4) انظر: القراءات فى نظر المستشرقين والملحدين لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضى ص49-53. (5) جزء من الآية 95 من سورة النساء، وجزء من الآية 10 من سورة الحديد.

فلو كان ابن عامر يقرأ وفق القاعدة النحوية لقرأ الآيتين بالرفع، ولكنه قرأ بالرواية التى تلقاها هو بالتواتر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرة بالنصب، ومرة بالرفع، مع أن تركيب الآية واحد فى الموضعين. ومثال ثان: الإمالة ظاهرة صوتية، وهى "ان تنحيى بالألف نحو الياء، فيلزم أن تنحى بالفتحة قبلها نحو الكسرة"، وهى لغة بعض القبائل العربية، وقد قرأ بها بعض القراء، والتزموها حيث وجدت دواعيها فى القرآن الكريم، لكن حفصاً الذى يقرأ بقراءته، كثير من المسلمين الآن بروايته عن عاصم، لم يقرأ بالإمالة إلا فى موضع واحد من الذكر الحكيم وهو قوله تعالى {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (1) . وهكذا يختلف القراء ويتفقون بحسب الرواية والتلقى، وليس بحسب رسم المصحف أو الوجه النحوى أو اللغوى، صحيح أن هذين فى الاعتبار، ولكن بعد ثبوت الرواية بالتواتر، والسند الصحيح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموافقة الرسم العثمانى، وأن يكون للقراءة وجه صحيح من العربية. فإذا سمعت قراءة مسندة لواحد من القراء السبعة أو العشرة؛ كأن يقال: قراءة نافع أو عاصم أو الكسائى، فلا تظن أنها من اختراعه أو ابتداعه، ولكنها اختياره الذى ارتضاه من طريق الرواية المسندة الصحيحة. ولذلك أثر عن أبى عمرو بن العلاء وهو أحد القراء السبعة قوله "لولا أنه ليس لى أن أقرأ إلا بما قرئ به لقرأت كذا وكذا. وذكر حروفاً".

_ (1) جزء من الآية 41 من سورة هود.

قراءات ربانية:

ويريد أبو عمرو أن القراءة سنة واتباع وأثر، ولا دخل فيها للسليقة أو الاستحسان اللغوى أو الترجيح النحوى أو رسم المصحف. ومن ثم يرى كثير من العلماء أن ترجيح قراءة متواترة على قراءة متواترة لا يجوز. يقول أبو العباس ثعلب "إذا اختلف الإعراب فى القرآن عن السبعة، لم أفضل إعراباً على إعراب فى القرآن، فإذا خرجت إلى الكلام، كلام الناس فضلت الأقوى" (1) . قراءات ربانية: يقول الدكتور محمود الطناحى: "فثبت إذن أن القراءات القرآنية كلها بوجوهها المختلفة من عند الله، ولا دخل لخط المصحف فيها، ولا للوجوه النحوية أو اللغوية فيها كذلك، وثبت أيضاً أن اختلاف القراءات القرآنية إنما هو اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد" (2) أ. هـ. ... واعلم أن معنى قول "أبى بن كعب" رضي الله عنه "فسقط فى نفسى من التكذيب إلخ" أن الشيطان ألقى إليه من وساوس التكذيب ما شوش عليه حاله، حين رأى النبى صلى الله عليه وسلم، قد حسن القراءتين وصوبهما على ما بينهما من اختلاف، وكانتا فى سورة واحدة هى سورة النحل على ما رواه الطبرى. وكأن الذى مر بخاطره وقتئذ أن هذا الاختلاف فى القراءة ينافى أنه من عند الله. لكنه كان خاطراً من الخواطر الرديئة التى لا تنال من نفس صاحبها منالاً، ولا تفتنها عن عقيدة، ولا يكون لها أثر باق، ولا عمل دائم. ... ومن رحمة الله بعباده؛ أنه لا يؤاخذهم بهواجس النفوس وخلجات الضمائر العابرة، ولكن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم، حين يفتح الإنسان للشبهة صدره، ويوجه إليها اختياره وكسبه، ثم يعقد عليها فؤاده وقلبه.

_ (1) انظر: الدر المصون فى علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبى 1/48، 4/563. (2) انظر: مجلة العربى العدد 480 لسنة 1998، ص 114 - 119.

.. قال القرطبى: "فكان هذا الخاطر الذى سقط فى نفس أبى من قبيل ما قال فيه النبى صلى الله عليه وسلم حين سألوه: إنا نجد فى أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال ذلك صريح الإيمان" (1) أ. هـ. ... ومن هنا تعلم أن ما خطر لسيدنا أبى بن كعب رضي الله عنه، لا يمس مقامه، ولا يصادم إيمانه، ما دام قد دفعه بإرشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً حتى قال أُبى نفسه: "ففضت عرقاً، وكأنى انظر إلى الله عز وجل فرقاً" (2) أ. هـ. ... أضف إلى ما ذكرنا أن خصومة أبى بن كعب، وعمر وغيرهم من الصحابة فى أمر اختلاف القراءة على هذا النحو، إنما كانت قبل أن يعلموا أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فهم وقتئذٍ كانوا معذورين، بدليل أنهم لما علموا بذلك، واطمأنت إليه نفوسهم، عمل كل منهم بما علم، وصاروا مراجع مهمة من مراجع القرآن الكريم على اختلاف رواياته. يدل على ذلك ما روى عن أبى ابن كعب رضي الله عنه قال: لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال يا جبريل إنى بعثت إلى أمة أميين: منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل، الذى لم يقرأ كتاباً قط، قال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف" (3) . ... أما ما زعمه دعاة اللادينية أن القراءات ليست من الوحى، ومصدرها لهجات القبائل المختلفة، فهذا كذب آخر.

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة فى الإيمان وما يقوله من وجدها 1/340 رقم 132 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. (2) مناهل العرفان 1/143 –144. وانظر: فتح البارى 9/640، 641، والمنهاج شرح مسلم للنووى 3/364. (3) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب القراءات، باب ما جاء أنزل القرآن على سبعة أحرف 5/178، 179رقم2944 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روى من غير وجه عن أبى بن كعب. وانظر: مناهل العرفان 1/144 وما بعدها.

المبحث الثانى: معنى نزول القرآن على سبعة أحرف

يبطله أن المختلفين فى الخبر المذكور الذى أوردناه آنفاً كل منهما قرأ سورة الفرقان بحرفين مختلفين، كانا جميعاً بنى عم قرشيين، من قريش البطاح، من قبيلة واحدة، جاران ساكنان فى مدينة واحدة، وهى مكة، لغتهما واحدة، وهما عمر بن الخطاب بن نفيل ابن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قريط بن رزاح بن عدى بن كعب، وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب، ويجتمعان جميعاً فى كعب بن لؤى، بين كل واحد منهما، وبين كعب بن لؤى، ثمانية آباء فقط. فظهر كذب من ادعى أن اختلاف الأحرف، إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب. وأبى ربك إلا أن يحق الحق، ويبطل الباطل، ويظهر كذب الكاذب، ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ" (1) أ. هـ. المبحث الثانى: معنى نزول القرآن على سبعة أحرف ... قوله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أى على سبعة أوجه يجوز أن يقرأ بكل وجه منها. وليس المراد أن كل كلمة أو جملة منه تقرأ على سبعة أوجه، بل المراد أن غاية ما انتهى إليه عدد القراءات فى الكلمة الواحدة إلى سبعة. فإن قيل فإنا نجد بعض الكلمات يقرأ على سبعة أوجه. فالجواب أن غالب ذلك إما لا يثبت الزيادة، وإما أن يكون من قبيل الاختلاف فى كيفية الأداء كما فى المد والإمالة ونحوهما (2) . ... قال الشيخ الزرقانى -رحمه الله-: "وليس المراد أن كل كلمة من القرآن تقرأ على سبعة أوجه: إذاً لقال صلى الله عليه وسلم "إن هذا القرآن أنزل سبعة أحرف" بحذف لفظ "على".

_ (1) الإحكام لابن حزم 5/571، 572. (2) فتح البارى 8/640 رقم 4991.

بل المراد ما علمت من أن هذا القرآن أنزل على هذا الشرط وهذه التوسعة، بحيث لا تتجاوز وجوه الاختلاف سبعة أوجه، مهما كثر ذلك التعدد والتنوع فى أداء اللفظ الواحد، ومهما تعددت القراءات، وطرقها فى الكلمة الواحدة. فكلمة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1) التى ورد أنها تقرأ بطرق تبلغ السبعة أو العشرة، وكلمة {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} (2) التى ورد أنها تقرأ باثنتين وعشرين قراءة، وكلمة {أُفٍّ} من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (3) والتى أوصل الرمانى لغاتها إلى سبع وثلاثين لغة. وكل أولئك وأشباه أولئك، لا يخرج التغاير فيه على كثرته عن وجوه سبعة (4) . ... وعلى هذا فالمراد بالأحرف فى الأحاديث السابقة وجوه فى الألفاظ وحدها لا محالة، بدليل أن الخلاف الذى صورته لنا الروايات المذكورة كان دائراً حول قراءة الألفاظ لا تفسير المعانى، مثل قول عمر: "إذ هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حكم الرسول أن يقرأ كل منهما، وقوله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت" وقوله: "أى ذلك قرأتم فقد أصبتم" ونحو ذلك، ولا ريب أن القراءة أداء الألفاظ، لا شرح المعانى (5) .

_ (1) الآية 4 من سورة الفاتحة. (2) جزء من الآية 60 من سورة المائدة. (3) جزء من الآية 23 من سورة الإسراء. (4) مناهل العرفان 1/156. (5) المصدر السابق 1/154 وانظر المراد بالوجوه السبعة التى لا تخرج عنها القراءات فى المصدر السابق 1/156، وفتح البارى 8/640.

.. إن القراءات كلها على اختلافها كلام الله، لا مدخل لبشر فيها، بل كلها نازلة من عنده تعالى، مأخوذة بالتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل على ذلك أن الأحاديث الماضية تفيد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرجعون فيما يقرأون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون عنه ويتلقون منه كل حرف يقرأون عليه، انظر قوله صلى الله عليه وسلم فى قراءة كل من المختلفين "هكذا أنزلت" وقول المخالف لصاحبه: "أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أضف إلى ذلك أنه لو صح لأحد أن يغير ما شاء من القرآن بمرادفة أو غير مرادفة، لبطلت قرآنية القرآن، وأنه كلام الله، ولذهب الإعجاز، ولما تحقق قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) . وهذا ما يهدف إليه دعاة اللادينية فى قولهم: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" أى أنه أنزل على سبع لغات مختلفة فى لفظها ومادتها. يفسر ذلك القول ابن مسعود: "إنما هو كقولك هلم وتعال وأقبل" (2) . ويجاب عن ذلك فضلاً عما سبق أن التبديل والتغيير مردود من أساسه بقوله سبحانه وتعالى: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (3) .

_ (1) الآية 9 من سورة الحجر. (2) فى الأدب الجاهلى ص 95. (3) الآيتان 15، 16 من سورة يونس.

.. أما ما جاء فى حديث أبى الدرداء، وقراءته على قراءة ابن مسعود مرفوعاً: "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى" (1) . فأجاب عن ذلك الإمام المازرى (2) فقال: "يجب أن يعتقد فى هذا الخبر وما فى معناه أن ذلك كان قرآناً ثم نسخ، ولم يعلم من خالف النسخ فبقى على النسخ، ولعل هذا وقع من بعضهم قبل أن يبلغهم مصحف عثمان المجمع عليه، المحذوف منه كل منسوخ، وأما بعد ظهور مصحف عثمان فلا يظن بأحد منهم أنه خالف فيه (3) . قال ابن حزم مؤيداً ذلك: "لأن قراءة عاصم المشهورة" المأثورة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم، وقراءة ابن عامر مسندة إلى أبى الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما جميعاً {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (4) فهى زيادة لا يجوز تركها" (5) أ. هـ.

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يتعلق بالقراءات 3/370 رقم 824. (2) المازرى هو: الإمام العلامة محمد بن على بن عمر التميمى المازرى، أبو عبد الله، من فقهاء المالكية، كان محدثاً، فقهياً، أصولياً، أديباً، وله دراية بالطب، من مصنفاته المعلم بفوائد شرح مسلم، وإيضاح المحصول من برهان الأصول.وغير ذلك توفى عام536هـ. له ترجمة فى: الديباج المذهب ص374 رقم 508، وسير أعلام النبلاء 12/169، ووفيات الأعيان 1/486، وشذرات الذهب 4/114، والوافى بالوفيات 4/151، وشجرة النور الزكية 1/127 رقم 371. (3) المنهاج شرح مسلم للنووى 3/371. (4) الآية 3 من سورة الليل. (5) الإحكام لابن حزم 5/573.

وأما ابن مسعود رضي الله عنه فرويت عنه روايات كثيرة منها ما ليس بثابت عند أهل النقل، وما ثبت منها مخالفاً لما قلناه، فهو محمول على أنه كان يكتب فى مصحفه بعض الأحكام والتفاسير مما يعتقد أنه ليس من القرآن، وكان لا يعتقد تحريم ذلك، وكان يراه، كصحيفة يثبت فيها ما يشاء، وكان رأى عثمان والجماعة، منع ذلك لئلا يتطاول الزمان ويظن ذلك قرآناً. قال المازرى: فعاد الخلاف إلى مسألة فقهية، وهى أنه هل يجوز إلحاق بعض التفاسير فى أثناء الصحف؟ قال: ويحتمل ما روى من إسقاط المعوذتين من مصحف ابن مسعود أنه اعتقد أنه لا يلزمه كتب كل القرآن، وكتب ما سواهما وتركهما لشهرتهما عنده وعند الناس" (1) أ. هـ. ... يقول ابن حزم: "ومن العجب أن جمهرة من المعارضين لنا، وهم المالكيون، قد صح عن صاحبهم مالك بن أنس أنه قال: اقرأ عبد الله بن مسعود رجلاً: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} (2) فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال له ابن مسعود طعام الفاجر. قال ابن وهب قلت لمالك: أترى أن يقرأ كذلك؟ قال نعم أرى ذلك واسعاً، فقيل لمالك: أفترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله؟ قال مالك: ذلك جائز … إلخ.

_ (1) المنهاج شرح مسلم 3/371 وانظر: الإتقان1/213، 214، وتأويل مشكل القرآن ص47-49، وبحوث فى القرآن والسنة للأستاذ عبد الله كنون ص 94 –96. (2) الآيتان 43، 44 من سورة الدخان.

.. قال ابن حزم: "فكيف يقولون مثل هذا؟ أيجيزون القراءة هكذا! فلعمرى لقد هلكوا وأهلكوا، وأطلقوا كل بائقة فى القرآن، أو يمنعون من هذا، فيخالفون صاحبهم فى أعظم الأشياء، وهذا إسناد عنه فى غاية الصحة وهو مما أخطأ فيه مالك مما لم يتدبره، لكن قاصداً إلى الخير، ولو أن امرأً ثبت على هذا وجازه بعد التنبيه له على ما فيه، وقيام حجة الله تعالى عليه فى ورود القرآن بخلاف هذا لكان كافراً، ونعوذ بالله من الضلال (1) أ. هـ. ... وهاك برهانٌ آخر ذكره صاحب التبيان فى آداب حملة القرآن–على فساد مزاعم أعداء الإسلام من المستشرقين وأذيالهم من جواز "قراءة القرآن بالمعنى". يقول الإمام النووى: "إن النبى صلى الله عليه وسلم علم البراء بن عازب دعاء فيه هذه الكلمة "ونبيك الذى أرسلت" فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ورسولك الذى أرسلت" فلم يوافقه النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك، بل قال له: "لا. ونبيك الذى أرسلت" (2) . وهكذا نهاه عليه الصلاة والسلام أن يضع لفظة "رسول"، موضع لفظة "نبى" مع أن كليهما حق لا يحيل معنى، إذ هو صلى الله عليه وسلم رسولٌ ونبى معاً. ثم قال: فكيف يسوغ للجهال المغفلين أن يقولوا: إنه صلى الله عليه وسلم كان يجيز أن يوضع فى القرآن الكريم مكان عزيز حكيم، غفور رحيم، أو سميع عليم. وهو يمنع من ذلك فى دعاء ليس قرآناً، والله يقول مخبراً عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} (3) ، ولا تبديل أكثر من وضع كلمة، مكان أخرى" (4) أ. هـ.

_ (1) الإحكام لابن حزم 5/574. (2) سبق تخريجه ص 361. (3) الآية 15 من سورة يونس. (4) انظر: مناهل العرفان 1/191.

المبحث الثالث: الأحرف السبعة أعم من القراءات السبع

.. ويقول فضيلة الأستاذ الدكتور زقزوق رداً على مزاعم المستشرقين فى ترويجهم لفكرة "قراءة القرآن بالمعنى": "إن الواقع الذى عليه المسلمون منذ أربعة عشر قرناً هو تمسكهم الشديد بالمحافظة على الوحى القرآنى لفظاً ومعنى، ولا يوجد مسلم يستبيح لنفسه أن يقرأ القرآن بأى لفظ شاء ما دام يحافظ على المعنى. وليبحث المستشرقون اليوم فى أى مكان فى العالم عن مسلم يستبيح لنفسه مثل ذلك وسيعيهم البحث. فلماذا إذن هذا التشكيك فى صحة النص القرآنى وهم يعلمون مدى حرص المسلمين فى السابق واللاحق على تقديس نص القرآن الكريم لفظاً ومعنى؟ ... إنهم يبحثون دائماً - كما سبق أن أشرنا - عن الآراء المرجوحة والأسانيد الضعيفة ليبنوا عليها نظريات لا أساس لها من التاريخ الصحيح، ولا من الواقع. فنحن المسلمون قد تلقينا القرآن الكريم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو بدوره تلقاه وحياً من الله ولم يحدث أن أصاب هذا القرآن أى تغيير أو تبديل على مدى تاريخه الطويل، وهذه ميزة فريدة انفرد بها القرآن وحده من بين الكتب السماوية كافة، الأمر الذى يحمل فى طياته صحة هذه الشريعة التى ختم بها الله عز وجل دينه الذى بعث به جميع أنبيائه، ورسله من لدن آدم إلى خاتمهم صلى الله عليه وسلم. وفى هذا الصدد نورد ما ذكره "رودى بارت" فى مقدمة ترجمته الألمانية للقرآن - وكأنه يرد على زملائه الذين راحوا يشككون فى صحة النص القرآنى. يقول "بارت": "ليس لدينا أى سبب يحملنا على الاعتقاد بأن هناك آية فى القرآن كله لم ترد عن محمد صلى الله عليه وسلم (1) أ. هـ. المبحث الثالث: الأحرف السبعة أعم من القراءات السبع ... إن الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن الكريم، لا تعنى القراءات السبع المنقولة عن الأئمة السبعة (2)

_ (1) الاستشراق للدكتور محمود حمدى زقزوق ص 111، 112 بتصرف يسير. (2) القراء السبعة المعروفون هم: عبد الله بن عامر (ت 118) عبد الله بن كثير الدارى (ت 120هـ) أبو بكرعاصم بن أبى النجود الأسدى (ت 127هـ) أبو عمرو زبان بن العلاء البصرى (ت 154هـ) حمزة بن حبيب الزيات (ت 156هـ) نافع بن عبد الرحمن (ت 169هـ) على بن حمزة الكسائى (ت 189هـ) 0 انظر: مناهل العرفان 1/453 - 459، ومعرفة القراء الكبار للذهبى 1/82 وما بعدها، وغاية النهاية لابن الجزرى 1/261 وما بعدها.

، ومن زعم ذلك أخطأ من وجهين: أحدهما: أن الأحرف التى نزل بها القرآن، أعم من تلك القراءات المنسوبة إلى الأئمة السبعة القراء عموماً، وأن هذه القراءات أخص من تلك الأحرف السبعة النازلة خصوصاً مطلقاً، ذلك لأن الوجوه التى أنزل الله عليها كتابه، تنتظم كل وجه قرأ به النبى صلى الله عليه وسلم، وأقرأه أصحابه، وذلك ينتظم القراءات السبع المنسوبة إلى هؤلاء الأئمة السبعة القراء، كما ينتظم ما فوقها إلى العشرة، وما بعد العشرة، وما كان قرآناً، ثم نسخ، ولم يصل إلى هؤلاء القراء جميعاً، ولهذا نصوا فى المذهب المختار على أنه يشمل كل وجوه القراءات: صحيحها وشاذها ومنكرها (1) . ... وقال مكى بن أبى طالب (2) : "هذه القراءات التى يقرأ بها اليوم، وصحت رواياتها عن الأئمة، جزء من الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن "… قال ومن ظن أن قراءة هؤلاء القراء كنافع، وعاصم، هى الأحرف السبعة التى فى الحديث فقد غلط غلطاً عظيماً، قال: ويلزم من هذا أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة وغيرهم، ووافق خط المصحف أن لا يكون قرآناً" (3) .

_ (1) مناهل العرفان 1/193. (2) مكى بن أبى طالب هو: مكى بن أبى طالب حموش بن محمد بن مختار، أبو محمد القيسى، كان من أهل التبحر فىعلوم القرآن، والعربية، كثير التأليف فى علوم القرآن، محسناً لذلك، من مصنفاته "الإيجاز" و"الموجز فى القراءات" و"الهداية فى التفسير" وغير ذلك توفى سنة437هـ. له ترجمة فى: الديباج المذهب ص 424 رقم 595، ووفيات الأعيان 2/120، وشذرات الذهب 3/260، وطبقات المفسرين للداودى 2/331 رقم 643، وطبقات القراء لابن الجزرى 2/309. (3) فتح البارى 8/648، وانظر: الإتقان للسيوطى 1/215 فقرة رقم 1097، والأحرف السبعة فى القرآن ومنزلة القراءات منها للدكتور حسن ضياء الدين مبحث "شواهد من أقوال العلماء فى بيان أن القراءات بعض الأحرف" ص 226.

وفى هذا رد على طه حسين ومن قال بقوله: "إن القراءات ليست من الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن" (1) أ. هـ. ثانيهما: أن السبعة لم يكونوا قد خلقوا، ولا وجدوا حين نطق الرسول صلى الله عليه وسلم، بهذا الحديث الشريف. ومحال أن يفرض الرسول على نفسه، وعلى أصحابه، ألا يقرأوا بهذه الأحرف السبعة النازلة إلا إذا علموا أن هؤلاء القراء السبعة قد اختاروا القراءة بها، على حين أن بين العهدين بضعة قرون (2) ، وعلى حين أن هؤلاء القراء وسواهم إنما أخذوا عن النبى صلى الله عليه وسلم، من طريق أصحابه، ومن أخذ عنهم، إلى أن وصلوا إليهم. ثم إن القول بأن الأحرف السبعة التى نزل بها القرآن ما هى إلا تلك القراءات السبع المعروفة الآن، يستلزم أن يبقى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" عارياً عن الفائدة، غير نافذ الأثر، حتى يولد القراء السبعة المعروفون وتؤخذ القراءة عنهم. وذلك باطل أيضاً يكذبه الواقع من قراءة النبى صلى الله عليه وسلم، وقراءة أصحابه وتابعيه بالأحرف السبعة من قبل أن يولد القراء السبعة المعروفون.

_ (1) انظر: فى الأدب الجاهلى لطه حسين ص 95. (2) اشتهرت هذه القراءات السبع على رأس المائتين فى الأمصار الإسلامية، ولم تأخذ مكانها من التدوين إلا فى خاتمة القرن الثالث، حين قام الإمام ابن مجاهد أحمد بن موسى بجمع قراءات هؤلاء الأئمة السبعة أ. هـ.، انظر: مناهل العرفان 1/193 هامش.

المبحث الرابع: بقاء الأحرف السبعة فى المصاحف

.. قال المحقق ابن الجزرى: "فلو كان الحديث منصرفاً إلى قراءات السبعة المشهورين أو سبعة غيرهم من القراء الذين ولدوا بعد التابعين، لأدى ذلك إلى أن يكون الخبر عارياً عن الفائدة إلى أن يولد هؤلاء السبعة، فتؤخذ عنهم القراءة، وأدى أيضاً إلى أنه لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرأ إلا بما يعلم أن هؤلاء السبعة من القراء إذا ولدوا وتعلموا اختاروا القراءة به، وهذا باطل، إذ طريق أخذ القراءة أن تؤخذ عن إمام ثقة، لفظاً عن لفظ، إماماً عن إمام، إلى أن يتصل بالنبى صلى الله عليه وسلم (1) . ... وقال أبو شامة (2) : "ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هى التى أريدت فى الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل" (3) أ. هـ. المبحث الرابع: بقاء الأحرف السبعة فى المصاحف ... يقول الإمام ابن حزم رداً على من زعم أن سيدنا عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عز وجل. قال: تلك "عظيمة من عظائم الإفك والكذب، ويعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الإسلام.

_ (1) مناهل العرفان 1/193 - 194. (2) أبو شامة هو: عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم، أبو شامة المقدسى، الإمام الحافظ المحدث المجتهد الشافعى، المقرئ، النحو، تولى مشيخه الإقراء، والحديث بدمشق. من مؤلفاته: "شرح الشاطبية" و "مختصر تاريخ دمشق" وغير ذلك مات سنة 665هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 4/1460 رقم 1157، وطبقات المفسرين للداوودى 1/268 رقم 254، وطبقات القراء لابن الجزرى 1/366، وطبقات الشافعية للسبكى 8/165، وشذرات الذهب 5/318. (3) فتح البارى 8/647، وانظر: الإتقان 1/215 فقرة رقم 1093.

ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان رضي الله عنه أقل من هذا، مما لا نكره فيه أصلاً، فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة. ومعاذ الله من ذلك، وسواء عند كل ذى عقل، إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى، أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى، ولا فرق، وتالله إن من أجاز هذا غافلاً، ثم وقف عليه، وعلى برهان المنع من ذلك وأصر، فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه، لأنه تكذيب لله تعالى فى قوله الصادق لنا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) وفى قوله الصادق: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (2) فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذى أنزله الله تعالى عليه. فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى وهذه ردة صحيحة لا مرية فيها، وما رامت غلاة الروافض وأهل الإلحاد الكائدون للإسلام (3) إلا بعض هذا (4) أ. هـ. ... يقول الشيخ الزرقانى: "ونحن إذا رجعنا بهذه الأوجه السبعة إلى المصاحف العثمانية وما هو مخطوط بها فى الواقع ونفس الأمر، نخرج بهذه الحقيقة التى لا تقبل النقض، ونصل إلى فصل الخطاب فى هذا الباب، وهو أن المصاحف العثمانية قد اشتملت على الأحرف السبعة كلها. ولكن على معنى أن كل واحد من هذه المصاحف اشتمل على ما يوافق رسمه من هذه الأحرف كلاً أو بعضاً، بحيث لم تخل المصاحف فى مجموعها عن حرف منها رأساً" (5) .

_ (1) الآية 9 من سورة الحجر. (2) الآيات 17-19 من سورة القيامة. (3) انظر: فى الأدب الجاهلى لطه حسين ص 96-99 وبقية المصادر السابقة ص724. (4) الإحكام فى أصول الأحكام 4/565، 566. (5) مناهل العرفان 1/171، وانظر: فتح البارى 8/626 – 638 أرقام 4986 – 4988.

.. ويدل على ذلك خطة سيدنا عثمان رضي الله عنه فى جمعه للقرآن الكريم وقوله للرهط القريشيين الثلاثة: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم" ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف فى المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصه، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن فى كل صحيفة أو مصحفٍ أن يحرق" (1) فدل ذلك على ما هو مجمع عليه، أن سيدنا عثمان رضي الله عنه كتب مصاحف متعددة متفاوتة فى إثبات، وحذف، وبدل وغيرها، لأنه رضي الله عنه قصد اشتمالها على الأحرف السبعة، وجعلوها خالية من النقط والشكل، تحقيقاً لهذا الاحتمال أيضاً، فكانت بعض الكلمات يقرأ رسمها بأكثر من وجه عند تجردها من النقط والشكل نحو {فَتَبَيَّنُوا} من قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (2) فإنها تصلح أن تقرأ "فتثبتوا" عند خلوها من النقط، والشكل، وهى قراءة أخرى، أما الكلمات التى لا تدل على أكثر من قراءة عند خلوها من النقط والشكل مع أنها واردة بقراءة أخرى أيضاً، فإنهم كانوا يرسمونها فى بعض المصاحف برسم يدل على قراءة، وفى بعض آخر برسم آخر يدل على القراءة الثانية كقراءة "وصى" بالتضعيف و "أوصى" بالهمز، وهما قراءتان فى قوله سبحانه {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} (3) أ. هـ.

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن8/627رقم 4987. (2) الآية 6 من سورة الحجرات. (3) جزء من الآية 132 من سورة البقرة، وانظر: مناهل العرفان 1/257 وما بعدها.

.. إن الأحرف السبعة باقية كما كانت إلى يوم القيامة، مثبوتة فى القراءات المشهورة من المشرق إلى المغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، فما بين ذلك، لأنها من الذكر المنزل الذى تكفل الله تعالى بحفظه، وضمان الله تعالى لا يخيس أصلاً، وكفالته تعالى لا يمكن أن تضيع. ... ومن البرهان على كذب أهل الجهل وأهل الإفك على عثمان رضي الله عنه فى هذا ما رواه البخارى فى صحيحه بسنده عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) . قال: قد نسختها الآية الأخرى، فلم تَكْتُبها أو تَدَعها؟ قال: يا ابن أخى: لا أُغيِّرُ شيئاً منه من مكانه" (2) . وبعد ... إن القراءات كلها على اختلافها كلام الله، لا مدخل لبشر فيها، بل كلها نازلة من عنده تعالى، مأخوذة بالتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظها سيدنا عثمان رضي الله عنه فى جمعه لكتاب الله، ومعاذ الله أن يسقط منها شيئاً، وهى مثبوتة فى القراءات المشهورة فى مشارق الأرض ومغاربها.

_ (1) الآية 234 من سورة البقرة. (2) البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب "وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ" 8/41 رقم 4530، 4546، وانظر: الإحكام لابن حزم 5/568.

.. لا يجوز أن نجعل اختلاف القراءات معركة جدال ونزاع وشقاق، ولا مثار تردد وتشكيك وتكذيب، ولا سلاح عصبية وتنطع وجمود. على حين أن نزول القرآن على سبعة أحرف إنما كانت حكمته من الله التيسير، والتخفيف، والرحمة، والتهوين على الأمة، فما يكون لنا أن نجعل من هذا اليسر عسراً، ومن هذه الرحمة نقمة! 0 يرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الجدال فى القرآن كفر" (1) وكذلك تغير وجهه الشريف عند اختلافهم وقوله لهم: "إنما أهلك من قبلكم الاختلاف" (2) . وضربه فى صدر أُبَى بن كعب رضي الله عنه، حين جال بخاطره حديث السوء فى هذا الموضوع الجليل. الذى زلت فيه بعض الأقدام، وكثر فيه القيل والقال، إلى حدٍ كاد يطمس أنوار الحقيقة" (3) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب النهى عن الجدل فى القرآن4/199 رقم4603، والحاكم فى المستدرك كتاب التفسير 2/243 رقمى 2882، 2883 من حديث أبى هريرة، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبى. وانظر: الأحرف السبعة فى القرآن ومنزلة القراءات منها للدكتور حسن ضياء الدين مبحث "الأحرف السبعة خصيصة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم" ص145، 146، ومبحث "الأحرف السبعة ميزة للقرآن على الكتب السماوية" ص 146، وانظر: الكواكب النيرات فى أثر السنة النبوية على القراءات للدكتور علام بن محمد بن علام ص 16، 72، 73، وأثر القراءات فى الدراسات النحوية للدكتور عبد العال سالم على ص77-200. (2) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب التفسير 2/243 رقم 2885، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبى. وانظر: الشريعة للآجرى ص 67 وما بعدها. (3) انظر: مناهل العرفان 1/140 - 145، ومزيد من الدفاع عن الطعون الموجهة إلى الحديث انظر: الشيعة الإثنى عشرية ومنهجهم فى التفسير لفضيلة الدكتور محمد العسال، ص131-140، والقرآن والقراءات والأحرف السبعة الحقيقة - العلاقة - صحة النقل لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد الغفور محمود جعفر، ورسم المصحف العثمانى وأوهام المستشرقين فى قراءات الكريم للدكتور عبد الفتاح شلبى، والقراءات فى نظر المستشرقين والملحدين للشيخ عبد الفتاح القاضى، وأثر القراءات فى الدراسات النحوية للدكتور عبد العال سالم على ص 9 -73.

الفصل الثالث: أحاديث (رؤية الله - عز وجل -) و (محاجة آدم موسى

الفصل الثالث: أحاديث (رؤية الله عز وجل) و (محاجة آدم موسى عليهما السلام) و (الشفاعة) ... وتحته ستة مباحث: المبحث الأول: موقف أهل البدع قديماً وحديثاً من أحاديث الصفات والرد عليهم. المبحث الثانى: شبه الطاعنين فى حديث الرؤية والرد عليهم. المبحث الثالث: موقف أهل البدع قديماً وحديثاً من أحاديث القدر والرد عليهم. المبحث الرابع: شبه الطاعنين فى حديث محاجة آدم موسى عليهما السلام، والرد عليها. المبحث الخامس: موقف المبتدعة قديماً وحديثاً من أحاديث المغفرة لمرتكب الكبيرة والرد عليهم. المبحث السادس: شبه الطاعنين فى حديث الشفاعة والرد عليها.

المبحث الأول: موقف أهل البدع قديما وحديثا من أحاديث الصفات

المبحث الأول: موقف أهل البدع قديماً وحديثاً من أحاديث الصفات ... أحاديث العقائد مثل أحاديث التوحيد، وصفات الله عز وجل، وأحاديث عقيدة القدر طعن فيها المبتدعة من المعتزلة، والجهمية، وغيرهم من أهل الكلام. وكان أول من يذكر عنه أنه تكلم فى صفات الله تعالى فى الإسلام، وابتدع القول بنفيها وتعطيلها هو " الجعد بن درهم" (1) ، ثم أخذ عنه ذلك تلميذه الجهم بن صفوان الترمذى (2) ، وتولى كبر نشر تلك المقالة فكثر أتباعه. فلما ظهرت المعتزلة أخذت عن جهم بن صفوان قوله فى نفى الصفات، وجعلوها عقيدة يتدينون لله بها" (3) .

_ (1) الجعد بن درهم: هو مؤدب مروان الحمار، من الموالى، يعد من التابعين. زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى، وابتدع القول بخلق القرآن، وكان زنديقاً. قتله خالد القسرى يوم النحر. له ترجمة فى: ميزان الاعتدال 1/399 رقم 1482، والبداية والنهاية 9/364، ولسان الميزان 2/186 رقم 1964، والأنساب المتفقة فى الخط لابن القيسرانى لابن القيسرانى ص 46-47 رقم 48، والضعفاء الكبير للعقيلى 1/206 رقم 254. (2) الجهم بن صفوان: هو أبو محرز الراسبى، مولاهم، السمرقندى، الكاتب المتكلم الضال المبتدع، رأس الجهمية، كان ينكر الصفات، ويقول بخلق القرآن، وإن الله فى الأمكنة كلها، والإيمان عقد بالقلب، وإن تلفظ بالكفر قتل بمرور عام 128هـ بعد أن زرع شراً عظيماً. له ترجمة فى: تاريخ الطبرى7/220،والكامل فى التاريخ5/342-344، وميزان الاعتدال 1/426رقم1584، وسير أعلام النبلاء 6/26 رقم 8، ولسان الميزان 2/257 رقم 2165، والوافى بالوفيات 11/207 رقم 305. (3) انظر: الملل والنحل 1/40، وفتح البارى 13/357-359، وجهم بن صفوان ومكانته فى الفكر الإسلامى للأستاذ خالد العلى ص 72 – 73.

.. وقد أجمع المعتزلة على نفى صفات الله تعالى الأزلية، سواء منها ما كان من صفات الذات (1) ، أو صفات الأفعال (2) . ... وزعموا بأنه ليس له سبحانه علم، ولا قدرة، ولا حياة، ولا سمع، ولا بصر، ولا غير ذلك من الصفات (3) . واتفقوا على أن صفاته سبحانه هى إثبات لذاته (4) كما اتفق جمهورهم على أن الله تعالى عالم، قادر، حى، بذاته، لا بعلم، وقدرة، وحياة، فهى صفات ومعانى قائمة به (5) . ... والذى دفعهم إلى نفى صفات الله تعالى، الخوض فى ذلك بعقولهم والاعتماد عليها فى معرفة الله سبحانه وصفاته (6) . وذهبوا إلى أن الاستدلال بالسمع على ذلك غير ممكن (7) . ومن هنا أولوا آيات القرآن الكريم التى تثبت صفات الله تعالى فهى آيات متشابهة كما يزعمون، فيجب أن تؤول لموافقة الأدلة القاطعة وهى أدلة العقول، لأنها موهمة للتشبيه، ولأنها محتملة الدلالة، وأما العقل فلا احتمال فى دلالته. وما وقع التشبيه فى الأمة إلا بسبب التعلق بالآيات المتشابهة، وترك تأولها على ما يوافق دليل العقل، والآيات المحكمة (8) .

_ (1) الصفات الذاتية: هى الصفات الأزلية الثابتة لله تعالى التى لا تنفك عنه كصفة النفس، والعلم، والحياة، والقدرة، والسمع. انظر: الكواشف الجلية عن معانى الواسطية للأستاذ عبد العزيز السلمان ص 429. (2) الصفات الفعلية: هى الصفات الثابتة لله تعالى التى تتعلق بالمشيئة، والقدرة، وهى قديمة النوع حادثة الآحاد كصفة الاستواء، والنزول، والضحك، والمجئ. انظر: المصدر السابق ص429، 430. (3) الفرق بين الفرق ص 112، وانظر: العقيدة الإسلامية بين السلفية والمعتزلة تحليل ونقد للدكتور محمود خفاجى ص 244. (4) العقيدة الإسلامية للدكتور خفاجى ص 244. (5) المصدر السابق ص 399. (6) المحيط بالتكليف ص 30،31،33. (7) المصدر السابق ص 110. (8) فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة للقاضى عبد الجبار ص 149.

موقف المعتزلة من آيات الصفات:

موقف المعتزلة من آيات الصفات: ... قال القاضى عبد الجبار: "إذا ورد فى القرآن آيات تقتضى بظاهرها التشبيه، وجب تأويلها؛ لأن الألفاظ معرضة للاحتمال، ودليل العقل بعيد عن الاحتمال" (1) . ... ويورد أبو الحسين عدداً من آيات الصفات ثم يقول: "فكل هذه الآيات وما أشبهها من الآيات، فإنما يريد عز وجل ذاته، لا أن ثم نفساً ووجهاً ويداً، وعيناً ويميناً سواء" (2) . موقف المعتزلة من أحاديث الصفات: إذا كان هذا موقفهم من آيات الصفات الواردة فى القرآن الكريم تأويلها بما يوافق العقل. فقد ذهبوا إلى عدم الاحتجاج بالأحاديث الواردة فى الصفات مهما كانت درجة صحته، ما دام يعارض عقولهم فى إثبات صفة لله تعالى. وقعد عبد الجبار فى ذلك قاعدة عامة، تكشف عن موقف المعتزلة من أحاديث الصفات فقال: "ومما يتعلقون به أخبار مروية عن النبى صلى الله عليه وسلم وأكثرها يتضمن الجبر، والتشبيه، فيجب القطع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقله، وإن قال؛ فإنه قاله حكاية عن قوم، والراوى حذف الحكاية، ونقل الخبر" (3) . ... وتارة يردون الأحاديث فى هذا الباب، بحجة أنها آحاد تفيد الظن، ولا يصلح فى هذا الباب إلا الدليل اليقينى (4) ، وهو العقل فارس هذا الميدان فلا منافس له ألبتة، ولا مشارك له. ويشهد لذلك تأويلهم لآيات القرآن، وردهم لأحاديث متواترة فى هذا الباب كحديث "رؤية رب العزة فى الآخرة" وسيأتى الدفاع عنه.

_ (1) المحيط بالتكليف ص 200، وانظر: شرح الأصول ص 212، وفضل الاعتزال ص 149، 152، وموقف المدرسة العقلية من السنة 1/171 – 175. (2) رسائل العدل والتوحيد ليحيى بن الحسين ص 115. (3) شرح الأصول ص 268، وانظر: دين السلطان ص 618، وإنذار من السماء ص 419، وأهل السنة شعب الله المختار ص 43. (4) شرح الأصول ص 769.

حكم المعتزلة على من خالفهم فى أصلهم التوحيد:

.. ويُعدّ نفى الصفات، هو الأصل الأول من أصولهم الخمسة، وهو التوحيد الذى يعد من أهم أصولهم، فمن ثم نسب إليهم وسموا أنفسهم بـ "أهل التوحيد" وعنوا بالتوحيد ما اعتقدوه من نفى الصفات الإلهية لاعتقادهم أن إثباتها يستلزم التشبيه، ومن شبه الله بخلقه أشرك (1) . ويبنى المعتزلة على هذا الأصل عدة أمور منها: أ- تعطيل الصفات ... ب- القول بخلق القرآن ... ج- إنكار الرؤية ... فرأس النفاة المعتزلة والجهمية …، ورأس المثبتة مقاتل بن سليمان (2) ، ومن تبعه من الرافضة والكرامية. فإنهم بالغوا فى ذلك حتى شبهوا الله تعالى بخلقه. تعالى عما يقولون علواً كبيراً (3) . حكم المعتزلة على من خالفهم فى أصلهم التوحيد: المعتزلة يكفرون من خالفهم فى هذا الأصل اعنى "التوحيد". قال القاضى عبد الجبار: "أما من خالف فى التوحيد، ونفى عن الله ما يجب إثباته، وأثبت ما يجب نفيه عنه، فإنه يكون كافراً" (4) .

_ (1) فتح البارى 13/357. (2) هو: مقاتل بن سليمان بن كثير الأزدى الخرسانى أبو الحسن البلخى المفسر كذبوه وهجروه، ورمى بالتجسيم. مع أنه كان من أدعية العلم بحراً فى التفسير. من مؤلفاته "التفسير الكبير" و"متشابه القرآن" و "الناسخ والمنسوخ" وغير ذلك مات سنة 150هـ له ترجمة فى: ميزان الاعتدال 4/173 رقم 8741،ووفيات الأعيان5/255-257 رقم733،والمجروحين لابن حبان 3/14 - 16، وطبقات المفسرين للداودى 2/330 - 331 رقم 642، وتقريب التهذيب 2/210 رقم 6892، ولسان الميزان 9/198 رقم 14549. (3) فتح البارى 13/359. (4) شرح الأصول ص 125، وانظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة فى التفسير ص 44 - 47.

هذا فضلاً عن طعنهم فى أهل السنة لإثباتهم صفات الله عز وجل فقالوا: إنهم مشبهة غير موحدين لله، ولا يعرفون ربهم؛ لأنهم وصفوه بالأعضاء، والزوال، والاستواء، ويلزم من ذلك أن يكون جسماً (1) . ... وعلى درب المعتزلة صار أسلافهم، من دعاة اللادينية، ردوا أحاديث الصفات تارة بحجة مخالفتها للعقل لما فى ظاهرها من التشبيه والتجسيم، وتارة بحجة مخالفتها لكتاب الله عز وجل، وتارة ثالثة. بحجة أنها آحاد تفيد الظن، والعقائد بابها اليقين والقطع الحاصل بالتواتر. ... ومدح أعداء الإسلام من المستشرقين، طريقة المعتزلة فى تأويلهم القرآن، وردهم للأحاديث الواردة فى باب الصفات، وذموا أهل السنة؛ لعدم سلوكهم مسلكهم (2) أ. هـ.

_ (1) فضل الاعتزال ص 196-197، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/175، وانظر: ما كتبه حسن السقاف فى مقدمته، وتعليقه على كتاب ابن الجوزى "دفع شبهة التشبيه بأكف التنزيه". (2) انظر: العقيدة والشريعة لجولدتسهير ص 125.

موقف السلف الصالح من أحاديث الصفات والرد على أهل البدع قديما وحديثا:

موقف السلف الصالح من أحاديث الصفات والرد على أهل البدع قديماً وحديثاً: ... الكلام عن صفات الله عز وجل له أهمية عظيمة بالنسبة للفرد المسلم، وذلك لأن الإيمان بالله الذى هو الركن الأول من أركان الإيمان، لا يتحقق إلا إذا وصف الله سبحانه بما يستحقه من صفات الكمال اللائقة به، ونزهه عن صفات النقص التى نفاها عن نفسه جل جلاله، بل لا يكون العبد موحداً لله إلا إذا أقر بأسماء الله وصفاته تحقيقاً لأحد أقسام التوحيد الثلاثة (1) ، التى لا ينفك بعضها عن بعض، ولوضوح هذا التوحيد - توحيد الأسماء والصفات – لم يقع خلاف بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ولم يتنازع اثنان منهم فى أمر واحد منه، بل الجميع كانوا على اتفاق تام بالإقرار به، والتسليم بما جاء فى القرآن والحديث منه (2) . ... وقد ظلت القرون الخيرية تنهج نهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى إثبات صفات الله والإقرار بها، إلى أن نجم التهجم فى الأمة، وابتدع القول بنفى صفات الله، فاحتضن أهل الاعتزال تلك المقالة، وجعلوها عقيدة يدينون لله بها" (3) . ... وأما أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة فإنهم أثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. كما نفوا عنه ما لا يليق به من صفات النقص التى نفاها عن نفسه سبحانه، ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، مستندين فى كل ذلك إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

_ (1) وهى توحيد: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات. (2) انظر: فتح البارى 13/402 رقم 7408، 13/418 رقم 7418، 7428. (3) انظر: الملل والنحل 1/86.

قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) وقال بعد أن ذكر منها عدة أسماء فى آخر سورة الحشر: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (2) والأسماء المذكورة فيها بلغة العرب صفات، ففى إثبات أسمائه إثبات صفاته لأنه إذا ثبت أنه حى مثلاً فقد وصف بصفة زائدة على الذات، وهى صفة الحياة، ولولا ذلك لوجب الاقتصار على ما ينبئ عن وجود الذات فقط، وقد قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (3) فنزه نفسه عما يصفونه به من صفة النقص، ومفهومه أن وصفه بصفة الكمال مشروع. وقد قسم البيهقى وجماعة من أئمة السنة جميع الأسماء المذكورة فى القرآن وفى الأحاديث الصحيحة إلى قسمين: أحدهما صفات ذاته: وهى ما استحقه فيما لم يزل ولا يزال. وثانيهما صفات فعله: وهى ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل، قال ولا يجوز وصفه إلا بما دل عليه الكتاب، والسنة الصحيحة الثابتة أو أجمع عليه. ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل كالحياة، والقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام من صفات ذاته، ومنه ما ثبت بنص الكتاب والسنة كالوجه، واليد، والعين، من صفات ذاته، وكالاستواء، والنزول، والمجئ، من صفات فعله، فيجوز إثبات هذه الصفات له لثبوت الخبر بها على وجه ينفى عنه التشبيه، فصفة ذاته لم تزل موجودة بذاته ولا تزال، وصفة فعله ثابتة عنه ولا يحتاج فى الفعل إلى مباشرة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (4) . ولولا إخبار الله ورسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى (5) .

_ (1) جزء من الآية 180 من سورة الأعراف. (2) جزء من الآية 24 من سورة الحشر. (3) الآية 180 من سورة الصافات. (4) الآية 82 من سورة يس، وانظر: فتح البارى 13/369، 370 أرقام7371 – 7375. (5) انظر: فتح البارى 13/402 رقمى 7407، 7408.

وعلى هذا اتفاق الفقهاء فى مشارق الأرض ومغاربها قال محمد بن الحسن الشيبانى: "اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن، وبالأحاديث التى جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسر شيئاً منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وفارق الجماعة، لأنه وصف الرب بصفة لا شئ. ... وقال ابن عبد البر: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة فى الكتاب والسنة ولم يكيفوا شيئاً منها" (1) . قال الإمام الشافعى – رحمه الله –: "لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا الرؤية والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفى عنه التشبيه كما نفى عن نفسه، فقال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) . ... وقال أبو حنيفة – رحمه الله -: "لا يشبه بشئ من خلقه، ولا يشبهه شئ من خلقه… وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا" (3) .

_ (1) انظر: فتح البارى 13/418 أرقام 7418 – 7428. (2) جزء من الآية 11 من سورة الشورى، وانظر: سير أعلام النبلاء 10/79 – 80. (3) انظر: شرح الفقه الأكبر لأبى منصور الحنفى ص 103 – 112، وشرح ملا على القارى على الفقه الأكبر ص 15 – 32، وموقف المدرسة العقلية من السنة 1/197.

.. والذى نرتضيه رأياً وندين لله به عقيدة ما قاله الحافظ ابن حجر: "اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فى إثبات أسماء الله وصفاته وعدم تأويلها، ولو كان تأويلها حتماً لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع، وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث، وهم فقهاء الأمصار، كالثورى، والأوزاعى، ومالك، والليث، ومن عاصرهم، وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة، وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم (1) أ. هـ. ... أما رد أهل البدع قديماً وحديثاً لأحاديث العقائد من أسماء الله، وصفاته، بحجة أنها آحاد. فهذا من تضليلهم لأن القضية ليست قضية متواتر وآحاد كما يزعمون، وإنما قضية عقل قدسوه وعبدوه من دون الله، وطوعوا النصوص من الكتاب والسنة لهذا الإله "إله الهوى": {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (2) . وجعلوا من عقولهم أصلهم الأول "المقدس" وهو التوحيد القائم على نفى الصفات، وطبقوا هذا الأصل على المتواتر نفسه، وهو القرآن الكريم، فأولوا ما فيه من إثبات أسماء وصفات الله عز وجل كما سبق من قول عبد الجبار وغيره. هذا من جهة.

_ (1) انظر: فتح البارى13/418أرقام7418-7428، وانظر: الإبانة للأشعرى 124-142، ومجالس ابن الجوزى فى المتشابه من الآيات القرآنية ص11-16، وفرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وموقف الإسلام منها 2/878-910. (2) الآية 23 من سورة الجاثية، وللاستزادة فى الجواب انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/176 – 212.

ومن جهة ثانية فإن ما جاءت به السنة الصحيحة – حتى ولو كانت آحاداً – من أحاديث فى أسماء الله، وصفاته لم تكن السنة فى ذلك بدعاً، وإنما جاءت بمثل ما جاء به القرآن الكريم، ولا يوجد فى أحاديث العقائد ما يكون مخالفاً لعقائد القرآن، او زائداً عليها بحيث لا يكون له أصل فى القرآن. وكل ما يستشكل من الأحاديث الصحيحة فى العقائد تجد مثله فى القرآن، ويجرى فيها ما يجرى فى القرآن من إثباته بلا تعطيل ولا تشبيه. ... وقد حرص الإمام الجليل أبو عبد الله إسماعيل البخارى على بيان ذلك فى تراجم أبواب كتاب التوحيد من جامعه الصحيح، قبل أن يذكر أحاديث الباب وما فيها من دلالة على صفات لله عز وجل، يعنون للباب بالآيات القرآنية التى جاءت بمثل ما جاءت به أحاديث الباب وهو بذلك يؤكد ما سبق، من أن ما جاءت به السنة المطهرة من أحاديث فى الصفات لم تكن فى ذلك بدعاً وإنما جاءت مؤيدة ومقررة، وموضحة لما جاء فى القرآن الكريم. وهاك نماذج من صنيعه:

"باب قول الله تعالى" {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (1) وقوله جل ذكره {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (2) . وتحت هذا الباب ذكر من الأحاديث ما يوافقه مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق كتب فى كتابه – وهو يكتب على نفسه … الحديث" (3) وقوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: "أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه إذا ذكرنى، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى" الحديث (4) ، وباب قول الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (5) . وتحته حديث جابر مرفوعاً: "أعوذ بوجهك" لما نزل عليه: "قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم … الحديث" (6) وباب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (7) وتحته أحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: "يد الله ملأى لا يغيضها سَحَّاء الليلَ والنهارَ، قال أرأيتم ما انفق منذ خلق الله السماوات والأرض فإنه لم يغض ما فى يده. وقال عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع" (8) . وقوله - صلى

_ (1) جزء من الآية 28 من سورة آل عمران. (2) جزء من الآية 116 من سورة المائدة. (3) صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: "وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ" 13/395 رقم 7404 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. (4) المصدر السابق فى نفس الأماكن السابقة 13/395 رقم 7405. (5) جزء من الآية 88 من سورة القصص. (6) صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد باب قول الله عز وجل "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ" 13/400 رقم 7406 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. (7) جزء من الآية 75 من سورة ص. (8) انظر: صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد باب قول الله تعالى:" لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" 13/404 رقم 7411 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

الله عليه وسلم -: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك" (1) وحديث يقر فيه صلى الله عليه وسلم الحبر اليهودى فى قوله: "يا أبا القاسم إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على أصبع، والخلائق على أصبع، ثم يقول أنا الملك أنا الملك. يقول ابن عمر "فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم" ضحك حتى بدت نواجذه. ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) . فكل هذه الأحاديث، وما فى معناها، والمثبتة لله عز وجل الصفات من النفس، والوجه، واليد، ونحو ذلك من العين، أو الاستواء، والنزول، والمجئ، والضحك، والغضب … إلخ. ... أصول هذه الصفات مذكورة فى القرآن الكريم، ولا يوجد فى الحديث الصحيح الآحاد إلا ما يؤيد هذه الأصول ويوضحها ويقررها، أو يكون من جزئياتها ونظائرها. فردها بحجة أنها آحاد هو رد للقرآن نفسه.

_ (1) انظر: المصدر السابق نفس الكتاب والباب 13/404 رقم 7412 من حديث ابن عمر رضي الله عنه. (2) الآية 67 من سورة الزمر، وانظر: صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: "لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ" 13/404، 405 رقم 7415 من حدث ابن عمررضي الله عنه وانظر فى كل ما سبق الشريعة للآجرى ص 316 – 328، وانظر الابتهاج فى أحاديث المعراج لابن دحية ص93 – 101.

وعدل القول فى هذه الأخبار ما قاله الإمام ابن قتيبة قال: "أن نؤمن بما صح منها بنقل الثقات لها، فنؤمن: بالرؤية والتجلى، وأنه يعجب، وينزل إلى السماء، وأنه على العرش استوى، وبالنفس، واليدين، من غير أن نقول فى ذلك بكيفية أو بحدٍ أو أن نقيس على ما جاء ما لم يأت. فنرجو: أن نكون فى ذلك القول والعقد، على سبيل النجاة غداً، إن شاء الله تعالى. ويقول أيضاً: "فنحن نقول كما قال الله، وكما قال رسوله، ولا نتجاهل، ولا يحملنا ما نحن فيه: من نفى التشبيه، على أن ننكر ما وصف به نفسه، ولكنا لا نقول: كيف البيان؟ وإن سئلنا: نقتصر على جملة ما قال، ونمسك عما لم يقل" (1) . وما يستشكل من الأحاديث الصحيحة فى هذا الباب تجد مثله فى القرآن الكريم، وقد صنف غير واحد من الأئمة فى توضيح هذا المشكل. منهم الإمام ابن قتيبة فى كتابيه "تأويل مشكل القرآن" و "تأويل مختلف الحديث" والإمام الطحاوى فى كتابه "مشكل الحديث وبيانه" على تكلف منه، هو والإمام ابن قتيبة فى تأويل مشكل الضعيف، والموضوع فى أحاديث الصفات، ولو استعمل كل منهما الصنعة الحديثية لكانا فى غنى عن هذا التكلف. وغيرهم من الأئمة (2) أ. هـ.

_ (1) انظر: تأويل مشكل القرآن ص 56، 57، وتأويل مختلف الحديث ص 192، وانظر: العقيدة الصحيحة فى الله وما ثار حولها من مشكلات للحافظ عبد الغنى النابلسى ص20، 21، وانظر: مجالس ابن الجوزى فى المتشابه من الآيات القرآنية لابن الجوزى 6-11. (2) انظر: التوحيد وإثبات صفات الرب للإمام ابن خزيمة و"الأسماء والصفات"للإمام البيهقىوغيرهم.

لمبحث الثانى: شبه الطاعنين فى حديث رؤية الله تعالى

.. وصفوة القول فى موقف أهل السنة من آيات الصفات، وأخبارها، وواجب المسلم نحوها ما قاله فضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى: "الواجب على المسلم السامع للآيات والأخبار المتعلقة بالصفات تقديسها باعتقاده فى كل آية أو خبر صح معنى يليق بجلال الله تعالى: وعليه الإيمان والتصديق بما قاله رب العزة ورسوله صلى الله عليه وسلم، على مراد الله، ومراد رسول الله، وعليه الاعتراف بالعجز عن إدراك مراد الله، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وعليه السكوت، والإمساك عن التصرف فى الألفاظ الواردة، وكف الباطن عن التفكير فى ذلك، واعتقاده أن ما خفى عنه لم يخف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصديق، ولا عن أكابر الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين (1) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم المبحث الثانى: شبه الطاعنين فى حديث رؤية الله تعالى والرد عليها ... لقد أجمعت المعتزلة، وسائر الفرق المبتدعة من الجهمية، والخوارج، والروافض، وغيرهم على القول بنفى رؤية الله تعالى بالأبصار يوم القيامة، وقد نص المعتزلة أنفسهم على هذا الإجماع، كما أشارت كثير من كتب الفرق إليه (2) . ... يقول القاضى عبد الجبار: "لا أحد يدعى أنه يرى الله سبحانه إلا من اعتقده جسماً مصوراً بصورة مخصوصة، أو يعتقد فيه أنه يحل فى الأجسام" (3) . ... وليس هذا منتهى قولهم فى نفى الرؤية، بل زعموا أنه يستحيل أن يرى نفسه، لأنه يستحيل فى ذاته أن يرى، فذاته لا ترى (4) .

_ (1) انظر: الحقائق الجلية فى الرد على ابن تيمية فيما أورده فى الفتوى الحموية ص 46، 121، بتصرف واختصار. (2) انظر: المغنى 4/139، ومقالات الإسلاميين 1/238، والفرق بين الفرق ص 113، والملل والنحل 1/45، والإبانة ص 14، والانتصار 35، 94، والاعتصام للشاطبى 2/570، والإنصاف للباقلانى ص 176، 177. (3) المغنى 4/99، وانظر: شرح الأصول ص 276. (4) انظر: المغنى 4/94 - 95.

وهل يرى غيره؟ فهذا موضع اختلاف بينهم، أجازه قوم، ومنعه آخرون (1) . ... كما اختلفوا فى رؤيته بالقلوب، فقال أبو الهذيل، وأكثر المعتزلة: نرى الله بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بقلوبنا، وأنكر بعضهم ذلك (2) . وقد صرحوا بأن إثبات الرؤية لا يمكن الاستدلال عليه بالسمع، أى بالقرآن والسنة، لأن الاستدلال بذلك ينبنى على أنه تعالى عدل حكيم لا يظهر المعجز على الكذابين، ومن لا يقول بذلك فلا يمكنه الاستدلال بالسمع على شئ أصلاً (3) . بل "لا سمع ورد مصرحاً بأنه سبحانه يرى بالأبصار" (4) ، "ولا فى كتاب الله عز وجل ذكر الرؤية فكيف يصح أن يدعى أنه تعالى سمى نفسه بأنه يرى، أو ورد السمع به" (5) . ... ولذا كان عمدة أدلتهم فى نفى الرؤية العقل، وإن كانوا قد أتبعوا ذلك بأدلة نقلية من الكتاب والسنة تأولوها على ما يوافق أصلهم الأول "التوحيد" القائم على نفى الصفات وزعموا تعارض حديث الرؤية مع القرآن والسنة. قال القاضى عبد الجبار متأولاً لحديث الرؤية قال: "ثم نتناوله نحن على وجه يوافق دلالة العقل، فنقول: المراد به سترون ربكم يوم القيامة، أى ستعلمون ربكم يوم القيامة كما تعلمون القمر ليلة البدر. وعلى هذا قال: "لا تضامون فى رؤيته" أى لا تشكون فى رؤيته فعقبه بالشك، ولو كان بمعنى رؤية البصر لم يجز ذلك. والرؤية بمعنى العلم مما نطق به القرآن، وورد به الشعر" (6) . قال الزمخشرى: "سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر" بمعنى ستعرفونه معرفة جلية هى فى الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى" (7) فحمل الرؤية على المعرفة، بينما حملها عبد الجبار على العلم.

_ (1) الفرق بين الفرق ص 113، وانظر: أصول الدين ص 97 وما بعدها. (2) مقالات الإسلاميين 1/238. (3) انظر: شرح الأصول ص262. (4) المغنى 4/137. (5) المرجع السابق 4/138. (6) شرح الأصول ص 270. (7) الكشاف 2/92.

الجواب عن شبهات المعتزلة ومن قال بقولهم فى إنكار رؤية رب العزة جل جلاله

ويقول عبد الجبار فى أحاديث الرؤية: "ومما يتعلقون به، أخبار مروية عن النبى صلى الله عليه وسلم، وأكثرها يتضمن الجبر والتشبيه، فيجب القطع على أنه صلى الله عليه وسلم، لم يقله وإن قال فإنه قاله حكاية عن قوم، والراوى حذف الحكاية ونقل الخبر" (1) . ... وبقول المعتزلة قال نابتة من المنحرفين بتعارض الحديث مع القرآن، والسنة، والعقل، وصرحوا بوضع الحديث" (2) . الجواب عن شبهات المعتزلة ومن قال بقولهم فى إنكار رؤية رب العزة جل جلاله أولاً: إن الأحاديث التى دلت على ثبوت الرؤية تبلغ حد التواتر أخرجها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد واعتنى بجمعها أئمة من العلماء كالدارقطنى، وأبى نعيم الأصبهانى، وأبى بكر الأجرى وغيرهم الكثير (3) . وقد نص على تواتر أحاديث الرؤية جماعة من العلماء، منهم الحافظ ابن تيمية (4) ، وابن قيم (5) ، وابن كثير (6) ، وابن أبى العز (7) ، وعبد العزيز الغمارى (8) وغيرهم.

_ (1) شرح الأصول ص 268، وانظر: آراء المعتزلة الأصولية دراسة وتقويماً ص83، والمعتزلة وأصولهم الخمسة ص 127. (2) انظر: أبو هريرة لعبد الحسين شرف الدين ص 68، وما بعدها، وأضواء على السنة ص 231، والأضواء القرآنية 2/299، ودفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص 40، 42، 163، 219، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 239، ودين السلطان ص 177 وما بعدها وغيرهم. (3) انظر: بيان تلبيس الجهمية فى تأسيس بدعهم الكلامية لابن تيمية 1/348. (4) انظر: مجموع الفتاوى 3/390. (5) حادى الأرواح ص 219 - 251. (6) انظر: تفسير القرآن العظيم 2/161. (7) انظر: شرح العقيدة الطحاوية 1/243. (8) انظر: نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص 239 رقم 307، وإتحاف ذوى الفضائل المشتهرة ضمن مجموعة الحديث الصديقية ص 226 - 227.

.. قال الحافظ ابن حجر: "جمع الدارقطنى طرق الأحاديث الواردة فى رؤية الله تعالى فى الآخرة فزادت على العشرين، وتتبعها ابن قيم الجوزية فى حادى الأرواح فبلغت الثلاثين، وأكثرها جياد، وأسند الدارقطنى عن يحيى بن معين قال: "عندى سبعة عشر حديثاً فى الرؤية صحاح" (1) . وفى تواتر حديث الرؤية رد على المعتزلة، ومن قال بقولهم من أعداء السنة "بوجوب القطع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل حديث الرؤيا وأنه مكذوب عليه" (2) . كما أن فى تواتر حديث الرؤيا بيان أن القضية مع أعداء السنة ليست قضية متواتر يؤخذ به فى العقائد، وآحاد لا يؤخذ به، كلا، القضية، قضية عقولهم وأصولهم الإلحادية التى قدموها على النصوص. كتاب وسنة، وإلا فلو صدقوا فى زعمهم بأن العقائد تؤخذ من الدليل اليقينى الحاصل بالتواتر، فلم لم يأخذوا بحديث الرؤية هنا مع تواتره (3) ؟!! ... ثم ألا يكفى ثبوت الرؤيا بكتاب الله المتواتر؟! ويصبح حديث الرؤيا على فرض أنه آحاد دليل ظنى راجع إلى دليل قطعى وهو القرآن، ومبين له، وبالتالى يجب العمل بالظن هنا كما سبق من قول الإمام الشاطبى (4) ؟! ثانياً: لقد تظاهرت أدلة الكتاب، والسنة، والعقل، وأجمع الصحابة، والذين من بعدهم من سلف هذه الأئمة وأئمتها من أهل السنة والجماعة على أن الله عز وجل يرى فى الدار الآخرة، يراه المؤمنون رؤية حقيقية، تليق به سبحانه وتعالى، من غير إحاطة، ولا كيفية (5) .

_ (1) انظر: فتح البارى 13/443، والمنهاج شرح مسلم للنووى 2/20 رقمى 180، 181. (2) شرح الأصول ص 268، وراجع: المصادر المسمومة السابقة ص 756. (3) انظر: شرح الأصول ص 269. (4) راجع: ص 523، 564. (5) انظر: المنهاج شرح مسلم للنووى 2/20 رقمى 180، 181، والإنصاف للباقلانى ص 176، 181، والفصل فى الملل والنحل 3/4، وفتح البارى 13/434–442 أرقام 7445-7449.

كما اتفقوا على أنه لا يراه أحد بعينى رأسه فى الدنيا، وذلك لقوله تعالى لموسى -عليه السلام-: "لَنْ تَرَانِى" (1) ، ولقول النبى صلى الله عليه وسلم: "تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت" (2) وهى وإن كانت جائزة عقلاً وليست بمستحيلة، إلا أن البشر لا يطيقون رؤيته فى هذه الدار لعجز أبصارهم وضعفها. ولذا من ادعى رؤية الله فى الدنيا بعينى رأسه فدعواه باطلة باتفاق أهل السنة والجماعة وهو ضال (3) . وإنما الخلاف فى رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل بعينيه فى الدنيا، فأثبت ذلك قوم ونفاه آخرون. والجمهور أنه لم يره بعينيه لقوله فى حديث أبى ذر رضي الله عنه: "نور أنى أراه" وفى رواية: "رأيت نوراً" (4) ومن قال رآه بعينى رأسه ليلة المعراج، قال رأه كما سيراه المؤمنون يوم الآخرة، رؤية حقيقية تليق به سبحانه وتعالى من غير إحاطة ولا كيفية (5) . ... وهذه بعض النصوص التى تدل على إثباتها من القرآن، والسنة، والعقل، وأقوال سلفنا الصالح. أ- القرآن الكريم:

_ (1) جزء من الآية 143 من سورة الأعراف. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر ابن صياد9/279رقم2931 من حديث بعض أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم. وانظر: الابتهاج فى أحاديث المعراج لابن دحية ص 84. (3) انظر: بيان تلبيس الجهمية 1/358، ومجموع الفتاوى 3/389، وشرح العقيدة الطحاوية 1/245، والجامع لأحكام القرآن 7/55، ولوامع الأنوار البهية للسفارينى 2/285، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/230. (4) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب فى قوله صلى الله عليه وسلم: "نوراً أنى أراه" وفى قوله "رأيت نوراً" 2/15 رقم 178. (5) الإنصاف للباقلانى ص176،وانظر: الإسراء والمعراج للدكتور أبو شهبة67-69،وزاد المعاد 3/36-38

1- قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) . وبيان الدلالة من هذه الآية من وجوه عديدة: ... الوجه الأول: إنه لا يظن بكليم الرحمن، ورسوله الكريم عليه، أن يسأل ربه ما لا يجوز عليه، بل هو من أبطل الباطل وأعظم المحال. ... الوجه الثانى: إن الله سبحانه لا ينكر عليه سؤاله، ولو كان محالاً لأنكره عليه. ولهذا لما سأل إبراهيم الخليل ربه تبارك وتعالى أن يريه كيف يحى الموتى لم ينكر عليه، ولما سأل عيسى بن مريم ربه إنزال المائدة من السماء لم ينكر سؤاله. ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (2) أ. هـ. ... الوجه الثالث: إنه إجابة بقوله: "لن ترانى" ولم يقل لا ترانى ولا إنى لست بمرئى، ولا تجوز رؤيتى، والفرق بين الجوابين ظاهر لمن تأمله. وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى يرى، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته فى هذه الدار لضعف قوة البشر فيها عن رؤيته تعالى. ... الوجه الرابع: قوله تعالى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت لتجليه له فى هذه الدار، فكيف بالبشر الضعيف الذى خلق من ضعف.

_ (1) الآية 143 من سورة الأعراف. (2) الآية 46 من سورة هود.

.. الوجه الخامس: إن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الجبل مستقراً مكانه وليس هذا بممتنع فى مقدوره، بل هو ممكن وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً فى ذاتها لم يعلقها بالممكن فى ذاته. بل لو كانت محالاً لكان ذلك نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام. ... الوجه السادس: قوله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وهذا من أبين الأدلة على جواز رؤيته تبارك وتعالى فإنه إذا جاز أن يتجلى للجبل الذى هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لأنبيائه ورسله، وأوليائه فى دار كرامته ويريهم نفسه؟ فأعلم سبحانه وتعالى موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته فى هذه الدار فالبشر أضعف. ... الوجه السابع: إن ربه سبحانه وتعالى قد كلمه، وخاطبه، وناجاه، وناداه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه معه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار الرؤية إلا بإنكار التكليم (1) . 2- قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (2) استدل بهذه الآية ابن عباس – رضى الله عنهما – وجماعة من التابعين منهم الحسن البصرى، وعكرمة مولى ابن عباس على جواز الرؤية، وكذا استدل بها مالك والشافعى رحمهما الله (3) وهو قول المفسرين من أهل السنة والجماعة (4) .

_ (1) حادى الأرواح ص 212 – 213 بتصرف، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية 1/241، 242، والانصاف للباقلانى ص 177. (2) الآيتان 22، 23 من سورة القيامة. (3) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائى 2/464. (4) انظر: شرح الطحاوية1/239، وتفسير القرآن العظيم 4/450، والعقيدة الصحيحة فى الله وما ثار حولها من مشكلات للحافظ النابلسى ص 29.

3- قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) الحسنى: هى الجنة، والزيادة هى النظر إلى وجه الله الكريم، بذلك فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (2) . 4- قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (3) قال الرازى: "فإن إحدى القراءات فى هذه الآية فى "َمُلْكًا" بفتح الميم وكسر اللام، وأجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالى، وعندى أن التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها (4) . 5- قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (5) ففى هذه الآية دليل على أن الله تعالى يرى فى القيامة، ولولا ذلك ما كان فى هذه الآية فائدة، ولا خصت منزلة الكفار بأنهم يحجبون.

_ (1) الآية 26 من سورة يونس. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين فى الآخرة ربهم سبحانه وتعالى 2/19، 20 رقم 181، والبيهقى فى البعث والنشور ص 261 رقم 446 من حديث صهيب رضي الله عنه من حديث صهيب رضي الله عنه وانظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/255 وما بعدها، وحادى الأرواح ص 214 – 215، والجامع لأحكام القرآن 8/330، وتفسير القرآن العظيم 2/414 وشرح العقيدة الطحاوية 1/240. (3) الآية 20 من سورة الإنسان. (4) التفسير الكبير 13/131، وانظر: مناهل العرفان 1/150. (5) الآية 15 من سورة المطففين.

قال الإمام الشافعى: "لما حجب قوماً بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا ثم قال: أما والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه فى المعاد لما عبده فى الدنيا" (1) وجمهور المفسرين ذهبوا إلى تفسير حجب الكفار عن ربهم، بالمنع من رؤيته يوم القيامة (2) . ب- أدلة السنة: ... أما الأحاديث الصحيحة التى تدل على رؤية الله فى الآخرة فهى كثيرة متوافرة بلغت حد التواتر، فى الصحاح، والسنن، والمسانيد، من تلك الأحاديث: ما روى فى الصحيحين من حديث جرير (3) قال: "كنا جلوساً عند النبى صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون فى رؤيته (4)

_ (1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/506، وانظر: مناقب الشافعى للبيهقى 1/419، ومناقب الشافعى للرازى ص 111. (2) الجامع لأحكام القرآن 19/261. وانظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/506. (3) جرير هو: جرير بن عبد الله البجلى. صحابى جليل له ترجمة فى: الإصابة1/232 رقم 1136، وأسد الغابة 1/529 رقم 730، والاستيعاب 1/236 رقم322،وتاريخ الصحابة ص 59، 60 رقم 193، ومشاهير علماء الأمصار ص56 رقم 275 (4) قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تضامون فى رؤيته" فيه عدة وجه منها: أحدهما: "لا تُضَامُّون" بتشديد الميم، وضم التاء، وهو تَفَاعَلُون من الضَّمِّ، أى لا ينضم بعضكم إلى بعض حال الرؤية لإشكاله وخفائه، كما يكون وقت الهلال، أى ترون الله عياناً ظاهراً لا يحتاج بعضكم أن ينضم إلى بعض فى الاستعانة به لجلائه. والوجه الثانى والثالث: "لا تضارَّون بتشديد الراء، أصله "تَضارَرُون" أو تُضَارَرُون من الضُّرِّ، أى لا يضركم أحد، ولا تضرُّوا أحداً، بمنازعة ولا مجادلة، ولا مضايقة، لأن ذلك كله إنما يتصور فى مَرْئىّ يُرى فى حين واحد، أو جهة مخصوصة، أو قدر مقّدر وذلك كله فى حق الله تعالى محال. والوجه الرابع: "لا تُضّامُون، أو لا تُضَاهُون" فى رؤيته أى لا يُشبِّهُون ربكم بغيره، والمضاهاة المشابهة أ. هـ. وغير ذلك من الوجود انظر: الابتهاج فى أحاديث المعراج لابن دحية ص89، 90، وفتح البارى 11/455 رقم 6574، 13/446 أرقام 7434 – 7447.

، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروب الشمس فافعلوا (1) ، وفى رواية عنه رضي الله عنه قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم، "إنكم سترون ربكم عياناً" (2) . وفى الصحيحين أيضاً من حديث أبى موسى الأشعرى مرفوعاً: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما. وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن" (3) . ج- أدلة العقل:

_ (1) البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد، باب قول الله تعال "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" 13/429، 430 رقم 7434، ومسلم (بشرح النووى) كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب فضل صلاتى الصبح والعصر والمحافظة عليهما3/143،144رقم633واللفظ للبخارى. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" 13/430 رقم 7435. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" 13/433 رقم 7444، ومسلم (شرح النووى) كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين فى الآخرة ربهم سبحانه وتعالى 2/19 رقم 180 واللفظ المسلم.

.. قال القاضى الباقلانى (1) : يدل على الرؤية من جهة العقل: أنه تعالى موجود، والموجود لا يستحيل رؤيته، وإنما يستحيل رؤية المعدوم. وأيضاً فإنه تعالى يرى جميع المرئيات، وقد قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (2) وقال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} (3) وكل راء يجوز أن يرى. ولا يجوز أن تحمل الرؤية منه تعالى على العلم -كما تزعم المعتزلة لأنه تعالى فصل بين الأمرين، فلا حاجة بنا أن نحمل أحدهما على الآخر، ألا ترى أنه سمى نفسه عالماً، وسمى نفسه مريداً، ولا يجوز أن نحمل الإرادة على العلم، كذلك لا تحمل الرؤية على العلم. فاعلمه. ... وجواب آخر: وهو أن الصحابة سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا؟ فقال: "نعم" ولا يجوز أن يكون سؤالهم: هل نعلم ربنا أو يعلمنا ربنا.

_ (1) الباقلانى: هو محمد بن الطيب بن محمد، القاضى أبو بكر الباقلانى، البصرى المالكى الأشعرى الأصولى المتكلم، صاحب المصنفات الكثيرة فى علم الكلام وغيره توفى سنة 403هـ. له ترجمة فى: الديباج المذهب 363 رقم 490، وشذرات الذهب 3/168، ووفيات الأعيان 3/400 رقم 580، وسير أعلام النبلاء 11/43 رقم 3734، وشجرة النور الزكية 1/92 رقم 209. (2) الآية 14 من سورة العلق. (3) الآية 218 من سورة الشعراء.

فبطل قول من يحمل الرؤية على العلم، ولهذا أجاب صلى الله عليه وسلم: "سترونه كما يرى القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترى الشمس ليس دونها سحاب" (1) يعنى لا تشكون فى رؤيته كما لا يشك من رأى القمر والشمس فيها، فشبه الرؤية بالرؤية فى نفى الشك عن الرائى، ولم يشبه المرئى بالمرئى. فاعلم ذلك" (2) أ. هـ. د- آثار السلف: ... وأما الآثار التى وردت عن سلفنا الصالح – رضوان الله عليهم – فى إثبات رؤية الله عز وجل فى الآخرة للمؤمنين، فهى أكثر من أن تذكر سبق منها قول الإمام الشافعى. ويقول فى ذلك الإمام أحمد – رحمه الله -: "من كذب بالرؤية فهو زنديق" وقال: "نؤمن بها أى الرؤية وأحاديثها، ونعلم أنها حق، فنؤمن بأن الله يرى، نرى ربنا يوم القيامة، لا نشك فيه ولا نرتاب".

_ (1) البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" 13/430 رقم 7437، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية 2/21، 22 رقم 182 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. (2) الانصاف للباقلانى ص181، 182 وانظر: الابتهاج فى أحاديث المعراج لابن دحية ص 78، 79

.. وقال أيضاً: "من زعم أن الله لا يرى فى الآخرة فقد كفر بالله، وكذب بالقرآن ورد على الله أمره، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل" (1) . ... وسئل الإمام على بن المدينى (2) الإمام عبد الله بن المبارك عن رؤية الله تعالى فقال: ما حجب الله عز وجل أحداً إلا عذبه، ثم قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (3) قال: الرؤية. فقلت له يا أبا عبد الله: إن عندنا قوماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث: "إن الله ينزل إلى سماء الدنيا، وأهل الجنة يرون ربهم، فحدثنى بنحو عشرة أحاديث فى هذا، وقال: أما نحن فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين، والتابعون أخذوه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عمن أخذوه؟! (4) أ. هـ. ... أما ما تعلق به المعتزلة من قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (5) وزعمهم بتعارض الآية مع الحديث (6) .

_ (1) لوامع الأنوار البهية للسفارينى 2/246. (2) على بن المدينى هو: على بن عبد الله بن معمر بن نجيح، أبو الحسن، ابن المدينى البصرى، ثقة ثبت إمام، أعلم أهل عصره بالحديث وعلله. توفى سنة 234هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/697، 698 رقم 4776، والإرشاد للخليلى ص 188، والثقات للعجلى ص 349 رقم 1198، والكاشف 2/42 رقم 3937، وطبقات الحفاظ 187 رقم 414، وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير 1/146 رقم 40. (3) الآيات 15 – 17 من سورة المطففين. (4) لوامع الأنوار2/245،وانظر: حادى الأرواح ص252،وشرح أصول اعتقاد أهل السنة2/504 (5) جزء من الآية 103 من سورة الأنعام. (6) شرح الأصول ص 233- 242.

.. قال الإمام الباقلانى: "الآية لا حجة لهم فيها وهى حجة عليهم. لأنه قال: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ولم يقل لا تراه الأبصار، والإدراك بمعنى يزيد على الرؤية، لأن الإدراك: الإحاطة بالشئ من جميع الجهات، والله تعالى لا يوصف بالجهات، ولا أنه فى جهة، فجاز أن يرى وإن لم يدرك (1) . وجواب آخر: أن معنى الآية لا تدركه الأبصار فىالدنيا، وإن جاز أن تدركه فىالآخرة، ليجمع بين قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (2) وبين قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . وجواب آخر على دعوى التناقض: "لا تدركه الأبصار" يعنى أبصار الكفار دون المؤمنين، ليجمع بين قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (3) وبين قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (4) . وهذا صحيح، لأن الحجاب لما كان للكفار دون المؤمنين، كذلك الرؤية للمؤمنين دون الكفار" (5) أ. هـ.

_ (1) انظر: الإسراء والمعراج للدكتور محمد أبو شهبة ص 67. (2) جزء من الآية 103 من سورة الأنعام. (3) الآيتان 22، 23 من سورة القيامة. (4) الآية 15 من سورة المطففين. (5) الانصاف للباقلانى ص 184، وانظر: فتح البارى 8/473 وما بعدها رقم 4855.

.. أما ما احتجوا به من خبر عائشة – رضى الله عنها – لما قال لها ابن الزبير – وهو ابن أختها – يا أماه: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: يا ابن أختى لقد وقف شعر بدنى، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (1) . وفى رواية قالت: "من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم، رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية … قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2) . ... قالوا: فموضع الدليل من الخبر أنها أكبرت ذلك ونفت الرؤية عن الله تعالى، فدل أن ذلك مستحيل فى حقه سبحانه وتعالى، كما قالوا بتعارض الخبرين (3) . قال القاضى الباقلانى والجواب على ذلك من أوجه: أولهما: أن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من الصحابة قد صرحوا بأن محمداً صلى الله عليه وسلم، رأى ربه ليلة أسرى به بعينى رأسه، ولو كان ذلك مستحيلاً لم يقع الخلاف فيه بين الصحابة، كما لم يقع بينهم الخلاف فى ما هو مستحيل على الله تعالى من الولد والزوجة، والشريك، ونحو ذلك. فلما وقع بينهم الخلاف فى ذلك وانقرض عصرهم على ذلك، دل على أن الرؤية جائزة غير مستحيلة. فبطل ما ذكر.

_ (1) الآية 51 من سورة الشورى. (2) الآية 103 من سورة الأنعام، والحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب فى سورة النجم8/472 رقم 4855، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: ولقد رآه نزلة أخرى، وهل رأى النبى ربه ليلة الإسراء 2/8، 9 رقم 177. (3) انظر: الإنصاف ص 186، وشرح الأصول ص 267-270.

المبحث الثالث: موقف أهل البدع قديما وحديثا من أحاديث القدر

ثانيهما: أن عائشة - رضى الله عنها - إنما أنكرت رؤية البارى بأبصار العيون فى دار الدنيا، لا على الإطلاق، ولهذا روى عن أبيها وعنها -رضى الله عنهما- وعن جميع الصحابة أنهم فسروا قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (1) قالوا: الزيادة النظر إلى الله تعالى فى الجنة (2) ، وقد روى هذا مرفوعاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما سبق فى الأدلة القرآنية على الرؤية (3) . فصح مذهب أهل السنة والجماعة بحمد الله تعالى، وبطلت شبه المخالف واندحض مكره. ولله المنة والحجة البالغة" (4) أ. هـ. ونسأله عز وجل أن يمتعنا بالنظر إلى وجهه الكريم المبحث الثالث: موقف أهل البدع قديماً وحديثاً من أحاديث القدر والرد عليهم ... الأحاديث التى تثبت ركناً من أركان الإيمان وهو: الإيمان بقدر الله عز وجل خيره، وشره، حلوه ومره، طعن فيها المعتزلة؛ لأنها تتعارض مع أصل من أصولهم الخمسة وهو العدل الذى يعد مع أصلهم، الأول "التوحيد" أهم أصولهم لذا فهم يسمون أنفسهم أهل العدل وأهل التوحيد، وتمدحوا بهذه التسمية. وقد عرفوا العدل: بأنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يختاره، ولا يخل بما هو واجب عليه، وأن أفعاله كلها حسنة (5) . وبنوا على هذا الأصل "العدل" أموراً عدة منها:

_ (1) انظر: فتح البارى 8/474، 475 رقم4855، والابتهاج فى أحاديث المعراج لابن دحية74-76، وزاد المعاد 3/36 - 38، والإسراء والمعراج للدكتور محمد أبو شهبة 67، 69. (2) انظر: البعث والنشور للبيهقى ص 262، 263 رقمى 447، 448. (3) راجع: ص 760، 761. (4) الإنصاف 186-187 وللاستزادة فى الرد على شبه المعتزلة حول حديث الرؤي، انظر: الانصاف، والإبانة ص 35 - 47، وموقف المدرسة العقلية من السنة 1/213 - 284، وشرح العقيدة الطحاوية 1/237-257. (5) انظر: شرح الأصول ص 132، 301.

أ- وجوب الصلاح والأصلح على الله عز وجل (1) . عصمنا الله وإياكم من إساءة الأدب مع الله. ب- الحسن والقبح العقليان، فالحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل، والشرع فى تحسينه وتقبيحه للأشياء مخبر عنها لا مثبت لها، والعقل مدرك لها لا منشئ (2) . ج- إن الله عز وجل لم يخلق أفعال العباد، وإنما الإنسان هو الخالق لأفعاله كلها خيرها وشرها (3) . وقد أفضى بهم هذا إلى إنكار القدر. قال القاضى عبد الجبار "والذين يثبتون القدر هم المجبرة (4) ، فأما نحن فإنا ننفيه وننزه الله تعالى. عن أن تكون الأفعال بقضائه وقدره (5) . وحجة المعتزلة فى نفى القدر أو نفى خلق الله لأفعال العباد طاعات كانت أم معاصى؛ أن الله لا يفعل القبيح، وأفعال العباد وإن كانت طاعة، فقد يصح وجودها على وجه فتقبح، وعلى وجه آخر فتحسن" (6) . وبناءً على أصلهم هذا "العدل" تأولوا الآيات القرآنية التى تثبت قدر الله عز وجل وخلقه لأفعال عباده خيرها وشرها. وطعنوا فى الأحاديث التى تثبت القدر وعدوها ضرباً من الخطأ، وأن من رواها قد ارتكب عظيماً.

_ (1) شرح الأصول ص 133، 134، 307 وما بعدها، وانظر: الفصل فى الملل والنحل 3/164. (2) شرح الأصول 132، 301-323، وانظر: الكشاف للزمخشرى 2/441. (3) شرح الأصول ص 323، 334، 345، 776. (4) المجبرة أو الجبرية: مشتقة من الجبر، وهو نفى الفعل حقيقة عن العبد، وإضافته إلى الرب تعالى: وهم أصناف: فالجبرية الخالصة هى التى لا تثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلا. والمتوسطة: هى التى تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة. انظر: الملل والنحل 1/85، والتعريفات ص101. (5) شرح الأصول ص 776. (6) المجموع المحيط بالتكليف للقاضى عبد الجبار ص 366، 367، نقلاً عن موقف المدرسة العقلية من السنة 1/2880.

قال القاضى عبد الجبار: "وما ورد من أخبار الآحاد دالاً على ذلك، ضرب من ضروب الخطأ الذى يعلم بروايته أنه ارتكب عظيماً" (1) . ... ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما كفروا من خالفهم فى هذا الأصل "العدل". قال عبد الجبار: "وأما من خالف فى العدل، وأضاف إلى الله تعالى القبائح كلها من الظلم، والكذب، وإظهار المعجزات على الكذابين، وتعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم والإخلال بالواجب فإنه يكفر أيضاً" (2) . وقد تأثر بموقف المعتزلة بالطعن فى أحاديث القدر، دعاة اللادينية (3) ، كما تأثر بعض رواد المدرسة العقلية الحديثة وقد فصل ذلك الدكتور فهد الرومى فى رسالته للدكتوراه "منهج المدرسة العقلية الحديثة فى التفسير" (4) .

_ (1) فضل الاعتزال ص 194. (2) شرح الأصول ص125. (3) انظر: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص131،135،357،394،ودين السلطان ص323،324 (4) انظر: منهج المدرسة العقلية ص 533-544.

وجوب الإيمان بقدر الله تعالى والجواب عن شبه المعتزلة

وجوب الإيمان بقدر الله تعالى والجواب عن شبه المعتزلة ومن قال بقولهم أو تأثر بهم ... الإيمان بقدر الله واجب، وهو أحد أركان الإيمان الستة؛ التى لا يتصف المؤمن بالإيمان إلا بتحقيقها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله، ملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره" (1) . ولقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة والعقل على إثبات قدر الله تعالى، وهى تؤيد ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من ذلك: قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (2) وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (4) . ... وسئل ابن عمر – رضى الله عنهما – عن أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم (أى يبحثون عن غامضه وخفاياه) وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف (أى مستأنف لم يسبق به قدر، ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلم بعد وقوعه) ؟ فيجيب ابن عمر–رضى الله عنهما – فيقول للسائل: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنى برئ منم وأنهم براء منى، والذى يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه، ما قُبل الله منه حتى يؤمن بالقدر (5) ، ثم ساق حديث عمر رضي الله عنه السابق.

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله عز وجل 1/177 رقم 8 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (2) الآية 2 من سورة الفرقان. (3) الآية 49 من سورة القمر. (4) الآية 38 من سورة الأحزاب. (5) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله عز وجل 1/178 رقم 8.

وعن طاووس قال: "أدركت ثلثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقولون: كل شئ بقدر، وسمعت عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شئ بقدر حتى العجز والكيس" (1) ، والأحاديث فى إثبات القدر كثيرة جداً فى الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة (2) والإيمان بالقدر لا يتم إلا بأربعة أمور: الأول: الإيمان بأن الله عالم بكل ما يكون جملة وتفصيلاً بعلم سابق لقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) . الثانى: إن الله كتب فى اللوح المحفوظ مقادير كل شئ لقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (4) ولقوله صلى الله عليه وسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء" (5) .

_ (1) الكَيس "بفتح الكاف" ضد العجز، ومعناه الحذق فى الأمور ومعناه: أن العاجز قد قدر عجزه، والكيس قد قدر كيسه أ. هـ. المنهاج شرح مسلم8/456، وفتح البارى 11/487، والحديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب كل شئ بقدر 8/455،456رقم2655 (2) انظر: كتاب القدر فى الصحيحين، البخارى (بشرح فتح البارى) 11/486 – 524 أرقام 6594 – 6620، ومسلم (بشرح النووى) 8/440 – 468 أرقام 2643 – 2663. (3) الآية 70 من سورة الحج. (4) الآية 22 من سورة الحديد. (5) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام 8/452 رقم 2653 من حديث ابن عمرو –رضى الله عنهما-.

الثالث: إنه لا يكون شئ فى السماوات والأرض إلا بإرادة الله ومشيئته، الدائرة بين الرحمة والحكمة، يهدى من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته، وسلطانه، وهم يسألون، وما وقع من ذلك فهو مطابق لعلم الله السابق ولما كتبه فى اللوح المحفوظ لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (2) " فأثبت جل جلاله وقوع الهداية والضلال بإرادته. الرابع: إن كل شئ فى السماوات والأرض مخلوق لله تعالى لا خالق غيره، ولا رب سواه، لقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3) وقال على لسان سيدنا إبراهيم - عليه السلام -: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (4) . ... ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة من أدلة العقل: أن الملك إذا جرى فى ملكه ما لا يريد، دل ذلك على نقصه أو ضعفه أو عجزه، والله تعالى موصوف بصفات الكمال، لا يجوز عليه فى ملكه نقص، ولا ضعف، ولا عجز، فكيف يكون فى ملكه ما لا يريده، ويريده أضعف خلقه فيكون.كلا سبحانه وتعالى أن يأمر بالفحشاء أو يكون فى ملكه إلا ما يشاء ونقول: إن مذهب أهل السنة والجماعة الذى ندين لله تعالى به أنه لا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن ولا يطيع طائع، ولا يعصى عاص، من أعلى العلى إلى ما تحت الثرى؛ إلا بإرادة الله تعالى، وقضائه ومشيئته. وقد دل على صحة ذلك الكتاب، والسنة، والعقل، وإجماع الأمة (5) .

_ (1) الآية 49 من سورة القمر. (2) الآية 125 من سورة الأنعام. (3) الآية 2 من سورة الفرقان. (4) الآية 96 من سورة الصافات، وانظر: فتح البارى 1/145 رقم 50. (5) الإنصاف للباقلانى ص 157، 158، 161، 162 بتقديم وتأخير.

.. وقد تناول العلماء من أهل السنة شبه المعتزلة فى موضوع القدر، وأفعال العباد ففندوها وأوضحوا بطلانها؛ لأنها لم تبن على نصوص الشرع، وإنما بنيت على العقول القاصرة العاجزة، فجاءت مخالفة للنصوص مناهضة لها. ... وصفوة القول فى الرد على المعتزلة: "إن المعتزلة لما خاضوا بعقولهم فى شرع الله تعالى بعيداً عن هدى النصوص، قذفت لهم تلك العقول بما يسمى بالتحسين والتقبيح العقلى، ووجوب الأصلح على الله؛ الذى كان علته وسببه قياسهم لأفعال الله سبحانه على أفعال العباد، فحسنوا منه ما يحسن منهم، وقبحوا منه ما يقبح منهم، وأوجبوا عليه ما يجب عليهم، وحرموا عليه ما يحرم عليهم، وسموا ذلك عدلاً، وما ذلك إلا تشبيه لله بخلقه فى أفعاله فهم فى الحقيقة مشبهة الأفعال. والله سبحانه لا يقاس بنا فى أفعاله، فليس ما وجب أو حرم علينا، يجب ويحرم عليه، وليس ما حسن أو قبح منا يحسن أو يقبح منه (1) . ... فهو سبحانه منزه عن فعل القبائح، لا يفعل السوء والسيئات، مع أنه سبحانه خالق كل شئ، أفعال العباد وغيرها.

_ (1) انظر: المنتقى من منهاج الاعتدال ص 48، ومفتاح دار السعادة ص 49-52.

والعبد إذا فعل القبيح المنهى عنه كان قد فعل سوءاً، وظلماً، وقبيحاً وشراً، والرب قد جعله فاعلاً لذلك، وذلك منه سبحانه عدل، وحكمة، وصواب، ووضع للأشياء فى مواضعها، فخلقه سبحانه لما فيه نقص أو عيب للحكمة التى خلقه لها هو محمود عليه، وهو منه عدل، وحكمة، وصواب، وإن كان فى المخلوق عيباً، ومثل ذلك فى المخلوقين، فإن الصانع إذا أخذ الخشبة المعوجة، والحجر الردئ، واللبنة الناقصة، فوضعها فى موضع يليق بها ويناسبها كان ذلك منه عدلاً، واستقامة وصواباً وهو محمود، وإن كان فى تلك عوج وعيب هى به مذمومة، ومن أخذ الخبائث فوضعها فى المحل الذى يليق بها كان ذلك حكمة وعدلاً، وإنما السفه والظلم أن يضعها فى غير موضعها، فهو سبحانه لا يضع شيئاً إلا فى موضعه، فلا يكون إلا عدلاً، ولا يفعل إلا خيراً، فلا يكون إلا محسناً جواداً رحيماً، وهو سبحانه له الخلق والأمر (1) . ... والله يختص بحكمة لا يشاركه فيها غيره، ولهذا يحسن منه ما يقبح من المخلوقين لانتفاء تلك الحكمة فى حقهم، مثال لذلك يحسن منه مدح نفسه والثناء عليها، ويقبح من أكثر خلقه ذلك. كما يحسن منه إماتة خلقه وابتلاؤهم وامتحانهم بأنواع المحن، ويقبح ذلك من الخلق، فليس بين الله وخلقه جامع يوجب أن يحسن منه، ما يحسن منهم، ويقبح منه ما قبح منهم (2) .

_ (1) انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/299 – 300. (2) لوامع الأنوار البهية للسفارينى 1/333.

.. وكون الله سبحانه خالقاً لأفعال العباد، لا ينفى ذلك أن يكونوا فاعلين لها حقيقة، فقد أخبر سبحانه أن العباد يفعلون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويصدقون ويكذبون فى مواضع جمة. فأفعالهم مستندة إليهم، وهم الفاعلون لها حقيقة، وأنها تنسب إليهم وتضاف لهم وهى مفعولة لله حقيقة ومخلوقة له، وليست فعلاً له، ولا يتصف بأنه فاعلها؛ لأن هنالك فرقاً بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، فهى فعل العباد ومفعوله له سبحانه (1) . وإلى هذا أشار الإمام الطحاوى (2) – رحمه الله – بقوله: "وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد" (3) .

_ (1) المنتقى من منهاج الاعتدال ص 142، 143، 153، وشفاء العليل فى مسائل القدر ص 115، وشرح الطحاوية 2/188. (2) الطحاوى هو: أبو جعفر، أحمد بن محمد الأزدى المصرى الطحاوى الحنفى. كان ثقة، ثبتاً، فقيهاً، لم يخلف بعده مثله، انتهت إليه رياسة أصحاب أبى حنيفة بمصر من مصنفاته (شرح معانى الآثار) و "أحكام القرآن" و "العقيدة" مات سنة 321هـ. له ترجمة فى: طبقات الحفاظ للسيوطى ص339 رقم 767، وتذكرة الحفاظ 3/808 رقم 797، وطبقات المفسرين للداودى 1/74 رقم 69، والبداية والنهاية 11/ 132، والتقييد لمعرفة رواة السنن لابن نقطة ص 174 رقم 195، ولسان الميزان 1/415 رقم 845. (3) شرح الطحاوية 2/179.

.. وأما إيجاب شئ على الله أو تحريمه عليه، فإن جمهور العلماء ذهبوا إلى أنه سبحانه إنما أمر عباده بما فيه صلاحهم، ونهاهم وحذرهم عما فيه فسادهم، وأرسل لهم الرسل للمصلحة العامة، وإن كان فى إرسالهم ضرر على بعض الناس، ففيه حكم، وإن كان فى بعض ما يخلقه ضرر كالذنوب، فلابد من وجود الحكمة فى ذلك، والمصلحة التى لأجلها خلقه سبحانه (1) ، والله سبحانه قد يوجب على نفسه ويحرم بعض الأمور كقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (2) وفى الحديث:"يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى" (3) وهو لا يخل بما أوجبه أو حرمه على نفسه. أما أن يوجب أو يحرم عليه الخلق بعقولهم فلا (4) . إن قول المعتزلة يجب على الله فعل الصلاح والأصلح لعباده يلزم منه لوازم فاسدة مثل: عدم خلق إبليس وجنوده، فعدم خلقه وجنوده أصلح للخلق وانفع، وقد خلقه البارى! والأمثلة على ذلك كثيرة (5) .

_ (1) المنتقى من منهاج الاعتدال ص 53. (2) الآية 54 من سورة الأنعام. (3) جزء من حديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم 8/375 رقم 2577 من حديث أبى ذر رضي الله عنه. (4) المنتقى من منهاج الاعتدال ص49، 50، وشرح الطحاوية 2/193 – 195. (5) انظر: لوامع الأنوار البهية 1/329 – 332. وللاستزادة من الرد على شبهات المعتزلة فى عقيدة القدر، انظر: الإنصاف للباقلانى ص157-168، والشريعة للآجرى ص 149-250، وموقف المدرسة العقلية من السنة 1/285 –243.

المبحث الرابع: شبه الطاعنين فى حديث محاجة آدم موسى عليهما السلام

إذا عرفت صحة مذهب أهل السنة فى عقيدة الإيمان بالقدر، وعرفت فساد مذهب المعتزلة، عرفت أن طعون المعتزلة ومن قال بقولهم من المستشرقين، ودعاة الإلحاد (1) فى الأحاديث الصحيحة المثبتة للقدر، طعون واهية لا حجة لهم فيها، وهاك مثالاً على ذلك، حديث محاجة آدم موسى عليهما السلام، نذكر شبه الطاعنين فيه والدفاع عنه فى المبحث التالى فإلى بيان ذلك. المبحث الرابع: شبه الطاعنين فى حديث محاجة آدم موسى عليهما السلام والرد عليها ... عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: "احتج آدم وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا، خيَّبتَنَا وأخرجتنا من الجنة، فقال له آدم: أنت موسى. اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك بيدِهِ، أَتَلْوُمِنِىِ على أمر قَدَّره الله علىَّ قبل أن يخلقنى بأربعين سنةً؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "فحج آدم موسى ثلاثاً" (2) . قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-:قد أنكر القدرية هذا الحديث لأنه صريح فى إثبات القدر السابق، وتقرير النبى صلى الله عليه وسلم لآدم على الاحتجاج به، وشهادته بأنه غلب موسى فقالوا:

_ (1) كنيازى عز الدين الذى طعن فى حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "إن أحدكم يجمع فى بطن أمه أربعين يوماً …الحديث" سبق ذكره وتخريجه ص 655، وانظر: دين السلطان ص650، 651، وانظر: دراسة الكتب المقدسة للدكتور مرويس بوكاى ص 297، ودفع الشبهات عن الشيخ الغزالى أحمد حجازى ص158،160،والأضواء القرآنية للسيد صالح أبو بكر2/303وغيرهم (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله عز وجل 11/513، 514 رقم 6614، ومسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام 8/450 رقم 2652.

أولاً: لا يصح لأن موسى لا يلوم على أمر قد تاب منه صاحبه، وقد قتل هو نفساً لم يؤمر بقتلها، ثم قال رب اغفر لى، فغفر له، فكيف يلوم آدم على أمر قد غفر له؟ ثانياً: لو ساغ اللوم على الذنب بالقدر الذى فرغ من كتابته على العبد، لكان من عوتب على معصية قد ارتكبها، يحتج بالقدر السابق، ولو ساغ ذلك لانسد باب القصاص، والحدود، ولاحتج به كل أحد على ما يرتكبه من الفواحش، وهذا يفضى إلى لوازم قطعية، فدل ذلك على أن هذا الحديث لا أصل له (1) أ. هـ. وبنحو ذلك طعن السيد صالح أبو بكر (2) ، ونيازى عز الدين (3) ،وغيرهما فى الحديث. ويجاب عليهم بالآتى: أولاً: هذا الحديث صحيح ثابت فى كتب السنة بالاتفاق. رواه عن النبى صلى الله عليه وسلم أبو هريرة وغيره، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه من طريق أبى هريرة رواه عشرة من التابعين ثم ذكرهم، وذكر من خرج لهم من الأئمة (4) . ثانياً: قد ذكر فى احتجاج آدم بالقدر عدة أقوال، المتجه منها قولان:

_ (1) فتح البارى 11/518 رقم 6614. (2) الأضواء القرآنية 2/239. (3) دين السلطان ص 655 وما بعدها، وانظر: دراسة الكتب المقدسة لموريس بوكاى ص 297. (4) فتح البارى 11/514.

الأول: إنما لام موسى -عليه السلام- آدم -عليه السلام- على المصيبة التى أخرجته لا على المعصية، لأن العبد مأمور أن يحتج بالقدر عند المصائب كما قال صلى الله عليه وسلم "وإن أصابك شئ فلا تقل: لو أنى فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان" (1) . وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) واستحسن هذا القول الإمام الطحاوى (3) . الثانى: إن الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع فى موضع، ويضر فى موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته كما فعل آدم، ويضر الاحتجاج به فى الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر عليه ويصر، فيبطل الاحتجاج به حقاً، ويرتكب باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم لغير الله، فقالوا كما حكى رب العزة عنهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَاءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (4) . ... وخلاصة ذلك أن اللوم إذا ارتفع، صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل (5) .

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله 8/466، 467 رقم 2664. (2) الآية 22 من سورة الحديد. (3) شرح الطحاوية 1/170 وما بعدها وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص 368. (4) الآية 148 من سورة الأنعام. (5) شفاء العليل فى مسائل القضاء والقدر ص 38، 39 بتصرف.

وقال القرطبى: "إنما غلبه بالحجة؛ لأنه علم من التوراة أن الله تاب عليه (1) ، فكان لومه على ذلك، نوع جفاء، كما يقال ذكر الجفاء بعد حصول الصفاء جفاء، ولأن أثر المخالفة بعد الصفح ينمحى حتى كأنه لم يكن، فلا يصادف اللوم من اللائم حينئذ محلاً". قال الحافظ ابن حجر: "وهو محصل ما أجاب به المازرى، وغيره من المحققين، وهو المعتمد" (2) . ثالثاً: ليس فى الحديث احتجاج بالقدر على المعاصى كما يزعم المعتزلة. وآدم -عليه السلام- لم يحتج بالقدر؛ لأن أنبياء الله – عليهم السلام – من أعلم الناس بالله وبأمره ونهيه، فلا يسوغ لأحدهم أن يعصى الله بالقدر، ثم يحتج على ذلك (3) أ. هـ. وبعد فالحديث كما قال الحافظ ابن عبد البر: "هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق فى إثبات القدر، وأن الله تعالى قضى أعمال العباد فكل أحد يصير لما قدر له بما سبق فى علم الله" (4) .

_ (1) كما جاء فى حديث عمر "قال آدم لموسى إنما وجدت أن ذلك كان فى كتاب الله قبل أن أخلق؟ قال نعم" أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب فى القدر4/226رقم4702. (2) فتح البارى 11/518، وقول القرطبى موجود بمعناه فى الجامع لأحكام القرآن 11/256. (3) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم 369، وشفاء العليل ص 38، وشرح الطحاوية 1/170. (4) انظر: فتح البارى 11/517، وللاستزادة فى الرد على هذا الحديث انظر: نصوص من السنة ودفاع عنها للدكتور رفعت فوزى، ص 18-24، وضلالات منكرى السنة للدكتور طه حبيشى ص 463 – 475، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/343 – 347.

وعن النهى عن المجادلة فى القدر روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون فى القدر. فكأنما فقئ فى وجهه حب الرمان من الغضب. فقال: "بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض. بهذا هلكت الأمم قبلكم" (1) أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) أخرجه ابن ماجة فى سننه كتاب الإيمان، باب فى القدر 1/45 رقم 85، وقال البوصيرى فى مصباح الزجاجة 1/58: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات أ. هـ.

المبحث الخامس: موقف المبتدعة قديما وحديثا من أحاديث المغفرة لمرتكب الكبيرة

المبحث الخامس: موقف المبتدعة قديماً وحديثاً من أحاديث المغفرة لمرتكب الكبيرة والرد عليهم ... طعن المبتدعة من المعتزلة وغيرهم فى أحاديث المغفرة لأهل الكبائر يوم القيامة، لتعارضه مع أصلهم السابق "العدل"، وقولهم بوجوب الصلاح والأصلح على الله، ولتعارضه مع أحد أصولهم الخمسة وهو"الوعد والوعيد" ومرادهم به: أنه يجب على الله إثابة الطائع الذى وعده بالثواب، وعقاب العاصى الذى أوعده بالعقاب، ولا يخلف الله وعيده؛ لأنه ذم وقبح (1) . ولتعارضه أيضاً مع قولهم فى مرتكب الكبيرة بأنه فى منزلة بين المنزلتين، وهو أيضاً أحد أصولهم الخمسة، ومرادهم به أن مرتكب الكبيرة منزلته "الفسق" بين المنزلتين "الإيمان، والكفر" وهو بهذه المنزلة خالد مخلد فى النار إذا لم يتب من كبيرته، وحاله فى العقاب دون الكافر، فعقابه أخف ولكنه مع ذلك مؤبد فيها" (2) . ... ومن أصولهم السابقة طعنوا فى أحاديث الشفاعة، كما طعنوا فى الأحاديث التى تصف مرتكب الكبيرة - وإن لم يتب - بأنه تحت المشيئة "إن شاء غفر الله له، وإن شاء عذبه" لتعارضها مع قولهم: "وجوب تنفيذ الله وعيده على العاصى. وقولهم: إن مرتكب الكبيرة خالد مخلد فى النار إن لم يتب من كبيرته. ... واعتبروا مثل هذه الأحاديث فيها خلف للوعيد من الله عز وجلوهو عندهم ذم وقبح. قال القاضى عبد الجبار: "من زعم أن خلف الوعيد كرم، وأن الله يمكن أن يخلف فى وعيده، كفر، لأنه أضاف القبيح إلى الله تعالى" (3) أ. هـ. والجواب:

_ (1) انظر: شرح الأصول ص 125، 611 وما بعدها، والملل والنحل 1/42، وآراء المعتزلة الأصولية دراسة وتقويماً للدكتور على بن سعد بن صالح ص 123. (2) انظر: فضل الاعتزال 210، 350، ومقالات الإسلاميين 1/334، والملل والنحل 1/45. (3) انظر: شرح الأصول ص125، 132، 666، 667.

.. إن إنفاذ الوعيد، والوجوب على الله، الذى دندن به المعتزلة، وقال به أعداء السنة (1) ، وخلدوا به صاحب الكبيرة فى النار، إنما هو أمر عقلى محض لا سند له من النصوص، ولا من العقول السليمة. فمن أين للعقول أن توجب وتحرم عليه سبحانه، وكيف علمت أنه يجب عليه أن يمدح ويذم، ويثيب ويعاقب على الفعل، وأنه رضى عن فاعل، وسخط على فاعل؟ وهل ذلك إلا غيب عنا، وإقحام للعقل فيما لا علم له، وتجنى على نصوص الشرع، وقياس لله بخلقه فى أفعاله. وهل كل ما حسن من الخلق حسن منه، وما قبح منهم قبح منه؟ أم هو القياس الفاسد أيضاً؟ (2)

_ (1) انظر: المسلم العاصى لأحمد صبحى منصور ص 14 –30. (2) مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزية ص 51، 52، وراجع ما سبق فى الجواب عن طعن المعتزلة فى أحاديث القدر ص 767-774.

ولا شك أن الله وعد الطائعين بالثواب، وأوعد العاصين بالعقاب، وما وعد به عباده الطائعين لابد من تحققه، كرماً منه سبحانه وفضلاً، لأنه لا يخلف الميعاد كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (1) وقوله تعالى: {وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (2) وليس معنى ذلك أن العباد يستحقون دخول الجنة على ربهم بأعمالهم كما يزعم أهل الاعتزال، بل إنما يدخلهم الجنة برحمته وفضله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحداً عمله الجنة"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال:"ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله بفضل ورحمة…فسددوا وقاربوا" الحديث (3) ، وذلك بخلاف الوعيد، فإن خلفه مدح لا ذم، ويجوز عليه سبحانه أن يخلف وعيده، لأنه حقه، فإخلافه له عفو وكرم، وجود، وإحسان، ولهذا مدح به كعب بن زهير رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "نبئت أن رسول الله أوعدنى ... *** ... والعفو عند رسول الله مأمول (4) . ... والعرب لا تعد عاراً ولا خُلْفاً، أن تَعِد شراً ثم لا تفعل، ترى ذلك كرماً وفضلاً، إنما الخلف أن تعد خيراً ثم لا تفعل، ومن ذلك قول القائل: لا يرهب ابن العم منى صولة *** ... ولا أختتى (5) من صولة المتهدد وإنى أن أوعدته أو وعدته ... *** لأخلف إ يعادى وأنجز موعدي (1)

_ (1) الآية 31 من سورة الرعد. (2) الآية 194 من سورة آل عمران. (3) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب، باب تمنى المريض الموت10/132،133رقم5673، ومسلم (بشرح النووى) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى 9/174 رقم 2816 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه واللفظ للبخارى. (4) انظر: لوامع الأنوار البهية 1/370، وانظر: شرح ديوان كعب بن زهير للحسن السكرى ص19 (5) أختتى: أى اتصاغر وأنكسر، انظر: لسان العرب 2/28.

.. وفى الحديث عن زيد بن ثابت مرفوعاً: "لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم. ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم" (2) . ... أما ما ذهب إليه المعتزلة والخوارج من أن الكبيرة الواحدة تسقط جميع ما لصاحب الكبيرة من ثواب، لأنه لا ثواب البته يستحقه الإنسان مع وجود الكبيرة (3) ، ويستلزم على هذا حبط إيمانه حيث حكموا عليه بالخلود فى النار، وإن لم يحكم عليه المعتزلة بالكفر فى الدنيا فقد صرح بذلك الخوارج فأصبح الخلاف بينهم لفظى (4) . هذا الذى ذهبوا إليه نوع من الظلم الذى نزه الله نفسه عنه كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (5) .

_ (1) انظر: أخبار عمرو بن عبيد للدارقطنى ص 14،وموقف المدرسة العقلية من السنة1/368،369. (2) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب فى القدر 4/225 رقم 4699، وابن ماجة فى سننه كتاب القدر، باب فى القدر 1/41،42 رقم 77. (3) انظر شرح الأصول ص 691، ومقالات الإسلاميين 1/332. (4) شرح الطحاوية 2/99، 100. (5) الآية 40 من سورة النساء، وانظر: مسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية 2/26 رقم 183.

وهو مخالف لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فى أن مرتكب الكبيرة مسلم عاصى، غير خالد مخلد فى النار، وهو تحت المشيئة "إن شاء غفر الله له وإن شاء عذبه" يدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فالآية صريحة فى أن الغفران المعلق بالمشيئة شامل لجميع الذنوب، كبائر كانت أو صغائر، ولم يستثن المولى عز وجل سوى كبيرة الشرك به تعالى (2) . وفى هذا رد على قولهم المراد بالمغفرة صغائر المعاصى (3) . ... وقال صلى الله عليه وسلم:"ما من عبد قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة"قال أبو ذر رضي الله عنه، قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال "وإن زنى وإن سرق" -ثلاثاً- ثم قال فى الرابعة على رغم أنف أبى ذر" قال فخرج أبو ذر وهو يقول: "وإن رغم أنف أبى ذر" (4) .

_ (1) الآية 116 من سورة النساء. (2) انظر: جامع البيان 5/126، والجامع لأحكام القرآن 5/245، وفرق معاصرة تنسب إلى الإسلام وموقف الإسلام منها 2/839. (3) انظر: فضل الاعتزال ص 154. (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجنائز، باب فى الجنائز، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله 3/1237 رقم 332، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار 1/370، 371 رقم 94 واللفظ له.

.. وفى حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: "بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا فى معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فى الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً، ثم ستره الله؛ فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه". فبايعناه على ذلك (1) . ... والأدلة على أن صاحب الكبيرة "مسلم عاصى" وتحت المشيئة وغير خالد مخلد فى النار كثيرة جداً. والأحاديث فى ذلك متواترة (2) . وأقوال أهل العلم فى ذلك كثيرة نقتصر على قول جامع للإمام النووى – رحمه الله – إذ يقول: "واعلم أن مذهب أهل السنة، وما عليه أهل الحق من السلف والخلف، أن من مات موحداً، دخل الجنة قطعاً على كل حال، فإن كان سالماً من المعاصى، كالصغير، والمجنون، والذى اتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصى إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذى لم يبتل بمعصيةٍ أصلاً، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار أصلاً … وأما من كانت له معصية كبيرة، ومات من غير توبة، فهو فى مشيئة الله تعالى، فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولاً، وجعله كالقسم الأول، وإن شاء عذبه القدر الذى يريده سبحانه وتعالى، ثم يدخله الجنة، فلا يخلد فى النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصى ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر، ولو عمل من أعمال البر ما عمل.

_ (1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الإيمان 1/81 رقم 18 واللفظ له، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها 6/238، 239 رقم 1709. (2) انظر: الشفاعة لمقبل بن هادى، وموقف المدرسة العقلية من السنة 1/360 – 362.

هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق فى هذه المسألة، وقد تظاهرت أدلة الكتاب، والسنة، وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعى (1) أ. هـ. ... أما ما استدل به المعتزلة وغيرهم من الكتاب والسنة على تخليد صاحب الكبيرة فى النار كقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا نمام، ولا عاق" (3) . وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديده، فحديدته فى يده يَتَوَجَّأُ بها بطنه فى نار جهنم خالداً أبداً" (4) أ. هـ. إلى غير ذلك من الأخبار المروية فى هذا الباب، واستدلوا بها على تخليد صاحب الكبيرة (5) . هذه الأخبار التى استدلوا بها على تخليد مرتكب الكبيرة فى النار؛ لا حجة لهم فيها فهى من نصوص الوعيد التى وجهها السلف توجيهاً يتفق ونصوص الوعد الأخرى التى غض عنها المعتزلة الطرف، وهذا من شأن أهل البدع فإنهم يأخذون من النصوص ما يظنون أنه يوافق بدعهم، ويتركون غيرها مما يخالف تلك البدع.وهكذا فعل أهل الاعتزال فى هذا المقام.

_ (1) المنهاج شرح مسلم 1/255، 256 أرقام 26-33. (2) الآية 93 من سورة النساء. (3) أخرجه النسائى فىسننه كتاب الزكاة، باب المنان بما أعطى5/80رقم2562،وأحمد فىالمسند وذكر بدل المنان: الديوث الذى يقر فى أهله الخبث 2/69، 128، 134 من حديث ابن عمر رضي الله عنه. (4) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الطب، باب شرب السم والدواء به …إلخ 8/258 رقم 5778 ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه 1/395 رقم 109 من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. (5) انظر: شرح الأصول ص 657، 663.

وقد ذكر العلماء توجيهات عديدة فى هذه النصوص وأمثالها والمختار منها قولان: أحدهما: أنها محمولة على من يستحل الكبيرة مع علمه بالتحريم، فهذا كافر مخلد فى النار ولا يدخل الجنة أصلاً. والثانى: أنها محمولة على أن مرتكب الكبيرة جزاؤه أن لا يدخل الجنة وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم بل يؤخر، ثم قد يجازى وقد يعفى عنه فيدخلها أولاً (1) . والمراد بالخلود إذا عوقب، طول المدة والإقامة المتطاولة، لا حقيقة الدوام، كما فى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} (2) والعرب تقول: لأخلدن فلاناً فى السجن، والسجن ينقطع ويزول، وكذلك من سجن، ومثله قولهم فى الدعاء: خلد الله ملكه، وأبد أيامه (3) .

_ (1) المنهاج شرح مسلم 1/369 رقم 91 بتصرف. (2) الآية 34 من سورة الأنبياء. (3) الجامع لأحكام القرآن 5/335، وانظر: المنهاج شرح مسلم10/402، 403 رقم 109.

.. وهناك قول ثالث: وهو أن نصوص الوعيد الواردة فى الآيات، والأخبار فى حق مرتكب الكبيرة، هذا الوعيد جزاؤه، ولكن تكرم سبحانه وتعالى فأخبر أنه لا يخلد فى النار من مات مسلماً" (1) ، وقد دلت الأحاديث على ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار يقول الله: من كان فى قلبه مثال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون قد امتحشوا (2) ،وعادوا حمماً (3) ، فيلقون فى نهر الحياة، فينبتون كما تُنْبُتُ الحبةُ فى حَميل السَّيل، أو قال: حَمِيَّةِ السَّيل" وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "ألم تَروا أنها تَنبتُ صفراء مُلتوية؟ " (4) .

_ (1) انظر: المنهاج شرح مسلم 1/369 رقم 1/391 رقم 105. (2) امتحشوا: أى احترقوا. والمحش: احتراق الجلد، وظهور العظم. انظر: النهاية فى غريب الحديث 4/302. (3) حمماً: أى صاروا سود الأجساد كالحمم وهو الفحم انظر: النهاية فى غريب الحديث 1/444 (4) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار11/424رقم 6560

وقد دلت الأحاديث أيضاً أن قاتل نفسه لا يخلد فى النار، روى الإمام مسلم فى صحيحه عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسى أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل لك فى حصن حصين ومنعة؟ (قال: حصن كان لدوس فى الجاهلية) فأبى ذلك النبى صلى الله عليه وسلم للذى ذخر الله للأنصار، فلما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه. فاجْتَوَوا المدينة. فَمَرِضَ، فَجَزِع، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ (1) له فقطع بها بَرَاجَمه فَشَخَبَتْ (2) يداهُ حتى مَاتَ، فَرَآهُ الطفيل بنَ عمرو فى منامه. فرآه وهيئته حسنة، ورآهُ مغطِّياً يَدَيْهِ، فَقَالَ له: ما صنع بك رُّبكَ؟ فقال: غفر لى بهجرتى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: مالى أَرَاك مُغَطِّياً يديك؟ قال: قيل لى لن نُصْلِحَ منك ما أفسدتَ، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم وَلِيديهِ فاغفر" (3) .

_ (1) مشاقص: جمع مشقص وهو نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض. انظر: النهاية فى غريب الحديث 2/490. (2) شخبت: أى سألت من الشخب، وهو السيلان انظر: النهاية فى غريب الحديث 2/450. (3) مسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر1/407 رقم 116

المبحث السادس: شبه الطاعنين فى حديث الشفاعة والرد عليهم

.. قال الإمام النووى -رحمه الله-: "ففيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة، أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها، ومات من غير توبة فليس بكافر، ولا يقطع له بالنار، بل هو فى حكم المشيئة، وقد تقدم بيان القاعدة وتقريرها، وهذا الحديث شرح للأحاديث التى قبله، الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس، وغيره من أصحاب الكبائر فى النار، وفيه إثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصى، فإن هذا عوقب فى يديه، ففيه رد على المرجئة (1) ، القائلين بأن المعاصى لا تضر مع الإيمان، كما لا ينفع مع الكفر طاعة" (2) أ. هـ. ... وإذا تقرر أن مرتكب الكبيرة، مسلم عاصى، تحت مشيئة ربه عز وجل إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، فلا وجه لإنكار أعداء السنة لشفاعة النبى صلى الله عليه وسلم، لأهل الكبائر من أمته. فإلى بيان شبههم حول الحديث والرد عليها فى المبحث التالى. المبحث السادس: شبه الطاعنين فى حديث الشفاعة والرد عليهم ... إن تشبث المعتزلة بأصلهم الوعد والوعيد، ووجوب تحقيق الوعيد فى حق مرتكب الكبيرة بتخليده فى النار، أدى بهم إلى نفى الشفاعة لأهل الكبائر يوم القيامة.

_ (1) المرجئة: من الإرجاء وهو التأخير، والمرجئة لقب أطلق على طائفة تؤخر العمل عن الإيمان، بمعنى أنهم لا يدخلون العمل فى مسمى الإيمان، وقصروا الإيمان على المعرفة. وأكثرهم يرى أن الإيمان لا يتبعض، ولا يزيد ولا ينقص، وزعم بعضهم أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة أ. هـ. انظر: مقالات الإسلاميين 1/132، الملل والنحل 1/137، وانظر: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام 2/743. (2) المنهاج شرح مسلم 1/409 رقم 116 بتصرف يسير، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/374-378.

قال عبد الجبار: "الشفاعة للفساق الذين ماتوا على فسوقهم، ولم يتوبوا لا تجوز، بل مثالها مثال الشفاعة لمن قتل ولد الغير، وظل يتربص للآخر حتى يقتله، فكما أن هذا قبيح فهى قبيحة أيضاً … والنبى صلى الله عليه وسلم، لا يشفع لصاحب كبيرة، ولا يجوز له ذلك لأن إثابة من لا يستحق الثواب قبيحة … والفاسق إنما يستحق العقوبة على الدوام، فكيف يخرج من النار بشفاعته صلى الله عليه وسلم (1) . ... وقد رد المعتزلة أحاديث الشفاعة لأهل الكبائر بدعوى تعارضها مع القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبدعوى أنها خبر آحاد، ومسألة الشفاعة طريقها العلم، فلا يصح الاحتجاج به (2) . وما صح من أحاديث الشفاعة أطلق عليها عبد الجبار حكماً عاماً وهو أن أكثرها مضطرب" (3) . ومما استدلوا به فى إنكار الشفاعة قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} (4) وقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (5) .ونحو ذلك من الآيات، واستدلوا على دعوى التعارض مع السنة المطهرة بما سبق من حديث "لا يدخل الجنة نمام …الحديث" وحديث "من قتل نفسه بحديدة … الحديث" (6) .

_ (1) انظر: شرح الأصول ص 688، 689 بتصرف يسير وانظر: فضل الاعتزال ص 209. (2) انظر: شرح الأصول ص 690. (3) انظر: فضل الاعتزال ص 298. (4) الآية 48 من سورة البقرة. (5) جزء من الآية 18 من سورة غافر، وانظر: شرح الأصول ص 689. (6) الحديثان سبق تخريجهما ص782، وانظر: شرح الأصول ص 691.

ويجاب عن شبههم بما يلى:

وبشبهات المعتزلة استدل دعاة اللادينية فى عصرنا (1) . ويجاب عن شبههم بما يلى: أولاً: الأحاديث فى إثبات الشفاعة لأهل الكبائر ثابتة صحيحة فى الصحيحين، والسنن، والمسانيد وغيرها. وقد نص جماعة من العلماء على أنها تبلغ حد التواتر المعنوى (2) فزعمهم بأن الأحاديث أكثرها مضطرب. حجة واهية، وزعم عار عن الصحة، لا يتفوه به إلا من جهل حديث النبى صلى الله عليه وسلم، أو أغمض عينيه عنه (3) .

_ (1) انظر: مذاهب التفسير الإسلامى ص 190، والمسلم العاصى لأحمد صبحى 10-30، والأنبياء فى القرآن ص 65 وما بعدها، والأضواء القرآنية ص 258 – 264، والقرآن والحديث والإسلام ص 15-17، وإنذار من السماء 184-188، ودين السلطان ص 207، 208، 611، وتبصير الأمة بحقيقة السنة ص 608، 609، وانظر: القرآنيون وشبهاتهم حول السنة للدكتور خادم حسين بخش ص 343. (2) انظر: نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص234 رقم304،وشرح الطحاوية1/312، ولوامع الأنوار البهية2/208،218،وإتحاف ذوى الفضائل المشتهرة ضمن مجموعة الحديث الصديقية ص226 (3) انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/387.

.. ومن الأحاديث الصحيحة الواردة فى الشفاعة قوله صلى الله عليه وسلم: "شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى" (1) ، وزعمهم أن هذا الحديث لم تثبت صحته (2) ، زعم مردود، لأن الحديث قد ثبتت صحته، وأيدته الأحاديث الثابتة كقوله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبى دعوة مستجابة، فتعجل كل نبى دعوته، وإننى اختبأت دعوتى شفاعة لأمتى يوم القيامة. فهى نائلة إن شاء الله من مات من أمتى لا يشرك بالله شيئاً" (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه" (4) .

_ (1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب فى الشفاعة 4/236 رقم 4739، والترمذى فى سننه كتاب صفة القيامة، باب ما جاء فى الشفاعة 4/539، 540 رقم 2435 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وفى الباب عن جابر، وأخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب الإيمان 1/139 رقم 228، وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، ووافقه الذهبى. والحديث من رواية أنس بن مالك، وأخرج الحاكم للحديث متابعات وشواهد من حديث جابر، وصححها على شرط مسلم، ووافقه الذهبى. قال الحاكم: "هذا الحديث فيه قمع المبتدعة المفرقة بين الشفاعة لأهل الصغائر والكبائر، وأخرجه البيهقى فى البعث والنشور ص 55 رقم 1 من حديث جابر، وانظر: استدراكات البعث والنشور ص 173-177 أرقام 268-277، وشعب الإيمان 2/110-144. (2) انظر: شرح الأصول ص 690. (3) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الدعوات، باب لكل نبى دعوة مستجابة 11/99 رقم 6304، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان باب اختباء النبى صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته 2/76 رقم 199، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم. (4) سبق تخريجه ص 646، وانظر: ما قاله الإمام البيهقى فى البعث والنشور ص 56 وما بعدها.

.. تقول الدكتورة عائشة يوسف المناعى: "اضطر المعتزلة إلى اللجوء إلى نقد الأخبار المعارضة التى تثبت الشفاعة لأهل الكبائر من المؤمنين مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى" فبرغم أن هذا الحديث ينص صراحة على أن الشفاعة لأهل الكبائر، وبرغم صحته فإن المعتزلة لا يتورعون أن يقفوا موقف التكذيب من هذا الخبر ويقولون: "إن هذا الخبر لم تثبت صحته أولاً، ولو صح فإنه منقول بطريق الآحاد عن النبى، ومسألتنا طريقها العلم فلا يصح الاحتجاج به" (1) . ولسنا فى حاجة إلى أن نقول إن إجابة المعتزلة هذه تنبنى على التحكم البحت، وفيها من عدم الدقة شئ كثير، فهم يفترضون مرة أن هذا الحديث غير صحيح، ويفترضون مرة أخرى أنه صحيح ولكنه آحاد وأن رأيهم فى هذه المسألة مبنى على العلم، مع أن قولهم فى هذه المسألة قول لا برهان عليه، بل إن الأقرب إلى العقل أن الشفاعة إذا لم تكن لأهل الكبائر بحيث تخرجهم من النار فإنها لا معنى لها ولا فائدة منها، والمكلف التائب مغفور له، وليس فى حاجة إلى الشفاعة، والنصوص صريحة فى أن التائب يبدل الله سيئاته حسنات، فكيف يحتاج إلى شفيع بعد ذلك؟ وإذا كانت معتزلة البصرة قد اعترفوا بجواز إسقاط العقاب ابتداء من الله تعالى؛ لأنه حقه، وهو يشبه الدين، فله أن يسقطه، وله أن يستوفيه، فالأولى أن يقال بإسقاط العقوبة ابتداء. فكيف يقرر المعتزلة بعد ذلك أن أصلهم فى الشفاعة مسألة علم لا يصح أن تعارضها أخبار الآحاد؟ ومن غريب تفسيرات المعتزلة أنهم يقولون أن التائب من الكبيرة تسقط عنه العقوبة بالتوبة، لكن الكبيرة قد أحبطت ما تحصل عنده من الثواب من قبل، فالشفاعة هنا تنفعه فى إعادة هذا الثواب (2) .

_ (1) شرح الأصول ص 690. (2) شرح الأصول ص 691.

ولا شك أن كل هذه التأويلات إنما هى فى المقام الأول هروب من مواجهة النصوص الصريحة فى أن الشفاعة، إنما تكون لأهل الكبائر من المؤمنين، وتؤكد أن القضية مع المعتزلة وسائر أهل البدع ليست قضية متواتر وآحاد، وإنما قضية أصولهم التى طوعوا النصوص قرأناً وسنة لأجلها. ومن الغريب أيضاً:"أن يقول أبو الهذيل:"إن الشافعة إنما تثبت لأصحاب الصغائر" (1) . ... والمعتزلة أنفسهم قد سخروا من هذا القول؛ لأنهم قرروا من قبل أن الصغائر تكفرها الطاعات، فلا وجه للشفاعة فى هذا القول" (2) . أما ما زعم المعتزلة ومن قال بقولهم أن أحاديث الشفاعة متعارضة مع القرآن الكريم. فدعوى مرفوضة؛ لأن ما استدلوا به على نفى الشفاعة، من الآيات القرآنية محمول على الشفاعة للمشركين، والكفار، وهؤلاء لا تنفعهم الشفاعة أصلاً كما دل على ذلك قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (3) . ... والمراد بذلك الشفاعة التى يثبتها أهل الشرك وأهل البدع، الذين يعتقدون أن الخلق يشفعون عند الله بغير إذن، كما يشفع بعضهم لبعض فى الدنيا (4) .

_ (1) المصدر السابق ص 691. (2) أصول العقيدة بين المعتزلة والشيعة الإمامية للدكتورة عائشة يوسف المناعى ص 345، 346. (3) الآيات 42-48 من سورة المدثر. (4) مجموع الفتاوى 1/149-150 بتصرف، وللاستزادة: فى الرد على استدلالات المعتزلة انظر: لوامع الأنوار البهية 2/217، والإنصاف للباقلانى ص 168-176، والأربعين فى أصول الدين للرازى ص 245، وشرح المقاصد للتفتازانى 2/175، والمعتزلة وأصولهم الخمسة ص 235.

والشفاعة إنما تطلب من الله تعالى؛ لأنه هو المالك لها سبحانه كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (1) . وأما الشفاعة المثبتة فهى لا تثبت عند السلف إلا بشروط وهى: الإذن للشافع بالشفاعة كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (2) وقال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (3) . الرضا عن المشفوع فيه. كما قال سبحانه: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (4) وقال: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (5) وعن ابن عباس – رضى الله عنهما - قال فى قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} قال:"الذين ارتضاهم بشهادة أن لا إله إلا الله" (6) . وأما زعمهم دعوى تعارض أحاديث الشفاعة بحديث: "لا يدخل الجنة نمام … الحديث" وبحديث "من قتل نفسه بحديدة …" الحديث. فقد سبق الجواب، بما يرفع التعارض، ويوفق بين النصوص (7) . ... وأما حملهم للحديث على أن المراد به شفاعة النبى صلى الله عليه وسلم، لأهل الكبائر إذا تابوا (8) ؛ فلا دليل لهم على ذلك. وهو مع أنه تأويل مناهض للنصوص الثابتة، ولا يدل عليه لفظ الحديث، فهو أيضاً معنى فاسد؛ لأن الذى يتوب من الذنب لا يوصف به بعد ذلك، بل يبدل الله

_ (1) جزء من الآية 44 من سورة الزمر. (2) جزء من الآية 255 من سورة البقرة. (3) جزء من الآية 3 من سورة يونس. (4) الآية 26 من سورة النجم. (5) جزء من الآية 28 من سورة الأنبياء، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة1/395-396 (6) أخرجه البيهقى فى البعث والنشور ص 55 رقم 2. (7) راجع: ص 782-784. (8) انظر: شرح الأصول ص 691.

سيئاته حسنات فضلاً منه وكرماً قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) . فصاحب الكبيرة إذا تاب عن كبيرته وصحت توبته زال عنه هذا الاسم (2) . قال الصحابى الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة" (3) . ... وما ذهب إليه بعضهم من حصر شفاعته صلى الله عليه وسلم، على زيادة الثواب، ورفع الدرجات لأهل الثواب (4) . مردود عليهم بما صرحت به الأحاديث الصحيحة من شفاعات أخرى له صلى الله عليه وسلم من ذلك:

_ (1) الآية 70 من سورة الفرقان. (2) انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/390. (3) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب الإيمان 1/140 رقم 232. (4) انظر: الكشاف للزمخشرى 3/366.

الشفاعة العظمى، الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، دون سائر خلق الله عز وجل والواردة فى قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1) وفى ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين فى صعيد واحد … إلى أن يقول: فيأتون محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، فأنطلق فآتى تحت العرش فأقع ساجداً لربى عز وجل ثم يفتح الله على من محامده، وحسن الثناء عليه، شيئاً لم يفتحه على أحد قبلى، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفْع تُشفع …" الحديث (2) . شفاعته صلى الله عليه وسلملأمته فى دخول الجنة: كما جاء فى حديث الشفاعة العظمى السابق، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: فأقول أمتى يا رب، أمتى يا رب، فقال: يا محمد ادخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب (3) .

_ (1) الآية 79 من سورة الإسراء. (2) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب التفسير، باب "ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً" 8/247، 248 رقم 4712، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها 2/55-57 رقم 194 واللفظ للبخارى. (3) انظر: تخريج الحديث السابق.

ج- شفاعته صلى الله عليه وسلم للمؤمنين من أهل الكبائر: وقد سبقت بعض النصوص التى تدل عليها. وهى لا تختص به صلى الله عليه وسلم وإنما يشاركه فيها الملائكة، والنبيون، والمؤمنون، كما روى مسلم فى صحيحه بسنده عن أبى سعيد الخدرى أن ناساً فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم قال: "هل تُضَارُّونَ فى رُؤية الشمس بالظهيرة صَحْواً ليس معها سَحَابُ؟ " فذكر الحديث وفيه: "فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون. ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضه من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط …" الحديث (1) . ... وله صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى، منها ما يشاركه فيها غيره، ومنها ما يختص به (2) أ. هـ. اللهم إنى اسألك شفاعات نبيك صلى الله عليه وسلم وأبرأ إليك من جهل الجاهلين وإلحاد الملحدين المنكرين لشفاعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم

_ (1) أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية 2/25، 26 رقم 183، وانظر: استدراكات البعث والنشور للإمام البيهقى جمع الشيخ عامر حيدر ص 131-135 أرقام 207-213، والتذكرة للقرطبى 1/477 –483 أرقام 780-790. (2) انظر: استدراكات البعث والنشور ص144-149 أرقام 230-238، وشرح العقيدة الطحاوية 1/307-315،ولوامع الأنوار البهية2/211-212،والشفاعة لمقبل بن هادى ص18،31،61، والتذكرة 1/483-483، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/390-394، وللاستزادة فى الرد على شبهات المعتزلة راجع موقف المدرسة العقلية من السنة 1/379 – 396. وضلالات منكرى السنة ص 512، والسنة فى مواجهة أعدائها ص 165-187.

الفصل الرابع: أحاديث ظهور "المهدى" وخروج "الدجال"

الفصل الرابع: أحاديث ظهور "المهدى" وخروج "الدجال" و"نزول المسيح عليه السلام" ... وتحته مبحثان: المبحث الأول: شبهة الطاعنين فى أحاديث الأمور الغيبية "المستقبلية" و"الأخروية" والرد عليها. المبحث الثانى: شبهات المنكرين لظهور "المهدى" و "خروج الدجال" و "نزول المسيح عليه السلام" والرد عليها. المبحث الأول: شبهة الطاعنين فى أحاديث الأمور الغيبية "المستقبلية" و"الأخروية" والرد عليها ... أحاديث الأمور الغيبية التى أخبر بها المعصوم صلى الله عليه وسلم، والتى تعد من الأدلة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، طعن فيها أعداء الإسلام بحجة أنه صلى الله عليه وسلم، لا يعلم الغيب، فطعنوا فى أحاديث الفتن وأشراط الساعة، والأمور السمعية، من عذاب القبر ونعيمه، وما فى يوم القيامة من حوض وميزان، وصراط …، بل وطعنوا فى الأحاديث الصحيحة التى تصف نعيم الجنة، وعذاب النار … إلخ. يقول جمال البنا: "عرض الأحاديث على القرآن، سيؤدى إلى التوقف أمام الأحاديث التى جاءت عن المغيبات بدءً من الموت حتى يوم القيامة، والجنة والنار، فهذه هى ما استأثر الله تعالى بعلمها … ويدخل فى الغيب التنبؤ بما سيحدث قبيل الساعة، مما يسمونه "الفتن" ويدخل فيها المهدى، والدجال، وما إلى هذا كله. ... والأحاديث التى تتحدث عن الفتن، والمهدى، والدجال، ثم الموت، وعذاب القبر، فالحشر، والنشر، والجنة والنار، تجاوزت المئات إلى الألوف، ونحن نطويها دون حساسية أو أسى" (1) أ. هـ.

_ (1) السنة ودورها فى الفقه الجديد ص 249-251، وانظر: عذاب القبر لأحمد صبحى منصور ص11-17، ولماذا القرآن ص 53، 120، والمسلم العاصى ص 12 وما بعدها، والقرآن والحديث والإسلام ص 14 وما بعدها، وإنذار من السماء ص 191، 699، ودين السلطان ص280، 460، كلاهما لنيازى عز الدين، وانظر: القرآنيون وموقفهم من السنة للدكتور خادم بخش ص 321، 333.

الجواب على شبهتهم

والجواب على شبهتهم فيما يلى: ... دعوى أعداء السنة بأن أحاديث الأمور الغيبية تتعارض مع القرآن الكريم كقوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) . ... هذا الزعم بالتعارض مردود عليهم بأن الغيب المنفى فى الآية السابقة، ونحوها من الآيات كقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2) وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} (3) . هذا الغيب المنفى هو المذكور فى آية لقمان، والوارد فى قوله صلى الله عليه وسلم: "مفاتح الغيب خمس ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (4) .

_ (1) الآية 188 من سورة الأعراف. (2) الآية 65 من سورة النمل. (3) الآية 179 من سورة آل عمران. (4) الآية 34 من سورة لقمان، والحديث أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب التفسير، باب وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو 8/141 رقم 4627 من حديث ابن عمررضي الله عنه.

.. وما عدا ذلك الغيب أطلع عليه من شاء من أنبيائه ورسله كما قال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (1) أى لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أى اصطفى للنبوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته (2) . وينص على ذلك رب العزة فى حق سيدنا عيسى -عليه السلام – قال تعالى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (3) وفى حق سيدنا يوسف–عليه السلام –قال تعالى: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} (4) .

_ (1) الآيات 26، 28 من سورة الجن. (2) انظر: الجامع لأحكام القرآن 19/28. (3) جزء من الآية 49 من سورة آل عمران. (4) الآية 37 من سورة يوسف.

.. وفى حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (1) . وفى الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "أعطى نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح الغيب إلا الخمس ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2) . ... ومن هنا فإن الأحاديث التى تدل على الغيب من أقوى الأدلة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه نبى من عند الله يوحى إليه. ومن هنا ندرك هدف أعداء الإسلام من المستشرقين وذيولهم من دعاة اللاديينة – فى طعنهم فى ذلك النوع من الأحاديث، وزعمهم أنها مكذوبة، لأنه يلزم من صحتها صدق النبوة (3) .

_ (1) الآية 27 من سورة الفتح. (2) الآية 34 من سورة لقمان، والحديث أخرجه أحمد فى مسنده 1/386، والطيالسى فى مسنده ص51 رقم 385، والحميدى فى مسنده 1/68 رقم 124. واللفظ للطيالسى، وصحح إسناد أحمد الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد 8/263، وانظر: فتح البارى 8/374 رقم 4777، 13/374-377 رقمى 7379، 7380، والموافقات للشاطبى 4/456-459، والوحى المحمدى لمحمد رشيد رضا ص 208، والغيبيات فى ضوء السنة للدكتور محمد أحمد همام، والغيب فى ضوء القرآن الكريم للأستاذ صدقى عبد الحميد عبد ربه. (3) دائرة المعارف الإسلامية 7/333.

.. إن الساعة جعل الله عز وجل لها أشراطاً وعلامات لا تتعارض مع إتيان الساعة بغتة قال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} (1) وقال سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} (2) وقال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (3) وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} (4) . وأكدت السنة المطهرة ما جاء فى القرآن الكريم من أن للساعة أشراطاً.

_ (1) الآية 18 من سورة محمد. (2) الآية 158 من سورة الأنعام. (3) الآية 82 من سورة النمل. (4) الآية96من سورة الأنبياء، وانظر: الغيب فى ضوء القرآن الكريم للأستاذ صدقى عبد الحميد عبدربه.

من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لجبريل –عليه السلام– لما سأله عن الساعة فقال صلى الله عليه وسلم ما المسئول عنها بأعلم من السائل قال – أى جبريل – عليه السلام – فأخبرنى عن أماراتها قال أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة، رعاء الشاةِ يتطاولون فى البنيان … الحديث" (1) . وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم، أحاديث كثيرة فى الإخبار عن علامات وأشراط الساعة لهذا اليوم، وهى من أنباء الغيب المنقولة عن النبى صلى الله عليه وسلم، بالأسانيد الصحيحة الثابتة، وهى كثيرة تفوق درجة التواتر فى جملتها، ويبلغ عدد كثير منها التواتر بمفرده، كالأحاديث الواردة فى ظهور المهدى، والمسيح الدجال، وفى نزول المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام – مما لا يسع أحداً إنكاره إلا أن ينكر عقله وحسه (2) .

_ (1) أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان … إلخ 1/177 رقم 8 من حديث ابن عمر رضي الله عنه. (2) انظر: منهج النقد فىعلوم الحديث ص476،والغيبيات فىضوء السنة للدكتور محمد أحمد همام ص52

المبحث الثانى: شبهات المنكرين "لظهور المهدى" و "خروج الدجال"

وسوف نتناول الجواب عن شبهات ثلاث آيات غيبية أنكروها وهى ظهور المهدى، وخروج الدجال، ونزول المسيح (1) عيسى عليه السلام. ... فإلى بيان ذلك فى المبحث التالى. المبحث الثانى: شبهات المنكرين "لظهور المهدى" و "خروج الدجال" و"نزول المسيح عليه السلام" والرد عليها أولاً: "ظهور المهدى": ... بلغت الأخبار فى ظهور المهدى حد التواتر المعنوى، وحكى هذا التواتر غير واحد من أئمة الحديث. قال ابن قيم الجوزية: "وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذكر المهدى وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلى عيسى خلفه" (2) .

_ (1) انظر: العقيدة والشريعة فى الإسلام ص 218، 240، ودراسات محمدية ترجمة الأستاذ الصديق بشير نقلاً عن مجلة كلية الدعوة بليبيا العدد 8 ص 563، وأضواء على السنة ص 182،191، 241، 232، والبيان بالقرآن 2/805، ودين السلطان 180، 181، 304، والسلطة فى الإسلام ص292، 317، والسنة ودورها فى الفقه الجديد ص 249 - 251، وانظر: القرآنيون وشبهاتهم حول السنة للدكتور خادم بخش ص 325، وممن تأثر بذلك من علماء المسلمين الأستاذ محمد رشيد رضا والشيخ شلتوت وغيرهم. انظر: تفسير المنار 19/450، 459-460، ومجلة المنار المجلد 10/245 - 246، والمجلد 19/99، والمجلد 28/755،756،757، والفتاوى للشيخ شلتوت ص 59-82. وانظر السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث ص 150 - 151، وموازين القرآن والسنة عز الدين بليق ص 81، 95، 101. (2) المنار المنيف فى الصحيح والضعيف ص 142.

وقال الإمام الشوكانى: "والأحاديث الواردة فى المهدى التى أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح، والحسن، والضعيف، المنجبر، وهى متواترة بلا شك ولا شبهة (1) أ. هـ. ومن الأحاديث الصحيحة الواردة فى "المهدى": حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً منى – أو من أهل بيتى – يواطئ اسمه اسمى، واسم أبيه اسم أبى، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً" (2) .

_ (1) التوضيح فى تواتر ما جاء فى المنتظر، والدجال، والمسيح، للشوكانى. نقلاً عن الإذاعة لما كان ويكون بين يدى الساعة ص 113، وانظر: فتح البارى 6/569 رقم 3449، والحاوى للفتاوى للسيوطى 2/165 – 166، والتصريح بما تواتر فى نزول المسيح للكشميرى، والإشاعة لأشراط الساعة للشريف الحسينى ص 87، 112، وإتحاف ذوى الفضائل المشتهرة لعبد العزيز الغمارى ضمن مجموعة الحديث الصديقية ص 224، ونظم المتناثر من الحديث المتواتر ص 225 رقم 289، وعقد الدرر فى أخبار المنتظر للإمام يوسف بن يحيى المقدسى ص 15-171. (2) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب المهدى 4/106، 107 رقم 4282، واللفظ له، والترمذى فى سننه كتاب الفتن، باب ما جاء فى المهدى 4/438 رقم 2230، 2231، وقال: حديث حسن صحيح قال: وفى الباب عن على، وأبى سعيد، وأم سلمة، وأبى هريرة رضي الله عنهم.

.. وعن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المهدى منى أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً، ويملك سبع سنين" (1) . وفى هذه الأحاديث الصحيحة بيان أن المهدى اسمه "محمد بن عبد الله"، وينتهى نسبه إلى الحسن (2) لا إلى الحسين –رضى الله عنهما–0

_ (1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب المهدى 4/107 رقم 2485 واللفظ له. والترمذى فى سننه كتاب الفتن، باب ما جاء فى المهدى 4/439 رقم 2232، وقال: حديث حسن. وقال ابن قيم الجوزية فى سند أبى داود جيد. انظر: المنار المنيف ص 144. (2) فى كون المهدى المنتظر من ولد الحسن رضي الله عنه سر لطيف ذكره ابن قيم الجوزية فى المنار المنيف، فانظره إن شئت ص 151.

وفى هذا رد على الشيعة الجعفرية فى زعمهم أن أمامهم "الإثنى عشر" هو المهدى الذى بشر به النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأن إمامهم المزعوم يسمى "محمد بن الحسن العسكرى" من ولد الحسين بن على، لا من ولد الحسن. والذى أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله، وينتهى نسبه إلى الحسن لا إلى الحسين –رضى الله عنهما- (1) .

_ (1) انظر: المنار المنيف ص 152 وما بعدها. وانظر: مع الشيعة الإثنى عشرية فى الأصول والفروع للدكتور على السالوس 1/160 – 162. ومما هو جدير بالذكر أن الإمام ابن خلدون فى طعنه لأحاديث المهدى فى مقدمته إنما أنكر مهدى الرافضة، وليس المهدى الذى صحت به الأحاديث عند أهل السنة، وفى ذلك يقول ابن خلدون: "وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدى قد استوفينا جمعه بمبلغ طاقتنا، والحق الذى ينبغى أن يتقرر لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره، وتدافع عنه من يرفعه حتى يتم أمر الله فيه، وعصبية الفاطميين، بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الأفاق … إلا ما بقى بالحجاز فى مكة وينبغ بالمدينة من الطالبيين من بنى حسن، وبنى حسين، وبنى جعفر، وهم منتشرون فى تلك البلاد وغالبون عليها، وهم عصائب بدوية متفرقون فى مواطنهم وإماراتهم وآرائهم يبلغون آلافاً من الكثرة، فإن صح ظهور هذا المهدى، فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم، وتتم له شوكة وعصبية، أما أن يدعو فاطمى منهم من غير عصبية، ولا شوكة فلا يتم ذلك" أ. هـ. انظر: المقدمة فصل فى أمر الفاطمى وما يذهب إليه الناس، فى شأنه وكشف الغطاء عن ذلك ص 344-362، وانظر: الغيبيات فى ضوء السنة للدكتور محمد همام ص 145-149.

وفى صحة الروايات السابقة، وما نص عليه غير واحد من علماء المسلمين بتواتر أحاديث المهدى تواتراً معنوياً ردً على الأستاذ محمد رشيد رضا – رحمه الله – فى تضعيفه للحديث، ووصفه بالاضطراب (1) . واتهامه لكعب الأحبار بوضعه حيث قال: "ولأجل ذلك كثر الاختلاف فى اسم المهدى، ونسبه، وصفاته، وأعماله، وكان لكعب الأحبار جولة واسعة فى تلفيق تلك الأخبار" (2) . وقال فى موضع آخر: "وإذا تذكرت مع هذا أن أحاديث الفتن والساعة عامة، وأحاديث المهدى خاصة، وأنها كانت مهب رياح الأهواء والبدع وميدان فرسان الأحزاب، والشيع، تبين لك أين تضع هذه الرواية منها" (3) . ويقول أيضاً: "وقد كانت أى روايات المهدى – أكبر مثارات الفساد والفتن فى الشعوب الإسلامية إذ تصدى كثير من محبى الملك والسلطان، ومن أدعياء الولاية، وأولياء الشيطان لدعوى المهدوية فى الشرق والغرب أو تأييد دعواهم بالقتال والحرب والبدع، والإفساد فى الأرض، حتى خرج ألوف الألوف عن هداية السنة النبوية، ومرق بعضهم من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية (4) أ. هـ. ... ويجاب على ما سبق بالآتى:

_ (1) مجلة المنار المجلد 28/756. (2) انظر: تفسير المنار 9/461. (3) المصدر السابق 9/463 – 464 وانظر: مجلة المنار المجلد 28/756. (4) تفسير المنار 9/459-460.

أولاً: اتهام الأستاذ "محمد رشيد رضا" لكعب الأحبار بأنه هو، ووهبُ ابن مُنَبِّه "بطلى الإسرائيليات وينبوعى الخرافات" (1) ، واتهامه للصحابة، وللتابعين، وللأئمة المسلمين بالغفلة عن حقيقة أمرهم؛ إذ يقول فى تفسير قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ} (2) : "وأما تلك الروايات الكثيرة فى جوهرها ومقدارها … كلها من الإسرائيليات الباطلة التى بثها فى المسلمين أمثال "كعب الأحبار"، "ووهب بن منبه" فاغتربها بعض الصحابة، والتابعين إن صحت الرواية عنهم" (3) . وقال: "ثم ليعلم أن شر رواة هذه الإسرائيليات أو أشدهم تلبيساً وخداعاً للمسلمين هذان الرجلان: كعب الأحبار، ووهب بن منبه" (4) ، وقال: "لو فطن الحافظ ابن حجر لدسائسهما، وخطأ من عدلهما من رجال الجرح والتعديل؛ لخفاء تلبيسهم عليهم، لكان تحقيقه لهذا البحث أتم وأكمل" (5) .

_ (1) تفسير المنار 9/438. (2) جزء من الآية 145 من سورة الأعراف. (3) تفسير المنار 9/184. (4) مجلة المنار المجلد 27/783. (5) تفسير المنار 9/442 وانظر: مجلة المنار المجلد 27/610 – 619 مقال السيد رشيد رضا "بطلان الدفاع عن جرح كعب الأحبار، ووهب بن منبه".

.. إن طعن الأستاذ رشيد رضا (1) – غفر الله له – فى كعب الأحبار، ووهب بن مُنَبِّه مردود عليه بما ذكره هو نفسه من أن الجمهور عدلوهما ووثقوهما، واعترافه أيضاً بأن أبا هريرة، وابن عباس (2) وغيرهما من أعلام الصحابة؛ كعبد الله بن عمر، وعبد الله ابن الزبير روى عنه، ولم يكن هؤلاء، ولا كل من روى عنه سذجاً، ولا مخدوعين فيه، وإنما أيقنوا أنه ثقة فيما يروى فرووا عنه. وإلا فكيف يعقل أن صحابياً يأخذ علمه عن كذاب وضاع، بعدما عرف عن الصحابة من التحرى والتثبت فى تحمل الأخبار؟ (3) . ثم إن الإمام مسلم قد أخرج له فى صحيحه، وكذا أخرج له أبو داود، والترمذى، والنسائى، فهذا دليل على أن كعباً كان ثقة غير متهم عند هؤلاء جميعاً، وتلك شهادة كافية، لرد كل تهمة تلصق بهذا الحبر الجليل (4) .

_ (1) تبع الأستاذ محمد رشيد رضا فيما قال بعض رواد المدرسة العقلية الحديثة ذكرهم الدكتور فهد الرومى فى كتابه منهج المدرسة العقلية الحديثة فى التفسير ص 312-324، وبقول الأستاذ محمد رشيد رضا قال محمود أبو ريه، واتخذ كلام رشيد رضا ستاراً للطعن فى السنة ورواتها من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الأئمة الثقات الأعلام. انظر: أضواء على السنة ص 145-181، والأضواء القرآنية 1/52 – 66، وفجر الإسلام ص 160، 161، 162، 201، 202 والصلاة لمحمد نجيب ص32-37، وأصول الحديث للدكتور عبد الهادى الفضلى ص141. (2) انظر: تفسير المنار 9/466. (3) انظر: الإسرائيليات فى التفسير والحديث لفضيلة الدكتور الذهبى ص 77، 78، 83. (4) التفسير والمفسرون 1/189، والإسرائيليات فى التفسير والحديث ص 77-78 كلاهما لفضيلة الدكتور الذهبى – رحمه الله-.

والجمهور على توثيق كعب لذا لا تجد له ذكراً فى كتب الضعفاء والمتروكين، وقد اتفقت كلمة نقاد الحديث على توثيقه (1) . أما "وَهْبُ بنُ مُنَبِّه" فقد روى له البخارى، ومسلم، وأبو داود، والترمذى، والنسائى. قال الذهبى فى الميزان: كان ثقة، صادقاً، كثير النقل من كتب الإسرائيليات. قال العجلى: ثقة تابعى، كان على قضاء صنعاء، وقد ضعفه الفلاس وحده، ووثقه جماعة (2) . ... وقال أبو زرعة، والنسائى: ثقة، وذكره ابن حبان فى الثقات (3) ، والبخارى نفسه يعتمد عليه ويوثقه (4) . وبعد: هذا بعض ما قاله علماء الحديث فى توثيق هذين الرجلين، فهل يحق لأحد أن يخالف هؤلاء الأعلام فى نقد الرجال، وأن يشكك فى سلامة أسلوبهم فى ذلك، أو أن يتهمهم بالغفلة، والاغترار، وهم أهل هذا الفن الذى لا يصلح له إلا القليل من الناس (5) ؟ ... ليس معنى هذا أن كل ما رواه هذان العالمان الفاضلان حق لا كذب فيه، بل إن فيه من الكذب ما يخالف شرعنا ولا يقره العقل ولكن لا يعنى هذا أن ننسب الكذب إليهما، فقد يكون الكذب من غيرهما، أو أنهما نقلاه على أنه مما فى كتبهم، وهما يعتقدان صحته، ولم يعلما كذبه لخفاء الثابت والمحرف فى كتب أهل الكتاب.

_ (1) انظر: تقريب التهذيب 2/43 رقم 5666، والكاشف 2/148 رقم 4662، وتذكرة الحفاظ 1/52 رقم 33، وسير أعلام النبلاء 3/489-494 رقم 333، ومشاهير علماء الأمصار 145 رقم 911. وانظر: مقالات الكوثرى ص 32، 33. (2) انظر: ميزان الاعتدال 4/352 – 353، ومشاهير علماء الأمصار ص150 رقم 956، والثقات للعجلى 467 رقم 1786، وتذكرة الحفاظ 1/100 رقم 93، وتقريب التهذيب ص2/293 رقم 7512، وانظر: الإسرائيليات للدكتور الذهبى ص 77. (3) تهذيب التهذيب 11/167 رقم 8654، وانظر: معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد للذهبى ص 186 رقم 362. (4) التفسير والمفسرون 1/197، والإسرائيليات ص86. (5) التفسير والمفسرون 1/192.

ثانيا: خروج الدجال:

قال ابن الجوزى - رحمه الله تعالى -: "إن بعض الذى يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذباً لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأخيار" (1) . قلت: ومثل هذا يقال فى وهب بن منبه (2) أ. هـ. ... "أما قول رشيد رضا: إن روايات المهدى كانت أكبر مثارات الفساد والفتن فى الشعوب الإسلامية باستغلال أعداء الإسلام لها. فيقول رداً على ذلك الدكتور فهد الرومى: "وإنا لنكتفى هنا بسؤال السيد رشيد، ومن نحا نحوه متى كان استغلال أعداء الإسلام لعقيدة من عقائد المسلمين مبرراً لطمسها أو التشكيك فى ثبوتها؟ ‍ ... إن أعداء الإسلام لم يستغلوا المهدوية فحسب، بل استغلوا ما هو أكبر وأعظم وأوضح عند المسلمين - أعنى عقيدة النبوة - استغلوا هذا وخرج أدعياء النبوة، ولا زلنا فى هذا العصر نعانى من أولئك كالبهائية، والبابية، والقاديانية، وغيرهم مع أن المسلمين كلهم يؤمنون بختم النبوة، ولم يكن هذا مانعاً لهم من استغلالها، ولن يكون هذا ولا ذاك مانعاً لنا نحن المسلمين من الإيمان بعقيدة النبوية وختمها، والإيمان بمجئ المهدى. ولو شككنا فى كل عقيدة للمسلين يستغلها أعداء الإسلام لخشينا أن لا يبقى لنا من الإسلام شئ حتى اسمه؟ (3) . ثانياً: خروج الدجال: ... بلغت الأخبار عن مجئ الدجال حد التواتر المعنوى، وحكى هذا التواتر غير واحد من أئمة الحديث (4) .

_ (1) فتح البارى 13/346 رقم 7361. (2) انظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة فى التفسير ص 325. وللاستزادة فى الرد على السيد رشيد رضا فى تجريحه لكعب الأحبار، ووهب ابن منبه انظر: الإسرائيليات فى التفسير والحديث للدكتور الذهبى 76 - 87، وانظر: مجلة المنار المجلد 27/377 وما بعدها. (3) منهج المدرسة العقلية فى التفسير ص 518، 519. (4) انظر: النهاية فى الفتن والملاحم 1/168، ونظم المتناثر من الحديث المتواتر ص 228 رقم 290، وغير ذلك من المصادر السابقة فى تواتر المهدى ص797.

ومن الأحاديث الصحيحة الواردة فى خروج الدجال حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبى إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور. وإن ربكم ليس بأعور. ومكتوب بين عينيه كفر" (1) أ. هـ. وقد رد أئمة المسلمين قديماً على طعون المبتدعة من الخوارج، والجهمية، وبعض المعتزلة – فى إنكارهم للدجال – وطعون المبتدعة قديماً رددها – أهل الزيغ والإلحاد فى عصرنا (2) – كما تأثر بذلك بعض علماء المسلمين (3) . ... فدعوى رد أحاديث الدجال بحجة تعارضها مع القرآن الكريم بعدم وروده فيه، قال رداً على ذلك الحافظ ابن حجر: أجيب بأجوبة: أحدها: أنه ذكر فى قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} (4) فقد أخرج الترمذى وصححه عن أبى هريرة مرفوعاً: "ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيراً، الدجال، والدابة وطلوع الشمس من مغربها" (5) .

_ (1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الفتن، باب ذكر الدجال 13/97 رقم 7131. ومسلم "بشرح النووى" كتاب الفتن وإشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه 9/286 رقم 2933 واللفظ له. (2) راجع المصادر السابقة ص796. (3) راجع المصادر السابقة ص 796. (4) جزء من الآية 158 من سورة الأنعام. (5) الترمذى فى سننه كتاب التفسير، باب من سورة الأنعام 5/247 رقم 3072 وقال: حديث حسن صحيح. والحديث فى صحيح مسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذى لا يقبل فيه الإيمان 1/472 رقم 158.

الثانى: قد وقعت الإشارة فى القرآن إلى نزول عيسى بن مريم فى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} (1) وصح أنه الذى يقتل الدجال فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر، ولكونه يلقب المسيح كعيسى، لكن الدجال مسيح الضلالة، وعيسى مسيح الهدى. الثالث: أنه ترك ذكره احتقاراً، وتعقب بذكر يأجوج ومأجوج، وليست الفتنة بهم دون الفتنة بالدجال والذى قبله … وقد وقع فى تفسير البغوى: أن الدجال مذكور فى قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (2) وأن المراد بالناس هنا الدجال من إطلاق الكل على البعض.وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة فيكون من جملة ما تكفل النبى صلى الله عليه وسلم ببيانه (3) . ... وقال الإمام النووى – رحمه الله – فى بيان مذهب أهل السنة فى ذلك:"قال القاضى هذه الأحاديث التى ذكرها مسلم، وغيره فى قصة الدجال، حجة لمذهب أهل الحق فى صحة وجوده، وأنه شخص بعينه، ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من إحياء الميت الذى يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل، ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم ويثبت الله الذين آمنوا.

_ (1) جزء من الآية 61 من سورة الزخرف. (2) الآية 57 من سورة عافر. (3) فتح البارى 13/98 رقم 7122، وانظر: النهاية فى الفتن والملاحم 1/166 – 169.

هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين، والفقهاء، والنظار خلافاً لمن أنكره، وأبطل أمره من الخوارج، والجهمية، وبعض المعتزلة، وخلافاً للبخارى المعتزلى، وموافقيه من الجهمية، وغيرهم فى أنه صحيح الوجود، ولكن الذى يدعى مخاريق وخيالات لا حقائق لها، وزعموا أنه لو كان حقاً لم يوثق بمعجزات الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -0 وهذا غلط من جميعهم؛ لأنه لم يدع النبوة فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعى الإلهية، وهو فى نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته، وعجزه عن إزالة العور الذى فى عينيه، وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه (1) أ. هـ. وبعد فإن صحة الأحاديث فى مجئ الدجال، وتواترها تواتراً معنوياً ردٌ على من ضعف الحديث وزعم اضطرابه، أو أنه آحاد لا يحتج به فى العقائد (2) فدخل فى ميدان ليس من أهله، كما أن تقرير أئمة المسلمين بأن الدجال شخص بعينه. ردٌ على من تأول فزعم بأنه "رمز للخرافات، والدجل، والقبائح، وظهور الشر والفساد" (3) ،أو غير ذلك من التأويلات الباطلة. ... كما أن فى إدعاء الدجال للألوهية وصورة حاله من العور، والعجز، والشاهد المكتوب بين عينيه "كفر" يبطل زعم الزاعمين قديماً وحديثاً أن ما يظهر على يديه من الخوارق يعد شبهة فى نبوته (4) . وهو غلط من جميعهم كما قال الإمام النووى رداً على ذلك (5) أ. هـ.

_ (1) المنهاج شرح مسلم 9/293 رقم 2933-2938، وانظر: فتح البارى 13/110 أرقام7132-7134. (2) انظر: تفسير المنار 9/451-458،ومجلة المنار المجلد 28/756،والفتاوى للشيخ شلتوت ص77 (3) انظر: تفسير المنار 9/317، والفتاوى ص 78. (4) انظر: تفسير المنار 9/450 - 451. (5) انظر: الغيبيات فى ضوء السنة للدكتور محمد همام ص 149 وما بعدها.

ثالثا: نزول المسيح عيسى - عليه السلام -:

ثالثاً: نزول المسيح عيسى - عليه السلام -: ... أما أحاديث نزول عيسى بن مريم – عليه السلام – آخر الزمان فقد نص العلماء على تواترها. قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – بعد ذكره الأحاديث الدالة على نزوله قال: "فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبى هريرة، وابن مسعود، وعثمان ابن أبى العاص، وأبى أمامة، والنواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع ابن حارثة، وأبى شريحة، وحذيفة بن أسيد - رضي الله عنهم - وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه، من أنه بالشام بل بدمشق عند المنارة الشرقية، وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح (1) أ. هـ. ... وقال الأستاذ عبد الله الغمارى بعد أن استوعب كل ما ورد من أحاديث وآثار، وذكرها بطرقها وأسانيدها: "فهذه ستون حديثاً يرويها عن النبى صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون صحابياً، وثلاثة تابعين بألفاظ مختلفة، وأسانيد متعددة كلها تصرح بنزول عيسى بن مريم –عليه السلام – تصريحاً لا يحتمل تأويلاً ولا روغاناً" (2) .

_ (1) انظر: تفسير القرآن العظيم 1/577/582، وزاد المسلم فيما اتفق عليه البخارى ومسلم 1/330، 331، ومسند أحمد بتحقيق الأستاذ أحمد محمد شاكر، 12/257 الهامش، 15/28 الهامش، وانظر: المراجع السابقة فى تواتر المهدى ص797. (2) مشكلات الأحاديث لجماعة من نوابغ العلماء ص177-178، وانظر: عقيدة أهل الإسلام فى نزول عيسى عليه السلام لعبد الله الغمارى ص 5 – 11، ونزول عيسى بن مريم آخر الزمان للحافظ السيوطى ص 61-68.

ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذى نفسى بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم - عليه السلام - حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد" (1) أ. هـ. ... ويمكن أن نجمل ما أثاره المحدثون (2) من شبه حول نزوله -عليه السلام- والتى قال بها أعداء السنة واتخذوا منها ستاراً للطعن فى السنة المطهرة ورواتها (3) فى النقاط التالية: ليس فى القرآن نص صريح فى رفعه إلى السماء بروحه وجسده ليحيا حياة دنيوية يحتاج معها إلى غذاء. ليس فيه نص صريح على نزوله، وإنما تلك عقيدة النصارى. أحاديث لم تبلغ درجة التواتر حتى يؤخذ منها عقيدة بنزوله، بل هى أحاديث آحاد مضطربة فى متونها، منكرة فى معانيها، فى معظمها يشتد ضعف الرواة، وليست بمحكمة الدلالة، ولذا أولها العلماء قديماً وحديثاً. لا يجب على المسلم أن يعتقد أنه حى بروحه وجسده ومن خالف لا يعد كافراً. نزول عيسى بن مريم -عليه السلام- يتناقض مع حديث "لا نبى بعدى" (4) أ. هـ.

_ (1) البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الأنبياء، باب نزول عيسى بن مريم-عليه السلام-6/566 رقم 3448، 3449، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم 1/466، 467 رقم 155 واللفظ له. (2) راجع: المصادر السابقة ص 796. (3) راجع: المصادر السابقة ص 796. (4) جزء من حديث طويل أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بنى إسرائيل 6/571 رقم 3455، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول 6/472 رقم 1842.

ويجاب على الشبهات السابقة بما يلى:

ويجاب على الشبهات السابقة بما يلى: لقد جاءت آيات فى كتاب الله عز وجل تدل على رفع عيسى - عليه السلام – إلى السماء، وقد بين العلماء أنه رفع بروحه وجسده. قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (1) . وقد لخص الدكتور محمد خليل هراس آراء المفسرين فى بيان معنى هذه الآية فقال: 1- رأى الجمهور: الذى اختاره ابن كثير، ورواه عن الحسن، وهو الرأى الذى يفسر التوفى بالإنامة. رأى قتادة: وهو أن فى الكلام تقديماً وتأخيراً والتقدير "إنى رافعك ومتوفيك أى بعد النزول". رأى ابن جرير: فى أن المراد بالتوفى هو نفس الرفع، والمعنى أنى قابضك من الأرض ومستوفيك ببدنك وروحك (2) . وينسب هذا التفسير إلى ابن زيد (3) . وهو الذى حكاه ابن كثير عن مطر الوراق (4) . وهذه الأقوال الثلاثة متفقة على أنه رفع حياً، وإن كان بعضها أصح، وأولى بالقبول من بعض، فأصحها الأول وهو قول الجمهور، ويليه قول قتادة، ويليه قول ابن جرير (5) .

_ (1) الآية 55 من سورة آل عمران. (2) جامع البيان 3/291. (3) ابن زيد هو: أحمد بن محمد بن زيد، أبو العباس، فاضل دمشقى، من علماء الحنابلة عارفاً بالفقه والعربية، من مصنفاته "محاسن المساعى فى مناقب الأوزاعى" و "اختصار سيرة ابن هشام" وغير ذلك مات سنة 870هـ. له ترجمة فى الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوى 2/71-72، والأعلام 1/230. (4) هو: مطر بن طهمان الوراق، أبو رجاء، السلمى مولاهم، الخرسانى. سكن البصرة صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف. روى عن شهر، والحسن، وعنه الحمادان، وهمام مات سنة= =125هـ ويقال 129هـ. له ترجمة فى تقريب التهذيب 2/187 رقم 6721 والكاشف 2/268 رقم5471،والجرح والتعديل8/287رقم1319،والثقات للعجلى ص430 رقم1584، والثقات لابن حبان 5/434، ومشاهير علماء الأمصار 120 رقم 699. (5) مشكلات الأحاديث ص 167، وانظر: تفسير القرآن العظيم 1/366.

وكلمة "الوفاة" كما تطلق على الموت تطلق على النوم أيضاً، لأن معناها فى اللغة من استيفاء الحق وافياً أى كاملاً لا نقص فيه. ولذا قال صاحب القاموس: "أوفى فلاناً حقه: أعطاه وافياً، كوفاه ووافاه فاستوفاه وتوفاه" (1) . ... وقد جاءت فى القرآن الكريم بمعنى النوم فى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (2) كما جاءت على المعنيين فى قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) . ... فالمراد بالوفاة فى الآية الواردة فى حق سيدنا عيسى – عليه السلام – النوم وليس الموت قال ابن كثير – رحمه الله -: "فأخبر تعالى أنه رفعه – أى عيسى عليه السلام – بعدما توفاه بالنوم على الصحيح المقطوع به، وخلصه ممن كان أراد أذيته من اليهود الذين وشوا به إلى بعض الملوك الكفرة فى ذلك الزمان" (4) . ... وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (5) .

_ (1) القاموس المحيط 4/393. (2) الآية 60 من سورة الأنعام. (3) الآية 42 من سورة الزمر وانظر: تفسير القرآن العظيم 1/336، ومشكلات الأحاديث ص175 (4) البداية والنهاية 2/85. (5) الآيتان 157-158 من سورة النساء.

.. قال الدكتور محمد هراس: "فالآية صريحة فى أنه رفعه حياً؛ لأنه ذكر الرفع وأثبته مكان الذى نفاه من القتل والصلب. ولو كان عيسى – عليه السلام – قد مات فى الأرض ودفن، وأن المراد بالرفع رفع روحه أو منزلته كما يزعم المنكرون لما حسن ذكر الرفع فى مقابل نفى القتل والصلب، لأن الذى يناسب نفى القتل والصلب عنه هو رفعه حياً لا موته، وإلاَّ لقال وما قتلوه وما صلبوه بل الله هو الذى قتله. وكيف يتوهم متوهم أن المراد بقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (1) هو رفع روحه، وهو إنما ذكر لإبطال ما زعموه من قتله وصلبه، ورفع الروح، لا يبطل القتل والصلب بل يجامعهما، فإنهم لو قتلوه فرضاً لرفعت روحه إلى الله، على أن فى إخباره عز وجل بأنه رفعه إليه، ما يشعر باختصاصه بذلك، والذى يمكن أن يختص به عيسى هو رفعه حياً بجسده وروحه؛ لأن أرواح جميع الأنبياء، بل المؤمنين ترفع إلى الله بعد الموت لا فرق بين عيسى وغيره فلا تظهر فيه الخصوصية (2) . وحياته -عليه السلام- ليست كحياة من على الأرض يحتاج إلى الطعام والشراب ويخضع للسنن والنواميس الكونية، كسائر الأحياء، وإنما حياته حياة خاصة عند الله عز وجل لا يشعر بالضرورات الجسدية من طعام أو شراب أو نحوهما (3) . ... وقد جاءت آيات أيضاً تدل على نزوله إلى الأرض فى آخر الزمان من ذلك:

_ (1) الآية 158 من سورة النساء. (2) مشكلات الأحاديث ص 167، 168. (3) المصدر السابق ص 181، 182.

قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} (1) نقل الشيخ الهراس عن ابن جرير: أن عيسى – عليه السلام – كلم الناس فى المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل (2) . ثم قال: "وهذا الذى نقلناه عن ابن جرير هو قول عامة أهل التفسير كلهم يفسرون الآية به ويجعلونها دليلاً على نزول عيسى – عليه السلام – وهذا هو الحق الذى لا مرية فيه، فإن قوله سبحانه "وكهلاً" معطوف على متعلق الظرف قبله، داخل معه فى حكمه، والتقدير: ويكلم الناس طفلاً فى المهد ويكلمهم كهلاً، فإذا كان كلامه فى حال الطفولة عقب الولادة مباشرة آية فلابد أن المعطوف عليه وهو كلامه فى حال الكهولة كذلك، وإلا لم يحتج إلى التنصيص عليه؛ لأن الكلام من الكهل أمر مألوف معتاد؛ فلا يحسن الإخبار به لا سيما فى مقام البشارة بل لابد أن يكون المراد بهذا الخبر أن كلامه كهلاً سيكون آية ككلامه طفلاً بمعنى أنه سيرفع إلى السماء قبل أن يكتهل، ثم ينزل فيبقى فى الأرض إلى أن يكتهل، ويكلم الناس كهلاً.

_ (1) الآية 46 من سورة آل عمران. (2) جامع البيان 3/273.

وقد ذهب جمهور المحدثين والمؤرخين إلى أنه عليه السلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وأنه سيمكث فى الأرض إذا نزل أربعين سنة كما جاء فى الحديث الصحيح (1) . عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ليس بينى وبينه نبىُّ يعنى –عيسى عليه السلام- وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله فى زمانه الملل كلها، إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، فيمكث فى الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى، فيصلى عليه المسلمون" (2) . قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (3) الصحيح أن الضمير فى قوله: "إنه" يعود على عيسى – عليه السلام – أى أن خروجه من أعلام الساعة وأماراتها لأنه ينزل قبيل قيامها (4) . والذى يدل على ذلك أن سياق الآيات فى ذكره، وصرف الكلام عما هو فى سياقه إلى غيره بغير حجة غير جائز، ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى "وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ" أى أمارة ودليل على وقوع الساعة (5) .

_ (1) مشكلات الأحاديث ص 170. (2) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الملاحم، باب خروج الدجال 4/117، 118 رقم 4324، واللفظ له، والحاكم فى المستدرك كتاب التاريخ، باب ذكر نبى الله وروحه عيسى بن مريم-عليه السلام– 2/651 رقم 4163 وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبى. (3) الآية 61 من سورة الزخرف. (4) انظر: الجامع لأحكام القرآن 16/105. (5) تفسير القرآن العظيم 4/132.

ج- قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (1) . قوله "قَبْلَ مَوْتِهِ" ذكر العلماء فيها وجهين فى عود الضمير: الأول: قبل موت عيسى – عليه السلام – وهو قول أبى هريرة رضي الله عنه (2) . الثانى: قبل موت الكتابى. قال ابن جرير: "وأولى الأقوال بالصحة والصواب قول من قال: تأويل ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى (3) . وهو قول ابن كثير قال: "ولا أشك أن هذا الذى قاله ابن جرير هو الصحيح" (4) . قال الأستاذ عبد الله الغمارى: "إن احتمال عود الضمير فى "موته" على الكتابى ضعيف، واحتمال عوده فى "به" على غير عيسى باطل، والاحتمالات الضعيفة والباطلة لا تنهض للحجية، ولا تقوى للاستمساك، فتكون الآية الكريمة نصاً فى حياة عيسى ونزوله بمعونة ما ذكر. ... واللفظ يكون نصاً بنفسه تارةً، وبما ينضم إليه من القرائن تارة أخرى، وليس كل احتمال فى اللفظ يؤثر فى ناصيته، كما يتوهم كثير ممن لم يحكموا قواعد علم الأصول" (5) . ... أما ما زعموه من أن الأحاديث فى نزول المسيح – عليه السلام – لم تبلغ درجة التواتر حتى يؤخذ منها عقيدة بنزوله، بل هى أحاديث آحاد مضطربة فى متونها … إلخ.

_ (1) الآية 159 من سورة النساء. (2) انظر: المنهاج شرح مسلم 1/470 رقم 155، وفتح البارى 6/568 –569 رقم 3448. (3) جامع البيان 6/21. (4) تفسير القرآن العظيم1/577 وانظر: البداية والنهاية 2/85-89،ومسند أحمد بتحقيق أحمد شاكر 15/27،28 الهامش، وفتح البارى 6/568رقم 3448، ومشكلات الأحاديث ص 170، 171 (5) مشكلات الأحاديث ص 169، وانظر: المسيح عليه السلام فى القرآن الكريم للدكتور رمضان مصطفى دياب.

.. فقد سبق ذكر من نص من علماء الحديث على تواترها تواتراً معنوياً. ويكفى تخريجها فى الصحيحين اللذين تلقتهما الأمة بالقبول، وأجمعت على إفادة أحاديثهما العلم اليقينى. وحتى لو كانت آحاداً لوجب علينا التسليم لها والإيمان بمضمونها متى ثبتت صحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن دلت على عقيدة خلافاً لمن أبى ذلك. وأما زعم الأستاذ رشيد رضا وفضيلة الشيخ شلتوت "بأنها أحاديث مضطربة فى متونها منكرة فى معانيها. أجاب عن ذلك الأستاذ عبد الله الغمارى فى رده على الشيخ شلتوت – رحمه الله – فقال: "وهذا غير صحيح فإن تلك الأحاديث أو الروايات - على حد تعبيره – كلها متفقة على الإخبار بنزول عيسى وأنه يقتل الدجال والخنزير، ويكسر الصليب … إلخ ما جاء فيها، غاية ما فى الأمر أن بعضاً منها يفصل، وآخر يجمل، وبعضاً يوجز، وآخر يطنب، وهذا كما يفعل القرآن العظيم إذ يورد القصة الواحدة فى سور متعددة بأساليب مختلفة، يزيد بعضها على بعض بحيث لا يمكن جمع أطراف القصة إلا بقراءة السور التى ذكرت فيها. فلعل صاحب الفتوى ظن مثل هذا التخالف الذى يقوى شأن الحديث، ويدل على تعدد مخارجه، تعارضاً فأخطأ، وأضعف خطأه حيث ادعى أنه لا مجال معه للجمع بينها. وذلك أنه على فرض وجود تعارض فالجمع ممكن لو أمعن فكره، وأمضى نظره، وأخلص فى بحثه، لكنه أرسل قوله بتعذر الجمع دعوى تتعثر فى أذيال الخجل" (1) . والزعم بأنها ليست محكمة الدلالة، ولذا أولها العلماء قديماً. زعم لا أساس له من الصحة. ودعوى باطلة ليس لها ما يسندها، كيف وقد نصت الأحاديث صراحة على نزوله -عليه السلام-، ولم يأت ما يعارض ذلك تصريحاً أو تلميحاً، وأجمعت الأمة على ما دلت عليه وتأويل من أولها إنما هو تحريف وتبديل، ورد للنصوص الثابتة الصريحة، ولا حجة فى قوله.

_ (1) مشكلات الأحاديث ص 178.

يقول الشيخ أحمد محمد شاكر: "وقد لعب المجددون، أو المجردون فى عصرنا الذى نحيا فيه، بهذه الأحاديث الدالة صراحة على نزول عيسى بن مريم – عليه السلام – فى آخر الزمان، قبل انقضاء الحياة الدنيا بالتأويل المنطوى على الإنكار تارة، وبالإنكار الصريح أخرى، ذلك أنهم – فى حقيقة أمرهم – لا يؤمنون بالغيب أو لا يكادون يؤمنون. وهى أحاديث متواترة المعنى فى مجموعها، يعلم مضمون ما فيها من الدين بالضرورة، فلا يجديهم الإنكار ولا التأويل (1) أ. هـ. لا شك أن النصوص من القرآن والسنة دلت على رفعه إلى السماء، وأنه حى بروحه وجسده، وأنه سينزل فى آخر الزمان، وانعقد الإجماع على ذلك فوجب على كل مسلم أن يؤمن بما دلت عليه تلك النصوص، وأن يجمع قلبه على اعتقاد ما جاء فيها، ومن المعلوم أن إنكار ما ثبت من الدين بالضرورة يعد كفراً.

_ (1) مسند أحمد بتحقيق أحمد محمد شاكر 12/257 الهامش.

قال الشيخ الشنقيطى – رحمه الله -: "يجب شرعاً اعتقاد أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- لا زال حياً إلى الآن وأنه لابد أن ينزل فى آخر الزمان حاكماً بشرع نبينا – عليه الصلاة والسلام – ومجاهداً فى سبيل الله تعالى، كما تواتر عن الصادق المصدوق، وإنما وجب اعتقاد ذلك لأن الله تعالى أخبر فى كتابه العزيز: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (1) . وقد وردت الأحاديث المتواترة كما سبق … ولم يصح حديث بموته، تمكن معارضته لما صح بالتواتر من نزوله فى آخر الزمان، وإذا أخبر القرآن أنه رفع، ولم يقتل، وبين النبى صلى الله عليه وسلم لنا أنه سينزل فى آخر الزمان، وفصل لنا أحواله بعد نزوله تفصيلاً رافعاً لكل احتمال، وجب اعتقاد ذلك على كل مسلم، ومن شك فيه فيكون كافراً بإجماع الأمة؛ لأنه مما علم من الدين ضرورة بلا نزاع، وكل إيراد عليه من الملاحدة، والجهلة، باطل لا ينبغى لكل من اتصف بالعلم أن يلتفت إليه (2) . أما ما زعمه بعض المعتزلة، والجهمية ومن قال بقولهم من أن نزول المسيح –عليه السلام – يتناقض مع ختم النبوة. فنقول: فى الحديث ما ينقض تلك الدعوى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "حكماً مقسطاً" ولم يقل "نبياً مقسطاً" فعيسى - عليه السلام – ينزل حاكماً بهذه الشريعة لا ينزل نبياً برسالة مستقلة، وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة" (3) .

_ (1) جزء من الآيتين 157، 158 من سورة النساء. (2) زاد المسلم فيما اتفق عليه البخارى، ومسلم 1/331 – 332. (3) المنهاج شرح مسلم 1/469 رقم 155.

ويؤيد ذلك ما جاء فى صحيح الإمام مسلم من صلاته خلف رجل من هذه الأمة. عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. قال، فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا فيقول. لا. إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة" (1) . ... قال الحافظ ابن حجر: "قال ابن الجوزى، لو تقدم عيسى إماماً لوقع فى النفس إشكال، ولقيل: أتراه تقدم نائباً أو مبتدئاً شرعاً، فصلى مأموماً لئلا يتدنس بغبار الشبهة فى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نبى بعدى" (2) أ. هـ. ... قال الأستاذ عبد الله الغمارى:"وبعد: فإنى أرى أن كل من يمارى فى هذا الأمر بعد هذا البيان، فإنه مبتدع ضال، إن لم يكن كافراً، والعياذ بالله، فالواجب أن يهجر ويجتنب، وليست المسألة مسألة خلاف يعذر فيها المخالف، بل هى مسألة إجماع، أجمعت عليه الأمة، وتواترت به النصوص، كما أنها من جنس الأخبار التى لا مجال فيها للرأى والاجتهاد" (3) أ. هـ.

_ (1) مسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكماً بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 1/468 رقم 156. (2) سبق تخريجه ص 806، وانظر: فتح البارى 6/570 رقم 3449، ونزول عيسى بن مريم آخر الزمان للحافظ السيوطى ص 21-58. (3) مشكلات الأحاديث ص 182، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 2/214-230.

.. ونختم هنا بما رواه الإمام أحمد فى مسنده بسند صحيح، عن أبى هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "إنى لأرجو إن طال بى عمر أن ألقى عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، فإن عجل بى موت، فمن لقيه منكم؛ فليقرئه منّى السلام" (1) . ... يقول فضيلة الدكتور سعيد صوابى: "وفى هذا إشارة إلى تمام الثقة بحدوث الأمر، وكمال التحقيق بنزول عيسى بن مريم فى هذه الأمة حكماً عدلاً بدين الإسلام ومبطلاً لسائر ما سواه من الأديان (2) . ويقول أبو هريرة رضي الله عنه:"أى بنى أخى إن رأيتموه فقولوا: أبو هريرة يقرئك السلام (3) . وفى هذا أعظم دليل على تجاوب الأمة مع نبيها فى إيمانها بنزول عيسى ابن مريم -عليه السلام-. ونحن نوصى من يأتون بعدنا إن أدركوا عيسى بن مريم أن يقرئوه منا السلام" (4) . والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) المسند 2/298، وذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد كتاب الفتن، باب نزول عيسى ابن مريم 8/5، وقال: رواه أحمد بإسنادين: مرفوع وهو هذا، وموقوف، ورجالهما رجال الصحيح. (2) المعين الرائق فى سيرة سيد الخلائق ص 28. (3) أخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب التاريخ، باب ذكر نبى الله وروحه عيسى بن مريم -عليه السلام- 2/651 رقم 4162 وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبى. (4) المعين الرائق ص 29، وانظر: الغيبيات فى ضوء السنة للدكتور محمد همام ص 165 وما بعدها.

الفصل الخامس: حديث "عذاب القبر ونعيمه"

الفصل الخامس: حديث "عذاب القبر ونعيمه" ... وتحته مبحثان: المبحث الأول: شبهة الطاعنين فى أحاديث الأمور الغيبية "الأخروية" من أحوال البرزخ، وأحوال يوم القيامة، والرد عليها. المبحث الثانى: شبهات المنكرين لعذاب القبر ونعيمه والرد عليها. المبحث الأول: شبهة الطاعنين فى أحاديث الأمور الغيبية "الأخروية" من أحوال البرزخ وأحوال يوم القيامة والرد عليها ... أحاديث الأمور الغيبية السمعية (الأخروية) من عذاب القبر ونعيمه، والحوض والميزان، والصراط … إلخ، طعن فيها المبتدعة من الخوارج، والجهمية، وبعض المعتزلة وتأولوها على حسب أصولهم. وتغالى أذيال المبتدعة من دعاة اللادينية فى عصرنا الذى نحيا فيه. وزادوا على أسلافهم بالطعن فى الأحاديث التى تتحدث عن الحشر، والنشر، والنفخ فى الصور، وأوصاف نعيم الجنة، وأوصاف عذاب جهنم، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة التى تتحدث عن أحوال يوم القيامة. وقد سبق قول جمال البنا فى ذلك، ومن قال بقوله (1) . كما سبق الرد على شبهتهم فى ذلك، وهى أن النبى صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب" (2) . ونزيد هنا فى الإجابة على شبهة الطاعنين فى أحاديث السمعيات: أنه لا حجة للمبتدعة قديماً وحديثاً فى إنكارهم للأمور السمعية؛ سوى عبادتهم لهوى عقولهم، وقياسهم عالم ما وراء الطبيعة على العالم المحسوس. يقول الإمام الشاطبى فى كتابه الاعتصام باب بيان معنى الصراط المستقيم، الذى انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان قال: "لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم فى رد الأحاديث مع تواترها، فقالوا: لا يجوز أن يرى الله فى الآخرة لأنه تعالى يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (3) .

_ (1) راجع: ص 793. (2) راجع: ص 793-796. (3) الآية 103 من سورة الأنعام.

.. فردوا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ترون ربكم يوم القيامة" (1) . وتأولوا قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (2) وقالوا: لا يجوز أن يسأل الميت فى قبره لقول الله تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (3) فردوا الأحاديث المتواترة فى عذاب القبر وفتنته (4) ، وردوا الأحاديث فى الشفاعة على تواترها (5) ، وقالوا: لن يخرج من النار من أدخل فيها، وقالوا: لا نعرف حوضاً (6) ولا ميزاناً (7) ، ولا نعقل ما هذا، وردوا السنن فى ذلك كله برأيهم، وقياسهم، مع تواتر الأحاديث فى ذلك – إلى أشياء يطول ذكرها من كلامهم فى صفة البارى" (8) وسبق تفصيل ذلك والرد عليه (9) . ... والحقيقة: أن تحكيم الرأى أمر يسير لا عناء فيه ولا ينبغى لأهل الابتداع والإلحاد قديماً وحديثاً أن يفخروا، وإنما الفخر بإتباع الوحى وإن خفيت علينا حكمته، ولم نستطع إدراك حقيقته لا سيما فى الغيبيات؛ لأن العقل يقف عاجزاً عن إدراك عالم ما وراء الطبيعة. وتحكيم العقل فى هذا العالم تجاوز لحدود العقل، وسفه من صاحبه، وتطاول على خالقه–والعياذ بالله–

_ (1) سبق تخريجه ص 762. (2) الآيتان 22، 23 من سورة القيامة. وقد سبق تفصيل ذلك والرد عليه ص 755-766. (3) جزء من الآية 11 من سورة غافر. (4) سيأتى بيان تواتره فى الرد على منكريه فى المبحث التالى ص 817. (5) سبق الدفاع عنه ص 785، 786. (6) انظر: فى تواتره الأزهار المتناثرة ص 74 رقم 108، وإتحاف ذوى الفضائل المشتهرة ضمن مجموعة الحديث الصديقية ص 226. (7) انظر: فى تواتره إتحاف ذوى الفضائل المشتهرة ضمن مجموعة الحديث الصديقية ص 225. (8) الاعتصام 2/573، 574 بتصرف يسير، وانظر: أصول الدين للبغدادى ص 245، 246. (9) راجع: إن شئت ص 246-248.

ونقتصر هنا فى الرد إجمالاً (1) على من يحكمون عقولهم فى أحاديث أحوال يوم القيامة بكلمة جامعة للإمام ابن خلدون فى تقويم البحث فى المغيبات وتسفيه العقل فى ذلك. قال: "ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله وسفه رأيه فى ذلك، واعلم أن الوجود عند كل مدرك فى بادئ رأيه منحصر فى مداركه ولا يعدوها، والأمر فى نفسه بخلاف ذلك والحق من ورائه، ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده فى المحسوسات الأربع والمعقولات ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات، وكذلك الأعمى أيضاً يسقط عنده صنف المرئيات، ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة لما أقروا به، لكنهم يتبعون الكافة فى إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم، ولو سئل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكراً للمعقولات وساقطة لديه بالكلية، فإذا علمت هذا فلعل هناك ضرباً من الإدراك غير مدركاتنا، لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس، والحصر مجهول، والوجود أوسع نطاقاً من ذلك والله من ورائهم محيط، فاتهم إدراكك ومدركاتك فى الحصر، واتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك. وليس بقادح فى العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية، لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن أمور التوحيد، والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع فى محال.

_ (1) راجع: ما سبق تفصيله فى بطلان قاعدة عرض السنة علىالعقل ص 244-248.

المبحث الثانى: شبهات المنكرين لعذاب القبر ونعيمه والرد عليها

.. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذى يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يدرك على أن الميزان فى أحكامه غير صادق، لكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره حتى يمكن له أن يحيط بالله وبصفاته، فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه، وتفطن فى هذا الغلط، ومن يقدم العقل على السمع فى أمثال هذه القضايا؛ فمن قصور فهمه، واضمحلال رأيه، وقد تبين لك الحق من ذلك" (1) . ... وعلى هذا سلم أهل السنة بما جاء فى الأمور الغيبية، ولم يحكموا عقولهم. قال الإمام الأشعرى فى الإبانة: "نؤمن بعذاب القبر، ومنكر ونكير، وبالحوض، وأن الميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد فى الموقف، ويحاسب المؤمنين، وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التى رواه الثقات عدل عن عدل حتى تنتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) . المبحث الثانى: شبهات المنكرين لعذاب القبر ونعيمه والرد عليها ... أحاديث عذاب القبر ونعيمه لمن كان أهلاً لذلك، وسؤال الملكين، نص جماعة من العلماء على تواترها تواتراً معنوياً منهم الحافظ السيوطى (3) ، والكتانى (4) ، وابن قيم الجوزية (5) ، وابن أبى العز (6) وغيرهم (7) . وسوف نورد طرفاً من هذه الأحاديث عند الحديث عن كشف شبهات المعتزلة، ومن قال بقولهم من أهل الكلام والرافضة قديماً وحديثاً. ... ويمكن أن نعرض شبهات المعتزلة حول عذاب القبر فيما يأتى:

_ (1) المقدمة لابن خلدون ص 508، 509. (2) الإبانة ص 27 رقمى 47، 58. (3) الأزهار المتناثرة ص 41 رقمى 43، 107. (4) نظم المتناثر ص 125، 126 رقمى 113، 114. (5) الروح ص 74، ومفتاح دار السعادة 1/43. (6) شرح الطحاوية 2/136. (7) انظر: إتحاف ذوى الفضائل المشتهرة ضمن مجموعة الحديث الصديقية للأستاذ عبد العزيز الغمارى ص200.

لقد زعم المعتزلة أن الأخبار الدالة على عذاب القبر مجملة: ... ولذلك انقسموا حوله إلى ثلاث فرق: أنكره ضرار بن عمرو (1) ، والخوارج، ومعظم المعتزلة، وبعض المرجئة، والرافضة (2) . قطع به بعضهم فى الجملة (3) . جوزه آخرون (4) . وبالقول الأول قال دعاة اللادينية فى عصرنا (5) . وتدور شبه المنكرين لعذاب القبر وما فيه من سؤال، وضمة، وعذاب، بأنه معارض للقرآن، وللسنة، وللعقل.

_ (1) ضرار بن عمرو: هو ضرار بن عمرو الغطفانى، قاضى، من كبار المعتزلة، وهو زعيم الفرقة الضرارية، له مقالات خبيثة، كفره المعتزلة من أجلها وطردوه. انظر: فضل الإعتزال ص391، وميزان الاعتدال 228 رقم 3953، وسير أعلام النبلاء 10/544 رقم 175، ولسان الميزان 3/607 قم 4312، والضعفاء لأبى نعيم ص95 رقم 151، والضعفاء الكبير للعقيلى 2/222 رقم 765، والفهرست ص 299. (2) انظر: الروح لابن قيم الجوزية ص81، وعذاب القبر فى الميزان للأستاذ عكاشة عبد المنان ص101، 131، والإبانة ص15، والمنهاج شرح مسلم للنووى 9/224 رقم 2866. (3) انظر: شرح الأصول ص730، والروح ص80، 81، وعذاب القبر فى الميزان ص101،103. (4) انظر: فضل الإعتزال ص201، 202، وشرح الأصول ص730، والفصل فى الملل والنحل 4/67، وأصول الدين للبعدادى ص245، 246. (5) انظر: شفاء الصدر بنفى عذاب القبر لإسماعيل منصور، وعذاب القبر والثعبان الأقرع لأحمد صبحى منصور، والكتاب والقرآن قراءة معاصرة لمحمد شحرور ص 381، ودفع الشبهات لأحمد حجازى ص 104، 204، 208، والسنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص 244 وما بعدها، وإنذار من السماء ص 244 وما بعدها، ودين السلطان 928-948 كلاهما لنيازى = =عز الدين، وأضواء على السنة لمحمود أبو ريه ص 74، والأضواء القرآنية للسيد صالح أبو بكر 2/318، 320، 356، وغيرهم.

أما القرآن ففى قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} (1) قالوا فلو كان يحيا فى قبره للزم أن يحيا ثلاث مرات، ويموت ثلاثاً، وهو خلاف النص (2) . أما السنة فقالوا: الأخبار فيها متعارضة، وقد ردت عائشة -رضى الله عنها- حديث ابن عمر مرفوعاً (إن الميت يعذب فى قبره ببكاء أهله عليه) فقالت:وَهِلَ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن" وذاك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر. وبه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال: "إنهم ليسمعون ما أقول" وقد وَهِلَ0 إنما قال: "إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق" ثم قرأت قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (3) {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (4) . يقول: حين تبوءوا مقاعدهم من النار، وفى رواية قالت (رضى الله عنها) يغفر الله لأبى عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب ولكنه نسى أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها. فقال: "إنهم ليبكون عليها. وإنها لتعذب فى قبرها" (5) .

_ (1) الآية 11 من سورة غافر. (2) انظر: فتح البارى 3/284 رقم 1369، وشرح الأصول ص 730، 731. (3) الآية 80 من سورة النمل. (4) الآية 22 من سورة فاطر. (5) أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه 3/503، 504 رقم 932.

قالوا فدل ذلك على أن الموتى لا يسمعون، وما يروى من سماعهم خفق النعال لا يصح أيضاً. وأن عذاب القبر خاص بالكفار من اليهود. وقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (1) . ... قالوا: هذه فى آل فرعون خاصة، فلا يقاس عليهم غيرهم. وما صح من أحاديث فى عذاب القبر؛ فهو آحاد يفيد الظن، لا يحتج به هنا فى باب العقائد (2) . وهو يصح لبعض الناس دون بعض ممن فقدت أجسادهم، أو تعذر وصول الحياة إليها (3) . ... أما دليلهم العقلى فقالوا: لو كان لعذاب القبر أصل؛ لكان يجب فى النباش أن يرى العقوبة أو المثوبة للمعاقب والمثاب، فكان يشاهد عليه أثر الضرب وغيره، وفى علمنا العقلى بخلافه، دليل على أن ذلك مما لا أصل له، ولا مدخل للسمع فيه (4) . ويجاب على هذه الشبه بما يلى: إن زعمهم أن الأخبار مجملة فى إثبات عذاب القبر، ثم انقسامهم حوله إلى ما ذكرنا، يتبين منه: أن المعتزلة، وإن زعم بعضهم بأنه يقطع بوقوعه لدلالة الأخبار عليه، إلا إنهم لم يسلموا للنصوص فى ذلك تسليماً كاملاً، ولم يسلم هذا الأمر من إقحام عقولهم فى جزئيات منه. نعم: إن من أثبته منهم أثبته فى الجملة، ولكنهم خاضوا فى ثبوته لعصاة المؤمنين، وفى كيفيته، ووقته مما دفعهم إلى رد بعض النصوص، وتأويل بعضها (5) . ... فما زعموه من تعارض عذاب القبر ونعيمه بقوله تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (6) فلا حياة ثالثة.

_ (1) الآية 46 من سورة غافر. (2) انظر: شرح الأصول ص 730 –732. (3) فضل الاعتزال ص 203. (4) شرح الأصول ص 731 – 732، وفضل الاعتزال 201 – 203. (5) شرح الأصول ص 73 وما بعدها. (6) جزء من الآية 11 من سورة غافر.

فالجواب: أنه لا تعارض، إنما التعارض نشأ من عدم إدراكهم المراد بالحياة فى القبر فهى ليست الحياة المستقرة المعهودة فى الدنيا، التى تقوم فيها الروح بالبدن وتدبيره وتصرفه، وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، بل هى مجرد إعادة لفائدة الامتحان الذى وردت به الأحاديث الصحيحة، فهى إعادة عارضة، كما حى خلق، لكثير من الأنبياء، لمسألتهم لهم عن أشياء، ثم عادوا موتى (1) . ... فحياة القبور، وما فيها من نعيم أو عذاب؛ تختلف عن حياة الدنيا، وحياة الآخرة؛ فهى حياة برزخية لا طاقة للعقل فى إدراكها، ولا يمكنه أن يصل إلى كيفيتها، وإنما يتوقف الإيمان بهذه الحياة على النصوص الواردة قال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (2) ... أما دعواهم تعارض الأحاديث: فيجاب عن ذلك بأنه لا تعارض مع إمكان الجمع وهو ممكن. وما ورد من رد أم المؤمنين عائشة –رضى الله عنها– لخبر ابن عمر رضي الله عنه فى تعذيب الميت ببكاء أهله عليه. فلا حجة لهم فيه على نفى عذاب القبر لأن عائشة –رضى الله عنها– إنما أنكرت عذاب الميت بما لم تكسبه يداه، يدل على ذلك احتجاجها بقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (3) ومع ذلك فإنكارها ذلك وحكمها على الراوى بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد؛ لأن الرواة لما أنكرته من رواية عمر وابنه – رضى الله عنهما – رواه من الصحابة كثيرون وهم جازمون. فلا وجه للنفى منها مع إمكان حمله على محمل صحيح (4) .

_ (1) فتح البارى 3/284 رقم 1374، وانظر: شرح المقاصد للتفتازانى 2/162. (2) الآية 100 من سورة المؤمنون. (3) الآية 38 من سورة النجم. (4) فتح البارى 3/184 رقم 1287.

والمحامل كثيرة جمع بينها الحافظ ابن حجر فقال: "من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالماً فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضياً بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ، كيف أهمل النهى، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله من المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك، كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم. وحكى الكرمانى تفصيلاً آخر، وحسنه، وهو التفرقة بين حال البرزخ، وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (1) على يوم القيامة، وهذا الحديث وما أشبهه على البرزج. ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع فى الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (2) . فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون الحال فى البرزخ بخلاف يوم القيامة والله أعلم (3) أ. هـ. ... أما ردها – رضى الله عنها – لخبر ابن عمر – رضى الله عنهما – فى سماع الموتى لكلام النبى صلى الله عليه وسلم ومعارضتها ذلك بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} (4) ونحوها من الآيات فالجمهور فى ذلك على خلافها فيما اجتهدت فيه، وقبلوا حديث ابن عمر لموافقة من رواة غيره عليه.

_ (1) الآية 38 من سورة النجم. (2) الآية 25 من سورة الأنفال. (3) انظر: فتح البارى 3/185 رقم 1290، والمنهاج شرح مسلم للنووى 3/505 رقم 932. (4) جزء من الآية 80 من سورة النمل.

وأما استدلالها بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} فقالوا معناها لا تسمعهم سماعاً ينفعهم، أو لا تسمعهم إلا أن يشاء الله … والآية كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) أى أن الله هو الذى يسمع ويهدى (2) . ... وصحت الأحاديث بسماع الموتى حتى قرع النعال خلافاً لمن رد ذلك من المعتزلة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابُه، وإنه ليسمع قرعَ نعالهم …" الحديث (3) . ... وعن ابن عمر –رضى الله عنهما– قال: "اطلع النبى صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال: وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل له: تدعوا أمواتاً؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون" (4) . ولا دليل على خصوصية ذلك بأهل بدر، كما يزعم بعض المعتزلة (5) . ... قال القاضى عياض – رحمه الله -: "يحتمل سماعهم، على ما يحتمل عليه سماع الموتى، فى أحاديث عذاب القبر، وفتنته، التى لا مدفع لها. وذلك بإحيائهم أو إحياء جزء منهم يعقلون به ويسمعون فىالوقت الذى يريد الله تعالى".

_ (1) الآية 40 من سورة الزخرف. (2) فتح البارى 3/277 رقم 1370. (3) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الجنائز، باب ما جاء فى عذاب القبر 3/275 رقم1374، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الجنة وصفة تعليمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه 9/220 رقم 2870 واللفظ للبخارى. (4) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الجنائز، باب ما جاء فى عذاب القبر 3/274 رقم1370، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه 3/503 رقم 932 واللفظ للبخارى. (5) انظر: فضل الاعتزال ص 203.

وقال الإمام النووى – رحمه الله – بعد نقله لكلام القاضى عياض السابق: "وهو الظاهر المختار الذى تقتضيه أحاديث السلام على القبور" (1) . ... أما ما زعموه من تعارض الأحاديث المثبتة لعذاب القبر والنافية له. فيجاب عن ذلك بأنه لا تعارض. ففى الأحاديث التى زعموا أنها تنفى عذاب القبر فى عجزها ما يثبته، وهو ما تعمدوا بتره، فلا تعارض بين أول الحديث وآخره كما جاء فى رواية مسلم عن عائشة –رضى الله عنهما– قالت: دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندى امرأة من اليهود. وهى تقول هل شعرت أنكم تفتنون فى القبور؟ قالت: فَارْتَاعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما تُفتنُ يهودُ" قالت عائشة: فلبثنا ليالى. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل شعرت أنه أوحى إلى أنكم تفتنون فى القبور؟ " قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بَعْدُ، يستعيذُ من عذاب القبر" (2) . قال الحافظ ابن حجر: وحاصل الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أوحى إليه أن المؤمنين يفتنون فى القبور فقال:"إنما يفتن يهود" فجرى على ما كان عنده من علم ذلك، ثم لما علم بأن ذلك يقع لغير اليهود استعاذ منه، وعلمه، وأمر بإيقاعه فى الصلاة، ليكون أنجح فى الإجابة" (3) .

_ (1) المنهاج شرح مسلم للنووى 9/225 رقم 2874. (2) أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر … إلخ 3/91، 92 رقم 584. (3) فتح البارى 11/180 رقم 6366.

وفى رواية أخرى عنها –رضى الله عنها– قالت: دخلت عَلَىَّ عَجُوزانِ من عُجُز يهود المدينة. فقالتا: إن أهل القبور يعذبون فى قبورهم. قالت: فكذبتُهُما. ولم أنعم أن أَصَدِّقَهُمَا. فَخَرَجَتَا. ودخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله! إن عَجُوَزَيْنِ من عُجُزِ يهود المدينة دخلتا على فزعمتا أنَّ أهل القبور يُعذبون فى قبورهم. فقال: "صدقتا. إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم" قالت: فما رأيته، بعد، فى صلاة، إلا يتعوذ من عذاب القبر" (1) . ... قال الحافظ ابن حجر: "وبين هاتين الروايتين مخالفة، لأن فى هذه أنه صلى الله عليه وسلم، أنكر على اليهودية، وفى الأول أنه أقرها.

_ (1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الدعوات، باب التعوذ من عذاب القبر 11/178 رقم 6366، ومسلم "بشرح النووى" كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر … إلخ 3/92 رقم 586 واللفظ له.

قال النووى تبعاً للطحاوى وغيره: هما قصتان، فأنكر النبى صلى الله عليه وسلم، قول اليهودية فى القصة الأولى، ثم أعلم النبى صلى الله عليه وسلم بذلك، ولم يعلم عائشة، فجاءت اليهودية مرة أخرى، فذكرت لها ذلك، فأنكرت عليها مستندة إلى الإنكار الأول، فأعلمها النبى صلى الله عليه وسلم بأن الوحى نزل بإثباته، ويدل على ذلك صراحة، ما رواه أحمد فى مسنده بإسناد على شرط البخارى عن عائشة –رضى الله عنها-: "أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاك الله عذاب القبر قالت: فقلت: يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود، لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، وهو ينادى بأعلى صوته: "أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر؛ فإن عذاب القبر حق" (1) .

_ (1) المسند 6/81، 89، 174، وعزاه الحافظ الهيثمى فى مجمع الزوائد 3/55 إلى أحمد، وقال: رجاله رجال الصحيح، انظر دفع الشبهات لأحمد حجازى السقا ص208، 209 حيث بتر هذه الرواية مكتفياً فى سردها إلى قوله صلى الله عليه وسلم لا عذاب دون يوم القيامة، موهماً أن هذه الرواية تنفى عذاب القبر. فتأمل كيف يحرفون الكلم عن مواضعه.

.. وفى هذا كله أنه صلى الله عليه وسلم، إنما علم بحكم عذاب القبر، إذ هو بالمدينة فى آخر الأمر، وهذا لا يستشكل مع ما نزل بمكة من قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (1) وقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (2) . لأن الآيتين بظاهر منطوقهما فى حق الكفار. والذى أنكره النبى صلى الله عليه وسلم، إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين، ثم اعلم صلى الله عليه وسلم، أن ذلك قد يقع على من يشاء منهم، فجزم به، وحذر منه، وبالغ فى الاستعاذة منه تعليماً لأمته وإرشاداً، فانتفى التعارض بحمد الله تعالى (3) أ. هـ.

_ (1) الآية 27 من سورة إبراهيم. (2) الآية 46 من سورة غافر. (3) انظر: فتح البارى 3/278، 279، وانظر: تصريح البراء بن عازب رضي الله عنه بأن آية "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" قال نزلت فى عذاب القبر" أ. هـ. أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه 9/221رقم2871،والنسائى فى سننه كتاب الجنائز، باب عذاب القبر4/101رقم2056.

.. أما دعوى القاضى عبد الجبار ومن قال بقوله: إن قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (1) فى آل فرعون خاصة (2) . فيجاب علىذلك: بأن دعوى الخصوصية ممتنعة، ولا دليل عليها، ومما يؤيد ذلك ما يلى: أولاً: لقد احتج أهل العلم بهذه الآية على عذاب القبر، وما زالوا يستشهدون بها على إثباته (3) ، حتى قال الإمام ابن كثير – رحمه الله -: "وهذه الآية أصل كبير فى استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ فى القبور" (4) . ثانياً: لقد فهم الصحابة والتابعون رضي الله عنهم عدم الخصوصية فى الآية، ولذلك جعلوها مستنداً لهم فى إثبات عذاب القبر (5) .

_ (1) الآية 46 من سورة غافر. (2) شرح الأصول ص 730، ودفع الشبهات عن الشيخ محمد الغزالى لأحمد حجازى السقا ص209، وراجع: المصادر السابقة ص 818، 819. (3) انظر: المنهاج شرح مسلم 9/223 رقم 2866، والجامع لأحكام القرآن 15/318، 319، وفتح البارى 3/276، وتفسير القرآن العظيم 4/81. (4) تفسير القرآن العظيم 4/81. (5) انظر: الجامع لأحكام القرآن 15/319، وانظر: استدلال جرير بن عبد الله رضي الله عنه على ذلك فى رواية البراء بن عازب عند أبى داود وستأتى بعد قليل ص 826.

ثالثاً: روى البخارى بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة؛ فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار؛ فمن أهل النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة" (1) وهذا فى معنى الآية (2) . ... أما زعمهم بأن أحاديث عذاب القبر آحاد لا يحتج بها هنا فى العقائد، فقد سبق أن جماعة من الأئمة نصوا على أن الأحاديث الواردة فى عذاب القبر، وسؤاله، ونعيمه، متواترة بمجموعها تواتراً معنوياً، وإن لم يبلغ آحادها حد التواتر. وحتى لو كانت أحاداً لوجب علينا التسليم لها، والإيمان بمضمونها، متى ثبتت صحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن دلت على عقيدة خلافاً لمن أبى ذلك. فخبر الآحاد حجة فى العقائد كما سبق تفصيله فى غير موضع من البحث (3) . وأما دليلهم العقلى فيجاب عنه بالآتى: أولاً: هذا إقحام منهم للعقل فى أمر لا طاقة له به، ولا مدخل له فيه؛ لأن عذاب القبر ونعيمه أمر غيبى لا عهد للعقول به فى هذه الدار، ولا يمكنها أن تصل إلى كيفيته، وإنما يتوقف الإيمان فيه على النصوص الواردة، وإن كان العقل لا يمنع وقوعه، والشرع لا يأتى بما تحيله العقول، ولكنه يأتى بما تحار فيه العقول (4) .

_ (1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشى 3/286 رقم 1379، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه … إلخ 9/218 رقم 2866، واللفظ لمسلم. (2) انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/414 – 415. (3) راجع: إن شئت ص 497، 552-566، 751-753، 757، 758، 787-788. (4) انظر: شرح الطحاوية 2/136بتصرف.

ثانياً: إن الحياة التى يحياها الميت فى قبره والتى دل عليها حديث النبى صلى الله عليه وسلم، فى قوله: "فتعاد روحه إلى جسده" (1) حياة أخرى غير هذه الحياة المعهودة فى الدنيا التى تقوم فيها الروح بالبدن، وتصرفه، وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، وهذا أمر لا يكذبه العقل ولا ينفيه (2) . يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله – "إن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام: أحدها: تعلقها به فى بطن الأم جنيناً. الثانى: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض. الثالث: تعلقها به فى حال النوم فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه. الرابع: تعلقها به فى البرزخ (3) ؛ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها التفات إليه البته. الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتاً، ولا نوماً، ولا فساداً. ... وإذا كان النائم روحه فى جسده وهو حى، وحياته غير حياة المستيقظ، فإن النوم شقيق الموت، فهكذا الميت إذا أعيدت روحه إلى جسده، كانت له حال متوسطة بين الحى وبين الميت الذى لم ترد روحه إلى بدنه، كحال النائم المتوسطة بين الحى والميت، فتأمل هذا يزيح عنك إشكالات كثيرة" (4) .

_ (1) جزء من حديث البراء بن عازب الطويل فى شأن عذاب القبر، والحديث أخرجه أبو داود فى سننه بطوله، فى كتاب السنة، باب فى المسألة فى القبر وعذاب القبر 4/239، 240 رقم 4753، وأحمد فى المسند 4/287 – 288، وأورده الهيثمى فى مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح 3/52 – 53. (2) انظر: الروح ص 62، وفتح البارى 3/241. (3) البرزخ: هو الحاجز بين الشيئين، والمراد به الفترة ما بين الموت إلى القيامة. انظر: القاموس المحيط 1/255. (4) الروح ص 62، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/136.

.. واعلم: أن الرسل "صلوات الله وسلامه عليهم" لا يخبرون بما تحيله العقول وتنافيه، ولكن إخبارهم إما أن يشهد به العقل والفطرة، وإما أن لا يدركه العقل لعجزه عن الوصول إلى حقيقته وكنهه، ولا يكون الخبر بذلك محالاً فى العقل، وبالتالى كل خبر يظن أن العقل يحيله فإما أن يكون كذباً أو يكون ذلك العقل فاسداً (1) . وبعد فإن عذاب القبر أو نعيمه حق ثابت بظاهر القرآن، وصريح السنة المطهرة وعلى ذلك إجماع أهل السنة (2) . فإن الميت إذا مات يكون فى نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحياناً ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى، أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لرب العالمين (3) . أدلة عذاب القبر ونعيمه: ... الذى يلقى نظرة فى القرآن الكريم، والسنة المطهرة يجد أن عذاب من يستحق العذاب، ونعيم من يستحق النعيم يبدأ منذ قدوم الملائكة لأخذ روحه عند الموت قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (4) .

_ (1) الروح ص 86، 87 بتصرف، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة1/403–405. (2) شرح لمعة الاعتقاد الهادى إلى سبيل الرشاد لابن قدامة المقدسى ص 69، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 1/397. (3) الروح ص 74، ولوامع الأنوار البهية 2/25. (4) الآية 93 من سورة الأنعام.

.. فقوله تعالى: "وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ" أى بالضرب حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، وهو كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (1) وفى حق أهل النعيم قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) مع قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (3) . وغير ذلك من الآيات. ... وهذا وإن كان قبل الدفن، فهو من جملة العذاب أو النعيم الواقع قبل يوم القيامة. وإنما أضيف العذاب أو النعيم إلى القبر لكون معظمة يقع فيه، ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا، وإلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد موته، ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا ما شاء الله" (4) . وهذا خلافاً لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وقال بعذاب القبر لمن قبر فقط (5) . ... كما دلت الأدلة على وقوع النعيم أو العذاب عقب الدفن، وبعد سؤال الملكين، وامتحانهما له.

_ (1) الآية 50 من سورة الأنفال. (2) الآية 32 من سورة النحل. (3) الآية 30 من سورة فصلت. (4) الفصل فى الملل والنحل 4/67، وفتح البارى 3/275، 276. (5) انظر: شرح الأصول ص 733.

فقد جاء فى حديث البراء بن عازب فى شأن المؤمن: "فينادى مناد من السماء أن صدق عبدى، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من ريحها، وطيبها ويفسح له فى قبره" وقال فى الكافر: "فينادى مناد من السماء أن كذب عبدى فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً من النار، فيأتيه من حرها، وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه …" الحديث (1) . ... فهذا نص صريح على وقوع النعيم أو العذاب بعد الدفن. وفى الحديث عن زيد بن ثابت مرفوعاً: "إن هذه الأمة تبتلى فى قبورها. فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذى أسمع …، الحديث (2) . ... فقد دلت هذه الأحاديث وغيرها فى الصحيح كثير، على وقوع عذاب القبر بعد الدفن. وهل يدوم ذلك إلى يوم القيامة أم ينقطع؟ الظاهر من النصوص، أن منه ما هو دائم إلى يوم القيامة، وهو عذاب الكفار، كما قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (3) وقال تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (4) . قال الحافظ ابن حجر قال الطبرى: "الأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل الجوع أو السبى أو القتل أو الإذلال أو غير ذلك" (5) .

_ (1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب السنة، باب فى المسئلة فى القبر وعذاب القبر4/239رقم4753. (2) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر … إلخ 9/218،219رقم2867. (3) الآية 46 من سورة غافر. (4) الآية 101 من سورة التوبة. (5) فتح البارى 3/276 رقم 1369 بتصرف يسير.

وفى حديث أبى هريرة فى شأن المنافقين "فيقال للأرض: التئمى عليه، فتلتئم عليه فتختلف فيها أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك" (1) . ... ومنه الذى يدوم مدة ثم ينقطع وهو عذاب بعض العصاة، فإنهم يعذبون على قدر جرائمهم، ثم يخفف عنهم (2) . ... وبالتالى زعم القاضىّ عبد الجبار ومن قال بقوله: إن العذاب يؤخر إلى ما بين النفختين (3) ؛ زعم لا حقيقة له؛ لأن الأدلة السابقة تخالفه، والآية التى استدلوا بها دليل عليهم لا لهم، لأن المراد بالبرزخ هو الحاجز الذى بين الدنيا والآخرة، وهى فترة بقاء الناس فى قبورهم (4) . ... إن الله عز وجل جعل أمر الآخرة وما يتصل بها من حياة البرزخ أمراً غيبياً محجوباً عن المكلفين فى هذه الدار، لكمال حكمته سبحانه وتعالى، وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم (5) . ... ولو أطلع الله العباد على عذاب القبر؛ لزالت حكمة التكليف، والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس، كما ثبت فى صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فلولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذى أسمع منه (6) . ... ولما كانت هذه الحكمة منفية فى البهائم، سمعت ذلك وأدركته كما سبق فى الحديث (7) . إن الله عز وجل حجب بنى آدم، من رؤية كثير مما يحدث فى هذه الدنيا، فجبريل

_ (1) جزء من حديث طويل أخرجه الترمذى فى سننه كتاب الجنائز، باب ما جاء فى عذاب القبر 3/383، 384 رقم 1071 وقال: حديث حسن غريب. (2) انظر: شرح العقيدة الطحاوية 2/139. (3) انظر: شرح الأصول ص 732. (4) انظر: تفسير القرآن العظيم 3/256. (5) انظر: الروح ص 89. (6) سبق تخريجه ص 829. (7) راجع: ص 824.

-عليه السلام- كان ينزل بالوحى على النبى صلى الله عليه وسلم ويخاطبه على كثب من الصحابة رضي الله عنهم وهم لا يرونه، والجن يعيشون بيننا، ويتكلمون فيما بينهم، ونحن لا نراهم، ولا نسمع كلامهم، والنائم يجد ألماً ولذة فى نومه، ولا يحس بذلك جليسه، بل اليقظان يحس بالألم، ويشعر باللذة ولا يجد ذلك من يجالسه (1) . والمحتضر يشعر بالألم عند احتضاره، وتضربه الملائكة، والحاضرون لا يرون ذلك. كذلك عذاب القبر، ونعيمه، يقع على الميت، حتى لو دفن رجلان أحدهما إلى جنب الآخر، وكان أحدهما منعماً، والآخر معذباً، فإن نعيم الأول لا يصل إلى الثانى، وكذا عذاب الثانى لا يصل إلى الأول. وقدرة رب العزة أعجب، وأوسع من ذلك (2) . فقياس أحوال الآخرة، وحياة البرزخ بأحوال الدنيا، قياس للغائب، على الشاهد، وهو محض الضلال، والجهل، وتكذيب الرسل صلوات الله وسلامه عليهم (3) أ. هـ. اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، اللهم إنى اسألك حسن الخاتمة

_ (1) انظر: المنهاج شرح مسلم للنووى 9/224 رقم 2866-2875، وفتح البارى 3/278 رقم 1374، والروح ص 90، 91. (2) انظر: شرح الطحاوية 2/138، والروح ص 92،93، والاعتصام 2/569. (3) انظر: فتح البارى 3/278 رقم 1374، الروح ص 100، وللاستزادة انظر: إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين للإمام البيهقى، والغيبيات فى ضوء السنة للدكتور محمد همام، وموقف المدرسة العقلية من السنة 1/397-415.

الفصل السادس: أحاديث "خلوة النبى - صلى الله عليه وسلم - بامرأة من الأنصار

الفصل السادس: أحاديث "خلوة النبى صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار" و"نوم النبى صلى الله عليه وسلم عند أم سليم وأم حرام" وحديث "سحر النبى صلى الله عليه وسلم" ... وتحته أربعة مباحث: المبحث الأول: شبهة مخالفة سيرة النبى صلى الله عليه وسلم فى السنة المطهرة، عن سيرته فى القرآن الكريم. والرد عليها. المبحث الثانى: شبه الطاعنين فى حديث "أنس بن مالك فى خلوة النبى صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار" والرد عليها. المبحث الثالث: شبه الطاعنين فى حديثى نوم النبى صلى الله عليه وسلم عند أم سليم وأم حرام والرد عليها. المبحث الرابع: شبه الطاعنين فى حديث سحر النبى صلى الله عليه وسلم والرد عليها. المبحث الأول: شبهة مخالفة سيرة النبى صلى الله عليه وسلم فى السنة المطهرة عن سيرته فى القرآن الكريم والرد عليها سيرة النبى صلى الله عليه وسلم بين حقائق القرآن الكريم وروايات الإمام البخارى: ... حرص أعداء السنة الشريفة، وهم يطعنون فى صحيح الإمام البخارى، إ يهام الناس أجمعين بأن شخصية النبى صلى الله عليه وسلم، كما رسمها القرآن تختلف عن شخصية النبى صلى الله عليه وسلم، كما رسمها البخارى، وغيره من أصحاب كتب السنة المطهرة، والنتيجة كما يزعمون الإساءة المتعمدة لشخص النبى صلى الله عليه وسلم، من الإمام البخارى (1) وحاشاه من ذلك.

_ (1) انظر: لماذا القرآن ص 85، وقراءة فى صحيح البخارى ص 41-46، كلاهما لأحمد صبحى منصور، ودين السلطان ص418، 425، 450، 588، 604، 614، وراجع من نفس الكتاب ص64، 67، 92، وانظر: أنذار من السماء ص 135، 191، 699.كلاهما لنيازى عزالدين، وأهل السنة شعب الله المختار ص66، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص 45-326 كلاهما لصالح الوردانى.

.. وهم قد لبسوا لهذه النتيجة لباس العلماء لإيهام القارئ أنهم على صواب؛ فساروا خلف بعض الأحاديث انتزعوها انتزاعاً من بين سطور الإمام البخارى، وعمدوا إلى بتر هذه الأحاديث تارة، وإلى إعادة صيغتها بأسلوبهم، وتحميل ألفاظها مالا تحتمل من المعانى تارة ثانية، وعمدوا إلى الأمرين معاً تارة ثالثة. ... ومن هذه الأحاديث التى استدلوا بها على زعمهم فى مخالفة سيرة النبى صلى الله عليه وسلم، كما رسمها القرآن، عن السيرة التى رسمها الإمام البخارى فى صحيحه. أ- أحاديث جاء فيها لفظ (الخلوة) كحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم؛ خلا بإمرأة من الأنصار فى بعض طرق المدينة تستفيه فى أمر من أمور دينها، وحديثه عن أمه أم سليم، وخالته أم حرام –رضى الله عنهما- فى زيارته صلى الله عليه وسلم، لهما، ونومه عندهما فى وقت القيلولة. بهذه الروايات التى جاء فيها لفظ الخلوة، حملوها على الخلوة المحرمة، وساقوا روايات هذه الأحاديث بأسلوب يهيج الغرائز عند الشباب، ويطيح بكل تقدير للنبى صلى الله عليه وسلم، وللأسلاف والأجداد، مع بُعْدِ سياق هذه الروايات فى صحيح البخارى، عن أسلوب سياقهم لها

وَبُعْدهَا أيضاً عن الهدف الذى يرمون إليه من الطعن فى عدالة الإمام البخارى (1) ، وصحيحه الجامع، وزعمهم برسمه صورة لسيرة النبى صلى الله عليه وسلم، مخالفة لصورته فى القرآن الكريم (2) . ب- حديث سحر النبى صلى الله عليه وسلم وزعمهم بأنه يحط من مقام النبوة، ويطعن فى عصمته صلى الله عليه وسلم، ويخالف القرآن الكريم، فى قوله تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (3) . ... وسوف نذكر شبه الطاعنين فى الأحاديث السابقة، والرد عليها فى المباحث التالية. وذلك بعد الجواب عن زعمهم مخالفة سيرة النبى صلى الله عليه وسلم فى السنة المطهرة، عن سيرته فى القرآن الكريم. الجواب:

_ (1) البخارى هو: أمير المؤمنين فى الحديث، الإمام أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ابن بَرْدِزْبَه، كان جده بَرْدِزْبَه مجوسياً على دين قومه، ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجعفى، والى بخارى. فى هذا الوقت، فنسب إليه بالولاء، فمن ثم قيل فى نسبه (الجعفى) ، وهو الحافظ العلم، صاحب (الجامع الصحيح) ، و (التاريخ الكبير) و (الأدب المفرد) و (القراءة خلف الإمام) وغير ذلك. مات سنة 256هـ. له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 2/555 رقم 578، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 252 رقم 560، والتقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد لابن نقطة ص 30 رقم 6، والإرشاد للخليلى ص 377-380، وطبقات المفسرين للداودى 2/104 رقم 463، والإمام البخارى أمير المؤمنين فى الحديث للأستاذ الدكتور يوسف الكتانى ص 5-20، ومقدمة فتح البارى ص501-518. (2) انظر: السنة فى مواجهة أعدائها لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 190-207. (3) الآية 8 من سورة الفرقان.

.. أقول كما قال فضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى: "البخارى ليس له، ولا لغيره، أن يرسم شخصية النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأن شخصية النبى صلى الله عليه وسلم، بكل بساطة ترجع إلى عناصر ومقومات قد وضعها الله فيه، فالأنبياء جميعاً قد اصطنعهم الله عز وجل لنفسه، وهو قد صنعهم على عينه، فهو وحده الذى يستطيع أن يرسم لنا صورة فيما اصطنعه لنفسه، وصنعه على عينه، ثم يحدد لنا بعد رسم شخصيته، مستوى العلاقة التى ستكون بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم. ... هذا كله لله وحده، وليس لأحد أن يتدخل فى شئ منه. والله عز وجل قد حدد لنا شخصية النبى صلى الله عليه وسلم فى القرآن الكريم وحياً يوحى، وحددها لنا النبى صلى الله عليه وسلم عن طريق أقواله وأفعاله، وصفاته، وجلها أمور محكومة بالوحى. ودور الإمام البخارى، وغيره من أصحاب المصنفات الحديثية، هو تسجيل تلك الأمور كلها وما فيها من وقائع تاريخية. والتأكد منها سهل ميسور، فنحن بإمكاننا أن نحلل الواقعة التاريخية التى يتحدث عنها البخارى أو غيره، وندرسها دراسة وافية على أساس من المنهج المنضبط، ثم نحن نستطيع أن ندرس هؤلاء النقلة الذين نقلوا هذه الواقعة فى جيل أو جيلين إلى أن وصلوا إلى البخارى، أو إلى غيرة من الرواة. ... وهذا ما قام به أئمة أعلام من سلفنا الصالح، وأسفرت نتيجة جهودهم فى النقد والتمحيص، إلى صحة الكتاب، سوى أحرف يسيرة، والقول فيها ما قاله البخارى، وبعض تلك الأحرف لا تصل إلى درجة الوضع، بل ولا حتى إلى درجة الضعف الذى لا يحتمل، وقد سبق تفصيل ذلك (1) . ... ومن هنا ينبغى أن نتفق من البداية؛ أنه ليس لأحد أن يرسم من خياله صورة لنبى مرسل، سواء كان هذا النبى هو النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأنبياء (2) .

_ (1) راجع: ص 691-697. (2) انظر: السنة فى مواجهة أعدائها لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 190 بتصرف.

المبحث الثانى: شبهة الطاعنين فى حديث أنس بن مالك فى خلوة النبى - صلى الله عليه وسلم - بامرأة من الأنصار

.. وهنا نأتى للجواب عما استدلوا به من أحاديث تخالف فى زعمهم حقائق القرآن الكريم. فإلى بيان ذلك. المبحث الثانى: شبهة الطاعنين فى حديث أنس بن مالك فى خلوة النبى صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار والرد عليها ... روى الإمام البخارى فى صحيحه بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: "جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها صبى لها، فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والذى نفسى بيده، إنكم أحب الناس إلىَّ مرتين" (1) . ... بهذه الرواية طعن أعداء السنة فى صحيح الإمام البخارى، وأوهموا القارئ بأن الحديث يطعن فى شخص النبى صلى الله عليه وسلم، حيث جاء فى الرواية أنه صلى الله عليه وسلم، خلا بها، ثم قال "إنكم أحب الناس إلىَّ". يقول أحمد صبحى منصور: "والرواية تريد للقارئ أن يتخيل ما حدث فى تلك الخلوة التى انتهت بكلمات الحب تلك، وذلك ما يريده البخارى بالطبع" (2) .

_ (1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم للأنصار أنتم أحب الناس إلى 7/142 رقم 3786، وكتاب النكاح، باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس 9/244 رقم 5234 وكتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبى صلى الله عليه وسلم 11/534 رقم 6645، ومسلم "بشرح النووى" كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار - رضي الله عنهم - 8/ 306 رقم 2509. (2) لماذا القرآن ص 91، 92، وقراءة فى صحيح البخارى ص 22، كلاهما لأحمد صبحى منصور، وانظر: دين السلطان لنيازى عز الدين ص 39، 64، ودفع الشبهات عن الشيخ الغزالى لأحمد حجازى السقا ص 210.

الجواب

والجواب: ... نقول لهؤلاء النابتة الضالة التى تريد الطعن والتشكيك فى صحيح الإمام البخارى لتسقط مكانته كأصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، ولتسقط بسقوطه كل كتب السُّنة التى تليه، إذ هو بمثابة الرأس، لكتب السنة، وبسقوط الرأس يسقط كل الجسد. نقول لهم إن كنتم صادقين فى دعواكم تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يشكك فى سيرته العطرة، وأخلاقه العظيمة، وتزعمون أن البخارى بإخراجه لهذه الرواية فى صحيحه، قد افترى كذباً على الرسول صلى الله عليه وسلم، وشكك فى أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وحاشا للإمام البخارى من ذلك. وإن كنتم حقاً أهل علم، وبحث عن الحقيقة، فلماذا تعمدتم عدم ذكر اسم عنوان الباب الذى ذكر تحته الإمام البخارى هذا الحديث؟ وهو باب "ما يجوز أن يخلوا الرجل بالمرأة عند الناس". ولماذا تجاهلتم ما قاله شُرَاح الحديث فى بيانهم للمراد من الخلوة، وكيف كانت تلك الخلوة، ولماذا اختلى بها النبى صلى الله عليه وسلم؟ ... نعم تعمدتم عدم ذكر ذلك تلبيساً منكم وتضليلاً للقارئ، ولأنكم تعلمون كما تعلم الدنيا بأسرها، أن فقه الإمام البخارى فى تراجم أبوابه، وتعلمون أنكم بذكركم عنوان الباب، ينكشف كذبكم وتضليلكم. كما أنكم تجاهلتم ما قاله شراح الحديث من أئمة المسلمين، والذين تحرصون على وصفهم بأنهم يقدسون البخارى، ويعبدونه من دون الله "وحاشاهم من ذلك". تجاهلتم ما فسروه وبينوه من معنى "خلوة الرجل بالمرأة عند الناس" وكيف كانت تلك الخلوة؟! والنتيجة من تجاهلكم كل ذلك أنكم سفهتم عقول أئمة المسلمين، واستخففتم بعقول القارئ لكم. ... وتعالوا بنا لنظهر للقارئ ما حرصتم على كتمانه، ولنترك له الحكم بعد ذلك، من الصادق، البخارى أم أنتم؟ ومن الطاعن والمشكك فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم، البخارى أم أنتم؟ ومن المحترم لعقل القارئ، البخارى أم أنتم؟

.. يقول الحافظ "ابن حجر" – رحمه الله – شارحاً المراد من عنوان الباب الذى ذكر الإمام البخارى تحته حديث أنس قال: قوله: "باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس" أى لا يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم، بحيث لا يسمعون كلامهما، إذا كان بما يخافت به، كالشئ الذى تستحى المرأة من ذكره بين الناس، وأخذ المصنف قوله فى الترجمة "عند الناس" من قوله فى بعض طرق الحديث "فخلا بها فى بعض الطرق أو فى بعض السكك" وهى الطرق المسلوكة التى لا تنفك عن مرور الناس غالباً. ... وقوله "فخلا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أى فى بعض الطرق، قال المهلب: لم يرد أنس أنه خلا بها، بحيث غاب عن أبصار من كان معه، وإنما خلا بها، بحيث لا يسمع من حضر شكواها، ولا ما دار بينهما من الكلام، ولهذا سمع أنس آخر الكلام فنقله، ولم ينقل ما دار بينهما؛ لأنه لم يسمعه. ... وفى رواية مسلم عن أنس "أن امرأة كان فى عقلها شئ فقالت: يا رسول الله! إن لى إليك حاجة، فقال: يا أم فلان! أى السكك شئت، حتى أقضى لك حاجتك، فخلا معها فى بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها" (1) . ... قال الإمام النووى قوله: "خلا معها فى بعض الطرق" أى وقف معها فى طريق مسلوك، ليقضى حاجتها ويفتيها فى الخلوة، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية، فإن هذا كان فى ممر الناس، ومشاهدتهم إ ياه وإ ياها، لكن لا يسمعون كلامها، لأن مسألتها مما لا يظهره" (2) .

_ (1) أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الفضائل، باب قرب النبى صلى الله عليه وسلم، من الناس وتبركهم به 8/90 رقم 2326، وأخرجه أبو داود فى سننه كتاب الأدب، باب الجلوس فى الطرقات 4/257 رقمى 4818، 4819. (2) المنهاج شرح مسلم للنووى 8/91.

.. قال الحافظ ابن حجر: وفى هذه الرواية بيان "أن مفاوضة الأجنبية سراً لا يقدح فى الدين عند أمن الفتنة، ولكن الأمر كما قالت عائشة: "وأيكم يملك أربه كما كان صلى الله عليه وسلم، يملك أربه" (1) . ... أما قوله "والذى نفسى بيده"، إنكم أحب الناس إلىَّ –مرتين– وفى رواية ثلاث مرات، هو على طريق الإجمال، أى مجموعكم أحب إلى من مجموع غيركم". ... وفى هذه الجملة منقبة للأنصار حيث جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم، حبهم من علامات الإيمان وبغضهم من علامات النفاق، فقال صلى الله عليه وسلم: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق ومن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" (2) .

_ (1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض 1/481 رقم 302، وكتاب الصوم، باب المباشرة للصائم 4/176 رقم 1927، وأخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الحيض، باب مباشرة الحائض فوق الإزار 2/207 رقم 293، وكتاب الصيام باب بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته 4/231 رقم 1106، وانظر: فتح البارى 9/245 رقم 5234. (2) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار من الإيمان 7/141 رقم 3783 ومسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلى رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته وبغضهم من علامات النفاق 1/340 رقم 75.

.. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: "أية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" (1) ومن هنا كرر الإمام البخارى، حديث أنس فى كتاب مناقب الأنصار. قال الحافظ ابن حجر: "وخصوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل، من إيواء النبى صلى الله عليه وسلم، ومن معه، والقيام بأمرهم، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، وإيثارهم إياهم فى كثير من الأمور على أنفسهم، فكان صنيعهم لذلك موجباً لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين من عرب وعجم، والعداوة تجر البغض، ثم كان ما اختصوا به مما ذكر موجباً للحسد، والحسد يجر البغض، فلهذا جاء التحذير من بغضهم والترغيب فى حبهم حتى جعل ذلك آية الإيمان والنفاق، تنويهاً بعظيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم فى معنى ذلك مشاركاً لهم فى الفضل المذكور كل بقسطه. وقد ثبت فى صحيح مسلم عن علىّ أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال له "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" (2) ، وهذا جار باطراد فى أعيان الصحابة، لتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن العناء فى الدين" (3) . وبعد

_ (1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار 1/80 رقم17، وكتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار من الإيمان 7/141 رقم 3784، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلى رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته وبغضهم من علامات النفاق 1/340 رقم 128. (2) أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلىرضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته وبغضهم من علامات النفاق 1/341 رقم 78. (3) فتح البارى 1/81 رقم 17.

فقد ظهر واضحاً جلياً لكل ذى عقل، وقلب سليم، أن الحديث صحيح رواية ودراية، وأن ما زعمه أهل الزيغ من أن لفظ الخلوة فى الحديث - محمول على الخلوة المحرمة، مردود عليهم بما جاء فى بعض طرق الحديث "فخلا بها فى بعض الطرق أو بعض السكك، وهى الطرق التى لا يخلو منها المارة من الناس. كما اتضح جلياً أن تلك المرأة التى خلى بها النبى صلى الله عليه وسلم، كانت لها مسألة أرادت أن تستفتى فيها النبى صلى الله عليه وسلم، وتلك المسألة مما تستحى من ذكره النساء بحضرة الناس، وكانت إجابة النبى صلى الله عليه وسلم، لها أن تلتمس بعض الطرق أى تلتمس أى جانب من الأماكن العامة التى لا تخلو من مرور الناس غالباً حتى يسمع حاجتها، ويقضيها لها، ومن هنا جاء التعبير بلفظ الخلوة، وكل هذا صرحت به رواية الإمام مسلم. وما ختم به النبى صلى الله عليه وسلم، حديثه مع المرأة من قوله "والذى نفسى بيده إنكم أحب الناس إلى" هذا منه صلى الله عليه وسلم، تأكيداً لما قاله مراراً من جعله علامات الإيمان حب الأنصار، ومن علامات النفاق بغضهم، ثم إن هذه الكلمة قالها النبى صلى الله عليه وسلم، جهاراً على ملأ من الناس - لنساء وصبيان من الأنصار كانوا مقبلين من عرس. ... ففى رواية البخارى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أبصر النبى صلى الله عليه وسلم، نساءاً وصبياناً مقبلين من عرس فقام ممتناً فقال "أنتم من أحب الناس إلى" (1) . فهل بقى بعد كل هذا حجة فى الحديث لمن أرادوا أن يشوشوا به على سيرة النبى صلى الله عليه وسلم، وهم يوهمون البسطاء أنهم من المحبين للنبى صلى الله عليه وسلم، المدافعين عنه، فىالوقت الذى يجحدون فيه سنته العطرة، ويطعنون فى عدالة الإمام البخارى، وفى صحيحه الجامع، ويسفهون عقول المسلمين القائلين بقول سلفهم الصالح - رضي الله عنهم - ويستخفون بعقول القارئ لهم؟ أ. هـ. والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم للأنصار: أنتم أحب الناس إلى 7/142 رقم 3785، وكتاب النكاح، باب ذهاب النساء والصبيان إلى العرس 9/156 رقم 5180.

المبحث الثالث: شبهة الطاعنين فى حديثى نوم النبى صلى الله عليه وسلم عند أم سليم، وأم حرام

المبحث الثالث: شبهة الطاعنين فى حديثى نوم النبى صلى الله عليه وسلم عند أم سليم، وأم حرام والرد عليها أولاً: حديث أم سليم - رضى الله عنها -: ... روى البخارى ومسلم – رحمهما الله – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن أم سليم (1) كان تبسط للنبى صلى الله عليه وسلم، نَطْعاً فَيَقِيلُ عِنْدهَا على ذلك النطع، قال: فإذا نام صلى الله عليه وسلم، أخذت من عَرَقِه وشعره فجمعَتْهُ فى قارورة، ثم جمعَتْه فى سُكّ وهو نائم. قال: فلما حضرَ أنسَ ابن مالك الوفاةُ أوصى إلىَّ أن يُجعلَ فى حَنوطِه من ذلك السُّكّ، قال فجُعِل فى حَنوطه" (2)

_ (1) أم سليم: هى أم سليم بنت ملحان، واسم ملحان: مالك بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب ابن عامر بن غنم بن عدى بن النجار الأنصارية الخزرجية النجارية، أم أنس بن مالك، اختلف فى اسمها فقيل: سلهة، وقيل: رميلة، وقيل رميثة، وقيل مليكة، والغميصاء، والرميصاء. كانت تحت مالك بن النضر، والد أنس بن مالك فى الجاهلية، فغضب عليها وخرج إلى الشام، ومات هناك. فخطبها أبو طلحة الأنصارى وهو مشرك، فقالت: أما إنى فيك لراغبة، وما مثلك يرد، ولكنك كافر، وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم فلك مهرى، ولا أسألك غيره، فأسلم وتزوجها وحسن إسلامه، فولدت له غلاماً مات صغيراً، وهو أبو عمير، وكان معجبابه، فأسف عليه ثم ولدت له عبد الله بن أبى طلحة، وهو والد إسحاق، فبارك الله فى إسحاق وأخوته، وكانوا عشرة، كلهم حمل عنه العلم، وكانت تغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروت عنه أحاديث، وروى عنها ابنها أنس رضي الله عنه، وكانت من عقلاء النساء، ماتت فى خلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه. انظر فى ترجمتها: اسد الغابة7/333رقم7479،والاستيعاب4/1940رقم 4163، والإصابة4/441رقم12077، وتاريخ الصحابة ص 276 رقم 1573، وتجريد أسماء الصحابة 2/333. (2) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الاستئذان، باب من زار قوماً فَقَالَ عندهم 11/73 رقم 6281، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الفضائل، باب طيب عرق النبى صلى الله عليه وسلم، والتبرك به 8/96 رقم 2332.

ثانياً: حديث أم حرام -رضى الله عنها-: ... روى البخارى ومسلم - رحمهما الله - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان (1) ، فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطعمْتهُ، وجعلت تَفْلِى رَأْسُهُ، فَنَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتى عُرضوا على غُزَاةً فى سبيل الله، يركبون ثَبَجَ هذا البحر مُلُوكاً على الأَسِرَّةِ أو مِثلَ المُلُوك على الأَسِرَّة، شكَّ -إسحاقُ- قالت فقلتُ: يا رسولَ الله، ادعُ الله أن يجعلنى منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسَهُ، ثم استيقظ وهو يضحك. فقلتُ: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أُمتى عُرضوا على غُزاةً فى سبيل الله -كما قال فى الأول- قالتُ فقلتُ: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم، قال: أنت من الأولينَ0 فركبتِ البحرَ فى زمن معاويةَ بن أبى سفيان فُصِرعَتْ عن داَّبُتها حين خرجتْ من البَحِر فهَلَكْت" (2)

_ (1) أم حرام: هى أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدى بن النجار الأنصارية الخزرجية - زوج عبادة بن الصامت، وأخت أم سليم، وخالة أنس ابن مالك، ولا يصح لها اسم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمها ويزورها فى بيتها، ويقيل عندها،= =ودعا لها بالشهادة، ماتت فى خلافة سيدنا عثمان رضي الله عنه انظر فى ترجمتها: اسد الغابة 7/304، 305 رقم 7411، والإصابة 4/441 رقم 11971، والاستيعاب 4/1931 رقم 4137، وتجريد أسماء الصحابة 2/316، وتاريخ الصحابة ص 276 رقم 1573. (2) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء 6/13 رقمى 2788، 2789، وباب فضل من يصرع فى سبيل الله فمات فهو منهم 6/22 رقمى 2799، 2800، وباب غزو المرأة فى البحر 6/89 رقمى 2877، 2878، وباب ركوب البحر6/103رقمى2894، 2895، وباب ما قيل فى قتال الروم 6/120 رقم2924، وكتاب الاستئذان، باب من زار قوماً فَقَالَ عندهم 11/73 رقمى 6282، 6283، وكتاب التعبير، باب رؤيا النهار 12/408 رقمى 7001، 7002، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الإمارة، باب فضل الغزو فى البحر 7/65 رقم 1812.

.. بالحديثان السابقان طعن أعداء السنة المطهرة، فى عدالة الإمام البخارى، وفى صحيحه الجامع، وزعموا أن الروايات السابقة يلزم منها أن تكون هناك علاقات خاصة مع النبى صلى الله عليه وسلم، وهو الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه. يقول أحمد صبحى منصور: يريدنا البخارى أن نصدق أن بيوت النبى التى كانت مقصدا للضيوف، كانت لا تكفيه، وأنه كان يترك نساءه بعد الطواف عليهن ليذهب للقيلولة عند امرأة أخرى، وأثناء نومه كانت تقوم تلك المرأة بجمع عرقه وشعره، وكيف كان يحدث ذلك … يريدنا البخارى أن نتخيل الإجابة … ونعوذ بالله من هذا الإفك ثم يؤكد البخارى على هذا الزعم الباطل بحديث أم حرام القائل، كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله فأطعمته، وجعلت تفلى رأسه، فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت وما يضحكك يا رسول الله؟ إلخ. فالنبى على هذه الرواية المزعومة تعود الدخول على هذه المرأة المتزوجة، وليس فى مضمون الرواية وجود للزوج، أى تشير الرواية إلى أنه كان يدخل عليها فى غيبة زوجها، ويصور البخارى كيف زالت الكلفة والاحتشام بين النبى وتلك المرأة المزعومة، إذ كان ينام بين يديها وتفلى له رأسه وبالطبع لابد أن يتخيل القارئ موضع رأس النبى بينما تفليها له تلك المرأة فى هذه الرواية الخيالية، ثم بعد الأكل والنوم يستيقظ النبى من نومه، وهو يضحك ويدور حديث طويل بينه وبين تلك المرأة نعرف منه أن زوجها لم يكن موجوداً وإلا شارك فى الحديث. وصيغة الرواية تضمنت كثيراً من الإيحاءات والإشارات المقصودة، لتجعل القارئ يتشكك فى أخلاق النبى. فتقول الرواية "كان رسول الله يدخل على أم حرام فتطعمه…" والبخارى هنا ينزل بالنبى الى درك التشبيه بالحيوانات الأليفة التى تدخل البيوت، فيعطف عليها حريم البيت ويطعمونها. ولاحظ اختيار لفظ الدخول على المرأة، ولم يقل كان يزور، ثم

يقول عن المرأة "وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت" فهنا تنبيه على أنها متزوجة، ولكن ليس لزوجها ذكر فى الرواية ليفهم القارئ أنه كان يدخل على تلك المرأة المتزوجة فى غيبة زوجها، ثم اختيار اسم المرأة "أم حرام" ليتبادر إلى ذهن القارئ أن ما يفعله النبى حرام وليس حلالاً. ثم يضع الراوى - بكل وقاحة- أفعالاً ينسبها للنبى -عليه السلام- لا يمكن أن تصدر من أى إنسان على مستوى متوسط من الأخلاق الحميدة، فكيف بالذى كان على خلق عظيم … عليه الصلاة والسلام، فيفترى الراوى كيف كانت تلك المرأة تطعمه، وتفلى له رأسه، وينام عندها، ثم يستيقظ ضاحكاً ويتحادثان … نعوذ بالله من الافتراء على رسول الله … ويتركنا البخارى بعد هذه الإيحاءات المكشوفة، نتخيل ما معنى أن يخلو رجل بامرأة متزوجة فى بيتها، وفى غيبة زوجها، وأنها تطعمه وتفلى له رأسه، أى أن الكلفة قد زالت بينهما تماماً، وأنها تعامله، كما تعامل زوجها … ثم يقول "وجعلت تفلى له رأسه فنام رسول الله ثم استيقظ …" ولابد أن القارئ سيسأل ببراءة … وأين نام النبى، وكيف نام، وتلك المرأة تفلى له رأسه، وآلاف الأسئلة تدور حول هدف واحد هو ما قصده البخارى بالضبط (1) .

_ (1) لماذا القرآن ص 92-94، وقراءة فى صحيح البخارى ص 41-46 كلاهما لأحمد صبحى منصور، وانظر: دين السلطان لنيازى عز الدين ص530، والخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة ص 73، 75، وأهل السنة شعب الله المختار ص 272، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص 61-124، ثلاثتهم لصالح الوردانى.

الجواب:

والجواب: يقول فضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى رداً على أحمد صبحى منصور، وعلى من قال بقوله قال: "إن قصة أم سليم، وأم حرام، والتى لم يتورع أحمد صبحى منصور أن يتخذ منها تكأة للتشويش على شخصية النبى صلى الله عليه وسلم، وهو يوهم البسطاء أنه من المحبين له المدافعين عنه، وهو لا يعلم أن التفصيل فى نفى النقص عن الكاملين نقص، خصوصاً إذا دخل فى شئ من التفصيل الممل، أو لعل صاحبنا يعلم هذه الجزئية، ويستغلها فى تشويه صورة النبى صلى الله عليه وسلم، والتقليل من هيبته فى نفوس أتباعه، وهذا مطمع قد طمع فيه من هم أكثر من صاحبنا بصراً بالمناهج، ومن هم أكثر منه حيطة بأساليب البحث والدرس، ومن هم أشد منه قوة وأعز نفراً، فما استطاعوا أن يظهروا به وما استطاعوا أن ينالوا من جدار العز للنبى صلى الله عليه وسلم نقباً. والشئ الذى لم يعرفه هؤلاء، أن الروايات مجمعة تقريباً على أن النبى كان يكثر من التردد، والأكل والشرب، عند أم سليم، وأم حرام. والباحث الحصيف يسأل هل هناك شئ من العلاقة بين هاتين المرأتين الجليلتين؟ ... والروايات تجيب أن أم سليم، وأم حرام أختان، يقال لأحدهما الرميضاء، وللأخرى الغميصاء، لا بعينها، فمنهم من يقول: إن الرميصاء بالراء هى أم حرام، والغميصاء بالغين هى أم سليم، ومنهم من يعكس (1) . ... والرميصاء، والغميصاء: لفظان يدلان على حالتين فى العين متشابهتين، وهما حالتان خلقيتان ليس بالعين معهما من بأس.

_ (1) انظر: فتح البارى 11/75 رقمى 6282، 6283.

.. وأم سليم هى أم أنس بن مالك رضي الله عنه، وأم حرام خالته، وأنس بن مالك كان فى صباه يخدم النبى عشر سنين وكان النبى يعامله معاملة تناسب أخلاق النبوة يقول أنس: خدمت النبى عشر سنين، فما قال لى لشئ فعلته لم فعلته، ولا لشئ تركته لما تركته (1) . ... هؤلاء ثلاثة ليسوا من المجاهيل فى الصحابة والصحابيات، وما الذى جعل علاقة النبى بهم على هذا المستوى من الاهتمام، وكثرة السؤال عنهم. إن هذا لا يكون إلا فى حالة واحدة، وهى أن تكون هناك درجة من القرابة تجعل المرأتين من محارم النبى صلى الله عليه وسلم، سواء أكان ذلك من جهة النسب كما قال بعض المؤرخين، أو كان من جهة الرضاعة كما قال البعض الآخر (2) . وإلا فهل يمكن عقلاً للنبى صلى الله عليه وسلم، أن يخالف الناس إلى ما ينهاهم عنه؟ وهل يمكن عقلاً أو اتفاقاً أن تقوم علاقة غير مشروعة وحاشاه بينه وبين أختين فى وقت واحد؟ وهل يجيز المنطق أو العادة أن يسمح النبى لغير قريبه من الصبيان أن يخدمه فى بيته عشر سنوات كاملات؟ وهل يعقل أن يترك أهل الكفر والنفاق – زمن النبوة – مثل هذا الموقف دون استغلاله فى الطعن فى النبى صلى الله عليه وسلم، وفى نبوته؟ أمور كلها تعد من قبيل الشواهد التى لا تخطئ، والدلالات التى تورث اليقين بأن النبى صلى الله عليه وسلم، كان قريباً قرابة محرمة لأم سليم، وأختها أم حرام.

_ (1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" فى عدة أماكن منها كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل 10/471 رقم 6038، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الفضائل، باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً 8/76، 77 رقم 2309. (2) انظر: فتح البارى 11/80، 81 رقمى 6282، 6283، والمنهاج شرح مسلم للنووى 7/67

وخصوصاً وأن بعض الروايات تقول كان النبى صلى الله عليه وسلم، يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه (1) ، ورواية تقول: "نام النبى صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ وكانت تغسل رأسها، فاستيقظ وهو يضحك، فقالت: يا رسول الله أتضحك من رأسى قال لا" (2) . وقد يقول قائل قريبات النبى صلى الله عليه وسلم معروفات، وليس منهن أم سليم ولا أم حرام. والجواب أننا نتحدث عن مجتمع لم يكن يمسك سجلات للقرابات، وخاصة إذا كانت القرابة فى النساء، فهناك قريبات كثيرات أغفلهن التاريخ فى هذا المجتمع وأهملهن الرواة (3) . قال الإمام النووى – رحمه الله – قوله: "أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان، فتطعمه، وتفلى رأسه، وينام عندها". اتفق العلماء على أنها كانت محرماً له صلى الله عليه وسلم، واختلفوا فى كيفية ذلك. فقال ابن عبد البر وغيره: كانت إحدى خالاته من الرضاعة، وقال آخرون: بل كانت خالة لأبيه أو لجده، لأن عبد المطلب كانت أمه من بنى النجار. وقوله: "تَفْلِى" بفتح التاء وإسكان الفاء وكسر اللام أى تفتش ما فى الرأس، وتقتل القمل منه، ولا يعنى وجود ذلك فى رأس النبى صلى الله عليه وسلم. وأخذ من ذلك الحديث جواز فلى الرأس، وقتل القمل منه، وجواز ملامسة المحرم فى الرأس وغيره مما ليس بعورة، وجواز الخلوة بالمحرم والنوم عندها، وهذا كله مجمع عليه (4)

_ (1) أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الفضائل، باب طيب عرق النبى صلى الله عليه وسلم 8/95 رقم 2331. (2) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الجهاد باب فضل الغزو فى البحر 3/7 رقم 2492. (3) انظر: السنة فى مواجهة أعدائها لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 204 هامش. (4) المنهاج شرح مسلم للنووى 7/67.

.. يقول فضيلة الدكتور طه حبيشى: "بقى أن يتشدق صاحبنا فيقول: هب أن ذلك صحيح "وهو صحيح قطعاً" فكيف يدخل النبى بيتاً لمحرمة، وهى أم حرام من غير إذن زوجها عبادة بن الصامت؟ والجواب أن أم حرام كانت قد تزوجت مرتين، تزوجت مرة قبل عبادة بن الصامت وأنجبت، ثم قتل ابنها شهيداً فى إحدى معارك الإسلام، وبقيت بغير زواج لكبر سنها، ثم شاء الله أن تتزوج بعبادة بن الصامت، ويبقى معها بعد انتقال النبى صلى الله عليه وسلم، وقد وقع ذلك فى كلام أنس بن مالك نفسه، وهو يحدث عن خالته بالحديث الذى هو موضوع كلامنا الآن، ففى بعض روايات الحديث قال: ثم تزوجت بعد ذلك بعبادة بن الصامت. أما هذه الجملة التى وقع عليها صاحبنا وهى الواردة فى بعض روايات هذا الحديث وهى – كانت تحت عبادة بن الصامت – فقد أجمع العلماء أن هذه الجملة معترضة، وهى من كلام الراوى يشرح بها حال أم حرام حين ذهبت إلى بلاد الشام، أو إلى جزيرة قبرص، وماتت بها. قال الحافظ ابن حجر: والمراد بقوله هنا "وكانت تحت عبادة" الإخبار عما آل إليه الحال بعد ذلك، وهو الذى اعتمده النووى، وغيره تبعاً لعياض" (1) . ... أما ما زعمه أحمد صبحى، وحاول إ يهام القارئ به من أن روايات الحديث فيها أن النبى صلى الله عليه وسلم، كان يبادل أم حرام كلمات غير مقبولة، وحاشاه.

_ (1) فتح البارى 11/75، وانظر: المنهاج شرح مسلم للنووى 7/69 رقم 1812.

فيقول رداً على ذلك فضيلة الدكتور طه حبيشى: "نعم، النبى صلى الله عليه وسلم، كان عند أم حرام، ونام عندها، واستيقظ يضحك، وسألته أم حرام عن الأمر الذى يضحك منه، فأخبرها أن أناساً من أمته سيركبون البحر ظهره، ووسطه، ويكونون فيه، وهو أمر فيه أمثال الملوك على الأسرة، وهذا أمر يسعد النبى صلى الله عليه وسلم، ويرضيه، لما فيه من المخاطر ما فيه، إن فيه خطر ركوب البحر، وفيه الجهاد وما فى الجهاد من أهوال، وفيه احتمال الموت والشهادة، وأم حرام تعرف ذلك وتدركه، ثم تطمع فيه وتبتغيه، وتسأل النبى الذى لا ترد دعوته وتقول له: سل الله أن يجعلنى منهم، والنبى سأل ربه، واستجاب له ربه عز وجل، فسألته أم حرام بعد أن نام المرة الثانية فى الوقت نفسه وقام يضحك، مم تضحك يا رسول الله؟ فقال كما قال فى الأولى: إن أناساً من أمتى سيركبون البحر مثل الملوك على الأسرة، قالت: يا رسول الله أأنا منهم قال، لا، أنت من الأولين. ... ومرت الأيام وركبت أم حرام مع زوجها، وعلى ساحل البحر ركبت دابة فسقطت من على دابتها فماتت، وقبرها على رأى البعض ما يزال ظاهراً، يعرفه الناس فى قبرص باسم قبر المرأة الصالحة. أى حديث هذا الحديث الذى جرى بين النبى وبين أم حرام، إنه حديث عن المخاطر والأهوال، وهو حديث عن الموت والشهادة، وهو حديث عن استكمال الذات إلى ساعة الممات، وهو حديث فرح النبى صلى الله عليه وسلم، بأمته حين ينتشرون بالدين ويحملون لواء الجهاد. إن مثل هذا الحديث: لهو حديث الرجولة والكمال، وهو حديث الطمع فى رحمة الله ورضوانه. فما علاقة مثل هذا الحديث الشاق بأحاديث الرضا ومتابعة هوى النفس. إن المرء ليسمع الحديث المستقيم، فيدركه على وجهه، إن كان سليم النفس، حسن الطوية وهو ينحرف به إذا كان إنساناً مريض النفس معوجاً، وهل ينضح البئر إلا بما فيه، وهل يمكن أن نتطلب من الماء جذوة نار؟ أو نغترف من النار ماء؟

المبحث الرابع: شبه الطاعنين فى حديث سحر النبى - صلى الله عليه وسلم -

وقديماً قالوا: إن كل إناء بما فيه ينضح. أشهد أن الله عز وجل قد قال فى نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) . والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم المبحث الرابع: شبه الطاعنين فى حديث سحر النبى صلى الله عليه وسلم والرد عليها ... روى البخارى ومسلم: عن عائشة -رضى الله عنها- قالت: "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهودى من يهود بنى زريق يقال له: لَبِيدُ بن الأَعصَمِ0 قالت: حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخيل إليه أنه يفعل الشئ، وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم دعا. ثم دعا. ثم قال: يا عائشة! أشعرت أن الله أفتانى فيما استفتيته فيه؟ جاءنى رجلان فقعد إحداهما عند رأسى، والأخر عند رجلى، فقال الذى عند رأسى، للذى عند رجلى، أو الذى عند رجلى، للذى عند رأسى: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب قال: من طبه؟ قال: لَبِيدُ بن الأَعْصمَ0 قال فى أى شئ؟ قال فى مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ0 قال وَجْبِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ0 قال فأين هو؟ قال: فى بئر ذى أَرْوَانَ0 قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أُناس من أصحابِه. ثمَّ قال: "يا عائشة! والله! لكأنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ ولكَأنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشياطينِ".

_ (1) الآية 4 من سورة القلم، وانظر: السنة فى مواجهة أعدائها لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 202 - 206.

.. قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا أحْرَقْتَهُ؟ قال "لا. أماَ أناَ فقد عافانى الله، وكرهت أن أُثِيرَ على النَّاسِ شّراً. فَأَمَرْتُ بها فَدُ فِنَتْ" (1) . ... أنكر هذا الحديث بعض المبتدعة قديماً على ما حكاه عنهم غير واحد من الأئمة. قال الإمام النووى "وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب أنه يحط من مقام النبوة وشرفها ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع" (2) وتابع المبتدعة طعناً فى الحديث أذيالهم من الرافضة، ودعاة اللادينية (3) .

_ (1) أخرجه البخارى"بشرح فتح البارى"كتاب الطب، باب هل يستخرج السحر10/243رقم5765، وباب السحر 10/246 رقم 5766، وفى كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" 10/494 رقم 6063 وفى كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده 6/385 رقم 3268، وفى كتاب الدعوات، باب تكرير الدعاء 11/196 رقم 6391، ومسلم "بشرح النووى" كتاب السلام، باب السحر 7/429 رقم 2189. (2) المنهاج شرح مسلم 7/430، وانظر: تأويل مختلف الحديث ص 164. (3) انظر: لماذا القرآن ص 109-111، وقراءة فى صحيح البخارى ص 36، كلاهما لأحمد صبحى منصور، وأهل السنة شعب الله المختار ص 68، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين ص258، 268 وما بعدها، كلاهما لصالح الوردانى، وأضواء على السنة لمحمود أبو رية ص378، والأضواء القرآنية للسيد صالح أبو بكر ص 287، ودفع الشبهات عن الشيخ الغزالى ص194،= =195، وعلم السحر بين المسلمين وأهل الكتاب ص 106 وما بعدها كلاهما لأحمد حجازى السقا، والسنة ودورها فى الفقه الجديد لجمال البنا ص 237، وغيرهم.

وتأثر بتلك الطعون من علماء المسلمين الإمام محمد عبده (1) – رحمه الله – وتابعه على ذلك من سار على طريقته من علماء المسلمين، وقال بقولهم بعض أدعياء العلم.

_ (1) محمد عبده: هو محمد بن عبده بن حسن بن خير الله، إمام فقيه، مفسر، متكلم، أديب لغوى، كاتب صحافى سياسى، له باعه الطويل فى مجال الإصلاح العلمى، والاجتماعى، ولكنه مع هذا كان قليل البضاعة فى الحديث، وكان يرى فى الاعتماد على المنطق والبرهان العقليين خير سلاح للدفاع عن الإسلام، ومن هذين العاملين، وقعت له آراء فى السنة ورواتها، وفى العمل بالحديث، والاعتداد به، ما صح أن يتخذه مثل "أبى ريه"، "وأحمد صبحى منصور"، "والسيد صالح أبو بكر"، وغيرهم من أعداء السنة، تكأة يتكئون عليها، فى تشكيكهم وطعنهم فى السنة المطهرة. من مؤلفاته "رسالة التوحيد" و "الإسلام والنصرانية العلم والمدينة"، "شرح نهج البلاغة، وغير ذلك مات سنة 1323هـ 1905م، انظر: فى ترجمته السنة بين دعاة الفتنة وأدعياء العلم للدكتور عبد الموجود ص 236، والسنة ومكانتها فى التشريع للدكتور السباعى ص 30، والمجددون فى الإسلام للأستاذ عبد المتعال الصعيدى ص 534-535، وتاريخ الأستاذ الإمام رشيد رضا 1/16، ومجلة المنار المجلد 9/276 – 281، والإمام محمد عبده ومنهجه فى التفسير للدكتور عبد الغفار عبد الرحيم ص 11-114، ومنهج المدرسة العقلية الحديثة فى التفسير للدكتور فهد الرومى 124-187.

.. قال الإمام محمد عبده رحمه الله: "نعلم أن البخارى أصدق كتاب بعد كتاب الله، وأنا لا أشك أن البخارى سمع هذا من أساتذته، والبخارى يشترط فى أحاديثه المعاصرة واللقاء، إلا أننى أرى أن هذا لم يحدث مع النبى صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد دس من الإسرائيليات إلى مشايخ البخارى الذين أخذ منهم، وإلا فإننا إن قد صدقنا أن النبى صلى الله عليه وسلم، قد سحر فقد صدقنا كلام الظالمين، {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (1) . وإن صدقنا أن النبى صلى الله عليه وسلم، قد سحر فقد كذبنا الله سبحانه وتعالى القائل فى كتابة الحكيم: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (2) وقال عز وجل: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} (3) وقال عز وجل: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} (4) قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (5) .

_ (1) الآية 8 من سورة الفرقان. (2) الآية 212 من سورة الشعراء. (3) الآية 9 من سورة الجن. (4) الآية 8 من سورة الصافات. (5) الآيات 44، 45، 46 من سورة الحاقة.

الجواب على الشبه السابقة

ثم قال: وأما الحديث على فرض صحته فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، وعصمة النبى من تأثير السحر فى عقله عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن المظنون على أى حال فلنا، بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث ولا نحكمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل، فإنه إذا خولط النبى فى عقله - كما زعموا - جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئاً، وهو لم يبلغه أو أن شيئاً نزل عليه، وهو لم ينزل عليه، والأمر هنا ظاهر لا يحتاج إلى بيان. ثم ختم كلامه قائلاً: "أحب أن أكذب البخارى، من أن أنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه سحر" (1) . والجواب على الشبه السابقة فيما يلى: أولاً: إن الحديث صحيح، وثابت، بأصح الأسانيد فى أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل فقد رواه الشيخان فى صحيحيهما، ولا يصح لنا أن نقول بصدق البخارى ثم نكذب شيوخه فإن ما يجرى على شيوخه، يجرى عليه، ولا يصح لنا أن نكذب البخارى وروايته، اعتماداً على رأى ليس له من حظ فى توثيق الأخبار، وإقرار الحقائق من قريب أو بعيد، ولو أننا سلمنا جدلاً بصدق معطيات العقل لأتينا على كثير من السنة، بل وعلى كثير من آيات القرآن الكريم نفسه (2) .

_ (1) تفسير جزء عم ص 180-183، وانظر: مجلة المنار المجلد 12/697، والمجلد 29/104، وغيرهم ممن ذكرهم عبد المجيد محمد صالح فى كتابه "صواعق الحق المرسلة على الجنيين والكهان والسحرة" ص120-165. (2) السنة بين دعاة الفتنة وأدعياء العلم للأستاذ الدكتور عبد الموجود ص 239.

يقول فضيلة الدكتور محمد الذهبى – رحمه الله -: "إن حديث سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، راوية البخارى، وغيره من كتب الصحيح، ولكن الأستاذ الإمام، ومن على طريقته لا يفرقون بين رواية البخارى وغيره، فلا مانع عندهم من عدم صحة ما يرويه البخارى، كما أنه لو صح فى نظرهم فهو لا يعرف أن يكون خبر آحاد لا يثبت به إلا الظن (1) . وهذا فى نظرنا هدم للجانب الأكبر من السنة التى هى بالنسبة للكتاب بمنزلة المبين. وقد قالوا: إن البيان يلتصق بالمبين (2) . يقول الدكتور عبد الغفار عبد الرحيم: "وأما قول الأستاذ الإمام عن حديث السحر، وعلى أى حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا نحكمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل". فهذا كلام خطير جداً يفتح ثغرة ضد الثابت الصحيح من السنة كما يفتح مجالاً لقالة السوء فى الصدام بين الكتاب والسنة، بينما حدد لنا الرسول فى حديثه الصحيح "تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدى كتاب الله وسنتى" (3) . كما أن الأستاذ الإمام قد ترك للحاقدين فرصة الهجوم عليه بهذا السبب، وبجعله الأخذ بالكتاب، وبدليل العقل فقط، هذا أمر دفع تلميذه محمد رشيد رضا إلى القول: بأن الأستاذ الإمام كان ضعيفاً فى الحديث، كما أنه وحتى الآن محل نقد من رجال السنة، مما جرهم إلى التهجم عليه، وعلى أفكاره، بينما أبان هو عن هدفه من ذلك وجعله محدداً فى قوله: "وقد قال الكثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هى النبوة، ولا ما يجب لها، أن الخبر بتأثير السحر فى النفس الشريفة قد صح فيلزم الاعتقاد به".

_ (1) راجع إن شئت ما سبق فى مبحث (ما يفيده خبر الآحاد من العلم عند الجمهور) ص546-551 (2) التفسير والمفسرون 3/241. (3) سبق تخريجه ص 47.

.. ويبدو أن الأستاذ الإمام قد أبدى بعض التراجع عن هذه الفكرة عندما قال: "ثم إن نفى السحر عنه لا يستلزم نفى السحر مطلقاً" مع أنه قد أقر سابقاً بأن السحر إما حيلة وشعوذة وإما صناعة علمية خفية، يعرفها بعض الناس، ويجهلها الأكثرون … إلى أن قال: "أن السحر يتلقى بالتعليم، ويتكرر بالعمل فهو أمر عادى قطعاً بخلاف المعجزة". ثم يجعل بعد ذلك نفى السحر بالمرة ليس بدعة، لأن الله تعالى لم يذكره ضمن أية {ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (1) ويجعل سحر سحرة فرعون ضرباً من الحيلة ويستدل بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (2) "وما قال أنها تسعى بسحرهم" مع أن أقوى دليل يمكن أن يرد به على الأستاذ الإمام قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (3) . فكيف غاب عن الأستاذ الإمام النظر فى هذه الآية، وكيف كان يمكن له أن يفسرها على خلاف ما هى عليه من إثبات حقيقة السحر لا كونه تخييلاً أو وهما. أما الحديث فقد ثبت فى صحيح البخارى، وهو مرجع أساسى للسنة، فلو شككنا فى حجية الثابت فى البخارى، فكيف يقبل الناس بعد ذلك حديثاً ورد فى كتب الصحاح أو فى رواية عن غير طريق البخارى؟!

_ (1) الآية 285 من سورة البقرة. (2) الآية 66 من سورة طه. (3) الآية 116 من سورة الأعراف.

وما دفع الأستاذ الإمام من عاطفة تنزيه مقام النبوة أو محاولة إظهار الإسلام بمظهر لا يكون فيه موضع اتهام من أعداء الإسلام، أو محاربة السحر كخرافة بعد أن توسع الناس فى عمل أشياء تتنافى مع عظمة الإسلام، وإنكاره لمظاهر الكهانة والسحر، والشعوذة. وهذه إن جاز أن تكون دوافع الأستاذ الإمام فلا يجوز أن تكون بحيث تصادم الثابت الصحيح، وهو الذى كثيراً ما وقف عند الثابت عن المعصوم لا يتعداه، ولا يحاول تأويله، ويسلم به تسليم معتقد لما جاء به، حيث لا مجال للعقل فيه. ثم ما هو الدافع؛ لأن يتأثر الأستاذ الإمام بالمعتزلة فى ذلك ويحاكى رأيهم وهو الذى كثيراً ما نعى على التقليد والمقلدين وكان أولى به أن يأخذ برأى الإمام "ابن قيم الجوزية" عندما قال فى هذا الشأن: "وأما قولكم أن سحر الأنبياء ينافى حماية الله لهم فإنه سبحانه كما يحميهم، ويصونهم، ويحفظهم، ويتولاهم، يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم، ليستوجبوا كمال كرامته، وليتأسى بهم من بعدهم من أممهم، إذا أوذوا من الناس، فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء، صبروا، ورضوا، وتأسوا بهم" (1) . ومن أجل ذلك أثبت علماء الإسلام هذا الحديث، وأوجدوا له مخرجاً يتفق مع سلامة النسبة إليه ومع مكانة النبوة، فقالوا: أولاً: الزعم بأن الحديث يحط من منصب النبوة، ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، هذا الذى ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل؛ لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته، وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ، والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل (2) .

_ (1) تفسير المعوذتين لابن قيم الجوزية ص41، وانظر: الإمام محمد عبده ومنهجه فى التفسير للدكتور عبد الغفار عبد الرحيم ص 259 –261. (2) المنهاج شرح مسلم النووى 7/429.

ثانياً: أن سحر الرسول صلى الله عليه وسلم، يرفع من مقام النبوة وشرفها ولا يحط من شأنها؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن معصوماً من الأمراض فلقد كان يأكل، ويشرب، ويمرض، وتجرى عليه كل النواميس المعتادة التى أودعها الله فى ولد آدم، وليس فى السحر على الهيئة الواردة ما ينقص من قدره كإمام لسائر الأنبياء والمرسلين (1) . ... قال القاضى عياض: "وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده، وظواهر جوارحه، لا على عقله وقلبه واعتقاده. ويكون معنى قوله فى الحديث: "حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن" ويروى: "يخيل إليه" بالمضارع كلها: أى يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن، ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور. بل وكما يعترى الرجل السليم قوى البدن، المحطم للأرقام القياسية فى رفع الأثقال، يظن تحطيم رقم قياسى أعلى، وعند محاولة الرفع لا يستطيع، ومثل ذلك أيضاً الإنسان فى حالة النقاهة من المرض، يظن أن به قدرة على الحركة، وعندما يهم بذلك لا تحتمله قدماه. قال القاضى عياض: وكل ما جاء فى الروايات من أنه يخيل إليه فعل شئ ولم يفعله ونحوه، فمحمول على التخيل بالبصر، لا لخلل تطرق إلى العقل، وليس فى ذلك ما يدخل لبساً على الرسالة ولا طعناً لأهل الضلالة" (2) .

_ (1) انظر: السنة النبوية بين دعاة الفتنة وأدعياء العلم لفضيلة الدكتور عبد الموجود ص 239، والسحر والسحرة والوقاية من الفجرة للأستاذ تاج الدين نوفل ص29، 63، 64. (2) المنهاج شرح مسلم للنووى 7/431 بتصرف، وانظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضى عياض 2/180-183.

ثالثاً: أن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، الواردة فى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (1) العصمة هنا المراد بها عصمته صلى الله عليه وسلم، من القتل، والاغتيال، والمكائد المهلكة، وحمل بعض العلماء العصمة هنا على أنها عصمة من الغواية، والهوى، والضلال، وعدم الوقوع فى المعاصى والمنكرات، وليست العصمة من الأمراض كما سبق أن ذكرنا، بل الأنبياء جميعاً غير معصومين من المرض غير المنفر. فهم جميعاً تجرى عليهم كل النواميس المعتادة التى أودعها الله فى ولد آدم (2) . رابعاً: إن القول بأن الحديث معارض للقرآن الكريم، ويصدق المشركين فى قولهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} (3) مردود بأن المشركين كانوا يقولون إن محمداً بشر، وأنه فقير، وأنه لا يعلم الغيب، فهل نكذبهم فى ذلك؟! ثم إننا نعلم يقيناً، أن الكفار لا يريدون بقولهم هذا، أن يثبتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أثبته هذا الحديث، وهو أن فلاناً من اليهود سحره بضعة أيام، فأدركه شئ من التغير، وخيل إليه أنه يفعل بعض الشئ، وهو لا يفعله، ثم أن الله شفاه من ذلك، هم لا يريدون هذا، بل يريدون أن رسول الله إنما يصدر عن خيال وجنون، وأنه لم يوح إليه شئ، فإذا آمنا بما دل عليه الحديث لم نكن مصدقين للمشركين فى دعواهم، فمفهوم الحديث شئ، ودعواهم شئ آخر.

_ (1) الآية 67 من سورة المائدة. (2) انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/77-79، والإمام محمد عبده ومنهجه فى التفسير للدكتور عبد الغفار عبد الرحيم ص 259. (3) الآية 8 من سورة الفرقان.

خامساً: زعمهم أن السحر من عمل الشياطين، وصنع النفوس الشريرة الخبيثة، أما من تحصن بعبادة الله كالأنبياء، فليس للشيطان، ولا للشريرين عليهم من سلطان، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1) . ... هذا الزعم مردود عليهم بقوله تعالى عن أيوب عليه السلام: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (2) وأخبر عز وجل عن سيدنا موسى – عليه السلام–أنه لما قتل القبطى قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} (3) . ... والاستدلال بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} على أن جميع عباد الله الصالحين ناجون من أذى الشيطان، خلاف الإجماع، والمشاهد، والنصوص السالفة، والآية تفيد بلا شك أن العباد الصالحين سالمون من إغوائه وإضلاله، كما قال فى الآية الأخرى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (4) .

_ (1) الآية 42 من سورة الحجر. (2) الآية 41 من سورة ص. (3) الآية 15 من سورة القصص. (4) الآيتان 39،40 من سورة الحجر.

وبعد فإن الحجة على جواز السحر للأنبياء ثابتة بقول رب العزة: {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (1) فقد صرحت الآية بأن سحر أولئك السحار، قد أوقع نبى الله موسى فى التخييل، حتى تغيرت أمامه الحقائق، فحسب الحبال حيات، والساكنات متحركات…0 إذاً فالحديث صحيح الإسناد والمعنى ولا يعارضه القرآن الكريم ولا المعقول، فوجب قبوله والإيمان به" (2) . ... قال الإمام المازرى رحمه الله: "مذهب أهل السنة، وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر، وأن له حقيقة، كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة، خلافاً لمن أنكر ذلك، ونفى حقيقته، وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله تعالى فى كتابه وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به، وأنه يفرق بين المرء وزوجه، وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له.

_ (1) الآيات 65-68 من سورة طه. (2) مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها للأستاذ عبد الله بن على النجدى القصيمى ص48-58 بتصرف، وانظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 168.

وهذا الحديث أيضاً مصرح بإثباته، وأنه أشياء دفنت وأخرجت، وهذا كل يبطل ما قالوه، فإحالة كونه من الحقائق محال (1) أ. هـ. والله أعلم.

_ (1) المنهاج شرح مسلم للنووى 7/430، ومقدمة ابن خلدون ص551، وللاستزادة فى الجواب عن الحديث انظر: كتاب السحر بين الحقيقة والخيال للدكتور أحمد ناصر الحمد، ففى الكتاب بحث قيم فى موضوع سحر النبى صلى الله عليه وسلم، أجاب فيه عن شبهات المعتزلة، وغيرهم حول موضوع هذا الحديث انظر: ص112-126 من الكتاب المذكور، وانظر: ضلالات منكرى السنة للأستاذ الدكتور طه حبيشى ص 400 – 411.

الفصل السابع:حديث رضاعة الكبير

الفصل السابع:حديث رضاعة الكبير شبهات الطاعنين فيه والرد عليها ... عن عائشة -رضى الله عنها- أن سالماً (1)

_ (1) سالم هو: سالم بن معقل، مولى أبى حذيفة، كان من أهل فارس، أعتقته مولاته زوج أبى حذيفة، واسمها بثينة، أعتقته سائبة دون ولاء لها، فتولى أبا حذيفة، فكان ينسب إليه، فيقال: سالم بن أبى حذيفة حتى نزلت "مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُواءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ" جزء من الآيتين 4،5 من سورة الأحزاب. وعد فى المهاجرين وروى أنه هاجر مع عمر، وكان يؤم المهاجرين بقباء وفيهم عمر قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا سافر مع أصحابه يؤمهم، لأنه كان أكثرهم قرآناً، وكان قد جاوز البلوغ فى بدر، فشهدها، والظاهر أن ملابسات حديثنا كانت فى هذه السن، وشهد اليمامة وكان معه لواءً المهاجرين فقطعت يمينه فأخذه بيساره فقطعت، فاعتنقه إلى أن صرع، هو ومولاه أبو حذيفة، فوجد رأس أحدهما عند رجلى الآخر، وذلك سنة اثنتى عشرة من الهجرة، وكان عمر يحبه ويقدره، حتى قال رضي الله عنه بعد أن طعن: لو كان سالم حياً ما جعلتها شورى. وهو من القراء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عنهم "خذوا القرآن من أربعة من أبى بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبى حذيفة، وابن مسعود" أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب سالم مولى أبى حذيفة رضي الله عنه 7/127 رقم 3758، ومسلم "بشرح النووى" كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه -رضى الله عنهما 8/253 رقم 2464، وفى الحديث أن عائشة رضي الله عنه قالت أبطأت على النبى صلى الله عليه وسلم فقال ما حبسك يا عائشة! قالت: يا رسول الله إن فى المسجد رجلاً ما رأيت أحداً أحسن قراءةً منه قال فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو سالم مولى أبى حذيفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحمد لله الذى جعل فى أمتى مثلك". أخرجه أحمد فى مسنده جزء 6 ص 165، والحاكم فى المستدرك كتاب الصحابة، باب ذكر مناقب سالم مولى أبى حذيفة 3/250 رقم 5001، وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبى، وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح 9/300، وفى الحديث أيضاً عن عمرو بن العاص، قال: "كان فزع بالمدينة فأتيت على سالم مولى أبى حذيفة وهو محتب بحمائل سيفه فأخذت سيفاً فاحتبيت بحمائله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "يا أيها الناس ألا كان مفزعكم إلى الله وإلى رسوله، ثم قال ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان" رواه أحمد فى المسند 4/203 وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد 9/300 رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. "رضى الله عن سالم، وعن الصحابة أجمعين". انظر فى ترجمته: اسد الغابة 2/382 رقم 1892، والاستيعاب 2/567 رقم 881، والإصابة 2/6 رقم 3059، وتاريخ الصحابة ص 117 رقم 537، ومشاهير علماء الأمصار ص 31 رقم 101.

مولى أبى حذيفة كان مع أبى حذيفة (1)

_ (1) أبو حذيفة هو:أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشى، وهو من السابقين إلى الإسلام، وهاجر إلى أرض الحبشة، وإلى المدينة. وكان من فضلاء الصحابة، جمع الله له الشرف والفضل. وكان إسلامه قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم. ولما هاجر إلى الحبشة عاد منها إلى مكة، فأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هاجر إلى المدينة، وشهد المشاهد كلها= =مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل يوم اليمامة شهيداً، وهو مولى سالم الذى أرضعته زوجته سهلة كبيراً، وكان سالم أيضاً من سادات المسلمين. انظر فى ترجمته: اسد الغابة 6/68، رقم5807، والاستيعاب 4/1631 رقم 2914، والإصابة 4/42 رقم 9760، وتاريخ الصحابة ص 81 رقم 326، ومشاهير علماء الأمصار ص 33 رقم 117.

وأهله فى بيتهم. فأتت (تعنى ابنة سهيل) (1) النبى صلى الله عليه وسلم. فقالت: إن فى نفس أبى حذيفة من ذلك شيئاً. فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم: "ارضعيه تحرمى عليه، ويذهب الذى فى نفس أبى حذيفة" فرجعت، فقالت: إنى قد أرضعته، فذهب الذى فى نفس أبى حذيفة" (2) . ... بهذا الحديث طعن بعض الرافضة، وأدعياء العلم، فى صحيح الإمام البخارى، وزعموا أن الحديث يتعارض مع القرآن الكريم والعقل.

_ (1) ابنة سهيل هى: سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشية، من بنى عامر بن لؤى، وهى امرأة أبى حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وهاجرت معه إلى الحبشة، وهى من السابقين إلى الإسلام، وولدت له بالحبشة محمد بن أبى حذيفة، ولا عقب له، وهى أيضاً أم سليط بن عبد الله بن الأسود القرشى العامرى، وأم بكير بن شماخ بن سعيد بن قائف، وأم سالم بن عبد الرحمن بن عوف، وهى التى أرضعت سالماً مولى أبى حذيفة وهو رجل. انظر: فى ترجمتها اسد الغابة 7/155 رقم 7027، والإستيعاب 4/1865 رقم3389، والإصابة 4/336 رقم 11352، وتاريخ الصحابة ص130 رقم 628، وتجريد أسماء الصحابة 2/279. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) مختصراً فى كتاب النكاح، باب الأكفاء فى الدين9/34رقم5088، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير 5/286 رقم 1453.

يقول ابن الخطيب (1) : "هل يجوز لعاقل يؤمن بالله واليوم الآخر، بعد أن قرأ قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (2) أن يصدق هذا الحديث، أو أن يعيره بالاً؟! ولكن رواية هذا الحديث فى المسانيد معنعناً مطولاً: دعت كثيراً من الفقهاء إلى تصديقه وبحثه، والأخذ منه بجواز إرضاع الكبير! ولنفرض أن هذه المرأة: أتت لأحد ما، وشكت له ما شكت للرسول صلى الله عليه وسلم، أكان يقول لها: أرضعيه، أم كان يقول لها: احتجبى عنه!؟ (3) . ... ويقول فى كتابه الفرقان "إن هذا الحديث وأمثاله مما دسه الدساسون الأفاكون، ليذهب ببهاء ذلك الدين القويم! وحاشا أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يقله الله عز وجل، بل ويتناقض كل التناقض مع ما ورد فى الكتاب المجيد الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد" (4) . ... ويقول صالح الوردانى: "والذى نقوله نحن إن هذه الرواية هراء، وتبرير الفقهاء لها أكثر من هراء. إذ أن المعلوم شرعاً أن حرمة الرضاع إنما تنبنى على سنى الرضاعة، وهما حولين كاملين أى السنة الأولى والثانية من عمر المولود، بعد ذلك لا عبرة برضاعة من أى ثدى، لأن اللبن لن يكون له دور فى تكوينه. فهل كان الرسول يجهل هذه الحقيقة. أم كان يمزح مع السائلة … وهل مثل هذه الأمور محل للمزاح؟

_ (1) ابن الخطيب: هو محمد محمد عبد اللطيف، يعرف بابن الخطيب، كاتب مصرى، من مؤلفاته: الفرقان، وحقائق ثابتة فى الإسلام. (2) الآية 30 من سورة النور. (3) انظر: حقائق ثابتة فى الإسلام لابن الخطيب ص 101، 102.9 (4) انظر: الفرقان لابن الخطيب ص 160.

.. إن الإجابة على هذه التساؤلات، هى أن هذه الرواية لا تخرج عن كونها لهو مصطنع على لسان أصحاب الأهواء والأغراض من الحكام، وغيرهم ونسبوها إلى الرسول، ويكفى القول إن أم سلمة وسائر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم رفضن أن يدخل عليهن أحد بتلك الرضاعة عدا عائشة … ومثل هذا الموقف من قبل نساء النبى إنما يعكس عدم الرضا عن هذا الأمر وعدم قناعتهن به. وهو يشير إلى جهة أخرى إلى الشك فى الرواية. إذ لو كانت صحيحة ثابتة عن الرسول ما اعترض عليها نسوته" (1) . والجواب: ... إن هذا الحديث الذى طعن فيه بعض دعاة الفتنة، وأدعياء العلم، مما تلقته الأمة بالقبول رواية ودراية. أما الرواية فقد بلغت طرق هذا الحديث نصاب التواتر كما قال الإمام الشوكانى (2) . وأما الدراية فقد تلقى الحديث بالقبول، الجمهور من الصحابة، والتابعين فمن بعدهم من علماء المسلمين إلى يومنا هذا.

_ (1) دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين لصالح الوردانى ص 259-260، وانظر: أحاديث أم المؤمنين عائشة، أدوار من حياتها لمرتضى العسكرى ص 379-383، وفتح الوهاب لا جزية على أهل الكتاب لإسماعيل منصور ص 517-529. (2) انظر: نيل الأوطار 6/314.

تلقوه بالقبول على أنه واقعة عين بسالم رضي الله عنه لا تتعداه إلى غيره، ولا تصلح للاحتجاج بها، ويدل على ذلك ما جاء فى بعض الروايات عند مسلم عن ابن أبى مليكة أنه سمع هذا الحديث من القاسم بن محمد بن أبى بكر عن عائشة –رضى الله عنها- قال ابن أبى مليكة: فمكثت سنة أو قريباً منها لا أحدث به وَهَبْتُه (1) . ثم لقيت القاسم فقلت له: لقد حدثتنى حديثاً ما حدثته بعد. قال: فما هو؟ فأخبرته. قال: فحدثه عنى، أن عائشة أخبرتنيه (2) . وفى رواية للنسائى، فقال القاسم: حَدِّثْ به ولا تَهَابُهُ (3) . ... قال الحافظ ابن عبد البر: "هذا يدل على أنه حديث ترك قديماً ولم يعمل به، ولا تلقاه الجمهور بالقبول على عمومه، بل تلقوه على أنه خصوص" (4) .

_ (1) "وهِبْتُه" قال الإمام النووى: (هكذا هو فى بعض النسخ "وهبته" من الهيبة وهى الإجلال، والواو حرف عطف، وفى بعضها "رِهبْتُه" بالراء من الرهبة، وهى الخوف، وهى بكسر الهاء، وإسكان الياء، وضم التاء، وضبطه القاضى عن بضعهم "رهْبَته" بإسكان الهاء وفتح الباء، ونصب التاء قال القاضى: وهو منصوب بإسقاط حرف الجر، والضبط الأول أحسن، وهو الموافق للنسخ الآخر (وهبته) بالواو. انظر: المنهاج شرح مسلم للنووى 5/289. (2) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير 5/287، 289 رقم 1453. (3) أخرجه النسائى فى سننه كتاب النكاح باب رضاع الكبير 6/105 رقم 3322. (4) انظر: شرح الزرقانى على الموطأ 3/292،وقال الحافظ الدارمى عقب ذكره الحديث فى سننه "هذا لسالم خاصة" انظر: سنن الدارمى كتاب النكاح، باب رضاعة الكبير2/210،211رقم 2257.

.. وبذلك صرحت بعض الروايات، ففى صحيح مسلم عن أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم كانت تقول: "أبى سائر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة.وقلن لعائشة: والله! ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم خاصة فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة. ولا رائينا (1) . ... إن قصة رضاعة سالم رضي الله عنه قضية عين لم تأت فى غيره، واحتفت بها قرينة التبنى، وصفات لا توجد فى غيره كما سبق فى ترجمته، فلا يقاس عليه (2) . ... فأصل قصة سالم ما وقع له من التبنى الذى أدى إلى اختلاطه بسهلة بنت سهيل امرأة أبى حذيفة، وكانت تراه ابناً لها، ويدخل عليها فلا تحتشم منه، ويراها وهى منكشف بعضها، فلما نزل الاحتجاب، ومنعوا من التبنى، شق ذلك على أبى حذيفة، وسهلة، فوقع الترخيص لهما فى ذلك، لرفع ما حصل لهما من المشقة (3) . وهذا ما جاء فى رواية الإمامين أبو داود ومالك.

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الرضاع، باب رضاعة الكبير 5/288، 289 رقم 1454 (2) انظر: شرح الزرقانى على الموطأ 3/292، وتأويل مختلف الحديث ص 276-279. (3) انظر: فتح البارى 9/53 رقم 5102.

عن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم، وأم سلمة –رضى الله عنهما- أن أبا حذيفة بن عتبة ابن ربيعة بن عبد شمس، كان تبنى سالماً، وأنكحه أبنة أخيه، هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً، وكان من تبنى رجلاً فى الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه، حتى أنزل الله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُواءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (1) ، فردوا إلى آبائهم، فمن لم يعلم له أب كان مولى، وأخا فى الدين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشى ثم العامرى، وهى امرأة أبى حذيفة. فقالت: يا رسول الله، إنا كنا نرى سالماً ولداً، وكان يأوى معى، ومع أبى حذيفة فى بيت واحد، ويرانى فضلاً، وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت، فكيف ترى فيه؟ فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم "أرضعيه" فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. فبذلك كانت عائشة –رضى الله عنها- تأمر بنات أخواتها، وبنات إخوتها، أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيراً، خمس رضعات، ثم يدخل عليها.

_ (1) جزء من الآيتين 4،5 من سورة الأحزاب.

وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع فى المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندرى لعلها كانت رخصة من النبى صلى الله عليه وسلم لسالم دون الناس" (1) . ... قال الإمام الزرقانى (2) : "قول سهلة: يا رسول الله إنا كنا نرى"، أى نعتقد "سالماً ولداً" بالتبنى "وكان يدخل على وأنا فُضل" بضم الفاء والضاد المعجمة قال ابن وهب: مكشوفة الرأس والصدر، وقيل: علىَّ ثوب واحد لا إزار تحته، وقيل متوشحة بثوب على عاتقها، خالفت بين طرفيه (3) . قال ابن عبد البر: أصحها الثانى لأن كشف الحرة الصدر لا يجوز عند محرم ولا غيره (4) . قال الحافظ ابن حجر:"فعلى هذا فمعنى الحديث أنه كان يدخل عليها وهى منكشف بعضها (5) وفى رواية أحمد قالت: "يدخل على كيف شاء لا نحتشم منه" (6) ، وقولها "ليس لنا إلا بيت واحد" أى فلا يمكن الاحتجاب منه، وقد أنزل الله عز وجل فيه ما علمت أى من الاحتجاب، ومنع التبنى، فماذا ترى فى شأنه؟

_ (1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب النكاح، باب فيمن حرم به 2/223 رقم 2061. (2) الإمام الزرقانى هو: محمد بن الشيخ عبد الباقى الزرقانى، أبو عبد الله، الإمام الفقيه الفهامة المتفنن، المحدث الرواية المسند المؤلف المتقن، من مؤلفاته "شرح الموطأ" و "شرح المواهب اللدنية للزرقانى" وغير ذلك مات سنة1122هـ. له ترجمة فى: شجرة النور الزكية 1/318، 319 رقم 1237. (3) انظر: النهاية فى غريب الحديث لابن الأثير 3/455، 456، والقاموس المحيط 3/30، 31، وفتح البارى 9/36 رقم 5088. (4) انظر: شرح الزرقانى على الموطأ 3/290. (5) فتح البارى 9/36 رقم 5088. (6) المسند 6/269.

ولمسلم عن القاسم عن عائشة فقالت: إنى أرى فى وجه أبى حذيفة من دخول سالم وهو حليفه. وله من وجه آخر عن القاسم عنها فقالت: إن سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوه، وإنه يدخل علينا، وإنى أظن أن فى نفس أبى حذيفة من ذلك شيئاً. ولا منافاة فإن سهلة ذكرت السؤالين للنبى صلى الله عليه وسلم، واقتصر كل راو على واحد "فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضعيه خمس رضعات. قال ابن عبد البر: وفى رواية (عشر رضعات) ، والصواب رواية (خمس رضعات فيحرم بلبنها) زاد فى مسلم فقالت: كيف أرضعه وهو رجل كبير (1) ؟ فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير، وكان قد شهد بدراً. وفى لفظ له أرضعيه تحرمى عليه، ويذهب الذى فى نفس أبى حذيفة فرجعت إليه فقالت: إنى قد أرضعته فذهب الذى فى نفس أبى حذيفة. قال ابن عبد البر: صفة رضاع الكبير أن يحلب له اللبن ويسقاه، فأما أن تلقمه المرأة ثديها، فلا ينبغى عند أحد من العلماء.

_ (1) قال فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين: "الظاهر أن استفهامها عن كيفية إرضاعه، أتحلب له من لبنها؟ أم تعطيه ثديها؟ ويحتمل أن الاستفهام تعجبى من إرضاع الكبير، وتأثير رضاعه حرمة" انظر: فتح المنعم بشرح صحيح مسلم 9/169.

وقال عياض: ولعل سهلة حلبت لبنها فشربه من غير أن يمس ثديها، ولا التقت بشرتاهما، إذ لا يجوز رؤية الثدى، ولامسه ببعض الأعضاء (1) . قال النووى: وهو حسن، ويحتمل أنه عفى عن مسه للحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر (2) ، وأيده بعضهم بأن ظاهر الحديث أنه رضع من ثديها لأنه تبسم وقال: قد علمت أنه رجل كبير، ولم يأمرها بالحلب، وهو موضع بيان، ومطلق الرضاع يقتضى مص الثدى، فكأنه أباح لها ذلك لما تقرر فى نفسهما، أنه ابنها، وهى أمه فهو خاص بهما لهذا المعنى (3) . وكشف العورة فى هذه الحالة جائز للضرورة، فلا معارضة بين الحديث وبين قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (4) كما زعم بعض أدعياء العلم.

_ (1) قال فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين "استدلال ابن حزم بقصة سالم على جواز مس الأجنبى ثدى الأجنبية، وإلتقام ثديها، إذا أراد أن يرتضع منها مطلقاً. استدلال خطأ، دعاه إليه أن الرضاعة المحرمة عنده إنما تكون بالتقام الثدى، ومص اللبن منه" انظر: فتح المنعم بشرح صحيح مسلم 9/178، والجمهور من العلماء على أن التغذية بلبن المرضعة يحرم، سواء كان بشرب أم أكل بأى صفة كان، حتى الحقنة، والسعوط، والثرد، والطبخ وغير ذلك، إذا وقع بالشروط المطلوبة، فإن طرد الجوع موجود فى كل ذلك، واستثنى الحنفية الحقنة، ودليل الجمهور فيما ذهبوا إليه حديث عائشة –رضى الله عنها- مرفوعاً: "إنما الرضاعة من المجاعة". انظر: فتح البارى 9/52 رقم 5102، ونيل الأوطار 6/316، 317، وسبل السلام 3/1152. (2) المنهاج شرح مسلم للنووى 5/289 (3) شرح الزرقانى على الموطأ 3/291. (4) الآية 30 من سورة النور.

.. قال الإمام الزرقانى: "وكأن القائلين بأن ظاهر الحديث أنه رضع من ثديها، لم يقفوا فى ذلك على شئ. فقد روى ابن سعد عن الواقدى عن محمد بن عبد الله ابن أخى الزهرى عن أبيه قال: كانت سهلة تحلب فى إناء قدر رضعته، فيشربه سالم فى كل يوم، حتى مضت خمسة أيام، فكان بعد ذلك يدخل عليها وهى حاسر، رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة (1) . ... وما استشكل من عدم تفريق عائشة –رضى الله عنها- بين رضاع الصغير، والكبير مع روايتها لحديث "فإنما الرضاعة من المجاعة" (2) مما يفيد أن رضاعة الكبير لا تحرم.

_ (1) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 3/85، وشرح الزرقانى على الموطأ 3/291. (2) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب النكاح، باب من قال لا رضاع بعد الحولين 9/50 رقم 5102، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الرضاع، باب إنما الرضاعة من المجاعة 5/289، 290 رقم 1455.

فقد أجاب الحافظ ابن حجر على هذا الإشكال بقوله: "لعلها فهمت من قوله: "إنما الرضاعة من المجاعة" أنه يخص مقدار ما يسد الجوعة من اللبن، فهو فى عدد الرضعات، أعم من أن يكون المرتضع صغيراً أو كبيراً، فلا يكون الحديث نصاً فى منع اعتبار رضاعة الكبير، وحديث ابن عباس –رضى الله عنهما-، "لا رضاع إلا ما كان فى الحولين" (1) –مع تقدير ثبوته – ليس نصاً فى ذلك أيضاً، وحديث أم سلمة –رضى الله عنها-، "لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء فى الثدى، وكان قبل الفطام" (2) يجوز أن يكون المراد منه أنه لا رضاع بعد الفطام ممنوع، ثم لو وقع رتب عليه حكم التحريم، فما فى الأحاديث المذكورة ما يدفع هذا الاحتمال، فلهذا عملت عائشة بذلك" (3) . ومن هنا فلا عبرة بما زعمه بعض الرافضة من استنكاره رضاعة سالم رضي الله عنه وهو كبير.

_ (1) أخرجه الدارقطنى فى سننه كتاب الرضاع 4/174 رقم 10، وقال الدارقطنى: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. وصحح وقفه على ابن عباس، العظيم آبادى، فى التعليق المغنى على الدارقطنى 9/52، وانظر: الدراية فى تخريج أحاديث الهداية 2/68 رقم561، ونصب الراية 3/219، وسبل السلام 3/1153، ونيل الأوطار 6/315. (2) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب الرضاع، باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا فى الصغر دون الحولين 3/458 رقم 1152، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. (3) فتح البارى 9/52، وانظر: سبل السلام 3/1154.

لأن قصة سالم كانت فى أول الهجرة، وكانت رضاعة الكبير وقتئذ مشروعة ثم نسخت، وبذلك صرحت عائشة –رضى الله عنها- قالت: "كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن. ثم نسخن: بخمس معلومات. فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن" (1) وفى رواية لابن ماجة، وأحمد، عن عائشة – رضى الله عنها – قالت: "لقد نزلت آية الرجم، ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كانت فى صحيفة تحت سريرى. فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته، دخل داجن (2) فأكلها" (3) . أما الأحاديث الدالة على اعتبار الحولين فهى من رواية أحداث الصحابة فدل على تأخرها. قال الحافظ ابن حجر: وهو مستند ضعيف، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوى، ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدماً، وأيضاً ففى سياق قصة سالم ما يشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين، لقول امرأة أبى حذيفة فى بعض طرقه: "وكيف أرضعه وهو رجل كبير"؟ فهذا يشعر بأنها كانت تعرف أن الصغر معتبر فى الرضاع المحرم" (4) أ. هـ. ... يقول فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين: "وفى تعقيب ابن حجر نظر، لأن قصة سالم كانت فى أول الهجرة، بلا نقاش، كما هو واضح من ترجمته، ورواية اعتبار الحولين تؤكد تأخر الحكم عن قصة سالم، وقول امرأة أبى حذيفة، وإن أشعر بتقدم الحكم على سبيل الاحتمال، لكنه لا يفيد تقدم الحكم.

_ (1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات 5/285رقم 1452. (2) داجن هى: الشاة التى يعلفها الناس فى منازلهم، وقد يقع على غير الشاة من كل ما يألف البيوت من الطير وغيرها، انظر: النهاية فى غريب الحديث 2/102، ولسان العرب 13/148، والمعجم الوسيط 1/272. (3) أخرجه ابن ماجة فى سننه كتاب النكاح، باب رضاع الكبير 1/609 رقم 1944، وأحمد فى مسنده 6/269، وانظر: جواب ابن قتيبة على من أنكر هذا الحديث ص 280-283. (4) فتح البارى 9/53 رقم 5102.

فقد يكون سؤالها عن الطريقة التى ترضعه بها، أتحلب اللبن؟ أم تلقمه ثديها؟ وقد يكون سؤالها تعجباً من الأمر بإرضاعه المنافى لما جبلت عليه البشرية من إرضاع الصغير دون الكبير. فالقول بنسخ رضاعة الكبير، ومنها قصة سالم رضي الله عنه ظاهر ومقبول، لا يعارضه سوى موقف عائشة –رضى الله عنها- الذى انفردت به مع قلة من الفقهاء" (1) . ... قال الإمام النووى: وقول عائشة –رضى الله عنها-: "فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ" معناه أن النسخ بخمس رضعات، تأخر إنزاله جداً، حتى أنه صلى الله عليه وسلم توفى وبعض الناس يقرأ خمس رضعات، ويجعلها قرآناً متلو، لكونه لم يبلغه النسخ، لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أن هذا لا يتلى. ... وفى الرواية ما يدل على وقوع النسخ فى القرآن. قال النووى: والنسخ ثلاثة أنواع:

_ (1) فتح المنعم بشرح صحيح مسلم 9/176، 177، وقال الأمير الصنعانى فى سبل السلام: لا تعارض بين حديث سهلة، وآية الحولين، وحديث "إنما الرضاعة من المجاعة" لأن الرضاعة لغة إنما تصدق على من كان فى سن الصغر، وعلى اللغة وردت آية الحولين، وحديث إنما الرضاعة من المجاعة، والقول بأن الآية لبيان الرضاعة الموجبة للنفقة لا ينافى أيضاً أنها لبيان زمان الرضاعة، بل جعله الله تعالى زمان من أراد تمام الرضاعة، وليس بعد التمام ما يدخل = =فى حكم ما حكم الشارع بأنه قد تم. والأحسن فى الجمع بين حديث سهلة وما عارضه: كلام ابن تيمية فإنه قال: إنه يعتبر الصغر فى الرضاعة، إلا إذا دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذى لا يستغنى عن دخوله على المرأة، وشق احتجاجها عنه كحال سالم مع امرأة أبى حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه، وأما من عداه فلابد من الصغر أ. هـ. سبل السلام 3/1154 وما بعدها وبقول ابن تيمية قال الشوكانى ورجحه. انظر: نيل الأوطار 6/315، 317.

أحدها: ما نسخ حكمه وتلاوته كعشر رضعات. والثانى: ما نسخت تلاوته دون حكمه كخمس رضعات، والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما. والثالث: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، وهذا هو الأكثر، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (1) . وبعد ... فقد ظهر واضحاً جلياً أن قصة سالم رضي الله عنه صحيحة رواية ودراية، تلقاها علماء الأمة منذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا - وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها – بالقبول بصرف النظر عن كونها واقعة خاصة أو عامة، ويشهد لهذا التلقى للحديث بالصحة أن جميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين لم ينقل لنا عن أحدٍ منهم استنكار أو حتى استغراب للقصة!، وإنما نقل لنا اختلافهم فى حكمها الفقهى. فجمهور الصحابة على أن قصة سالم واقعة عين خاصة به، ولا يصح الاحتجاج بها لغيره، وتابع على ذلك جمهور علماء الأمة من التابعين فمن بعدهم، وانفردت عائشة –رضى الله عنها- مع قلة من الفقهاء منهم: عروة بن الزبير، وعطاء بن أبى رباح، والليث بن سعد، وابن علية، وغيرهم رأوا أن قصة سالم عامة، وأن إرضاع الكبير يثبت به التحريم (2) وللكل وجهة نظر ودليل.

_ (1) الآية 240 من سورة البقرة، وانظر: المنهاج شرح مسلم للنووى 5/285، وحاشية السندى على النسائى 6/101 رقم 3307. (2) انظر: فتح البارى 9/52، 53 رقم 5102، والمنهاج شرح مسلم للنووى 5/289، وشرح الزرقانى 3/291، 292، ونيل الأوطار 6/315، وسبل السلام 3/1153، وتأويل مختلف الحديث ص 283، 284.

فالجمهور على أن قصة سالم رضي الله عنه خاصة به لما وقع له من التبنى الذى أدى إلى اختلاطه بسهلة فلما نزل الاحتجاب، ومنع التبنى شق ذلك على أبى حذيفة وسهلة لما تقرر فى نفسهما أنه ابنهما، وحيث كان يدخل على سهلة كيف شاء ولا تحتشم منه كما جاء من قولها فى رواية أحمد. وليس لهم إلا بيت واحد. فمن أجل رفع المشقة، ولما اجتمع فى سالم من صفات لا توجد فى غيره، وقع له الترخيص فى الرضاعة مع بلوغه لما تقرر فى نفوسهم جميعاً من صفات الأبوة من سالم تجاه أبى حذيفة وسهلة، وصفات البنوة من أبى حذيفة وسهلة تجاه سالم. ومما يؤكد ذلك ذهاب ما فى نفس أبى حذيفة نتيجة لهذا الرضاع. يقول فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين "ولا أظنه يذهب ما فى نفس غير أبى حذيفة مع غير سالم" (1) . وذهب الجمهور أيضاً بنسخ قصة سالم بما جاء من الأحاديث الدالة على اعتبار الحولين. ... أما عائشة –رضى الله عنها- ومن قال بقولها من الفقهاء فرأوا أن قصة سالم رضي الله عنه عامة للمسلمين، لمن حصل له ضرورة: وللكل فى هذا الخلاف وجهة نظر ودليل، ولم يكن لهذا الاختلاف بينهم أى أثر فى اعتقادهم صحة الحديث، الذى يحاول دعاة الفتنة وأدعياء العلم تضعيفه أو النيل من عدالة رواته، ومن أخرجه من الأئمة الأعلام فى كتبهم. ... ويؤخذ من قصة سالم صدق إيمان سهلة، وأبى حذيفة، وسرعة امتثالهما للوحى الإلهى، لأن الغيرة منهما، وقعت نتيجة لما نزل فى كتاب الله عز وجل من النهى عن التبنى، والأمر بالاحتجاب. فتغيرت نظرة البنوة نحوه، امتثالاً لما نزل. ... ولو كانت الغيرة لشئ غير ذلك، لما كان هناك معنى لذهاب ما فى نفس أبى حذيفة بتلك الرضاعة، التى ما كانت إلا أمراً إلهياً، امتثل له الجميع، ورفعت عنهما به المشقة والحرج أ. هـ. ... ... ... والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم

_ (1) فتح المنعم بشرح مسلم 9/177.

الفصل الثامن: حديث "وقوع الذباب فى الإناء"

الفصل الثامن: حديث "وقوع الذباب فى الإناء" ... وتحته مبحثان: المبحث الأول: شبه الطاعنين فى أحاديث الطب النبوى والرد عليها. المبحث الثانى: شبه الطاعنين فى حديث "وقوع الذباب فى الإناء" والرد عليها. المبحث الأول: شبه الطاعنين فى أحاديث الطب النبوى والرد عليها ... الأحاديث الطبية التى أخبر عنها المعصوم صلى الله عليه وسلم، طعن فيها المبتدعة قديماً بعقولهم. وتأثر بذلك بعض علماءنا الأجلاء وتوسعوا فى ذلك بحجة أن الأحاديث الطبية لم يقلها النبى صلى الله عليه وسلم، بوحى، وإنما بالتجربة والعادة بصفته البشرية فهو لم يبعث ليعلم الناس الطب. واتخذ أعداء السنة من هذا الكلام سلاحاً قوياً يطعنون به فى حجية السنة، وأنها كلها ليست وحياً. كما سبق تفصيل ذلك فى اجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم (1) . يقول الإمام ابن خلدون - رحمه الله -: "الطب المنقول فى الشرعيات … ليس من الوحى فى شئ وإنما هو أمر كان عادياً للعرب ووقع فى ذكر أحوال النبى صلى الله عليه وسلم من نوع ذكر أحواله التى هى عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، وقد وقع له فى شأن تلقيح النخل ما وقع فقال: "انتم أعلم بأمور دنياكم" (2) فلا ينبغى أن يحمل شئ من الطب الذى وقع فى الأحاديث المنقولة على أنه مشروع؛ فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك، وصدق العقد الإيمانى، فيكون له أثر عظيم فى النفع، وليس ذلك فى الطب المزاجى، وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع فى مداواة المبطون بالعسل (3) أ. هـ.

_ (1) راجع: إن شئت ص 452-463. (2) سبق تخريجه ص 452. (3) المقدمة، فصل فى علم الطب ص 546.

.. وأيد الإمام ابن خلدون فى ذلك بعض علمائنا الأجلاء منهم فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوى وغيره ممن قسموا السنة النبوية إلى سنة تشريعية، وغير تشريعية (1) . ... يقول فضيلة الدكتور القرضاوى:"وفى رأيى أن جل الأحاديث المتعلقة بـ "الوصفات الطبية" وما فى معناها … كوصف الرسول صلى الله عليه وسلم للمصاب بعرق النسا: ألْيَةُ شاة أعرابيةٍ …إلخ ما جاء فى الحديث (2) ، فهذا ليس من أمور الدين التى يثاب فاعلها، أو يلام تاركها، بل هو إرشاد لأمر دنيوى نابع من تجربة البيئة العربية …، ولم يبعث عليه الصلاة والسلام ليقوم بطب الأجسام، فذلك له أهله، وإنما بعث بطب القلوب، والعقول، والأنفس، ومهما يكن اعتزازنا بما سماه العلماء "الطب النبوى" فمن المتفق عليه: أن النبى صلى الله عليه وسلم، لم يَدَّع العلم بالطب، ولا بعث لذلك (3) أ. هـ. ... والنتيجة: أن خرج علينا أحد أعداء السنة "نيازى عز الدين" يقول: "الأحاديث التى تحاول أن تنسب للرسول صلى الله عليه وسلم، علوماً مثل الطب، كلها أحاديث موضوعة، غايتها حرف الناس عن الحقائق، والعقلية العلمية التى فى آيات القرآن، إلى عقلية تؤمن بالأوهام والخرافات والأباطيل (4) .

_ (1) راجع: إن شئت ص 454. (2) أخرجه ابن ماجة فى سننه، كتاب الطب، باب دواء عرق النسا 2/337، 338 رقم 3463، وقال البوصيرى فى (مصباح الزجاجة) :هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات 3/124 رقم 1207. (3) السنة مصدراً للمعرفة والحضارة ص 66، 67 باختصار، وانظر: السنة والتشريع لفضيلة الدكتور عبد المنعم النمر ص 110. (4) دين السلطان لنيازى عز الدين ص 523.

الدفاع عن أحاديث "الطب النبوى"

ثم ضرب أمثلة على تلك الأحاديث الموضوعة تعمد اختيارها من صحيح الإمام البخارى – رحمه الله – وذلك كأحاديث الرقية "اللهم، رب الناس مذهب الباس، اشف أنت الشافى، لا شافى إلا أنت، شفاء لا يغادر سقماً". وحديث "علاج المبطون بالعسل". وحديث "لا عدوى ولا صفر". و "الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام". و"الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين". و"من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" وغير ذلك من الأحاديث التى نقلها من صحيح الإمام البخارى فى كتاب الطب" (1) . وطعن كثير من دعاة الفتنة، وأدعياء العلم فى بعض الأحاديث الطبية، واتخذوا من تقسيم بعض علماء المسلمين "السنة تشريع، وغير تشريع" متكأً قوياً وهم يطعنون فى حجية السنة المطهرة، ورواتها الثقات الأعلام. ... وإذا كنا قد بينا سابقاً بالبرهان الواضح أن السنة النبوية كلها وحى، وبينا بطلان تقسيم السنة الشريفة إلى سنة تشريعية، وغير تشريعية بما يغنى عن إعادته هنا (2) . فسوف نكتفى هنا فى الدفاع عن أحاديث "الطب النبوى" إجمالاً بالرد على ابن خلدون فيما ذهب إليه. يقول الدكتور محمد أحمد السنهورى: أما قول ابن خلدون: "والطب المنقول فى الشرعيات ليس من الوحى فى شئ وأنه صلى الله عليه وسلم، لم يبعث لتعريف الطب". هذا الكلام يناقض الواقع، والحقيقة؛ لأنه من المعلوم والبديهى أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان أمياً ولم يدرى ما الكتاب، والإيمان. ومن أين له أن يعرف طبائع الدواء أو خصائصه سواء كان هذا الدواء نباتاً أو غذاء إلا إذا كان ربه قد أطلعه عليه؟!

_ (1) انظر: صحيح البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الطب 10/141 – 263، وانظر: دين السلطان لنيازى عز الدين ص 523-527. (2) راجع: إن شئت ص 452-468.

.. والله عز وجل يقول عن العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (1) ولم يبين فى القرآن الأمراض التى يشفيها هذا العسل. ولكن الرسول عالج به المبطون أو صاحب الإسهال. فما الذى جعل الرسول صلى الله عليه وسلم، يحدد هذا الدواء بالذات لعلاج هذا المرض؟ وما الذى جعله يصر على أن يتناوله المبطون أكثر من مرة؟ لابد أن يكون هذا عن طريق الوحى. ثم ما الذى جعل الرسول يفضل فى دواء الإمساك "السنا" على "الشُّبْرُمُ" وهما نباتان يستعملان لهذا الغرض (2) . وقد فضَّل الأطباء بعد ذلك ما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم وتركوا "الشُّبْرُمُ" وبينوا ضرره وقالوا أنه غير مأمون. فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يملك معملاً للتحليلات؟ كلا إن هذا الأمر لابد أن يكون قد عرف خصائصه من الوحى. ثم إن كل قانون طبى وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم وكل دواء نوه عليه لم يستطع طبيب إلى الآن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أن يثبت عكس كلامه فيه. أو يخرم له قاعدة، بل كل يوم يظهر الطب، والعلم، صحة ما ذهب إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3) . ... أما كون ابن خلدون يريد أن يقيس طب النبى صلى الله عليه وسلم، على قصة تأبير النخل، مدعياً أن طبه كان أمراً عادياً ورأياً شخصياً له. فهذا قياس خاطئ ومن الواضح أن هناك فرقاً بين هذا وذاك. فلم يتكلم النبى صلى الله عليه وسلم، عن خصيصة دواء من الأدوية أو غذاء من الأغذية ورجع عنه، بخلاف الأشياء التى كانت اجتهاداً منه، والتى لا تخرج عن الوحى أيضاً، على ما سبق تفصيله (4) .

_ (1) جزء من الآية 69 من سورة النحل. (2) انظر: زاد المعاد 4/320، 328. (3) الآيتان 3،4 من سورة النجم. (4) راجع: ص456- 463.

.. وأما ادعاؤه بأن الطب النبوى لا يأتى بثمرة ولا نتيجة إلا إذا استعمل على جهة التبرك. ويستشهد على هذا بقصة دواء المبطون بالعسل. فالرد على هذا بأن أى دواء يستلزم من المريض ثقة منه فى مفعوله، وثقة فى طبيبه الذى يداويه. وهذا الكلام معلوم عند الأطباء مسلمهم، وغير مسلمهم قديمهم وحديثهم؛ لأن القوى النفسية لها تأثير عجيب فى القوى الجسدية وهذا عام فى كل مريض وكل دواء (1) . ... والقصة التى وردت عن الرجل الذى شرب العسل بعد أربع جرعات لم تبين لنا حال المريض، وإنما تكلمت عن أخيه الذى كان واسطة بينه وبين النبى صلى الله عليه وسلم، ولا نستطيع أن نحكم هل كان الرجل يشرب العسل تبركاً أو كان يشربه على أنه دواء، ولا مانع من البركة أيضاً. ... وأيّاً ما كان هذا الأمر: فإن الرجل قد شفى على كل حال، ولو لم تكن فى العسل خاصية ضد مرض الرجل لما شفى من مرضه، وقد ثبت طبياً احتواء العسل على مواد قاتله للميكروبات، وثبت كونه دواء لهذا المرض. هذا وقد تناول الرسول صلى الله عليه وسلم، فى طبه أدواء كثيرة، وبين خصائص كثير من الأدوية، النباتى منها وغير النباتى (2) . ... يقول ابن قيم الجوزية مميزاً طبه صلى الله عليه وسلم، عن طب الأطباء: "وليس طبه صلى الله عليه وسلم، كطب الأطباء، فإن طبه صلى الله عليه وسلم، متيقن قطعى إلهى صادر عن الوحى، ومشكاة النبوة، وكمال العقل، وطب غيره أكثره حدس وظنون وتجارب" (3) .

_ (1) انظر: زاد المعاد 4/71. (2) انظر: الطب فى السنة للدكتور محمد أحمد السنهورى ص 259 – 261. (3) زاد المعاد 4/11.

ويقول الأستاذ الدكتور محمد أبو شهبة – رحمه الله – فى معرض دفاعه عن حديث الذباب قال: "وقبل أن أذكر رأى الطب الحديث فى حديث الذباب أحب أن أقول: "إننى لست مع النابتة التى نبتت – وبعضهم من أهل العلم، فزعمت أن الطب النبوى، من قبيل الأمور الدنيوية التى يجوز على النبى صلى الله عليه وسلم، فيها الخطأ، ويجعلونه من قبيل تأبير النخل، وقوله صلى الله عليه وسلم: " أنتم أعلم بأمور دنياكم" (1) . ... ولا أدرى كيف يقال ذلك فى حديث الذباب مع قوله صلى الله عليه وسلم، فيه: "فإن فى أحد جناحيه داء وفى الآخر دواء"؟ وقد أتى رسول الله "بأن" التى هى للتأكيد!! وكيف يكون هذا الأسلوب المؤكد من قبيل الظن والتخمين فى أمر دنيوى؟! بل كيف يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "من تصبح بسبع تمرات عجوة، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" (2) من قبل الظن والتخمين فى أمر دنيوى؟! إن معظم أحاديث الطب–إن لم تكن كلها– إنما ساقها صلى الله عليه وسلم، مساق القطع واليقين مما يدل على أنها بوحى من الله – سبحانه وتعالى –0 والطب طبان: طب القلوب والأديان، وبه جاء الأنبياء والمرسلون – عليهم الصلاة والسلام – وطب الأبدان، وهذا نوعان: نوع روحانى كالرقى والدعوات، ونوع مادى جسمانى كالاستشفاء بالعسل، والتمر والحبة السوداء، والكمأة ونحو ذلك (3) .

_ (1) سبق تخريجه ص 452. (2) أخرجه البخارى"بشرح فتح البارى"كتاب الطب، باب الدواء بالعجوة للسحر10/249رقم5768 5769، ومسلم "بشرح النووى" كتاب الأشربة، باب فضل تمر المدينة 7/250 رقم 2047، من حديث سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه واللفظ لمسلم. (3) انظر: الطب فى السنة للدكتور محمد السنهورى الفصل السادس (مشكلات أثيرت حول بعض الأحاديث والرد عليها) ص330-335.

ووظيفة النبى صلى الله عليه وسلم، أولاً وبالذات هو طب القلوب والأديان، ولكن شريعته وسنته قد اشتملت على الكثير من طب الأبدان سواء أكان روحانياً أم جسمانياً (1) ، وليس أدل على ذلك من الآيات القرآنية العديدة التى تتحدث عن ذلك كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) . والآيات القرآنية التى تتحدث عن تطور الجنين فى بطن أمه فى سورة المؤمنون وغيرها (3) . والآيات العديدة التى تتحدث عن الطهارة، وخطورة إتيان الرجل زوجته الحائض حتى تطهر. قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (4) .وقوله تعالى فى طب عسل النحل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (5)

_ (1) دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 341 – 343 بتصرف. (2) الآية 57 من سورة يونس. (3) انظر: الآيات 12-14 من سورة المؤمنون. (4) الآية 222 من سورة البقرة، وانظر: الطب فى السنة للدكتور محمد السنهورى فصل "القواعد الطبية العامة المستنبطة" ص 154 – 196، وفصل "الطب الوقائى فى السنة" ص 197، وفصل "سبق السنة إلى مفاهيم طبية سبقت بها العصر" ص 197 - 2500 (5) جزء من الآية 69 من سورة النحل.

.. وبالجملة: فقد جمع رب العزة الطب كله فى نصف آية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (1) وقال صلى الله عليه وسلم "ما ملأ آدمى وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه …" الحديث (2) وقال بعض الحكماء: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء" (3) . يقول الدكتور أبو شهبة: وليس أدل على اشتمال السنة المطهرة على طب الأبدان سواء كان روحانياً أم جسمانياً مما اشتمل عليه الصحيحان: صحيح البخارى، وصحيح مسلم وغيرهما من كتب الصحاح، والسنن، والجوامع من "كتاب الطب" ضمن كتبها، وقد جمع بعض العلماء المحدثين فى ذلك كتباً مستقلة، ككتاب "الطب النبوى" لأبى نعيم، وكتاب "الطب النبوى" للسيوطى، وكتاب "الطب النبوى" لابن قيم الجوزية. والذى يهمنى من كل هذا، أن أنزع من نفوس النابتة التى نبتت، فزعمت أن الطب النبوى من قبيل الأمور الدنيوية التى تحتمل الخطأ والصواب – هذا الزعم الباطل الذى لم يقم عليه دليل، بل قامت ضده كثير من الأدلة.

_ (1) جزء من الآية 31 من سورة الأعراف. (2) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب الزهد، باب ما جاء فى كراهية كثرة الأكل4/509،510 رقم2380 وقال حديث حسن صحيح. (3) انظر: الإبداعات الطبية لرسول الإنسانية للأستاذ مختار سالم ص 36، والطب الوقائى فى الإسلام للعميد الصيدلى عمر محمود عبد الله، والطب الإسلامى للدكتور أحمد طه.

.. ففى حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه: "أن رجلاً أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "أخى يشتكى بطنه فقال: اسقه عسلاً، ثم أتى الثانية فقال: اسقه عسلاً، ثم أتاه الثالثة فقال: اسقه عسلاً، ثم أتاه الرابعة، فقال فعلت – يعنى فلم يبرأ – فقال صلى الله عليه وسلم: "صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلاً فسقاه – يعنى فى المرة الرابعة – فبرأ" (1) .

_ (1) أخرجه البخارى "بشرح فتح البارى" كتاب الطب، باب الدواء بالعسل، وقول الله تعالى "فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ"10/146 رقم 5684، ومسلم "بشرح النووى" كتاب السلام، باب التداوى بعسل النحل 7/460 رقم 2217، واللفظ للبخارى.

ويعجبنى فى هذا المقام ما قاله الإمام ابن قيم الجوزية قال: "ونحن نقول: إن هاهنا أمراً آخر، نسبة طب الأطباء إليه؛ كنسبة طب الطرقية" (1) والعجائز إلى طبهم، وقد اعترف به بعض حذاقهم وأئمتهم، فإن ما عندهم من العلم، منهم من يقول: هو قياس، ومنهم من يقول: هو تجربة، ومنهم من يقول: هو إلهامات ومنامات، وحدس صائب ومنهم من يقول: أخذ كثير منه من الحيوانات البهيمة … إلى أن قال: وأين وقع هذا وأمثاله من الوحى الذى يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحى، كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل هاهنا من الأدوية التى تشفى من الأمراض ما لم يهتد إليه عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم، وأقيستهم من الأدوية القلبية، والروحانية، من قوة القلب والاعتماد على الله والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانكسار بين يديه والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير فى الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه. وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية، بل تصير الأدوية الحسية عندها بمنزلة أدوية الطرقية عند الأطباء (2) .

_ (1) يريد بعض المتصوفة الذين لا علم لهم بالطب. (2) زاد المعاد 4/11،12 بتصرف، وانظر: دفاع عن السنة للدكتور أبو شهبة341-345 بتصرف.

المبحث الثانى: شبه الطاعنين فى حديث "وقوع الذباب فى الإناء"

.. يقول الدكتور نور الدين عتر: "ولقد أقر كبار الأطباء الذين اطلعوا على أحاديث "الطب النبوى" بما أتت به هذه الأحاديث، بل قال لى أستاذ فى كلية الطب بجامعة دمشق: "إن النبى صلى الله عليه وسلم لم يأت بوصفات طبية سابقة لعصرها فحسب، بل إنه فوق ذلك جاء مقنناً للطب والأطباء (1) أ. هـ. ... ... ... والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم المبحث الثانى: شبه الطاعنين فى حديث "وقوع الذباب فى الإناء" والرد عليها ... روى الإمام البخارى فى صحيحه بسنده عن أبىهريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه، فإن فى إحدى جناحيه شفاءً، وفى الآخر داءً" (2) . هذا حديث صحيح ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم وقد تلقته الأمة بالقبول، وآمنت بمضمون ما جاء فيه. وهو معجزة من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم الذى لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3) . ... وقد طعن أهل البدع والضلال قديماً فى صحته بحجة أنه مخالف للعقل، والواقع، وأثاروا الشبه من حوله فانبرى للرد عليهم، وكشف شبههم، ودحضها علماء أجلاء، فواجهوهم بالحجج الدامغة، والأدلة البينة، فأزالوا تلك الشبه، وبينوا فسادها.

_ (1) انظر: السنة المطهرة والتحديات للدكتور نور الدين عتر ص 76. (2) البخارى"بشرح فتح البارى" كتاب الطب، باب إذا وقع الذباب فى الإناء 10/260،261 رقم5782، وأخرج نحوه فىكتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب فىشراب أحدكم6/414رقم3320. (3) الآية 4 من سورة النجم.

جوابنا فى ذلك

من أولئك العلماء الأفاضل الإمام ابن قتيبة قال فى كتابه "تأويل مختلف الحديث" أن هذا الحديث صحيح ومن حمل أمر الدين على ما شاهد، فجعل البهيمة لا تقول، والطائر لا يسبح ... والذباب لا يعلم موضع السم، وموضع الشفاء، واعترض على ما جاء فى الحديث، مما لا يفهمه، فإنه منسلخ من الإسلام، معطل … مخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما درج عليه الخيار من صحابته، والتابعين لهم بإحسان. ومن كذب ببعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان كمن كذب به كله…وما علمت أحداً ينكر هذا إلا قوم من الدَّهرَّية (1) ، وقد اتبعهم على ذلك قوم من أهل الكلام، والجهمية" (2) . ... وممن دافع عن الحديث الإمام الطحاوى - رحمه الله - فى كتابه (مشكل الآثار) فقال بعد ذكره للحديث، ومن رواه فى الصحابة - رضي الله عنهم -: "قائل من أهل الجهل بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبوجوهها: وهل للذباب من اختيار؟ حتى يقدم أحد جناحيه لمعنى فيه، ويؤخر الآخر لمعنى فيه خلاف ذلك المعنى؟ فكان جوابنا فى ذلك له بتوفيق الله عز وجل وعونه أنه لو قرأ كتاب الله عز وجل قراءة متفهم لما يقرأ منه، لوجد فيه ما يدل على صدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا وهو قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (3) . وكان وحى الله إليها هو إلهامه إياها أن تفعل ما أمرها به.

_ (1) قال فى اللسان: ورجل دهرى: ملحد لا يؤمن بالآخرة، يقول ببقاء الدهر.انظر: لسان العرب4/293. (2) تأويل مختلف الحديث ص 210. (3) الآيتان 68، 69 من سورة النحل.

ملخص شبه هؤلاء المحدثين حول هذا الحديث، والتى رددها أعداء السنة

فمثل ذلك: الذباب ألهمه عز وجل ما ألهمه، مما يكون سبباً لإتيانه لما أراده منه، من غمس أحد جناحيه فيما يقع فيه مما فيه الداء، والتوقى بجناحه الآخر الذى فيه الشفاء (1) أ. هـ. ... وجاء المُحَدَثُون وأعداء السنة فطعنوا فى هذا الحديث (2) ، كما طعن فيه أسلافهم، أهل الابتداع من قبل، لم ينزجروا بردود العلماء السابقين، فزادوا على شبه أولئك شبهاً أخرى أنتجتها عقولهم التى جهلت حرمة النصوص، وران عليها ظلام قائم فلم تستوعب، ولم تع معانى تلك النصوص فسارعت إلى الإنكار والرد والطعن، كما هو ديدنها، ومنهجها بكل نص جهلت معناه. ... وهذا ملخص شبه هؤلاء المحدَّثين حول هذا الحديث، والتى رددها أعداء السنة (3) : أولاً: الحديث من رواية أبى هريرة وقد ردوا له أحاديث كثيرة، وقد انفرد به ابن حُنَين (4) ، ثم طعن فيه بأوجه (5) .

_ (1) مشكل الآثار 4/283 - 284. (2) انظر: مجلة المنار المجلد19/97-99،والمجلد29/48-51،والسنة والتشريع للدكتور النمر ص110 (3) انظر: أضواء على السنة ص 223، وشيخ المضيرة ص 269، 277، والأضواء القرآنية 2/230، وشبهات حول الشيعة لعباس الموسوى ص145-146، ودفع الشبهات لأحمد حجازى السقا ص 167، ودراسة الكتب المقدسة لموريس بوكاى ص 295، وقراءة فى صحيح البخارى لأحمد صبحى منصور ص39،وحقيقة الحجاب وحجية الحديث لسعيد العشماوى ص92 وغيرهم. (4) ابن حُنَين هو: عُبَيد بن حُنَين، أبو عبد الله المدنى، روى عن أبى موسى، وزيد بن ثابت، وطائفة، وعنه أبو الزناد، ويحيى بن سعيد، ثقة قليل الحديث مات سنة 105هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/643 رقم 4384، والكاشف 1/689 رقم 3613 والجرح والتعديل 5/404 = =رقم1872،وطبقات ابن سعد 5/385.ولم أقف على أحد اتهمه أو رماه بما رماه به السيد رشيد رضا، أو أعل هذا الحديث أو غيره بسببه. انظر: مجلة المنار والمجلد 29/48-50. (5) انظر: مجلة المنار المجلد 29/48-50.

ويجاب على هذه الشبه

ثانياً: أنه حديث آحاد يفيد الظن، فلا إشكال فى رده، وهو غريب عن التشريع، لأنه ينافى قاعدة تحرير الضار، واجتناب النجاسة، وغريب عن الرأى لأنه يفرق بين جناحى الذباب، فيدعى أن أحدهما به سم ضار، والآخر ترياق نافع. ثالثاً: أثبت العلم بطلانه، لأن العلم يقطع بمضار الذباب. رابعاً: موضوع متنه ليس من عقائد الإسلام، ولا من عباداته، ولا من شرائعه، ولم يعمل به أحد من المسلمين وهو فى أمر من أمور الدنيا كحديث "تأبير النخل" وبالتالى من ارتاب فيه لم يضع من دينه شيئاً. خامساً: تصحيحه من المطاعن التى تنفر عن الإسلام، ويفتح على الدين شبهة يستغلها أعداء الإسلام. سادساً: البحث فيه عقيم، لا يجب أن يشغل الناس به، وقد وصلوا إلى مخترعات ومكتشفات من العلوم. ولذا يجب ترك البحث فيه إلى ما وصل إليه العلم من أحكام لا تنقض ولا ترد (1) . ويجاب على هذه الشبه بما يلى: أولاً: لم ينفرد البخارى-رحمه الله-بإخراج هذا الحديث، كما أن أبا هريرة لم ينفرد بروايته عن النبى صلى الله عليه وسلم، وعُبيد بن حُنين، لم ينفرد بروايته عن أبى هريرة أيضاً.

_ (1) انظر: مجلة المنار المجلد 29/48-50، والمصادر السابقة ص، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 2/260.

فقد أخرجه أبو داود، وابن ماجة، والدارمى، وأحمد، والبيهقى، وابن خزيمة، وابن حبان، والبغوى، وابن الجارود، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه (1) . وأخرجه النسائى، وابن ماجة، وأحمد، والبيهقى، وابن حبان، والبغوى من حديث أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه، وأخرجه البزار، والطبرانى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (2) ، ورواه عن أبى هريرة جماعة من التابعين (3) . ... ولو لم يرد هذا الحديث إلا فى صحيح البخارى، لكان صحيحاً مقبولاً، إذ البخارى هو أصح الكتب بعد كتاب الله وأحاديثه فى أعلى درجات الصحة.

_ (1) أبو داود فى سننه، كتاب الأطعمة، باب فى الذباب يقع فى الطعام 3/365 رقم 3844، وابن ماجة فى سننه، كتاب الطب، باب يقع الذباب فى الإناء 2/349 رقم 3505 والدارمى فى سننه، كتاب الأطعمة، باب الذباب يقع فى الطعام 2/135 رقم 2039 وأحمد فى مسنده 2/229، 230، 246، 443، والبيهقى فى سننه كتاب الطهارة، باب ما لا نفس له تسيل 4/53، والبغوى فى شرح السنة كتاب الصيد، باب الذباب يقع فى الشراب 11/259، 261 رقم 2813، 2814 وابن الجارود فى المنتقى، باب فى طهارة الماء والقدر الذى ينجس ولا ينجس ص 26 رقم 55. (2) النسائى فى سننه كتاب الفرع والعتيرة، باب الذباب يقع فى الإناء 7/178، 179 رقم 4262، وابن ماجة فى الأماكن السابقة 2/349 رقم 3504، وأحمد فى المسند 3/24، 67، والبيهقى فى الأماكن السابقة والصفحات، وابن حبان فى الأماكن السابقة 4/55 – 56، والبغوى فى الأماكن السابقة رقم 2815، والطبرانى فى الأوسط 5/41، وعزاه الهيثمى فى مجمع الزوائد إلى البزار وقال: رجاله رجال الصحيح. (3) وهم: عُبيد بن حُنين، وسعيد المقبرى، وثمامة بن عبد الله بن أنس، وأبو صالح، ومحمد بن سيرين.

.. يقول فضيلة الدكتور أبو شهبة: "ولم أجد لأحد من النقاد، وأئمة الحديث طعناً فى سنده؛ فهو فى درجة عالية من الصحة، وكل ما وقع فيه من الطعن من بعض المتساهلين، والجهلاء، والمبتدعة، إنما هو من جهة متنه (1) . ولو تفرّد به أبو هريرة رضي الله عنه لما وجدوا إلى الطعن فى صحته سبيلاً.خلافاً لبعض غلاة الشيعة الجعفرية، ومن تبعهم من الزائغين، حين طعنوا فى الصحابى الجليل لأن الحديث من روايته واتهموه بأنه يكذب فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشاه من ذلك. فهذا هو التحقيق العلمى يثبت صدق أبى هريرة، وأنه برئ من طعن الطاعنين، وأن الطاعن فيه هو الحقيق بالطعن فيه، لأنهم رموا صحابياً بالبهت، وردوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لمجرد عدم انطباقه على عقولهم المريضة! وقد رواه غيره من الصحابة كما علمت. وليت شعرى هل علم هؤلاء بعدم تفرد أبى هريرة بالحديث، وهو حجة لو تفرد، أم جهلوا ذلك؟ فإن كان الأول فلماذا يتعللون برواية أبى هريرة إ ياه، ويوهمون الناس أنه لم يتابعه أحد من الصحابة الأجلاء؟! وإن كان الآخر فهلا سألوا أهل الاختصاص والعلم بالحديث الشريف؟ وما أصدق القائل: فإن كنت تدرى فتلك مصيبة ... *** ... وإن كنت لا تدرى فالمصيبة أعظم (2) وعُبَيد بن حُنَين ثقة لا مطعن فيه، ولم يذكره الحافظ فيمن تكلم فيهم من رجال البخارى فى هدى السارى، ولم أقف على من طعن فى توثيقه من العلماء، ولعمرى لو تفرد برواية الحديث عن أبى هريرة لقبل تفرده، فإن تفرد مثله لا يقدح فى صحة الحديث. كما هو مقرر فى علم مصطلح الحديث (3) . ...

_ (1) دفاع عن السنة ص 338، وانظر: مسند أحمد بتحقيق أحمد محمد شاكر 12/124 الهامش. (2) انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألبانى 1/60. (3) وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 2/261 – 263.

ثانيا: وكون الحديث آحادا ومن أجل ذلك سهل رده، قول مردود

ثانياً: وكون الحديث آحاداً ومن أجل ذلك سهل رده، قول مردود، وحجة داحضة، وقد سبق الكلام عن ذلك فلا إعادة ههنا (1) . ... وقول السيد رشيد رضا بأنه: غريب عن التشريع؛ لأنه ينافى قاعدة تحريم الضار، واجتناب النجاسة. يرد عليه: بأن الحديث لم ينف ضرر الذباب بل أثبت ذلك، فذكر أن فى أحد جناحيه داء، ولكنه زاد ببيان أن فى الآخر شفاء، وأن ذلك الضرر يزول إذا غمس الذباب كله (2) . ... يقول الإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله -: "وأعلم أن فى الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم، والحكمة العارضة عن لسعة، وهى بمنزلة السلاح، فإذا أسقط فيما يؤذيه اتقاه بسلاحه، فأمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه فى جناحه الآخر من الشفاء، فيغمس كله فى الماء والطعام، فيقابل المادة السمية المادة النافعة، فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدى إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارج من مشكاة النبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج، ويقر لمن جاء به، بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحى إلهى خارج عن القوة البشرية (3) . ... وقال الشوكانى – رحمه الله -: "والفائدة فى الأمر بغمسه جميعاً هى أن يتصل ما فيه من الدواء بالطعام أو الشراب كما اتصل به الداء، فيتعادل الضار والنافع فيندفع الضرر" (4) .

_ (1) راجع إن شئت ص 497، 552-566، 751-753، 757، 758، 787-788. (2) انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألبانى المجلد 1/61. (3) زاد المعاد 4/112. (4) نيل الأوطار 1/56، وانظر: سبل السلام 1/37.

.. والقول بنجاسة الذباب لا دليل عليه؛ لأنه لا ملازمة بين الضرر والنجاسة، ولذا كان هذا الحديث من أدلة العلماء على أن الماء القليل لا ينجس بموت ما لا نفس له سائلة فيه، إذ لم يفصل الحديث بين موت الذباب، وحياته عند غمسه (1) . ... قال الإمام الخطابى –رحمه الله-:"فيه من الفقه: أن أجسام الحيوان طاهرة، إلا ما دلت عليه السنة من الكلب وما لحق به فى معناه.وفيه دليل: علىأن ما لا نفس له سائلة إذا مات فى الماء القليل لم ينجسه، وذلك أن غمس الذباب فى الإناء قد يأتى عليه. فلو كان نجسه إذا مات فيه، لم يأمر بذلك. لما فيه من تنجس الطعام، وتضييع المال، وهذا قول عامة العلماء" (2) . ... والقول بأنه لا فرق بين جناحى الذباب بأن يحمل أحدهما سماً، والآخر شفاء. قول يناهض الحديث، بل ويخالف الواقع من اجتماع كثير من المتضادات فى الجسم الواحد كما هو مشاهد معروف. وقد أجاب عن ذلك العلماء فى السابق. ولا أدرى أجهل ذلك الشيخ رشيد رضا – رحمه الله – مع سعة إطلاعه ونصرته للسنة – أم تجاهله؟ وكلا الأمرين ذميم فى حقه، وقد ذكر ذلك معاصروه (3) . ... قال الحافظ ابن حجر: "وقال الخطابى: تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له فقال كيف يجتمع الشفاء والداء فى جناحى الذباب؟ وكيف يعلم ذلك من نفسه حتى يقدم جناح الداء، ويؤخر جناح الشفاء، وما ألجأه إلى ذلك؟ قلت: وهذا سؤال جاهل، أو متجاهل، فإن كثيراً من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة. وقد ألف الله بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان.

_ (1) انظر: فتح البارى 10/262 رقم 5782، ونيل الأوطار 1/56، وسبل السلام 1/37. (2) معالم السنن5/340-341،وانظر: زاد المعاد4/111-112،وشرح السنة للبغوى11/260. (3) انظر: مسند أحمد بتحقيق أحمد محمد شاكر 12/128 فى الهامش، ودفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص 338.

ثالثا: والقول بأن العلم يثبت بطلانه لأنه قطع بمضار الذباب، قول من جهل معنى الحديث

وإن الذى ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدخر قوتها أوان حاجتها، وأن تكسر الحبة نصفين لئلا تستنبت، لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحاً، وتؤخر آخر. وقال ابن الجوزى: ما نقل عن هذا القائل ليس بعجيب، فإن النحلة تعسل من أعلاها، وتلقى السم من أسفلها، والحية القاتل سمها تدخل لحومها فى الترياق الذى يعالج به السم، والذبابة تسحق مع الإثمد لجلاء البصر" (1) أ. هـ. ثالثاً: والقول بأن العلم يثبت بطلانه لأنه قطع بمضار الذباب، قول من جهل معنى الحديث، وعجز عن فهمه. والحديث كما أسلفت لم ينف ضرر الذباب بل نص على ذلك صراحة. وهل علماء الطب وغيرهم أحاطوا بكل شئ علماً؟!! ... حتى يصبح قولهم هو الفصل الذى لا يجوز مخالفته. بل هم معترفون كل الاعتراف بأنهم عاجزون عن الإحاطة بكثير من الأمور (2) . وهنالك نظريات كانت تؤخذ على وجه التسليم تبين فسادها فيما بعد، إذ علومهم خاضعة للتجارب والاختبارات. ... بينما الذى نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحى من عند الله تعالى، العليم بخفاء ما غاب عن الخلق جميعاً. ولا زال علماء الطب يطِلّون على العالم فى كل يوم باكتشافات جديدة لعقاقير طبية وأدوية واقية لم تكن عُرفت من قبل. ثم هل يتوقف إيماننا بصدق كل حديث ورد فيه أمر طبى عن النبى صلى الله عليه وسلم، حتى يكشف لنا الأطباء بتجاربهم صدقة أو بطلانه؟ وأين إيماننا إذن بصدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووحى الله إليه؟!

_ (1) انظر: فتح البارى 10/263 رقم 5782 وانظر: معالم السنن 5/341-342، وتأويل مختلف الحديث ص 210، 212. (2) انظر: مسند أحمد بتحقيق أحمد محمد شاكر 12/124 فى الهامش، والأنوار الكاشفة ص221.

.. إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، برهان قائم بنفسه لا يحتاج إلى دعم خارج عنه، فعلى الأطباء بل والناس جميعاً التسليم بما جاء فى هذا الحديث والتصديق به إن كانوا مسلمين، وإن لم يكونوا كذلك فليزمهم التوقف إن كانوا عقلاء. والمسلم لا يهمه كثيراً ثبوت الحديث من وجهة نظر الطب ما دام ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) هذا كله يقال على فرض أن الطب الحديث لم يشهد لهذا الحديث بالصحة. ... ومع ذلك فقد وجد من الأطباء المعاصرين من أيد مضمون ما جاء فى هذا الحديث من الناحية الطبية، وهنالك كثير من البحوث والمقالات فى هذا الجانب، منها المطول ومنها المختصر. اختار منها ما ذكره أحد الأطباء المصريين العصريين بجمعية "الهداية الإسلامية" بالقاهرة قال – رحمه الله –: "يقع الذباب على المواد القذرة المملوءة بالجراثيم التى تنشأ منها الأمراض المختلفة، فينقل بعضها بأطرافه، ويأكل بعضاً، فيتكون فى جسمه من ذلك مادة سامة يسميها علماء الطب بـ "مبعد البكتريا" وهى تقتل كثيراً من جراثيم الأمراض، ولا يمكن لتلك الجراثيم أن تبقى حية أو يكون لها تأثير فى جسم الإنسان فى حال وجود مبعد البكتريا. وأن هناك خاصية فى أحد جناحى الذباب، هى أنه يحول البكتريا إلى ناحيته، وعلى هذا فإذا سقط الذباب فى شراب أو طعام وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه فى ذلك الشراب، فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم وأول واق منها هو مبعد البكتريا الذى يحمله الذباب فى جوفه قريباً من أحد جناحيه. فإن كان هناك داء فدواؤه قريب منه، وغمس الذباب كله وطرحه كاف لقتل الجراثيم التى كانت عالقة، وكاف فى إبطال عملها. وقد كتب بعض الأطباء الغربيين نحو ذلك.

_ (1) انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد1/61،وموقف المدرسة العقلية من السنة2/268،269.

رابعا: الزعم بأن موضوعه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته

وبذلك ظهر أن هذا الحديث صحيح السند والمتن، فهل بقى للمنكرين من حجة يحتجون بها؟ اللهم إلا الهوى (1) . رابعاً: الزعم بأن موضوعه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته … إلخ. ... زعم قُصِدَ من وراءه، تحقير الحديث وتهوين لأمره، وتنفير الناس عنه، وهى دعوى تتردد وتتكرر كلما عجزوا عن إقامة الدليل على عدم صحة حديث ما، ولذلك يكثرون من ذكر هذه العبارات التى لا تدل إلا على تنصل صاحبها من إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بها والإسلام دين كامل، بعقائده، وعباداته، ومعاملاته، وأخلاقه، لا يحقر جزء من جزئياته، ولا فرع من فروعه، ولا يستهان به. وقد أمر الله المؤمنين بالتمسك بكل شعب الإيمان وشرائع الإسلام من غير تفريط فى جانب منها مع القدرة على ذلك قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (2) . قال الحافظ ابن كثير فى معنى هذه الآية: "يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك" (3) . ... والقول بأنه لم يعمل به أحد من المسلمين، قول عار عن الصحة، ودعوى جريئة جاء الحق بخلافها.

_ (1) انظر: الإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان 4/55، الهامش، ودفاع عن السنة 345، 346، وسلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد 1/61، وموقف المدرسة العقلية من السنة 2/269، 270، والسنة المطهرة والتحديات للدكتور نور الدين عتر ص 80-81. (2) الآية 208 من سورة البقرة. (3) تفسير القرآن العظيم 1/247.

روى عبد الله بن المثنى (1) ، عن عمه ثمامه (2) ؛ أنه حدثه قال: كنا عند أنس، فوقع ذباب فى إناء فقال أنس (3) بأصبعه فغمسه فى ذلك الإناء ثلاثاً ثم قال: بسم الله. وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرهم أن يفعلوا ذلك (4) .

_ (1) هو: عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصارى، أبو المثنى البصرى، روى عن عمومته، والحسن، وعنه ابنه محمد، ومسدد، وعبد الواحد بن قياس. قال ابن معين وأبو زرعة: صالح. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق كثير الغلط. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/527 رقم 3582، والكاشف 1/592 رقم 2942، والجرح والتعديل 5/177 رقم 830. (2) هو: ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك، الأنصارى، البصرى، قاضيها. روى عن جدة، والبراء وعن أبى هريرة مرسلاً. وعنه عبد الله بن المثنى، وعمر. قال أبو حاتم والذهبى ثقة. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/150 رقم 855، والكاشف 1/285 رقم 716. والجرح والتعديل 2/466 رقم 1893. (3) قوله "فقال أنس": يراد به الفعل. لأن العرب تجعل القول عبارة لجميع الأفعال، وتطلقه على غير اللسان والكلام فتقول: قال بيده: أى أخذ. وقال برجله: أى مشى … إلخ. انظر: النهاية 4/124، والقاموس المحيط 4/41، 42. (4) ذكره الحافظ فى الفتح: وقال أخرجه البزار ورجاله ثقات، ورواه حماد بن سلمة، عن ثمامه فقال "عن أبى هريرة" ورجحها أبو حاتم، وأما الداقطنى: فقال: "الطريقان محتملان" انظر: فتح البارى 10/261، 262 رقم 5782.

وروى أحمد من طريق سعيد بن خالد (1) قال: "دخلت على أبى سلمة فأتانا يزيد وكتلة (2) ،فأسقط ذباب فى الطعام، فجعل أبو سلمة (3) يمقله بأصبعه فيه فقلت: يا خال! ما تصنع؟ فقال: إن أبا سعيد الخدرى حدثنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحد جناحى الذباب سم، والآخر شفاء، فإن وقع فى الطعام، فأمقلوه (4) ، فإنه يقدم السم، ويؤخر الشفاء" (5) . فأنس صحابى، وأبو سلمة تابعى، وقد عملا بمضمون هذا الحديث، فكيف يزعم بأن أحداً من المسلمين لم يعمل به؟ (6) . هذه دعوى، وغيرها كثير، يطلقها أولئك القوم من غير علم ولا تحقيق؛ ليخدعوا بها السذج من الناس، ويحدث من جرائها شر وفساد عريض (7) .

_ (1) سعيد بن خالد هو: ابن عبد الله بن قارظ، الكتانى، المدنى، حليف بنى زهرة، روى عن ربيعة بن عباد وابن المسيب، وعنه ابن أبى ذئب، وابن إسحاق. صدوق له ترجمة فى: تهذيب التهذيب 4/20 رقم 2660، وتقريب التهذيب 1/351 رقم 2298، والكاشف 1/434 رقم 1873، والجرح والتعديل 4/16 رقم 62. (2) الكتلة: هو ما جمع من التمر والطين واللحم وغير ذلك انظر: النهاية4/150،والقاموس المحيط 4/43 (3) أبو سلمة: هو ابن عبد الرحمن بن عوف الزهرى، المدنى قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل. أحد الأئمة الثقات المكثرين. روى عن أبيه، وعائشة، وأبى هريرة، وعنه ابنه عمر، والزهرى محمد بن عمرو مات سنة 94هـ. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 2/409 رقم 8177، والكاشف 2/431 رقم 6661، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 30 رقم 50، ومشاهير علماء الأمصار ص 83 رقم 430، والثقات للعجلى ص 499 رقم 1960. (4) فامقلوه أى اغمسوه فى الماء ونحوه. انظر النهاية 4/347. (5) المسند 3/67. (6) انظر: السنة والتشريع لفضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين حيث ضرب أمثلة عملية على عمل كثير من المسلمين بهذا الحديث. وإن لم يشعروا بأنهم يعملون بالحديث ص55-58. (7) انظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 2/271-273.

خامسا: أما القول بأن تصحيح الحديث من المطاعن التى تنفر عن الإسلام

والقول بأن الحديث لا دخل له فى التشريع، وأنه من أمور الدنيا. قول يحتاج إلى ما يدل عليه، فالحديث فيه أمر إرشادى من النبى صلى الله عليه وسلم، لعلاج حالة إذا وقعت ولا حيلة للمرء فى دفعها، وهى "إذا وقع الذباب" أى رغماً عنكم، ولم يكن لكم حيلة فى دفعة، وأردتم الانتفاع بما وقع فيه من طعام أو شراب، فعليكم بغمسة كله. فالأمر بالغمس أمر إرشاد لا أمر إ يجاب، يأثم تاركه، إذ لم يقل بذلك أحد (1) . ... أما قياس حديث الذباب بحديث تأبير النخل فغير صحيح. فحديث الذباب حديث تشريعى، وأفاد حكماً شرعياً، بأن ما لا نفس له سائلة إذا مات فى الماء القليل لم ينجسه (2) . كما أفاد جواز أكل أو شرب ما وقع فيه الذباب بعد غمسه كله لمن شاء ورغب فى ذلك. ولا شك أن كل ذلك حكم شرعى (3) . خامساً: أما القول بأن تصحيح الحديث من المطاعن التى تنفر عن الإسلام…إلخ ما ذكروه. ... فقول ساقط يحمل بين طياته استدراكاً على النبى صلى الله عليه وسلم، الذى كان أحرص الناس على دين الله عز وجل، وسد كل منافذ الطعن والقدح فيه. وكيف يكون فى شريعة الله ما ينفر وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "بشروا ولا تنفروا. ويسروا ولا تعسروا" (4) . وهل يعقل أن تكون أقواله التى نطق بها، وأفعاله التى فعلها منفرة للناس؟! وأين موضع التنفير فى هذا الحديث؟ إلا أنه أثبت أن فى جناح الذباب شفاء؟ أيكون هذا تنفيراً؟ يالخفة العقول! وأين هذه الشبهة التى يفتحها على الدين حتى يستغلها أعداء الإسلام؟

_ (1) انظر: السنة والتشريع لفضيلة الدكتور موسى شاهين ص 54، 55، ودفاع عن السنة لفضيلة الدكتور محمد أبو شهبة ص 352. (2) راجع: ص 880. (3) راجع: نقض دليل تقسيم السنة إلى سنة تشريعية، وغير تشريعية ص 464-468. (4) أخرجه مسلم "بشرح النووى" كتاب الجهاد والسير، باب فى الأمر بالتيسير وترك التنفير6/283 رقم 1732 من حديث أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه.

سادسا: أما القول بأن البحث فى الحديث عقيم

وهل وقف أعداء الإسلام فيما يثيرونه من شبه عند حديث الذباب وحده؟ بل قد أثاروا شبهاً لا حصر لها فى أمور لا تخفى على أحد، بل حتى القرآن الذى نقل بالتواتر جيلاً بعد جيل، وعصراً بعد عصر؛ هل سلم وسلمت أحكامه من شبه أعداء الإسلام؟ ... وهل إذا رددنا حديث الذباب، بل ورددنا السنة كلها، يكف ذلك شبههم عنا؟! ويستجيبون بعد ذلك لديننا ويلتزمون بشريعتنا؟ بل لو تتبعنا شبههم - قاتلهم الله - ورددنا كل أمر اشتبهوا فيه ما بقى لنا من ديننا ما نتمسك به. ... ولماذا هذه المجاملة، وهذا التنازل لأعداء الإسلام على حساب ديننا؟ وما الذى يضرنا من شبههم، ونحن موقنون بأن ما جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلمهو الحق الذى لا مريه فيه، وما يقذف به أعداء الإسلام شبه باطلة داحضة لا قيمة لها من الصحة. وهل بعد ظهور ما يؤيد صدق الحديث من الناحية الطبية، تظل شبههم عالقة به؟ (1) . سادساً: أما القول بأن البحث فى الحديث عقيم … إلخ. ... فهو قول من جهل مقام النصوص، وضعف احترامه لها، إن لم يكن قد عدم تماماً. إن ما بذله بعض الأطباء الأفاضل من جهود حول تأييد هذا الحديث من الناحية الطبية، يجب أن يشكروا عليه ولا يذموا بما قدموا، إذا كانوا يهدفون من وراء ذلك دفع الشبه التى ألصقت بهذا الحديث، وبيان أن العلم الحديث لا ينافيه. ... والحقيقة إن هذه البحوث وإن كانت تزيد الإنسان إيماناً بصدق الحديث، إلا أن الإيمان لا يتوقف عليها، إذ الحديث حجة قائمة بنفسه. ... ويكفى فى فصل هذه البحوث أنها نقضت الذى طبل من أجله أعداء السنن وزمروا، من أمثال النظام، وأتباعه من المستشرقين، وغلاه الشيعة، وأتباعهم أمثال محمود أبو ريه، الذى ذهب إلى وجوب ترك البحث فى هذا الحديث إلى ما وصل إليه العلم بأبحاثه الدقيقة، وتجاربه الصحيحة التى لا يمكن نقضها، ولا يرد حكمها.

_ (1) موقف المدرسة العقلية من السنة 2/277، 278.

والذى يعجب منه الإنسان أن نظريات الغرب المتناقضة المختلفة التى لا تستقر على حال، تصبح عند هؤلاء أحكاماً مسلمة لا تنقض، ولا ترد، وحديث النبى صلى الله عليه وسلم الصادق الذى لا ينطق عن الهوى، يطعن فيه، ويرد بغير حجة، ولا دليل. يقول الشيخ أحمد محمد شاكر: "والحق أنه لم يعجبهم هذا الحديث، لما وقر فى نفوسهم من أنه ينافى المكتشفات الحديثة، من الميكروبات ونحوها، وعصمهم إيمانهم عن أن يجرؤوا على المقام الأسمى، فاستضعفوا أبا هريرة. ... والحق أيضاً أنهم آمنوا بهذه المكتشفات الحديثة أكثر من إيمانهم بالغيب ولكنهم لا يصرحون! ثم اختطوا لأنفسهم خطة عجيبة: أن يقدموها على كل شئ. وأن يؤولوا القرآن بما يخرجه عن معنى الكلام العربى، إذا ما خالف ما يسمونه "الحقائق العلمية "وأن يردوا من السنة الصحيحة ما يظنون أنه يخالف حقائقهم هذه! افتراء على الله، وحباً فى التجديد" (1) أ. هـ. وبعد ... فهذه نماذج قليلة من الأحاديث الصحيحة التى وجهت إليها نقود من أعداء السنة قديماً وحديثاً، لا يهام المسلمين أنها غير صحيحة، وأنها تتعارض مع عقولهم الزائغة، أو مع كتاب الله عز وجل، أو مع العلم أو غير ذلك من أصولهم الفاسدة التى حكموا بها على الأحاديث صحة أو ضعفاً. والحق أن هؤلاء الجاهلين من الغباء بحيث لا ينبغى أن يعبأ بهم أو يكترث بما يقولون. فالتصدى للأحاديث الصحيحة، ومحاولة تضعيفها يكشف عن أن أصحابها لا يعرفون شيئاً أو يتجاهلون ليثبتوا كيدهم للسنة بل للإسلام" (2) .

_ (1) مسند أحمد بتحقيق أحمد محمد شاكر 12/125، الهامش، وانظر: موقف المدرسة العقلية من السنة 2/278 – 279. (2) انظر: نصوص من السنة ودفاع عنها للدكتور رفعت فوزى المقدمة، والسنة النبوية الشريفة للدكتور أحمد كريمة ص 70، وظاهرة رفض السنة وعدم الاحتجاج بها للدكتور صالح أحمد رضا ص 69، 70.

وحقيق بكل مسلم أن يعلم أن للحديث الصحيح ثمرات طيبات ونتائج باهرات نذكر بعضها فى الفصل التالى.

الفصل التاسع: ثمرات ونتائج الحديث الصحيح

الفصل التاسع: ثمرات ونتائج الحديث الصحيح ... للحديث الصحيح ثمرات طيبات ونتائج باهرات منها: إذا صح الحديث وجب العمل به، حتى ولو لم يخرجه الشيخان ما دامت قد ثبتت صحة الحديث، وعلى ذلك اتفاق العلماء (1) . يقول فضيلة الدكتور مروان شاهين: "ودع عنك يا أخى ترهات المعاندين فى هذه المسألة، فإن القضية متعلقة بالإيمان وعدمه، والمؤمنون لا يقدمون أبداً أى قول على قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لمسلم أبداً أن يتوقف فى العمل بحديث ثبتت صحته عند العلماء، وحاشاه أن يكون من المعاندين، إن المؤمن يسارع إلى تنفيذ حكم الله تعالى، وتنفيذ ما ثبت صحته من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا شأن أئمة الإسلام جميعاً، الأئمة الأربعة وغيرهم، وتواترات على ذلك أقوالهم، والإمام الشافعى وغيره قد قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبى" (2) . العمل بالحديث الصحيح واجب، حتى ولو كان عمل أكثر الأمة بخلافه، لأن الأصل المقدم دائماً هو قول الله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعنى وجوب العمل بالحديث الصحيح هنا، الاحتجاج والعمل به بوجه عام، باعتباره وحياً أوحى الله عز وجل به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أقره عليه (3) . لزوم العمل بالصحيح متى علمنا به بدون إبطاء، وقد تراجع كثير من الصحابة عن القول بآرائهم متى بلغهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

_ (1) نزهة النظر ص 26، وانظر: قواعد التحديث للقاسمى ص 87. (2) انظر: الفقيه والمتفقه 1/388 رقمى 405، 406، ومناقب الشافعى للرازى ص 317-319، وتيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير ص 172، 173. (3) انظر: الفقه الإسلامى مرونته وتطوره للإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق ص61،62.

الفصل العاشر: "مضار رد الأحاديث النبوية الصحيحة"

متى صح الحديث صار أصلاً من الأصول، ولا يحتاج إلى عرضه على أصل آخر والأصول تتوافق، وما يبدوا من ظاهرها من التعارض أحياناً، فإن العلماء قد بينوا وجوه الجمع بينها بحيث يندفع التعارض فى النهاية بإذن الله (1) . ينبغى أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده، وما قصده من الهدى والبيان. وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب، مالا يعلمه إلا الله عز وجل، بل سوء الفهم عن الله عز وجلورسوله صلى الله عليه وسلم أصل كل بدعة، وضلالة، نشأت فى الإسلام. وهل أوقع القدرية، والمرجئة، والخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والروافض، وسائر طوائف أهل البدع والإلحاد قديماً وحديثاً فى زيغهم؛ إلا سوء الفهم عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم؟! (2) . هذا وللعلامة القاسمى فى قواعد التحديث، كلام طيب ورائع، حول ثمرات الحديث الصحيح، فليراجعها من يشاء؛ فإنها مفيدة" (3) . الفصل العاشر: "مضار رد الأحاديث النبوية الصحيحة" ... التشكيك والطعن فى الأحاديث النبوية الصحيحة، وردها، له مضاره الخطيرة على ديننا، وعلى وحدة أمتنا الإسلامية، ومن تلك المضار: أولاً: إخراج ما هو من الدين: فكما أن وضع الأحاديث بالإختلاف والكذب يدخل فى الدين ما ليس منه، فإن رد صحيحها يخرج من الدين ما هو منه، وهذا عين الإبتداع، لأنه يكون بالزيادة والنقص.

_ (1) تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير ص 173. (2) الروح لابن قيم الجوزية ص87، 88 بتصرف. (3) انظر: قواعد التحديث ص 85 - 102.

ثانياً: إشاعة البلبلة الفكرية، وتلك مصيبة كبرى لا يدرك أخطارها الحالية والمستقبلية هؤلاء اللاعبون بالنار؛ لأنها تفتح الباب على مصراعيه لفقد النصوص قداستها وحرمتها وتمهد السبل لأذناب العلمانية ومن يشاطرهم الكيد للإسلام، والتطاول، على النصوص، والاستخفاف بها، وأخذ ما يتفق مع الأمزجة وهجر ما عداها (1) . وسيتحمل هؤلاء إثم تفرقة الأمة الإسلامية، وإثارة البلبلة بين صفوفها. أهـ وفى الختام … نسأله -جلا جلاله- أن يجعلنا ممن يكون هواه تبعاً لما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم قدوتنا فى حياتنا كلها، الشخصية، والاجتماعية، وأن ينفع بهذا البحث أمة الإسلام فى مشارق الأرض ومغاربها وأن يكون سهاماً مسمومة فى نحور أعداء الإسلام فى كل زمان ومكان. والله الموفق والهادى إلى سواء السبيل …

_ (1) السنة النبوية للدكتور أحمد محمد كريمة ص77، وانظر: الإسلام على مفترق الطرق لمحمد أسد ص 97-98.

الخاتمة

الخاتمة فى نتائج هذه الدارسة ومقترحات وتوصيات الخاتمة ... وفى نهاية المطاف نلخص أهم ما وصلت إليه هذه الرسالة من نتائج ومقترحات وتوصيات: 1 - أن مؤامرة التشكيك فى حجية السنة المطهرة ومكانتها التشريعية أخذت طريقها إلى عقول بعض الفرق فى الماضى، كما أخذت طريقها إلى عقول المستشرقين، ومن استمالوهم من أبناء المسلمين فى الحاضر. 2 - أن معركة أعداء الإسلام مع السنة المطهرة تتسم من جهة أعدائها بالدقة، والتنظيم، والكيد المحكم، كما تتسم من جهة المسلمين بالبراءة، والغفلة، والدفاع العفوى، دون إعداد سابق أو هجوم مضاد. 3 - أن القواعد التى ينطلق منها أعداء السنة قديماً وحديثاً فى الكيد لها واحدة فشبهات القدماء هى نفسها شبهات المعاصرين. وصدق الله العظيم إذ يقول: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} (1) وقال عز وجل: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (2) . 4 - تأثر الفرق الكلامية بالفلسفة اليونانية، وأعطوها صبغة إسلامية ليستعينوا بها على نظرياتهم وجدلهم، فكان ذلك ذا أثر بالغ فى رد النصوص بالعقل، وفتح باب شر عظيم على أمة الإسلام، دخل منه كثيرون من أعداء الإسلام، وتأثر بذلك بعض أبناء المسلمين 5 - مخالفة الفرق الكلامية منهج السلف فى فهم النصوص، وعجز عقولهم عن الفهم الصحيح لها، أدى بهم إلى الاضطراب، وعدم الاستقرار المنهجى. 6 - أن أهل السنة والجماعة هى الفرقة الوحيدة التى حالفها الصواب والسداد فى فهم النصوص من الكتاب والسنة، حيث لم يقدموا العقل على نصوص الوحى، ولم يلغوا عمله، بل وقفوا به عند حده الذى حده الله له، فأعملوه حيث جاز له أن يعمل، ووقفوا به حيث حق له أن يقف.

_ (1) جزء من الآية 118 من سورة البقرة. (2) الآية 53 من سورة الذارايات.

7 - فساد منهج المستشرقين فى دراستهم للإسلام، مهما حاولوا إدعاء المنهجية العلمية التى يزعمونها، وسبب ذلك عدم تخلصهم من العصبية والعداء للإسلام وأهله. 8 - نجاح الاستشراق فى استقطاب كثير من أبناء الإسلام الذين انخدعوا بأفكاره وآرائه وتأثروا بثقافاته ومناهجه، وكثير منهم يمثلون رموزاً بارزة فى بلدانهم، فكان لذلك أثر بالغ فى نشر تلك الأفكار بين المسلمين، وانخداع السذج منهم بها، وتفلت كثير منهم بسببها من التمسك بالشرع، فكان خطرهم أعظم، وفسادهم أكبر، لأنهم يهدمون السنة من داخلها. 9 - أظهر البحث بما لا يدع مجالاً للشك، أنه لو سلمنا جدلاً أنه يكفى الاستناد على القرآن وحده فى تحليل، الحلال وتحريم الحرام … ولم نعبأ بالسنة أبداً، وتركنا القرآن يخطئ فيه المخطئون، ويتعمد فيه الكذب الكذابون، ويتلاعب فيه الملحدون، ويخوض فيه المنافقون بما تسوله لهم نفوسهم، وتمليه عليهم رؤساؤهم وشياطينهم، فإن الخلاف بين الناس لا يزول كما هو معلوم بالضرورة، وإنما سيزيد ويستفحل، ويصل بهم إلى مدارك الهاوية، ويتفرق بهم فى دروب التيه. 10 - أكد البحث أن عدم الأخذ بالسنة دعوة إلحادية، يريد أصحابها لنا الإعراض عن هدى النبوة، وينسون أنهم يتمسكون بتشريعات واهية، لا أساس لها تقوم عليه، ولو سلمنا لهم جدلاً أنه يجب إبطال السنة، مع صحة نقلها بالإسناد المتصل؛ الذى هو منَّة عظيمة خص الله بها الأمة الإسلامية دون سائر الأمم، لكان لزاماً علينا من باب أولى أن نبطل جميع التشريعات المتداولة فى الدنيا مهما كان مصدرها سماوياً أو وضعياً لأن من المُسَلمَّ أن البقاء للأصح سنداً، والأصدق رواية.

11 - إن منكرى السنة بجملتها تسول لهم نفوسهم المريضة وتصور لهم عقولهم المتحجرة، ادعاء العلم بدين الله وأسرار شريعته أكثر من رسوله صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله - وإلا فكيف يتجرؤون أن ينكروا سنته، وإذا كان ذلك كذلك فمن الذى يطاع: رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم الخارجين عن دين الله؟! 12 - قرر البحث أن السنة ضرورة دينية، وأن كثيراً من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، والتى أجمع عليها الفقهاء؛ متوقفة على حجيتها، فلو لم تكن حجة، كيف يتوقف الضرورى - وهو الإجماع - على ما ليس بضرورى - وهى السنة؟! 13 - إن الأدلة الشرعية جميعها متوافقة متآلفة متلائمة، لا اختلاف، ولا تنافر، ولا تضارب بينها، كما يشهد لذلك قول الحق تبارك وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1) ومن هنا فالشريعة خالية البتة من كل تناقض، وتعارض حقيقيين لإستلزامهما العجز والجهل المحالين على الله تعالى، هذا وإن أى تعارض يراه الباحث إنما يكون بحسب الظاهر فقط بالنسبة إليه، أو لكونه يتوهم ما ليس بدليل دليلاً، أو لتصوره أن نصين من النصوص يدلان على حكمين متعارضين مختلفين، بينما النصان فى واقع الأمر لا تعارض، ولا اختلاف فى حكمهما، بل لكل واحد منهما جهة غير جهة الآخر، فالتعارض حينئذ يكون سببه عجز الباحث وعدم درايته، لكونه غير معصوم من الخطأ، لا فى النص ولا فى مدلوله على الحكم. 14 - إن دعوى وجود عقليات مخالفة للشرع، لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح، بل هى أوهام وخيالات، وشبه عارية عن الصواب، إضافة إلى أنه لا ضابط عند من يرد النصوص بالقرآن والعقل يفرق به بين ما يرد، وما لا يرد. 15 - رد النصوص عقلاً أوجد أثراً بالغاً فى زعزعة كثير من العقائد، وعدم احترام نصوص الوحى الاحترام اللائق، والتهوين من شأنها.

_ (1) الآية 82 من سورة النساء.

وأوصى بما يلى

16 - أن جميع ما يتناقله الشيعة الرافضة، وأهل البدع فى كتبهم من المطاعن العامة والخاصة فى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يعرج عليها ولا كرامة، فهى أباطيل وأكاذيب مفتراه إذ دأب الرافضة، وأهل البدعة رواية الأباطيل، ورد ما صح من السنة المطهرة، والتاريخ. 17 - وجدت من خلال صحبتى لبعض خصوم السنة، أنهم جميعاً من أصحاب الترف، والكبر، الذين لزموا البيوت، ولم يطلبوا العلم من مظانه، ومن أهله، فهم كما تنبأ بهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله "لا ألفينَّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندرى، ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه" (1) . هذه أهم نتائج الدراسة فى موضوع: "السنة النبوية فى كتابات أعداء الإسلام فى الكتابات العربية" وإذا كان لى أن اقترح أو أوصى بشئ فى هذا المقام؛ فإنى اقترح وأوصى بما يلى: 1 - دراسة شبهات أعداء السنة قديماً وحديثاً، وبيان بطلانها من خلال تدريس تاريخ السنة وعلومها. 2 - إخضاع الكتابات المتعلقة بما يمس السنة النبوية للتدقيق والتمحيص، وسد منافذ الاجتراء على السنة النبوية بديار المسلمين، وتجريم ذلك فى جميع الوسائل. 3 - الحكم بالارتداد على منكرى السنة النبوية، وتنفيذ أحكام الله فيهم بمعرفة القضاء؛ لأن منكر السنة منكر للقرآن. 4 - الحكم بالابتداع على رادى الأحاديث النبوية الصحيحة، وإقامة عقوبة التعزير عليهم وإرشادهم إلى الحق. قال نعيم بن حماد - رحمه الله -: "من ترك حديثاً معروفاً، فلم يعمل به، وأراد له علة، أن يطرحه، فهو مبتدع" (2) . 5 - العمل على أن يكون للمحدثين رابطة على مستوى العالم الإسلامى؛ تجمع شملهم، وتقنن أعمالهم، وتلم شعث جهودهم.

_ (1) سبق تخريجه ص 233. (2) أخرجه الخطيب فى الفقيه والمتفقه 1/386 رقم 399.

6 - مواصلة العمل الجاد، وتضافر الجهود، وتشابك الأيدى، وإخلاص النية، كى نبين ما ينطوى عليه الغرض الخبيث الذى يلتقى عليه أعداء الله للنيل من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن رواتها الثقات الأعلام، ومن ثم وقف هذه الحملة الشرسة المسعورة التى تستهدف هدم القرآن وكل ما يتصل به من سنة، وتاريخ، وأمة تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها. وبعد ... فهذا آخر ما فتح الله على به، ووفقنى لكتابته فى هذا الموضع الجليل، والبحث الخطير، الذى اعترف فيه بالعجز والتقصير. ... ولعلى أكون قد أصبت فى بعض مسائله، وشفيت الغليل فى شئ من مباحثه. فإن يكن ذلك حقاً: فبفضل الله، وهدايته، وحسن توفيقه، وعنايته. ... وفى الختام. أسأل الله عز وجل الصفح والغفران، فيما زلت فيه قدمى، وانحراف فيه عن جادة الحق قلمى. اللهم تقبل هذا الجهد الضئيل خالصاً لوجهك الكريم وانفع به المستفيدين، وارزقنى دعوة صالحة منهم، ينالنى بها عفوك ورضاك وآخر دعوانا: "أن الحمد لله رب العالمين" وصلى الله على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله، وصحبه، والمتمسكين بسنته أجمعين.

فهرس المصادر والمراجع

سادساً فهرس المصادر والمراجع ... أهمل فى الترتيب الألف واللام وأب وابن فى أول اسم الكتاب، وكذلك كلمة (كتاب) القرآن الكريم. أولاً: التفسير وعلومه: أثر القراءات فى الدراسات النحوية، للدكتور عبد العال سالم على، طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، سنة 1389هـ-1969م. الأحرف السبعة فى القرآن الكريم ومنزلة القراءات منها، للدكتور حسن ضياء الدين عتر، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة رقم 235. الإسرائيليات فى التفسير والحديث، للدكتور محمد حسين الذهبى، مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الثالثة 14.6هـ-1986م. الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير، للدكتور محمد أبو شهبة، مكتبة السنة بالقاهرة، الطبعة الرابعة 14.8هـ. البرهان فى علوم القرآن، لبدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى البابى الحلبى، مصر، الطبعة الأولى 1376هـ. تأويل مشكل القرآن، لعبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1393هـ-1973م. تفسير جزء عم، لمحمد عبده، المطبعة الأميرية، الطبعة الأولى 1322هـ. تفسير فرات الكوفى، لفرات بن إبراهيم الكوفى، المطبعة الحيدرية، النجف. التفسير والمفسرون، للدكتور محمد حسين الذهبى، دار الكتب الحديثة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1361هـ. تفسير القمى، لعلى بن إبراهيم القمى، مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر، قم، إيران، الطبعة الثانية 1387هـ-1968م. تفسير القرآن العظيم، لأبى الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، مطبعة دار التراث بالقاهرة، بدون تاريخ. التفسير القيم، لمحمد بن أبى بكر الشهير بابن قيم الجوزية، جمع: محمد أويس الندوى، تحقيق: محمد حامد الفقى، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ. التفسير الكبير، لأبى عبد الله محمد بن عمر المشهور بفخر الرازى، دار إحياء التراث العربى، بيروت، بدون تاريخ.

تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا، دار المنار بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1967م. الجامع لأحكام القرآن، لأبى عبد الله محمد بن أحمد القرطبى، تصحيح أحمد عبد العليم البردونى، الطبعة الثانية 1372هـ-1952م. جامع البيان عن تأويل آى القرآن، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى، مطبعة مصطفى البابى الحلبى بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1388هـ. الدر المنثور فى التفسير بالمأثور، لأبى الفضل عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ-1983م. روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى، لشهاب الدين محمود الألوسى البغدادى، دار إحياء التراث العربى، بيروت، بدون تاريخ. الصافى فى تفسير القرآن، لمحسن الفيض الكاشانى، مؤسسة الأعلمى للمطبوعات، بيروت، الطبعة الأولى 1399هـ-1976م. فتح القدير الجامع بين فنى الرواية والدراية من علم التفسير، لمحمد بن على الشوكانى، مطبعة مصطفى البابى الحلبى بمصر، الطبعة الثالثة 1383هـ-1964م. القراءات فى نظر المستشرقين والملحدين، للشيخ عبد الفتاح القاضى، طبعة مجمع البحوث الإسلامية 1392هـ-1972م. القرآن والقراءات والأحرف السبعة، الحقيقة، العلاقة، صحة النقل، للدكتور عبد الغفور محمود جعفر، القاهرة، الطبعة الأولى 1417هـ-1996م. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل، لمحمود ابن عمر الزمخشرى، المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، الطبعة الأولى 1354هـ. الكواكب النيرات فى أثر السنة النبوية على القراءات، للدكتور علام بن محمدين ابن علام، مطبعة أولاد عثمان، الطبعة الأولى 1416هـ-1996م. مجالس بن الجوزى فى المتشابه من الآيات القرآنية، لعبد الرحمن بن الجوزى، مطبعة دار الأنصار بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1399هـ-1979م. محمد عبده ومنهجه فى التفسير، للدكتور عبد الغفار عبد الرحيم، مطبعة دار الأنصار بالقاهرة، بدون تاريخ.

ثانيا: الحديث النبوى وعلومه

المصاحف، لابن أبى داود، مؤسسة قرطبة، بدون تاريخ. منهج المدرسة العقلانية الحديثة فى التفسير، للدكتور فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومى، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1407هـ. النبأ العظيم، للدكتور محمد عبد الله دراز، مطبعة السعادة، 1960م. الناسخ والمنسوخ، لمحمد بن شهاب الزهرى، تحقيق الدكتور حاتم الضامن، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1408هـ. النشر فى القراءات العشر، لأبى الخير بن الجوزى، تحقيق محمد على الصباغ، طبع فى دمشق عام 1345هـ، نشر وتصوير دار الكتب العلمية، بيروت. ثانياً: الحديث النبوى وعلومه: الابتهاج فى أحاديث المعراج، لأبى الخطاب عمر بن الحسن بن دحية، مكتبة الخانجى بالقاهرة، الطبعة الأولى 1417هـ-1996م. أبو زرعة الرازى وجهوده فى السنة النبوية، للدكتور سعدى الهاشمى، نشر مكتبة ابن القيم بالمدينة المنورة 1409هـ-1989م. إتحاف ذوى الفضائل المشتهرة، للأستاذ عبد العزيز الغمارى، ضمن مجموعة الحديث الصديقية، الناشر مكتبة القاهرة بمصر، بدون تاريخ. إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين، للإمام أحمد بن الحسين البيهقى، تحقيق السيد مصطفى سعيد خالد قطاش، دار الكتب العلمية، بيروت. الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، لبدر الدين الزركشى، تحقيق محمد سعيد الأفغانى، دار القلم، بيروت، الطبعة الثانية 1390هـ-1970م. الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة، لأبى الحسنات محمد عبد الحى اللكنوى، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، دار السلام بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1414هـ-1993م. أحاديث الإسراء والمعراج دراسة توثيقية، للدكتور رفعت فوزى، مكتبة الخانجى بالقاهرة، الطبعة الأولى 1400هـ-1980م. الأحاديث المتواترة فى الأزهار المتناثر فى الأخبار المتواترة، لأبى الفضل عبد الرحمن ابن أبى بكر السيوطى، تحقيق أحمد حسن رجب، هدية مجلة الأزهر، العدد صفر 1409هـ.

اختلافات المحدثين والفقهاء فى الحكم على الحديث، للدكتور عبد الله شعبان على، طبعة دار الحديث بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1417هـ-1997م. الأدب المفرد، لأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى، تحقيق فضل الله الجيلانى، ومحب الدين الخطيب، المكتبة السلفية بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1407هـ. الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار صلى الله عليه وسلم، لأبى زكريا يحيى بن شرف النووى، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. استدراكات البعث والنشر، لأبى بكر أحمد بن الحسين البيهقى، جمع عامر أحمد حيدر، طبعة دار الفكر، بيروت، 1414هـ-1993م. الإسراء والمعراج، للدكتور محمد أبو شهبة، مكتبة العلم بالقاهرة، 1411هـ-1990 الإشاعة لأشراط الساعة، للسيد الشريف محمد بن رسول الحسينى، مكتبة المشهد الحسينى، الطبعة الأولى، بدون تاريخ. أصول الحديث، للدكتور عبد الهادى الفضلى، دار المؤرخ العربى، بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ-1993م. أصول الحديث، علومه، ومصطلحه، للدكتور محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1401هـ-1981م. أصول الرواية عند الشيعة الأمامية الإثنى عشرية، للدكتور عمر الفرماوى، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة. أصول علم الحديث بين المنهج والمصطلح، للدكتور أبو لبابة حسين، دار الغرب الإسلامى، بيروت، الطبعة الأولى، بدون تاريخ. أعلام المحدثين، للدكتور محمد محمد أبو شهبة، طبعة مركز كتب الشرق الأوسط، بدون تاريخ. الإلماع إلى معرفة أصول الرواية، وتقييد السماع، لأبى الفضل عياض بن موسى اليحصبى، تحقيق السيد أحمد صقر، دار التراث، القاهرة، الطبعة الأولى1389هـ-1980م. اللآلئ السنيات فى شرح حديث (إنما الأعمال بالنيات) ، للدكتور إبراهيم على سعده، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة، رقم 52 0 اللآلئ المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة، لأبى الفضل عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى، تحقيق صلاح محمد عويضة، الطبعة الأولى 1417هـ-1996م.

الأنساب المتفقة فى الخط المتماثلة فى النقط والضبط، لأبى الفضل محمد بن طاهر، المعروف بابن القيسرانى، تحقيق كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ-1991م. اهتمام المحدثين بنقد الحديث سنداً ومتناً ودحض مزاعم المستشرقين وأتباعهم، للدكتور محمد لقمان السلفى، الرياض، الطبعة الأولى 1408هـ-1987م. الباعث الحثيث، شرح اختصار علوم الحديث، لأبى الفداء إسماعيل بن كثير، تأليف أحمد محمد شاكر، دار التراث بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1399هـ-1979م. البخارى أمير المؤمنين فى الحديث، للدكتور يوسف الكتانى، هدية مجلة الأزهر الشريف، عدد رجب 1418هـ. البعث والنشور للإمام أحمد بن الحسين البيهقى، تحقيق عامر أحمد حيدر، طبعة مركز الخدمات والأبحاث الثقافية، الطبعة الأولى 1406هـ-1986م. تأويل مختلف الحديث، لعبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق محمد عبد الرحيم، دار الفكر، بيروت، 1415هـ-1995م. تخريج الدلالات السمعية على ما كان فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية، لأبى الحسن على بن محمد المعروف بالخزاعى التلمسانى، تحقيق الشيخ أحمد محمد أبو سلامة، طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1415هـ-1995م. تدريب الراوى شرح تقريب النواوى، لعبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى، تحقيق الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1399هـ-1979م. التصريح بما تواتر فى نزول المسيح، لمحمد أنور شاه الكشميرى، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1385هـ. تصحيح الكتب وضع الفهارس المعجمة، للأستاذ أحمد محمد شاكر، تحقيق الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت. التعليق المغنى على الدارقطنى، لأبى الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادى، تحقيق السيد عبد الله هاشم يمانى المدنى، دار المحاسن للطباعة بالقاهرة، 1386هـ.

تقييد العلم، لأبى بكر أحمد بن على، الشهير بالخطيب البغدادى، تحقيق يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، دمشق، الطبعة الثانية، 1974م. تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لأبى الحسن على بن محمد ابن عراق، تحقيق الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف، وعبد الله الغمارى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1401هـ-1981م. تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطى، دار الفكر، بيروت، 1414هـ-1994م. توضيح الأفكار لمعانى تنقيح الأنظار، لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعانى، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، مكتبة الخانجى، الطبعة الأولى 1366هـ. توجيه النظر إلى أصول الأثر، لطاهر بن صالح الجزائرى، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ. تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير، للدكتور مروان محمد شاهين، مكتب فوزى الشيمى للطباعى، بطنطا، بدون تاريخ. جامع بيان العلم وفضله، لابن عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، الطبعة المنيرية 1978م. جامع العلوم والحكم، لابن رجب، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة السادسة، 1415هـ-1995م. الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع، لأحمد بن على بن ثابت، المشهور بالخطيب البغدادى، تحقيق محمد رأفت سعيد، طبعة الفلاح، بدون تاريخ. الحديث النبوى، مصطلحه، بلاغته، كتبه، للدكتور محمد الصباغ، المكتب الإسلامى، الطبعة الرابعة 1402هـ-1982م. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبى نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهانى، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى 1357هـ-1938م، نشر وتصوير دار الكتب العلمية، بيروت. خبر الواحد فى السنة وأثره فى الفقه الإسلامى، للدكتورة سهير رشاد مهنا، دار الشروق بالقاهرة، الطبعة الأولى، بدون تاريخ.

دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبى بكر أحمد بن الحسين البيهقى، تحقيق الدكتور عبد المعطى قلعجى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م. الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة، للسيد الشريف محمد بن جعفر الكتانى، تحقيق محمد المنتصر بن جعفر الكتانى، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الرابعة 1406هـ-1986م. زاد المعاد فى هدى خير العباد، لأبى عبد الله محمد بن أبى بكر، المشهور بابن قيم الجوزية، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة 1407هـ-1986م. زاد المسلم فيما اتفق عليه البخارى ومسلم، لمحمد حبيب الله الشنقيطى، مطبعة مصر، 1954م. سلسلة الأحاديث الصحيحة وشئ من فقهها وفوائدها، لمحمد ناصر الدين الألبانى، المكتب الإسلامى، بيروت، الطبعة الثانية، 1399هـ-1979م. سنن ابن ماجة لأبى عبد الله بن محمد بن يزيد القزوينى، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى، مطبعة عيسى البابى الحلبى بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1374هـ-1954م. سنن أبى داود، لأبى داود سليمان بن الأشعث السجستانى، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، نشر وتصوير دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. سنن الترمذى، لأبى عيسى محمد بن عيسى بن سورة، تحقيق أحمد محمد شاكر، ومحمد فؤاد عبد الباقى، وإبراهيم عطوة عوض، طبعة مصطفى الحلبى بالقاهرة، 1385هـ، نشر وتصوير دار الحديث0 سنن الدارقطنى، لعلى بن عمر الدارقطنى، تحقيق السيد عبد الله هاشم يمانى المدنى، دار المحاسن للطباعة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1386هـ-1966م. سنن الدارمى، لأبى محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمى، تحقيق فواز أحمد زمرلى، وخالد السبع العلمى، دار الريان بالقاهرة، الطبعة الأولى،1407هـ-1987 0

سنن سعيد بن منصور، حقق منه مجلدة الشيخ حبيب الأعظمى، طبعة الدار السلفية، بالهند، 1403هـ-1982م، وحقق مجلدة أخرى من السنن الدكتور سعد بن عبد الله ابن عبد العزيز آل حميد، طبعة دار الأصميعى بالرياض، الطبعة الأولى 1414هـ-1993م. السنن الكبرى، لأبى بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقى، حيدر آباد الدكن، الهند، الطبعة الأولى 1344هـ-1925م، نشر وتصوير دار المعرفة، بيروت. السنن الكبرى للنسائى، لأبى عبد الرحمن أحمد بن على بن شعيب النسائى، تحقيق الدكتور عبد الغفار سليمان البندارى، وسيد كسورى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1411هـ-1991م. سنن النسائى (المسمى المجتبى) لأبى عبد الرحمن أحمد بن على بن شعيب النسائى، تحقيق الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الثانية، 1406هـ-1986م. السنة، لأبى بكر عمرو بن أبى عاصم الشيبانى، تحقيق ناصر الدين الألبانى، المكتب الإسلامى، بيروت، الطبعة الثالثة، 1413هـ-1993م. السنة والتشريع، للدكتور عبد المنعم النمر، دار الكتاب المصرى، الطبعة الثانية 1414هـ-1994م. سؤالات مسعود بن على السجزى مع أسئلة البغداديين عن أحوال الرواة، لأبى عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم، تحقيق الدكتور موفق بن عبد الله بن عبد القادر، دار الغرب الإسلامى، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م. السيرة النبوية، لأبى محمد بن الملك بن هشام المعافرى، تحقيق مصطفى السقا، وإبراهيم الإبيارى، وعبد الحفيظ شلبى، القاهرة 1955م، نشر وتصوير دار إحياء التراث العربى. شذرات من علوم السنة، للدكتور محمد الأحمدى أبو النور، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1406هـ-1986م. شرح ألفية العراقى المسماة بالتبصرة والتذكرة، لأبى الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقى، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. شرح الزرقانى على المواهب اللدنية، للقسطلانى، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1393هـ.

شرع الزرقانى على الموطأ، لمحمد بن عبد الباقى الزرقانى، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ-1996م. شرح السنة، لأبى محمد الحسين بن محمد البغوى، تحقيق زهير الشاويش، وشعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامى، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ-1983م. شرف أصحاب الحديث، ونصيحة أهل الحديث، كلاهما لأحمد بن على بن ثابت، المعروف بالخطيب البغدادى، تحقيق عمرو عبد المنعم سليم، مكتبة ابن تيمية بالقاهرة، الطبعة الأولى 1417هـ-1996م. شروط الأئمة الخمسة، لأبى بكر محمد بن موسى الحازمى، دار زاهد القدسى، بدون تاريخ. الشريعة، لأبى بكر محمد بن الحسينى الآجرى، تحقيق محمد حامد الفقى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ-1983م. الشفا بتعريف حقوق المصطفى، لأبى الفضل عياض اليحصبى، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. صحيح ابن حبان، بترتيب الأمير علاء الدين على بن بلبان الفارسى، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1414هـ-1993م صحيح ابن خزيمة، لأبى بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، تحقيق محمد مصطفى الأعظمى، المكتب الإسلامى، بيروت، الطبعة الثانية 1412هـ-1992م. صحيح البخارى، لأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى، مع فتح البارى، تحقيق محب الدين الخطيب، ومحمد فؤاد عبد الباقى، وقصى محب الدين الخطيب، دار الريان للتراث بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1407هـ-1986م. صحيح مسلم، لأبى الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى، مع المنهاج شرح مسلم للنووى، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى، وعصام الصبابطى، وآخرون، دار الحديث بالقاهرة، الطبعة الأولى 1415هـ-1994م. الصمت وحفظ اللسان، لأبى بكر عبد الله بن محمد بن أبى الدنيا، تحقيق الدكتور محمد أحمد عاشور، دار الاعتصام، الطبعة الأولى، 1406هـ-1986م. الطب فى السنة، للدكتور محمد أحمد السنهورى، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة، رقم 1855 0

طرح التثريب فى شرح التقريب، لعبد الرحيم بن الحسين العراقى، وولده أبى زرعة، دار إحياء التراث العربى، بيروت، بدون تاريخ. طرق تخريج حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، للدكتور عبد المهدى عبد القادر، دار الاعتصام بالقاهرة، بدون تاريخ. عقد الدرر فى أخبار المنتظر، ليوسف بن يحيى المقدسى، تحقيق الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، مكتبة عالم الفكر، الطبعة الأولى 1299هـ-1979م. علل الحديث، لابن أبى حاتم الرازى تحقيق محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1405هـ-1985م. علم الحديث، لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق مسلم محمد على، دار الكتب الإسلامية بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1404هـ-1984م. علوم الحديث ومصطلحه، للدكتور صبحى الصالح، دار العلم، بيروت، الطبعة الحادية والعشرون، 1977م. علوم الحديث، لابن عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزورى المعروف بابن الصلاح، تحقيق صلاح عويضة، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1416هـ-1995م. عمدة القارى، شرح صحيح البخارى، لأبى محمد محمود بن أحمد العينى، مطبعة مصطفى الحلبى، القاهرة، الطبعة الأولى 1392هـ. عون المعبود شرح سنن أبى داود، لأبى الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادى، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية، 1389هـ. فتح البارى بشرح صحيح البخارى لأبى الفضل أحمد بن على المعروف بابن حجر، تحقيق محب الدين الخطيب، ومحمد فؤاد عبد الباقى، وقصى محب الدين الخطيب، دار الريان للتراث بالقاهرة، الطبعة الأولى 1407هـ-1986م. فتح الباقى على ألفية العراقى، لأبى يحيى زكريا بن محمد الأنصارى، تحقيق محمد بن الحسينى العراقى، دار الكتب العلمية، بيروت، بهامش شرح ألفية العراقى المسماه بالتبصرة والتذكرة.

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث، لأبى الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقى، تحقيق أحمد محمد شاكر، ومحمود ربيع، مكتبة السنة، بالقاهرة، الطبعة الثانية 1408هـ-1988م. فتح المغيث شرح ألفية الحديث، لأبى عبد الله محمد بن عبد الرحمن السخاوى تحقيق صلاح محمد عويضة، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1414هـ-1993م. فتح المنعم شرح صحيح مسلم، للدكتور موسى شاهين لاشين، مطبعة الفجر الجديد، بدون تاريخ. الفكر المنهجى عند المحدثين، للدكتور همام عبد الرحيم سعيد، كتاب الأمة، الطبعة الأولى 1408هـ. الفوائد المجموعة فى الأحاديث الموضوعة، لمحمد بن على الشوكانى، تحقيق عبد الرحمن المعلمى اليمانى، وعبد الوهاب عبد اللطيف، مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة، 1380هـ-1960م. فى رحاب السنة، الكتب الصحاح الستة، للدكتور محمد محمد أبو شهبة، طبعة مجمع البحوث الإسلامية، 1389هـ-1969م. فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرؤوف المناوى، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1391هـ-1972م. قاعدة فى الجرح والتعديل، وقاعدة فى المؤرخين، لأبى نصر عبد الوهاب بن على السبكى، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، دار الوعى، حلب، الطبعة الثانية،1398هـ- 1978م. قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، لمحمد جمال الدين القاسمى، تحقيق محمد بهجة البيطار، عيسى البابى الحلبى، الطبعة الأولى، 1399هـ-1979م. القول المسدد فى الذب عن المسند، لابن حجر العسقلانى، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، اليمامة، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ-1985م. كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، لإسماعيل بن محمد العجلونى، تحقيق محمد عبد العزيز الخالدى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ-1997م.

كشف اللثام عن أسرار تخريج أحاديث سيد الأنام صلى الله عليه وسلم، للدكتور عبد الموجود عبد اللطيف، الناشر مكتبة الأزهر، بالقاهرة، دار الطباعة المحمدية، الطبعة الأولى 1404هـ-1984م. كنز العمال فى سنن الأقوال والأفعال، للعلامة علاء الدين على المتقى الهندى، تحقيق الشيخ بكرى حياتى، والشيخ صفوة السقا، طبعة مؤسسة الرسالة، سنة 1413هـ-1993م. الكفاية فى علم الرواية، لأبى بكر أحمد بن على، الشهير بالخطيب البغدادى، تحقيق محمد الحافظ التيجانى، وعبد الحليم محمد، وعبد الرحمن حسن، دار ابن تيمية، بالقاهرة، 1410هـ-1990م. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ لعلى بن أبى بكر الهيثمى، دار الكتاب العربى، بيروت، الطبعة الثالثة، 1402هـ-1982م. مجموعة الحديث الصديقية، لآل الصديق الغمارى، مكتبة القاهرة، مصر، بدون تاريخ. مختلف الحديث بين الفقهاء والمحدثين، للدكتور نافذ حسين حماد، دار الوفاء، بالمنصورة، الطبعة الأولى 1414هـ-1993م. المراسيل، لأبى داود سليمان بن أشعث السجستانى، تحقيق كمال يوسف الحوت، دار الجنان، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م. المستدرك على الصحيحين، لأبى عبد الله الحاكم، تحقيق مصطفى عبد القاهر عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411هـ-1990م. مسند أبى داود الطيالسى، للحافظ سليمان بن داود بن الجارود، الشهير بأبى داود الطيالسى، مطبعة حيدر آباد الدكن، الهند، الطبعة الأولى، 1321هـ-1903م، تصوير دار المعرفة، بيروت. مسند الإمام أحمد بن حنبل، للإمام أبى عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، المطبعة الميمنية بالقاهرة، الطبعة الأولى 1313هـ-1895م، تصوير المكتب الإسلامى، بيروت، الطبعة الرابعة 1403هـ-1983م. مسند الإمام الشافعى، لأبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعى، تحقيق سعيد محمد اللحام، وحياة شيحا، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ-1996م.

مسند الإمام عبد الله بن المبارك، تحقيق صحبى البدرى السامرائى، مكتبة المعارف بالرياض، الطبعة الأولى 1407هـ-1987م. مشكل الآثار، لأبى جعفر الطحاوى، الناشر دار صادر، بيروت، مطبعة حيدر آباد الدكن، بالهند، الطبعة الأولى 1333هـ. مصباح الزجاجة فى زوائد ابن ماجة، لأحمد بن أبى بكر البوصيرى، تحقيق موسى محمد على، ودكتور عزت على عطية، دار الكتب الحديثة بالقاهرة، بدون تاريخ. معالم السنن، لأبى سليمان أحمد بن محمد الخطابى، المكتبة العلمية، الطبعة الأولى، 1351هـ-1981م. معرفة علوم الحديث، لأبى عبد الله الحاكم، تحقيق الدكتور السيد معظم حسين، حيدر آباد الدكن، بالهند، نشر مكتبة المتنبى بالقاهرة، الطبعة الثانية 1397هـ. المعين الرائق فى سيرة سيد الخلائق، للدكتور سعيد محمد صوابى، والدكتور توفيق سالمان، والدكتور إسماعيل مخلوف، 1410هـ-1990م. المعجم الأوسط، لأبى القاسم سليمان بن أحمد، الشهير بالطبرانى، تحقيق الدكتور محمود الطحان، صدر منه 3أجزاء، مكتبة المعارف، بالرياض، الطبعة الأولى 1406هـ-1986م. المعجم الصغير، للطبرانى، تحقيق محمد سليم سمارة، دار إحياء التراث العربى، الطبعة الأولى 1992م. المعجم الكبير، للطبرانى، صدر منه 25 جزء، وناقص أجزاء 15، 16، 21، تحقيق حمدى عبد المجيد السلفى، الدار العربية للطباعة، الطبعة الأولى 1398هـ. مفتاح السنة أو تاريخ فنون الحديث، للأستاذ محمد عبد العزيز الخولى، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. مفتاح كنوز السنة، للدكتور أ. ى. فنسنك، إدارة ترجمان السنة، باكستان 1397هـ-1977م. مقاصد الحديث فى القديم والحديث، للدكتور مصطفى أمين إبراهيم التازى، مطبعة دار التأليف بالقاهرة، الطبعة الثالثة، 1971م.

المقاصد الحسنة فى بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، لأبى الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوى، تحقيق عبد الله محمد الصديق، وعبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة الخانجى بالقاهرة، الطبعة الثانية، 1412هـ-1991م.

157- مكارم الأخلاق، لأبى بكر عبد الله بن محمد بن أبى الدنيا، تحقيق الأستاذ محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ-1989م. 158- المكانة العلمية لعبد الرازق بن همام الصنعانى فى الحديث النبوى، لأستاذنا الجليل الدكتور إسماعيل عبد الخالق الدفتار، مخطوط بكلية أصول الدين، بالقاهرة، رقم 2332، لسنة 1396هـ-1976م. 159- المنار المنيف فى الصحيح والضعيف، لأبى عبد الله محمد بن أبى بكر، الشهير، بابن قيم الجوزية، تحقيق الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة مكتب المطبوعات الإسلامية، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ-1983م. 160- منتخب كنز العمال فى سنن الأقوال والأفعال، للمتقى الهندى، مطبعة الميمنية، بالقاهرة، تصوير المكتب الإسلامى، بيروت، الطبعة الرابعة 1403هـ-1983م، بهامش مسند الإمام أحمد. 161- المنتقى من السنن المسندة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأبى محمد عبد الله بن الجارود، فهرسة عبد الله البارودى، دار الجنان، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م. 162- المنهاج شرح مسلم، لأبى زكريا يحيى بن شرف النووى، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى، وعصام الصبابطى وآخرون، دار الحديث بالقاهرة، الطبعة الأولى 1415هـ-1994م. 163- المنهج الإسلامى فى الجرح والتعديل، للدكتور فاروق حمادة، مكتبة المعارف، المغرب، الطبعة الأولى 1402هـ-1982م. 164- منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوى، للدكتور صلاح الدين الأدلبى، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ-1983م. 165- منهج النقد فى علوم الحديث، للدكتور نور الدين عتر، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة 1412هـ-1992م. 166- الموضوعات، لأبى الفرج عبد الرحمن بن الجوزى، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ-1983م.

ثالثا: الفقه وأصوله:

167- موطأ الإمام مالك، لأبى عبد الله مالك بن أنس، برواية يحيى الليثى، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى، دار الحديث بالقاهرة، الطبعة الثانية، 1413هـ-1993م. وبرواية محمد الشيبانى، تحقيق الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف، دار القلم، بيروت، بدون تاريخ. 168- نزول عيسى بن مريم، آخر الزمان، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، تحقيق محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. 169- نزهة النظر شرع نخبة الفكر فى مصطلح أهل الأثر، لابن حجر العسقلانى، تحقيق إسحاق عزوز، مكتبة منارة العلماء، الإسماعيلية، القاهرة، 1409هـ-1989م. 170- نظم المتناثر من الحديث المتواتر، للسيد محمد بن جعفر الكتانى، دار الكتب السلفية، القاهرة، الطبعة الثانية، بدون تاريخ. 171- النكت البديعات على الموضوعات، لأبى الفضل جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، تحقيق عامر أحمد حيدر، دار الجنان، الطبعة الأولى 1411هـ-1991م. 172- نوادر الأصول فى معرفة أحاديث الرسول، لأبى عبد الله محمد الحكيم الترمذى، تحقيق الدكتور أحمد عبد الرحيم السايح، والدكتور السيد الجميلى، دار الريان بالقاهرة، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م. 173- النهاية فى غريب الحديث والأثر، لأبى السعادات، المبارك بن الأثير، تحقيق محمود محمد الطناحى، وطاهر أحمد الزاوى، مطبعة عيسى البابى الحلبى1385هـ-1965م 174- هذا عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إلينا خبر الآحاد، لمصطفى محمد سلامة، مكتبة ابن حجر بمكة المكرمة، بدون تاريخ. 175- الوضع فى الحديث، للدكتور عمر بن حسن عثمان فلاته، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة، رقم 901 لسنة 1397هـ-1977م. ثالثاً: الفقه وأصوله: 176- الإبهاج فى شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول، (للقاضى البيضاوى) ، لعلى بن عبد الكافى السبكى، وولده عبد الوهاب السبكى، حققه جماعة من العلماء، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ-1984م.

177- الإحكام فى أصول الأحكام، لأبى محمد على بن أحمد، الشهير بابن حزم، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ-1985م. 178- الإحكام فى أصول الأحكام، لأبى الحسن على بن محمد الآمدى، مطبعة الحلبى بالقاهرة، 1387هـ-1967م. 179- الأدلة المختلف فيها وأثرها فى الفقه الإسلامى، للدكتور عبد الحميد أبو المكارم إسماعيل، مطبعة دار ماجد بالقاهرة، الناشر دار المسلم، بدون تاريخ. 180- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، لأبى على محمد بن على الشوكانى، تحقيق الدكتور شعبان محمد إسماعيل، دار الكتب، القاهرة، بدون تاريخ. 181- أصول السرخسى، لأبى بكر محمد بن أحمد السرخسى، تحقيق أبو الوفا الأفغانى، حيدر آباد الدكن بالهند، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ-1993م. 182- أصول الفقه، للشيخ محمد الخضرى، دار الحديث بالقاهرة، بدون تاريخ. 183- أصول الفقه الإسلامى، للدكتور طه جابر العلوانى، طبعة المعهد العالمى للفكر الإسلامى، هيرندن، الولايات المتحدة، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م. 184- أصول الفقه، تاريخه ورجاله، للدكتور شعبان إسماعيل، دار المريخ للنشر بالرياض، الطبعة الأولى 1401هـ. 185- أعلام الموقعين عن رب العالمين، لأبى عبد الله محمد بن أبى بكر، الشهير بابن قيم الجوزية، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، الطبعة الأولى 1374هـ. 186- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن قيم الجوزية، تحقيق محمد سيد كيلانى، النور الإسلامية، بيروت، بدون تاريخ. 187- الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعى، تحقيق محمد زهدى النجار، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1393هـ-1973م. 188- الإنصاف فى بيان سبب الاختلاف فى الأحكام الفقهية، لأحمد بن عبد الرحيم الدهلوى، خال من تاريخ الطبع ومكانه0

189- البحر المحيط فى أصول الفقه، لبدر الدين محمد بن بهادر، الشهير بالزركشى، تحقيق عبد القادر العانى، والدكتور عمر سليمان الأشقر، دار الصفوة بالغردقة، الطبعة الثانية، 1413هـ-1992م. 190- البرهان فى أصول الفقه، لأبى المعالى عبد الملك بن عبد الله الجوينى، تحقيق صلاح محمد عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ-1997م. 191- تاريخ التشريع الإسلامى، للشيخ محمد الخضرى، طبعة دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1414هـ-1994م. 192- التحرير فى أصول الفقه، لكمال الدين محمد بن الهمام، طبعة مصطفى الحلبى بالقاهرة، 1350هـ. 193- التقرير والتحبير، لمحمد بن الحسن بن أمير الحاج، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1403هـ-1983م، تصوير على طبعة المطبعة الأميرية بالقاهرة. 194- تقرير الاستناد فى تفسير الاجتهاد، للإمام السيوطى، تحقيق المستشار الدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد، دار الدعوة بالإسكندرية، الطبعة الأولى 1403هـ-1983م. 195- التلويح فى كشف حقائق التنقيح، لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازانى، مطبعة محمد على صبيح، ميدان الأزهر بالقاهرة، بدون تاريخ. 196- تيسير التحرير شرح كتاب التحرير، (لكمال الدين محمد بن عبد الواحد ابن الهمام) لمحمد أمين، المعروف بأمير بادشاه الحنفى، مطبعة عيسى الحلبى بالقاهرة1350هـ 197- الدراية فى تخريج أحاديث الهداية، للإمام ابن حجر العسقلانى، تحقيق السيد عبد الله هاشم اليمانى، مطبعة الفجالة الجديدة بالقاهرة، 1384هـ-1964م. 198- الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعى، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الفكر، بيروت، 1309هـ. 199- سبل السلام، شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام، لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعانى، تحقيق إبراهيم عصر، دار الحديث بالقاهرة، بدون تأريخ0

200- شرح الفقه الأكبر، لأبى منصور الحنفى، طبعة الشئون الدينية بقطر، ولملا على القارى، مطبعة مصطفى الحلبى 1375هـ-1955م. 201- صحة أصول مذهب أهل المدينة، للإمام ابن تيمية، دار الندوة الجديدة، بيروت، بدون تاريخ. 202- علم أصول الفقه، للشيخ عبد الوهاب خلاف، مكتبة الدعوة الإسلامية بالقاهرة، الطبعة الثامنة، بدون تاريخ. 203- علم أصول الفقه وتاريخ التشريع الإسلامى، للشيخ أحمد إبراهيم، طبعة دار الأنصار بالقاهرة، بدون تاريخ. 204- علم الفقه، للدكتور عبد المنعم النمر، مطبعة الخلود، بغداد، 1990م. 205- غاية الوصول شرح لب الأصول، لزكريا الأنصارى، مطبعة مصطفى الحلبى بالقاهرة، الطبعة الأخيرة 1360هـ. 206- الفتاوى، للإمام الأكبر محمود شلتوت، دار الشروق بالقاهرة، الطبعة السابعة عشر 1417هـ-1997م. 207- الفتح المبين فى طبقات الأصوليين، لعبد الله مصطفى المراغى، الطبعة الثانية، بيروت، 1394هـ-1974م. 208- الفقيه والمتفقه، لأبى بكر أحمد بن على الخطيب البغدادى، تحقيق عادل يوسف العزازى، دار ابن الجوزى بالرياض، الطبعة الأولى 1417هـ-1997م، توزيع دار التوعية الإسلامية، مصر. 209- الفقه الإسلامى، مرونته، وتطوره، للإمام الأكبر الشيخ جاد الحق على جاد الحق، طبعة الأمانة العامة اللجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف، بدون تاريخ. 210- فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، لعبد العلى محمد بن نظام الأنصارى، المطبعة الأميرية ببولاق، 1322هـ مطبوع بهامش المستصفى. 211- قواعد الإحكام فى مصالح الأنام، للإمام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، مؤسسة الريان، بيروت، 1410هـ-1990م. 212- مجموع الفتاوى، لابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد النجدى، توزيع الرئاسة العامة لشئون الحرمين 1404هـ. 213- المحصول فى أصول الفقه، لفخر الدين محمد بن عمر الرازى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م.

رابعا: التوحيد والفرق والمذاهب:

214- مختصر المنتهى الأصولى لعثمان بن عمر بن الحاجب، تحقيق شعبان محمد إسماعيل، مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، 1393هـ. 215- المستصفى من علم الأصول، لأبى حامد محمد الغزالى، المطبعة الأميرية بالقاهرة 1322هـ. 216- المسودة فى أصول الفقه، لآل تيمية، جمع: أحمد عبد الغنى، تحقيق محمد محى الدين عبد الحميد، دار الكتاب العربى، بيروت، بدون تاريخ. 217- مصادر الشريعة الإسلامية مقارنة بالمصادر الدستورية، للمستشار الدكتور على جريشة، مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1399هـ-1979م. 218- المعتمد فى أصول الفقه، لأبى الحسين محمد بن على البصرى، قدم له خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. 219- الموافقات فى أصول الشريعة، لأبى إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى، تحقيق عبد الله دارز، وإبراهيم رمضان، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية 1416هـ-1996م. 220- مناهج العقول شرح منهاج الأصول، لمحمد بن الحسن البدخشى، مطبعة محمد على صبيح بالقاهرة، بهامش نهاية السول0 221- الميزان للشعرانى، مصطفى البابى الحلبى 1359هـ. 222- نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية، للإمام عبد الله بن يوسف الزيلعى، دار المأمون بالقاهرة، 1357هـ-1938م. 223- نظرة عامة فى تاريخ الفقه الإسلامى، للدكتور على حسن عبد القادر، دار الكتب الحديثة، الطبعة الثالثة 1965م. 224- نهاية السول فى شرح منهاج الوصول على علم الأصول، لجمال الدين عبد الرحيم الأسنوى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ-1983م، تصوير على طبعة المطبعة الأميرية بالقاهرة، بهامش التقرير والتحبير. 225- نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار، لمحمد بن على الشوكانى، دار الجيل، بيروت، 1973م. رابعاً: التوحيد والفرق والمذاهب: 226- الإبانة عن أصول الديانة، لأبى الحسن الأشعرى، تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود، دار الأنصار بالقاهرة، الطبعة الأولى 1397هـ-1977م.

227- التذكرة فى أحوال الموتى وأمور الآخرة، لأبى عبد الله محمد بن أحمد القرطبى، تحقيق الدكتور فتحى أنوار الدابولى، ومجدى فتحى السيد، دار الصحابة، طنطا، الطبعة الأولى 1415هـ-1994م. 228- الاتجاه الإعتزالى فى الفكر الإسلامى الحديث، للدكتور أحمد محمد عبد العال، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة، رقم 1650، سنة 1406هـ-1986م. 229- أثر الإمامة فى الفقه الجعفرى وأصوله، للدكتور على أحمد السالوس، الناشر: المؤسسة الأفروعربية للنشر بالقاهرة، الطبعة الثانية 1402هـ-1982م. 230- أدب المعتزلة، للدكتور عبد الحليم بليغ، مطبعة الرسالة بمصر، الطبعة الثانية 1969م. 231- آراء المعتزلة الأصولية، دراسة وتقويماً، للدكتور على بن سعد بن صالح، مكتبة الرشد بالرياض، الطبعة الثانية 1417هـ-1996م. 232- الأربعين فى أصول الدين، لفخر الدين محمد بن عمر الخطيب الرازى، مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة، بدون تاريخ. 233- الإرشاد إلى قواطع الأدلة فى أصول الاعتقاد، للإمام الحرمين عبد الملك الجوينى، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ. 234- الأسماء والصفات، لأحمد بن الحسين البيهقى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ. 235- الصارم المسلول على شاتم الرسول، لابن تيمية، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، طبع عالم الكتب 1402هـ-1982م. 236- أصل الشيعة وأصولها، لمحمد الحسين آل كاشف الغطاء، مؤسسة الأعلمى للمطبوعات، بيروت، الطبعة الرابعة 1413هـ-1993م. 237- أصول الدين، لأبى منصور عبد القادر البغدادى، مطبعة الدولة، استنبول، الطبعة الأولى 1346هـ-1928م. 238- أصول العقيدة بين المعتزلة والشيعة الأمامية، للدكتورة عائشة يوسف المناعى، دار الثقافة، قطر، الطبعة الأولى، 1412هـ-1992م. 239-الاعتصام، لأبى إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى، تحقيق محمود طعمة حلبى، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ-1997م.

240- إظهار الحق، لرحمت الله الهندى، تحقيق أحمد حجازى السقا، الطبعة الثانية 1406هـ-1986م. 241- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، تحقيق صلاح عويضة، مكتبة الإيمان بالمنصورة، الطبعة الأولى 1417هـ-1996م. 242- الانتصار والرد على ابن الراوندى الملحد، لأبى الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط، تحقيق محمد حجازى، مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة، بدون تاريخ. 243- الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، لأبى بكر بن الطيب الباقلانى، تحقيق محمد زاهد الحسن الكوثرى، الناشر: مكتبة الخانجى بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1413هـ-1993م. 244- البابية والبهائية فى الميزان، لمجموعة من العلماء، مطبوعات الأزهر، بدون تاريخ. 245- بيان تلبيس الجهمية فى تأسيس بدعهم الكلامية، لابن تيمية، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة، الطبعة الأولى 1391هـ. 246- البهائية فى خدمة الاستعمار، نشر: منظمة الإعلام الإسلامى، طبعة: سبهر-طهران، 1405هـ-1985م. 247- البهائية وسائل وغايات، لأستاذنا الدكتور طه الدسوقى حبيشى، دار الهدى للطباعة بالقاهرة، الطبعة الأولى، بدون تاريخ. 248- تاريخ المذاهب الإسلامية فى السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية، لمحمد أبو زهرة، دار الفكر العربى، بالقاهرة، بدون تاريخ. 249- تطهير الجنان واللسان، لابن حجر الهيتمى، تحقيق الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة القاهرة، بمصر، الطبعة الثانية، 1385هـ – 1965م. 250 – التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، لمحمد بن أحمد الملطى، تحقيق محمد زاهد الكوثرى، مكتبة المثنى، بغداد 1388هـ – 1968م. 251- التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل، لمحمد بن اسحاق بن خزيمة، تحقيق الدكتور عبد العزيز الشموان، دار الرشد، بالرياض، الطبعة الأولى 1408هـ. 252- جهم بن صفوان ومكانته فى الفكر الإسلامى، لخالد العلى، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1965م.

253- حادى الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن قيم الجوزية، مطبعة المدنى، بالقاهرة، بدون تاريخ. 254- الحقائق الجلية فى الرد على ابن تيمية فيما أورده فى الفتوى الحموية، للشيخ شهاب الدين أحمد بن جهبل الحلبى، تحقيق الدكتور طه الدسوقى حبيشى، دار الفجر الجديد بالقاهرة، 1987م. 255- الخطوط العريضة، لمحب الدين الخطيب، تحقيق محمد مال الله، المطبعة الفنية، بالقاهرة، بدون تاريخ. 256- الخلافة ونشأة الأحزاب السياسية، للدكتور محمد عمارة، مطبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1977م. 257- دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، لأبى الفرج عبد الرحمن بن الجوزى، تحقيق حسن السقاف، دار الإمام النووى، بالأردن، الطبعة الثالثة 1413هـ- 1992م. 258- رسائل الجاحظ من كتاب خلق القرآن، لعمرو بن بحر الجاحظ، مكتبة الخانجى، بالقاهرة، 1979م. 259- رسائل العدل والتوحيد، للدكتور محمد عمارة، مكتبة وهبة، القاهرة. 260- رسائل العدل والتوحيد، ليحيى بن الحسين، مؤسسة دار الهلال، 1971م. 261- الروح، لابن قيم الجوزية، تحقيق محمد إسكندز يلدا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1402هـ – 1982م. 262- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم، لأبى القاسم بن الحسن الطبرى اللالكائى، تحقيق أحمد سعد حمدان، دار طيبة للنشر، بدون تاريخ. 263- شرح الأصول الخمسة، للقاضى عبد الجبار الهمدانى، تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1416هـ- 1996م. 264- شرح الطحاوية فى العقيدة السلفية، لعلى بن أبى العز الحنفى، تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة، مكتبة المعارف بالرياض، الطبعة الثانية 1407هـ- 1986م. 265- شفاء العليل فى مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، لابن قيم الجوزية، مطبعة دار التراث، بالقاهرة، بدون تاريخ.

266- شرح القصيدة النونية، المسماة الكافية الشافية فى الانتصار للفرقة الناجية، لابن قيم الجوزية، تحقيق الدكتور محمد خليل هراس، دار الفاروق الحديثة بالقاهرة، بدون تاريخ. 267- شرح لمعة الاعتقاد الهادى إلى سبيل الرشاد، لموفق الدين عبد الله بن أحمد ابن قدامة المقدسى، مكتبة الرشد بالرياض، الطبعة الثالثة 1405هـ- 1985م. 268- الشيعة الإثنى عشرية ومنهجهم فى تفسير القرآن الكريم، للدكتور محمد إبراهيم العسال، مخطوط بكلية أصول الدين، بالقاهرة، رقم 1160 0 269- الشيعة فى عقائدهم وأحكامهم، للسيد أمير محمد القزوينى، دار الزهراء، بيروت، الطبعة الثالثة، 1397هـ- 1977م. 270- الشيعة هم أهل السنة، للدكتور محمد التيجانى السماوى، شمس المشرق ومؤسسة الفجر، لندن، الطبعة الأولى 1413هـ- 1993م. 271- الشيعة والشيع، لمحمد جواد مغنية، دار الكتاب البنانى، بدون تاريخ. 272- الشيعة والتصحيح، الصراع بين الشيعة والتشيع، للدكتور موسى الموسوى، طبعة لوس أنجلوس 1408هـ- 1978م. 273- الشيعة والسنة، لإحسان إلهى ظهير، إدارة ترجمان السنة، باكستان، بدون تاريخ. 274- الصواعق المحرقة فى الرد على أهل البدع والزندقة، لأحمد بن حجر الهيتمى، تحقيق الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة القاهرة بمصر، الطبعة الثانية 1385هـ-1965م. 275- العصريون معتزلة اليوم، للأستاذ يوسف كمال، دار الوفاء، بالمنصورة، الطبعة الأولى 1406هـ-1986م. 276- العقيدة الصحيحة فى الله وما ثار حولها من مشكلات، للحافظ عبد الغنى بن إسماعيل النابلسى، دار مسلم، القاهرة، بدون تاريخ. 277- العقيدة والشريعة فى الإسلام، تاريخ التطور العقدى والتشريعى فى الدين الإسلامى، لجولدتسهير، نقله إلى العربية الدكتور على حسن عبد القاهر، ومحمد يوسف موسى، وعبد العزيز عبد الحق، الناشر: دار الكتب الحديثة بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.

278- العلمانية: نشأتها، وتطورها، وآثارها فى الحياة الإسلامية المعاصرة، للدكتور سفر ابن عبد الرحمن الحوالى، دار مكة، الطبعة الأولى 1402هـ-1982م. 279- الغيب فى ضوء القرآن الكريم، للدكتور صدقى عبد الحميد عبد ربه، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة، رقم 1113 0 280- الغيبيات فى ضوء السنة، للدكتور محمد أحمد همام، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة رقم 1864 0 281- الفصل فى الملل والأهواء والنحل، لأبى محمد على بن حزم الظاهرى، مكتبة الخانجى بالقاهرة، بدون تاريخ. 282- الفرق بين الفرق، لعبد القادر بن طاهر البغدادى، تحقيق إبراهيم رمضان، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ-1994م. 283- فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وموقف الإسلام منها، للدكتور غالب على عواجى، مكتبة لينة بدمنهور، الطبعة الأولى 1414هـ-1993م. 284- القاديانية، للإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين، طبعة مجمع البحوث الإسلامية 1389هـ-1970م. 285- القاديانية ومصيرها فى التاريخ، للدكتور طه حبيشى، دار الطباعة المحمدية بالقاهرة، الطبعة الأولى 1409هـ-1989م. 286- الكواشف الجلية عن معانى الوسطية، لعبد العزيز محمد السلمان، شركة الراجحى، الطبعة العاشرة 1401هـ-1981م. 287- المحيط بالتكليف، للقاضى عبد الجبار، جمع الحسن بن أحمد بن منتوية، المؤسسة المصرية العامة للتأليف بالقاهرة. 288- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية: شرح الدرر المضيئة فى عقيدة الفرق المرضية، لمحمد أحمد السفارينى، مكتبة أسامة بالرياض، بدون تاريخ. 289- مختصر التحفة الإثنى عشرية، تأليف شاه عبد العزيز الإمام ولى الله أحمد الدهلوى، تعريب غلام محمد الأسلمى، وتهذيب السيد محمود شكرى الألوسى، تحقيق محب الدين الخطيب، طبعة الرئاسة العامة للإفتاء والإرشاد بالسعودية 1404هـ.

290- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية، تحقيق سيد إبراهيم، دار الحديث بالقاهرة، الطبعة الأولى 1412هـ-1992م. 291- مذاهب التفسير الإسلامى، لجولد تسهير، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار، مكتبة الخانجى بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد، 1374هـ-1955م. 292- مع الدكتور موسى الموسوى فى كتابه الشيعة والتصحيح، للدكتور علاء الدين السيد أمير القزوينى، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، قم، إيران، الطبعة الثانية 1414هـ-1994م. 293- المعتزلة، زهدى حسن جاد الله، مطبعة مصر، الطبعة الأولى 1366هـ-1948م. 294- المعتزلة واتجاههم العقلى وأثره فى تطور الفكر الإسلامى الحديث، للدكتور نشأت عبد الجواد، مخطوط بكلية أصول الدين، بالقاهرة، رقم 1841 0 295- المعتزلة وأصولهم الخمسة، وموقف أهل السنة منها، للأستاذ عواد بن عبد الله المعتق، مكتبة الرشد بالرياض، الطبعة الثالثة 1417هـ-1996م. 296- مع الشيعة الإثنى عشرية فى الأصول والفروع، للدكتور على أحمد السالوس، دار التقوى بمصر، دار الثقافة، قطر، الطبعة الأولى 1417هـ-1997م. 297- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، لأبى الحسن الأشعرى، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثانية 1389هـ-1984م. 298- الملل والنحل، لأبى الفتح محمد عبد الكريم الشهرستانى، تحقيق أحمد فهمى محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. 299- منهاج السنة النبوية فى نقض كلام الشيعة والقدرية، لأبى العباس أحمد بن تيمية، المطبعة الأميرية، ببولاق، الطبعة الأولى1321هـ، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت 300- الموسوعة الميسرة فى الأديان والمذاهب المعاصرة، إصدار الندوة العالمية للشباب الإسلامى بالرياض، الطبعة الثانية 1409هـ-1989م. 301- موقف المعتزلة من السنة ومواطن انحرافهم عنها، لأبى لبابة حسين، دار اللواء بالرياض، الطبعة الثانية 1407هـ-1987م.

302- النبوات، لابن تيمية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ-1985م. 303- نظام الخلافة بين أهل السنة والشيعة، للدكتور مصطفى حلمى، دار الدعوة، بالإسكندرية، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م. 304- وجهة الإسلام، نظرة فى الحركات الحديثة فى العالم الإسلامى، لجماعة من المستشرقين، نقله عن الإنكليزية محمد عبد الهادى أبو ريدة، المكتبة التجارية بمصر، الطبعة الأولى، بدون تاريخ. 305- الوشيعة فى نقد عقائد الشيعة، لموسى جار الله العراقى، دار الكتب السلفية بالقاهرة، الطبعة الأولى 1403هـ.

خامسا: التاريخ والتراجم:

خامساً: التاريخ والتراجم: 306- أدباء العرب فى الجاهلية وصدر الإسلام، لبطرس البستانى، دار مأمون عبود 1979م. 307- الإرشاد فى معرفة علماء الحديث، للخليل بن عبد الله الخليلى القزوينى، تحقيق عامر أحمد حيدر، دار الفكر، بيروت، 1414هـ-1993م. 308- الاستيعاب فى معرفة الأصحاب، لأبى عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، تحقيق على محمد البجاوى، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ-1992م. 309- اسد الغابة فى معرفة الصحابة، لأبى الحسن على بن محمد الجزرى، تحقيق على محمد معوض، وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ-1994م. 310- إشارة التعيين فى تراجم النحاة واللغويين، لأبى المحاسن عبد الباقى بن على اليمانى، تحقيق عبد المجيد دياب، شركة الطباعة العربية، الرياض، 1406هـ. 311- الإصابة فى تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلانى، مطبعة دار السعادة بالقاهرة، 1328هـ. 312- الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، لخير الدين الزركلى، دار العلم، بيروت، الطبعة السادسة 1984م. 313- الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، لمحمد بن عبد الرحمن السخاوى، تحقيق محمد عثمان الخشت، مكتبة ابن سينا بالقاهرة، بدون تاريخ. 314- إنباه الرواه على أنباه النحاة، لأبى الحسن على بن يوسف القفطى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الكتب المصرية، الطبعة الأولى 1950 0 315- البداية والنهاية فى التاريخ، لأبى الفداء إسماعيل بن كثير، تحقيق الدكتور أحمد أبو ملحم، وآخرون، دار الريان للتراث بالقاهرة، الطبعة الأولى1408هـ-1988م. 316- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن على الشوكانى، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ. 317- بغية الوعاة، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى الحلبى، الطبعة الأولى 1384هـ-1964م.

318- البيان والتوضيح، لمن أخرج له فى الصحيح ومس بضرب من التجريح، لأبى زرعة عبد الرحيم بن الحسين العراقى، تحقيق كمال يوسف الحوت، دار الجنان، بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ-1990م. 319- تاج التراجم فى طبقات الحنفية، لأبى الفداء قاسم بن قطلوبغا، تحقيق محمد خير رمضان يوسف، دار القلم، بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ-1992م. 320- تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، لمحمد رشيد رضا، مطبعة المنار بمصر، الطبعة الأولى 1350هـ-1931م. 321- تاريخ بغداد، للخطيب البغدادى، تصحيح محمد سعيد العرفى، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى 1349هـ-1930م، تصوير دار الكتب العلمية. 322- تاريخ الثقات، لأبى الحسن أحمد بن عبد الله العجلى، بترتيب الحافظ الهيثمى، وتضمينات الحافظ ابن حجر، تحقيق الدكتور عبد المعطى أمين قلعجى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ-1984م. 323- تاريخ الشعوب الإسلامية، لكارل بروكلمان، دار العلم، بيروت، الطبعة السادسة، بدون تاريخ. 324- تاريخ الصحابة الذين روى عنهم الأخبار، لأبى حاتم محمد بن حبان البستى، تحقيق بوران الضناوى، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م. 325- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، لابن حجر العسقلانى، تحقيق على محمد البجاوى، المؤسسة المصرية للتأليف، الطبعة الأولى 1383هـ-1963م. 326- تجريد أسماء الصحابة، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الذهبى، نشر وتصوير دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ. 327- تذكرة الحفاظ، للذهبى، تصحيح عبد الرحمن المعلمى اليمانى، حيدر آباد الكن، الهند، الطبعة الأولى 1395هـ-1975م. 328- تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، لابن حجر العسقلانى، تحقيق أيمن صالح شعبان، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1416هـ-1996م. 329- التعريف برواة مسند الشاميين، للدكتور على محمد جماز، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ودار الثقافة، قطر، الطبعة الأولى 1409هـ-1989م.

330- تقريب التهذيب، لابن حجر العسقلانى، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ-1993م. 331- التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد، لأبى بكر محمد بن عبد الغنى بن نقطة، تصحيح كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م 332- تهذيب الأسماء واللغات، لأبى زكريا يحيى بن شرف النووى، المطبعة المنيرية بالقاهرة، الطبعة الأولى 1336هـ-1927م، تصوير دار الكتب العلمية. 333- تهذيب الكمال فى أسماء الرجال، لأبى الحجاج جمال الدين المزى، تحقيق شعيب الأرنؤوط، والدكتور بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1400هـ-1412هـ-1980م-1992م. 334- تاريخ أسماء الثقات ممن نقل عنهم العلم، لأبى حفص عمر بن أحمد بن شاهين، تحقيق الدكتور عبد المعطى أمين قلعجى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ-1986م. 335- الثقات، لمحمد بن حبان البستى، حيدر آباد الدكن، الهند، الطبعة الأولى 1393هـ-1404هـ/1973م-1984م، تصوير دار الكتب العلمية. 336- الجرح والتعديل، لأبى محمد عبد الرحمن بن أبى حاتم الرازى، حيدر آباد الدكن، الهند، الطبعة الأولى 1371هـ-1951م، تصوير دار الكتب العلمية. 337- الجمع بين رجال الصحيحين، لأبى الفضل محمد بن طاهر المقدسى، المعروف بابن القيسرانى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1323هـ-1905م. 338- الجواهر المضية فى طبقات الحنفية، لعبد القادر بن محمد القرشى، تحقيق عبد الفتاح الحلو، دار العلوم، الطبعة الأولى 1405هـ-1985م. 339- حسن المحاضرة فى أخبار مصر والقاهرة، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، تحقيق محمد أبى الفضل إبراهيم، مطبعة عيسى الحلبى بالقاهرة، الطبعة الأولى 1387هـ-1968م. 340- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال فى أسماء الرجال، لأحمد بن عبد الله الخزرجى، تحقيق محمود عبد الوهاب فايد، مكتبة القاهرة بمصر 1322هـ.

341- الدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة، لابن حجر العسقلانى، حيدر آباد الدكن، الهند، الطبعة الأولى 1349هـ-1930م، تصوير دار إحياء التراث العربى. 342- الديباج المذهب فى معرفة أعيان علماء المذهب (المالكى) ، لإبراهيم بن على، المعروف بابن فرحون المالكى، تحقيق مأمون محيى الدين الجنان، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ-1996م. 343- ذيل طبقات الفقهاء الشافعيين، للعبادى، تحقيق الدكتور أحمد عمر هاشم، والدكتور محمد زينهم عزب، مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة، 1413هـ-1993م. 344- رجال صحيح البخارى، المسمى الهداية والإرشاد فى معرفة أهل الثقة والسداد الذين أخرج لهم البخارى فى جامعه، لأبى نصر أحمد بن الحسين الكلاباذى، تحقيق عبد الله الليثى، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ-1987م. 345- رجال الشيعة فى الميزان، لعبد الرحمن الزرعى، دار الأرقم، الكويت، الطبعة الأولى 1403هـ-1983م. 346- رجال صحيح مسلم، لأبى بكر أحمد بن منجويه الأصبهانى، تحقيق عبد الله الليثى، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ-1987م. 347- سير أعلام النبلاء، للذهبى، تحقيق شعيب الأرنؤوط، وحسين الأسد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثامنة 1412هـ-1992م. 348- الإمام الشافعى، ناصر السنة، وواضع الأصول، للأستاذ عبد الحليم الجندى، دار المعارف بالقاهرة، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ. 349- شبهات حول العصر العباسى الأول، للدكتور مؤيد فاضل ملا رشيد، طبعة دار الوفاء بالمنصورة، الطبعة الأولى 1406هـ-1986م. 350- شجرة النور الذكية فى طبقات المالكية، للشيخ محمد محمد مخلوف، دار الفكر، بدون تاريخ. 351- شذرات الذهب فى أخبار من ذهب، لأبى الفلاح عبد الحى بن العماد الحنبلى، مكتبة القدسى بالقاهرة، الطبعة الأولى 1370هـ-1371هـ/ 1950م-1951م، تصوير دار الكتب العلمية.

352- الضعفاء، لأبى زرعة الرازى = أبو زرعة وجهوده فى السنة، للدكتور سعدى الهاشمى، نشر مكتبة ابن القيم بالمدينة المنورة 1409هـ-1989م. 353- الضعفاء، لأبى نعيم أحمد بن عبد الله بن مهران الأصبهانى، تحقيق الدكتور فاروق حماده، دار الثقافة بالمغرب، الطبعة الأولى 1405هـ-1984م. 354- الضعفاء الكبير، لأبى جعفر محمد بن عمرو العقيلى، تحقيق الدكتور عبد المعطى أمين قلعجى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1404هـ-1984م. 355- الضعفاء والمتروكين، لأحمد بن على بن شعيب النسائى، تحقيق بوران الضناوى، وكمال يوسف الحوت، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الثانية1407هـ-1987م. 356- الضعفاء والمتروكين، لأبى الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزى، تحقيق عبد الله القاضى، الطبعة الأولى 1406هـ-1984م. 357- الضعفاء الصغير، لأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى، تحقيق إبراهيم زايد، دار الوعى، حلب 1396هـ-1976م. 358- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، لشمس الدين محمد عبد الرحمن السخاوى، نشر مكتبة القدسى بالقاهرة، 1354هـ. 359- طبقات الحفاظ، للسيوطى، تحقيق لجنة من العلماء، بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ-1983م. 360- طبقات الحنابلة، لأبى الحسن محمد بن أبى يعلى الفراء، مطبعة السنة المحمدية، الطبعة الأولى 1372هـ-1952م، تصوير دار المعرفة، بيروت. 361- الطبقات السنية فى تراجم الحنفية، لأحمد بن عبد القادر الغزى التميمى، تحقيق الدكتور عبد الفتاح الحلو، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، الطبعة الأولى 1390هـ-1970م. 362- طبقات الشافعية، لأبى بكر بن هداية الله الحسينى، تحقيق عادل نويهض، دار الآفاق، بيروت، الطبعة الأولى 1391هـ-1971م.

363- طبقات الشافعية الكبرى، لعبد الوهاب بن على بن عبد الكافى السبكى، تحقيق محمود محمد الطناحى، وعبد الفتاح محمد الحلو، مطبعة عيسى الحلبى بالقاهرة، الطبعة الأولى 1383هـ-1964م. 364- طبقات علماء الحديث، لمحمد بن أحمد بن عبد الهادى، تحقيق أكرم البوشى، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1409هـ-1989م. 365- طبقات الفقهاء الشافعيين، لإسماعيل بن كثير القرشى، تحقيق الدكتور أحمد عمر هاشم، والدكتور محمد زينهم عزب، مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة، 1413هـ-1993م. 366- طبقات الفقهاء، لأبى إسحاق إبراهيم بن على الشيرازى، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الرائد العربى، بيروت، الطبعة الثانية 1401هـ-1981م. 367- طبقات القراء، لمحمد بن الجزرى، تحقيق براجستراسر وبريستل، مطبعة السعادة بالقاهرة، 1352هـ-1932م. 368- الطبقات الكبرى، لأبى عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمى، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1410هـ-1990م. 369- طبقات المفسرين، لمحمد بن على الداودى، تحقيق لجنة من العلماء، بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. 370- طبقات المفسرين، للسيوطى، تحقيق لجنة من العلماء، بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. 371- طبقات النحاة واللغويين، لابن قاضى شهبة، نشرة الدكتور محسن غياض، النجف 1974م. 372- العبر فى خبر من غبر، للذهبى، تحقيق محمد السعيد بسيونى زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. 373- فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، لأبى القاسم البلخى، والقاضى عبد الجبار، والحاكم الجشمى، تحقيق الأستاذ فؤاد سيد، الدار التونسية بوتنس 1394هـ-1974م. 374- الفوائد البهية فى تراجم الحنفية، لمحمد بن عبد الحى اللكنوى، عنى بتصحيحه السيد محمد بدر الدين أبو الفوارس النعسانى، دار المعرفة، بيروت، 1324هـ.

375- الفهرست، لأبى الفرج محمد بن أبى يعوب، الشهير بابن النديم، تحقيق الدكتور يوسف على الطويل، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ-1996م. 376- الكاشف فى معرفة من له رواية فى الكتب الستة، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الذهبى، تحقيق محمد عوامة، وأحمد محمد الخطيب، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، الطبعة الأولى 1413هـ-1992م. 377- الكامل فى ضعفاء الرجال، لعبد الله بن عدى الجرجانى، تحقيق الدكتور سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة 1409هـ-1988م. 378- اللباب فى تهذيب الأنساب، على بن محمد بن الأثير الجزرى، مكتبة حسام الدين القدسى، الطبعة الأولى 1356هـ، تصوير دار صادر، بيروت. 379- لسان الميزان، لابن حجر العسقلانى، تحقيق محمد عبد الرحمن المرعشلى، دار إحياء التراث العربى، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ-1995م. 380- المجددون فى الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر، لعبد المتعال الصعيدى، مكتبة الآداب ومطبعتها بالقاهرة. 381- المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، لابن حبان البستى، تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار الوعى، حلب، الطبعة الأولى 1396هـ-1976م. 382- مختصر تاريخ دمشق، لمحمد بن مكرم بن منظور، تحقيق روحية النحاس، ومحمد مطيع، دار الفكر، الطبعة الأولى 1984م. 383- مرآة الجناة وعبرة اليقظان فى معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، لعبد الله بن أسعد اليافعى، حيدر آباد الدكن، الهند، الطبعة الثانية 1413هـ-1993م. 384- مروج الذهب ومعادن الجوهر، لأبى الحسن على بن الحسين المسعودى، تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد، دار المعرفة، 1368هـ-1948م. 385- مشاهير علماء الأمصار، لابن حبان البستى، تحقيق مجدى منصور الشورى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية 1416هـ-1995م.

386- المستشرقون الألمان تراجمهم، وما أسهموا به فى الدراسات العربية، جمع صلاح الدين منجد، دار الكتاب الجديد، بيروت، الطبعة الثانية 1982م. 387- مصادر التاريخ الإسلامى ومناهج البحث فيه، للدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، مكتبة الخانجى بالقاهرة، الطبعة الثانية 1396هـ-1976م. 388- معجم المؤلفين، لعمر رضا كحالة، مطبعة الترقى بدمشق 1957م-1961م. 389- معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الذهبى، تحقيق إبراهيم سعيداى إدريس، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ-1986م. 390- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، للذهبى، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف وشعيب الأرنؤوط، وصالح مهدى عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1408هـ-1982م. 391- مقدمة ابن خلدون، لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون، دار الجيل، بيروت، بدون تاريخ. 392- مناقب الإمام الشافعى، لفخر الدين الرازى، تحقيق الدكتور أحمد حجازى السقا، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ-1993م. 393- النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، ليوسف بن تغرى بردى الأتابكى، مطبعة دار الكتب المصرية 1349هـ-1930م. 394- نزهة الألباب فى طبقات الأدباء، لأبى البركات بن الأنبارى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، 1967م. 395- نهاية الاغتباط بمن رمى من الرواة بالاختلاط، لعلاء الدين على رضا، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م. 396- النهاية فى الفتن والملاحم، للحافظ ابن كثير، تحقيق محمد أحمد عبد العزيز، دار الحديث بالقاهرة، بدون تاريخ. 397- الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامى، للدكتور محمد ياسين مظهر صديقى، ترجمة الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم، دار الصحوة للنشر، الطبعة الأولى 1408هـ-1988م.

سادسا: المعاجم، والموسوعات، والتعريفات:

398- الوافى بالوفيات، لصلاح الدين خليل بن أيبك، نشر المعهد الألمانى للأبحاث الشرقية، بيروت، الطبعة الأولى 1350هـ-1405هـ/1931م-1985م. 399- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لأبى العباس أحمد بن محمد بن خلكان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، بدون تاريخ. سادساً: المعاجم، والموسوعات، والتعريفات: 400- تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد مرتضى الزبيدى، دار مكتبة الحياة، بيروت. 401- التعريفات، لعلى بن محمد الجرجانى، تحقيق إبراهيم الإبيارى، دار الريان للتراث، بدون تاريخ. 402- دائرة المعارف الإسلامية، نقلها للعربية أحمد السنتناوى، وآخرون، نشر دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ. 403- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، لإسماعيل بن حماد الجوهرى، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية، القاهرة، 1402هـ-1982م. 404- الفروق فى اللغة، لأبى الهلال الحسن بن عبد الله العسكرى، دار الآفاق الجديدة، بدون تاريخ. 405- القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادى، المطبعة الأميرية، الطبعة الثالثة 1301هـ، تصوير الهيئة المصرية العامة للكتاب 1397هـ-1977م. 406- كشاف اصطلاحات الفنون، للمولوى محمد بن على التهانوى، طبع بالهند 1278هـ، تصوير دار صادر، بيروت. 407- كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون، لمصطفى عبد الله حاجى خليفة، تقديم شهاب الدين النجفى المرعشلى، طبعة إسطنبول، مطبعة المعارف 1921م. 408- لسان العرب، لأبى الفضل محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت 1300هـ-1882م. 409- مختار الصحاح، لمحمد بن أبى بكر الرازى، عنى بترتيبه محمود خاطر، دار النهضة للطباعة. 410- المصباح المنير فى غريب الشرح الكبير للرافعى، لأحمد بن محمد بن على الفيومى، تحقيق الدكتور عبد العظيم الشناوى، دار المعارف، بدون تاريخ. 411- مصادر اللغة، للدكتور عبد الحميد الشلقانى، مطابع جامعة الرياض، الطبعة الأولى 1980م.

سابعا: الدفاع عن السنة ورواتها:

412- معجم البلدان، لأبى عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموى البغدادى، دار إحياء التراث العربى، بيروت، بدون تاريخ. 413- المعجم الوسيط، للدكتور إبراهيم أنيس، وآخرون، دار الفكر، بدون تاريخ. سابعاً: الدفاع عن السنة ورواتها: 414- أبو هريرة رواية الإسلام، للدكتور محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الثالثة 1402هـ-1982م. 415- أبو هريرة فى ضوء مروياته، للدكتور محمد مصطفى الأعظمى، خال من مكان الطبع وتاريخه0 416- الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث فى القرن الثالث الهجرى، للدكتور عبد المجيد محمود، مكتبة الخانجى، 1400هـ-1980م. 417- الدفاع عن السنة، الجزء الأول من سلسلة (الإسلام واستمرار المؤامرة، الخداع والتضليل) لشيخنا الجليل الدكتور طه الدسوقى حبيشى، مكتبة رشوان بالقاهرة، الطبعة الأولى 14089ـ1988م. 418- الأضواء الكاشفة لما فى كتاب أضواء على السنة من الذلل والتضليل والمجازفة، لعبد الرحمن بن يحيى المعلمى اليمانى، المكتبة السلفية، القاهرة، 1378هـ. 419- تأويل مختلف الحديث، للإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق محمد عبد الرحيم، دار الفكر، بيروت، 1415هـ-1995م. 420- تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها، للسيد سليمان الندوى، ترجمها الشيخ عبد الوهاب الدهلوى بمكة المكرمة، المطبعة السلفية ومكتبتها، الطبعة الثالثة 1399هـ 421- توثيق الأحاديث النبوية (نقد قاعدة شاخت) السكوت عن الاستدلال بالحديث فى موطن الاحتجاج دليل على عدم وجوده، بقلم ظفر إسحاق الأنصارى، ترجمة جمال محمد جابر، مجلة كلية الدعوة الإسلامية بليبيا، العدد الحادى عشر، 1994م. 422- توثيق السنة فى القرن الثانى الهجرى، أسسه واتجاهاته، للدكتور رفعت فوزى عبد المطلب، مكتبة الخانجى بالقاهرة، الطبعة الأولى 1400هـ-1981م. 423- حجية السنة، للدكتور عبد الغنى عبد الخالق، دار الوفاء بالمنصورة، الطبعة الثانية 1413هـ-1993م.

424- الحديث حجة بنفسه فى العقائد والأحكام، لمحمد ناصر الدين الألبانى، مطبعة الدار السلفية، الطبعة الثالثة 1400هـ. 425- الحديث والمحدثون أو عناية الأمة الإسلامية بالسنة المحمدية، للدكتور محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر، الطبعة الأولى 1378هـ-1958م. 426- دراسات فى الحديث النبوى، وتاريخ تدوينه، للدكتور محمد مصطفى الأعظمى، المكتب الإسلامى 1413هـ-1992م. 427- دفاع عن أبى هريرة، لعبد المنعم صالح العلى العزى، مكتبة النهضة، ببغداد، دار الشروق، بيروت، الطبعة الأولى 1393هـ-1973م. 428- دفاع عن أبى هريرة، للأستاذ عثمان موانى، دار الشروق، بيروت، الطبعة الأولى 1973م. 429- دفاع عن الحديث والمحدثين وتفنيد شبهات خصومه لجماعة من نوابغ العلماء، تصحيح زكريا على يوسف، مطبعة الإمام، توزيع مكتبة المتنبى بالقاهرة 1972م. 430- دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكتاب المعاصرين، للدكتور محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1409هـ-1989م. 431- دراسات أصولية فى السنة النبوية، للدكتور محمد إبراهيم الحفناوى، دار الوفاء بالمنصورة، الطبعة الأولى 1412هـ-1991م. 432- دراسات فى السنة وعلوم الحديث، للدكتور محمد المنسى، الناشر مكتبة الشباب بالقاهرة، 1996م. 433- دراسات فى السنة ومناهج المحدثين، للدكتور رجب إبراهيم صقر، خال من مكان الطبع وتاريخه0 434- دراسات فى السيرة النبوية، للأستاذ محمد سرور بن نايف، دار الأرقم، برمنجهام، الطبعة الثالثة 1408هـ-1988م. 435- دلائل التوثيق المبكر للسنة والحديث، للدكتور امتياز أحمد، نقله إلى العربية الدكتور عبد المعطى أمين قلعجى، دار الوفاء بالمنصورة، الطبعة الأولى 1410هـ-1990م. 436- الرد القويم على المجرم الأثيم، للشيخ محمود بن عبد الله التويجرى، طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية، الطبعة الأولى 1403هـ.

437- السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين، للدكتور رءوف شلبى، مطبعة السعادة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1398هـ-1978م. 438- السنة بياناً للقرآن، للدكتور إبراهيم محمد عبد الله الخولى، نشر الشركة العربية للطباعة والنشر 1993م. 439- السنة النبوية بين دعاة الفتنة وأدعياء العلم، للدكتور عبد الموجود محمد عبد اللطيف، دار الطباعة المحمدية بالقاهرة، الطبعة الأولى 1410هـ-1990م. 440- السنة تشريع لازم ودائم، للدكتور فتحى عبد الكريم، مكتبة وهبه بالقاهرة، الطبعة الأولى 1405هـ-1985م. 441- السنة فى مواجهة أعدائها، الجزء الثانى من سلسلة (الإسلام واستمرار المؤامرة) ، للدكتور طه الدسوقى حبيشى، مكتبة رشوان بالقاهرة، الطبعة الأولى 1416هـ-1995م. 442- السنة قبل التدوين، للدكتور محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الثانية 1408هـ-1988م. 443- السنة المطهرة بين أصول الأئمة وشبهات صاحب فجر الإسلام وضحاه، للدكتور سيد أحمد رمضان المسير، دار الطباعة المحمدية بالقاهرة، الطبعة الأولى1402هـ-1981م. 444- السنة المطهرة والتحديات، للدكتور نور الدين عتر، مكتبة دار الفلاح، حلب، الطبعة الثانية، 1406هـ-1986م. 445- السنة مع القرآن، للدكتور سيد أحمد المسير، دار الطباعة المحمدية، الطبعة الأولى 1403هـ-1983م. 446- السنة المفترى عليها، للمستشار سالم على البهنساوى، دار الوفاء، بالمنصورة، الطبعة الرابعة 1413هـ-1992م. 447- السنة النبوية بين أنصارها وخصومها، للدكتور سعد المرصفى، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة رقم 748، لسنة 1396هـ-1976م. 448- السنة النبوية الشريفة، للدكتور أحمد محمود كريمة، هدية مجلة الأزهر الشريف، عدد ربيع الأول 1418هـ. 449- السنة النبوية فى مواجهة التحدى، للدكتور أحمد عمر هاشم، طبعة مجمع البحوث الإسلامية 1401هـ-1980م.

450- السنة النبوية المطهرة قسم من الوحى الإلهى المنزل، للدكتور محمد على الصابونى، خال من مكان الطبع وتاريخه0 451- السنة النبوية، مكانتها، عوامل بقائها، تدوينها، لشيخنا الجليل الدكتور عبد المهدى عبد القادر، دار الاعتصام بالقاهرة، بدون تاريخ. 452- السنة والتشريع، لشيخنا الجليل الدكتور موسى شاهين لاشين، هدية مجلة الأزهر الشريف، عدد شعبان 1411هـ. 453- السنة النبوية ومنهجها فى بناء المعرفة والحضارة، ندوة عقدت بالتعاون مع المعهد العالمى للفكر الإسلامى، واشنطن، نشر مؤسسة آل البيت، عمان،1410هـ-1989م. 454- شفاء الصدور فى تاريخ السنة ومناهج المحدثين، للدكتور السيد محمد نوح، طبعة دار الوفاء بالمنصورة، بدون تاريخ.

455- الشفاعة، لمقبل بن هادى الوادعى، الناشر مكتبة دار الأرقم، مطبعة المدنى، مصر، 1402هـ-1982م. 456- ضلالات منكرى السنة، الجزء الثالث من سلسلة (الإسلام واستمرار المؤامرة) ،للدكتور طه الدسوقى حبيشى، مكتبة رشوان بالقاهرة، الطبعة الأولى 1417هـ-1996م. 457- ضوابط الرواية عند المحدثين، للأستاذ الصديق بشير نصر، منشورات كلية الدعوة الإسلامية، ولجنة الحفاظ على التراث الإسلامى، الجماهيرية العظمى، طرابلس، الطبعة الأولى 1992م. 458- الضوء اللامع المبين عن مناهج المحدثين، للدكتور أحمد محرم الشيخ، مطبعة الأمانة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1407هـ-1986م. 459- ظاهرة رفض السنة وعدم الاحتجاج بها، للدكتور صالح أحمد رضا، طبعة إدارة الثقافة والنشر بالسعودية 1414هـ-1993م. 460- ظلمات أبى رية أمام أضواء السنة المحمدية، للأستاذ محمد عبد الرازق حمزة، المطبعة السلفية بالقاهرة، 1379هـ. 461- عقيدة أهل الإسلام فى نزول عيسى عليه الإسلام، وإرغام المبتدع الجهول بإتباع سنة الرسول، لأبى الفضل عبد الله الصديق الغمارى، مكتبة القاهرة بمصر، بدون تاريخ. 462- عقيدة أهل السنة والجماعة فى الصحابة الكرام، للدكتور ناصر على الشيخ، مكتبة الرشد بالرياض، الطبعة الثانية 1415هـ-1995م. 463- العواصم من القواصم فى تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، لأبى بكر ابن العربى المالكى، تحقيق محب الدين الخطيب، ومحمود مهدى الإستانبولى، مكتبة السنة بالقاهرة، الطبعة السادسة 1412هـ. 464- العواصم والقواصم فى الذب عن سنة أبى القاسم، لمحمد بن إبراهيم الوزير، تحقيق شعيب الأرنؤوط، دار البشير، عمان، الطبعة الأولى 1405هـ-1985م. 465- الفكر المنهجى عند المحدثين، للدكتور همام عبد الرحيم سعيد، كتاب الأمة، الطبعة الأولى 1408هـ.

466- القرآنيون وشبهاتهم حول السنة، للدكتور خادم حسين إلهى بخش، الناشر مكتبة الصديق بالسعودية، الطبعة الأولى 1409هـ-1989م. 467- قصة الهجوم على السنة، للدكتور على أحمد السالوس، دار السلام بالقاهرة، الطبعة الأولى 1408هـ-1987م. 468- لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث، للأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الرابعة 1417هـ. 469- المحاضرة الدفاعية عن السنة المحمدية، للدكتور محمد أمان بن على الجامى، دار الأصفهانى، رابطة العالم الإسلامية، بدون تاريخ. 470- المدخل إلى السنة النبوية، بحوث فى القضايا الأساسية عن السنة النبوية، للدكتور عبد المهدى عبد القادر، دار الاعتصام 1419هـ-1998م. 471- مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها، للأستاذ عبد الله بن على النجدى القصيمى، مراجعة الشيخ خليل الميس، دار القلم، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ. 472- مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطى، تحقيق الأستاذ مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ-1987م. 473- المكانة العلمية، لعبد الرزاق بن همام الصنعانى فى الحديث النبوى، لشيخنا الجليل إسماعيل عبد الخالق الدفتار، الجزآن الأول والثانى فى مكانة السنة ورد شبهات الطاعنين فى حجيتها، والثالث والرابع فى مكانة الصنعانى فى الحديث، والرسالة مخطوطة بكلية الأصول بالقاهرة، رقم2332 لسنة 1396هـ-1976م. 474- منزلة السنة فى التشريع الإسلامى، للدكتور محمد أمان بن على الجامى، دار حراء للكتاب بالقاهرة، الطبعة الأولى 1409هـ. 475- منزلة السنة من الكتاب وأثرها فى الفروع الفقهية، للأستاذ محمد سعيد منصور، مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1413هـ-1993م. 476- منهاج السنة فى الحدود، وأثره فى صلاح المجتمع، للدكتور عبد المنعم عطية عبد القوى سكران، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة، رقم 1437 لسنة 1399هـ-1979م.

ثامنا: مراجع عامة:

477- منهجية جمع السنة وجمع الأناجيل، دراسة مقارنة، للدكتورة عزيه على طه، مؤسسة الرسالة بالقاهرة، الطبعة الثانية 1417هـ-1996م. 478- المؤتمر العلمى الرابع للسيرة، والسنة النبوية، والمؤتمر العاشر لمجمع البحوث الإسلامية، مطابع الشروق، 1406هـ-1985م. 479- موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية، للأستاذ الأمين الصادق الأمين، مكتبة الرشد بالرياض، الطبعة الأولى 1418هـ-1998م. 480- نصوص من السنة ودفاع عنها، للدكتور رفعت فوزى، دار الثقافة العربية، 1410هـ-1990م. 481- النفحات الشذية فيما يتعلق بالعصمة، والسنة النبوية، للشيخ محمد الطاهر الحا مدى، قدم له وكتب حواشيه الطاهر محمد الطاهر، الناشر مكتبة الآداب بالقاهرة، الطبعة الأولى 1417هـ-1997م. 482- نقد كتاب نصر أبو زيد ودحض شبهاته، للدكتور رفعت فوزى عبد المطلب، مطبعة المدنى، الناشر مكتبة الخانجى بالقاهرة، الطبعة الأولى 1417هـ-1996م. 483- نقض مطاعن نصر أبو زيد فى القرآن، والسنة، والصحابة، وأئمة المسلمين، للدكتور إسماعيل سالم، دار التوزيع والنشر الإسلامية بالقاهرة، الطبعة الثانية 1414هـ-1994م. ثامناً: مراجع عامة: 484- ابن تيمية، حياته، وعقائده، لصائب عبد الحميد، الغدير للدراسات والنشر، بيروت. 485- الإبداعات الطبية لرسول الإنسانية، للأستاذ مختار سالم، مؤسسة المعارف، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ-1995م. 486- البحث فى مصادر التاريخ الدينى، دراسة عملية، لأحمد صبحى منصور، القاهرة، الطبعة الأولى 1404هـ-1984م. 487- البصائر والذخائر، لأبى حيان التوحيدى، طبع بمصر، 1373هـ-1953م. 488- أبو هريرة، لعبد الحسين شرف الدين الموسوى، دار الزهراء، بيروت، الطبعة السادسة 1415هـ-1995م. 489- البيان والتبيين، لأبى عثمان، عمرو بن بحر الجاحظ، مكتبة الخانجى بمصر، الطبعة الرابعة 1395هـ-1975م.

490- الاتجاهات الفكرية المعاصرة، للمستشار الدكتور على جريشة، دار الوفاء بالمنصورة، الطبعة الثالثة 1411هـ-1990م. 491- أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، للأستاذ عبد الرحمن حبنكة الميدانى، دار القلم، دمشق، الطبعة السابعة، 1414هـ-1994م. 492- أحاديث أم المؤمنين عائشة، أدوار من حياتها، لمرتضى العسكرى، دار الزهراء، بيروت، الطبعة الثانية 1413هـ-1992م. 493- الحديث النبوى فى النحو العربى، للدكتور محمود فجال، أضواء السلف، الرياض، الطبعة الثانية 1417هـ-1997م. 494- احذروا الأساليب الحديثة فى مواجهة الإسلام، للدكتور سعد الدين السيد صالح، دار التقوى، بلبيس، الطبعة الثالثة 1415هـ-1995م. 495- أخبار عمرو بن عبيد، لأبى الحسن على بن عمر الدارقطنى، تحقيق الدكتور يوسف فان إس، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1967م. 496- أدب العرب فى صدر الإسلام، لحسين الحاج حسن، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ-1992م. 497- الدولة والمجتمع، لمحمد شحرور، الأهالى، بيروت، الطبعة الرابعة 1997م. 498- الرسالة المحمدية، للسيد سليمان الندوى، الدار السعودية، جدة، الطبعة الثانية 1404هـ-1984م. 499- آراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره، للدكتور عمر إبراهيم رضوان، دار طيبة، الطبعة الأولى 1413هـ-1992م. 500- أساليب الغزو الفكرى للعالم الإسلامى، للدكتور على جريشة، ومحمد شريف الزيبق، دار الاعتصام، القاهرة. 501- الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضارى، للدكتور محمود حمدى زقزوق، دار المنار بالقاهرة، الطبعة الثانية 1409هـ-1989م. 502- الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم، للدكتور مصطفى السباعى، دار السلام بالقاهرة، الطبعة الأولى 1418هـ-1998م. 503- الاستشراق والمستشرقون وجهة نظر، لعدنان محمد وزان، رابطة العالم الإسلامى، ضمن سلسلة دعوة الحق العدد 24 السنة الثالثة.

504- الإسلام على مفترق الطرق، لمحمد أسد، (ليبولد فايس) ، ترجمة الدكتور عمر فروخ، دار العلم، بيروت، 1987م. 505- الإسلام فى تصورات الغرب، للدكتور محمود حمدى زقزوق، مكتبة وهبة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1407هـ-1987م. 506- الإسلام والحضارة الغربية، للدكتور محمد عمر حسين، دار الرسالة، جدة، الطبعة التاسعة، 1413هـ-1993م. 507- الإسلام والعقلانية، لجمال البنا، دار الفكر الإسلامى، القاهرة. 508- الإسلام والمستشرقين، لنخبة من العلماء المسلمين، عالم المعرفة، جدة، الطبعة الأولى 1405هـ-1985م. 509- الإسلام والإيمان منظومة القيم، لمحمد شحرور، الأهالى، بيروت، الطبعة الأولى1996م. 510- السير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث فى النحو العربى، للدكتور محمود فجال، أضواء السلف، الرياض، الطبعة الثانية 1417هـ-1997م. 511- شرح ديوان كعب بن زهير، لأبى سعيد الحسن بن عبيد الله العسكرى، دار الكتب المصرية، الطبعة الأولى 1369هـ-1950م. 512- شرح نهج البلاغة، لابن أبى الحديد،، مطبعة عيسى البابى الحلبى بالقاهرة، بدون تاريخ. 513- الشعر والشعراء، لابن قتيبة، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف، مصر، 1966م. 514- أصالة الفكر الإسلامى فى مواجهة التغريب والعلمانية والتنوير الغربى، للأستاذ أنور الجندى، دار الفضيلة بالقاهرة، بدون تاريخ. 515- الصراع بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى، للدكتور طه الدسوقى حبيشى، دار على للطباعة، القاهرة، الطبعة الأولى 1418هـ-1997م. 516- أصول التفكير النحوى، للدكتور على أبى المكارم، دار القلم، بيروت، 1973م. 517- أصول الفقه المحمدى، لجوزيف شاخت، ترجمة الأستاذ الصديق بشير بن نصر، نشر مجلة كلية الدعوة، بليبيا، العدد 11 لسنة 1994م. 518- أصول النحو، لسعيد الأفغانى، مطبعة جامعة دمشق 1376هـ. 519- الأصلان العظيان، الكتاب والسنة، رؤية جديدة، لجمال البنا، مطبعة حسان بالقاهرة.

520- أضواء على السنة المحمدية، أو دفاع عن الحديث، لمحمود أبو ريه، دار المعارف بمصر، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ. 521- الأضواء القرآنية فى اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخارى منها، للسيد صالح أبو بكر، مطابع محرم الصناعية، 1974م. 522- إعادة تقييم الحديث، لقاسم أحمد، مكتبة مدبولى الصغير، الطبعة الأولى 1997م. 523- إعادة قراءة القرآن، لجاك بيرك، ترجمة وائل غالى شكرى، تقديم أحمد صبحى منصور، دار النديم للصحافة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 1996م. 524- العقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسى، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1952م. 525- أعيان الشيعة، لمحسن الأمين، طبعة دار التعارف للمطبوعات، بيروت. 526- الإفصاح فى إمامة على بن أبى طالب، لمحمد بن النعمان العكبرى، دار المنتصر، بيروت، الطبعة الثانية 1409هـ-1989م. 527- الأنبياء فى القرآن، لأحمد صبحى منصور، مؤسسة الرسالة، 1405هـ-1985م. 528- إنذار من السماء (النظرية) لنيازى عز الدين، الأهالى للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1996م. 529- أهل السنة شعب الله المختار، لصالح الوردانى، كنوتة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1417هـ-1997م. 530- أوروبا والإسلام، للإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، دار المعارف بمصر، الطبعة الرابعة، بدون تاريخ. 531- بلاغة الرسول، للدكتور على محمد حسن العمارى، دار الأنصار بالقاهرة. 532- بحوث فى القرآن والسنة، اللجنة العليا للاحتفال بالعيد الألفى للأزهر، الأمانة العامة، القاهرة، 1403هـ-1983م. 533- بلوغ اليقين بتصحيح مفهوم ملك اليمين، لإسماعيل منصور جودة، القاهرة، 1418هـ-1997م. 534- البيان بالقرآن، لمصطفى كمال المهدوى، دار الآفاق الجديدة، الدار البيضاء، ليبيا، الطبعة الأولى 1990م.

535- تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، للسيد حسن الصدر، طبعة شركة الطباعة والنشر العراقية ببغداد 1951م. 536- تأملات فى الحديث عند السنة والشيعة، لزكريا عباس داود، دار النخيل للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1416هـ-1995م. 537- التبشير والاستعمار فى البلاد العربية، للدكتور مصطفى خالدى، والدكتور عمر فروخ، المكتبة العصرية، الطبعة الأولى بدون تاريخ. 538- تبصير الأمة بحقيقة السنة، لإسماعيل منصور جودة، القاهرة، 1416هـ-1995م. 539- تراثنا الفكرى فى ميزان الشرع والعقل، للشيخ محمد العزالى، دار الآمان، الرباط، المغرب، الطبعة الثالثة، 1414هـ-1993م. 540- تطبيق الشريعة الإسلامية بين الحقيقة وشعارات الفتنة، لصفوت حسن لطفى، ومحمد عبد العظيم على، وجلال يحيى كامل، تقديم يحيى كامل أحمد، دار الثقافة العربية للطباعة، القاهرة. 541- الثورة الإيرانية فى ميزان الإسلام، للشيخ محمد منظور نعمانى، ترجمة الدكتور سمير عبد الحميد إبراهيم، مطبعة عبير للكتاب والأشغال التجارية، القاهرة. 542- ثم اهتديت، لمحمد التيجانى، مؤسسة الفجر، لندن، الطبعة الثانية 1410هـ-1989م 543- حد الردة، دراسة أصولية تاريخية، لأحمد صبحى منصور، دار طيبة للدراسات والنشر، القاهرة. 544- الحسبة، دراسة أصولية تاريخية، لأحمد صبحى منصور، الناشر مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية، الطبعة الأولى 1995م. 545- حصاد العقل، لمحمد سعيد العشماوى، مكتبة مدبولى الصغير، 1992م. 546- حصوننا مهددة من داخلها، للدكتور محمد محمد حسين، دار الرسالة، جدة، الطبعة الثانية عشرة 1413هـ-1993م. 547- حقائق ثابتة فى الإسلام، لابن الخطيب، مطبعة الأفق، طهران، الطبعة الأولى 1394هـ-1974م. 548- حقيقة الحجاب وحجية الحديث، لمحمد سعيد العشماوى، مكتبة مدبولى الصغير، الطبعة الثانية 1415هـ-1995م.

549- حقيقة السنة النبوية، لأحمد حجازى السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، الطبعة الأولى 1410هـ-1990م. 550- حوار ومناقشة كتاب عائشة أم المؤمنين، لهشام آل قطيط، دار المحجة البيضاء، بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ-1998م. 551- حياة محمد، للدكتور محمد حسين هيكل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1996م. 552- الخدعة رحلتى من السنة إلى الشيعة، لصالح الوردانى، دار الخليج للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1416هـ-1996م. 553- خزانة الأدب ولب لباب العرب، لعبد القادر البغدادى، تحقيق عبد السلام هارون، دار الكتاب العربى، القاهرة، 1387هـ. 554- خمسون ومائة صحابى مختلق، لمرتضى العسكرى، دار الزهراء، بيروت، الطبعة السادسة، 1412هـ-1991م. 555- الخلافة المغتصبة، أزمة تاريخ أم أزمة مؤرخ، لإدريس الحسينى، دار الخليج للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1416هـ-1996م. 556- درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، المطبعة الأميرية ببولاق، الطبعة الأولى 1321هـ، تصوير دار الكتب العلمية، بيروت، بهامش منهاج السنة. 557- دراسات محمدية، لجولدتسيهر، ترجمة الأستاذ الصديق بشير نصر، نشر مجلة كلية الدعوة الإسلامية، بليبيا، العدد الثامن لسنة 1991م، والعدد العاشر لسنة 1993م. 558- دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة، لموريس بوكاى، مكتبة مدبولى الكبير، الطبعة الأولى 1996م. 559- دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين، لصالح الوردانى، الناشر تريدنكو للطباعة، بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ-1997م. 560- دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، للشيخ محمد الغزالى، دار الكتب الإسلامية، القاهرة، الطبعة الخامسة 1408هـ-1988م. 561- دفع الشبهات عن الشيخ محمد الغزالى، لأحمد حجازى السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، الطبعة الأولى 1410هـ-1990م.

562- دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك فى القرن العشرين، لحسين أحمد أمين، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1403هـ-1983م. 563- دين السلطان (البرهان) لنيازى عز الدين، الأهالى للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1997م. 564- الربا والفائدة فى الإسلام، لمحمد سعيد العشماوى، مكتبة مدبولى الصغير، القاهرة، الطبعة الأولى 1416هـ-1996م. 565- رجال اختلف فيهم الرأى، للأستاذ أنور الجندى، دار الأنصار، القاهرة. 566- الرسول صلى الله عليه وسلم فى كتابات المستشرقين، لنذير حمدان، مطبوعات رابطة العالم الإسلامى، جدة. 567- رشاد خليفة، صنيعة الصليبية العالمية، وأخطر من سلمان رشدى، للدكتور خالد نعيم، مطبعة المختار الإسلامى، بدون تاريخ. 568- رؤية إسلامية للاستشراق، للأستاذ أحمد غراب، المنتدى الإسلامى، الطبعة الثانية 1411هـ. 569- زواج المتعة حلال عند أهل السنة، لصالح الوردانى، مكتبة مدبولى الصغير، الطبعة الأولى 1417هـ-1997م. 570- السحر والسحرة والوقاية من الفجرة، للأستاذ تاج الدين نوفل، مكتبة التراث الإسلامى، القاهرة. 571- السلطة فى الإسلام، العقل الفقهى السلفى بين النص والتاريخ، لعبد الجواد ياسين، المركز الثقافى العربى، الدار البيضاء، المغرب، الطبقة الأولى 1998م. 572- السنة مصدر للمعرفة والحضارة، للدكتور يوسف القرضاوى، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1417هـ-1997م. 573- الإمام الشافعى وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، لنصر أبو زيد، مكتبة مدبولى، الطبعة الثانية 1996م. 574- شفاء الصدر بنفى عذاب القبر، لإسماعيل منصور جودة، القاهرة، 1415هـ-1994م. 575- شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، لخليل عبد الكريم، دار سينا بالقاهرة، الطبعة الأولى 1997م. 576- شيخ المضيرة (أبو هريرة) ، لمحمود أبو رية، مؤسسة الأعلمى للمطبوعات، بيروت، الطبعة الرابعة 1413هـ-1993م.

577- الشيعة والمتعة، لمحمد مال الله، مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثالثة 1409هـ. 578- الصحابة فى نظر الشيعة الإمامية، لأسد حيدر، نشر مطبوعات النجاح بالقاهرة، بدون تاريخ. 579- الصلاة، لمحمد نجيب، دائرة المعارف العلمية الإسلامية، القاهرة. 580- الصلاة فى القرآن، لأحمد صبحى منصور، مخطوط0 581- صواعق الحق المرسلة على الجنيين والكهان والسحرة، لفريق من علماء أنصار السنة المحمدية، إعداد عبد المجيد محمد صالح، مطبعة العمرانية، القاهرة. 582- صورتان متضادتان لنتائج الرسول الأعظم، بين السنة والشيعة الإمامية، لأبى الحسن، على الحسنى الندوى، مطبعة الكلمة بالجيزة، 1405هـ-1985م. 583- ضحى الإسلامى، للأستاذ أحمد أمين، نشر مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، الطبعة السادسة 1961م. 584- الطب الإسلامى، للدكتور أحمد طه، دار الاعتصام بالقاهرة، بدون تاريخ. 585- الطب الوقائى فى الإسلام، للعميد الصيدلى، عمر محمود عبد الله، مطبعة الزهراء الحديثة المحدودة بالعراق، الطبعة الأولى 1410هـ-1990م. 586- عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى، لمرتضى العسكرى، دار الزهراء، بيروت، الطبعة السادسة 1412هـ-1991م. 587- عذاب القبر فى الميزان، لعكاشة عبد المنان الطيبى، دار الاعتصام، القاهرة. 588- عذاب القبر والثعبان الأقرع، لأحمد صبحى منصور، دار طيبة للدراسات والنشر، القاهرة. 589- عقوبة الحد فى ضوء القرآن الكريم وأثرها فى إصلاح المجتمع، للدكتور محمد زواوى عبد الله، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة، رقم 1748 سنة1405هـ-1989م. 590- العلمانية وموقفها من العقيدة والشريعة، للدكتور عبد العظيم المطعنى، مكتبة النور، 1992م. 591- العلمانية وموقف الإسلام منها، للدكتور عزت عبد المجيد، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة، رقم 1109 0 592- الغارة على التراث الإسلامى، للأستاذ جمال سلطان، مركز الدراسات الإسلامية برمنجهام، بريطانيا، 1412هـ-1992م.

593- الغارة على العالم الإسلامى، أ. ل شاتليه، نقلها إلى العربية محب الدين الخطيب، ومساعد اليافى، المطبعة السلفية ومكتبتها، الطبعة الرابعة 1398هـ. 594- الغدير فى الكتاب والسنة والأدب، لعبد الحسين أحمد الأمينى، دار الكتاب العربى، بيروت، الطبعة الثالثة. 595- فتح الوهاب لا جزية على أهل الكتاب، لإسماعيل منصور جودة، القاهرة، الطبعة الأولى 1419هـ-1998م. 596- الفتنة الخمينية حقيقة الثورة الإيرانية، للشيخ محمد عبد القادر آزار، مطبعة عبير للكتاب، حلوان، الطبعة الأولى 14.6هـ-1986م. 597- الفتنة الكبرى (عثمان) ، لطه حسين، دار المعارف بمصر، الطبعة العاشرة. 598- فجر الإسلام، لأحمد أمين، مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، الطبعة السابعة 1959م. 599- فصل الخطاب فى إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، لحسين بن محمد تقى النورى الطبرى، طبع حجر. 6..- الفرقان، لابن الخطيب، المطبعة المصرية بالقاهرة، الطبعة الأولى1367هـ-1948م. 6.1- الفصول المهمة فى تأليف الأمة، لعبد الحسين شرف الدين الموسوى، مطبعة العرفان، صيدا سنة 133.هـ. 6.2- الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار الغربى، للدكتور محمد البهى، مكتبة وهبة، الطبعة الثانية عشر 1411هـ-1991م. 6.3- الفكر الإسلامى نقد واجتهاد، لمحمد أركون، ترجمة هاشم صالح، دار الساقى، بيروت، الطبعة الثالثة 1998م. 6.4- فى الأدب الجاهلى، لطه حسين، دار المعارف، مصر، الطبعة السادسة عشر. 6.5- الاقتراح فى علم أصول النحو، للسيوطى، تحقيق الدكتور أحمد محمد قاسم، القاهرة، الطبعة الأولى 1396هـ-1976م. 6.6- قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدو أهله، لعبد الودود يوسف، دار السلام بالقاهرة، 1413هـ-1994م. 6.7- قراءة فى صحيح البخارى، لأحمد صبحى منصور، مخطوط. 6.8- قرآن أم حديث، لرشاد خليفة، مسجد توسان، أمريكا. 6.9- القرآن والحديث والإسلام، لرشاد خليفة، مخطوط.

610- قصة الحديث المحمدى، لمحمود أبو رية، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986م. 611- الكامل فى اللغة والأدب، لأبى العباس محمد بن يزيد بن المبرد تحقيق محمد أحمد الدالى، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1413هـ-1993م.

612- الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، لمحمد شحرور، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1412هـ-1992م. 613- كشف اليقين فى فضائل أمير المؤمنين، للحسن بن يوسف بن المطهر الحلي، تحقيق حسين الدركاهى، دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية 1414هـ-1993م. 614- كلا ثم كلا، كلا لفقهاء التقليد ثم كلا لأدعياء التنوير، لجمال البنا، طبعة دار الفكر الإسلامى، لسنة 1414هـ-1994م. 615- كيف نتعامل مع السنة النبوية، للدكتور يوسف القرضاوى، دار الوفاء، بالمنصورة، الطبعة السابعة 1415هـ-1994م. 616- لقد شيعنى الحسين، الانتقال الصعب فى رحاب المعتقد والمذهب، لإدريس الحسينى، دار النخيل العربى، بيروت، الطبعة الرابعة 1416هـ-1996م. 617- لماذا القرآن، لعبد الله الخليفة=أحمد صبحى منصور، خال من مكان الطبع وتاريخه. 618- مائة سؤال عن الإسلام، للشيخ محمد الغزالى، دار ثابت، القاهرة، الطبعة الثالثة 14.7هـ-1987م. 619- المتآمرون على المسلمين الشيعة، من معاوية إلى ولاة الفتنة، لموسى الموسوى، مكتبة مدبولى، الطبعة الثانية 1996م. 620- مجتمع يثرب العلاقة بين الرجل والمرأة فى العهدين المحمدى والخليفى، لخليل عبد الكريم، دار سينا، القاهرة، الطبعة الثانية 1997م. 621- المدخل لدراسة القرآن والسنة والعلوم الإسلامية، للدكتور شعبان محمد إسماعيل، دار الأنصار، مصر، الطبعة الأولى 14..هـ-198.م. 622- المراجعات، لعبد الحسين شرف الدين الموسوى، دار الأندلس، بيروت، بدون تاريخ. 623- مساحة للحوار من أجل الوفاق ومعرفة الحقيقة، لأحمد حسين يعقوب، الغدير، بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ-1997م. 624- المسلم العاصى، هل يخرج من النار ليدخل الجنة، لأحمد صبحى منصور، القاهرة، الطبعة الأولى 14.7هـ-1987م. 625- المسيح عليه السلام فى القرآن الكريم، للدكتور رمضان مصطفى دياب، مخطوط بكلية أصول الدين بالقاهرة رقم 957.

626- مسيلمة فى مسجد توسان، الظهور الجديد، وراء المحيطات، للدكتور طه الدسوقى حبيشى، مكتبة رشوان، القاهرة. 627- المستشرقون والتراث، للدكتور عبد العظيم الديب، دار الوفاء بالمنصورة، الطبعة الثانية 1413هـ-1992م. 628- مصباح الهداية فى إثبات الولاية، لعلى الموسوى البهبانى، الناشر: أصفهان كتابفروش دين ودانش، جاب دون – مطبعة ربانى. 629- مصطلح التاريخ، لأسد رستم، منشورات العصرية، بيروت، بدون تاريخ. 630- معالم المدرستين، لمرتضى العسكرى، الدار العالمية، بيروت، الطبعة الخامسة 1414هـ-1993م. 631- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية الله العلم والإرادة، لابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت. 632- مفهوم النص، للدكتور نصر أبو زيد، خال من مكان الطبع وتاريخه0 633- مقدمات العلوم والمناهج، للأستاذ أنور الجندى، دار الأنصار، القاهرة. 634- مناهج المستشرقين فى الدراسات العربية والإسلامية، لجماعة من العلماء، مكتب التربية العربى لدول الخليج، الرياض، 1405هـ-1985م. 635- من التوجيهات النبوية للأسرة الإسلامية، للدكتور سعيد محمد صوابى، مطبعة الفجر الجديد، 1411هـ-1990م. 636- منع تدوين الحديث أسباب ونتائج، لعلى الشهرستانى، مؤسسة الأعلمى للمطبوعات، بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ-1997م. 637- موازين القرآن والسنة للأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة، لعز الدين بليق، دار الفتح، بيروت، الطبعة الأولى 1403هـ-1983م. 638- المؤامرة على الإسلام، للأستاذ أنور الجندى، دار الاعتصام، القاهرة. 639- المؤتمر الحادى عشر لمجمع البحوث الإسلامية، الدعوة والدعاة،1408هـ-1988م. 640- موقف الإسلام من المجتمع الجاهلى، للدكتور جعفر السقا، جمعية الوقف الإسلامى، هولندا، الطبعة الأولى 1409هـ. 641- موقف النجاة من الاحتجاج بالحديث، للدكتورة خديجة الحديثى، دار الرشيد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية.

642- الميزان فى تفسير القرآن، للسيد محمد حسين الطباطبائى، دار الكتب الإسلامية بطهران، الطبعة الثانية. 643- نحو تطوير التشريع الإسلامى، لعبد الله أحمد النعيم، ترجمة وتقديم حسين أحمد أمين، دار سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 1994م. 644- نحو فقه جديد، لجمال البنا، دار الفكر الإسلامى، القاهرة، بدون تاريخ. 645- النسخ والبداء فى الكتاب والسنة، لمحمد حسين الحاج العاملى، دار الهادى، بيروت، 1418هـ-1997م. 646- النص والاجتهاد، لعبد الحسين شرف الدين الموسوى، مؤسسة الأعلمى للمطبوعات، بيروت، الطبعة الرابعة 1386هـ-1966م. 647- نظرة القرآن إلى الجريمة والعقاب، للدكتور محمد عبد المنعم القيعى، دار المنار، القاهرة، 1408هـ-1988م. 648- نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية فى الإسلام، لأحمد حسين يعقوب، مطبعة الخيام، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، بدون تاريخ. 649- نقد الحديث فى علم الرواية والدراية، للدكتور حسين الحاج حسن، مؤسسة الوفاء، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ-1985م. 650- نقد الخطاب الدينى، لنصر أبو زيد، دار سينا، القاهرة، الطبعة الثانية 1994م. 651- كتاب نصر أبو زيد ودحض شبهاته، للدكتور رفعت فوزى عبد المطلب، مكتبة الخانجى بالقاهرة، الطبعة الأولى 1417هـ-1996م. 652- وركبت السفينة، لمروان خليفات، الغدير للدراسات والطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ-1997م. 653- وعاظ السلاطين، لعلى الوردى، دار كوفان، لندن، توزيع دار الكنوز الأدبية، بيروت، الطبعة الثانية 1995م. 654- لا ناسخ ولا منسوخ فى القرآن، لأحمد صبحى منصور مركز المحروسة بالمعادى، الطبعة الأولى 1997م. 655- يوسف شاخت حياته وآثاره، لروبير برونشفيج، ترجمة الدكتور عبد الحكيم الأربد، نشر مجلة كلية الدعوة بليبيا، العدد 11 لسنة 1994م.

تاسعا: الدوريات:

تاسعاً: الدوريات: 656- مجلة الأزهر الشريف، تصدر عن مجمع البحوث الإسلامية، العدد ربيع الأول لسنة 1418هـ-1997م، والعدد ربيع الآخر لسنة 1418هـ-1997م. 657- جريدة أفاق عربية، 17، ربيع الآخر 1418م. 658- مجلة كلية أصول الدين بالقاهرة، دار الطباعة المحمدية بالقاهرة، العدد الثانى لسنة 1404هـ-1984م. 659- مجلة كلية الدعوة الإسلامية، تصدر عن كلية الدعوة الإسلامية، الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى، طرابلس، الأعداد 8 لسنة 1991م، و10 لسنة 1993م، و11 لسنة 1994م. 660- مجلة روز اليوسف، الأعداد: 3530، 3559، 3563، 3564، لسنة 1411هـ-1996م، والعدد 3586 لسنة 1417هـ-1997م. 661- مجلة العربى، العدد 480، 1419هـ-1998م. 662- جريدة مجمع اللغة العربية، بمجموعة القرارات العلمية فى خمسين عاماً، أخرجها وراجعها محمد شوقى أمين، وإبراهيم الترزى، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1984م. 663- مجلة المنار، لمحمد رشيد رضا، مطبعة المنار، مصر الأعداد 9، 10، 11، 12، 19، 21، 27، 28، 29، 33 0 664- مجلة الوعى الإسلامى، تصدرها وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت، العدد 375، لسنة 1417هـ-1997م، والعدد 396 لسنة 1419هـ-1998م. *** *** ***

§1/1