قواعد الترجيح المتعلقة بالنص عند ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير

عبير بنت عبد الله النعيم

المملكة العربية السعودية جامعة الملك سعود عمادة الدراسات العليا كلية التربية قسم الثقافة الإسلامية قواعد الترجيح المتعلقة بالنص عند ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير" دراسة تأصيلية تطبيقية رسالة علمية مقدمة استكمالاً لمتطلبات الحصول على درجة الدكتوراه في الآداب تخصص: تفسير إعداد الطالبة عبير بنت عبد الله النعيم الرقم الجامعي: 426221310

إشراف فضيلة الدكتور /ناصر بن محمد المنيع أستاذ التفسير وعلومه المشارك العام الدراسي 1429 - 1430 هـ إهداء إلى من عشق الفؤاد قربهما ... إلى من سكنت الروح في حضنهما إلى من صاغا لي أجمل معاني الحياة ... إلى من حياتي لهم أسيرة إلى من أضاءا لي كل بصيرة ... إلى من يتقازم كل حب أمام حبهما إلى الحضن الدافئ والبلسم الشافي ... إلى والديّ الغاليين حفظهما الله أهدي هذه الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد: فقد نزل القرآن بلسان عربي مبين، لم تشبهه عجمة، ولم يكدره لبس، عجز بلغاء العرب وفصحاؤهم عن الإتيان بمثله، سره في يسره، وإعجازه في وفائه، فأذعن البلغاء لبلاغته، وركن الحكماء إلى حكمته، وأدهشت علماء التشريع أحكامه. ما أقبلت عليه أمة تلاوة وعملاً فذلت، ولا أدبرت عنه أمة فعزت، ولو ابتغت في الأرض نفقاً، أو اتخذت في السماء سلماً. أقبل عليه العلماء منذ نزل يتدبرون آياته، ويستنبطون أحكامه، ويستلهمون هداياته، ويعلمون أذهانهم في استنباط معانيه، وما زالت معانيه تفيض وبحاره تتجدد. وها نحن بعد قرون وقرون نرى عزم العلماء يتجدد، وعطاؤهم يتمدد، وكأن معاني القرآن لا تزال بكراً لم تطمث من قبل، بل ما زالوا يعملون أذهانهم في التفسير وأصوله الترجيح وقواعده، على تفاوت بينهم. وابن عاشور طبري زمانه علماً، وزمخشري أوانه بلاغة، يعني بقواعد التفسير والاستنباط، بل قواعد الترجيح والاختيار عناية ظاهرة، كيف لا والبلاغة صبغة تفسيره، وكشف المعاني البلاغية الدقيقة ديدنه، فلا عجب أن يكون لهذه الكنوز أبواب ومداخل ولها ضوابط وقواعد.

وقد تصدت الباحثة الدكتورة/ عبير بنت عبد الله النعيم في رسالتها للدكتوراه لهذا الأمر -وأحسبها- قد أحكمته وأتقنته فجاءت رسالتها وافية، بل أقتصرت على نوع واحد من قواعد الترجيح وهي قواعد الترجيح المتعلقة بالنص وبعنوان (قواعد الترجيح المتعلقة بالنص عند ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير دراسة تأصيلية تطبيقية)، وظهرت شخصية الباحثة، ليس في جمع وعرض هذه القواعد ومناقشتها فحسب بل خصصت فصلاً لتقويم منهج ابن عاشور في الترجيح، درست فيه معالم منهج ابن عاشور في الترجيح ومميزاته، والمؤاخذات على منهجه، وأثر عقيدته في صياغة القواعد والترجيح بها، ولا شك أن مثل هذا يحتاج إلى دقة في الفهم وثقة علمية وظهور شخصية. وقد أصدرت هذا البحث الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه (تبيان) ضمن إصداراتها العلمية، وهي تعني بنشر الكتب والرسائل العلمية المتميزة والنافعة. أسأل الله أن يعم بنفعها وعلمها، وأن يكون فتحاً للباحثين لتوسيع أفق الموضوع، وفق الله الجميع وسدد الخطى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وكتبه أ. د. فهد بن عبد الرحمن الرومي رئيس اللجنة العلمية بالجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه "تبيان"

المقدمة

المقدمة إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً ... وبعد: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} (¬2). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)} (¬3). أما بعد: فإن شرف العلم على قدر شرف المعلوم، وإن أحق ما يتعلمه المتعلمون، وأشرف ما يشتغل به الباحثون، وأفضل ما يتسابق إليه المتسابقون، مدارسة كتاب الله، فهو خير ما صرفت إليه الهمم، وأعظم ما نطق به لسان، وجال فيه ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية (102). (¬2) سورة النساء، الآية (1). (¬3) سورة الأحزاب، الآية (70).

فكر، ومُدَّ به قلم، فقد أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأحسن بيانٍ وأجمل عبارةٍ، وأبلغ دلالةٍ وهدايةٍ، غير أن الغاية العظمى من إنزاله هي تدبره، والعمل بمقتضى أحكامه وشريعته، والاعتبار بقصصه وأخباره، والاستنارة بتوجيهاته وهداياته، والتفكر في آياته ومعانيه، فهو كتاب هذه الأمة المباركة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وهو السبيل إلى عزها ونصرها وسموها. وقد ندب الله تعالى خلقه إلى فهمه وتدبر معانيه، فقال عز من قائل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬1). وقد أدرك المسلمون كبير فضل الله عليهم، فأفنوا الأعمار واجتهدوا في خدمة دين الله، وتبليغ رسالته، ودراسة كتابه المجيد. هذا ولا يمكن للراغب في دراسة فن من الفنون أن يحصِّلٌ فيه تحصيلاً معتبراً إلا بمعرفة قواعده، والأصول التي تبنى عليها مسائله، وقد حرص أهل الشأن على الحيلولة دون العبث بتفسير النص، فعمدوا بعد استقراء وجمع إلى استنباط مجموعة من القواعد التي تعين على التفسير السليم، ولتكون بمثابة الميزان الذي يعرف به التفسير المقبول من غيره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (82).

عظيم "اهـ (¬1). ومعلوم أن الأصول والقواعد للعلوم بمنزلة الأساس للبنيان، من خلالها نعرف أصح الأقوال وأولاها بالقبول في تفسير كتاب الله تعالى. ولقد آتت هذه الضوابط والمعالم ثمارها، وبرزت آثارها، فصار لها حضور مشهود لدى مفسري القرآن الكريم، والتي صارت تعرف فيما بعد بقواعد الترجيح، والتي صاحبها كذلك قواعد عرفت بقواعد التفسير. ولقد تفاوتت عناية المفسرين بهذه القواعد، من حيث الإشارة إليها أو التأصيل لها، وكان الإمام محمد الطاهر بن عاشور ممن عني بها في تفسيره المسمى" التحرير والتنوير" والذي اختصره من اسمه الأصلي " تحرير المعنى السديد، وتنوير العقل الجديد، وتفسير الكتاب المجيد "، والمتأمل فيه يجد لمؤلفه عقلاً راجحاً، ورأياً صائباً، وسعة فكر، وقوة بيان، وحجةً قويةً، وبرهاناً قاطعاً. قال ابن عاشور: " إن علم التفسير لا يخلو من قواعد كلية في أثنائه مثل تقرير قواعد النسخ عند تفسير {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (¬2) وتقرير قواعد التأويل عند تقرير {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (¬3) وقواعد المحكم عند تقرير {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} (¬4) فسمي مجموع ذلك وما معه علما تغليبا " (¬5). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، ج 19، ص 203. (¬2) سورة البقرة، الآية (106). (¬3) سورة آل عمران، الآية (7). (¬4) سورة آل عمران، الآية (7). (¬5) التحرير والتنوير، ج 1، ص 13.

مشكلة البحث

وكون هذا الكتاب له قيمته العلمية التي لا تخفى على كل مهتم بعلم التفسير، فقد عزمت البحث مستعينة بالله العظيم على استنباط ودراسة قواعد الترجيح المتعلقة بالنص القرآني والتي اعتمدها ابن عاشور في الترجيح في تفسيره، فكانت هذا الدراسة بعنوان: (قواعد الترجيح المتعلقة بالنص عند ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير") مشكلة البحث: تتجلى مشكلة البحث في أن كثيراً من المفسرين يذكر الأقوال المختلفة في الآية دون ترجيح فيكتفي بعرضها فقط، أو عرض الرأي الذي يراه مجرداً، أو على سبيل الحكاية، حتى كثرت هذه الأقوال واختلط الحق فيها بالباطل، الأمر الذي جعل التمييز بين هذه الأقوال ودراستها والتعمق فيها ضرورة ملحة، لذا لزم الأمر أن تُدرس كتب التفسير ويبين فيها صحة اختيارات وترجيحات المفسرين أو خطؤها، وبيان القواعد التي أقام عليها هؤلاء المفسرين ترجيحاتهم. ولما كان الرجوع إلى النص القرآني يعد من القواعد المهمة في الترجيح بين الأقوال من خلال معرفة الناسخ والمنسوخ، والقراءات، والسياق القرآني، والغالب من أسلوب القرآن، وغيرها من الأمور المتعلقة بالنص رأيت من الأهمية دراسة هذه القواعد. وكون ابن عاشور أحد المفسرين الذين اعتنوا بدلالة النص القرآني، حيث كان لها أثر ظاهر في اختياراته وترجيحاته، آثرت إبراز هذا الجهد بالبيان والتمثيل من خلال هذه الدراسة.

حدود البحث

حدود البحث: يقتصر البحث على ترجيحات ابن عاشور في ضوء قواعد الترجيح المتعلقة بالنص القرآني, وذلك من خلال تفسيره "التحرير والتنوير"، والطبعة المعتمدة في هذا البحث: طبعة دار سحنون التونسية للنشر والتوزيع. أهمية البحث وأسباب اختياره: 1 - الرغبة الملحة في قراءة هذا التفسير الضخم المبسوط في حجمه، والذي قضى المؤلف في تأليفه ما يقارب أربعين عاماً، حتى صيّره دائرة معارف أو موسوعة علمية. 2 - أهمية قواعد الترجيح في استنباط معاني القرآن، وفهمها على الوجه الصحيح، وضبط التفسير بقواعده الصحيحة لا سيما والمتعلقة بالنص القرآني، موضع عناية البحث. 3 - ما يورثه التعامل مع قواعد الترجيح من ملكة علمية، وفائدة عظيمة تعين على فهم القرآن، ومعرفة تفسيره. 4 - بيان مدى إنزال ابن عاشور قواعد الترجيح المتعلقة بالنص منزلتها بين القواعد. 5 - بيان مدى موافقته أو مخالفته لمن سبقه من المفسرين ممن عنوا بهذا الجانب. 6 - معرفة وجوه الترجيح التي يستعملها العلماء في الترجيح في التفسير والمقارنة والموازنة بين هذه الأقوال.

الدراسات السابقة

7 - أهمية هذه الدراسة في إبراز قواعد الترجيح المتعلقة بالنص، وتفاوتها في القوة مع القواعد الأخرى ذات الصلة بالآثار واللغة، وبيان كيفية التعامل مع القواعد الترجيحية، وأيها يقدم حال تنازعها. 8 - لم يسبق أحد - فيما أعلم - إلى تحرير هذا الموضوع مع عظيم أهميته، وشدة الحاجة إليه. الدراسات السابقة: بعد البحث والسؤال لدى كل من مؤسسة الملك فيصل، ومكتبة الملك فهد الوطنية، وبعض الجامعات، وبعض المختصين، تبين أنه ليس هناك أي دراسة خاصة مستقلة في هذا الموضوع، وإنما هناك دراسات عامة في ابن عاشور وتفسيره ,من أهمها: 1 - ابن عاشور ومنهجه في تفسيره التحرير والتنوير / للباحث عبد الله بن إبراهيم الريس، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، رسالة ماجستير، 1408 هـ. اعتنى الباحث في القسم الأول من الرسالة بترجمة ابن عاشور من الناحية السياسية، والعلمية، والاجتماعية، وجعل القسم الثاني من الرسالة في منهج ابن عاشور في تفسيره تحدث فيه عن أسلوبه وطريقته في عرض المعلومات، ومدى عنايته بالتفسير بالمأثور، وموقفه من التفسير بالرأي، ومنهجه في تفسير آيات الأحكام، ثم جعل القسم الثالث من الرسالة في تقويم تفسيره من حيث المميزات والمؤاخذات عليه.

2 - استدراكات الإمام محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره على من سبقه في أسباب النزول جمعا ودراسة / سعيد محمد بن سعد الشهراني، جامعة الملك سعود، (1421 هـ) , بيَّن فيها الباحث مدى عناية ابن عاشور بأسباب النزول من حيث المصادر التي اعتمد عليها، ومنهجه في التعامل معها. كما جعل قسماً من الرسالة في بيان أسباب النزول التي ردّها لعلة في السند ومنها الضعيفة والموضوعة، وجعل قسماً آخر في بيان أسباب النزول التي ردّها لعلة في المتن ومنها أسباب النزول التي ردّها لمخالفتها السياق، ومنها أسباب النزول التي ردّها لوجود سبب نزول أقوى منها، ومنها أسباب النزول التي ردّها لنزول الآية قبل وقوع الحادثة أو بعدها بفترة طويلة. 3 - الإمام الطاهر محمد ابن عاشور ومنهجه في توجيه القراءات من خلال كتابه التحرير والتنوير / محمد سعد عبد الله القرني، جامعة أم القرى، رسالة ماجستير، (1424 هـ)، اعتنى فيها الباحث بشروط القراءات وفوائدها عند ابن عاشور ومنهجه في عزوها، وطريقة عرضها، كما بيّن فيها وهو لب رسالته توجيه القراءات عند ابن عاشور من حيث مصادره في توجيه القراءات، وتعبيراته، وموقفه من الترجيح بين القراءات المتواترة، ودفاعه عنها ضد الطاعنين بها، وكذلك موقفه من القراءات الشاذة. 4 - محمد الطاهر ابن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة الإسلامية / الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: دولة قطر، (1425 هـ) اعتنى فيها المؤلف بكتاب الشيخ ابن عاشور مقاصد الشريعة

الإسلامية وبحثه في ثلاثة أجزاء، الجزء الأول جعلها في ترجمته وبيان حركته الإصلاحية، والحديث عن مؤلفاته، والثاني ساير فيه مقاصد الشريعة مضيفاً إليها جملة من البحوث الأصولية، والثالث في كتاب المقاصد المتميز بمباحثه وأصوله واعتنى به من حيث تحقيقه ونشره بعد إقامة نصه، والتقديم له والتعليق عليه ليكون ميسوراً على من يقف عليه من طلاب العلم والمراجعين. 5 - قواعد الترجيح المتعلقة بلغة العرب في تفسير ابن عاشور / عليوي بن عبد الله الشمراني / رسالة دكتوراه: جامعة الملك سعود، والدراسة لا زالت قيد البحث.

أهداف البحث

أهداف البحث: 1 - معرفة قواعد الترجيح المتعلقة بالنص في تفسير ابن عاشور. 2 - بيان مدى عناية ابن عاشور بقواعد الترجيح المتعلقة بالنص. 3 - التعرف على منهج ابن عاشور في الترجيح، وموقفه من الأقوال الأخرى. 4 - بيان مدى اهتمام ابن عاشور بالتعليل للقواعد التي يرجح قوله بناءً عليها. 5 - إيضاح منهج ابن عاشور في ترجيحه عند تنازع قواعد الترجيح في المثال الواحد. 6 - تقييم منهج ابن عاشور في الترجيح. 7 - الكشف عن الطريق الأمثل للوصول إلى الراجح من الأقوال في التفسير. أسئلة البحث: - ماهي قواعد الترجيح المتعلقة بالنص في تفسير ابن عاشور؟ - ما مدى عناية ابن عاشور بقواعد الترجيح المتعلقة بالنص في تفسيره؟ - كيف تعامل ابن عاشور مع هذه القواعد عند الترجيح بها؟ . - هل التزم ابن عاشور التعليل لهذه القواعد عند اختياره؟ . - هل كان ابن عاشور يقدّم قواعد الترجيح المتعلقة بالنص على غيرها من القواعد؟

المنهج في كتابة البحث

- ما منهج ابن عاشور في الرد على الأقوال المرجوحة؟ - ماهو الطريق الأمثل للوصول إلى القول الراجح عند اختلاف الأقوال؟ . المنهج في كتابة البحث: اتبعت في هذا البحث المنهج الاستقرائي الموصول بالتحليل، ويتمثل في استقصاء كل القواعد المتعلقة بالنص القرآني والتي نص عليها ابن عاشور في تفسيره، ثم المناقشة من خلال الجمع وتحليل الأقوال للوصول إلى النتائج. إجراءات البحث: - استخراج واستنباط قواعد الترجيح المتعلقة بالنص من تفسير ابن عاشور. ومنهجي في دراسة هذه القواعد كالآتي: 1 - عرّفتُ بالقاعدة، وشرحتُ مفرداتها إذا كانت تحتاج إلى الشرح، ثم بيّنتُ مدى اهتمام ابن عاشور بها وموقف العلماء منها. وهذه القواعد منها مانصّ عليها ابن عاشور بلفظه، ومنها ما ذكرها بمعناها، ومنها ماهو موافق للقواعد المشهورة عند العلماء، ومنها ماتفردّ به ابن عاشور. كما أن بعض هذه القواعد الترجيحية قواعد تفسيرية، تفسّر بها آيات القرآن ابتداء، وذكرتها هنا لمخالفة بعض الأقوال لها، فهي تفسيرية من حيث إنه ينبغي أن تفسر الآية ابتداء، وترجيحية من حيث النظر بها بين الأقوال المختلفة في التفسير، فهي تفسيرية من وجه وترجيحية من وجه آخر. 2 - ذكرتُ عدداً من الأمثلة التطبيقية لهذه القواعد فيما لا يقل عن خمسة

أما المنهج المتبع في دراسة تلك الأمثلة فهو الآتي

أمثلة، مع الإحالة في نهاية المثال في الهامش إلى نظائره من تفسير ابن عاشور إن أمكن، وأذكر فيها الشاهد من كلامه في الترجيح مع ذكر الجزء ورقم الصفحة. أما المنهج المتبع في دراسة تلك الأمثلة فهو الآتي: - أذكر الآية والأقوال المختلفة في تفسيرها، وغالباً ما أذكرها من تفسير ابن عاشور إن كان مستوعباً لها ثم أذكر اختيار ابن عاشور فيها، وأبرز القاعدة التي اعتمد عليها في ترجيحه، وإن خالف القاعدة التي اعتمدها فإنني أبين سبب ذلك، ثم أُثِّّني بموقف المفسرين منها ببيان أقوالهم وحججهم التي استندوا إليها. - لا أخرِّج النصوص التي يذكرها ابن عاشور وغيره من المفسرين سواءٍ كانت أحاديث أو أقوالاً للمفسرين إلا إذا لزم الأمر؛ كأن يكون النص له علاقة بالترجيح. - أذكر توجيهات العلماء لتلك الأقوال، وأسعى إلى الترجيح حسب قواعد الترجيح وضوابطها المعتبرة عند العلماء مجتهدة في ذكر القواعد التي تعضد الرأي الراجح ما أمكن. - أسرد أقوال أهل العلم في الدراسة التأصيلية حسب تواريخ وفاتهم، وقد أعدل قليلاً عن هذا المنهج لضرورة، وذلك مثلاً إذا كان قول المتأخر شرحاً أو تعليقاً لقول المتقدم، وهكذا في الإحالات الواردة في الحاشية يقدم المتقدم على المتأخر في الوفاة.

- أذكر ترجيح ابن عاشور في كل مسألة، وأبيّن مدى موافقته للصواب. - اخترت عشرة تفاسير لمقارنة قول ابن عاشور بها، وراعيت في ذلك تنوع أسلوب عرضها بعداً عن التكرار، وهذه الكتب هي: 1 - تفسير الإمام الطبري (جامع البيان)، ت 310 هـ. 2 - المحرر الوجيز / ابن عطية، ت 542 هـ. 3 - التفسير الكبير/ الرازي، ت 606 هـ. 4 - الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ت 671 هـ. 5 - البحر المحيط / أبو حيان، ت 745 هـ. 6 - تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ت 774 هـ. 7 - فتح القدير / الشوكاني، ت 1250 هـ. 8 - روح المعاني / الألوسي، ت 1270 هـ. 9 - محاسن التأويل / القاسمي، 1332 هـ 10 - أضواء البيان / الشنقيطي، ت 1393 هـ. ولا يعني اختيار هذه الكتب إغفال بقية كتب التفسير الأخرى، فقد رجعت بعون من الله إلى العديد من كتب التفسير التي يظهر لي اهتمامها بالخلاف والترجيح حول قاعدة معينة. - قد أحتاج أحياناً إلى إدخال بعض كلامي أثناء نص منقول بلفظه لأحد من العلماء لإيضاح ونحوه، فأميزه بوضعه معترضاً بين شرطتين هكذا - ... -. - توثيق المادة العلمية على النحو التالي:

أعزو الآيات القرآنية إلى سورها. ب-عزو القراءات القرآنية الواردة في الدراسة إلى مصادرها الأصلية مع بيان المتواتر منها والشاذ. ج- تخريج الأحاديث والآثار من مصادرها الأصلية. د-شرح غريب الألفاظ والمصطلحات، وضبط ذلك بالشكل. هـ-التعريف بالأعلام غير المشهورين، وهم قليل لأن أغلب من ذكر في هذه الرسالة هم من المشهورين. و- عمل الفهارس اللازمة. وسرت في بحثي هذا على خطة مرسومة مكونة من: مقدمة وتمهيد وسبعة فصول وخاتمة.

خطة البحث

خطة البحث يشتمل هذا البحث على مقدمة وتمهيد وسبعة فصول وخاتمة. المقدمة وتشمل: أسباب اختيار الموضوع، وأهداف البحث، وأسئلته، والدراسات السابقة، ومنهج البحث , وإجراءاته. التمهيد: وفيه مبحثان: المبحث الأول - التعريف بالمؤلف. المبحث الثاني - التعريف بتفسيره، وبيان منهجه فيه. الفصل الأول: مقدمات في قواعد التفسير والترجيح وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: معنى القاعدة والتفسير والترجيح، وبيان مفهومهما عند المفسرين. المبحث الثاني ... : الفرق بين قواعد الترجيح وقواعد التفسير. المبحث الثالث: نشأة قواعد الترجيح. المبحث الرابع: أنواع قواعد الترجيح. المبحث الخامس: الأسباب الموجبة للترجيح. المبحث السادس: قواعد التفسير عند ابن عاشور. الفصل الثاني: قواعد الترجيح المتعلقة بذات النص القرآني وفيه خمسة مباحث:

المبحث الأول: القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره. المبحث الثاني: الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره مالم يرد دليل يصرفه عن ظاهره. المبحث الثالث: الأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن. المبحث الرابع: يقدم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة. المبحث الخامس: إذا خلت الأقوال في الآية من مستند شرعي وكانت متساوية في القوة، فالقول الموافق لما جاء في التوراة مقدم على غيره. الفصل الثالث: قواعد الترجيح المتعلقة بالنسخ وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: الأصل عدم النسخ ما لم يقم دليل صحيح صريح على خلاف ذلك. المبحث الثاني: النسخ لا يقع في الأخبار. المبحث الثالث: إن الزيادة على النص ليست بنسخ. المبحث الرابع: الإجماع يعد ناسخاً. المبحث الخامس: التخصيص بعد العمل بالعام، والتقييد بعد العمل بالمطلق لا يُعدُّ نسخاً. الفصل الرابع: قواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورسم المصحف وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: القراءات المتواترة حق كلها نصاً ومعنى لا يجوز ردها أو رد معناها. المبحث الثاني: الأصل توافق القراءات في المعنى.

المبحث الثالث: اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة. المبحث الرابع: تأتي القراءة في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية. المبحث الخامس: التفسير الموافق لرسم المصحف مقدم على غيره من التفاسير. الفصل الخامس: قواعد الترجيح المتعلقة بالسياق القرآني وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره، مالم توجد حجة يجب إعمالها. المبحث الثاني: القول المبني على مراعاة النظم، وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره. المبحث الثالث: لكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها، فلا تعارض بين الآيات. الفصل السادس: قواعد الترجيح المتعلقة بالمفردة القرآنية وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: إعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى. المبحث الثاني: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. المبحث الثالث: إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها. الفصل السابع: تقويم منهج ابن عاشور في الترجيح وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: معالم منهج ابن عاشور في الترجيح ومميزاته،

وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: صيغ الترجيح عند ابن عاشور. المطلب الثاني: منهج ابن عاشور في استعمال وجوه الترجيح. المطلب الثالث: مميزات الترجيح عند ابن عاشور. المبحث الثاني: المؤاخذات على منهج ابن عاشور في الترجيح. المبحث الثالث: أثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها. الخاتمة: وفيها أهم النتائج العامة والتوصيات الهامة على ضوء هذا البحث. الفهارس وتضمنت ما يلي: - فهرس الآيات القرآنية. - فهرس الأحاديث والآثار. - فهرس الأعلام المترجم لهم. - فهرس المصادر والمراجع. - فهرس الموضوعات.

كلمة شكر وتقدير

كلمة شكر وتقدير {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (¬1). فبتوفيق الله وإعانته أنجزت هذا البحث، فله الحمد والشكر والثناء الحسن في الأولى والآخرة على تيسيره وتسهيله. ثم أتقدم بالشكر الجزيل والدعاء العريض لوالدي الكريمين اللذين لا أستطيع أن أوفيهما حقهما، فنور عينيهما يضيء لي طريقي، وبركة دعاؤهما فتحت لي أبواباً كانت مغلقة، فأسأل الله العلي العظيم أن يجزهما عني من الخير أجزله، ومن الثواب أعظمه، وأن يحفظهما ويبارك لهما في حياتهما ويمدهما بالصحة والقوة والعافية. ثم أتقدّم بالشكر الجزيل لجامعة الملك سعود والقائمين عليها، ولا يفوتني أن أشكر وأدعو لجميع أساتذتي الكرام الذين درست على أيديهم فلهم الفضل بعد الله تعالى في وصولي لهذه المرحلة، وأخص بالشكر والتقدير وفائق الاحترام أستاذي الفاضل المشرف على هذا البحث فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ / ناصر بن محمد المنيع أستاذ التفسير وعلومه المشارك بكلية التربية في جامعة الملك سعود بالرياض على تفضله بقبول الإشراف على رسالتي، وعلى ما منحني من جهده ووقته وعلمه، وقد أفادني بتوجيهاته السديدة وإرشاداته القيمة، ¬

(¬1) سورة النمل، الآية (19).

وأعارني بعض المراجع المهمة، فله الشكر الجزيل، والثناء العاطر، والدعاء المتواصل أن يجزيه الله خير الجزاء، وأن يوفقه لصالح العمل، ويشرّفه بخدمة كتاب الله تعالى، ويبارك في حياته إنه سميع الدعاء. كما أتقدم بالشكر والعرفان لفضيلة المناقشين الفاضلين: فضيلة الأستاذ الدكتور إبراهيم بن سليمان الهويمل وكيل الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأستاذ التفسير وعلومه المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وفضيلة الأستاذ الدكتور زيد بن عمر بن عبد الله العيص أستاذ التفسير وعلومه المشارك في قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الملك سعود على قيامهما بتقويم هذه الرسالة، ومناقشتها، وإبداء ملاحظاتهما القيمة. فجزاهما الله كل خير، وجعلهما عوناً لطلاب العلم على إتمام المسيرة العلمية. ويقف قلمي حائراً عند تسطير شكري وجل تقديري لزوجي العزيز أ / محمد عبد الله النعيم، الذي ساهم في دفع عجلة هذا البحث للوصول به إلى النور، حيث أحاطني بجو مفعم بالراحة والاطمئنان، ولم يتوان في تقديم المساعدات المتوالية لدعم مسيرتي العلمية، فأسأل الله تعالى أن يحفظه، وأن يديمه سنداً وعزاً لي، وأن يجزيه من خيري الدنيا ولآخرة. وباقة ورد معطرة تعبق بالحب والحنان أتوج بها أولادي؛ لما عانوه في مسيرتي العلمية, من انشغالي عنهم، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظهم، ويوفقهم، ويقرّ عيني بهم وأرجو الله أن يتقبل عملي هذا، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، ولا أدّعي

أني استكملت جوانب الموضوع فإن الكمال لله عز وجل، والنقص من طبيعة البشر، ولكنني بذلت وسعي، فما كان فيه من صواب فمن توفيق الله عز وجل، وما كان غير ذلك، فأستغفر الله منه، هو حسبي ونعم الوكيل. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، محمد إمام المتقين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

التمهيد

التمهيد وفيه مبحثان: المبحث الأول: التعريف بابن عاشور. المبحث الثاني: التعريف بكتا ب» التحرير والتنوير «.

المبحث الأول التعريف بابن عاشور

المبحث الأول التعريف بابن عاشور وفيه مطالب: المطلب الأول: نشأته وبيئته العلمية. المطلب الثاني: مذهبه الفقهي والعقدي ومؤلفاته.

المطلب الأول نشأته وبيئته العلمية

المطلب الأول نشأته وبيئته العلمية اسمه ونسبه: هو العلامة الإمام الشيخ محمد الطاهر الثاني بن الشيخ محمد بن محمد الطاهر الأول بن محمد الشاذلي بن عبد القادر محمد بن عاشور الشريف الأندلسي ثم التونسي (¬1). مولده: ولد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بقصر جده لأمه الوزير الشيخ محمد العزيز بو عتور، بالمرسى (¬2) ضاحية من ضواحي العاصمة التونسية في جمادى الأولى سنة (1296 هـ) الموافق لشهر سبتمبر (1879 م) (¬3). ¬

(¬1) دائرة المعارف التونسية / إشراف أحمد خالد ومحمد الطالبي وعبد القادر المهيري، ص 40. (¬2) مدينة ساحلية على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، تقع على مسافة 18 كيلو متراً، شمال مدينة تونس، وهي تمثل مع حلق الوادي الكرم وقرطاج ضاحيتها الشمالية، يبلغ تعداد سكان بلدية المرسى 77890 نسمة. (لم أقف على هذه المعلومات في كتب المعاجم والأمكنة، وإنما استقيت هذه المعلومات من الثقات من أهل بلاد تونس). (¬3) شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور / بلقاسم الغالي، ص 37.

نشأته

نشأته: نشأ الشيخ في بيئة علمية؛ فجده لأبيه عالم وهو قاضي قضاة الحاضرة التونسية، وجده لأمه الشيخ محمد العزيز بو عتور عالم أيضاً، تولى الوزارة، والأسرة من أفضل أسر العاصمة، ومن ذوي اليسار لها مكتبات علمية كالمكتبة العاشورية وغيرها تشتمل على مخطوطات نادرة في الأدب والدين والقانون، في هذا الوسط العلمي والسياسي والإصلاحي شبّ مترجمنا فحفظ القرآن الكريم حفظًا متقنًا منذ صغر سنه، وحفظ المتون العلمية كسائر أبناء عصره من التلاميذ، ثم تعلم ما تيسر له من اللغة الفرنسية (¬1). مسيرته العلمية والعملية: التحق الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بجامع الزيتونة في سنة (1303 هـ-1886 م) وثابر على تعليمه به حتى أحرز شهادة التطويع (¬2) سنة (1317 هـ-1899 م) وسمي عدلاً مبرزًا، وابتداءً من سنة (1900 م) إلى سنة (1932 م) أقبل على التدريس بجامع الزيتونة والمدرسة الصادقية كمدرس من الدرجة ¬

(¬1) انظر شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور / بلقاسم الغالي، ص 37 - 40. (¬2) تعطى هذه الشهادة بعد امتحان التطويع وكان امتحان التطويع من سنة (1292) إلى (1316) عبارة عن إلقاء درس واحد في كتاب يختاره التلميذ من الكتب التي له فيها دروس، والمشايخ والنظار يعينون له موضعاً منه ,ويعطونه ثمانية أيام لمطالعته وإلقائه، وإذا أحسن إلقاءه رُخِّص له الإقراء في الجامع الأعظم. انظر جامع الزيتونة المعلم ورجاله / محمد العزيز ابن عاشور، ص 115.

الثانية، فمدرسًا من الدرجة الأولى سنة (1905 م)، ثم عضوًا مؤسسًا للجنة إصلاح التعليم بجامع الزيتونة سنة (1910 م). التحق الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بالقضاء سنة (1911 م) فكان عضوًا بالمحكمة العقارية وقاضيًا مالكيًا، ثم مفتيًا مالكيًا سنة (1923 م) فكبير المفتين سنة (1924 م) فشيخ الإسلام للمذهب المالكي سنة (1932 م)، وقد باشر كل هذه المهام بمهارة ودقة علمية نادرة، وبنزاهة وحسن نظر، فكان حجة ومرجعًا فيما يقضي به، سمي شيخ جامع الزيتونة وفروعه لأول مرة في سبتمبر عام (1932 م) بعد أن اشترك في إدارة الكلية الزيتونية، ولكنه استقال من مشيخة جامع الزيتونة بعد سبتمبر عام (1933 م) بعد اضطرابات وقلاقل ظهرت دون ترو بسبب دسائس ترمي لمعارضة موقفه حيث اتهم باطلا بقضية فتوى التجنيس .. ، ثم سمي من جديد شيخًا لجامع الزيتونة سنة (1945 م) وفي سنة (1956 م) شيخًا عميدًا للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين حتى سنة (1960 م)، حيث أحيل إلى الراحة بسبب موقفه تجاه الحملة التي شنها بورقيبة يومئذ ضد فريضة الصيام في رمضان, حيث أعلن بورقيبة سنة (1945 م) قبل إعلان الاستقلال بسنتين أنه ينوي إقامة حكم لا ديني في البلد، حيث قرر وحزبه تجريد البلد من كل مقوماته الإسلامية، وتهجم على القرآن الكريم والسنة النبوية، والآداب الشرعية والعادات الإسلامية، وشن حرباً ضد الصيام، ودعا بورقيبة الشيخ ابن عاشور ليفتي في الإذاعة بفتوى تبيح الفطر في رمضان للعمال بدعوى زيادة الإنتاج بما يوافق هذا، لكن الشيخ رفض ذلك رفضاً قاطعاً

شيوخه وعلماء عصره

وصرح في الإذاعة بما يريده الله تعالى، بعد أن قرأ آية الصيام، وقال بعدها: "صدق الله وكذب بورقيبة"، فخمد هذا التطاول المقيت وهذه الدعوة الباطلة بفضل مقولة ابن عاشور (¬1). وكان مقبلاً على الكتابة والتحقيق والتأليف، فقد شارك في إنشاء مجلة السعادة العظمى مع صديقه العلامة الشيخ محمد الخضر حسين سنة (1952 م)، وهي أول مجلة تونسية، ونشر بحوثًا عديدة خصوصًا في المجلة الزيتونية ومجلات شرقية مثل هدى الإسلام، والمنار، والهداية الإسلامية، ونور الإسلام، ومجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، كما نشرت له مجلة المجمع العلمي بدمشق. وشارك في الموسوعة الفقهية التي تشرف عليها وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت بمبحث قيم. ارتحل إلى المشرق العربي وأوروبا، وشارك في عدة ملتقيات إسلامية، كما كان عضوًا مراسلًا لمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1956 م)، وبالمجمع العلمي العربي بدمشق سنة (1955 م) (¬2). شيوخه وعلماء عصره: اكتسب الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ثقافة واسعة شملت التفسير والحديث والقراءات، ومصطلح الحديث، والبيان، واللغة، والتاريخ، والمنطق، .. ¬

(¬1) انظر جامع الزيتونة المعلم ورجاله / محمد العزيز ابن عاشور ص 125. (¬2) انظر تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، ج 3، ص 306.

فقد تخرج على أيدي ثلّة من علماء عصره امتازوا بثقافة موسوعية في علوم الدين وقواعد اللغة العربية وبلاغتها وبيانها وبديعها، إلى جانب قدرة على التبليغ، ومعرفة بطرق التدريس، وتركيز على تربية الملكات في العلوم، ومن أشهر شيوخه: 1 - مصطفى رضوان السوسي: ولد بمدينة سوسة (¬1) سنة (1244 هـ)، من أسرة منحدرة من الجنود الأتراك، عُيِّن عضوا في مجلس تنظيم الدروس بجامع الزيتونة، مات سنة (1322 هـ) (¬2). 2 - أحمد جمال الدين الفقيه: ولد ببني خيار (¬3)، وتلقى العلم بجامع الزيتونة، ودرّس به، كان من أبرز تلامذته الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، مات بعد سنة (1323 هـ) (¬4). 3 - محمد العزيز بو عتور: هو الشيخ محمد العزيز بن محمد الحبيب ابن ¬

(¬1) سُوسة، بضم أوله , مدينة عظيمة في المغرب خرج منها محدثون وفقهاء وأدباء، منها فتح المسلمون جزيرة صقلية. انظر معجم البلدان / ياقوت الحموي، ج 3، ص 281, ودليل الجيب إلى تونس، ص 50. (¬2) انظر تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، ج 2، ص 365. (¬3) تقع بني خيار في ولاية (محافظة) نابل، مدينة زراعية وذات نشاط اقتصادي في مجال الصناعات التقليدية (التراث) وصناعة أحجار الواجهات من الأعمدة وأحجار البناء التجميلي. (لم أقف على التعريف بها في كتب المعاجم والأمكنة، وإنما استقيت هذه المعلومات من الثقات من أهل هذه البلاد). (¬4) انظر تراجم المؤلفين التونسيين/ محمد محفوظ، ج 2، ص 50.

الوزير محمد بو عتور، ولد سنة (1240 هـ) في تونس، وكان من أهل العلم البارزين، له آراؤه المستقلة، مات سنة (1325 هـ) (¬1). 4 - عمر بن أحمد بن علي بن حسن: المعروف بابن الشيخ، الفقيه المتكلم، العارف بالفلسفة، ولد سنة (1239 هـ)، بدأ التدريس في جامع الزيتونة سنة (1268 هـ)، مات سنة (1329 هـ) (¬2). 5 - الشيخ محمد بن عثمان النجار: أبو عبد الله، ولد سنة (1255 هـ) بتونس، وتولى منصب الإفتاء سنة (1312 هـ)، وكان يجمع بين الفتوى والتدريس بجامع الزيتونة، حتى توفي سنة (1331 هـ) (¬3) ... . 6 - صالح بن محمد الشريف الجزائري: أصله من الجزائر، ولد في حدود سنة (1285 هـ)، وانتصب للتدريس بالجامع الأعظم، مات سنة (1338 هـ) (¬4) ... . 7 - سالم بن عمر بو حاجب البنبلي: ولد ببنبلة (¬5) سنة (1244 هـ)، ¬

(¬1) شجرة النور الزكية في طبقات المالكية /محمد مخلوف، ص 419. (¬2) انظر تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، ج 2، ص 213، وشجرة النور الزكية / محمد مخلوف، ص 420. (¬3) انظر تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، ج 5، ص 16، وشجرة النور الزكية / محمد مخلوف، ص 421 (¬4) شجرة النور الزكية / محمد مخلوف، ص 425. (¬5) بنبلة: إحدى مدن الجمهورية التونسية، تقع في ولاية المنستير، تشقّها طرق رئيسة مهمة تربط بين مختلف مدن جنوبي الساحل ومدينة سوسة، وبين مدن غربي الساحل ومدينة المنستير. (دراسة خاصة حول مجتمع بنبلة / أستاذ التاريخ والجغرافيا نور السعيد البازي).

انتصب للتدريس بجامع الزيتونة سنة (1265 هـ)، ومات سنة (1342 هـ) (¬1) ... . 8 - محمد النخلي القيرواني: أبو عبد الله، ولد سنة (1285 هـ)، التحق بجامع الزيتونة سنة (1304 هـ)، فأخذ العلم عن جلة أعلامه إلى أن وصل مدرساً، مات بتونس سنة (1342 هـ) (¬2) ... . 9 - إبراهيم بن أحمد بن سليمان المارغني: ولد بتونس سنة (1281 هـ)، تميز في علم القراءات، وتخرج عليه الشيخ في القراءات السبع والعشر، مات سنة (1349 هـ) (¬3). 10 - محمد بن يوسف، من أعلام تونس في العصر الحديث، ولد بتونس سنة (1274 هـ)، وقد كانت له عناية بالأدب، درّس مقامات الحريري بجامع الزيتونة في حدود سنة (1315 هـ)، وكان يقرض الشعر، مات سنة (1358 هـ) (¬4). ¬

(¬1) انظر تراجم المؤلفين التونسيين/ محمد محفوظ، ج 2، ص 77، وشجرة النور الزكية / محمد مخلوف، ص 426 (¬2) انظر تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، ج 5، ص 26، وشجرة النور الزكية / محمد مخلوف، ص 425 (¬3) انظر تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، ج 4، ص 229. (¬4) انظر تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، ج 5، ص 150.

تلامذته

تلامذته: كان الشيخ ابن عاشور من الأعلام البارزين الذين درسوا في جامع الزيتونة، وأقرؤوا كتبا عدة من أمهات الكتب، وتخرج على يديه جماعة من كبار العلماء والمصلحين، سأذكر أبرزهم مرتبين على الوفيات، وهم: 1 - الشيخ عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس، ولد سنة (1308 هـ)، وهو رئيس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، له كتابات كثيرة جمعها: عمار الطالبي، بعنوان: ابن باديس حياته وآثاره. وهي تقع في أربع مجلدات. مات سنة (1359 هـ) (¬1). 2 - محمد الصادق بن محمد الشطي , ولد سنة (1312 هـ)، من مؤلفاته: تهذيب وتحرير إيضاح السالك في قواعد الإمام مالك للنوشريسي ,مات سنة (1364 هـ) (¬2). 3 - زين العابدين بن حسين، ولد بتونس سنة (1317 هـ)، من مؤلفاته: المعجم في النحو والصرف، والمعجم في القرآن، مات سنة (1377 هـ) (¬3). ¬

(¬1) انظر الأعلام / الزركلي، ج 3، ص 289. (¬2) انظر تراجم المؤلفين التونسيين /محمد محفوظ، ج 3، ص 196، الأعلام / الزركلي، ج 6، ص 162. (¬3) تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، ج 2، ص 136.

4 - محمد بن خليفة بن حسن بن الحاج المشهور بالمدني، ولد سنة (1307 هـ)، من مؤلفاته: تفسير سورة الواقعة، وسورة الفاتحة، وكفاية المريد في فن التوحيد، مات سنة (1378 هـ) (¬1). 5 - أبو الحسن بن شعبان الأديب الشاعر، ولد بتونس سنة (1315 هـ)، تميز بذكائه الفذ، وقدرته الشعرية العجيبة، مات سنة (1383 هـ) (¬2). 6 - محمد الفاضل وهو ابن محمد الطاهر بن عاشور، ولد سنة (1327 هـ) في المرسى، من مؤلفاته: التفسير ورجاله، وأعلام الفكر، وتراجم الأعلام. مات سنة (1390 هـ) (¬3). 7 - محمد البشير ابن الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد بن أحمد النيفر، ولد سنة (1306 هـ)، كانت له عناية بالاطلاع على المخطوطات وخبرة جيدة بها، من مؤلفاته: تراجم المفتين والقضاة. مات سنة (1394 هـ) (¬4). ¬

(¬1) انظر تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، ج 4، ص 291. (¬2) تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، ج 3، ص 198. (¬3) تراجم المؤلفين التونسيين، ج 3، ص 310، الأعلام / الزركلي، ج 6، 325. (¬4) تراجم المؤلفين التونسيين /محمد محفوظ، ج 5، ص 67.

8 - علي بن محمود بن محمد الخوجة، ولد بتونس (1310 هـ)، شارك في مجموعة من الأنشطة الاجتماعية، ألف كتابا في الفقه جمع فيه عدة مسائل يقع في أربعة أجزاء، مات سنة (1402 هـ) (¬1). ¬

(¬1) تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، 5، ص 217.

المطلب الثاني مذهبه الفقهي والعقدي ومؤلفاته

المطلب الثاني مذهبه الفقهي والعقدي ومؤلفاته مذهبه الفقهي: كان الشيخ الطاهر ابن عاشور فقيهاً بارزاً حيث يعد من العلماء المجددين الذين يأنفون التقليد والتعصب لآراء الشيوخ، وكان يرى أن ارتهان المسلمين لهذه النظرة الجامدة المقلدة سيصيبهم بالتكاسل، وسيعطل إعمال العقل لإيجاد الحلول لقضاياهم التي تجدُّ في حياتهم. وكان يعنى بالدليل، ويقيم حجته بما ورد من النصوص أو ما يسوغ من رأي وقياس، وإن كان لم يغفل آراء العلماء وأقوالهم بل وضعها في منزلتها التي تستحقها. وقد ركّز على المذهب المالكي، وهذا أمر طبيعي، فقد عاش في بيئة يعتنق معظم أهلها المذهب المالكي، يقول في مقدمة كتابه (آراء اجتهادية): " ولما نشأت النشأة الدينية اتبعت مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وتلقيت علوم الشريعة في سنة (1309 هـ) وتدرجت بها وحذقتها، ثم درست أصول الفقه، وزاولت كتب السنة، وتوسعت في علم الخلاف بين العلماء، وأقرأت كتباً جمة من الفقه والأصول والحديث، وجالست العلماء وجادلتهم، وذاكرت وجادلت"، ثم استطرد في بيان المذاهب والترجيح بينها، وأخبر بأن باب الاجتهاد مفتوح، ولا يجوز للعالم التعبد بالتقليد، بل لا بد من النظر في الراجح

والمرجوح، والأخذ بالصواب والصحيح ... (¬1) ومما يُمدح به أنه لم يكن متعصباً لمذهبه، بل كان أحياناً يرجّح مذهباً مخالفاً لمذهب الإمام مالك، ومن ذلك ترجيحه مذهب الإمام أبي حنيفة في طهارة جلد الميتة بالدبغ ما عدا الخنزير؛ لأنه محرم العين، قال: وقول أبي حنيفة أرجح للحديث الصحيح، ثم ذكره (¬2). وتعليقاته وكتاباته في الفقه تشهد بطول باعه وغزارة علمه في هذا الفن، ويظهر هذا في كونه أول من أفرد موضوع المقاصد في كتاب مستقل حيث ألف كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية) ودعا فيه إلى مراعاة مدى تحقيق القول الذي يذهب إليه الفقيه لمقاصد الشريعة. تأهل للفتيا وعمره ثلاث وعشرون سنة، ونجح في مناظرة التدريس من الطبقة الأولى في الجامع الأعظم عام (1323 هـ - 1905 م)، وأصبح مفتياً متطوعاً منذ ذلك الحين، إلى أن عيّن مفتيا رسمياً سنة (1341 هـ- 1923 م)، فتدرج في هذا المنصب، حتى أصبح كبير أهل الشورى من المالكية سنة (1345 هـ / 1927 م)، وهو أعلى منصب علمي في المذهب المالكي في ذلك الوقت، وفي سنة (1351 هـ / 1932 م)، أطلق عليه لقب شيخ الإسلام المالكي، وله كتاب مخطوط بعنوان الفتاوى (¬3). ¬

(¬1) انظر ابن عاشور ومنهجه في التفسير / عبد الله الريس، ج 1، ص 164. (¬2) التحرير والتنوير، ج 2، ص 116. (¬3) انظر ابن عاشور ومنهجه في التفسير / عبد الله الريس، رسالة ماجستير ج 1، ص 165، وتراجم المؤلفين التونسيين، ج 4، ص 150.

منهجه في العقيدة

منهجه في العقيدة: لم يفرد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور العقيدة الإسلامية بمؤلف يتناولها فيه بالشرح والتحليل والبيان وإنما تُعرف آراؤه العقدية من خلال تفسيره "التحرير والتنوير". لقد سار ابن عاشور في الجملة على منهج السلف الصالح في أبواب العقيدة عدا آيات الصفات؛ فهو يسير فيها على وفق منهج الأشاعرة، وذلك يعود إلى دراسته من كتب الأشاعرة مثل: الوسطى، والعقائد النسفية، والمواقف، وإن كان يخالفها ويقترب من منهج السلف أحياناً. وإذا تعرَّض لتأويل آية جاء بأقوال السلف، وربما انتصر لهم، وإذا خالفهم في تأويل صفة أثنى عليهم، واعتذر لهم دون تعنيف أو تسفيه. وأحياناً يكون له في الصفة الواحدة قول يسير فيه على منهج أهل التأويل، وفي موضع آخر يوافق فيه السلف. ففي مسألة الرؤية نراه -على سبيل المثال- يؤولها، في بعض المواضع، وفي سورة المطففين عند قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬1) ... نجده يثبت الرؤية (¬2) حيث يقول: " فأما الإهانة فحجبهم عن ربهم، والحجب هو الستر، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدى سيد القوم، وكلا المعنيين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل ¬

(¬1) سورة المطففين، الآية (15). (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 15، ص 201.

الإيمان. ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} (¬1) (¬2) " ... . أما بقية أبواب العقيدة كإثبات الوحدانية، أو الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر، وحكم مرتكب الكبيرة، ومسألة الشفاعة، ومسائل الحكمة والتعليل، وفي باب الصحابة وغير ذلك من أبواب العقيدة فهو يسير فيها على وفق منهج السلف. بل إنه يرد على المخالفين في ذلك؛ حيث يناقش المعتزلة، والخوارج في مسألة مرتكب الكبيرة، ويُفنِّد رأيهم (¬3)، كما يُخطِّئ الفلاسفة ويرد عليهم في عدد من المسائل كقولهم: بعلم الله بالكليات دون الجزئيات (¬4). وتراه يُخطِّئ الشيعة والباطنية وغيرهم في كثير من مخالفاتهم العقدية. وعلى الرغم من أن ابن عاشور قد نشأ في جوٍ يسود فيه المذهب الأشعري إلا أنه لم يكن يتحرج من توجيه النقد لما آل إليه المذهب الأشعري (¬5). فتجده يخالف الأشاعرة في عدد من المسائل في باب القدر وغيره كما أنه يُنكر البدع ¬

(¬1) سورة المطففين، الآية (23). (¬2) التحرير والتنوير، ج 15، ص 201. (¬3) انظر التحرير والتنوير، ج 5، 188. (¬4) انظر التحرير والتنوير، ج 4، ص 274. (¬5) انظر التحرير والتنوير، ج 5، ص 66.

كتاباته ومؤلفاته

الحادثة، والأباطيل والخرافات كالطيرة (¬1)، كما أنه يرد على أباطيل الصوفية (¬2) وإن كان أحياناً يورد أقوالاً لبعضهم كابن عربي دون تعليق عليها. كتاباته ومؤلفاته: ساهم ابن عاشور في إثراء المكتبة الإسلامية بالذخائر والنفائس، حتى وصلت مؤلفاته إلى الأربعين، وهي غاية في الدقة العلمية، وتدل على تبحر الشيخ في شتى العلوم الشرعية والأدبية، ومن أجلّها كتابه في التفسير: التحرير والتنوير -موضوع بحثنا- ولا تزال العديد من مؤلفات الشيخ مخطوطة، وقد قسمت مؤلفاته إلى أقسام كالآتي. أولاً: آثاره في التفسير: 1 - تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، اختصر هذا الاسم فسمّاه: التحرير والتنوير (¬3)، وهو أول تفسير كامل يصنف في تونس على مر التاريخ، وسيأتي الحديث عنه بالتفصيل. ثانياً: آثاره في الحديث النبوي الشريف: 1 - تعليقات وتحقيق على حديث أم زرع. (مخطوط) (¬4). 2 - النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح ,وهو تعليقات ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 5، ص 66. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 7، ص 363. (¬3) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 8. (¬4) انظر علماء ومفكرون معاصرون: محمد الطاهر ابن عاشور / إياد خالد الطباع، ص 105.

ثالثا: آثاره في الفقه وأصوله

على مواضع في الجامع الصحيح للبخاري، لم يفصل القول فيها المتقدمون من الشراح، بل توقفوا فيها، أو أحجموا عنها، وقد طبع سنة (1399 هـ - 1979 م) في الدار العربية للكتاب في تونس (¬1). 3 - كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، تناول فيه نحو ثلاثمائة حديث ومسألة (¬2). ثالثاً: آثاره في الفقه وأصوله: 1 - آراء اجتهادية: وهي مجموعة من الفتاوى في شتى الموضوعات وهو من مؤلفاته المخطوطة (¬3). 2 - الأمالي على مختصر الخليل , ومختصر خليل أكبر مدونة شائعة ومعتمدة في الفروع بين الطلاب والشيوخ بجامع الزيتونة، وهو من مؤلفاته المخطوطة (¬4). 3 - حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح على شرح تنقيح الفصول في الأصول: هذا الكتاب حاشيته على كتاب مدرسي كان مشهوراً بين المالكية، يرجعون إليه في مسائل أصول الفقه، وقد طبع الكتاب ¬

(¬1) انظر النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح / محمد الطاهر ابن عاشور، ص 308. (¬2) انظر كشف المغطى، ص 5. (¬3) انظر علماء ومفكرون معاصرون: محمد الطاهر ابن عاشور / إياد خالد الطباع، ص 112. (¬4) المصدر السابق، ص 113.

بمطبعة النهضة بتونس سنة (1341 هـ) (¬1). 4 - الفتاوى: وهو من مؤلفاته المخطوطة , وهو تقييدات على جملة من النوازل الشرعية التي عني بتحريرها أيام توليه القضاء (¬2). 5 - قضايا وأحكام شرعية: وهو مجموعة من المسائل الفقهية التي تكثر الحاجة إليها ويعوّل في الأحكام عليها، وهو من مؤلفاته المخطوطة (¬3). 6 - مقاصد الشريعة الإسلامي: يعد هذا الكتاب من أشهر كتب ابن عاشور، وهدفه من تصنيفه أن يكون مرجعاً بين المتفقهين في الدين عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلاً إلى إقلال الخلاف بين فقهاء الأمصار، ويقع الكتاب في (207) من الصفحات، طبع بمصنع الكتاب للشركة التونسية للتوزيع، الطبعة الأولى عام (1978 م) (¬4). 7 - الوقف وآثاره في الإسلام: وهو مما نشره في مجلة الهداية الإسلامية، وهو من مؤلفاته المطبوعة (¬5). ¬

(¬1) انظر حاشية التوضيح والتصحيح، ج 1، ص 4. (¬2) انظر علماء ومفكرون معاصرون: محمد الطاهر ابن عاشور / إياد خالد الطباع، ص 114 (¬3) علماء ومفكرون معاصرون: محمد الطاهر ابن عاشور / إياد خالد الطباع، ص 115 (¬4) انظر مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 5. (¬5) انظر الوقف وآثاره في الإسلام، ص 1.

رابعا: آثاره في الثقافة الإسلامية

رابعاً: آثاره في الثقافة الإسلامية: 1 - أصول التقدم في الإسلام: أصل هذا الكتاب محاضرة ألقاها في بيان أسباب تقدم المسلمين في بادئ أمرهم، ثم الأسباب التي رجعت بهم عن ذلك التقدم (¬1). 2 - أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: أصل الكتاب مقالات كتبها الشيخ في مجلة (هدى الإسلام)، وغرضه في هذا الكتاب: البحث عن روح الإسلام وحقيقته من جهة مقدار تأثيرها في المدنية الصالحة، وقد صدرت الطبعة الأولى للكتاب عن الدار التونسية للنشر بتونس عام (1977 م) (¬2). 3 - أليس الصبح بقريب؟ : الكتاب مطبوع طبعة وحيدة فيما أعلم، في الشركة التونسية للنشر. وهو كتاب قيم في (263) صفحة من القطع العادي، وقد كتبه في صيف عام (1321 هـ)، وقد كتبه رغبة في إصلاح تعليمنا العربي الإسلامي بعد أن زاوله مدة طويلة متعلماً ومعلماً (¬3). والآن يقوم احد طلاب الماجستير بدراسة الفكر التربوي عند العلامة ابن عاشور من خلال كتابه (أليس الصبح بقريب). 4 - تحقيقات وأنظار في الكتاب والسنة: وهو عبارة عن مقالات جمعها له ¬

(¬1) مخطوط، يقع في (80) صفحة، تم تحريره في المرسى (4) رجب (1324 هـ- 1906 م). انظر ابن عاشور ومنهجه في التفسير / عبد الله الريس، ج 1، ص 204. (¬2) انظر أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 5. (¬3) انظر أليس الصبح بقريب، ص 5.

خامسا: آثاره في اللغة والأدب

ابنه عبد الملك ابن عاشور، وهو مطبوع (¬1). 5 - نقد علمي لكتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرزاق: تتبع فيه الشيخ ما وقع فيه المؤلف من مسائل مشتبهة، والكتاب صدر عن المطبعة السلفية بمصر سنة (1344 هـ) (¬2). خامساً: آثاره في اللغة والأدب: وسأقتصر هنا على المطبوع منها فقط، وهي: 1 - أصول الإنشاء والخطابة، ألفه الشيخ لأنه كان يأخذ على طلبة العلم الشرعي عنايتهم بالنحو وقواعده دون عنايتهم بالإنشاء، والكتاب طبع بتونس عام (1339 هـ -1920 م) (¬3). 2 - سرقات المتنبي ومشكل معانيه لابن بسام النحوي، يجمع هذا الكتاب الذي حققه ابن عاشور، بين غرضين: الأبيات المحتاجة إلى بيان وشرح، والأبيات التي اقتفى فيها المتنبي معاني غيره مما استجاده عند الشعراء قبله. وقد صدر هذا الكتاب عن الدار التونسية للنشر في تونس سنة ¬

(¬1) لم أقف عليه. انظر علماء ومفكرون معاصرون: محمد الطاهر ابن عاشور / إياد خالد الطباع، ص 132 (¬2) انظر نقد علمي لكتاب (الإسلام وأصول الحكم)، ص 3. (¬3) لم أقف عليه، والكتاب ينقسم إلى قسمين، القسم الأول في الإنشاء، والقسم الثاني في الخطابة، يقع الكتاب في (73) صفحة. انظر علماء ومفكرون معاصرون، ص 136، وابن عاشور ومنهجه في التفسير /عبد الله الريس، ج 1، ص 199.

(1970 م) (¬1). 3 - قصيدة الأعشى (¬2) الأكبر في مدح المحلَّق، قام ابن عاشور بجمع هذه القصيدة من نحو عشرين مصدراً أدبياً، وشرحها طبعت في تونس، سنة (1348 هـ -1929 م) (¬3) ... . 4 - موجز البلاغة، وهو رسالة في البلاغة ألفها ابن عاشور بسبب أنه رأى طلبة العلم يزاولون البلاغة بطريقة بعيدة عن المقصود (¬4). 5 - الواضح في مشكلات شعر المتنبي لأبي القاسم الأصفهاني (¬5)، وقد وضع هذا الكتاب رداً على ابن جني في شرحيه لديوان صاحبه أبي الطيب المتنبي، وقد طبع الكتاب في تونس في الدار التونسية سنة (1968 م) (¬6). ¬

(¬1) لم أقف عليه، انظر علماء ومفكرون معاصرون، ص 146. (¬2) اسمه قيس بن جبرة بن قيس بن منقذ بن طريف ابن عمرو بن قعين جاهلي. وهو جد عبد الله بن الزبير بن الأشيم بن الأعشى الشاعر الأسدي وكان قيس الأعشى شاعراً مذكوراً معروفاً. (معجم الشعراء / عفيف عبد الرحمن، ص 21). (¬3) لم أقف عليه، انظر علماء ومفكرون معاصرون، ص 148. (¬4) انظر موجز البلاغة / ابن عاشور، ص 2. (¬5) هو أبو القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني، أديب له تصانيف منها: إيضاح المشكل لشعر المتنبي، توفي في رمضان سنة 597 هـ. (الأعلام / الزركلي، ج 4، ص 96). (¬6) انظر علماء ومفكرون ومعاصرون: محمد الطاهر ابن عاشور / أياد الطباع، ص 150.

سادسا: آثاره في التاريخ والتراجم.

سادساً: آثاره في التاريخ والتراجم. 1 - قصة المولد النبوي الشريف، تناولت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مطبوع بتونس سنة (1392 هـ - 1972 م) (¬1). 2 - قلائد العقيان ومحاسن الأعيان لأبي نصر الفتح ابن خاقان، حوى هذا الكتاب أصنافاً من الأدبيات: كالقصائد والأراجيز الطويلة، وقد قام الشيخ ابن عاشور بتحقيق الكتاب، وهو مطبوع (¬2). كما ساهم الشيخ ابن عاشور بالكتابة في المجلات العلمية، والتي أذكر منها (¬3): - مجلة السعادة العظمى في تونس. - المجلة الزيتونية. ومن الصحف والمجلات الشرقية: - مجلة هدى الإسلام. - مجلة نور الإسلام. - مجلة مصباح الشرق. - ... مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة. - ... مجلة المجمع العلمي بدمشق. ¬

(¬1) انظر قصة المولد، ص 8. (¬2) انظر قلائد العقيان ومحاسن الأعيان / ابن خاقان، ص 7. (¬3) انظر شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور / بلقاسم الغالي، ص 70.

وفاته

وفاته: توفي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عن أربع وتسعين سنة في ضاحية المرسى قرب تونس العاصمة، يوم الأحد (13) رجب (1394 هـ - 1973 م)، ووري الثرى رحمه الله بمقبرة الزلاج من مدينة تونس (¬1)، وبموته ودعت تونس أبرز شخصية علمية عرفتها في القرن الرابع عشر الهجري. ¬

(¬1) انظر شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور / بلقاسم الغالي، ص 68.

المبحث الثاني التعريف بتفسير (التحرير والتنوير)

المبحث الثاني التعريف بتفسير (التحرير والتنوير) وفيه مطالب: المطلب الأول: التعريف بـ (التحرير والتنوير). المطلب الثاني: موقف ابن عاشور من أنواع التفسير. المطلب الثالث: منهج ابن عاشور في القراءات المتواترة والشاذة. المطلب الرابع: عناية ابن عاشور بالوجوه البلاغية واللغة. المطلب الخامس: مصادر ابن عاشور في تفسيره.

المطلب الأول التعريف بـ " التحرير والتنوير "

المطلب الأول التعريف بـ " التحرير والتنوير " يعد كتاب التحرير والتنوير من أشهر كتب التفسير في العصر الحديث، يقع في ثلاثين جزءا طبع في دار الكتب الشرقية، وفي الدار التونسية للنشر، والطبعة التي بين يدي تقع في خمسة عشر جزءا لدار سحنون للنشر والتوزيع في تونس. عقد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور العزم على تناول كتاب الله بالتفسير بعد أن راودته الفكرة مرات ومرات، وفي كل مرة يثني عزمه عن ذلك خوف أن يعتريه من هذا الطريق ما يعتري بعض من يقدم على تفسير كتاب الله من خروج عن المراد الحقيقي للفظ يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في هذا الصدد: " كنت على كلفي بذلك أتجهم التقحّم على هذا المجال، ............ . ما عسى أن يعرِّض له المرء نفسه من متاعب تنوء بالقوة، أو فلتات سهام الفهم وإن بلغ ساعد الذهن الفُتوّة " (¬1). كما كان يتحرّى من نفسه ثبات عزمه على تفسير القرآن قبل أن يبدأ فيه، فلم تكن فكرة تفسيره للقرآن الكريم مجرد إرادة عابرة أو فكرة خاطفة أو فراغ أو ترف فكري أو أدبي. فقد راودته هذه الأمنية منذ بعيد كما يقول وهو لم يتجاوز الـ (30) ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 6.

سنة، ولكنه انشغل عن مشروعه هذا بإسناده خطة القضاء في (26) رمضان (1331 هـ). ومن تصميمه على الفكرة - فكرة التفسير- عقد العزم على تحقيق أمنيته بمجرد تفرغه بنقله إلى خطة الفتيا في (26) رجب (1341 هـ)، إذ يقول: " هنالك عقدت العزم على ما كنت أضمرته، واستعنت بالله تعالى واستخرته، وعلمت أن ما يَهُولُ من توقع كلل أو غلط، لا ينبغي أن يحول بيني وبين نسيج هذا النمط، إذا بذلت الوسع من الاجتهاد، وتوخيت طرق الصواب والسداد. أقدمت على هذا المهم إقدام الشجاع، على وادي السباع (¬1) .. " (¬2) وسمّاه: " تحرير المعنى السديد وتنوير العقل المجيد من تفسير الكتاب المجيد"، واختصر هذا الاسم فسماه بـ (التحرير والتنوير من التفسير). وقد كان ينشر هذا الكتاب على شكل مقالات في المجلة الزيتونية، ثم طبع مقدمات التفسير، وتفسير سورة الفاتحة، وجزء عم في كتاب مستقل عام (1376 هـ)، ثم طُبعت منه أجزاء في عام (1390 هـ)، وَوَصلتْ إلى الجزء الرابع عشر عام (1397 هـ). وفي عام (1404 هـ- 1984 م) طبع الطبعة الكاملة في (15) مجلدا، عدد صفحات الجزء الواحد تزيد عن (300) صفحة غالباً. ¬

(¬1) وادي السباع موضع بين مكة والبصرة وهو واد قفر من السكان تكثر به السباع، قال سحيم: ... مررت على وادي السباع ولا أرى ....... كوادي السباع حين يظلم وادياً. انظر معجم البلدان / ياقوت الحموي، ج 5، ص 344، ولسان العرب / ابن منظور، ج 6، ص 159، مادة: سبع. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 6.

احتوى تفسيره "التحرير والتنوير" على خلاصة آرائه الاجتهادية والتجديدية؛ إذ استمر في هذا التفسير ما يقرب من (40) عاما، وأشار في بدايته إلى أن منهجه هو أن يقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين، تارة لها وأخرى عليها؛ حيث بيّن أن الاقتصار على الحديث المعاد في التفسير هو تعطيل لفيض القرآن الكريم الذي ما له من نفاد، ووصف تفسيره بأنه احتوى أحسن ما في التفاسير، وأن فيه أحسن مما في التفسير. وتفسير التحرير والتنوير في حقيقته تفسير بلاغي، اهتم فيه بدقائق البلاغة في كل آية من آياته، وأورد فيه بعض الحقائق العلمية، ولكن باعتدال ودون توسع أو إغراق في تفريعاتها ومسائلها. وقد انتقد ابن عاشور كثيرا من التفاسير والمفسرين، وانتقد فهم الناس للتفسير، ورأى أن أحد أسباب تأخر علم التفسير هو الولع بالتوقف عند النقل حتى وإن كان ضعيفا أو فيه كذب، وكذلك اتقاء الرأي ولو كان صواباً حقيقيا، ، وبيّن أن توهمهم في أن مخالفة النقل عن السابقين إخراج للقرآن عما أراد الله به؛ جعل من كتب التفسير عالة على كلام الأقدمين، بل أصبح التفسير "تسجيلا يقيَّد به فهم القرآن ويضيَّق به معناه". ولعل نظرة التجديد الإصلاحية في التفسير التي نادى بها ابن عاشور تتفق مع المدرسة الإصلاحية التي كان من روادها محمد عبده الذي رأى أن أفضل مفسر للقرآن الكريم هو الزمن، وهو ما يشير إلى معان تجديدية، ويتيح للأفهام والعقول المتعاقبة الغوص في معاني القرآن. وكان لنظرة الطاهر ابن عاشور هذه أثرها البالغ في تفسيره حيث التفت إلى مقاصد الكتاب الحكيم وفصل بيان

أهدافه وأغراضه، مما كان سببا في فهمه لمقاصد الشريعة الإسلامية التي وضع فيها أهم كتبه بعد "التحرير والتنوير" وهو كتاب "مقاصد الشريعة ". صدّرّّّ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور تفسيره بمقدمات في علوم القرآن، اشتملت هذه المقدمات على كل ما يحتاج إليه المفسر، حتى لا يضل ولا يزل عن المنهج السليم عند تفسيره لكتاب الله العظيم، وجعل المقدمات قسما من الجزء الأول من التحرير، تناول فيه عدداً من القضايا الهامة، وهي: الأولى: في التفسير والتأويل، ومعنى كل منهما. الثانية: في استمداد علم التفسير، ويريد به العلوم التي يستمد منها علم التفسير. الثالثة: في بيان موقفه من التفسير بالرأي، وعدم الاقتصار على التفسير بالمأثور. الرابعة: في بيان مقاصد القرآن التي يجب على المفسر أن يبرزها في تفسيره. الخامسة: في أسباب النزول وبيان أهميتها في التفسير. السادسة: القراءات وبيان علاقتها بالتفسير. السابعة: قصص القرآن وبيان فوائدها، وفوائد تكرارها. الثامنة: في بيان اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها، وعدد الآي ووقوف القرآن. التاسعة: في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها، وإن كثرت. العاشرة: في إعجاز القرآن ووجوه الإعجاز، وأقوال العلماء فيه، ومبتكرات القرآن، وعاداته (¬1). ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 10 - 30.

منهجه في إيراد المعلومات

منهجه في إيراد المعلومات: 1 - يذكر أولاً اسم السورة معتمداً في ذلك على ما ورد في السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن الصحابة رضي الله عنهم، وما هو مكتوب في المصاحف القديمة، أو بطريق الاستنباط فمثلاً عند تفسيره لسورة الحجر قال في افتتاحه للسورة: " سُميت هذه السورة سورة الحجر، ولا يعرف لها اسم غيره. ووجه التسمية أن اسم الحجر لم يذكر في غيرها، والحجر اسم البلاد المعروفة وهو حجر ثمود " (¬1). 2 - وبعد أن يعرض لتسمية السورة، ينتقل إلى الحديث عن مكية السورة أومدنيتها، ذاكراً الخلاف ومرجحاً ما يختاره، مبينا تاريخ النزول وعدادها بين سور القرآن الكريم المكية والمدنية على رواية جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنه، ومثال ذلك عند تفسيره لسورة الإخلاص وبعد أن ذكر وجه تسمية السورة قال: " وهي مكية في قول الجمهور، وقال قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرظي: هي مدنية , ونسب كلا القولين إلى ابن عباس. ومنشأ هذا الخلاف الاختلاف في سبب نزولها فروى الترمذي عن أبي بن كعب، وروى العطار عن ابن مسعود، وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله " أن قريشاً قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " انسب لنا ربك " فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها " فتكون مكية، روى أبو صالح عن ابن عباس: " إن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة (أخا لبيد) أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عامر: إلام تدعونا؟ قال: إلى الله، ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 7، ص 5.

قال صفه لنا أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة، فتكون مدنية لأنهما ما أتياه إلا بعد الهجرة. وقال الواحدي: " إن أحبار اليهود (منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف) قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فنزلت ". والصحيح أنها مكية، فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة، ولعل تأويل من قال: إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربد، أو حينما سأل أحبار اليهود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليهم هذه السورة، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ أو لم يضبط الرواة عنهم تمام الضبط .. وعدت السورة الثانية والعشرون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم " (¬1). 3 - ثم يعرض المعلومات التفصيلية للآيات، وهو حين يفسرها يحرص على تفسير كل مجموعة آيات ذات موضوع واحد تحت مقطع واحد، إلا إن هذا لا يتيسّر له نظراً لطول بعض الآيات، فنجده أحياناً يفسر السورة آية آية، وأحياناً الآية جملة جملة، وأحياناً كل مجموعة آيات يفسرها معاً. 4 - حرص على توضيح المشكل والغريب في المتن، ومثاله: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (¬2) قال: " وما مسنا من لغوب ": ما أصابنا من ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 15، ص 611. (¬2) سورة ق، الآية (38).

تعب. واللغوب: الإعياء من الجري والعمل الشديد " (¬1). 5 - كما تعرض لتخريج الأحاديث والآثار، ومثاله ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2) قال ابن عاشور تعليقاً على قوله: (الحمد لله): " ولما كان الحمد مظهراً من مظاهر الشكر في مظهر النّطق جعل كناية عن الشكر هنا، إذ كان الكلام على إخلال المشركين بواجب الشكر إذْ أثنوا على الأصنام وتركوا الثناء على الله، وفي الحديث «الحمدُ رأس الشّكر». قال في الحاشية مخرجاً للحديث: رواه عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر مرفوعاً وفي سنده انقطاع، وروى الديلمي ما يؤيد معنى هذا الحديث من حديث أنس بن مالك مرفوعا " (¬3). 6 - اعتنى بترجمة الأعلام وضبطها يذكر ذلك في الحاشية، ومثال ذلك ما ذكره عند تفسيره لسورة الفاتحة قال: " وأما تسميتها السبع المثاني فهي تسمية ثبتت بالسنة، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد ابن المعلى: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته "، قال ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 326. (¬2) سورة النحل، الآية (75). (¬3) التحرير والتنوير، ج 7، ص 226.

ابن عاشور معرفاً بأبي سعيد بن المعلى في الحاشية: " هو الحارث بن نُفَيع (مصغراً) الزرقي - بضم ففتح - الأنصاري المتوفى سنة (74 هـ) " (¬1). 7 - وقد حرص كذلك على التعريف بالأماكن والقبائل، أحياناً في المتن، وأحياناً في الحاشية، ومثال ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} (¬2) حيث ذكر مجيء وفد نصارى نجران للرسول - صلى الله عليه وسلم -، علق في الحاشية: " نجران بفتح النون وسكون الجيم، قبيلة من عرب اليمن، كانوا ينزلون قرية كبيرة تسمى نجران بين اليمن واليمامة وهم على دين النصرانية ولهم الكعبة اليمانية المشهورة وهي كنيستهم التي ذكرها الأعشى في شعره وقد وفد منهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في ستين رجلاً منهم اثنا عشر نقيباً " (¬3). 8 - كما حرص على توثيق الأشعار وإكمالها، وبيان معناها، ومن ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (¬4)، قال: " مراد منه أنه لا عدل فيقبل، ولا شفاعة شفيع يجدونه فتقبل شفاعته؛ لأن ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 134. (¬2) سورة البقرة، الآية (113). (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 675. (¬4) سورة البقرة، الآية (123).

دفع الفداء متعذر وتوسط الشفيع لمثلهم ممنوع إذ لا يشفع الشفيع إلا لمن أذن له , قال ابن عرفة: فيكون نفي نفع الشفاعة هنا من باب قوله: على لا حب يهتدي بمنارة .. قال معلقاً في الحاشية: " قائله امرؤ القيس، وقبله: وإني زعيم إن رجعت مملكاً ... بسير ترى منه الفرانق أزدرا على لا حب ........ إلخ ... إذا سافه العوذ الديافي جرجرا الفرانق: بضم الفاء وكسر النون هو الذي يدل صاحب البريد. وأزدرا أفعل تفضيل لغة في أصدرا قرئ بها قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} (¬1). واللاحب: الطريق الواسع. والمنار: العلامة. وسافه: شده. والديافي: منسوب إلى دياف - بكسر الدال - قرية تنسب لها كرام الإبل، وجرجرا أي صوت " (¬2). 9 - أحال على مواضع أخرى في تفسيره، ومن ذلك ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} (¬3) قال: "جعل افتراءهم الكذب _ لشدّة تحقّق وقوعه _ كأنّه أمر مَرئيّ ينظره الناس بأعينهم، وإنّما هو ممّا يسمع ويعقل، وكلمة: " وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا " نهاية في بلوغه غاية الإثم كما يؤذن به تركيب (كفى به كذا)، ¬

(¬1) سورة الزلزلة، الآية (6). (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 698. (¬3) سورة النساء، الآية (50).

وقد تقدّم القول في (كفى) عند قوله آنفاً: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬1) " (¬2). كما يحيل إلى كتب أخرى، ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (¬3): " وهذا النهي يفيد تعميم كل استكثار كيفما كان ما يعطيه من الكثرة, وللأسبقين من المفسرين تفسيرات لمعنى {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ليس شيء منها بمناسب, وقد أنهاها القرطبي إلى أحد عشر " (¬4). ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية (28). (¬2) التحرير والتنوير، ج 3، ص 85. (¬3) سورة المدثر، الآية (6). (¬4) التحرير والتنوير، ج 14، ص 299.

المطلب الثاني موقف ابن عاشور من أنواع التفسير

المطلب الثاني موقف ابن عاشور من أنواع التفسير أولاً: موقفه من التفسير بالمأثور: اعتمد في تفسيره على التفسير بالمأثور، كركيزة ينطلق منها إلى التفسير بالرأي بما يؤدي إليه اجتهاده من المعاني التي يعضدها الدليل، وتشهد لها اللغة والعقل الصحيح. ، ولقد بين ذلك الشيخ ابن عاشور في مقدمته الثالثة التي عنون لها بـ: صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي. حيث قال: "أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدو ما هو مأثور فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر فإن أرادوا به ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من تفسير بعض آيات إن كان مروياً بسند مقبول من صحيح أو حسن، فإن التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من علومه، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير، وغلطوا سلفهم فيما تأولوه، إذ لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم على أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " (¬1) ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 32.

• تفسير القرآن بالقرآن

وسأبين أولا في هذا المطلب اعتماده على التفسير بالأثر من خلال الأمور التالية: - تفسير القرآن بالقرآن. - تفسير القرآن بالسنة. - تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين. - موقفه من الإسرائيليات. • تفسير القرآن بالقرآن: لم يغفل ابن عاشور هذا الجانب المهم من التفسير بالمأثور، بل إنه يرد على بعض التفاسير لمخالفتها للمأثور ويرجح بعضها على بعض بدلالة القرآن. أما طريقته في تناوله لتفسير القرآن بالقرآن فهي لا تخرج عن طريقين: الأول: عنايته بتوضيح المعنى بمعنى آخر من آية أخرى توضحه. الثاني: تفسير مجمل الآية بآية أخرى من باب حمل المطلق على المقيد. ومثال الأول قوله عند تفسير قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} (¬1): " ومعنى إجابة الدعوة إعطاء ما سأله موسى ربّه أن يسلب عن فرعون وملائه النعم، ويواليَ عليهم المصائب حتى يسأموا مقاومةَ دعوة موسى وتنحطّ غلواؤهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (¬2) وقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ ¬

(¬1) سورة يونس، الآية (89). (¬2) سورة الأعراف، الآية (130).

• تفسير القرآن بالسنة

وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} (¬1) " (¬2). ومثال الثاني قوله عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا .. } (¬3): " والمجعول حراماً هو ما حكى الله بعضه عنهم في قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} (¬4) , وقوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا .. } (¬5) " (¬6) ففسر هذه الآية بما ورد في الآيات الأخرى. • تفسير القرآن بالسنة: لم يغفل الشيخ ابن عاشور هذا الجانب بل نجده كثيراً ما يستشهد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الآية وترجيح بعض المعاني على غيرها، قال ابن عاشور: " فاستمداد علم التفسير للمفسر العربي والمولد من المجموع الملتئم من علم العربية ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية (133). (¬2) التحرير والتنوير، ج 6، ص 273. (¬3) سورة يونس، الآية (59). (¬4) سورة الأنعام، الآية (138). (¬5) سورة الأنعام، الآية (139). (¬6) التحرير والتنوير، ج 6، ص 209.

أولا: طريقته في إيراد الأحاديث

وعلم الآثار، وأما الآثار فالمعني بها ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيان المراد من بعض القرآن في موضع الإشكال والإجمال " (¬1). ولقد تميز منهج ابن عاشور في تناول الحديث الشريف بملامح متباينة أبرزها من خلال عدة أمور: الأول: طريقته في إيراد الأحاديث. الثاني: طريقته في عزو الأحاديث. الثالث: الحكم على الأحاديث. أولاً: طريقته في إيراد الأحاديث: منهجه فيها على النحو الآتي: أولاً: إنه أحياناً يورد الحديث المفسِّر للآية مباشرة من تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنه ما ذكره عند قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬2)، قال ابن عاشور: " وقد ورد تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك. في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه" لمّا نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} شَقّ ذلك على المسلمين وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه؟ " فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس كما تَظُنّون إنَّما هو كما قال لقمان ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 18. (¬2) سورة الأنعام، الآية (82).

لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬1) اهـ " (¬2). ثانيا: وأحياناً يورد الحديث في شرح المعنى والاستطراد في بيان معناه، ومن أمثلته ما ذكره عند قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬3) قال ابن عاشور: " وكان أهل الجاهلية لا يعاقبون على الزنى لأنه بالتراضي بين الرجل والمرأة إلا إذا كان للمرأة زوج أو ولي يذب عن عرضه بنفسه .. ولم تكن في ذلك عقوبة مقدرة ولكنه حكم السيف أو التصالح على ما يتراضيان عليه. وفي «الموطأ» عن أبي هريرة وزيد ابن خالد الجهني أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم. فقال: تكلم. قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأخبروني أنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك. وجلد ابنه مائة ,وغربه عاماً , وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية (13). (¬2) التحرير والتنوير، ج 4، ص 332. (¬3) سورة النور، الآية (2).

ثانيا: طريقته في عزو الأحاديث

الآخر فإن اعترفت رَجمها ,فاعترفت فرجمها. قال مالك: والعسيف الأجير اهـ. فهذا الافتداء أثر مما كانوا عليه في الجاهلية، ثم فرض عقاب الزنى في الإسلام بما في سورة النساء وهو الأذى للرجل الزاني، أي بالعقاب الموجع، وحبس للمرأة الزانية مدة حياتها. وأشارت الآية إلى أن ذلك حكم مجمل بالنسبة للرجل لأن الأذى صالح لأن يبيّن بالضرب أو بالرجم وهو حكم مؤقت بالنسبة إلى المرأة بقوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬1) ثم فرض حد الزنى بما في هذه السورة. ففرض حد الزنى بهذه الآية جلد مائة فعمّ المحصن وغيره، وخصصته السنة بغير المحصن من الرجال والنساء. فأما من أحصن منهما - أي تزوج بعقد صحيح ووقع الدخول - فإن الزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى يموت. وكان ذلك سُنةً متواترةً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجم ماعز بن مالك، وأجمع على ذلك العلماء، وكان ذلك الإجماع أثراً من آثار تواترها " (¬2). ثانياً: طريقته في عزو الأحاديث: أ) أحياناً يذكر الحديث النبوي الشريف دون الإشارة إلى راويه بل يقول: وفي الحديث كذا ولا ينسبه، وهذا كثير، ومن أمثلته ما أورده في معرض ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (15). (¬2) التحرير والتنوير، ج 9، ص 148.

شرحه لقوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (¬1) قال ابن عاشور في مجال الاستشهاد بالحديث على ما يتعلق بحال الملائكة: " المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم " (¬2) ولم ينسبه. ب) وأحياناً أخرى يعزوها وينقسم عزوه لها إلى ثلاثة أقسام: - أن يعزوها إلى مصادر أصلية من كتب السنة: ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (¬3) قال ابن عاشور: " وقد بيَّنت السنة أن المستأذن إن لم يؤذن له بالدخول يكرره ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف، وورد في هذا حديث أبي موسى الأشعري مع عمر بن الخطاب رضي الله عليهما في «صحيح البخاري» وهو ما روي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى - رضي الله عنه - كأنه مذعور فقال استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت فقال ما منعك قلت استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال والله لتقيمن عليه بينة أَمِنْكُم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبي بن كعب - رضي ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (30). (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 402. (¬3) سورة النور، الآية (27).

الله عنه -والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك " (¬1). - ومنها ما يعزوها إلى مصادر ثانوية ككتب التفسير التي لا تروي بالسند: ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (¬2) قال ابن عاشور: " وروى القرطبي أن أول من صلى نحو الكعبة من المسلمين أبو سعيد بن المعلى، وفي الحديث ضعف " (¬3). - ومنها ما يعزوها عزواً عاماً: ومنه ما ذكره عند قوله تعالى: {قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} (¬4) قال ابن عاشور: " وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر " الحديث. انتهى (¬5). ¬

(¬1) التحرير والتنوير , ج 9 , ص 199. (¬2) سورة البقرة، الآية (142). (¬3) التحرير والتنوير، ج 2، ص 12، وانظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 154. (¬4) سورة هود، الآية (53). (¬5) التحرير والتنوير، ج 12، ص 98.

ثالثا: طريقته في الحكم على الأحاديث

ثالثاً: طريقته في الحكم على الأحاديث: لم يجعل ابن عاشور تخريج الأحاديث والآثار شرطاً في كتابه، ومع ذلك نجده كثيراً ما يخرج الروايات، مبيناً صحيحها من ضعيفها، فيتعقب الروايات الضعيفة، ويحذر من الروايات الموضوعة مبيناً خطورتها على التفسير. ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (¬1)، وفيها قال ابن عاشور: " وهذه الآية تعمّ جميع الأبرار وعلى ذلك التحم نسجها، وقد تلقَّفَها القصاصون والدعاة فوضعوا لها قصصاً مختلفة، وجاءوا بأخبار موضوعة وأبيات مصنوعة، فمنهم من زعم أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما في قصة طويلة ذكرها الثعلبي والنقاش، وساقها القرطبي بطولها ثم زيفها، وذكر عن الحكيم الترمذي أنه قال في «نوادر الأصول»: هذا حديث مروّق مزيف، وأنه يشبه أن يكون من أحاديث أهل السجون. وقيل نزلت في مُطعم بن ورقاء الأنصاري، وقيل في رجل غيره من الأنصار، وقد استوفى ذلك كله القرطبي في تفسيره فلا طائل تحت اجتلابه، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله أهلٌ لأن ينزل القرآن فيهم إلاّ أن هذه الأخبار ضعيفة أو موضوعة " (¬2). ¬

(¬1) سورة الإنسان، الآية (8). (¬2) التحرير والتنوير، ج 14، ص 387.

• تفسير القرآن بمرويات الصحابة والتابعين ومن بعدهم

• تفسير القرآن بمرويات الصحابة والتابعين ومن بعدهم: اعتنى ابن عاشور في تفسيره بأقوال الصحابة والتابعين عناية فائقة حيث أكثر في تفسيره من النقل عنهم، ومن أبرز الذين أفاد منهم ابن عاشور من أعلام الصحابة: عمر بن الخطاب، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين. ومن أعلام التابعين: أبو رزين مسعود بن مالك، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعامر بن شراحيل الشعبي، ومجاهد بن جبر، والضحاك بن مزاحم، وعكرمة مولى ابن عباس والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وقتادة بن دعامة السدوسي، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي، ومقاتل بن سليمان البلخي. فنجد ابن عاشور يورد أقوالهم مستدلاً بها، ومعضداً قوله الذي يذهب إليه، وتجده أحياناً يحاول أن يوفق بين أقوالهم والمدلول اللغوي للكلمة، وقد يردُّ ما روى عنهم أحياناً إذا لم يمكن التوفيق بينه وبين سياق الآية، والبحث له عن مخرج، إما بعدم ثبوت القول إلى الصحابي أو التابعي، أو قد يكون خفي عليه المعنى الحقيقي للآية (¬1). ¬

(¬1) انظر ابن عاشور ومنهجه في التفسير/ عبد الله الريس، جا معة الإمام، 1408 هـ، ج 1، ص 340.

• موقفه من الإسرائيليات

• موقفه من الإسرائيليات: سلك ابن عاشور في إيراد الإسرائيليات منهجاً متميزاً عن كثير من المفسرين، إذ إنه يندر أن يورد الإسرائيليات عن طريق الرواية عن مسلمي أهل الكتاب، ولكنه يوردها كثيراً عن طريق نقله من الكتب المقدسة بمصدرها الأصلي في العهدين الجديد والقديم , ذاكراً رقم السفر والإصحاح الذي توجد فيه القصة (¬1). وقد يكون هذا من مميزات التفسير إذا نظرنا من ناحية تأصيلية في كونه يذكر هذه الإسرائيليات من مصدرها الأصلي، ويمكن أن نعده مأخذا على الشيخ من حيث إنه ضمّن ثقافته الإسرائيلية ونشرها في تضاعيف كتابه دون أن يعنى كبير عناية بنقد هذه الإسرائيليات. ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} (¬2). قال الشيخ نقلاً عن الإسرائيليات: اسم زوج آدم عند العرب "حواء" واسمها في العبرانية مضطرب ففي سفر التكوين في الإصحاح الثاني إن اسمها امرأة سماها كذلك آدم قال لأنها من امرئ أخذت ,وفي الإصحاح الثالث أن آدم دعا اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي ... وفي التوراة أن حواء خلقت في الجنة بعد أن سكن آدم في الجنة وأن الله خلقها لتؤنسه قال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا ¬

(¬1) انظر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ومنهجه في تفسيره / هيا العلي، ص 317. (¬2) سورة البقرة، آية 35.

زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (¬1) (¬2). أورد ابن عاشور هذا الخبر الإسرائيلي هكذا دون أن يعقب عليه بأي تعليق أو على المصدر المستقى منه، وهذه المبهمات لا تحدد في شريعة الإسلام إلا بالخبر الصحيح عن الرسول ... - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وقال أيضاً عند تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا .. } (¬4): " وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان في كتبهم , فقد جاء في سفر الملوك الأول: إن سليمان في زمن شيخوخته أمالت نساؤه المصريات والصيدونيات والعمونيات قلبَه إلى آلهتهن مثل (عشتروت) إله الصيدونيين (ومُولوك) إله العمونيين (الفينيقيين) وبنى لهاته الآلهة هياكل , فغضب الله عليه لأن قلبه مال عن إله إسرائيل الذي أوصاه أن لا يتبع آلهة أخرى" (¬5). يبين ابن عاشور في هذا الخبر الدليل على اعتقاد اليهود بكفر سليمان عليه السلام وذلك من خلال نصوص كتبهم، وكان من الممكن أن نعتبر هذا النوع من الاستدلال من محاسن "التحرير والتنوير" لو أن الشيخ ابن عاشور بعد ¬

(¬1) سورة الأعراف، آية 189. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 429. (¬3) الشيخ محمد الطاهر / هيا العلي، ص 317. (¬4) سورة البقرة، الآية (102). (¬5) التحرير والتنوير، ج 1، ص 630.

ثانيا: موقفه من التفسير بالرأي

أن استشهد بهذا النص عقب عليه بما يدحض معناه، حيث اشتمل النص على عبارات تنافي عصمة الأنبياء، من كون النساء أثَّرن على سليمان في زمن شيخوخته وأملن قلبه إلى آلهتهن فغضب الله عليه؛ لأن قلبه مال عن إله إسرائيل. فهل يعقل أن الأنبياء بعد نزول الوحي عليهم وهم المعصومون من الكفر والعصيان أن تمُيل النساء قلب أحدهم إلى الكفر ,كما فعلت نساء سليمان معه في زمن شيخوخته في زعم هذه الإسرائيليات الباطلة , فهذه الإسرائيليات وأمثالها تخالف عقيدة أهل الإسلام في عصمة الأنبياء (¬1). ثانياً: موقفه من التفسير بالرأي: ذكر ابن عاشور في المقدمة الثالثة من تفسيره موقفه من التفسير بالرأي، وهو يرى أن تفسيراً كثيراً للقرآن لم يكن من المأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأن التفاسير قد اتسعت، وتفنن أصحابها في استنباط معاني القرآن، بما رزقهم الله من فهم كتاب الله. ويقول: " لو كان التفسير مقصوراً على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزراً، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة فمن يليهم - في تفسير القرآن - وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم " (¬2). كما حدّد ابن عاشور الضوابط والحدود التي يسير الرأي في دائرتها إذ ¬

(¬1) انظر الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور / هيا العلي، ص 506. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 28.

يقول: " إن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، ومالا بد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل: " رمية من غير رام ". ثم ذكر ماجاء في النهي عن التفسير بالرأي من أحاديث وآثار عن سلف الأمة، ثم قام بتوجيه النهي عنه إلى خمسة وجوه: 1 - أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر، دون استناد إلى النظر في أدلة العربية، ومقاصد الشريعة وتصاريفها، ومالا بد منه. 2 - أن لا يتدبر القرآن حق تدبره، فيفسره بما يخطر له من بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير، مقتصراً على بعض الأدلة دون بعض. 3 - أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة، فيتأول القرآن على وفق رأيه، ويصرفه عن المراد، ويرغمه على تحمل مالا يساعد عليه المعنى المتعارف. 4 - أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ، ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره، لما في ذلك من التضييق على المتأولين. 5 - أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة والحذر في التدبر والتأويل ونبذ التسرع إلى ذلك. وقَسمهُ إلى محمود مقبول، ومذموم مردود، وذكر من أمثلة المردود التفسير

الباطني والتفسير الإشاري (¬1) ... . ومن يدقق النظر في تفسير ابن عاشور يدرك أنه قد وعى واستوعب جميع الشروط والمواصفات الواجب توافرها في المتصدي لتفسير كتاب الله تعالى. ومن مذهبه أن ألفاظ القرآن تحتمل الكثير من المعاني المرادة والمقصودة مالم يمنع من ذلك مانع صريح أو غالب من دلالة شرعية أو لغوية أو توقيفية، وهذا هو الذي جعل تفسيره يزخر بالمعاني العظيمة، والأقوال المتعددة في الآية الواحدة، فله نظر لألفاظ القرآن وما تحويه من الكنوز، وقد بيّن ذلك في مقدمة كاملة من مقدمات التفسير وهي المقدمة التاسعة التي عنونها بقوله: " المقدمة التاسعة في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها" (¬2). وخلاصة ما ذكره: أن العرب قوم أذكياء ذوو فصاحة وفطنة، وأنزل القرآن بلغتهم، وهي لغة سهلة، وهي أوفر اللغات مادة، وأقلها حروفاً , وأوفرها ألفاظاً , وأكثرها في الدلالة على أغراض المتكلم. ولما كان القرآن نازلاً بهذه اللغة التي هذه صفتها، على أولئك القوم الذين مضى ذكرهم وما هم عليه من الفطنة والذكاء وتمام الفصاحة والبلاغة، كان حقيقاً بأن يودع فيه من المعاني والمقاصد أكثر مما تحتمله الألفاظ، في أقل ما يمكن من المقدار، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها، التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات، ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 28 - 37. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 28 - 37.

نواحي الهدى وهذا الأساس أو القاعدة التي أرساها الشيخ تنبع من منظور عقلي جرت عليه المدرسة العقلية. ثم أخذ يستدل على هذا التأصيل بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن صحابته الكرام رضوان الله عليهم، وعن فقهاء الإسلام، من التفاسير التي ليست هي المعنى الأسبق من التركيب، ولكنها محمولة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك إيقاظ الأذهان إلى أخذ أقصى المعاني من ألفاظ القرآن، ومثال ذلك ما رواه أبو سعيد بن المعلى قال: (دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الصلاة فلم أجبه، فلما فرغت أقبلت إليه فقال: ما منعك أن تجيبني؟ فقلت: يا رسول الله! كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} (¬1) فلا شك أن المعنى المسوقة فيه الآية هو الاستجابة بمعنى الامتثال، غير أن لفظ الاستجابة لما كان صالحاً للحمل على المعنى الحقيقي أيضاً وهو إجابة النداء حمل النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية على ذلك المقام الصالح له، وعلم الصحابة والتابعون أن ذلك مما يسوغ في ألفاظ القرآن الجزلة، المحتملة للمعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة (¬2). ومن هنا نتبين موقف ابن عاشور من التفسير بالرأي وأنه قد فتح المجال الواسع لبيان معاني القرآن ومدلولات ألفاظه وتراكيبه. ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية (24). (¬2) انظر التحرير والتنوير , ج 1 , ص 100.

المطلب الثالث منهج ابن عاشور في القراءات المتواترة والشاذة

المطلب الثالث منهج ابن عاشور في القراءات المتواترة والشاذة اعتنى الشيخ ابن عاشور بالقراءات عناية كبيرة , وجعل المقدمة السادسة من مقدمات التفسير للحديث عنها، وذكر أن السبب في كتابتها في المقدمة هو عناية كثير من المفسرين بها. وبنى أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى بن مينا المدني الملقب بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويًا، ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس، ثم ذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة. وذكر أنه اقتصر في تفسيره على ذكر اختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام. ولكنه لم يلتزم بما قال، بل أطنب إطنابا غريبا في بعض المواضع، ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (¬1): " والصراط: الطريق ,وهو بالصاد والسين ,وقد قرئ بهما في المشهورة ,وكذلك نطقت به بالسين جمهور العرب إلا أهل الحجاز نطقوه بالصاد مبدلة عن السين لقصد التخفيف في الانتقال من السين إلى الراء ثم إلى الطاء ... وقيسٌ قلبوا السين بين الصاد والزاي وهو إشمام وقرأ به حمزة في رواية خلف عنه. ومن العرب من ¬

(¬1) سورة الفاتحة، الآية (5).

قلب السين زايًا خالصة " (¬1). أما الشروط التي اشترطها ابن عاشور في القراءة المقبولة فهي نفس الشروط التي ترددت عند العلماء وهي: 1 - موافقة اللغة العربية ولو بوجه من الوجوه. 2 - موافقة رسم أحد المصاحف العثمانية. 3 - صحة سندها. وإلى ذلك يشير ابن الجزري في "طيبة النشر " بقوله: فكل ما وافق وجه نحو ... وكان للرسم احتمالاً يحوي وصح إسناداً وهو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وحيثما يختل ركن أثبت شذوذه ... لوأنه في السبعة (¬2) ولكن مما يجدر الإشارة إليه أن ابن عاشور يرى أن التواتر شرط كاف لأن تكون القراءة مقبولة حيث يرى أن الشروط الثلاثة الأولى هي شروط في قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن كانت صحيحة السند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنها لم تبلغ حد التواتر فهي بمنزلة الحديث الصحيح، وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية، ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه (¬3). ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 190. (¬2) طيبة النشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ص 23. (¬3) انظر التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 53.

ويؤيد كلام ابن عاشور ما ذكره ابن الجزري: "وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم ولقد كنت أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده " (¬1). ويقول أيضا: " إن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الآخرين من الرسم وغيره، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواتراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب قبوله وقطع بكونه قرآناً , سواء أوافق الرسم أم خالفه " (¬2). ومن هنا لا يعبأ الشيخ محمد بن عاشور بمخالفة بعض القراءات المتواترة لرسم المصحف. أما عن موقفه من القراءات المتواترة من حيث الترجيح والاختيار فهو الآتي: أولاً: نجده أحياناً يختار من القراءات المتواترة. ومن أمثلة اختياره بعض القراءات المتواترة الصحيحة ما أورده عند بيان القراءات في قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3) حيث قال: " وقرأ الجمهور هاء «وهو» بالضم على الأصل، وقرأها قالون وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر بالسكون للتخفيف عند دخول حرف العطف عليه، والسكون أكثر من الضم في كلامهم , وذلك مع الواو والفاء ولام الابتداء، ووجهه: أن الحروف التي هي على حرف واحد إذا دخلت على الكلمة ¬

(¬1) النشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 1، ص 18. (¬2) النشر في القراءات العشر/ ابن الجزري , ج 1 , ص 18. (¬3) سورة البقرة، الآية (29).

تنزلت منزلة الجزء منها فصارت الكلمة ثقيلة بدخول ذلك الحرف فيها , فخففت بالسكون كما فعلوا ذلك في حركة لام الأمر مع الواو والفاء، ومما يدل على أن أفصح لغات العرب إسكان الهاء مِن (هو) إذا دخل عليه حرف، أنك تجده في الشعر فلا يتزن البيت إلا بقراءة الهاء ساكنة ولا تكاد تجد غير ذلك بحيث لا يمكن دَعوى أنه ضرورة" (¬1). ثانياً: لا يرجح بين القراءات المتواترة الصحيحة، بل نجده أحيانا يرد على بعض العلماء الذين يرجحون بين القراءات الصحيحة الثابتة ويطعنون فيها: ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن عاشور عند قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬2) قال: " وكلتاهما - أي قراءة ملك ومالك - صحيحة ثابتة , كما هو شأن القراءات المتواترة كما تقدم في المقدمة السادسة , وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة (ملك) بدون ألف , وقراءة (مالك) بالألف من خصوصيات بحسب قَصْر النظر على مفهوم كلمة ملك ومفهوم كلمة (مالك)، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى يوم الدين، فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شؤون ذلك اليوم دون شبهة مشارك. ولا محيصَ عن اعتبار التوسع في إضافة (ملك) أو (مالك) إلى (يوم) بتأويل شؤون يوم الدين. على أن (مالك) لغة في (ملك) ففي ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 387. (¬2) سورة الفاتحة، الآية (4).

«القاموس»: «وكأمير وكتف وصاحب ذُو الملك» " (¬1). كما نجد ابن عاشور قد ردَّ على بعض العلماء السابقين الذين يرجحون بين القراءات الثابتة، ومن ذلك ردّه على ابن جرير عند توجيه القراءات في كلمة (يطهرن) حيث رجّح الطبري قراءة التشديد قائلاً " وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: " حتى يطَّهَّرن " بتشديدها وفتحها، بمعنى حتى يغتسلن، لإجماع الأمة على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم عنها حتى تطهر " (¬2) ... فكان رد ابن عاشور عليه بقوله: " بأنه مردود بأن لا حاجة إلى الاستدلال بدليل الإجماع , ولا إلى ترجيح القراءة به " (¬3). أما منهجه في ذكر القراءات الشاذة: فقد ذكر ابن عاشور في تفسيره أنه لن يتعرض للقراءات الشاذة، ولكنه يذكرها أحياناً، ولأغراض معينة، وهو إن ذكرها إما أن يصرح بشذوذها، ويذكر وجه ذكره لها - كما سيأتي - وإما أن لا يصرح بشذوذها، ولكنه يفهم منه تلميحا ضعفها فمثلاً عند قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} (¬4) قال: "والقراءة المتواترة {الْمَلَكَيْنِ} بفتح لام الملكين، وقرأه ابن عباس والضحاك ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 175. (¬2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن / الطبري، ج 2، ص 462. (¬3) التحرير والتنوير، ج 2، ص 368. (¬4) سورة البقرة، الآية (102).

والحسن بن أبزى بكسر اللام" (¬1). فهنا لم يصرح ابن عاشور بشذوذ قراءة ابن عباس ومن معه ولكن فهم منه تلميحاً، وقد يكون هذا الذي لم يصرح به مما نقله من كتب التفاسير، وهذا قليل. أما أغراض ذكر القراءات الشاذة عند ابن عاشور فهي التالي: 1 - إنه يستشهد بالقراءة الشاذة ليفسر ويبين القراءة المتواترة ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬2) قال: " قرأها ابن عباس بزيادة (مواسم الحج) حيث انقطع البيع وحرم، وكانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأثمَّوا أن يتجروا في المواسم، فنزلت هذه الآية " (¬3). 2 - كما أنه يستشهد بالقراءة الشاذة ليدلل على أحد الأقوال الواردة في الآية حيث نجده يورد القراءة الشاذة دون أن يصرح بشذوذها ليعضد بها قولاً من الأقوال الواردة في معنى الآية (¬4). 3 - كما أنه يستدل أحياناً بالقراءة الشاذة على صحة بعض الوجوه ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 639. (¬2) سورة البقرة، الآية (198). (¬3) التحرير والتنوير، ج 2، ص 237. (¬4) انظر التحرير والتنوير ج 1، ص 641.

النحوية، ومن ذلك قوله عند قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (¬1): " قرأ الجمهور: فيَغفرْ ويعذّب بالجزم، عطفاً على يحاسِبْكم، وقرأه ابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب: بالرفع على الاستئناف , بتقدير فهو يغفر، وهما وجهان فصيحان، ويجوز النصب ولم يقرأ به إلا في الشاذ " (¬2). 4 - أحياناً يذكر القراءة الشاذة لقصة طريفة فيها نكتة عربية، قال ابن عاشور: عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} (¬3): " ومن القراءات الشاذة في هذه الآية ما ذكره في "الكشاف " أن عليا قرأ " والذين يَتَوفون " بفتح التحتية، على أنه مضارع "توفى"مبنيا للفاعل، بمعنى مات، بمعنى توفى أجله، أي: استوفاه، وأنا وإن كنت التزمت ألا أتعرض للقراءات الشاذة فإنما ذكرت هذه القراءة لقصة طريفة فيها نكتة عربية، أشار إليها في الكشاف وفصلها السكاكي في المفتاح، وهي أن عليا كان يشيع جنازة فقال له قائل " من المتوفي " بلفظ اسم الفاعل " أي بكسر الفاء " سائلا عن المتوفى - بفتح الفاء - فلم يقل: فلان بل قال (الله) مُخَطِّئاً إياه مُنبهاً له بذلك على أنه يحق أن يقول: من المتوفى؟ بلفظ اسم المفعول , وما فعل ذلك إلا لأنه عرف من السائل أنه ما أورد لفظ المتوفى ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (284). (¬2) التحرير والتنوير، ج 2، ص 131. (¬3) سورة البقرة، الآية (234).

على الوجه الذي يكسوه جزالة وفخامة وهو وجه القراءة المنسوبة إليه - أي إلى علي - والذين يتوفون منكم بلفظ بناء الفاعل على إرادة معنى: (والذين يستوفون مدة أعمارهم) " (¬1). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 449، وانظر الإمام محمد الطاهر بن عاشور ومنهجه في توجيه القراءات / محمد بن سعد القرني، ص 237 - 243.

المطلب الرابع عنايته بالوجوه البلاغية واللغة

المطلب الرابع عنايته بالوجوه البلاغية واللغة اعتنى ابن عاشور في تفسيره ببيان الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن، وجعل المقدمة الثانية، في استمداد علم التفسير، وركز على أهمية علمي البيان والمعاني ثم الشعر وبهما صدر العلوم التي يستمد منها التفسير، فقدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم، كما أنه بيّن في المقدمة العاشرة من تفسيره كيف تفوّق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر فيه من الخصائص التي لا تجتمع في كلام آخر البلغاء، ولذلك حرص ابن عاشور من خلال تفسيره على ما هو آتٍ: - بيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية، فيقول: " فإني بذلت الجهد في الكشف عن نكت من معاني القرآن وإعجازه خلت عنها التفاسير" (¬1). - بيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض، مع إعراضه عن تناسب مواقع السور بعضها إثر بعض، قبل أن يبيّن أغراض كل سورة من سور القرآن. - توضيح مفردات اللغة العربية بالضبط والتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة. وهو كما قال فعلا حيث خرج مع التفسير إلى إضافة قاموس لغوي لمفردات القرآن ومن أمثلة ذلك الإطناب في كلمة حجارة، والإطناب الشديد في فواتح السور. ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 8.

أولا: الإيجاز

ومن إطناباته اللغوية التي خرجت عن حد التفسير , والتي هي كثيرة: كلامه عن اشتقاق كلمة الفاتحة في قريب من صفحة كاملة. كما أفاض في وجه إضافة سورة إلى فاتحة الكتاب بما يقرب من صفحة أيضًا وكذا في أصل كلمة بسملة أكثر من صفحة كاملة. وقد تحدّث ابن عاشور عن البلاغة وأهميتها ودورها وأطال لاسيما في المقدمة الثانية والعاشرة، ومن أهم الأوجه والقضايا التي تناولها الشيخ بالبحث والدراسة هي: 1 - الإيجاز. 2 - المجاز. 3 - الإعجاز. 4 - التفنن. 5 - الالتفات. أولاً: الإيجاز: الإيجاز من المباحث اللغوية التي عنى بها الشيخ وحاول لفت الأنظار إلى أسلوب من أساليب القرآن الإبداعية البلاغية، وهو الإيجاز، وقد عرّفه الفخر الرازي: " أنه العبارة عن الغرض، بأقل ما يمكن من الحروف من غير إخلال " (¬1) ... . وقال الشيخ ابن عاشور في ذلك: " ومن أبدع الأساليب في كلام العرب الإيجاز, وهو متنافسهم غاية تتبارى إليها فصحاؤهم، وقد جاء القرآن بأبدعه إذ ¬

(¬1) نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز / الرازي، ص 347.

كان مع ما فيه من الإيجاز المبين في علم المعاني فيه إيجاز عظيم آخر، وهو صلوحية معظم آياته لأن تؤخذ منها معانٍ متعددة كلها تصلح لها العبارة باحتمالات لا ينافيها اللفظ ... " (¬1). ومن الأمثلة على الإيجاز التي نبّه عليها في تفسيره ما جاء في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} (¬2) وفيها قال ابن عاشور: " {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} وصف للقوم وليس هو من المقول لموسى وهارون لأن التكذيب حينئذ لمّا يقع منهم، ولكنه وصف لإفادة قُراء القرآن أن موسى وهارون بلَّغا الرسالة وأظهر الله منهما الآيات فكذب بها قوم فرعون فاستحقوا التدمير تعريضاً بالمشركين في تكذيبهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - وتمهيداً للتفريع بـ {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} الذي هو المقصود من الموعظة والتسلية. والموصول في قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} للإيماء إلى علة الخبر عنهم بالتدمير. وقد حصل بهذا النظم إيجاز عجيب اختصرت به القصة فذكر منها حاشيتاها: أولُها وآخرها لأنهما المقصود بالقصة وهو استحقاق الأمم التدمير ¬

(¬1) التحرير والتنوير , ج 1، ص 121. (¬2) سورة الفرقان، الآية (35 - 36).

ثانيا: المجاز

بتكذيبهم رسلهم " (¬1). ثانياً: المجاز: المجاز من المباحث البلاغية التي عرض لها ابن عاشور في تفسيره وناقش من خلال المجاز كثيراً من القضايا البلاغية لإفادة المعنى الحقيقي، وهو: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة (¬2). ولعل في وقوف الشيخ عند مجازات القرآن ليلفت الأنظار وينبه على إمكان تفسير اللفظ المجازي بمعناه الحقيقي الذي وضع له، ما يرشدنا على تمكنه من اللغة بفنونها المختلفة. ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن عاشور عند تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (¬3) قال: " وصف النهار بمبصر، مجاز عقلي للمبالغة في حصول الإبصار فيه حتى جعل النهار هو المبصر، والمراد مبصراً فيه الناس (¬4)، وكذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 9، ص 26. (¬2) إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 1، ص 95، وسيأتي بيان ذلك من خلال القواعد الترجيحية المتعلقة بالمجاز في الفصل الثاني في المبحث الرابع. (¬3) سورة يونس، الآية (67). (¬4) التحرير والتنوير، ج 6، ص 227.

ثالثا: الإعجاز

إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬1) قال: " وجملة {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} تعليل للأمر بالصلاة عليهم بأن دعاءه سكن لهم, أي خير، فإطلاق السكن على هذا الدعاء مجاز مرسل " (¬2). ثالثاً: الإعجاز: الذي يمعن النظر في التحرير والتنوير يرى أن صاحبه بذل جهداً لا يستهان به حتى يبرز في كتابه إعجاز القرآن من خلال فصاحة ألفاظه وقوة تراكيبه. والإعجاز هو: أن يؤدى المعنى بطريق هو أبلغ من جميع ما عداه من الطرق (¬3) ... .وفي ذلك يقول ابن عاشور: " فوجه الإعجاز أمر من جنس البلاغة والفصاحة، لا كما ذهب إليه النظام وجمع من المعتزلة أن إعجازه بالصرفة بمعنى أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب قدرتهم عليها، ولا كما ذهب إليه جماعة من أن إعجازه بمخالفة أسلوبه لأساليب كلامهم من الأشعار والخطب والرسائل ولا سيما في المقاطع مثل يؤمنون وينفقون ويعلمون .. اهـ (¬4) ... . والشيخ ابن عاشور قد خصّ قضية إعجاز القرآن بالقدر الأوفى والأكبر من الاهتمام والشرح، وقد انتهى به استقراؤه إلى أن ملاك الإعجاز يتمثل في عدّة ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية (107). (¬2) التحرير والتنوير، ج 6، ص 23. (¬3) التعريفات / الجرجاني، ص 47. (¬4) التحرير والتنوير، ج 1، ص 107.

جهات: الجهة الأولى: بلوغه الغاية القصوى مما يمكن أن يبلغه الكلام العربي البليغ من حصول كيفيات في نظمه مفيدة معاني دقيقة، وهو المصطلح على تسميته حد الإعجاز. ومن وجوه الإعجاز التي ذكرها ابن عاشور في تلك الجهة: 1 - الالتفات: وسيأتي الحديث عنه مفصلاً. 2 - التشبيه والاستعارة، وقد جاء في القرآن منهما ما أعجز العرب كقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (¬1) ... . 3 - كثرة النكات البلاغية التي يشتمل عليها القرآن. 4 - فصاحة اللفظ وانسجام النظم، وذلك بسلامة الكلام في أجزائه ومجموعه. 5 - صراحة كلماته باستعمال أقرب الكلمات في لغة العرب دلالة على المعاني المقصودة وأشملها لمعان عديدة مقصودة بحيث لا يوجد كلمة في القرآن تقصر دلالتها عن جميع المقصود منها في حالة تركيبها، ولا تجدها مستعملة إلا في حقائقها (¬2) ... . والأمثلة على ذلك كثير ة في تفسيره أعرضت عنها خشية الإطالة. ¬

(¬1) سورة مريم، الآية (4). (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 120 - 124.

الجهة الثانية: ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في نظم الكلام فيما لم يكن معهوداً في أساليب العرب، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة. ومن أساليب القرآن: 1 - إنه جاء أسلوبه جامعاً بين مقصدين: مقصد الموعظة ومقصد التشريع. 2 - التفنن: وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتنظير والتذييل والإتيان بالمترادفات عند التكرير. 3 - العدول عن تكرير اللفظ والصيغة، فيما عدا المقامات التي تقتضي التكرير ونحوه. هذا وللقرآن مبتكرات من الأساليب تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب، ذكرها ابن عاشور ومنها: 1 - إنه جاء بأسلوب يخالف الشعر، ويخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة. 2 - إنه جاء بأسلوب التقسيم والتسوير، وهي سنة جديدة في الكلام العربي. 3 - الأسلوب القصصي في حكاية أحوال النعيم والعذاب في الآخرة، وقد كان فن القصة نادراً في لغة العرب. 4 - أوضح الأمثال وأبدع تركيبها خلاف ما عليه أدب العرب حيث تنسى أحداث المثل. 5 - أبدع الإيجاز، وذلك لصلوحية معظم آياته لأن تؤخذ منها معانٍ

متعددة كلها تصلح لها العبارة باحتمال لا ينافيها اللفظ، ومن بديع الإيجاز الحذف مع الالتباس والتضمين. 6 - استعمال اللفظ المشترك في معنيين أو معان إذا صلح المقام بحسب اللغة العربية لإرادة ما يصلح منها (¬1). والأمثلة على ما تقدم كثيرة جداً في تفسير ابن عاشور أعرضت عنها خشية الإطالة. الجهة الثالثة: ما أودع فيه من المعاني الحكيمة والإشارات إلى الحقائق العلمية. ويعني به الإعجاز العلمي، حيث ذكر أقوال العلماء فيه، وتعقَّب الشاطبي في نفيه للإعجاز العلمي ثم قال: " إن هذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بجموعه إذ ليست كل آية من آياته وسورة من سوره مشتملة على هذا النوع " (¬2). فابن عاشور يرى شرعية تفسير الآيات تفسيراً علمياً، إلا أنه جعل له شروطاً وضوابط حتى لا يخرج عن مساره الصحيح ذكرها في المقدمة العاشرة من تفسيره منها: 1 - أن لا يبعد عن الظاهر إلا بدليل. 2 - أن لا يكون تكلفاً بيَّناً ولا خارجاً من المعنى الأصلي. ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 113. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 128.

3 - وقد اعتنى ببيان الإعجاز القرآني وإظهاره من خلال تفسيره للآيات (¬1)، ومن أمثلة ذلك ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (¬2) قال: "ومن دقائق القرآن قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} وهي عبارة لم يأت مثلها فيما كتب من أخبار فرعون، وإنها لمن الإعجاز العلمي في القرآن إذ كانت الآية منطبقة على الواقع التاريخي. والظاهر أن الأمواج ألْقَت جثّته على الساحل الغربي من البحر الأحمر فعثر عليه الذين خرجوا يتقصون آثاره ممن بقُوا بعده بمدينة مصر لما استبطأوا رجوعه ورجوع جيشه، فرفعوه إلى المدينة وكان عبرة لهم " (¬3). الجهة الرابعة: وهي الإخبار بالمغيبات (¬4): ومن أمثلة ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬5) قال: " وفي هذه الآية طرف من الإعجاز ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 128. (¬2) سورة يونس، الآية (92). (¬3) التحرير والتنوير، ج 6، ص 280. (¬4) التحرير والتنوير، ج 1، ص 113. (¬5) سورة فصلت، الآية (53).

رابعا: التفنن

بالإخبار عن الغيب إذ أخبرتْ بالوعد بحصول النصر له ولدينه، وذلك بما يسَّر الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولخلفائه مِن بعده في آفاق الدّنيا والمشرق والمغرب عامة وفي بَاحة العرب خاصة من الفتوح وثباتها وانطباع الأمم بها ما لم تتيسر أمْثالها لأحد من ملوك الأرض والقياصرة والأكاسرة على قلة المسلمين إن نسب عددهم إلى عدد الأمم التي فتحوا آفاقها بنشر دعوة الإسلام في أقطار الأرض، والتّاريخ شاهد بأن ما تهيأ للمسلمين من عجائب الانتشار والسلطان على الأمم أمر خارق للعادة " (¬1) ... . رابعاً: التفنن: قال ابن عاشور: " ومن أساليبه ما أسميه بالتفنن , وهو: بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتنظير والتذليل والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنباً لثقل تكرير الكلم، وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم التفنن عند بلغاء العربية , فهو في القرآن كثير، ثم الرجوع إلى المقصود فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعه وإقبالهم عليه " (¬2). ومن أبدع الأمثلة التي نبّه عليها ابن عاشور في تفسيره مما يدخل في هذا الباب قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 18. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 113.

خامسا: الالتفات

بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا. . . . .} (¬1). قال ابن عاشور: " وفي هذا التفنن والتنقل مناسبات بين المنتقل منه، والمنتقل إليه هي في منتهى الرقة والبداعة بحيث لا يشعر سامعه وقارئه بانتقاله إلا عند حصوله" (¬2). خامساً: الالتفات: وهو نوع من أنواع التفنين , نبّه الشيخ ابن عاشور وأشار إليه في تفسيره وقد ذكر الزمخشري الالتفات في كشافه، مقروناً بالتفنين فيقول: " الالتفات في علم البيان قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم " (¬3) ... . وعرف الثعالبي الالتفات بقوله: " هو أن تذكر الشيء وتتم معنى الكلام به، ثم تعود لذكره كأنك تلتفت إليه " (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (17 - 20). (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 116. (¬3) الكشاف / الزمخشري، ج 1، ص 119. (¬4) فقه اللغة / الثعالبي، ج 1 , ص 93.

وقد عرض الشيخ ابن عاشور نماذج كثيرة من خلال التحرير والتنوير، ومن ذلك ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} (¬1) ... . ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور فهومن الالتفات الذي نكتته أن ما أجري على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراضَ البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية. وقد حسَّن الالتفاتَ أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية , وهو غرض جديد , فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شؤونهم مع أنبيائهم وجّه الخطاب إليهم، ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صار الخطاب جارياً مع المؤمنين وأجرى على اليهود ضمير الغيبة (¬2). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (88). (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 599.

المطلب الخامس مصادر ابن عاشور في تفسيره

المطلب الخامس مصادر ابن عاشور في تفسيره لا شك أن المصادر تعتبر النواة الأولى للمفسر سواء كانت هذه المصادر تلقِّيا عن الشيوخ أو متمثلة في الكتب التي استفاد منها في كتابة التفسير، ومن خلال قراءتي لهذا التفسير وتتبع محتواه العلمي وجدت أن ابن عاشور نهج في الإشارة إلى مصادره ومراجعه التي استقى منها معلوماته الطرق التالية: - إنه أحياناً يصرح بذكر اسم الكتاب ولا يشير إلى اسم المؤلف. - وأحياناً يصرح باسم المؤلف ولا يصرح باسم المصدر. - وأحياناً أخرى يصرح باسم المصدر والمؤلف جميعاً. ولقد أشار الشيخ في مقدمته إلى أهم كتب التفسير التي رجع إليها واستعان بها، وهو يرى أنها أهم كتب التفسير المعول عليها من وجهة نظره حيث يقول: " والتفاسير - وإن كانت كثيرة - فإنك لا تجد الكثير منها إلا عالة على كلام سابق بحيث لاحظَّ لمؤلفه إلا الجمع على تفاوت بين اختصار وتطويل، وإن أهم التفاسير: " تفسير الكشاف " و " المحرر الوجيز " لابن عطية و " مفاتيح الغيب " لفخر الدين الرازي، وتفسير البيضاوي الملخص من الكشاف ومن مفاتيح الغيب بتحقيق بديع، وتفسير الشهاب الآلوسي، وما كتبه الطيبي، والقزويني، والتفتزاني على الكشاف، وما كتبه الخفاجي على تفسير البيضاوي، وتفسير أبي السعود، وتفسير القرطبي والموجود من تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي

1 - التفسير وعلوم القرآن

من تقييد تلميذه الأبي وهو بكونه تعليقا على تفسير ابن عطية أشبه منه بالتفسير لذلك لا يأتي على جميع آي القرآن وتفاسير الأحكام، وتفسير الإمام محمد ابن جرير الطبري، وكتاب " درة التنزيل " المنسوب لفخر الدين الرازي، وربما ينسب للراغب الأصفهاني. ولقصد الاختصار أعرض عن العزو إليها وقد ميزت ما يفتح الله لي من فهم في معاني كتابه وما أجلبه من المسائل العلمية، مما لا يذكره المفسرون، وإنما حسبي في ذلك عدم عثوري عليه فيما بين يدي من التفاسير في تلك الآية خاصة، ولست أدعي انفرادي به في نفس الأمر، فكم من كلام تنشئه تجدك قد سبقك إليه متكلم وكم من فهم تستظهره وقد تقدمك إليه متفهم" (¬1). وتعداده لهذه المراجع لا يعني الحصر؛ فهناك الكثير من المراجع التي لم يتطرق إليها في المقدمة ومن ذلك ما يتعلق بـ ... : 1 - التفسير وعلوم القرآن: اعتمد على شروح الكشاف لكل من الجرجاني والتفتازاني، كما رجع أيضاً لابن كثير في تفسيره، وكذلك البغوي في تفسيره. وإلى كتب الأحكام في تفسير القرآن لكل من ابن العربي، والجصاص. واعتمد في مجال علوم القرآن اعتماداً كبيراً على السيوطي في "الإتقان"، والواحدي في "أسباب النزول". ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 7.

2 - في القراءات

2 - في القراءات: اعتمد ابن عاشور في ذكر بعض القراءات على كتب السنة المشهورة كصحيح البخاري وسنن الترمذي، كما رجع إلى كتاب "السبعة "لابن مجاهد وقد نصّ عليه في تفسيره، و"حرز الأماني ووجه التهاني" للشاطبي، وكذلك "الدرر المضيئة في القراءات الثلاث" المتممة للعشر لابن الجزري، و"غيث النفع في القراءات السبع " للشيخ علي النوري الصفاقسي، كما أخذ القراءات من كتب التفسير ومن ذلك: كتاب "الكشاف" للزمخشري، و" المحرر الوجيز "لابن عطية. 3 - الحديث النبوي: أكثر المصادر التي اعتمد عليها في الحديث: صحيح البخاري وصحيح مسلم، والنسائي، والترمذي، وأبو داوود، ومالك، ومسند أحمد بن حنبل ومعجم الطبراني ومسند البزار وابن أبي حاتم وسنن البيهقي والدارقطني. ومن أكثر هذه المصادر التي اعتمد عليها الشيخ كثيراً في تفسيره: البخاري ومسلم وموطأ مالك. 4 - الفقه والأصول: أكثر ابن عاشور من النقل كثيراً عن الإمام مالك، كما اعتمد في استشهاداته الفقهية وتأييده على كل من ابن رشد في "بداية المجتهد"، و"الهداية" في الفقه، وأبو بكر ابن العربي في "أحكام القرآن"، وابن حزم في" المحلى "، والجصاص في تفسير "آيات الأحكام" , والإمام الشافعي، والقرافي في "أنوار الفروق " والشاطبي في " الموافقات ".

5 - العقيدة وعلم الكلام

5 - العقيدة وعلم الكلام: اعتمد على كتاب " المستصفى " للغزالي، وكتاب "الإحياء "، وكذلك " المنقذ من الضلال"، وهناك أسماء كثيرة نهل الشيخ منها على سبيل المثال لا الحصر الجلال الدواني في شرح " ديباجة هياكل النور "، والسهروردي في " هياكل النور وحكمة الإشراق " و" حل الرموز ومفاتيح الكنوز " للعز بن عبد السلام، و" شرح المقاصد " لسعد الدين التفتازاني، و"العواصم من القواصم" لابن العربي. 6 - اللغة والنحو: مصادره في ذلك كثيرة ومتنوعة من أبرزها: " دلائل الإعجاز"، و "أسرار البلاغة" للجرجاني و"الكتاب" لسيبويه، و"مفتاح العلوم" للسكاكي، و"شرح المفصل " لابن الحاجب و"الأشباه والنظائر" للسيوطي. ما تقدم يعد أهم المصادر التي تتردد وتتكرر في التحرير.

الفصل الأول مقدمات في قواعد التفسير والترجيح

الفصل الأول مقدمات في قواعد التفسير والترجيح وفيه ستة مباحث: المبحث الأول: معنى القاعدة والتفسير والترجيح المبحث الثاني: الفرق بين قواعد الترجيح وقواعد التفسير. المبحث الثالث: نشأة قواعد الترجيح. المبحث الرابع: أنواع قواعد الترجيح. المبحث الخامس: الأسباب الموجبة للترجيح. المبحث السادس: قواعد التفسير عند ابن عاشور.

المبحث الأول معنى القاعدة والتفسير والترجيح

المبحث الأول معنى القاعدة والتفسير والترجيح تعريف القاعدة: القاعدة لغة: الأساس، قال ابن فارس: " قواعد البيت أساسه، وقواعد الهودج: خشبات أربع معترضات في أسفله، والإقعاد والقعاد: داء يأخذ الإبل في أوراكها فيميلها إلى الأرض " (¬1). وقال ابن منظور: " القاعدة: أصل الأس، والقواعد: الأساس، وقواعد البيت أساسه وفي التنزيل: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2) وفيه: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} (¬3) " (¬4). وقال الرازي: "القَاعِدُ من النساء التي قعدت عن الولد والحيض، الجمع القَواعِدُ وقوَاعِدُ البيت أساسه" (¬5). واستعملت القاعدة مجازاً في الأمور المعنوية فيقال: بنى أمره على قاعدة ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 865. (¬2) سورة البقرة: الآية 127. (¬3) سورة النحل الآية: 26. (¬4) لسان العرب / ابن منظور، ج 11، ص 239، مادة: قعد. (¬5) مختار الصحاح / ابن عبد القادر الرازي، ج 1، ص 560.

وقواعد , وقاعدة أمرك واهية. وتطلق القاعدة بمعنى الأمر الضابط والأمر الكلي الذي ينطبق على جزئيات. وبوجه عام فإن المعنى اللغوي لهذه المادة هو الاستقرار والثبات، وإذا أمعنا النظر في هذه المعاني المتعددة، وجدناها تؤول كلها إلى معنى واحد يجمعها وهو الأساس، فقواعد كل شيء: أسسه وأصوله التي ينبني علها، سواء كان ذلك الشيء حسياً كما في الأمثلة السابقة، أو معنوياً كما نقول مثلاً: قواعد الإسلام وقواعد العلم وغير ذلك (¬1). القاعدة اصطلاحا: عُرِّفت القاعدة بتعريفات كثيرة، والناظر في تعريفات العلماء للقاعدة يجد اختلافاً في عباراتهم فمن تعريفاتهم: 1 - عرّفها الجرجاني بأنها: قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها (¬2). 2 - عرفها الكفوي بأنها: قضية كلية من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام جزئيات موضوعها (¬3). 3 - عرّفها الفيومي بأنها: الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته (¬4). 4 - وعرفها التفتازاني بأنها: حكم كلي ينطبق على جزئياته ليتعرف أحكامها منه (¬5). 5 - وقال الفتوحي في تعريفها: صور كلية تنطبق كل واحدة منها على ¬

(¬1) انظر نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء / محمد الروكي، ص 38. (¬2) التعريفات / الجرجاني، ص 219. (¬3) الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية / الكفوي، ص 728. (¬4) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير /أحمد بن محمد الفيومي، ج 2، ص 510. (¬5) شرح التلويح على التوضيح/ عبيد الله بن مسعود المحبوبي، ج 1، ص 35.

جزئياتها التي تحتها (¬1). وهذه التعريفات وإن أطلقها بعضهم على القواعد الفقهية فهي في الأصل تعريف للقاعدة بمدلولها العام فتشمل كل ما يطلق عليه قاعدة في العلوم كافة، وهذه التعريفات وإن اختلفت بعض العبارات فيما بينها إلا أنها التقت في معان مشتركة ويمكننا أن نخرج من هذه التعريفات بأن القاعدة اصطلاحاً هي: الحكم الكلي الذي يتعرف به على أحكام جزئياته (¬2). ذكر بعض محترزات التعريف: الحكم الكلي: لا يرد عليه أن كثيراً من القواعد لها استثناءات وأحكام تندُّ عنها، لأن العبرة بالأغلب، والنادر والشاذ لا يخرم القاعدة (¬3). قال الشاطبي: " .. والأمر الكلي إذا ثبت فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كلياً. وأيضاً فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي، لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت .. " (¬4). يتعرف به: لأن استخراج الحكم المندرج تحت القاعدة لا يكون أمراً بدهياً، بل يحتاج إلى إعمال ذهن وشيء من التفكير والتأمل (¬5). ¬

(¬1) شرح الكوكب المنير / الفتوحي، ص 13. (¬2) انظر شرح الكوكب المنير / محمد الفتوحي، ج 1، ص 30. (¬3) قواعد التفسير / خالد السبت، ج 1، ص 23. (¬4) الموافقات / الشاطبي، ج 2، ص 53. (¬5) قواعد التفسير / خالد السبت، ج 1، ص 25.

تعريف التفسير لغة

على أحكام جزئياته: ولم نقل على جميع جزئياته؛ لأن كثيراً من القواعد أغلبية، وذلك لوجود مستثنيات خارجة عنها (¬1). تعريف التفسير لغة: التفسير لغة على وزن تفعيل من الفسر (¬2)، وهو يدل على معنى البيان، والكشف، والإظهار، والإيضاح، والتفصيل، ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (¬3)، أي بياناً وتفصيلاً. وقيل: إنه مأخوذ من مقلوب لفظة " السفر"، ومعناه أيضاً الكشف والإبانة، تقول العرب: سفرت المرأة سفوراً، إذا ألقت خمارها عن وجهها، وهي سافرة، وأسفر الصبح أضاء، ومنه قيل للسفر سفر لأنه يسفر عن أخلاق الرجل (¬4). وقال الراغب: " والفسر والسفر يتقارب معناهما، كتقارب لفظيهما، لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول .. ، وجعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار فقيل: سفرت المرأة عن وجهها وأسفر الصبح (¬5). ¬

(¬1) المصدر السابق، ج 1، ص 25. (¬2) انظر الصحاح / الجوهري، ج 2، ص 781، ولسان العرب / ابن منظور، ج 10، ص 261، مادة: فسر. (¬3) سورة الفرقان، الآية (33). (¬4) انظر بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز / الفيروز آبادي، ج 1، ص 78 - 79، والتيسير في قواعد علم التفسير / الكافيجي، ص 12 - 124. (¬5) مفردات ألفاظ القرآن الكريم / الراغب الأصفهاني / ص 142 - ، 363.

تعريف التفسير اصطلاحا

تعريف التفسير اصطلاحاً: تنوعت أقوال أهل العلم في تعريف التفسير اصطلاحاً (¬1)، والقول المختار منها كما قال الشيخ مناع القطان: والأولى عندي أن يقال في تعريفه: بيان كلام الله المتعبد بتلاوته المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. (فبيان كلام الله)، يخرج بيان كلام غيره من الإنس والجن والملائكة. (المتعبد بتلاوته) أخرج الحديث القدسي. (المنزل) يخرج كلام الله الذي استأثر به سبحانه. وتقييد المنزل بكونه على (محمد - صلى الله عليه وسلم -) يخرج ما أنزل على الأنبياء قبله كالتوراة والإنجيل (¬2). وبنحو هذا التعريف عرّفه فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين فقال: " بيان معاني القرآن الكريم " (¬3). تعريف الترجيح: الترجيح لغة: قال ابن فارس: " الراء والجيم والحاء أصل واحد، يدل على رزانة وزيادة. يقال: رجح الشيء، وهو راجح إذا رزن، وهو من الرجحان" (¬4). وقال ابن منظور: " الراجح الوازن، ورجح الشيء بيده ونظر ما ثقله، ¬

(¬1) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 121، والبرهان في علوم القرآن / الزركشي، ج 1، ص 13. (¬2) انظر مذكرة مادة العلوم للسنة المنهجية عام (1411 هـ) له ص 34، نقلاً من قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 32. (¬3) أصول في التفسير / محمد بن صالح العثيمين، ص 27. (¬4) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 421.

التعريف بالمركب الإضافي "قواعد الترجيح"

وأرجح الميزان أي أثقله حتى مال " (¬1). وفي اصطلاح الأصوليين: تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى بدليل (¬2). والمراد به هنا: تقوية أحد الأقوال في تفسير الآية لدليل من الأدلة الشرعية أو قاعدة من القواعد التفسيرية التي قرّرها العلماء، وتضعيف أو ردّ ما سواه , فمن القواعد الترجيحية ما يدل على الرجحان، ومنها ما يشير إلى البطلان، ومنها ما تضعف بعض الأقوال التفسيرية (¬3). وقيل: بيان اختصاص الدليل بمزيد قوة عن مقابله ليُعمل بالأقوى (¬4). وقيل: تقوية أحد الدليلين المتعارضين (¬5). وأما المفسرون فليس للترجيح عندهم حدّ أو تعريف متفق عليه، ولم أرَ من ذكر له تعريفاً من المتقدمين, واستعمالهم للترجيح في تفاسيرهم يدل على توسعهم في إطلاقه، فهو عندهم يشمل كلّ تقديم لقول على آخر، سواء كان تقديماً يلزم منه ردّ الأقوال الأخرى، أو كان تقديماً لا يلزم منه ذلك. التعريف بالمركب الإضافي "قواعد الترجيح": تعريف قواعد الترجيح كاسم مركب لم يتعرض له أحد من المتقدمين، وعرفه من المتأخرين الدكتور حسين الحربي وأحسن في تحديد معالمه حيث ¬

(¬1) لسان العرب / ابن منظور، ج 5، ص 143، مادة: رجح. (¬2) شرح الكوكب المنير / الفتوحي، ج 4، ص 616. (¬3) أسباب الخطأ في التفسير / طاهر محمود يعقوب، ج 2، ص 919. (¬4) انظر البحر المحيط / الزركشي، ج 6، ص 130. (¬5) انظر مذكرة أصول الفقه / الشنقيطي، ص 376.

يقول: قواعد الترجيح عند المفسرين: ضوابط وأمور أغلبية يتوصل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة في تفسير كتاب الله تعالى (¬1). ¬

(¬1) قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 39.

المبحث الثاني نشأة قواعد الترجيح

المبحث الثاني نشأة قواعد الترجيح إن القرآن الكريم منذ اللحظات الأولى لنزوله على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أثار حركة فكرية علمية ثقافية عند العرب، حيث دعاهم إلى الالتفات إلى ما جاءهم من جديد في أساليب التعبير والبيان، بما لم يعهدوه من قبل، فتعلقت قلوبهم وأسماعهم بروعة بيانه وبليغ نظمه وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المرجع للصحابة في فهم معانيه وتوضيح غامضه. ولم يكن تفسير القرآن وضبط قواعده يظهر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كعلم مستقل بنفسه، وإنما كان يروى منه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يتعرض لتفسيره. ولكن يمكننا القول أن قواعد التفسير - وقواعد الترجيح جزء منها - قد ظهرت بواكيرها والإشارة إليها منذ عهده - صلى الله عليه وسلم -، وإن كانت لم توجد كفن مدون ومستقل إلا في القرن الرابع عشر. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أول من اهتم بهذه القواعد من حيث التطبيق العملي، واستعملها في تفسيره لبعض الآيات، وصحح فهم الصحابة بناء عليها , يدل على ذلك ما ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬1) قلنا: يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (82).

تقولون: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} بشرك، أَوَلم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬1) (¬2). حيث نبّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى هذه القاعدة، وإن لم ينص عليها , وأرشدهم إلى اعتبارها، وهي تفسير القرآن بالقرآن. وفي عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهم العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، كان لديهم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبينة عن الله تعالى ما أراد، ولهم من سليقتهم العربية ومعرفتهم لأسباب النزول وطبيعة الحال التي نزل فيها الوحي، وإدراكهم لأسرار القرآن الكريم، ما أغناهم عن وضع قواعد لتفسير القرآن الكريم. وإذا كانت الأصول والقواعد والضوابط، توضع لتكون موازين ضبط للفهم والإدراك، منعاً للانحراف، فإن ما توفر للصحابة من ملكة اللسان والوقوف على مشاهد نزول الوحي وأسبابه، وبيان المبلغ عن ربه تبارك وتعالى، كافٍ كل الكفاية لأداء الغرض الذي من أجله توضع القواعد والضوابط. ولذلك يحمل إلينا تاريخهم المضيء نماذج من الفهم للقرآن الكريم ,كانت الأساس الثاني بعد المنهج النبوي، لقواعد وضوابط التفسير وأصوله، التي وضعت فيما بعد. ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية (13). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا}، ج 3، ص 1226، ح- 3181.

وقد اهتم الصحابة رضوان الله عنهم بهذه القواعد التفسيرية وإن لم ينصوا عليها ومنهم: أبي بن كعب، حيث أخرج الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: مرّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} .. حتى بلغ {وَرَضُوا عَنْهُ} (¬1) قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبي بن كعب، فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه، فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم. قال: أنت سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أبي: بلى تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2)، وفي سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (¬3)، وفي الأنفال {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} (¬4) (¬5). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية (4). (¬2) سورة الجمعة، الآية (3). (¬3) سورة الحشر، الآية (10). (¬4) سورة الأنفال، الآية (75). (¬5) أخرجه الطبري في تفسيره، ج 11، ص 13.

فاحتج أبي - رضي الله عنه - بهذه الآيات التي تلاها من سورة الجمعة، والحشر، والأنفال؛ مما يدل على اعتمادهم لمضمون هذه القاعدة في الترجيح بين الأقوال. وفي استنباط علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أقل مدة الحمل من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬1) ومن قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬2)، واعتراضه بذلك على حكم عمر - رضي الله عنه - بالرجم على المرأة التي ولدت لستة أشهر، ونزول عمر - رضي الله عنه - عن رأيه لأكبر دليل على اعتمادهم لما تقرره هذه القاعدة (¬3). كما اهتم الصحابة ومن تبعهم رضوان الله عليهم بتفسير القرآن بناءً على ضوابط وقواعد أخرى، ومن تلك القواعد على سبيل المثال: الترجيح بناءً على السياق، فعلى الرغم من أن التفسير في عهد الصحابة الكرام كان ذا طابع جزئي يُعنى بتفسير المفردة القرآنية, إلا أنه لم يكن يغفل سياقها؛ ولهذا جاء تفسيرهم سليماً خالياً من الخلل بعامة, وإن لم يكن قد ورد عنهم صراحة ما يعد توصيفاً للسياق وتأصيلاً له، عدا إشارات قد تدل علي ما نحن بصدده, ومن ذلك إنكار عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على الخوارج، ونعته لهم بأنهم شرار الخلق، حين عمدوا إلى آيات نزلت في الكفار؛ فجعلوها في المسلمين (¬4) وهذا لا يكون إلا بتجاهل السياق. ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية (15). (¬2) سورة البقرة، الآية (233). (¬3) أخرجه البيهقي في سننه، باب ما جاء في أقل الحمل، ج 7، ص 442، ح-15326. (¬4) صحيح البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل الخوارج والملحدين، ج 6، ص 2539، ح-.

ثم مضى عصر الصحابة، وجاء عهد تلامذتهم من التابعين الذين أخذوا علم الكتاب والسنة عنهم، وكل طبقة من هؤلاء التابعين تخرجت على يد من كان عندها من الصحابة، وتطور الزمن، واتسع الفتح الإسلامي، واختلط العرب بغيرهم من الأمم الداخلة في دين الله تعالى أفواجاً، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، فلم تعد اللغة العربية سليقة لكثير من المسلمين وخاصة سكان الحضر , فكان ذلك وغيره من الأسباب مدعاة للتدوين. ثم يمضي عهد التابعين، ويليه عهد تابعي التابعين، ومع كل جيل تتسع آفاق المعرفة، خاصة وأنهم كانوا قد تفرقوا في الأمصار المفتوحة. وفي أواخر عهد بني أمية وأول عهد العباسيين كانت الخطوات الأولى للتصنيف والتدوين، حيث دونت السنة النبوية وهي تضم بين جنباتها تفسير القرآن الكريم، ومناهج تفسيره، ثم سرعان ما اتجه العلماء إلى فصل العلوم بعضها عن بعض. فأصبح للحديث علماؤه ومصنفاته، وللتفسير علماؤه ومصنفاته، وللقراءات علماؤها ومصنفاتها .. ثم أخذ العلماء يضعون لكل هذه العلوم تفصيلات تكون قواعد وضوابط وأصولاً لإدراك تلك العلوم. وليس من السهل معرفة أول من دوّن قواعد علم التفسير وضوابطه وأصوله، ولكن بالتأكيد أن هذه العلوم والقواعد والأصول كانت حصيلة بحوث طويلة ودراسات كبيرة قام بها علماؤنا الأفذاذ من عهد حركة التدوين. وقد اهتم بهذا الطريق من السلف عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد ظهر هذا واضحاً من خلال المرويات عنه في تفسير الطبري.

وهذا صالح بن كيسان (¬1) يستند إلى السياق في تحديد المراد بالنفس في قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (¬2) فيقول: "إنما يراد بهذا الكافر, اقرأ ما بعدها يدلك على ذلك" (¬3). أما عن موقف أئمة التفسير من هذه القواعد فقد اعتنوا بها، حيث كان المفسرون يُضمّنون مقدمات تفاسيرهم أهم تلك القواعد والأصول. فقد أشار العز بن عبد السلام في كتابه الموسوم بـ (الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز) حيث ذكر بعض القواعد الترجيحية دون ذكر أمثلة لها (¬4). وذكر المفسر محمد بن جزي الكلبي في مقدمة تفسيره اثني عشر وجهاً في الترجيح (¬5). واستعمل ابن جرير الطبري هذه القواعد الترجيحية في تفسيره، ومن أمثلة ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ ¬

(¬1) صالح بن كيسان المدني, مولى غفار, روى عن ابن عمر وابن الزبير وسالم ونافع وطائفة, وعنه مالك وابن جريج وعمرو بن دينار وابن إسحاق وابن عيينة وحماد بن زيد وآخرون. قال الحاكم: مات وهو ابن مائة ونيف وستين سنة , وكان قد لقي جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (طبقات الحفاظ / السيوطي، ص 70). (¬2) سورة ق، الآية (21). (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 188. (¬4) انظر الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز / العز بن عبد السلام، ص 276. (¬5) انظر التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الكلبي، ج 1، ص 20 - 21.

وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (¬1): " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال معنى ذلك: أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا من المطر والنبات، ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في ذلك لدلالة قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} على ذلك، وأنه جلّ ثناؤه لم يعقب ذلك بوصف الماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبابه " (¬2). ومن الذين أسهموا في إبراز دور السياق واستثمروه الراغب الأصفهاني (ت 502 هـ)، في كتابه (مفردات القرآن) , فقد أثنى الزركشي على منهجه وهو يتحدث عن تفسير بعض آي القرآن الذي لم يرد فيه نقل, حيث قال: "وطريق التوصل إلى فهمه: النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب، ومدلولاتها، واستعمالاتها، بحسب السياق, وهذا يعتني به الراغب كثيراً في كتاب (المفردات) , فيذكر قيداً زائداً على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ؛ لأنه اقتنصه من السياق" (¬3). كما يمكننا الإشارة إلى ما فعله الشافعي في إخراجه كتاب (الرسالة) التي ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية (30). (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 17، ص 26. (¬3) البرهان في علوم القرآن / الزركشي، ج 2، ص 172.

تعتبر أول إخراج علمي في علم أصول الفقه وقواعد التفسير، حيث تحدث فيها عن الكتاب والسنة، وعن مراتب البيان، كما تحدث فيها عن الناسخ والمنسوخ، والعموم والخصوص، والمجمل والمفصل، والأمر والنهي، وهذه كلها علوم مشتركة بين أصول الفقه وأصول التفسير. قال الجويني في شرح الرسالة: لم يُسبق الشافعي في تصانيف الأصول ومعرفتها. غير أن هذه العلوم الأصولية كانت مفرقة مبعثرة حتى جاء الشافعي فجمع بين أشتاتها وألف بين متفرقاتها .. ثم سار العلماء من بعده ينهجون نهجه ويقتفون أثره (¬1). كما اعتنى ابن عاشور تعالى بهذه القواعد في تفسيره ونصّ على بعض منها في المقدمات التي ذكرها لتفسيره , من ذلك ما ذكره في المقدمة التاسعة فيما يتعلق بالمفردة القرآنية من أن اللفظ إذا احتمل معانٍ عدّة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها (¬2). وكذلك الشنقيطي اعتنى بهذه القواعد الترجيحية في تفسيره , ومن أكثر تلك القواعد التي بنى عليها تفسيره قاعدة (القول الذي تؤيده الآيات القرآنية أولى من غيره) بل كان الترجيح بهذه القاعدة هدفا سعى إليه في تفسيره، ولذلك سماه بـ (أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن). ¬

(¬1) انظر أصول التفسير وقواعده /خالد العك، ص 32 - 35. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 94.

ثم دون هذا العلم كفن مستقل نظري في القرن الرابع عشر، ومن تلك الكتب المعاصرة التي بحثت في هذا الفن: "القواعد الحسان لتفسير القرآن " للعلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي، و" عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل في تفسير القرآن من خلال أضواء البيان " للدكتور أحمد سلامة أبو الفتوح، و "قواعد الترجيح عند المفسرين " للدكتور حسين الحربي وهكذا بقي هذا المنهج محل عناية المفسرين قديماً وحديثاً.

المبحث الثالث الفرق بين قواعد التفسير وقواعد الترجيح

المبحث الثالث الفرق بين قواعد التفسير وقواعد الترجيح يمكننا أن نبيّن الفرق بين قواعد التفسير وقواعد الترجيح من خلال التعرف على الموضوعات التي يبحث فيها كل علم من هذه العلوم. ولكي تكون الصورة واضحة جلية لكل منهما فإنني سأتحدث عنهما من حيث التعريف، وموضوع كل منهما ثم الغاية والفائدة والعلوم التي استمدا منها. أولاً: قواعد التفسير تعريفه: هي: تلك الضوابط والكليات التي تُلتزم كي يتوصل بها إلى المعنى المراد من كلام الله تعالى (¬1). موضوع قواعد التفسير: تفسير القرآن. فائدته: استنباط معاني القرآن وفهمه على الوجه الصحيح، وضبط التفسير بقواعد صحيحة. ¬

(¬1) انظر قواعد التفسير / خالد السبت، ج 1، ص 33.

استمداد قواعد التفسير

استمداد قواعد التفسير: 1 - القرآن الكريم. 2 - السنة النبوية. 3 - بعض ما أثر عن الصحابة رضي الله عنهم في الكلام على التفسير. 4 - أصول الفقه لأن حقيقتها استقراء كليات الأدلة. 5 - اللغة والبيان والنحو والتصريف. 6 - كتب علوم القرآن ومقدمات بعض كتب التفسير (¬1). وقواعد التفسير تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: قواعد عامة يستفاد منها في فهم القرآن؛ كقاعدة: «المفرد المضاف يفيد العموم» (¬2). كقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (¬3). وقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬4) المقصود: نعم الله. القسم الثاني: قواعد ترجيحية يستفاد منها في الموازنة بين الأقوال، ومعرفة الراجح منها والمرجوح؛ كقاعدة: «القول الذي تؤيده قرائن السياق مرجح على ¬

(¬1) انظر قواعد التفسير / خالد السبت، ج 1، ص 33. (¬2) انظر القواعد الحسان لتفسير القرآن / الشيخ السعدي، ص 18. (¬3) سورة الضحى، الآية (11). (¬4) سورة إبراهيم، الآية (34).

ثانيا: قواعد الترجيح

ما خالفه» (¬1). كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (¬2) أي بعلمه، قالوا: لأن الله افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، وقوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (¬3) قال الطبري: "وأوْلى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} من المطر والنبات. ففتقنا السماء بالغيث والأرض بالنبات، وإنما قلنا: ذلك أوْلى بالصواب؛ لدلالة قوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (¬4) على ذلك" (¬5) ثانياً: قواعد الترجيح: تقدم معنا تعريف قواعد الترجيح وهو: ضوابط وأمور أغلبية يتوصل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة في تفسير كتاب الله تعالى (¬6). ¬

(¬1) انظر قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 299. (¬2) سورة المجادلة، الآية (7). (¬3) سورة الأنبياء، الآية (30). (¬4) سورة الأنبياء، الآية (30). (¬5) جامع البيان / الطبري، ج 17، ص 26. (¬6) قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 39.

موضوع قواعد الترجيح

موضوع قواعد الترجيح: أقوال المفسرين المختلفة في تفسير كتاب الله تعالى. فائدته: معرفة أصح الأقوال وأولاها بالقبول في تفسير كتاب الله، وتصفية وتنقية كتب التفسير مما علق ببعضها من أقوال شاذة وضعيفة. استمدادها: 1 - أصول الدين. 2 - لغة العرب. 3 - أصول الفقه والقواعد الفقهية. 4 - علوم الحديث. 5 - علوم القرآن. 6 - استقراء ترجيحات أئمة التفسير (¬1). ومما تقدم تبين لنا أن قواعد التفسير أشمل من قواعد الترجيح، ذلك أن قواعد التفسير هي تلك الأمور المنضبطة التي يستخدمها المفسر في تفسيره وتصير منهجاً يسير عليه لاستنباط معاني القرآن الكريم، بينما قواعد الترجيح ناتجة عن قواعد التفسير أي تنبني عليها. ومثال ذلك: قاعدة: حمل معنى الآية على الغالب في أسلوب القرآن، ومعهود استعماله فهذه القاعدة التفسيرية تبنى عليها قاعدة ترجيحية حال الاختلاف ¬

(¬1) انظر قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 40.

وهي (القول الذي يوافق استعمال القرآن والغالب من أسلوبه أولى بتفسير الآية من غيره) أو (إعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى). وعليه فإن كل قاعدة من قواعد الترجيح هي في الأصل قاعدة من قواعد التفسير، كما أن كل قاعدة من قواعد التفسير تصلح أن تكون قاعدة من قواعد الترجيح، فبينهما تداخل ظاهر.

المبحث الرابع أنواع قواعد الترجيح

المبحث الرابع أنواع قواعد الترجيح (¬1) - تنقسم قواعد الترجيح إلى عدة أقسام: - قواعد ترجيحية متعلقة بالنص القرآني. - قواعد ترجيحية متعلقة بالسنة والأثر - قواعد ترجيحية متعلقة باللغة. ويندرج تحت كل نوع من هذه الأنواع الرئيسية قواعد ترجيحية كثيرة: أولا: قواعد الترجيح المتعلقة بالنص: ويندرج تحت هذه القواعد ما يلي: 1 - القواعد الترجيحية المتعلقة بالنسخ. 2 - القواعد الترجيحية المتعلقة بالقراءات. 3 - الترجيح برسم المصحف. 4 - الترجيح بالحقيقة والمجاز. 5 - الترجيح بالسياق القرآني. 6 - الترجيح بالمعاني الشرعية. 7 - الترجيح بالأغلب من طريقة القرآن وعاداته. 8 - الترجيح بظاهر القرآن. ¬

(¬1) انظر قواعد الترجيح / خالد السبت، وقواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي.

ثانيا: قواعد الترجيح المتعلقة بالسنة والأثر

ثانياً: قواعد الترجيح المتعلقة بالسنة والأثر: ويندرج تحت هذه القواعد ما يلي: 1 - الترجيح بدلالة الحديث النبوي. 2 - الترجيح بتفسير وقول الصحابي. 3 - الترجيح بالإجماع. 4 - الترجيح بأسباب النزول. ثالثاً: قواعد الترجيح المتعلقة باللغة، ومنها: 1 - الترجيح بالتقديم والتأخير. 2 - الترجيح بالأغلب من لغة العرب. 3 - الترجيح بالعموم في القرآن. 4 - الترجيح بالتأسيس والتأكيد. 5 - الترجيح بعودة الضمير إلى أقرب مذكور. 6 - الترجيح بتوافق الضمائر. 7 - الترجيح بالتقدير وعدمه. 8 - الترجيح بناءً على التصريف. 9 - الترجيح بناءً على الناحية البلاغية.

المبحث الخامس الأسباب الموجبة للترجيح

المبحث الخامس الأسباب الموجبة للترجيح إن طلب أصح الأوجه في تفسير كلام الله تعالى من أهم مقاصد دراسة التفسير وتحصيله، لذلك مما ينبغي العلم به العلم بالتفسير الذي اتفق عليه العلماء؛ لما يترتب على ذلك من صحة فهم المراد من كلام الله تعالى، فتفسير الآية بما هو راجح أمر لازم حتماً؛ لأنه أقرب إلى الصحة، ولا يسع أحداً أن يعدل عن تفسير الآية بالراجح إلى المرجوح؛ لأنه أبعد عن الصواب. قال الطبري: " وكتاب الله عز وجل لا توجّه معانيه وما فيه من البيان إلى الشواذ من الكلام والمعاني، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم، وجه صحيح موجود " (¬1). كما قرّر أصل المسألة علماء الأصول بتقريرهم وجوب العمل بالراجح، وحكوا إجماع الصحابة على ذلك. وقد وقع الخلاف بين المفسرين في تفسير كثير من النصوص القرآنية وهذا الخلاف بدا ظاهراً بعد عصر الصحابة رضوان الله عليهم لأن الاختلاف كان قليلا جدا بينهم وسبب ذلك وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم، وكذلك سعة علم الصحابة الشرعي ومعرفتهم للغة العربية وأساليبها ومعانيها، وتأثير العصر عليهم. ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 4، ص 57.

الأول: اختلاف تضاد

والتفسير المنقول إلينا إما أن يكون مجمعاً عليه أو لا. فإن كان مجمعاً عليه؛ فلا حاجة إلى الترجيح، والإجماعات في التفسير كثيرة. قال ابن قدامة: " ويجب على المجتهد في كل مسألة أن ينظر أول شيء للإجماع فإن وجده لم يحتج إلى النظر في سواه " (¬1). أما إن كان التفسير مختلفاً فيه، فالاختلاف نوعان: الأول: اختلاف تضاد: مثل تفسير قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} (¬2). قيل: المجادلون هم المسلمون، وقيل الكفار (¬3). وفي مثل هذا النوع يعمل بقواعد الترجيح لبيان القول الصواب في الآية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن الكريم قليلاً جداً , وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة قليل بالنسبة إلى ما بعدهم, وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر " (¬4). ¬

(¬1) روضة الناظر وجنة المناظر / ابن قدامة، ج 1، ص 386. (¬2) سورة الأنفال، الآية (6). (¬3) انظر النكت والعيون/ الماوردي، ج 2، ص 296. (¬4) مقدمة في أصول التفسير / ابن تيمية، ص 28.

الثاني: اختلاف تنوع

الثاني: اختلاف تنوع: وفي هذا النوع يعمل بقواعد الترجيح لبيان القول الأولى إن احتاج الأمر إلى ذلك وإن كانت الآية تحتمل المرجوح (¬1). ويمكن أن نرجع اختلاف السلف في التفسير إلى أنواع معدودة منها: أولاً: أن يعبر كل واحد من المفسرين عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى ومثال ذلك: "تفسير الصراط المستقيم " فقد قال بعضهم: هو القرآن، وقيل: الإسلام، وقيل: هو السنة والجماعة، وقيل العبودية، وقيل: طاعة الله ورسوله، فهذه الأقوال كلها تدل على ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها (¬2). ونحو ذلك وكل هذه الأنواع من اختلاف التنوع , وليست من اختلاف التضاد، وهو اختلاف لا ضرر فيه , قال الزركشي: " يكثر في معنى الآية أقوالهم واختلافهم ويحكيه المصنفون للتفسير بعبارات متباينة الألفاظ , ويظن من لا فهم عنده أن في ذلك اختلافا فيحكيه أقوالا , وليس كذلك , بل يكون كل واحد منهم ذكر معنىً ظهر من الآية، وإنما اقتصر عليه لأنه أظهر عند ذلك القائل أو لكونه أليق بحال السائل, وقد يكون بعضهم يخبر عن الشئ بلازمه ونظيره، والآخر بمقصوده وثمرته , والكل يؤول إلى معنىً واحد غالباً والمراد الجميع، ¬

(¬1) فصول في أصول التفسير / مساعد بن سليمان الطيار، ص 98. (¬2) انظر مقدمة في أصول التفسير / ابن تيمية، ص 29.

فليتفطن لذلك، ولا يُفهم من اختلاف العبارات اختلاف المرادات كما قيل: عباراتنا شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذاك الجمال يشير (¬1). ثانياً: أن يذكر كل مفسر من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه (¬2). ومثال ذلك ما نقل في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬3). فمن المفسرين من قال: السابق الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. ومنهم من يقول: السابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات, والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة ,والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا , وأمثال هذه الأقاويل وقيل الظالم هو من يظلم نفسه بركوبه المأثم واجتراحه المعاصي، والمقتصد الغير مبالغ في طاعة ربه، والسابق هو المبرز الذي تقدم (¬4). ¬

(¬1) البرهان في علوم القرآن / الزركشي، ج 1، ص 159 - 160. (¬2) مقدمة في أصول التفسير / ابن تيمية، ص 33. (¬3) سورة فاطر، الآية (32). (¬4) انظر جامع البيان / الطبري، ج 22، ص 158 - 159، والإتقان في علوم القرآن / السيوطي، ج 2، ص 389.

ثالثاً: ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين أي يكون اللفظ مشتركاً: فإذا اشتمل النص الشرعي على كلمة مشتركة كان غالباً من الاختلاف في تعيين المراد من هذه الكلمة (¬1). مثال ذلك لفظة (قروء) في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2). فإن هذه اللفظة تحتمل في اللغة العربية أكثر من معنى واحد، فتحتمل أن يراد بها عند الإطلاق الحيض، ويحتمل أن يراد بها الطهر، كما تحتمل إرادة المعنيين معاً. ولما كان هذا اللفظ الشرعي محتملاً، اختلف الفقهاء في المراد من القرء في هذا المقام على قولين: القول الأول: إن المراد منه الحيض، وهذا قول أهل الكوفة، وقول عمر بن الخطاب وعلى ابن أبي طالب وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعِكْرِمَة والسدي. القول الآخر: هي الأطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزُّهري وأبان بن عثمان، والشافعي، وهو قول أهل الحجاز (¬3). ¬

(¬1) مقدمة في أصول التفسير / ابن تيمية، ص 40. (¬2) سورة البقرة، الآية (228). (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 304، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 3، ص 117.

ومثاله لفظ (قسورة) فإنه يراد بها الرامي، ويراد بها الأسد، ولفظ (عسعس) يراد به إقبال الليل، وإدباره (¬1). رابعاً: الاختلاف في وجوه الإعراب (¬2): لا شك أن للإعراب تأثيره في المعنى، ومثال الاختلاف في وجوه الإعراب: اختلافهم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3) حيث جاءت كلمة (الصابئون) في الآية مرفوعة وما قبلها منصوب، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون كذلك. قال ابن كثير: لما طال الفصل حسن العطف بالرفع. وقيل: الصابئون معطوف على محل إن واسمها، ومحلها الرفع، والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك (¬4). خامساً: أن يكون في الآية أكثر من قراءة فيفسر كل منهم الآية على حسب قراءة مخصوصة (¬5): ¬

(¬1) انظر الإتقان في علوم القرآن / السيوطي، ج 2، ص 390. (¬2) انظر بحوث في أصول التفسير ومناهجه / فهد الرومي، ص 46. (¬3) سورة المائدة، الآية (69). (¬4) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 541، ومدارك التنزيل / النسفي، ج 1، ص 293 - 294، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 80، . (¬5) بحوث في أصول التفسير ومناهجه / فهد الرومي، ص 44.

مثال ذلك: ما أخرجه ابن جرير الطبري عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (¬1) أن معنى سكرت: سدت , ثم أخرج عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سكرت بمعنى أخذت وسحرت ثم أورد قول قتادة من قرأ " سكّرت" مشددة يعني سدت , ومن قرأ سكرت فإنه يعني سحرت (¬2). سادساً: الاختلاف في العموم والخصوص (¬3): والعموم والخصوص من أسباب الاختلاف بين المفسرين، فقد يختلفون في عموم لفظ أو خصوصه. مثال ذلك اختلافهم في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} (¬4). قال الطبري: " اختلف أهل التأويل في هذه الآية: هل نزلت مراد بها كل مشركة، أو مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض؟ وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أو لا؟ ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية (14 - 15). (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 14، ص 17. (¬3) بحوث في أصول التفسير ومناهجه / فهد الرومي، ص 49. (¬4) سورة البقرة، الآية (221).

فقال بعضهم: نزلت مرادًا بها تحريم نكاح كل مشركة على كلّ مسلم من أيّ أجناس الشِّرك كانت، عابدةَ وثن كانت، أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (¬1) إلى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬2). وروى الطبري بسنده عن عكرمة والحسن البصري قالا: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ , فنُسخ من ذلك نساء أهل الكتاب، أحلّهُن للمسلمين. وكذلك عن الربيع قوله: " ولا تنكحوا المشركات" إلى قوله: " لعلهم يتذكرون"، قال: حرم الله المشركات في هذه الآية، ثم أنزل في"سورة المائدة"، فاستثنى نساء أهل الكتاب فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ}. وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادًا بحكمها مشركات العرب، لم ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية (4). (¬2) سورة المائدة، الآية (5).

ينسخ منها شيء ولم يُستثن، وإنما هي آية عامٌّ ظاهرُها، خاصٌّ تأويلها " (¬1). والأصل بقاء العام على عمومه مالم يرد مخصص. سابعاً: الاختلاف في حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز (¬2): من ذلك اختلافهم في تفسير: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (¬3) قيل كانت تحمل الأشواك وتنثرها أمام بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيذاء له ,فكان جزاؤها في الآخرة من جنس عملها في الدنيا، حيث تحمل الحطب على ظهرها في نار جهنم لتزداد النار حرارة والتهاباً وسعيراً عليها وعلى زوجها. وقيل: كانت تمشي بين الناس بالنميمة فتنمي العداوة بينهم كما تزداد النار اشتعالاً وحرارة حين يلقى الحطب فيها (¬4). ثامناً: الاختلاف في الإطلاق والتقييد (¬5): من أسباب الاختلاف أيضاً: الاختلاف في الإطلاق والتقييد، فقد يرى بعض المفسرين بقاء المطلق على إطلاقه، وقد يقول بعضهم بتقييد هذا المطلق بقيد ما: من ذلك عتق الرقبة في كفارة اليمين وكفارة الظهار فقد وردت مطلقة ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 451. (¬2) بحوث في أصول التفسير ومناهجه / فهد الرومي، ص 50. (¬3) سورة المسد، الآية (4). (¬4) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 20، ص 237. (¬5) بحوث في أصول التفسير ومناهجه / فهد الرومي، ص 49.

كما في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬2). ووردت مقيدة كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية (89). (¬2) سورة المجادلة، الآية (3).

مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬1). فحمل بعض المفسرين المطلق على المقيد وقالوا لا تجزئ الرقبة الكافرة، وأبقى بعضهم المطلق على إطلاقه (¬2). والأولى بقاء المطلق على إطلاقه مالم يرد ما يقيده، وإذا دار اللفظ بين الإطلاق والتقييد فإنه يحمل على الإطلاق؛ لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه. تاسعاً: ومن أسباب اختلاف المفسرين اختلافهم في النسخ والإحكام (¬3) فقد يقول بعض المفسرين بالنسخ لمجرد التعارض، ولو أمعنوا النظر وأعملوا الفكر لما وجدوا تعارضاً بين النصوص يدعو إلى القول بالنسخ، فإعمال النص خير من إهماله، ولقد توسع المتقدمون في النسخ حتى أدخلوا فيه ما ليس منه, فاعتبروا التخصيص والبيان والتقييد من قبيل النسخ , مثال ذلك اختلافهم في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (¬4) فعن السدي في قوله: {قُلِ الْعَفْوَ} قال هذا نسخته الزكاة، وعن طاوس قال: العفو اليسير من كل شيء، وكان مجاهد ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (92). (¬2) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 316، ، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 193. (¬3) بحوث في أصول التفسير ومناهجه / فهد الرومي، ص 49. (¬4) سورة البقرة، الآية (219).

يقول (العفو) الصدقة المفروضة، وقال الكلبي: كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره، وإن كان مما يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يوما وتصدق بالباقي، حتى نزلت آية الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها، وقال قوم: هي محكمة، وفي المال حق سوى الزكاة (¬1). والراجح أنها محكمة فلا تعارض بينها وبين ماورد في شأن الزكاة المفروضة، لأن العفو هنا هو اليسير الزائد عن الحاجة، ولا شك أن الزكاة لا تفرض إلا على الأغنياء ونصابها يسير وهو زائد عن حاجة الغني فلا تعارض في ذلك بين هذه الآية والآيات الأخرى. تلكم أهم أسباب اختلاف المفسرين في التفسير. وينبغي على المفسر في تعامله مع هذا النوع من الاختلاف أن يعتمد على قواعد الترجيح والتي منها: مراعاة النظر الكلية الشاملة للآيات، ومراعاة السياق، وأن الأصل عودة الضمير على أقرب مذكور سابق، وأن الأصل هو الأخذ بظاهر النص فالأصل هو إجراء الكلام على معناه الظاهر، فلا نلجأ إلى القول بالمجاز إلا بقرينة تمنع من استعمال المعنى الحقيقي، وأن الأصل بقاء العام على عمومه ما لم يرد ما يخصصه، وبقاء المطلق على إطلاقه ما لم يرد ما يقيده، وأن إعمال النص خير من إهماله وعليه فلا نلجأ للنسخ إلا عند التعارض الشديد، وأن الأصل بقاء ¬

(¬1) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 3، ص 42.

النظم القرآني على نسقه وترتيبه، والاستفادة من تنوع القراءات المتواترة في إثراء المعنى فلا نرجح قراءة متواترة على قراءة أخرى متواترة، ولا يجوز رد القراءة المتواترة ولا تضعيفها، وينبغي أن يجتهد المفسر في التوفيق بين الأقوال حيث لا تعارض بينها، وأن يراعي في تفسيره مقتضيات العصر ومستجداته ومعطياته العلمية. أما ما ورد من أقوال مختلفة في التفسير لا يمكن الجمع بينها بوجه من الوجوه: فسبيلنا فيها النظر في صحة تلك الآراء المتناقضة فنقدم الصحيح على الضعيف، ويقدم تفسير الصحابة على تفسير التابعين، فإن كان الخلاف في تفسير الصحابة ينظر في الأمر: فإن كان للصحابي الواحد قولان متناقضان ينظر في المتأخر منهما فيعتمد لأنه يدل على تراجعه عن رأيه القديم، فقد يرى رأياً ثم يثبت له بعد ذلك ضعفه، وإن خالف الصحابي الواحد سائر الصحابة يقدم رأي جمهور الصحابة على رأي الواحد منهم، وإن خالف رأي صحابي رأي صحابي آخر يقدم رأي أرسخهما قدماً في التفسير كابن عباس رضي الله عنهما وهذا ما ذهب إليه الزركشي، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا لابن عباس فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " أما إذا تعارض التفسير بالرأي مع التفسير النبوي ولم يمكن التوفيق بينهما: فيقدم التفسير النبوي لأنه لا اجتهاد مع نص، وكذا إذا تعارض التفسير بالرأي مع ما ثبت من أقوال الصحابة؛ لأن ما يصح نسبته إلى الصحابة في التفسير النفس إليه أميل؛ لاحتمال سماعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولما امتازوا به من الفهم الصحيح والعمل الصالح ,ولما اختصوا به من معاينة أسباب التنزيل.

لكن إذا تعارض التفسير بالرأي مع تفسير التابعي ينظر في المسألة فإن كان التابعي مما لم يعرف بالأخذ عن أهل الكتاب أو كان التفسير في ما فيه مجال للرأي, فحينئذ نلجأ للترجيح بين التفسير بالرأي وقول التابعي إلا إذا كان إجماعا للتابعين فإنه يقدم على التفسير بالرأي , وذلك كله بشرط وجود التعارض الحقيقي أما إذا تيسر الجمع بين المعقول والمنقول فلا نلجأ إلى الترجيح (¬1). ¬

(¬1) مناهل العرفان / الزرقاني , ج 2 , ص 48.

المبحث السادس قواعد التفسير عند ابن عاشور

المبحث السادس قواعد التفسير عند ابن عاشور اتضح فيما سبق أن قواعد الترجيح جزء من قواعد التفسير، وهذا يدعوني إلى تناول قواعد التفسير عند ابن عاشور كإطار عام لقواعد الترجيح عنده. ولن أستطيع في هذا المبحث أن أحصر قواعد التفسير عند ابن عاشور لأنها كثيرة جدا، وإنما يمكنني أن ألقي الضوء على نماذج من قواعد التفسير في تفسيره وبيان مدى عنايته بها، وسأذكرها على الترتيب الآتي: أولاً: القواعد المتعلقة بأسباب النزول: 1 - القاعدة الأولى: إذا تعددت المرويات في سبب النزول اقتصر على الصحيح أولى ابن عاشور أسباب النزول عناية فائقة، حيث نهج في إيرادها منهجاً قويماً يعتمد على التمحيص والمناقشة والترجيح، فنجده يجمع أسباب النزول المختلفة في الآية الواحدة ويتعقبها، ويرجح أقربها للصواب، ويعلل ردّه للروايات الأخرى. ومن أمثلة ذلك: ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى

رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). قال ابن عاشور: " والمخاطب بهذا النّهي المسلمون لا الرّسول - صلى الله عليه وسلم - لأنّ الرّسول لم يكن فحّاشاً ولا سبّاباً؛ لأنّ خُلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك، ولأنّه يدعوهم بما ينزل عليه من القرآن فإذا شاء الله تركه من وحيه الّذي ينزله، وإنّما كان المسلمون لغيرتهم على الإسلام ربّما تجاوزوا الحدّ ففرطت منهم فرطات سبّوا فيها أصنام المشركين. روى الطّبري عن قتادة قال: «كان المسلمون يسبّون أوثان الكفّار فيردّون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستَسبّوا لربّهم». وهذا أصحّ ما روي في سبب نزول هذه الآية وأوفَقُه بنظم الآية. وأمّا ما روى الطّبري عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه لمّا نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (¬2) قال المشركون: لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا وشتمها لنهجُوَنّ إلهك، فنزلت هذه الآية في ذلك، فهو ضعيف؛ لأنّ عليّ بن أبي طلحة ضعيف وله منكرات ولم يلق ابن عبّاس " (¬3). 2 - القاعدة الثانية: السبب الخاص لا يخصص العموم. واشتهرت عند العلماء بـ (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) ومن ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (108). (¬2) سورة الأنبياء، الآية (98). (¬3) التحرير والتنوير، ج 4، ص 428.

ثانيا: القواعد اللغوية

إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬1) قال: " وقوله: {بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} يعمّ كل دين: من قرض أو من بيع أو غير ذلك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّها نزلت في السلَم يعني بيعَ الثمار ونحوها من المثليات في ذمة البائع إذا كان ذا ذمة إلى أجلٍ وكان السلَم من معاملات أهل المدينة , ومعنى كلامه أنّ بيع السلم سبب نزول الآية، ومن المقرر في الأصول أنّ السبب الخاص لا يخصّص العموم " (¬2). فرجّح ابن عاشور أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثانياً: القواعد اللغوية 1 - الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده: وهذه من القواعد التي نصّ عليها ابن عاشور في تفسيره، وقد ذُكرت المحرمات: بعضها بصيغة النهي، وبعضها بصيغة الأمر الصريح أو المؤول؛ لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (¬3) إلى قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (282). (¬2) التحرير والتنوير, ج 3 , ص 99. (¬3) سورة الأعراف، الآية (32). (¬4) سورة الأعراف، الآية (33).

ومن ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬1) عطف على قوله (قل) أي قل لهم ذلك لييأسوا , والكلام نهي من الله لرسوله مقصود منه تأكيد الأمر بالإسلام؛ لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده فذكر النهي عن الضد بعد ذلك تأكيد له , وهذا التأكيد لتقطع جرثومة الشرك من هذا الدين (¬2). 2 - صيغة المضارع تدل على التجدد والتكرار: ففي قوله تعالى: " {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (¬3). قال ابن عاشور: " وتعدية فعل (يعدون) إلى (في السبت) مؤذن بأن العدوان لأجل يوم السبت نظرا إلى ما دلت عليه صيغة المضارع من التكرير المقتضي أن عدوانهم يتكرر في كل سبت " (¬4). وعند معرض تفسيره لقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (14). (¬2) التحرير والتنوير، ج 4، ص 160. (¬3) سورة الأعراف، الآية (163). (¬4) التحرير والتنوير، ج 5، ص 148.

ثالثا: القواعد المتعلقة بالقراءات

أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬1). قال: " واختيار صيغة المضارع في (يعبدون) و (يقولون) لاستحضار الحالة العجيبة من استمرارهم على عبادتها أي عبدوا الأصنام ويعبدونها تعجيباً من تصميمهم على ضلالهم " (¬2). 3 - الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت: ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬3) قال: "وأوثرت الجملة الإسمية في قوله (ونحن نسبح) لإفادة الدلالة على الدوام والثبات، أي هو وصفهم الملازم لجبلتهم " (¬4). ثالثاً: القواعد المتعلقة بالقراءات 1 - كل قراءة صح سندها ووافقت وجها في العربية ولم تخالف رسم المصحف الإمام فهي قراءة صحيحة. ولقد نصّ ابن عاشور على هذه القاعدة في تفسيره فقال: " اتفق علماء ¬

(¬1) سورة يونس، الآية (18). (¬2) التحرير والتنوير، ج 6، ص 125. (¬3) سورة البقرة، الآية (30). (¬4) التحرير والتنوير، ج 1، ص 406.

القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجها في العربية ووافقت خط المصحف - أي مصحف عثمان - وصح سند راويها؛ فهي قراءة صحيحة. وهذه الشروط الثلاثة هي شروط في قبول القراءة إذا كانت غير متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن كانت صحيحة السند إلى النبي ولكنها لم تبلغ حد التواتر فهي بمنزلة الحديث الصحيح وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه " (¬1). 2 - القراءات يبيّنُ بعضها بعضا: ومن ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬2) قال ابن عاشور: " وقرأه ابن عامر (نُشْراً) بضم النّون وسكون الشّين وهو تخفيف نُشُر الذي هو بضمّتين كما يقال: رُسْل في رُسُل. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف بفتح النّون، وسكون الشّين على أنّه مصدر، وانتصب إمّا على المفعولِية المطلقة لأنّه مرادف لـ (أرْسل) بمعناه ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 53. (¬2) سورة الأعراف، الآية (57).

رابعا: القواعد المتعلقة بالسنة والآثار

المجازي، أي أرسلها إرسالاً أو نَشَرها نَشْراً، وإمّا على الحال من الرّيح، أي ناشرة أي السّحاب، أو من الضّمير في (أرسل) أي أرسلها ناشِراً أي محيياً بها الأرض الميّتة، أي محيياً بآثارها وهي الأمطار. وقرأه عاصم بالباء الموحّدة في موضع النّون مضمومة وبسكون الشّين وبالتّنوين وهو تخفيف (بُشراً) بضمّهما على أنّه جمع بشير مثل نُذُر ونذير، أي مبشّرة للنّاس باقتراب الغيث. فحصل من مجموع هذه القراءات أنّ الرّياح تنشر السّحاب، وأنّها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنّها تحيي الأرض بعد موتها، وأنّها تبشّر النّاس بهبوبها، فيدخل عليهم بها سرور " (¬1). رابعاً: القواعد المتعلقة بالسنة والآثار 1 - إذا ثبت الحديث وكان نصاً في تفسير الآية فلا يصار إلى غيره: ومنه ما جاء في قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (¬2). حيث ذكر بعض الأقوال التي وردت في معنى مستقر ثم ذكر أن أقرب الأقوال ما جاء في حديث أبي ذر الهروي في صحيحي البخاري ومسلم بروايات ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 180. (¬2) سورة يس، الآية (38).

مختلفة حاصل ترتيبها أنه قال: " كنتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد عند غروب الشمس فسألته (أو فقال): إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخرَّ ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعةً من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فذلك مستقرّ لها ومستقرها تحت العرش (¬1) فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} " (¬2). 2 - لا تحمل الآية على تفسيرات وتفصيلات غيبية لا دليل عليها من القرآن والسنة: أنزل الله عز وجل القرآن الكريم تبياناً لكل شيء، وهدى لكل خير، فلو كان في تعريف الخلق بما أبهم عليهم فائدة تعود عليهم لبينه لهم، وإنما يذكر مواطن العبرة دون الاشتغال بما لا نفع فيه، ولا سبيل إلى معرفة هذه الأمور المبهمة المغيبة وهذا كله مما لا تعلق له بالأحكام التكليفية، ويتضمن ما قد ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، ج 6، ص 2703، ح- 6996، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه إيمان، جج 1، ص 138، ح- 159. (¬2) التحرير والتنوير، ج 11، ص 20.

مضى وسلف كأمور بدء الخلق، وأخبار الأمم الماضية، ومالم يقع كالبعث وصفة الجنة والنار ونحوها، فكل هذا لا يصح تفسيره باجتهادات لا دليل عليها أو بأخبار إسرائيلية الله أعلم بصحتها (¬1). ولقد حرص ابن عاشور على تأصيل ها المعنى وتَرْك الاشتغال فيما لا طائل منه. ومن ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (¬2) حيث قال: "لما شاعت قصة أهل الكهف حين نزل بها القرآن صارت حديث النوادي، فكانت مثار تخرصات في معرفة عددهم، وحصر مدة مكثهم في كهفهم، وربما أملى عليهم المتنصرة من العرب في ذلك قصصاً، وقد نبههم القرآن إلى ذلك وأبهم على عموم الناس الإعلام بذلك لحكمة، وهي أن تتعود الأمة بترك الاشتغال فيما ليست منه فائدة للدين أو للناس " (¬3). ¬

(¬1) عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل / أحمد سلامة أبو الفتوح، ص 93. (¬2) سورة الكهف، الآية (22). (¬3) التحرير والتنوير، ج 7، ص 290.

خامسا: القواعد المتعلقة بالنسخ

خامساً: القواعد المتعلقة بالنسخ 1 - كل حكم ورد في خطاب مشعر بالتوقيت، أو ربط بغاية مجهولة، ثم انقضى بانقضائها، فهو نسخ: ومن ذلك ما جاء عنه في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬1). حيث ردّ ابن عاشور قول من قال إن الآية محكمة لقوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} فقال: " إن قوله إن آية النساء مغياة، لا يجدي لأن الغاية المبهمة لما كان بيانها إبطالاً لحكم المغيي فاعتبارها اعتبار النسخ، وهل النسخ كله إلا إيذان بوصول غاية الحكم المراد لله غير مذكور في اللفظ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسو النزول غير شعار النسخ " (¬2). 2 - إذا وقع التعارض بين نصين فالمتراخي منهما ناسخ للأول: ومن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3) رجّح ابن عاشور أن هذه الآية ناسخة لما جاء قبلها من ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (15). (¬2) التحرير والتنوير، ج 3، ص 275. وقد ذكرت هذا المثال مفصلاً في المبحث الخامس من الفصل الثالث. (¬3) سورة المائدة، الآية (90).

الآيات بناءً على القاعدة أن المتأخر أو المتراخي ناسخ للأول ونقل قول ابن عباس في ذلك فقال: " روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬1) , و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬2) نسختها في المائدة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (¬3). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (43). (¬2) سورة البقرة، الآية (219). (¬3) التحرير والتنوير، ج 4، ص 22.

الفصل الثاني قواعد الترجيح المتعلقة بذات النص القرآني

الفصل الثاني قواعد الترجيح المتعلقة بذات النص القرآني وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره. المبحث الثاني: الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره مالم يرد دليل يجب الرجوع إليه. المبحث الثالث: الأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن. المبحث الرابع: يقدم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة. المبحث الخامس: إذا خلت الأقوال في الآية من مستند شرعي وكانت متساوية، فالقول الموافق لما جاء في التوراة مقدم على غيره.

المبحث الأول القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره

المبحث الأول القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره صورة القاعدة: إذا تنازع العلماء في تفسير آية من كتاب الله، وكان أحد الأقوال تؤيده آية أو آيات أخرى من كتاب الله، فهو أولى الأقوال بحمل الآية عليه، لأن تقوية القرآن له يدل على صحته واستقامته، وكونه أقرب الطرق في تفسير كلام الله تعالى إلى الصدق والصواب (¬1). وقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة، وهو إن لم ينصّ عليها إلا أنه عمل بها، وكان له منهجه فيها من حيث عنايته بتوضيح المعنى بمعنى آخر من آية أخرى توضحه، أو بالأحرى شرح معاني المفردات القرآنية، لفظة بلفظة، وكذلك تفسير مجمل الآية بآية أخرى من باب حمل المطلق على المقيد. أقوال العلماء في القاعدة: قال العز بن عبد السلام وهو يبيّن ضروب التفسير والترجيح بينها: " قد يتردد-المعنى- بين محامل كثيرة يتساوى بعضها مع بعض، ويترجح بعضها على بعض، وأولى الأقوال ما دل عليه الكتاب في موضع آخر، أو السنة، أو إجماع الأمة " (¬2). ¬

(¬1) انظر الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز / العز بن عبد السلام، ص 220. (¬2) المصدر السابق، ص 220.

وقررّ شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في "أصول التفسير" أن أصح طرق التفسير هي تفسير القرآن بالقرآن، وبيّن أن ما أجمل في مكان قد يفسّر في موضع آخر، وما اختصر في مكان قد يبسط في موضع آخر (¬1). كما نصّ ابن جزيّ الكلبي على هذه القاعدة وعلى أنها وجه من أوجه الترجيح عنده، فقال: " وأما وجوه الترجيح فهي اثنا عشر، الأول: تفسير بعض القرآن ببعض فإذا دلّ موضع من القرآن على المراد بموضع آخر حملناه عليه، ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال " (¬2). واهتم ابن كثير بتفسير القرآن بالقرآن، ورجَّح بين الأقوال بما تقضي به هذه القاعدة، والناظر في تفسيره يجد ذلك واضحاً جلياً (¬3). ومن أشهر المفسرين الذين اعتنوا بتفسير القرآن بالقرآن وطبقوا ذلك عملياً في تفسيرهم: العلامة محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن "، والذي حدد مقاصده من تأليفه في مقدمته فقال: " أولها: بيان القرآن بالقرآن لإجماع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلها تفسير كتاب الله بكتاب الله، إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جل وعلا من الله جل وعلا " (¬4). ¬

(¬1) انظر مقدمة في أصول التفسير / شيخ الإسلام ابن تيمية، ص 82. (¬2) التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الكلبي، ج 1، ص 9. (¬3) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 255. (¬4) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن / الشنقيطي، ص 6.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - مثال حال الواقفين على النار: قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬1). اختلف المفسرون في المراد بقوله (بدا)؛ أي ما الذي بدا لهم من قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} على عدة أقوال ذكرها الطبري، وابن عاشور، وغيرهما من المفسرين. وهي التالي: أحدها: بدا لهم أعمالهم التي كانوا يخفونها في الدنيا، وهو قول الحسن. والثاني: بدالهم ما يكتمونه من الشرك. والثالث: بدا لهم جزاء ما كانوا يخفونه، قاله المبرد. والرابع: بدا للأتباع ما كان يُخفيه الرؤساء، قاله الزجاج. والخامس: بدا لهم ما كان يخطر لهم من الإيمان لما يرون من صدق دلائله (¬2). ورجح ابن عاشور أن المراد بقوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ} أي: بدا لهم ما يخفونه مما خطر لهم من الإيمان، وهذا الترجيح انفرد به ابن عاشور فيما يظهر ¬

(¬1) سورة الأنعام (27 - 28). (¬2) انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 7، ص 206، والنكت والعيون / الماوردي، ج 2، ص 105، وزاد المسير / ابن الجوزي، ج 2 ص 20 - 21، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 6، ص 384، والتحرير والتنوير، ج 4، ص 186.

لي عن غيره من المفسرين، واستدل على اختياره هذا بما جاء في القرآن الكريم، وهذا قوله: "وعلمنا أنّ البَداء هو ظهور أمر في أنفسهم كانوا يخفونه في الدنيا، أي خطر لهم حينئذٍ ذلك الخاطر الذي كانوا يخفونه، أي الذي كان يبدو لهم، أي يخطر ببالهم وقوعه، فلا يُعلنون به، فبدا لهم الآن، فأعلنوا به وصرّحوا مُعترفين به. ففي الكلام احتباك، تقديره: بل بدا لهم ما كان يبدو لهم في الدنيا فأظهروه الآن وكانوا يخفونه، وذلك أنّهم كانوا يخطر لهم الإيمان لما يرون من دلائله أو من نصر المؤمنين فيصدّهم عنه العناد والحرص على استبقاء السيادة والأنفة من الاعتراف بفضل الرسول وبسبق المؤمنين إلى الخيرات قبلهم، وفيهم ضعفاء القوم وعبيدهم (¬1) وقريب من ترجيح ابن عاشور هذا ما اختاره ابن عطية حيث يقول: " الذي كانوا يخفونه في الدنيا نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأقواله، وذلك أنهم كانوا يخفون ذلك في الدنيا بأن يحقروه عند من يرد عليهم ويصفوه بغير صفته .. " (¬2). وفسره الطبري وأبو حيان بما كانوا يخفون عن الناس من قبائحهم - أي أعمالهم - (¬3). واختار ابن كثير والألوسي أن المراد بـ {بَدَا لَهُمْ} أي ما كانوا يكذبون به في الدنيا من الجزاء وهو النار (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 185. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 282. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 7، ص 207، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 108. (¬4) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 6، ص 23، وروح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 122.

واحتمل الرازي، والقرطبي، وكذلك الشوكاني، والقاسمي تلك الأقوال المذكورة جميعها (¬1). قال الرازي: " واعلم أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة. والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانهتكت أستارهم " (¬2). حجة من قال: إن المراد بقوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ} أي أعمالهم التي أخفوها في الدنيا ذكر القرطبي أنهم استدلوا بقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (¬3). قال الطبري: " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من أعمالهم السيئة التي كانوا يخفونهامن قبل ذلك في الدنيا، فظهرت، ولو ردّوا إلى الدنيا فأمْهلوا لرجعوا إلى مثل العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا قبل ذلك، من جحود آيات الله، والكفر به، والعمل بما يسخط عليهم ربِّهم " (¬4). وقال الزمخشري: " {بَلْ بَدَا لَهُمْ ... } من قبائحهم، وفضائحهم في صحفهم، وبشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً، لا أنهم ¬

(¬1) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 510، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 6، ص 384، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 109، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 344 (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 510. (¬3) سورة الزمر، الآية (23) , وانظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 6، ص 384. (¬4) جامع البيان / الطبري، ج 7، ص 206.

عازمون على أنهم لو ردوا لآمنوا " (¬1). حجة من قال: إن المراد بقوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ} أي ما يكتمونه من الشرك: وهذا القول يشبه سابقه، وأصحاب هذا القول استدلوا على ذلك بما جاء في قوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬2) أي عرفوا أنهم هالكون بشركهم، فتمنوا لذلك (¬3). قال مقاتل: "وذلك أنهم حين قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} أوحى الله إلى الجوارح، فشهدت عليهم بما كتموا من الشرك، فذلك قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ ... }، يعنى ظهر لهم من الجوارح مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ بألسنتهم من قبل أن تنطق الجوارح بالشرك، فتمنوا عند ذلك الرجعة إلى الدنيا، {فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} (¬4) " (¬5). قال النيسابوري: " قال أكثر المفسرين: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬6) فينطق الله ¬

(¬1) الكشاف / الزمخشري، ج 2، ص 336. (¬2) سورة الأنعام، الآية (23). (¬3) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 343. (¬4) سورة الأنعام، الآية (27). (¬5) تفسير مقاتل / مقاتل، ج 1، 248. (¬6) سورة الأنعام، الآية (23).

تعالى جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك معنى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} " (¬1). حجة من قال: إن المراد بقوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ} أي جزاء عقائدهم وأعمالهم: وهذا القول اعتمده أبو السعود فقال: "والمراد بها النار التي وقفوا عليها إذ هي التي سيق الكلام لتهويل أمرها والتعجيب من فظاعة حال الموقوفين عليها وبإخفائها تكذيبهم بها، فإن التكذيب بالشيء كفر به وإخفاء له لا محالة، وأما ما قيل من أن المراد بما يخفون كفرهم ومعاصيهم أو قبائحهم وفضائحهم التي كانوا يكتمونها من الناس فتظهر في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم أو شركهم الذي يجحدون به في بعض مواقف القيامة بقولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}، ثم يظهر بما ذكر من شهادة الجوارح عليهم، أو ما أخفاه رؤساء الكفرة عن أتباعهم من أمر البعث والنشور أو ما كتمه علماءُ أهل الكتابين من صحة نبوةِ النبي عليه الصلاة والسلام ونُعوته الشريفة عن عوامِّهم، على أن الضميرَ المجرورَ للعوام والمرفوعَ للخواص، أو كفرُهم الذي أخفَوْه عن المؤمنين والضميرُ المجرور للمؤمنين والمرفوعُ للمنافقين، فبعدَ الإغضاءِ عما في كلَ منها من الاعتساف والاختلال لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً لما عرفت من أن سَوْق النظم الشريف لتهويل أمر النار، وتفظيعِ حال أهلها، وقد ¬

(¬1) غرائب القرآن ورغائب الفرقان / النيسابوري، ج 3، ص 66.

ذُكر وقوفُهم عليها، وأُشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحَيْرة والدهشة ما لا يُحيط به الوصفُ، ورُتّب عليه تمنِّيهم المذكورُ بالفاء القاضيةِ بسببية ما قبلها لما بعدها، فإسقاطُ النار بعد ذلك من تلك السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجرُ الزواجر، وإسنادُها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر مع عدم جَرَيانِ ذكرها ثَمةَ أمرٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله، وأما ما قيل من أن المراد جزاءُ ما كانوا يُخفون فمن قبيل دخولِ البيوت من ظهورِها وأبوابُها مفتوحة فتأمل " (¬1). وردّ القاسمي ما ذهب إليه أبو السعود فقال: "لا ريب في بلاغة ما قرره ونفاسته، لولا تكلفه حمل الإخفاء على ماذكره، مما هو غير ظاهر فيه، وليس له نظائر في التنزيل الكريم. فمجازيته حينئذ من قبيل المعمى. وفي الوجوه الأُوَل إبقاؤه على حقيقته بلا تكلف، وشموله لها غير بعيد؛ لأن في كل منها ما يؤيده، كما بيناه، غاية الأمر أنما قرره وجه منها بديع. وأما كونه المراد لا غير، فدونه خرط القتاد , والله أعلم بأسرار كتابه " (¬2). حجة من قال: إن المراد بالآية: بدا للأتباع ما كان يُخفيه الرؤساء: قال الزجاج: " والدليل على صحة هذا القول أنه تعالى ذكر عقبيه {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (¬3). أي ظهر للذين ¬

(¬1) انظر إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم / أبو السعود، ج 3، ص 124 باختصار. (¬2) محاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 344. (¬3) سورة الأنعام، الآية (29)

اتبعوا الغواة ماكان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث والنشور " (¬1). حجة من قال: إن المراد بقوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ} أي ما كان يخطر لهم من الإيمان: وهذا القول انفرد به ابن عاشور عن المتقدمين كما قدمت وفي ذلك يقول: "وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (¬2). وهذا التفسير يغني عن الاحتمالات التي تحيّر فيها المفسّرون وهي لا تلائم نظم الآية، فبعضها يساعده صدرُها وبعضها يساعدُه عجزها وليس فيها ما يساعده جميعها " (¬3). وهذا القول ذهب إليه عدد من علماء التفسير المعاصرين ومن قولهم: " بل ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءت به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعه خلافه. ولو فرض أن أعيدوا إلى الدنيا فأمهلوا لرجعوا إلى العناد بالكفر والتكذيب. وإنهم لكاذبون في قولهم: لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا، وكنا من المؤمنين " (¬4). القول الراجح: الذي يظهر لي والله أعلم أن القول الراجح هو ما اختاره ابن عاشور من أن ¬

(¬1) معاني القرآن وإعرابه / الزجاج، ج 2، ص 240. (¬2) سورة الحجر، الآية (2). (¬3) التحرير والتنوير، ج 4، ص 185. (¬4) التفسير الميسر / نخبة من العلماء، ص 131.

المراد بـ {بَدَا لَهُمْ} الإيمان، مستندا في ذلك إلى القاعدة الترجيحية حيث قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (¬1). أما ما اختاره الطبري وغيره من المفسرين من أنهم بدت لهم أعمالهم، السيئة أو شركهم، وغيرها من الأقوال أراها والله تعالى أعلم قد جانبت الصواب، لأن الآيات في معرض الحديث عن المشركين والكافرين، وهم لم يكونوا يخفون أعمالهم أو وشركهم بل على العكس من ذلك كانوا يكابرون ويجادلون. ومما يعضد هذا القول القاعدة الترجيحية (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره)، وسياق الآيات التي تسبق الآية موضع البحث تعضد هذا القول، والأمر يبدو جليا لمن يقرأها قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية (2).

عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬1). 2 - مثال خلق الإنسان: قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (¬2). اختلف المفسرون في المراد من قوله: {صَلْصَالٍ}، فمنهم من ذهب إلى أنه الطين اليابس الذي لم تصبه نار، إذا نُقر يسمع له صلصلة، ومنهم من قال بأنه الطين المنتن (¬3) ورجّح ابن عاشور أنه الطين اليابس الذي يشبه الفخار واستدل على ذلك بما جاء في القرآن، وهذا قوله: " والصلصال: الطين الذي يترك حتى ييبس فإذا يبس فهو صلصال وهو شبه الفَخّار؛ إلا أن الفَخّار هو ما يبس بالطبخ بالنّار. قال تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (¬4) (¬5)، وما رجحه ابن عاشور هو الذي عليه جمهور المفسرين (¬6). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (25 - 28). (¬2) سورة الحجر، الآية (26). (¬3) انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 14، ص 36، والنكت والعيون / الماوردي، ج 3، ص 157 , (¬4) سورة الرحمن، الآية (14). (¬5) التحرير والتنوير، ج 7، ص 41. (¬6) انظر جامع البيان / الطبري، ج 14، ص 37، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 358، والتفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 138، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 10، ص 26، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 440، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 255، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 129، وروح المعاني / الألوسي، ج 7، ص 278، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 348، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 413.

في حين خالف بعض المفسرين منهم مجاهد حيث يقول: أن الصلصال هو الطين المنتن (¬1). حجة من قال: إن الصلصال هو الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة: حجتهم في ذلك أنه جاء مفسراً في موضع آخر بالفخار في يبسه، أي بما تقضي به قاعدة المبحث. قال أبو عبيدة: " الصلصال: الطين اليابس الذي لم تصبه نار، فإذا نقرته صلّ , فسمعت له صلصلة، فإذا طبخ بالنار فهو فخار , وكل شئ له صَلصلةَ صوت , فهو صلصال سوى الطين" (¬2). وقال الطبري في ذلك: " والذي هو أولى بتأويل الآية أن يكون الصلصال في هذا الموضع الذي له صوت من الصلصلة، وذلك أن الله تعالى وصفه في موضع آخر فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (¬3) فشبهه تعالى ذكره بأنه كان كالفخَّار في يُبسه " (¬4). وقال الرازي: " الصلصال الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فهو فخار. قالوا: إذا توهمت في صوته مداً فهو صليل، وإذا توهمت فيه ¬

(¬1) انظر قول مجاهد في تفسير الطبري، ج 14، ص 37، والبحر المحيط، ج 5، ص 440. (¬2) مجاز القرآن / أبو عبيدة، ج 1، ص 350. (¬3) سورة الرحمن، الآية (14). (¬4) جامع البيان / الطبري، ج 14، ص 37.

ترجيعاً فهو صلصلة. قال المفسرون: خلق الله تعالى آدم عليه السلام من طين فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة، فصار صلصالاً كالخزف ولا يدري أحد ما يراد به، ولم يروا شيئاً من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح , وحقيقة الكلام أنه تعالى خلق آدم من طين على صورة الإنسان فجف فكانت الريح إذا مرت به سمع له صلصلة؛ فلذلك سماه الله تعالى صلصالاً " (¬1). وكذلك رجحه ابن كثير بموجب هذه القاعدة فقال بعد أن ذكر الخلاف في المراد بالصلصال: " والظاهر أنه كقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} (¬2) وتفسير الآية بالآية أولى" (¬3). وقال الشنقيطي: " بيّن تعالى في هذه الآية الكريمة أنه خلق أبانا آدم من صلصال من حمأ مسنون، والصلصال الطين اليابس الذي يصلّ أي يصوِّت من يبسه إذا ضربه شيء ما دام لم تمسه النار فإذا مسته النار فهو حينئذ فخار، وأصل الصليل والصلصلة واحد، والفرق بينهما أنك إذا توهمت في الصوت مداً فهو صليل، وإذا توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة " (¬4). ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 137 - 138. (¬2) سورة الرحمن، الآية (14 - 15). (¬3) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 255. (¬4) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 413.

حجة من قال: إنه الطين المنتن: حجتهم في ذلك أنه مأخوذ من قولهم: صلَّ اللحم وأصلَّ: إذا أنتن، يقال ذلك باللغتين كلتيهما: يفعل وأفعل، وهذا القول من رواية مجاهد (¬1). وقال الكسائي: "هو الطين المنتن " (¬2). القول الراجح: إن الصلصال هو الطين اليابس , وذلك بناء على القاعدة , حيث دلَّ على هذا المعنى موضع آخر من القرآن فترجح بذلك، وهذا المعنى هو الذي رجحه ابن عاشور كما تقدم. وفي معناه يقول الراغب الأصفهاني: " أصل الصلصال تردد الصوت من الشئ اليابس ومنه قيل صلّ المسمار، وسُمِّى الطين الجاف صلصالاً، قال تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (¬3) وقال تعالى: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (¬4) والصلصلة بقية ماء سميت بذلك لحكاية صوت تحركه في المزادة (¬5). ومما يؤيد هذا القول ويرجحه القاعدة الترجيحية: (يجب حمل كلام الله ¬

(¬1) أخرج قول مجاهد الطبري في تفسيره، ج 14، ص 37. (¬2) معاني القرآن / الكسائي، ص 175. (¬3) سورة الرحمن، الآية (14). (¬4) سورة الحجر، الآية (26). (¬5) مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني، ص 488.

تعالى على المعروف من كلام العرب) ومن المعروف عند العرب أن الصلصال هو الطين اليابس، قال ابن منظور: " الصلصال من الطين مالم يجعل خزفاً سمي به لتصلصله، وكل ما جفّ من طين أو فخار فقد صلّ صليلاً وطين صلال ومصلال أي يصوت الخزف الجديد " (¬1). أما قول من قال بأنه الطين المنتن فهذا قول مردود , وقد ردّ الطبري والرازي هذا القول، وبينا ضعفه. قال الطبري: " ولو كان معناه في ذلك المُنتِن لم يشبهه بالفخارِّ، لأن الفخار ليس بمنتن فيشبَّه به في النتن غيره " (¬2). وكذلك ضعّفه الرازي بقوله: " وهذا القول عندي ضعيف، لأنه تعالى قال: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} وكونه حمأ مسنوناً يدل على النتن والتغير، وظاهر الآية يدل على أن هذا الصلصال إنما تولد من الحمأ المسنون، فوجب أن يكون كونه صلصالاً مغايراً لكونه حمأ مسنوناً، ولو كان كونه صلصالاً عبارة عن النتن والتغير لم يبق بين كونه صلصالاً، وبين كونه حمأ مسنوناً تفاوت " (¬3). وقد وضَّح الشنقيطي هذا الإشكال الذي وقع لبعض المفسرين في مسألة خلق الإنسان، وبيّن أنه لا تعارض بين الآيات، وإنما الآيات تدل على أن الله خلق الإنسان على مراحل أو أطوار، يقول الشنقيطي: " في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ¬

(¬1) لسان العرب/ ابن منظور، ج 7، ص 392، مادة: صلل. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 14، ص 37. (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 138.

خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} ظاهر هذه الآية أن آدم خلق من صلصال؛ أي طين يابس. وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى: {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} (¬1)، وكقوله: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} (¬2). والجواب: أنه ذكر أطوار ذلك التراب، فذكر طوره الأول بقوله: {مِنْ تُرَابٍ}، ثم بُلّ فصار طيناً لازباً، ثم خمِّر فصار حمأ مسنوناً، ثم يبس فصار صلصالاً كالفخار. وهذا واضح " (¬3). 3 - مثال أصحاب الأيكة: قال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)} (¬4). اختلف المفسرون في أصحاب الأيكة (¬5) هل هم أهل مدين أو هم قوم ¬

(¬1) سورة الصافات، الآية (11). (¬2) سورة آل عمران، الآية (59). (¬3) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب / الشنقيطي، ص 131. (¬4) سورة الشعراء، الآية (176 - 180). (¬5) الأيكة: (أيك) الأَيْكةَ الشجر الكثير الملتفّ وقيل هي الغَيْضة تُنْبِتُ السَّدْر والأَراك ونحوهما من ناعم الشجر وخص بعضهم به منبت الأَثْل ومُجتَمعه وقيل الأَيْكة جماعة الأَراك وقال أَبو حنيفة قد تكون الأَيْكة الجماع من كل الشجر حتى من النخل قال والأَول أَعرق والجمع أَيْكٌ وأَيِكَ الأَراك فهو أَيِكٌ واسْتَأْيَك كلاهما التفٍّ وصار أَيكة. لسان العرب / ابن منظور، ج 1، ص 289، مادة: أيك.

آخرون، وقد ساق هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: " وقد اختلف في أن أصحاب الأيكة هم مدين، أو هم قوم آخرون ساكنون في الأيكة جوار مدين أرسل شعيب إليهم وإلى أهل مدين. وإلى هذا مال كثير من المفسرون. روى عبد الله بن وهب عن جبير بن حازم عن قتادة قال: أُرسل شعيب إلى أمتين: إلى قومه من أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة. وقال جابر بن زيد: أرسل شعيب إلى قومه أهل مدين وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة " (¬1). ورجّح ابن عاشور أنهما أمتان أرسل إليهما شعيب وفيه يقول: " والأظهر أن أهل الأيكة قبيلة غير مدين فإن مدين هم أهل نسب شعيب وهم ذرية مَدين بن إبراهيم من زوجه «قطورة» سكَن مدين في شرق بلد الخليل كما في التوراة، فاقتضى ذلك أنه وجده بلَداً مأهولاً بقوم فهم إذن أصحاب الأيكة , فبنى مدين وبنُوه المدينةَ , وتركوا البادية لأهلها وهم سكان الغيضة " (¬2). وما رجحه ابن عاشور في كون قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتين , إنما استند فيه على ما جاء في القرآن الكريم ضمن قاعدة المبحث، وفي ذلك يقول: ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 9، ص 183. (¬2) التحرير والتنوير، ج 9، ص 183.

" والذي يشهد لذلك ويرجحه أن القرآن لمَّا ذكرَ هذه القصةَ لأهل مدين وصف شعيباً بأنه أخوهم، ولما ذكرها لأصحاب الأيكة لم يصف شعيباً بأنه أخوهم إذ لم يكن شعيب نسيباً ولا صهراً لأصحاب الأيكة، وهذا إيماء دقيق إلى هذه النكتة " (¬1). وما رجحه ابن عاشور في هذه الآية قد رجحه من قبله ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والشوكاني، والألوسي (¬2). في حين ذهب الطبري، وابن كثير، والقاسمي، والشنقيطي إلى أن أصحاب الأيكة هم أهل مدين (¬3). حجة أصحاب القول الأول القائلين بأن أصحاب الأيكة قوم آخرون ليسو هم أهل مدين: حجتهم في ذلك ما جاء في القرآن من بيان أنهما أمتان أو قبيلتان. قال ابن عاشور مؤكداً ترجيحه هذا المبني على القاعدة بما جاء في سورة الحجر عند قوله تعالى {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} (¬4): " ويظهر أن ضمير التثنية عائد ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 9، ص 183. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 242، والتفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 528، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 13، 144، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 36، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 116، وروح المعاني / الألوسي، ج 10، ص 116. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 19، ص 124، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 366، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 493، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1339 - 1340. (¬4) سورة الحجر، الآية (78 - 79).

إلى أصحاب الأيكة باعتبار أنهم قبيلتان، وهما مدين وسكان الغيضة الأصليون الذين نزل مدين بجوارهم، وهذا عندي هو مقتضى ذكر قوم شعيب عليه السلام باسم مدين مرات، وباسم أصحاب الأيكة مرات " (¬1). كما أكد الرازي هذا المعنى بقوله: " فإن قيل هلاّ قال أخوهم شعيب كما في سائر المواضع. جوابه: أن شعيباً لم يكن من أصحاب الأيكة " (¬2). وقال أبو حيان: " وكان شعيب عليه السلام من أهل مدين، فلذلك جاء: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} (¬3) ولم يكن من أهل الأيكة، فلذلك قال هنا: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ}. ومن غريب النقل ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أصحاب الأيكة هم: أصحاب مدين، وعن غيره أن أصحاب الأيكة هم: أهل البادية، وأصحاب مدين هم: الحاضرة" (¬4). حجة أصحاب القول الثاني القائلين بأن أصحاب الأيكة هم أهل مدين: قال ابن كثير مدللا على اختياره: " هؤلاء -أعني أصحاب الأيكة -هم أهل مدين على الصحيح. وكان نبي الله شعيب من أنفسهم، وإنما لم يقل هنا أخوهم شعيب؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، وهي شجرة. وقيل: شجر ملتف كالغَيضة، كانوا يعبدونها؛ فلهذا لما قال: كذب أصحاب الأيكة المرسلين، لم ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 7، ص 72. (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 528. (¬3) سورة الأعراف الآية (85). (¬4) البحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 36.

يقل: "إذ قال لهم أخوهم شعيب"، وإنما قال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ}، فقطع نسبة الأخوة بينهم؛ للمعنى الذي نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسبا , ومن الناس مَنْ لم يتفطن لهذه النكتة، فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين، فزعم أن شعيبًا عليه السلام، بعثه الله إلى أمتين، ومنهم مَنْ قال: ثلاث أمم " (¬1). وقال القاسمي: " والصحيح أنهم أمة واحدة. وصفوا في كل مقام بشيء، ولذلك وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء , فدل ذلك على أنهما أمة واحدة " (¬2). القول الراجح: هو ما رجحه الطبري وغيره في أنهما أمة واحدة. قال الطبري: " وأصحاب الأيكة: هم أهل مدين، والأيكة: الشجر، بعث الله شعيباً إلى قومه من أهل مدين، وإلى أهل البادية، قال: وهم أصحاب لأيكة، وليكة ولأيكة: واحد " (¬3). قلت: وإن قيل أن ما رجحه ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين استدلوا به بمقتضى القاعدة الترجيحية أي ما فسرته آيات أخرى، قلنا: إن أصحاب القول الثاني أيضاً استدلوا على قولهم بدلالة الآيات الأخرى. وفي ذلك يقول الشنقيطي: " قال أكثر أهل العلم: إن أصحاب الأيكة هم ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 366. (¬2) محاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 493. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 19، ص 123 - 124.

مدين. قال ابن كثير: وهو الصحيح، وعليه فتكون هذه الآية بينتها الآيات الموضحة قصة شعيب مع مدين، ومما أستدل به أهل هذا القول أنه قال هنا لأصحاب الأيكة: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (¬1)، وهذا الكلام ذكر الله عنه أنه قاله لمدين في مواضع متعددة كقوله في هود: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} (¬2) إلى غير ذلك من الآيات " (¬3). وأما ما رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب عليه السلام من طريق محمد بن عثمان ابن أبي شيبة بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآية (183). (¬2) سورة هود، الآية (84 - 86). (¬3) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1339 - 1340.

النبي " (¬1). فهذا الحديث قد تكلم عليه بعض العلماء، منهم ابن كثير قال فيه: هذا غريب، وفي رفعه نظر، والأشبه أنه موقوف " (¬2). وعليه فإنه يترجح أنهما أمة واحدة وصفوا في كل مقام بشيء، والله تعالى أعلم. 4 - مثال الذبيح: قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} (¬3). اختلف المفسرون في الذبيح، فذهب بعض المفسرين إلى أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وذهب آخرون إلى أن الذبيح إسحاق، وقد ساق هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: " واختلف علماء السلف في تعيين الذبيح فقال جماعة من الصحابة والتابعين: هو إسماعيل وممن قاله أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة، وعبد الله بن عُمر، وابن عباس، ومعاوية بن أبي سفيان. وقاله من التابعين سعيد بن المسيِّب، والشعبي، ومجاهد، وعلقمة، والكلبي، ¬

(¬1) ذكره ابن كثير في تفسيره، ولم أقف عليه في تاريخ دمشق. وقد تكلم عليه ابن كثير فقال فيه: هذا غريب، وفي رفعه نظر، والأشبه أنه موقوف " تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 367. (¬2) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 367. (¬3) سورة الصافات، الآية (103 - 107).

والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القُرظي، وأحمد بن حنبل. وقال جماعة: هو إسحاق، ونقل عن ابن مسعود، والعباس بن عبد المطلب، وجابر بن عبد الله، وعمر، وعلي من الصحابة، وقاله جمع من التابعين منهم: عطاء وعكرمة والزهري والسّدِّي. وفي «جامع العتبية» أنه قول مالك بن أنس " (¬1). ورجّح ابن عاشور أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام مستدلاً على ذلك بما جاء في القرآن الكريم يفسر ذلك فقد قال: " شاع من أخبار أهل الكتاب أن الذبيح هو إسحاق بن إبراهيم بناء على ما جاء في «سفر التكوين» في «الإِصحاح» الثاني والعشرين .... والتأمُّل في هذه الآية يقوّي الظن بأن الذبيح إسماعيل، فإنه ظاهر قوي في أن المأمور بذبحه هو الغلام الحليم في قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (¬2) وأنه هو الذي سأل إبراهيمُ ربه أن يهب له فساقت الآية قصة الابتلاء بذبح هذا الغلام الحليم الموهوب لإِبراهيم، ثم أعقبت قصته بقوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬3)، وهذا قريب من دلالة النص على أن إسحاق هو غير الغلام الحليم الذي مضى الكلام على قصته، لأن الظاهر أن قوله: {وَبَشَّرْنَاهُ} بشارة ثانية , وأن ذكر اسم إسحاق يدل على أنه غير الغلام الحليم الذي أجريت عليه الضمائر المتقدمة (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 11، ص 159. (¬2) سورة الصافات، الآية (101). (¬3) سورة الصافات، الآية (112). (¬4) التحرير والتنوير، ج 11، ص 157.

وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين ابن عطية، وأبو حيان، وابن كثير، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي (¬1). في حين ذهب الطبري، والرازي، والقرطبي إلى أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام (¬2). واحتمل الشوكاني كلا القولين ولم يرجح فقال بعد أن ذكرهما: " وكل هذا أيضاً يحتمل فانظر ماذا ترى؟ " (¬3). حجة من قال: إن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام: ذكر ابن عطية بعض الأدلة على هذا القول، فقال: " ويستدل بأن بالبشارة اقترنت بأن من ورائه يعقوب، فلو قيل له في صباه: اذبحه , لناقض ذلك البشارة بيعقوب، ويستدل بظاهر هذه الآية أنه بشر بإسماعيل، وانقضى أمر ذبحه ثم بشر بإسحاق بعد ذلك " (¬4). كما ذكر الرازي أدلة أصحاب هذا القول بعدة وجوه: الأول: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أنا ابن الذبيحين " وقال له أعرابي: «يا ابن ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 480، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 356، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 12، ص 50، وروح المعاني / الألوسي، ج 12، ص 130.، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 105، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1445. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 23، ص 101، والتفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 347، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 15، ص 100. (¬3) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 404. (¬4) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 481.

الذبيحين! فتبسم فسئل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بمائة من الإبل، والذبيح الثاني إسماعيل» (¬1). الحجة الثانية: نقل عن الأصمعي أنه قال سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي أين عقلك، ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل بمكة , وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والمنحر بمكة. الحجة الثالثة: أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر دون إسحق في قوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} (¬2) وهو صبره على الذبح، ووصفه أيضاً بصدق الوعد في قوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (¬3) لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به. الحجة الرابعة: قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (¬4) فنقول لو كان الذبيح إسحق لكان الأمر بذبحه إما أن يقع قبل ظهور يعقوب، منه أو بعد ذلك , فالأول: باطل؛ لأنه تعالى لما بشرها بإسحق، وبشرها معه بأنه يحصل منه يعقوب فقبل ظهور يعقوب منه لم يجز الأمر بذبحه، ¬

(¬1) أخرجه الطبري في تفسيره، ج 23، ص 101. (¬2) سورة الأنبياء، الآية (85). (¬3) سورة مريم، الآية (54). (¬4) سورة هود، الآية (71).

وإلا حصل الخلف في قوله: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}. والثاني: باطل لأن قوله: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (¬1) يدل على أن ذلك الابن لما قدر على السعي ووصل إلى حد القدرة على الفعل أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه، وذلك ينافي وقوع هذه القصة في زمان آخر، فثبت أنه لا يجوز أن يكون الذبيح هو إسحق. الحجة الخامسة: حكى الله تعالى عنه أنه قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (¬2) ثم طلب من الله تعالى ولداً يستأنس به في غربته فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬3) وهذا السؤال إنما يحسن قبل أن يحصل له الولد، لأنه لو حصل له ولد واحد لما طلب الولد الواحد، لأن طلب الحاصل محال ,وقوله: {هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} لا يفيد إلا طلب الولد الواحد، وكلمة من للتبعيض وأقل درجات البعضية الواحد فكأن قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} لا يفيد إلا طلب الولد الواحد فثبت أن هذا السؤال لا يحسن إلا عند عدم كل الأولاد , فثبت أن هذا السؤال وقع حال طلب الولد الأول، وأجمع الناس على أن إسماعيل متقدم في الوجود على إسحق، فثبت أن المطلوب ¬

(¬1) سورة الصافات، الآية (102). (¬2) سورة الصافات، الآية (99). (¬3) سورة الصافات، الآية (102).

بهذا الدعاء هو إسماعيل، ثم إن الله تعالى ذكر عقيبه قصة الذبيح فوجب أن يكون الذبيح هو إسماعيل. الحجة السادسة: الأخبار الكثيرة في تعليق قرن الكبش بالكعبة، فكان الذبيح بمكة , ولو كان الذبيح إسحق كان الذبح بالشام " (¬1). وقال الألوسي: " والذي أميل أنا إليه أنه إسماعيل عليه السلام بناءً على أن ظاهر الآية يقتضيه , وأنه المروى عن كثير من أئمة أهل البيت , ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضي خلاف ذلك، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوي الألباب." (¬2) وقال ابن عاشور معللاً ترجيحه لهذا القول بالرغم مما جاء في سفر التكوين بقوله: " فإن قلت: فعلامَ جنحتَ إليه، واستَدللت عليه من اختيارك أن يكون لابتلاء بذبح إسماعيل دون إسحاق، فكيف تتأول ما وقع في «سفر التكوين»؟ قلت: أرى أن ما في «سفر التكوين» نُقِل مشتّتاً غير مرتبة فيه أزمان الحوادث بضبط يعين الزمن بين الذبح وبين أخبار إبراهيم، فلما نقَل النقلةُ التوراة بعد ذهاب أصلها عقب أسر بني إسرائيل في بلاد أشور زمن بختنصر، سجلت قضية الذبيح في جملة أحوال إبراهيم عليه السلام، وأدمج فيها ما اعتقده بنو إسرائيل في غربتهم من ظنهم الذبيح إسحاق. ويدل لذلك قول الإِصحاح الثاني والعشرين «وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال خذ ابنك وحيدك» الخ؛ فهل المراد من قولها: بعد هذه الأمور، بعد جميع الأمور ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 347. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 12، ص 130.

المتقدمة أو بعد بعض ما تقدم" (¬1). حجة من قال: إن الذبيح هو إسحاق عليه السلام وليس إسماعيل: استدل أصحاب هذا القول على ما جاء في القرآن، وعلى ماذكرته الأسفار أيضاً وقال الطبري مستدلاً على قوله بما جاء في القرآن فقال: " وأولى القولين بالصواب في المَفْديّ من ابني إبراهيم خليل الرحمن على ظاهر التنزيل قول من قال: هو إسحاق، لأن الله قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (¬2) فذكر أنه فدَى الغلامَ الحليمَ الذي بُشِّر به إبراهيم حين سأله أن يهب له ولدًا صالحًا من الصالحين، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬3) فإذ كان المفدِيّ بالذبح من ابنيه هو المبشَّر به، وكان الله تبارك اسمه قد بين في كتابه أن الذي بُشِّر به هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فقال جل ثناؤه: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (¬4) وكان في كل موضع من القرآن ذكر تبشيره إياه بولد، فإنما هو معنيّ به إسحاق، كان بيَّنا أن تبشيره إياه بقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (¬5) في هذا الموضع نحو سائر أخباره في غيره من آيات القرآن. ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 160. (¬2) سورة الصافات، الآية (107). (¬3) سورة الصافات، الآية (107). (¬4) سورة هود، الآية (71). (¬5) سورة الصافات، الآية (101).

وبعد: فإن الله أخبر جل ثناؤه في هذه الآية عن خليله أنه بشَّره بالغلام الحليم عن مسألته إياه أن يهب له من الصالحين، ومعلوم أنه لم يسأله ذلك إلا في حال لم يكن له فيه ولد من الصالحين، لأنه لم يكن له من ابنيه إلا إمام الصالحين، وغير موهم منه أن يكون سأل ربه في هبة ما قد كان أعطاه ووهبه له. فإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن الذي ذكر تعالى ذكره في هذا الموضع هو الذي ذكر في سائر القرآن أنه بشَّره به وذلك لا شك أنه إسحاق، إذ كان المفديّ هو المبشَّر به. وأما الذي اعتلّ به من اعتلّ في أنه إسماعيل، أن الله قد كان وعد إبراهيم أن يكون له من إسحاق ابن، فلم يكن جائزاً أن يأمره بذبحه مع الوعد الذي قد تقدم; فإن الله إنما أمره بذبحه بعد أن بلغ معه السعي، وتلك حال غير ممكن أن يكون قد وُلد لإسحاق فيها أولاد، فكيف الواحد؟ وأما اعتلال من اعتل بأن الله أتبع قصة المفديّ من ولد إبراهيم بقوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬1) ولو كان المفديّ هو إسحاق لم يبشَّر به بعد، وقد ولد، وبلغ معه السعي، فإن البشارة بنبوه إسحاق من الله فيما جاءت به الأخبار جاءت إبراهيم وإسحاق بعد أن فُدِي تكرمة من الله له على صبره لأمر ربه فيما امتحنه به من الذبح، وقد تقدمت الرواية قبلُ عمن قال ذلك. وأما اعتلال من اعتلّ بأن قرن الكبش كان معلقا في الكعبة فغير مستحيل أن يكون حُمل من الشام إلى الكعبة. وقد رُوي عن جماعة من أهل العلم أن ¬

(¬1) سورة الصافات، الآية (112).

إبراهيم إنما أمر بذبح ابنه إسحاق بالشام، وبها أراد ذبحه (¬1) .. وذكر ابن عاشور أن من حجتهم على ذلك ما جاء في سفر التكوين في الإصحاح الثاني والعشرين، وعلى ما كان يقصه اليهود عليهم (¬2). القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور وجمهور المفسرين بناءً على القاعدة الترجيحية (القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره)، وقد ذكر ابن عاشور عدة أدلة تؤكد أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، ومنها ما وقع في «سفر التكوين» في الإِصحاح الثاني والعشرين، وهذا قوله: " أن الله امتحن إبراهيم فقال له: «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا وأصعده هنالك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك» إلى آخر القصة. ولم يكن إسحاق ابناً وحيداً لإِبراهيم فإن إسماعيل وُلد قبله بثلاث عشرة سنة. ولم يزل إبراهيم وإسماعيل متواصلين وقد ذكر في الإِصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين عند ذكر موت إبراهيم عليه السلام «ودفَنه إسحاق وإسماعيلُ ابناه»، فإقحام اسم إسحاق بعد قوله: ابنَك وحيدَك، من زيادة كاتب التوراة (¬3). وممن رجح هذا القول بناءً على قاعدة المبحث أيضاً بوضوح الشنقيطي ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 23، ص 102. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 11، ص 157. (¬3) التحرير والتنوير، ج 11، ص 159.

حيث يقول: " اعلم وفقني الله وإياك. أن القرآن العظيم قد دل في موضعين، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق أحدهما في الصافات، والثاني في هود. أما دلالة آيات الصافات على ذلك فهي واضحة جداً من سياق الآيات، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيه إبراهيم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (¬1). قال بعد ذلك عاطفاً على البشارة الأولى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬2) فدل ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشر به في الثانية؛ لأنه لا يجوز حمل كتاب الله على أن معناه: فبشرناه بإسحاق، ثم بعد ¬

(¬1) سورة الصافات، الآية (106 - 110). (¬2) سورة الصافات، الآية (112).

انتهاء قصة ذبحه يقول أيضاً: وبشرناه بإسحاق، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزّه عنه كلام الله، وهو واضح في أن الغلام المبشَّر به أولاً الذي فُدي بالذبح العظيم، هو إسماعيل، وأن البشارة بإسحاق نص الله عليها مستقلة بعد ذلك. وقد أوضحنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (¬1) أن المقرر في الأصول أن النص من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذا احتمل التأسيس والتأكيد معاً، وجب حمله على التأسيس ولا يجوز حمله على التأكيد إلا لدليل يجب الرجوع إليه. ومعلوم في اللغة العربية، أن العطف يقتضي المغايرة، فآية الصافات هذه دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقيناً عبر عنه في كلها بالعلم لا الحلم، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم وأما الموضع الثاني الدال على ذلك ذكرنا أنه في سورة هود فهو قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (¬2) لأن رسل الله من الملائكة بشرتها بإسحاق، وأن إسحاق يلد يعقوب، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه، وهو صغير، وهو ¬

(¬1) سورة النحل، الآية (97). (¬2) سورة هود، الآية (71).

عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب. فهذه الآية أيضاً دليل واضح على ما ذكرنا، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلة القرآنية على ذلك. والعلم عند الله تعالى" (¬1). 5 - مثال الإحياء والإماتة: قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} (¬2). اختلف المفسرون في المراد بالموتتين والإحياءين من قوله تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} على ثلاثة أقوال (¬3): الأول: إن الله أحياهم حين خلقهم في الدنيا، ثم أماتهم فيها عند انقضاء آجالهم، ... ثم أحياهم في قبورهم للمساءلة، ثم أماتهم إلى وقت البعث. ثم أحياهم للبعث، قاله السدي (¬4). الثاني: إن الله أحياهم حين أخذ عليهم الميثاق في ظهر آدم، وذلك قوله: ¬

(¬1) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1446. (¬2) سورة غافر، الآية (11). (¬3) انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 24، ص 56 - 57، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 549. (¬4) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 24، ص 57.

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (¬1)، ثم إن اللَّه أماتهم بعد أخذ الميثاق عليهم، ثم أحياهم حين أخرجهم، ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم، ثم أحياهم للبعث فتكون حياتان وموتتان في الدنيا وحياة في الآخرة، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (¬2). الثالث: إنه خلقهم أمواتاً في أصلاب آبائهم، ثم أحياهم بإخراجهم، ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم، ثم أحياهم للبعث، فهما ميتتان إحداهما في أصلاب الرجال، والثانية في الدنيا، وحياتان: إحداهما في الدنيا والثانية في الآخرة، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والضحاك (¬3). وهذا القول الثالث هو الذي اختاره ابن عاشور في تفسيره مستدلاً على ذلك بما جاء في القرآن. وهذا قوله: " والمراد بإحدى الموتتين: الحالةُ التي يكون بها الجنين لَحْماً لا حياة فيه في أول تكوينه قبل أن يُنفخ فيه الروح، وإطلاق الموت على تلك الحالة مجاز وهو مختار الزمخشري والسكاكي , بناء على أن حقيقة الموت انعدام الحياة من الحي بعد أن اتصف بالحياة، فإطلاقه على حالة انعدام الحياة قبلَ حصولها فيه ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية (172). (¬2) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 1، ص 216، وذلك في معرض تفسيره لقوله تعالى: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ " من سورة البقرة، الآية (29). (¬3) أخرج رواياتهم الطبري في تفسيره، ج 1، ص 215.

استعارةٌ، إلا أنها شائعة في القرآن حتى ساوت الحقيقة , فلا إشكال في استعمال (أمتَّنا) في حقيقته ومجازه، ففي ذلك الفعل جمع بين الحقيقة والاستعارة التبعية تبعاً لِجريان الاستعارة في المصدر، ولا مانع من ذلك لأنه واقع ووارد في الكلام البليغ كاستعمال المشترك في معنييه، . وأما الموتة الثانية فهي الموتة المتعارفة عند انتهاء حياة الإنسان والحيوان. والمراد بالاحياءتَيْن: الاحياءة الأولى عند نفخ الروح في الجسد بعد مبدأ تكوينه، والإِحياءة الثانية التي تحصل عند البعث، وهو في معنى قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} " (¬1) (¬2). وهذا القول الذي رجحه ابن عاشور هو قول جمهور السلف (¬3). حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن الحياة تحصل ثلاث مرات أحدهما في الدنيا والثانية في القبر والثالثة عند البعث، والموت؛ مرة عند ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (28). (¬2) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 11، ص 97 - 98. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري ج 1، ص 217، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 549، والتفسير الكبير/ الرازي، ج 9، ص 494، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 266، عند تفسيره لقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} وذكر أنه أصح الأقوال، والبحر المحيط/ أبو حيان، ج 7، ص 435، ، ، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 332، وفتح القدير/ الشوكاني، ج 1، ص 60، وروح المعاني/ الألوسي، ج 12، ص 305، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 190، وكذلك حققه الشنقيطى في أضواء البيان ص 1471، وبين أنه القول الراجح الذي لا ينبغي العدول عنه.

انقضاء الأجل وأخرى بعد المساءلة في القبر: حجتهم قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (¬1) وقالوا أن قوله {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا}: خطاب لأهل القبور بعد إحياءهم في قبورهم , وقالوا: إن لفظ الميت لا ينطلق في العرف على النطفة. وردوا على الذين قالوا أن الموتة الأولى إشارة إلى الحالة الحاصلة عند كون الإنسان نطفة وعلقة، والموتة الثانية إشارة إلى ما حصل في الدنيا، كما قالوا: لو كان الثواب والعقاب للروح دون الجسد فما معنى الإحياء والإماتة (¬2). وأصحاب هذا القول يقولون: إن الإماتة لا تصدق إلا على خروج الروح من الجسد (¬3). قال الرازي: "احتج أكثر العلماء بهذه الآية في إثبات عذاب القبر، وتقرير الدليل أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين حيث قالوا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} فأحد الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (28). (¬2) انظر أقوالهم في تفسير القرطبي، ج 15، ص 285. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 216، حيث ذكر الطبري الخلاف الوارد في معنى الإحياء والإماتة عند تفسيره لقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} من الآية (28) من سورة البقرة، مما أغنى عن إعادته في هذا الموضع من سورة غافر ..

الذي يحصل عقيبها موتاً ثانياً، وذلك يدل على حصول حياة في القبر" (¬1). حجة أصحاب القول الثاني القائلين: إن الله أحياهم حين أخذ عليهم الميثاق في ظهر آدم ثم أماتهم بعد أخذ الميثاق عليهم، ثم أحياهم حين أخرجهم، ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم، ثم أحياهم للبعث: ذكر الطبري وجه تأويل ابن زيد في تفسيره فقال: " وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصَد بتأويله ذلك، وأنّ الإماتة الأولى عند إعادة الله جل ثناؤه عبادَه في أصلاب آبائهم، بعد ما أخذَهم من صُلب آدم، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم، وأن الإماتة الثانية هي قبضُ أرواحهم للعود إلى التراب، والمصير في البرزخ إلى يوم البعث، وأن الإحياء الثالثَ هو نفخُ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة" (¬2). حجة أصحاب القول الثالث القائلين: إنه خلقهم أمواتاً في أصلاب آبائهم، ثم أحياهم بإخراجهم، ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم، ثم أحياهم للبعث، فهما ميتتان، وإحياءان: حجتهم بينها الطبري في تفسيره فقال: " إن هؤلاء ذهبوا إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميِّتٌ، وهذا أمر ميِّت - يراد بوصفه بالموت: خُمول ذكره، ودُرُوس أثره من الناس. وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمر حيّ، وذكر حيٌّ - يراد بوصفه بذلك أنه نابه مُتعالم في ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 494. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 6.

الناس، كما قال أبو نُخَيْلة السعديّ: (¬1) وأَحْيَيْتَ لِي ذكْري، وَمَا كُنْتُ خَامِلا ... وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ (¬2). يريد بقوله: "فأحييتَ لي ذكري"، أي: رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا، بعد أن كان خاملا ميتًا. فكذلك تأويل قول من قال في قوله: "وكنتم أمواتًا" لم تكونوا شيئًا، أي كنتم خُمولا لا ذكر لكم، وذلك كان موتكم فأحياكم، فجعلكم بَشرًا أحياء تُذكرون وتُعرفون، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دروس ذكركم، وتعفِّي آثاركم، وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى هيئاتها، ونفخ الروح فيها" (¬3). وذكر له الزمخشري مسوغاً غير هذا فقال: " فإن قلت: كيف صحّ أن يسمي خلقهم أمواتاً: إماتة؟ قلت: كما صحّ أن تقول: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل! وقولك للحفار: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر ولا من صغر إلى كبر، ولا من ضيق إلى سعة، ولا من سعة إلى ضيق، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات، والسبب في ¬

(¬1) أبو نخيلة: اسمه لا كنيته، كما قال أبو الفرج، ويقال اسمه: يعمر بن حزن بن زائدة، من بني سعد بن زيد مناة، وكان الأغلب عليه الرجز، وله قصيد قليل، وكان عاقاً بأبيه، فنفاه أبوه عن نفسه، والبيت من أبيات يمدح بها نفسه. (انظري الإكمال في الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى / علي بن هبة الله بن نصر بن ما كولا، ج 7، ص 257). (¬2) المؤتلف والمختلف / الآمدي، ص 297. (¬3) جامع البيان الطبري، ج 1، ص 215، 216.

صحته أن الصغر والكبر جائزان معاً على المصنوع الواحد، من غير ترجح لأحدهما، وكذلك الضيق والسعة. فإذا اختار الصانع أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر لزمه إثبات ثلاث إحياءات، وهو خلاف ما في القرآن " (¬1). وقال الشنقيطي في (أضواء البيان): " والأظهر عندي أن المسوغ الذي سوغ إطلاق اسم الموت على العلقة، والمضغة مثلاً، في بطون الأمهات، أن عين ذلك الشيء، الذي هو نفس العلقة والمضغة، له أطوار كما قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (¬2) {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} (¬3)، ولما كان ذلك الشيء، تكون فيه الحياة في بعض تلك الأطوار، وفي بعضها لا حياة له، صح إطلاق الموت والحياة عليه من حيث إنه شيء واحد، ترتفع عنه الحياة تارة وتكون فيه أخرى " (¬4). القول الراجح: ومما تقدم تبين لنا أن القول الثالث هو أصح الأقوال وأولاها بتفسير الآية، وهو الذي تقرره القاعدة، وعليه أكثر المفسرين، وهو الذي ذهب إليه ابن ¬

(¬1) الكشاف / الزمخشري، ج 5، ص 334. (¬2) سورة نوح، الآية (14). (¬3) سورة الزمر، الآية (6). (¬4) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1471.

عاشور في تفسيره، وترجيحه هذا بناء على قاعدة (القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على غيره) حيث قال بعد أن ذكر تفسير الآية أن ذلك في معنى قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬1) (¬2). وكذلك رجحه الطبري بناءً على هذه القاعدة فقال: "وأولى ما ذكرنا من الأقوال التي بيَّنّا بتأويل قول الله جل ذكره: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم" الآية، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس: من أن معنى قوله: "وكنتم أمواتًا" أمواتَ الذكر، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم، ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة" (¬3). وكذلك رجحه الرازي بمضمون هذه القاعدة وذكر بأن قوله تعالى يدل عليه وهو: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬4) ومما تقدم تبين لنا أن ¬

(¬1) سورة البقرة الآية (28). (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 11، ص 97. (¬3) جامع البيان الطبري، ج 1، ص 217. (¬4) سورة البقرة، الآية (28)، وانظر التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 495.

ابن عاشور قد تابع جمهور المفسرين في ترجيح ذلك القول مستندا في ذلك إلى القاعدة. وأما أصحاب القول الأول الذين يرون أن الحياة تحصل ثلاث مرات أحدهما في الدنيا والثانية في القبر والثالثة عند البعث، والموت؛ مرة عند انقضاء الأجل وأخرى بعد المساءلة في القبر فقد ردّ قولهم عدد من العلماء منهم الطبري، والرازي، والزمخشري، وأبو حيان , حيث ساق الطبري بعض الأدلة التي تدل بالمنقول والمعقول على عدم حصول الحياة في القبر وذكر بأنه لا إنابة في القبور بعد الممات (¬1). كما استبعده الرازي في تفسيره مبيناً أن الآية تدل على المنع من حصول حياة القبر، وبيّن أنه لو كان الأمر كذلك لكان قد حصلت الحياة ثلاث مرات أولها: في الدنيا، وثانيها في القبر، وثالثها في: القيامة، والمذكور في الآية ليس إلا حياتين فقط، فتكون إحداهما في الحياة الدنيا والحياة الثانية في القيامة، والموت الحاصل بينهما هو الموت المشاهد في الدنيا (¬2).كما ردّه الزمخشري، وأبو حيان، وبيّنا بطلانه، وذكرا أنه خلاف القرآن (¬3) (¬4). ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 216. (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 495. (¬3) انظر الكشاف / الزمخشري؛ تحقيق: عادل عبد الموجود، علي معوض، ج 5، ص 334، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 435. (¬4) قلت: وإنكار أئمة المفسرين لهذا القول لا يعني إنكارهم لعذاب القبر، وإنما وقع إنكارهم على أن تكون الحياة في القبر مثل الحياة في الدنيا، ولا شك أن الحياة في القبر أمر عارض وغير مستقر، يشبه حال النائم. وقد أنكر ابن القيم على من نفى حياة القبر فقال: " فهذا فيه إجمال أن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه وتحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا= =خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص، وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله فتعاد روحه في جسده". (الروح / ابن القيم، ج 1، ص 43). وقد سئل شيخ الإسلام عن سؤال منكر ونكير الميت إذا مات تدخل الروح فى جسده ويجلس ويجاوب منكرا ونكير فيحتاج موتا ثانيا؟ فأجاب: عود الروح إلى بدن الميت فى القبر ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة الدنيا وإن كان ذاك قد يكون أكمل من بعض الوجوه , كما أن النشأة الأخرى ليست مثل هذه النشأة وان كانت أكمل منها , بل كل موطن في هذه الدار وفى البرزخ والقيامة له حكم يخصه, ولهذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يوسع له في قبره ويسأل ونحو ذلك وان كان التراب قد لا يتغير فالأرواح تعاد إلى بدن الميت وتفارقه. (مجموع الفتاوى، ج 4، ص 274). وقال أبو محمد: وهذا حق لا يدفع عذاب القبر لأن فتنة القبر وعذابه والمساءلة إنما هي للروح فقط بعد فراقه للجسد إثر ذلك قبر أو لم يقبر برهان ذلك قول الله تعالى " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم " الآية وهذا قبل القيامة بلا شك وأثر الموت وهذا هو عذاب القبر وقال " إنما توفون أجوركم يوم القيامة " وقال تعالى في آل فرعون " النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " (الفصل في الملل والأهواء والنحل / محمد بن حزم، ج 1، ص 438). وقال ابن عاشور: " وقد أورد كثير من المفسرين إشكال أن هنالك حياةً ثالثة لم تذكر هنا وهي الحياةُ في القبر التي أشار إليها حديث سؤال القَبر وهو حديث اشتهر بين المسلمين من عهد السلف، وفي كون سؤال القبر يقتضي حياة الجسم حياة كاملة احتمال، وقد يُتأول بسؤال روح الميت عِند جسده أو بحصول حياة بعض الجسد أو لأنها لما كانت حياة مؤقتة بمقدار السؤال ليس للمتصف بها تصرف الإِحياء في هذا العالم، لم يعتد بها لاسيما والكلام مراد منه التوطئة لسؤال خروجهم من جهنم، وبهذا يعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها لثبوت الحياة عند السؤال في القبر" (التحرير والتنوير، ج 11، ص 98).

وأما القول الثاني بأن الله أحياهم حين أخذ عليهم الميثاق في ظهر آدم، ، ثم أماتهم بعد أخذ الميثاق عليهم، ثم أحياهم حين أخرجهم، ثم أماتهم عند انقضاء آجالهم، ثم أحياهم للبعث: فقد ضعفه الطبري واستبعده، وذكر أنه خلاف الظاهر، لأن ابن زيد ذكر أنّ الله أحياهم ثلاثة إحياءات، وأماتهم ثلاث إماتات , والله جل ثناؤه أخبر في كتابه -عن الذين أخبر عنهم من خلقه- أنهم قالوا: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (¬1). كما ضعفه ابن عطية، وابن جزي، وأبو حيان، وملخص قولهم أنه يترتب عليه أن يكون الإحياء ثلاث مرات وهو خلاف القرآن (¬2)، وكذلك استبعده ابن كثير في تفسيره وذكر أنه قول غريب (¬3). ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 216. (¬2) انظر المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 4، ص 549، والتسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي، ج 2، ص 478، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 435. (¬3) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 332. ونظائر هذه الأمثلة كثيرة جداً في تفسيره , منها: 1 - ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الأنفال: 15 - 16). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وفيها قول ابن عاشور: " والذي أرى في فقه هذه الآية أن ظاهر الآية هو تحريم التولي على آحادهم وجماعتهم إذا التقوا مع أعدائهم في ملاحم القتال والمجالدة، بحيث إن المسلمين إذا توجهوا إلى قتال المشركين أو إذا نزل المشركون لمقاتلتهم وعزموا على المقاتلة فإذا التقى الجيشان للقتال وجب على المسلمين الثبات والصبر ... ، وهذا هو الذي يشهد له قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (الأنفال: 45). (التحرير والتنوير، ج 6، ص 291. 2 - قوله تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} (سورة يوسف: 46). وفيها ترجيح ابن عاشور أن الصديقين هم دوين الأنبياء وهذا قوله: " وأحسنُ ما رأيت في هذا المعنى كلمة الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن قال: «الصديقون هم دُوَيْن الأنبياء». وهذا ما يشهد به استعمال القرآن في آيات كثيرة مثل قوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ} (النساء: 69). (التحرير والتنوير، ج 6، 284). 3 - ما جاء في قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} (سورة طه: 67 - 68) وفيه نقل ابن عاشور خلاف المفسرين في وجه خوف موسى عليه السلام فقال: " وإنما خاف موسى من أن يظهر أمر السحرة فيساوي ما يظهر على يديه من انقلاب عصاه ثعباناً، لأنه يكون قد ساواهم في عملهم ويكونون قد فاقوه بالكثرة، أو خشي أن يكون الله أراد استدراج السحرة مدّة فيملي لهم بظهور غلبهم عليه ومدّه لما تكون له العاقبة فخشي ذلك " - ورجّح ابن عاشور القول الأول بدلالة القرآن الكريم، وفي ذلك يقول -: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ =" والدليل على هذا قوله تعالى: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} فتأكيد الجملة بحرف التأكيد وتقويةُ تأكيدها بضمير الفصل وبالتعريف في (الأعلى) دليل على أن ما خامره من الخوف إنّما هو خوف ظهور السحرة عند العامة .. " (التحرير والتنوير، ج 8، ص 259). 4 - ما جاء في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} (سبأ: 31)، وفيه قول ابن عاشور: والظالمون المشركون، قال تعالى {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13)، (التحرير والتنوير، ج 11، ص 203). 5 - ما جاء في قوله تعالى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)} (الطور: 1 - 5) قال ابن عاشور: " وأما السقف المرفوع: ففسروه بالسماء لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} (الأنبياء: 32). (التحرير والتنوير، ج 13، ص 39).

المبحث الثاني الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره ما لم يرد دليل يصرفه عن ظاهره

المبحث الثاني الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره ما لم يرد دليل يصرفه عن ظاهره صورة القاعدة: إذا اختلف المفسرون في تفسير آية من كتاب الله فالأصل في نصوص القرآن أن تحمل على ظواهرها، وتفسَّر على حسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ولا يجوز أن يعدل بألفاظ الوحي عن ظاهرها إلا بدليل واضح يجب الرجوع إليه (¬1). شرح مفردات القاعدة: الظاهر لغة: قال ابن فارس: "الظاء والهاء والراء أصل صحيح واحد يدل على قوة وبروز، ومن ذلك ظهر الشيء يظهر ظهوراً فهو ظاهر" (¬2). وقال ابن منظور: " الظاهر: خلاف الباطن؛ ظهر يظهر ظهوراً , فهو ظاهر وظهير " (¬3). اصطلاحاً: هو مدلول النص المفهوم بمقتضى الخطاب العربي، أو المعنى الذي يسبق إلى فهم السامع من المعاني التي يحتملها اللفظ (¬4). والدليل لغة: قال ابن منظور: " الدليل: ما يستدل به , والدليل الدال , ¬

(¬1) انظر شرح الكوكب المنير / الفتوحي، ج 2، ص 147 , وأضواء البيان / الشنقيطي , ص 395. (¬2) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 618. (¬3) لسان العرب / ابن منظور، ج 8، ص 276، مادة: ظهر. (¬4) انظر الموافقات / الشاطبي، ج 3، ص 383، 391، ومنهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، عثمان علي حسن، ج 1، ص 398.

وقد دله على الطريق يدله دلالة ودلولة، والدليل والدليلي الذي يدلك" (¬1). واصطلاحاً: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري (¬2)، إما أن يكون عقلياً ظاهراً أو سمعياً ظاهراً. أما الدليل العقلي الظاهر، هو الذي يعلم به كل المراد، وأن الظاهر غير مراد، وذلك مثل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬3) يعلم المستمع أن الخالق لا يدخل في هذا العموم. وأما الأدلة السمعية فهي الدلالات في الكتاب والسنة التي تصرف بعض الظواهر، فإذا وجد الدليل جاز صرف اللفظ عن ظاهره. ولقد اشترط العلماء لصحة حمله على معنى معين خلاف الظَّاهر شروطاً: الأول: أن يكون المعنى المدعى موافقاً لوضع اللغة أو عرف الاستعمال وعادة صاحب الشرع، وكل تأويل خرج عن هذا فليس بصحيح. الثاني: أن يقوم الدليل على أن المراد بذلك اللفظ هو المعنى الذي حمل عليه، ويسلم ذلك من الدليل المعارض (¬4). ونصّ ابن عاشور في المقدمة الرابعة من تفسيره على هذه القاعدة حين ذكر طرائق المفسرين للقرآن، وعدّ ثلاث طرق ذكر منها: وجوب الاقتصار ¬

(¬1) لسان العرب / ابن منظور، ج 4، ص 394، مادة: دلل. (¬2) انظر شرح الكوكب المنير / الفتوحي، ج 1، ص 52. (¬3) سورة الزمر الآية (62). (¬4) انظر الموافقات / الشاطبي، ج 3، ص 383، 391، وإرشاد الفحول / الشوكاني، ج 2، ص 517.

أقوال العلماء في هذه القاعدة

على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه وأنه هو الأصل (¬1). ولكن مما يجب الإشارة إليه أن ابن عاشور قد خالف في هذه القاعدة أحياناً، وذلك بناء على عقيدته الأشعرية، وسيتضح ذلك من خلال الأمثلة التطبيقية. (¬2) أقوال العلماء في هذه القاعدة: قال ابن القيم: "إذا جاء النص وكان دالاً على الحكم وظاهرا فيه، يسقط الاجتهاد ولا يعتد به. إذ لا اجتهاد مع النص وهذا ما أقره السلف ". وحذّر ابن القيم من مخالفته فقال: " فإن من الناس من إذا استبان لهم في الكتاب والسنة، أو أقوال الصحابة خلاف ذلك، لم يلتفتوا إليه ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلدوه " (¬3). وقال ابن تيمية في الفتاوى: إنه يجوز باتفاق المسلمين أن تفسر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى ويصرف الكلام عن ظاهره؛ لأنه لا محذور في ذلك عند أحد من أهل السنة، وذلك لأن القرآن يدل عليه والسنة توافقه والسلف عليه؛ ولأنه تفسير للقرآن بالقرآن ليس تفسيراً له بالرأي، كما بين أن المحذور إنما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالة من الله ورسوله والسابقين (¬4). كما ذكر ابن تيمية في الفتاوى: إن لفظ الظاهر عند المتكلمين استعمل ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 42. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 9، ص 332 - 333. (¬3) إعلام الموقعين عن رب العالمين / ابن القيم، ج 2، ص 246. (¬4) انظر مجموع الفتاوى، ج 6، ص 21.

استعمالاً يخالف ما كان عليه السلف، وما أريد به في هذه القاعدة. فقال: "ولفظ الظاهر في عرف المتأخرين قد صار فيه اشتراك فإن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو من خصائص المخلوقين حتى يُشبّه الله بخلقه فهو ضال؛ بل يجب القطع بأن الله ليس كمثله شيئ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء , يعني أن موعود الله في الجنة من الذهب والحرير والخمر واللبن تخالف حقائقه حقائق الأمور الموجودة في الدنيا؛ فالله تعالى أبعد عن مشابهة مخلوقاته بما لا يدركه العباد ليست حقيقته كحقيقة شيء منها , وأما إن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو الظاهر في عرف سلف الأمة لا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يلحد في أسماء الله تعالى ولا يقرأ القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة , بل يجري ذلك على مااقتضته النصوص وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة فهذا مصيب في ذلك وهو الحق " (¬1). كما ذكر ابن جرير الطبري في تفسيره أنه لا يجوز ترك الظاهر المفهوم من الكلام إلى باطن لا دلالة على صحته. (¬2). وكذلك نصّ الرازي على هذه القاعدة في معرض تفسيره لبعض الآيات حيث قال: " إن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا إذا منع منه مانع " (¬3). كما أن هذه القاعدة من أكثر القواعد دوراناً في تفسير الشنقيطي، ومن ¬

(¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 13، ص 379. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 299. (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 549.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

أقواله القيّمة في ذلك قوله: " والتحقيق الذي لا شك فيه، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة علماء المسلمين، أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال بوجه من الوجوه، حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح " (¬1). الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - مثال غضب الله: قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬2). للمفسرين في معنى غضب الله تعالى أقوال من أبرزها: الأول: إن غضبُ الله على من غضب عليه من خلقه هو إحلالُ عقوبته بمن غَضبَ عليه، إمّا في دنياه، وإمّا في آخرته، كما وصف به نفسه جلّ ذكره في كتابه فقال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬3). وكما قال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} (¬4). الثاني: الغضب من الله معناه مفهوم، كالذي يعرف من معاني الغضب، غير ¬

(¬1) أضواء البيان / الشنقيطي، ج 7، ص 1591. (¬2) سورة الفاتحة، الآية (7). (¬3) سورة الزخرف، الآية (55). (¬4) سورة المائدة، الآية (60).

أنه - وإن كان كذلك من جهة الإثبات - فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم. لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة، على ما يعقل من جهة الإثبات، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي هي معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها (¬1). وهذان القولان ذكرهما ابن جرير في تفسيره، والقول الأخير الذي حكاه هو قول السلف، وأما الأول فهو قول المؤولة من أشعرية وغيرهم، ولم يرجح ابن جرير قول السلف على غير عادته. أما ابن عاشور فقد خالف القاعدة التي نص عليها حيث يقول في تفسير قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} " وإذْ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادُها إليه على الحقيقة , للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية، فقد وجب على المؤمن صَرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي، وطريقةُ أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 93.

من قبيل التمثيلية " (¬1). وما اختاره ابن عاشور هو قول الأشعرية , وقد سبقه إليه الطبري وابن عطية، والرازي والقرطبي، وأبو حيان، والشوكاني (¬2). في حين وافق قول الألوسي ما ذهب إليه سلف الأمة من إثبات هذه الصفة لله تعالى كما يليق بجلاله وعظمته (¬3). حجة من قال: إن غضب الله على من غضب عليه من خلقه، إحلالُ عقوبته بمن غَضبَ عليه: حجتهم في ذلك أن الغضب حالة تعرض للنفس عند حصول مالا يلائمها من ثوران وغيره، والله تعالى منزّه عن مشابهة المخلوقين. قال ابن عطية: "وغضب الله تعالى عبارة عن إظهاره عليهم محناً وعقوبات وذلة ونحو ذلك، مما يدل على إنه قد أبعدهم عن رحمته بعداً مؤكداً مبالغاً فيه " (¬4). وقال القرطبي: " ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة، فهو صفة ذات، وإرادة الله تعالى من صفات ذاته؛ أو نفس العقوبة " (¬5). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 197. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 77، والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 224، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 166، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 152، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 24. (¬3) روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 98. (¬4) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 77. (¬5) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 167.

قال ابن عاشور: " والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضبُ اللَّهِ. وحقيقة الغضب المعروف في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام، فالكيفيةُ سبب لطلب الانتقام وطلب الانتقام سبب لحصول الانتقام , والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ,ولكنها قد تكون من آثاره، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملتُه بالعُنف وبقطع الإحسان وبالأذى وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنَوا على القوانين العربية " (¬1). حجة من أثبت صفة الغضب لله تعالى: حجتهم في ذلك أن القاعدة المتبعة في أسماء الله وصفاته كما نص على ذلك أئمة السلف إثباتها كما أثبتها الله لنفسه من غير تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل. قال الألوسي: " وأنا أقول كما قال سلف الأمة هو صفة لله تعالى لائقة بجلال ذاته لا أعلم حقيقتها ولا كيف هي ,والعجز عن درك الإدراك إدراك " (¬2). وقال شارح العقيدة الواسطية الشيخ زيد فياض في "الروضة الندية": " ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضا والعداوة والولاية والحب، والبغض، ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 197. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 98.

ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى كما يقولون مثل ذلك في السمع، والبصر، والكلام، وسائر الصفات، ولا يقال أن الرضا إرادة الإحسان والغضب إرادة الانتقام فإنه نفي للصفة ... ويُقال لمن تأول الغضب والرضا لم تأولت ذلك؟ فلا بد أن يقول لأن الغضب غليان دم القلب والرضا والميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى، فيُقال له: غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب، ويقال له أيضاً، وكذلك الإرادة والمشيئة فينا ميل الحي إلى الشيء أو إلى ما يلائمه ويناسبه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذلك وإن امتنع هذا امتنع ذاك فإن قالوا: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد وإن كان كل منهما حقيقة قيل له: إن الغضب والرضا الذي يوصف به الله مخالف لما يوصف به العبد، وإن كلاً منهما حقيقة، فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات لم يتعين التأويل، بل يجب تركه، وصفات الله تليق به، وصفات العبد تليق به , بل لو قيل غضب ملك خازن النار وغضب غيره من الملائكة لم يجب أن يكون مماثلاً لكيفية غضب الآدميين، فغضب الله أولى " (¬1). القول الراجح: هو إثبات صفة الغضب لله تعالى كما يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه. ¬

(¬1) الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية / زيد بن فياض، ص 108 - 109.

قال الشيخ الهراس في شرح العقيدة الواسطية عند قول المصنف ابن تيمية {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬1) {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} (¬2): " تضمنت هذه الآيات إثبات بعض صفات الفعل لله من الرضا والغضب واللعن والكره والسخط والمقت والأسف، وهي عند أهل الحق صفات حقيقية لله عز وجل على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق فلا حجة للأشاعرة والمعتزلة على نفيها , ولكنهم ظنوا أن اتصاف الله عز وجل بما يلزمه أن تكون هذه الصفات فيه على نحو ما هي في المخلوق ,وهذا الظن الذي ظنوه في ربهم أرداهم فأوقعهم في حمأة النفي والتعطيل " (¬3). "وما ذكره ابن عاشور هنا وغيره من المفسرين من قبله تأويلات أشعرية قد خالف فيها القاعدة، والصواب إثبات الصفة لله تعالى على ما يليق بجلال الله تعالى، والداعي إلى تصورهم هذا في حق الله تعالى ليس إلا توهم التشبيه بغضب الآدمي. فالله تبارك وتعالى له غضب وحياء ومكر واستهزاء يليق بجلاله وعظمته، يغضب متى شاء ويرضى متى شاء كما يليق به فإرجاع هذه الصفة إلى الإرادة أو إيقاع الفعل خطأ ظاهر، وخلاف مذهب ¬

(¬1) سورة المجادلة، الآية (22). (¬2) سورة النساء، الآية (93). (¬3) شرح العقيدة الواسطية / محمد خليل هراس، ج 1، ص 111.

السلف الصالح " (¬1). 2 - مثال الإيمان في نسخ القبلة: قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬2). اختلف المفسرون في المراد بالإيمان من قوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} فمنهم من فسّره على ظاهره، ومنهم من فسره بالصلاة، وقد ذكر هذه الأقوال ابن عاشور في تفسيره فقال: " فإن فُسِّر الإيمان على ظاهره كان التقدير ليضيع حق إيمانكم حين لم تزلزله وسَاوس الشيطان عند الاستقبال إلى قبلة لا تَودونها، وإن فُسِّر الإيمانُ بالصلاة كان التقدير ما كان الله ليضيع فضل صلاتكم أو ثوابها " ورجّح ابن عاشور أن المراد بالإيمان في هذه الآية الصلاة وفي ذلك يقول: " وفي إطلاق اسم الإيمان على الصلاة تنويه بالصلاة لأنها أعظم أركان الإيمان (¬3). ثم ساق ابن عاشور سبب نزول هذه الآية، والتي تدل على أن المراد بالإيمان في هذه الآية الصلاة. ¬

(¬1) انظر المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات / محمد المغراوي، ج 2، ص 54. (¬2) سورة البقرة، الآية (143) (¬3) انظر التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 2، ص 25.

وترجيح ابن عاشور هنا لايعني مخالفته للقاعدة التي نصّ عليها، وذلك أن القاعدة ضابطها: أن الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره مالم يرد دليل يصرفه عن ظاهره وقد تظاهرت الأدلة على أن المراد بالإيمان في هذه الآية هو الصلاة. وكذلك رجّح الطبري أيضاً أن المراد بـ " إِيمَانَكُمْ " في هذه الآية صلاتكم وكذلك ابن عطية والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي (¬1). حجة من قال: إن المراد بـ " إِيمَانَكُمْ " صلاتكم: استدلوا على ذلك بما جاء في السنة في سبب نزول هذه الآية. روى الطبري بسنده عن السدي قال: " لما وُجِّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبَل المسجد الحرام، قال المسلمون: ليتَ شِعْرنا عن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم أو لا؟ فأنزل الله جل ثناؤه فيهم: "وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم قبَلَ بيت المقدس: يقول: إنّ تلك طاعة وهذه طاعة " (¬2). قال ابن عطية: " وسمى الصلاة إيماناً لما كانت صادرة عن الإيمان والتصديق ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 263، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 221، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 93، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 162، والبحر المحيط / أبوحيان، ج 1، ص 600، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 115، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 152، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 406، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 468، وأضواء البيان / الشنقيطي، ج 1، ص 40. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 23.

في وقت بيت المقدس وفي وقت التحويل، ولما كان الإيمان قطباً عليه تدور الأعمال وكان ثابتاً في حال التوجه هنا وهنا ذكره، إذ هو الأصل الذي به يرجع في الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهي " (¬1). قال القرطبي: " اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس " (¬2). وقال القاسمي: " وإنما عدل إلى لفظ الإيمان، الذي هو عام في الصلاة وغيرها ليفيدهم أنه لم يضع شيئاً مما عملوه ... ، وذكر بلفظ الخطاب دون الغائب، ليتناول الماضين والباقين (¬3). حجة من قال أن المراد بقوله بـ " إِيمَانَكُمْ " أي الإيمان على ظاهره: حجتهم في ذلك أن الأصل في اللفظ أن يطلق على ظاهره، قال ابن عاشور: " فإن فسر الإيمان على ظاهره كان التقدير ليضيع حق إيمانكم حين لم تزلزله وساوس الشيطان عند الاستقبال إلى قبلة لا تودونها " (¬4). وبذلك فسّره الزمخشري، وأبو السعود. قال الزمخشري: " أي ثباتكم على الإيمان وأنكم لم تزلّوا ولم ترتابوا، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب العظيم " (¬5). ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 221. (¬2) الجامع لأحكام القرآن القرطبي، ج 2، ص 162. (¬3) محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 468. (¬4) التحرير والتنوير، ج 2، ص 25. (¬5) الكشاف / الزمخشري، ج 1، ص 340.

وقال أبو السعود: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي ما صحَّ وما استقام له أن يُضيعَ ثباتَكم على الإيمان بل شكرَ صنيعَكم وأعدَّ لكم الثوابَ العظيمَ (¬1) ". القول الراجح: إن المراد بـ " إِيمَانَكُمْ " في هذه الآية صلاتكم، وهذا اختيار جميع المفسرين من بينهم ابن عاشور. وإنما عبَّر في هذه الآية عن الصلاة بالإيمان؛ لأنها العمدة والذي تصح به الأعمال، بل إن ذكر الإيمان هنا أولى من ذكر الصلاة لئلا يتوهم اندراج صلاة المنافقين إلى بيت المقدس (¬2) ومما يعضد هذه القول ويجليه القاعدة الترجيحية: (أن القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره)، وقد تنبه إلى ذلك الشنقيطي حيث يقول في تفسيره لهذه الآية: " إيمانكم أي صلاتكم بالبيت على الأصح، ويستروح ذلك قوله قبله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} (¬3) ولا سيما على القول بدلالة الاقتران " (¬4) ... . كما يعضد هذا القول أيضاً قاعدة ترجيحية أخرى وهي: (إذا صح سبب ¬

(¬1) إرشاد العقل السليم / أبو السعود، ج 1، ص 220. (¬2) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 600. (¬3) محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 468. (¬4) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 40.

النزول فهو مرجح لما وافقه) (¬1). وقد أخرج البخاري وابن جرير عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: " وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوَّل قِبل البيت رجال قُتلوا لم نَدْر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: " {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬2). ويشهد له ما أخرجه أحمد والترمذي عن ابن عباس قال لما وُجِّه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ ؟ فأنزل الله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} الآية. صححه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح (¬3). 3 - مثال إتيان الله تعالى: قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (¬4). اختلف المفسرون في صفة إتيان الله تبارك وتعالى الذي ورد في قوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله}. فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصَف به نفسه عز وجل من ¬

(¬1) قواعد الترجيح / حسين الحربي، ج 2، ص 241. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب " سيقول السفهاء من الناس ... "، ج 4، ص 1631، ح- 4216، والطبري في تفسيره، ج 2، ص 23. (¬3) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب التفسير، باب من سورة فاتحة الكتاب، ج 5، ص 208، ح - 2964، وأحمد في المسند، ج 1، ص 304، ح- 2776. (¬4) سورة البقرة، الآية (210).

المجيء والإتيان والنزول، وغيرُ جائز تكلُّف القول في ذلك لأحد إلا بخبر من الله جل جلاله، أو من رسول مرسل. وقال آخرون: معنى قوله: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله: هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمرُ الله (¬1). وهذه الأقوال ذكرها ابن عاشور في تفسيره وذكر قول السلف ولكن بخلط وضعف، ومال إلى التأويل، حيث يقول: "والإتيان حضور الذات في موضع من موضع آخر سبق حصولها فيه، وأسند الإتيان إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالاً في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان، وكان ذلك يستلزم التنقل والجسم والله منزه عنه، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي، فإن كان الكلام خبراً أو تهكماً فلا حاجة للتأويل، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيداً من الله لزم التأويل، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت، فلا بد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه " (¬2). وبقول ابن عاشور قال ابن عطية من قبله حيث تأول إتيان الله تعالى بحكمه وأمره ونهيه وعقابه، وكذلك الرازي فقد أخذ بمذهب المعطلة والمؤولة، ولم يتورع في إنكار هذه الصفة فحسب بل حكى إجماع العقلاء على نفيها. ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 398. (¬2) التحرير والتنوير، ج 2، ص 284.

كما ذهب إلى ذلك القرطبي، وأبو حيان، والشوكاني (¬1). أما الطبري، وابن كثير، والألوسي، والقاسمي أجمعين فقد أثبتوا لله تعالى هذه الصفة كما أثبتها لنفسه سبحانه وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). حجة من قال: إن إتيان الله حقيقي كما ينبغي لجلال الله وعظمته: حجتهم في ذلك إجماع أهل السنة على أن صفات الله تجري على ظاهرها مع نفي التشبيه والكيفية عنها. قال ابن القيم: " وبإثبات أفعاله وقيامها به تزول عنك جميع الإشكالات , وتصدق النصوص بعضها بعضاً، وتعلم مطابقتها للعقل الصريح , وإن أَنْكَرت حقيقة الأفعال وقيامها به سبحانه اضطرب عليك هذا الباب أعظم اضطراب، وبقيت حائراً في التوفيق بين النصوص وبين أصول النفاة، وهيهات لك بالتوفيق بين النقيضين، والجمع بين الضدين يوضحه أن الأوهام الباطلة والعقول الفاسدة لما فهمت من نزول الرب ومجيئه وإتيانه، وهبوطه، ودنوه، وهو أن يفرغ مكاناً ويشغل مكاناً، نفت حقيقة ذلك فوقعت في محذورين، محذور التشبيه ومحذور التعطيل ولو علمت هذه العقول الضعيفة أن نزوله سبحانه ومجيئه وإتيانه لا يشبه نزول المخلوق وإتيانه ومجيئه، كما أن سمعه وبصره وعلمه وحياته كذلك بل يده ¬

(¬1) انظر التفسير الكبير الرازي، ج 2، ص 356 - 357. المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 283، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 29، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 133، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 211. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 398، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 276، وروح المعاني / الألوسي، ج ص 493، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 127.

الكريمة، ووجهه الكريم كذلك، وإذا كان نزولاً ليس كمثله نزول، فكيف تنفى حقيقته، فإن لم تنف المعطلة حقيقة ذاته وصفاته، وأفعاله بالكلية، وإلا تناقضوا فإنهم أي معنى أثبتوه لزمهم في نفيه ما ألزموا به أهل السنة المثبتين لله ما أثبته لنفسه ولا يجدون إلى الفرق سبيلاً، فلو كان الرب سبحانه مماثلاً لخلقه لزمه في نزول خصائص نزولهم ضرورة ثبوت أحد المثلين للآخر " (¬1). وكذلك قال الألوسي في تفسير قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ}: " بالمعنى اللائق به جل شؤونه منزهاً عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات " (¬2). وقال عند تفسيره لقوله تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (¬3): " وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف عدم تأويل مثل ذلك بتقدير مضاف ونحوه، بل تفويض المراد منه إلى اللطيف الخبير مع الجزم بعدم إرادة الظاهر , ومنهم من يبقيه على الظاهر إلا أنه يدعي أن الإتيان الذي ينسب إليه تعالى ليس الإتيان الذي يتصف به الحادث، وحاصل ذلك أنه يقول بالظواهر وينفي اللوازم ويدعي أنها لوازم في الشاهد، وأين التراب من رب الأرباب " (¬4). وقال القاسمي: " وصفه تعالى بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في ¬

(¬1) الصواعق المرسلة / ابن القيم، ص 369. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 493. (¬3) سورة الأنعام، الآية (158). (¬4) روح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 307.

آيات أخر ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه أو صح عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -.والقول في جميع ذلك من جنس واحد، وهو مذهب السلف وأئمتها: إنهم يصفونه سبحانه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، والقول في صفاته كالقول في ذاته، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله فلو سأل سائل: كيف يجيء سبحانه أو كيف يأتي .. ؟ فليقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا أعلم كيف ذاته! فليقل له: وكذلك لا تعلم كيفية صفاته .. ! فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف " (¬1). حجة من قال: إن المراد يأتيهم حكم الله وأمره، أونهيه وعقابه: حجتهم في ذلك تمسكهم ببعض الشبه التي ألجأتهم إلى تأويل هذه الصفة. ومن ذلك ظنهم أن إثبات هذه الصفات فيها مشابهة الله تعالى بالمخلوقين. قال ابن عطية: " وهذا الكلام على كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف تقديره أمر ربك، أو بطش ربك، أو حساب ربك، وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل في حق الله تعالى " (¬2). وقال الرازي: " أجمع المعتبرون من العقلاء على أنه سبحانه وتعالى منزه عن المجيء والذهاب ويدل عليه وجوه: أحدها: ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ¬

(¬1) محاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 128. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية ج 2، ص 366.

ينفك عن الحركة والسكون، وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، فيلزم أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب يجب أن يكون محدثاً مخلوقاً، والإله القديم يستحيل أن يكون كذلك. وثانيها: إن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان، فأما أن يكون في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ وذلك باطل باتفاق العقلاء، وإما أن لا يكون كذلك بل يكون شيئاً كبيراً فيكون أحد جانبيه مغايراً للآخر فيكون مركباً من الأجزاء والأبعاض وكل ما كان مركباً، فإن ذلك المركب يكون مفتقراً في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب هو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محتاج في وجوده إلى المرجح والموجد، فكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق مسبوق بالعدم، والإله القديم يمتنع أن يكون كذلك. وثالثها: إن كل ما يصح عليه الانتقال من مكان إلى مكان فهو محدود ومنته فيكون مختصاً بمقدار معين، مع أنه كان يجوز في العقل وقوعه على مقدار أزيد منه أو أنقص فاختصاصه بذلك القدر المعين لا بد وأن يكون لترجيح مرجح، وتخصيص مخصص، وكل ما كان كذلك كان فعلاً لفاعل مختار، وكل ما كان كذلك فهو محدث مخلوق، فالإله القديم الأزلي يمتنع أن يكون كذلك. ورابعها: أنا متى جوزنا في الشيء الذي يصح عليه المجيء والذهاب أن يكون إلهاً قديماً أزلياً فحينئذ لا يمكننا أن نحكم بنفي الإلهية عن الشمس والقمر، وكان بعض الأذكياء من أصحابنا يقول: الشمس والقمر لا عيب فيهما يمنع من القول بإلهيتهما سوى أنهم جسم يجوز عليه الغيبة والحضور، فمن جوز المجيء

والذهاب على الله تعالى فلم لا يحكم بإلهية الشمس، وما الذي أوجب عليه الحكم بإثبات موجود آخر يزعم أنه إله. وخامسها: إن الله تعالى حكى عن الخليل عليه الصلاة والسلام أنه طعن في إلهية الكواكب والقمر والشمس بقوله: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (¬1) ولا معنى للأفول إلا الغيبة والحضور فمن جوز الغيبة والحضور على الله تعالى , فقد طعن في دليل الخليل عليه السلام، وكذب الله في تصديق الخليل عليه السلام في ذلك " (¬2). القول الراجح: الواجب أن نصف الله كما وصف به نفسه من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل فهو يأتي إتيانا يليق بجلاله وعظمته. وأما ما ذهب إليه ابن عاشور وغيره فقد خالف فيه القاعدة التي نصّ عليها في مواضع من تفسيره، والذي دعاه إلى ذلك عقيدته الأشعرية. قال السعدي: " وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، المثبتين للصفات الاختيارية، كالاستواء، والنزول، والمجيء، ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى، عن نفسه، أو أخبر بها عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته، من غير تشبيه ولا تحريف، خلافاً للمعطلة على اختلاف أنواعهم، من الجهمية، والمعتزلة، والأشعرية ونحوهم، ممن ينفي ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (76). (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 356 - 357.

هذه الصفات، ويتأول لأجلها الآيات بتأويلات ما أنزل الله عليها من سلطان، بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله، والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب، فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي، بل ولا دليل عقلي " (¬1). ومما يشهد لهذا الترجيح قاعدة: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له)، وقد جاءت الآثار عن الصحابة والتابعين كثيرة جداً تشهد بذلك منها: ما أورد الطبراني من حديث المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن مسروق عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، قيامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فَصْل القضاء، وينزل الله في ظُلَل من الغمام من العرش إلى الكرسي" (¬2). وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة يقول: والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام والله تبارك وتعالى يجيء فيما يشاء، وهي في بعض القراءة: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام، وهي كقوله: ويوم ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ السعدي، ج 1، ص 166. (¬2) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، ج 9، ص 357.

تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " (¬1). 4 - مثال الميزان: قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬2). اختلف العلماء في المراد بالموازين هنا هل هي حقيقة تؤخذ على ظاهرها من الآية أو لا؟ وقد ساق ابن عاشور أقوال المفسرين في هذه الآية فقال: " اختلف علماء السلف في المراد من الموازين هنا: أهو الحقيقةُ أم المجاز، فذهب الجمهور إلى أنه حقيقة , وأن الله يجعل في يوم الحشر موازين لوزن أعمال العباد تشبه الميزان المتعارف وذهب مجاهد وقتادة والضحّاك وروي عن ابن عباس أيضاً أن الميزان الواقع في القرآن مثَلٌ للعدل في الجزاء كقوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} (¬3). ورجّح ابن عاشور المعنى المجازي للميزان لأنه فيما يرى وإن أخذ الميزان على ظاهره إلا إنه عند وزن الأعمال لا بد أن يلجأ للتأويل، وهذا نابع من عقيدته الأشعرية، وإن كان قد قرر في تفسيره أن الميزان حقيقي حيث نقل كلام ابن العربي على ذلك وملخصه أنه لا يمتنع أن يكون الميزان والوزن على ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 1، ص 329. (¬2) سورة الأنبياء، الآية (47). (¬3) سورة الأعراف، الآية (8).

ظاهره وإنما يبقى النظر في كيفية وزن الأعمال وهي أعراض. (¬1). ثم علق بقوله: " وكلا القولين مقبول , والكلّ متفقون على أن أسماء أحوال الآخرة إنما هي تقريب لنا بمتعارفنا , والله تعالى قادر على كل شيء " .... إلى أن يقول: " ويظهر لي أن التزام صيغة جمع الموازين في الآيات الثلاث التي ذكر فيها الميزان يرجح أن المراد بالوزن فيها معناه المجازي، وأن بيانه بقوله " القسط" في هذه الآية يزيد ذلك ترجيحاً" (¬2). وكأن ابن عاشور فيما ظهر لي من تفسيره أنه متردد في تفسير هذه الآية فبعد أن ذكر ما يوافق قول جمهور المفسرين في الميزان نجده بعد ذلك يميل إلى القول الآخر. وهذا يعد مأخذاً لا سيما وقد ذكر القول الأول ضمن قاعدة الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره والذي اختاره ابن عاشور هو الذي مال إليه الطبري، والزمخشري. قال في «الكشاف»: «الموازين الحساب السوي والجزاء على الأعمال بالنّصفَة من غير أن يُظلم أحدٌ». أي فهو مستعار للعدل في الجزاء لمشابهته للميزان في ضبط العدل في المعاملة كقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} (¬3) ... . في حين رجّح معظم المفسرين ومن اعتمدتهم في هذا البحث أن الميزان ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 8، ص 84، والعواصم من القواصم / ابن العربي، ص 244 - 245 (¬2) التحرير والتنوير، ج 8، ص 84. (¬3) سورة الحديد، الآية (25).

في معناه الحقيقي (¬1). حجة أصحاب القول الأول الذي يقولون: إن الميزان حقيقي: حجتهم في ذلك ماجاء في السنة فيما روى الإمام أحمد، عن ابن مسعود: «أنه كان يجني سواكا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مم تضحكون"؟ قالوا: يا نبي الله! من دقة ساقيه. فقال: والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أحد» (¬2). وقال الطبري في تفسيره: " والصواب من القول في ذلك عندي القول الذي ذكرناه عن عمرو بن دينار، من أن ذلك هو"الميزان" المعروف الذي يوزن به، وأن الله جل ثناؤه يزن أعمال خلقه الحسنات منها والسيئات .. لتظاهر الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ما وُضِع في الميزان شيء أثقل من حسن الخُلق" (¬3)، ونحو ذلك من الأخبار التي تحقق أن ذلك ميزانٌ يوزن به الأعمال " (¬4). ¬

(¬1) انظر جامع البيان/ الطبري، ج 8، ص 147، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 85، والتفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 149، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 156، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 270، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 408 - 409، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 411، وروح المعاني/ الألوسي، ج 9، ص 53، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 208، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 848. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده، ج 1، ص 420، ح رقم: 3991، وصححه ابن حبان، ج 15، ص 546، ح رقم: 7069، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، ج 9، ص 289. (¬3) أخرجه الترمذي في سننه في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق، ج 4، ص 362 ح- 2003، عن أبي الدرداء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق خسن، فإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء))، ثم قال: ((وفي الباب عن عائشة، وأبي هريرة، وأنس، وأسامة بن شريك. هذا حديث حسن صحيح)) (¬4) انظر جامع البيان / الطبري، ج 8، 147.

وقال ابن عطية: " والميزان يوم القيامة: بعمود وكفتين توزن بهم الأعمال ليبين المحسوس المعروف عندهم" (¬1). وقال أبو العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية: " والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان " (¬2). ثم ذكر عدة روايات تدل على ذلك , منها: ما رواه الإمام أحمد من حديث أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله سيخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب. فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب. فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك. فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول: أحضروه. فيقول: يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة، (والبطاقة في كفة)، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم» (¬3). ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 85. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية / ابن أبي العز الحنفي، 417. (¬3) أخرجه أحمد في مسنده، ج 2، ص 213، ح رقم: 6994، وصححه ابن حبان، ج 1، ص 461، ح رقم: 225، والحاكم في المستدرك، ج 1، ص 710، ح رقم: 1937.

وقد وردت أحاديث أيضا بوزن الأعمال أنفسها، كما في صحيح مسلم، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان» (¬1). وفي الصحيح، وهو خاتمة كتاب البخاري، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» (¬2). قال ابن أبي العز الحنفي بعد أن ساق تلك الروايات: " فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام! ! فإن الله يقلب الأعراض أجساما " (¬3). كما صحح القرطبي هذا القول، وبين أن المراد بالميزان وزن أعمال العباد كما ورد به الخبر (¬4)، وكذلك أبو حيان بقوله: "قال جمهور الأمة والميزان له عمود وكفتان ولسان، وهو الذي دل عليه ظاهر القرآن والسنة " (¬5). وكذلك رجحه ابن كثير وساق الأدلة من السنة على ذلك (¬6) والشوكاني ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، ج 1، ص 203، ح - 223 (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح، ج 5، ص 2352، ح - 6043. (¬3) شرح العقيدة الطحاوية / ابن أبي العز الحنفي، ص 412. (¬4) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 156. (¬5) البحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 270. (¬6) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 408 - 409.

في فتح القدير وبين أن هذا القول هو الذي قامت عليه الأدلة (¬1). وكذلك الألوسي (¬2) والقاسمي (¬3). كما قرر الشنقيطي هذا القول ضمن هذه القاعدة، وهي أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه (¬4). حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن الميزان مجازي: حجتهم في ذلك أن الأعمال أعراض كما ذكر ابن عاشور وغيره. قال مجاهد: هذا مثَل، والمراد بالموازين العدل، ويروى مثله عن قتادة والضحاك والمعنى: بالوزن القسط بينهم في الأعمال فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه، .. ومن أحاطت سيئاته بحسناته فقد خفت موازينه قالوا وهذه الآية مثل قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} (¬5) , وهذا القول حكاه الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬6). وقال الزمخشري في الكشاف: " الموازين الحساب السوي والجزاء على الأعمال بالنصفة من غير أن يظلم أحد " (¬7). ¬

(¬1) فتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 411. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 9، ص 53. (¬3) محاسن التأويل القاسمي، ج 7، ص 208. (¬4) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 848. (¬5) سورة الأعراف، الآية (8). (¬6) أخرج رواياتهم الطبري ي تفسيره، ج 17، 42. (¬7) الكشاف/ الزمخشري، ج 4، ص 149.

القول الراجح: ومما تقدم تبين لنا أن القول الأول هو القول االراجح، وهو الذي اتفق عليه جميع المفسرين وفقاً للقاعدة الترجيحية الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره. كما أنه مما يؤيد هذا القول الراجح ويقويه القاعدة الترجيحية: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له). وقد تقدمت الأحاديث في ذلك. قال الزجاج: "والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان فإنه جاء في الخبر أنه ميزان له كفتان، من حيث ينقل أهل الثقة، فينبغي أن يقبل ذلك" (¬1). وقال القشيري معلقاً على كلام الزجاج: "وقد أحسن فيما قال، إذ لو حمل الميزان على هذا فليحمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة , وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل، وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصا " (¬2). قال ابن عطية: " وهذا القول أصح من الأول من جهات: أولها: أن ظواهر كتاب الله عز وجل تقتضيه وحديث الرسول عليه ¬

(¬1) معاني القرآن وإعرابه / الزجاج، ج 2، ص 319. (¬2) تفسير القشيري / القشيري، ج 2، ص 154.

السلام ينطق به، من ذلك: قوله لبعض الصحابة وقد قال له يا رسول الله! أين أجدك في القيامة؟ فقال: «اطلبني عند الحوض فإن لم تجدني فعند الميزان»، ولو لم يكن الميزان مرئياً محسوساً لما أحاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الطلب عنده. وجهة أخرى: أن النظر في الميزان والوزن والثقل والخفة المقترنات بالحساب لا يفسد شيء منه ولا تختل صحته، وإذا كان الأمر كذلك فلم نخرج من حقيقة اللفظ إلى مجازه دون علة؟ . وجهة ثالثة: وهي أن القول في الميزان هو من عقائد الشرع الذي لم يعرف إلا سمعاً، وإن فتحنا فيه باب المجاز غمرتنا أقوال الملحدة والزنادقة في أن الميزان والصراط والجنة والنار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظ يراد بها غير الظاهر. ... فينبغي أن يجري في هذه الألفاظ إلى حملها على حقائقها، وأما «الثقل» و «الخفة» فإن الآثار تظاهرت بأن صحائف الحسنات والسيئات توضع في كفتي الميزان فيحدث الله في الجهة التي يريد ثقلاً وخفة على نحو إحداثه ذلك في جسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقت نزول الوحي عليه " (¬1). أضف إلى ذلك أن هذا الترجيح تعضده قاعدة: (وجوب حمل نصوص الوحي على الحقيقة) , وذلك أنه إذا اختلف المفسرون في تفسير آية من كتاب الله بين الحقيقة والمجاز فإن حملها على الحقيقة هو الصواب. وعلى القول بجواز وقوع المجاز في القرآن فالذي يجب الجزم به واعتقاده ولا تجوز مخالفته، أن آيات الصفات ومسائل الغيب كالجنة والنار والميزان والصراط ونحوها، وأخبار الأمم البائدة وكل من ادعى فيها المجاز فهو في دعواه ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 377.

باطل" (¬1). أما قول من قال: إن الميزان يصرف عن معناه الحقيقي، فقد ردّه معظم العلماء. قال الرازي موجهاً حمل لفظ الميزان على العدل: " إن حمل هذا اللفظ على مجرد العدل مجاز وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز، لا سيما وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في هذا الباب" (¬2). 5 - مثال غيظ النار: قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (¬3) زعم بعض المفسرين أن النار لا تبصر، ولا تتكلم، ولا تغتاظ. وأن ذلك كله من قبيل المجاز، أو أن الذي يفعل ذلك خزنتها، في حين أجمع من يعتد به من أهل العلم على أن النصوص من الكتاب والسنة، لا يجوز صرفها عن ظاهرها إلا لدليل يجب الرجوع إليه، كما هو معلوم في محله (¬4) واحتمل ابن عاشور كلا المعنيين الحقيقي والمجازي حيث خالف القاعدة التي نصّ عليها في تفسيره، وذلك نابع من عقيدته الأشعرية، وهذا قوله: " وإسناد ¬

(¬1) انظر قواعد الترجيح / حسين الحربي، ج 2، ص 389. (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 149. (¬3) سورة الفرقان، الآية (12). (¬4) انظر جامع البيان / الطبري، ج 18، ص 221، والتفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 436، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 13، ص 11، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 288، وروح المعاني / الألوسي، ج 10، ص 431، وأضواء البيان /الشنقيطي، ص 1306.

الرؤية إلى النار استعارة والمعنى: إذا سيقوا إليها فكانوا من النار بمكان ما يرى الرائي من وصل إليه سمعوا لها تغيظاً وزفيراً من مكان بعيد، ويجوز أن يكون معنى: (رأتهم) رآهم ملائكتها أطلقوا منافذها فانطلقت ألسنتها بأصوات اللهيب كأصوات المتغيظ وزفيره فيكون إسناد الرؤية إلى جهنم مجازاً عقلياً ... ويجوز أن يكون الله قد خلق لجهنم إدراكاً للمرئيات بحيث تشتد أحوالها عند انطباع المرئيات فيها فتضطرب وتفيض وتتهيأ لالتهام بعثها فتحصل منها أصوات التغيظ والزفير فيكون إسناد الرؤية والتغيظ والزفير حقيقة، وأمور العالم الأخرى لا تقاس على الأحوال المتعارفة في الدنيا " (¬1). وممن ذهب إلى ما ذهب إليه ابن عاشور أبو حيان والشوكاني والقاسمي حيث احتملوا كلا المعنيين الحقيقي والمجازي (¬2). وكذلك ابن عطية إلا أنه ساق أقوالاً تدل على أنها تقتضي الحقيقة، فقد قال: " ولفظ (رأتهم) يحتمل الحقيقة ويحتمل المجاز على معنى صارت منهم على قدر ما يرى الرائي من البعد إلا أنه ورد حديث يقتضي الحقيقة ويحتمل المجاز، في هذا ذكر الطبري وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعده من النار»، فقيل: يا رسول الله! أو لجهنم عينان؟ فقال: «اقرؤوا إن شتئم {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} الآية، وروي ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 9، ص 333. (¬2) البحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 445، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 64، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 437.

في بعض الآثار أن البعد الذي تراهم منه مسيرة خمسمائة سنة " (¬1) وذهب الطبري والرازي والقرطبي وابن كثير والألوسي إلى القول بظاهر الآية أي أنها تغتاظ وتزفر حقيقة (¬2). حجة من قال: إن النار لا تبصر ولا تغتاظ: حجتهم في ذلك ذكرها الرازي في تفسيره فقال: " وهؤلاء المعتزلة ليس لهم حجة في هذا الباب إلا استقراء العادات، .. وقد احتاجوا إلى تأويل هذه الآية وذكروا فيها وجوهاً: أحدها: قالوا معنى رأتهم ظهرت لهم , من قولهم: " دورهم تتراءى وتتناظر"، وقال عليه السلام: «إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقابلان لما يجب على المؤمن من مجانبة الكافر والمشرك، ويقال دور فلان متناظرة، أي متقابلة. وثانيها: أن النار لشدة اضطرامها وغليانها ,صارت ترى الكفار وتطلبهم وتتغيظ عليهم. وثالثها: قال الجبائي: إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة الموكلة بتعذيب أهل النار، لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار فهو كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬3) أراد أهلها (¬4). ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 202. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 18، ص 221، والتفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 437، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 13، ص 11، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 289، وروح المعاني / الألوسي، ج 9، ص 431. (¬3) سورة يوسف، الآية (82). (¬4) التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 436.

حجة من قال: إن النار تبصر وتغتاظ وتزفر: حجتهم في ذلك أنه يجب إجراء الآية على ظاهرها. قال الرازي: " فالنار على ماهي عليه يجوز أن يخلق الله الحياة والعقل والنطق فيها، وأنه يجب إجراء الآية على الظاهر، لأنه لا امتناع في أن تكون النار حية رائية مغتاظة على الكفار " (¬1). وقال الألوسي: " وإسناد الرؤية إليها حقيقة على ما هو الظاهر وكذا نسبة التغيظ والزفير فيما بعد إذ لا امتناع في أن يخلق الله تعالى النار حية مغتاظة زافرة على الكفار فلا حاجة إلى تأويل الظواهر الدالة على أن لها إدراكاً كهذه الآية " (¬2). قال ابن عاشور: " ويجوز أن يكون الله قد خلق لجهنم إدراكاً للمرئيات بحيث تشتد أحوالها عند انطباع المرئيات فيها فتضطرب وتفيض وتتهيأ لالتهام بعثها فتحصل منها أصوات التغيظ والزفير، فيكون إسناد الرؤية والتغيظ والزفير حقيقة، وأمور العالم الأخرى لا تقاس على الأحوال المتعارفة في الدنيا " (¬3). القول الراجح: إن النار تبصر وتغتاظ وتزفر حقيقة، وذلك عملاً بموجب القاعدة الترجيحية: الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره. ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 437. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 9، ص 431. (¬3) التحرير والتنوير، ج 9، ص 333.

قال الشنقيطي: " اعلم أن التحقيق أن النار تبصر الكفار يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (¬1) ورؤيتها إياهم من مكان بعيد، تدل على بصرها كما لا يخفى، كما أن النار تتكلم كما صرح الله به في قوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (¬2) والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، كحديث محاجة النار مع الجنة، وكحديث اشتكائها إلى ربها، فأذن لها في نفسين، ونحو ذلك، ويكفي في ذلك أن الله جل وعلا صرح في هذه الآية، أنها تراهم وأن لها تغيظاً على الكفار، وأنها تقول: هل من مزيد " (¬3). وأما قول من قال أن النار لا تبصر ولا تغتاظ فهذا قول باطل، وقد بيّن بطلانه عدد من المفسرين قال الشنقيطي: " واعلم أن ما يزعمه كثير من المفسرين وغيرهم، من المنتسبين للعلم من أن النار لا تبصر، ولا تتكلم، ولا تغتاظ. وأن ذلك كله من قبيل المجاز، أو أن الذي يفعل ذلك خزنتها كله باطل ولا معول عليه لمخالفته نصوص الوحي الصحيحة بلا مستند، والحق هو ما ذكرنا " (¬4). ومما يؤيد هذا الترجيح ويقويه القاعدة الترجيحية التالية: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له على ما خالفه) (¬5). ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية (12). (¬2) سورة ق , الآية (30). (¬3) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1307. (¬4) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1307. (¬5) انظر قواعد الترجيح / حسين الحربي، ج 2، ص 206.

قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: «إن القول بأن النار تراهم هو الأصح، ثم قال لما رُوِيَ مرفوعاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كَذَبَ عليَّ متعمداً فليتبوَّأ بين عيني جهنم مقعداً» قيل يا رسول الله! أو لَها عينان؟ قال: «أو ما سمعتم الله عزَّ وجلَّ يقول: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (¬1) وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق فيقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد , وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر, وبالمصورين» , قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح " (¬2). ¬

(¬1) أخرجه الطبري في تفسيره، ج 18، ص 221، وابن أبي حاتم، ج 6، ص 423 عن خالد بن دريك، عن رجل من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وخالد بن دريك؛ قال الحافظ بن حجر في التقريب، ج 1، ص 210: ثقة يرسل , وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ج 8، ص 131، ح- 7599. قال الهيثمي: " رواه الطبراني في الكبير، وفيه الأحوص بن حكيم ضعفه النسائي وغيره، ووثقه العجلي ويحيى بن سعيد القطان في رواية، ورواه عن الأحوص محمد بن الفضيل بن عطية وهو ضعيف ". (مجمع الزوائد / الهيثمي، ج 1، ص 148). (¬2) أخرجه الترمذي في سننه، ج 4، ص 701، ح- 2574. ونظائر هذه الأمثلة كثيرة جداً في تفسيره , منها: 1 - ما جاء في قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} (المؤمنون: 105)، وفيه قول ابن عاشور: " والآيات: آيات القرآن بقرينة قوله: {تُتْلَى عَلَيْكُمْ}، وقوله: {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} حملاً على ظاهر اللفظ " (التحرير والتنوير، ج 9، ص 127). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 2 - قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ} (النور: 61)، وفيه قال ابن عاشور: " اختلف في أن قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الخ منفصل عن قوله: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وأنه في غرض غير غرض الأكل في البيوت، أي فيكون من تمام آية الاستيذان، أو هو متصل بما بعده في غرض واحد. فقال بالأول الحسن وجابر بن زيد وهو مختار الجبائي وابن عطية وابن العربي وأبي حيان. وقال ابن عطية: إنه ظاهر الآية. وهو الذي نختاره تفادياً من التكلف الذي ذكره مخالفوهم لبيان اتصاله بما بعده في بيان وجه الرخصة لهؤلاء الثلاثة الأصناف في الطعام في البيوت المذكورة .. " (التحرير والتنوير، ج 9، ص 299). 3 - ما جاء في قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1)، وفيه قوله: " والقلم المقسم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون، أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلا الله. وعن مجاهد وقتادة: أنه القلم الذي في قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 4 - 5)، ورجّح ابن عاشور أنه القلم المعروف فقال -: " وهذا هو المناسب لقوله " وما يسطرون" في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفون إلا القلم " (التحرير والتنوير، ج 14، ص 60). 4 - ماجاء في قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} (القيامة: 29) وفيه قول ابن عاشور: " (والتفت الساق بالساق) إن حمل على ظاهره فالمعنى التفاف ساقي المحتضر بعد موته إذ تلف الأكفان على ساقيه ويقرن بينهما في ثوب الكفن فكل ساق منها ملتفة صحبة الساق الأخرى، ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا فإن العرب يستعملون الساق مثلا في الشدة ". (التحرير =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والتنوير، ج 14، ص 359). 5 - ما جاء في قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} (النبأ: 24)، وفيها فسّر ابن عاشور البرد بضد الحر خلافاً لمن فسّره بالنوم فقال: " والبرد: ضد الحر، وهو تنفيس للذين عذابهم الحر، أي لا يغاثون بنسيم بارد، والبرد ألذُّ ما يطلبه المحرور. وعن مجاهد والسدي وأبي عبيدة ونفر قليل تفسير البرد بالنوم وأنشدوا شاهدين غير واضحين، وأيا ما كان فحمل الآية عليه تكلف لا داعي له " (التحرير والتنوير، ج 15، ص 37).

المبحث الثالث الأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن

المبحث الثالث الأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن صورة القاعدة: إذا كان المقام صالحا لإرادة المعنى الحقيقي والمجازي، بأن لم يكن المعنى الحقيقي قاطعاً، ولم يكن الصارف عن الحقيقي قاطعا في الصرف، فإنه من الأولى العمل بكلا القولين. شرح مفردات القاعدة: الحقيقة لغة: من فعيلة، من حق الشيء بمعنى ثبت، وأحققت الشيء أي أوجبته، وتحقق عنده الخبر أي صح (¬1). اصطلاحاً: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، فيشمل هذا الوضع: اللغوي والشرعي والعرفي والاصطلاحي (¬2). المجاز لغة: هو مفعول من الجواز الذي هو التعدي، كما يقال جزت موضع كذا أي جاوزته وتعديته، أو من الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع، وهو راجع إلى الأول لأن الذي لا يكون واجباً ولا ممتنعاً، يكون متردداً بين الوجود والعدم، فكأنه ينتقل من هذا إلى هذا (¬3). ¬

(¬1) انظر لسان العرب، ج 3، ص 258، مادة: حقق. (¬2) إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 1، ص 94. (¬3) انظر لسان العرب / ابن منظور، ج 2، ص 418، مادة: جوز، والمحصول في علم أصول الفقه / الرازي، ج 1، ص 293.

اصطلاحاً: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة (¬1). وقد اختلف علماء السلف والخلف جميعاً في وقوع المجاز في القرآن على قولين: القول الأول: جواز وقوع المجاز في القرآن، وقد ذهب إليه بعض الفرق، مثل المعتزلة والجهمية والأشاعرة، وكذلك بعض علماء أهل السنة والجماعة. ومن أوائل من قال بالمجاز شيخ العربية سيبويه، فقد قال في كلامه على قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (¬2): فالليل والنهار لا يمكران ولكن الذي يمكر فيهما هو الناس وهذا على سبيل التجوز (¬3). وأول من عرف عنه أنه تكلم بهذا المصطلح (المجاز) أبو عبيد معمر بن المثنى. وقال ابن قدامة: " من منعه - أي المجاز في القرآن- فقد كابر، ومن سلم وقال لا أسميه مجازاً، فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه " (¬4). ثم ابن قتيبة وهو من أوائل من عالجه بوصفه مصطلحا علميا بلاغيا وذلك في كتابه (تأويل مشكل القرآن) فقد قال: "المجاز أسلوب من أساليب العرب تعبر به عن المعاني"، وقال أيضا: "وقد تبين لمن عرف اللغة أن القول يقع فيه المجاز"، ¬

(¬1) إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 1، ص 95. (¬2) سورة سبأ، الآية (33). (¬3) الكتاب / سيبويه، ج 1، ص 176. (¬4) روضة الناظر وجنة المناظر / ابن قدامة المقدسي، ج 1، ص 64.

ومما قال أيضا: "من أنكر المجاز شبهتهم أن ذلك دربا من الكذب فلو أُخِذ بكلامهم هذا لكان أكثر كلامنا كذبا" (¬1). المذهب الثاني: منع المجاز في القرآن، وقد ذهب إلى هذا القول الظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وأبو إسحاق الإسفراييني، وقالوا إن التقسيم في الكلام إلى حقيقة ومجاز كلام محدث. ومنع هؤلاء العلماء جميعاً المجاز، لأن معناه: صرف الكلام عن حقيقته، الذي قد يكون وسيلة للتأويل والانحراف في تفسير كلام الله عز وجل عن مراده، إلا أن المتأمل لأقوال بعض المانعين نجدهم قيدوا استعمال المجاز في القرآن بشروط، كتعذر حمل الكلام على الحقيقة وغيرها (¬2)، كما قال الرازي: " وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام عن المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة " (¬3). ووضع شرطين للجواز بقول المجاز وهما: 1 - أن يكون منقولاً عن معنى وضع اللفظ بإزائه. 2 - أن يكون النقل لمناسبة بين الأصل والفرع (¬4). ¬

(¬1) تأويل مشكل القرآن / ابن قتيبة، ص 169 - 171. (¬2) انظر مجموع الفتاوى، ج 5، ص 16، وبدائع الفوائد / ابن القيم، ج 3، ص 533، والإتقان/ السيوطي، ج 2، ص 77. (¬3) التفسير الكبير / الفخر الرازي، ج 10، ص 614. (¬4) انظر نهاية الإيجاز في دراسة الإعجاز / الرازي، ص 81.

وأضاف ابن القيم شرطين آخرين هما: 1 - بيان امتناع إرادة الحقيقة. 2 - الجواب عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة. ثم قال: " فمن لم يقم بهذه الأمور الأربعة كانت دعواه صرف اللفظ عن ظاهره دعوى باطلة " (¬1). القول الراجح في المجاز: وقوع المجاز في القرآن، وأظن المسألة والله أعلم كما قال ابن قدامة لفظية، لا تأثير لها في المعنى. وقال السيوطي: " وأما المجاز فالجمهور أيضا على وقوعه فيه , وأنكره جماعة منهم الظاهرية وابن القاص من الشافعية (¬2) وابن خويز منداد من المالكية (¬3) ¬

(¬1) بدائع الفوائد / ابن القيم، ج 4، ص 1009. (¬2) هو أحمد بن أحمد بن عبد العزيز بن القاص أبو جعفر بن أبي نصر الفقيه المقرئ الزاهد، قرأ القرآن بالروايات على أبي بكر أحمد بن علي بن بردان الحلواني وعلى أبي الخير المبارك بن الحسين الغسال، وقرأ المذهب الشافعي على القاضي أبي سعد، كان أحد عباد الله الصالحين منقطعاً إلى الطاعة مشتغلاً بالزهد والعبادة ملازماً لمسجده لا يخرج منه إلا إلى صلاة الجمعة منقطعاً أو جنازة، ولد سنة ست وتسعين وأربع مائة , وتوفي سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة. (الوافي بالوفيات / صلاح الدين الصفدي، ج 6، ص 226). (¬3) محمد بن علي بن إسحاق بن خويز منداد ويقال خوازمنداد الفقيه المالكي البصري يكنى أبا عبد الله، وصنف كتبا كثيرة منها كتابه الكبير في الخلاف، وكتابه في أصول الفقه، وكتابه في أحكام القرآن، وعنده شواذ عن مالك واختيارات وتأويلات لم يعرج عليها حذاق المذهب، ولم يكن بالجيد النظر ولا بالقوي في الفقه، وطعن ابن عبد البر فيه أيضا, وكان في أواخر المائة الرابعة. (لسان الميزان / الذهبي , ج 5، ص 291).

وشبهتهم: أن المجاز أخو الكذب , والقرآن منزه عنه , وأن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير , وذلك محال على الله تعالى، وهذه شبهة باطلة , ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شطر الحسن فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة , ولو وجب خلو القرآن من المجاز وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتثنية القصص وغيرها " (¬1). وقال الشوكاني: "المجاز واقع في لغة العرب عند جمهور أهل العلم" (¬2). أما عن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية في المجاز فما نقل عنه مضطرب في هذا الباب, أو هو قال به في فترة من حياته ثم رجع عنه نظراً لاستفحال أمر المعطلة والمؤولة الذين دخلوا من باب المجاز على آيات الصفات وعطلوها، وقد ورد عن شيخ الإسلام ما يثبت القول به , وإن لم ينص على اسمه. ومما تقدم تبين لنا أن الدافع لإنكار من أنكر المجاز هو امتداد القول به لآيات الصفات ومن ثم وقع الخبط والخلط والضلال في ذلك، مع أن المذهب الحق هو أنها خارجة عن ذلك , فإذا استثني ذلك يرتفع الخلاف ويصبح المجاز أسلوبا سائغا من أساليب العربية، سواء سمي مجازا أو أسلوبا من أساليب العرب في بيانها , فيكون الخلاف في ذلك خلافا في اللفظ والاصطلاح لا في التعبير والتطبيق, وكونه يأخذ اسم المجاز أضبط وأدق وأدعى لمعرفة مجاريه وأوديته ودواعي القول به ... . ¬

(¬1) الإتقان / السيوطي، ج 2، ص 77. (¬2) إرشاد الفحول/ الشوكاني، ج 1، ص 99.

ولقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة، وبين في المقدمة التاسعة من تفسيره أهمية البلاغة ودورها في أساليب العرب، وأن القرآن من بلاغته تحتمل ألفاظه الكثير من المعاني، ما لم يمنع من ذلك مانع شرعي أو لغوي، وأن اللغة العربية تتمتع بمميزات جعلتها لغة القرآن، ومنها أنها أوفر اللغات مادة وأقلها حروفاً، وأفصحها لهجة، وأكثرها تصرفاً في الدلالة على غرض المتكلم، ثم أشار إلى أنه يجب أن يحمل المشترك في القرآن على ما يحتمله من المعاني سواء المعاني الحقيقية أم المجازية (¬1) حيث يقول: " فمختلف المحامل التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته من اشتراك وحقيقة ومجاز وصريح وكناية وبديع ووصل ووقف إذا لم تفض إلى خلاف المقصود من السياق يجب حمل الكلام على جميعها "- إلى أن يقول -: " وقد كان المفسرون غافلين عن تأصيل هذا الأصل , فلذلك كان الذي يرجح معنى من المعاني التي يحتملها لفظ آية من القرآن يجعل غير ذلك المعنى ملغى , ونحن لا نتابعهم على ذلك بل نرى المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع الكلام العربي البليغ، معانيَ في تفسير الآية , فنحن في تفسيرنا هذا إذا ذكرنا معنيين فصاعداً فذلك على هذا القانون , وإذا تركنا معنى مما حمل بعض المفسرين عليه في آيات من القرآن فليس تركنا إياه دالاً على إبطاله، ولكن قد يكون ذلك لترجح غيره، وقد يكون اكتفاء بذكره في تفاسير أخرى تجنبا للإطالة " (¬2). ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 97. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 97 - 100.

أمثلة تطبيقية على القاعدة

أمثلة تطبيقية على القاعدة: 1 - مثال إيذاء الكافرين: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (¬1). اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ}، فمنهم من حمله على المعنى الحقيقي، ومنهم من حمله على المعنى المجازي، وقد ساق ابن عاشور هذين الاحتمالين في تفسيره فقال: " وقوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} يجوز أن يكون فعل " دع " مراداً به أن لا يعاقبهم فيكون " دع " مستعملاً في حقيقته وتكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي دع أذاك إياهم. ويجوز أن يكون " دع " مستعملاً مجازاً في عدم الاكتراث وعدم الاغتمام، فيما يقولونه مما يؤذي ويكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى فاعله، أي لا تكترث بما يصدر منهم من أذىً إليك فإنك أجلّ من الاهتمام بذلك، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. وأكثر المفسرين اقتصروا على هذا الاحتمال الأخير" (¬2). إلى أن ذكر أن اللفظ يحتمل المعنيين، فقال: " والوجه: الحمل على كلا المعنيين، فيكون الأمر بترك أذاهم صادقاً بالإِعراض عما يؤذون به النبي - صلى الله عليه وسلم - من ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية (48). (¬2) التحرير والتنوير، ج 11، ص 58.

أقوالهم، وصادقاً بالكف عن الإِضرار بهم، أي أن يترفع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مؤاخذتهم على ما يصدر منهم في شأنه، وهذا إعراض عن أذى خاص لا عموم له، فهو بمنزلة المعرف بلام العهد، فليست آيات القتال بناسخة له" (¬1). وقد احتمل هذين المعنيين من قبل ابن عاشور كل من ابن عطية، والقرطبي، والشوكاني والقاسمي (¬2)، وهم بناء على ذلك يرون هم وأصحاب القول الأول أن الآية منسوخة بآية السيف. وذهب كل من الطبري، والألوسي (¬3) إلى أن المراد بالآية المعنى المجازي أي أعرض عن أقوالهم وما يؤذونك، ولا تشتغل به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل، وهذا تأويل مجاهد أيضاً (¬4). في حين يرى كل من الرازي وأبو حيان وابن كثيرأن المراد بالآية المعنى الحقيقي (¬5) أي أمره تبارك وتعالى بترك معاقبتهم، والصفح عن زللهم، فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول. ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 58. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 390، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 14، ص 196، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 288، محاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 678، والتحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 11، ص 58. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 22، ص 25، والتفسير الكبير /الرازي، ج 9، ص 174، وروح المعاني /الألوسي، ج 11، ص 224. (¬4) انظر تفسير مجاهد، ص 550، وأخرج قول مجاهد الطبري في تفسيره، ج 22، ص 25. (¬5) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 174، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 230، وتفسير ابن كثير، ج 11، ص 187 ..

وهم يرون أن هذه الآية منسوخة , وناسخها آية السيف (¬1). كما اختار هذا القول الشنقيطي، في معرض تفسيره لقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (¬2) حيث قال: " وهو الظاهر في معنى الآية - أنه كان في أول الأمر مأموراً بالإعراض عن المشركين، ثم نسخ ذلك بآية السيف , ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (¬3) , وقوله: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} إلى غير ذلك من الآيات " (¬4). حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المراد من قوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} تحمل على المعنى الحقيقي: وهم الذين يرون أن المعنى لا تعاقبهم ولا تجازيهم، وهم يرون أن هذه الآية منسوخة، لأن هناك الكثير من المواقف في سيرته - صلى الله عليه وسلم - تدل على أنه قد ضرب على أيدي الكافرين بيد من حديد وقاتلهم ,ولذلك نرى أن معظم من رجّح هذا القول ذهب إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف ومنهم الزجاج (¬5)، ¬

(¬1) اتفق العلماء والمفسرون على تسمية الآية الخامسة من سورة التوبة بآية السيف، (¬2) سورة الحجر، الآية (94). (¬3) سورة الأنعام، الآية (106). (¬4) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 437. (¬5) انظر معاني القرآن وإعرابه / الزجاج، ج 4، ص 231.

وابن حزم في الناسخ والمنسوخ (¬1)، والكرمي كذلك (¬2)، والمقري أيضاً (¬3)، وابن الجوزي في نواسخ القرآن (¬4). والذي يظهر لي والله أعلم أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة؛ لأن الأصل عدم النسخ مالم يقم دليل صحيح صريح على خلاف ذلك، وحيث إنه لا دليل على ذلك , فإن الآية محكمة. ويبقى موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعدائه مرتبط بحسب الأحوال والأشخاص. حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن قوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} تحمل على المعنى المجازي: الذي يظهر لي والله أعلم أن أصحاب هذا القول رأوا في هذا المعنى تسلية للرسول صلى الله عليه ليصبر على أذاهم. قال الطبري: " وأعرض عن أذاهم لك، واصبر عليه " (¬5). وقال الألوسي: " أي لا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارك إياهم واصبر على ما ينالك منهم " (¬6). وقد يكون مستندهم في ذلك اللغة لأن معنى "دع" في اللغة يحتمل هذا ¬

(¬1) الناسخ والمنسوخ / ابن حزم، ج 1، ص 51. (¬2) الناسخ والمنسوخ / الكرمي، ج 1، ص 167، (¬3) الناسخ والمنسوخ / المقري، ج 1/ص 144. (¬4) الناسخ والمنسوخ / ابن الجوزي، ج 1، ص 209. (¬5) جامع البيان عن / الطبري، ج 22، ص 25. (¬6) روح المعاني / الألوسي، ج 11، ص 224.

المعنى .. قال ابن منظور في اللسان: "دع كلمة يدعى بها للعاثر في معنى قم، وانتعش، واسلم" (¬1). القول الراجح: إن كلا القولين محتمل كما ذهب إليه عدد من المفسرين منهم ابن عطية والقرطبي، الشوكاني، والقاسمي كما تقدم، وهو الذي رجحه ابن عاشور بناء على هذه القاعدة فهو يرى أن كلا المعنيين محتمل، وأن الفعل "دعهم"مستعملاً في حقيقته ومجازه. قال ابن جزي في التسهيل: " ودع أذاهم يحتمل وجهين أحدهما لا تؤذهم فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين بآية السيف والآخر احتمل إذايتهم لك وأعرض عن أقوالهم , فالمصدر على هذا مضاف للفاعل " (¬2) ولكن هناك اعتراض قد يورده بعضهم وهو أن بين هذه الآية والآية في سورة الأنفال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} (¬3) تناقضا وتعارضا؛ إذ الآية الأولى تطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريض المؤمنين وحثهم على القتال , بل والتجلد لقتالهم , بينما الآية الثانية تطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - يطيع الكافرين والمنافقين , وأن يدع أذاهم ولا يقابلهم بمثله ويكفيه التوكل على الله , ¬

(¬1) لسان العرب / ابن منظور، ج 4، ص 355، مادة: دعع. (¬2) التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي، ج 3، ص 258. (¬3) سورة الأنفال، الآية (65).

فهو حسبه وكفى بالله وكيلاً ,فكيف يأمره في الأولى التحريض على قتالهم بهذا الجَلَد ,ويأمره في الثانية بترك آذاهم , فظنوا هذا تناقضاً , فطاروا به فرحاً, واتخذوه حجراً. والجواب: ليس هناك أي تضارب , فالكافرون والمنافقون كانوا يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بألسنتهم وباختلاق أقوال عليه , فأمره الله بأن يدع أذاهم له , فهو سبحانه وتعالى يتولى رد كيدهم في نحرهم , ودحض افتراءاتهم على رسوله , فكفى بالله وكيلاً , فأمره في آية الأحزاب أن لا يقابل اللسان بالسنان , بينما أَمَرَه في شأن الكفار المحاربين أن يحرض المؤمنين على قتالهم , والتجلد لهم , فأمره الله سبحانه في آية الأنفال بمقابلة الَسَّنان بالسَّنان, فالحكمة تقتضي وضع السيف في موضعه واللين في موضعه , فلا تعارض إذن بين الآيتين (¬1). قلت: وما ذهب إليه ابن عاشور هو القول الراجح من أن الآية غير منسوخة , وأنه يمكننا الأخذ بكلا القولين: الصبر وكف الأذى، ولكن يبقى كف الأذى وعدم معاقبتهم راجع للأحوال، وهذا الترجيح أي الأخذ بكلا القولين تعضده قاعدة عمل بها المفسرون في تفاسيرهم وهي: (أنه إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها) (¬2). ¬

(¬1) الطعن في القرآن والرد على الطاعنين / عبد المحسن زبن المطيري في القرن الرابع الهجري، ج 1، ص 52. (¬2) انظر عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل في تفسير القرآن / أحمد سلامة أبو الفتوح، ص 150.

2 - مثال هوْي النجوم: قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} (¬1). اختلف المفسرون في معنى قوله هوى على قولين: الأول: بمعنى غاب. والثاني: إذا سقط منه شهاب على الشياطين التي تسترق السمع (¬2). واحتمل ابن عاشور كلا المعنيين الحقيقي والمجازي فقال: " والهُوِيّ: السقوط، أطلق هنا على غروب الكوكب، استعير الهُوِيُّ إلى اقتراب اختفائه ويجوز أن يراد بالهوِيّ: سقوط الشهاب حين يلوح للناظر أنه يجري في أديم السماء، فهو هويّ حقيقي فيكون قد استعمل في حقيقته ومجازه (¬3). وبيّن القاسمي من قبله تلك المعاني وذكر أنها محتملة (¬4). وذكر كل من الطبري، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني المعنى الحقيقي لـ "هوى" وهو سقط على اختلاف منهم، فمنهم يرى أن المراد بسقوطه ما سيكون يوم القيامة من انتثار له، ومنهم من يرى أن المراد بسقوطه رجومه على الشياطين ... (¬5). ¬

(¬1) سورة النجم، الآية (1). (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 50. (¬3) التحرير والتنوير، ج 13، ص 91. (¬4) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 512. (¬5) انظر جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 50، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 233، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 17، ص 84، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 154، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 264، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 105.

أما ابن عطية والألوسي فقد ذهبا إلى المعنى المجازي للآية (¬1). حجة من يرى أن {هَوَى} بمعنى غاب وغرب: حجتهم في ذلك أن الظاهر والسابق إلى الفهم يدل على هذا (¬2). قال ابن عطية معلقاً على تأويل هوى بمعنى نزل بقوله: "وفي هذا الهوي بعد وتحامل على اللغة، إلى أن يقول: " هوى إلى الغروب، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب " (¬3). وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (والنجم إذا هوى قال: «الثريا إذا غابت» (¬4). وقال الألوسي: " هوى أي غرب " (¬5). حجة من يرى أن {هَوَى} بمعنى سقط أي المعنى الحقيقي: استدلوا على ذلك بما جاء في اللغة. قال ابن فارس: "هوى الشيء يهوي: سقط، وهاوية جهنم لأن الكافر يهوي فيها " (¬6). وقال ابن منظور: " هوى بالفتح، يهوي هوياً وهوياً وهوياناً وانهوى: ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز ابن عطية، ج 5، ص 195، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 45. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 195. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 195. (¬4) تفسير القرآن /عبد الرزاق الصنعاني ج 6 / ص 487. (¬5) روح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 45. (¬6) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 1017.

سقط من فوق إلى أسفل، وأهواه هو. يقال أهويته إذا ألقيته من فوق. وقوله عز وجل: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} (¬1) يعني مدائن قوم لوط أي أسقطها فهوت أي سقطت، وهوى السهم هوياً: سقط من علوٍ إلى سُفلٍ ... وفي صفته - صلى الله عليه وسلم -: كأنما يهوي من صبب أي ينحط، وذلك مشية القوي من الرجال. يقال هوى يهوي هَوياً بالفتح إذا هبط، وهوى يهوي هُوياً بالضم إذا صعد " (¬2). قال ابن عطية: " وهذا القول تسعده اللغة (¬3). وقال القرطبي: " قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} قال ابن عباس ومجاهد: معنى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} والثريا إذا سقطت مع الفجر " (¬4). وقال السعدي: " يقسم تعالى بالنجم عند هويه أي: سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار، لأن في ذلك من آيات الله العظيمة، ما أوجب أن أقسم به " (¬5) القول الراجح: يظهر لي والله أعلم أن القول الراجح هو القول الثاني وهو: أن هوى بمعنى سقط في معناها الحقيقي، والسقوط يتضمن ما كان في الدنيا من سقوطها ¬

(¬1) سورة النجم، الآية (53). (¬2) لسان العرب / ابن منظور، ج 15، ص 167 - 168 مادة: هوا. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 195. (¬4) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 17، 84. (¬5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 5، ص 121.

رجوماً على الشياطين، أو انتثارها يوم القيامة. قال الخازن: " قوله عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} قال ابن عباس: يعني الثريا إذا سقطت وغابت , والعرب تسمي الثريا نجماً ,ومنه قولهم: إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء , وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً: «ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رفع» (¬1) أراد بالنجم الثريا , وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه الرجوم من النجوم وهي ما ترمى به الشياطين عند استراق السمع , وقيل: هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة " (¬2). قال البيضاوي: " {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أقسم بجنس النجوم أو الثريا فإنه غلب فيها إذا غرب أو انتثر يوم القيامة أو انقض أو طلع فإنه يقال: هوى هوياً بالفتح إذا سقط وغرب " (¬3). ومما يرجح هذا القول ويقويه قاعدة: (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره ... ) (¬4)، فقد ذكر صاحب كتاب "لمسات بيانية": "أن هذا القول يدل عليه كونه مناسباً لما قبله , حيث إنه في خواتيم سورة الطور (إدبار النجوم) أي ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند، ج 2، ص 388، ح- 9027، والطبراني في الأوسط، ج 2، ص 78، ح- 1305، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، ج 4، ص 103: " وفيه عسل بن سفيان وثقه ابن حبان، وقال يخطئ ويخالف "وضعفه جماعة" وبقية رجاله رجال الصحيح ". (¬2) لباب التأويل في معاني التنزيل / الخازن، ج 4، ص 203. (¬3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل / البيضاوي، ج 5، ص 252. (¬4) انظر قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 2، ص 125.

غروبها فهي إذن مرتبطة بالتسبيح ومرتبطة بإدبار النجوم فأصبح هناك تناسق بين إدبار النجوم والنجم إذا هوى" (¬1) , كما يقوي هذه القول القاعدة الترجيحية الآتية: (يجب حمل كلام الله تعالى على المعروف من كلام العرب) (¬2) , والجاري في استعمال هوي النجوم سقوطها، قال أبو حيان: " قال مجاهد وسفيان: هو الثريا وهويها سقوطها مع الفجر، وهو علم عليها بالغلبة، ولا تقول العرب النجم مطلقاً إلا للثريا " (¬3). 3 - مثال الفرش: قال تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} (¬4). اختلف المفسرون في المراد بالفرش على قولين: الأول: إنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم مرفوعة بكثرة حشوها زيادة في الاستمتاع بها. والثاني: إن المراد بالفرش النساء مرفوعات في القدر (¬5). وذكر ابن عاشور كلا القولين ورجحهما وهذا قوله: " لما جرى ذكر الفُرش وهي مما يعد للاتكاء والاضطجاع وقت الراحة في المنزل , يخطر بالبال بادئ ¬

(¬1) لمسات بيانية /فاضل السامرائي , ج 1، ص 48. (¬2) قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 2، ص 369. (¬3) البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 154. (¬4) سورة الواقعة، الآية (34). (¬5) انظر النكت والعيون / الماوردي، ج 5، ص 454، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 244.

ذي بدء مصاحبة الحُور العين معهم في تلك الفرش فيتشوف إلى وصفهن، فكانت جملة: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} (¬1) بياناً لأن الخاطر بمنزلة السؤال عن صفات الرفيقات فضمير المؤنث من " أنشأناهن " عائد إلى غير مذكور في الكلام ولكنه ملحوظ في الأفهام كقول أبي تمام في طالع قصيدة: هُنّ عوادي يوسفٍ وصواحبه ... ومنه قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬2) وهذا أحسن وجه في تفسير الآية، فيكون لفظ " فرش " في الآية مستعملاً في معنييه ويكون " مرفوعة " مستعملاً في حقيقته ومجازه، أي في الرفع الحسي والرفع المعنوي ". (¬3). ورجّح الطبري وكذلك ابن كثير أن المراد بالفرش المرفوعة هي الفرش المعروفة والمرفوعة أي طويلة وعالية , وساقا حديث أبي سعيد الذي يصف ارتفاعها، وكذلك استظهر الرازي أبو حيان والشوكاني والألوسي هذا القول (¬4). ¬

(¬1) سورة الواقعة، الآية (35). (¬2) سورة ص، الآية (32). (¬3) التحرير والتنوير، ج 13، ص 301. (¬4) انظر جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 216، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 407، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8 ص 206، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 371، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 155، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 141.

وذكر ابن عطية والقرطبي، وكذلك القاسمي والشنقيطي كلا القولين ولم يرجحوا (¬1). حجة القائلين بأن المراد بـ {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} الفرش المعدة للاتكاء عليها: استدل أصحاب هذا القول بحديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: " إن ارتفاعها لكما بين السماء والأرض، وإن ما بين السماء والأرض لمسيرة خمس مئة عام " (¬2). قال أبو حيان: " والظاهر أن الفراش ما يفترش للجلوس عليه والنوم " (¬3). قال الألوسي: " مرفوعة منضدة مرتفعة أو مرفوعة على الأسرة فالرفع حسي كما هو الظاهر ... وقال بعضهم: أي رفيعة القدر على أن رفعها معنوي بمعنى شرفها وأياً مّا كان فالمراد بالفرش ما يفرش للجلوس عليها" (¬4). ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 244، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 17، ص 202، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 10، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1695. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة ثياب الجنة، ج 4، ص 679، ح- 2540، وقال أبو عيسى الترمذي: " هذا حديث غريب لا نعرفه الا من حديث رشدين بن سعد"، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، باب ذكر الأخبار عن الفرش التي أعدها الله لأوليائه في جناته، ج 16، ص 418، ح- 7405. (¬3) البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 206. (¬4) روح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 141.

حجة القائلين بأن المراد بـ {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي النساء الحور العين مرفوعات في القدر والجمال .. : استدلوا على ذلك بما جاء في اللغة من أن الفرش تأتي بمعنى النساء، قال ابن منظور: " ومنه قول الشاعر: ظللت مفترش الهلباء تشتمني ... عند الرسول فلم تصدق ولم تصب ومنه قول الآخر في تعديد على صهره: وأفرشتك كريمتي " (¬1). قال البغوي: " دليل هذا التأويل قوله في عقبه: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} (¬2) خلقناهن خلقًا جديدًا قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني الآدميات العجز الشمط، يقول خلقناهن بعد الهرم خلقا آخر. {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} (¬3) (¬4). القول الراجح: الذي يظهر لي والله أعلم أن المراد بالفرش في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} الفرش المعروفة كما ذكر ابن جرير وغيره من المفسرين. ¬

(¬1) لسان العرب / ابن منظور، ج 10، ص 225، مادة: فرش. (¬2) سورة الواقعة، الآية (35). (¬3) سورة الواقعة، الآية (36). (¬4) معالم التنزيل / البغوي، ج 8، ص 13.

ويقوي هذا القول ويعضده القاعدة الترجيحية: (الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره) وهذه القاعدة رجّح بها ابن عاشور في تفسيره لكنه في هذا المثال رأى أن معنى الفرش يحتمل الحقيقة والمجاز. قال السعدي: " {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي: مرفوعة فوق الأسرة ارتفاعا عظيما، وتلك الفرش من الحرير والذهب واللؤلؤ وما لا يعلمه إلا الله " (¬1). وقد ردّ الرازي على من قال أن المراد بالفرش النساء فقال: " يبعد ظاهراً لأن وصفها بالمرفوعة ينبئ عن خلاف ذلك " (¬2). كما يؤيد هذا القول القاعدة الترجيحية: (يجب حمل كلام الله على المعروف من كلام العرب) (¬3). قال ابن فارس: " الفاء والراء والشين أصل صحيح يدل على تمهيد الشيء وبسطه. يقال فرشت الفراش أفرشه، والفرش مصدر، والفرش المفروش أيضاً " (¬4). وأما قول من قال أن القول بأن الفرش بمعنى النساء يدل عليه الآية: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} فقد وضحه الشيخ ابن عثيمين وبين وجه مجيء هذه الآية بقوله: " {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} الفراش ما ينام عليه الإنسان (مرفوعة) أي عالية، ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 5، ص 163. (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 407. (¬3) قواعد الترجيح / حسين الحربي، ج 2، ص 369. (¬4) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 811.

ولما كان الذي مع الإنسان في الفراش الحور العين، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} أي: أنشأناهن إنشاءً عجيباً غريباً بديعاً " (¬1). 4 - مثال تطهير الثياب: قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬2). اختلف المفسرون في المراد بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فقال ابن سيرين وابن زيد بن أسلم والشافعي وجماعة: هو أمر بتطهير الثياب حقيقة، وذهب الشافعي وغيره من هذه الآية إلى وجوب غسل النجاسات من الثياب، وقال الجمهور: هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس والعرض، وهذا كما تقول فلان طاهر الثوب، ويقال للفاجر دنس الثوب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وغيره، المعنى لا تلبسها على غدرة ولا فجور، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المعنى لا تلبسها من مكسب خبيث، وقال النخعي: المعنى طهرها من الذنوب، وهذا كله معنى قريب بعضه من بعض (¬3). ورجّح ابن عاشور كلا المعنيين الحقيقي والمجازي فقال: " وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف , وإزالة النجاسات , وإطلاق مجازي , وهو التزكية , قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ ¬

(¬1) تفسير القرآن الكريم / ابن عثيمين، ص 338. (¬2) سورة المدثر، الآية (4). (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 392.

تَطْهِيرًا} (¬1). والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معاً , فتحصل أربعةُ معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالاً لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك. وقد وردت أحاديث في ذلك يقوّي بعضها بعضاً وأقواها مَا رواه الترمذي «إِن الله نظيف يحب النظافة». وقال: هو غريب. والطهارة لجسده بالأولى , ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأن يعطف على: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (¬2) لأنه لما أمر بالصلاة أُمر بالتطهر لها؛ لأن الطهارة مشروعة للصلاة. وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلاّ في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه. والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوة عليه " (¬3). ووافق قول ابن عاشور هذا كل من قول: القرطبي، وابن كثير، والشنقيطي حيث ذكروا عدة معان في الآية واحتملوا جميع تلك المعاني، قال القرطبي: " ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز " (¬4). وذهب الطبري إلى المعنى الأول وهو غسل الثياب معللا ذلك بأنه أظهر ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية (33). (¬2) سورة المدثر، الآية (3). (¬3) التحرير والتنوير، ج 14، ص 297. (¬4) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 65، وانظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 177، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1871. .

المعاني، وكذلك أبو حيان، والشوكاني، والقاسمي (¬1)، وذكر ابن عطية وكذلك الرازي كلا القولين وذكرا أن الجمهور ذكروا أن هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال، وكذلك مال الألوسي إلى المعنى المجازي (¬2) ... . حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المراد تطهير الثياب حقيقة بإزالة النجاسات: حجتهم في ذلك أنه من الأولى حمل الآية حلى حقيقتها، وظاهر اللفظ يدل على ذلك. قال الطبري: " وهذا القول الذي قاله ابن سيرين وابن زيد في ذلك أظهر معانيه، والذي قاله ابن عباس، وعكرمة وابن زكريا قول عليه أكثر السلف من أنه عُنِيَ به: جسمك فطهر من الذنوب، والله أعلم بمراده من ذلك " (¬3). وقال أبو حيان: " {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات، لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة، ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة " " (¬4). وقال الشوكاني: " وهذا القول أولى؛ لأنه المعنى الحقيقي , وليس في استعمال ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 29، ص 175، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 363، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 324، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 264. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 392، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 698، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 130. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 29، ص 175. (¬4) البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 363.

الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدلّ على أنه المراد عند الإطلاق، وليس في مثل هذا الأصل أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف، وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة " (¬1). واستصوب ابن الأثير في المثل السائر الوجه الأول , قال في الفصل الثالث من فصول مقدمته: " اعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل كقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فالظاهر من لفظ الثياب هو مايلبس ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب، لا الملبوس ,وهذا لا بد له من دليل، لأنه عدول عن ظاهر اللفظ " (¬2). حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المراد بتطهير الثياب تزكية النفس وتنقية العمل: استدلوا على ذلك بما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتاه رجل وهو جالس فقال: أرأيت قول الله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفيّ: وإنّي بِحَمْدِ اللهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ (¬3). وقال القرطبي في تفسيره: " والعرب تكني عن النفس بالثياب، قاله ابن عباس. ¬

(¬1) فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 423. (¬2) المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر / ابن الأثير، ج 1، ص 32. (¬3) أخرجه الطبري بسنده في تفسيره، ج 29، ص 173.

ومنه قول عنترة: فشككت بالرمح الطويل ثيابه * ليس الكريم على القنا بمحرم وقال امرؤ القيس: ... * فسلي ثيابي من ثيابك تنسل * وقال: ... ثياب بني عوف طهارى نقية * ... وأوجههم بيض المسافر غران أي أنفس بني عوف" (¬1). وقال الألوسي: " وكلمات جمهور السلف دائرة على نحو هذا المعنى في هذه الآية الكريمة. وهي كلمة عربية كانت العرب إذا نكث الرجل ولم يف بعهد قالوا إن فلاناً لدنس الثياب وإذا وفى وأصلح قالوا إن فلاناً لطاهر الثياب " (¬2). القول الراجح: الذي يظهر لي والله أعلم أن المراد بالآية تطهير الثياب من النجاسات حقيقة، ومما يرجح هذا القول القاعدة الترجيحية: (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره، مالم توجد حجة يجب إعمالها) , وفي الآية ما يدل على ذلك فقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} قرينة تدل على أن المراد تطهير الثياب لأنه شرط في صحة الصلاة. وقد أشار الشنقيطي إلى ذلك (¬3). كما يقوي هذا القول القاعدة الترجيحية (الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره مالم يرد دليل يصرفه عن ظاهره) وظاهر اللفظ يدل على أن المقصود ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 63. (¬2) روح المعاني / الأوسي، ج 15، ص 131. (¬3) انظر أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1871.

بالثياب الثياب الحقيقية. قال ابن العربي: " وإذا حملناها على الثياب المعلومة (الظاهرة) فهي تتناول معنيين: أحدها: تقصير الأذيال، فإنها إذا أرسلت تدنّست؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخياً: يا غلام، ارفع إزارك، فإنه أتقى وأنقى، وأبقى .. والمعنى الثاني: غسلها من النجاسة؛ وهو ظاهر منها صحيح فيها " (¬1). 5 - مثال الشرح: قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (¬2). اختلف المفسرون في معنى الشرح فقيل: هو شق الصدر وإخراج ما فيه من الغل والحسد، وقيل: هو الإنعام عليه بالإيمان ومعرفة الحق والحكمة. وقد ذكر ابن عاشور هذه الأقوال فقال: " وشرح صدره كناية عن الإِنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات، وإعلامه برضى الله، عنه وبشارته بما سيحصل للدّين الذّي جاء به من النصر. وعلى هذا الوجه حمله كثير من المفسرين ونسبه ابن عطية إلى الجمهور. ويجوز أن يجعل الشرح شرحاً بدنياً. وروي عن ابن عباس أنه فسر به وهو ظاهر صنيع الترمذي إذ أخرج حديث شقِّ الصدر الشريف في تفسير هذه ¬

(¬1) أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص 257. (¬2) سورة الشرح، الآية (1).

السورة فتكون الآية إشارة إلى مرويات في شَق صدره - صلى الله عليه وسلم - شقّاً قُدُسياً، وهو المروي بعض خبره في «الصحيحين»، والمروي مطولاً في السيرة والمسانيد ... إلى أن قال وكلا المعنيين للشرح يفيد أنه إيقاع معنى عظيم لنفس النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). ومما تقدم يظهر لنا مدى اهتمام ابن عاشور بإيفاء معاني الآيات حقها فهو لا يغفل معناها المجازي والحقيقي إن كانت الآية تحتمله. وقد ذكر هذين المعنيين كل من الرازي، والقرطبي، والألوسي ولم يرجحوا بينهما وكذلك أبو حيان وابن كثير، والشنقيطي وقالوا بأن الأولى العموم لهذا المعنى وغيره - يعني الحقيقي والمجازي (¬2) أما الطبري، والشوكاني، والقاسمي فقد رجّحوا في هذه الآية المعنى المجازي لها ولم يذكرا غيره، وكذلك ابن عطية ذهب إليه وذكر أنه قول الجمهور، كما أنه ساق المعنى الآخر للشرح ونسبه إلى ابن عباس وجماعة (¬3). حجة القائلين بأن المراد بالشرح المعنى المجازي للآية: استدلوا على ذلك بشهادة القرآن لهذا المعنى كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 409. (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 17، ص 92. تأكدي، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 20، ص 106، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 386، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 483، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 388، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1961. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 284، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 461، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 424 والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 496

شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (¬1)، فقوله: {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} بيان لشرح الصدر للإسلام. كما أن ضيق الصدر دليل على الضلال، كما في نفس الآية: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (¬2) الآية (¬3). وقال النسفي: " ألم نشرح لك صدرك استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الانكار فأفاد إثبات الشرح فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك؛ ولذا عطف عليه وضعنا اعتبار للمعنى أى فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم حتى وسع هموم النبوة ودعوة الثقلين وأزلنا عنه الضيق والحرج الذى يكون مع العمى والجهل وعن الحسن ملئ حكمة وعلما ". (¬4) قال الشوكاني: " معنى شرح الصدر فتحه بإذهاب ما يصد عن الإدراك، والاستفهام إذا دخل على النفي قررّه، فصار المعنى: قد شرحنا لك صدرك، وإنما خصّ الصدر لأنه محل أحوال النفس من العلوم والإدراكات، والمراد الامتنان عليه صلى الله عليه وآله وسلم بفتح صدره وتوسيعه حتى قام بما قال به من الدعوة، وقدرعلى ما قدر عليه من حمل أعباء النبوة وحفظ الوحي، وقد مضى ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية (22). (¬2) سورة الأنعام، الآية (125). (¬3) انظر أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1962. (¬4) تفسير النسفي، ج 4، ص 365.

القول في هذا عند تفسير قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} " (¬1). حجة القائلين: إن المراد بالشرح المعنى الحقيقي للآية وهو شق الصدر: استدلوا على ذلك بما جاء في السنة من حديث أنس بن مالك وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول أحد الثلاثة بين الرجلين فأتيت فانطلق بي فأتيت بطست من ذهب فيها من ماء زمزم فشرح صدري إلى كذا وكذا قال قتادة فقلت للذي معي ما يعني قال إلى أسفل بطنه فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشي إيمانا وحكمة ... " (¬2). القول الراجح: إن الآية تحتمل المعنيين كما ذكر ابن عاشور وغيره من المفسرين , وقد تقدم ذكرهم، وذلك عملا بالقاعدة الترجيحية: (الأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي) ولأنه لا منافاة بين الشرح الحقيقي والمجازي، بل إن الشرح المجازي أو المعنوي مترتب على ما فعل بصدره - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء. قال أبو حيان: " والأولى العموم لهذا ولغيره من مقاساة الدعاء إلى الله وحده ¬

(¬1) فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 461. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله إلى السموات .. ، ج 1، ص 150، ح- 164، والترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ومن سورة ألم نشرح، ج 5، ص 442، ح- 3346 وقال أبو عيسى: " هذا حديث حسن صحيح ".

واحتمال المكاره من إذاية الكفار " (¬1). وقال ابن كثير: " يعني: أما شرحنا لك صدرك، أي: نورناه وجعلناه فَسيحًا رحيبًا واسعًا كقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (¬2)، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شَرْعه فسيحا واسعًا سمحًا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق. وقيل: المراد بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} شرح صدره ليلة الإسراء، ولا منافاة، فإن من جملة شرح صدره الذي فُعِل بصدره ليلة الإسراء، وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضًا، والله أعلم" (¬3). وقال السيد طنطاوي في "الوسيط": " وأصل الشرح: البسط للشئ وتوسعته، يقال: شرح فلان الشئ، إذا وسعه، ومنه شرح فلان الكتاب، إذا وضحه، وأزال مجمله، وبسط ما فيه من غموض. والمراد بشرح الصدر هنا: توسعته وفتحه، لقبول كل ما هو من الفضائل والكمالات النفسية. وإذهاب كل ما يصد عن الإِدراك السليم وعن الحق الخير والهدى. وهذا الشرح، يشمل الشق البدنى لصدره - صلى الله عليه وسلم - كما يشمل الشرح المعنوى ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 483. (¬2) سورة الأنعام، الآية (125). (¬3) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 388.

لصدره - صلى الله عليه وسلم - عن طريق إيداعه الإِيمان والهدى والعلم والفضائل" (¬1). ومما يقوي هذا الترجيح ويؤيده قاعدة: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له). وقد تواترت أحاديث شق صدر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم حديث مسلم في ذلك. ومنه أيضاً ما رواه عبد الله بن أحمد قال: ": حدثني محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز حدثنا يونس بن محمد، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن محمد بن أبي بن كعب، حدثني أبي محمد بن معاذ، عن معاذ، عن محمد، عن أبي بن كعب: أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان جريًّا على أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله، ما أولُ ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا وقال: " لقد سألتَ يا أبا هريرة، إني لفي الصحراء ابنُ عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ قال: نعم فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط. فأقبلا إلي يمشيان، حتى أخذ كل واحد منهما بعَضُدي، لا أجد لأحدهما مسا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه. فأضجعاني بلا قَصْر ولا هَصْر. فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره. فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغِلّ والحَسَد. فأخرج شيئًا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي ¬

(¬1) الوسيط / سيد طنطاوي، ج 15، ص 435.

أخرج شبهُ الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى فقال: " اغد واسلم. فرجعت بها أعدو رقة على الصغير ورحمة للكبير " (¬1). ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده، ج 5، ص 139، ح- 21338.وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج 8 /ص 223 وقال: : رواه عبدالله ورجاله ثقات وثقهم ابن حبان. ونظائر هذه الأمثلة كثيرة جداً في تفسيره: 1 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 148). وفيه قول ابن عاشور: " والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فِعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما يكون في فعلة بمعنى المصدر. وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيهاً بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس، ولفظ (وجهة) في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي " (التحرير والتنوير، ج 1، ص 41). 2 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104)، وفيها قوله: " والأمر في قوله (تعالَوْا) مستعمل في طلب الإقبال، وفي إصغاء السمع، ونظر الفكر، وحضور مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعدم الصدّ عنه، فهو مستعمل في حقيقته ومجازه ". (التحرير والتنوير، ج 4، 75). 3 - ... منها ماجاء في قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (الأنعام: 4)، ذكر ابن عاشور أن الإعراض يشمل المعنى الحقيقي والمجازي. (التحرير والتنوير، ج 4، ص 135. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 4 - ... ما جاء في قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101)، وفيها قوله: " والنظر: هنا مستعمل فيما يصلح للنظر القلبي والنظر البصري، ولذلك عدل عن إعماله عمل أحد الفعلين لكيلا يتمحض له، فَجيءَ بعده بالاستفهام المعلّق لكلا الفعلين بحيث أصبح حمل النظر على كليهما على حد السواء فصار صالحاً للمعنيين الحقيقي والمجازي، وذلك من مقاصد القرآن. (التحرير والتنوير، ج 6، ص 295). 5 - ... ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون: 9)، وفيها قوله: " و (ذكر الله) مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي. فيشمل الذكر باللسان كالصلاة وتلاوةِ القرآن، والتذكر بالعقل كالتدبر في صفاته واستحْضار امتثاله قال عمر بن الخطاب: «أفضل من ذكر الله باللسان ذِكر الله عند أمره ونهيه» (التحرير والتنوير، ج 13، ص 251).

المبحث الرابع يقدم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة

المبحث الرابع يقدم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة صورة القاعدة: إن الأصل أن يحمل اللفظ على الحقيقة، ولكن إذا منع مانع أو وجدت قرينة تصرفه عن الحقيقة، فلا مانع من حمله على المجاز، وتفسيره بذلك (¬1). شرح مفردات القاعدة: القرينة لغة: فعيلة بمعنى مفعولة من الاقتران، وقارن الشيء الشيء صاحبه، والقرين المصاحب، ومنه يقال للزوجة: فلانة قرينة فلان (¬2). اصطلاحاً: لم أقف على تعريف للقرينة في الاصطلاح عند العلماء، والسبب في ذلك أن القرينة تختلف باختلاف الموضوع الذي تلازمه ولذلك يمكنني تعريف القرينة هنا فيما يتعلق بهذا المبحث بأنها: هي الصارف عن الحقيقة إلى المجاز. وبالنظر إلى تفسير ابن عاشور فإننا نجده يقر ما ذكره العلماء من وجوب حمل اللفظ على حقيقته إلا إذا وجد صارف يصرفه عن المعنى الحقيقي، ويضيف بأن المعنى المجازي أحياناً قد يكون أرجح من الحقيقي؛ لكونه أسبق إلى الفهم من معناه الحقيقي ومن قوله في ذلك: " وليس سبق إطلاق اللفظ على أحد ¬

(¬1) انظر المحصول في علم أصول الفقه / الرازي، ج 1، ص 176. (¬2) انظر لسان العرب / ابن منظور، ج 11، ص 139.

أقوال العلماء في هذه القاعدة

المعنيين بمقتضٍ ترجيح ذلك المعنى فكم من إطلاق مجازي للفظ هو أسبق إلى الأفهام من إطلاقه الحقيقي. وليس قولهم في علم الأصول بأن الحقيقة أرجح من المجاز بمقبول على عمومه " (¬1). أقوال العلماء في هذه القاعدة: قال الشيخ عبد القاهرالجرجاني في "دلائل الإعجاز" في آخر فصل "المجاز الحكمي": " ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم أن يتوهموا أبداً في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها " أي على الحقيقة " فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف وناهيك بهم إذا أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل هنالك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه وزند ضلالة قد قدحوا به " (¬2). وقال أبو حيان: "لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثمّ قرينة مرجحةً المجاز على الحقيقة " (¬3). وأكد السرخسي في أصوله على ذلك بقوله: "ولكنا نقول المراد بمطلق الكلام ما هو الحقيقة فيه، والحقيقة ما كانت الصيغة موضوعة له لغة، وهذه ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 3، ص 167. (¬2) دلائل الإعجاز / عبد القاهر الجرجاني، ص 211. (¬3) البحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 450.

أمثلة تطبيقية على القاعدة

الصيغة موضوعة لمقصود العموم فكانت حقيقة فيها، وحقيقة الشيء ثابت بثبوته قطعا ما لم يقم الدليل على مجازه كما في لفظ الخاص فإن ما هو حقيقة فيه يكون ثابتا به قطعا حتى يقوم الدليل على صرفه إلى المجاز" (¬1). وقال الجصاص: "وحكم اللفظ أن يحمل على حقيقته حتى تقوم الدلالة على جواز صرفه إلى المجاز " (¬2). ويقول الرازي في تفسيره أيضاً: " إن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة، وأنه إنما يعدل عن الحقيقة إلى المجاز عند قيام الدلالة على أن حمله على حقيقته ممتنع، فحينئذ يجب حمله على المجاز " (¬3). أمثلة تطبيقية على القاعدة: 1 - مثال الختم: قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬4). اختلف المفسرون في المراد بالختم في هذه الآية: فمنهم من ذهب إلى أن الختم حقيقي، ومنهم من ذهب إلى أن الختم مجازي. ورجّح ابن عاشور أن المراد بالختم في هذه الآية المعنى المجازي، وهذا ¬

(¬1) أصول السرخسي / السرخسي، ج 1، ص 137. (¬2) أحكام القرآن / الجصاص، ج 1، ص 414. (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 474. (¬4) سورة البقرة، الآية (7).

قوله: " وليس الختم على القلوب والأسماع ولا الغشاوة على الأبصار هنا حقيقة كما توهمه بعض المفسرين فيما نقله ابن عطية بل ذلك جار على طريقة المجاز بأن جعل قلوبهم أي عقولهم في عدم نفوذ الإيمان والحق والإرشاد إليها، وجعل أسماعهم في استكاكها عن سماع الآيات والنذر، وجعل أعينهم في عدم الانتفاع بما ترى من المعجزات والدلائل الكونية، كأنها مختوم عليها ومغشًّى دونها إما على طريقة الاستعارة بتشبيه عدم حصُول النفع المقصود منها بالختم والغشاوة ثم إطلاق لفظ خَتَم على وجه التبعية ولفظ الغشاوة على وجه الأصلية وكلتاهما استعارة تحقيقيه إلا أن المشبه محقق عقلاً وحساً, ولك أن تجعل الختم والغشاوة تمثيلاً بتشبيه هيئة وهمية متخيلة في قلوبهم أي إدراكهم من التصميم على الكفر وإمساكهم عن التأمل في الأدلة " (¬1). وقد ذهب إلى هذا القول كل من ابن عطية، والرازي، والشوكاني، والألوسي (¬2)، في حين رجح الطبري، وابن كثير، والقاسمي، والشنقيطي أن الختم حقيقي كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). في حين جوّز القرطبي وأبو حيان كلا المعنيين (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 254 - 255. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 88، والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 294، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 39، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 134. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 130، ، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 280، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 273، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 23. (¬4) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 203، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 175.

حجة القائلين بأن الختم حقيقي: استدلوا بما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتهٌ سوداءُ في قلبه، فإن تاب وَنزع واستغفر، صَقَلت قلبه، فإن زاد زادت حتى تُغْلق قلبه، فذلك"الرَّانُ" الذي قال الله جل ثناؤه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1) (¬2). قال مجاهد: " كانوا يُرَوْنَ أنّ القلبَ في مثل هذا - يعني الكفَّ - فإذا أذنبَ العبد ذنبًا ضُمّ منه - وقال بإصبعِه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى - فإذا أذنب ضُمَّ - وقال بإصبع أخرى هكذا، حتى ضم أصابعَه كلَّها، قال: ثم يُطبع عليه بطابَعٍ. قال مجاهد: وكانوا يرون أن ذلك الرين " (¬3). وقال الطبري: " إنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك، ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على ¬

(¬1) سورة المطففين، الآية (14). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك، ج 2، ص 562، ح- 3908، تفسير سورة المطففين، وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 128.

قلوبهم، إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها " (¬1). حجة القائلين بأن الختم مجازي، كناية عن إعراضهم وتكبرهم: قال البيضاوي: " ولا تغشية على الحقيقة ,وإنما المراد بهما أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي واستقباح الإيمان والطاعات , بسبب غيهم وانهماكهم في التقليد وإعراضهم عن النظر الصحيح , فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها وأسماعهم تعاف استماعه , فتصير كأنها مستوثق منها بالختم وأبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين , فتصير كأنها غطي عليها وحيل بينها وبين الإبصار , وسماه على الاستعارة ختما وتغشية أو مثل قلوبهم ومشاعرهم المؤوفة بها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها ختما وتغطية وقد عبر عن إحداث هذه الهيئة بالطبع في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (¬2) وبالإغفال في قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} " (¬3) (¬4). وقال القاسمي: إن المعتزلة سلكوا في هذه الآية مسلك التاويل، وذكروا في ذلك عدّة أقاويل " (¬5): ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 130. (¬2) سورة النحل، الآية (8). (¬3) سورة الكهف , الآية (28). (¬4) أنوار التنزيل وأسرار التأويل / البيضاوي، ج 1، ص 145. (¬5) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 274.

منها: أن القوم لما أعرضوا عن الحق، وتمكن ذلك في قلوبهم، حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه. ومنها: أن المراد به تمثيل قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن، أو بقلوب قدّر ختم الله تعالى عليها. ومنها: أن أعراقهم لما رسخت في الكفر، واستحكمت بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر؛ ثم لم يفعل ذلك محافظة على حكمة التكليف، عبر عن ذلك بالختم، لأنه سدّ لطريق إيمانهم بالكلية، وفيه إشعار بترامي أمرهم في الغي والعناد. ومنها: أن ذلك في الآخرة، وإنما أخبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، ويعضده قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} (¬1). القول الراجح: الذي يظهر لي والله أعلم أن كلا المعنيين جائز فقد يكون هذا الختم حقيقي محسوس كالختم على الوعاء فلا يبصر حقاً ولا يرى باطلا كما ذكر الطبري وغيره من المفسرين ويدل عليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (¬2)، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية (97). (¬2) سورة الأنعام، الآية (25).

مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1)، وقد يكون مجازياً كما ذكر ابن عاشور. قال القرطبي: " والختم مصدر ختمت الشئ ختما فهو مختوم ومختم، شدد للمبالغة، ومعناه التغطية على الشئ والاستيثاق منه حتى لا يدخله شئ، ومنه: ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك، حتى لا يوصل إلى ما فيه، ولا يوضع فيه غير ما فيه ... إلى أن قال: " والختم يكون محسوسا ومعنىً " (¬2). قال أبو حيان: " ونسبة الختم إلى الله تعالى بأي معنى فسر إسناد صحيح، إذ هو إسناد إلى الفاعل الحقيقي إذ الله تعالى خالق كل شيء " (¬3). ويؤيد هذا القول ويدعمه القاعدة الترجيحية التالية: (الأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن) وحيث لا يوجد مانع من الأخذ بكلا المعنيين في هذه الآية فإنه تعيّن الأخذ بهما. أما من جعل معنى الختم مجازيا - كما ذكر ابن عاشور - فإن ذلك لا دليل عليه , والقاعدة الترجيحية المعتمدة في ذلك أنه يقدم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة، وبما أنه لا قرينة هنا، فإنه لا وجه لقصر معنى الختم على المعنى المجازي. ¬

(¬1) سورة المطففين، الآية (14). (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 204. (¬3) البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 175.

2 - مثال مرض القلوب: قال الله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (¬1). اتفق المفسرون جميعا في هذه الآية على أن المراد بالمرض المعنى المجازي للآية (¬2) ,والمنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وسائر السلف الصالح حمل المرض في الآية على المعنى المجازي (¬3) , وهو الذي رجّحه ابن عاشور في تفسيره، وذكر قرينة تدل على ذلك حيث يقول: " والمراد بالمرض في هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة لأنه هو الذي اتصف به المنافقون وهو المقصود من مذمتهم وبيان منشأ مساوي أعمالهم " (¬4). قال ابن فارس: " المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر " (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (10). (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 140، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 92، والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 304، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 215، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 422، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 285، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 42، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 151، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 277، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1587. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 140، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 151. (¬4) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 279. (¬5) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 944.

قال الطبري: " فالمرض الذي أخبرَ الله جل ثناؤه عنهم أنَّه زادهم على مرضهم، نظيرُ ما كان في قلوبهم من الشَّكِّ والحيْرة قبل الزيادة، فزادهم الله بما أحدث من حدوده وفرائضِه - التي لم يكن فرضَها قبلَ الزيادة التي زادها المنافقين - من الشك والحيرة، إذْ شكُّوا وارتَابوا في الذي أحدَث لهم من ذلك إلى المرض والشك الذي كان في قلوبهم في السَّالف، من حدوده وفرائضه التي كان فَرَضها قبل ذلك " (¬1). وقال القرطبي: " والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم. وذلك إما أن يكون شكا ونفاقا، وإما جحدا وتكذيبا, والمعنى: قلوبهم مرضى لخلوها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد " (¬2). وذكر العلماء قرينة تدل على المجاز ومن ذلك قول أبي حيان: " وحمله على المجاز أولى لأن قلوبهم لو كان فيها مرض لكانت أجسامهم مريضة بمرضها، أو كان الحمام عاجلهم، قال: بعض المفسرين يشهد لهذا الحديث النبوي والقانون الطبي، أما الحديث، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد جميعه، وإذا فسدت فسد الجسد جميعه، ألا وهي القلب» (¬3). وأما القانون الطبي فإن الحكماء وصفو القلب على ما اقتضاه علم التشريح، ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 141. (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 215. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من استبرأ لدينه، ج 1، ص 28، ح-52، ومسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ج 3، ص 1219، ح- 1599.

ثم قالوا: إذا حصلت فيه مادة غليظة، فإن تملكت منه ومن غلافه أو من أحدهما فلا يبقى مع ذلك حياة وعاجلت المنية صاحبه، وربما تأخرت تأخيراً يسيراً، وإن لم تتمكن منه المادة المنصبة إليه ولا من غلافه، أخرت الحياة مدة يسيرة؟ وقالوا: لا سبيل إلى بقاء الحياة مع مرض القلب، وعلى هذا الذي تقرر لا تكون قلوبهم مريضة حقيقة " (¬1). القول الراجح: إن المراد بالمرض في هذه الآية المعنى المجازي كما قرّر ذلك ابن عاشور، ومن سبقه من المفسرين، ومما يؤكد هذا الصورة القاعدة الترجيحية والتي نصّ عليها ابن عاشور، وهي أن (إعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى) وفي ذلك يقول: " وإطلاق المرض على هذا شائع مشهور في كلام العرب " (¬2). 3 - مثال السبب: قال تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} (¬3). السبب في الحقيقة هو الحبل، قال ابن فارس السبب: الحبل (¬4)، ولكن اتفق المفسرون في هذه الآية على أن المراد بالسبب في هذه الآية المعنى المجازي , أي: ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 187. (¬2) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 279. (¬3) سورة الكهف، الآية (85). (¬4) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 455.

كل شيء يتوصل به غيره كالطريق وسيأتي بيان بعض أقوالهم (¬1). قال أبو عبيدة: " {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} أي طريقاً وأثراً ومنهجاً (¬2). قال ابن عطية: " السبب في هذه الآية، الطريقة المسلوكة؛ لأنها سبب الوصول إلى المقصد " (¬3). وقال الرازي: "السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود , وهو يتناول العلم والقدرة والآلة فقوله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (¬4) معناه: أعطيناه من كل شيء من الأمور التي يتوصل بها إلى تحصيل ذلك الشيء " (¬5). وقال ابن كثير: " أي فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض " (¬6). ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 16، ص 15، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 539، والتفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 495، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 11، ص 53، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 151، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 185، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 307، وروح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 352، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 68. (¬2) مجاز القرآن / أبو عبيدة، ج 1، ص 413. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 539، (¬4) سورة الكهف، الآية (84). (¬5) التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 495. (¬6) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 185.

وكذلك يرى ابن عاشور في هذه الآية المراد بالسبب المعنى المجازي وذلك بناءً على قرينة ترجح ذلك وهذا قوله: " والسبب حقيقته الحبل، وأطلق هنا على ما يتوسل به إلى الشيء من علم أو مقدرة أو آلات التسخير على وجه الاستعارة , كقوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (¬1). وكُلّ شَيْءٍ مستعمل هنا في الأشياء الكثيرة كما تقدم في نظائره غير مرة منها قوله تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى} (¬2) أي آتيناه وسائل أشياء عظيمة كثيرة. والمراد هنا معنى مجازي وهو الطريق، لأن الطريق وسيلة إلى المكان المقصود " (¬3). ثم ذكر ابن عاشور القرينة التي تدل أنه مجازي فقال: " وقرينة المجاز ذكر الإتباع والبلوغ في قوله: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} (¬4). والدليل على إرادة غير معنى السبب في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} اسم السبب دون إضماره، لأنه لما أريد به معنى غير ما أُريد بالأول حسن إظهار اسمه تنبيهاً على اختلاف المعنيين، أي فاتبع طريقاً للسير ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (166). (¬2) سورة يونس، الآية (97). (¬3) التحرير والتنوير، ج 8، ص 24. (¬4) سورة الكهف، الآية (85 - 86).

وكان سيره للغزو، كما دلّ عليه قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} (¬1). ومما يؤيد هذا المعنى ويرجحه قاعدة: (القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره). قال أبو عبيدة: اتبع بالصول في السير، وأتبع بالقطع. معناه: اللحاق كقوله: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (¬2)، وقال يونس: اتبع بالقطع للجد الحثيث في الطلب وبالوصل مجرد الانتقال. والفاء في قوله: " فأتبع" فاء الفصيحة: أي فأراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً يوصله، لقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أي: أقصى ما يسلك من الأرض من ناحية المغرب (¬3). 4 - مثال يمين الله تبارك وتعالى: قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬4). اختلف المفسرون في المراد من قوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فمنهم من قال أن المراد بيمينه قوته وقدرته، ومنهم من أثبتها لله تعالى من غير ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 8، ص 25. (¬2) سورة الصافات، الآية (10). (¬3) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 68. (¬4) سورة الزمر، الآية (67).

تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل. ورجّح ابن عاشور أن المراد بيمينه قدرته وهذا قوله: " واليمين: وصف لليد ولا يدَ هنا وإنما هي كناية عن القدرة لأن العمل يكون باليد اليمين قال الشاعر أنشده الفرّاء والمبرد، قال القرطبي: ولما رأيتُ الشمس أشرقَ نورها ... ناولتُ منها حَاجتي بيمين أي بقدرة. وضمير (منها) يعود على مذكور في أبيات قبله، والمقصود من هاتين الجملتين تمثيل عظمة الله تعالى بحال من أخذ الأرض في قَبضته ومن كانت السماوات مطويةً أفلاكها وآفاقها بيده تشبيه المعقول بالمتخيَّل وهي تمثيلية تنحل أجزاؤها إلى استعارتين، وفيها دلالة على أن الأرض والسماوات باقية غير مضمحلة ولكن نظامهما المعهود اعتراه تعطيل" (¬1). وإلى مثل ذلك ذهب ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان (¬2). في حين أثبت كلٌ من الطبري، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي القبضة واليمين لله كما أثبتها الله لنفسه من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل (¬3). أما القاسمي فقد ذكر أن في الآية مذهبين: مذهب السلف وهو إثبات ذلك ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 62. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 541، والتفسير الكبير / الرازي ج 9، ص 474، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي.، ج 15، ص 267، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 422، (¬3) انظر جامع البيان / تالطبري، ج 24، ص 34، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 12، ص 150، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص، 477.، وروح المعاني / الألوسي، ج 12، ص 281

من غير تكييف ثم ذكر القول الآخر وهو قول المؤولة , ولم يعلق (¬1). حجة القائلين: إن المراد بـ {بِيَمِينِهِ} المعنى المجازي أي قدرته وقوته: قال ابن عطية: "وعلى كل وجه، فا «اليمين» هنا و «القبضة» وكل ما ورد: عبارة عن القدرة والقوة، وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل، وما ذهب إليه القاضي من أنها صفات زائدة على صفات الذات قول ضعيف، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحضنها العلم " (¬2). وقال الرازي: " لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الأعضاء والجوارح، إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى، فوجب حمل هذه الأعضاء على وجوه المجاز، فنقول إنه يقال فلان في قبضة فلان إذا كان تحت تدبيره وتسخيره قال تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (¬3). والمراد منه كونه مملوكاً له، ويقال هذه الدار في يد فلان، وفلان صاحب اليد، والمراد من الكل القدرة، والفقهاء يقولون في الشروط وقبض فلان كذا وصار في قبضته، ولا يريدون إلا خلوص ملكه، وإذا ثبت تعذر حمل هذه الألفاظ على حقائقها وجب حملها على مجازاتها صوناً لهذه النصوص عن ¬

(¬1) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 281, وأضواء البيان / الشنقيطي/ ص 893. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 541. (¬3) سورة المعارج، الآية (30).

التعطيل، فهذا هو الكلام الحقيقي في هذا الباب" (¬1) حجة القائلين: إن المراد بـ {بِيَمِينِهِ} المعنى الحقيقي لها: استدلوا بالأحاديث الدالة على هذا المعنى ومنها ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَقْبِضُ اللهُ الأرض يومَ القيامة ويَطْوي السماءَ بيمينه، ثم يقول: أنا الملِك، أين ملوكُ الأرض؟ » (¬2) وأخرج مسلم من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَطْوي الله عز وجل السموات يومَ القيامة، ثم يأخذُهُنَّ بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملِك، أين الجبّارون، أين المتكبِّرون؟ » (¬3). القول الراجح: القول الراجح في المسألة هو مذهب السلف الصالح ومما يؤيد هذا القول ويقويه القاعدة الترجيحة: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له)، وقد جاءت الأحاديث في ذلك منها: ما رواه البخاري ومسلم وغيرهم عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: " جاء حبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد! إن الله يضع السماء على إصبع , والأرض على إصبع , والجبال على إصبع , والشجر والأنهار على إصبع , وسائر الخلق على ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 474. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة)، ج 4، ص 1812، ح- 4534. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، ج 4، ص 2148، ح- 2788

إصبع , ثم يقول بيده: أنا الملك فضحك رسول الله وقال: وما قدروا الله حق قدره " (¬1). وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: مرّ يهودي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس قال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه وأشار بالسبابة، والأرضين على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه، كل ذلك يشير بأصابعه فأنزل الله تعالى: " {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} " (¬2). وروي أيضاً عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة .. " (¬3). قال الألوسي: " والسلف يقولون أيضاً: إن الكلام تنبيه على مزيد جلالته ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا "، ج 6، ص 2712، ح- 7013، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، ج 4، ص 2147، ح- 2786. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده، ج 1، ص 251، ح- 2267، والترمذي في سننه، باب ومن سورة الزمر، ج 5، ص 371، ح- 3240، وقال أبو عيسى: " هذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة، ج 5، ص 2389، ح- 6155، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب نزل أهل الجنة، ج 4، ص 2151، ح- 2792.

تعالى وعظمته سبحانه ورمز إلى أن آلهتهم أرضية أم سماوية مقهورة تحت سلطانه عز وجل إلا أنهم لا يقولون: إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف ولا اليمين مجاز عن القدرة بل ينزهون الله تعالى عن الأعضاء والجوارح ويؤمنون بما نسبه إلى ذاته بالمعنى الذي أراده سبحانه وكذا يفعلون في الأخبار الواردة في هذا المقام .. والمتأولون يتأولون الأصابع على الاقتدار وعدم الكلفة كما في قول القائل: أقتل زيداً بأصبعي، ويبعد ذلك ظاهر ما أخرجه أحمد - وقد تقدم - " (¬1). 5 - مثال معنى منفكين: قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)} (¬2). هذه الآيات أشكلت على كثير من العلماء، وحصل في كلام كثير منهم اضطراب، حيث اختلف المفسرون في معنى منفكين اختلافاً كثيراً، حتى قال الواحدي في كتاب البسيط ما نصه: " هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظماً وتفسيراً، حيث اختلف في منفكين اختلافاً كثيراً عند جميع المفسرين ¬

(¬1) روح المعاني / الألوسي، ج 12، ص 281. (¬2) سورة البينة، الآية (1 - 4).

وتخبط فيها الكبار من العلماء " (¬1). وذكر ابن عاشور وجه الإشكال الوارد في الآية نقلاً عن الفخر الرازي فقال: "قال الفخر: " وجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين، عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول، ثم قال بعد ذلك: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر" (¬2). إلى أن قال ابن عاشور: " ومما لم يذكره الفخر من وجه الإِشكال: أن المشاهدة دلت على أن الذين كفروا لم ينفكوا عن الكفر في زمن مَّا، وأن نصب المضارع بعد (حتى) ينادي على أنه منصوب ب (أنْ) مضمرة بعد (حتى) فيقتضي أنّ إتيان البينة مستقبل وذلك لا يستقيم فإن البينة فسرت بـ (رسول من اللَّه) وإتيان الرسول وقع قبل نزول هذه الآيات بسنين, وهم مستمرون على ما هم عليه: هؤلاء على كفرهم، وهؤلاء على شركهم (¬3). ولهذا السبب تعددت أقوال المفسرين في هذه الآية حتى بلغت بضعة عشر ¬

(¬1) الوسيط في تفسير القرآن المجيد / الواحدي، ج 4، ص 539. (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 11، ص 237. (¬3) التحرير والتنوير , ج 15 , ص 470.

قولاً ذكر الألوسي بعضاً منها (¬1)، والقرطبي معظمها (¬2)، وذكر ابن عاشور مراجع تأويلها (¬3). ومدار هذه الأقوال وأشهرها يدور على أربعة أقوال (¬4): القول الأول: أي لم يكن هؤلاء الكفار من أهل التوراة والإنجيل، والمشركون من عبدة الأوثان منفكين ومنتهين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة.، وهذا قول مجاهد وقتادة وابن زيد (¬5). القول الثاني: المعنى أنهم لم يكونوا تاركين صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم، حتى يبعث، فلما بعث تفرقوا فيه القول الثالث: المراد لم يكونوا منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة. القول الرابع: تأويل الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجب - أي أن كلمة منفكين لا تؤخذ على ظاهرها _، وذلك بصرف الخبر عن ظاهره إلى المعنى المجازي بأن يستعمل في معنى الإنشاء والتوبيخ. ورجّح ابن عاشور القول الرابع فقال: " وإذ قد تقرر وجه الإِشكال وكان مظنوناً أنه ملحوظ للمفسرين إجمالاً أو تفصيلاً , فقد تعين أن هذا الكلام ليس ¬

(¬1) روح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 427. (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي , ج 20 , ص 141. (¬3) انظر التحرير والتنوير، ج 15، ص 470 - 471. (¬4) انظر النكت والعيون / الماوردي، ج 6، ص 315، والتحرير والتنوير، ج 15، ص 470 - 471. (¬5) أخرج رواياتهم الطبري في تفسيره، ج 30، ص 317.

وارداً على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه، فوجب صرفه عن ظاهره، إما بصرف تركيب الخَبر عن ظاهر الإِخبار وهو إفادة المخاطَب النسبة الخبرية التي تضمنها التركيب، بأن يُصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب، وإما بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجاز أو كناية " (¬1)، وإلى هذا المعنى ذهب الفراء (¬2) والزمخشري (¬3). أما الطبري فقد رجّح القول الثاني فقال: " وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: معنى ذلك: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مفترقين في أمر محمد، حتى تأتيهم البيِّنة، وهي إرسال الله إياه رسولا إلى خلقه. (¬4)، في حين اختار الرازي، وكذلك ابن كثير، والشوكاني، والقاسمي القول الأول (¬5)، وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد (¬6) واختار القول الثالث ابن عطية ووصفه بأنه قول بارع في معنى الآية وتبعه أبو حيان، والشنقيطي كذلك حيث ذكر أن هذا القول يحل الإشكال الوارد ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 470. (¬2) معاني القرآن / الفراء، ج 3، ص 281. (¬3) الكشاف / الزمخشري، ج 6، ص 411. (¬4) تفسير الطبري، ج 30، ص 317. (¬5) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 423، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 474، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 454. (¬6) أخرج رواياتهم الطبري في تفسيره، ج 30، ص 317.

على الآية (¬1). أما القرطبي فقد ساق تلك الأقوال ولم يرجح (¬2). حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن معنى منفكين أي منتهين عن كفرهم: قال الرازي: " ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا لكنه معلوم، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول" (¬3). حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن معنى منفكين أي تاركين صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم: هذا القول رجحه الطبري، ولم يذكر وجهاً لترجيحه. قال القشيري: " وفيه بعد؛ لأن الظاهر من قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} أن هذا الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -. فيبعد أن يقال: لم يكن الذين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - منفكين حتى يأتيهم محمد، إلا أن يقال: أراد: لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد - وإن كانوا من قبل معظمين له، بمنتهين عن هذا الكفر، إلى أن يبعث الله محمدا إليهم ويبين لهم الآيات، فحينئذ يؤمن قوم " (¬4). وكذلك ردّه شيخ الإسلام بقوله: " فليس في اللفظ ما يدل على أن الانفكاك عن أمر محمد خاصة، وأيضاً هذا المعنى مذكور في قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج، ص، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 495، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1982. (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 20، ص 140 - 141. (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 11، ص 237. (¬4) لم أقف على هذه العبارة في لطائف الإشارات ونقلته من تفسير القرطبي، ج 20، ص 141.

أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} فلو أريد بهذه لكان تكريراً محضاً (¬1). حجة أصحاب القول الثالث الذين يرون أن معنى منفكين أي من أمر الله تعالى وقدرته ونظره: استدلوا على ذلك بما جاء في كتاب الله تعالى دالاً عليه، قال ابن عطية وهذا المعنى له نظائر في كتاب الله تعالى (¬2) والذي يظهر والله أعلم أن ابن عطية رجح هذا القول بناء على قاعدة: (القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على غيره). ومن الآيات التي تدل على هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} (¬3) ويماثله قول الله -جل وعلا-: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (¬4). وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ¬

(¬1) مجموع الفتاوى / شيخ الإسلام ابن تيمية، 16، ص 488. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 507. (¬3) سورة الزخرف، الآية (3 - 5). (¬4) سورة المؤمنون، الآية (115).

ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (¬1). "وقد يكون من حجتهم على هذا القول قول بعض اللغويين أن معنى: «مُنفكِّينَ»، أي: هالكين، من قولهم: انفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك، والمعنى: لم يكونوا معذّبين، ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب " (¬2). حجة أصحاب القول الرابع الذين يرون أن منفكين لا تؤخذ على ظاهرها وإنما تؤول وهم يرون أن الآية جاءت بمعنى التوبيخ، وحجتهم في هذا المعنى بينها الزمخشري بقوله: "كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأصنام يقولون قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرّهم على الكفر إلاّ مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله الغنى، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقاً، فيقول واعظه: لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلاّ بعد اليسار: يذكره ما كان يقوله توبيخاً وإلزاماً. وانفكاك الشيء من الشيء: أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم ¬

(¬1) سورة ص، الآية (27). (¬2) اللباب في علوم الكتاب / ابن عادل، ج 20، ص 435.

إذا انفك من مفصله؛ والمعنى: أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلاّ عند مجيء البينة. و (البينة) الحجة الواضحة. و (رَّسُولٌ) بدل من البينة (¬1). وقال الفراء: " ويصدق ذلك: قوله عز وجل: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (¬2) " (¬3). وأعجب هذا القول ابن عاشور حيث قال فيه: " وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإِخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكايةِ من صَلَف المُخبر عنه، وهو استعمال عزيز بديع وقريب منه قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} (¬4) إذ عَبَّر بصيغة يَحْذَر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقاً ولذلك قال الله تعالى: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا} " (¬5). وذكر ابن عاشور أن هذا القول تؤيده آية أخرى وهو قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ ¬

(¬1) الكشاف / الزمخشري، ج 6، ص 411. (¬2) سورة البينة، الآية (4). (¬3) معاني القرآن / الفراء، ج 3، ص 281. (¬4) سورة التوبة، الآية (64). (¬5) التحرير والتنوير، ج 15، ص 471.

يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (¬1). فمما سبق تبيّن لنا أن ابن عاشور قد رجّح هذا القول بناء على القاعدة وهي: (تقديم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة) حيث قال: "فقد تعين أن هذا الكلام ليس وارداً على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه، فوجب أن يُصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب، وإما بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجاز أو كناية " (¬2). كما أنه عضد قوله بتأييد الآية القرآنية له، وذلك ضمن القاعدة التي تقول: (القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على غيره). القول الراجح: ولكن الذي يظهر لي بعد الدراسة والنظر أن القول الراجح هو القول الثالث وهو الذي رجحه ابن عطية، وذكر الشنقيطي أنه يحل الإشكال الوارد على الآية، كما تقدم. وكذلك ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية حيث ناقش تلك الأقوال وردّ بعضها ثم قال: فقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (¬3) أي: لم يكونوا متروكين ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (89). (¬2) التحرير والتنوير، ج 15، ص 470. (¬3) سورة البينة، الآية (1).

باختيار أنفسهم على هواهم يفعلون ما يهوونه ولا حجر عليهم، كما أن المنفك لا حجر عليه .. إلى أن قال: فالمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا ترسل إليهم رسل، والمعنى: أن الله لا يخليهم ولا يتركهم، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولاً كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (¬1) أي: لا يؤمر ولا ينهى، يعني: أيظن أن هذا يكون؟ ! فهذا ما لا يكون البتة، بل لابد أن يؤمر وينهى. وقريب من ذلك قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)} (¬2) أنعرض عنكم بسبب إشراككم؟ ! فهذا استفهام إنكاري بمعنى: لأجل إشراككم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل؟ ! فهذا ما لا يكون. فتبين من ذلك كله أن الأصح في تفسير قوله تعالى: ((مُنفَكِّينَ)) أي: متروكين، وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي، ويستقيم السياق، ويتضح المعنى (¬3). ¬

(¬1) سورة القيامة، الآية (36). (¬2) سورة الزخرف، الآية (4). (¬3) انظر مجموع الفتاوى / شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 16، ص 482 - 489. ونظائر هذه الأمثلة في تفسيره هي الآتي: 1 - ... ما جاء في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أَشَدُّ قَسْوَةً ... } (البقرة: 74) وفيها قوله: " والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام .. ، واستعملت في القلوب مجازاً وهو الصحيح، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة " (التحرير والتنوير، ج 1، ص 563). 2 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ .. } (آل عمران: 135)، وفيه قوله: " والذكر في قوله: " ذَكَرُوا اللَّهَ " ذكر القلب وهو ذكر ما يجب لله على عبده، وما أوصاه به. وأما ذكر اللسان فلا يترتب عليه ذلك، والاستغفار طلب الغفر أي الستر، وهو مجاز في عدم المؤاخذة " (التحرير والتنوير، ج 3، ص 92). 3 - ... ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (النساء: 171)، وفيها قوله: " إطلاق الكلمة على التكوين مجاز، وليس هو بكلمة .. " (التحرير والتنوير، ج 4، ص 52). 4 - ... ما جاء في قوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} (الزخرف: 186)، وفيه قوله: " " ومستمسكون " مبالغة في ممسكون، يقال: أمسك بالشيء إذا شدّ عليه يده، وهو مستعملاً مجازاً في معنى الثبات على الشيء كقوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الزخرف: 43) (التحرير والتنوير، ج 12، ص 187). 5 - ... ما جاء في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (التغابن: 8)، وفيه قوله: فليست مادة التغابن في قوله " يوم التغابن" مستعملة في حقيقتها إذ لا تعارض حتى يكون فيه غبن بل هو مستعمل في معنى الخسران على وجه المجاز المرسل " (التحرير والتنوير، ج 13، ص 276).

المبحث الخامس إذا خلت الأقوال في الآية من مستند شرعي وكانت متساوية فالقول الموافق لما جاء في التوراة مقدم على غيره.

المبحث الخامس إذا خلت الأقوال في الآية من مستند شرعي وكانت متساوية فالقول الموافق لما جاء في التوراة مقدم على غيره. صورة القاعدة: إذا اختلف المفسرون في تفسير آية من كتاب، ولم يكن لكل منهم دلالة واضحة على قوله، وليس هناك دليل قوي يرجح قول أحدهم، فإن القول الذي يوافق ما جاء في التوراة أقرب للصواب. ومما يلاحظ على ابن عاشور أنه كان أحياناً يستعين بما جاء في التوراة لتأييد ما يذهب إليه، فيقول: (وجاء في سفر كذ) (وظاهر ما في سفر كذا) وهذا قد يعد مأخذاً، فالقرآن مهيمن على الكتب السابقة. ولكننا قد نعذره أحيانا لكونه في مقام المجتهد الذي يريد أن يحسم قولا راجحا في الآية فهو بعد البحث والنظر وحين لا تسعفه الأدلة يذكرها من باب اللطائف التي تعزز قوله في الترجيح، ويؤكد ذلك أنه في موضع من تفسيره وبعد أن ذكر ما جاء في سفر التثنية وفيه ما يشير إلى ما يراه راجحاً قال بعد ذلك: " وبعد فالقرآن حجة على غيره مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً عليه " (¬1). ومع ذلك فإننا نجد اهتمام ابن عاشور بهذه القاعدة ظاهر في مواضع عدة من تفسيره حتى إننا لنجده أحياناً يرد قولاً ذكره المفسرون لأنه لم يجده في ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 506.

كتب بني إسرائيل. ومن ذلك قوله في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} (¬1): "وليس في كتب بني إسرائيل ولا في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن الله قلع الطور من موضعه ورفعه فوقهم وإنما ورد ذلك في أخبار ضعاف فلذلك لم نعتمده في التفسير " (¬2). مع أن ظاهر الآية يدل على ذلك، وإليه ذهب المفسرون. قال أبو عبيدة: "المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه. قال: وكل شيء قلعته فرميت به فقد نتقته، وقيل نتقناه رفعناه" (¬3). وقال السدي: " فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجدًا فسجدوا على شق، ونظروا بالشق الآخر، ففكشفه عنهم، فقالوا: والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم، فهم يسجدون كذلك " (¬4). وقال ابن كثير: " وفي حديث الفتون: عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا " (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (63). (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 541. (¬3) ذكره الطبري في تفسيره , ج 1، ص 132. (¬4) ذكره الطبري في تفسيره، ج 1، ص 374. (¬5) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 435.

أقوال العلماء في القاعدة

أما عن موقف ابن عاشور من الإسرائيليات فشأنه شأن معظم المفسرين، حيث وقع في الإسرائيليات، إلا أنه كان مُقلاً إذا ما قارناه مع غيره من المفسرين، وكان أحياناً يُحذر منها، ويصفها بالخرافات وعلى كل حال، فهو بالنسبة لغيره يُعدّ من المقلّين في هذا المجال. أقوال العلماء في القاعدة: هذه القاعدة لم أجد لها ذكرا عند العلماء ولكني استوحيتها من تفسير ابن عاشور، حيث وجدته في أكثر من موضع إذا اختلفت الأقوال حول الآية فإنه يؤيد ما ذهب إليه بما جاء في التوراة، أما عن موقف العلماء من هذه القاعدة فسيتضح بما يأتي: قال ترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -: " كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محضاً لم يشب " (¬1). وقال الحافظ ابن كثير: " وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " (¬2). فيما قد يجوزه العقل، فأما ما تحيله العقول، ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء"، ج 13، ص 345، ح- 7363. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ج 6، ص 572, ح 3461، من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً. (¬3) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 236.

واعتبر الزرقاني دخول الإسرائيليات في التفسير سبباً من أسباب ضعف التفسير المأثور حيث قال: " إن تلك الروايات مليئة بالإسرائيليات ومنها كثير من الخرافات التي يقوم الدليل على بطلانها ومنها ما يتعلق بأمور العقائد التي لا يجوز الأخذ فيها بالظن " (¬1). وقال العلامة عبد الرحمن السعدي: " واعلم أن كثيراً من المفسرين قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل، ونزلوا عليه الآيات القرآنية، وجعلوها تفسيراً لكتاب الله تعالى ... ولا يجوز جعلها تفسيراً لكتاب الله قطعاً إذا لم تصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أن مرتبتها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكاً فيها، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة، التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها، معاني لكتاب الله، مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد، ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل " (¬2). وتكلم الأستاذ محمد حسين الذهبي عن حقيقة الإسرائيليات، وموقف المفسر إزاءها كلاماً جيداً، فبعد أن ذكر أقسام الإسرائيليات قال: " علمنا أن كثرة النقل عن أهل الكتاب بدون تفرقة بين الصحيح والعليل دسيسة دخلت فى ديننا واستفحل خطرها، كما علمنا أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تُصَدِّقوا أهل الكتاب ولا ¬

(¬1) مناهل العرفان / الزرقاني، ج 2 / ص 19. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 1، ص 68.

أمثلة تطبيقية على القاعدة

تُكَذِّبوهم" قاعدة مقرَّرة لا يصح العدول عنها بأى حال من الأحوال، وبعد هذا وذاك نقول: إنه يجب على المفسِّر أن يكون يقظاً إلى أبعد حدود اليقظة، ناقداً إلى نهاية ما يصل إليه النقاد من قدة وروية حتى يستطيع أن يستخلص من هذا الهشيم المركوم من الإسرائيليات ما يناسب روح القرآن، ويتفق مع العقل والنقل، كما يجب عليه أن لا يرتكب النقل عن أهل الكتاب إذا كان فى سنَّة نبينا - صلى الله عليه وسلم - بيان لمجمل القرآن، على أن من الخير للمفسِّر أن يعرض كل الإعراض عن هذه الإسرائيليات وأن يمسك عما لا طائل تحته مما يُعَد صارفاً عن القرآن، وشاغلاً عن التدبير في حكمه وأحكامه، وبدهي أن هذا أحكم وأسلم " (¬1). أمثلة تطبيقية على القاعدة: 1 - مثال خلق السماوات والأرض: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬2). وقع خلاف بين علماء السلف في خلق السماوات والأرض وأيهما سبق الآخر، وقد ساق هذه الأقوال ابن عاشور في تفسيره فقال: " وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض فقال الجمهور منهم مجاهد والحسن ونسب إلى ابن عباس - رضي الله عنه -: إن خلق الأرض متقدم ¬

(¬1) التفسير والمفسرون / الذهبي، ج 1، ص 191 - 193. (¬2) سورة البقرة، الآية (29).

على خلق السماء، لقوله تعالى هنا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} وقوله في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} (¬1) إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (¬2). وقال قتادة والسدي ومقاتل: إن خلق السماء متقدم، واحتجوا بقوله تعالى: {بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} (¬3) إلى قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (¬4) وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولاً ثم خلقت السماء ثم دُحيت الأرض فالمتأخر عن خلق السماء هو دحْو الأرض، على ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتى جمدت وتكونت منها قشرة جامدة ثم تشققت، وتفجرت، وهبطت منها أقسام، وعلت أقسام بالضغط إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة متناهية الطول، وقدرة الله صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه " (¬5). ورجّح ابن عاشور أن السماء خلقت قبل الأرض، ومن تعليله لهذا الاختيار أن ظاهر سفر التكوين يقتضي هذا، ومن قوله: "وأرجح القولين هو أن السماء ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية (9). (¬2) سورة فصلت، الآية (11). (¬3) سورة النازعات، الآية (27 - 28). (¬4) سورة النازعات، الآية (30). (¬5) التحرير والتنوير، ج 8، ص 384.

خلقت قبل الأرض لأن لفظ (بعد ذلك) أظهر في إفادة التأخر من قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} , ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي , وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض " (¬1). وقد وافقه الرازي على هذا الاختيار (¬2). في حين ذهب الطبري، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، وأبو حيان، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي إلى أن الأرض خلقت قبل السماء (¬3). حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن الأرض خلقت قبل السماء: حجتهم على ذلك الأدلة الظاهرة على خلق الأرض قبل السماء ومن ذلك: 1 - قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 8، ص 384. (¬2) حيث ذكر في تفسيره أن القول بأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء هو رأي بعض الملحدة. انظر تفسير الرازي، ج 1، ص 380. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 222، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 115، والجامع للأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 383، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، 282، وتفسير القرآن العظيم/ ابن كثير، ج 1، ص 108، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 61، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 218، محاسن التأويل /القاسمي، ج 1، ص 311، أضواء البيان / الشنقيطي، ص 26.

يَوْمَيْنِ} (¬1) إلى أن قال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (¬2). قال ابن عطية: " وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء " (¬3). قال ابن كثير: " وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (¬4). فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعًا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة: أنه زعم أن السماء خلقت قبل ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية (9 - 11). (¬2) سورة فصلت، الآية (11). (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 115. (¬4) سورة فصلت، الآية (9 - 12).

الأرض " (¬1). 2 - ما جاء في صحيح البخاري أنه قال: قال المنهال عن سعيد قال: قال رجل لابن عباس - رضي الله عنه -: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ قال: وذكر منها قوله: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} (¬2) إلى قوله: {دَحَاهَا} فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض. ووجه الإشكال الوارد على الآية أن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (¬3).وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء -ولكن كان جواب ابن عباس - رضي الله عنه - بقوله: " إنه خلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء، فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض، ودحوها أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: {دَحَاهَا} (¬4). وكذلك ذكر العلماء على ذلك جواباً وهو: أن الله خلق الأرض بأقواتها أولاً من غير أن يدحوها قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (¬5). ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير، ج 1، ص 108. (¬2) سورة النازعات، الآية (27). (¬3) سورة النازعات، الآية (30). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير حم السجدة فصلت، ج 4، ص 1815 ,ح- 4537. (¬5) انظر جامع البيان/ الطبري، ج 1، ص 223.

قال أبو حيان: " والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء, وخلقت السماء بعدها ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء وبهذا يحصل الجمع بين الآيات " (¬1). 3 - ومن الأدلة التي ذكرها أصحاب هذا القول أيضاً أن "ثم" في قوله تعالى: " {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (¬2) تفيد الترتيب فالله خلق الأرض ثم السماء. ولكن هذا الدليل ممكن أن يجاب عليه كما ذكر الرازي وهو أن: «ثم» ليس للترتيب ههنا وإنما هو على جهة تعديد النعم، مثاله قول الرجل لغيره: أليس قد أعطيتك النعم العظيمة ثم رفعت قدرك ثم دفعت الخصوم عنك، ولعل بعض ما أخره في الذكر قد تقدم فكذا ههنا والله أعلم (¬3). وقد يرد إشكال آخر ذكره الرازي في تفسيره، وهو ورود عدد من الآيات قدم فيها ذكر السماء على ذكر الأرض، مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء، ومن ذلك قوله تعالى: " {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} (¬4). فلم قدم ذكر السماء على الأرض؟ والجواب: أن السماء كالدائرة، ¬

(¬1) البحر المحيط، ج 1، ص 282. (¬2) سورة فصلت، الآية (11). (¬3) تفسير الرازي، ج 1، ص 381. (¬4) سورة ق، الآية (6 - 7).

والأرض كالمركز، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس، فإن حصول المركز لا يوجب تعين الدائرة لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها، فلما كانت السماء متقدمة على الأرض بهذا الاعتبار وجب تقديم ذكر السماء على الأرض بهذا الاعتبار (¬1). حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن السماء خلقت قبل الأرض: استدلوا بقوله تعالى: {بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} - إلى قوله - {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (¬2). قال القرطبي: "وهذا يشير إلى كون الأرض بعد السماء " (¬3). والقرطبي يرى أن الأرض خلقت قبل السماء، ولكنه خرّج قول قتادة على وجه صحيح حيث قال: " وقول قتادة يخرج على وجه صحيح إن شاء الله تعالى، وهو أن الله تعالى خلق أولا دخان السماء ثم خلق الارض، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواها، ثم دحا الارض بعد ذلك " (¬4). ومما يدل على هذا القول أيضاً ورود كثيرمن الآيات التي تذكر فيها أسبقية السموات على الأرض منها قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ¬

(¬1) انظر التفسير الكبير / الرازي ج 4، ص 477، عند تفسيره لقوله تعالى: " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور " سورة الأنعام، الآية (1). (¬2) سورة النازعات، الاية (30). (¬3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 196. (¬4) الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 1، ص 383.

(27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (¬1)، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} (¬2). وممكن أن يجاب على هذا بأن التقديم هنا ليس للأسبقية وإنما للأفضلية والشرف. وهو الذي يراه ابن عاشور ويرجحه أن السماء خلقت قبل الأرض مستدلاً على ذلك بعدة أمور: 1 - إن السماء خلقت قبل الأرض لأن لفظ (بعد ذلك) أظهر في إفادة التأخر من قوله: (ثم استوى إلى السماء). 2 - إن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي. 3 - ظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض (¬3). فالملاحظ مما سبق أن ابن عاشور جعل من أدلته على أسبقية خلق السماء ¬

(¬1) سورة النازعات، الآية (27 - 30). (¬2) سورة الأنبياء , الآية (30). (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 384.

للأرض ما تضمنته الكتب المقدسة وهو (سفر التكوين)، فدل ذلك على أنه في حال تضارب الأقوال يجد أحيانا في التوراة ما يسوغ له ترجيح قول على آخر. القول الراجح: والذي يظهر لي بعد النظر في الأقوال أن خلق الأرض متقدم على خلق السماوات. ويؤيد هذا القول ما جاء في السنة المطهرة، ولاسيما ومن القواعد المتفق عليها في الترجيح بين المفسرين أنه (إذا اختلفت أقوال المفسرين في الآية، فإن القول الذي تدل عليه السنة الثابتة مقدم على غيره). وأما مااختاره ابن عاشور مستندا في ذلك على ما جاء في سفر التكوين فلا أراه مصيباً في ذلك لأنه لنا في الاستدلال بالقرآن ما يكفينا عن ذلك. قال ابن كثير: " وفي الأخبار غُنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة والأتقياء، والبررة والنجباء، من الجهابذة النقاد، والحفَّاظ الجياد، الذين دونوا الحديث وحررُّوه، وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه، من منكره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضَّاعِين والكذّابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال " (¬1). وقد جاء في صحيح البخاري أن ابن عباس - رضي الله عنه - سُئل عن هذا بعينه، ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 155.

فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وقد تقدم وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا. وقال الطبري: " والقول الذي ذكرناه عن ابن عباس من أن الله تعالى خلق الأرض، وقدّر فيها أقواتها، ولم يدحها، ثم استوى إلى السماء، فسوّاهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فأخرج منها ماءها ومرعاها، وأرسى جبالها، أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل، لأنه جلّ ثناؤه قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} والمعروف من معنى " بَعْدَ " أنه خلاف معنى " قَبْل " وليس في دحوِّ الله الأرض بعد تسويته السماوات السبع، وإغطاشه ليلها، وإخراجه ضحاها، ما يوجب أن تكون الأرض خُلقت بعد خلق السموات لأن الدحوّ إنما هو البسط في كلام العرب، والمدّ يقال منه: دحا يدحو دَحْوا، ودَحيْتُ أدْحي دَحْيا، لغتان (¬1). وقال الشنقيطي في معرض تفسيره لقوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} (¬2): " اعلم أولاً أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية السجدة وآية النازعات، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولاً قبل السماء غير مدحورة، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعاً في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 59. (¬2) سورة فصلت، الآية (10).

فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك. فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك، بعد خلق السماء. ويدل لهذا أنه قال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (¬1) ولم يقل خلقها ثم فسر دحوه إياها بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (¬2) وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه. مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية البقرة هذه؛ وإيضاحه أن ابن عباس - رضي الله عنه - جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء. وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3) (¬4). وقد سُئل السيوطي عن هذه المسألة شعراً فقال السائل: يا عالم العصر لا زالت أناملكم ... لقد سمعت خصاما بين طائفة ¬

(¬1) سورة النازعات، الآية (30). (¬2) سورة النازعات، الآية (31). (¬3) سورة البقرة، الآية (29). (¬4) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1486.

في الأرض هل خلقت قبل السماء وهل ... فمنهم قال إن الأرض منشأة فأجاب: الحمد لله ذي الأفضال والمنن ... الأرض قد خلقت قبل السماء كما ولا ينافيه ما في النازعات أتى ... فالحبر أعني ابن عباس أجاب بذا وابن السيوطي قد قال الجواب لكي ... ثم الصلاة على المبعوث بالسنن قد نصه الله في حم فاستبن ... فدحوها غير ذاك الخلق للفطن لما أتاه به قوم ذوو لسن ... ينجو من النار والآثام والفتن (¬1). 2 - مثال فومها: قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (¬2) اختلف المفسرون في المراد بـ " فومها" في هذه الآية: فقيل هو المعروف لأنه المشاكل للبصل. ¬

(¬1) انظر الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين في القرآن الرابع عشر الهجري / عبد المحسن بن زين متعب العطيري / ج 1 , ص 52. (¬2) سورة البقرة، الآية (61).

وقيل: الفوم الحنطة كما روى عن ابن عباس وأكثر المفسرين (¬1). ورجح ابن عاشور، وكذلك الألوسي، والقاسمي أن المراد بـ (فومها) هو الثوم المعروف. ومن أدلة ابن عاشور على اختياره هذا كونه موافقا لما جاء في التوراة، وكذلك القاسمي (¬2). أما الطبري فقد مال إلى هذا القول ولكن لم يصرح (¬3). وساق كل من ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني الأقوال في معنى فومها , ولم يرجحوا (¬4). حجة من قال: إن المراد بقوله (فومها) هو الثوم المعروف: استدلوا على ذلك بما روي عن سعيد بن جبير والضحاك في أن المراد بقوله " فومها"الثوم " (¬5). كما استدلوا على ذلك بقراءة ابن مسعود " ثومها" بالثاء (¬6). ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 153، والتفسير الكبير/ الرازي، ج 1، ص 153، والجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 1، ص 429، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 395، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 426، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 91. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 522، روح المعاني الألوسي، ج 1، ص 275، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 347 (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 359. (¬4) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 153، والتفسير الكبير/ الرازي، ج 1، ص 153، والجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 1، ص 429، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 395، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 426، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 91. (¬5) أخرج رواياتهم ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 1، ص 108. (¬6) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 358، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 153 ـ وهذه قراءة شاذة. انظر القراءات الشاذة / ابن خالويه، ص 6.

قال ابن قتيبة: " وهذا أعجب الأقاويل إلي؛ لأنها في مصحف عبد الله: " وثومها" (¬1). وذكر الرازي عدة أدلة على أن المراد به الثوم المعروف من بينها قراءة ابن مسعود المتقدمة وأضاف وجهين آخرين هما: - أن المراد لو كان هو الحنطة لما جاز أن يقال: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (¬2)، وأن الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة (¬3). وللألوسي استدلال جميل على ذلك حيث يقول: "والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من الأرض وذكره مع البقل وغيره. (¬4). وهو الذي اختاره ابن عاشور وأضاف على ما ذكر أنه الأظهر والموافق لما عد معه، وهذا قوله: " وقد اختلف في الفوم , فقيل: هو الثوم بالمثلثة وإبدال الثاء فاء شائع في كلام العرب , كما قالوا جدث وجدف وثلغ وفلغ , وهذا هو الأظهر والموافق لما عد معه ولما في التوراة " (¬5). حجة من قال: إن المراد بـ " فومها " الحنطة والخبز: استدلوا على ذلك بما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه -، ومجاهد، والسدي وغيرهم ¬

(¬1) تفسير غريب القرآن / ابن قتيبة، ص 50. (¬2) سورة البقرة، الآية (61). (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 532. (¬4) روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 275. (¬5) التحرير والتنوير، ج 1، ص 522.

في أن المراد بـ (فومها) الحنطة والخبز " (¬1). وفي رواية عن ابن عباس - رضي الله عنه - أيضاً أنه سئل عن قول الله وفومها، ما فومها؟ قال: الحنطة. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: أما سمعت قول أحيحة بن الحلاج (¬2) وهو يقول: قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ... ورد المدينة عن زراعة فوم (¬3). ورجّح الزجاج وكذلك النحاس هذا المعنى. قال الزجاج: " لا خلاف عند أهل اللغة أن الفوم الحنطة، وسائر الحبوب التي تخبز يلحقها اسم الفوم، ومحال أن يطلب القوم طعاماً لا بُرّ فيه، والبر أصل الغذاء كله، ويقال فوّموا لنا أي اخبزوا لنا " (¬4). القول الراجح: إن المراد بقوله " فومها " هو الحنطة كما رجّح ذلك عدد من المفسرين. (¬5). قال البخاري: " قال بعضهم: الحبوب التي تؤكل كلها فوم " (¬6). ¬

(¬1) أخرج رواياتهم الطبري في تفسيره، ج 1، ص 358. (¬2) هو أبو عمرو أحيحة بن الجلاح بن الحريش الأوسي شاعر جاهلي من دهاة العرب وشجعانهم، قال الميداني: كان سيد يثرب وكان له حصن فيها ومزارع وبساتين ومال وفير. (الأعلام / الزركلي، ج 1، ص 277). (¬3) أخرج رواية ابن عباس ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 1، ص 108. (¬4) انظر معاني القرآن / الزجاج، ج 1، ص 143. (¬5) التحرير والتنوير، ج 1، ص 522. (¬6) صحيح البخاري، كتاب التفسير، ج 4، ص 1625، ح - 4206.

ومما يقوي هذا القول ويعضده القاعدة الترجيحية: (إذا ثبت الحديث وكان نصا في تفسير الآية فلا يُصار إلى غيره)، وقد ثبت هذا المعنى في حديث نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر وسؤالهم ابن عباس وفيه: فأخبرني عن قول الله عز وجل: وفومها، ما الفوم؟ قال: الحنطة. قال: وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم , أما سمعت قول أبي ذؤيب الهذلي: قد كنت تحسبني كأغنى وافد ... قدم المدينة عن زراعة فوم " (¬1). كما يعضد هذا القول ويرجحه قاعدة: (يجب حمل كلام الله تعالى على المعروف من كلام العرب). قال الفراء: " فإن الفوم فيما ذكر لغة قديمة , وهي الحنطة والخبز جميعاً، قال بعضهم: سمعنا العرب من أهل هذه اللغة يقولون: فوموا لنا بالتشديد لا غير " (¬2). وقال ابن منظور: " الفُومُ الزَّرع أو الحِنْطة وأَزْدُ الشَّراة يُسمون السُّنْبُل فُوماً الواحدة فُومة، والفُوم الخبز أيضاً يقال: فَوِّموا لنا أي اخْتَبِزُوا. وقال الفراء: هي لغة قديمة. وقيل: الفُوم لغة في الثُّوم. قال ابن سيده: أُراه على البدل. قال ابن جني: ذهب بعض أَهل التفسير في قوله عز وجل "وفُومِها وعَدَسِها "إلى أنه أراد الثُّوم فالفاء على هذا عنده بدل من الثاء قال والصواب عندنا أن الفُوم الحِنطة وما يُخْتَبَز من الحبُوب يقال فَوَّمْت الخبز واختبزته وليست الفاء على ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ج 10، ص 253، ح- 10597. (¬2) معاني القرآن / الفراء، ج 1، ص 41.

هذا بدلاً من الثاء وجمعوا الجمع فقالوا فُومانٌ حكاه ابن جني قال والضمة في فُوم غير الضمة في فُومان كما أن الكسرة التي في دِلاصٍ وهِجانٍ غير الكسرة التي فيها للواحد والألف غير الألف. " (¬1) 3 - مثال المتكبرين في الأرض: قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (¬2). اختلف المفسرون في من المخاطب في هذه الآية هل هو خطاب موجه لموسى وقومه، أو أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو هي عامة لكل الأمم (¬3). وساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره وذكر أنه يجوز أن تكون هذه الآية تكملة لما خاطب الله به موسى وقومه، فتكون جملة (سأصرف) إلخ بأسهم، استئنافاً بيانياً، لأن بني إسرائيل كانوا يهابون أولئك الأقوام ويخْشوْن، فكأنهم تساءلوا كيف تُرينا دارهم وَتعدُنا بها، وهلْ لا نهلك قبل الحلول بها، كما ¬

(¬1) لسان العرب / ابن منظور، ج 10، ص 355، مادة: فوم. (¬2) سورة الأعراف، الآية (146). (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 74، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 454 ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 5، ص 185.

حكى الله عنهم: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} (¬1). ويجوز أن تكون: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} من خطاب الله تعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فتكون الجملة معترضة في أثناء قصة بني إسرائيل بمناسبة قوله: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} (¬2) تعريضاً بأن حال مشركي العرب كحال أولئك الفاسقين، وتصريحاً بسبب إدامتهم العناد والإعراض عن الإيمان، فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، ثم ذكر ابن عاشور أن الاحتمال الأول ورد في التوراة في الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد (¬3). وابن عاشور وبالرغم من أنه أحيانا يستشهد بما جاء في التوراة ويعضد قوله بها إلا أنه لم يلزم نفسه بما جاء فيها إذا خلت الآية من مستند، وإنما قد يعضد قولا انتصر له السياق وغيره من الأمور والقواعد التي اعتمدها كما في هذه الآية حيث أنه ذكر بعد ذلك ما يقوَّى القول الآخر لأن السياق يدل عليه وفي ذلك يقول: ". والوصاف التي تضمنتها الصلات في الآية تنطبق على مشركي أهل مكة أتم الانطباق " (¬4). ورجّح الطبري، وابن عطية، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي أن الخطاب في الآية عام لكل متكبر (¬5). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية (22). (¬2) سورة الأعراف، الآية (145). (¬3) انظر التحرير والتنوير، ج 5، ص 103. (¬4) التحرير والتنوير، ج 5، ص 104. (¬5) انظر جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 74، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 454، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 270، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 388، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 6، ص 393، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 245، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 5، ص 185.

وساق الرازي والألوسي تلك الاحتمالات ولم يرجحا (¬1). حجة من يرى أن الخطاب موجه لموسى وقومه: استدلوا بما جاء في القرآن , قال أبو مسلم الأصفهاني: " إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه، ومعنى صرفهم إهلاكهم فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ولا على منع المؤمنين من الإيمان به، وهو شبيه بقوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬2) فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة (¬3). قال إسماعيل حقي: " المراد بالآيات ما كتب في ألواح التوراة من المواعظ والأحكام وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ما وعد إراءته من دار الفاسقين, ومعنى صرفهم عنها الطبع على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون؛ لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر" (¬4). كما ذكر ابن عاشور أن الاحتمال الأول ورد في التوراة في الإصحاح ¬

(¬1) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 365، وروح المعاني/ الألوسي، ج 5، ص 58. (¬2) سورة المائدة، الآية (67). (¬3) انظر قول أبي مسلم في تفسير الرازي، ج 5، ص 365. (¬4) روح البيان في تفسير القرآن / إسماعيل حقي، ج 3، ص 255.

الرابع عشر من سفر العدد حيث يقول: " وقد حكي ذلك في الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد، فأجيبوا بأن الله سيصرف أولئك عن آياتِه .. ، ووعد الله أهلها بأن يورثهم أرض الشام، فيكون المعنى سأتَوَلّى دفعهم عنكم، ويكون هذا مثل ما ورد في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين «ها أنا طاردٌ من قُدَّامِك الأُموريين الخ»، فالصرف على هذا الوجه عناية من الله بموسى وقومِه بما يُهيء لهم من أسباب النصر على أولئك الأقوام الأقوياء، كإلقاء الرعب في قلوبهم، وتشتيت كلمتهم، وإيجاد الحوادث التي تفت في ساعد عُدتهم أو تكونُ الجملة جواباً لسؤال من يقول: إذا دخلنا أرض العدو فلعلهم يؤمنون بهدينا، ويتبعون ديننا، فلا نحتاج إلى قتالهم، فأجيبوا بأن الله يَصرفهم عن إتباع آياته؛ لأنهم جُبلوا على التكبر في الأرض، والإعراض عن الآيات، فالصرف هنا صرف تكويني في نفوس الأقوام، وعن الحسن: إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى حد إذا وصل إليه مَات قلبه " (¬1). حجة من يرى أن الخطاب موجه لمشركي مكة: حجتهم في ذلك أن الآية متصلة بقوله عن شأنه: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} (¬2)، وإيراد قصة موسى عليه السلام وفرعون للاعتبار أي سأصرف المتكبرين عن إبطال الآيات وان اجتهدوا, ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 103. (¬2) سورة الأعراف، الآية (100).

كما فعل فرعون فعاد عليه فعله بعكس ما أراد " (¬1). قال ابن عاشور: " وتعريف المصروفين عن الآيات بطريق الموصولية للإيماء بالصلة إلى علة الصرف , وهي ما تضمنته الصلات المذكورة، لأن من صارت تلك الصفات حالات له يَنصره الله، أو لأنه إذا صار ذلك حاله رين على قلبه، فصرف قلبه عن إدراك دلالة الآيات وزالت منه الأهلية لذلك الفهم الشريف , والوصاف التي تضمنتها الصلات في الآية تنطبق على مشركي أهل مكة أتم الانطباق " (¬2). حجة من يرى أن الخطاب عام لكل من تكبر على آيات الله: روى الطبري بسنده عن ابن عيينة أنه قال في هذه الآية: " أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي (¬3). قال ابن عطية موضحاً كلام ابن عيينة: " آياتي: أي كل كتاب منزل (¬4). ورجّح الطبري هذا المعنى فقال: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته، وهي أدلته وأعلامه على حقيقة ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله، وغير ذلك من فرائضه. والسموات والأرض، وكل موجود من خلقه، فمن آياته، والقرآن أيضًا من آياته، وقد عم بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحق، وهم ¬

(¬1) ذكره الألوسي ولم ينسبه، وإنما صدره بقيل، ج 5، ص 58. (¬2) التحرير والتنوير، ج 5، ص 104. (¬3) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 9، ص 73. (¬4) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 454.

الذين حقَّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والادّكار بها مصروفون، لأنهم لو وفِّقوا لفهم بعض ذلك فهُدوا للاعتبار به، اتعظوا وأنابوا إلى الحق، وذلك غير كائن منهم، لأنه جلّ ثناؤه قال: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} (¬1) فلا تبديل لكلمات الله " (¬2). القول الراجح: إن الخطاب في الآية عام لكل متكبر فيدخل فيه جميع المعاني المذكورة. ومما يؤيد هذا القول ويقويه قاعدة: (إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها). قال محمد رشيد رضا: "والمعنى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق من قومك أيها الرسول، ومن غيرهم في كل زمان ومكان كما صرفت فرعون وملأه عن آياتي التي آتيتها رسولي موسى .. وهذا بيان لسنته تعالى في تكذيب البشر لدعاة الحق والخير من الرسل وورثتهم وسببه الأول التكبر؛ فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى وتلك حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين " (¬3). وقال الدكتور وهبة الزحيلي: " الصرف هو المنع والصد، والآيات هنا: كل كتاب منزل من الله تعالى يبين في هذه الآيات سبب الطغيان والكفر والظلم ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (25). (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 74. (¬3) تفسير المنار / محمد رشيد رضا، ج 9، ص 196.

والفساد، ويقرر سبحانه أنه سيمنع قلوب المتكبرين عن طاعته وأتباع رسله عن النظر والتفكير والاستدلال بآيات الله، ويمنعهم عن فهم الأدلة والبراهين، الدالة على عظمته، ويحجبهم عن الإيمان بالآيات، مثل قوم فرعون الذين قال الله فيهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (¬1). ومثل كفار قريش كأبي جهل وأبي لهب وعتبة بن ربيعة الذين حجبهم الكبر عن النظر في الآيات مع يقينهم بصدق محمد " (¬2). 4 - مثال (واجعلوا بيوتكم قبلة): قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). قال ابن كثير: " اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} فقال الثوري وغيره، عن خُصَيْف، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: أمرُوا أن يتخذوها مساجد. وقال الثوري أيضا عن ابن منصور عن إبراهيم: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ ¬

(¬1) سورة النمل، الآية (14). (¬2) التفسير الوسيط / وهبة الزحيلي، ج 1، ص 722. (¬3) سورة يونس، الآية (87).

قِبْلَةً} قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. وكذا قال مجاهد، وأبو مالك، والربيع بن أنس، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأبوه زيد بن أسلم: وكأن هذا -والله أعلم -لما اشتد بهم البلاء من قبَل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬1) وقال مجاهد: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة، أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة، يصلون فيها سرًا. وكذا قال قتادة، والضحاك. وقال سعيد بن جبير: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أي: يقابل بعضها بعضا " (¬2). ورجّح ابن عاشور أن المقصود من هذه البيوت بيوت من خيام وغيرها غير بيوتهم التي يسكنوها، مستندا على ذلك بما جاء في التوراة، وهذا قوله: " وهذا القول هو المناسب للتبوؤ لأن التبوؤ السكنى، والمناسب أيضاً لإطلاق البيوت، وكونها بمصر فالذي يظهر بناء عليه أن هذه البيوت خيام أو أخصاص أمرهم الله باتخاذها تهيئة للارتحال وهي غير ديارهم التي كانوا يسكنونها في (جاسان) قرب مدينة فرعون وقد جاء في التوراة ما يشهد بهذا التأويل في الفصل الرابع من سفر ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (156). (¬2) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 392.

الخروج: إن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل إلى البادية ليعملوا عيد الفصح ثلاثة أيام وأن ذلك أولُ ما سأله موسى من فرعون، وأن فرعون منعهم من ذلك، وأن موسى كرر طلب ذلك من فرعون كلّ ذلك يمنعه كما في الفصل السابع والفصل الثامن من سفر الخروج، وقد صار لهم ذلك عيداً بعد خروجهم " (¬1). ولقد وافق قول ابن عاشور هذا قول الطبري من قبل، إلا أن الطبري وغيره من المفسرين لم يقولوا أنهم اتخذوا بيوتا غير بيوتهم من الخيام ليقيموا فيها الصلاة كما ذكر ابن عاشور مستشهدا على ذلك بما جاء في التوراه، أما الطبري فقد ذكر أن ترجيحه كان بناءً على أن الأغلب في معاني البيوت بيوت السكن، كما أن الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره وسيأتي قوله، كما اختار هذا القول، أبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي والقاسمي (¬2). في حين رجّح القرطبي أن المراد بالبيوت المساجد, أي: اتخذوا لكم مساجد (¬3). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 6، ص 264. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 11، ص 179، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 138، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 184، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 392، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 467، وروح المعاني / الألوسي، ج 6، ص 160، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 58، (¬3) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 8، ص 342.

حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المراد بالبيوت بيوت السكنى أن يجعلوها مساجد: حجتهم في ذلك أن المعنى الغالب في اللغة على البيوت ما كان للسكنى. كما أن ظاهر اللفظ يدل على ذلك , ولا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره. قال الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي قدمنا بيانه، وذلك أن الأغلب من معاني "البيوت" وإن كانت المساجد بيوتًا: البيوت المسكونة، إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد. لأن "المساجد" لها اسم هي به معروفة، خاصٌّ لها، وذلك "المساجد". فأمّا "البيوت" المطلقة بغير وصلها بشيء، ولا إضافتها إلى شيء، فالبيوت المسكونة. وكذلك "القبلة" الأغلب من استعمال الناس إيّاها في قبل المساجد وللصلوات. فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به، دون الخفيّ المجهول، ما لم تأت دلالة تدل على غير ذلك، ولم يكن على قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، دلالةٌ تقطع العذرَ بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر " (¬1). وقال ابن كثير: " لما اشتد بهم البلاء من قبَل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 11، ص 179.

بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬1). وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم (¬2). حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المراد بالآية اجعلوا بيوتكم مقابل بعضها بعضاً: استدلوا على ذلك بما روي عن سعيد بن جبير: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال: مقابل بعضها بعضاً (¬3). حجة أصحاب القول الثالث الذين يرون أن المراد بالآية أي اجعلوا بيوتكم إلى الكعبة والمراد أي اجعلوا مساجدكم قبل الكعبة، واستدلوا بما روي عن ابن عباس في قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} يقول: وجهوا مساجدكم نحو القبلة، ألا ترى أنه يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} (¬4) (¬5). ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 392. (¬2) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 11، ص 177. (¬3) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 11، ص 178، وفي إسناده علي بن عاصم: صدوق يخطئ ويصر، ورمي بالتشيع وروايته عن عطاء بعد الاختلاط فالإسناد ضعيف. انظر تهذيب التهذيب / ابن حجر، ج 5، ص 705 - 709. (¬4) سورة النور، الآية (36). (¬5) أخرج رواية ابن عباس الطبري في تفسيره، ج 11، ص و 178.

القول الراجح: هو ما رجحه ابن عاشور والطبري من قبل وكثير من المفسرين في أن المراد بالبيوت بيوتهم التي يسكنون فيها أمرهم أن يجعلوها مساجد يصلون فيها، والدليل على ذلك ما روى عن ابن عباس - رضي الله عنه - في ذلك. قال البغوي: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال أكثر المفسرين: كانت بنو إسرائيل لا يصلون إلا في كنائسهم وبِيَعِهم، وكانت ظاهرة، فلما أُرسل موسى أمر فرعون بتخريبها ومنعهم من الصلاة فأُمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفًا من فرعون، هذا قول إبراهيم وعكرمة عن ابن عباس. وقال مجاهد: خاف موسى ومَنْ معه من فرعون أن يصلوا في الكنائس الجامعة، فأُمروا بأن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة، يصلون فيها سرًّا. معناه: واجعلوا بيوتكم إلى القبلة " (¬1). . ومما يؤيد هذا القول ويرجحه قاعدة: (إعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى) وقد رجّح بها الطبري في تفسيره كما تقدم. (¬2). أما ماروي عن سعيد بن جبير في أن المراد بالآية يقابل بعضها بعضا , فهو لا يصح. وأما القول الثالث فيما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنها قبل الكعبة فهذا لا يبعد ¬

(¬1) معالم التنزيل / البغوي، ج 4، ص 146. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 11، ص 179.

عن القول المختار بل يدخل فيه ضمنا؛ لأن الصلاة تستلزم الاتجاه إلى القبلة وهي الكعبة. قال النيسابوري: " فالمراد من قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} أن يجعل تلك البيوت مساجد متوجهة نحو القبلة وهي جهة بيت المقدس أو الكعبة على ما نقل عن ابن عباس - رضي الله عنه - وقال الحسن: الكعبة قبلة كل الأنبياء , وإنما وقع العدول عنه بأمر الله تعالى في أيام نبينا - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة " (¬1). 4 - مثال القوم الآخرين: قال تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} (¬2) اختلف المفسرون في المراد بالقوم الآخرين في هذه الآية , فمنهم من ذهب إلى أن المقصود بهم بنو إسرائيل، ومنهم من يرى أن المراد بهم من ملك مصر بعد هلاك القبط (¬3). ورجح ابن عاشور أن القوم الآخرين هم فرعون وقومه، وحجته في ذلك ما جاء في التوراة وهذا قوله: " تركوها وأورثناها غيرهم أي فرعون الذي وُلي بعد ¬

(¬1) غرائب القرآن ورغائب الفرقان / النيسابوري، ج 3، ص 606. (¬2) سورة الدخان، الآية (28). (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 73.

موت (منفطا) وسمي (صطفا منفطا) وهو أحد أُمراء فرعون (منفطا) تزوج ابنة منفطا المسماةَ (طُوسِير) التي خلفت أباها (منفطا) على عرش مصر، ولكونه من غير نسل فرعون وُصف هو وَجُندُه بقوم آخرين وليس المراد بقوله: {قَوْمًا آخَرِينَ} قوماً من بني إسرائيل، ألا ترى أنه أعيد الاسم الظاهر في قوله عقبه: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬1) " (¬2).وقال في موضع آخر من سورة الشعراء عند قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)} (¬3) والمعنى: " أن الله أرزأ أعداء موسى ما كان لهم من نعيم إذ أهلكهم وأعطى بني إسرائيل خيرات مثلها لم تكن لهم، وليس المراد أنه أعطى بني إسرائيل ما كان بيد فرعون وقومه من الجنات والعيون والكنوز، لأن بني إسرائيل فارقوا أرض مصر حينئذ وما رجعوا إليها , كما يدل عليه قوله في سورة الدخان: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} ولا صحة لما يقوله بعض أهل قصص القرآن من أن بني إسرائيل رجعوا فملكوا مصر بعد ذلك، فإن بني إسرائيل لم يملكوا مصر بعد خروجهم منها سائر الدَّهر فلا محيص من صرف ¬

(¬1) سورة الدخان، الآية (30). (¬2) التحرير والتنوير، ج 12، ص 303. (¬3) سورة الشعراء، الآية (56 - 60).

الآية عن ظاهرها إلى تأويل يدل عليه التاريخ ويدل عليه ما في سورة الدخان " (¬1) وإلى هذا القول الذي رجحه ابن عاشور ذهب ابن عطية من قبل، وضعّف ما سواه، وكذلك القاسمي (¬2)، في حين رجّح الطبري والرازي، والقرطبي، وأبو حيان وابن كثير والشوكاني، والألوسي، والشنقيطي أن المراد بهم بنو إسرائيل (¬3). حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل: حجتهم في ذلك قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬4) فهذه الآية تفسير الآية الأولى، وليس بعد بيان الله وتفسيره بيان وتفسير. ويؤيد ذلك ما جاء في قوله تعالى (¬5).: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (¬6) ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 9، ص 33. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 73، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 309. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 25، ص 146، والتفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 660، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 137، والبحر المحيط/ أبو حيان، ج 8، ص 36، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 12، ص 343، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 575، وروح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 122، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1554. (¬4) سورة الشعراء، الآية (59). (¬5) انظر أسباب الخطأ في التفسير / طاهر محمود يعقوب، ج 1، ص 102. (¬6) سورة الأعراف، الآية (137).

قال القرطبي: " وأورثناها قوما آخرين " يعني بني إسرائيل، ملكهم الله تعالى أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين، لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث، ونظيره قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} (¬1) " (¬2). قال الشوكاني: " {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} الكاف في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف. قال الزجاج: " أي الأمر كذلك، ويجوز أن تكون في محل نصب، والإشارة إلى مصدر فعل يدل عليه تركوا , أي: مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وقيل مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وقيل: مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم. فعلى الوجه الأول يكون قوله: " وأورثناها" معطوفاً على تركوا وعلى الوجوه الآخرة يكون معطوف على الفعل المقدر , والمراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل " (¬3).وقال الألوسي: " والمراد بالقوم الآخرين بنوا إسرائيل وهم مغايرون للقبط جنسا ودينا ويفسر ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} وهو ظاهر في أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وملوكها وبه قال الحسن " (¬4). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية (137). (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 137. (¬3) فتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 575. (¬4) روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 122.

حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المراد بالقوم الآخرين من ملك مصر بعد هلاك القبط: حجتهم أنه لم يروا في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى أرض مصر في ذلك الزمان. قال ابن عطية: " لم يرو أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر في شيء من ذلك الزمان ولا ملكوها قط " (¬1). كما استدلوا - أيضاً- بأن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (¬2)، ولم يقل) ولقد نجيناهم) فيعود الضمير على بني إسرائيل.، وقال الزمخشري مؤيداً هذا القول: " الكاف فى محل نصب، على معنى: مثل ذلك الإِخراج أخرجناهم منها {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} ليسوا منهم. فعلى هذا يكون قوله: (وَأَوْرَثْنَاهَا) معطوفا على تلك الجملة الناصبة للكاف، فلا يجوز الوقف على (كَذَلِكَ) حينئذ " (¬3). قال ابن عاشور: " وليس المراد بقوله: {قَوْمًا آخَرِينَ} قوماً من بني إسرائيل، ألا ترى أنه أعيد الاسم الظاهر في قوله عقبه: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬4) ولم يقل ولقد نجيناهم (¬5). ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 73. (¬2) سورة الدخان، الآية (30). (¬3) الكشاف / الزمخشري، ج 5، ص 470. (¬4) سورة الدخان، الآية (30). (¬5) التحرير والتنوير، ج 12، ص 303.

القول الراجح: هو ما ذهب إليه معظم المفسرين من أن المراد بالقوم الآخرين هم بنو إسرائيل، أما ما رجحه ابن عاشور في أن المراد بهم من ملك مصر من القبط مستدلاً على ذلك بالتاريخ وما جاء في الكتب القديمة لا أراه إلا قد خالف الصواب فيه. قال أبو حيان: "وهذه الكتب لا معول عليها، ولا اعتبار بالتواريخ، فالكذب فيها كثير، وكلام الله صدق " (¬1). لا سيما وهذه القاعدة التي استند إليها تعارضها قاعدة أقوى منها، وهي (أن القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره).وقد جاءت بعض الآيات التي تؤيد أنهم بنو إسرائيل، وقد تقدمت. قال الشنقيطي: " لم يُبين هنا من هؤلاء القوم الذين أورثهم ما ذكره هنا، ولكنه بين في سورة الشعراء أنهم بنو إسرائيل وذلك في قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬2) ,ثم إن هناك أمرا آخر يرجح هذا القول وهو: أن سياق الآيات جاء في معرض الذم لفرعون وقومه ولومهم، فكيف يكون قومهم هم الوارثون , وعليه فيترجح حينئذ أن المراد بالقوم الآخرين هم بنو إسرائيل (¬3). ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 36. (¬2) سورة الشعراء، الآية (59). (¬3) ونظائر هذه الأمثلة كثيرة في تفسيره منها: 1 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا=

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35)، وفيها قوله: " وقد اختلف أهل القصص في تعيين نوع هذه الشجرة فعن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها الكرمة، وعن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة، وعن قتادة وابن جريج ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين. ووقع في سفر التكوين من التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر. (التحرير والتنوير، ج 1، ص 430). 2 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)} (البقرة: 55 - 56)، وفيها قول لبن عاشور: " والظاهر أن هذا القول وقع منهم بعد العفو عن عبادتهم العجل كما هو ظاهر ترتيب الآيات، روى ذلك البغوي عن السدي، وقيل: إن ذلك سألوه عند مناجاته وأن السائلين هم السبعون الذين اختارهم موسى للميقات وهم المعبر عنهم في التوراة بالكهنة وبشيوخ بني إسرائيل. وقيل: سأل ذلك جمع من عامة بني إسرائيل نحو العشرة الآلاف وهذان القولان حكاهما في «الكشاف» وليس في التوراة ما هو صريح لترجيح أحد القولين ولا ما هو صريح في وقوع هذا السؤال ولكن ظاهر ما في سفر التثنية منها ما يشير إلى أن هذا الاقتراح قد صدر وأنه وقع بعد كلام الله تعالى الأول لموسى. (التحرير والتنوير، ج 1، ص 506). 3 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (البقرة: 58 - 59)، وفيها قوله: " وإنما جاء بالظاهر في موضع المضمر في قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ولم يقل عليهم لئلا يتوهم أن الرجز عم جميع بني إسرائيل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وبذلك تنطبق الآية على ما ذكرته التوراة تمام الانطباق. (التحرير والتنوير، ج 1، ص 514). 4 - ... ما جاء في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} (البقرة: 71).، وفيها قوله: " والذلول بفتح الذال فعول من ذل ذلاً بكسر الذال في المصدر بمعنى لان وسهل. وأما الذل بضم الذال فهو ضد العز وهما مصدران لفعل واحد خص الاستعمال أحد المصدرين بأحد المعنيين. والمعنى إنها لم تبلغ سن أن يحرث عليها وأن يسقى بجرها أي هي عجلة قاربت هذا السن وهو الموافق لما حدد به سنها في التوراة. (التحرير والتنوير، ج 1، ص 555). 5 - ... ما جاء في قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (الصافات: 100)، وفيها قوله: " ومما يدل على أنه سأل النسل ما جاء في سفر التكوين (الإصحاح الخامس عشر) «وقال أبرام: إنك لم تعطني نسلاً وهذا ابن بيتي (بمعنى مولاه) وارث لي (أنهم كانوا إذا مات عن غير نسل ورثه مواليه)». وكان عمر إبراهيم حين خرج من بلاده نحواً من سبعين سنة. (التحرير والتنوير، ج، ص). (التحرير والتنوير، ج 11، ص 148).

الفصل الثالث قواعد الترجيح المتعلقة بالنسخ

الفصل الثالث قواعد الترجيح المتعلقة بالنسخ وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول ... : الأصل عدم النسخ ما لم يقم دليل صحيح صريح على خلاف ذلك. المبحث الثاني: النسخ لا يقع في الأخبار. المبحث الثالث: إن الزيادة على النص ليست بنسخ المبحث الرابع: الإجماع يعد ناسخا. المبحث الخامس: التخصيص بعد العمل بالعام، والتقييد بعد العمل بالمطلق لا يعد نسخاً.

المبحث الأول الأصل عدم النسخ ما لم يقم دليل صحيح صريح على خلاف ذلك

المبحث الأول الأصل عدم النسخ ما لم يقم دليل صحيح صريح على خلاف ذلك صورة القاعدة: إذا تنازع المفسرون في تفسير آية من كتاب الله، فمدّّّّعٍ عليها النسخ، ومانع منه, فأصح الأقوال المنع منه، إلا بثبوت التصريح بنسخها، أو انتفاء حكمها من كل وجه، وامتناع الجمع بينها وبين ناسخها. أو كان انتفاء الحكم في بعض الأوجه دون بعض, كالتخصيص ونحوه (¬1). شرح مفردات القاعدة: الأصل: لغة: قال ابن منظور: "الأصل: أسفل كل شيء وجمعه أصول" (¬2).وقال ابن فارس: "الهمزة والصاد واللام ثلاثة أصول متباعد بعضها من بعض، أحدها أساس الشيء " (¬3). اصطلاحا: الأصل هو ما ينبني عليه غيره" (¬4). الدليل: لغة: قال ابن منظور: "الدليل ما يستدل به. والدليل: الدال. وقد دله على ¬

(¬1) قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 72. (¬2) لسان العرب / ابن منظور، ج 1، ص 155، مادة: أصل. (¬3) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 62. (¬4) التعريفات / الجرجاني، ص 45.

الطريق يدله دلالة ودلولة. والدليل: الذي يدلك " (¬1). اصطلاحا: الدليل هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبري (¬2). النسخ: لغة: له إطلاقان: 1 - الإزالة، يقال نسخت الشمس الظل أي أزالته، ونسخت الريح آثار الديار: غيرّتها. 2 - النقل، يقال نسخت الكتاب أي نقلت مافيه إلى آخر (¬3). اصطلاحاً: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه (¬4)، وهناك تعريفات أخرى ذكرها العلماء من أرجحها: أنه رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم عنه بخطاب متأخر عنه لكونه جامعا مانع، اختاره الغزالي (¬5). شرح التعريف: أن يكون هناك حكم قد ثبت بخطاب شرعي متقدم فيأتي خطاب آخر من الشارع فجأة وهو متأخر عن الأول فيرفع ذلك الحكم. ¬

(¬1) لسان العرب / ابن منظور، ج 4، ص 394، مادة: دلل. (¬2) أصول الفقه الميسر / سميح عاطف الزين، ص 297. (¬3) انظر لسان العرب / ابن منظور، ج 14، ص 121، مادة نسخ، والصحاح / الجوهري، ج 2، ص 312. (¬4) الموافقات في أصول الشريعة /إبراهيم بن موسى الشاطبي، ج 3، ص 108. (¬5) انظر المستصفى في علم الأصول / الغزالي، ص 86، وقريب منه تعريف ابن عاشور. انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 657.

مثل: إن الله حكم بأن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها حول كامل وذلك بخطاب شرعي وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1) بعد ذلك بزمن يرفع هذا الحكم بخطاب متأخر عنه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬2) فالرفع هو: إزالة ذلك الحكم على وجه لولا هذا الحكم لبقي مستمرا وثابتا يعمل به؛ فالنسخ إذن: قطع لدوام الحكم فجأة لا بيان مدة انتهاء مدته. وذكر ابن عاشور التعريف اللغوي للنسخ فقال: إنه يطلق على معنيين: الأول: إزالة الشيء بشيء آخر كقولهم: نسخت الشمس الظل. الثاني: الإزالة فقط دون تعويض كقولهم: نسخت الريح الأثر، وعلى الإثبات لكن على إثبات خاص وهو إثبات المزيل. وذكر ابن عاشور أن الراغب الأصفهاني اقتصر على المعنى الأول أي إزالة صورة وإثبات غيرها عوضها (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (240). (¬2) سورة البقرة، الآية (234). (¬3) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 656. ومسألة جواز النسخ بلا بدل وقع فيها خلاف بين العلماء، حيث قال جماعة لا يجوز النسخ بلا بدل، ومنهم الشافعي، والجمهور على خلافه، والراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء من جواز النسخ في الأحكام الشرعية ببدل وبغير بدل. انظر فتح المنان في نسخ القرآن / علي حسن العريض، ص 17.

وانتقد ابن عاشور الراغب الأصفهاني في تعريفه للنسخ بأنه مجرد الإثبات فقال: "وأما أن يطلق على مجرد الإثبات فلا أحسبه صحيحا في اللغة، وإن أوهمه ظاهر كلام الراغب وجعل منه قولهم: نسخت الكتاب إذا خططت أمثال حروفه في صحيفتك إذ وجدوه إثباتا محضا، لكن هذا توهم لأن إطلاق النسخ على محاكاة حروف الكتاب إطلاق مجازي بالصورة، أو تمثيلية الحالة بحالة من يزيل الحروف من الكتاب الأصلي إلى الكتاب المنتسخ , ثم جاءت من ذلك النسخة قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1) وقال: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (¬2) وأما قولهم الولد نسخة من أبيه فمجاز على مجاز. ولا يطلق النسخ على الزوال بدون إزالة فلا تقول نسخ الليل النهار؛ لأن الليل ليس بأمر وجودي بل هو الظلمة الأصلية الحاصلة من انعدام الجرم المنير " (¬3). ¬

(¬1) سورة الجاثية، الآية (29). (¬2) سورة الأعراف، الآية (154). (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 657.

وأما عن موقف ابن عاشور من النسخ الاصطلاحي فقد قال: " المعروف عند الأصوليين بأنه: رفع الحكم الشرعي بخطاب، فخرج التشريع المستأنف إذ ليس برفع، وخرج بقولنا: الحكم الشرعي رفع البراءة الأصلية بالشرع المستأنف، إذ البراءة الأصلية ليست حكما شرعيا بل هي البقاء على عدم التكليف الذي كان الناس عليه قبل مجيء الشرع، بحيث إن الشريعة لا تتعرض للتنصيص على إباحة المباحات إلا في مظنة اعتقاد تحريمها، أو في موضع حصر المحرمات أو الواجبات فالأول نحو قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬1) في التجارة في الحج، حيث ظن المسلمون تحريم التجارة في عشر ذي الحجة كما كانت عليه الجاهلية بعد الانصراف من ذي المجاز، ومثال الثاني قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬2) بعد ذكر النساء المحرمات وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (¬3). لحصر وجوب الإمساك في خصوص زمن النهار، وفهم من قولهم في التعريف: (رفع الحكم) أن ذلك الحكم كان ثابتا لولا رفعه , وقد صرح به بعضهم , ولذلك اخترنا زيادة قيد في التعريف وهو: رفع الحكم الشرعي المعلوم دوامه بخطاب يرفعه. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (198). (¬2) سورة النساء، الآية (24). (¬3) سورة البقرة، الآية (187).

ليخرج عن تعريف النسخ رفع الحكم الشرعي المغيا بغاية عند انتهاء غايته، ورفع الحكم المستفاد من أمر لا دليل فيه على التكرار" (¬1). ومما تقدم يتبين لنا دقة ابن عاشور في تحريره لمعنى النسخ اللغوي والاصطلاحي، كما أضاف للتعريف الاصطلاحي قيدا على ما ذكره الأصوليون بقوله: هو رفع الحكم الشرعي " المعلوم دوامه" مما يجعله أكثر دقة، كما أن قوله: "بخطاب يرفعه" يجعله أكثر شمولا حيث أن الخطاب يشمل الدليل القطعي (القرآن) والظني (السنة) بخلاف من عرفه بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه. وقد رجّح ابن عاشور بهذه القاعدة في تفسيره في أكثر من موضع، ومن ذلك عند قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (¬2). قال: "والمعنى: فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضدتم شوكتهم، فأسروا منهم أسرى .. إلى أن قال: وقوله (بعد) أي بعد الإثخان وهذا تقييد لإباحة المن والفداء، وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 657. (¬2) سورة محمد، الآية (4).

أقوال العلماء في هذه القاعدة

بعد غزوة هوازن. وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ وهذا رأي جمهور أئمة الفقه وأهل النظر" (¬1). أقوال العلماء في هذه القاعدة: اعتمد كثير من العلماء الترجيح بهذه القاعدة، منهم الطبري، فقد قال في تفسيره: " الآية إذا اختلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ مع اختلاف المختلفين فيه، ولوجوب حكمها ونفي النسخ عنه وجه صحيح إلا بحجة يجب التسليم لها لما قد بينا في غير موضع من كتبنا الدلالة على صحة القول بذلك " (¬2). ومنهم أبو جعفر النحاس فقد استعمل هذه القاعدة كثيراً، حيث قال في موضع: " إذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للقول بالنسخ " (¬3). كما نصّّّّّّّ الأصوليون على هذه القاعدة، وقرروا أن الأمر إذا دار بين نسخ الحكم وبقائه حمل على بقائه دون نسخه إلا لدليل راجح (¬4). أمثلة تطبيقية على القاعدة: 1 - مثال الوصية: قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 80. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 56. (¬3) الناسخ والمنسوخ / النحاس، 3، ص 12. (¬4) انظر شرح الكوكب المنير / الفتوحي، ج 1، ص 298، 299.

الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬1). اختلف المفسرون في هذه الآية من حيث النسخ والإحكام، فذهب جمهور أهل العلم إلى أن الآية منسوخة، واختلفوا في ناسخها؛ فذهب معظمهم إلى أن ناسخها آيات المواريث وقالوا: إن كتب بمعنى فرض، ولذلك فالوصية للوالدين والأقربين واجبة، ثم نسخ ذلك بآيات المواريث، ومنها قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬2)، ومنهم من قال: إن ناسخها هو السنة، ومنهم من قال: إن الناسخ لها هو الإجماع، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكية وجماعة من أهل العلم منهم ابن عاشور. وذهب الفريق الآخر إلى أن الآيات محكمة (¬3). ورجّح ابن عاشور أن الآية منسوخة حيث يرى نسخ وجوب الوصية في هذه الآية بآية الفرائض، حيث يقول ابن عاشور في معرض تفسيره لهذه الآية: "وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية، وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء: الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد" (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (180). (¬2) سورة النساء، الآية (11). (¬3) انظر قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ / الكرمي , ج 1 , ص 59 , وفتح المنان في نسخ القرآن / علي حسن العريض، ص 270. (¬4) التحرير والتنوير، ج 2، ص 149.

وعلى ضوء القاعدة السابقة قد يتبادر إلى الذهن ابتداء أن ابن عاشور قد خالف القاعدة السابقة في حكمه على الآية بالنسخ، وهو قد نص على أن الأصل عدم النسخ مالم يرد دليل صحيح صريح على خلاف ذلك، لا سيما وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أنها محكمة ولكن الأمر ليس كذلك؛ فقد ساق ابن عاشور بعد أن ذكر أن الآية منسوخة الأدلة التي يراها ناسخة, منها قوله: " ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال: عادني النبي وأبو بكر في بني سَلِمَة ماشِيْين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليَّ فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أَصنع في مالي يا رسول الله فنزلت: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬1) الآية اهـ (¬2). وممن وافق ابن عاشور في اختياره فيمن سبقه من المفسرين ابن عطية، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي (¬3). ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة، وكذلك الرازي (¬4) , ولم يتطرق القاسمي، ولا الشنقيطي لهذا الخلاف ولا بإشارة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب يوصيكم الله في أولادكم، ج 4، ص 1669، ح-4301. (¬2) التحرير والتنوير، ج 2، ص 149. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 248، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 266، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 21، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 168، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 178، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 451. (¬4) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 146، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 234.

حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن الآية منسوخة: استدلوا على القول بالنسخ بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬1)، وقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬2) حيث قالوا بأنها صارت منسوخة بإعطاء الله تعالى أهل المواريث كل ذي حق حقه. وقال بعض أهل العلم: إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة (¬3). وإلى هذا القول ذهب ابن عاشور حيث رجح كونها منسوخة , وساق الأدلة كما تقدم. ومن الأدلة التي ساقها على ذلك أيضاً. ما أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل الأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع " (¬4). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (11). (¬2) سورة النساء، الآية (11). (¬3) انظر قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ / الكرمي، ج 1، ص 59. (¬4) أخرجه البخاري كتاب التفسير , باب " ولكم نصف ما ترك أزواجكم " , ج 4، ص 1670، ح- 4302، وكتاب الوصايا، باب"لا وصية لوارث" , ج 3 ,ص 1008، ح- 2596 وكتاب الفرائض ,باب"ميراث الزوج مع الولد وغيره" , ج 6 , ص 2478 , ح- 6358، قال الحافظ: هو موقوف لفظاً إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع بهذا التقرير " اهـ الفتح، ج 5، ص 372.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " (¬1) (¬2). قال ابن جزي: " الوصية للوالدين والأقربين كانت فرضا قبل الميراث ثم نسخها آية الميراث مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا لا وصية لوارث "، وبقيت الوصية مندوبة لمن لا يرث من الأقربين وقيل معناها: الوصية بتوريث الوالدين والأقربين على حسب الفرائض فلا تعارض بينها وبين المواريث ولا نسخ والأول أشهر" (¬3). قال النحاس: " فمن قال إن القرآن يجوز أن ينسخ بالسنة قال نسخها " لا وصية لوارث" ومن قال من الفقهاء لا يجوز أن ينسخ القرآن إلا قرآن ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية لوارث، ج 4، ص 343، ح- 2121 والنسائي، كتاب الوصايا، باب إبطال الوصية للوارث , ج 4، ص 107، ح- 6486، كلهم من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه، وأخرجه ابن ماجة، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث ج 2، ص 906، ح- 2764، وقال الألباني: صحيح , قال الحافظ ابن حجر: " قوله: " لا وصية لوارث " هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع كأنه لم يثبت على شرط البخاري فترجم به كعادته واستغنى بما يعطي حكمه " الفتح / ابن حجر، ج 5، ص 372. وقد ذهب الشافعي في الأم إلى أن هذا المتن متواتر فقال: "وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح: " لا وصية لوارث" ويؤثرون عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد " الأم / الشافعي، ج 4، ص 108. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ةج 2، ص 150. (¬3) التسهيل لعلوم التنزيل، ج 1، ص 71.

قال: نسختها الفرائض" (¬1). والذين قالوا: إنها صارت منسوخة بالإجماع قالوا: أجمع علماء المسلمين على أنه لا تجوز وصية لوارث (¬2). قال الحافظ ابن حجر: " واختلف في تعيين ناسخ آية "الوصية للوالدين والأقربين " فقيل: آية الفرائض، وقيل الحديث المذكور، وقيل دل الإجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله " (¬3). حجة القائلين بأن الآيات محكمة: رجّح لطبري في تفسيره أن هذه الآية محكمة فقال: " وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} ما قال الزهري لأن قليل المال وكثيره يقع عليه خير، ولم يحد الله ذلك بحد، ولا خص منه شيئا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن، فكل من حضرته منيته وعنده مال قل ذلك أو كثر، فواجب عليه أن يوصى منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف كما قال الله جل ذكره وأمر به " (¬4). ¬

(¬1) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 88. (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 54. (¬3) فتح الباري / ابن حجر، ج 5، ص 439. (¬4) جامع البيان / الطبري، ج 2، 146.

وذكر الرازي في تفسيره أن هذا من اختيار أبي مسلم الأصفهاني، وتقرير قوله من وجوه: 1 - أنه لا يوجد تعارض أو اختلاف بين آية الوصية وآية المواريث بل آية الوصية مقررة لها والمعنى: كتب ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم" إذ كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليه. 2 - لا منافاة بين ثبوت الوصية للأقرباء وثبوت الميراث فالوصية عطية من حضره الموت، والميراث عطية الله سبحانه , فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين. 3 - يمكن جعل آية الميراث مخصصة آية الوصية؛ لأن هذه الآية تفهم بعمومها أن الوصية واجبة لكل قريب، وآية المواريث أخرجت القريب الوارث فبقيت آية الوصية مراداً بها القريب الذي لا يرث إما لمانع من الإرث، وإما لأنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوي الأرحام. 4 - وقال بعضهم لا منافاة بين هذه الآية وآية المواريث، ومعناها كُتب عليكم تنفيذ ما أوصى الله تعالى به من توريث الوالدين والأقربين، بحيث لا يُنقص من حصصهم شيء. وقال بعضهم: إن الواجب ألا يقال إنها منسوخة، لأن حكمها ليس بناف حكم ما فرض الله من الفرائض ,فوجب أن يكون حكم "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا

حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ" كحكم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1) (¬2). وقال محمد عبده: لا دليل على أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا، كما أن السياق ينافي النسخ فإن الله إذا شرع للناس حكماً وعلم أنه مؤقت وأنه سينسخه بعد زمن قريب، فإنه لا يؤكده ويوثقه بمثل ما أكد به أمر الوصية هنا، من كونه حقاً على المتقين، ومن وعيد من بدله (¬3). ومن خلال ما تقدم، يظهر لنا أن ما ذهب إليه أكثر المفسرين كالطبري والرازي ومن قال بقولهما: إن الآية محكمة , إنما هو بناء على القاعدة التي تقضي بأن الحكم إذا دار بين النسخ والأحكام، فالقول بالأحكام مقدم، لأنه الأصل ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح. القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة كما قررّ ابن عاشور , وقد ردّ الرازي على القائلين بالنسخ , ووجَّه أقوالهم بقوله: 1 - قولهم إنها صارت منسوخة بإعطاء الله تعالى أهل المواريث كل ذي حق حقه قول بعيد؛ لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوب قدر آخر بالوصية وأكثر ما يوجبه ذلك التخصيص لا النسخ. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (183). (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي ج 2، ص 233. (¬3) انظر مختصر تفسير المنار /محمد رشيد رضا، ص 136.

2 - قولهم إنها صارت منسوخة بقوله عليه السلام: " ألا لا وصية لوارث " (¬1) لا يستقيم حيث هذا خبر واحد ولا يجوز نسخ القرآن به. قال الزرقاني في مناهل العرفان: "وقد تقرر أن الحق عدم جواز نسخ القرآن بخبر الآحاد " (¬2) .. وأجيب: بأن هذا الخبر , وإن كان خبر واحد إلا أن الأئمة تلقته بالقبول فالتحق بالمتواتر. ومما تقدم يظهر لي أن الخلاف بين العلماء في هذه الآية خلاف لفظي لا حقيقي، حيث إن مآل القولين واحد، فمن قال بأنها محكمة فذلك بناءا على رأيه بأن الوصية في هذه الآية أريد بها غير الوارثين، ومن قال بأنها منسوخة يرى أنها نسخت الوصية للوارثين وبقيت الوصية لغير الوارثين أي نسخا جزئيا. وفيما يتعلق بالقاعدة فإن من قال بالإحكام من المفسرين نظر إلى أن الأصل عدم النسخ، ومن قال بالنسخ فإنه نظر إلى الأدلة. ولذلك لا داعي لمثل هذا الاختلاف بين العلماء حيث لا تعارض بين الآيتين. والله أعلم. يقول السعدي: " إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث بعد أن كان مجملا , وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر مناهل العرفان / الزرقاني، ج 2، 174.

وصف فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره وهذا القول تتفق عليه الأمة ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا واختلف المورد فبهذا الجمع يحصل الاتفاق والجمع بين الآيات لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ الذي لم يدل عليه دليل صحيح " (¬1) وقال الشنقيطي: " لا دليل على بطلان قول من قال إن الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بحديث " لا وصية لوارث " والعلم عند الله تعالى" (¬2). 2 - مثال الإنفاق: قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (¬3). اختلف المفسرون في هذه الآية، فذهب معظمهم إلى أنها منسوخة بآية الزكاة، وذهب آخرون إلى إنها محكمة (¬4)، ورجّح ابن عاشور هذا القول الأخير بناءً على القاعدة الترجيحية فقال: " فليست هاته الآية بمنسوخة بآية الزكاة إذ لا تعارض بينهما حتى نحتاج للنسخ , وليس في لفظ هاته الآية ما يدل على ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي ج 1، ص 85. (¬2) أضواء البيان / الشنقيطي، ج 2، ص 345. (¬3) سورة البقرة، الآية (215). (¬4) انظر زاد المسير / ابن الجوزي، ج 1، ص 180.

الوجوب حتى يظن أنها نزلت في صدقة واجبة قبل فرض الزكاة " (¬1). واتفق ترجيح ابن عاشور مع الطبري حيث رجّح أن الآية محكمة بناءً على القاعدة وفي ذلك يقول: " ولا دلالة في الآية على صحة ما قال (¬2)، لأنه ممكن أن يكون قوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} ... الآية، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء، ومن سمي معهم في هذه الآية، وتعريفًا من الله عباده مواضع الفضل التي تصرف فيها النفقات " (¬3). وكذلك رجّح كل من ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان هذا القول، وفسّرها ابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي في التطوع , ولم يتعرضوا للخلاف في نسخها وإحكامها (¬4). حجة القائلين بأن الآيات منسوخة بآية الزكاة: قال ابن الجوزي: " روى السدي عن أشياخه أنه يوم نزلت هذه لم تكن ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 318. (¬2) يعني السدي قال: " نزلت هذه الآية قبل فرض الزكاة ثم نسختها الزكاة المفروضة " انظر قوله في جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 414. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 414. (¬4) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 289، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 383, والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 3، ص 41، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 150، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، 2، ص 283، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 216، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 501، ومحاسن التأويل/ القاسمي، ج 2، ص 138،

زكاة , وإنما في نفقة الرجل على أهله والصدقة يتصدقون بها فنسختها الزكاة " (¬1). واستدلوا كذلك بما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " نسخت هذه بآية الصدقات في براءة , وروى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسخ منه الصدقة على الوالدين وصارت الصدقة لغيرهم الذين لا يرثون من الفقراء والمساكين والأقربين " (¬2). وقال المقري: " كان هذا قبل أن يفرض الله الزكاة فلما فرضت الزكاة نسخ الله بها كل صدقة في القرآن (¬3) فقال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬4). حجة القائلين بأن الآيات محكمة: روى ابن جريج أنه سأل المؤمنون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين يضعون أموالهم، فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ¬

(¬1) أخرج رواية السدي الطبري في تفسيره، ج 2، ص 413. (¬2) لم أقف على هاتين الروايتين، وذكرهما ابن الجوزي في نواسخ القرآن، ج 1، ص 97. (¬3) الناسخ والمنسوخ / هبة الله بن سلامه المقري، ج 1، ص 46. (¬4) سورة التوبة، الآية (60).

فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} 5 فذلك النفقة في التطوع. والزكاة سوى ذلك (¬1). وجاء في رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أمر بصدقة، فجاء رجل فقال: عندي دينار قال: أنفقه على نفسك قال: عندي آخر قال: أنفقه على زوجتك. قال: عندي آخر. قال: أنفقه على ولدك قال: عندي آخر قال: أنفقه على خادمك قال: عندي آخر قال: أنت أبصر " (¬2). قال ابن عاشور: " والآية دالة على الأمر بالإنفاق على هؤلاء والترغيب فيه، وهي في النفقة التي ليست من حق المال أعني الزكاة، ولا هي من حق الذات من حيث إنها ذات كالزوجة، بل هذه النفقة التي هي من حق المسلمين بعضهم على بعض لكفاية الحاجة وللتوسعة وأولى المسلمين بأن يقوم بها أشدهم قرابة بالمعوزين منهم، فمنها واجبة كنفقة الأبوين الفقيرين والأولاد الصغار الذين لا مال لهم إلى أن يقدروا على التكسب أو ينتقل حق الإنفاق إلى غير الأبوين " (¬3). القول الراجح: الراجح أن الآية محكمة، قال ابن الجوزي: " والتحقيق أن الآية عامة في الفرض والتطوع فحكمها ثابت غير منسوخ لأن ما يجب من النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا فقراء لم ينسخ بالزكاة، وما يتطوع به لم ينسخ ¬

(¬1) أخرجه الطبري في تفسيره، ج 2، ص 414. (¬2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب عشرة النساء، باب إيجاب نفقة المرأة وكسوتها، ج 5، ص 375، ح- 9181، والبيهقي في الكبرى، كتاب النكاح، باب وجوب النفقة على الزوجة، ج 7، ص 466، ح- 15469. (¬3) التحرير والتنوير، ج 2، ص 318.

بالزكاة، وقد قامت الدلالة على أن الزكاة لا تصرف إلى الوالدين والولد، وهذه الآية بالتطوع أشبه لأن ظاهرها أنهم طلبوا بيان الفضل في إخراج الفضل فبينت لهم وجود الفضل " (¬1). وهذا هو الذي قرّره ابن عاشور وغيره من المفسرين، لأن الأصل الإحكام. والنسخ دعوى، ولا تثبت إلا بدليل؛ وصدقة التطوع في الأقربين أفضل منها في غيرهم، يدل عليه ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " تصدقن ولو من حليكن وكانت زينب تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها قال: فقالت لعبد الله: سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيجزي عني أن أنفق عليك وعلى أيتامي في حجري من الصدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلقت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجدت امرأة من الأنصار على الباب حاجتها مثل حاجتي فمر علينا بلال فقلنا: سل النبي - صلى الله عليه وسلم - أيجزي عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري وقلنا: لا تخبر بنا فدخل فسأله فقال: من هما؟ قال: زينب. قال: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله., قال: نعم لها أجران: أجر القرابة , وأجر الصدقة " (¬2) وروى النسائي وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك " (¬3). وأما من ادعى النسخ في الآية بآيات المواريث فقد تولى الرد عليها الرازي ¬

(¬1) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 79. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، ج 2، ص 533، ح- 1397. (¬3) أخرجه النسائي في سننه، باب أيتهما اليد العليا، ج 5، ص 61، ح- 2532.

بقوله: " هذا ضعيف؛ لأنه يحتمل حمل الآية على وجوه لا يتطرق النسخ إليها: أحدها: قال أبو مسلم: الإنفاق على الوالدين واجب عند قصورهما عن الكسب والملك ,وإذا حملنا الآية على هذا الوجه فقول من قال إنها منسوخة بآية المواريث لا وجه له، لأن هذه النفقة تلزم في حال الحياة، والميراث يصل بعد الموت، وأيضا فما يصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقة. وثانيها: أن يكون المراد من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات , فيقدم الأولى فالأولى فيكون المراد به التطوع. وثالثها: أن يكون المراد الوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية وفيما يتصل باليتامى والمساكين مما يكون زكاة. ورابعها: يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرحم وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة , فظاهر الآية محتمل لكل هذه الوجوه من غير نسخ " (¬1). وأما دعوى النسخ كما يقول السدي: أنها يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها، فنسختها الزكاة. فالجواب عليه: أن يقال لأصحاب هذا القول هل الوالدان والأقربون من مستحقي الزكاة حتى تنسخ الزكاة الإنفاق عليهم، وهل كانت الصدقة على ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 383.

اليتامى والمساكين وابن السبيل واجبة حتى فرضت الزكاة فاعتبرت بديلاً لها؟ . فالآية تقول: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} ثم تقول: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}. وإيراد هاتين الجملتين الشرطيتين يوحي بأن الإنفاق الذي في الآية ليس مفروضاً، كما يوحي بهذا إيراده في الآية جواباً عن سؤالهم؛ إذ لو كان مفروضاً لما أخر بيانه حتى يسألوا عنه! ومن البدهي أنه ليس كل والدين يجب الإنفاق عليهما، وأن الأقربين في هذا كالوالدين، فإنما يجب الإنفاق على الفقير العاجز عن الكسب من هؤلاء جميعاً، وبشرط أن يكون هو مستغنيا قادراً على الإنفاق عليهم. إذاً لا صلة للآية إذاً بآية الزكاة، وما ينبغي بحال أن تعتبر منسوخة بهذه الآية، وإلا فهل نستطيع القول بأن الإنفاق على الوالدين المحتاجين والأقربين المحتاجين لم يعد واجباً بعد فرض الزكاة؟ وهل منعت الزكاة الإنفاق تطوعاً، وهو الصدقة (¬1). 3 - مثال الحُكم بين اليهود: قال تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} (¬2). ¬

(¬1) انظر نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 97، والنسخ في القرآن / مصطفى زيد، ج 2، ص 175. (¬2) سورة المائدة، الآية (42).

اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة؛ أي في التخيير بين الحكم بين اليهود أو الإعراض عنهم، وذكر ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره فقال: " فمن العلماء من قال: حكم هذا التخيير مُحْكم غير منسوخ، وقالوا: الآية نزلت في قصّة الرجم (الّتي رواها مالك في الموطأ، والبخاري ومن بعده) وذلك أنّ يهودياً زنى بامرأة يهوديّة، فقال جميعهم: لنسأل محمّداً عن ذلك. فتحاكموا إليه، فخيّره الله تعالى , واختلف أصحاب هذا القول فقال فريق منهم: كان اليهود بالمدينة يومئذٍ أهل موادعة ولم يكونوا أهل ذمّة، فالتّخيير باق مع أمثالهم ممّن ليس داخلاً تحت ذمّة الإسلام، بخلاف الّذين دخلوا في ذمّة الإسلام، فهؤلاء إذا تحاكموا إلى المسلمين وجب الحكم بينهم , وهو قول ابن القاسم في رواية عيسى بن دينار، لأنّ اليهوديين كانا من أهل خيبر أو فَدَك وهما يومئذٍ من دار الحرب في موادعة. وقال الجمهور: هذا التخيير عام في أهل الذمّة أيضاً. وهذا قول مالك ورواية عن الشافعي. قال مالك: الأعراض أولى. وقيل: لا يحكم بينهم في الحدود، وهذا أحد قولي الشافعي. وقيل: التّخيير منسوخ بقوله تعالى بعد: : {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬1)، وهو قول أبي حنيفة، وقاله ابن عبّاس، ومجاهد، وعكرمة، والسديّ، وعمر بن عبد العزيز، والنخَعي، وعطاء، الخراساني " (¬2). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية (49). (¬2) التحرير والتنوير، ج 4، ص 204.

ورجّح ابن عاشور كون هذه الآيات محكمة، واستبعد القول بالنسخ وفي ذلك يقول: " ويبعده أن سياق الآيات يقتضي أنها نزلت في نسق واحد, فيبعد أن يكون أولها نسخاً لآخرها " (¬1). وقد وافق قول ابن عاشور قول من سبقه من المفسرين منهم الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والألوسي، والقاسمي (¬2). في حين ذهب ابن كثير، والشوكاني إلى أن الآية منسوخة (¬3) حجة القائلين بأن الآية محكمة: حجتهم في ذلك أنه لا تعارض بين الآيتين، وأنه يمكن الجمع بينهما. فإن قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬4) فيه التخيير , وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فيه كيفية الحكم (¬5). قال الطبري: " وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابتٌ لم ينسخ، وأن للحكَّام من الخِيار في الحكم بين أهل العهد ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 204. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 295، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2 ص 194، والتفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 361، والجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 6، ص 181، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 502، وروح المعاني / الألوسي، ج 3، ص 310، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 146. (¬3) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 5، ص 226، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 42. (¬4) سورة المائدة، الآية (42). (¬5) انظر زاد المسير / ابن الجوزي، ج 1، ص 550، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 146.

إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وتركِ الحكم بينهم والنظر، مثلُ الذي جعله الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك في هذه الآية " (¬1). وساق الرازي قول الشافعي، وفيه تفصيل: أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه، لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك، وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين (¬2). حجة القائلين بأن الآية منسوخة: مدَّعو النسخ هنا بنوه على أن الآية إنما أنزلت أول ما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، واليهود فيها يومئذ كثير فكان الأرعى لهم والأصلح أن يُردوا إلى حكامهم فلما قوي الإسلام أنزل الله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬3) (¬4). كما استدل أصحاب هذا القول بما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: " نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد , وقوله: " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " ردهم إلى حكامهم حتى نزلت {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بينهم بما أنزل الله " (¬5). ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 295. (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 361. (¬3) سورة المائدة، الآية (49). (¬4) انظر الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 397. (¬5) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، باب مواريث المجوس، ج 1، ص 80، ح- 6369.

وفي ذلك يقول النحاس مرجحاً هذا القول: " فثبت أن قول أكثر العلماء أن الآية منسوخة مع ما صح فيها من توقيف ابن عباس ولو لم يأت الحديث عن ابن عباس لكان النظر يوجب أنها منسوخة؛ لأنهم قد أجمعوا جميعا أن أهل الكتاب إذا تحاكموا إلي فله أن ينظر بينهم وأنه إذا نظر بينهم مصيب ثم اختلفوا في الإعراض عنهم على ما ذكرنا فالواجب أن ينظر بينهم لأنه مصيب عند الجماعة وألا يعرض عنهم فيكون عند بعض العلماء تاركا فرضا فاعلا ما لا يحل له ولا يسعه " (¬1). القول الراجح: إن الآيات محكمة وليست منسوخة , والرسول - صلى الله عليه وسلم - مخير في الحكم بينهم أو الإعراض , فإن اختار الحكم فليكن هذا الحكم بما أنزل الله. وهذا القول هو الذي رجحه ابن عاشور بناءً على قاعدة المبحث بأن الأصل عدم النسخ مالم يرد دليل صحيح صريح على خلاف ذلك. وما استدل به القائلون بالنسخ من أن الآية نزلت أول ما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة , لا دليل عليه. " ولعله ليس بعيداً ولا خفياً أن الرجم لم يشرع في الإسلام إلا بعد الهجرة بسنوات، فقد فرضت سورة النساء على الزواني , والزناة عقوبة غيره، ثم شرع الحد وهو الجلد بعد ذلك بآية سورة النور، وشرعت السنة مع الجلد لغير المحصنين والمحصنات الرجم للمحصن والمحصنة، فكيف يحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 397.

بالرجم على الشريف اليهودي قبل أن يشرع الرجم في الإسلام؟ وهل يتصور هذا منه وقد أمر بأن يحكم بينهم حين يحكم بشريعته هو ما داموا قد اختصموا إليه؟ من أجل هذا نرفض زعم مدعي النسخ: أن الآية المدعى عليها النسخ نزلت أول ما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة " (¬1). وقال الطبري: " وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب، لأن القائلين إن حكم هذه الآية منسوخ، زَعموا أنه نسخ بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وقد دللنا في كتابنا: " كتاب البيان عن أصول الأحكام ": أن النسخ لا يكون نسخًا، إلا ما كان نفيًا لحكمٍ غَيْرِه بكلِّ معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعًا على صِحّته بوجه من الوجوه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإذْ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، ومعناه: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله إذا حكمت بينهم، باختيارك الحكم بينهم، إذا اخترت ذلك، ولم تختر الإعراض عنهم، إذ كان قد تقدَّم إعلام المقول له ذلك من قائِله: إنّ له الخيار في الحكم وترك الحكم كان معلومًا بذلك أن لا دلالة في قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، أنه ناسخٌ قوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} لما وصفنا من احتمال ذلك ما بَيَّنَّا، بل هو دليل على مثل الذي دلَّ ¬

(¬1) النسخ في القرآن الكريم /مصطفى زيد، ج 2، ص 239.

عليه قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (¬1) وإذْ لم يكن في ظاهر التنزيل دليلٌ على نسخ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفي أحد الأمرين حكم الآخر، ولم يكن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبرٌ يصحُّ بأن أحدهما ناسخ صاحبَه، ولا من المسلمين على ذلك إجماعٌ، صحَّ ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيِّد أحدهما صاحبه، ويوافق حكمُه حكمَه، ولا نسخ في أحدهما للآخر (¬2). كما رجّح الزرقاني أن الآية محكمة فقال: " إن الآية الثانية متممة للأولى فالرسول مخير بمقتضى الآية الأولى بين أن يحكم بينهم وأن يعرض عنهم، وإذا اختار أن يحكم بينهم وجب أن يحكم بما أنزل الله بمقتضى الآية الثانية وهذا ما نرجحه لأن النسخ لا يصح إلا حيث تعذر الجمع " (¬3). وقال الدكتور مصطفى زيد مرجحاً هذا القول بقوله: " وإذا ما نظرنا في المراد بالآيتين المدعى نسخ إحداهما هنا للأخرى لم نجد بينهما من التعارض ما يسوغ النسخ على الإطلاق؛ ذلك أن أولاهما وهي المدعى عليها النسخ تخير النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الحكم في خصومهم والإعراض عنهم، والثانية وهي المدعى أنها ناسخة تأمره بأن يحكم بينهم بما أنزل الله، وتنهاه عن أن يتبع أهواءهم. .. فالآيتان إذاً لا تعارض بينهما؛ فإن تخيير النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن يحكم في الخصومة التي رفعوها إليه، وأن يعرض عنها فلا يحكم فيها لا ينافيه أن يؤمر ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية (42). (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 295. (¬3) مناهل العرفان / الزرقاني، ج 2، ص 207.

بالحكم بما أنزل الله، إن هو آثر أن يحكم بل يبينه ويحققه " (¬1). 4 - مثال المن والفداء: قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)} (¬2). اختلف المفسرون في قوله: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬3)، وقوله {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (¬4)، ومنهم من ذهب إلى أنها ناسخة لقوله تعالى: " فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ ¬

(¬1) النسخ في القرآن الكريم / مصطفى زيد، ج 2، ص 240. (¬2) سورة محمد، الآية (4). (¬3) سورة التوبة، الآية (5). (¬4) سورة الأنفال، الآية (57).

وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬1). وقال آخرون بل الآية محكمة وليست منسوخة، وكذا آية القتل محكمة, أي: للإمام المن أو الفداء أو القتل أو الاسترقاق، على ما يراه هو الأصلح، ومنهم من ذهب إلى أنها ثابتة الحكم وأن مخير في من أسره (¬2). وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره فقال: " اختلف العلماء في حكم هذه الآية في القتل والمن والفداء والذي ذهب إليه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وهو أحدُ قولين عن أبي حنيفة رواه الطحاوي، ومِن السلف عبدُ الله بن عمر، وعطاءُ، وسعيدُ بن جبير: أن هذه الآية غير منسوخة، وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء، وأمير الجيش مخيّر في ذلك. وذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة, وأنه لا يجوز في الأسير المشرك إلا القتل بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدّي وابن جريج، ورواه العَوفي عن ابن عباس وهو المشهور عن أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة: لا بأس أن يُفادى أسرى المشركين الذين لم يسلموا بأسرى المسلمين الذين بيد المشركين. وروى الجصّاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فدى أسيرين من المسلمين بأسير من المشركين في ثقيف ". ورجّح ابن عاشور أن الآية محكمة فقال: "وهذا أولى من جعلها ناسخة ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية (5). (¬2) انظر النسخ في القرآن الكريم / مصطفى زيد، ج 2، ص 85 - 86.

لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} لما علمت من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة، وأوقات المحاربة، فلذلك لم يقل هؤلاء بحَظْر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المنّ والفداء، ولم يذكر معهما القتل " (¬1). واستند ابن عاشور في كون هذه الآية محكمة إلى القاعدة الترجيحية (الأصل عدم النسخ) فقال -: " وقوله (بعْدُ) أي بعد الإثخان، وهذا تقييد لإباحة المنّ والفداء. وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة هوازن، وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ، وهذا رأي جمهور أئمة الفقه وأهل النظر " (¬2). واتفق ترجيح ابن عاشور على أن الآية محكمة مع جميع المفسرين الذين اعتمدتهم في هذا البحث (¬3). حجة القائلين بأن الآية منسوخة: استدلوا بما روي عن عبد الكريم الجزري، قال: كُتب إلى أبي بكر - رضي الله عنه - في ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 80 - 81. (¬2) التحرير والتنوير، ج 12، ص 80. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 51، والمحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 5، ص 110، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 220، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 74، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 59، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 30، وروح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 196، ومحاسن التأويل/ القاسمي، ج 8، ص 364، وأضواء البيان/ الشنقيطي، ص 1583.

أسير أُسر، فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال أبو بكر: اقتلوه، لقتل رجل من المشركين، أحب إلي من كذا وكذا. وكذلك ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} ... إلى آخر الآية، قال: الفداء منسوخ، نسختها: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} قال: فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا حرمة بعد براءة، وانسلاخ الأشهر الحرم " (¬1). وذكر ابن عاشور في تفسيره لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} من سورة التوبة أن هذه الآية نسخت آيات الموادعة والمعاهدة، وأن الآية عمّت جميع المشركين وعمت البقاع إلا ما خصصته الأدلة من الكتاب والسنة " (¬2)، ثم عند تفسيره لهذه الآية اختار عدم النسخ لأنه لا يوجد دليل على القول بنسخها. حجة القائلين بأن الآية محكمة: استدلوا على ذلك بعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته. روي عن الحسن أنه قال: " أتى الحجاج بأسارى، فدفع إلى ابن عمر رجلا ¬

(¬1) أخرج تلك الروايتين الطبري في تفسيره، ج 26، ص 50. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 6، ص 114.

يقتله، فقال ابن عمر: ليس بهذا أُمرنا، قال الله عزّ وجلّ: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}. وروي عن معمر، عن الحسن، أنه قال: لا تقتل الأسارى إلا في الحرب يهيب بهم العدوّ , وعن معمر، قال: كان عمر بن عبد العزيز يفديهم الرجل بالرجل، وكان الحسن يكره أن يفادى بالمال. وروي عن معمر أيضاً، عن رجل من أهل الشأم ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز، وهو من بني أسد، قال: ما رأيت عمر قتل أسيرا إلا واحدا من الترك كان جيء بأسارى من الترك، فأمر بهم أن يُسترقوا، فقال رجل ممن جاء بهم: يا أمير المومنين، لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم، فقال عمر: فدونك فاقتله، فقام إليه فقتله (¬1). ومن ذلك المثال يتبين أن مخير بعد أسر الأسير بين القتل والمن أو الفداء وينظر ما وراءه مصلحة. وفي ذلك يقول الطبري: " وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك قوله: : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ... الآية، بل ذلك كذلك، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب، ¬

(¬1) أخرج تلك الروايات الطبري في تفسيره، ج 26، ص 51.

فيقتل بعضا، ويفادي ببعض، ويمنّ على بعض، مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي مُعَيْطٍ وقد أتي به أسيرا , وقتل بني قُرَيظة، وقد نزلوا على حكم سعد، وصاروا في يده سلما، وهو على فدائهم، والمنّ عليهم قادر، وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا ببدر، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ، وهو أسير في يده، ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم، إلى أن قبضه إليه - صلى الله عليه وسلم - دائما ذلك فيهم، وإنما ذكر جلّ ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى، فخصّ ذكرهما فيها، لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرّرا، فأعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر في هذه الآية من المنّ والفداء ما له فيهم مع القتل " (¬1). القول الراجح: إن الآيات محكمة وليست منسوخة، وذلك أنه لا دليل على أن الآية منسوخة بآية السيف، وقد قررّ ابن عاشور هذا فيما تقدم وهذا القول ترجحه القاعدة. والآية ترسم للمؤمنين منهج الحرب، كيف تكون، وكيف تبدأ وكيف تنتهي، وقد ذكر ابن عاشور ما يدل على أنه ليس هناك مجال للنسخ في هذه الآية، وإنما هي مسألة تنظيمية في كيفية القتال عند المواجهة في الحرب والشد عليهم حتى إذا انتهت الحرب ووقعوا في أيديهم فلهم الخيار (¬2). ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 51. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 12، ص 81.

وقال ابن العربي مؤكداً هذا المعنى: " اعلموا وفقكم الله أن هذه الآية من أمهات الآيات ومحكماتها؛ أمر الله سبحانه فيها بالقتال، وبيّن كيفيته كما بينه في قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (¬1) حسبما تقدم بيانه في الأنفال؛ فإذا تمكن المسلم من عنق الكافر أجهز عليه، وإذا تمكن من ضرب يده التي يدفع بها عن نفسه ويتناول بها قتال غيره فعل ذلك به؛ فإن لم يتمكن إلا ضرب فرسه التي يتوصل بها إلى مراده فيصير حينئذ راجلاً مثله أو دونه، فإن كان فوقه قصد مساواته، وإن كان مثله قصد حطه، والمطلوب نفسه، والمآل إعلاء كلمة الله تعالى؛ وذلك أن الله سبحانه لما أمر بالقتال أولاً، ، وعلم أن ستبلغ إلى الإثخان والغلبة بيّن سبحانه حكم الغلبة بشد الوثاق، فيتخيّر حينئذ المسلمون بين المن والفداء " (¬2). وَأَمَّا قَوْلُهُ: : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فَقَدْ قَالَ: {وَاحْصُرُوهُمْ} (¬3)، وهذا قوله: " والغاية المستفادة من {حَتَّى} في قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (¬4) للتعليل لا للتقييد، أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها، أي ليكفّ المشركون عنها فتأمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال. والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهِن العدوَّ فيتركوا حربكم، ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية (12). (¬2) أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص 97، والناسخ والمنسوخ / ابن العربي، ص 206. . (¬3) سورة التوبة، الآية (5). (¬4) سورة محمد، الآية (4).

فلا مفهوم لهذه الغاية، فالتعليل متصل بقوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وما بينهما اعتراض. والتقدير: فضرب الرقاب، أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها، فيكون وارداً مورد التعليم والموعظة، أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المنّ بعد ذلك أو الفداء " (¬1). ، وقد ذكر ذلك ابن عطية وهذا قوله: " وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان، وقوله هنا: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} بمثابة قوله هناك: : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وصرح هنا بذكر المن والفداء، ولم يصرح به هنالك، وهو مراد متقرر، وهذا هو القول القوي " (¬2). وكذلك قال القرطبي: " إذا كان يجوز أن يقع التعبد إذا لقينا الذين كفروا قتلناهم، فإذا كان الأسر جاز القتل والاسترقاق والمفاداة والمن، على ما فيه الصلاح للمسلمين " (¬3). 5 - مثال موالاة الكافرين: قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 82. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 110. (¬3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 220.

الْمُقْسِطِينَ} (¬1). اختلف المفسرون في هذه الآية، فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة بآية السيف: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬2)، ومنهم من ذهب إلى أنها محكمة (¬3). ورجّح ابن عاشور كونها محكمة، وساق قول الطبري في ذلك وهو أنه لا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن بر المؤمن بمن بينه وبينه قرابة من أهل الحرب، أو بمن لا قرابة بينه وبينه غير محرم إذا لم يكن في ذلك دلالة على عورة لأهل الإسلام (¬4). وممن وافق قوله قول ابن عاشور في كون الآية محكمة الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والقاسمي، والشنقيطي (¬5). وذكر الشوكاني، والألوسي مختلف الأقوال الواردة في الآية ولم يرجحا (¬6). ¬

(¬1) سورة الممتحنة، الآية (8). (¬2) سورة التوبة، الآية (5). (¬3) انظر الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 711. (¬4) انظر التحرير والتنوير، ج 13، ص 153، وجامع البيان / الطبري، ج 28، ص 77. (¬5) انظر جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 77، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 297، والتفسير الكبير/ الرازي، ج 10، ص 521 والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 58، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 253، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 101، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1757. (¬6) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 213، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 270.

وأهمل ابن كثير دعوى النسخ على هذه الآية ولم يشر إليها فدل على أنها محكمة عنده (¬1). حجة القائلين بأن الآيات منسوخة بآية القتال: قال ابن زيد: كان هذا الأمر في أول الإسلام زمن الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ. وقال قتادة: نسختها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬2). وقيل: كان هذا الحكم لعلة وهو الصلح، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم وبقي الرسم يتلى. وقيل: هي مخصوصة في حلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه؛ , قاله الحسن. وقال مجاهد: هي مخصوصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا. وقيل: يعني به النساء والصبيان لأنهم ممن لا يقاتل؛ فأذن الله في برهم. وقيل: إنها في ضعفة المؤمنين عن الهجرة حينما كانت الهجرة واجبة، فلم يستطيعوا، وعلى كل هذه الأقوال تكون قد نسخت (¬3). حجة القائلين بأن الآيات محكمة: استدلوا بما رواه عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال في هذه الآية: " نزلت في ¬

(¬1) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 517. (¬2) سورة التوبة، الآية (5). (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 77، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 58.

أسماء بنت أبي بكر , وكانت لها أمّ فى الجاهلية يقال لها قتيلة ابنة عبد العُزّى، فأتتها بهدايا وصناب (¬1) وأقط وسَمْن، فقالت: لا أقبل لك هدية، ولا تدخلي عليّ حتى يأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك عائشة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} ....... إلى قوله: ...... {الْمُقْسِطِينَ} (¬2). وقال الرازي: " فالأكثرون على أنهم أهل العهد الذين عاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترك القتال، والمظاهرة في العداوة، وهم خزاعة كانوا عاهدوا الرسول على أن لا يقاتلوه ولا يخرجوه، فأمر الرسول عليه السلام بالبر والوفاء إلى مدة أجلهم " (¬3). القول الراجح: هو أن الآيات محكمة وليست منسوخة، كما أقرّ ذلك ابن عاشور وغيره من المفسرين بناءً على القاعدة الترجيحية حيث إنه لا دليل على القول بالنسخ. وأما التخصيص الذي ذكره بعض المفسرين في كونه خطاباً خاصاً لأهل مكة وغيره من الأقوال لا دليل عليه وقد ردّ ابن جرير على من خصص وقد ¬

(¬1) قال ابن منظور: " الصناب هو الخردل بالزبيب، وفي الحديث: أتاه أعرابي بأرنب قد شواها، وجاء معها بصنابها أي بصباغها، وهو الخردل المعمول بالزبيب، وهو صباغ ما يؤتدم به " (لسان العرب / ابن منظور، ج 7، ص 415). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك، باب تفسير سورة الممتحنة، ج 2، ص 527، ح- 3804. (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 10، 520.

تقدم قوله. وضعّف الشنقيطي الاستدلال بقصة أم أسماء على كون الآيات محكمة، وذكر أنه لا دلالة في قصة أم أسماء على عدم النسخ ولا على إثباته (¬1). ووصف النحاس القول بأن الآية محكمة بأنه قول حسن بيَّن، وأن ظاهر الآية يدل على العموم (¬2). كما ذكر الشنقيطي ما يؤيد عدم النسخ من أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (¬3) بأن ذلك رخصة في حالة الخوف والضعف مع اشتراط سلامة الداخل في القلب، فإن مفهومه أنها محكمة وباق العمل بها عند اللزوم، ومفهومه أن المؤمنين إذا كانوا في حالة قوة وعدم خوف وفي مأمنٍ منهم، وليس منهم قتال، وهم في غاية من المسالمة فلا مانع من برهم بالعدل والإقساط معهم، وهذا مما يرفع من شأن الإسلام والمسلمين، بل وفيه دعوة إلى الإسلام بحسن المعاملة وتأليف القلوب بالإحسان إلى من أحسن إليهم، وعدم معاداة من لم يعادهم، كما ذكر أنه مما يدل على عدم النسخ ما جاء في التذييل لهذه الآية بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬4) فهذا ترشيح لما قدمنا كما قابل هذا بالتذييل على الآية الأخرى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ ¬

(¬1) انظر أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1757. (¬2) انظر الناسخ والنسوخ / النحاس، ج 1، ص 711. (¬3) سورة آل عمران، الآية (28). (¬4) سورة الممتحنة، الآية (8).

الظَّالِمُونَ} (¬1) , ففيه مقابلة بين العدل والظلم , فالعدل في الإحسان، والقسط لمن يسالمك، والظلم ممن يوالي من يعادي قومه. وذكر أيضاً أنه مما ينفي النسخ عدم التعارض بين هذا المعنى، وبين آية السيف، لأن شرط النسخ التعارض، وعدم إمكان الجمع، ومعرفة التاريخ، والجمع هنا ممكن والتعارض منفي، وذلك لأن الأمر بالقتال لا يمنع الإحسان قبله، كما أن المسلمين ما كانوا ليفاجئوا قوماً بقتال حتى يدعوهم إلى الإسلام، وهذا من الإحسان قطعاً، ولأنهم قبلوا من أهل الكتاب الجزية، وعاملوا أهل الذمة بكل إحسان وعدالة " (¬2). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية (23). (¬2) انظر أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1758. ونظائر هذه الأمثلة في تفسيره هي التالي: 1 - ... ما ذكره عند قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) قال: " قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان، والجملة مستأنفة بيانياً، لأن قوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (البقرة: 184) يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد (شهراً) بالنصب على البدلية من (أياماً): بدل تفصيل. (التحرير والتنوير، ج 2، ص 184). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 2 - ... ما ذكره عند قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران: 186) قال: " أمَرَهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده، فأمّا الصبر على الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتى الحرب والسلم، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أُحُد، وهي بعد الأمر بالقتال. (التحرير والتنوير، ج 3، ص 190). 3 - ... ما ذكره عند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1) قال: " فالآية محكمة غير منسوخة بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال: 41)، فيكون لكل آية منهما حكمها إذ لا تداخل بينهما " (التحرير والتنوير، ج 5، ص 250). 4 - ... ماجاء في قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 35)، قال ابن عاشور: " فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسالمة من العدّو في حال قدرة المسلمين وخوف العدوّ منهم، فهو سلم مقيد بكون المسلمين داعين له، وبكونه عن وهن في حال قوة. قال قتادة: أي لا تكونوا أول الطائفتين ضَرعت إلى صاحبتها. فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} في سورة الأنفال (61)، فإنه سلم طلبه العدو، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فليست هذه الآية ناسخة لآية الأنفال ولا العكس ولكل حالة خاصة، ومقيّد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعِدّة وعُدّة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعَة. (التحرير والتنوير، ج 12، ص 131). 5 - ... ما جاء في قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (النجم: 29)، وفيه قول ابن عاشور: " وإعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم المأمور به مراد به عدم الاهتمام بنجاتهم لأنهم لم يقبلوا الإِرشاد وإلا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمور بإدامة دعوتهم للإِيمان فكما كان يدعوهم قبل نزول هذه الآية فقد دعاهم غير مرة بعد نزولها، على أن الدعوة لا تختص بهم فإنها ينتفع بها المؤمنون، ومن لم يسبق منه إعراض من المشركين فإنهم يسمعون ما أنذر به المعرضون ويتأملون فيما تصفهم به آيات القرآن، وبهذا تعلم أن لا علاقة لهذه الآية وأمثالها بالمتاركة ولا هي منسوخة بآيات القتال. (التحرير والتنوير، ج 13، ص 117).

المبحث الثاني قاعدة النسخ لا يقع في الأخبار

المبحث الثاني قاعدة النسخ لا يقع في الأخبار صورة القاعدة: إن الأخبار المحضة لا يتطرق إليها النسخ، لأن دخول النسخ فيها تكذيب لقائلها، والله تعالى منزه عن ذلك. ونصوص الوحي قسمان: طلب، وخبر. والقسم الأول: نوعان: طلب فعل، وطلب كف، أي: الأمر والنهي. وهذا القسم يشمل العبادات: أصولها وفروعها، وجميع المعاملات، إضافة إلى الفضائل. ويستثنى من ذلك كليات الشريعة من الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، إذ إن الشريعة مبنية على حفظها ومراعاتها، فأصول العبادات: كالصلاة، والصوم والزكاة، والحج، وما يحفظ الكليات الخمس، وما يحقق العدل والإحسان، وما يجلب الفضيلة ويدفع الرذيلة لا يقع فيه النسخ، وإنما يقع في تفاصيل هذه المسائل، وذلك ما يتعلق بالهيئات، والكيفيات، والأمكنة، والأزمنة، والأعداد. والقسم الثاني: وهو الخبر، يكون ماضياً ومستقبلاً، فيدخل في ذلك القصص، والوعد والوعيد، والإخبار عن صفات الجلال والجمال لله عز وجل ونحوها.

أقوال العلماء في القاعدة

وهذا القسم لا يدخل النسخ في مدلوله، إلا أن يكون خبرا لفظا، إنشاءً معنى، وهو الذي بمعنى الأمر والنهي، فتكون الجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى (¬1). ومن هنا يعلم أن النسخ لا يكون إلا في الأوامر والنواهي سواءً كانت صريحة في الطلب، أو كانت بلفظ الخبر الذي بمعنى الأمر والنهي، على أن يكون ذلك غير متعلق بالاعتقادات التي ترجع إلى ذات الله تعالى وصفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر أو الآداب الخلقية , أو أصول العبادات والمعاملات (¬2). وهذه القاعدة تبدو واضحة في تفسير ابن عاشور، حيث نجده في معرض تفسيره لبعض الآيات يرد على من يقول أنها منسوخة، ومن ذلك قوله: " وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة، إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر" (¬3). أقوال العلماء في القاعدة: قال الرازي في معرض تفسيره لقوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬4) " إن نسخ ¬

(¬1) قواعد التفسير / خالد السبت، ج 2، ص 730 - 731. (¬2) مباحث في علوم القرآن / مناع القطان، ص 239. (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 539، وسيأتي تفصيل هذا المثال في الأمثلة الآتية. (¬4) سورة البقرة، الآية (284).

الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي " (¬1). وقال ابن جزي في التسهيل: " وأما النسخ فهو يتعلق بالأحكام لأنها محل النسخ إذ لا تنسخ الأخبار ولا بد من معرفة ما وقع في القرآن من الناسخ والمنسوخ " (¬2). وذكر القرطبي في تفسيره أن الجمهور اتفقوا على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى (¬3). وقال السيوطي في الإتقان: " لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي ولو بلفظ الخبر، أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ ومنه الوعد والوعيد، وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أدخل في كتب النسخ كثيراً من آيات الإخبار والوعد والوعيد" (¬4). كما أكد الزرقاني هذا المعنى فقال: " إن النسخ لا يكون إلا في الأحكام وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ، لكن في خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات، أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق , وأصول العبادات والمعاملات ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء؛ لأن نسخها يؤدي إلى كذب الشارع في أحد خبريه الناسخ والمنسوخ , أما العقائد فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 102. (¬2) التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي، ج 1، ص 17. (¬3) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 70. (¬4) الإتقان في علوم القرآن / السيوطي، ج 2، ص 45.

أمثلة تطبيقية على القاعدة

تقبل التغيير والتبديل، فبدهي ألا يتعلق بها نسخ " (¬1). وقال أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي في كتابه المسمى "فهم القرآن", قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ: " وأن النسخ لا يجوز في الأخبار. فلا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وأسمائه وصفاته يجوز أن ينسخ منها شيء ...... إلى أن قال: " إذاً الأخبار الخالصة لا يجوز أن يدخلها النسخ؛ ولو دخلها النسخ لكان هذا كذبا, والله - عز وجل - منزه عن ذلك" (¬2). أمثلة تطبيقية على القاعدة: 1 - مثال الإيمان: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3). اختلف المفسرون في هذه الآية على عدة أقوال , أوصلها أبو حيان إلى ثمانية أقوال في تفسيره (¬4)، وسأقتصر على المشهور منها. وسبب اختلاف المفسرين في هذه الآية كما بينه الرازي هو: قوله تعالى في ¬

(¬1) مناهل العرفان / الزرقاني، ج 2، ص 165. (¬2) العقل وفهم القرآن / الحارث المحاسبي، ص 359 - 360. (¬3) سورة البقرة آية (62). (¬4) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 404.

آخر الآية: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من الإيمان في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} غير المراد منه في قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ} ونظيره في الإشكال قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} (¬1) فلأجل هذا الإشكال اختلفوا فمنهم من ذهب إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2) وهو قول ابن عباس - رضي الله عنه - (¬3). ومنهم من ذهب إلى أن الآية غير منسوخة، وأن المقصود بالذين آمنوا هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمداً - صلى الله عليه وسلم -، كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، والذين هادوا كذلك ممن لم يلحق محمداً - صلى الله عليه وسلم -، إلا من كفر بعيسى عليه السلام، والنصارى كذلك ممن لم يلحق محمدا - صلى الله عليه وسلم -، والصابئين كذلك، حيث إنها نزلت في سلمان الفارسي، وأصحابه النصارى، وذكر له الطبري قصة طويلة، مقتضاها أنه صحب عباداً من النصارى فقال له آخرهم: إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فآمن به، ورأى منهم عبادة عظيمة فلما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر له خبرهم، وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية، وهذا ¬

(¬1) سورة النساء , الآية (136). (¬2) سورة آل عمران , الآية (85). (¬3) أخرج رواية ابن عباس الطبري في تفسيره، ج 1، ص 372.

قول السدي (¬1). وذهب آخرون إلى أن المراد من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب وهم المنافقون، فذكر المنافقين ثم اليهود والنصارى والصابئين فكأنه تعالى قال: هؤلاء المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله, وهو قول سفيان الثوري ... (¬2). ورجَّح ابن عاشور القول بأن الآية غير منسوخة (¬3) واختاره الطبري، والقاسمي (¬4). في حين اختار الشوكاني القول الثالث (¬5). وساق كلٌ من ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والألوسي الأقوال كلها ولم يرجحوا (¬6). ¬

(¬1) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 1، ص 372. (¬2) انظر هذه الأقوال في المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 1، ص 156، والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 536. (¬3) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 539. (¬4) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 373، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 350. (¬5) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 338. (¬6) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 156، والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 536، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 436، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 403، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 431، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 279.

حجة أصحاب القول الأول وهم القائلون بأن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا .. }: استدلوا على ذلك بما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬1). قال ابن عاشور: " وأما القائلون بأنها منسوخة، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم في أول تلقي دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ينظروا فلما عَاندُوا نسخها بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} لئلا يفضي قولهم إلى دعوى نسخ الخبر" (¬2). ويرتبون على ذلك أن الإسلام مقصور على شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أي: إن أي إيمان بالله لا يؤجر وأي عمل صالح لا يثاب إلا إذا كان فاعله من المؤمنين بدعوة النبي الكريم وبرسالته. حجة أصحاب القول الثاني وهم القائلون بأن الآية غير منسوخة: استدلوا على ذلك بما رواه مجاهد في قوله: : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ ¬

(¬1) أخرج رواية ابن عباس الطبري في تفسيره، ج 1، ص 372، وإسناده منقطع عن ابن عباس؛ لأن في إسناده علي بن أبي طلحة يرويه عن ابن عباس وعلي بن طلحة لم يلق ابن عباس ولم يسمع منه التفسير. قال ابن حجر: " روى عن ابن عباس ولم يسمع منه " (انظر تهذيب التهذيب / ابن حجر العسقلاني، ج 7، ص 299). (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 539.

هَادُوا} فيها أن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولئك النصارى، وما رأى من أعمالهم، قال: " لم يموتوا على الإسلام " قال سلمان: فأظلمت علي الأرض، وذكرت اجتهادهم، فنزلت هذه الآية، فدعا سلمان فقال: " نزلت هذه الآية في أصحابك " ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي فهو على خير، ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك " (¬1). قال الطبري: " والذي قلنا من التأويل أشبه بظاهر التنزيل؛ لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله: {مَنْ آمَنَ} عن جميع ما ذكر في أول الآية " (¬2). وقال الراغب الأصفهاني كلاما جميلا في هذه الآية مقتضاه ما ذهب إليه الطبري، وقسّم الإيمان إلى قسمين أحدهما الإقرار بالشهادتين, والثاني تحري اليقين ,وأن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} عني به المتدين بدين محمد أي على الحنيفية، وقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} عني به المتحري للاعتقاد اليقيني إلى أن قال: وقول ابن عباس: إن هذا منسوخ بقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} يعنون أن هذه الأديان كلها منسوخة بدين الإسلام، وأن الله ¬

(¬1) أخرجها الطبري في تفسيره، ج 1، ص 372. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 373.

عز وجل جعل لهم الأجر قبل وقت النبي عليه السلام , فأما في وقته، فالأديان كلها منسوخة بدينه. أي فليس مراد ابن عباس ومن وافقه أنه تعالى كان وعد من عمل صالحاً من اليهود، ومن ذكر معهم على عمله في الجنة ثم نسخه بآية {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} بل مراده ما ذكر الراغب (¬1). كما رجح ابن كثير هذا القول بناءً على كونه خبراً , والخبر لا يدخله النسخ فقال: " فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا, إلا ما كان موافقا لشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد أن بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه ,فهو على هدى وسبيل ونجاة؛ فاليهود أتباع موسى عليه السلام والذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم، فلما بعث عيسى وجب على بني إسرائيل إتباعه والانقياد له ,فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، فلما بعث الله محمدا خاتما للنبيين, ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق ,وجب عليهم تصديقه فيما أخبر , وطاعته فيما أمر والانكفاف عما عنه زجر وهؤلاء هم المؤمنون حقا " (¬2). حجة أصحاب القول الثالث الذين يرون أن المقصود بالذين آمنوا في أول الآية هم المنافقون: حجتهم في ذلك أن الله تعالى قال في آخر الآية {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} فدل ¬

(¬1) انظر قول الراغب في محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 349 - 350. (¬2) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 285.

ذلك على أن المقصود بالذين آمنوا في أول الآية المنافقون، بدلالة جعلهم مقترنين باليهود والنصارى والصابئين أي آمنوا في الظاهر. واستبعده ابن عاشور وبين أنه غاية في البعد (¬1). القول الراجح: ومما تقدم تبين لنا أن القول الثاني هو القول الراجح، وهو الذي رجحه ابن عاشور، ووافق ما عليه أكثر المفسرين، وبنى ترجيحه هذا على قاعدة: النسخ لا يقع في الأخبار حيث قال: " وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال: إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين " ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم أمن بي فله أجران " (¬2). قال القاسمي في تفسيره: "أي فليس مراد ابن عباس، ومن وافقه، أنه تعالى كان وعد من عمل صالحاً من اليهود، ومن ذكر معهم، على عمله، في الآخرة، الجنة، ثم نسخه بآية: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 539. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 539.

فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} بل مراده ما ذكر الراغب , وهذا مالا شبهة فيه " (¬1). وفسّر السعدي هذه الآية بقوله: " وذلك والله أعلم - أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم، وذكر معاصيهم وقبائحهم، ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه" (¬2). والواقع إن من يرى أن الآية منسوخة إنما يراه وقد غاب عنه المعنى الحقيقي للإسلام وخفيت عليه خطة الله في البشر، واضطرب في ذهنه معنى النسخ في القرآن، فالإسلام هو الدين الذي أوحى به الله إلى الأنبياء جميعا والرسل كلهم فدعوا إليه وكما قالت الآية الكريمة فإن من آمن بالله وعمل صالحاً من المؤمنين أو اليهود أو النصارى فأجره عند الله ولا خوف عليه ولا حزن , وكل من كان قويم الخلق صحيح العقيدة فهو عند الله, وفي معنى القرآن مسلم , والمقصود من آية {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الذي دعى إليه كل الأنبياء والرسل والذي اعتنقه أتباعهم , والقرآن يفرق بين المشركين والكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا بالرسل ولا يعملون صالحاً وبين أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن هؤلاء من يؤمن بالله ويعمل صالحاً، ¬

(¬1) محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 350. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 1، ص 64.

وهو المقصود بالآية الكريمة التي تبشر بأن لا خوف عليه ولا حزن. (¬1) ومما يعضد ترجيح هذا القول قاعدة (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له على ما خالفه)، وقد رجّح ابن كثير هذا القول بناء على ما ورد في السنة عن سلمان الفارسي من رواية مجاهد، وقد تقدمت. 3 - مثال المحاسبة: قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (¬2). اختلف المفسرون في هذه الآية، فذهبت جماعة من المفسرين إلى أن هذه الآية منسوخة، وأن ناسخها هو قوله عز وجل في السورة نفسها: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (¬3) وذهب آخرون إلى أنها محكمة وأنها من باب الأخبار والبيان (¬4). ورجّح ابن عاشور أنها محكمة لكونها من باب البيان والأخبار، وفي ذلك ¬

(¬1) انظر على الشبكة العنكبوتية: ساحة الحوار الإسلامي / ملتقى الحوار العربي، الشيخ أبو عمر الأزدي بعنوان: الدين واحد والشرائع شتى. (¬2) سورة البقرة، الآية (284). (¬3) سورة البقرة، الآية (286). (¬4) انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 171 - 173، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 389، والتفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 105، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 3، ص 418.

يقول: " وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح المتقدمين، والمراد البيان والتخصيص، لأن الذي تطمئن النفس إليه أن هذه الآيات متتابعة النظم، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجمة، فحدث بين فترة نزولها ما ظنه بعض المسلمين حرجاً " (¬1). وممن سبق ابن عاشور في القول بأنها محكمة مستنداً في ذلك إلى القاعدة الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي وأبو حيان، والألوسي (¬2). في حين رجّح الشوكاني أن الآية منسوخة (¬3). وذكر ابن كثير الخلاف الوارد فيها ولم يرجح أحدهما، ولكنه أسهب في ذكر أدلة من يرى أن الآية منسوخة، فكأنه يميل إلى هذا القول (¬4). ولم يتطرق القاسمي لهذا الخلاف في كون الآية منسوخة أو محكمة (¬5). أما الشنقيطي فلم يتعرض في تفسيره لهذه الآية ولكنه نص على أن الآية منسوخة في كتابه "دفع إيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله" (¬6). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 135. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 176، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 389، والتفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 105، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 3، ص 418، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 37، وروح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 62. (¬3) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 305. (¬4) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 516. (¬5) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 283. (¬6) انظر دفع أيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله / الشنقيطي، ص 37.

حجة القائلين بأن الآية منسوخة: قالوا: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}؛ لأن الآية الأولى تفيد أن الله يؤاخذ العباد حتى بالخطوات التي لا يملكون دفعها , والآية الثانية تفيد أنه تعالى لا يكلفهم بها لأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها وهذا رفع للحكم الأول (¬1). كما استدلوا على ذلك بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال قد فعلت {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: قد فعلت {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} قال قد فعلت " (¬2). ¬

(¬1) انظر الناسخ والمنسوخ / ابن حزم، ج 1، ص 30، والناسخ والمنسوخ / قتادة، ج 1، ص 37، وفتح المنان في نسخ القرآن / علي حسن العريض، ص 286. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه لم يكلف إلا ما يطاق، ج 1، ص 116، ح- 126، وأحمد في مسنده، ج 1، ص 233, ح- 2070.

وأيضاً ماروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم " (¬1). قال الشنقيطي: : " قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية, هذه الآية تدل بظاهرها على أنّ الوسوسة وخواطر القلوب يؤاخذ بها الإنسان مع أنه لا قدرة له على دفعها, وقد جاءت آيات أخر تدل على أنّ الإنسان لا يكلّف إلا بما يطيق كقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} , وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2) والجواب أنّ آية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} منسوخة بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} " (¬3). حجة من يقول: إن الآية محكمة: قال الطبري: " وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: إنها محكمة، وليست بمنسوخة , وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر، هو له ناف من كل وجوهه , وليس في قوله جل وعز: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطلاق، باب إذا قال لامرأته وهو مكره هذه أختي، ج 5، ص 2020، ح- 4968. (¬2) سورة التغابن، الآية (16). (¬3) دفع إيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله / الشنقيطي، ص 37.

نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}، نفى الحكم الذي أعلم عبادَه بقوله: {أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}؛ لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبةً ولا مؤاخذةً بما حوسب عليه العبد من ذنوبه. وقد أخبر الله عز وجل عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة يقولون: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} (¬1). فأخبر أن كتبهم محصيةٌ عليهم صغائرَ أعمالهم وكبائرَها، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائرَ الذنوب وكبائرَها - بموجب إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأهل الطاعة له، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين؛ لأن الله عز وجل وَعدهم العفوَ عن الصغائر، باجتنابهم الكبائر فقال في تنزيله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (¬2) فذلك محاسبة الله عبادَه المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم، غيرَ موجبٍ لهم منه عقوبة، بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها، ليعرّفهم تفضُّله عليهم بعفوه لهم عنها، كما بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخبر الذي رواه قتادة، عن صَفوان بن ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية (49). (¬2) سورة النساء، الآية (31).

مُحْرز (¬1)، عن ابن عمر، عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يُدْني الله عبدَه المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه، فيقرِّره بسيئاته يقول: هل تعرف؟ فيقول: نعم! فيقول: سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم! ثم يظهر له حسناته فيقول: {بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (¬2) أو كما قال , وأما الكافر فإنه ينادي به على رؤوس الأشهاد " (¬3). كما نصّ ابن عطية على أن الآية محكمة ,وحجته في ذلك أن الآية خبر, والأخبار لا يدخلها النسخ (¬4). القول الر اجح: إن الآية محكمة , كما قرر ذلك ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين بناء على القاعدة أن النسخ لا يقع في الأخبار. أما من استدل بالحديث على نسخ هذه الآية فهو استدلال في غير محله وقد ردّ الرازي على هذا القول وضعفه من وجوه: " أحدها: أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا: إنهم كانوا قبل هذا النسخ ¬

(¬1) صفوان بن محرز بن زياد المازني، كنيته أبو عبد الله، تابعي ثقة جليل من أهل البصرة، يروي عن أبي موسى وابن عمر، وكان من العباد اتخذ لنفسه سرباً يبكي فيه روى عنه الحسن وقتادة، ومات سنة (74) في ولاية عبد الملك. (الإصابة في تمييز الصحابة / ابن حجر، ج 2, ص 52). (¬2) سورة الحاقة، الآية (19). (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 176. (¬4) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 390.

مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها، وذلك باطل، لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة، ولذلك قال عليه السلام: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة». والثاني: أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر، وقد بينا أن الآية لا تدل على ذلك. والثالث: أن نسخ الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي " (¬1). كما أنه يقال فيما روي عن ابن عباس وغيره في أن الآية منسوخة فإن ذلك يريد به تخصيص العموم والمتقدمون يسمون التخصيص نسخا. 3 - مثال الدراية: قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (¬2). اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} على عدة أقوال، وقد ساق هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: " منهم من ذهب إلى أن المراد بقوله: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، أي لا أدري ما يفعل بي! أُخرج كما أُخرِجَت الأنبياء من قبلي، أو أُقتل كما قُتل الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم، إنكم مصدقون أو مكذبون، أو ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 105. (¬2) سورة الأحقاف، الآية (9).

معذبون أو مؤخرون. ومنهم من يرى أن المراد: لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة , وهذا قبل نزول: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية. فلما نزل عليه ذلك عام الحديبية علم ما يفعل به في الآخرة. وذهب آخرون إلى أن المراد: لا أدري ما أؤمر به ولا ما تؤمرون به، قاله الضحاك (¬1). ورجّح ابن عاشور أن المراد بالآية أي ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، واستنكر على ما أطال به بعض المفسرين من قولهم: إن الآية منسوخة، وذلك لأن الآية في معرض الأخبار , والخبر لا يدخله النسخ، ومن قوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} تتميم لقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} وهو بمنزلة الاعتراض فإن المشركين كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مغيباتٍ استهزاءً فيقول أحدهم إذا ضلَّت ناقته: أين ناقتي؟ ويقول أحدهم: مَن أبي، أو نحو ذلك فأمر الله الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمهم بأنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم، أي في الدنيا ... إلى أن يقول: " فدع ما أطال به بعض المفسرين هنا من المراد بقوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} ومن كونها منسوخة أو محكمة ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 17، انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 12، والنكت والعيون/ الماوردي، ج 5، ص 273، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 9, والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 49.

ومن حُكم نسخ الخبر " (¬1). وقد وافق ترجيح ابن عاشور هذا ما اختاره الطبري بناءً على هذه القاعدة. وكذلك رجحه القرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي، والشنقيطي (¬2). ورجح ابن عطية أن المراد الآخرة (¬3). وساق الرازي تلك الأقوال وفصّل فيها ولم يرجح (¬4). أما الألوسي فقد اختار معنىً آخر للآية حيث يقول: "والذي أختاره أن المعنى على نفي الدراية من غير جهة الوحي سواء كانت الدراية تفصيلية أو إجمالية , وسواء كان ذلك في الأمور الدنيوية أو الأخروية , وأعتقد أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينتقل من الدنيا حتى أوتي من العلم بالله تعالى وصفاته وشؤونه , والعلم بأشياء يعد العلم بها كمالاً ما لم يؤته أحد غيره من العالمين " (¬5). ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 12، ص 17. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 13، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 187، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 58، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 9، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 15، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 336، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1571. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 94. (¬4) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 9. (¬5) روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 168.

حجة أصحاب القول الأول الذين يقولون أن المراد (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا): قال الطبري: " وإنما قلنا ذلك أولاها بالصواب؛ لأن الخطاب من مبتدأ هذه السورة إلى هذه الآية، والخبر خرج من الله عزّ وجلّ خطابا للمشركين وخبرا عنهم، وتوبيخا لهم، واحتجاجا من الله تعالى ذكره لنبيه - صلى الله عليه وسلم - عليهم, فإذا كان ذلك كذلك، فمعلوم أن هذه الآية أيضًا سبيلها سبيل ما قبلها وما بعدها في أنها احتجاج عليهم، وتوبيخ لهم، أو خبر عنهم. وإذا كان ذلك كذلك، فمحال أن يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قل للمشركين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، وآيات كتاب الله عزّ وجلّ في تنزيله ووحيه إليه متتابعة بأن المشركين في النار مخلدون، والمؤمنون به في الجنان منعمون، وبذلك يرهبهم مرّة، ويرغبهم أخرى، ولو قال لهم ذلك، لقالوا له: فعلام نتبعك إذن وأنت لا تدري إلى أيّ حال تصير غدا في القيامة، إلى خفض ودعة، أم إلى شدّة وعذاب " (¬1). قال الحسن البصري: أما في الآخرة فمعاذ الله , قد علم أنه في الجنة (¬2)، ورجح الطبري قول الحسن بقوله: " وأولى الأقوال في ذلك بالصحة وأشبهها بما دلّ عليه التنزيل، القول الذي قاله الحسن البصري " (¬3). ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 13. (¬2) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 25، ص 12. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 25، ص 12.

حجة أصحاب القول الثاني الذين يقولون أن المراد (ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة): أصحاب هذا القول يرون أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ}. ذكر الرازي حجتهم على قولهم , وهو ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا كيف نتبع نبياً لايدري ما يفعل به وبنا؟ فأنزل الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} إلى قوله: {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬1) , فبيّن تعالى ما يفعل به وبمن اتبعه ونسخت هذه الآية، وأرغم الله المنافقين والمشركين (¬2). روى الطبراني في الأوسط بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما أنزلت عليه هذه الآية، قال: «لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا جميعا»، فلما تلا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال رجل من القوم: هنيئا لك يا نبي الله، قد بين الله لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} (¬3) لم يرو هذا الحديث عن ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية (1 - 5). (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 9. (¬3) سورة الفتح، الآية (5).

همام إلا عبد الله بن محمد بن المغيرة (¬1). كما استدلوا على ذلك أيضاً بما جاء في صحيح البخاري من أن أم العلاء امرأة من نسائهم - أي من الأنصار - قد بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أن عثمان بن مظعون طار له سهمه في السكنى حين أقرعت الأنصار سكنى المهاجرين , قالت أم العلاء: فسكن عندنا عثمان بن مظعون، فاشتكى فمرضناه حتى إذا توفي , وجعلناه في ثيابه , دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - " وما يدريك أن الله أكرمه ". فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما عثمان فقد جاءه والله اليقين , وإني لأرجو له الخير , والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " قالت: فو الله لا أزكي أحداً بعده أبداً وأحزنني ذلك قالت: فنمت فأريت لعثمان عيناً تجري، فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: " ذلك عمله" (¬2). حجة أصحاب القول الثالث الذين يقولون: إن المراد بالآية الأوامر والنواهي: وذهب إليه الضحاك فيما يبدو لي لأنه لما استبعد أن يكون معنى الآية وارد في الآخرة ظهر له أن المقصود بذلك الأوامر والنواهي لأنها كانت تتنزل بين فترة وأخرى دون أن يكون له - صلى الله عليه وسلم - سابق علم بها. ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط، ج 19، ص 357. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات وقوله: " إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم"، ج 2، ص 954، ح - 2687.

القول الراجح: هو القول الأول، وذلك بناءً على أن هذه الآية جاءت في معرض الخبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، وهذا ما قرره ابن عاشور في تفسيره. قال ابن كثير: " وهذا القول هو الذي عَوّل عليه ابن جرير، وأنه لا يجوز غيره، ولا شك أن هذا هو اللائق به صلوات الله وسلامه عليه، فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا: أيؤمنون أم يكفرون، فيعذبون فيستأصلون بكفرهم " (¬1). قال ابن الجوزي: "والقول بنسخها لا يصح لأنه إذا خفى عليه علم شيء ثم أعلم به لم يدخل ذلك في ناسخ ولا منسوخ " (¬2). ومما يعضد الترجيح بهذه القاعدة، قاعدة (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره, ما لم توجد حجة يجب إعمالها) وقد أبان عنها النحاس في "معاني القرآن " ومن بعده ابن جرير الطبري في معرض ترجيحه وبيّن أن سياق الآية فيما قبلها وبعدها قد جاء في سبيل الإخبار عن المشركين والتوبيخ لهم والاحتجاج عليهم، فكيف يقول لهم لا أدري ما يفعل بكم في الآخرة (¬3). كما أن هذا المعنى قد يعضده القاعدة الترجيحية الآتية وهي أن (القول الذي تؤيده الآيات القرآنية أولى من غيره). ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 9. (¬2) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 227. (¬3) انظر معاني القرآن / النحاس، وجامع البيان / الطبري، ج 25، ص 13، وقد تقدم قوله عند ذكر حجة أصحاب هذا القول.

حيث ذكر الشنقيطي بعد أن رجّح هذا القول: أن هذا المعنى قد دلت عليه آيات كثر من كتاب الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (¬1)، وقوله تعالى آمراً له - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (¬2) (¬3). وأما من استدل على أن الآية منسوخة بحديث البخاري , فإن هذا الحديث لا يصلح؛ لأن يكون حجة على قولهم. قال ابن كثير عن حديث البخاري: " إنه وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا إذا نص الشارع على تعيينهم " (¬4). وقال النحاس: " محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ , من جهتين: أحدهما أنه خبر، والآخر أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم، فوجب أن يكون هذا أيضا خطابا للمشركين كما كان قبله وما بعده، ومحال أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشركين: " ما أدري ما يفعل بي ولا بكم " في الآخرة، ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - من أول مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلد في النار، ومن مات على الإيمان واتبعه وأطاعه فهو في الجنة، فقد رأى - صلى الله عليه وسلم - ما يفعل به وبهم في الآخرة. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية (188). (¬2) سورة الأنعام، الآية (50). (¬3) أضواء البيان / الشنقيطي , ص 1574. (¬4) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 10.

وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودعة أم إلى عذاب وعقاب" (¬1). وذكر الرازي أن أكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا عليه بوجوه هي: الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بد وأن يعلم من نفسه كونه نبياً , ومتى علم كونه نبياً علم أنه لا تصدر عنه الكبائر وأنه مغفور له، وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أم لا. الثاني: لا شك أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء، فلما قال في هذا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬2) فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأتقياء وقدوة الأنبياء والأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفورين أو من المعذبين؟ . الثالث: أنه تعالى قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬3) والمراد منه كمال حاله ونهاية قربه من حضرة الله تعالى، ومن هذا حاله كيف يليق به أن يبقى شاكاً في أنه من المعذبين أو من المغفورين؟ فثبت أن هذا القول ¬

(¬1) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 665. (¬2) سورة الأحقاف، الآية (13). (¬3) سورة الأنعام، الآية (124).

ضعيف " (¬1). وكذلك استبعده أبو حيان في البحر المحيط، وذكر بأنه قول غير ظاهر (¬2). وبذلك نصل إلى أن هذه الآية محكمة؛ لأنها من باب الأخبار, والأخبار لا يدخلها النسخ. 4 - مثال سعي الإنسان: قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (¬3). اختلف العلماء في هذه الآية , فمنهم من قال: إنها منسوخة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (¬4)، فلا ينفع أحدا أن يصدق عنه أحد , ولا أن يجعل له ثواب شيء عمله قالوا: وليس للإنسان إلا ما سعى , كما قال الله جل وعز. ومنهم من قال بأن الآية محكمة، والآيتان خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ. ثم ذكر أصحاب هذا القول جملة من الأحاديث الثابتة التي تدل على لحاق ثواب بعض الأعمال إلى غير من عملها، وقد ساق ابن عاشور جملة من هذه الأحاديث. ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 9. (¬2) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 58. (¬3) سورة النجم، الآية (39). (¬4) سورة الطور، الآية (21).

ومنهم من تأول الإنسان في هذه الآية بالكافر، وأما المؤمن فله سعيه وما يسعى له غيره (¬1). والعجيب أن ابن عاشور رجّح أن الآية منسوخة مع أنه نصّ على هذه القاعدة في تفسيره، وهي أن الأخبار لا يدخلها النسخ، ولكنه يرى هنا أن هذا الخبر في شرع من قبلنا، وأن شريعة الإسلام نسخت ذلك فيقول: " وهذه الآية حكاية عن شرعي إبراهيم وموسى، وإذا تقرر أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، تدل هذه الآية على أن عمل أحد لا يجزئ عن أحد فرضاً أو نفلاً ... - إلى أن ساق قول عكرمة في محمل هذه الآية فقال: فعن عكرمة أن قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} حكاية عن شريعة سابقة فلا تلزم في شريعتنا, يريد أن شريعة الإسلام نسخت ذلك فيكون قبول عمل أحد عن غيره من خصائص هذه الأمة " (¬2). أما الطبري فقد ساق رواية ابن عباس بسنده في أن هذه الآية منسوخة، ولم يعقب عليها فكأنه قبلها مع أن هذه الرواية منقطعة كما سيأتي (¬3). في حين ذهب جمهور المفسرين الذين اعتمدتهم: ابن عطية والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، إلى أن الآية محكمة، وأنها من باب الأخبار , أو أنها منى باب العام الذي خصصته آيات ¬

(¬1) انظر الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 689، والتحرير والتنوير، ج 13، ص 133. (¬2) التحرير والتنوير، ج 13، ص 133. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 87.

إلحاق ثواب العمل (¬1). حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن الآية منسوخة: استدلوا على القول بالنسخ بقوله تعالى: " {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (¬2) حيث قالوا أُدْخِل الأبناء الجنة بصلاح الآباء , فالآية على هذا منسوخة. قال ابن حزم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} نسخت بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ ... } فيجعل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء , ويدل على ذلك قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} (¬3) (¬4). . وكذلك ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز /ابن عطية، ج 5، ص 206، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 276، والجامع لأحكام القرآن القرطبي، ج 17، ص 113، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 164، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 280، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 114، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 65، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 536، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1674. (¬2) سورة الطور، الآية (21). (¬3) سورة النساء، الآية (11). (¬4) الناسخ والمنسوخ / ابن حزم ج 1 / ص 58.

سَعَى} منسوخة بقوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ ... } (¬1). كما استدل أصحاب هذا القول على ذلك بما جاء في السنة من الأخبار الصحيحة التي تدل على لحاق ثواب بعض الأعمال إلى غير من عملها. منها ما أخرجه البخاري والنسائي عن ابن عباس قال: «أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وأنها ماتت , فقال النبي - رضي الله عنه -: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم قال: فحق الله أحق بالقضاء» (¬2). وفي حديث مسلم من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " (¬3). وقد ساق ابن عاشور أدلة كثيرة من السنة تدل على أن بعض الأعمال تصلح للنيابة , وهذا قوله: " وثبتت أخبار صحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تدل على أن عمل أحد عن آخر يُجزي عن المنوب عنه، ففي «الموطأ» حديث الفضل بن عباس ¬

(¬1) أخرج رواية ابن عباس الطبري في تفسيره، ج 27، ص 87، والرواية منقطعة لأنها بطريق علي بن أبي طلحة وهو كما تقدم لم يلق ابن عباس، ولم يسمع منه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان والنذور، باب من مات وعليه نذر، ج 6، ص 2464، ح- 6321، والنسائي في الكبرى، باب الحج عن الميت الذي نذر أن يحج، ج 2، ص 322، ح- 3612. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، ج 3، ص 1255، ح- 1631.

«أن امرأة من خثعم سألت رسول الله فقالت: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحج عنه؟ قال: نعم حُجّي عنه». وفي قولها: لا يثبت على الراحلة دلالة على أن حجها عنه كان نافلة. وفي «كتاب أبي داود» حديثُ بريدَة «أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفيجزئ أو يَقضي عنها أن أصوم عنها؟ قال: نعم. قالت: وإنها لم تحج أفيجزئ أو يقضي أن أحج عنها؟ قال: نعم». وفيه أيضاً حديث ابن عباس «أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي توفيت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم». وفيه حديث عمرو بن العاص وقد أعتق أخوه هشام عن أبيهم العاص بن وائل عبيداً فسأل عَمرو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أَن يفعل مثل فعل أخيه فقال له «لو كان أبوكَ مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك». وروي أن عائشة أعتقت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته رقاباً ,واعتكفت عنه " (¬1). حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن الآية محكمة: حجتهم في ذلك أن الآية خبر، والخبر لا يدخله النسخ. قال ابن عطية: " ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} منسوخ بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 13، ص 134.

ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ ... } وهذا لا يصح عندي على ابن عباس، لأنه خبر لا ينسخ، ولأن شروط النسخ ليست هنا، اللهم إلا أن يتجوز في لفظة النسخ ليفهم سائلاً " (¬1). كما أنهم احتجوا على كونها محكمة بأن الآية لا تعارض الآيات والأحاديث التي فيها أن الإنسان يلحقه ثواب غيره، وقد أجابوا على الأحاديث الواردة في ذلك، وفي ذلك يقول ابن كثير: "وأما الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به " فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وأن ولده من كسبه " (¬2). والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، وثبت في الصحيح: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً " (¬3). القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة , وهي من باب الخبر , ولا تحتمل هذا ¬

(¬1) المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 5، ص 206. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك، ج 2، ص 53، ح- 2295. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن آخر الزمان، ج 4، ص 2060، ح- 2674.

الخلاف، وظاهر الآية حق , لا يخالف بقية النصوص. قال ابن الجوزي: " قول من قال إن هذا نسخ غلط؛ لأن الآيتين خبر والأخبار لا يدخلها النسخ، ثم إن إلحاق الأبناء بالآباء إدخالهم في حكم الآباء بسبب إيمان الآباء فهم بالبعض تبع الجملة ذاك ليس لهم إنما فعله الله سبحانه بفضله , وهذه الآية تثبت ما للإنسان إلا ما يتفضل به عليه " (¬1). وأكد الألوسي هذا المعنى بقوله: " إن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعاً فكأنه بسعيه، وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه، وأجيب أيضاً بأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه من الإيمان فكأنه سعيه " (¬2). كما وضح ذلك الشنقيطي في كتابه "دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب" حيث يقول: " (وأن ليس للإنسان) محكمة كما أن القول بأن المراد بالإنسان خصوص الكافر غير صحيح أيضا , والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: إن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره لأنه لم يقل وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى , وإنما قال: وأن ليس للإنسان وبين الأمرين فرق ظاهر لأن سعي الغير ملك لساعيه إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير وإن شاء أبقاه لنفسه، وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك مما ثبت ¬

(¬1) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 233. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 65.

الانتفاع بعمل الغير فيه. الثاني: إن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم إذ لو كانوا كفارا لما حصل لهم ذلك فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين ,كما وقع في الصلاة في الجماعة فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة, وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ}. الثالث: إن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ولكنه من سعي الآباء فهو سعي الآباء أقر الله عيونه بسببه بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها؛ لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد فانتفاع الأولاد تبع فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين والخلق الذين ينشؤهم للجنة , والعلم عند الله تعالى " (¬1). ومما يعضد هذا القول ويرجحه القاعدة الترجيحية: (إذا ثبت تاريخ نزول الآية أو السورة فهو مرجح لما وافقه من أوجه التفسير) (¬2). ¬

(¬1) دفع إيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله / الشنقيطي، ص 224 - 225. (¬2) قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 258.

قال الطبري: " وإنما عُني بقوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الذي ضَمِن للوليد ابن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة، يقول: ألم يُخْبَرْ قائل هذا القول، وضامن هذا الضمان بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب: أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها: : {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} يقول جلّ ثناؤه: أوَ لم يُنَبأ أنه لا يُجَازي عامل إلا بعمله، خيرا كان ذلك أو شرّا " (¬1). قال القاسمي: " وظاهر السياق يشعر بنزول الآيات رداً على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه، ويتحكمون فيه على الغيب لجاجاً وجهلاً " (¬2). قال القرطبي: " وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره، ، وليس في الصدقة اختلاف " (¬3). 5 - مثال الأحقاب: قال تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} (¬4). اختلف المفسرون في هذه الآية، فذهب بعض العلماء إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (¬5). ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 87. (¬2) محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 536. (¬3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 17، ص 113. (¬4) سورة النبأ، الآية (23). (¬5) سورة النبأ، الآية (30).

وذهب أكثرهم إلى أنها محكمة (¬1) , وهو الذي رجحه ابن عاشور مستنداً في ذلك إلى أن ذلك خبر , والخبر لا ينسخ , وفي ذلك يقول: " وليس فيه دلالة على أن لهذا اللبث نهاية حتى يحتاج إلى دعوى نسخ ذلك بآيات الخلود، وهو وهم لأن الأخبار لا تنسخ، أو يحتاج إلى جعل الآية لعصاة المؤمنين، فإن ذلك ليس من شأن القرآن المكي الأول , إذ قد كان المؤمنون أيامئذ صالحين مخلصين مجدين في أعمالهم " (¬2). وما رجحه ابن عاشور قد سبقه إليه الطبري حيث قال بعد أن ذكر قول مقاتل بن حيان في أن الآية منسوخة: " ولا معنى لهذا القول، لأن قوله: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} خبر والأخبار لا يكون فيها نسخ، وإنما النسخ يكون في الأمر والنهي " (¬3). وكذلك ابن عطية، والرازي، والقرطبي رجحوا أن الآية محكمة بناءً على قاعدة المبحث، واستظهر أبو حيان، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي أيضاً هذا القول وذكروا أنه قول الجمهور ولكنهم لم يتطرقوا إلى القاعدة، وبحث الشنقيطي في كتابه "دفع إيهام الاضطراب" هذه الآية، ودفع التعارض بين هذه الآية وبالآيات التي تفيد الدوام الأبدي لعذاب الكفار، أما ابن كثير فقد ذكر أقوال العلماء في المراد بالحقب ولكنه لم يذكر الخلاف في كونها محكمة أو ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 18، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 426 (¬2) التحرير والتنوير، ج 15، ص 37. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 18.

منسوخة " (¬1). حجة أصحاب القول الأول الذين يقولون بأن الآية منسوخة: قال مقاتل بن حيان: الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة. قال: وهذه الآية منسوخة نسختها {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل. واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وفيه " الحقب ثمانون سنة " (¬2) واستدلوا بما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال «ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً» (¬3). حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن الآية محكمة: قالوا: لو أنه قال «لابثين فيها عشرة أحقاب أو خمسة» دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة والجمهور، وبيانه: إن زمان أهل الجنة والنار يُتَصَوَّرُ دخوله تحت ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 18، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 426، . والتفسير الكبير / الرازي، ج والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 173، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 405، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 232، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 366، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 215، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 311، ودفع إيهام الاضطراب / الشنقيطي، ص 250. (¬2) أخرجه الطبري في تفسيره، ج 30، ص 16.قال الهيثمي في مجمع الزوائد: " رواه البزار وفيه حجاج بن نصير وثقه ابن حبان , وقال يخطئ ويهم , وضعفه جماعة , وبقية رجاله ثقات. (مجمع الزوائد / الهيثمي، ج 7، ص 133). (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره، ج 12، ص 142، وقال الذهبي: حديث منكر (ميزان الاعتدال / الذهبي، 7، 189).

العدد، وإن لم يكن لها نهاية (¬1). وذكر الرازي أيضا وجه التحديد بالحقب وإن كان المراد الأبدية فقال: الأول: أن لفظ الأحقاب لا يدل على مضي حقب له نهاية وإنما الحقب الواحد متناه، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً كلما مضى حقب تبعه حقب آخر، وهكذا إلى الأبد. والثاني: أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يذوقوق في الأحقاب برداً ولا شراباً، فهذه الأحقاب توقيت لنوع من العذاب. وهو أن لا يذوقوا برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً، ثم يبدلون بعد الأحقاب عن الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب. وثالثها: هب أن قوله: أحقاباً يفيد التناهي، لكن دلالة هذا على الخروج دلالة المفهوم، والمنطوق دل على أنهم لا يخرجون , قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (¬2) ولا شك أن المنطوق راجح " (¬3). وللقرطبي كلام جميل أيضاً في معنى الحقب حيث يقول: "والمعنى في الآية، لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليه، إذ في الكلام ذكر الآخرة وهو كما يقال أيام الآخرة، أي أيام بعد أيام إلى غير ¬

(¬1) انظر زاد المسير / ابن الجوزي، ج 4، ص 389. (¬2) سورة المائدة، الآية (37). (¬3) التفسير الكبير/ الرازي، ج 11، ص 15.

نهاية، وإنما كان يدل على التوقيت لو قال خمسة أحقاب أو عشرة أحقاب. وقيل: ذكر الأحقاب دون الأيام، لأن الأحقاب أهول في القلوب، وأدل على الخلود. والمعنى متقارب، وهذا الخلود في حق المشركين. ويمكن حمل الآية على العصاة الذين يخرجون من النار بعد أحقاب" (¬1). القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة. كما قرر ذلك ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين بناءً على القاعدة الترجيحية (النسخ لا يقع في الأخبار). ومما يعضد هذه القاعدة الترجيح بما هو معروف من كلام العرب، والحقب في عرف العرب المدة الزمنية التي لانهاية لها (¬2). قال السمرقندي: " وإنما ذكر أحقاباً، لأن ذلك كان أبعد شيء عندهم. فذكر وتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونه، وهو كناية عن التأبيد، أي: يمكثون فيها أبداً" (¬3). وقال البيضاوي: " أحقاباً أي دهوراً متتابعة، وليس فيها ما يدل على خروجهم منها إذ لو صح أن الحقب ثمانون سنة أو سبعون ألف سنة، فليس فيه ما يقتضي تناهي تلك الأحقاب لجواز أن يكون المراد أحقاباً مترادفة كلما مضى ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 171. (¬2) لسان العرب / ابن منظور، ج 3، ص 253. (¬3) بحر العلوم / السمرقندي، ج 3، ص 439.

حقب تبعه آخر، وإن كان فمن قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار، ولو جعل قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} (¬1) , حالاً من المستكن في (لابثين) أو نصب (أَحْقَاباً بـ (لاَ يَذُوقُونَ) احتمل أن يلبثوا فيها أحقاباً غير ذائقين إلا حميماً وغساقاً، ثم يبدلون جنساً آخر من العذاب" (¬2). وردّ الزمخشري على من استدل بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - بقوله: " وقد بلغني أن من الضلال من اغترّ بهذا الحديث، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار. وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين، زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه، وتنبيهاً على أن نعقل عنه، ولئن صح هذا عن ابن العاص، فمعناه أنهم يخرجون من حرّ النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها " (¬3). وكذلك قال الخازن: " محمول عند أهل السنة على إخلاء أماكن المؤمنين الذي استحقوا النار من النار بعد إخراجهم منها لأنه ثبت بالدليل الصحيح القاطع إخراج جميع الموحدين وخلود الكفار فيها , أو يكون محمولاً على إخراج الكفار من حر النار إلى برد الزمهرير ليزدادوا عذاباً فوق عذابهم , والله أعلم" (¬4). ¬

(¬1) سورة النبأ، الآية (24). (¬2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل / البيضاوي، ج 5، ص 441. (¬3) الكشاف / الزمخشري، ج 3، ص 238، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا} (هود: 106 - 107). (¬4) لباب التأويل في معاني التنزيل / الخازن، ج 3، ص 485. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= ومن نظائر هذه الأمثلة في تفسيره: ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 103) وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية. وحقّ التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) لأنّ الاستطاعة هي القدرة، والتَّقوى مقدورة للنَّاس. وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ، وقيل: هاته منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} لأنّ هاته دلّت على تقوى كاملة كما فسَّرها ابن مسعود: أن يطاع فلا يعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويذكر فلا يُنْسى، ... والحقّ أنّ هذا بيان لا نسخ، كما حقَّقه المحقِّقون، ولكن شاع عند المتقدّمين إطلاق النَّسخ على ما يشمل البيان (التحرير والتنوير، ج 3، ص 30).

المبحث الثالث إن الزيادة على النص ليست بنسخ

المبحث الثالث إن الزيادة على النص ليست بنسخ صورة القاعدة: إن حقيقة النسخ لا توجد في الزيادة؛ لأن حقيقته تبديل ورفع للحكم المشروع، أما الزيادة فهي تقرير للحكم المشروع وضم حكم آخر إليه (¬1). ومثاله: أن يوجد هناك نص شرعي من الكتاب أو السنة، يفيد حكماً، ثم يأتي نص آخر أو ما في حكمه في إفادة نفس الحكم الشرعي السابق، ثم يضيف زيادة لم يتضمنها النص الأول، فهذه الزيادة ليست بنسخ للأول (¬2). وقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة فقال في معرض تفسيره لبعض الآيات: " وبهذا تعلمون أن ليس في الآية دليل على تأخير البيان عن وقت الخطاب ولا على وقوع النسخ قبل التمكن لأن ما طرأ تكليف خاص للإعنات، على أن الزيادة على النص ليست بنسخ عند المحققين، وتسميتها بالنسخ اصطلاح القدماء" (¬3). ¬

(¬1) انظر إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 2، ص 568 - 569، وأضواء البيان / الشنقيطي، ج 6، ص 62، وأثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء / مصطفى سعيد الخن، ص 267 (¬2) انظر عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل في تفسير القرآن / أحمد سلامة أبو الفتوح، ص 107. (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 552.

أقوال العلماء في القاعدة

أقوال العلماء في القاعدة: خالف الحنفية في مسألة الزيادة على النص، فقالوا: إن الزيادة على المنصوص نسخ. فكل زائد على الكتاب ناسخ، كزيادة الإيمان في رقبة الكفارة، وزيادة التغريب على الجلد في جلد الزاني البكر، فما جاء منه بطريق التواتر قُبل، وما جاء منه بطريق الآحاد فلا يقبل؛ لأن الآحاد لا ينسخ المتواتر، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "فهذا عندهم زيادة على المنصوص في قوله تعالى: " فاقرءوا ما تيسر من القرآن"، وهذا يقتضي افتراض مطلق القراءة لما تيسر من أي سورة، فجعل الفاتحة ركنا، نسخ لهذا القاطع بخبر الواحد فلا يجوز (¬1). والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن الزيادة على المنصوص ليست نسخا، وإنما هي تخصيص وبيان وتقييد (¬2). قال القرطبي: " وأما قولهم: الزيادة على النص نسخ، فليس بمسلم، بل زيادة حكم آخر مع الأصل " (¬3). وقال الشنقيطي: "الزيادة على النص لا تكون ناسخة له إلا إن كانت مثبتة شيئاً قد نفاه النص، أو نافية شيئاً أثبته النص. أما إذا كانت الزيادة شيئاً سكت عنه النص السابق، ولم يتعرض لنفيه ولا ¬

(¬1) انظر أصول السرخسي / السرخسي، ج 2، ص 82. (¬2) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 6، ص 407. (¬3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 93.

أمثلة تطبيقية على القاعدة

لإثباته، فالزيادة حينئذ إنما هي رافعة للبراءة الأصلية، وهي المعروفة في الأصول بالإباحة العقلية وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه , ورفع البراءة الأصلية ليست بنسخ، وإنما النسخ رفع حكم شرعي كان ثابتاً بدليل شرعي" (¬1). أمثلة تطبيقية على القاعدة: 1 - مثال البقرة: قال تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} (¬2). اختلف العلماء في هذه الآية فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة، ومنهم من ذهب إلى أنها محكمة (¬3). أما ابن عاشور فلا يرى وقوع النسخ على ما تقدم من الأمر بذبح أي بقرة وإنما عدّ ذلك من الزيادة على النص زيادة في إعناتهم والتكليف عليهم، وليس فيه نسخ، وهذا قوله: " ومما يدل على أنه تكليف لقصد التأديب أن الآية سيقت مساق الذم لهم، وعدت القصة في عداد قصص مساويهم وسوءِ تلقيهم للشريعة بأصناف من التقصير عملاً وشكراً وفهماً بدليل قوله تعالى آخر الآيات: {وَمَا ¬

(¬1) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1222. (¬2) سورة البقرة، الآية (68). (¬3) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 451.

كَادُوا يَفْعَلُونَ} (¬1) مع ما روي عن ابن عباس أنه قال: لو ذبحوا أي بقرة أجزأتهم , ولكن شددوا على أنفسهم , فشدد الله عليهم. وبهذا تعلمون أن ليس في الآية دليل على تأخير البيان عن وقت الخطاب , ولا على وقوع النسخ قبل التمكن " (¬2). وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين ابن كثير، والشوكاني، والقاسمي حيث يرون عدم النسخ في هذه الآية، وأن هذه الأوصاف المزيدة من باب التقييد للمأمور به لا من باب النسخ , وذلك الألوسي فهو يرى أن اختلاف العلماء في هذه الآية من باب النزاع اللفظي (¬3). ولم يتعرض الطبري ولا ابن عطية ولا أبو حيان لقضية النسخ، وكل ما ذكروه أنهم لما تعنتوا شددّ الله عليهم (¬4). أما الرازي والقرطبي فيرون أن هذه الآية ناسخة للفعل قبل وقوعه (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (71). (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 552. (¬3) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 453، فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 98 وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 288، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 363. (¬4) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 396، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 162، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 419. (¬5) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 546، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 451.

حجة من يرى أن الآية ناسخة للأمر الأول وهو ذبح أي بقرة: قال الجصاص في أحكام القرآن: "يجوز النسخ قبل وقوع الفعل بعد التمكن منه؛ ذلك أن زيادة هذه الصفات في البقرة كل منها قد نسخ ما قبلها؛ لأن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬1) اقتضى ذبح بقرة أيها كانت وعلى أي وجه شاءوا، وقد كانوا متمكنين من ذلك. فلما قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} (¬2) فقال: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا} (¬3) نسخ التخيير الذي أوجبه الأمر الأول في ذبح البقرة الموصوفة بهذه الصفة وذبح غيرها، وقصروا على ما كان منها بهذه الصفة وقيل لهم. {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} (¬4) فأبان أنه كان عليهم أن يذبحوا من غير تأخير على هذه الصفة أي لو كانت وعلى أي حال كانت من ذلول أو غيرها، فلما قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} (¬5) نسخ التخيير الذي كان في ذبح أي لون شاءوا منها وبقي التخيير في الصفة الأخرى من أمرها، فلما راجعوا نسخ ذلك أيضاً وأمروا بذبحها على الصفة التي ذكر واستقر الفرض ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (67). (¬2) سورة البقرة، الآية (68). (¬3) سورة البقرة، الآية (68). (¬4) سورة البقرة، الآية (67). (¬5) سورة البقرة، الآية (69).

عليها بعد تغليظ المحنة وتشديد التكليف وهذا الذي ذكرنا في أمر النسخ دلّ أن الزيادة في النص بعد استقرار حكمه يوجب نسخه؛ لأن جميع ما ذكرنا من الأوامر الواردة بعد مراجعة القوم إنما كان زيادة في نص كان قد استقر حكمه فأوجب نسخه " (¬1). وقال القرطبي: " قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في هذا دليل على جواز النسخ قبل وقت الفعل، لأنه لما أمر ببقرة اقتضى أي بقرة كانت، فلما زاد في الصفة نسخ الحكم الأول بغيره، كما لو قال: في ثلاثين من الإبل بنت مخاض، ثم نسخه بابنة لبون أو حقة , وكذلك ها هنا لما عين الصفة صار ذلك نسخا للحكم المتقدم " (¬2). حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن الآية محكمة: حجتهم في ذلك أن الآية فيها من باب الزيادة على النص، والزيادة على النص ليس بنسخ كما تقرر ذلك. قال النحاس: " وأقوال العلماء أن البيان يجوز أن يتأخر فخالفهم قائل في هذا وجعله نسخا، ولو جاز أن يقال لهذا نسخ لجاز أن يقال في قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬3) ثم بين ما هي فلا يقول أحد من الأمة إن هذا نسخ " (¬4). ¬

(¬1) أحكام القرآن / الجصاص، ج 1، ص 41. (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 552 - 553. (¬3) سورة البقرة، الآية (67). (¬4) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 641.

وذكر ابن كثير أن بيان صفات البقرة من باب التقييد بعد الإطلاق فقال: " استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها كأنه ينظر إليها" , وكما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث " (¬1). القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة , كما قرر ذلك ابن عاشور وغيره من المفسرين وأما قول القائلين أن ذلك نسخاً , فقد ردّه عدد من العلماء. منهم الراغب حيث يقول: " قال بعض الناس: في هذه الآية دلالة على نسخ الشيء قبل فعله .. وليس كذلك، فإن الأول أمر مطلق، والثاني والثالث كالبيان له، لما راجعوا. ولم يسقط عنهم ذبح البقرة , بل زيد في أوصافها وكشف عن المراد بالأمر الأول , وفي الآية دلالة على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة " (¬2). وكذلك الشوكاني ردّ على من يقول: إن الآية منسوخة حيث يقول: " وليس ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 453. (¬2) انظر قول الراغب في محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 363.

ذلك عندي بصحيح لوجهين: الأوّل: إن هذه الأوصاف المزيدة بسبب تكرر السؤال هي من باب التقييد للمأمور به، لا من باب النسخ، وبين البابين بَوْن بعيد , كما هو مقرر في علم الأصول. الثاني: أنا لو سلمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه دليل على ما قالوه، فإنه قد كان يمكنهم بعد الأمر الأوّل أن يعمدوا إلى بقرة من عُرْض البقر فيذبحونها ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان والصفراء، ولا دليل يدل على أن هذه المحاورة بينهم، وبين موسى عليه السلام واقعة في لحظة واحدة، بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطؤون عليها، ويديرون الرأي بينهم في أمرها، ثم يوردونها، وأقلّ الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال " (¬1). 2 - مثال الصيام: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2). ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة، بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (¬3) الآية , حيث قالوا: إن التشبيه في ¬

(¬1) فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 98. (¬2) سورة البقرة، الآية (183). (¬3) سورة البقرة، الآية (187).

هذه الآية يقتضي موافقة من قبلنا فيما كانوا عليه من تحريم الوطء والأكل بعد النوم ليلة الصوم، وقد نسخ ذلك بقوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}. وجمهور المفسرين على أنها محكمة، ورجّح ابن عاشور أن الآية محكمة ومن قوله: " وبهذا يتبين أن في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} إجمالاً وقع تفصيله في الآيات بعده. فحصل في صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها، ولم يكن صيامنا مماثلاً لصيامهم تمام المماثلة. فقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات، والتشبيهُ يكتفَى فيه ببعض وجوه المشابهة ,وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالةَ في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة، ولكن فيهم أغراضاً ثلاثة تضمنها التشبيه: أحدها: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها؛ لأنها شرعَها الله قبلَ الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطِّراد صلاحها ووفرة ثوابها , وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم؛ لأن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات. والغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن

قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام، وقد أكَّد هذا المعنى الضّمني قوله بعده: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}. والغرض الثالث: إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض , بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة " (¬1). وممن وافق قوله قول ابن عاشور في كون الآية محكمة كل من الطبري، والرازي والألوسي (¬2) وساق كل من ابن عطية والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني الأقوال فيها , ولم يرجحوا (¬3). وذهب القاسمي إلى أن تلك الآية منسوخة بما استقر عليه الشرع اليوم (¬4). حجة القائلين: إن الآيات منسوخة: استدلوا بما ورد في صحيح البخاري عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 156 - 157. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 156، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 239، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 454. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 250، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 279، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 36، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 174، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 180. (¬4) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 55.

يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي , وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته , فقال لها أعندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك , وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته امرأته, فلما رأته قالت: خيبة لك , فلما انتصف النهار غشي عليه , فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (¬1). الآية ففرحوا بها فرحا شديدا ونزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬2) (¬3). قال ابن العربي: " هذه الآية - يعني قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} - هي ناسخة للآية التي قبلها وهي قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وذلك أن المفسرين قالوا: إن المراد بقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} هم أهل الكتاب، وكان من شأن صومهم إذا جاء وقت الفطر فأفطر من أفطر وترك من ترك إذا نام لا ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (187). (¬2) سورة البقرة، الآية (187). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه , كتاب الصوم، باب قول الله جل ذكره: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، ج 2، ص 676، ح- 1816.

يحل له وطء ولا أكل إلى حين الفطر من اليوم الثاني، فكان صوم المسلمين على هذا السبيل حتى جاءت هذه الآية" (¬1). حجة القائلين: إن الآية محكمة: قالوا: إن التشبيه في هذه الآية الكريمة لا يقتضي ما ذكره العلماء من وجوب موافقة أهل الكتاب فيما كانوا عليه في صومهم , استدلالاً بالتشبيه في قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فتشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه، وعلى هذا فلا تعارض بين الآيتين، وحيث انتفى التعارض انتفى النسخ، وإنما الآية من قبيل رفع ما كان عليه القوم في فهمهم للصوم، وليست من قبيل النسخ (¬2). القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة , كما قرر ذلك ابن عاشور وغيره من المفسرين، قال أبو جعفر النحاس: " كتب علينا الصيام وهو شهر رمضان كما كتب صوم شهر رمضان على من قبلنا قال مجاهد: كتب الله جل وعز صوم شهر رمضان على كل أمة وقال قتادة: كتب الله صوم شهر رمضان على من قبلنا وهم النصارى, قال أبو جعفر: وهذا أشبه ما في الآية " (¬3). ¬

(¬1) الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم / ابن العربي، ص 22. (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 239، وفتح المنان في نسخ القرآن / علي حسن العريض، ص 274. (¬3) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 91.

وفي ذلك يقول ابن الجوزي أيضا: " وقد زعم أرباب هذا القول أن الآية منسوخة وفي هذا بعد كثير؛ لأن قوله كتب عليكم الصيام كالتفسير للصيام والبيان والتشبيه راجع إلى نفس الصوم لا إلى صفته ولا إلى عدده وبيان ذلك أن قوله تعالى كما كتب على الذين من قبلكم لا يدل على عدد ولا صفة ولا وقت وإنما يشير إلى نفس الصيام كيف وقد عقبه الله بقوله تعالى أياما معدودات فتلك يقع على يسير الأيام وكثيرها " (¬1). 3 - مثال القتال: قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬2). اختلف المفسرون في هذه الآية، فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة، حيث قالوا: هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال من قاتلهم من المشركين، والكف عمن كفّ عنهم ثم نسخت بآية السيف {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (¬3) ونسب الطبري هذا القول إلى الربيع وابن زيد. وذهب آخرون إلى أنها محكمة، وهو قول ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ¬

(¬1) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 65. (¬2) سورة البقرة، الآية (190). (¬3) سورة التوبة، الآية (36).

ومجاهد , وقالوا: إن معنى الآية: قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم (¬1). ورجّح ابن عاشور أن الآية محكمة، ووافقه الشنقيطي على ذلك، وممن ذهب إلى هذا الترجيح فيمن سبقه الطبري، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي (¬2). أما ابن عطية فقد ذكر الأقوال الواردة في الآية ولم يرجح، ولم يتطرق القاسمي لهذا الخلاف فدل على أنها محكمة عنده (¬3). حجة من يرى أن الآية منسوخة: حجتهم في ذلك: إن هذه الآية هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال حتى نزلت سورة براءة عن الربيع في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬4) قال: هذه أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من ¬

(¬1) انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 227، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 262. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 228، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 288، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 346، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 73، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 214، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 190، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 470، والتحرير والتنوير، ج 2، ص 201، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 53. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 262، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 96. (¬4) سورة البقرة، الآية (190).

يقاتله، ويكفُّ عمن كفّ عنه، حتى نزلت"براءة" {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (¬1) (¬2). وقال أصحاب هذا القول: إنّ من حكمة الله البالغة في التشريع أنه إذا أراد تشريع أمر عظيم على النفوس ربما يشرعه تدريجيا لتخف صعوبته بالتدريج, فالخمر مثلا لما كان تركها شاقا على النفوس التي اعتادتها ذكر أولا بعض معائبها بقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} (¬3) ثم بعد ذلك حرمها في وقت دون وقت , كما دل عليه قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (¬4) الآية , ثم لما استأنست النفوس بتحريمها في الجملة حرّمها تحريما باتاً بقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} (¬5) وكذلك الصوم لما كان شاقا على النفوس شرعه أولا على سبيل التخيير بينه وبين الإطعام, ثم رغب في الصوم مع التخيير بقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬6) , ثم لما استأنست به النفوس أوجبه إيجابا حتما بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية (36). (¬2) أخرج رواية الربيع الطبري في تفسيره، ج 2، ص 227. (¬3) سورة البقرة، الآية (219). (¬4) سورة النساء، الآية (43). (¬5) سورة المائدة، الآية (90). (¬6) سورة البقرة، الآية (184).

الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1) , وكذلك القتال على هذا القول لما كان شاقا على النفوس أذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (¬2) الآية, ثم أوجب عليهم قتال من قاتلهم بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (¬3) , ثم لما استأنست نفوسهم بالقتال أوجبه عليهم إيجابا عاما بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} (¬4) (¬5). حجة من يرى أن الآية محكمة: قال جماعة من السلف: إن المراد بهذه الآية من عدا النساء والصبيان والشيوخ والزمنى والرهبان والمجانين والمكافيف ونحوهم، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة (¬6)، ومما يدل على قولهم ماروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراٍ ثم قال: " اغزوا بالله في سبيل الله , قاتلوا من كفر بالله , اغزوا, ولا تغلوا, ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (185). (¬2) سورة الحج، الآية (39). (¬3) سورة البقرة، الآية (190). (¬4) سورة التوبة، الآية (5) .. (¬5) انظر دفع إيهام الاضطراب / الشنقيطي، ص 31، حيث ذكر هذه الحجة عند ذكره لوجه من يرى أن الآية منسوخة، وإلا فإن الشنقيطي يرى أن الآية محكمة كما تقدم. (¬6) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 228.

ولا تمثلوا , ولا تقتلوا وليداً , ولا تعتدوا " (¬1). قال الرازي: " السبب في أن الله تعالى أمر أولا بقتال من يقاتل، ثم في آخر الأمر أذن في قتالهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا. قلنا: لأن في أول الأمر كان المسلمون قليلين، فكان الصلاح استعمال الرفق واللين والمجاملة، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع، وأقام من أقام منهم على الشرك، بعد ظهور المعجزات وتكررها عليهم حالا بعد حال، حصل اليأس من إسلامهم، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق " (¬2). القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة , كما قرر ذلك ابن عاشور بناء على قاعدة المبحث أن (الزيادة على النص لا تعد نسخا) ومن قوله في هذه الآية: " احتار كثير من المفسرين في انتظام هذه الآيات من قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (¬3) إلى قوله هنا {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (¬4) حتى لجأ بعضهم إلى دعوى نسخ بعضها ببعض , فزعم أن آيات متقارنة بعضها نسخ بعضاً؛ مع أن الأصل أن الآيات المتقارنة في السورة ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الأمراء على البعوث، ج 3، ص 1357، ح- 1731. (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 288. (¬3) سورة البقرة، الآية (190). (¬4) سورة البقرة، الآية (191).

الواحدة نزلت كذلك , ومع ما في هاته الآيات من حروف العطف المانعة من دعوى كون بعضها قد نزل مستقلاً عن سابقه , وليس هنا ما يلجئ إلى دعوى النسخ، ومن المفسرين من اقتصر على تفسير المفردات اللغوية والتراكيب البلاغية , وأعرض عن بيان المعاني الحاصلة من مجموع هاته الآيات. وقد أذن الله للمسلمين بالقتال والقتل للمقاتل عند المسجد الحرام , ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة؛ لأن حرمته حرمة نسبته إلى الله تعالى, فلما كان قتال الكفار عنده قتالاً لمنع الناس منه ومناوأة لدينه فقد صاروا غير محترمين له , ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييداً لحرمة المسجد الحرام (¬1). ومما يعضد هذا الترجيح قاعدة (الأصل عدم النسخ مالم يقم دليل صحيح صريح على خلاف ذلك) , وهذه القاعدة رجّح بها الطبري في تفسيره فقال: " وأولى هذين القولين بالصواب القولُ الذي قاله عمر بن عبد العزيز؛ لأن دعوى المدَّعي نَسْخَ آية يحتمل أن تكون غيرَ منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكُّم، فتأويل الآية - إذا كان الأمر على ما وصفنا -: وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله , وسبيلُه: طريقه الذي أوضحه، ودينه الذي شرعه لعباده , يقول لهم تعالى ذكره: قاتلوا في طاعتي وَعلى ما شرعت لكم من ديني، وادعوا إليه من وَلَّى عنه واستكبر بالأيدي والألسن، حتى يُنيبوا إلى طاعتي، أو يعطوكم الجزية صَغارًا إن كانوا أهل كتاب, وأمرهم تعالى ذكره بقتال مَنْ كان منه قتال من مُقاتِلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال من ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 204.

نسائهم وذراريهم، فإنهم أموال وخَوَلٌ لهم إذا غُلب المقاتلون منهم فقُهروا، فذلك معنى قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}؛ لأنه أباح الكف عمّن كف، فلم يُقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافِّين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا" (¬1). كما يقوي هذا الترجيح أيضاً القاعدة الترجيحية التالية، وهي: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له) وقد ذكر أبو جعفر النحاس أنه أصح القولين في السنة والنظر، ومما يدل على صحته في السنة حديث ابن عمران أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان " (¬2). وأما النظر فإن " فاعل " لا يكون في الغالب إلا من اثنين، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والاجراء فلا يقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية (¬3). كما أكد االشنقيطي أن هذه الآية محكمة فقال: " ويظهر لي أن الصواب: أن ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 228، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 262، (¬2) أخرجه أحمد في مسنده، ج 2 , ص 115، ح- 5959، والبيهقي في الكبرى، ج 9، ص 78، ح- 17871، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد , ج 5 ص 316. (¬3) انظر الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 107.

الآية محكمة, وأن معناها: قاتلوا الذين يقاتلونكم , أي: من شأنهم أن يقاتلوكم, أما الكافر الذي ليس من شأنه القتال كالنساء, والذراري, والشيوخ الفانية, والرهبان, وأصحاب الصوامع, ومن ألقى إليكم السلم, فلا تعتدوا بقتالهم؛ لأنهم لا يقاتلونكم, ويدل لهذا الأحاديث المصرحة بالنهي عن قتال الصبي, وأصحاب الصوامع, والمرأة, والشيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه, أما صاحب الرأي فيقتل , وقد فسر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن عبد العزيز وابن عباس - رضي الله عنه - والحسن البصري " (¬1). 4 - عقوبة الزانية: قال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬2). اختلف المفسرون في هذه الآية فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬3) وبعضها بالسنة، ومنهم من قال بأن الآية محكمة (¬4). ¬

(¬1) دفع إيهام الاضطراب / الشنقيطي، ص 31. (¬2) سورة النساء، الآية (15). (¬3) سورة النساء، الآية (15). (¬4) انظر الناسخ والمنسوخ / ابن حزم، ج 1، ص 32، والناسخ والمنسوخ / المقري، ج 1، ص 68.

ورجّح ابن عاشور أن الآية منسوخة، وترجيحه هذا لا يعني مخالفته للقاعدة التي نصّ عليها وهي أن (الزيادة على النص ليست بنسخ)، وذلك أن هذه الزيادة خالفت الحكم الذي قبلها فتدخل في حكم النسخ، ومن قوله عند تفسيره لهذه الآية: " وعلى هذا تكون آية النور نزلت تقريراً لبعض الحكم الذي في حديث الرجم، على أنّ قوله: إنّ آية النساء مغيّاة لا يُجدي؛ لأنّ الغاية المبهمة لمّا كان بيانها إبطالا لحكم المغيَّي فاعتبارُها اعتبارُ النسخ، وهل النسخ كلّه إلاّ إيذان بوصول غاية الحكم المرادة لله غير مذكورة في اللفظ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسو النزول غير شعار النسخ (¬1). وممن وافق قوله قول ابن عاشور في القول بأن الآية منسوخة الطبري، وابن عطية، وابن كثير، والألوسي (¬2) في حين يرى الرازي والقرطبي، وأبو حيان أن الآية محكمة، وغير منسوخة (¬3). وساق الشوكاني كلا القولين ولم يرجح (¬4). ولم يتطرق القاسمي ولا الشنقيطي إلى كون هذه الآية منسوخة أو لا (¬5). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 276. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 4، ص 364، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 22، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 3، ص 384، وروح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 444. (¬3) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 530، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 89، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 206، (¬4) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 438. (¬5) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 50، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 130.

حجة القائلين بأن الآية منسوخة: قال قتادة: " قوله {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬1) قال: كان هذا بدء عقوبة الزنا، كانت المرأة تحبس , فيؤذيان جميعا , فيعيران بالقول جميعا في الشتيمة بعد ذلك. ثم إن الله عز وجل نسخ ذلك بعد في سورة النور فجعل لهن سبيلا , فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (¬2) " (¬3). وذكر ابن الجوزي في كتابه "نواسخ القرآن " بعد إيراد هاتين الآيتين ما نصه: " أما الآية الأولى فإنها دلت على أن حد الزانية كان أول الإسلام: الحبس إلى أن تموت أو يجعل الله لها سبيلا وهو عام في البكر والثيب , والآية الثانية اقتضت أن حد الزانيين الأذى فظهر من الآيتين أن حد المرأة كان الحبس والأذى جميعا , ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (16). (¬2) سورة النور، الآية (1). (¬3) الناسخ والمنسوخ / قتادة، ج 1، ص 39.

وحد الرجل كان الأذى فقط؛ لأن الحبس ورد خاصا في النساء , والأذى ورد عاما في الرجل والمرأة , وإنما خص النساء في الآية الأولى بالذكر؛ لأنهن ينفردن بالحبس دون الرجال , وجمع بينهما في الآية الثانية لأنهما يشتركان في الأذى " (¬1). وقال ابن كثير في تفسيره: " كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة، حُبست في بيت فلا تُمكن من الخروج منه إلى أن تموت؛ ولهذا قال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} يعني: الزنا {مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: كان الحكم كذلك، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد، أو الرجم. وكذا رُوي عن عِكْرِمة، وسَعيد بن جُبَيْر، والحسن، وعَطاء الخُراساني، وأبي صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والضحاك: أنها منسوخة. وهو أمر متفق عليه" (¬2). ¬

(¬1) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 120. (¬2) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 3، ص 384.

حجة القائلين بأن الآية محكمة: إن هذه الآية ليست منسوخة، وما جاء في الآية الأخرى إنما هو من باب الزيادة على النص التي تفيد حكما وهذا ما وضحته الآية " أو يجعل الله لهن سبيلا" , وهنا يمكن الجمع والتوفيق بين هاتين الآيتين وبين قوله تعالى في سورة النور" الزانية والزاني"، وذلك بأن نقول: إن الحكم في الآيتين كان معمولا به إلى غاية , كما قال تعالى: " أو يجعل الله لهن سبيلا " (¬1). قال أبو سليمان الخطابي في "معالم السنن": " لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في هذا الحديث ألبتة، وذلك لأن قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} يدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا , وذلك السبيل كان مجملا، فلما قال - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا عني , الثيب ترجم , والبكر تجلد وتنفى " , صار هذا الحديث بياناً لتلك الآية لا ناسخا لها , وصار أيضا مخصصا لعموم قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (¬2) ومن المعلوم أن جعل هذا الحديث بيانا لإحدى الآيتين ومخصصا للآية الأخرى، أولى من الحكم بوقوع النسخ مراراً، وكيف وآية الحبس مجملة قطعا فإنه ليس في الآية ما يدل على أن ذلك السبيل كيف ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 3، ص 276. (¬2) سورة النور، الآية (2).

هو؟ فلا بد لها من المبين، وآية الجلد مخصوصة ولا بد لها من المخصص، فنحن جعلنا هذا الحديث مبينا لآية الحبس مخصصا لآية الجلد، وأما على قول أصحاب أبي حنيفة فقد وقع النسخ " (¬1). وقال القرطبي: " فإن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما، والجمع ممكن بين الحبس والتعيير والجلد والرجم، وقد قال بعض العلماء: إن الأذى والتعيير باق مع الجلد، لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد, وأما الحبس فمنسوخ بإجماع، وإطلاق المتقدمين النسخ على مثل هذا تجوز, والله أعلم" (¬2). القول الراجح: إن الآية منسوخة كما قررّ ذلك ابن عاشور وغيره من المفسرين، ومما يعضد هذا القول ويقويه القاعدة الترجيحية (الإجماع يعدُّ ناسخاً) وهي قاعدة نصّ عليها ابن عاشور في تفسيره وعمل بها العلماء. قال ابن عطية: " وأجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور، قاله الحسن ومجاهد وغيرهما، إلا من قال: إن الأذى والتعيير باق مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يتحملان على شخص واحد، وأما الحبس فمنسوخ بإجماع، وآية الجلد عامة في الزناة محصنهم وغير محصنهم " (¬3). ¬

(¬1) معالم السنن / الخطابي، ج 3، ص 324. (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 89. (¬3) المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 2، ص 22.

وأما قول من قال: إن الآية محكمة ذاهباً إلى أن الآية الأولى جاءت فيمن أتين مواضع الريب، والفسوق، ولم يتحقق زناهن، فهذا القول مردود من وجهين: أحدهما: أنه تأويل يصادم الظاهر بدون دليل لأن قوله: " يأتين الفاحشة " يتبادر إلى الذهن مقارفتهن نفس الفاحشة، لا مجرد غشيان مكانها والأخذ بأسبابها. وثانيهما: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا عني ,خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم (¬1) " (¬2). 5 - مثال الأنعام: قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). اختلف بعض المفسرين في هذه الآية فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة، واختلفوا في ناسخها فمنهم من ذهب إلى أن ناسخها آية المائدة {حُرِّمَتْ ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه ,كتاب الحدود , باب حد الزاني، ج 3 , ص 1316 , ح-1690. (¬2) انظر فتح المنان في نسخ القرآن / علي حسن العريض، ص 294. (¬3) سورة الأنعام، الآية (145).

عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (¬1) , إذ أضاف الله عز وجل بعض ما حرم بهذه الآية إلى ما حرم بآية الأنعام، وهذا نسخ لها، أو لأسلوب الحصر فيها , ومنهم من ذهب إلى أن ناسخها ما صحّ من السنة التي حرمت الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير. وذهب آخرون إلى أنها محكمة وليست منسوخة (¬2). ورجّح ابن عاشور أن الآية محكمة بناءً على أن الزيادة على النص لا تعدُّ نسخاً فقال: " وقد دلّت الآية على انحصار المحرّمات من الحيوان في هذه الأربعة، وذلك الانحصار بحسب ما كان مُحرّماً يوم نزول هذه الآية، فإنَّه لم يحرّم بمكّة غيرها من لحم الحيوان الّذي يأكلونه، وهذه السّورة مكّيّة كلّها على الصّحيح، ثمّ حرّم بالمدينة أشياء أخرى، وهي: المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وأكيلة السّبع بآية سورة العقود, حُرّم لحم الحُمر الإنسيّة بأمر النّبي - صلى الله عليه وسلم - على اختلاف بين العلماء في أنّ تحريمه لذاته كالخنزير، أو لكونها يومئذ حَمولة جيش خيبر، وفي أنّ تحريمه عند القائلين بأنّه لذاته مستمرّ أو منسوخ، والمسألة ليست من غرض التّفسير فلا حاجه بنا إلى ما تكلّفوه من تأويل حصر هذه الآية المحرّمات في الأربعة. وكذلك مسألة تحريم لحم كلّ ذي ناب من السّباع ولحم سباع ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية (3). (¬2) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 116.

الطّير وقد بسطها القرطبي وتقدّم معنى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬1) في تفسير سورة المائدة " (¬2). وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن تقدم من المفسرين ابن عطية، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي بعده. وأما الطبري فلم يتطرق لموضوع الخلاف في الآية ونسخها وإحكامها , فدل ذلك على أنها محكمة عنده (¬3). أما الرازي فيرى أن الآية منسوخة (¬4). حجة القائلين بأن الآية منسوخة: منشأ دعوى النسخ عندهم في هذه الآية أنها حصرت المحرم أكله من الحيوان فيما ذكرته: من الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما ذبح لغير الله من آلهتهم الباطلة، مع أن هناك محرماً غير هذه. ومن ثم اختلف أصحاب دعوى النسخ على الآية في الناسخ لها: ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية (3). (¬2) التحرير والتنوير، ج 5، ص 140. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 356، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 116، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 243، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 6، ص 194.وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 172، وروح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 289، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 145، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 269. (¬4) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 168.

فذهب قوم منهم إلى أنه هو آية المائدة التي يقول الله جل ثناؤه فيها: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ}؛ إذ أضاف الله عز وجل بعض ما حرم بهذه الآية إلى ما حرم بآية الأنعام، وهذا نسخ لها، أو لأسلوب الحصر فيها. وذهب آخرون إلى أن الناسخ لها ما صحّ من السنة التي حرمت الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير (¬1). حجة القائلين بأن الآية محكمة: حجتهم: أن ذلك زيادة في النص، والزيادة في النص إذا كانت لا تنفي ما سبق فلا تعد نسخاً. قال ابن عطية: " وهذه الآية نزلت بمكة ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شيء محرم غير هذه الأشياء، ثم نزلت سورة المائدة بالمدينة وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والممتردية والنطيحة، فإن هذه وإن كانت في حكم الميتة فكان في النظر احتمال أن تلحق بالمذكيات لأنها بأسباب وليست حتف الأنف، فلما بين النص إلحاقها بالميتة كانت زيادة في المحرمات، ثم نزل النص على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم الخمر بوحي غير مُنْجَز، وبتحريم كل ذي ناب من السباع، ¬

(¬1) النسخ في القرآن الكريم / مصطفى زيد، ج 2، ص 256 - 257.

فهذه كلها زيادات في التحريم ولفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور إلى غاية المنع والحظر، وصالحة بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهية ونحوها، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين , وأجمع عليه الكل منهم , ولم يضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وأمضاه الناس على إذلاله , وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع ولحق بالخنزير والميتة، وهذه صفة تحريم الخمر وما اقترنت به قرينة ألفاظ الحديث واختلفت الأمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه السلام «كل ذي ناب من السباع حرام» (¬1). وذكر ابن الجوزي أجوبة أخرى للقائلين بالإحكام: أحدها: إنها خبر، والخبر لا يدخله النسخ. والثاني: إنها جاءت جواباً عن سؤال سألوه؛ فكان الجواب بقدر السؤال، ثم حُرِّم بعد ذلك ما حُرِّم. والثالث: إنه ليس في الحيوان محرم إلا ما ذُكر فيها (¬2). وقال القرطبي: " كل محرم حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو جاء في الكتاب مضموم إليها؛ فهو زيادة حكم من الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام. على هذا أكثر أهل العلم من أهل النظر، والفقه والأثر. ... ولم ينزل بعدها ناسخ فهي محكمة " (¬3). ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 356. (¬2) زاد المسير / ابن الجوزي، ج 2، ص 88. (¬3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 116.

القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة , كما قررّ ذلك ابن عاشور بناءً على هذه القاعدة وإن لم يصرح بها إلا أن فحوى كلامه تدل عليه. والذين قالوا: إنها منسوخة بآية المائدة , فاتهم أن آية المائدة داخلة فيها، وليست متعارضة معها في شيء؛ فإن المنخنقة والمتردية والنطيحة من الميتة، وقد اجتمعت الآيتان على تحريم الميتة , ومن الميتة ما أكله السبع فأماته , ومن الفسق الذي أهل لغير الله به: ما أهل به لغير الله، وما ذبح على النصب , أما الدم ولحم الخنزير فقد ذكرتهما الآيتان، وقيدت آية الأنعام إطلاق الدم في آية المائدة بأن يكون مسفوحاً، وهو شرط لا بد منه للتحريم. وأما الذين قالوا: إنها منسوخة بالسنة فقد غاب عنهم أن السنة لا تنسخ القرآن إطلاقاً عند بعض الأئمة، ولا ينسخه منها إلا المتواتر عند بعضهم الآخر، والسنة التي حرمت الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ليست متواترة، فهي لا تنسخ القرآن، ولكنها تبيينه، وهؤلاء وأولئك لم يلتفتوا إلى أن أسلوب الآية يسمح بإضافة محرمات جديدة إلى ماحرمته؛ فإن عبارة {لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} تفتح الباب للتحريم بعد نزولها: بغيرها من الآيات وبالسنة؛ ذلك أن الآية مكية، ومعناها حصر المحرم إلى حين نزلت فيما ذكرته , ولعله من أجل هذا اختير الفعل من مادة الوحي ماضياً؛ ليقرر أن هذا هو الذي حرم حتى وقته (¬1). ¬

(¬1) انظر الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 432، ونواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 160، النسخ في القرآن الكريم / مصطفى زيد، ج 2، ص 257.

قال ابن العربي: " ومما يجب أن تحيطوا به علماً ما بيناه في كتب الأصول أنه لو ثبت نزول هذه الآية متى ثبت وثبت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ذلك نسخاً لأن الزيادة في التكليفات بعد حصرها بالنفي والإثبات لا تعدُّ نسخاً " (¬1). وقال القاسمي: " وبالجملة فالآية تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيره، ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك في شيء آخر، كالموقوذة والمنخنقة والنطيحة وغيرها. وذلك لأن هذه السورة مكية. فما عدا ما ذكر تحريمه فيها مما حرم أيضا، طارئ - وإن - قيل: إذا حرم غير ما ذكر كان نسخاً لما اقتضته هذه الآية من تحليله. وجوابه أن ذلك زيادة تحريم وليس بنسخ لما في الآية. فصح تحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير " (¬2). أما ماروي عن عائشة رضي الله عنها أنه لا حرام إلا ما ورد في هذه الآية فهو قول ضعيف، قال الشوكاني: " ما روي عن مالك قول ساقط، ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرها مما نزل بعدها من القرآن، وإهمال ما صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬3). ومما يعضد هذا الترجيح بهذه القاعدة قاعدة أخرى وهي: (أن الأصل عدم النسخ مالم يرد دليل صريح على خلافه)، وحيث لم يرد دليل على حصرها في هذه الآية فتعين أن الآية محكمة، وغير منسوخة. كما يعضدها قاعدة أخرى، هي (النسخ لا يقع في الأخبار) , وقد تقدم ¬

(¬1) الناسخ والمنسوخ / ابن العربي، ص 127. (¬2) محاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 525. (¬3) فتح القدير، الشوكاني، ج 2، ص 172.

هذا في كلام ابن الجوزي، وأيضاً دلّ عليه كلام ابن كثير حيث يقول: " والمقصود من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه، من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم، وإنما حُرِّم ما ذكر في هذه الآية، من الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به , وما عدا ذلك فلم يحرم، وإنما هو عفو مسكوت عنه، فكيف تزعمون أنتم أنه حرام، ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله؟ وعلى هذا فلا ينفي تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا، كما جاء النهي عن لحوم الحمر ولحوم السباع، وكل ذي مخلب من الطير " (¬1). ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 6، ص 194.

المبحث الرابع الإجماع يعد ناسخا

المبحث الرابع الإجماع يعد ناسخاً صورة القاعدة: إن الإجماع لا بد له من مستند نصي، وهذا المستند النصي هو الناسخ الحقيقي، وكون الإجماع يشترط له الاستناد على نص فإن هذا يعطيه حكم النص , ومن هنا يمكن للإجماع أن يكون ناسخاً (¬1). شرح مفردات القاعدة: الإجماع: لغة: مصدر (أجمع)، يقال: أجمع يجمع إجماعاً، فهو مجمع، وهو مجمع عليه. وله في اللغة معنيان: أ - العزم على أي أمر، ومنه قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} (¬2) أي اعزموا عليه. ب- الاتفاق على أي شيء، ومنه قولهم: "أجمع القوم على كذا "أي اتفقوا عليه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجتمع أمتي على ضلالة " (¬3)، وكلا المعنيين مأخوذ من ¬

(¬1) الإجماع في التفسير / محمد الخضيري، ص 82. (¬2) سورة يونس، الآية (71). (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، باب لزوم الجماعة، ج 4، ص 466، ح- 2167 , والحاكم في المستدرك، ج 1، ص 200 , ح- 394.

أقوال العلماء في القاعدة

الجمع، فإن العزم فيه جمع الخواطر، والاتفاق فيه جمع الآراء " (¬1). اصطلاحاً: هو اتفاق مجتهدي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته، في عصر من العصور، على أمر من أمور الدين، اتفاقاً لم يسبقه خلاف مستقر (¬2). وقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة في تفسيره ورجح بها حيث قال في معرض تفسيره لآية الوصية: " ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث. وفعل الصحابة " (¬3) وسيأتي بيان هذا المثال بالتفصيل في الأمثلة التطبيقية الآتية. أقوال العلماء في القاعدة: اختلف العلماء في حكم النسخ بالإجماع على قولين: فذهب بعض العلماء إلى جواز النسخ بالإجماع، بدليل أن الإجماع يوجب علم اليقين، كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور، وإذا كان يجوز النسخ بالخبر المشهور أي المتواتر فجوازه بالإجماع أولى. واحتجوا على ذلك بآية الوصية في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا ¬

(¬1) انظر لسان العرب / ابن منظور، ج 2، ص 358، مادة: جمع. (¬2) انظر إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 1، ص 234. (¬3) التحرير والتنوير، ج 2، ص 151.

حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} (¬1) نسخت بالإجماع، كما ذكره السيوطي في الإتقان، وقال: حكاه ابن العربي. وذهب آخرون إلى عدم جواز النسخ بالإجماع، وحجتهم في ذلك أن الإجماع عبارة عن اجتماع آراء على شيء، ولا مجال للرأي في معرفة نهاية وقت الحسن والقبح في الشيء عند الله تعالى , ثم إن النسخ يكون حال حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). القول الراجح: إنه لا يجوز النسخ بالإجماع إلا إذا كان مستنده في ذلك النص، لأنه في حال ذلك يكون الناسخ هو النص حقيقة، أما إذا لم يكن مستنده نص شرعي فلا. ويؤكد ذلك أقوال العلماء: قال ابن حزم: " الإجماع إما أن يكون مستنداً إلى دليل, أو ليس مستنداً إلى دليل , فإن لم يكن مستنداً إلى دليل فهو خطأ. وإن كان مستنداً إلى دليل , فذلك الدليل إما أن يكون نصاً أو قياساً , فإن كان نصاً فالناسخ ذلك النص لا الإجماع , وإن قيل: إن الإجماع ناسخ , فليس إلا بمعنى أنه يدل على الناسخ " (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (180). (¬2) انظر الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم / ابن العربي، ص 14، والإتقان / السيوطي، ج 2، ص 48، وفتح المنان في نسخ القرآن / علي حسن العريض، ص 241. (¬3) الأحكام في أصول القرآن / ابن حزم، ج 1، ص 302.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

وقال بعض الحنابلة: يجوز النسخ بالإجماع لكن لا بنفسه بل بسنده , فإذا رأينا متنا صحيحا والإجماع بخلافه , استدللنا بذلك على نسخ , وأن أهل الإجماع اطلعوا على ناسخ وإلا لما خالفوه (¬1). وقال الشنقيطي: " إذا وجد في كلام العلماء أن نصاً منسوخ بالإجماع، فإنهم إنما يعنون أنه منسوخ بالنص الذي هو مستند الإجماع، لا بنفس الإجماع " (¬2). ومن ادعى إجماعا يخالف نص الرسول من غير نص، يكون موافقا لما يدعيه، واعتقد جواز مخالفة أهل الإجماع للرسول برأيهم، وأن الإجماع ينسخ النص، كما تقوله طائفة من أهل الكلام والرأي، فهذا من جنس هؤلاء (¬3). الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - مثال الوصية: قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} (¬4). اختلف العلماء في هذه الآية أي في الوصية التي قرّرتها، هل هي منسوخة أو محكمة. وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره، وملخص كلامه: إنه ذهب ¬

(¬1) انظر إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 2، ص 562. (¬2) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 500. (¬3) مجلة البحوث الإسلامية / شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 21، ص 276. (¬4) سورة البقرة، الآية (180).

جمهور أهل النظر من العلماء، الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد إلى أن الآية منسوخة بآية المواريث التي في سورة النساء حيث نسخت هذه الآية نسخاً مجملاً ,بينت ميراث كل قريب فلم يبق حقه موقوفاً على إيصاء الميت له بل صار حقه ثابتاً معيناً رضي الميت أم كره، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬1). وقال بعضهم: الآية محكمة لم تُنسخ , والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبْدين والأقارِب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري (¬2). ورجح ابن عاشور أن الآية منسوخة مستندا في ذلك إلى الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة ومن قوله: " ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة، ولمَّا ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإِجماع، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (11). (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 2، ص 151.

والفقهاء في تقرير كيفية النسخ (¬1). وممن وافق ابن عاشور في اختياره فيمن سبقه من المفسرين ابن عطية والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي (¬2). ورجّح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة، وكذلك الرازي. ولم يتطرق القاسمي، ولا الشنقيطي لهذا الخلاف ولا حتى إشارة (¬3). حجة القائلين بأن الآية منسوخة: حجتهم في ذلك آية المواريث {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} التي بينت نصيب كل من الوالدين والأقربين. قال ابن عاشور: " وهذه الآية صريحة في إيجاب الوصية؛ لأن قوله " كتب عليكم" صريح في ذلك , وجمهور العلماء على أنها ثبت بها حكم وجوب الإيصاء للوالدين والأقربين، .. ثم إن آية المواريث التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخاٍ مجملاً فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفاً على إيصاء الميت له بل صار حقه ثابتاً معيناً رضي الميت أم كره " (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 151. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري , ج 2, ص 146 , والتفسير الكبير / الرازي , ج 2 , ص 234. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 146، المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 248، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 234، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 266، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 21، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 168، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 178، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 451. (¬4) التحرير والتنوير، ج 2، ص 140.

كما استدل أصحاب هذا القول بالسنة المتواترة، ومن ذلك حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: " قال كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع " (¬1). وحديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته عام حجة الوداع: إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " (¬2). قال ابن كثير: " اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين , وقد كان ذلك واجبًا -على أصح القولين -قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية ولا تحمل منَّة الموصي، ولهذا جاء الحديث في السنن وغيرها عن عَمْرو بن خارجة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب وهو يقول: "إن الله قد أعطى كلّ ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" (¬3). وقال ابن أبي حاتم فيما يرويه بسنده عن ابن عباس، في قوله: {الْوَصِيَّةُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث، ج 3، ص 1008، ح- 2595. (¬2) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الوصايا، باب ماجاء لا وصية لوارث، ج 4، ص 1433، ح- 2120. (¬3) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 167 - 168.

لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} نسختها هذه الآية: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (¬1). ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر وأبي موسى، وسعيد بن المسيَّب، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، ومحمد بن سيرين، وعكرمة، وزيد بن أسلم، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حَيّان، وطاوس، وإبراهيم النَّخَعي، وشُرَيح، والضحاك، والزهري: أن هذه الآية منسوخة نسختها آية الميراث " (¬2). وذكر أحد العلماء وجهاً آخر للقول بالنسخ، فقال: " هذه الآية نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وقد قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬3) فرتب الميراث على وصية منكرة والوصية الأولى كانت معهودة فلو كانت تلك الوصية باقية لوجب ترتيبه على المعهود فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق كذلك لتغاير المعنيين " (¬4). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (7). (¬2) تفسير ابن أبي حاتم، ج 1، ص 267. (¬3) سورة النساء، الآية (11). (¬4) انظر روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 451،

حجة القائلين بأن الآية محكمة: قالوا: الآية مُحكَمَة لم تُنسخ , والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبْدين والأقارِب الذين لا ميراث لهم, وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس (¬1). وقد ذهب الشافعي والنخعي إلى عدم نسخ آية الوصية , مستندين إلى أن حكمها هو الندب لا الوجوب فلا تعارض بينها وبين آيات المواريث، كما لا تعارض بينها وبين حديث " لا وصية لوارث" لأن معناها لا وصية واجبة، وهو لا ينافي ندب الوصية وحيث لا تعارض فلا نسخ. القول الراجح: الذي يظهر لي - والله أعلم - أن الآية محكمة وليست منسوخة بالإجماع كما ذكر ابن عاشور كما سبق وذكرت في المبحث الأول من هذا الفصل. ويمكن الاعتراض على القائلين بالنسخ والمستدلين على ذلك بنص ابن عباس - رضي الله عنه - أن يقال لهم: إن مفهوم النسخ عند المتقدمين يراد به التخصيص, فيكون المعنى أن آية المواريث خصصت الوصية. قال الرازي: " إن هذه الآية تفهم بعمومها أن الوصية واجبة لكل قريب، وآية المواريث أخرجت القريب الوارث فبقيت آية الوصية مراداً بها القريب الذي لا يرث ,إما لمانع من الإرث، وإما لإنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوي الأرحام " (¬2). ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 2، ص 150، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 248، (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 233.

وقال محمد عبده: " لا دليل على أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا، كما أن السياق ينافي النسخ فإن الله إذا شرع للناس حكماً وعلم أنه مؤقت وأنه سينسخه بعد زمن قريب، فإنه لا يؤكده ويوثقه بمثل ما أكد به أمر الوصية هنا، من كونه حقاً على المتقين، ومن وعيد من بدله " (¬1). وقال ابن المنذر: " أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم: على أن الوصية للوالدين الذين لا يرثان، والأقرباء الذين لا يرثون جائزة " (¬2). 2 - مثال الإطاقة: قال تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬3). اختلف المفسرون في هذه الآية من قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} بين النسخ والإحكام , حيث ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية كانت تخير المقيم الصحيح بين الصيام والإفطار، على أن يفدي بإطعام مسكين عن كل يوم يفطر فيه، ثم نسخها الله عز وجل بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ¬

(¬1) تفسير المنار / محمد رشيد رضا، ج 2 , ص 136. (¬2) الإجماع / ابن المنذر، ص 89. (¬3) سورة البقرة، الآية (184).

فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬1) حيث أوجبت هذه الآية الصوم على الصحيح المقيم على التعيين، بعد أن كان واجباً على التخيير بينه وبين الفدية، وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة (¬2). ورجّح ابن عاشور أن الآية منسوخة بالإجماع فقال: " وعلى تفسير الطاقة بالقدرة , فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع قالوا في حمل الآية عليه: إنها حينئذٍ تضمنت حكماً كان فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فُرِض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬3) ونقل ذلك عن ابن عباس وفي البخاري عن ابن عمر وسلَمةَ بن الأكْوَع نسختْها آية {شَهْرُ رَمَضَانَ} (¬4) .. ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر " (¬5). وممن سبق ابن عاشور في أن الآية منسوخة الطبري، وأبو حيان، وابن ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (185). (¬2) انظر المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 1، ص 253، وروح المعاني/ الألوسي، ج 1، ص 456. (¬3) سورة البقرة، الآية (185). (¬4) سورة البقرة، الآية (185). (¬5) التحرير والتنوير، ج 3، ص 275.

كثير (¬1). في حين يرى الرازي والقرطبي، والشنقيطي بأن الآية محكمة (¬2). وذكر كلٌ من ابن عطية، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي الخلاف الوارد في الآية ولم يرجحوا (¬3). حجة القائلين بأن الآية منسوخة: بيّن الطبري الحجة بقوله: " وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: "وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، منسوخٌ بقول الله تعالى ذكره: : {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬4) "لأن"الهاء" التي في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} من ذكر"الصيام" ومعناه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعامُ مسكين. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان الجميعُ من أهل الإسلام مجمعينَ على أن من كان مُطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوْمَ شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين - كان معلومًا ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص، 168، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 43.، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 178. (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 242، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 290، وودفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب / الشنقيطي، ص 30. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 253، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 180، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 456، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 60. (¬4) سورة البقرة، الآية (185).

أنّ الآية منسوخةٌ. هذا مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفًا عن مُعاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع: من أنهم كانوا - بعد نزول هذه الآية على عَهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه وسُقوط الفدية عنهم، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم؛ وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فألزموا فرضَ صومه، وبطل الخيار والفديةُ " (¬1). وكذلك من الأدلة التي استدلوا بها ما رواه البخاري: "وقال بن نمير حدثنا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا بن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها وأن تصوموا خير لكم " (¬2). حجة القائلين بأن الآية محكمة: قال الطبري: " وقال آخرون ممن قرأ ذلك: "وَعلى الذين يُطيقونه"، لم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبتٌ من لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة، وقالوا: إنما تأويل ذلك: وعلى الذين يطيقونه - في حال شبابهم وَحداثتهم، وفي حال صحتهم وقوتهم - إذا مَرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم، فدية طعام مسكين = لا أنَّ القوم كان رُخِّص لهم في الإفطار - وهم على الصوم قادرون - إذا افتدوا. ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 168. (¬2) أخرجه البخاري تعليقاً، كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن ظلل عليه واشتد الحر ليس من البر الصوم في السفر، ج 2، ص 688، ح- 1847.

روى السدي: "وَعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: أما الذين يطيقونه، فالرجل كان يطيقه وقد صام قَبل ذلك، ثم يعرض له الوَجع أو العطش أو المرض الطويل، أو المرأة المرضعُ لا تستطيع أن تصوم، فإن أولئك عليهم مكانَ كل يوم إطعام مسكين، فإن أطعم مسكينًا فهو خيرٌ له، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: إذا خَافت الحاملُ على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان، قال: يفطران ويطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا، ولا يقضيان صومًا. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أيضاً: أنه رَأى أمَّ ولدٍ له حاملا أو مُرضعًا، فقال: أنت بمنزلة الذي لا يُطيقه، عليك أن تطعمي مكانَ كل يوم مسكينُا، ولا قَضَاء عليك. وعنه - رضي الله عنه - أيضاً قوله: "وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، هو الشيخ الكبير كان يُطيق صومَ شهر رمضان وهو شاب، فكبر وهو لا يستطيع صومَه، فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أفطرَه، حين يُفطر وحينَ يَتسحَّر" (¬1). القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة، وأن معنى (يطيقونه): لا يطيقونه؛ بتقدير "لا" النافية وعليه فتكون الآية محكمة، ويكون وجوب الإطعام على العاجز عن الصوم، كالهرم والزمن (¬2). ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 164. (¬2) انظر دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب / الشنقيطي، ص 30.

وأما ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - في كون الآية منسوخة فقد أزال الإشكال عنه القرطبي حيث يقول: " يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص، فكثيراً ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه، وقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست منسوخة وأنها محكمة " (¬1) , وأما ماذهب إليه ابن عاشور من كون هذه الآية منسوخة بالإجماع تنازعه قواعد أقوى منه في الترجيح. ومن تلك القواعد التي تعضد هذا الترجيح قاعدة: (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره .. ) وسياق الآية في أوله يخاطب المكلفين بالصيام فالله تعالى يقول في الآية قبلها {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أي فرض، وجاءت الآية بعد ذلك في أحكام المريض والمسافر وأنه إذا تعذر عليهما الصوم فلهما القضاء في أيام أخر، فمن المفترض أن تكون الآية بعدها فيمن لا يقدرون على الصيام كالهرم أو المرضع، الحامل، وعليه يترجح والله أعلم أن الآية محكمة. ومما يعضد هذا الترجيح أيضاً قاعدة ترجيحية أخرى، وهي: (تأتي القراءة في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة في الآية)، وقد وردت قراءة لبعض الصحابة يطَّوَّقونه بفتح الياء وتشديد الطاء والواو المفتوحين، بمعنى يتكلفونه مع عجزهم عنه. وعلى هذا القول، فيجب على الهرم ونحوه الفدية، وهو اختيار البخاري (¬2). ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 291. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 3، ص 275.

وكذلك ذكر الطبري أنه قرأ ذلك آخرون {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وقالوا: إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه، فلهما أن يفطرا ويطعما مكانَ كلّ يوم أفطراه مسكينًا. وقالوا: الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت، لم تنسخ، وأنكروا قول من قال: إنها منسوخة" (¬1). وذكر الباحث الدكتور مصطفى زيد ما يؤكد هذا الترجيح، وإن كنت لا أتفق معه في أسلوب طرحه لرفض النسخ فالكل مجتهد، ولكل مجتهد نصيب، وهذ قوله: " ولكنا لا ندري كيف يسوغ في نظر هؤلاء الذين يرون تخيير المقيم الصحيح بين الصوم والفدية - أن يوجب الله عز وجل (في الآية نفسها) الصوم على المريض والمسافر، بدليل إيجاب القضاء عليهما إذا أفطر؟ وبعبارة أخرى: كيف يسوغ في نظرهم أن تكفي الفدية من لا عذر له، ويتحتم القضاء على المعذور الذي يباح له الإفطار بسبب عذره؟ . كذلك لا ندري: كيف يفهم هؤلاء ما تقرره أولى آيات الصيام: من أن الصيام قد كتب علينا، وهي إنما تخاطب المطيقين؛ لأنه لا تكليف إلا بما يطاق , وما تقرره الآية الثانية من أن الصيام قد كتب على التخيير، لا على الإلزام، مع أنهم لم يزعموا أن آية التخيير ناسخة لآية الإلزام؟ . ونحن لا ندري ثالثاً: كيف يسوغ على تفسيرهم هذا أن يقول الله عز وجل، في الآية التي تنسخ التخيير بالتعيين - وهي الآية التي تحتم الصوم على ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 164.

كل مطيق، ولا تقبل بدلاً منه الفدية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} مع أن الإلزام بعد التخيير عسر وليس يسراً؟ ! . من أجل هذا نرفض دعوى النسخ هنا بالرغم من الآثار الكثيرة التي استند إليها أصحاب هذه الدعوى، ومن ترجيح الطبري لها، ومن قول أبي عبيد القاسم بن سلام: (لا تكون الآية على قراءة يطيقونه إلا منسوخة) اهـ " (¬1). 2 - مثال عقوبة الفاحشة: قال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬2). اختلف العلماء بين النسخ والإحكام في هذه الآية، فقيل كان حد الزانيين الأذى لهما والحبس للمرأة، ثم نسخ ذلك بالجلد في سورة النور، وإن كانا محصنين بالرجم في السُنَّة، وذهب آخرون إلى الآية محكمة وأنه لا تعارض بين الآيتين يوجب النسخ (¬3). ورجّح ابن عاشور أن الآية منسوخة بآية سورة النور، وحكى إجماع العلماء على ذلك ومن قوله: " واعلَمْ أنّ شأن النسخ في العقوبات على الجرائم ¬

(¬1) النسخ في القرآن الكريم / مصطفى زيد، ج 2، ص 157. (¬2) سورة النساء، الآية (15). (¬3) انظر نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 121، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، 206.

التي لم تكن فيها عقوبة قبل الإسلام، أن تنسخ بأثقل منها، فشرع الحبس والأذى للزناة في هذه السورة، وشرع الجلد بآية سورة النور، والجلد أشدّ من الحبس ومن الأذى " (¬1) وممن وافق قوله قول ابن عاشور في كون الآية منسوخة الطبري، ابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي في كتابه دفع إيهام الاضطراب (¬2) أما الرازي، والقرطبي، وأبو حيان فقد ذهبوا إلى أن الآية محكمة (¬3). حجة القائلين بأن الآية منسوخة: قالوا هي منسوخة بآية النور، وهي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير , ج 3 , ص 276. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 4، ص 346، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 21، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 3، ص 384، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 438، وروح المعاني الألوسي، ج 2، ص 444 , ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 51، ودفع إيهام الاضطراب / الشنقيطي، ص 56. (¬3) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 528، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 90، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 204. (¬4) سورة النور، الآية (2).

قال قتادة: " {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} كان هذا بدء عقوبة الزنا كانت المرأة تحبس فيؤذيان جميعا , فيعيران بالقول جميعا في الشتيمة بعد ذلك. ثم إن الله عز وجل نسخ ذلك بعد في سورة النور فجعل لهن سبيلا فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وصارت السنة فيمن أحصن جلد مائة ثم الرجم بالحجارة , وفيمن لم يحصن جلد مائة ونفي سنة هذا سبيل الزانية والزاني " (¬1). وقال ابن كثير: " قال ابن عباس: كان الحكم كذلك، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد، أو الرجم. وكذا رُوي عن عِكْرِمة، وسَعيد بن جُبَيْر، والحسن، وعَطاء الخُراساني، وأبي صالح، وقتادة، وزيد بن أسلم، والضحاك: أنها منسوخة. وهو أمر متفق عليه " (¬2). كما استدلوا بما روي عن مسلم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا؛ البكر بالبكر ¬

(¬1) الناسخ والمنسوخ / قتادة، ج 1، ص 39. (¬2) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 3، ص 384.

جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". (¬1). قال ابن عاشور: " جاء حدّ الزنا في سورة النور، وهي نازلة في سنة ست بعد غزوة بني المصطلق على الصحيح، والحكم الثابت في سورة النور أشدّ من العقوبة المذكورة هنا، ولا جائز أن يكون الحدّ الذي في سورة النور قد نسخ بما هنا لأنّه لا قائل به. فإذا مضينا على معتادنا في اعتبار الآي نازلة على ترتيبها في القراءة في سورها، قلنا إنّ هذه الآية نزلت في سورة النساء عقب أحكام المواريث وحراسة أموال اليتامى، وجعلنا الواو عاطفة هذا الحكم على ما تقدّم من الآيات في أوّل السورة بما يتعلّق بمعاشرة النساء، كقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬2) وجزمنا بأنّ أوّل هذه السورة نزل قبل أوّل سورة النور، وأنّ هذه العقوبة كانت مبدأ شرع العقوبة على الزنا فتكون هاته الآية منسوخة بآية سورة النور لا محالة، كما يدلّ عليه قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} " (¬3). حجة القائلين بأن الآية محكمة: قالوا: إن النسخ لا يكون إلا عند تعذر الجمع بين الدليلين، وهنا يمكن ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد الزنى، ج 3، ص 1316، ح-1690، والترمذي في سننه، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم على الميت، ج 4، ص 41، ح- 1434 وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) سورة النساء، الآية (4). (¬3) التحرير والتنوير، ج 3، ص 269.

الجمع بين الآيتين (¬1). قال السعدي: " وهذه الآية ليست منسوخة، وإنما هي مغياة إلى ذلك الوقت، فكان الأمر في أول الإسلام كذلك حتى جعل الله لهن سبيلا , وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن " (¬2). وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن الآية محكمة وأن المراد بقوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ}: السحاقات، وحدَّهُن الحبس إلى الموت، والآية الثانية {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} (¬3) أهل اللواط، وحدّهما الأذى بالقول والفعل وماذهب إليه أبو مسلم إنما بناه على أصل له وهو أنه لا يرى النسخ في القرآن الكريم (¬4). القول الراجح: إن الآية منسوخة , كما قرر ذلك ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين ونسخها الإجماع المستند إلى الدليل. قال ابن عطية: "أجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في ¬

(¬1) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 438. (¬2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 1، ص 329. (¬3) سورة النساء، الآية (16). (¬4) انظر قول أبي مسلم في التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 528.

سورة النور" (¬1). وردّ ابن عاشور قول من قال أن الآية محكمة لقوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} فقال: " إنّ قوله: إنّ آية النساء مغيّاة، لا يُجدي لأنّ الغاية المبهمة لمّا كان بيانها إبطالا لحكم المغيَّي فاعتبارُها اعتبارُ النسخ، وهل النسخ كلّه إلاّ إيذان بوصول غاية الحكم المرادة لله غير مذكورة في اللفظ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسو النزول غير شعار النسخ" (¬2). أما قول أبي مسلم الأصفهاني وما احتج به فقد ذكر الرازي: " أن العلماء احتجوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه ذكرها: الأول: أن هذا قول لم يقله أحد من المفسرين المتقدمين فكان باطلا. والثاني: أنه روي في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد جعل الله لهن سبيلا الثيب ترجم, والبكر تجلد» وهذا يدل على أن هذه الآية نازلة في حق الزناة. الثالث: أن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواط، ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، فعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم من أقوى الدلائل على أن هذه الآية ليست في اللواطة " (¬3). ومما يعضد هذا الترجيح قاعدة أخرى وهي: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له) , والقول بالنسخ قد نصّ عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 22. (¬2) التحرير والتنوير، ج 3، ص 275. (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 529.

في حديث: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" بيان منه أيضاً لنسخ حكم الآية من سورة النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ .. } (¬1). 4 - مثال المؤلفة قلوبهم: قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬2). اختلف أهل العلم في بَقَاءِ المؤلفة قلوبهم، فمنهم من قال: هم زائلون؛ قاله جماعة، وأخذ به مالك، وقد قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين. ومنهم من قال: هم باقون؛ لأن ربما احتاج أن يستألف على الإسلام (¬3). وقد ذكر هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: " اختلف العلماء في استمرار هذا المصرف، عن عمر بن الخطاب أنّه انقطع سهمهم بعزة الإسلام، وبه قال الحسن، والشعبي، ومالك بن أنس وأبو حنيفة، وقد قيل: إنّ الصحابة أجمعوا على سقوط سهم المؤلّفة قلوبهم من عهد خلافة أبي بكر حكاه القرطبي، ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) سورة التوبة، الآية (60). (¬3) انظر أحكام القرآن / ابن العربي، ج 2، ص 428.

ولا شكّ أن عمر قَطع إعطاء المؤلّفة قلوبهم مع أنّ صنفهم لا يزال موجوداً، رأى أنّ الله أغنى دين الإسلام بكثرة أتْباعه فلا مصلحة للإسلام في دفع أموال المسلمين لتأليف قلوب من لم يتمكّن الإسلام من قلوبهم. ومِن العلماء من جعل فعل عمر وسكوتَ الصحابة عليه إجماعاً سكوتياً , فجعلوا ذلك ناسخاً لبعض هذه الآية وهو من النسخ بالإجماع، وفي عدّ الإجماع السكوتي في قوة الإجماع القولي نزاع بين أئمّة الأصول وفي هذا البناء نظر، كما علمت آنفاً. وقال كثير من العلماء: هم باقون إذا وُجدوا فإنّ ربما احتاج إلى أن يستألف على الإسلام، وبه قال الزهري، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي، وأحمد بن حنبل، واختاره عبد الوهاب، وابن العربي، من المالكية قال ابن العربي: الصحيح عندي أنّه إن قوي الإسلام زالوا وإن احتيج إليهم أعطوا " (¬1). ومما تقدم نجد ابن عاشور ذكر الأقوال ولم يرجح، وذلك يدلنا على أن هذه القاعدة موجودة عنده ويعمل بها إذا كان الإجماع يستند إلى أصل شرعي , أما إذا لم يكن له أصل شرعي فإنه يتوقف فيه وفي ذلك يقول: " وهي مسألة غريبة لأنّها مبنية على جواز النسخ بدليل العَقْل وقياس الاستنباط أي دون وجود أصل يقاس عليه نظيره وفي كونها مبنيّة على هذا الأصل نظر " (¬2). ورجح الطبري وابن عطية، والرازي وجودهم إلى اليوم (¬3). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 6، ص 239. (¬2) التحرير والتنوير، ج 6، ص 238. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 10، ص 185، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 49، والتفسير الكبير / الرازي، ج 6، ص 86.

وذكر القرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، الخلاف الوارد فيهم ولم يرجحوا (¬1). وذكر القاسمي معنى المؤلفة قلوبهم، ولم يتطرق للخلاف الوارد فيها ولا حتى بإشارة (¬2). حجة القائلين بأن المؤلفة قلوبهم انقطع وجودهم وُنسخ حكمهم: حجتهم في ذلك إجماع الصحابة على ذلك في خلافة الصديق - رضي الله عنه -، وحينئذ يكون هذا الإجماع أو مستنده ناسخاً للآية في صنف المؤلفة. واستدلوا على ذلك بفعل أبي بكر - رضي الله عنه - وعمر - رضي الله عنه -، فقد روي عن ابن سيرين عن عبيدة قال جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالا: يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة , فإن رأيت أن تقطعناها لعلنا نزرعها ونحرثها , فذكر الحديث في الإقطاع وإشهاد عمر - رضي الله عنه - عليه ومحوه إياه قال: فقال عمر - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتألفكما , والإسلام يومئذ ذليل ,وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما لا أرعى الله عليكما إن رعيتما , ويذكر عن الشعبي أنه قال: لم يبق من المؤلفة قلوبهم أحد إنما كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فلما ¬

(¬1) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 8، ص 168، والبحر المحيط، / أبو حيان، ج 5، ص 59.، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 222، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 373، وروح المعاني / الألوسي، ج 5، ص 312. (¬2) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 5، ص 450.

استخلف أبو بكر رضي الله عنه انقطعت الرشا " (¬1). وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن جابر عن عامر قال: إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما ولي أبو بكر انقطعت " (¬2). وقال صاحب بدائع الصنائع: " والصحيح قول العامة لإجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئاً من الصدقات ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءوا إلى أبي بكر واستبدلوا الخط منه لسهامهم فبدل لهم الخط، ثم جاءوا إلى عمر رضي الله عنه وأخبروه بذلك فأخذ الخط من أيديهم ومزقه وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام , فأما اليوم فقد أعز الله دينه فإن ثبتّم على الإسلام وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف , فانصرفوا إلى أبي بكر فأخبروه بما صنع عمر رضي الله عنهما وقالوا: أنت الخليفة أم هو؟ فقال: إن شاء الله هو , ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله وبلغ ذلك الصحابة فلم ينكروا فيكون إجماعاً منهم على ذلك، ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام , ولهذا سمّاهم الله المؤلفة قلوبهم والإسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة وأولئك كثير ذو قوة وعدد واليوم بحمد الله عز الإسلام وكثر أهله واشتدت دعائمه ورسخ بنيانه وصار أهل الشرك أذلاء، والحكم متى ثبت معقولاً بمعنى خاص ينتهي بذهاب ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في الكبرى، ج 7، ص 20. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، ج 2، ص 435، ح- 10759.

ذلك المعنى" (¬1). حجة القائلين بأن المؤلفة قلوبهم لم ينقطع وجودهم ولم يُنسخ حكمهم: حجتهم في ذلك أنه لا دليل على نسخ هذا الحكم، وأن الأصل عدم النسخ. قال الطبري: " إن الله جعل الصدقة في معنيين أحدهما: سدُّ خَلَّة المسلمين، والآخر: معونة الإسلام وتقويته. فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يُعطاه الغني والفقير، ... وكذلك المؤلفة قلوبهم، يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء، استصلاحًا بإعطائهم أمرَ الإسلام وطلبَ تقويته وتأييده. وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعطى من المؤلفة قلوبهم، بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإسلام وعز أهله. فلا حجة لمحتجّ بأن يقول: "لا يتألف اليوم على الإسلام أحد، لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم"، وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعطى منهم في الحال التي وصفت " (¬2). وقال ابن عطية بعد أن ذكر قول عمر بن الخطاب في أنهم انقطعوا بعزة الإسلام وظهوره قال: " وأما أن ينكر عمر الاستئلاف جملة وفي ثغور الإسلام , فبعيد " (¬3). وقال الرازي: " والصحيح أن هذا الحكم غير منسوخ وأن للإمام أن يتألف قوماً على هذا الوصف ويدفع إليهم سهم المؤلفة لأنه لا دليل على نسخه ¬

(¬1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ج 4، ص 24. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 10، ص 185. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 49.

ألبتة " (¬1). وفي ذلك يقول سيد قطب في الظلال: " المنهج الحركي لهذا الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة كثيراً من الحالات، تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس على هذا الوجه؛ إما إعانة لهم على الثبات على الإسلام إن كانوا يحاربون في أرزاقهم لإسلامهم، وإما تقريباً لهم من الإسلام كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع الإسلام بالدعوة له والذب عنه هنا وهناك , ندرك هذه الحقيقة فنرى مظهراً لكمال حكمة الله في تدبيره لأمر المسلمين على اختلاف الظروف والأحوال " (¬2). القول الراجح: هو أن الآية محكمة كما مال إلى ذلك ابن عاشور ورجحه عدد من المفسرين، وفعل أبي بكر - رضي الله عنه - وعمر - رضي الله عنه - كان اجتهادا منهما في فترة زمنية لما رأوه من ملائمة الأحوال على عدم إعطاء المؤلفة قلوبهم، ولكن الأحوال تختلف من زمن إلى زمن وقد نحتاج إلى هذا الحكم، كما أنه لا يوجد دليل ينسخ حكمهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعا معلقا بسبب إنما يكون مشروعا عند وجود السبب كإعطاء المؤلفة قلوبهم , فإنه ثابت بالكتاب والسنة وبعض الناس ظن أن هذا نسخ لما روي عن عمر أنه ذكر أن الله أغنى عن التألف فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وهذا الظن غلط ولكن عمر ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 6، ص 86. (¬2) في ظلال القرآن / سيد قطب، ج 3، ص 1669.

استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم فترك ذلك لعدم الحاجة إليه لا لنسخه كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك " (¬1). 5 - مثال الفيء: قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2). اختلف العلماء في هذه الآية وأشكلت عليهم كثيراً؛ وذلك أن هذه الآية فيها أن ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى لا يخمّس مع إن مصارفه التي بيّن أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة في سورة الأنفال في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬3)، ولذلك اختلفوا: قال ابن الفرس (¬4): " آية: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} من ¬

(¬1) مجموع الفتاوى / شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 33، ص 94. (¬2) سورة الحشر، الآية (7). (¬3) سورة الأنفال، الآية (41). (¬4) ابن الفرس هو: الحافظ محمد بن عبد الرحيم بن محمد بن الفرج بن خلف أبو عبد الله ابن الفرس الأنصاري الخزرجي الغرناطي، ولي قضاء بلنيسة وكان في وقته أحد حفاظ الأندلس وكان أصوله أعلاقاً نيسة أكثرها بخطه، توفي سنة سبع وستين وخمس مائة. (الوافي بالوفيات، ج 1، ص 396).

المشكلات إذا نُظرت مع الآية التي قبلها ومع آية الغنيمة من سورة الأنفال. ولا خلاف في أن قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} (¬1) إنما نزلت فيما صار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أموال الكفار بغير إيجاف، وبذلك فسّرها عُمر ولم يخالفه أحد. وأما آية الأنفال {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ .. } فلا خلاف أنها نزلت فيما صار من أموال الكفار بإيجاف، وأما الآية الثانية من الحشر {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فاختلف أهل العلم فيها , فمنهم من أضافها إلى التي قبلها، ومنهم من أضافها إلى آية الأنفال وأنهما نزلتا بحكمين مختلفين في الغنيمة الموجف عليها، وأن آية الأنفال نسخت آية الحشر. ومنهم من قال: إنها نزلت في معنى ثالث غير المعنيين المذكورين في الآيتين: واختلف الذاهبون إلى هذا: فقيل نزلت في خراج الأرض والجزية دون بقية الأموال، وقيل نزلت في حكم الأرض خاصة دون سائر أموال الكفار (فتكون تخصيصاً لآية الأنفال) وإلى هذا ذهب مالك , والآية عند أهل هذه المقالة غير ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية (6).

منسوخة , ومنهم من ذهب إلى تخيير اهـ (¬1). وقد يعود الخلاف بين الآيتين لكون بعض العلماء لم يفرقوا بين معنى الفيء ومعنى الغنيمة، وعدّوهما شيئاً واحد .. وقد وضّح الشنقيطي الفرق بين الفيء والغنيمة حيث يقول: " اعلم أولاً أن أكثر العلماء: فرقوا بين الفيء والغنيمة فقالوا: الفيء: هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انتزاعه منهم بالقهر، كفيء بني النضير الذين نزلوا على حكم النَّبي - صلى الله عليه وسلم - ومكنوه من أنفسهم وأموالهم يفعل فيها ما يشاء لشدة الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم، ورضي لهم - صلى الله عليه وسلم - أن يرتحلو بما يحملون على الإبل غير السلاح، وأما الغنيمة: فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة والقهر، وهذا التفريق يفهم من قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ .. } الآية مع قوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} فإن قوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} الآية: ظاهر في أنه يراد به بيان الفرق بين ما أوجفوا عليه وما لم يوجفوا عليه كما ترى، والفرق المذكور بين الغنيمة والفيء عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله في غزوة بني النضير: وفيئهم والفيء في الأنفال ... ما لم يكن أخذ عن قتال أما الغنيمة فعن زحاف ... والأخذ عنوة لدى الزحاف (¬2). ¬

(¬1) انظر التحرير، ج 13، ص 82. (¬2) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 308.

ورجّح ابن عاشور أن هذه الآية لها حكم خاص بها ثم نُسخ وهذا قوله: " وليس يبعد عندي أن تكون القرى التي عنتها آية الحشر فتحت بحالة مترددة بين مجرد الفيء وبين الغنيمة، فشُرع لها حكم خاص بها، وإذ قد كانت حالتها غير منضبطة تعذر أن نقيس عليها ونُسخ حكمها , واستقرّ الأمر على انحصار الفتوح في حالتين: حالة الفيء المجرد وما ليس مجردَ فيء. وسقط حكم آية الحشر بالنسخ أو بالإِجماع. والإِجماع على مخالفة حكم النص يعتبر ناسخاً لأنه يتضمن ناسخاً " (¬1). ورجّح الطبري، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني أن الآية محكمة (¬2). ولم يتطرق كل من الرازي، وأبو حيان، والألوسي ولا القاسمي لهذا الخلاف حول نسخ الآية وإحكامها (¬3). حجة القائلين: إن الآية منسوخة بآية الأنفال: قال ابن كثير: " ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق عليه الغنيمة، والغنيمة على الفيء أيضا؛ ولهذا ذهب قتادة إلى أن هذه الآية ناسخة ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 13، ص 84. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 46، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 286، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 16، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 81، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 198، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 240، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 308 .. (¬3) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 507، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 244، وروح المعاني / اللوسي، ج 14، ص 240، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 77.

لآية "الحشر": {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، قال: فنسخت آية "الأنفال" تلك، وجعلت الغنائم: أربعة أخماسها للمجاهدين، وخمسًا منها لهؤلاء المذكورين " (¬1). حجة القائلين بأن الآية محكمة: ذكر الطبري أنه يروى عن أهل العلم في المراد بالفيء ثلاثة مذاهب: "المذهب الأول: إنه عز وجل عنى بذلك الجزية والخراج؛ فقد أخرج عن معمر بسند صحيح: قوله {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} بلغني أنها الجزية والخراج: خراج أهل القرى. والمذهب الثاني: إنه جل ثناؤه عنى بذلك الغنيمة التي يصيبها المسلمون من عدوهم، من أهل الحرب، بالقتال عنوة. والمذهب الثالث: إنه تعالى عنى بذلك ما صالح عليه أهل الحرب المسلمين من أموالهم، وقال أصحاب هذا المذهب: قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} بيان قسم المال الذي ذكره الله في الآية التي قبل هذه الآية، وذلك قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} ,وهذا قول كان يقوله بعض المتفقهة من المتأخرين (¬2). ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 81. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 47.

القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة كما احتمل ابن عاشور , وذلك أن آية الحشر لا تعارض آية الأنفال، فلا تنسخ بها وبخاصة أن سورة الحشر نزلت بعد الأنفال بسنة، كما يقول ابن الجوزي نقلاً عن بعض شيوخ السلف ومحال أن يمسح المتقدم المتأخر (¬1). قال النحاس: " القول أنها منسوخة فلا معنى له لأنه ليست إحداهما تنافي الأخرى فيكون النسخ " (¬2). وذكر بعض العلماء أن كل آية من هذه الآيات لها معناها فلا نسخ بينها. قال ابن العربي: " لا إشكال أنها ثلاثة معانٍ في ثلاث آيات. أما الآية الأولى: وهي قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} فهي خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة له، وهي أموال بني النضير وما كان مثلها. وأما الآية الثانية: وهي قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} فهذا كلام مبتدأ غير الأوّل بمستحق غير الأول، وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئًا أفاءه الله على رسوله، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال، واقتضت آية الأنفال، وهي الآية الثالثة: أنه حاصل بقتال، وعريت الآية الثانية، وهي قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} عن ذكر حصوله بقتال، أو بغير قتال " (¬3). ¬

(¬1) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 237. (¬2) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 704. (¬3) الناسخ والمنسوخ / ابن العربي, ص 212.

المبحث الخامس التخصيص بعد العمل بالعام والتقييد بعد العمل بالمطلق لايعد نسخا

المبحث الخامس التخصيص بعد العمل بالعام والتقييد بعد العمل بالمطلق لايعدُّ نسخاً صورة القاعدة: إذا ورد المعنى الخاص بعد العمل العام لا شكّ أنّ الخاص مخصِّص لا ناسخ، لأنّ النسخ إنّما يتصوّر إذا كان الحكم المتأخر نافياً للمتقدم، أما إذا كان المتأخر مخصصاً لبعض أفراد العام لا نافياً له فإن ذلك يعدُّ تخصيصاً لا نسخاً، وكذلك يقال بالنسبة للمطلق والمقيد (¬1). شرح ألفاظ القاعدة: التخصيص لغة: من الخاص، والخاص ضد العام، وهو المنفرد (¬2). اصطلاحاً: هو قصر العام على بعض أفراده بدليل يدل على ذلك (¬3). العام لغة: هو الشامل، ومنه قولهم عمهم الخير إذا شملهم وأحاط بهم (¬4). اصطلاحاً: هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد، كقوله " الرجال " فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له، ولا تدخل عليه النكرات، كقولهم "رجل"؛ لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا، ولا يستغرقهم، ولا ¬

(¬1) انظر فتح المنان في نسخ القرآن / علي حسن العريض، ص 37. (¬2) انظر تاج العروس / الزبيدي، ج 4، ص 387. (¬3) إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 1، ص 408. (¬4) انظر المعجم الوسيط، ج 2، ص 629، مادة: عم.

التثنية؛ ولا الجمع؛ لأن لفظ رجلان و"رجال" يصلح لكل اثنين وثلاثة ولا يفيدان الاستغراق، ولا ألفاظ العدد كقولنا خمسة؛ لأنه يصلح لكل خمسة ولا يستغرقه. وقولهم بحسب وضع واحد: احتراز عن اللفظ المشترك، والذي له حقيقة ومجاز، فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معاً (¬1). الفرق بين التخصيص والنسخ: قد بيّن العلماء فروقاً بين النسخ الشرعي، وبين التخصيص حتى يدرك الباحث حقيقة كل منهما، ولا يتورط فيما تورط فيه غيره من المؤلفين السابقين، في إدخال قضايا من أنواع التخصيص في باب النسخ ويخلط بينهما، ومن هذه الفروق ما يأتي: الأول: أن التخصيص لا يصح إلا فيما يتناوله اللفظ، والنسخ قد يصح فيما علم بالدليل انه مراد وإن لم يتناوله اللفظ. الثاني: أن نسخ شريعة بشريعة أخرى يصح وتخصيص شريعة بشريعة أخرى لا يصح الثالث: أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته والتخصيص ليس كذلك. الرابع: أن الناسخ يكون متراخيا، والمخصص لا يجب أن يكون متراخيا سواء وجبت المقارنة أو لم تجب على اختلاف القولين. الخامس: أن التخصيص قد يقع بخبر الواحد، والقياس والنسخ لا يقع بهما، ¬

(¬1) إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 1، ص 337.

أقوال العلماء في القاعدة

وأما الفرق بين التخصيص والاستثناء فهو فرق ما بين العام والخاص (¬1). وقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة حيث نجده عند تفسيره لبعض الآيات يختار أن الآية غير منسوخة لكونها مخصصة، ومن قوله: " وعلى القول المختار: فهذه الآية غير منسوخة، ولكنّها مخصّصة ومبيَّنة بآيات أخرى وبما يبيّنه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يُتعلّق بإطلاقها، وقد كان المتقدّمون يسمّون التّخصيص نسخاً " (¬2). أقوال العلماء في القاعدة: قال القرطبي: " التخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به، لأن المخصص لم يتناوله العموم قط، ولو ثبت تناول العموم لشيء ما ثم أخرج ذلك الشئ عن العموم لكان نسخا لا تخصيصا، والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخا توسعا ومجازا " (¬3). وذكر ابن القيم: " إن الزيادة في الأوصاف إن لم تغير حكما شرعيا، فإنها لا تعد نسخا بل تكون تقييدا أو تخصيصا " (¬4). أمثلة تطبيقية على القاعدة: 1 - مثال المطلقات: قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ ¬

(¬1) إرشاد الفحول / الشوكاني، ج 1، ص 410. (¬2) التحرير والتنوير، ج 5، ص 122. (¬3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 71. (¬4) إعلام الموقعين عن رب العالمين / ابن القيم , ج 2 , ص 473.

لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1). اختلف المفسرون في هذه الآية , فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة بقوله تعالى {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬2)، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬3). وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة، والآية الثانية مخصصة لها لا ناسخة. وهذا ما ذهب إليه ابن عاشور بناءً على القاعدة أن تخصيص العام لا يعد نسخاً، وفي ذلك يقول: " فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء، وهي مخصصة بالحرائر دون الإماء، فأخرجت الإماء بما ثبت في السنة " أن عدة الأمة حيضتان "، رواه أبو داود والترمذي، فهي شاملة لجنس المطلقات ذوات القروء، ولا علاقة لها بغيرهن من المطلقات، مثل المطلقات اللاتي لسن من ذوات القروء، وهن النساء اللاتي لم يبلغن سن المحيض، والآيسات من المحيض، والحوامل، وقد بين حكمهن ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (228). (¬2) سورة الطلاق، الآية (4). (¬3) سورة الأحزاب، الآية (49).

في سورة الطلاق، إلاّ أنها يخرج عن دلالتها المطلقات قبل البناء من ذوات القروء، فهن مخصوصات من هذا العموم بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فهي في ذلك عام مخصوص بمخصص منفصل (¬1). ولقد سبق ابن عاشور في القول بأن الآية محكمة الطبري وابن عطية والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، ولألوسي والقاسمي، والشنقيطي أي جميع من اعتمدتهم في هذا البحث (¬2). حجة القائلين: إن الآية منسوخة: قالوا: إن الآية تقرر بما فيها من عموم أن كل مطلقة عدتها ثلاثة أقراء، على الاختلاف في المراد بالقرء. وآية سورة الطلاق تقرر أن عدة اليائسة من المحيض وعدة الصغيرة التي لم تحض، إذا طلقتا ثلاثة أشهر كما تقرر أن عدة الحامل مطلقة أومتوفى عنها هي ¬

(¬1) التحرير والتنوير , ج 2 , ص 389. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 534، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 304، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 433، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 3، ص 116، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 196، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 334، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 234، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 525، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 175، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 64.

وضع حملها. أما آية الأحزاب فتقرر أن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها. وكل ذلك مخالف لما في الآية من اعتداد المطلقات بثلاثة قروء، متعارض معها في هذا الحكم، فهو ناسخ لها إذن (¬1). قال ابن الجوزي: " ذهب جماعة من القدماء إلى أن هذه الآية منسوخة فقالوا: إن قوله: : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} كان يجب على كل مطلقة أن تعتد ثلاثة قروء فنسخ من ذلك حكم الحامل بقوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ونسخ حكم الآيسة والصغيرة من ذلك بقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} ونسخ حكم المطلقة قبل الدخول بقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة ولكن ابن عباس استثنى " (¬2). ورواية ابن عباس - رضي الله عنه - أخرجها النسائي في الكبرى قال: " في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬3) وقال ¬

(¬1) انظر النسخ في القرآن الكريم / د مصطفى زيد، ج 2، ص 117. (¬2) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 86. (¬3) سورة البقرة، الآية (106).

تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} (¬1) وقال تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬2) فأول ما نسخ من القرآن القبلة وقال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وقال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} فنسخ من ذلك " قال تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬3) (¬4). وقال قتادة: " قوله جل وعز: : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} جعل عدة المطلقة ثلاث حيض، ثم إنه نسخ منها عدة المطلقة التي طلقت ولم يدخل بها زوجها , قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فهذه ليس عليها عدة إن شاءت تزوجت من يومها، وقد نسخ من الثلاثة قروء اثنان , ¬

(¬1) سورة النحل، الآية (101). (¬2) سورة الرعد، الآية (39). (¬3) سورة الأحزاب، الآية (49). (¬4) أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب الطلاق، باب ما استثنى من عدة المطلقات، ج 3، ص 386، ح- 5704.

{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} فهذه العجوز قد قعدت من الحيض {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فهذه البكر التي لم تبلغ الحيض فعدتها ثلاثة أشهر وليس الحيض من أمرهما في شيء. ثم نسخ من الثلاثة قروء الحامل فقال: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فهذه أيضا ليست من القروء في شيء إنما أجلها أن تضع حملها " (¬1). حجة القائلين: إن الآية محكمة: قال ابن عطية: " و (المطلقات) لفظ عموم يراد به الخصوص في المدخول بهن، ولم تدخل في العموم المطلقة قبل البناء ولا الحامل ولا التي لم تحض ولا القاعد " (¬2). وقال الشوكاني: " قوله: : {وَالْمُطَلَّقَاتُ} يدخل تحت عمومه المطلقة قبل الدخول، ثم خصص بقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} (¬3) فوجب بناء العام على الخاص، وخرجت من هذا العموم المطلَّقة قبل الدخول، وكذلك خرجت الحامل بقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ¬

(¬1) انظر الناسخ والمنسوخ / قتادة، ج 1، ص 35. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 304. (¬3) سورة الأحزاب، الآية (49).

وكذلك خرجت الآيسة بقوله تعالى: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} " (¬1). كما أكّد الشنقيطي هذا المعنى بقوله: " ظاهر هذه الآية شمولها لجميع المطلقات، ولكنه بين في آيات أخر خروج بعض المطلقات من هذا العموم، كالحوامل المنصوص على أن عدتهن وضع الحمل، في قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وكالمطلقات قبل الدخول المنصوص على أنهن لا عدة عليهن أصلاً، بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} أما اللواتي لا يحضن، لكبر أو صغر، فقد بين أن عدتهن ثلاثة أشهر في قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} " (¬2). القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة , كما قرّر ذلك ابن عاشور بناءً على القاعدة حيث يقول: "والحق أن دعوى كون المخصص المنفصل ناسخاً، أصلٌ غيرُ جدير بالتأصيل؛ لأن تخصيص العام هو وروده مُخْرَجاً منه بعض الأفراد بدليل، فإن مجيء العمومات بعد الخصوصات كثير، ولا يمكن فيه القول بنسخ ¬

(¬1) فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 234. (¬2) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 64.

العام للخاص لظهور بطلانه ولا بنسخ الخاص للعام لظهور سبقه، والناسخ لا يسبق , وبعد فمهما لم يقع عمل بالعموم فالتخصيص ليس بنسخ " (¬1). قال ابن الجوزي: " واعلم أن القول الصحيح المعتمد عليه: أن هذه الآية كلها محكمة لأن أولها عام في المطلقات , وما ورد في الحامل والآيسة والصغيرة فهو مخصوص من جملة العموم وليس على سبيل النسخ " (¬2). وأما ما روي عن ابن عباس وقتادة ففيها: ثم استثنى، فنسخ منهن، وهذا تخصيص لا نسخ: خصصّ الله عموم المطلقات، بمقتضى الآيات التي زعموها ناسخة، وبمقتضى الحديث المروي في عدة الأمة، فأصبحن مقصورات على ذوات الأقراء، المدخول بهن، الحرائر غير الحوامل، وتولت تلك الآيات وذلك الحديث عدة الآيسات، والصغيرات، والإماء والحوامل، وقررت أن المطلقة غير المدخول بها لاعدة عليها (¬3). 2 - مثال التقوى: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬4). اختلف المفسرون في هذه الآية , فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة بقوله ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 2، ص 389. (¬2) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 86. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 534، ونواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 86. (¬4) سورة آل عمران، الآية (102).

تعالى من سورة التغابن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1) , ومنهم من قال بأنها محكمة , وآية التغابن مبينة ومخصصة. وقد ذكر هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره وبيّن بأنه لا تعارض بين الآيتين , فقال: " وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية. والتَّقوى تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (¬2) , وحاصلها امتثال الأمر، واجتناب المنهي عنه، في الأعمال الظَّاهرة، والنَّوايا الباطنة. وحقّ التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} لأنّ الاستطاعة هي القدرة، والتَّقوى مقدورة للنَّاس. وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ، وقيل: هاته منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} لأنّ هاته دلّت على تقوى كاملة كما فسَّرها ابن مسعود: أن يطاع فلا يعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويذكر فلا يُنْسى، ورووا أنّ هذه الآية لمَّا نزلت قالوا: «يا رسول الله من يَقوىَ لهذا» فنزلت قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فنسَخَ هذه بناء على أنّ الأمر في الآيتين للوجوب، وعلى اختلاف المراد من التقويين " (¬3). ورجّح ابن عاشور كما تقدم أن الآية محكمة، وأن آية التغابن مبينة ¬

(¬1) سورة التغابن، الآية (16). (¬2) سورة البقرة، الآية (2). (¬3) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 3، ص 30.

ومخصصة لها وذلك بناءً على القاعدة، وهذا قوله: " والحقّ أنّ هذا بيان لا نسخ، كما حقَّقه المحقِّقون، ولكن شاع عند المتقدّمين إطلاق النَّسخ على ما يشمل البيان " (¬1). وممن سبق ابن عاشور إلى هذا الترجيح الطبري في تفسيره، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وكذلك أبو حيان والألوسي ومستندهم في ترجيحهم هذا على العقل، وكذلك القاسمي، وحجته في ذلك: أن لكل آية معناها فلا تعارض بين الآيتين، وذكر ابن كثير، والشوكاني الأقوال في ذلك ولم يرجحوا، وكذلك الشنقيطي بعد ابن عاشور ذكر الأقوال ولم يرجح (¬2). حجة القائلين بأن الآية منسوخة: قالوا: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. استدلوا بما رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} قال نسخت قوله: اتقوا الله حق تقاته (¬3). وخلاصة ما قالوه هم وغيرهم في توجيهها: إن قوله عز وجل {حَقَّ ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 3، ص 30. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 4، ص 40، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 483، والتفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 310، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 4، ص 166، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 20، وتفسير القرآن العظيم ابن كثير، ج 3، ص 131، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 368، وروح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 234، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 418، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 118. . (¬3) أخرجه الصنعاني في تفسيره، ج 3، ص 314.

تُقَاتِهِ} يُراد به القيام بجميع ما استحقه من طاعة، واجتناب معصيته. وقالوا: هذا أمر تعجز عنه الخلائق فكيف بالواحد منهم؟ فوجب أن تكون منسوخة، وأن يعلق الأمر بها بالاستطاعة " (¬1). كما استدل أصحاب هذا القول بما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في تفسير هذه الآية بأنه: " أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر " (¬2). حجة القائلين بأن الآية محكمة: استدلوا برواية أخرى لابن عباس - رضي الله عنه - بطريق علي بن أبي طلحة أنه قال: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إنها لم تنسخ، ولكن حقّ تقاته أن تجاهد في الله حق جهاده، ثم ذكر تأويله الذي ذكرناه سابقاً " (¬3). قال ابن عطية: " وهذه الآيات متفقات، فمعنى هذه: اتقوا الله حقَّ تقاته فيما استطعتم، وذلك أن {حَقَّ تُقَاتِهِ} هو بحسب أوامره ونواهيه، وقد جعل تعالى الدين يسراً، وهذا هو القول الصحيح، وألا يعصي ابن آدم جملة لا في صغيرة ولا في كبيرة، وألا يفتر في العبادة أمر متعذر في جبلة البشر، ولو كلف ¬

(¬1) انظر النسخ في القرآن الكريم / مصطفى زيد، ج 2، ص 127. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، ج 7، ص 106. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح، والآخر ضعيف. مجمع الزوائد / الهيثمي، ج 6، ص 326. (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره، ج 4، ص 29.

الله هذا لكان تكليف ما لا يطاق، ولم يلتزم ذلك أحد في تأويل هذه الآية " (¬1). قال القرطبي: " وهذا أصوب - أي الإحكام - لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع والجمع ممكن فهو أولى " (¬2). كما استظهر أبو حيان هذا القول فقال: " إنّ قوله: حقّ تقاته من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، كما تقول: ضربت زيداً شديد الضرب، أي الضرب الشديد , فكذلك هذا أي اتقوا الله الاتقاء الحق، أي الواجب الثابت. أما إذا جعلت التقاة جمعاً فإنَّ التركيب يصير مثل: اضرب زيداً حق ضرابه، فلا يدل هذا التركيب على معنى: اضرب زيداً كما يحق أن يكون ضرابه , بل لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى، والتقدير: اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يحق أن يكون ضرب ضرابه. ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقادير يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ " (¬3). ويقول ابن الجوزي في معنى هذه الآية أيضاً: " والاختلاف في نسخها وإحكامها، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها، فالمعتقد نسخها يرى أن «حق تقاته» الوقوف على جميع ما يجب له ويستحقه، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به، فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أن «حق تقاته» أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته، فكان قوله تعالى: «ما استطعتم» مفسراً ل «حق تقاته» ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 483. (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 4، ص 166. (¬3) البحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 20.

لا ناسخاً ولا مخصصاً " (¬1). القول الراجح: إن الآية محكمة غير منسوخة , كما قررّ ذلك ابن عاشور في تفسيره بناءً على القاعدة، ومما يعضد هذا الترجيح قاعدة أخرى هي: (إن لكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها، فلا تعارض بين الآيات). وفي ذلك يقول القاسمي بعد أن أبطل القول بأن الآية منسوخة قال: "وهذا الزعم لم يصب المحز، فإن كلا الآيتين سيق في معنى خاص به، فلا يتصور أن يكون في هذه الجملة طلب مالا يستطاع من التقوى، بل المراد منها دوام الإنابة له تعالى وخشيته وعرفان جلاله وعظمته قلباً وقالباً، وهذا من المستطاع لكل منيب " (¬2). كما ردّ عدد من العلماء هذا النسخ , ومنهم أبو جعفر النحاس حيث يقول: " معنى قول الأولين: نسخت آية التغابن هذه الآية أي نزلت بنسختها وهما واحد. وإلا فهذا لا يجوز أن ينسخ؛ لأن الناسخ هو المخالف للمنسوخ من جميع جهاته، الرافع له، المزيل حكمه " (¬3). وذكر الرازي أيضا قول المحققين في ردّ القول بالنسخ وإبطاله، وساق حجتهم من وجوه فقال: " الأول: ما روي عن معاذ أنه - رضي الله عنه - قال له: «هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم، قال: هو أن يعبدوه ولا ¬

(¬1) زاد المسير / ابن الجوزي، ج 1، ص 311. (¬2) محاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 418. (¬3) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ص 192.

يشركوا به شيئاً» وهذا لا يجوز أن ينسخ. الثاني: إن معنى قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} أي كما يحق أن يتقى، وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأنه إباحة لبعض المعاصي، وإذا كان كذلك صار معنى هذا ومعنى قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} واحداً لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله {حَقَّ تُقَاتِهِ} ما لا يستطاع من التقوى، لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة ونظير هذه الآية قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (¬1). فإن قيل: أليس أنه تعالى قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (¬2) , قلنا: سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع , وكلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين , أما الذين قالوا: إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات، وكذلك قوله: أن يشكر فلا يكفر، لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم الله بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله: أن يذكر فلا ينسى، فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق، فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ " (¬3). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية (78). (¬2) سورة الأنعام، الآية (91). (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 310.

3 - مثال قتل العمد: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (¬1). اختلف المفسرون في هذه الآية، فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (¬2).، وجمهور المفسرين على أنها محكمة، وقد ساق هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره، وأشار إلى سببه فقال: " هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسّرين كما علمت، وملاكه أنّ ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحدّ المألوف من الإغلاظ، فرأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره، دون تأويل، لشدّة تأكيده تأكيداً يمنع من حمل الخلود على المجاز، فيُثبت للقاتل الخلودَ حقيقة، بخلاف بقية آي الوعيد، وكأنّ هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (¬3) إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} (¬4) لأنّ قوله: ومن يفعل ذلك إمّا أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمداً أجدر، وإمّا أن يراد فاعل ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (93). (¬2) سورة النساء، الآية (116). (¬3) سورة الفرقان، الآية (68). (¬4) سورة الفرقان، الآية (70).

واحدة منها فالقتل عمداً مما عُدَّ معها. ولذا قال ابن عباس - رضي الله عنه - لسعيد بن جبير: إنّ آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء. ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا، ثم أن يُطال وتتناقله الناس وتمرّ عليه القرون، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة. وذهب فريق إلى الجواب بأنّها نُسخت بآية: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، بناء على أنّ عموم (من يشاء) نَسَخ خصوصَ القتل. وذهب فريق إلى الجواب بأنّ الآية نزلت في مِقْيَس بن صُبابة (¬1)، وهو كافر فالخلود لأجل الكفر " (¬2). وممن ذهب إلى أن هذه الآية محكمة غير منسوخة بناء على أنها من قبيل العام: الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني والقاسمي، والشنقيطي , وكذلك الألوسي رجّح أن الآية محكمة بناء على أنها خبر والخبر لا يجوز نسخه (¬3). ¬

(¬1) هو مقيس بن صبابة بن حزن بن يسار الكناني القرشى: شاعر، اشتهر في الجاهلية , عداده في أخواله بني سهم، كانت إقامته بمكة. وهو ممن حرم على نفسه الخمر في الجاهلية، وله في ذلك أبيات منها: (فلا والله أشربها حياتي طوال الدهر ما طلع النجوم) وشهد بدرا مع المشركين، ونحر على مائها تسع ذبائح. أسلم ثم ارتد ولحق بقريش، وقال شعرا في ذلك، فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه، فقتله نميلة بن عبد الله الليثي يوم فتح مكة. (الأعلام / الزركلي، ج 7، ص 283). (¬2) التحرير والتنوير، ج 3، ص 165. (¬3) انظر جامع البيان/ الطبري، ج 5، ص 260، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 95، والتفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 184، والجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 5، ص 333، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 338، وتفسير القرآن العظيم ابن كثير، ج 4، ص 192، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 499، وروح المعاني / الألوسي، ج 3، ص 112، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 274، ودفع إيهام الاضطراب / الشنقيطي، ص 68.

حجة القائلين بأن الآية منسوخة: قال ابن حزم: "نسخت بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وبالآية التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (¬1): {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} " (¬2). حجة القائلين بأن الآية محكمة: استدلوا بما روي عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة - أي هذه الآية-، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شئ (¬3). كما أن حجتهم في ذلك: أن الآية موضع عموم وخصوص، لا موضع نسخ، كما ذكر ذلك ابن عطية (¬4) .. ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية (68). (¬2) الناسخ والمنسوخ / ابن حزم، ج 1، ص 35. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب (فمالكم في المنافقين فئتين .. )، ج 4، ص 1676، ح- 4314. (¬4) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 96.

قال القرطبي: " وهذا مذهب أهل السنة وهو الصحيح، وإن هذه الآية مخصوصة، ودليل التخصيص آيات وأخبار، وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن صبابة، وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن صبابة، فوجد هشاما قتيلا في بني النجار فأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه وأرسل معه رجلا من بني فهر، فقال بنو النجار: والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي الدية، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا، وجعل ينشد: قتلت به فهرا وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع حللت به وتري وأدركت ثورتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا أؤمنه في حل ولا حرم) , وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة. وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير وعلماء الدين فلا ينبغي أن يحمل على المسلمين، ثم ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (¬1) {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} والأخذ بالظاهرين تناقض فلابد من التخصيص " (¬2). ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية (25). (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 333.

القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة كما قرر ذلك ابن عاشور وعدد من العلماء , وهي من العام الذي خصص. وقال الطبري مرجحاً أن الآية محكمة: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا، فجزاؤه إن جازاه جهنم خالدًا فيها، ولكنه يعفو ويتفضَّل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إيّاها ثم يخرجه منها بفضل رحمته، لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1). فإن ظن ظان أن القاتل إن وجب أن يكون داخلا في هذه الآية، فقد يجب أن يكون المشرك داخلا فيه، لأن الشرك من الذنوب، فإن الله عز ذكرُه قد أخبر أنه غير غافر الشرك لأحد بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} والقتل دون الشرك " (¬2). وأما قول من قال أنها مخصصة في الكفار فقد ردّه ابن عاشور فقال: " وهو جواب مبني على غلط لأنّ لفظ الآية عامّ إذ هو بصيغة الشرط فتعيّن أنّ ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية (53). (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 260.

«من» شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معيّن؛ إلاّ عند من يرى أنّ سبب العامّ يخصّصه بسببه لا غيرُ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه. وهذه كلّها ملاجئ لا حاجة إليها، لأنّ آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها حتّى الكفر. على أنّ تأكيد الوعيد في الآية إنّما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيداً لا في تعيين المتوعّد به وهو الخلود , إذ المؤكّدات هنا مختلفة المعاني فلا يصحّ أن يعتبر أحدها مؤكّداً لمدلول الآخر بل إنّما أكَّدت الغرض. وهو الوعيد، لا أنواعه. وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة , وهو الذي يتعيّن اللجوء إليه، والتعويل عليه" (¬1). كما ذكر الرازي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأضاف وجوهاً تمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر، وهذا قوله: " وبيانه من وجوه: الأول: أنه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون إليه عند اشتغالهم بالجهاد، فابتدأ بقوله: ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات: كفارة قتل المسلم في دار الإسلام، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد، ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقرونا بالوعيد، فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بيانا لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم القتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ، وجب أن يكون أيضا مختصا بالمؤمنين، فإن لم يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه. الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 165.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (¬1) وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوما فأسلموا فقتلوهم وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف، وعلى هذا التقدير: فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الإيمان؛ وهذا أيضا يقتضي أن يكون قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} نازلا في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب، فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار " (¬2). وقال الشنقيطي: " الذي يظهر أن القاتل عمْداً مؤمن عاص له توبة، كما عليه جمهور علماء الأمة، وهو صريح قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ}، وادعاء تخصيصها بالكفار لا دليل عليه، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (¬3) " (¬4). ومما يقوي هذا الترجيح أيضاً قاعدة (إذا ثبت الحديث وكان في في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له) , وقد توافرت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: " يخرج من ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (94). (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 183. (¬3) سورة الزمر، الآية (53). (¬4) انظر دفع إيهام الاضطراب / الشنقيطي، ص 68.

النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان" (¬1)، وصرح تعالى بأن القاتل أخو المقتول في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (¬2) وقد قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (¬3) فسماهم مؤمنين مع أن بعضهم يقتل بعضا، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس (¬4)؛ لأن هذه الأمة أولى بالتخفيف من بني إسرائيل , لأن الله رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم" (¬5). كما يعضد هذه الترجيح قاعدة (النسخ لا يقع في الأخبار) والآية من قبيل الخبر، والأخبار لا تحتمل النسخ , وقد رجّح بها بعض العلماء، منهم النحاس حيث قال: " وهذا لا يقع فيه ناسخ ولا منسوخ لأنه خبر " (¬6) كما ذكر ذلك ابن الجوزي في تفسيره (¬7). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق , باب صفة الجنة والنار، ج 5، ص 2399، ح- 6190. (¬2) سورة البقرة، الآية (178). (¬3) سورة الحجرات، الآية (9). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، ج 4، ص 2118، ح- 2766. (¬5) انظر دفع إيهام الاضطراب / الشنقيطي، ص 68. (¬6) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 70. (¬7) انظر زاد المسير/ ابن الجوزي، ج 1، ص 451.

4 - مثال حق الثمر يوم حصاده: قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬1). اختلف أهل العلم في المراد بهذا الحق المذكور هنا , وهل هو محكم أو منسوخ أو محمول على الندب؟ فذهب ابن عمر، وعطاء، ومجاهد وسعيد بن جبير، إلى أن الآية محكمة، وأنه يجب على المالك يوم الحصاد أن يعطي من حضر من المساكين القبضة ونحوها. وذهب ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، والحسن، والنخعي، وطاووس، وأبو الشعثاء، وقتادة، والضحاك وابن جريج، أن هذه الآية منسوخة بالزكاة ,وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف. وقالت طائفة من العلماء: إن الآية محمولة على الندب لا على الوجوب (¬2). وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره، ورجّح بأن الآية محكمة بناء ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (141). (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 8، ص 72، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 353، وروح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 281، وفتح القدير/ الشوكاني، ج 2، ص 169، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 519، وأضواء البيان/ الشنقيطي، ص 255.

عل القاعدة وأنها مخصصة ومبينة بآيات أخرى ومن قوله: "وعلى القول المختار: فهذه الآية غير منسوخة، ولكنّها مخصّصة ومبيَّنة بآيات أخرى وبما يبيّنه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يُتعلّق بإطلاقها، وعن السدّي أنَّها نسخت بآية الزّكاة يعني: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} (¬1) وقد كان المتقدّمون يسمّون التّخصيص نسخاً " (¬2). وممن وافق ابن عاشور على أن هذه الآية عامة وما جاء بعدها مخصص لها لا ناسخ لها: ابن عطية، والرازي والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشنقيطي، فيرون أنه لا تعارض بين الآيتين، وإنما تنبني هذه على الندب وتلك على الفرض (¬3). وساق الشوكاني الخلاف في الآية ولم يرجح (¬4). أما الطبري فيرى أن الآية منسوخة بآية الزكاة (¬5). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية (103). (¬2) التحرير والتنوير، ج 5، ص 122. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 353، والتفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 164، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 4، ص 238، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 240، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 169، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 519، وروح المعاني/ الألوسي، ج 4، ص 280، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 256. (¬4) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 169. (¬5) انظر جامع البيان / الطبري، ج 8، ص 72.

حجة القائلين بأن الآية محكمة: قالوا: هذا الحق باق لم ينسخ بالزكاة , فيوجبون إطعام من يحضر الحصاد لهذه الآية. ومما يؤيده أنه تعالى ذم الذين يصرمون ولا يتصدقون، حيث قصّ علينا سوء فعلهم وانتقامه منهم، قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (¬1) (¬2). قال ابن الحنفية أيضاً وعطاء ومجاهد وعيرهم من أهل العلم: بل قوله {وَآتُوا حَقَّهُ} ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير الزكاة، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد وعند الذر , وعند تكديسه في البيدر، فإذا صفا وكال أخرج من ذلك الزكاة " (¬3). ولابن العربي رأي جيد حيث يرى أن المقصود بالآية الزكاة الواجبة فيقول: " هذه آية محكمة لم تنسخ، محكمة لم تشكل وذلك أن قوله تعالى: ¬

(¬1) سورة القلم , الآية (17). (¬2) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 519، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 102. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 353.

{وَآتُوا} مبين في الإعطاء. وقوله: {حَقَّهُ} مفسر في المعطى نص فيه مجمل في مقداره حتى بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنص أو سانية نصف العشر " ويقول - صلى الله عليه وسلم -: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " فاقتضت الآية وجوب الحق فيما أنعم الله به من بركات الأرض، وبين النبي عليه السلام مقدار ذلك الحق كما بين كيفية الصلاة والصيام " وأعداد" الكل، فإذ قد بين النبي عليه السلام ذلك الحق وعيّنه فلا وجه لذكر حق سواه وقد قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} (¬1) ثم قال في موضع آخر {أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (¬2) ذلك قد علَّمناه المبين المبلغ المعلم الثابت صلوات الله عليه وسلامه، فلا يصح مع هذا أن يقال إن آية الزكاة نسختها وهي الزكاة بعينها ولا معارضة بينهما فإنه قد قال تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬3) وهي في أجناس من الأموال، وبيّن في هذه الآية بعض أجناس الأموال الزكاتية، فاتفقتا واطردتا وانتظمتا ولم تتعارضا، وكما لا يصح أن يقال إنه نسخها إيجاب العشر لأن ذلك بيان للمقدار، فكيف يكون بيان مقدار الشيء نسخاً له وهذا بين لمن تأمله والله أعلم " (¬4). ¬

(¬1) سورة الذاريات، الآية (19). (¬2) سورة المعارج، الآية (24). (¬3) سورة البقرة، الآية (43). (¬4) الناسخ والمنسوخ / ابن العربي، ص 127.

حجة القائلين بأن الآية منسوخة: حجتهم في ذلك أن الآية مكية، وآية الزكاة مدنية في السنة الثانية بعد الهجرة (¬1). قال الطبري: " وقال آخرون: كان هذا شيئا أمر الله به المؤمنين قبل أن تفرض عليهم الصدقة المؤقتة , ثم نسخته الصدقة المعلومة فلا فرض في مال كائنا ما كان زرعا كان أو غرسا إلا الصدقة التي فرضها الله فيه. ثم ذكر من قال ذلك فيما يرويه بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: " نسخها العشر , ونصف العشر ". إلى أن يقول الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: كان ذلك فرضًا فرضه الله على المؤمنين في طعامِهم وثمارهم التي تُخْرجها زروعهم وغرُوسهم، ثم نسخه الله بالصدقة المفروضة، والوظيفة المعلومةِ من العشر ونصف العشر. وذلك أن الجميع مجمعون لا خلاف بينهم: أنّ صدقة الحرث لا تؤخذ إلا بعد الدِّياس والتنقية والتذرية، وأن صدقة التمر لا تؤخذ إلا بعد الجفاف " (¬2). القول الراجح: إن الآية محكمة لا منسوخة كما قرر ذلك ابن عاشور، وممن ذهب إلى ذلك فيمن جاء بعد ابن عاشور الشنقيطي في أضواء البيان حيث يقول: " ومراده أن ¬

(¬1) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 169. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 8، ص 72.

شرع الزكاة بيان لهذا الحق لا نسخ له " (¬1). وأما قول من قال أن الآية مكية، وآية الزكاة مدنية فإنه يقال: إن فرضها في مكة، وأما تقدير أنصبائها، وتقدير الأموال الزكوية، وتبيان أهلها فهذا في المدينة، وعليه فيكون ابتداء فرضها في مكة من باب تهيئة النفوس، وإعدادها لتتقبل هذا الأمر، حيث إن الإنسان يخرج من ماله الذي يحبه حباً جماً، يخرج منه في أمور لا تعود عليه ظاهراً بالنفع في الدنيا، فلما تهيأت النفوس لقبول ما يفرض عليها من ذلك، فرضه الله - تعالى - فرضاً مبيناً مفصلاً، وذلك في المدينة (¬2). 5 - مثال التولي: قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬3) اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال: فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة وهو قول عطاء بن أبي رباح قال نسخها: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا ¬

(¬1) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 256. (¬2) انظر الشرح الممتع على زاد المستقنع / محمد بن صالح العثيمين، ج 6، ص 5. (¬3) سورة الأنفال، الآية (16).

مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (¬1) أي فنسخ التخفيف عنهم والإطلاق لهم أن يولوا ممن هو أكثر من هذا العدد , بقوله تعالى في السورة نفسها. والقول الثاني: إنها مخصوصة , وهو قول الحسن حيث قال: ليس الفرار من الزحف من الكبائر إنما كان في أهل بدر خاصة هذه الآية ومن يولهم يومئذ دبره، ومنهم من ذهب إلى أنها محكمة وحكمها باق إلى يوم القيامة، وأنها عامة والآية الثانية مخصصة لها، وهو قول ابن عباس (¬2). والقول الثالث: هو الذي رجحه ابن عاشور في تفسيره مستندا في ذلك إلى القاعدة الترجيحية التي نحن بصدد الحديث عنها، وفي ذلك يقول: " وحكم هذه الآية باق غير منسوخ عند جمهور أهل العلم، وروي هذا عن ابن عباس، وبه قال مالك، والشافعي، وجمهور أهل العلم، لكنهم جعلوا عموم هذه الآية مخصوصاً بآية: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} " (¬3). وممن سبق ابن عاشور إلى هذا الترجيح بناءً على القاعدة ابن عطية، والرازي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي. ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية (65). (¬2) انظر الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 460. (¬3) التحرير والتنوير، ج 5، ص 288.

ورجّح الطبري ومثله القرطبي هذا القول بناءً على أنه لا يوجد دليل على النسخ (¬1). حجة القائلين بأن الآية منسوخة: زعموا أنها منسوخة بقوله تعالى في السورة نفسها: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} إلى تمام الآيتين (¬2) أي فنسخ التخفيف عنهم والإطلاق لهم أن يولوا ممن هو أكثر من هذا العدد (¬3). حجة القائلين بأن الآية خاصة في أهل بدر: استدلوا بما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: نزلت في يوم بدر {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} (¬4). وبين الرازي في تفسيره وجه قولهم أنها مختصة بيوم بدر وذلك من عدة ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 240، المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 510، والتفسير الكبير الرازي، ج 5، ص 465، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 364، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 470، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 39، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 294، وروح المعاني / الألوسي، ج 5، ص 170، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 5، ص 275، (¬2) سورة الأنفال، الآية (64 - 65). (¬3) الناسخ والمنسوخ / النحاس، ج 1، ص 460. (¬4) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب التولي يوم الزحف، ج 3، ص 46، ح- 2648.

أمور: أحدها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حاضراً يوم بدر ومع حضوره لا يعد غيره فيه، أما لأجل أنه لا يساوي به سائر الفئات , بل هو أشرف وأعلى من الكل، وأما لأجل أن الله تعالى وعده بالنصر والظفر فلم يكن لهم التحيز إلى فئة أخرى. وثانيها: إنه تعالى شدد الأمر على أهل بدر، لأنه كان أول الجهاد ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه، لزم منه الخلل العظيم، فلهذا وجب عليهم التشدد والمبالغة، ولهذا السبب منع الله في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى (¬1). وذكر القرطبي أن أصحاب هذا القول احتجوا بقوله تعالى {يَوْمَئِذٍ} فقالوا: هو إشارة إلى يوم بدر (¬2). حجة القائلين بأن الآية محكمة وأنها من قبيل العموم: قالوا: إن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاماً في جميع الحروب، بدليل أن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (¬3) عام فيتناول جميع السور، أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (¬4). ¬

(¬1) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 465. (¬2) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 4، ص 364. (¬3) سورة الأنفال , الآية (15). (¬4) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 465.

قال ابن كثير: " وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر، وإن كان سبب النزول فيهم، كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم، من أن الفرار من الزحف من الموبقات، كما هو مذهب الجماهير والله أعلم " (¬1) قال ابن عاشور: " (والوجه في الاستدلال أن هذه الآية اشتملت على صيغ عموم في قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} إلى قوله {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وهي من جانب آخر مطلقة في حالة اللقاء من قوله: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} (¬2) فتكون آيات {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ... } (¬3) مخصصة لعموم هاته الآية بمقدار العدد ومقيدة لإطلاقها اللقاء بقيد حالة ذلك العدد" (¬4). ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 39. (¬2) سورة الأنفال، الآية (15). (¬3) سورة الأنفال، الآية (65 - 66). (¬4) التحرير والتنوير، ج 5، ص 288.

القول الراجح: إن الآية محكمة وليست منسوخة , والعموم الذي يفيده قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قد خصص بما في الآيتين، فلم يعد كل من يولي الكفار دبره في القتال مستحقاً للوعيد الذي في الآية، وإنما قصر هذا الوعيد على من فرّ أمام عدو لا يزيد على مثليه (¬1). ومما يعضد هذا الترجيح قاعدة (الأصل عدم النسخ مالم يقم دليل صحيح صريح على خلاف ذلك)، وقد رجّح بها الطبري فقال: " وإنما قلنا هي محكمة غير منسوخة، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ، وله في غير النسخ وجه، إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر يقطع العذر، أو حجة عقل، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} " (¬2). كما يعضد هذا القول ويقويه القاعدة الترجيحية (النسخ لا يقع في الأخبار) وقد ذكر ابن العربي أن النسخ هنا لا يجوز لأنه وعيد، والوعيد لا ينسخ لأنه خبر (¬3). ¬

(¬1) النسخ في القرآن الكريم / مصطفى زيد، ج 2، ص 123 (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 240. (¬3) انظر الناسخ والمنسوخ / ابن العربي، ص 132.

وردّ أبو حيان على من استدل بقوله: {يَوْمَئِذٍ} بأنه خاص بيوم بدر فقال: " وهذا القول بأن الإشارة بقوله يومئذ لا يظهر إلى يوم بدر؛ لأنّ ذلك في سياق الشرط وهو مستقبل فإن كانت الآية نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فيوم بدر فرد من أفراد لقاء الكفار فيندرج فيه ولا يكون خاصاً به وإن كانت نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم في الاستقبال" (¬1). ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 469. ونظائر هذه الأمثلة كثيرة في تفسيره , منها: 1 - ... ما جاء في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (النور: 29)، وفيها قول ابن عاشور: " هذا تخصيص لعموم قوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} (النور: 27) بالبيوت المعدة للسكنى ". (التحرير والتنوير، ج 9، ص 201). 2 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة: 48) قال ابن عاشور: " اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة يوم القيامة للطائعين والتائبين لرفع الدرجات، لم يختلف في ذلك الأشاعرة والمعتزلة , فهذا اتفاق على تخصيص العموم ابتداءً " (التحرير والتنوير، ج 1، ص 487). 3 - ... ما جاء في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) وفيه قوله: "ومن قال: إن هذه الآية نسختها آيات القتال فقد وهم: لأن العفو باب آخر، وأما القتال فله أسبابه ولعله أراد من النسخ ما يشمل معنى البيان أو التخصيص في اصطلاح أصول الفقه " (التحرير والتنوير، ج 5، ص 227).

الفصل الرابع قواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورسم المصحف

الفصل الرابع قواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورسم المصحف وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: القراءات المتواترة حق كلها نصاً ومعنى لا يجوز ردها أو رد معناها. المبحث الثاني: الأصل توافق القراءات في المعنى. المبحث الثالث: اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن الكريم يكثر المعاني في الآية الواحدة. المبحث الرابع: تأتي القراءة في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية. المبحث الخامس: التفسير الموافق لرسم المصحف مقدم على غيره من التفاسير

المبحث الأول القراءات المتواترة حق كلها نصا ومعنى لا يجوز ردها أو رد معناها

المبحث الأول القراءات المتواترة حق كلها نصاً ومعنى لا يجوز ردها أو رد معناها صورة القاعدة: إذا ثبتت القراءة فلا يجوز ردها أو ردّ معناها، بل يجب قبولها وقبول معناها، وكل طاعن أو راد لها أو لمعناها الذي تؤدي إليه فقوله ردّ عليه (¬1). شرح مفردات القاعدة: القراءة لغة: مشتقة من مادة (قرأ) وهي مصدر للفعل قرأ، يقال: قرأ يقرأ قرآناً وقراءة، فكل منهما مصدر للفعل، وهو على وزن " فعالة"، وهذا اللفظ يستعمل للمعاني التالية: 1 - الجمع والضم: أي جمع وضم الشيء إلى بعضه، ومنه قولهم: (وما قرأتْ الناقة جنيناً) أي لم تضم رحمها على ولد. 2 - التلاوة: وهي النطق بالكلمات المكتوبة، ومنه قولهم: (قرأت الكتاب) أي تلوته، وسميت التلاوة قراءة؛ لأنها ضم لأصوات الحروف في الذهن لتكوين الكلمات التي ينطق بها (¬2). اصطلاحاً: لعلماء القراءات تعريفات متعددة للقراءات (¬3) أذكر منها تعريف ¬

(¬1) انظر قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 89. (¬2) انظر المعجم الوسيط، ص 722، مادة قرأ، ولسان العرب، ج 11، ص 78، مادة: قرأ. (¬3) انظر تعريف القراءات في: البرهان في علوم القرآن / الزركشي، ج 1، ص 318.، ولطائف الإشارات / القشيري، ج 1، ص 170، ومفتاح السعادة ومصباح السيادة / طاش كبرى زاده، ج 2، ص 6، وإتحاف فضلاء البشر / البنا الدمياطي، ص 147، ومناهل العرفان / الزرقاني، ج 1، ص 410.

ابن الجزري وهو: " علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة " (¬1). المتواترة: التواتر في اللغة: التتابع، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} (¬2) أي واحدا بعد واحد (¬3). اصطلاحاً: القراءة التي نقلها جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهى السند (¬4). وهذه القاعدة من القواعد التي اعتنى بها ابن عاشور في تفسيره حيث يقول: " اتفق علماء القراءات والفقهاء على أن كل قراءة وافقت وجها في العربية , ووافقت خط المصحف أي مصحف عثمان , وصح سند راويها؛ فهي قراءة صحيحة لا يجوز ردها " (¬5). ولابن عاشور موقف مختلف في القراءات المتواترة حيث يرى أن القراءة إذا كانت متواترة فإنها غنية عن بقية الشروط التي نص عليها العلماء , وتواترها ¬

(¬1) منجد المقرئين / ابن الجزري، ص 3. (¬2) سورة المؤمنون، الآية (44). (¬3) انظر لسان العرب، ج 15، ص 207، مادة: وتر. (¬4) انظر الإتقان / السيوطي، ج 1، ص 168، ومناهل العرفان / الزرقاني، ج 1، 349. (¬5) التحرير والتنوير، ج 1، ص 53.

أقوال العلماء في هذه القاعدة

كاف لقبولها. ومن قوله في ذلك: " وما ذكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم تُرو متواترة " (¬1). ومما يدل على استحضاره أيضاً لهذه القاعدة في تفسيره أنه بعد أن ذكر رد أبي بكر السراج (¬2) لقراءة (ملك) .. علّق بعد ذلك قائلاً: " وكلتاهما صحيحة ثابتة كما هو شأن القراءات المتواترة " (¬3). أقوال العلماء في هذه القاعدة: قال ابن الجزري: " كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، سواء أكانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة، أو ¬

(¬1) التحرير والتنوير , ج 15 , ص 161. (¬2) هو أبو بكر محمد بن السري بن سهل النحوي المعروف بابن السراج؛ كان أحد الأئمة المشاهير، المجمع على فضله ونبله وجلالة قدره في النحو والآداب، أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وغيره، وأخذ عنه جماعة من الأعيان منهم: أبو سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وغيرهما، ونقل عنه الجوهري في كتاب الصحاح في مواضع عديدة , وله التصانيف المشهورة في النحو: منها كتاب الأصول وهو من أجود الكتب المصنفة في هذا الشأن، وكتاب الاشتقاق , وكتاب شرح كتاب سيبويه, وكتاب احتجاج القراء ,وكتاب الشعر والشعراء, مات سنة ست عشرة وثلاث مئة. (وفيات الأعيان / ابن خلكان، ج 4، ص 339، سير أعلام النبلاء / الذهبي - (ج 14 / ص 484). (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 175.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

عن غيرهم من الأئمة المقبولين .. " (¬1). وقال الزرقاني: "لعلماء القراءات ضابط مشهور يزنون به الروايات الواردة في القراءات فيقول كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا ووافقت العربية ولو بوجه وصح إسنادها ولو كان عمن فوق العشرة من القراء فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن " (¬2). وهذا الضابط نظمه صاحب الطيبة فقال: وكل ما وافق وجه النحو ... وكان للرسم احتمالا يحوي وصح إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وحيثما يختل ركن أثبت ... شذوذه لو أنه في السبعة (¬3). الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - قراءة "الأرحام": قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬4). ¬

(¬1) النشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 1، ص 15. (¬2) مناهل العرفان / الزرقاني، ج 1، ص 340. (¬3) طيبة النشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ص 32. (¬4) سورة النساء، الآية (1).

اختلف القراء في قراءة الأرحام بين نصب الميم وكسرها (¬1)، وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره فقال: " {وَالْأَرْحَامَ} قرأه الجمهور بالنصب عطفاً على اسم الله , وقرأه حمزة بالجرّ عطفاً على الضمير المجرور، فعلى قراءة الجمهور يكون: "الأرحام " مأموراً بتقواها على المعنى المصدري أي اتّقائها، وهو على حذف مضاف، أي اتّقاء حقوقها، فهو من استعمال المشترك في معنييه، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ممّا أشار إليه قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وعلى قراءة حمزة يكون: تعظيماً لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضاً بها، وذلك قول العرب: «ناشدتك اللَّه والرحم» (¬2). كما روي في «الصحيح»: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصّلت حتّى بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (¬3) فأخذت عتبة رهبة وقال: ناشدتك اللَّه والرحم " (¬4). ومما يدل على استحضار ابن عاشور لهذه القاعدة في تفسيره أنه بعد أن أشار إلى تضعيف النحاة لقراءة الجر قال: " وهو ظاهر محمل هذه الرواية , وإن ¬

(¬1) وهاتان القراءتان متواترتان. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 226، والتيسير / الداني، ص 93، ومتن الشاطبية / الشاطبي، ص 88 , والنشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 2، ص 186، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 73. (¬2) التحرير والتنوير، ج 3، ص 217. (¬3) سورة فصلت، الآية (13). (¬4) التحرير والتنوير، ج 3، ص 217.

أباه جمهور النحاة استعظاماً لعطف الاسم على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ، حتّى قال المبرّد: «لو قرأ الإمام بهاته القراءة لأخذت نعلي وخرجت من الصلاة» وهذا من ضيق العطن وغرور بأنّ العربية منحصرة فيما يعلمه " (¬1). وممن استحضر هذه القاعدة من المفسرين وذهب إلى ما ذهب إليه ابن عاشور: الرازي والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والألوسي، والقاسمي، حيث ذكروا كلا القراءتين وأخذوا بها وبمعناها , وذلك بناء على أن كلا القراءتين متواترتان (¬2). في حين أن الشوكاني وقف موقفاً مختلفاً حيث أخذ بقراءة الجر مع أنه لا يرى أنها متواترة، وإنما احتج بها لورود مثلها في أشعار العرب، كما في قول بعضهم: وحسبك والضحاك سيف مهند ... وقول الآخر: وقد رام آفاق السماء فلم يجد ... له مصعداً فيها ولا الأرض مقعداً فسواها في موضع جرّ عطفاً على الضمير في فيها. ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} (¬3) (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 217 - 218. (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 479، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 9، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 167، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 3، ص 334، وروح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 396، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 8. (¬3) سورة الحجر، الآية (20). (¬4) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 418.

أما الطبري وابن عطية فقد رجّحا في تفسيريهما، قراءة النصب ولم يجيزا غيرها، وردّا قراءة الجر (¬1). حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون الأخذ بكلا القراءتين: حجتهم في ذلك أن كلا القراءتين متواترتان حيث ذكرهما مجاهد في السبعة، والداني في التيسير، والشاطبي في نظمه (¬2) والجزري في النشر، وبناء على أن كلا القراءتين متواترتان ذهب معظم المفسرين إلى الأخذ بهما وبمعناهما. وقد بيّن أبو علي الفارسي وجه كل قراءة فقال: " من نصب الأرحام احتمل انتصابه وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفاً على موضع الجار والمجرور. والآخر: أن يكون معطوفاً على قوله: {وَاتَّقُوا}، التقدير: اتقوا الله الذي تساءلون به. واتقوا الأرحام أي اتقوا حق الأرحام فصلوها ولا تقطعوها. وأما من جرّ الأرحام فإنه عطفه على الضمير المجرور بالباء " (¬3). حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين ردوا قراءة الجر: ردّ الطبري هذه القراءة معللاً ذلك بأن العرب لا تعطف بظاهر من الأسماء على مكني في حال الخفض، إلا في ضرورة شعر، وهذا قوله: " والقراءة التي لا نستجيز لقارئٍ أن يقرأ غيرها في ذلك، النصب: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 4، ص 283، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 5. (¬2) متن الشاطبية / الشاطبي , ص 88. (¬3) الحجة للقراء السبعة / الفارسي، ج 2، ص 62.

وَالأرْحَامَ)، بمعنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهرٍ من الأسماء على مكنيّ في حال الخفض، إلا في ضرورة شعر " (¬1). كما وصف مكي هذه القراءة بأنها قبيحة عند البصريين، قليلة في الاستعمال، بعيدة عن القياس، لأن المضمر في "به" عوض من التنوين، والمضمر المخفوض لا ينفصل عن الحرف، ولا يقع بعد حرف العطف، ولأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر، ويقبح في أحدهما ما يقبح في الآخر فكما لا يجوز: واتقوا الله الذي تسألون بالأرحام، فكذلك لا يحسن: تساءلون به والأرحامِ (¬2). وكذلك استبعد المهدوي (¬3) هذه القراءة (¬4). وعلق الزمخشري عليها بأنها غير سديدة (¬5)، كما ردّ ابن عطية هذه القراءة بقوله: " ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان (¬6): ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 4، ص 283. (¬2) انظر الكشف عن وجوه القراءات / مكي بن أبي طالب، ج 1، ص 376. (¬3) هو أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي نسبة إلى مدينة (المَهْديَّة) , التي أسسها أول الحكام الفاطميين، وهي مدينة بالمغرب، قال عنه الذهبي بأنه رأساً في القراءات والعربية، ولقد خلَّف المهدوي مؤلفات قيَّمة تدل على سعة علمه واطلاعه في فنون التفسير والقراءات منها كتاب التفصيل الجامع لعلوم التنزيل، توفي عام 440 هـ. (انظر معرفة القراء الكبار / الذهبي، ج 1، ص 399، وبغية الوعاة / السيوطي، ج 1، ص 351، وإنباه الرواة على أنباء النحاة، ج 1، ص 91) (¬4) انظر شرح الهداية في توجيه القراءات / المهدوي، ج 2، ص 244. (¬5) انظر الكشاف / الزمخشري، ج 2، ص 6. (¬6) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 5.

أحدهما: أن ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة. والوجه الثاني: أن في ذكرها على ذلك تقريراً للتساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» (¬1). وذكر الرازي في تفسيره الوجوه التي ذكرها العلماء والتي تقتضي فساد هذه القراءة فقال: " أولها: قول أبي علي الفارسي: المضمر المجرور بمنزلة الحرف، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر (¬2). وثانيها: قول علي بن عيسى: إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع , فلا يجوز أن يقال: اذهب وزيد، وذهبت وزيد بل يقولون: اذهب أنت وزيد، وذهبت أنا وزيد. قال تعالى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} (¬3) مع أن المضمر المرفوع قد ينفصل فإذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المجرور ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف، ج 2، ص 951، ح- 2533، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، ج 3، ص 1267، ح- 1646. (¬2) انظر الحجة للقراء السبعة / الفارسي، ج 2، ص 62 - 63، وتفسير الرازي، ج 3، ص 480 (¬3) سورة المائدة، الآية (24).

مع انه أقوى من المضمر المجرور بسبب أنه قد ينفصل، فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه ألبتة لا ينفصل كان أولى. وثالثها: قال أبو عثمان المازني: المعطوف والمعطوف عليه متشاركان، وإنما يجوز عطف الأول على الثاني لو جاز عطف الثاني على الأول، وههنا هذا المعنى غير حاصل، وذلك لأنك لا تقول: مررت بزيدوك، فكذلك لا تقول: مررت بك وزيد ". ثم علّق الرازي على هذه الأوجه بقوله: " واعلم أن هذه الوجوه ليست وجوها قوية في دفع الروايات الواردة في اللغات، وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة، والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة، والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت " (¬1). القول الراجح: هو صحة ما ذهب إليه ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين من وجوب الأخذ بكلا القراءتين، وذلك أن كل قراءة منهما قراءة متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). أما من ردَّ قراءة الجر فقد اعترض عليه عدد من العلماء منهم القرطبي , ومن قوله: ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 480. (¬2) انظر السبعة لابن مجاهد، ص 226، والتيسير للداني، ص 93، والنشر / ابن الجزري، ج 2، ص 186، وغيث النفع في القراءات السبع / الصفاقسي، ص 80، والبدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة، / عبد الفتاح القاضي، ص 73.

" ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تواترا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , فمن رد ذلك فقد رد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستقبح ما قرأ به، وهذا مقام محذور، ولا يُقلَّد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يشك أحد في فصاحته " (¬1). وذكر أبو حيان أن ما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري (¬2) وابن عطية من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح، وأن الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز. وعلق على قول ابن عطية وردّه لقراءة الجر ووصفه بأنه: "جسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه , حيث عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بها سلف الأمة، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وأقرأ الصحابة أُبيّ بن كعب ,عمدَ إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري، فإنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم، وحمزة رضي الله عنه: أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش، وحمدان ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 9. (¬2) قال ابن عاشور: " وهذا جري على عادة الزمخشري في توهين القراءات المتواترة، إذا خالفت ما دُوّن عليه علم النّحو، لتوهّمه أنّ القراءات اختيارات وأقيسة من القُرّاء، وإنَّما هي روايات صحيحة متواترة وفي الإعراب دلالة على المقصود لا تناكد الفصاحة. (التحرير والتنوير، ج 5، ص 103).

بن أعين، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد الصادق، ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر. وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقةً في الحديث، وهو من الطبقة الثالثة، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة، وأمَّ الناس سنة مائة، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم: سفيان الثوري، والحسن بن صالح. ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي، وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض " (¬1). كما أن هذا القول تعضده قاعدة أخرى وهي: (اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن الكريم يكثّر المعاني القائمة في الآية الواحدة) وهذه القاعدة رجّح بها ابن عاشور، ومما يدل عليها من خلال المثال السابق قول ابن عاشور: " فعلى قراءة الجمهور يكون الأرحام مأموراً بتقواها على المعنى المصدري أي اتّقائها، وهو على حذف مضاف، أي اتّقاء حقوقها، فهو من استعمال المشترك في معنييه، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ممّا أشار إليه قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}. وعلى قراءة حمزة يكون تعظيماً لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضاً بها، وذلك قول العرب: «ناشدتك اللَّه والرحم " (¬2). 2 - قراءة الشركاء: ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 167. (¬2) التحرير والتنوير، ج 3، 217 - 218.

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (¬1). اختلف المفسرون تعالى في قراءة قوله: {زَيَّنَ} (¬2). وقد ذكر ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره فقال: " قرأ الجمهور: (زَيَّنَ) بفتح الزاي ونصب: (قتل) على المفعوليّة لـ (زيَّن)، ورفعِ شركاؤهم على أنّه فاعل: (زين)، وجرّ (أولادهم) بإضافة قَتْل إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله. وقرأه ابن عامر: (زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائِهم) ببناء فعل (زين) للنّائب، ورفع (قتل) على أنه نائب الفاعل، ونصب (أولادهم) على أنَّه مفعول (قتل)، وجَرّ (شركائهم) على إضافة (قتل) إليه من إضافة المصدر إلى فاعله، وكذلك رسمت كلمة (شركائهم) في المصحف العثماني الّذي ببلاد الشّام، وذلك دليل على أنّ الّذين رَسموا تلك الكلمة راعوا قراءة (شركائهم) بالكسر وهم من أهل الفصاحة والتّثبت في سند قراءات القرآن، إذ كتب كلمة (شركائهم) بصورة الياء بعد الألف، وذلك يدلّ على أنّ الهمزة مكسورة ". ثم فسّر ابن عاشور المعنى على قراءة ابن عامر بقوله: " والمعنى، على هذه ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (137). (¬2) انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 270، والتيسير / الداني، ص 107، والنشر / ابن الجزري، ج 2، ص 197، والتيسير في القراءات السبع المشهورة وتوجيهها / صابر حسن أبو سليمان، ص 208.

القراءة: أنّ مزيِّنا زَيَّن لكثير من المشركين أن يَقْتُلَ شركاؤُهم أولادَهم، فإسناد القتل إلى الشّركاء على طريقة المجاز العقلي إمّا لأنّ الشّركاء سبب القتل إذا كان القتل قُرباناً للأصنام، وإمَّا لأنّ الّذين شرعوا لهم القتل هم القائمون بديانة الشّرك مثل عمرو بن لُحي ومن بعده، وإذا كان المراد بالقتل الوأْدَ، فالشركاء سببَ وإن كان الوأد قُرباناً للأصنام وإن لم يكن قرباناً لهم (وهو المعروف) فالشركاء سبب السبب، لأنه من شرائع الشرك " (¬1). ومما يؤكد استحضار ابن عاشور لهذه القاعدة أنه بعد أن أشار إلى من ضعّف هذه القراءة ردّ عليه فقال: " وهذه القراءة ليس فيها ما يناكد فصاحة الكلام؛ لأنّ الإعراب يُبيِّن معاني الكلمات ومواقعها، وإعرابها مختلف من رفع ونصب وجرّ بحيث لا لبس فيه، وكلماتها ظاهرٌ إعرابها عليها، فلا يعدّ ترتيب كلماتها على هذا الوصف من التّعقيد المخلّ بالفصاحة ... . وليس في الآية ممّا يخالف متعارف الاستعمال إلاّ الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، والخَطْبُ فيه سهل: لأنّ المفعول ليس أجنبياً عن المضاف والمضاف إليه، وجاء الزمخشري في ذلك بالتّهويل، والضّجيج والعويل، كيف يفصَل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول. وقال أيضاً بعد أن ذكر رأي ابن عطية في هذه القراءة وتضعيفه لها: " وهذا لا يثبت ضعف القراءة لأن الندور لا ينافي الفصاحة " (¬2). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 102. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 5، ص 103.

كما استغرب ابن عاشور استبعاد الطبري لهذه القراءة فقال: " ومن العجيب قول الطّبري: " والقراءَة الّتي لا أستجيز غيرها بفتح الزاي ونصب: (القتل) وخفض: (أولادهم) ورفع: (شركائهم). وذلك على عادته في نصب نفسه حكماً في التّرجيح بين القراءات " (¬1) (¬2). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 103. (¬2) للدكتور مساعد الطيار كلام جميل حول تضعيف الطبري لبعض القراءات وأن ابن جرير لا يرد قراءة متواترة حيث يقول: "واليوم ظهر لي أن ابن جرير الطبري لم يكن عنده سند بقراءة حفص عن عاصم، قرأت في تفسير الطبري ط: دار هجر (23: 216) عند قوله تعالى " نزاعة للشوى" ما نصُّه: " ... والصواب من القول في ذلك عندنا أن لظى الخبر ونزاعة ابتداء فذلك رفع ولا يجوز النصب في القراءة لإجماع قراء الأمصار على رفعها ولا قارئ قرأ كذلك بالنصب وإن كان للنصب في العربية وجه) يقول: فاستغربت قولَه هذا؛ لأنَّ قراءة حفص بنصب (نزاعةً)، والطبري يقول = =: " ولا قارئ قرأ كذلك بالنصب، وإن كان للنصب في العربية وجه "، وعلقت عليه بأن كلامه يشير إلى أنه لم يكن عنده سندٌ بقراءة حفص عن عاصم , وأثناء بحثي في هذه المفردات وعرضها على تفسير الطبري اتصل بي أحد الباحثين بقسم الدراسات القرآنية بكلية المعلمين بالرياض، فعرضت عليه ما توصلت له، فطرب له واستحسنه، وذكر لي فائدة نفيسة تتعلق بطريقي عاصم، وهو أن طريق شعبة هو المقدم عند المتقدمين، ولعل هذا يشير إلى عدم ورود سند حفص عند الطبري، وهذه الفائدة نصٌّ لابن مجاهد في كتاب السبعة (ص: 71)، قال فيه: وإلى قراءة عاصم صار بعض أهل الكوفة وليست بالغالبة عليهم؛ لأن أضبط من أخذ عن عاصم أبو بكر بن عياش ـ فيما يقال ـ لأنه تعلمها منه تعلما خمسا خمسا. وكان أهل الكوفة لا يأتمون في قراءة عاصم بأحد ممن يثبتونه في القراءة عليه إلا بأبي بكر بن عياش، وكان أبو بكر لا يكاد يُمَكِّن من نفسه من أرادها منه، فقلَّتْ بالكوفة من أجل ذلك، وعَزَّ من يحسنها، وصار الغالب على أهل الكوفة إلى اليوم قراءة حمزة بن حبيب الزيات. وإذا تأملت هذا النصَّ ظهر لك أن قراءة حفص عن عاصم في وقت الطبري (ت: 310) الذي كان في طبقة شيوخ ابن مجاهد (ت: 324) لم يكن لها قبول كغيرها. انظر على الشبكة العنكبوتية: موقع سليمان بن مساعد الطيار , الأستاذ المساعد بكلية المعلمين بالرياض/ جامعة الملك سعود.

وموقف ابن عاشور ممن رد تلك القراءة يبيّن لنا مدى امتثال ابن عاشور لهذه القاعدة وهي (القراءات المتواترة حق كلها نصاً ومعنى لا يجوز ردها ولا رد معناها). وممن استحضر هذه القاعدة من المفسرين وذهب إلى ما ذهب إليه ابن عاشور: القرطبي، وأبو حيان، والألوسي، والقاسمي (¬1). في حين ردّ الطبري وابن عطية والرازي، والشوكاني قراءة ابن عامر (¬2). ولم يشر ابن كثير ولا الشنقيطي إلى هذه القراءة. حجة أصحاب القول الأول وهم اللذين أخذوا بكلا القراءتين وبمعنييهما: حجتهم في ذلك أن كلا القراءتين متواترتان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). قال ابن عاشور بعد أن أشار إلى توهين الزمخشري لقراءة ابن عامر قال: " وهذا جري على عادة الزمخشري في توهين القراءات المتواترة، إذا خالفت ما دُوّن عليه علم النّحو، لتوهّمه أنّ القراءات اختيارات وأقيسة من القُرّاء، وإنَّما ¬

(¬1) انظر الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 7، ص 92، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 231، وروح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 277، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 512. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 8، ص 54، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص، 350 والتفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 159، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 164. (¬3) انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 270، والتيسير / الداني، ص 107، والنشر / ابن الجزري، ج 2، ص 197، وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر / الدمياطي، ص 274، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 109.

هي روايات صحيحة متواترة وفي الإعراب دلالة على المقصود لا تناكد الفصاحة , ومُدوّناتُ النّحو ما قصد بها إلاّ ضبط قواعد العربيّة الغالبة ليجري عليها النّاشئون في اللّغة العربيّة، وليست حاصرة لاستعمال فصحاء العرب، والقرّاءُ حجّة على النّحاة دون العكس " (¬1). وكذلك نقل القاسمي في تفسيره كلاما جيداً للناصر في الانتصاف ومن قوله: " لقد ركب الزمخشري متن عمياء، وتاه في تيهاء، وأنا أبرأ إلى الله، وأبرئ حملة كتابه، وحفظة كلامه، مما رماهم به، فإنه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة، اختار كل منهم حرفاً به اجتهاداً، لا نقلاً وسماعاً، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه، وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في (شركائهم)، ... إلى أن قال: ولم يعلم الزمخشري أن هذه القراءة بنصب الأولاد، والفصل بين المضاف والمضاف إليه بها يعلم ضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها على جبريل، كما أنزلها عليه، ثم تلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - على عدد التواتر من الأئمة، ولم يزل عدد التواتر من يتناقلونها، ويقرؤون بها، خلفاً عن سلف، إلى أن انتهت إلى ابن عامر، فقرأها أيضاً كما سمعها، فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة جملة وتفصيلاً عن أفصح من نطق بالضاد - صلى الله عليه وسلم - فإذا علمت العقيدة الصحيحة فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشري، ولا بقول أمثاله ممن لحن ابن عامر" (¬2). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 103. (¬2) محاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 513.

حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين أخذوا قراءة الجمهور بالنصب وردوا قراءة ابن عامر بالضم: وصف الطبري هذه القراءة بأن معناها غير فصيح في كلام العرب (¬1). وقال بعد أن رجّح قراءة الجمهور ورد قراءة ابن عامر: وإنما قلت: "لا أستجيز القراءة بغيرها؛ لإجماع الحجة من القرأة عليه، وأن تأويل أهل التأويل بذلك ورد، ففي ذلك أوضح البيان على فساد ما خالفها من القراءة " (¬2) ... . وكذلك ضعّفها ابن عطية بقوله: " وهذه قراءة ضعيفة في استعمال العرب، وذلك أنه أضاف القتل إلى الفاعل وهو الشركاء، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، ورؤساء العربية لا يجيزون الفصل بالظروف في مثل هذا إلا في الشعر (¬3). القول الراجح هو ما ذهب إليه ابن عاشور وغيره من المفسرين من الأخذ بكلا القراءتين؛ وذلك لتواترهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعرض أبو حيان إلى قراءة ابن عامر وموقف النحاة منها وذكر ما يدلل على استحضاره لهذه القاعدة فقال: " فجمهور البصريين يمنعونها - متقدموهم ومتأخروهم- ولا يجيزون ذلك إلا في ضرورة الشعر، وبعض النحويين أجازها وهو الصحيح لوجودها في هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي الصريح ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 8، ص 53. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 8، ص 54. (¬3) المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 2، ص 350.

المحض ابن عامر الآخذ القرآن عن عثمان بن عفان قبل أن يظهر اللحن في لسان العرب، ولوجودها أيضاً في لسان العرب في عدة أبيات قد ذكرناها في كتاب منهج السالك من تأليفنا ولا التفات إلى قول ابن عطية " (¬1). قال الشاطبي في فرش سورة الأنعام: وزين في ضم وكسر ورفع قتـ ... ــل أولادهم بالنصب شاميهم تلا ويخفض عنه الرفع في شركاؤهم ... وفي مصحف الشاميين بالياء مثلا ومفعوله بين المضافين فاصل ... ولم يلف غير الظرف في الشعر فيصلا كلله در اليوم من لامها فلا ... تلم من مليمي النحو إلا مجهّلا ومع رسمه زجّالقلوص أبي مزا ... دة الأخفش النحوي أنشد مجملا (¬2) كما ذكر الألوسي كلاماً جميلاً يدل على مدى استحضاره لهذه القاعدة أيضاً حيث يقول: " وبعد هذا كله لو سلمنا أن قراءة ابن عامر منافية لقياس العربية , لوجب قبولها أيضاً بعد أن تحقق صحة نقلها كما قبلت أشياء نافت القياس مع أن صحة نقلها دون صحة القراءة المذكورة بكثير، وما ألطف قول الإمام على ما حكاه عنه الجلال السيوطي، وكثيراً ما أرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهد في تقريره ببيت مجهول فرحوا به وأنا شديد التعجب منهم لأنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلاً على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلاً على صحته كان أولى " (¬3). ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 231. (¬2) متن الشاطبية / الشاطبي , ص 100. (¬3) روح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 277.

3 - قراءة مصرخي: قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). وردت قراءتان في قوله: بمصرخي: قرأ حمزة (بمصرخي) بكسر الياء، وهي لغة حكاها الفراء، وقطرب (¬2)، وأجازها أبو عمرو , والباقون بفتحها. وقد اتفق العلماء جميعاً على قراءة الفتح، واضطربت أقوال بعضاً منهم في قراءة الجر، وهي قراءة حمزة فمن مجترئ عليها، ملحن لقارئها، ومن مجوز لها من غير ضعف، ومن مجوز لها بضعف (¬3). ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية (22). (¬2) هو محمد بن المستنير بن أحمد، أبو علي، الشهير بقطرب: نحوى، عالم بالأدب واللغة، من أهل البصرة من الموالي, ولد عام (206 هـ)، كان يرى رأي المعتزلة النظامية. وقطرب لقب دعاه به أستاذه (سيبويه) فلزمه، من كتبه: (معاني القرآن) و (النوادر) في اللغة. (الأعلام / الزركلي، ج 7، ص 95). (¬3) والقراءتان متواترتان، انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 362، والتيسير / الداني، ص 134، ومتن الشاطبية / الشاطبي، ص 118 , وإتحاف فضلاء البشر / الدمياطي، ص 342، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 171.

وقد فصّل في ذلك ابن عاشور فقال: "قرأ الجمهور (بِمُصرِخيَّ) بفتح التحتية مشددةً. وأصله بمصرخِييَ بياءين أولاهما ياء جمع المذكر المجرور، وثانيتهما ياء المتكلم، وحقها السكون فلما التقت الياءان ساكنتين وقع التخلص من التقاء الساكنين بالفتحة لخفة الفتحة. وقرأ حمزة وخلَف «بِمُصرِخيِّ» بكسر الياء تخلصاً من التقاء الساكنين بالكسرة؛ لأن الكسر هو أصل التخلص من التقاء الساكنين. قال الفراء: تحريك الياء بالكسر لأنه الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، إلا أن كسر ياء المتكلم في مثله نادر. وأنشد في تنظير هذا التخلص بالكسر قول الأغلب العِجْلي (¬1): قال لها هل لكِ ياتَا فيَّ ... قالت له: ما أنتَ بالمرضيِّ (¬2). أراد هل لكِ فيّ يا هذه " (¬3). وقال أبو علي الفارسي: " زعم قطرب أنها لغة بني يربوع , وعن أبي عمرو بن العلاء أنه أجاز الكسر، واتفق الجميع على أن التخلص بالفتحة في مثله ¬

(¬1) هو الأغلب بن عمرو بن عبيدة بن حارثة، من بني عجل بن لجيم، من ربيعة: شاعر راجز معمر. أدرك الجاهلية والإسلام , وتوجه مع سعد بن أبي وقاص غازيا فنزل الكوفة، واستشهد في واقعة نهاوند، وهو أول من أطال الرجز , وهو آخر من عمر في الجاهلية عمرا طويلا. انظر (خزانة الأدب / البغدادي، ج 1، ص 333، والأعلام / الزركلي، ج 1، ص 335). (¬2) الشاهد للأغلب العجلي ذكر ذلك ابن عاشور، يخاطب امرأة فيما إذا كانت ترغب فيه فردت عليه بقولها على لسانه: قالت له ما أنت بالمرضي. انظر (خزانة الأدب، ج 2، ص 97). (¬3) التحرير والتنوير، ج 7، ص 220 - 221.

أشهر من التخلص بالكسرة وإن كان التخلص بالكسرة هو القياس، وقد أثبته سند قراءة حمزة " (¬1). ثم ذكر ابن عاشور مايدل على ردّ بعض القراء لقراءة حمزة وهي قراءة الجر فقال: " وقد تحامل عليه الزجاج وتبعه الزمخشري، وسبقهما في ذلك أبو عُبيد، والأخفش بن سعيد، وابن النحاس، ولم يطلع الزجاج والزمخشري على نسبة ذلك البيت للأغلب العِجلي ... . وذكر بعدها ما يدل على تواتر قراءة حمزة، واستحضاره لهذه القاعدة حيث يقول: "وهذه الشروط متوفرة في قراءة حمزة " (¬2).ووممن أخذ بهذا القول ممن سبقه من المفسرين القرطبي حيث ذكر قول من ردّ قراءة الجر وذكر ما يفيد ضرورة الأخذ بكلا القراءات المتواترة، وكذلك فعل أبو حيان، والألوسي (¬3). أما الطبري فم يذكر هذه القراءة، وذكرها ابن عطية والرازي والشوكاني حيث ذكروا قراءة حمزة ورد بعض القراء لها ولم يعلقوا على ذلك (¬4). أما القاسمي فلم يذكر هذه القراءة (¬5). ¬

(¬1) الحجة في القراءات السبع / أبو علي الفارسي، ج 3، ص 16. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 7، ص 220 - 221. (¬3) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 370، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 408، وروح المعاني / الألوسي، ج 7، ص 198. (¬4) انظر جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 240، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 334.، والتفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 88.، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 104. (¬5) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 321.

حجة من أخذ بكلا القراءتين ولم يرد قراءة الجر: حجتهم في ذلك أن القراءتين متواترتان ولذلك يجب قبولهما. قال مكي: " عدّ هذه القراءة بعض الناس لحناً، وليست بلحن، إنما هي مستعملة، وقد قال قطرب: إنها لغة في بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء، وأنشد هو وغيره شاهداً على ذلك: ماض إذا ماهمَّ بالمضي ................ قال لها: هل لك ياتافي (¬1). وقال الألوسي في توجيه قراءة الجر: " إن الأصل بمصرخين لي فأضيف وحذفت نون الجمع للإضافة , فالتقت ياء الجمع الساكنة وياء المتكلم , والأصل فيها السكون فكسرت لالتقاء الساكنين وأدغمت .. كما ردّ الألوسي على من طعن في قراءة الجر فقال: " وقد وهموا طعناً وتقليداً فإن القراءة متواترة عن السلف والخلف فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة " (¬2). قال ابن عاشور: " والذي يظهر لي أن هذه القراءة قرأ بها بنو يَربوع من تميم، وبنو عِجل بن لُجيم من بكر بن وائل، فقرأوا بلهجتهم أخذاً بالرخصة للقبائل أن يقرأوا القرآن بلهجاتهم وهي الرخصة التي أشار إليها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه ". كما تقدم في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير " (¬3). ¬

(¬1) الكشف عن وجوه القراءات / مكي بن أبي طالب، ج 2، ص 26. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 7، ص 198. (¬3) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 7، ص 221.

حجة من ردّ قراءة حمزة وهي قراءة الجر (بمصرخيِّ): قال الفراء: " وقد خفض الياء من قوله بمصرخي: الأعمش ويحيى بن وثاب جميعا، ولعلها من وهم القراء طبقة يحيى فإنه قلّ من سلم منهم من الوهم , ولعله ظن أن الباء في قوله: بمصرخي خافضة لجملة هذه الكلمة , وهذا خطأ؛ لأن الياء من المتكلم خارجة من ذلك " (¬1). وقال الزجاج: "هذه قراءة رديئة لا وجه لها إلا وجه ضعيف" (¬2). كما ضعّف الزمخشري هذه القراءة بقوله: "وقرئ: بمصرخي بكسر الياء وهي ضعيفة واستشهد لها: قال لها هل لك ياتا في ... قالت له ما أنت بالمرضي وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين , ولكنه غير صحيح؛ لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف في نحو عصاي فما بالها وقبلها ياء؟ فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل. قلت: هذا قياس حسن ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات " (¬3). القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور من الأخذ بكلا القراءتين المتواترتين وفي ذلك ¬

(¬1) معاني القرآن / الفراء، ج 2، ص 75. (¬2) معاني القرآن / الزجاج، ج 3، ص 159. (¬3) الكشاف / الزمخشري، ج 3، ص 376.

يقول: " واستقر الأمر على قبول كل قراءة صح سندها ووافقت وجهاً في العربية ولم تخالف رسم المصحف , وهذه الشروط متوفرة في قراءة حمزة هذه كما علمت آنفاً فقصارى أمرها أنها تتنزل منزلة ما ينطق به أحد فصحاء العرب على لغة بعض قبائلها بحيث لو قرئ بها في الصلاة لصحت عند مالك وأصحابه " (¬1). كما أخذ القشيري بقراءة الجر وردّ على من ردّها فقال: " والذي يغني عن هذا أن ما يثبت بالتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز أن يقال فيه هو خطأ أو قبيح أو ردئ، بل هو في القرآن فصيح، وفيه ما هو أفصح منه، فلعل هؤلاء أرادوا أن غير هذا الذي قرأ به حمزة أفصح " (¬2).وقال القرطبي: " واستقر الأمر على قبول كل قراءة صح سندها ووافقت وجهاً في العربية ولم تخالف رسم المصحف ". (¬3) 4 - قراءة " لا تحسبن ": قال تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬4). اختلف القراء في قراءة {لَا تَحْسَبَنَّ} فمنهم من قرأها بتاء الخطاب (لا ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 7، ص 221. (¬2) لم أقف على قول القشيري في تفسيره، ونقلته من الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 370. (¬3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 370. (¬4) سورة النور، الآية (57).

تحسبن)، ومنهم من قرأها بياء الغيبة (لا يحسبن) (¬1)، وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره فقال: " وقراءة الجمهور: (تحسبن) بتاء الخطاب , وقرأ ابن عامر وحمزة وحده بياء الغيبة فصار (الذين كفروا) فاعلّ (يحسبن) فيبقى لـ (يحسبن) مفعول واحد هو (معجزين) " (¬2). ويتضح من هذا المثال تطبيق ابن عاشور لهذه القاعدة حيث أخذ بكلا القراءتين كما ردّ على أبي حاتم، والنحاس، والفرّاء تضعيفهم هذه القراءة؛ لأن فعل الحسبان يقتضي مفعولين، وذكر أن هذا جرأة على قراءة متواترة , وذلك بناء على مايراه ويراه غيره من المفسرين من أن القراءات المتواترة حق كلها نصاً ومعنى لا يجوز ردها أو رد معناها. ثم ذكر ابن عاشور قول الزجاج بأن المفعول الأول محذوف تقديره: أنفسهم، وحسّن قوله فقال: " وقد وفق لأن الحذف ليس بعزيز في الكلام. كما قوّى قول الزمخشري أن (في الأرض) هو المفعول الثاني، أي لا يحسبوا ناساً معجزين في الأرض (يعني ما من كائن في الأرض إلا وهو في متناول قدرة الله إن شاء أخذه، أي فلا ملجأ لهم في الأرض كلها) بقوله: «وهذا معنى قوي جيّد» " (¬3). ¬

(¬1) وهاتان القراءتان متواترتان، انظر التيسير في القراءات السبع / الداني، ص 163، النشر في القراءات العشر، ج 2، ص 249، وإملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات / العكبري، ص 455، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 223. (¬2) التحرير والتنوير، ج 9، ص 290. (¬3) التحرير والتنوير، ج 9، ص 290.

وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين ابن عطية، والرازي، والقرطبي وأبو حيان، وابن كثير، والألوسي حيث ذكروا كلا القراءتين، قراءة السبعة " لا تحسبن" وقراءة حمزة وابن عامر وذكروا توجيهاً لكل منها واقتصر ابن كثير على قراءة التاء "ولا تحسبن" ولم يذكر القراءة الأخرى، وردّ الألوسي بعد أن ساق كلا القراءتين على من اعترض على قراءة حمزة (¬1). وذكر الشوكاني كلا القراءتين , وساق قول النحاس في تخطئته لقراءة حمزة ولم يعلق على ذلك (¬2). في حين رجّح الطبري قراءة لا تحسبن بالتاء، وضعف القراءة بالياء (¬3) حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون الأخذ بكلا القراءتين: حجتهم في ذلك أن كلا القراءتين متواترتان حيث ذكرهما مجاهد في السبعة، والداني في التيسير، والجزري في النشر. قال مكي: "من قرأ " لا تحسبن" أنه ظاهر النص، على الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الفاعل، والذين كفروا، ومعجزين مفعولا حسب" (¬4). وقال أبوعلي: "ومن قال (يحسبن) بالياء جاز أن يكون فاعل الحسبان أحد ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 193، التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 414، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 12، ص 300، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 143، ج 6، ص 432، تفسير ابن كثير، ج 10، ص 269. (¬2) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 48. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 18، ص 192. (¬4) الكشف عن وجوه القراءات السبع / أبو مكي القيسي، ج 2، ص 143.

شيئين: إما أن يكون قد تضمن ضميراً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كأنه: لا يحسبن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين كفروا معجزين، فالذين في موضع نصب بأنه المفعول الثاني، ويجوز أن يكون فاعل الحسبان: الذين كفروا أنفسهم سبقوا " (¬1). وذكر الرازي لقراءة حمزة عدة أوجه: أحدها: أن يكون معجزين في الأرض هما المفعولان، والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا هم في مثل ذلك. وثانيها: أن يكون فيه ضمير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتقدم ذكره في قوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬2) والمعنى: لا يحسبن الذين كفروا معجزين. وثالثها: أن يكون الأصل ولا يحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول (¬3). حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين ردوا قراءة ابن عامر وحمزة: حجتهم في ذلك ضعيفة في العربية. قال الطبري: "وقد كان بعضهم يقول: "لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا" بالياء، وهو مذهب ضعيف عند أهل العربية; وذلك أنّ "تَحْسَبَ" محتاج إلى منصوبين. وإذا قرئ "يَحْسَبَنَّ" لم يكن واقعا إلا على منصوب واحد، غير أني أحسب أن قائله بالياء ظنّ أنه قد عمل في "مُعْجِزِينَ" وأن منصوبه الثاني " في الأرض"، وذلك لا ¬

(¬1) الحجة للقراء السبعة / أبو علي الفارسي، ج 3، ص 205. (¬2) سورة النور، الآية (54). (¬3) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 414.

معنى له، إن كان ذلك قصد (¬1). وضعَّف النحاس قراءة حمزة بقوله: " وما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن، لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن. وقال أيضاً: في هذه القراءة يكون " الذين كفروا " في موضع نصب. قال: ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض " (¬2). وقال الفراء: "هو ضعيف، وأجازه على ضعفه، على أنه يحذف المفعول الأول " (¬3). القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور وغيره من المفسرين من الأخذ بكلا القراءتين، وذلك أن كلا القراءتين متواترتان ولا يمكن الطعن في أحد منهما. وردّ الطبري وغيره من العلماء لهذه القراءة غير سديد، وذلك أن هذه القراءة قراءة متواترة، والقراءة المتواترة لا يجوز ردّها ولا ردّ معناها، وقد نعذر أهل العربية في تضعيفهم لهذه القراءة؛ لأنهم ليسوا من أهل الاختصاص في هذا العلم، أما الطبري وهو المفسر العالم بالقراءات قد نعجب كيف يغيب عنه مثل هذا الأمر ولكننا نلتمس له العذر كما تقدم من أن الطبري لم تكن هذه ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 18، ص 192. (¬2) انظر إعراب القرآن / النحاس، ج 3، ص 146. (¬3) معاني القرآن / الفراء، ج 2، ص 259.

القراءات حاضرة عنده لكونه متقدم , ولم يكن عند حكمه على هذه القراءة قد رسى علم القراءات. قال الألوسي: " وأيا ما كان فالقراءة المذكورة صحيحة وإن اختلفت مراتب تخريجاتها قوة وضعفا، ومن ذلك يعلم ما في قول النحاس ما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة فيه من الهذيان والجسارة على الطعن في متواتر من القرآن ولعمري لو كانت القراءة بالرأي لكان اللائق بمن خفي عليه وجه قراءة حمزة أن لا يتكلم بمثل ذلك الكلام ويتهم نفسه ويحجم عن الطعن في ذلك " (¬1). ومن هنا نرى اهتمام ابن عاشور بهذه القاعدة والتزامه بها وليس ذلك بغريب عليه فهو إمام في القراءات. وفيما يشبه هذا المثال دافع ابن عاشور عن قراءة {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} (¬2). حيث طعن أبو حاتم السجستاني (¬3) في هذه القراءة فردّ عليه العلامة ابن ¬

(¬1) روح المعاني / الألوسي، ج 9، ص 398 باختصار. (¬2) سورة الأنفال، الآية (59). (¬3) هو سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد أبو حاتم السجستاني، إمام البصرة في النحو والقراءة واللغة والعروض وكان إمام جامع البصرة، وصاحب التصانيف الكثيرة في الفنون. كان بحراً من بحور العلم، رأساً في الكلام والاعتزال. أخذ عن القاضي أبي يوسف، وثمامة بن أشرس، وأبي إسحاق النظام. (انظر العبر في خبر من غبر / الذهبي، ج 1، ص 86، وغاية النهاية في طبقات القراء / ابن الجزري ج 1، ص 320).

عاشور وقال: " وقرأه ابن عامر وحمزة وحفص وأبو جعفر (ولا يحسبن) بالياء التحتية. وهي قراءة مشكلة لعدم وجود المفعول الأول لحسب فزعم أبو حاتم هذه القراءة لحنا, وهذا اجتراء منه على أولئك الأئمة وصحة روايتهم , واحتج لها أبو علي الفارسي بإضمار مفعول أول يدل عليه قوله: (إنهم لا يعجزون) أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا واحتج لها الزجاج بتقدير (أن) قبل (سبقوا) فيكون المصدر سادا مسد المفعولين وقيل: حذف الفاعل لدلالة الفعل عليه والتقدير: ولا يحسبن حاسب" (¬1). 5 - قراءة " بضنين ": قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (¬2). اختلف القراء تعالى في قراءة (بضنين) بين الضاد والظاء (¬3). وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره فقال: " وقد اختلف القراء في قراءته، فقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وخلف وروَح عن يعقوب بالضاد الساقطة التي تخرج من حافة اللسان مما يلي الأضراس، وهي القراءة الموافقة لرسم المصحف. ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 6، ص 54. (¬2) سورة التكوير، الآية (24). (¬3) والقراءتان متواترتان، انظر القراءتين في السبعة / ابن مجاهد، ص 673، والتيسير / الداني، ص 220، والنشر في القراءات العشر/ ابن الجزري، ج 2، ص 298.

وقرأه الباقون بالظاء المشالة التي تخرج من طرف اللسان وأصول الثنايا العُليا، وذكر في «الكشاف» أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بهما، وذلك مما لا يحتاج إلى التنبيه، لأن القراءتين مَا كانتا متواترتين إلا وقد رُويتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (¬1). ومما سبق يتبين لنا مدى تطبيق ابن عاشور لهذه القاعدة، ويؤكد هذا قوله بعد ذلك: "ولا شك أن الذين قرأوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة , وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب قد رووه متواتراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , ولذلك فلا يقدح في قراءتهم كونُها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار، لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر. وما ذُكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم تُرْو متواترة كما بيناه في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير " (¬2). وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين في الأخذ بكلا القراءتين ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي، حيث ذكروا كلا القراءتين , ولم يرجحوا أحدهما على الأخرى ,فدلّ ذلك أنهم أخذوا بكلا القراءتين (¬3). ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 15، ص 161. (¬2) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 15، ص 161. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 444، والتفسير الكبير / الرازي، ج 11، ص 70 والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 231، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 426 وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 271، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 395، ومحاسن التاويل/ القاسمي، ج 9، ص 342.، أما الشنقيطي فلم يتعرض لذكر القراءة كعادته.

في حين مال الطبري إلى القراءة بالضاد (¬1)، ومال الألوسي إلى القراءة بالظاء (¬2). أما عن الحجج التي استند إليها أصحاب كل قراءة في اختياراتهم لها فهي الآتي: حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون الأخذ بكلا القراءتين: حجتهم في ذلك أن كلا القراءتين متواترة، وقد فسر أصحاب هذا القول كل قراءة بما يلي: قال مكي في كتابه "الكشف عن وجوه القراءات السبع": " (بضنين) قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء، على معنى " متهم"، أي ليس محمد بمتهم في أن يأتي من عند نفسه بزيادة فيما أوحي إليه، أو ينقص منه شيئاً، ودل على ذلك أنه لم يتعد إلا إلى مفعول واحد، قام مقام الفاعل، وهو مضمر فيه، و " ظننت" إذا كانت بمعنى " اتهمت" لم تتعدَّ إلا إلى مفعول واحد، وقرأ الباقون بالضاد على معنى "ببخيل"، أي ليس محمد ببخيل في بيان ما أوحي إليه وكتمانه، بل يبثه ويبينه للناس " (¬3). وقال ابن كثير: " وقوله: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي: وما محمد ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 104. (¬2) انظر روح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 265. (¬3) الكشف عن وجوه القراءات السبع / مكي بن أبي طالب، ج 2، ص 364.

على ما أنزله الله إليه بظنين، أي: بمتهم. ومنهم من قرأ ذلك بالضاد، أي: ببخيل، بل يبذله لكل أحد. قال سفيان بن عُيَينة: ظنين وضنين سواء، أي: ما هو بكاذب، وما هو بفاجر. والظنين: المتهم، والضنين: البخيل .. وكلاهما متواتر، ومعناه صحيح " (¬1). حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين أخذوا بقراءة الضاد وردُّوا الأخرى: حجتهم في ذلك: موافقتها لرسم المصحف، وبذلك رجّح الطبري هذه القراءة بقوله: " وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة، وإن اختلفت قراءتهم به، وذلك (بِضَنِينٍ) بالضاد، لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. فإذا كان ذلك كذلك، فأولى التأويلين بالصواب في ذلك: تأويل من تأوّله، وما محمد على ما علَّمه الله من وحيه وتنزيله ببخيل بتعليمكموه أيها الناس، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلَّموه " (¬2). حجة أصحاب القول الثالث، وهم الذين أخذوا بقراءة الظاء: حجتهم في ذلك أن المعنى يقتضي هذه القراءة لمناسبتها للمقام. قال أبو علي الفارسي: " معنى (بظنين) أي: بمتهم، وهو من ظننت بمعنى اتهمت، ولا يجوز أن تكون هي المتعدية إلى مفعولين، ألا ترى أنه لو كان منه ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 270، (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 103 - 104.

لوجب أن يلزمه مفعول منصوب؟ لأن المفعول الأول كان يقوم مقام الفاعل إذا تعدى الفعل إلى المفعول الأول، فلا بد من ذكر الآخر، وفي أن لم يذكر الآخر دلالة على أنه ظننت التي معناها: اتهمت " (¬1). قال ابن عطية: " ورجح أبو عبيد قراءة: الظاء مشالة؛ لأن قريشاً لم تبخل محمداً - صلى الله عليه وسلم - فيما يأتي به وإما كذبته، فقيل ما هو بمتهم " (¬2). وقد رجح الألوسي هذه القراءة وهذا قوله: "ورجحت هذه القراءة عليه - أي القراءة بالظاء- بأنها أنسب بالمقام لاتهام الكفرة له صلى الله تعالى عليه وسلم، ونفي التهمة أولى من نفي البخل وبأن التهمة تتعدى بعلى دون البخل فإنه لا يتعدى بها إلا باعتبار تضمينه معنى الحرص ونحوه " ... إلى أن ذكر الألوسي قول الطبري وترجيحة لقراءة الضاد معللا ذلك بأن الضاد خطوط المصاحف كلها , وتعقبه الألوسي بقوله: ولعله أراد بالمصاحف المتداولة فإنهم قالوا بالظاء خط مصحف ابن مسعود " (¬3). القول الراجح: أن نأخذ بكلا القراءتين ولا نرجح قراءة على أخرى وذلك أن كلا القراءتين متواترتين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث ذكرها الداني في التيسير والجزري في النشر (¬4). ¬

(¬1) الحجة للقراء السبعة / أبو علي الفارسي، ج 4، ص 101. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 444. (¬3) روح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 265. (¬4) انظر التيسير للداني، ص 2 - 3، والنشر / الجزري، ج 1، ص 42.

وهذا هو الذي رجحه ابن عاشور بناءً على القاعدة، وعمل به أكثر المفسرين، أما ما رجحه الطبري من قراءة الضاد على القراءة الأخرى لكون خطوط المصاحف بها فقد قدمت فيما سبق ما ذكره ابن عاشور حيث قعّد قاعدة في ذلك وهي (أنما ذُكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم تُرْو متواترة) ثم أضاف قول أبي عبيدة حيث يقول: " وقد اعتذر أبو عبيدة عن اتفاق مصاحف على كتابتها بالضاد مع وجود الاختلاف فيها بين الضاد والظاء في القراءات المتواترة بأن قال " ليس هذا بخلاف الكتاب لأن الضاد والظاء لا يختلف خطهما في المصاحف إلا بزيادة رأس إحداهما على رأس الأخرى فهذا قد يتشابه ويتدانى " اهـ قال ابن عاشور: " يريد بهذا الكلام أن ما رسم في المصحف ليس مخالفة من كتاب المصاحف للقراءات المتواترة أي أنهم يراعون اختلاف القراءات المتواترة فيكتبون بعض نسخ المصاحف على اعتبار اختلاف القراءات وهو الغالب. وههنا اشتبه الرسم فجاءت الظاء دقيقة الرأس، ولا أرى للاعتذار لأنه لما كانت القراءتان متواترتين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمد كتاب المصاحف على إحداهما , وهي التي قرأ بها جمهور الصحابة وخاصة عثمان ابن عفان وأوكلوا القراءة الأخرى إلى حفظ القارئين. وإذا تواترت قراءة (بضنين) بالضاد الساقطة و (بظنين) بالظاء المشالة علمنا

أن الله أنزله بالوجهين وأنه أراد كلا المعنيين" (¬1). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 161 - 162. ونظائر هذه الأمثلة كثيرة في تفسيره منها: 1 - ... ما جاء في قوله تعالى: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (المنافقون: 10) حيث ذكر ابن عاشور القراءات الواردة في " وأكن " فقال: " فأما الجمهور فقرأوه مجزوماً بسكون آخره على اعتباره جواباً للطلب مباشرة لعدم وجود فاء السببية فيه، واعتبار الواو عاطفة جملة على جملة وليست عاطفة مفرداً على مفرد. .... وقرأه أبو عمرو وحده من بين العشرة {وأكونَ} بالنصب والقراءة رواية متواترة وإن كانت مخالفة لرسم المصاحف المتواترة. (التحرير والتنوير، ج 13، ص 254). 2 - ... ما جاء في قوله تعالى: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} (المدثر: 29 - 30) وفيه قول ابن عاشور: " وقرأ الجمهور (تسعة عَشر) بفتح العين من (عَشر.) وقرأ أبو جعفر (تسعة عشر) بسكون العين من (عشْر) تخفيفاً لتوالي الحركات فيما هو كالاسم الواحد، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم هذه القراءة فإنها متواترة ". (التحرير والتنوير، ج 14، ص 313). 3 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا} (الإنسان: 15)، وفيه قوله: " وقرأ ابن كثير وخلف (قواريراً) الأول بالتنوين ووقفوا عليه بالألف وهو جار على التوجيه الذي وجهنا به قراءة نافع والكسائي. وقرأ (قواريرا) الثاني بغير تنوين على الأصل ولم تراع المزاوجة ووقفا عليه بالسكون وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم بترك التنوين فيهما لمنع الصرف وعدم مراعاة الفواصل ولا المزاوجة. والقراءات روايةٌ متواترة لا يناكدها رسم المصحف فلعلّ الذين كتبوا المصاحف لم تبلغهم إلاّ قراءة أهل المدينة " (التحرير والتنوير، ج 14، 393).

المبحث الثاني الأصل توافق القراءات في المعنى

المبحث الثاني الأصل توافق القراءات في المعنى صورة القاعدة: إن اتحاد معنى القراءتين أولى من اختلافه؛ فإذا وجد قول يجمع معنى القراءات في الآية، وأمكن القول بمقتضاها جميعاً على معنى واحد فهو أولى الأقوال بتفسير الآية (¬1). وقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة، حيث قرّر في المقدمة الثانية من تفسيره أن الأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلف في قراءته (¬2). أقوال العلماء في القاعدة: قال مكي في توجيهه لأحد القراءات: "وحمل القراءتين على معنى واحد أحسن" (¬3). وقرر السمين الحلبي هذه القاعدة عند مناقشته لبعض القراءات بقوله: "الأصل توافق القراءات " (¬4). وكذلك الألوسي في تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ ¬

(¬1) انظر قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 2، ص 100. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 71. (¬3) انظر الكشف عن وجوه القراءات السبع / مكي بن أبي طالب، ج 1، ص 225. (¬4) الدر المصون في علوم الكتاب المكنون / السمين الحلبي، ج 3، ص 555.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (¬1) ... وتوجيهه لقراءة يهدي ذكر قراءة حمزة والكسائي (يَهْدِى) كَيَرْمِي، وهو إما لازم بمعنى يهتدي كما هو أحد استعمالات فعل الهداية على المعول عليه، أو متعد أي لا يهدي غيره، ورجح هذا بأنه الأوفق بما قبل فإن المفهوم منه نفي الهداية لا الاهتداء، وقد يرجح الأول بأن فيه توافق القراءات معنى وتوافقها خير من تخالفها (¬2). الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - قراءة " مالك ": قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬3). اختلف القراء في قراءة (مَالِكِ) (¬4) وبناء عليه اختلفوا في معناها: وقد ساق ابن عاشور هذا الاختلاف في تفسيره فقال: " وقوله (ملك) قرأه ¬

(¬1) سورة يونس، الآية (35). (¬2) انظر روح المعاني / الألوسي، ج 5، ص 107. (¬3) سورة الفاتحة، الآية (3). (¬4) انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 104، وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر / الدمياطي، ص 162، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 13.

الجمهور بدون ألف بعد الميم. وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف (مالك) بالألف. ثمّ فسّر ابن عاشور كلا القراءتين فقال: " فالأول: صفة مشبهة صارت اسماً لصاحب المُلك (بضم الميم). والثاني: اسم فاعل من ملك إذا اتصف بالمِلك (بكسر الميم) وكلاهما مشتق من مَلَك، فأصل مادة ملك في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى الشد والضبط كما قاله ابن عطية، ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز، والتحقيق والاعتبار، وقراءة (ملك) بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس السامعين لأن المَلِك بفتح الميم وكسر اللام هو ذو المُلك بضم الميم والمُلك أخص من المِلك، إذ المُلك بضم الميم هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ويختص بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم وموَاطنهم فلذلك يقال: مَلِك الناس ولا يقال: مَلك الدواب أو الدراهم، وأما المِلك بكسر الميم فهو الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره " (¬1). ثم يذكر ابن عاشور ما يؤكد هذه القاعدة حيث قال بعد أن ذكر القراءتين: " وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة (ملك) بدون ألف وقراءة (مالك) بالألف من خصوصيات بحسب قَصْر النظر على مفهوم كلمة ملك ومفهوم كلمة (مالك)، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى يوم الدين، فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 175.

في شؤون ذلك اليوم دون شبهة مشارك. ولا محيصَ عن اعتبار التوسع في إضافة (ملك) أو (مالك) إلى (يوم) بتأويل شؤون يوم الدين. على أن (مالك) لغة في (ملك) ففي «القاموس»: «وكأمير وكتف وصاحب ذُو الملك» (¬1). وممن استحضر هذه القاعدة من المفسرين وذهب إلى ما ذهب إليه ابن عاشور ابن عطية والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي ... (¬2) ومفهوم قولهم جميعا أنه وإن كان لكل كلمة أو قراءة خاصية إلا أنهما يعودان لمعنى واحد وهو الملكية. أما الطبري فقد رجّح قراءة (ملك) وذكر تعليلاً على ذلك سيأتي (¬3). حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون الأخذ بكلا القراءتين وأن القراءتين متوافقتان في المعنى: قال الرازي: " والجواب: إن الله تعالى مالك الموجودات، وملكها، بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم، أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة، وهذه القدرة ليست إلا لله تعالى، فالملك الحق هو الله سبحانه وتعالى، إذا عرفت أنه الملك الحق فنقول: إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 175 (¬2) انظر المحرر الوجيز، ج 1، ص 69، والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 207، الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 1، ص 157، البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 136، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 212، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 22، روح المعاني/ اللوسي، ج 1، ص 86، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 248. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 76.

القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا لله، والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا لله، فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات، ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا الله " (¬1). وقال القرطبي: "اختلف العلماء أيما أبلغ: ملك أو مالك؟ والقراءتان مرويتان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر " (¬2). حجة أصحاب القول الثاني وهم الذي اختاروا قراءة (ملك) بدون ألف بعد الميم وبنوا عليه معناها: قال الطبري: " وأولى التأويلين بالآية وأصح القراءتين في التلاوة عندي التأويلُ الأول، وهي قراءةُ من قرأ "مَلِكِ" بمعنى "المُلك". لأن في الإقرار له بالانفراد بالمُلك، إيجابًا لانفراده بالمِلْك، وفضيلة زيادة المِلك على المالك، إذْ كان معلومًا أن لا مَلِك إلا وهو مالكٌ، وقد يكون المالكُ لا ملكًا. وبعدُ، فإن الله جلّ ذكره، قد أخبر عبادَه في الآية التي قبل قوله: {مَالِكِ} (¬3) أنه مالكُ جميع العالمين وسيَّدهم، ومُصلحُهم، والناظرُ لهم، والرحيم بهم في الدنيا والآخرة، بقوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬4). ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 207. (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 156. (¬3) سورة الفاتحة، الآية (3) (¬4) سورة الفاتحة، الآية (1 - 2).

وإذْ كان جلّ ذكره قد أنبأهم عن مِلْكه إيَّاهم كذلك بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فأولى الصّفات من صفاته جل ذكره أن يَتْبَع ذلك ما لم يحْوِه قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، مع قرب ما بين الآيتين من المواصَلة والمجاورة، إذْ كانت حكمتُه الحكمةَ التي لا تشبهها حِكمةٌ، وكان في إعادة وصفه جلّ ذكره بأنه {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إعادةُ ما قد مضى من وصفه به في قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، مع تقارب الآيتين وتجاوز الصفتين. وكان في إعادة ذلك تكرارُ ألفاظ مختلفة بمعان متفقة، لا تفيد سامع ما كُرِّر منه فائدةً به إليها حاجة. والذي لم يحْوِه من صفاته جلّ ذكره ما قبل قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، المعنى الذي في قوله: (مَلِك يوم الدين)، وهو وصْفه بأنه الملِك. فبيِّن إذًا أن أولى القراءتين بالصواب، وأحقّ التأويلين بالكتاب، قراءة من قرأه (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، بمعنى إخلاص المُلك له يوم الدين، دون قراءة من قرأ (مالك يوم الدين) الذي بمعنى أنه يملك الحكمَ بينهم وفصلَ القضاء، متفرِّدًا به دون سائر خلقه (¬1). وقال الرازي: " وحجة من قال أن الملك أولى من المالك وجوه: الأول: أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك. ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 76.

الثاني: أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ} (¬1) لفظ الملك فيه متعين، ولولا أن الملك أعلى حالاً من المالك وإلا لم يتعين. الثالث: الملك أولى لأنه أقصر، والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها، بخلاف المالك فإنها أطول، فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة هكذا نقل عن أبي عمرو، وأجاب الكسائي بأن قال: إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها، نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه، لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم، فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلاً للأمل، أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه يجزيه؛ لأنه وإن كان ذلك تطويلاً للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس، ويجوز أن يموت في تلك الليلة، فيقول: إن لم أبلغ إلى اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم، كذا ههنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازماً على الإتمام وهو المراد" (¬2). حجة أصحاب القول الثالث وهم الذين اختار قراءة (مالك) بالألف وبنوا عليه معناها: قال الرازي: حجة من قرأ مالك وجوه: ¬

(¬1) سورة الناس، الآية (1 - 2). (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 207. .

الأول: أن فيه حرفاً زائداً فكانت قراءته أكثر ثواباً. الثاني: أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون، أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا الله. الثالث: المالك قد يكون ملكاً وقد لا يكون، كما أن الملك قد يكون مالكاً وقد لا يكون فالملكية والمالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى إلا أن المالكية سبب لإطلاق التصرف، والملكية ليست كذلك فكان المالك أولى. الرابع: أن الملك ملك للرعية، والمالك مالك للعبيد، والعبد أدون حالاً من الرعية، فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية، فوجب أن يكون المالك أعلى حالاً من الملك. الخامس: أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكاً لذلك المالك باختيار نفسه، فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية. السادس: أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية، قال عليه الصلاة والسلام وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، ولا يجب على الرعية خدمة الملك. أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه، حتى إنه لا يصح منه القضاء وة والشهادة وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافراً، وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيماً؛ فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية، فهذه هي الوجوه الدالة

على أن المالك أكمل من الملك" (¬1). قال القرطبي: " وقيل (مالك) أبلغ؛ لأنه يكون مالكاً للناس وغيرهم؛ فالمالك أبلغ تصرفاً وأعظم؛ إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك" (¬2). القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور هو الأخذ بكلا القراءتين لأنهما متواترتان , وأن الأصل في معنييهما يعود إلى شيء واحد. ومن قال بأن لكل قراءة معنى أو مزية، أو فيها زيادة على الأخرى فنحن لا نصادمه، والأمر في ذلك واسع، ولكن ما نرفضه هو تقديم قراءة متواترة على أخرى مثلها، أو الأخذ بقراءة ورد الأخرى. قال ابن عطية: " وفي الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قرؤوا «ملك يوم الدين» بغير ألف، وفيه أيضاً أنهم قرؤوا «مالك يوم الدين» بألف. قال أبو بكر: والاختيار عندي «ملك يوم الدين» لأن «الملك» و «المالك» يجمعهما معنى واحد وهو الشد والرّبط كما قالوا: ملكت العجين أي شددته إلى غير ذلك من الأمثلة، والملك أفخم وأدخل في المدح، والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله سبحانه، فالمعنى أنه ملك الملوك في ذلك اليوم، لا ملك لغيره " (¬3). ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 205. (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 156. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 69.

ومما تقدم تبين لنا مدى تطبيق ابن عاشور لهذه القاعدة وهي (الأصل توافق القراءات في المعنى) كما أن المثال السابق دليل واضح على استحضار ابن عاشور للقاعدة المتقدمة وهي أن (القراءات المتواترة حق كلها). 2 - قراءة " الصابئين": قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1). اختلف العلماء في قراءة الصابئين وبالتالي اختلفوا في معناها (¬2): قال ابن عاشور: " وأما قوله: (والصابئين) فقرأه الجمهور بهمزة بعدَ الموحدة على صيغة جمع صَابئ بهمزة في آخره. وقرأه نافع وحده بياء ساكنة بعد الموحدة المكسورة على أنه جمع صَاببٍ منقوصاً. ثم فسَّر ابن عاشور كل قراءة بقوله: " فأما على قراءة الجمهور، فالصابئون لعله جمع صابئ , وصابئ لعله اسم فاعل صَبَأ مهموزاً أي ظهر وطلع، يقال صَبَأ النجم أي طلع. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (62). (¬2) انظر هاتين القراءتين في التيسير / الداني، ص 74، ومتن الشاطبية / الشاطبي , ص 70 , والنشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 2، ص 162 ..

وأما على قراءة نافع فجعلوها جمع صاب مثل رام على أنه اسم فاعل من صبا يصبو إذا مال قالوا: لأن أهل هذا الدين مالوا عن كل دين إلى دين عبادة النجوم , ولو قيل لأنهم مالوا عن أديان كثيرة إذ اتخذوا منها دينهم كما ستعرفه لكان أحسن " (¬1). ولقد استحضر ابن عاشور هذه القاعدة في تفسيره وذلك يتبين من رده للمعنى الآخر وهو الميل وهذا بناءً على القاعدة الحاضرة في ذهنه وهي (أن الأصل توافق القراءات في المعنى أو تقاربهما). أما الطبري فقد اقتصر على القراءة بالهمز، ولم يذكر القراءات الأخرى. في حين نجد معظم المفسرين منهم ابن عطية، والقرطبي، وأبو حيان، والشوكاني والألوسي، والقاسمي قد ذكروا كلا القراءتين ومعناهما، ولم يعقبوا على ذلك. أما الرازي فقد ذكر كلا القراءتين، واختار قراءة الهمز، وذلك بناءً على معناها (¬2)، وإليك التفصيل: حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون أن القراءتين متوافقتان في المعنى: حجتهم في ذلك أن الأصل توافق القراءات في المعنى. ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 533. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 367، ، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 157. والتفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 535، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 439، البحر المحيط /أبو حيان، ج 1، ص 401، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 434، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 94، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 278،

قال ابن عاشور: " وليس هو من صبا يصبو إذا مال؛ لأن قراءة الهمز تدل على أن ترك تخفيف الهمز في غيرها تخفيف؛ لأن الأصل توافق القراءات في المعنى " (¬1). حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين يرون أن الصابئين بمعنى الخارجين وبنوا هذا المعنى على القراءة أو العكس ... : قال الطبري: و"الصابئون" جمع"صابئ"، وهو المستحدث سوى دينه دينا، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تُسَميَّه العرب: "صابئاً ". يقال منه: "صبأ فلان يصبأ صبْأ". ويقال: "صبأت النجوم": إذا طلعت."وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا"، يعني به: طلع (¬2). قال الفارسي: " يقال صبأت على القوم بمعنى طرأت، فالصابئ التارك لدينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه ومتنقل إلى سواها " (¬3). وذهب الرازي إلى أن المعنى المراد من الصابئين هو: الخارجين؛ أي الخارج من دين إلى دين، وبناء على ذلك اختار قراءة الهمز وقال: إنها الأكثر وإلأقرب إلى معنى التفسير (¬4). كما أن الذين أخذوا بهذه القراءة إنما اختاروها لأنها على الأصل. ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 533. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 367. (¬3) الحجة / الفارسي، ج 1، ص 309. (¬4) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 535.

ومن ذلك قول ابن عاشور وقد تقدم: " وليس هو من صبَا يصبو إذا مال لأن قراءة الهمز تدل على أن ترك تخفيف الهمز في غيرها تخفيف لأن الأصل توافق القراءات في المعنى " (¬1). حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين يرون أن (الصابئين) بمعنى مائلين: وهم الذين يرون أن الصابئين من صبا يصبو إذا مال وبنوا هذا المعنى على القراءة التي اختاروها وهي الصابين بدون همز، وهذا قول نافع ولذلك لم يهمز (¬2). القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور من أنه ليس هناك خلاف أصلاً بين القراءتين , وإنما القراءة الثانية بدون همز من باب التسهيل، فيكون المعنى في كلاهما على الأصل وهو الهمز، وهذا يدل على مدى استحضاره للقاعدة. وهذا الذي يراه ابن عاشور نجده واضحاً عند الشاطبي في قوله: وَفي الصَّابِئِينَ الْهَمْزَ وَالصَّابِئُونَ خُذْ وَهُزْؤاً وَكُفْؤاً في السَّوَاكِنِ (فُـ) صِّلاَ. أي خذ الهمز فيهما لأنه الأصل (¬3) .. 3 - قراءة " لامستم ": قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 533. (¬2) انظر النكت والعيون / الماوردي، ج 1، ص 133. (¬3) إبراز المعاني من حرز الأماني / أبو شامة ,ج 1 , ص 442.

الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (¬1) اختلفت قراءات القراء في كلمة (لَامَسْتُمُ) (¬2) وقد ساق هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: " وقرأ الجمهور "لامستم" بصيغة المفاعلة؛ وقرأه حمزة والكسائي وخلف " لمستم "بدون ألف، ورجّح ابن عاشور أن القراءتين بمعنى واحد فقال: " وهما بمعنى واحد على التحقيق، ومن حاول التفصيل لم يأت بما فيه تحصيل، وأصل اللّمس المباشرة باليد أو بشيء من الجسد " (¬3). وهذا المثال يدل على استحضار ابن عاشور لهذه القاعدة. وقد ذهب إلى ذلك جميع من اعتمدتهم من المفسرين (¬4). أما الخلاف الواقع بين المفسرين في معناها فذلك بناءً على اختلاف القراءات فيما يبدو لي حيث اختلفوا هل المراد بقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} الجماع، ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (43). (¬2) فمنهم من قرأها (لا مستم) ومنهم من قرأها (لمستم)، والقراءتان متواترتان. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 234، والتيسير / الداني، ص 96، ومتن الشاطبية / الشاطبي , ص 90 , والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 87. (¬3) التحرير والتنوير، ج 3، ص 66. (¬4) انظر جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 130، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 58، والتفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 89، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 266، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 268، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 43، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 470، وروح المعاني / الألوسي، ج 3، ص 41، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 131.

فتكون الآية نصاً في جواز التيمم للجنب، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، أو المراد بذلك مجرد اللمس باليد، وهو المس الذي يكون لشهوة. حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون أن القراءتين متوافقتان في المعنى: قال ابن عطية: "وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم (لامستم) , وقرأ حمزة والكسائي (لمستم) وهي في اللغة لفظة قد تقع للمس الذي هو الجماع، وفي اللمس الذي هو جس اليد والقبلة ونحوه، إذ في جميع ذلك لمس، واختلف أهل العلم في موقعها هنا: فمالك يقول: اللفظة هنا على أتم عمومها تقتضي الوجهين، فالملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم، لأن اللمس نقض وضوءه " (¬1). حجة أصحاب القول الثاني وهم القائلون بأن المقصود باللمس هو اللمس باليد وبنى بعضهم هذا المعنى على القراءة "لمستم": قالوا: إن اللمس حقيقة في الجس باليد، والأصل حمل الكلام على حقيقته لأنه الراجح (¬2). كما أن من حجتهم في ذلك أن اللمس لا ينقض الطهارة، وبما أن الله عز وجل يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} دل ذلك على أن المقصود بالملامسة اللمس باليد فقط، لأن الجماع يتطلب الغسل، ولكن هذا القول يرده: ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 58. (¬2) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 130.

الأحاديث الدالة على جواز التيمم من الجماع. حجة أصحاب القول الثالث وهم القائلون بأن اللمس هو الجماع وبنوا هذا المعنى على قراءة " لامستم": حيث قالوا: إن لامستم أبلغ من لمستم (¬1). كما أنهم احتجوا على أن المعني باللمس هنا الجماع لوروده في غير هذه الآية بمعناه، فدل على أنه من كنايات التنزيل. قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬2) , وقال تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬3)، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنه - في هذه الآية {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قال: الجماع (¬4)، وروى ابن جرير عنه قال: إن اللمس والمس والمباشرة: الجماع ولكن الله يكني ما شاء بما شاء (¬5). القول الراجح: ماذكره ابن عاشور من أن الأصل توافق القراءات في المعنى كما تقدم. قلت: وهذا اللمس الذي يستوجب التيمم هو اللمس بشهوة، وقد انتهى ¬

(¬1) النكت والعيون / الماوردي، ج 1، ص 491. (¬2) سورة البقرة، الآية (237). (¬3) سورة الأحزاب، الآية (49). (¬4) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 3، ص 44. (¬5) جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 123.

تحقيق العلماء في لمس المرأة أنه لا ينقض الوضوء إلا إذا كان بشهوة , وكان الملامس يعرف من نفسه أنه يخرج منه مذي باللمس، وأما إذا لم يؤد اللمس إلى خروج المذي، فلا ينقض اللمس الوضوء، وبذلك يتبين أن المقصود من اللمس في الآية هو ما كان بشهوة , وبالتالي لا فرق في المعنى بين القراءتين. قال الطبري بعد أن ذكر القراءتين: " وهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأنه لا يكون الرجل لامساً امرأته إلا وهي لامسته اللمس في ذلك يدل على معنى اللماس، واللماس على معنى اللمس من كل واحد منهما صاحبه، فبأي القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب لاتفاق معنييهما " (¬1). وقال الرازي: "واعلم أن هذا القول أرجح من الأول- أي القول بأن اللمس التقاء البشرتين سواءً كان بجماع أو غيره-، وذلك لأن إحدى القراءتين هي قوله تعالى: (أو لمستم النساء) واللمس حقيقته المس باليد، فأما تخصيصه بالجماع فذاك مجاز، والأصل حمل الكلام على حقيقته. وأما القراءة الثانية وهي قوله: (أو لامستم) فهو مفاعلة من اللمس، وذلك ليس حقيقة في الجماع أيضاً، بل يجب حمله على حقيقته أيضاً، لئلا يقع التناقض بين المفهوم من القراءتين المتواترتين " (¬2). ويؤكد هذا القاسمي بقوله: " ومما يؤكد بقاء اللمس على معناه الحقيقي قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 130. (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 89.

لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (¬1) أي جسوه، ومنه ما ثبت في الصحيحين: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الملامسة " (¬2) وهو يرجع إلى الجس باليد" (¬3). 4 - قراءة " تلووا": قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬4). اختلف القراء في قراءة "تلووا" (¬5) وبناءً عليه حصل الخلاف بين المفسرين في معناها، وإليك التفصيل: ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (7). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب بيع الملامسة، ج 2، ص 754، ح- 2037، ومسلم في صحيحه، كتاب البيوع، باب إبطال بيع الملامسة والمنابذة، ج 3، ص 1151، ح-1511. (¬3) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 131. (¬4) سورة النساء، الآية (135). (¬5) فمنهم من قرأها تلْووا، ومنهم من قرأها تلُوا، والقراءتين متواترتين. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 238، والتيسير / الداني، ص 97، ومتن الشاطبية / الشاطبي , ص 91 , والنشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 2، ص 190، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 84.

قال ابن عاشور: " قرأ الجمهور: (تَلْوُوا) بلام ساكنة وواوين بعدها، أولاهما مضمومة فهو مضارع لَوَى، واللّي: الفَتل والثَّنْي. وتفرّعت من هذا المعنى الحقيقي معان شاعت فساوت الحقيقة، منها: عدول عن جانب وإقبالٌ على جانب آخر , فإذا عُدّي بعن فهو انصراف عن المجرور بعن، وإذا عديّ بإلى فهو انصراف عن جانب كان فيه، وإقبالٌ على المجرور بعلى، قال تعالى: {ولا تَلْوُون على أحد} (¬1) أي لا تعطفون على أحد. ومن معانيه: لوى عن الأمر تثاقل، ولوى أمره عنّي أخفاه، ومنها: ليّ اللسان، أي تحريف الكلام في النطق به أو في معانيه، وتقدّم عند قوله تعالى: {يَلْوُون ألسنتهم بالكتاب} (¬2)، وقولِه: {ليَّا بألسنتهم} (¬3) في هذه السورة. فموقع فعل (تَلووا) هنا موقع بليغ لأنّه صالح لتقدير متعلِّقِه المحذوف مجروراً بحرف (عن) أو مجروراً بحرف (على) فيشمل معاني العدول عن الحقّ في الحكم، والعدول عن الصدق في الشهادة، أو التثاقل في تمكين المحقّ من حقّه وأداء الشهادة لطالبها، أو الميْل في أحد الخصمين في القضاء والشهادة. وأمّا الإعراض فهو الامتناع من القضاء ومن أداء الشهادة والمماطلة في الحكم مع ظهور الحقّ، وهو غير الليّ كما رأيت. وقرأه ابن عامر، وحمزة، وخلف: (وأن تَلُوا) بلام مضمومة بعدها واو ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية (153). (¬2) سورة آل عمران، الآية (78). (¬3) سورة النساء، الآية (46).

ساكنة فقيل: هو مضارع وَلِيَ الأمرَ، أي باشره " (¬1). ومما يدل على استحضار ابن عاشور لهذه القاعدة في تفسيره فإنه بعد أن ذكر القراءة الثانية والمعنى المترتب عليها قال: " فالمعنى: وإن تلوا القضاء بين الخصوم فيكون راجعاً إلى قوله: (أن تعدلوا) ولا يتّجه رجوعه إلى الشهادة، إذ ليس أداء الشهادة بولاية. والوجه أنّ هذه القراءة تخفيف (تَلْوُوا) نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذف أحدهما، ويكون معنى القراءتين واحداً " (¬2). وممن أيضا من المفسرين لا يرون هذا المعنى الآخر من القراءة الثانية الطبري إلا أنه ضعّف القراءة به حيث قال: " وهذا معنى إذا وجّه القارئ قراءته على ما وصفنا، إليه خارج عن معاني أهل التأويل، وما وجّه إليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون، تأويلَ الآية. فإذْ كان فساد ذلك واضحًا من كلا وجهيه، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} اللي" الذي هو مطل " (¬3). أما ابن عطية فقد احتمل المعنيين من القراءة حيث قال: "وذلك يحتمل أن يكون أصله «تلئوا» على القراءة الأولى، همزت الواو المضمومة كما همزت في أدؤر، وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء «لوى» ثم حذفت لاجتماع ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 228. (¬2) التحرير والتنوير، ج 3، ص 228. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 377.

ساكنين، ويحتمل أن تكون «تلوا» من قولك ولي الرجل الأمر " (¬1). وقريب منه الرازي، والقرطبي إلا أنهما ساقا قول النحاس والزجاج ومقتضى قولهما أن القراءة الثانية يؤول معناها إلى القراءة الأولى كما ذكر ابن عاشور، وهذا التفصيل ذكره أبو حيان والشوكاني، والألوسي. أما ابن كثير والقاسمي فلم يتطرقا لذكر هذه القراءات واكتفيا بالمعنى الأول وهو التحريف وتعمد الكذب (¬2). حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون أن القراءتين متفقتان في المعنى: قال النحاس: " زعم بعض النحويين أن من قرأ (تلُوا) فقد لحن، لأنه لا معنى للولاية ها هنا , وليس يلزم هذا ولكن تكون (تلوا) بمعنى (تلووا) وذلك أن أصله (تلووا) فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى، فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين، وهي كالقراءة بإسكان اللام وواوين، ذكره مكي " (¬3). وقال الزجاج: " المعنى على قراءته (وإن تلووا) ثم همز الواو الاولى فصارت ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 123. (¬2) انظر التفسير الكبير /الرازي، ج 4، ص 242، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 412، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 386، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 310، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 524، وروح المعاني / الألوسي، ج 3، ص 162، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 372. (¬3) معاني القرآن / النحاس، 2، ص 213 - 215.

(تلؤوا) ثم خففت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام فصارت (تلوا) وأصلها (تلووا) فتتفق القراءتان على هذا التقدير" (¬1). حجة أصحاب القول الثاني، وهم الذين اختاروا قراءة (تَلْوُوا) بلام ساكنة وواوين بعدها، ورتبوا عليها المعنى: قال الطبري: " لَيُّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه، وذلك تحريفه إياها بلسانه، وتركه إقامتها، ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له، وعمن شهد عليه؛ وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه قال: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} كونوا قوامين بالقسط شهداء الله"، فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء " (¬2). حجة أصحاب القول الثالث، وهم الذين قرأوا (تَلُو) ورتبوا عليه معناها: وهي قراءة ابن عامر وحمزة وخلف، ورتبوا عليها المعنى وهو الولاية أي تلوا أمور الناس وهذا للولاة والحكام (¬3). القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور من الأخذ بكلا القراءتين؛ وذلك لأنهما متواترتان، غير أن معنى القراءة الثانية يعود إلى نفس معنى القراءة الأولى فتكون ¬

(¬1) معاني القرآن / الزجاج، ج 2، ص 118 (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 377. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 123.

القراءتين متفقتان في المعنى. أما ردّ القراءة الثانية فهذا غير جائز؛ لأنه ردٌ لقراءة متواترة. قال أبو حيان: " لحّن بعض النحويين قارئ هذه القراءة يعني قراءة (تلُو) بضم اللام -: قال: لا معنى للولاية هنا، وهذا لا يجوز لأنها قراءة متواترة في السبع، ولها معنى صحيح وتخريج حسن" (¬1). ويجلي ذلك ما ذكره علماء اللغة. قال أبو علي الفارسي: "حجة من قال تلووا بواوين من لوى أن يقول: ما ذكرتم أن الدلالة وقعت عليه في قراءتكم (تلُوا) بواو واحدة فيستغنى به، ولا ينكر أن يتكرر اللفظان لمعنى واحد " (¬2). 5 - قراءة يضاعف: قال تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (¬3). اختلف القراء في قراءة " يُضَاعَفْ "، وقد ساق هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: "قرأ الجمهور (يضاعَف) بتحتية في أوله للغائب وفتح العين مبنياً للنائب , ورفع (العذابُ) على أنه نائب فاعل. ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 368. (¬2) الحجة للقراء السبعة / أبو علي الفارسي، ج 2، ص 95. (¬3) سورة الأحزاب، الآية (30).

وقرأه ابن كثير وابن عامر (نضَعِّف) بنون العظمة وبتشديد العين مكسورة ونصب (العذابَ) على المفعولية؛ فيكون إظهار اسم الجلالة في قوله بعده: (وكان ذلك على الله يسيراً) إظهاراً في مقام الإضمار. وقرأه أبو عمرو ويعقوب (يُضَعَّف) بتحتية للغائب وتشديد العين مفتوحة. ومفاد هذه القراءات متّحِدُ المعنى على التحقيق " (¬1). ومن هذا المثال نلحظ تطبيق ابن عاشور في تفسيره لهذه القاعدة حيث أنه بعد أن ذكر القراءات الواردة فيها ذكر أن معناها واحد. وموقف ابن عاشور من هذه القراءات، في أنها متحدة في المعنى هو ما ذهب إليه بعض المفسرين ومنهم الطبري حيث رد قول من فرّق بين قراءة يضاعف ويضعف، إلا أنه رجّح قراءة الجمهور وردّ ما عداها وهذا ما عهدناه منه في طريقته في الترجيح بين القراءات (¬2). وكذلك ممن ذهب من المفسرين إلى أن القراءات متحدة في المعنى: ابن عطية والقرطبي، وأبو حيان، والشوكاني (¬3). أما الرازي، وابن كثير و، القاسمي والشنقيطي فلم يتطرقوا لذكر القراءات في كلمة يضاعف في هذه الآية. ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 10، ص 319.وهذه القراءات متواترة. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 521، والتيسير / الداني، ص 179 , ومتن الشاطبية / الشاطبي , ص 142. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 179. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 382، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 14، ص 170، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 221، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 276.

وذكرها الألوسي ولم يرجح قراءة أو معنى قراءة على أخرى (¬1). حجة أصحاب القول الأول وهم الذين يرون أن القراءات متفقة في المعنى: قال النحاس: فرق أبو عمرو بين " يضاعف ويضعف " قال: " يضاعف " للمرار الكثيرة. و" يضعف " مرتين، وقرأ " يضعف " لهذا. وقال أبو عبيدة: " يضاعف لها العذاب " يجعل ثلاثة أعذبة. قال النحاس: التفريق الذي جاء به أبو عمرو وأبو عبيدة لا يعرفه أحد من أهل اللغة علمته، والمعنى في " يضاعف ويضعف " واحد، أي يجعل ضعفين، كما تقول: إن دفعت إلى درهما دفعت إليك ضعفيه، أي مثليه، يعني درهمين. ويدل على هذا {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} (¬2) ولا يكون العذاب أكثر من الأجر. وقال في موضع آخر {آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬3) آتهم ضعفين من العذاب " أي مثلين. وروى معمر عن قتادة " يضاعف لها العذاب ضعفين " قال: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة (¬4). ¬

(¬1) انظر روح المعاني / الألوسي، ج 11، ص 180. (¬2) سورة الأحزاب، الآية (31). (¬3) سورة الأحزاب، الآية (68). (¬4) انظر معاني القرآن / النحاس، ج 5، ص 343.

حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين اختاروا قراءة (يُضَاعَف) وبنوا عليها معناها: وهذه قراءة الجمهور وهم: نافع وعاصم وحمزة والكسائي (¬1). وذكر أبو عبيدة أن معنى يضاعف على هذه القراءة مضاعفة العذاب مرات، حيث يقول: " يضاعف للمرار الكثيرة ويضعف مرتين " (¬2). وضعف هذا المعنى الطبري، وكذلك ابن عطية، والألوسي. قال ابن عطية: وكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول؛ لأن العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة (¬3). حجة أصحاب القول الثالث وهم الذين اختاروا قراءة (يُضَعَّفْ) وبنوا عليها المعنى: وهذه قراءة أبي عمرو (¬4)، قال الطبري بعد أن ذكر قراءته: " إنه قرأها كذلك تأولاً منه في قراءته أنِّ يضعف، بمعنى تضعيف الشيء مرة واحدة، وذلك أن يجعل الشيء شيئين، فكأن معنى الكلام عنده: أن يجعل عذاب من يأتي من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بفاحشة مبينة في الدنيا والآخرة، مثلي عذاب سائر النساء غيرهن، ¬

(¬1) انظر الحجة للقراء السبعة / أبو علي الفارسي، 3، ص 283. . (¬2) مجاز القرآن / أبو عبيدة، ج 2، ص 137. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 21، ص 178، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 382، وروح المعاني / الألوسي، ج 11، ص 180. . (¬4) انظر التيسير / الداني، ص 179.

ويقول: أنَّ يضاعف بمعنى أن يجعل الشيء إلى الشيء مثلاه، حتى يكون ثلاثة أمثاله فكأن معنى من قرأ يضاعف عنده كان أن عذابها ثلاثة أمثال عذاب غيرها من النساء من غير أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلذلك اختار يضعف على يضاعف (¬1). حجة أصحاب القراءة الثالثة (نُضَعِّفْ) في اختيارهم لها: وهذه قراءة ابن كثير وابن عامر (¬2). قال أبو علي الفارسي: " من قال نُضَعِّفْ فالفعل مسند إلى ضمير اسم الله تعالى" (¬3). القول الراجح إن القراءات متحدة في المعنى كما ذكر ابن عاشور، وهو قول عدد كثير من العلماء. ومنهم الطبري فإنه بعد أن ذكر قول أبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة مَعمَر بن المثنَّى أن بين ضاعف وضَعَّف فرقاً، فأما ضاعف فيفيد جعْل الشيء مِثْلَيْه فتصير ثلاثة أعْذِبة، وأما ضَعَّف المشدّد فيفيد جَعْل الشيء مثله، قال الطبري: "وهذا التفريق لا نعلم أحداً من أهل العلم ادعاه غيرهما" (¬4). وقال أبو علي الفارسي: " ضاعف وضعّف، بمعنى فيما حكاه سيبويه" (¬5). ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 21، ص 178. (¬2) انظر النشر / ابن الجزري، ج 2، ص 261. . (¬3) الحجة للقراء السبعة / الفارسي، ج 3، ص 283. . (¬4) جامع البيان / الطبري، ج 21، ص 178. (¬5) الحجة للقراء السبعة / الفارسي، ج 3، ص 283. . ونظائر هذه الأمثلة كثيرة في تفسيره منها: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= 1 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) قال ابن عاشور بعد أن ذكر القراءات الواردة في قوله: (واتخذوا): " فمآل القراءتين واحد ". (انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 711). 2 - ... ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 58) قال ابن عاشور بعد أن ذكر القراءة في الكفار: " ومآل القراءتين واحد ". (انظر التحرير والتنوير، ج 4، ص 242). 3 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة: 103)، قال ابن عاشور بعد أن ذكر القراءات الواردة في (صَلَاتَكَ) قال: " والقراءتان سواء. (انظر التحرير والتنوير، ج 6، ص 24). 4 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} (النمل: 89)، حيث قال ابن عاشور بعد أن ذكر القراءات الواردة في كلمة (فزع): " فاتحدت القراءتان معنى لأن إضافة المصدر وتنكيره سواء في عدم إفادة العموم فتعين أنه فزع واحد " (انظر التحرير والتنوير، ج 10، ص 53). 5 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى: 30) قال ابن عاشور بعد أن ذكر القراءتين الواردة في كلمة: (فَبِمَا كَسَبَتْ) قال: " وكلتا القراءتين سواء ". (انظر التحرير والتنوير، ج 12، ص 100).

المبحث الثالث اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن الكريم يكثر المعاني في الآية الواحدة

المبحث الثالث اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن الكريم يكثر المعاني في الآية الواحدة صورة القاعدة: أنه إذا كان للقراءة تفسير يغاير تفسير القراءة الأخرى، وهما في مكان واحد، ولم يمكن اجتماعهما في شيء واحد، بل يتحدَّان من وجه آخر لا يقتضي التناقض، فإن القراءتين بمنزلة آيتين، يؤخذ بهما معاً (¬1). وقد أشار ابن عاشور إلى هذه القاعدة في المقدمة السادسة من تفسيره أثناء حديثه عن القراءات وهذا قوله: "إن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة .. - وذكر عدة أمثلة على ذلك - إلى أن قال: " والظن أن الوحي نزل بالوجهين وأكثر تكثيرا للمعاني إذا جزمنا بأن جميع الوجوه في القراءات المشهورة هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أنه لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مرادا لله تعالى؛ ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئا عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب ونظير التورية والتوجيه في البديع ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني وهو من زيادة ملاءمة بلاغة القرآن ولذلك كان اختلاف القراء في اللفظ الواحد من القرآن قد يكون معه اختلاف المعنى؛ ولم يكن حمل أحد ¬

(¬1) انظر عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل في تفسير القرآن / أحمد أبو الفتح، ص 63.

أقوال العلماء في القاعدة

القراءتين على الأخرى متعينا ولا مرجحا " (¬1). وابن عاشور حين يُقر هذه القاعدة يشعرنا وكأن هناك تناقضا بين هذه القاعدة، وبين إقراره بقاعدة (الأصل توافق القراءات في المعنى)، ولكن بعد التأمل يتضح لنا أن القاعدة الأصل عند ابن عاشور هي توافق القراءات في المعنى، فلا نحتاج فيه إلى التكلف في إظهار معنى مختلف لكل قراءة كما يتكلف في ذلك أحياناً بعض المفسرين، فإن لم يظهر خلاف بين القراءتين فهو الأصل، وإن اتضح اختلاف بين القراءتين في المعنى فإن التعدد في القراءات يكثر المعاني في الآية. أقوال العلماء في القاعدة: إن المفسرين أدركوا أن القراءات القرآنية متواترة كانت أو شاذة تعطي للآيات القرآنية معاني جديدة، وقد تعاملوا مع هذه القراءات وكأنها آيات مستقلة حتى قيل: إن كل قراءة آية مستقلة من حيث دلالتها على المعنى. قال السيوطي في "الإتقان": " إن اختلاف القراءات يُظهر الاختلاف في الأحكام، ولهذا بنى الفقهاء نقض وضوء الملموس وعدمه على اختلاف القراءة في لمستم ولا مستم، وجواز وطء الحائض عند الانقطاع قبل الغسل وعدمه على الاختلاف في يطهرن، وقد حكوا خلافاً غريباً في الآية " اهـ (¬2). ثم ذكر كلاماً طويلاً حول اختلاف القرَّاء وختم بأنه يأخذ بكلا القراءتين وأن القراءتين بمنزلة آيتين. ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 55. (¬2) الإتقان/ السيوطي، ج 2، ص 485.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

وقال الزرقاني: " والخلاصة أن تنوع القراءات يقوم مقام تعدد الآيات وذلك ضرب من ضروب البلاغة يبتدئ من جمال هذا الإيجاز، وينتهي إلى كمال الإعجاز، أضف إلى ذلك ما في تنوع القراءات من البراهين الساطعة والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله، فإن هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضاد، ولا إلى تهافت وتخاذل، بل القرآن كله على تنوع قراءاته يصدق بعضه بعضا ويبين بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير وهدف واحد من سمو الهداية والتعليم" (¬1). وفي هذه القاعدة أيضاً يقول الشنقيطي: "اعلم أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة كان لهما حكم الآيتين، كما هو معروف عند العلماء " (¬2). . الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - قراءة (يعملون): قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ ¬

(¬1) مناهل العرفان / الزرقاني، ج 1، ص 105. (¬2) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 179.

رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (¬1). اختلف القراء في قراءة (يعملون) فمنهم من قرأها بتاء الخطاب، ومنهم من قرأها بياء الغيبة (¬2)، وقد ذكر ذلك ابن عاشور في تفسيره فقال: " قوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأه الجمهور بياء الغيبة والضميرُ للذين أوتوا الكتاب أي: عن عملهم بغير ما علموا فالمراد بما يعملون هذا العملُ ونحوه من المكابرة والعناد والسفه , وهذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلاّ عدم العلم فلذلك كان وعيداً لهم ووعيدُهم يستلزم في المقام الخطابي وَعْداً للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يَغفل عن عمل هؤلاء فيجازي كلاً بما يستحق. وقَرأه ابنُ عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورَوْح عن يعقوب بتاء الخطاب فهو كناية عن وعد للمسلمين على الامتثال لاستقبال الكعبة , ويستلزم وعيداً للكافرين على عكس ما تقتضيه القراءة السابقة؛ وعلى القراءتين فهو تذييل إجمالي لِيأخُذ كلٌّ حظهُ منه " (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (144). (¬2) وهاتان قراءتان متواترتان. انظر التيسير / الداني، ص 77، ومتن الشاطبية / الشاطبي , ص 70 والنشر في القراءات العشر، ج 2، ص 168. (¬3) التحرير والتنوير، ج 2، ص 34.

وممن وافق قوله قول ابن عاشور في الأخذ بكلا القراءتين وأن لكل قراءة معناها كل من ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والألوسي (¬1). وذكر القاسمي كلا القراءتين ولم يذكر معناهما (¬2). ولم يتطرق الطبري للقراءة الثانية وهي القراءة بياء الغيبة (¬3). أما ابن كثير، والشوكاني فلم يذكرا القراءات الواردة فيها أصلاً (¬4). حجة من أخذ بقراءة (تاء الخطاب) ورد الأخرى: وهذا ما فعله الطبري، فلعلها لم تصل إليه وهذا قوله عند هذه الآية: " يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون، في اتباعكم أمرَه، وانتهائكم إلى طاعته، فيما ألزمكم من فرائضه، وإيمانكم به في صَلاتكم نحو بيت المقدس، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطرَ المسجد الحرام، ولا هو ساه عنه، ولكنه جَل ثَناؤه يُحصيه لكم ويدّخره لكم عنده، حتى يجازيَكم به أحسن جزاء، ويثيبكم عليه أفضل ثواب" (¬5). ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 222، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 106، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 166، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 604، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 409. (¬2) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 470. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 31. (¬4) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 120، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 155. (¬5) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 31.

حجة من يرى الأخذ بكلا القراءتين وأن لكل قراءة معناها: قال ابن عطية: " وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «عما تعملون» بتاء على المخاطبة، فإما على إرادة أهل الكتاب أو أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الوجهين، فهو إعلام بأن الله تعالى لا يهمل العباد ولا يغفل عنها، وضمنه الوعيد، وقرأ الباقون بالياء من تحت " (¬1). وكذلك قال الرازي حيث أخذ بكلا القراءتين: " إنا إن جعلناه خطاباً للمسلمين فهو وعد لهم وبشارة أي لا يخفى على جدكم واجتهادهم في قبول الدين، فلا أخل بثوابكم، وإن جعلناه كلاماً مع اليهود فهو وعيد وتهديد لهم " (¬2). القول الراجح: هو الأخذ بكلا القراءتين، كما هو منهج ابن عاشور، وأن لكل قراءة معناها كما بين ذلك جمهور المفسرين، وعلى كلتا القراءتين فهو: إعلام بأن الله تعالى لا يهمل أعمال العباد، ولا يغفل عنها وهو متضمن الوعيد. قال الألوسي: " وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي (تَعْمَلُونَ) بالتاء فهو وعد للمؤمنين، وقيل: على قراءة الخطاب وعدلهم، وعلى قراءة الغيبة وعيد لأهل الكتاب مطلقاً، وقيل: الضمير على القراءتين لجميع الناس فيكون وعداً ووعيداً لفريقين من المؤمنين والكافرين " (¬3). ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 222. (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 106. (¬3) روح المعاني / الألوسي , ج 1 , ص 409.

وقال مكي: " ووجه القراءة بالياء أنه أجراه على لفظ الغيبة والإخبار عن اليهود، الذين يخالفون النبي في القبلة وهم غيب. فالتقدير: ولِّ يا محمد نحو المسجد الحرام، وما الله بغافل عما يعمل من يخالفك من اليهود في القبلة. ووجه القراءة بالتاء أنه مردود على ما قبله، من الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والمعنى: فولوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، وما الله بغافل عما تعملون، أيها المؤمنون من توليكتم نحو المسجد الحرام " (¬1). 2 - قراءة " ننشزها": قال تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2). اختلف القراء في قراءة قوله تعالى "ننشزها " فمنهم من قرأها ننشزها بالزاي، ومنهم من قرأها ننشرها بالراء (¬3) , وبناء على ذلك الاختلاف حصل الاختلاف بين المفسرين في معناها. ولقد أشار ابن عاشور إلى هذه القراءات في تفسيره، وفيها ما يدل على استحضاره لهذه القاعدة وهي أن (التعدد في القراءات بمنزلة التعدد في الآيات)، وإليك قوله: ¬

(¬1) الكشف عن وجوه القراءات السبع / مكي بن أبي طالب، ج 1، ص 268. (¬2) سورة البقرة، الآية (259). (¬3) وهاتان قراءتان متواترتان. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 189، والتيسير / الداني، ص 82, ومتن الشاطبية / الشاطبي، ص 79 , والنشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 2، ص 174.

قال ابن عاشور: "وقرأ جمهور العشرة (نُنْشِرها) بالرّاء مضارع أنْشَر الرباعي , بمعنى الإحياء. وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف: (نُنشِزها) بالزاي مضارع أنشزه إذا رفعه، والنشز الارتفاع، والمراد ارتفاعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها فحصل من القراءتين معنيان لكلمة واحدة " (¬1). وممن ذهب إلى ما ذهب إليه ابن عاشور من المفسرين في أن لكل قراءة معنى ابن عطية، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي ... (¬2). أما الطبري فهو يرى أن معناهما متقاربان، وكذلك الرازي (¬3). وقريب منهما القرطبي، وأبو حيان حيث يريان أن معنى القراءة الثانية متمم للأولى , يقول القرطبي: " فإن القراءة بالراء بمعنى الإحياء، والعظام لا تحيا عن الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض " (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 3، ص 37. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 351، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 454، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 280، وروح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 23 ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 240، ولم يتعرض الشنقيطي لتفسير هذه الآية. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 54، والتفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 33. (¬4) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 3، ص 295، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 305.

حجة القائلين بأن كلا القراءتين معناهما واحد: قال أبو جعفر الطبري: " والقول في ذلك عندي أنّ معنى"الإنشاز" ومعنى"الإنشار" متقاربان، لأن معنى"الإنشاز": التركيبُ والإثبات ورد العظام إلى العظام، ومعنى"الإنشار" إعادة الحياة إلى العظام , وإعادتها لا شك أنه ردُّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئًا يقطعُ العذر ويوجب الحجة، فبأيِّهما قرأ القارئ فمصيب، لانقياد معنييهما، ولا حجة توجب لإحداهما القضاءَ بالصواب على الأخرى" (¬1). وفي ذلك يقول مكي: " وحجة من قرأ بالزاي أنه حمله على معنى الرفع من " النشز" وهو المرتفع من الأرض، أي: وانظر إلى العظام كيف نرفع بعضها على بعض في التركيب للإحياء لأن " النشز" الارتفاع. يقال لما ارتفع من الأرض نشز، ومنه المرأة النشوز، وهي المرتفعة عن موافقة زوجها. ومنه قوله: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا} (¬2) أي ارتفعوا وانضموا. وأيضاً فإن القراءة بالزاي بمعنى الإحياء، والعظام لا تحيا على الانفراد، حتى يضم بعضها إلى بعض. فالزاي أولى بذلك المعنى، إذ هي بمعنى الانضمام دون الإحياء. فالموصوف بالإحياء هو الرجل، دون العظام على انفرادها، لا يقال هذا عظم حي. فإنما المعنى: وانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء. فأما ¬

(¬1) جامع البيان/ الطبري، ج 3، ص 54. (¬2) سورة المجادلة، الآية (11).

قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (¬1) فإنما وصفت العظام بالإحياء على إرادة صاحبها، لأن إحياء العظام على الانفراد، لا تقوم منه حياة إنسان، فإنما المراد حياة صاحب العظام، والعظام إنما تحيا بحياة صاحبها " (¬2). وكذلك الرازي فبعد أن ذكر القراءات الواردة فيها قال: "والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركَّب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام، ثم بسط اللحم عليها، ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها، ورفع بعضه إلى جنب البعض، فيكون كل القراءات داخلاً في ذلك " (¬3). حجة القائلين بأن لكل قراءة معناها: قال ابن زنجلة: "قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ننشرها بالراء, أي: كيف نحييها وحجتهم قوله قبلها: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} (¬4)، وقرأ الباقون كيف ننشزها بالزاي أي نرفعها وحجتهم قوله وانظر إلى العظام كيف ننشزها , وذلك أن العظام إنما توصف بتأليفها وجمع بعضها إلى بعض , إذ كانت العظام نفسها لا توصف بالحياة لا يقال قد حي العظم , وإنما يوصف بالإحياء صاحبها وحجة أخرى قوله ثم نكسوها لحما دل على أنها قبل أن ¬

(¬1) سورة يس، الآية (78 - 79). (¬2) الكشف عن وجوه القراءات السبع / مكي بن أبي طالب، ج 1، ص 310. (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 33. (¬4) سورة البقرة، الآية (259).

يكسوها اللحم غير أحياء؛ لأن العظم لا يكون حيا وليس عليه لحم فلما قال ثم نكسوها لحما علم بذلك أنه لم يحيها قبل أن يكسوها اللحم " (¬1). وكذلك ذكر ابن عطية ما يُقرُّ بأن لكل قراءة معناها ومن قوله: " وقراءة عاصم: «نَنشرها» بفتح النون الأولى يحتمل أن تكون لغة في الإحياء، يقال: نشرت الميت وأنشرته فيجيء نشر الميت ونشرته، كما يقال حسرت الدابة وحسرتها، وغاض الماء وغضته، ورجع زيد ورجعته. ويحتمل أن يراد بها ضد الطيّ، كأن الموت طيّ للعظام والأعضاء، وكأن الإحياء وجمع بعضها إلى بعض نشر. وأما من قرأ: «ننشزها» بالزاي بمعناه: نرفعها، والنشز المرتفع من الأرض " (¬2). وقال ابن منظور: " وأَنْشَزَ الشيءَ رفعه عن مكانه، وإِنْشازُ عظام الميت رَفْعُها إِلى مواضعها، وتركيبُ بعضها على بعض، وفي التنزيل العزيز وانْظُرْ إِلى العظام كيف نُنْشِزُها ثم نَكْسُوها لحماً أَي نرفع بعضها على بعض، ومن قرأ كيف ننشرها بضم النون فإنشارها إحياؤها " (¬3). ومن هنا يظهر أنه وإن كان لكل قراءة معنى إلا أن أحدهما متممة أو مترتبة على الأخرى. ¬

(¬1) حجة القراءات / ابن زنجلة، ج 1، ص 144. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 350. (¬3) لسان العرب / ابن منظور، ج 14، ص 143، مادة: نشز.

القول الراجح ليس هناك خلاف أصلاً بين المفسرين , فقول ابن عاشور وغيره من المفسرين بأن لكل آية معنى ذلك بناءً على أن لكل قراءة معناها الذي يميزها عن القراءة الأخرى ابتداءً. ومن قال بأن معناهما متقارب , فذلك لأن كلاً منها متممة للأخرى، والأصل توافق القراءات في المعنى، فننشرها بمعنى نحييها، وننشزها بمعنى نكسوها لحما، والعظام لا تحيا عن الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض. 3 - قراءة " قد كذبوا": قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (¬1). اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: " قَدْ كُذِبُوا "، وهذا الخلاف ناتج عن تعدد القراءات فيها: فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (كُذِّبُوا) مشددة الذال. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (كُذِبُوا) خفيفة , وكلهم ضم الكاف (¬2). وعليه اختلف المفسرون في معناها، وذكر ابن عاشور في تفسيره موقف ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية (110). (¬2) وهاتان قراءتان متواترتان. انظر السبعة في القراءات / ابن مجاهد، ص 351، والتيسير / الداني، ص 130، والنشر/ ابن الجزري، ج 2، ص 222.

عائشة من هذه القراءة واختيارها للقراءة بالتشديد ثم علّق عليها بقوله: " وهذا الكلام من عائشة رضي الله عنها رأي لها في التفسير وإنكارها أن تكون (كذبوا) مخففة إنكار يستند بما يبدو من عود الضمائر إلى أقرب مذكور وهو الرسل، وذلك ليس بمتعيّن، ولم تكن عائشة قد بلغتْها رواية (كذبوا) بالتخفيف " (¬1). وابن عاشور كما مرّ معنا يأخذ بكل القراءات المتواترة ولا يرجح أحدها على الأخرى وإنما إذا اختلفت عنده المعاني في القراءات فهو يرى أن ذلك مما تميز به كتاب الله وأن التعدد في القراءات بمنزلة التعدد في الآيات. أما موقف المفسرين من هاتين القراءتين فقد رجّح الطبري القراءة بتشديد الذال ولم يستجز غيرها (¬2). وذكر كلٌ من ابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير والشوكاني، والألوسي تلك القراءات ومعناها ولم يرجَّحوا (¬3). ¬

(¬1) التحرير والتنوير/ ابن عاشور ج 7، ص 70 , والقول بأن عائشة رضي الله عنها لم تبلغها رواية " كذبوا " بالنخفيف، فيه نظر , بدليل ما رواه السيوطي في الدر المنثور بسنده عن عائشة رضي الله عنها قال: أخرج ابن مردويه من طريق عمرة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: وظنوا أنهم قد كذبوا , مخففة. (الدر المنثور / السيوطي، ج 4 , ص 77). (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 03. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 287 - 288، والتفسير الكبير / الرازي، ج 6 ص 521، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 282، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 347، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 98، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 61، وروح المعاني / الألوسي، ج 7، ص 67، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 241.

حجة أصحاب القول الأول: وهم الذين يرون القراءة بـ (كُذِّبُوا) بالتشديد: وهذا قول عائشة، وكذلك كانت تقرؤها رضي الله عنها، روى البخاري بسنده عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} قال: قلت: أكُذِبوا أم كُذِّبوا؟ فقالت عائشة: كُذِّبوا. فقلت: فقد استيقنوا أن قومهم قد كَذَّبوهم فما هو بالظن؟ قالت: أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك. فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} ممّن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك " (¬1). وهذه القراءة بالتشديد هي التي رجحها الطبري ولم يستجز غيرها (¬2). وروى ابن أبي حاتم بسنده قال: " إن محمد بن كعب القرظي يقول هذه الآية: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} فقال القاسم: أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: {حَتَّى إِذَا ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب حتى إذا استيأس الرسل، ج 4، ص 1731، ح- 4418. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 03

اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} تقول: كذبتهم أتباعهم " (¬1). حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين يرون القراءة بـ (كُذِبُوا) بالتخفيف: قال الطبري: "وفي تأويلها وجهان: الوجه الأول: رواه ابن عباس - رضي الله عنه - قال: استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا، وظنّ قومهم أن الرسل كذبوهم فيما وعدوا به. الوجه الثاني: وهو من رواية ابن عباس - رضي الله عنه - قال: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنت الرسل أنهم قد كذبوا فيما وعدوا من النصر، وهذا القول أيضا من رواية ابن عباس حيث قال: كانوا بشراً ضعفوا ويئسوا" (¬2). وهذا التأويل _ أي الثاني_ ردّه الطبري حيث قال: " وهذا تأويلٌ وقولٌ، غيرُه من التأويل أولى عندي بالصواب، وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء، والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعدِ الله إياهم ويشكوا في حقيقة خبره، مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسَل إليهم فيعذروا في ذلك، فإن المرسَلَ إليهم لأوْلى في ذلك منهم بالعذر. وذلك قول إن قاله قائلٌ لا يخفى أمره، وقد ذُكِر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرًا عن ابن عباس لعائشة، فأنكرته أشد النُكرة فيما ذكر لنا " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 5، ص 441. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 100. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 100.

القول الراجح: هو أن نأخذ بكلا القراءتين , وذلك لأنهما متواترتان , وكل قراءة تفيد معنى جديداً، وهذا ما ذهب إليه ابن عاشور في تفسيره، ولكن لم يتبين موقف ابن عاشور من التأويلات الواردة في قراءة التخفيف , والذي يظهر لي أنه يرى أنها كلها محتملة وهو الذي يظهر من الآية. قال القاسمي: " وقد استشكلوا على ابن عباس هذا القول وتأولوا لكلامه وجوهاً " (¬1). قال الزمخشري: " أراد بالظن ما يخطر بالبال، ويهجس في القلب، من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأما الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر، فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم " (¬2). وقال الحكيم الترمذي: " وجهه: أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر، لا من تهمة بوعد الله، بل لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثاً ينقض ذلك الشرط، فكان الأمر إذا طال، واشتد البلاء عليهم، دخلهم الظن من هذه الجهة " (¬3). وكذلك وضَّح معنى قراءة التخفيف الشوكاني، بعد أن ذكر أنها من قراءة ابن عباس وابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو جعفر بن القعقاع ¬

(¬1) محاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 241. (¬2) الكشاف / الزمخشري، ج 3، ص 330. (¬3) انظر إملاء ما من به الرحمن / العكبري، ص 366.

وغيرهم حيث قال: " كذبوا بالتخفيف أي: ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا، وقيل: المعنى ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من نصرهم، وقيل: المعنى وظنّ الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون عليهم، أو كذبهم رجاؤهم للنصر " (¬1). 4 - قراءة "لتزول": قال تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (¬2). اختلف القراء في قراءة قوله تعالى (لتزول): قرأ الكسائي بفتح اللام الأولى ورفع الثانية، والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية (¬3) , وبالتالي اختلف المفسرون في معناها (¬4) , وقد ساق ابن عاشور هذه القراءات واختلاف المفسرين في معناها فقال: " وقرأ الجمهور (لِتزول) بكسر اللام وبنصب الفعل المضارع بعدها فتكون (إن) نافية ولام (لتزول) لام الجحود، أي وما كان مكرهم زائلة منه الجبال، وهو استخفاف بهم، أي ليس مكرهم بمتجاوز مكر ¬

(¬1) فتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 61. (¬2) سورة إبراهيم، الآية 46. (¬3) وهاتان قراءتان متواترتان، انظر التيسير في القراءات / الداني، ص 135، ومتن الشاطبية / الشاطبي، ص 119 , والنشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 2، ص 225، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 166. (¬4) سورة إبراهيم، الآية (46).

أمثالهم، وما هو بالذي تزول منه الجبال. وفي هذا تعريض بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين الذين يريد المشركون المكر بهم لا يزعزعهم مكرهم لأنهم كالجبال الرواسي. وقرأ الكسائي وحده بفتح اللام الأولى من (لَتزولُ) ورفع اللام الثانية على أن تكون (إنْ) مخففة من (إنْ) المؤكدة وقد أكمل إعمالها، واللام فارقة بينها وبين النافية، فيكون الكلام إثباتاً لزوال الجبال من مكرهم، أي هو مكر عظيم لَتزول منه الجبال لو كان لها أن تزول، أي جديرة، فهو مستعمل في معنى الجدارة والتأهل للزوال لو كانت زائلة. وهذا من المبالغة في حصول أمر شنيع أو شديد في نوعه على نحو قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} (¬1) " (¬2). ومما تقدم يتبين لنا استحضار ابن عاشور لهذه القاعدة حيث ذكر كل قراءة مبيناً معناها، ولم يرجح قراءة على أخرى وذلك بناء على منهجه في القراءات من أن القراءات حق كلها، إضافة إلى أن اختلاف القراءات يكثر المعاني في الآية، وبناء عليه فهو يأخذ بكل القراءات. وممن يرى ذلك من المفسرين الرازي، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي، (¬3). ¬

(¬1) سورة مريم، الآية (90). (¬2) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 7، ص 250. (¬3) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 110، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 396، تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 231، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 116، وروح المعاني / الألوسي، ج 7، ص 237، ومحاسن التأويل/ القاسمي، ج 6، ص 333.

في حين رد الطبري قراء الفتح معللا ذلك بأنها لو زالت على معنى تلك القراءة لم تكن ثابتة، في حين احتمل ابن عطية أن تكون القراءة بكسر اللام بمعنى تعظيم مكرهم فتكون القراءتين بمعنى واحد، ووافقه أبو حيان على ذلك بقوله: " وعلى هذا التخريج تتفق معاني القراءات وتتقارب " (¬1). حجة الآخذين بكلا القراءتين، وأن لكل قراءة معناها: قال ابن زنجلة: " قرأ الكسائي وإن كان مكرهم لَتزولُ بفتح اللام الأولى وضم الثانية اللام لام التوكيد , وتزول رفع بالمضارعة , كما تقول: إن زيدا ليقول , وإن في قوله وإن كان مكرهم مخففة من الثقيلة أي وإن مكر هؤلاء لو بلغ مكر ذلك يعني نمرود لم ينتفعوا به وحجته قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وابن مسعود وإن كاد مكرهم لتزول بالدال وهذا دليل على تعظيم مكرهم، قال الزجاج: وإن كان مكرهم لتزول معناه معنى حسن المعنى وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إزالة الجبال فإن الله جل وعز ينصر دينه ومكرهم عنده لا يخفى وقرأ الباقون وإن كان مكرهم لِتزولَ بكسر اللام الأولى وفتح اللام الأخيرة بمعنى ما واللام لام الجحود , والمعنى وما كان مكرهم لتزول منه الجبال أي ما كان مكرهم ليزول به أمر النبي وأمر دين الإسلام وثبوته كثبوت الجبال ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 291، والمحرر الوجيز / ابن عطية، 3، 346، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 426. .

الراسيات؛ لأن الله جل وعز وعد نبيه صلى الله عليه إظهار دينه على الأديان فقال ليظهره على الدين كله ودليل هذا قوله بعدها (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) أي: لا يخلفهم ما وعدهم من نصره وإظهار نبوتهم وكلمتهم , وحجتهم ما روي عن الحسن أنه قال: كان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال " (¬1). حجة أصحاب القراءة الأولى في اختيارهم لها ولمعناها: حجتهم في ذلك أن قراءة أبي بن كعب تؤيدها. قال مكي: " حجة من فتح اللام الأولى، وضم الثانية، أنه جعل "إن" في قوله (وإن كان) مخففة كن الثقيلة، وجعل اللام الأولى لام توكيد، دخلت لتوكيد الخبر، كما دخلت "إن" لتوكيد الجملة، والفعل مع لام التوكيد مرفوع على أصله، إذ لا ناصب معه ولا جازم، والهاء مضمرة مع "إن"، تقديره: وإنه كان مكرهم لتزول منه الجبال والتقدير مثل الجبال في القوة والثبات. فمعنى هذه القراءة أن الله جل ذكره عظّم مكرهم كما قال: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} (¬2)، وقال: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (¬3)، وفي مصحف أبي ما يدل على هذه القراءة، ، وروي عن عمر وعلي وابن مسعود أنهم قرؤوا: " وإن كاد مكرهم لتزول منه ¬

(¬1) حجة القراءات / ابن زنجلة، ج 1، ص 379. (¬2) سورة نوح، الآية (22). (¬3) سورة مريم، الآية (90 - 91).

الجبال تكاد" فهذا دليل على تعظيم مكرهم، لأن "كاد" في كلام العرب تكون لمقاربة الفعل، وربما وقعت لوجوبه " (¬1). وهذه قراءة ضعيفة (¬2). حجة أصحاب القراءة الثانية، وهي القراءة بكسر اللام الأولى وفتح الثانية فمعناها وما كان مكرهم لتزول منه الجبال (¬3) قال مكي: " وحجة من كسر اللام الأولى وفتح الثانية أنه جعل "إن" بمعنى "ما"، وجعل اللام الأولى لام نفي، لوقوعها بعد نفي، ونصب الفعل بها، والتقدير: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال " (¬4). وقال الرازي: " وأما القراءة الثانية: فالمعنى: أن لفظ «إن» في قوله؛ {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} بمعنى «ما» واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد ومن سبيلها نصب الفعل المستقبل. والنحويون يسمونها لام الجحد ومثله قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} (¬5) و {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬6) والجبال ههنا مثل لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمر دين الإسلام وإعلامه ¬

(¬1) الكشف عن وجوه القراءات السبع / مكي، ج 2، ص 27. (¬2) انظر القراءات الشاذة / ابن خالويه، ص 69. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 13، ص 291. (¬4) الكشف عن وجوه القراءات / مكي، ج 2، ص 28. (¬5) سورة آل عمران، الآية (179). (¬6) سورة آل عمران، الآية (179).

ودلالته على معنى أن ثبوتها كثبوت الجبال الراسية لأن الله تعالى وعد نبيه إظهار دينه على كل الأديان. ويدل على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} (¬1). أي قد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم. والمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ودلائل شريعته، وقرأ علي وعمرو: (إِن كَانَ مَكْرِهِمْ) " (¬2). وهذه القراءة رجحها الطبري بقوله: " والصواب من القراءة عندنا، قراءة من قرأه (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية، بمعنى: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وإنما قلنا: ذلك هو الصواب، لأن اللام الأولى إذا فُتحت، فمعنى الكلام: وقد كان مكرهم تزول منه الجبال، ولو كانت زالت لم تكن ثابتة، وفي ثبوتها على حالتها ما يبين عن أنها لم تزُل، وأخرى إجماع الحجة من القرّاء على ذلك، وفي ذلك كفاية عن الاستشهاد على صحتها وفساد غيرها بغيره (¬3). القول الراجح: هو الأخذ بكلا القراءتين كما فعل ابن عاشور وغيره من المفسرين فهما ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية (47). (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 110. (¬3) جامع البيان / الطبري , ج 13 , ص 291.

قراءتان متواترتان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكل قراءة معناها، وأما ما كان من موقف بعضهم في الأخذ بقراءة (لَتزولُ) أي فتح اللام الأولى وضم الثانية مستدلين على ذلك بقراءة ابن مسعود فإن استدلالهم هذا غير صحيح لأن هذه القراءة شاذة كما تقدم، وقد ردّها أبو حيان فقال: " ما روي عن ابن مسعود من قراءة بالنفي يعارض ما تقدم من القراءات، لأن فيها تعظيم مكرهم وفي هذا تحقيره " (¬1). أما ما كان من موقف الطبري من اختيار قراءة الكسر ورد غيرها فإن ذلك عرفناه من خلال مابيناه من حال الطبري مع تلك القراءات، أما التعليل الذي ذهب إليه الطبري في رد هذه القراءة غير سديد. قال الرازي: " وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه، بل التعظيم والتهويل وهو كقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} " (¬2). 5 - قراءة "المنشئات ": قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (¬3) ... . اختلف القراء في قراءة المنشئات، فمنهم من قرأها بفتح الشين، ومنهم من قرأ بكسرها (¬4). وذكر ذلك ابن عاشور في تفسيره فقال: " وقرأ الجمهور (المنشئات) بفتح ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 426. (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 110. (¬3) سورة الرحمن، الآية (24). (¬4) وهاتان قراءتان متواترتان. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 620، والتيسير / الداني، ص 206, ومتن الشاطبية / الشاطبي , ص 155.

الشين، فهو اسم مفعول، إذا أُوجد وصُنع، أي التي أنشأها الناس بإلهام من الله فحصل من الكلام مِنَّتان: مِنة تسخير السفن للسير في البحر، ومنّة إلهام الناس لإِنشائها. وقرأه حمزة وأبو بكر عن عاصم بكسر الشين فهو اسم فاعل. فيجوز أن يكون المنشئات مشتقاً من أنشأ السير إذا أسرع، أي التي يسير بها الناس سيراً سريعاً. قال مجاهد: المنشئات التي رفعت قلوعها، والآية تحتمل المعنيين على القراءتين باستعمال الاشتقاق في معنيي المشتق منه ويكون في ذلك تذكيراً بنعمة إلهام الناس إلى اختراع الشراع لإِسراع سير السفن وهي مما اخترع بعد صنع سفينة نوح " (¬1). وابن عاشور في هذا المثال نجده مستحضراً لقاعدة (أن اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن يكثر المعاني في الآية الواحدة) وإلى ذلك ذهب معظم المفسرين (¬2). ويرى الطبري أن القراءتين متقاربتان في المعنى (¬3). ¬

(¬1) التحرير والتنوير/ ابن عاشور، ج 13، ص 251. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 229، والجامع لأحكام القرآن /القرطبي، ج 17، ص 158.، البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 191، ، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 319، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 134، وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 107، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 563. . . (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 115.

حجة القائلين بأن لكل قراءة معنى مختلف: قال مكي: " وحجة من كسر أنه بناه على " أنشأت"، فهي " منشئة "، فنسب الفعل إليها على الاتساع، والمفعول محذوف، والتقدير: المنشئات السير، فأضاف إليها السير اتساعاً. وحجة من فتح الشين أنه بناه على فعل رباعي، وجعله اسم مفعول، فكأنه بناه على"أنشئت"، فهي منشأة بمعنى "أجريت"فهي "مجراه "، أي فعل بها الإنشاء ". ورجح مكي هذا المعنى بقوله: وهذا الذي يعطيه المعنى، لأنها لم تفعل شيئاً، إنما غيرها أنشأها، والفتح أحبُّ إلي لأن الجماعة عليه " (¬1). وكذلك ذكر ابن عطية أن لكل قراءة معناها فقال: " وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «المنشآت» بفتح الشين أي أنشأها الله والناس. وقرأ حمزة وأبو بكر بخلاف: «المنشِئات» بكسر الشين، أي تنشئ هي السير إقبالاً وإدباراً " (¬2). حجة القائلين بأن القراءتين متوافقتان في المعنى: قال الطبري: " اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة (المُنْشِئاتُ) بكسر الشين، بمعنى: الظاهرات السير اللاتي يقبلن ويدبرن. وقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة والمدينة وبعض الكوفيين (المُنْشَئاتُ)، بفتح الشين، بمعنى المرفوعات القلاع اللاتي تقبل بهنّ وتدبر. ¬

(¬1) الكشف عن وجوه القراءات / مكي بن أبي طالب، ج 2، ص 301. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 229.

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى متقاربتاه، فبأيّتهما قرأ القارئ فمصيب " (¬1). وقال ابن زنجلة: " قرأ حمزة وأبو بكر: وله الجوار المنشئات بكسر الشين أي: المبتدئات في السير , قال الفراء: المنشئات اللاتي أقبلن وأدبرن ,وقال بعض أهل النحو: المعنى المنشئات السير فحذف المفعول للعمل به ونسب الفعل إليها على الاتساع , كما يقال: مات زيد ومرض عمرو ونحو ذلك , مما يضاف الفعل إليه إذا وجد فيه وهو في الحقيقة بهبوب الريح ودفع الرجال. وقرأ الباقون: المنشآت بفتح الشين , قال أبو عبيدة: المنشآت المجريات المرفوعات الشرع وهي مفعولة لأنها أنشئت وأجريت ولم تفعل ذلك أنفسها أي فعل بها الإنشاء فهذا بين لا إشكال فيه" (¬2). القول الراجح: فيما يبدو لي والله أعلم أن القراءتين تؤولان إلى معنى واحد، وهذا لا يعد مأخذاً على ابن عاشور , لأن كل قراءة ابتداء تفيد معنى جديدا، ولذلك قال الطبري بعد أن ذكر كلا القراءتين: " والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى متقاربتاه، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب " (¬3). قال أبو علي الفارسي: " وجه من قال: (المنشَئات) أنها أُنشئت وأجريت، ولم ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 27، ص 155. (¬2) حجة القراءات / ابن زنجلة، ج 1، ص 692. (¬3) تفسير الطبري، ج 27، ص 115.

تفعل ذلك أنفسها، أي فعل بها الإنشاء، وهذا بين لا إشكال فيه. ومن قال (المنشِئات) نسب الفعل إليها على الاتساع، كما يقال مات زيدٌ، ومرض عمرو، وغير ذلك مما يضاف إليه إذا وجد فيه، وهو في الحقيقة لغيره، فكان المعنى: المنشِئات السير، فحذف المفعول للعلم به، وإضافة السير إليها أيضاً اتساع، لأن سيرها إنما يكون في الحقيقة لهبوب الريح، أو رفع الصواري " (¬1). ¬

(¬1) الحجة للقراء السبعة / الفارسي، ج 4، ص 16. ونظائر تلك الأمثلة كثيرة في تفسيره منها: 1 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 257) حيث ذكر ابن عاشور القراءات الواردة في كلمة بشراً ثم بين أنه حصل بمجموع تلك القراءات معاني متعددة. (انظر التحرير والتنوير، ج 5، ص 180). 2 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 22). ومن قوله: " اختلاف القراءات يكثر المعاني في الآية الواحدة، نحو " حتى يطَّهرن" بفتح الطاء المشددة والهاء المشددة، وبسكون الطاء، وضم الهاء مخففة " (التحرير والتنوير، ج 1، ص 55). 3 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (الزخرف: 57).وفيه قوله: " وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= عن عاصم وأبو جعفر وخلف (يصدون) بضم الصاد من الصدود إما بمعنى الإعراض والمُعرَض عنه محذوف لظهوره من المقام، أي يعرضون عن القرآن لأنهم أوهموا بجَدَلِهِمْ أن في القرآن تناقضاً، وإما على أن الضم لغة في مضارع صدَّ بمعنى ضجّ مثل لغة كسر الصاد وهو قول الفراء والكسائي. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب بكسر الصاد وهو الصد بمعنى الضجيج والصخَب. والمعنى: إذا قريش قومك يصخَبون ويضجّون " (التحرير والتنوير، ج 12، ص 283) ... .

المبحث الرابع تأتي القراءة في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية

المبحث الرابع تأتي القراءة في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية صورة القاعدة: تعدُّ القراءات مصدراً من مصادر معاني القرآن الكريم؛ لأن القراءات تعطي للفظة القرآنية معاني جديدة؛ بل إذا أشكلت عليهم آية واختلفت أقوالهم فيها كان للقراءات أثر كبير في ترجيح أحد المعاني على الأخرى (¬1). وقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة وكان للقراءات القرآنية أثر في ترجيحاته حيث يقول في المقدمة السادسة من تفسيره: " أرى أن للقراءات حالتين: إحداهما لا تعلق لها بالتفسير بحال، والثانية لها تعلق به من جهات متفاوتة .. إلى أن يقول: على المفسر أن يبين اختلاف القراءات المتواترة لأن في اختلافها توفيراً لمعاني الآية غالباً فيقوم تعدد القراءات مقام تعدد كلمات القرآن " (¬2). أقوال العلماء في القاعدة: قال ابن عطية: " وقصدي إيراد جميع القراءات مستعملها وشاذها، واعتمدت تبيين المعاني وجميع محتملات الألفاظ " (¬3). كذلك نرى الزمخشري يفضل قراءة على أخرى حتى ولو لم تكن تلك ¬

(¬1) انظر علم القراءت نشأته - أطوراه / نبيل آل إسماعيل، ص 329. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 51 - 56). (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 63.

أمثلة تطبيقية على القاعدة

القراءة التي يفضلها من القراءات العشر المتواترة، يفضلها لأنها تحفظ على الأسلوب القرآني جمالا وقوة في المعنى حسب نظره، أو لزيادة في معنى أحدها ومن ذلك قوله عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1): " ومن قرأ يدافع فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ" (¬2) , وهكذا فضل القراءة التي أضافت معنى زائداً بليغاً مع أن القراءتين " يدفع" و"يدافع" كلاهما متواترتان. أمثلة تطبيقية على القاعدة: 1 - قراءة " حطة ": قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (¬3). اختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} وذكر هذه الأقوال ابن عاشور في تفسيره فقال: "وقيل: المراد من الحطة سؤال غفران الذنوب أي حط عنا ذنوبنا أي اسألوا الله غفران ذنوبكم إن دخلتم القرية. ¬

(¬1) سورة الحج، الآية (38). (¬2) الكشاف / الزمخشري، ج 4، ص 198. (¬3) سورة البقرة، الآية (58).

وقيل: من الحط بمعنى حط الرحال أي إقامة أي ادخلوا قائلين إنكم ناوون الإقامة بها إذ الحرب ودخول ديار العدو يكون فتحاً ويكون صلحاً ويكون للغنيمة ثم الإياب " (¬1). واستبعد ابن عاشور هذين القولين ورجّح قولاً آخر بناءً على القراءة، فقال: " وهذان التأويلان بعيدان، ولأن القراءة بالرفع وهي المشهورة تنافي القول بأنها طلب المغفرة، لأن المصدر المراد به الدعاء لا يرتفع على معنى الإخبار نحو سَقياً ورعياً، وإنما يرتفع إذا قصد به المدح أو التعجب لقربهما من الخبر دون الدعاء , ولا يستعمل الخبر في الدعاء إلا بصيغة الفعل نحو وي. و(حطة) بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر نحو سمعٌ وطاعة وصبرٌ جميل " (¬2). وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه القرطبي، والألوسي (¬3) ورجّح الرازي وأبو حيان والقاسمي أن المراد من الحطة طلب المغفرة (¬4) وساق كل من ابن عطية وابن كثير، والشوكاني الأقوال ولم يرجحوا , وزاد ابن كثير فقال: " وحاصل الأمر: أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها" (¬5). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 515. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 515. (¬3) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 416، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 266. (¬4) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 523، والبحر المحيط/ أبو حيان، ج 1، ص 384، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 344. (¬5) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 150، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 419، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 89. .

حجة من قال: إن المراد بـ"حطة " طلب المغفرة: قال الرازي: " الحاصل أنه أمر القوم بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح والاستغفار باللسان، وهذا الوجه أحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق " (¬1) وقال الزمخشري: " الأصل النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رُفعت لتعطي معنى الثبات " (¬2). حجة من قال: إن المراد بـ " حطة" الإقامة: وهو من قول أبي مسلم الأصفهاني قال: أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها (¬3). حجة من قال: إن المراد بـ"حطة" أمرنا حطة: قال الطبري: " والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب، وأشبه بظاهر الكتاب: أن يكون رفع"حطة" بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة، وهو دخولنا الباب سجدا حطة، فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنزيل، وهو قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}، كما قال جل ثناؤه: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 523. (¬2) الكشاف / الزمخشري، ج 1، ص 272. (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 523.

عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} (¬1) يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم, فكذلك عندي تأويل قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ}، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا (¬2). قال القرطبي: " و {حِطَّةٌ} بالرفع قراءة الجمهور؛ على إضمار مبتدأ أي مسألتنا حطة " (¬3). القول الراجح: هو ما رجحه ابن عاشور والطبري، وذلك بناءً على القاعدة، وأما من فسرها بمعنى احطط عنا ذنوبنا تعارضه القراءة المتواترة قراءة الرفع. قال القرطبي: " والأئمة من القراء على الرفع، وهو أولى في اللغة" (¬4). وأما من فسرها بمعنى الإقامة أيضاً لا يستقيم. قال الرازي: " وزيّف القاضي ذلك بأن قال: " لو كان المراد ذلك لم يكن غفران خطاياهم متعلقاً به ولكن قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} يدل على أن غفران الخطايا كان لأجل قولهم حطة" (¬5). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية (164). (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 346 (¬3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 416. (¬4) الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 1، ص 416. (¬5) التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 523.

وكذلك ردّ الألوسي قول أبي مسلم بقوله: " ومن البعيد قول أبي مسلم: إن المعنى أمرنا -حطة- أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها لعدم ظهور تعلق الغفران به وترتب التبديل عليه " (¬1). 2 - قراءة " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم": قال تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2). اختلف المفسرون في هذه الآية {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} إلى أي فريق ينصرف معناها، حتى قال عنها القرطبي: إنها أشكل آية في هذه السورة (¬3)، وذكر ابن عطية وجوها ثمانية في تأويلها ترجع إلى احتمالين، وقد ذكرها ابن عاشور في تفسيره فقال: الاحتمال الأول: أنها تكملة لمحاورة الطائفةِ من أهل الكتاب بعضهم بعضاً، وأن جملة {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} معترضة في أثناء ذلك الحِوار، وعلى هذا الاحتمال تأتي وجوه نقتصر منها على وجهين واضحين: أحدهما: أنهم أرادوا تعليل قولهم: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} ¬

(¬1) روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 266. (¬2) سورة آل عمران، الآية (72). (¬3) انظر الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 4، ص 120.

على أن سياق الكلام يقتضي إرادتهم استحالة نسخ شريعة التوراة، واستحالة بعثة رسول بعد موسى، وأنه يُقدّر لام تعليل محذوف قبل (أنْ) المصدرية وهو حذف شائع مثلُه. ثم إما أن يقدر حرف نفي بعد (أنْ) يدل عليه هذا السياق ويَقتضيه لفظ (أحد) المرادِ منه شمول كلّ أحد؛ لأنّ ذلك اللفظَ لا يستعمل مراداً منه الشمول إلاّ في سياق النفي، ومَا في معنيّ النفي مثلِ استفهام الإنكار، فأما إذا استعمل (أحَد) في الكلام الموجَب فإنه يكون بمعنى الوصف بالوحْدة، وليس ذلك بمناسب في هذه الآية. فتقدير الكلام لأن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم , وحذفُ حرف النفي بعد لام التعليل، ظاهرةً ومقدّرةً، كثيرٌ في الكلام، ومنه قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (¬1)، أي لئلاّ تضلوا. والمعنى: أنّ قصدهم من هذا الكلام تثبيتُ أنفسهم على ملازمة دين اليهودية، لأن اليهود لا يجوِّزون نسخَ أحكام الله، ويتوهمون أنّ النسخ يقتضي البَدَاء. الوجه الثاني: أنهم أرادوا إنكار أن يوتَى أحد النبوة كما أوتيها أنبياءُ بني إسرائيل فيكون الكلام استفهاماً إنكارياً حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة السياق؛ ويؤيده قراءةُ ابن كثير قوله: (أأن يؤتى أحد) بهمزتين. الاحتمال الثاني: أن تكون الجملة مما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقوله لهم بقيةً لقوله: «إنّ الهُدى هُدى الله». ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (176).

والكلام على هذا ردّ على قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} (¬1)، وقولهم {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (¬2) على طريقة اللفّ والنشر المعكوس (¬3). ورجّح ابن عاشور أن المراد بقوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} أنها من قول أهل الكتاب واستدل على ذلك بقراءة ابن كثير، وهذا قوله: ": أنهم أرادوا إنكار أن يوتَى أحد النبوة كما أوتيها أنبياءُ بني إسرائيل فيكون الكلام استفهاماً إنكارياً حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة السياق؛ ويؤيده قراءةُ ابن كثير قوله: (أأن يؤتى أحد) بهمزتين (¬4). وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين: الطبري، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي (¬5). واحتمل ابن عطية، والرازي والقاسمي كلا الوجهين ولم يرجحوا (¬6). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية (72). (¬2) سورة آل عمران، الآية (73). (¬3) التحرير والتنوير، ج 3، ص 281 - 282. (¬4) التحرير والتنوير، ج 3، ص 281 - 282. (¬5) انظر جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 368، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 4، ص 120، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 518، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 3، ص 88، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 351، وروح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 193. (¬6) انظر المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 1، ص 455، والتفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 261، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، 382.

حجة من قال: إن الجملة من قول أهل الكتاب: حجتهم في ذلك قراءة ابن كثير، وهي قراءة متواترة. قال أبو حيان: " ويؤيد هذا المعنى قراءة ابن كثير (أن يؤتى) على الاستفهام الذي معناه الإنكار عليهم والتقرير والتوبيخ، والاستفهام الذي معناه الإنكار هو مثبت من حيث المعنى أي: المخافة أن أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قلتم ذلك وفعلتموه ويكون (أو يحاجوكم معطوفا على (يؤتى) (¬1). كما استدلوا على ذلك بسياق الآية حيث يدل عليه. قال الطبري فيما يرويه بسنده عن ابن جريج قوله: "إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم"، يقول: هذا الأمر الذي أنتم عليه: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قال: قال بعضهم لبعض: لا تخبروهم بما بيَّن الله لكم في كتابه، ليحاجُّوكم قال: ليخاصموكم به عند ربكم "قل إن الهدى هدى الله" معترض به، وسائر الكلام متَّسِقٌ على سياقٍ واحد. فيكون تأويله حينئذ: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم بمعنى: لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم "أو يحاجوكم عند ربكم"، بمعنى: أو أن يحاجوكم عند ربكم أحد بإيمانكم، لأنكم أكرمُ على الله منهم بما فضلكم به عليهم. فيكون الكلام كله خبرًا عن قول الطائفة التي قال الله عز وجل: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} (¬2) سوى قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} ثم ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 518. (¬2) سورة آل عمران، الآية (72).

يكون الكلامُ مبتدأ بتكذيبهم في قولهم: قل يا محمد، للقائلين ما قالوا من الطائفة التي وصفتُ لك قولها لتُبَّاعها من اليهود {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}، إن التوفيق توفيقُ الله والبيانَ بيانُه، "وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء" لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود. وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها، لأنه أصحها معنًى، وأحسنُها استقامةً، على معنى كلام العرب، وأشدُّها اتساقًا على نظم الكلام وسياقه. وما عدا ذلك من القول، فانتزاع يبعُد من الصحة، على استكراه شديدٍ للكلام " (¬1). حجة من قال: إن الجملة مما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولها بقية لقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}: ذكر الطبري حجتهم فقال: " وقال آخرون: تأويل ذلك: قل يا محمد: "إن الهدى هدى الله"، إنّ البيان بيانُ الله أن يؤتى أحدٌ، قالوا: ومعناه: لا يؤتى أحدٌ من الأمم مثل ما أوتيتم، كما قال: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}، بمعنى: لا تضلون، وكقوله: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (¬2). ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 368، وانظر روح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 193، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 382. (¬2) سورة الشعراء، الآية (200 - 201).

يعني: أن لا يؤمنوا "مثل ما أوتيتم"، يقول: مثل ما أوتيتَ، أنت يا محمد، وأمتك من الإسلام والهدى "أو يحاجوكم عند ربكم"، قالوا: ومعنى"أو": "إلا"، أيْ: إلا أن"يحاجوكم"، يعني: إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فَعل بهم ربُّكم " (¬1). قال الفراء: " يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} ثم قال الله لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} أي: أن البيان الحق بيان الله أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على تقدير لا كقوله تعالى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي لئلا تضلوا " (¬2). القول الراجح: هو القول الذي ذهب إليه ابن عاشور وهو أن هذا القول من قول أهل الكتاب , بناءً على القاعدة، ولكن هذا القول يرد عليه قوله في الآية نفسها: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} كيف وقعت بين جزأي كلام واحد؟ ؟ وقد أجاب الرازي عن هذا الإشكال فيما نقله عن القفال (¬3) حيث ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 366. (¬2) فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 351. (¬3) هو أبو بكر محمد بن على بن إسماعيل القفال الشاشى، نسبة إلى شاش بلدة مشهور من بلاد ما وراء النهر، ينسب إليه خلق كثير من العلماء والفقهاء ورواة الحديث، ، درس على أبى العباس أحمد بن شريح وله تصانيف، وهو أول من صنف في الجدل الحسن من الفقهاء، وعنه انتشر فقه الشافعى فيما وراء النهر , مات سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. (انظر مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار/ العيني، ج 3، ص 1250، وطبقات الشافعية الكبرى / السبكي، ج 3، ص 200).

يقول: " قال القفال: يحتمل أن يكون قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} كلام أمر الله نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً لا جرم أدب رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يقابله بقول حق، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولاً فيه كفر، فيقول: عند بلوغه إلى تلك الكلمة آمنت بالله، أو يقول لا إله إلا الله، أو يقول تعالى الله ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} من هذا الباب، ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم، فقيل له: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} إلى آخر الآية" (¬1) ويقوي هذا القول القاعدة الترجيحية) القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره) وسياق الآية وما قبلها يدل على أنه من قول أهل الكتاب. وفي ذلك يقول الألوسي: " وأرجح الوجه الثاني لتأيده بقراءة ابن كثير، وأنه أفيد من الأول وأقل تكلفا من باقي الأوجه، وأقرب إلى المساق " (¬2). ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 261. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 193.

3 - قراءة " قبل موته": قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (¬1). اختلف المفسرون في لمن يعود الضمير في قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} على قولين: أحدها: المقصود به عيسى , أي: إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته، إذا نزل من السماء، وهذا قول ابن عباس، وأبي مالك وقتادة، وابن زيد. والثاني: إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي عند المعاينة، فيؤمن بما أنزل الله من الحق وبالمسيح عيسى ابن مريم، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن سيرين، وجويبر (¬2). ورجّح ابن عاشور أن المراد به الكتابي بناءً على القاعدة فقال: " والضمير في (موته) يحتمل أن يعود إلى أحد أهل الكتاب، أي قبل أن يموت الكتابيّ، ويؤيّده قراءة أبَي بن كعب (إلا ليؤمنن به قبل موتهم). وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنّصارى؛ فأمّا النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل، فيتعيّن أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود. والمعنى أنّ اليهود مع شدّة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلاّ وهو يؤمن بنبوّته قبل موته، أي ينكشف له ذلك عند الاحْتضار قبل ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (159). (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 25 - 28،

انزهاق روحه، وهذه منّة مَنّ الله بها على عيسى، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلاّ وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم، لأنّه لم يتمتّع بمشاهدة أمّةٍ تتبعه. وقيل: كذلك النصرانيّ عند موته ينكشف له أنّ عيسى عبد الله " (¬1). وسبق ابن عاشور إلى هذا الترجيح ابن عطية، والرازي، والألوسي (¬2). في حين رجّح الطبري، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي والشنقيطي أن المراد بالضمير في موته عيسى عليه السلام (¬3). واستظهر القرطبي كلا القولين ولكنه ساق بعد ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه قوله: " قبل موت عيسى؛ يعيدها ثلاثاً، فكأنه مال إلى القول الثاني (¬4). وكذلك رجّح ابن كثير القول الثاني، ولكنه ذكر أن من فسر هذه الآية بأن المعنى كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد، عليهما الصلاة والسلام فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره يَتَجَلي له ما كان جاهلا به، فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له، إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى في أول هذه السورة: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 24. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 134، والتفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 263، وروح المعاني / الألوسي، ج 3، ص 188، (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 28، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 408، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 534، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 535، ومحاسن التأويل/ القاسمي، ج 3، ص 442. (¬4) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 6، ص 15.

يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (¬1) (¬2). حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المراد بالضمير في "موته" الكتابي أي اليهودي أو النصراني: حجتهم في ذلك قراءة أبي بن كعب كما ذكر ابن عاشور. قال ابن عطية: " وفي مصحف أبي بن كعب " قبل موتهم" ففي هذه القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابي " (¬3). وقال الرازي مرجحا هذا القول: " واعلم أن كلمة (إن) بمعنى (ما) النافية كقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (¬4) التقدير: وما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به. ثم إنا نرى أكثر اليهود يموتون ولا يؤمنون بعيسى عليه السلام. والجواب: فيما روي عن شهر بن حوشب (¬5) قال: قال الحجاج إني ما ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (18). (¬2) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 345. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 134. (¬4) سورة مريم، الآية (71). (¬5) شهر بن حوشب الأشعري الشامي , أبو سعيد، ويقال: أبو الجعد الشامى الحمصى، مولى أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، روى عن بلال المؤذن، وتميم الدارى، وثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجابر بن عبد الله الأنصارى، وغيرهم روى عنه أبان بن صالح، وأبان بن جمعة، وإبراهيم بن حنان الأزدى، وثابت البنانى، وحجاج الأسود، وغيرهم. توفي سنة (112)، وكان ضعيفاً في الحديث. (انظر لسان الميزان / ابن حجر، ج 7، ص 244، وطبقات الفقهاء / الشيرازي، ج 1، ص 74، والطبقات الكبرى / ابن سعد، ج 7، ص 449).

قرأتها إلا وفي نفسي منها شيء، يعني هذه الآية فإني أضرب عنق اليهودي ولا أسمع منه ذلك. فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى نبيّاً فكذبت به، فيقول آمنت أنه عبد الله، وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه هو الله وابن الله، فيقول: آمنت أنه عبد الله فأهل الكتاب يؤمنون به، ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان، فاستوى الحجاج جالساً وقال: عمن نقلت هذا؟ فقلت: حدّثني به محمد بن علي بن الحنفية فأخذ ينكت في الأرض بقضيب ثم قال: لقد أخذتها من عين صافية. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه فسّره كذلك , فقال له عكرمة: فإن خر من سقف بيت أو احترق أو أكله سبع قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به، ويدل عليه قراءة أُبي (إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِم) بضم النون على معنى وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم لأن أحداً يصلح للجمع، قال صاحب «الكشاف»: والفائدة في أخبار الله تعالى بإيمانهم بعيسى قبل موتهم أنهم متى علموا أنه لا بدّ من الإيمان به لا محالة فلأن يؤمنوا به حال ما ينفعهم ذلك الإيمان أولى من أن يؤمنوا به حال ما لا ينفعهم ذلك الإيمان" (¬1). ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 263.

حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المراد بالضمير في " موته" عيسى عليه السلام: حجتهم في ذلك: قال الطبري: " وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جل ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بحكم أهل الإيمان، في الموارثة والصلاة عليه، وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة. فلو كان كل كتابيّ يؤمن بعيسى قبل موته، لوجب أن لا يرث الكتابيّ إذا مات على مِلّته إلا أولاده الصغار، أو البالغون منهم من أهل الإسلام، إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم. وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغٌ مسلم، كان ميراثه مصروفًا حيث يصرف مال المسلم يموت ولا وارث له، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغَسْله وتقبيره. لأن من مات مؤمنًا بعيسى، فقد مات مؤمنًا بمحمد وبجميع الرسل. وذلك أن عيسى صلوات الله عليه، جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين صلوات الله عليهم، فالمصدّق بعيسى والمؤمن به، مصدق بمحمد وبجميع أنبياء الله ورسله. كما أن المؤمن بمحمد، مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله ورسله. فغير جائز أن يكون مؤمنًا بعيسى من كان بمحمد مكذِّبًا " (¬1). وقال أبو حيان مرجحاً هذا القول أيضاً ومبيناً فساد قول الزجاج: " وهو غلط فاحش إذ زعم أنّ ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره، وصفة أحد المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو من أهل الكتاب، ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 6، ص 28.

والتقدير كما ذكرناه: وإن أحد من أهل الكتاب. وأما قوله: ليؤمنن به، فليست صفة لموصوف، ولا هي جملة قسمية كما زعم، إنما هي جملة جواب القسم، والقسم محذوف، والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو أحد المحذوف، إذ لا ينتظم من أحد. والمجرور إسناد لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها، فذلك هو محط الفائدة وكذلك أيضاً الخبر هو إلا له مقام، وكذلك إلا واردها، إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي. والظاهر أن الضميرين في: به، وموته، عائدان أنّ على عيسى وهو سياق الكلام، والمعنى: من أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله " (¬1). القول الراجح: هو ما رجحه الطبري وهو: أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موته أي قبل موت عيسى عليه السلام. قال ابن كثير: " ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبيه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية -يعني: لا يقبلها ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 408.

من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف-فأخبرت هذه الآية الكريمة أن يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم؛ ولهذا قال: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت عيسى، الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب " (¬1). أما ترجيح ابن عاشور واستناده إلى قراءة أبي (إلا ليؤمنن به قبل موتهم) بضم النون وإلحاق ميم الجميع فلا أراه قد وافق الصواب فيها , لاسيما وقراءة أبي هذه ليست قراءة سبعية، أضف إلى أن هناك أكثر من قاعدة تفيد ترجيح هذا القول، منها: (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره)، وسياق الآيات قبل هذه الآية تتحدث عن عيسى عليه السلام. قال الشنقيطي: " فالجواب أن يكون الضمير راجعاً إلى عيسى، يجب المصير إليه، دون القول الآخر، لأنه أرجح منه من أربعة أوجه: الأول: أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض. والقول الآخر بخلاف ذلك. وإيضاح هذا أن الله تعالى قال: : {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ} (¬2). ثم قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ} أي عيسى {وَمَا صَلَبُوهُ} أي عيسى ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 345. (¬2) سورة النساء، الآية (157).

{وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي عيسى {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي عيسى {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} أي عيسى {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} (¬1) أي عيسى، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (¬2) أي عيسى {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (¬3) أي عيسى {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي عيسى {لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي عيسى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (¬4) أي يكون هو، أي عيسى عليهم شهيداً. فهذا السياق القرآني الذي ترى، ظاهر ظهوراً لا ينبغي العدول عنه، في أن الضمير في قوله قبل موته، راجع إلى عيسى. الوجه الثاني: من مرجحات هذا القول، أنه على هذا القول الصحيح، فمفسر الضمير، ملفوظ مصرح به، في قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ} (¬5). وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكوراً في الآية أصلاً، بل هو مقدر تقديره: ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته، أي موت أحد ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (157). (¬2) سورة النساء، الآية (157). (¬3) سورة النساء، الآية (158). (¬4) سورة النساء، الآية (159). (¬5) سورة النساء، الآية (157).

أهل الكتاب المقدر. ومما لا شك فيه، أن ما لا يحتاج إلى تقدير، أرجح وأولى، مما يحتاج إلى تقدير (¬1). ومما يؤيد هذا القول قاعدة أخرى قوية أيضاً وهي: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له). قال الشنقيطي: " من مرجحات هذا القول الصحيح، أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تواترت عنه الأحاديث بأن عيسى حي الآن، وأنه سينزل في آخر الزمان حكماً مقسطاً. ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر " (¬2). قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين ما نصه: "وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى" (¬3). وقوله بالدليل القاطع يعني السنة المتواترة، لأنها قطعية وهو صادق في ذلك. منها: مارواه البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا , فيكسر الصليب , ويقتل الخنزير , ويضع الجزية , ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ,حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة واقرؤوا إن شئتم: ¬

(¬1) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1535. (¬2) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 1535. (¬3) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير , ج 4 , ص 342.

{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (¬1). 4 - قراءة " أنجيناكم ": قال تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (¬2). اختلف المفسرون في هذه الآية من قول من؟ . فذهب بعضهم إلى أنها من قول الله عز وجل، وذهب آخرون إلى أنها من تتمة قول موسى عليه السلام (¬3)، ورجّح ابن عاشور أن الآية من كلام موسى بناءً على قاعدة المبحث، وإن كان يُجوِّز القول الآخر، وهذا قوله في الآية: " - هو - من تتمة كلام موسى عليه السلام كما يقتضيه السياق، ويجوز أن يكون هذا امْتناناً من الله اعترضه بين القصة وعدَةِ موسى عليه السلام انتقالاً من الخبر والعبرة إلى النعمة والمنة، فيكون الضمير ضَمير تعظيم، وقرأ الجمهور: (أنجيناكم) بنون المتكلم المشارك، وقرأه ابن عامر: (وإذ أنجاكم) ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام، ج 3، ص 1272، ح- 3264. (¬2) سورة الأعراف، الآية (141). (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 58، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 448.

على إعادة الضمير إلى الله في قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} (¬1)، وكذلك هو مرسوم في مصحف الشام فيكون من كلام موسى وبمجموع القراءتين يحصُل المعنيان " (¬2). وممن وافق ابن عاشور في كون هذه الآية من تتمة كلام موسى الشوكاني، والألوسي (¬3) ورجّح الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والقاسمي، والشنقيطي: أن الآية من من كلام الله تعالى في بيان النعم التي امتن بها عليهم (¬4). حجة القائلين: إن الآية من كلام الله تعالى: قال الطبري: " يقول تعالى ذكره لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: واذكروا مع قيلكم هذا الذي قلتموه لموسى بعد رؤيتكم من الآيات والعبر، وبعد النعم التي سلفت مني إليكم، والأيادي التي تقدمت فعلكم ما فعلتم إذ أنجيناكم من آل فرعون، وهم الذين كانوا على ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية (140). (¬2) التحرير والتنوير، ج 5، ص 84 - 85. (¬3) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 241، وروح المعاني / الألوسي، ج 5، ص 41. . (¬4) انظر جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 58، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 448، والتفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 351، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 262، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 350، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 6، ص 381، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 335, وأضواء البيان / الشنقيطي , ص 804.

منهاجه وطريقته في الكفر بالله من قومه يسومونكم سوء العذاب)، يقول: إذ يحملونكم أقبح العذاب وسيئه " (¬1). ويقول ابن عطية: " ثم عدد _ الله _ عليهم في هذه الآية النعم التي يجب من أجلها أن لا يكفروا به ولا يرغبوا عبادة غيره " (¬2). كما ذكر أبو حيان في تفسيره أن هذا الفعل الذي هو الإنجاء من عدوهم هو من أعظم النعم، فناسب الأعظم نسبته للمعظم نفسه (¬3). وللشعراوي تعليل في ترجيح هذا القول حيث يقول: " لقد جاء "بالواو " هنا للعطف. لأن المتكلم هنا مختلف، فقد يكون المتكلم الله، وسبحانه يمتن بقمة النعم" (¬4). حجة القائلين: إن الآية من كلام موسى عليه السلام: حجتهم في ذلك قراءة ابن عامر، قال ابن عاشور: " ويعضده قراءة ابن عامر: (واذ أنجاكم) (¬5) والمعنى: أأبتغي لكم إلهاً غير الله في حال أنه فضلكم على العالمين، وفي زمان أنجاكم فيه من آل فرعون بواسطتي، فابتغاء إله غيره كفران لنعمته، فضمير المتكلم المشارَك يعود إلى الله وموسى، ومعاده يدل عليه ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 9، ص 58. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 448. (¬3) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 350. (¬4) تفسير الشعراوي، ج 7، ص 4334. (¬5) انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 293، والتيسير / الداني، ص 113.

قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} " (¬1). قال الألوسي: " وقرأ ابن عامر (أَنجَاكُم) فيكون من مقول موسى عليه السلام " (¬2). القول الراجح: هو ما اختاره ابن عاشور للقاعدة الترجيحية موضع البحث. ويعضد هذا القول قاعدة أخرى وهي: (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره) وهذه القاعدة رجّح بها ابن عاشور في هذه الآية كما تقدّم حيث يقول في الآية: " من تتمة كلام موسى عليه السلام كما يقتضيه السياق " (¬3) قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 85. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 5، ص 41. (¬3) التحرير والتنوير، ج 5، ص 85.

نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (¬1). كما يعضد هذا القول أيضا قاعدة أخرى وهي: (القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره) وقد جاء في سورة إبراهيم ما يدل على أن ذلك من كلام موسى مبينا لقومه ما امتن الله به عليهم من النعم. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (¬2). 5 - قراءة "ويجعل لك ": قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} (¬3). اختلف المفسرون في المراد بالجنات والقصور في هذه الآية هل المقصود بها في الدنيا أو الآخرة؟ . وذكر هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره، وهذا ملخص قوله: " يجوز أن يكون المراد بالجنات والقصور جناتٍ في الدنيا وقصوراً فيها، أي خيراً من الذي اقترحوه دليلاً على صدقك في زعمهم بأن تكون عدة جنات وفيها قصور. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية (138 - 141). (¬2) سورة إبراهيم، الآية (6). (¬3) سورة الفرقان، الآية (10).

وبهذا فسر جمهور المفسرين. وعلى هذا التأويل تكون (إن) الشرطية واقعة موقع (لو)، أي أنه لم يشأ ولو شاءه لفعله ولكن الحكمة اقتضت عدم البسط للرسول في هذه الدنيا ولكن المشركين لا يدركون المطالب العالية. ويحتمل أن يكون المراد بالجنات والقصور ليست التي في الدنيا، أي هي جنات الخلد وقصور الجنة فيكون وعداً من الله لرسوله. واقتران هذا الوعد بشرط المشيئة جار على ما تقتضيه العظمة الإلهية وإلا فسياق الوعد يقتضي الجزم بحصوله، فالله شاء ذلك لا محالة، بأن يقال: تبارك الذي جعل لك خيراً من ذلك. فموقع) إن شاء (اعتراض " (¬1). ورجّح ابن عاشور أن المراد بها في الآخرة، مستدلاً على ذلك بالقراءة ضمن قاعدة المبحث، حيث يقول: " وأصل المعنى: تبارك الذي جعل لك خيراً من ذلك جنات إلى آخره. ويساعد هذا قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم) ويجعلُ لك قصوراً (برفع) يجعلُ (على الاستئناف دون إعمال حرف الشرط، وقراءة الأكثر بالجزم عطفاً على فعل الشرط وفعل الشرط محقق الحصول بالقرينة " (¬2). وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين: الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، والشنقيطي (¬3). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 9، ص 331. (¬2) التحرير والتنوير، ج 9، ص 331. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 18، ص 220، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 201، والتفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 436، والجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 13، ص 10، 201، وأضواء البيان / الشنقيطي، ج 1308.

في حين يرى أبو حيان، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي أن المراد بها في الدنيا وهو قول مجاهد (¬1). وذكر ابن كثير كلا القولين ولم يرجح (¬2). حجة القائلين: إن المراد بالجنات والقصور في الدنيا: استدلوا على ذلك بقراءة الجزم، وهي قراءة أبي عمرو، ونافع، وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم (¬3). قال الألوسي عن هذا القول: " هو أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم " (¬4). وقال الصابوني: " {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} أي تمجّد وتعظم الله الكبير الجليل الذي لو أراد لجعل لك خيراً من ذلك الذي ذكروه من نعيم الدنيا {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي لو شاء لأعطاك بساتين وحدائق تسير فيها الأنهار لا جنة واحدة كما قالوا {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} أي ويجعل لك مع الحدائق القصور الرفيعة المشيدة كما هو حال الملوك " (¬5). ¬

(¬1) انظر تفسير مجاهد، ص 496، جامع البيان / الطبري، ج 18، ص 220، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص، 444، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 63، وروح المعاني / الألوسي، ج 9، ص 429، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 436. (¬2) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 288. (¬3) انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 462 , ومتن الشاطبية / الشاطبي , ص 136. (¬4) روح المعاني / الألوسي، ج 9، ص 429. (¬5) صفوة التفاسير / الصابوني، ج 2، ص 340.

حجة من قال: إن المراد بالجنات والقصور في الآخرة: استدلوا على ذلك بقراءة الرفع "ويجعلُ لك" أي سيجعل لك في الآخرة قصوراً (¬1).وهي قراءة ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم (¬2). كما استدلوا بما رواه سفيان عن حبيب عن خيثمة قال: قيل: للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن شئت أعطيناك مفاتح الأرض وخزائنها لا ينقصك ذلك عندنا شيئا في الآخرة، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة. قال: لا بل اجمعها لي في الآخرة فنزلت: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} (¬3). القول الراجح: هو ما رجحه ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين بناءً على القاعدة، قال الطبري: " والقول الذي ذكرناه عن مجاهد في ذلك أشبه بتأويل الآية، لأن المشركين إنما استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها، وأن لا يلقى إليه كنز واستنكروا أن يمشي في الأسواق، وهو لله رسول، فالذي هو أولى بوعد الله إياه أن يكون وعدا بما هو خير مما كان عند المشركين عظيما، لا مما كان منكرا ¬

(¬1) انظر إعراب القرآن / النحاس، ج 3، ص 153. (¬2) انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 462. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الفضائل، باب ما أعطى الله محمدا، ج 6، ص 327، ح- 31800.

عندهم، وعني بقوله: (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) بساتين تجري في أصول أشجارها الأنهار " (¬1). ومما يرجح هذا القول ويعضده قاعدة أخرى وهي (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره) وفي السياق قرينة تؤكد هذا المعنى. وقد أشار إليها ابن عاشور في تفسيره ,فقال: " وهذا المحمل أشد تبكيتاً للمشركين وقطعاً لمجادلتهم، وقرينة ذلك قوله بعده: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} (¬2) , وهو ضد ومقابل لما أعده لرسوله والمؤمنين " (¬3). وكذلك أكد ذلك ابن عطية من قبله حيث يقول: " هذا التأويل الثاني يوهم أن الجنات والقصور التي في هذه الآية هي في الدنيا وهذا تأويل الثعلبي وغيره، ويرد ذلك قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ} " (¬4). كما يعضد هذا الترجيح قاعدة أخرى وهي: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له) وقد ثبت في الحديث ما يدل عليه، وقد تقدم. ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 18، ص 220. (¬2) سورة الفرقان، الآية (11). (¬3) التحرير والتنوير، ج 9، ص 331. (¬4) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 201.

المبحث الخامس التفسير الموافق لرسم المصحف مقدم على غيره من التفاسير

المبحث الخامس التفسير الموافق لرسم المصحف مقدم على غيره من التفاسير صورة القاعدة: إذا تنازع المفسرون في تفسير آية من كتاب الله، أو في إعرابها، وكان أحد الأقوال موافقاً لرسم المصحف ولا يقتضي مخالفة له، وآخر يقتضي مخالفته، فأولى الأقوال بتفسير الآية ما وافق الرسم العثماني الذي أجمع عليه الصحابة (¬1). بيان ألفاظ القاعدة: رسم المصحف: الرسم في اللغة: الرسم أثر الشيء، ويقال ترسَّمت الدار، أي نظرت إلى رسومها، وناقة رسوم تؤثر في الأرض من شدة الوطء، والثوب المرسم: المخطط (¬2). اصطلاحاً: هو أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطية الذي ارتضاه عثمان على ملأ من الصحابة في كتابة كلمات القرآن وحروفه (¬3). ¬

(¬1) قواعد الترجيح عند المفسرين /حسين الحربي، ج 1، ص 110. (¬2) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 383. (¬3) انظر مناهل العرفان / الزرقاني، ج 1، ص 300.

أقوال العلماء في القاعدة

وقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة فقال: "رسم المصحف سنّة سنّها كُتاب المصاحف فأقِرّت " (¬1). وقال عند تفسيره للصراط: " وقد قرأ باللغة الفصحى (بالصاد) جمهور القراء وقرأ بالسين ابن كثير في رواية قنبل، والقراءة بالصاد هي الراجحة لموافقتها رسم المصحف وكونها اللغة الفصحى " (¬2). أقوال العلماء في القاعدة: اعتمد هذه القاعدة في الترجيح جماعة من أئمة التفسير، فرجحوا بها أقوالاً وضعفوا بها أخرى، فمن هؤلاء الأئمة: أبو جعفر النحاس في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (¬3) بعد أن ذكر القولين في الضمير " هم " قال: " والصواب أن الهاء والميم في موضع نصب؛ لأنه في السواد بغير ألف " اهـ (¬4). يعني في رسم المصحف بغير ألف بعد الواو. ومنهم أبو حيان فقد استعمل هذه القاعدة في الترجيح، فقد صحح بها بعض الأوجه التفسيرية، والإعرابية، وضعّف بها أقوالاً لأجل مخالفتها الرسم كما ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 10. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 190. (¬3) سورة المطففين، الآية (3). (¬4) إعراب القرآن / النحاس، ج 5، ص 174.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

في قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (¬1) (¬2). ونبّه السيوطي على هذه القاعدة عند حديثه عما يجب على المُعْرِب مراعاته، فقال: " ويجب عليه مراعاة أمور، إلى أن قال: الثامن أن يراعي الرسم " (¬3). الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - قراءة {الم}: قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (¬4) اختلف المفسرون في هاته الحروف المقطعة الواقعة في أوائل السور على عدة أقوال ساقها ابن عاشور في تفسيره , وذكر أن أقوال العلماء تؤول إلى واحد وعشرين قولاً ذكرها ونسبها إلى أصحابها، وملخص هذه الأقوال من تفسيره التالي: الأول: أنها علم استأثر الله تعالى به. والثاني: أنها حروف مقتضبة من أسماء وصفات لله تعالى، فألم مثلاً الألف إشارة إلى أحد أو أول أو أزلي، واللام إلى لطيف، ونحو ذلك. ¬

(¬1) سورة طه، الآية (63). (¬2) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 238. (¬3) الإتقان / السيوطي، ج 2، ص 260 - 266. (¬4) سورة البقرة، الآية (1).

الثالث: أنها رموز لأسماء الله تعالى وأسماء الرسول - صلى الله عليه وسلم - والملائكة. الرابع: أن هاته الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء للملائكة وأنها إذا تليت كانت كالنداء لملائكتها. الخامس: أنها رموز كلها لأسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوصافه خاصة. السادس: أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجُمَّل. السابع: أنها رموز كل حرف رمز إلى كلمة فنحو: (ألم) أنا الله أعلم، و (ألمر) أنا الله أرى، و (ألمص) أنا الله أعلم وأفصل. الثامن: أنها إشارات إلى أحوال من تزكية القلب. التاسع: أنها أسماء للسور التي وقعت فيها , وأنه لم توضع أسماء السور الأخرى في أوائلها العاشر: إنها أسماء للقرآن اصطلح عليها. الحادي عشر: أن كل حروف مركبةِ منها هي اسم من أسماء الله. الثاني عشر: قال الماوردي: هي أفعال , فإن حروف المص كتاب فعل ألمّ بمعنى نزل فالمراد (آلم ذلك الكتاب) أي نزل عليكم. القول الثالث عشر: أن هاته الحروف أقسم الله تعالى بها كما أقسم بالقلم تنويهاً بها. القول الرابع عشر: أنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتاً للمشركين وإيقاظاً لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم وقد تُحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم. القول الخامس عشر: أنها تعليم للحروف المقطعة حتى إذا وردت عليهم بعد

ذلك مؤلفة كانوا قد علموها. القول السادس عشر: أنها حروف قصد منها تنبيه السامع. القول السابع عشر: أنها إعجاز بالفعل، وهو أن النبي الأمي الذي لم يقرأ قد نطق بأصول القراءة كما ينطق بها مهرة الكتبة فيكون النطق بها معجزة وهذا بيِّن البطلان لأن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف. القول الثامن عشر: أن الكفار كانوا يُعرضون عن سماع القرآن فأوردت لهم هذه الحروف ليقبلوا على طلب فهم المراد منها فيقع إليهم ما يتلوها بلا قَصد، قاله قُطرب وهو قريب من القول السادس عشر. القول التاسع عشر: أنها علامة لأهل الكتاب وُعدوا بها من قِبَل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة. القول العشرون: أن الله تعالى علم أن قوماً سيقولون بقدم القرآن فأراهم أنه مؤلف من حروف كحروف الكلام. القول الحادي والعشرون: روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنها ثناء أثنى الله به على نفسه وهو يرجع إلى القول الأول أو الثاني. هذا جماع الأقوال وذكر ابن عاشور أن هذه الأقوال كلها تتلخص وتندرج تحت ثلاثة أنواع: النوع الأول: يرجع إلى أنها رموز اقتضبت من كَلم أو جمل، فكانت أسراراً يفتح غلقها مفاتيح أهل المعرفة ويندرج تحت هذا النوع الأقوال الثمانية الأولى. والنوع الثاني: يرجع إلى أن هاته الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالا ويندرج تحت هذا النوع القول التاسع والعاشر والحادي عشر

والثاني عشر. والنوع الثالث: تندرج فيه الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك. ثم فنَّد ابن عاشور هذه الأنواع ورجّح أحدها بناءً عل القاعدة فقال: " ولا شك أن قراءة كافة المسلمين إياها بأسماء حروف الهجاء مثل ألف. لاَمْ. ميمْ دون أن يقرأوا ألَمْ وأن رسْمها في الخط بصورة الحروف يزيف جميع أقوال النوع الأول ويعين الاقتصار على النوعين الثاني والثالث في الجملة، على أن ما يندرج تحت ذينك النوعين متفاوت في درجات القبول، فإن الأقوال الثاني، والسابع، والثامن، والثاني عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبَة من أسماء أو كلمات لكان الحق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها. فإذا تعين هذان النوعان وأسقطنا ما كان من الأقوال المندرجة تحتها، خلَص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة: وهي كون تلك الحروف لتبكيت المعاندين وتسجيلاً لعجزهم عن المعارضة، أو كونُها أسماء للسور الواقعة هي فيها، أو كونُها أقساماً أقسم بها لتشريف قدر الكتابة وتنبيهِ العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأُمية وأرجح هذه الأقوال الثلاثةِ هو أولها " (¬1) وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين الرازي، وابن كثير، والشوكاني (¬2). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 206. (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 1، ص 255، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 257، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 30.

ورجّح الطبري أن الصواب في تأويل مفاتِح السور أنّ الله جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف لأنه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد ... - فيدخل فيه جميع ما ذكره المفسرين - ... ، وقريب منه قول ابن عطية، والألوسي. قال الألوسي: " والصواب ما قاله الجمهور أن تفسر هذه الحروف ويلتمس لها التأويل والفوائد التي تحتها والمعاني " (¬1). وقول الطبري وابن عطية والألوسي لا يبعد عما اختاره ابن عاشور فإن قوله يدخل ضمن اختيارهم. في حين يرى القرطبي، وأبو حيان أنها من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه (¬2). وساق القاسمي أبرز الأقوال فيها ولم يرجح، وهي: الأول: أن هذا علم مستور، وسر محجوب، استأثر الله تبارك وتعالى به فهو من المتشابه الثاني: يجب أن نتكلم فيها، ونلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها، وهذا القول يدخل ضمنه عدد من الأقوال منها ما رجحه ابن عاشور (¬3). ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 108، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 82، ورح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 106. (¬2) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ج 3، ص 172، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 158 (¬3) انظر محاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 268.

حجة من قال: إن هذه الحروف المقطعة مما استأثر الله بعلمه: قال القرطبي: " قال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر. فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وذُكر عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر. وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله عز وجل بها. ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري (¬1) حيث ساق بسنده عن الربيع بن خثيم قال: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما أستأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون " (¬2). ¬

(¬1) هو محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر الانباري من أعلم أهل زمانه بالأدب واللغة، ومن أكثر الناس حفظا للشعر والأخبار، قيل: كان يحفظ ثلاثمائة ألف شاهد في القرآن، ولد في الأنبار (على الفرات) وتوفي ببغداد. (انظر الأعلام / الزركلي، ج 6، ص 334). (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 237.

حجة من قال: إن هذه الحروف المقطعة من أسماء السور: وذكر ابن عاشور حجتهم في ذلك فقال: " ويعضد - هذا القول - وقوع هاته الحروف في أوائل السور فتكون هاته الحروف قد جعلت أسماء بالعلامة على تلك السور، وسميت بها كما نقول الكراسة ب , والرزمة ج , ونظره القفال بما سمت العرب بأسماء الحروف كما سموا لاَمَ الطائي والد حارثة، وسموا الذهب عَيْن، والسحاب غَيْن، والحوتَ نونْ، والجبل قاف، وأقوال، وحاء قبيلة من مَذحج، وقال شريح بن أوفى العنسي (¬1): يذكرني حَامِيمَ والرمحُ شاجر ... فهَلاَّ تلا حاميمَ قبل التقدم يريد {حم (1) عسق} (¬2) التي فيها: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (¬3) " (¬4). حجة من قال: إن هذه الحروف المقطعة للتحدي وبيان الإعجاز: قال ابن أبي العز في شرح "العقيدة الطحاوية ": " وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي: أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي ¬

(¬1) شريح بن أوفى بن يزيد بن زاهر بن حر بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث غطفان بن سعد بن قيس عيلان العنسي الكوفي، كان في المسيرين الذين سيرهم عثمان بن عفان في خلافته من الكوفة إلى دمشق، ثم إن شريح بن أوفى خرج على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأنكر تحكيمه الحكمين فقتل بالنهروان. انظر (تاريخ دمشق، ج 23، ص 3) (¬2) سورة الشورى، الآية (1 - 2). (¬3) سورة الشورى، الآية (23). (¬4) التحرير والتنوير، ج 1، ص 211.

يتخاطبون بها. ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن؟ كما في قوله تعالى: {الم} {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {الم} {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} .. وكذلك الباقي ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه، بل خاطبكم بلسانكم " (¬1). قال الشنقيطي: " ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول: أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائماُ عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه وذكر ذلك بعدها دائماَ دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن، وأنه حق " (¬2). القول الراجح: هو ما رجحه ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين من كونها تبكيتاً للمعاندين وبيان عجزهم عن المعارضة، وذلك بناءً على القاعدة كما تقدم، وقد حكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحوه، وقرره الزمخشري في كشافه (¬3). قال الدكتور صلاح الخالدي بعد أن ساق الأقوال في الأحرف المقطعة: " وتلك الأقوال كلها مرجوحة، ولا نرى أنها من المتشابه، وأن الله استأثر بالعلم بها، ونرى أننا مطالبون بالنظر فيها وتدبرها، ومحاولة الوقوف على ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية / ابن أبي العز، ص 144. (¬2) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 361. (¬3) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 238، الكشاف / الزمخشري، ج 1، ص 129.

معناها، وتحديد المراد بها، والراجح في هذه الأحرف أنها تدل على التحدي والإعجاز، وعلى مصدر القرآن" (¬1). ومما يرجح هذا القول قاعدة أخرى وهي أن (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره) وفي العموم أن الآيات بعد هذه الحروف المقطعة فيها انتصار للقرآن. أما قول من قال أنها مما استأثر الله بعلمه، فإن هذا الرأي يظل عاجزاً أمام الآيات التي تدعو إلى التدبر في آيات القرآن الكريم. قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬2) وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (¬3)، ويعزز ذلك أنه لم يثبت عن العرب أبان العهد الإسلامي ما يشير إلى عدم فهمهم لمعاني الحروف المقطعة، فلو كانوا يجهلون ذلك لظهر من هنا وهناك من يسأل عن أسرارها وحقيقتها، أما الروايات الواردة عن الصحابة رضوان الله عليهم في الحروف المقطعة فكلها روايات لا تصح، قال ابن عاشور: " ونسب هذا إلى الخلفاء الأربعة في روايات ضعيفة " (¬4). وأما قول من قال أنها أسماء للسور فقد استبعده بعض العلماء. ¬

(¬1) البيان في إعجاز القرآن / صلاح عبد الفتاح الخالدي، ص 156. (¬2) سورة النساء، الآية (82). (¬3) سورة محمد، الآية (24). (¬4) التحرير والتنوير، ج 1، ص 207.

قال ابن عاشور: " ويبعد هذا القول بعداً ما إن الشأن أن يكون الاسم غير داخل في المسمى , وقد وجدنا هذه الحروف مقروءة مع السور بإجماع المسلمين، على أنه يرده اتحاد هذه الحروف في عدة سور مثل آلم وآلر وحم، وأنه لم توضع أسماء السور الأخرى في أوائلها " (¬1). 2 - قراءة "يأجوج ومأجوج ": قال تعالى: {قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} (¬2) رجّح ابن عاشورأن يأجوج ومأجوج أمة ذات شعبين , وبنى قوله على رسمهما في المصحف حيث أن بينهما واو عاطفة , فدل ذلك على أنهما قبيلتين. وهذا قوله: " ويأجوج ومأجوج أمة كثيرة العدد فيحتمل أن الواو الواقعة بين الاسمين حرف عطف فتكون أمة ذات شعبين، وهم المغول وبعض أصناف التتار. وهذا هو المناسب لأصل رسم الكلمة ولا سيما على القول بأنهما اسمان عربيان كما سيأتي فقد كان الصنفان متجاورين. والذي يجب اعتماده أن يأجوج ومأجوج هم المغول والتتر. وقد ذكر أبو الفداء أن مأجوج هم المغول فيكون يأجوج هم التتر. وقد كثرت التتر على المغول فاندمج المغول في التتر وغلب اسم التتر على القبيلتين " (¬3). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 211. (¬2) سورة الكهف، الآية (94). (¬3) التحرير والتنوير، ج 8، ص 33.

ولم يخالف قول المفسرين الذين سبقوا قول ابن عاشور فكلهم متفقون جميعاً على أن يأجوج ومأجوج قبيلتين (¬1). قال ابن عطية: " (يأجوج ومأجوج): قبيلتان من بني آدم لكنهم ينقسمون أنواعاً كثيرة، اختلف الناس في عددها، فاختصرت ذكره لعدم الصحة، وفي خلقهم تشويه: منهم المفرط الطول، ومنهم مفرط القصر، على قدر الشبر، وأقل، وأكثر، ومنهم صنف: عظام الآذان، الأذن الواحدة وبرة والأخرى زعرى , يصيف بالواحدة ويشتو في الأخرى وهي تعمه " (¬2). ومما يعضد هذا القول قاعدة: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له) , ومن ذلك ما ورد في حديث أمّ حبيبة عن زينب بنت جحش رضي الله عنهاأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فزعاً يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فُتح اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه». وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها." (¬3).وأقوى منه حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يفتح ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 16، ص 27، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 542، والتفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 499، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 11، ص 61، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 154، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 190، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 312، وروح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 360، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 71. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 542. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، ج 3، ص 1221، ح- 3168.

يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله عز وجل: من كل حدب ينسلون فيغشون الأرض وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبسا حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول قد كان ها هنا ماء مرة حتى إذا لم يبق من الناس إلا أحد في حصن أو مدينة قال قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء قال: ثم يهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع مختضبة دما للبلاء والفتنة , فبينا هم على ذلك , إذ بعث الله دودا في أعناقهم كنغف الجرار الذي يخرج في أعناقهم فيصبحون موتى لا يسمع لهم حسا فيقول المسلمون: ألا رجل يشري نفسه فينظر ما فعل هذا العدو قال فيتجرد رجل منهم لذلك محتسبا لنفسه قد أظنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي: يا معشر المسلمين! ألا أبشروا فان الله قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ويسرحون مواشيهم فما يكون لها رعي إلا لحومهم فتشكر عنه كأحسن ما تشكر عن شيء من النبات أصابته قط " (¬1). وقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يأجوج ومأجوج، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (يأجوج ومأجوج أمتان , كل أمة أربعمائة ألف أمة , كل أمة لا يعلم عددها إلا الله لا يموت الرجل منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم قد ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده، ج 3، ص 77، ح- 11749.

حمل السلاح) قيل: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز؛ شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع , وصنف عرضه وطوله سواء نحوا من الذراع , وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس). (¬1) 3 - قراءة " وَلُؤْلُؤًا ": قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (¬2). حصل الاختلاف بين العلماء في قراءة (وَلُؤْلُؤًا) بين النصب والخفض وبالتالي حصل الاختلاف في معناها (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط، ج 4، ص 155، ح- 3855. (¬2) سورة الحج، الآية (24). (¬3) وهاتان قراءتان متواترتان. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 435، والتيسير / الداني، ص ... 156، ومتن الشاطبية / الشاطبي , ص 132.والنشر في القراءات العشر / ابن الجزري، ج 2، ص 244.

قال ابن عاشور: ") ولؤلؤاً (قرأه نافع، ويعقوب، وعاصم بالنصب عطفاً على محل) أساور (أي يحلون لؤلؤاً أي عقوداً ونحوها. وقرأه الباقون بالجرّ عطفاً على اللفظ والمعنى: أساور من ذهب وأساور من لُؤلؤ وهي مكتوبة في المصحف بألف بعد الواو الثانية في هذه السورة فكانت قراءة جر) لؤلؤٍ (مخالفة لمكتوب المصحف " (¬1). ومن هذا المثال يظهر ميل ابن عاشور لقراءة النصب والمعنى أنهم يحلون لؤلؤاً أي عقوداً ونحوها، وسبب ميله لهذا القول هو موافقة هذه القراءة لرسم المصحف وذلك بناءً على قاعدة المبحث وهي أن التفسير الموافق لرسم المصحف أولى من غيره، ولكنه في الوقت الآخر لم يرد المعنى الآخر لأنه ملتزم بالقاعدة: أن القراءات المتواترة حق كلها نصا ومعنى لا يجوز ردها أو رد معناها. وممن ذهب إلى هذا المعنى الذي ذهب إليه ابن عاشور من المفسرين: الطبري، وأبو حيان، والشوكاني، والألوسي حيث ذكروا قراءة النصب وبينوا أنها هي الموافقة لرسم المصحف (¬2). وذكر ابن عطية كلا القراءتين ولم يمل إلى قراءة دون الأخرى، وكذلك القرطبي إلا أنه ذكر أن من اختار قراءة النصب بناءً على موافقتها لرسم المصحف (¬3). أما ابن كثير، والقاسمي، والشنقيطي فلم يتعرضوا لذكر القراءات الواردة فيها. ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 8، ص 232. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 17، ص 160، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 1، ص 335، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 444، وروح المعاني / الألوسي، ج 9، ص 130. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 115، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 12، ص 34.

حجة من قرأ لؤلؤا بالنصب على معنى: ويحلون لؤلؤا أي عقوداً ونحوها: قال ابن خالويه: " والحجة لمن نصب أنه أضمر فعلا كالأول معناه ويحلون لؤلؤا وسهل ذلك عليه كتابها في السواد ها هنا وفي الملائكة بألف" (¬1). وقال الثعلبي: "ولؤلؤاً بالنصب على معنى ويحلّون لؤلؤاً، واستدلّوا بأنّها مكتوبة في جميع المصاحف بالألف ها هنا " (¬2). وقال السمين الحلبي: " فأمَّا النصبُ ففيه أربعةُ أوجهٍ: أحدها: أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ تقديرُه: ويُؤْتَوْن لُؤْلؤاً. ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه، وكذا أبو الفتح حَمَله على إضمار فعلٍ. الثاني: أنَّه منصوبٌ نَسَقاً على موضع "مِنْ أساور"، وهذا كتخريجِهم "وأرجُلَكُمْ" بالنصب عطفاً على محلِّ (بِرُؤُوسِكُمْ)، ولأن (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ) في قوة: (يَلْبَسون أساور) فَحُمِل هذا عليه. والثالث: أنه عطفٌ على "أساور"؛ لأنَّ "مِنْ" مزيدةٌ. الرابع: أنه معطوفٌ على ذلك المفعولِ المحذوفِ. التقديرُ: يُحَلَّوْن فيها الملبوسَ مِنْ أساور ولؤلؤاً. فـ"لؤلؤاً" عطفٌ على الملبوس " (¬3). حجة من قرأ لؤلؤٍ بالكسر بمعنى: يحلون أساور من لؤلؤ: قال أبو علي الفارسي مرجحاً قراءة الجر: " وجه الجر في قوله (ولؤلؤٍ) أنهم: يحلون أساور من ذهب ومن لؤلؤ، أي: منهما، وهذا هو الوجه، لأنه إذا نصب ¬

(¬1) الحجة في القراءات السبع / ابن خالويه، ج 1، ص 252. (¬2) الكشف والبيان / الثعلبي / ج 9، ص 192. (¬3) الدر المصون / السمين الحلبي، ج 6، ص 341 ..

فقال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} حمله على: ويحلون لؤلؤا. واللؤلؤ إذا انفرد من الذهب والفضة لا يكون حلية، فإن قلت فقد قال: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} (¬1) فهذا على أن يكون حلية إذا رصع في الذهب والفضة صار حلية " (¬2). القول الراجح ليس هناك ترجيح معنى على آخر , لاسيما وكلا القراءتين متواترتان , وإنما يبقى في قراءة النصب زيادة وهو كونها موافقة لرسم المصحف، وهذا الذي ذهب إليه ابن عاشور فقد ذكر أن قراءة النصب مكتوبة في المصحف وكذلك ذكر أن قراءة الجر مخالفة للمصحف وفي الوقت نفسه لم يردها وذلك إيمانا منه بأن القراءات المتواترة حق كلها نصا ومعنى لا يجوز ردّها أو رد معناها. وقال في موضع: " ولا يقدح في قراءتهم كونُها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار؛ لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر. وما ذُكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم تُرْو متواترة " (¬3). وهذا ما ذهب إليه الطبري بقوله: " والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، متفقتا المعنى، صحيحتا ¬

(¬1) سورة النحل، الآية (14). (¬2) الحجة للقراء السبعة / الفارسي، ج 3، ص 156. (¬3) التحرير والتنوير، ج 15، ص 161.

المخرج في العربية، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب " (¬1). 4 - قراءة " بضنين ": قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (¬2). اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {بِضَنِينٍ} وهذا الخلاف عائد إلى القراءات الواردة فيها , فمنهم من ذهب إلى أن المعنى أنه غير بخيل، ومنهم من ذهب إلى أن المعنى أنه غير متهم (¬3). وفي ذلك يقول ابن عاشور: " وقد اختلف القراء في قراءته , فقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وخلف ورَوح عن يعقوب بالضاد الساقطة التي تخرج من حافة اللسان مما يلي الأضراس وهي القراءة الموافقة لرسم المصحف، وقرأه الباقون بالظاء المشالة التي تخرج من طرف اللسان وأصول الثنايا العُليا" (¬4). وذكر في «الكشاف» أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بهما، وذلك مما لا يحتاج إلى التنبيه، لأن القراءتين مَا كانتا متواترتين إلا وقد رُويتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 17، ص 160. (¬2) سورة التكوير، الآية (24). (¬3) انظر جامع البيان/ الطبري، ج 30، ص 102، وإعراب القرآن وعلل القراءات / الباقولي، ج 2، ص 409. (¬4) التحرير والتنوير، ج 15، ص 161، وهاتان القراءتان متواترتان. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 673، والتيسير / الداني، ص 220، ومتن الشاطبية / الشاطبي , ص 163, والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 336.

والضاد والظاء حرفان مختلفان والكلمات المؤلفة من أحدهما مختلفة المعاني غالباً (¬1). وقال الطبري: " بالضاد، بمعنى أنه غير بخيل عليهم بتعليمهم ما علَّمه الله، وأنزل إليه من كتابه. وقرأ بعض المكيين وبعض البصريين وبعض الكوفيين (بِظَنِينٍ) بالظاء، بمعنى أنه غير متهم فيما يخبرهم عن الله من الأنباء " (¬2). وذكر ابن عاشور أن كلمة " بضنين" كتبت في مصاحف الأمصار بضاد ساقطة كما اتفق عليه الأمصار، إلا إن ابن عاشور لم يرجّح هذه القراءة بالضاد الساقطة ومعناها بالرغم من أنها موافقة لرسم المصحف وهو قد عمل بقاعدة المبحث وطبقها في تفسيره، والسبب في ذلك أن القراءة بالظاء قراءة متواترة أيضاٍ وابن عاشور كما تقدم معنا يرى بأن القراءات المتواترة حق كلها نصاً ومعنى لا يجوز ردها أو رد معناها، ولذلك قال عند تفسيره لهذه الآية: " ولا شك أن الذين قرأوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب قد رووه متواتراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك فلا يقدح في قراءتهم كونُها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر. وما ذُكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم تُرْو متواترة كما بيناه ¬

(¬1) انظر الكشاف / الزمخشري، ج 6، ص 326. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 102.

في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير " (¬1). وممن وافق ابن عاشور في الأخذ بكلا القراءتين ابن عطية وأبو حيان وابن كثير والقاسمي حيث ذكروا كلا القراءتين ومعناهما، ولم يرجّحوا أحدهما على الأخرى، وإنما ذكروا كل قراءة ومن قرأ بها فكأنهم يقولوا بهما جميعا كما هو عمل ابن عاشور، وقال ابن كثير: " وكلاهما متواتر ومعناهما صحيح (¬2). في حين رجّح الطبري القراءة بالضاد وما يترتب عليها من معنى (¬3). أما الرازي، والقرطبي، والشوكاني، والألوسي فقد رجحوا المعنى الآخر حيث ذكروا أنه من اختيار أبي عبيدة وذكر الرازي توجيهين لهذا الاختيار (¬4). حجة من قال: إن معنى قوله " بِضَنِينٍ " أي بخيل: حجتهم في ذلك رسم المصحف، قال الطبري: " وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة، وإن اختلفت قراءتهم به، وذلك (بِضَنِينٍ) بالضاد، لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. فإذا كان ذلك كذلك، فأولى التأويلين بالصواب في ذلك: تأويل من تأوّله، وما محمد على ما علَّمه الله من وحيه وتنزيله ببخيل بتعليمكموه أيها الناس، بل هو ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 161. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 444.، والبحر المحيط / أبوحيان، ج 8، ص 426.، وتفسير القرآن / العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 271، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 343. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 104. (¬4) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 11، ص 70، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 20، ص 230، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 392، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 265.

حريص على أن تؤمنوا به وتتعلَّموه (¬1). حجة من قال: إن معنى قوله " بِضَنِينٍ " أي بمعنى غير متهم بناءً على القراءة بالظاء: وهذا اختيار أبي عبيدة (¬2). قال الرازي: " واختار أبو عبيدة القراءة الأولى - أي القراءة بالظاء- لوجهين: أحدهما: أن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نفي البخل وثانيها: قوله: (عَلَى الغيب) ولو كان المراد البخل لقال بالغيب لأنه يقال: فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا " (¬3). وقال القرطبي: " واختاره أبو عبيدة؛ لأنهم لم يبخلوه ولكن كذبوه، ولأن الأكثر من كلام العرب: ما هو بكذا، ولا يقولون: ما هو على كذا، إنما يقولون: ما أنت على هذا بمتهم" (¬4). وقال الألوسي: " والأول أشهر ورجحت هذه القراءة عليها بأنها أنسب بالمقام؛ لاتهام الكفرة له - صلى الله عليه وسلم -، ونفي التهمة أولى من نفي البخل وبأن التهمة تتعدى بعلى دون البخل فإنه لا يتعدى بها إلا باعتبار تضمينه معنى الحرص ونحوه " (¬5). ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 104. (¬2) انظر مجاز القرآن / أبو عبيدة، ج 2، ص 288. (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 11، ص 70. (¬4) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 230. (¬5) روح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 265.

القول الراجح هو ما ذهب إليه ابن عاشور من الأخذ بكلا القراءتين، وإن كانت إحداهما موافقة للرسم إلا أن ذلك لا يعني ترجيح قراءة على أخرى , إلا إذا كانت القراءة الأخرى شاذة فالأمر عندئذ مختلف حيث يترجح المعنى الذي يوافق الرسم. 5 - قراءة "فلا تنسى": قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} (¬1). اختلف المفسرون في معنى قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} على قولين: أحدهما: أن معنى قوله: فلا تنسى، أي فلا تترك العمل إلا ما شاء الله أن يترخص لك فيه، فعلى هذا التأويل يكون هذا نهياً عن الشرك. والوجه الثاني: أنه إخبار من الله تعالى أنه لا ينسى ما يقرئه من القرآن، حكى ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه جبريل بالوحي يقرؤه خيفة أن ينساه، فأنزل الله تعالى: «سنقرئك فلا تنسى» يعني القرآن (¬2). ورجّح ابن عاشور أن المراد باللام في قوله فلا تنسى: النفي , وهذا قوله: " وليس قوله: (فلا تنسى) من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف، أمَّا إنه ليست (لا) فيه ناهية فظاهر، ومن ¬

(¬1) سورة الأعلى (6 - 7). (¬2) انظر النكت والعيون / الماوردي، ج 6، ص، 253، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 469.

زعمه تعسف لتعليل كتابة الألف في آخره " (¬1). وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي. ورجّحه القرطبي بناءً على قاعدة المبحث حيث يقول: " والأول هو المختار- أي النفي - فإن الياء مثبتة في جميع المصاحف " وكذلك الألوسي (¬2). حجة من قال: إن معنى قوله: {فَلَا تَنْسَى} بمعنى النفي أي: إخبار بعدم نسيانه - صلى الله عليه وسلم -: قال ابن عطية: " ونسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - ممتنع فيما أمر بتبليغه، إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعي عنه، فالنسيان جائز على أن يتذكر بعد ذلك وعلى أن يسنَّ، أو على النسخ " (¬3). قال الرازي: " والقول المشهور أن هذا خبر , والمعنى سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى وتأمن النسيان، كقولك سأكسوك فلا تعرى أي فتأمن ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 281. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 188، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 469، والتفسير الكبير / الرازي، ج 11، ص 130، والجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 20، ص 22.، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 454، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 322.، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 424، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 317، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 380. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 469.

العرى " (¬1). وذكر القرطبي أن هذه بشرى من الله تعالى، بشره بأن أعطاه آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحى، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه (¬2). قال الألوسي: " {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} بيان لهدايته تعالى شأنه الخاصة برسوله - صلى الله عليه وسلم - أثر بيان هدايته عز وجل العامة لكافة مخلوقاته سبحانه، وهي هدايته عليه الصلاة والسلام لتلقي الوحي وحفظ القرآن الذي هو هدى للعالمين، وتوفيقه - صلى الله عليه وسلم - لهداية الناس أجمعين، ويكون المراد بقوله تعالى: {فَلَا تَنْسَى} نفي النسيان مطلقاً عنه - صلى الله عليه وسلم - امتناناً عليه - صلى الله عليه وسلم - بأنه أوتي قوة الحفظ " (¬3). حجة من قال: إن معنى قوله: {فَلَا تَنْسَى} نهي له: - صلى الله عليه وسلم - عن ترك العمل: استدل أصحاب هذا القول بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: " سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قارئا يقرأ من الليل في المسجد فقال: لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتها من سورة كذا وكذا " (¬4). فقالوا "لا" هذه ناهية، وبالتالي يكون معنى الآية نهي للرسول أن ينسى شيئاً ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 11، ص 131. (¬2) انظر الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 20، ص 22. (¬3) روح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 317. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب من لم ير بأساً أيقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا، ج 4، ص 1923، ح - 4755.

من القرآن، وما دامت الآية واردة في سياق النهي، فمدلول هذا النهي أن النسيان أمر وارد على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما دام الأمر كذلك فليس من المستبعد أن يكون الرسول قد نسي شيئاً من القرآن. وأكثر الذين قالوا هذا القول هم أصحاب شبهة أرادوا أن يثيروا قضية , وهو وجود نقص في القرآن. " أما موقف أصحاب هذا القول من رسم الكلمة حيث إنه يعارض القول الذي ذهبوا إليه فإنهم يقولون فيه: " رسمت ألف الإطلاق ياء لموافقة غيرها من الفواصل وموافقة أصلها " (¬1). ¬

(¬1) انظر روح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 317. ونظائر هذه الأمثلة كثيرة في تفسيره منها: 1 - ... ماجاء في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 5)، وفيها قول ابن عاشور: " والقراءة بالصاد هي الراجحة لموافقتها رسم المصحف وكونها اللغة الفصحى " (التحرير والتنوير، ج 1، ص 190). 2 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران: 178)، وفيه قول ابن عاشور: " ولهذا يكون رسمهم كلمة (أنَّما) المفتوحة الهمزة في المصحف جارياً على ما يقتضيه اصطلاح الرسم. و {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} (التحرير والتنوير، ج 3، ص 167). 3 - ... ما جاء في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ =

القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور وجمهور المفسرين من قبله. ويؤكد ذلك رسم الكلمة حيث أثبتت فيها الياء في جميع المصاحف، ولو كانت ناهية لكانت مجزومة ولحذف حرف العلة، أما استدلال من قال بأن اللام ناهية بالحديث فإن ذلك مردود؛ لأن النسيان الوارد في الحديث ليس نسياناً دائماً لشيء يتعلق بأمور التبليغ، وما يتبع ذلك من أحكام وتكاليف شرعية، وإنما هو نسيان طارئ، كالذي يعرض لكل البشر، لكن سرعان ما يزول هذا النسيان الطارئ، ويعود الإنسان إلى تذكر ما كان غاب عن ذاكرته والحديث برواياته المتعددة لا يفيد أن الآيات التي قرأها الرجل أمام، كانت قد محيت من ذاكرة الرسول، ولم يعد يذكرها، ولم يبلغها للناس قبل ذلك؛ بل غاية ما يفيده الحديث، أن تلك الآيات كانت غائبة عن ذاكرته - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت، وأنه لم يتذكرها في تلك اللحظة التي كان يقرأ فيها ذلك الرجل، لكن بعد أن قرأها تذكرها. ¬

= الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 162) وفيه قول ابن عاشور: " وعطف (المقيمين) بالنصب ثبت في المصحف، وقرأه المسلمون في الأقطار دون نكير؛ فعلمْنا أنّه طريقة عربية في عطف الأسماء الدالّة على صفات محامدَ، على أمثالها، فيجوز في بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح، والرفعُ على الاستئناف للاهتمام " (التحرير والتنوير، ج 4، ص 25).

الفصل الخامس قواعد الترجيح المتعلقة بالسياق القرآني

الفصل الخامس قواعد الترجيح المتعلقة بالسياق القرآني وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره، مالم توجد حجة يجب إعمالها. المبحث الثاني: القول المبني على مراعاة النظم، وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره. المبحث الثالث: لكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها، فلا تعارض بين الآيات.

المبحث الأول القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره مالم توجد حجة يجب إعمالها

المبحث الأول القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره مالم توجد حجة يجب إعمالها صورة القاعدة: إذا اختلف المفسرون في تفسير آية من كتاب الله، بحيث يحملها البعض على معنى يخرجها عن سياق الآيات، ويحملها البعض الآخر على معنى لا يخرجها عن سياق الآيات أي معاني الآيات قبلها وبعدها، فإن حمل الآية على التفسير الذي يجعلها داخلة في معاني ما قبلها وما بعدها أولى وأحسن؛ لأنه أوفق بالسياق، مالم يرد دليل يمنع من هذا التفسير (¬1). شرح مفردات القاعدة: السياق: هو مجموع السباق واللحاق، أي: مجموع المعاني المتصلة من سابق الكلام ولا حقه (¬2). والسباق: قال فيه ابن فارس: " السين والباء والقاف أصل واحد صحيح يدل على التقديم" (¬3)؛ أي ما قبل الكلام المراد تفسيره. واللحاق: كل شيء لحق شيئا أو لحق به (¬4). ¬

(¬1) انظر قواعد الترجيح عند المفسرين /حسين الحربي، ج 1، ص 125. (¬2) عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل في تفسير القرآن / أحمد سلامة أبو الفتوح، ص 117. (¬3) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 482. (¬4) انظر لسان العرب / ابن منظور، ج 12، ص 251.

ومجموع السباق واللحاق يسمى (السياق) (¬1). ولقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة في تفسيره ورجّح بناءً عليها، وفي ذلك يقول في معرض ترجيحه لأحد الأقوال: " يعود ضمير: (كذبوك) في قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (¬2) إلى المشركين وهو المتبادر من سياق الكلام: سابِقِه ولاحقه " (¬3). وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬4): " والخطاب بـ (ادعوا) خاص بالمسلمين؛ لأنّه تعليم لأدب دعاء الله تعالى وعبادته، وليس المشركون بمتهيّئين لمثل هذا الخطاب، وهو تقريب للمؤمنين، وإدناء لهم، وتنبيه على رضى الله عنهم ومحبّته، وشاهدُه قوله بعده: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬5) والخطاب مُوَجَّه إلى المسلمين بقرينة السياق" (¬6) وسيتضح موقف ابن عاشور ومدى عنايته بهذه القاعدة أكثر من خلال ¬

(¬1) قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 126. (¬2) سورة الأنعام، الآية (147). (¬3) التحرير والتنوير، ج 5، ص 145. (¬4) سورة الأعراف، الآية (55). (¬5) سورة الأعراف، الآية (56). (¬6) التحرير والتنوير، ج 5، ص 171.

أقوال العلماء في القاعدة

الأمثلة التطبيقية لهذه القاعدة في تفسيره. أقوال العلماء في القاعدة: قال مسلم بن يسار: "إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده " (¬1). وبيّن ابن جرير الطبري أهمية هذه القاعدة في معرض تعليله لأحد اختياراته في التفسير حيث يقول: " وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب؛ لأن الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها، إذا كانت في سياق واحد" (¬2). وقال العز بن عبد السلام: " إذا احتمل الكلام معنيين، وكان حمله على أحدهما أوضح وأشد موافقة للسياق كان الحمل عليه أولى " (¬3). وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فمن تدبر القرآن، وتدبر ما قبل الآية وما بعدها، وعرف مقصود القرآن تبين له المراد، وعرف الهدى والرسالة، وعرف السداد من الانحراف والاعوجاج " (¬4). كما حذّر الشاطبي من تفريق النظر في السياق، وأنه يؤدي إلى غير المراد، فقال: " فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره وإذ ¬

(¬1) نقله عنه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 17. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 400. (¬3) قواعد الترجيح عند المفسرين /حسين الحربي، ج 1، ص 125. (¬4) مجموع الفتاوى، ج 15، 94.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف فإن فرّق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض " (¬1). الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - مثال صيد البحر: قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (¬2). اختلف المفسرون في المراد من قوله {وَطَعَامُهُ} فقال بعضهم: عنى بذلك ما قذف به إلى ساحل البحر ميتاً، وقال بعضهم: هو المليح من السمك، وقال آخرون هو ما نبت بمائه من زروع البر (¬3). ورجّح ابن عاشور القول الأول لمناسبته للسياق، وهو ما قذف به ساحل البحر أو طفا عليه من الميتة، وهذا قوله: " والذي روي عن جُلّة الصحابة رضي الله عنهم: أنّ طعام البحر هو ما طفا عليه من ميتة إذا لم يكن سبب ¬

(¬1) الموافقات في أصول الشريعة / الشاطبي، ج 3، ص 413. (¬2) سورة المائدة، الآية (96). (¬3) انظر هذه الأقوال في جامع البيان للطبري، ج 7، ص 80 - 82، وزاد المسير لابن الجوزي، ج 1، ص 588

موته إمساك الصائد له , ومن العلماء من نقل عنه في تفسير طعام البحر غير هذا ممّا لا يلائم سياق الآية، وهؤلاء هم الذين حرّموا أكل ما يخرجه البحر ميّتاً " (¬1). وقد وافق اختيار ابن عاشور من سبقه من المفسرين (¬2). حجة أصحاب القول الأول القائلين: إن المراد بـ {وَطَعَامُهُ} ماقذف به البحر ميتاً: حجتهم في ذلك أن سياق الآية يقتضيه، وهو قول أبي بكر وعمر وجماعة من الصحابة ومن التابعين. وفي ذلك يقول الطبري: " وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، قولُ من قال: "طعامه"، ما قذفه البحر، أو حَسَر عنه فوُجد ميتًا على ساحله. وذلك أن الله تعالى ذِكْره ذكر قبله صيدَ الذي يصاد، فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}، فالذي يجب أن يعطف عليه في المفهوم ما لم يُصَدْ منه، فقال: أحل لكم ما صدتموه من البحر، وما لم تصيدوه منه. وأما"المليح"، فإنه ما كان منه مُلِّح بعد الاصطياد، فقد دخل في جملة قوله: ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 52. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 7، ص 80 - 82، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 241، والتفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 438، والجامع لأحكام القرآن/ القرطبي، ج 6، ص 299، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 26، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 5، ص 336، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 78، وروح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 28، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 258، وأضواء البيان / الشنقيطي , ص 41.

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}، فلا وجه لتكريره، إذ لا فائدة فيه وقد أعلم " (¬1). ورجحه ابن عطية وقال: " وقول أبي بكر وعمر هو أرجح الأقوال " (¬2). حجة أصحاب القول الثاني القائلين: إن المراد بـ (وَطَعَامُهُ) هو المليح من السمك: حجتهم في ذلك ما روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والسدي قولهم: "طعامه ما ملح منه وبقي " (¬3). حجة أصحاب القول الثالث القائلين بأن المراد بـ (وَطَعَامُهُ) هو: ما نبت بمائه من زروع البر: حجتهم في ذلك أنه نبت عن ماء البحر، وطعامه هو كل ما سقاه الماء فأنبت فهو طعام البحر وهذا القول حكاه الزجاج (¬4). القول الراجح: هو ما رجحه ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين، وذلك لمناسبته للسياق، وتتعاضد قاعدة المبحث هنا مع قاعدة أخرى يرجح ابن عاشور بضمونها وهي: (إذا ثبت الحديث وكان نصاً في تفسير الآية فلا يصار إلى غيره) فبعد أن ذكر القول الراجح وأبطل ما عداه ساق الأحاديث الدالة على صحة ما ذهب إليه ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 7، ص 82. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 241. (¬3) أخرج رواياتهم الطبري في تفسيره، ج 7، ص 81. (¬4) انظر معاني القرآن / الزجاج، ج 2، ص 209.

فقال: "، ويردّ قولهم ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال في البحر: " هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته " (¬1). وأصح ما في هذا الباب حديث جابر في الحوت المسمّى العنبر، حين وجدوه ميّتاً، وهم في غزوة، وأكلوا منه، وفيه: " فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له فقال: " هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأكله " اللفظ لمسلم (¬2). وأما القول الثاني فقد ضعفه الرازي بقوله: " وهو ضعيف؛ لأن الذي صار مالحاً فقد كان طرياً وصيداً في أول الأمر , فيلزم التكرار في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} " (¬3). وكذلك القول الثالث استبعده الألوسي بقوله: "وأبعد منه - أي القول الثاني- كون المراد بطعامه ما ينبت بمائه من الزروع والثمار" (¬4). ¬

(¬1) أخرجه أبو داوود في سننه، كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، ج 1، ص 21، ح- 83، والترمذي في سننه، كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، ج 1، ص 101، ح- 69، والنسائي في الكبرى، كتاب الطهارة، باب ذكر ماء البحر والوضوء منه، ج 1، ص 75، ح- 58، وصححه الحاكم في المستدرك، ج 3، ص 323، ح- 491. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر وهم يتلقون عيراً لقريش، ج 4، ص 1585، ح- 4104، ومسلم في صحيحه / كتاب الصيد، باب إباحة ميتات البحار، ج 3، ص 1535 - 1536، ح- 1935. (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 438. (¬4) روح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 28.

2 - مثال أم موسى: قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). اختلف المفسرون في توجيه معنى قوله: {فَارِغًا} على عدة أقوال، ويعود مرجع اختلافهم كما يقول ابن عاشور إلى ناحيتين: ناحية تؤذن بثبات أم موسى، ورباطة جأشها, وناحية تؤذن بتطرق الضعف والشك إلى نفسها، وإليك قوله: " فأما ما يرجع إلى الناحية الأولى فهو أنه فارغ من الخوف والحزن فأصبحت واثقة بحسن عاقبته تبعاً لما ألهمها من أن لا تخاف ولا تحزن فيرجع إلى الثناء عليها , فالمعنى: أنها لما ألقته في اليم كما ألهمها الله، زال عنها ما كانت تخافه عليه من الظهور عليه عندها وقتله؛ لأنها لما تمكنت من إلقائه في اليم ولم يشعر بها أحد قد علمت أنه نجا، وهذا المحمل يساعده أيضاً ما شاع من قولهم: فلان خلي البال: إذا كان لا هم بقلبه. وهو تفسير أبي عبيدة (¬2). وأما الأقوال الراجعة إلى الناحية الثانية فقال ابن عطية والقرطبي عن ابن القاسم عن مالك: الفراغ هو ذهاب العقل. قال ابن عطية: هو كقوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} (¬3) أي لا عقول فيها , وفي «الكشاف»: أي لما سمعت ¬

(¬1) سورة القصص، الآية (10). (¬2) انظر مجاز القرآن / أبو عبيدة، ج 2، ص 98، والتحرير والتنوير، ج 10، ص 81. . (¬3) سورة إبراهيم، الآية (43).

بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع. وقال ابن زيد والحسن وابن إسحاق: أصبح فارغاً من تذكر الوعد الذي وعدها الله؛ إذ خامرها خاطر شيطاني فقالت في نفسها: إني خفت عليه من القتل فألقيته بيدي في يد العدو الذي أمر بقتله، قال ابن عطية: وقالت فرقة: فارغاً من الصبر , ولعله يعني من الصبر على فقده. وكل الأقوال الراجعة إلى هذه الناحية ترمي إلى أن أم موسى لم تكن جلدة على تنفيذ ما أمرها الله تعالى , وأن الله تداركها بوضع اليقين في نفسها " (¬1). ورجّح ابن عاشور الناحية الأولى، حيث إنه قال بعد أن ذكرها: وهذا أسعد بقوله تعالى بعد: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وهذا أحسن ما فسرت به وهو من معنى الثناء عليها بثباتها " (¬2). وابن عاشور في ترجيحه لهذا القول قد احتكم إلى سياق الآية، وذلك نأخذه من قوله: " وهذا أسعد بقوله تعالى {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}. وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين البغوي، والزمخشري (¬3). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 10، ص 80 - 81، وانظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 278، والكشاف / الزمخشري، ج 4، ص 485، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 13، ص 265. (¬2) التحرير والتنوير، ج 10، ص 81. (¬3) انظر معالم التنزيل / البغوي، ج 6، ص 194، والكشاف / الزمخشري، ج 4، ص 486.

في حين ذهب جمهور المفسرين إلى القول بأن المراد بالآية أن قلبها أصبح فارغاً من شدة الحزن (¬1). حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن قلبها أصبح فارغاً من الخوف والحزن: قالوا: إن أم موسى زال عنها الخوف والحزن والهم لما ألقت ولدها في اليم كما ألهمها الله، ولم يقتله فرعون، كما أنها لم تملك نفسها فرحا حين علمت أن فرعون تبناه، وكادت أن تبدي بذلك لولا أن طامن الله قلبها. وفي ذلك يقول الزمخشري: " ويجوز وأصبح فؤادها فارغاً من الهم، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه إن كادت لتبدي بأنه ولدها؛ لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت، لولا أنا طامنا قلبها وسكنَّا قلقه الذي حدث به من شدّة الفرح والابتهاج، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبني فرعون وتعطفه " (¬2). وذهب إلى هذا القول البغوي وصححه (¬3). ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 20، ص 45، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 278، والتفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 581، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 13، ص 265، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 102، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 445، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 160، وروح المعاني / الألوسي، ج 10، ص 258، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 537، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 772. (¬2) الكشاف / الزمخشري، ج 4، ص 486. (¬3) انظر معالم التنزيل / البغوي، ج 6، ص 194.

حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين يرون أن قلبها أصبح فارغاً من شدة الحزن: حجتهم في ذلك: دلالة السياق , وهو قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}، وهذا القول رجحه معظم المفسرين كما تقدم، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة والمعنى: أن قلبها أصبح فارغا من كل شيء غير ذكر موسى (¬1) قال أبو جعفر: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قول من قال: معناه: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} من كلّ شيء، إلا من همّ موسى. وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب؛ لدلالة قوله: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ولو كان عَنَى بذلك: فراغ قلبها من الوحي، لم يعقب بقوله: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي} لأنها إن كانت قاربت أن تبدي الوحي، فلم تكد أن تبديه إلا لكثرة ذكرها إياه، وولوعها به. ومحال أن تكون به ولعة إلا وهي ذاكرة " (¬2). القول الراجح: الذي يبدو بعد النظر والتأمل في سياق القصة أن المعنى الثاني هو الأليق ¬

(¬1) أخرج رواياتهم الطبري في تفسيره، ج 20، ص 44. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 20، ص 45.

بأحداث القصة, والأنسب للسياق؛ بدلالة قوله تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} من شدة الخوف على ولدها، فلم يبق لها أي تفكير سوى تفكيرها بسلامة ولدها. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال في معناها: " كادت أن تقول وابناه " (¬1). أما ما ذهب إليه ابن عاشور محتجا على ذلك بالسياق، فالذي يبدو لي والله أعلم أن الصواب خلاف ما اختاره، بل لا أرى السياق إلا ضده، ودليلٌ على حزن أم موسى لأن الله تعالى يقول: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا}. وقد ردّ هذا القول عدد من العلماء منهم: ابن قتيبة، والنحاس، والرازي، وأبو حيان. قال ابن قتيبة: " وهذا من العجائب كيف يكون فؤادها فارغاً من الحزن، والله تعالى يقول: {لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون؟ والعرب تقول للخائف والجبان: " فؤاده هواء" (¬2). وقال النحاس: " قول أبي عبيدة "فارغاً من الغم": غلط قبيح؛ لأن بعده: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} ... " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم، ج 7، ص 184. (¬2) تفسير غريب القرآن / ابن قتيبة، ص 281. (¬3) معاني القرآن / النحاس، ج 5، ص 161.

كما استبعده أبو حيان وبيّن أن القراءات الشواذ التي في اللفظة تبعده (¬1)، ومن تلك القراءات: قراءة فضالة بن الأنصاري (¬2) (فَزِعا) بالزاي (¬3). وذكر الرازي هذا القول ثم أثار أسئلة حوله وأجاب عنها بقوله: " ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يمتنع أنها لشدة ثقتها بوعد الله لم تخف عند إظهار اسمه، وأيقنت أنها وإن أظهرت فإنه يسلم لأجل ذلك الوعد إلا أنه كان في المعلوم أن الإظهار يضر فربط الله على قلبها، ويحتمل قوله: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} بالوحي فأمنت وزال عن قلبها الحزن، فعلى هذا الوجه يصح أن يتأول على أن قلبها سلم من الحزن على موسى أصلاً، وفيه وجه ثالث: وهو أنها سمعت أن امرأة فرعون عطفت عليه وتبنته إن كادت لتبدي به بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحاً بما سمعت، لولا أن سكنا ما بها من شدة الفرح والابتهاج {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الواثقين بوعد الله تعالى لا يتبنى امرأة فرعون اللعين وبعطفها، وقرئ (قَرِعاً) أي خالياً من قولهم أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء (وفرغاً) من قولهم: دماؤهم بينهم فرغ ¬

(¬1) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 102. (¬2) هو فضالة بن عبيد بن ناقد بن قيس بن صهيب بن الأصرم بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري العمري الأوسي، يكنى أبا محمد، أول مشاهده: أحد , ثم شهد المشاهد كلها ثم انتقل إلى الشام، وسكن دمشق وبنى بها داراً، وكان فيها قاضياً لمعاوية، ومات بها وقبره بها معروف إلى اليوم. (انظر الإصابة في تمييز الصحابة / ابن حجر، ج 5، ص 371، والاستيعاب في معرفة الأصحاب / ابن عبد البر، ج 3، ص 1262). (¬3) القراءات الشاذة / ابن خالويه، ص 111.

أي هدر يعني بطل قلبها من شدة ما ورد عليها" (¬1). ومما يرجح القول الثاني ويعضده القاعدة الترجيحية التي تقول: (تأتي القراءة في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة في الآية) , وقد وردت قراءة عن فضالة بن عبيد في قوله " فارغاً "، وقد تقدم ذكرها , وهي وإن كانت قراءة شاذة إلا أنه قد يستأنس بها في الترجيح. وهناك قرائن أخرى ذكرها أحد الباحثين من العلماء الدكتور (زيد عمر عبد الله) في ترجيح هذا القول وهي: 1 - إن في السياق قرائن تدل على أن أم موسى انتابها شيء من الخوف والقلق على ابنها؛ فإن فؤادها أصبح فارغاً, ويعبر بفراغ الفؤاد عن ذهاب العقل, ومثله قوله تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} (¬2) لا عقول فيها , وإن شاع في كلام الناس "فلان خلي البال", إذا كان لا هم بقلبه , لكن السياق يأباه. 2 - صُدِّرت الآية بقوله تعالى (فأصبح) , وهى مستعملة هنا بمعنى "صار", فاقتضى تحولاً من حالة إلى أخرى, أي: كان فؤادها غير فارغ، فصار فارغاً، وجاء الإخبار عن فراغ فؤادها بعد الإخبار عن إلقاء موسى في الماء؛ فكان من مستتبعاته. 3 - ورد في الآية أن الله ربط على قلبها, والربط على القلب توثيقه من أن يضعف، كما يشد العضد الوهن , وهذا لا يكون إلا في حالة الخوف ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 581. (¬2) سورة إبراهيم، الآية (43).

والاضطراب, ويؤكده أن علة الربط: كي لا تبدي شيئاً مما من شأنه أن يكشف من أمرها شيئاً, ولكي يحملها على التصديق بوعد الله. ومن التكلف البارد قول بعضهم: إنها كانت تبدي فرحها بما حصل لموسى , وهنا يظهر الفرق بين منهج من انتزع اللفظة من سياقها، وبين منهج من نظر إليها في ضوء هذا السياق. 4 - قول أم موسى لأخته "قصيه" يدل على لهفها عليه، وتشوقها إلى معرفة الحال التي آل إليها, وهذا نابع من خوف وقلق, وبين الله تعالى علة رد موسى إلى أمه؛ فقال: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} (¬1) , وهذا يومئ إلى أنها كانت قبل رده محلاً لشيء من البكاء الذي به تسخن العين, وهو عكس قرة العين, وكانت كذلك حزينة على فراقه (¬2). 3 - مثال وصية لقمان: قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (¬3). اختلف المفسرون في هذه الآية: هل هي مما أبلغه لقمان لابنه مما أوتيه من الوحي، أو هي اعتراضية من كلام الله تعالى؟ ؟ ، وقد ورجّح ابن عاشور كونها من كلام لقمان مما أبلغه لابنه مما أوتيه من الوحي مستندا في ترجيحه هذا إلى السياق، وفي ذلك يقول: "وإذا درجنا على أن لقمان كان نبياً فهذا الكلام مما ¬

(¬1) سورة القصص، الآية (13). (¬2) مجلة جامعة الملك سعود , العلوم التربوية والدراسات الإسلامية، ج 15، ص 853 - 855. (¬3) سورة لقمان، الآية (14).

أبلغه لقمان لابنه وهو مما أوتيه من الوحي ويكون قد حكي بالأسلوب الذي أوحي به إليه على نحو أسلوب قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} (¬1) وهذا الاحتمال أنسب بسياق الكلام، ويرجحه اختلاف الأسلوب بينها وبين آية سورة العنكبوت (¬2) وسورة الأحقاف (¬3) لأن ما هنا حكاية ما سبق في أمة أخرى والأخريين خطاب آنف لهذه الأمة " (¬4). وممن قال بقوله: الطبري، والرازي إلا أنهما لم يذكرا قولاً غيره، ولذلك لم يذكرا سبباً لاختيارهما هذا القول كالسياق مثلاً كما فعل ابن عاشور (¬5). في حين رجح ابن عطية، والقرطبي أن الآيتين نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -. ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية (12). (¬2) ومنه قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8). (¬3) وفيه قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (الأحقاف: 15) .. (¬4) التحرير والتنوير، ج 10، ص 156. (¬5) انظر جامع البيان / الطبري، ج 21، ص 83، والتفسير الكبير/ الرازي، ج 9، ص 120.

وذهب ابن كثير، والشوكاني، والقاسمي إلى أنها جملة معترضة من كلام الله تعالى (¬1).واحتمل أبو حيان، والألوسي كلا القولين، ولم يرجحا (¬2). حجة أصحاب القول الأول، وهم القائلون: إن هذه الجملة معترضة من كلام الله تعالى: قال ابن عطية: " هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان , ويعني بذلك قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ..... }، وقوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا .... } وقال ابن عطية: "ووجَّه الطبري ذلك بأنها من معنى كلام لقمان ومما قصده، وذلك غير متوجه لأن كون الآيتين في شأن سعد بن أبي وقاص حسب ما أذكره بعد يُضعِّفُ أن تكون مما قالها لقمان " (¬3). روى مسلم في صحيحه من طريق سماك بن حرب عن مصعب عن سعد عن أبيه أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب قالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 348، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 14، ص 65، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 11، ص 53، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 238، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 615 .. (¬2) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 182، وروح المعاني/ الألوسي، ج 11، ص 84. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 348.

وأنا أمك وأنا آمرك بهذا قال: مكثت ثلاثا حتى غشي عليها من الجهد فقام ابن لها , يقال له عمارة , فسقاها فجعلت تدعو على سعد , فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ...... } (¬1). قال ابن عاشور موضحا حجة أصحاب هذا القول: ": "إذا درجنا على أن لقمان لم يكن نبيا مبلغاً عن الله، وإنما كان حكيماً مرشداً كان هذا الكلام اعتراضاً بين كلامي لقمان لأن صيغة هذا الكلام مصوغة على أسلوب الإبلاغ والحكاية لقول من أقوال الله. والضمائر ضمائر العظمة جرَّتْه مناسبة حكاية نهي لقمان لابنه عن الإشراك وتفظيعه بأنه ظلم عظيم. فذكر الله هذا لتأكيد ما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بتعميم النهي في الأشخاص والأحوال؛ لئلا يتوهم متوهم أن النهي خاص بابن لقمان أو ببعض الأحوال , فحكى الله أن الله أوصى بذلك كل إنسان وأن لا هوادة فيه ولو في أحرج الأحوال وهي حال مجاهدة الوالدين أولادَهم على الإشراك. وأحسن من هذه المناسبة أن تجعل مناسبة هذا الكلام أنه لما حكى وصاية لقمان لابنه بما هو شكر الله بتنزيهه عن ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص، ج 4، ص 1877, ح - 1748.

الشرك في الإلهية بيَّن الله أنه تعالى أسبق منَّة على عباده إذ أوصى الأبناء ببر الآباء فدخل في العموم المنة على لقمان جزاءً على رعيه لحق الله في ابتداء موعظة ابنه فالله أسبق بالإحسان إلى الذين أحسنوا برَعْي حقه " (¬1). حجة أصحاب القول الثاني القائلين: إن هذه الجملة من قول لقمان: حجتهم في ذلك أن سياق الآية يقتضيه، قال ابن عاشور: " وهذا الاحتمال أنسب بسياق الكلام ... ولا يحسن ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن هذه الآية نزلت في قضية إسلام سعد بن أبي وقاص وامتعاض أمه، لعدم مناسبته السياق، ولأنه قد تقدم أن نظير هذه الآية في سورة العنكبوت نزل في ذلك، وأنها المناسبة لسبب النزول فإنها أخلِيت عن الأوصاف التي فيها ترقيق على الأم بخلاف هذه، ولا وجه لنزول آيتين في غرض واحد ووقت مختلف " (¬2). القول الراجح: إن الآية معترضة من كلام الله تعالى. قال الشوكاني: " {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} هذه التوصية بالوالدين وما بعدها إلى قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} اعتراض بين كلام لقمان لقصد التأكيد لما فيها من النهي عن الشرك بالله، وتفسير التوصية هي قوله: {أَنِ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 10، ص 156. (¬2) التحرير والتنوير، ج 10، ص 157.

اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}، وما بينهما اعتراض بين المفسَّر والمفسِّر، وفي جعل الشكر لهما مقترناً بالشكر لله دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد، وأكبرها وأشدّها وجوباً" (¬1). أما ما ذهب إليه ابن عاشور من أن الآية من كلام لقمان مستدلاً على ذلك بالسياق فإنه تعارضه قاعدة أقوى منه وهي: (إذا صحَّ سبب النزول الصريح فهو مرجح لما وافقه)، ورواية مسلم نص على أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه. وقول ابن عاشور: إن نظير هذه الآية في سورة العنكبوت نزل في ذلك غير صحيح؛ لأن رواية مسلم المذكورة نص على أن فيها قوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (¬2) وذلك في سورة لقمان لا العنكبوت، كما أخرج أحمد هذا الحديث بنفس إسناد مسلم (¬3)، وفيه فأنزلت: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} (¬4) وقرأ حتى بلغ: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وذلك قطعاً في سورة لقمان. ¬

(¬1) فتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 238. (¬2) سورة لقمان، الآية (15). (¬3) أخرجه أحمد في مسنده، ج 1، ص 185، ح- 1614. (¬4) سورة لقمان، الآية (14).

4 - مثال الدخان: قال تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (¬1). اختلف المفسرون في الدخان الذي أمر الله تعالى بارتقابه على عدة أقوال: الأول: إن هذا الدخان هو: ما أصاب قريشاً من الشدة والجوع عندما دعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين لم يستجيبوا له، فأصبحوا يرون في السماء كهيئة الدخان. الثاني: إنه الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة. وهذان القولان ذكرهما ابن عاشور في تفسيره، وفي ذلك يقول: " "عن الأعرج أنه الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة فقد حجبت الغبرة السماء، وإسناد الإتيان به إلى السماء مجاز عقلي لأن السماء مكانه حين يتصاعد في جو السماء أو حين يلوح للأنظار منها. إلى أن قال: والأصح أن هذا الدخان عُني به ما أصاب المشركين من سِنِي القحط بمكة بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة " (¬2). وهناك قول ثالث ذكره معظم المفسرين ولم يذكره ابن عاشور وهو أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة يأخذ المؤمن منه كالزكمة، وينفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه (¬3). وابن عاشور في ترجيحه للقول الثاني وهو ما أصاب المشركين من سِنِي ¬

(¬1) سورة الدخان، الآية (10). (¬2) التحرير والتنوير، ج 12، ص 287. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 25، ص 134، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 69.

القحط بمكة قد احتكم في ترجيحه هذا إلى السياق، وإن لم يصرح به إلا أن مفهوم كلامه يقتضي هذا، يقول: " والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقَب حادث قريب الحصول، فالظاهر أنه حَدث يكون في الحياة الدنيا، وأنه عقاب للمشركين "، كما يؤذن بذلك قوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} (¬1) " (¬2). وقد ذهب إلى هذا القول الذي رجحه ابن عاشور عدد من المفسرين منهم: الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، والشوكاني، والألوسي، والشنقيطي (¬3). في حين رجّح ابن كثير، والقاسمي القول الثالث كونه يوم القيامة (¬4). واحتمل أبو حيان، وغيره (¬5) كلا المعنيين الثاني والثالث فقال: " فإن كان هو الذي رأته قريش، فالناس خاص بالكفار من أهل مكة، وقد مضى كما قال ابن مسعود؛ (¬6) وإن كان من أشراط الساعة، أو يوم القيامة، فالناس عام فيمن ¬

(¬1) سورة الدخان، الآية (15). (¬2) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 12، ص 286. (¬3) انظر جامع البيان/ الطبري، ج 25، ص 135، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 69، والتفسير الكبير /الرازي، ج 9، ص 656، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 130، (¬4) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 12، ص 340، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 302. (¬5) وكذلك احتمل الشوكاني كل الأقوال في فتح القدير، ة ج 4، ص 571، والشنقيطي في أضواء البيان، ص 505. (¬6) سيأتي حديث ابن مسعود عند ذكر حجة أصحاب القول الثاني.

أدركه وقت الأشراط، وعام بالناس يوم القيامة " (¬1). حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن الدخان هو الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة: وهذا من قول عبد الرحمن الأعرج (¬2) , وقد ضعفه ابن كثير بقوله: " هذا القول غريب جدًا , بل منكر " (¬3). حجة أصحاب القول الثاني وهم الذين قالوا بأن الدخان هو الذي رأته قريش حين دعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: استدلوا على ذلك بما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه -، وقد رواه ابن جرير في تفسيره بسنده عن مسروق، قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن: إن قاصّاً عند أبواب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس اتقوا الله، فمن علم شيئا فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم, فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم، وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم، فإن الله عزّ وجلّ يقول لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (¬4) إن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لما رأى من الناس إدبارا، قال: "اللهمّ ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 35. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم بسنده، ج 10، ص 3287، ح- 18532. (¬3) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 12، ص 336. (¬4) سورة، ص الآية (86).

سبعا كسبع يوسف"، فأخذتهم سنة حصَّت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانا من الجوع، فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد إنك جئت تأمر بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، قال الله عزّ وجلّ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ... إلى قوله: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} قال: فكُشف عنهم: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} (¬1) فالبطشة يوم بدر، وقد مضت آية الروم وآية الدخان، والبطشة واللزام (¬2). قال ابن كثير: " وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه أحمد في مسنده (¬3) وهو عند الترمذي (¬4) والنسائي (¬5) " (¬6). وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين: " أحدهما: أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر، ويرتفع ¬

(¬1) سورة الدخان، الآية (16). . (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير: باب: أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين"، ج 4، ص 1824، ح- 4546، ومسلم في صحيحه، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب الدخان، ج 4، ص 2155، ح- 2798.، وابن جرير بسنده، في جامع البيان ج 25، ص 132. (¬3) مسند أحمد، ج 1، ص 380 - 431. (¬4) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب من سورة الدخان، ج 5، ص 379، ح- 3254. (¬5) أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب التفسير، ج 6، ص 350، ح- 11202. (¬6) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 12، ص 336.

الغبار الكثير، ويظلم الهواء. وذلك يشبه الدخان. ولهذا يقال لسنة المجاعة الغبراء. ثانيهما: أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان. فيقولون: (كان بيننا أمر ارتفع له دخان). والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه، أظلمت عيناه، فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان " (¬1). وقال الشوكاني: " والراجح منها: أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد، وشدّة الجوع، ولا ينافي ترجيح هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر، ولا ينافيه أيضاً ما قيل: إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان آخر على تقدير صحة وقوعه " (¬2). حجة أصحاب القول الثالث، وهم القائلون بأنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة: حجتهم في ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر فقال: (ما تذكرون)؟ قالوا: نذكر الساعة، قال: (إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات - فذكر - الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) (¬3). ¬

(¬1) تفسير غريب القرآن / ابن قتيبة، ص 346، (¬2) فتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 571. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في الآيات التي تكون قبل الساعة، ج 4، ص 2225، ح- 2901.

وهذا القول رجحه ابن كثير والقاسمي، قال القاسمي: "وهكذا رجح ابن كثير الوجه الثاني ذهابا إلى ما صح عن ابن عباس، ترجمان القرآن، ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرهما، التي أوردوها، مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة، على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن. قال الله تبارك وتعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} أي بين واضح يراه كل أحد. وعلى ما فسر ابن مسعود رضي الله عنه، إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد. وهكذا قوله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ} أي: يتغشّاهم ويعمهم. ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه {يَغْشَى النَّاسَ} " (¬1). وذكر الرازي وجوهاً احتج بها القائلون بهذا القول وهي: الأول: أن قوله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} يقتضي وجود دخان تأتي به السماء وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز. الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونها دخاناً مبيناً. ¬

(¬1) محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 302.

والثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس، وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم والحال التي ذكرتموها لا توصف بأنها تغشي الناس إلا على سبيل المجاز وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل. الرابع: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم عليهما السلام ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر " قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآية وقال " دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره " (¬1). وردّ الرازي تلك الحجج فقال: "وأما قولهم أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع والقوم لم يذكروا ذلك الدليل فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً، فإن قالوا الدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} (¬2) وهذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام , فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى إليه أبو سفيان وناشده بالله والرحم وأوعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم، أما إذا حملناه ¬

(¬1) أخرجه الطبري بسنده في تفسيره، ج 25، ص 135. (¬2) سورة الدخان، الآية (12).

على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك، لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ولم يصح أيضاً أن يقال: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} " (¬1). القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور ومن سبقه من أن الدخان سنين القحط التي أصابت قريشاً بدلالة السياق. قال ابن عاشور: " يؤذن بذلك قوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا} (¬2) " (¬3). قال الطبري: " وأولى القولين بالصواب في ذلك ما رُوي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرتقبه، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم، ... إلى أن قال: " وإنما قلت: القول الذي قاله عبد الله بن مسعود هو أولى بتأويل الآية، لأن الله جلّ ثناؤه توعَّد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي , ج 9 , ص 657. (¬2) سورة الدخان، الآية (15). (¬3) التحرير والتنوير، ج 12، ص 286.

يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} (¬1) " (¬2). وقال القرطبي: وقد كشفه الله عنهم، ولو كان يوم القيامة لم يكشفه عنهم (¬3). وللألوسي كلام جميل وواضح في هذا الترجيح حيث يقول: " هذا والأظهر حمل الدخان على ما روي عن ابن مسعود أولاً؛ لأنه أنسب بالسياق , لما أنه في كفار قريش وبيان سوء حالهم مع أن في الآيات بعد ما هو أوفق به، فوجه الربط أنه سبحانه لما ذكر من حالهم مقابلتهم الرحمة بالكفران وأنهم لم ينتفعوا بالمنزل والمنزل عليه عقب بقوله تعالى شأنه: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ} الخ، للدلالة على أنهم أهل العذاب والخذلان لا أهل الإكرام والغفران " (¬4). ومما يعضد هذا القول ويرجحه القاعدة الترجيحية: (إذا ثبت الحديث وكان نصاً في تفسير الآية فلا يصار إلى غيره) (¬5). قال الشنقيطي: " وفي تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لهذه الآية الكريمة ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في (سورة النحل) من ¬

(¬1) سورة الدخان، الآية (9). (¬2) جامع البيان / الطبري , ج 25 , ص 135. (¬3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 128. (¬4) روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 117. (¬5) قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 1، ص 191.

لباس الجوع أذيقه أهل مكة، حتى أكلوا العظام، وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع. وهذا التفسير من ابن مسعود رضي الله عنه له حكم الرفع؛ لما تقرر في علم الحديث: من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع "، وقد ثبت في صحيح مسلم أن الدخان من أشراط الساعة , ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين: الدخان الذي مضى، والدخان المستقبل جمعاً بين الأدلة" (¬1). 5 - مثال الغفلة: قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (¬2). اختلف المفسرون في من المخاطب في هذه الآية على أقوال: فقال ابن زيد: المراد به النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة في قريش في جاهليتهم. وقال ابن عباس والضحاك: إن المراد به المشركون أي كانوا في غفلة من عواقب أمورهم. وقال أكثر المفسرين: إن المراد به البر والفاجر (¬3). ورجّح ابن عاشور أن المراد به الكافر فقال: يقال هذا الكلام لكل نفس من ¬

(¬1) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 505. (¬2) سورة ق، الآية (22). (¬3) انظر هذه الأقوال في النكت والعيون / الماوردي، ج 5، ص 349.

نفوس المشركين فهو خطاب التهكم التوبيخي للنفس الكافرة لأن المؤمن لم يكن في غفلة عن الحشر والجزاء. وابن عاشور في ترجيحه هذا اعتمد على السياق وهو يرى أن هذه الآيات والتي قبلها في المشركين ودليله على ذلك السياق. (¬1) وقد ذهب إلى هذا القول أبو حيان (¬2). أما جمهور المفسرين فيرون أن المخاطب في هذه الآيات عموم الإنسان المؤمن والكافر (¬3). حجة أصحاب القول الأول القائلين: إن المخاطب في هذه الآية هو النبي - صلى الله عليه وسلم -: ذكر الطبري حجة أصحاب هذا القول فقال: " قالوا هذا الكلام خطابا من الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان فى غفلة في الجاهلية من هذا الدين الذي بعثه به، فكشف عنه غطاءه الذي كان عليه في الجاهلية، فنفذ بصره بالإيمان وتبيَّنه حتى تقرّر ذلك عنده، فصار حادّ البصر به" (¬4). وردّ ابن عطية هذا التأويل وضعفه من وجوه: ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 12، ص 308. (¬2) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 124. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 189، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 162، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 135، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 190، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 76، وروح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 334، وساق القاسمي الأقوال الواردة في الآية وذكر أن ابن جرير عول في الأولوية على هذا القول (محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 471)، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1352. (¬4) جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 189.

" أحدها: أن الغفلة إنما تنسب أبداً إلى مقصر، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لا تقصير له قبل بعثه ولا بعده وثانيها: أن قوله بعد هذا: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا} (¬1) يقتضي أن الضمير إنما يعود على أقرب مذكور، وهو الذي يقال له {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (¬2) وإن جعلناه عائداً على ذي النفس في الآية المتقدمة جاء هذا الاعتراض لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بين الكلامين غير متمكن فتأمله. وثالثها: أن معنى توقيف الكافر وتوبيخه على حاله في الدنيا يسقط، وهو أحرى بالآية وأولى بالرصف، والوجه عندي ما قاله الحسن وسالم بن عبد الله إنها مخاطبة للإنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر" (¬3). كما ضعّف هذا القول أبو حيان ولم ينقله وإنما قال: " وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله، وهو في كتاب ابن عطية " (¬4)، وكذلك رده الألوسي بقوله: " إنه زعم ساقط لا يوافق السباق ولا السياق" (¬5). ¬

(¬1) سورة، ق، الآية (23). (¬2) سورة، ق، الآية (22). (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 162. (¬4) البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 125.قلت: لم يُرد زيد بن أسلم - رضي الله عنه - من قوله هذا الإساءة له - صلى الله عليه وسلم -، وإنما مراده أنه كان في غفلة من نزول الوحي عليه وتحمل الرسالة، وهذا قوله: " الآية مخاطبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى أنه خوطب بهذا في الدنيا، أي لقد كنت يامحمد في غفلة من معرفة هذا القصص والغيب حتى أرسلناك وأنعمنا عليك وعلمناك. (المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 162) (¬5) روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 334.

حجة أصحاب القول الثاني القائلين: إن المخاطب في هذه الآية هو الكافر: حجتهم في ذلك: السياق؛ لأن الآية في معرض الخطاب على صيغة التهكم التوبيخي. قال صالح بن كيسان والضحاك وابن عباس - رضي الله عنه -: معنى قوله: {لَقَدْ كُنْتَ} أي: يقال للكافر الغافل من ذوي النفس التي معها السائق والشهيد إذا حصل بين يدي الرحمن وعاين الحقائق التي كان لا يصدق بها في الدنيا ويتغافل عن النظر فيها، {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} (¬1)، فلما كشف الغطاء عنك الآن احتد بصرك أي بصيرتك (¬2). قال الألوسي: " يقال للكافر الغافر إذا عاين الحقائق التي لم يصدق بها في الدنيا من البعث وغيره لقد كنت في غفلة من هذا الذي تعاينه، فالخطاب للكافر كما قال ابن عباس. وصالح بن كيسان، وتنكير الغفلة وجعله فيها وهي فيه يدل على أنها غفلة تامة، وهكذا غفلة الكفرة عن الآخرة وما فيها، وقيل: لجملة محكية بإضمار قول هو صفة لنفس أو حال والخطاب عام أي يقال لكل نفس أو قد قيل لها: لقد كنت " (¬3). وقال ابن عاشور: " يقال هذا الكلام لكل نفس من نفوس المشركين فهو ¬

(¬1) سورة، ق، الآية (22). (¬2) أخرج قول ابن عباس الطبري في تفسيره، ج 26، ص 189، وانظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 162. (¬3) روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 334.

خطاب التهكم التوبيخي للنفس الكافرة، لأن المؤمن لم يكن في غفلة عن الحشر والجزاء " (¬1). حجة أصحاب القول الثالث القائلين: إن المخاطب في هذه الآية هو البر والفاجر: حجتهم في ذلك أن الآيات تخاطب الإنسان عموماً، ويدخل فيه المؤمن والكافر، قال الطبري: "يقال للإنسان: لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم أيها الإنسان من الأهوال والشدائد {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} (¬2) يقول: فجلينا ذلك لك، وأظهرناه لعينيك، حتى رأيته وعاينته، فزالت الغفلة عنك " (¬3). وقال الرازي: " والخطاب عام، أما الكافر فمعلوم الدخول في هذا الحكم، وأما المؤمن فإنه يزداد علماً ويظهر له ما كان مخفياً عنه " (¬4). القول الراجح الذي يبدو لي والله أعلم أن المخاطب في هذه الآية الإنسان الغافل عموماً سواء كان مؤمناً أو كافراً؛ لأنه حتى المؤمن تنتابه الغفلة أحيانا وتلهيه الدنيا وطول الأمل عن المصير المحتوم، والله تعالى يقول في أول الآيات: ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 308. (¬2) سورة، ق، الآية (22) (¬3) جامع البيان/ الطبري، ج 26، ص 189. (¬4) التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 135.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} (¬1) أي عموم الإنسان، وإن كان المقصود الأول بذلك الشخص الكافر، لأن الآيات فيها من الوعيد وهو المعني الأول بهذا الوعيد وهو ما رجحه ابن عاشور، وهو الأنسب بالسياق، والآية بحسب السابق واللاحق في سياق الحديث عن المشركين، لأن الله تعالى يقول في الآيات قبلها: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (¬2)، ومعنى تحيد تفر وتهرب، وهو مستعار للكراهية. قال ابن عاشور: " والخطاب للمقصود من الإنسان وبالمقصود الأول منه وهم المشركون لأنهم أشدّ كراهية للموت لأن حياتهم مادية مَحضة فهم يريدون طول الحياة قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (¬3) إذ لا أمل لهم في حياة أخرى ولا أمل لهم في تحصيل نعيمها، فأما المؤمنون فإن كراهتهم للموت المرتكزة في الجبلة بمقدار الإلف لا تبلغ بهم إلى حد الجزع منه. وفي الحديث «من أحب لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» (¬4)، وتأويله بالمؤمن يحب لقاء الله للطمع في الثواب، ¬

(¬1) سورة ق، الآية (16). (¬2) سورة ق، الآية (19). (¬3) سورة البقرة، الآية (96). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ج 5، ص 2386، ح- 6142، ومسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ج 4، ص 2065، ح- 2683.

وبالكافر يكره لقاء الله. وقد بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن المؤمن إذا حضرته الوفاة رأى ما أعد الله له من خير فأحب لقاء الله» (¬1) أي والكافر بعكسه، وقد قال الله تعالى خطاباً لليهود {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} (¬2). ¬

(¬1) ذكره ابن عاشور باختصار في التحرير والتنوير , ج 12 , ص 306 , وأخرجه في البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله، ج 5، ص 2386، ح- 6142، ونصه: " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه .. (¬2) سورة الجمعة، الآية (8). ونظائر هذه الأمثلة كثيرة جداً في تفسيره منها: 1 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأنعام: 60)، قال ابن عاشور: " والخطاب موجه إلى المشركين كما يقتضيه السياق السابق من قوله: {لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (الأنعام: 58)، واللاحق من قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 64) ". (التحرير والتنوير، ج 4، ص 275). 2 - ... ما جاء في قوله تعالى: " {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} (الرحمن: 31) وفيه قول ابن عاشور: إن المناسب لسياق الآية باعتبار السابق واللاحق، أن تحمل على معنى الإقبال على أمور الثقلين في الآخرة ". (انظر التحرير والتنوير، ج 13، ص 257). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 3 - ... ما جاء في قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} (الواقعة: 86).قال ابن عاشور: " ومعنى مدينين مجازين على أعمالكم وذكر أن التفسير بغير مربوبين بعيد عن السياق ". (انظر التحرير والتنوير، ج 13، ص 345). 4 - ... ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الانفطار: 6)، حيث قال بعد أن ذكر الأقوال في المقصود بالإنسان: والتعريف في الإنسان للجنس، وعلى ذلك حمله جمهور المفسرين، أي ليس المراد إنساناً معيناً، وقرينة ذلك سياق الكلام. (انظر التحرير والتنوير، ج 15، ص 174). 5 - ... ماجاء في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (البلد: 4)، وفيه قال ابن عاشور: " فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد الآلهة ". (التحرير والتنوير، ج 15، ص 351).

المبحث الثاني القول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره

المبحث الثاني القول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره صورة القاعدة: إذا تعاقبت ضمائر متعددة في سياق واحد، واحتمل في مرجعها أقوالاً متعددة فتوحيد مرجعها، وعدم تشتيته هو الأصل والأولى من عودها على مختلف لئلا يتنافر النظم ويتشعب المعنى، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل واضح وقرينة بينة (¬1). شرح مفردات القاعدة: النظم: لغة: النظم في اللغة التأليف، نظَمه ينْظِمه نظماً ونظاماً ونظَّمه فانتظم، وتنظّم، ونظمت اللؤلؤ أي جمعته في السلك (¬2). اصطلاحاً: هو تعليق الكلم بعضها ببعض، ومهمَّته بناء نتاج النظم التركيبي للكلام في بناء متكامل متآخٍ بحيث يكون كلّ عنصر من عناصر هذا البناء المتكامل آخذًا بحجز بعضه (¬3). ¬

(¬1) انظر عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل / أحمد سلامة أبو الفتوح، ص 160، وقواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، ج 2، ص 613. (¬2) لسان العرب / ابن منظور، ج 14، ص 196، مادة: نظم. (¬3) انظر البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن / محمود توفيق سعد، ج 1، ص 278، ودلائل الإعجاز / الجرجاني، ج 1، ص 18.

وقيل هو: تأليف الكلمات والجمل مترتبة المعاني متناسبة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل (¬1). الظاهر: لغة: خلاف الباطن، ظهر يظهر ظهوراً فهو ظاهر وظهير (¬2) والظاهر الواضح ومنه يقال: ظهر الأمر الفلاني إذا اتضح وانكشف (¬3). اصطلاحاً: اللفظ الظاهر ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي ويحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً (¬4). ولقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة ومن قوله: " وإنما وقع التحدي بسورة أي وإن كانت قصيرة دون أن يتحداهم بعدد من الآيات لأن من أفانين البلاغة ما مرجعه إلى مجموع نظم الكلام وصوغه بسبب الغرض الذي سيق فيه من فواتح الكلام وخواتمه " (¬5). وقال معلقاً على بعض الأقوال في موضع: " وهذا بعيد من اللفظ ومن النظم وفيه تفكيك لاتصال نظم الكلام وانتقال بدون مناسبة " (¬6). وقال ابن عاشور: " في تفسير قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ¬

(¬1) التعريفات / الجرجاني، ص 185. (¬2) لسان العرب / ابن منظور، ج 8، 276، مادة: ظهر. (¬3) الإحكام في أصول القرآن / ابن حزم، ج 1، ص 260. (¬4) الإحكام في أصول القرآن / ابن حزم، ج 1، ص 260. (¬5) التحرير والتنوير، ج 1، ص 104. (¬6) التحرير والتنوير، ج 12، ص 112.

أقوال العلماء في القاعدة

فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (¬1) واعلم أن المفسرين ذهبوا في تفسير هذه الآية طرائق قِدداً .. والطريقة التي يرجح سلوكها هي أن هنا ضمائر عشرة هي ضمائر جمع الغائبين وأن بعضها عائد لا محالة على (الَّذِينَ مِن قَبلِهم) وأن وجه النظم أن تكون الضمائر متناسقة غير مفككة فلذا يتعين أن تكون عائدة إلى معاد واحد، فالذين {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} هم {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}، وهم الذين {حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (¬2). أقوال العلماء في القاعدة: اعتنى الطبري بهذه القاعدة فقال في معرض ترجيحه لأحد الأقوال: " وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها، لأنه أصحها معنًى، وأحسنُها استقامةً، على معنى كلام العرب، وأشدُّها اتساقًا على نظم الكلام وسياقه. وما عدا ذلك من القول، فانتزاع يبعُد من الصحة، على استكراه شديدٍ للكلام " (¬3). ¬

(¬1) سورة غافر، الآية (83). (¬2) التحرير والتنوير، ج 11، ص 221. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 368.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

قال الزركشي في "البرهان": ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز " (¬1). وقال أبو حيان في تفسيره لقوله تعالى {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (¬2): " والخطاب في (أرأيت) الظاهر أنه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكذا (أرأيت) الثاني، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم " (¬3). الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - مثال الشركاء: قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (¬4). اختلف المفسرون في المقصود بالذين خرقوا بنين وبنات في هذه الآية على قولين: فذهب معظم المفسرين إلى القول بأن المقصود بهم المشركون واليهود ¬

(¬1) البرهان في علوم القرآن / الزركشي، ج 1، ص 317. (¬2) سورة العلق، الآية (9 - 13). (¬3) البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 489. (¬4) سورة الأنعام، الآية (100).

والنصارى، ويرى آخرون أن المقصود بهم المشركون فقط (¬1)، ورجّح ابن عاشور القول الثاني، وهذا قوله: " والمراد أن المشركين نسبوا إليه بنين وبنات. وليس المراد اليهود في قولهم (عزير ابن الله) ولا النصارى في قولهم (عيسى ابن الله). كما فسر به جميع المفسرين لأن ذلك لا يناسب السياق ويشوش عود الضمائر ويخرم نظم الكلام " (¬2). وممن وافق قوله قول ابن عاشور من المفسرين السعدي (¬3)، في حين ذهب جمهور المفسرين الذين اعتمدتهم في هذا البحث إلى القول بأن المقصود بهم المشركون واليهود والنصارى (¬4). وإليك حجة أصحاب كل قول: حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المقصود بقوله تعالى: " وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ "هم المشركون واليهود والنصارى: حجتهم في ذلك: ما روي عن السدي، وابن زيد قولهم: قالت العرب: ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 329، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 55. (¬2) التحرير والتنوير، ج 4، ص 408. (¬3) انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 2، ص 51. (¬4) انظر جامع البيان/ الطبري، ج 7، ص 345، المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 329، والتفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 91، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 55.، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 197، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 6121، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 147. وروح المعاني/ الألوسي، ج 4، ص 228، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 459.

الملائكة بنات الله، وقالت اليهود والنصارى: المسيح وعزير ابنا الله (¬1). وقال ابن عطية: "أما الذين خرقوا البنين فاليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح، وأما ذاكروا البنات فالعرب الذين قالوا للملائكة بنات الله، فكأن الضمير في (جعلوا) و (خرقوا) لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا، وبنحو هذا فسّر السدي وابن زيد " (¬2). حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المقصود بالآية هم المشركون فقط: : حجتهم في ذلك: أن هذا هو الأنسب لسياق الآية، وما عداه لا يناسب السياق، ويشوش عود الضمائر، ويخرم نظم الكلام " (¬3). وممن ذهب إلى هذا القول السعدي حيث يقول: " وكذلك "خرق المشركون" أي: ائتفكوا، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله، بنين وبنات بغير علم منهم، ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم، وافترى عليه أشنع النقص، الذي يجب تنزيه الله عنه؟ ! ! . ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (¬4) , فإنه تعالى الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، وآفة وعيب " (¬5). ¬

(¬1) أخرج روايتهم الطبري في تفسيره، ج 7، ص 345. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 329. . (¬3) انظر التحرير والتنوير، ج 4، ص 408. (¬4) سورة الأنعام، الآية (100). (¬5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 2، ص 51.

وقال ابن عاشور: "فالوجه أن المراد أن بعض المشركين نسبوا لله البنين وهم الذين تلقنوا شيئا من المجوسية؛ لأنهم لما جعلوا الشيطان متولدا عن الله تعالى , إذ قالوا إن الله لما خلق العالم تفكر في مملكته واستعظمها فحصل له عجب تولد عنه الشيطان وربما قالوا أيضا: إن الله شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان , فقد لزمهم أن الشيطان متولد عن الله - تعالى عما يقولون - فلزمهم نسبة الابن إلى الله تعالى ولعل بعضهم كان يقول بأن الجن أبناء الله والملائكة بنات الله أو أن في الملائكة ذكورا وإناثا " (¬1). وابن عاشور في ترجيحه لهذا القول بالرغم من أن معظم المفسرين الذين سبقوه ذهبوا إلى القول الآخر يؤكد لنا مدى اهتمامه بهذه القاعدة الترجيحية حيث إن الآية في أولها تتحدث عن مشركي العرب، ولا حجة توجب صرف الآية إلى اليهود والنصارى، ولذلك مال إلى هذا القول. ومن الأمور التي دعت ابن عاشور إلى اختيار هذا القول: أن أول الآية يخاطب مشركي العرب، قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} والمعنى كما ذكر ابن عاشور وغيره من المفسرين أن هذه الآية: " عطف على الجمل قبله عطف القصّة على القصّة، فالضّمير المرفوع في {وَجَعَلُوا} عائد إلى {قَوْمُكَ} من قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} (¬2) وهذا انتقال إلى ذكر شِرك آخر من شرك العرب وهو جعلهم الجِنّ شركاءَ لله في عبادتهم كما ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 4، ص 407. (¬2) سورة الأنعام، الآية (66).

جعلوا الأصنام شركاء له في ذلك., وقد كان دين العرب في الجاهليّة خليطاً من عبادة الأصنام، ومن الصّابئيّة: عبدة الكواكب وعبدة الشّياطين، ومجوسيّة الفرس، وأشياء من اليهوديّة، والنّصرانيّة. فكان العرب يثبتون الجنّ وينسبون إليهم تصرّفات، فلأجل ذلك كانوا يتّقون الجنّ وينتسبون إليها ويتّخذون لها المَعاذات والرّقَى ويستجلبون رضاها بالقرابين وترك تسميّة الله على بعض الذبائح , وكانوا يعتقدون أنّ الكاهن تأتيه الجنّ بالخبر من السّماء، وأنّ الشّاعر له شيطان يوحي إليه الشّعر، ثمّ إذا أخذوا في تعليل هذه التصرّفات وجمعوا بينها وبين معتقدهم في ألوهيّة الله تعالى تعلّلوا لذلك بأنّ للجنّ صلة بالله تعالى فلذلك قالوا: الملائكة بنات الله مِن أمّهاتٍ سَرَوات الجنّ، كما أشار إليه قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (¬1) وقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬2) , ومن أجل ذلك جَعَل كثير من قبائل العرب شيئاً من عبادتهم للملائكة وللجنّ. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ¬

(¬1) سورة الصافات، الآية (158). (¬2) سورة الصافات، الآية (149 - 152).

(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (¬1) (¬2). القول الراجح: فيما يبدو لي والله أعلم أن القول الراجح هو ما ذهب إليه ابن عاشور أي أن الذين خرقوا بنين وبنات هم المشركون؛ لأن سياق الآية يدل عليه، والقول الذي يدل عليه سياق الآية أولى من غيره، ومما يقوي هذا القول ويعضده قاعدة: (الأصل عود الضمير إلى أقرب مذكور مالم يدل عليه دليل على خلاف ذلك) (¬3). وبما أن أقرب مذكور هم المشركون حمل عليه، كما أنه ليس هناك دليل يدل على غيره، وعليه فيترجح هذا القول. وفي ذلك يقول السمين الحلبي: " إن عود الضمير على غير مذكور بلا مدلول خلاف الأصل " (¬4). 2 - مثال امرأة العزيز: قال تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي ¬

(¬1) سورة سبأ، الآية (40 - 41). (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 4، ص 405. (¬3) عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل / أحمد سلامة أبو الفتوح، ص 193. (¬4) الدر المصون / السمين الحلبي , ج 2, ص 248.

كَيْدَ الْخَائِنِينَ} (¬1). اختلف المفسرون في هذه الآية {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} من قول من هذه الآية؟ على وجهين: أحدها: أنه قول امرأة العزيز عطفاً على ما تقدم، أي ذلك ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، يعني الآن في غيبه بالكذب عليه وإضافة السوء إليه لأن الله لا يهدي كيد الخائنين, حكاه ابن عيسى. ثانيها: أنه قول يوسف بعد أن علم بظهور صدقه، وذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب عنه في زوجته، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي " (¬2). ورجّح ابن عاشور أنه من كلام امرأة العزيز، وذلك بناءً على قاعدة المبحث , وهذا قوله: " ظاهر نظم الكلام أن الجملة من قول امرأة العزيز، وعلى ذلك حمله بعض المفسرين، وعزاه ابن عطية إلى فرقة من أهل التأويل، ونُسب إلى الجبائي، واختاره الماوردي، وهو في موقع العلة لما تضمنته جملة {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} (¬3) وما عطف عليها من إقرار ببراءة يوسف عليه السّلام بما كانت رمتْه به. فالإشارة بذلك إلى الإقرار المستفاد من جملة {أَنَا ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية (52). (¬2) انظر هذه الأقوال في النكت والعيون / الماوردي، ج 3، ص 47. (¬3) سورة يوسف، الآية (51).

رَاوَدْتُهُ} أي ذلك الإقرار ليعلم يوسف عليه السّلام أني لم أخنه." (¬1) وما اختاره ابن عاشور هو ما ذهب إليه كل من الرازي وأبو حيان، وابن كثير والقاسمي (¬2). في حين ذهب الطبري والشوكاني والألوسي إلى أنه من قول يوسف عليه السلام (¬3). وذكر ابن عطية والقرطبي تلك الأقوال ولم يرجحا (¬4). حجة أصحاب القول الأول القائلين: إن قوله: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}. من قول امرأة العزيز: قال الرازي والذي يدل على صحة هذا القول: " أن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس حتى يقال لما ذكرت المرأة قولها: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} ففي تلك الحالة يقول يوسف: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} بل ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 6، 292. (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 6، ص 469، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 316، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 50، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 192 (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 12، ص 283، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 34، وروح المعاني / الألوسي، ةج 6، ص 450. (¬4) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 253 - 254، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 215 - 216.

يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول من ذلك المجلس إلى السجن ويذكر له تلك الحكاية، ثم إن يوسف يقول ابتداء {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ومثل هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ما جاء ألبته في نثر ولا نظم فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة" (¬1). قال ابن كثير مرجحا هذا القول: " تقول: إنما اعترفت بهذا على نفسي، ذلك ليعلم زوجي أن لم أخنه في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة، فامتنع؛ فلهذا اعترفتُ ليعلم أني بريئة، {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (¬2) تقول المرأة: ولست أبرئ نفسي، فإن النفس تتحدث وتتمنى؛ ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء، {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (¬3) أي: إلا من عصمه الله تعالى، {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4) " (¬5). وهذا القول نصره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: " إن قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب إذا كان معناه على ما زعموه أن يوسف أراد أن يعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته على قول أكثرهم أو ليعلم الملك أو ليعلم الله لم يكن هنا ما ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 6، ص 469. (¬2) سورة يوسف، الآية (52 - 53). (¬3) سورة يوسف، الآية (53). (¬4) سورة يوسف، الآية (53). (¬5) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 50.

يشار إليه فإنه لم يتقدم من يوسف كلام يشير به إليه ولا تقدم أيضا ذكر عفافه واعتصامه فإن الذي ذكره النسوة قولين ما علمنا عليه من سوء وقول امرأة العزيز أنا روادته عن نفسه وهذا فيه بيان كذبها فيما قالته أولا ليس فيه نفس فعله الذي فعله هو فقول القائل إن قوله ذلك من قول يوسف مع أنه لم يتقدم منه هنا قول ولا عمل لا يصلح بحال " (¬1). حجة أصحاب القول الثاني القائلين: إنه من قول يوسف: قال الفراء مؤكداً هذا القول: " قال ذلك يوسف لما رجع إليه الساقي فأخبره ببراءة النسوة إياه، فقال يوسف {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ... (¬2) ". وقال الطبري مقررا أن ذلك من قول يوسف ولم يحك غيره: " هذا الفعل الذي فعلتُه، من ردّي رسول الملك إليه، وتركي إجابته والخروج إليه، ومسألتي إيّاه أن يسأل النسوة اللاتي قطَّعن أيديهن عن شأنهن إذ قطعن أيديهن، إنما فعلته ليعلم أني لم أخنه في زوجته بالغيب"، يقول: لم أركب منها فاحشةً في حال غيبته عني وإذا لم يركب ذلك بمغيبه، فهو في حال مشهده إياه أحرى أن يكون بعيدًا من ركوبه " (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى / شيخ الإسلام ابن تيمية، ، ج 15، ص 139. (¬2) معاني القرآن / الفراء، ج 2، ص 47. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 12، ص 283.

القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور وذلك بناء على القاعدة الترجيحية (القول المبني على مراعاة النظم، وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره) حيث يقول: "ظاهر نظم الكلام أن الجملة من قول امرأة العزيز" (¬1). وكذلك قال ابن كثير: " وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام " (¬2). أما القول بأن ذلك من قول يوسف فهو قول مردود يرده السياق. وقد رد شيخ الإسلام هذا القول وبيّن ضعفه فقال: " ليس هذا من كلام يوسف عليه السلام، بل هو من كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة، لا يرتاب فيها من تدبر القرآن، حيث قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 6، ص 292. (¬2) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 50.

وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) فهذا كلام امرأة العزيز، ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك، ولا سمع كلامه ولا رآه. ولكن لما ظهرت براءته في غيبته كما قالت امرأة العزيز: " ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ " أي: لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته. فحينئذ "قال الملك: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (¬2) وقد قال كثير من المفسرين: إن هذا من كلام يوسف، ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول، وهو قول في غاية الفساد، ولا دليل عليه، بل الأدلة تدل على نقيضه " (¬3). 3 - مثال دعاء الإنسان: قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} (¬4). اختلف المفسرون في المراد بالإنسان في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: إنه اسم جنس يراد به الناس، قاله الزجاج وغيره. ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية (50 - 53). (¬2) سورة يوسف، الآية (54). (¬3) انظر دقائق التفسير / شيخ الإسلام ابن تيمية ج 3 ص 273. (¬4) سورة الإسراء، الآية (11).

والثاني: إنه آدم، فاكتفى بذكره من ذكر ولده، ذكره ابن الأنباري. والثالث: إنه النضر بن الحارث , حين قال: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} (¬1) قاله مقاتل (¬2). أما ابن عاشور فإنه يرى أن المراد بالإنسان في هذه الآية الإنسان الكافر، بل نجده يرى أن المفسرين لم يأتوا في هذه الآية بما يثلج الصدر، واختياره هذا نابع من استحضاره لهذه القاعدة (القول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره). قال ابن عاشور: " موقع هذه الآية هنا غامض، وانتزاع المعنى من نظمها وألفاظها أيضاً، ولم يأت فيها المفسرون بما ينثلج له الصدر ... إلى أن قال: .... والمراد بالإنسان الإنسان الكافر " (¬3) .. وقد اختار هذا القول من قبله الألوسي، والقاسمي، حيث ذكروا أن المراد بالإنسان أحد أفراده وهو الكافر (¬4). بينما رجح الطبري، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، والشنقيطي أن المراد به جنس الإنسان (¬5). ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية (32). (¬2) انظر هذه الأقوال في زاد المسير / ابن الجوزي، ج 3، ص 12 , وتفسير مقاتل / مقاتل , ج 2، ص 251. (¬3) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 7، ص 41. (¬4) انظر روح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 23، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 465. . (¬5) انظر جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 56، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 10، ص، 230، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 440، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 211، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 537.

وذكر ابن عطية والرازي، وأبو حيان تلك الأقوال ولم يرجحوا (¬1). حجة من قال: إن المراد بالإنسان اسم جنس يراد به الناس عموماً: قالوا: المراد به جنس الإنسان بحسب مافي الخلق من ذلك، ومن ذلك مارواه ابن عباس - رضي الله عنه - قوله: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} يعني قول الإنسان: اللهمَّ العنه واغضب عليه، فلو يُعَجل له ذلك كما يُعجل له الخير، لهلك، قال: ويقال: هو {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} (¬2) أن يكشف ما به من ضرّ، يقول تبارك وتعالى: لو أنه ذكرني وأطاعني، واتبع أمري عند الخير، كما يدعوني عند البلاء، كان خيرا له. (¬3). وكذلك ما رواه مجاهد حيث قال بعد أن ذكر الآية: " ذلك دعاء الإنسان بالشر على ولده وعلى امرأته، فيعجل: فيدعو عليه ولا يحب أن يصيبه (¬4). كما صححه الشنقيطي وذكر أنه أصح الأقوال لدلالة آية يونس عليه قال ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 441، والتفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 305، البحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 12. . (¬2) سورة يونس، الآية (12). (¬3) أخرج رواية ابن عباس الطبري في تفسيره، ج 15، ص 57. (¬4) أخرج رواية ابن مجاهد الطبري في تفسيره، ج 15، ص 57.

تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} (¬1) كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره (¬2). حجة من قال: إن المراد بالإنسان في هذه الآية آدم: لا حجة لهم، قالوا: المراد به آدم اكتفى بذكره من ذكر ولده. ذكره ابن الأنباري (¬3). وهذا القول انفرد به ابن الأنباري، وهو قول بعيد وغير مناسب للسياق. حجة من قال: إن المراد بالإنسان في هذه الآية النضر بن الحارث: قال مقاتل: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ} على نفسه، يعنى النضر بن الحارث، حين قال: {ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬4)، {دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ}، كدعائه بالخير لنفسه (¬5). حجة من قال: إن المراد به الكافر: حجتهم في ذلك أن هذا القول أنسب بنظم الكلام، قال ابن عاشور: ". ¬

(¬1) سورة يونس، الآية (11). (¬2) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 440، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص، 211.، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 537. (¬3) زاد المسير / ابن الجوزي، ج 3، ص 12. (¬4) سورة الأنفال، الآية (32). (¬5) تفسير مقاتل / مقاتل، ج 2، ص 252.

والذي يظهر لي أن الآية التي قبلها لما اشتملت على بشارة وإنذار وكان المنذرون إذا سمعوا الوعيد والإنذار يستهزئون به ويقولون: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬1) عُطف هذا الكلام على ما سبق تنبيهاً على أن لذلك الوعد أجلاً مسمى , فالمراد بالإنسان الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة كما هو في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} (¬2) وإطلاق الإنسان على الكافر كثير في القرآن " (¬3). وقال الألوسي: " والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده , وهو الكافر , وإليه يشير كلام ابن عباس - رضي الله عنه - أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه كما يقتضيه ما روي عن الحسن ومجاهد , فالمعنى على الأول: أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم وهو أي بعض أفراده أعني الكافر يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقة كدأب من قال منهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ¬

(¬1) سورة يس، الآية (48). (¬2) سورة مريم، الآية (66، 67). (¬3) التحرير والتنوير، ج 7، ص 41.

مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1) " (¬2). القول الراجح: إن المراد بهذه الآية جنس الإنسان عموما كما رجّح ذلك الطبري. وتحديد ابن عاشور الإنسان بالكافر لا يعد مخالفة لمن سبقه من المفسرين وإنما هو أكثر دقة وهذا نابع من استحضاره لقاعدة المبحث، كما أن ما ذهب إليه الطبري من أن المعني بالآية عموم الإنسان لا يعد قولا بعيدا عما حكاه ابن عاشور, فعموم الإنسان يدخل فيه الإنسان الكافر أيضا , وكذلك قول من قال: إن المراد به النضر بن الحارث إنما هو من باب ضرب المثال على ذلك , قال أبو السعود: " وهو أي بعضٌ منه , وهو الكافرُ يدعو لنفسه بما هو الشرُّ من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقةً كدأب مَنْ قال منهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬3) ومن قال: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (¬4) إلى غير ذلك مما حُكي عنهم الإنسان (¬5). ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية (32). (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 23. (¬3) سورة الأنفال، الآية (32). (¬4) سورة الأعراف، الآية (70). (¬5) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم / أبو السعود، ج 5، ص 159.

4 - مثال "توليتم": قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (¬1). اختلف المفسرون في المراد من قوله " إن توليتم" على عدة أقوال: أحدها: فهل عسيتم إن توليتم أمور الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم. الثاني: فهل عسيتم إن توليتم وأعرضتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام وتقطعوا أرحامكم. الثالث: فهل عسيتم إن توليتم عن الجهاد ونكلتم عنه أن تفسدوا في الأرض (¬2). ورجّح ابن عاشور أن المعنى هنا هو الرجوع عن الوجهة التي خرجوا لها كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} (¬3) ... وقوله: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} (¬4) مستنداً في ذلك إلى القاعدة (¬5) (القول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من ¬

(¬1) سورة محمد، الآية (22). (¬2) انظر هذه الأقوال في النكت والعيون / الماوردي، ج 5، ص 301 - 302، وزاد المسير / ابن الجوزي، ج 4، ص 120، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 235 - 236. (¬3) سورة البقرة، الآية (246). (¬4) سورة طه، الآية (60). (¬5) انظر التحرير والتنوير، ج 12، ص 112.

غيره)، وقد سبقه ابن كثير والرازي، وأبو حيان إلى هذا الاختيار (¬1). وذهب الطبري إلى الأخذ بجميع تلك الأقوال من التولي عن جميع ما أمر به من القتال وطاعة الله وتطبيق شرعه، وهذا قوله: " يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف أنهم إذا نزلت سورة محكمة، وذُكر فيها القتال نظروا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر المغشيّ عليه {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} أيها القوم، يقول: فلعلكم إن توليتم عن تنزيه الله جلّ ثناؤه، وفارقتم أحكام كتابه، وأدبرتم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وعما جاءكم به {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} يقول: أن تعصوا الله في الأرض، فتكفروا به، وتسفكوا فيها الدماء {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (¬2) وتعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرّق بعد ما قد جمعكم الله بالإسلام، وألَّف به بين قلوبكم (¬3). ويرى ابن عطية والقاسمي إلى أنه بمعنى الإعراض عن الحق، وعن كتاب الله (¬4). وذكر القرطبي والشوكاني جميع الأقوال الواردة في الآية ولم يرجحا (¬5). واختار الألوسي أن توليتم بمعنى توليتم أمر الأمة (¬6). ¬

(¬1) انظر التفسير الكبير/ الرازي، ج 10، ص 54، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 74، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 82. (¬2) سورة محمد، الآية (22). (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 66. (¬4) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 118، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 374. (¬5) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 235 - 236، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 38. (¬6) روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 225.

حجة أصحاب القول الأول القائلين بأن عسيتم بمعنى توليتم أمور الأمة: من أدلتهم على ذلك قراءة (وُليتم) (¬1) أي من الولاية. قال الألوسي: " {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} خطَاب لأولئك الذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع، وهل للاستفهام , والأصل فيه: أن يدخل الخبر للسؤال عن مضمونه والإنشاء الموضوع له عسى ما دل عليه بالخبر أي فهل يتوقع منكم وينتظر {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أمور الناس وتأمرتم عليهم فهو من الولاية والمفعول به محذوف وروى ذلك عن محمد بن كعب وأبي العالية والكلبي {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تناحراً على الولاية وتكالباً على جيفة الدنيا .... ويؤيده قراءة بعضهم (وُلِّيتُم) مبنياً للمفعول وكذا قراءته - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكر في «البحر» ورويت عن علي - رضي الله عنه - (¬2). حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن التولي بمعنى الإعراض عن كتاب الله والإسلام: حجتهم في ذلك: أن الإعراض عن الإسلام هو رأس كل شر , ومن قولهم: فهل عسيتم إن أعرضتم عن الإسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً ¬

(¬1) انظر المحتسب قي تبيين وجوه شواذ القراءات / ابن جني، ج 2، ص 321، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 82. ذكرها كل منهم ولم ينسبها. (¬2) انظر الكشاف / الزمخشري، ج 3، ص 536، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 82، وروح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 224.

ووأد البنات. وتعقب بأن الواقع في حيز الشرط في مثل هذا المقام لا بد أن تكون محذوريته باعتبار ما يتبعه من المفاسد لا باعتبار ذاته , ولاريب في أن الإعراض عن الإسلام رأس كل شر وفساد فحقه أن يجعل عمدة في التوبيخ لا وسيلة للتوبيخ بما دونه من المفاسد (¬1). حجة أصحاب القول الثالث الذين يرون أن توليتم بمعنى التولي عن القتال: قال ابن كثير: " {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي عن الجهاد ونكلتم عنه {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}، أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء تسفكون الدماء، وتقطعون الأرحام " (¬2). وقال ابن عاشور: " مقتضى تناسق النظم أن هذا مفرع على قوله: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} (¬3) لأنه يفهم منه أنه إذا عزم الأمر تولوا عن القتال وانكشف نفاقهم فتكون إتماماً لما في الآية السابقة من الإنباء بما سيكون من المنافقين يوم أُحُد. وقد قال عبد الله بن أبي: عَلاَم نقتل أنفسنا ها هنا؟ وربما قال في كلامه: وكيف نقاتل قريشاً وهم من قومنا، وكان لا يرى على أهل يثرب أن يقاتلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرى الاقتصار على أنهم آووه. ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 118، وروح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 224. (¬2) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 74. (¬3) سورة محمد، الآية (21).

والخطاب موجّه إلى الذين في قلوبهم مرض على الالتفات والاستفهام مستعمل في التكذيب لما سيعتذرون به لانخذالهم ولذلك جيء فيه بـ (هل) الدالة على التحقيق لأنّها في الاستفهام بمنزلة (قد) في الخبر، فالمعنى: أفيتحقق إن توليتم أنكم تفسدون في الأرض وتقطعون أرحامكم وأنتم تزعمون أنكم توليتم إبقاء على أنفسكم وعلى ذوي قرابة أنسابكم على نحو قوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} (¬1). القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور من أن التولي هو: الرجوع عن القتال، وهذا القول رجحه أبو حيان بقوله: "والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال، وهو الذي سبقت الآيات فيه، أي: إن أعرضتم عن أمر الله في القتال، وأن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام " (¬2). أما القول بأن (توليتم) بمعنى توليتم أمر الأمة فهو قول بعيد ردّه ابن عاشور بقوله: " وهذا بعيد من اللفظ ,ومن النظم , وفيه تفكيك لاتصال نظم الكلام وانتقال بدون مناسبة، وتجاوز بعضهم ذلك فأخذ يدعي أنها نزلت في الحرورية ومنهم من جعلها فيما يحدث بين بني أمية وبني هاشم على عادة أهل الشيع والأهواء من تحميل كتاب الله ما لا يتحمله ومن قصر عموماته على بعض ما ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (246). (¬2) البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 82.

يراد منها (¬1) ". 5 - مثال التحية: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬2). اختلف المفسرون في قوله: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ} فيمن نزلت على قولين: أحدهما: إنها نزلت في اليهود (¬3). والثاني: إنها نزلت في المنافقين، رواه عطية عن ابن عباس (¬4) .. ورجح ابن عاشور أن الآية نزلت في المنافقين لأنه الأليق بنظم الكلام وهذا قوله: " أما هذه الآية ففي أحوال المنافقين، وهذا مثل ما كان بعضهم يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - (رَاعِنَا) تعلّموها من اليهود وهم يريدون التوجيه بالرعونة فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 12، ص 112. (¬2) سورة المجادلة، الآية (8). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم , ج 4، ص 1707، ح- 2165. (¬4) انظر هذين القولين في زاد المسير / ابن الجوزي، ج 4، ص 246.

وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1) ولم يُرد منه نهي اليهود (¬2). أما معظم المفسرين فيرون أن المعني بالآية هم اليهود (¬3). وذكر ابن كثير وأبو حيان والشوكاني كلا القولين ولم يرجحوا (¬4). حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن الآية نزلت في اليهود: استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "جاء ناس من اليهود إلى النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم وفعل، فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: يا عائشة إنَّ الله لا يُحِبُّ الفُحش، فقلت: يا رسول الله، ألست ترى ما يقولون؟ فقال: "ألست ترينني أرد عليهم ما يقولون؟ أقول: عليكم " وهذه الآية في ذلك نزلت: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (104). (¬2) التحرير والتنوير، ج 13، ص 31. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 9، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 277، والتفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 491، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 278 وروح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 220، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 59، . (¬4) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 452 - 453، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 234. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب الدعاء للمشركين، ج 5، ص 2349، ح- 6032، ومسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف =

وهذا القول رجحه أكثر المفسرين منهم ابن عطية والرازي. قال ابن عطية: " وقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ} يريد بذلك ما كانت اليهود تفعله من قولهم في التحية السام عليك يا محمد .... ثم كشف الله تعالى خبث طويتهم والحجة التي إليها يستروحون، وذلك أنهم كانوا يقولون: نحن الآن نلقى محمداً بهذه الأمور التي تسوؤه ولا يصيبنا سوء، ولا يعاقبنا الله بذلك، ولو كان نبياً لهلكنا بهذه الأقوال، وجهلوا أن أمرهم مؤخر إلى عذاب جهنم، فأخبر الله بذلك وأنها كافيتهم. وقال ابن عباس: هذه الآية كلها في منافقين، ويشبه أن من المنافقين من تخلق في هذا كله بصفة اليهود " (¬1). ورجّح الرازي هذا القول ووصفه بأنه أقرب إلى معنى الآية ومن قوله: " وهذا الجنس فيما روي وقع من اليهود، فقد كانوا إذا سلموا على الرسول عليه السلام قالوا: السام عليك، يعنون الموت، والأخبار في ذلك متظاهرة، وقصة عائشة فيها مشهورة" (¬2). ¬

= يرد عليهم، ج 4، ص 1706، ح- 2165، والطبري في تفسيره، ج 28، ص 9، وهذا لفظ الطبري، ولم يذكر البخاري نزول الآية لكنها ثابتة عند غيرهم من حديث نمير عن الأعمش، ويشهد له ما أخرجه أحمد في مسنده، ج 6، ص 229، ح- 25966، والبيهقي في الشعب، ج 6، ص 511، ح- 9100. (¬1) المحرر الوجيز/ ابن عطية، ج 5، ص 277. (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 491.

حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن الآية نزلت في المنافقين: استدل أصحاب هذا القول بما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - من قوله في: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حيوه: سام عليك، قال الله: "حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير " (¬1). ورجح ابن عاشور هذا القول فقال: " وليس المراد من هذه الآية ما ورد في حديث: أن اليهود كانوا إذا حيّوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: السّامّ عليك، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرد عليهم بقوله: «وعليكم». فإن ذلك وارد في قوم معروف أنهم من اليهود. وما ذكر أول هذه الآية لا يليق حمله على أحوال اليهود ... ولو حمل ضمير (جاءوك) على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر (¬2). القول الراجح الذي يبدو لي والله أعلم أن المخاطب في هذه الآية هم اليهود والمنافقون , كما ذهب إليه معظم المفسرين، وأما اختيار ابن عاشور: نلحظ منه مدى حضور قاعدة (القول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره) في تفسيره فبالرغم من اتفاق النقلة على أن الآية نزلت في اليهود إلا ابن عاشور يرى أن هذه الآية نزلت في المنافقين ويؤكد ذلك بقوله: " وما ذكر أول هذه الآية لا يليق حمله على أحوال اليهود، ولو حمل ضمير ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 7، ص 479. (¬2) التحرير والتنوير، ج 13، ص 31.

(جاءوك) على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر" (¬1). ولكن هذه القاعدة تعارضها قاعدة ترجيحية أخرى أقوى منها وهي: (إذا ثبت الحديث وكان نصاً في تفسير الآية فلا يصار إلى غيره)، وقد تقدم ذكر الحديث. كما يؤيد هذا القول قاعدة ترجيحية أخرى وهي: (إذا صحّ سبب النزول الصريح فهو مرجح لما وافقه) وقد جاء في رواية أخرى عند مسلم غير أنه قال: " ففطنت بهم عائشة فسبتهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه يا عائشة! فإن الله لا يحب الفحش والتفحش , وزاد فأنزل الله عز وجل {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} إلى آخر الآية " (¬2). كما أن قول ابن عاشور: إن حمل هذه الآية على اليهود يلزم منه تشتيت الضمائر لا يستقيم؛ لأن الآيات السابقة شملت قوماً من اليهود والمنافقين، وقد ذكر ابن عاشور في تفسيره في الآيات التي تسبق هذه الآيات وهي في النهي عن النجوى أنها نزلت في قوم من اليهود والمنافقين. كما أن القرطبي حكى إجماع المفسرين على ذلك بقوله: " لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود " (¬3). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 13، ص 31. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، ج 4، ص 1707، ح- 2165. (¬3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 278. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ونظائر هذه الأمثلة كثيرة جدا في تفسيره منها: 1 - ... منها ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} (غافر: 10)، وفيها قول ابن عاشور: " والمقت الأول قريب من قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} (البقرة: 16)، والمقت الثاني قريب من قوله تعالى: {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} (فاطر: 39) وهو مقت العذاب. هذا هو الوجه في تفسير الآية الملاقي لتناسق نظمها" (3) (التحرير والتنوير، ج 11، ص 96). 2 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (يس: 68)، وفيه قول ابن عاشور: " ومنهم من تكلم عليها معرضاً عما قبلها فتكلموا على معناها وما فيها من العبرة ولم يبيّنوا وجه اتصالها بما قبلها .. إلى أن قال: وكل هذه التفسيرات بعيدة عن نظم الكلام". (التحرير والتنوير، ج 11، ص 53 - 54). 3 - ... قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} (الصافات: 15 - 18) وفيها قول ابن عاشور: " والإِشارة في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} إلى مضمون قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} (الصافات: 11)، وهو إعادة الخلق عند البعث، ويبينه قوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} هذا وجه تفسير هذه الآية تفسيراً يلتئم به نظمها خلافاً لما درج عليه المفسرون " (التحرير والتنوير، ج 11، ص 98). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 4 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 22)، وفيه قول ابن عاشور: " ولقد اضطَرَّ هذا بعضَ المفسرين إلى تأويل نظم الآية بأن معاد ضمير (قالوا) إلى مشركي العرب، وأن ذكر ذلك في أثناء قصة نوح بقصد التنظير ... وهو تكلف بيّن وتفكيك لأجزاء نظم الكلام" (التحرير والتنوير، ج 14، ص 209). 5 - ... ما جاء في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ .... } (الفجر: 15 - 20)، وفيه قول ابن عاشور: " ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نَظْم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابنَ عطية، وقد عرف هذا الاعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية ". (التحرير والتنوير , ج 15 , ص 326)

المبحث الثالث لكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها فلا تعارض بين الآيات.

المبحث الثالث لكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها فلا تعارض بين الآيات (¬1). صورة القاعدة: إذا حصل تعارض ظاهري بين الآيات, فإنه يجب أن يحمل كل نوع منها على ما يليق ويناسب المقام، لأنه لا تعارض حقيقي بين الآيات (¬2). شرح مفردات القاعدة: التعارض لغة: مصدر عارض، يقال عارض الشيء بالشيء معارضة قابله، وعارضت كتابي بكتابه أي قابلته، والشيء عرض عيني أي مقابلها (¬3). اصطلاحاً: تقابل الحجتين المتساويتين في القوة على وجه يوجب كل منهما ضد ما توجبه الأخرى في محل واحد في وقت واحد (¬4). ولقد اعتنى ابن عاشور في تفسيره بالآيات التي ظاهرها التعارض، وأزال الإشكال الواقع عليها، وفي ذلك يقول: "والظواهر المتعارضة التي دل تعارضها على أن محمل كل منها على حالة، لا تعارض حالة محمل الآخر , وهو المعبر ¬

(¬1) هذه القاعدة نصَّ عليها ابن عاشور بهذا اللفظ في تفسيره التحرير والتنوير، ج 15، ص 48. (¬2) انظر القواعد الحسان لتفسير القرآن/ السعدي، ص 36. (¬3) لسان العرب / ابن منظور، ج 9، ص 138. (¬4) انظر أصول السرخسي / السرخسي، ج 2، ص 12، والتعارض والترجيح / محمد الحفناوي، ص 39.

موقف العلماء من القاعدة

عنه في الأصول بالجمع بين الأدلة وتواريخ التشريع الدالة على نسخ حكم حكما آخر أو ما يقوم مقام التاريخ من نحو هذا ناسخ أو كان الحكم كذا فصار كذا , فهذه بينات مانعة من الاختلاف لو كان غرض الأمم اتباع الحق " (¬1). موقف العلماء من القاعدة: قال الكافيجي: " واعلم أن الحجج الشرعية لا يقع التعارض بينها حقيقة، لأن ذلك من أمارات الجهل والعجز، فإن من أثبت حكماً بدليل عارضه دليل آخر يوجب خلافه، كان ذلك لعجزه عن إقامة دليل سالم عن المعارضة، والعجز عن ذلك بناء على الجهل بالطريق المستقيم السالم عن المعارضة، والحكيم العليم الذي لا يعزب عن علمه شيء، تعالى عن أن يوصف الجهل، فإذاً لا يقع التعارض والتناقض بينهما إلا بالنسبة إلينا " (¬2). وذكر الزركشي في النوع الخامس والثلاثين من أنواع علوم القرآن: معرفة موهم المختلف فقال: " وهو ما يوهم التعارض بين آياته، وكلام الله جل جلاله منزه عن الاختلاف كما قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬3) ولكن قد يقع للمبتدئ ما يوهم اختلافا وليس به، فاحتيج لإزالته كما صنف في مختلف ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 310. (¬2) التيسير في قواعد علم التفسير / محمد بن سليمان الكافيجي؛ ص 228. (¬3) سورة النساء، الآية (82).

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

الحديث وبيان الجمع بينهما " (¬1). وقال الشيخ السعدي: " الآيات القرآنية التي ظاهرها التضاد يجب حمل كل نوع منها على حال بحسب ما يليق ويناسب المقام، وهذا في مواضع متعددة من القرآن، منها: الإخبار في بعض الآيات أن الكفار لا ينطقون ولا يتكلمون يوم القيامة، وفي بعضها أنهم ينطقون ويحاجون ويعتذرون ويعترفون، فحمل كلامهم ونطقهم أنهم في أول الأمر يتكلمون ويعتذرون، وقد ينكرون ما هم عليه من الكفر ويقسمون على ذلك، ثم إذا ختم على ألسنتهم وشهدت عليهم جوارحهم بما كانوا يكسبون ورأوا أن الكذب غير مفيد لهم، أُخرسوا فلم ينطقوا " (¬2). وقد ذكر العلماء أمثلة كثيرة لما يوهم التعارض، وجمعوا بينها، ومن أجمع ما كتب في هذا الموضوع كتاب: "دفع إيهام الاضطراب والتعارض عن آي الكتاب" للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - مثال المحكم والمتشابه: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا ¬

(¬1) البرهان في علوم القرآن / الزركشي، ج 2، ص 45. (¬2) انظر القواعد الحسان لتفسير القرآن / الشيخ عبد الرحمن السعدي، ص 36.

تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (¬1). اختلفت عبارات المفسرين في تعيين المحكم والمتشابه بشكل عام، وقد يبدو للناظر من أول وهلة حين يقرأ هذه الآية وغيرها من الآيات التي تدل على أن القرآن محكم كله أو متشابه كله أن الآيات بينها تعارض. وابن عاشور لم يمر على هذه الآية دون أن يعالج مثل هذا الإشكال ,فقد كانت هذه القاعدة حاضرة في تفسيره حيث وجد أن هذه الآية قد تكون مشكلة عند البعض لكونها تصف القرآن أن فيه آيات محكمات وأخر متشابهات وغيرها من الآيات التي تصف القرآن بأنه محكم كله، أو متشابه كله فبين ابن عاشور أن المقصود بهذه الآيات أن المراد بالإحكام أنّه أحكم وأتقنَ في بلاغته، والمراد بالتشابه أنّه تشابه في الحسن والبلاغة والحقيّة وهو معنَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬2) ثم أكد أنه لا تعارض بين هذه الآيات: لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات " (¬3). وقد وافق قول ابن عاشور قول معظم المفسرين في الآيات التي تصف القرآن بأنه محكم كله , جاء ذلك في تفسيرهم لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية (7). (¬2) سورة النساء، الآية (82). (¬3) انظر التحرير والتنوير، ج 3، ص 93.

آيَاتُهُ} (¬1) حيث دارت أقوالهم حول معنى واحد وهو: الإتقان والإحكام في بلاغته ونظمه من الدخل والخلل، والنقص والباطل (¬2). وكذلك اتفقت أقوالهم في الآيات التي تصف القرآن أنه متشابه كله , قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (¬3) , ومفاد أقوالهم أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والإتقان، والبلاغة وقوة اللفظ وشرف المعاني، ويصدق بعضه بعضاً (¬4) وجميع المفسرين مدركون أنه لا تعارض بين هذه الآية والآيات التي تحكي أن القرآن محكم كله أو متشابه كله ظهر ذلك في مضمون كلامهم , ونبهوا على أن تلك الآيات التي تصف القرآن بأنه كله محكم أو كله متشابه ليست في ¬

(¬1) سورة هود، الآية (1). (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 11، ص 206، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 148، والتفسير الكبير / الرازي، ج 6، ص 312، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 15، ص 238، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 406، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 12، ص 123، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 480، وروح المعاني / الألوسي، ج 6، ص 190، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 73. وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 362. (¬3) سورة الزمر، الآية (23). (¬4) انظر جامع البيان / الطبري , ج 23، ص 244، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 527، والتفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 446، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 9، ص 6، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 201، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 7، ص 411، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 459، وروح المعاني / الألوسي، ج 12، ص 247، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 174.

معنى الآية التي هي محل النزاع بل إن البعض منهم نبّه على مثل هذا الإشكال صراحة , وفصل فيه, وجمع بين الآيات أمثال القرطبي والشنقيطي وابن عاشور. والاختلاف الحاصل في أقوال المفسرين في المراد بالمحكم والمتشابه في هذه الآية هو من باب اختلاف التنوع ولا أثر ضار فيه. وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف ومن سبقه من المفسرين , ومن ذلك قوله: " اختلف علماء الإسلام في تعيين المقصود من المحكمات والمتشابهات على أقوال: مرجعها إلى تعيين مقدار الوضوح والخفاء، فعن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنّ المحكم ما لا تختلف فيه الشرائع كتوحيد الله تعالى، وتحريم الفواحش، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .. } (¬1) والآيات من سورة الإسراء {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ .... } (¬2) وأن المتشابه المجملات التي لم تبيّن كحروف أوائل السور. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، وابن عباس - رضي الله عنه - أيضاً: أنّ المحكم ما لم ينسخ والمتشابه المنسوخ (¬3) وهذا بعيد عن أن يكون مراداً هنا لعدم مناسبتِه للوصفين ولا لبقية الآية ... . ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (151). (¬2) سورة الإسراء، الآية (23). (¬3) أخرج قول ابن عباس وابن مسعود الطبري في تفسيره، ج 3، ص 202.

وعن الأصم: المحكم ما اتّضح دليلُه، والمتشابه ما يحتاج إلى التدبّر، وذلك كقوله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} (¬1) فأولها محكم وآخرها متشابه. وللجمهور مذهبان: أولهما: أنّ المحكم ما اتّضحت دلالته، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، ونسب هذا القول لمالك وللحنفية , وإليه مال الشاطبي في الموافقات. وثانيهما: أنّ المحكم الواضح الدلالة، والمتشابه الخفيُ، وإليه مال الفخر: فالنص والظاهر هنا المحكم، لاتّضاح دلالتهما، وإن كان أحدهما أي الظاهر يتطرّقه احتمال ضعيف، والمجمل والمؤوّل هما المتشابه، لاشتراكهما في خفاء الدلالة وإن كان أحدهما: أي المؤول دالاً على معنى مرجوح، يقابله معنى راجح، والمجمل دالاً على معنى مرجوح يقابله مرجوح آخر، ونسبت هذه الطريقة إلى الشافعية (¬2). أما رأي ابن عاشور في المحكم والمتشابه في هذه الآية فهو قوله: " فالمحكمات هي أصول الاعتقاد والتشريع والآداب والمواعظ، وكانت أصولاً لذلك: باتّضاح دلالتها، بحيث تدل على معان لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالاً ضعيفاً غير معتدَ به، وذلك كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬3) ¬

(¬1) سورة الزخرف، الآية (11). (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 3، 156. (¬3) سورة الشورى، الآية (11).

{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬1) {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} (¬2) {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (¬3) {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (¬4). وباتّضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهّل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوعُ إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع. والمتشابهات مقابل المحكمات، فهي التي دلّت على معان تشابهت في أن يكون كلُّ منها هو المرادَ. ومعنى تشابهها: أنّها تشابهت في صحة القصد إليها، أي لم يكن بعضها أرجح من بعض. أو يكون معناها صادقاً بصور كثيرة متناقضة أو غير مناسبة لأن تكون مراداً، فلا يتبيّن الغرض منها، فهذا وجه تفسير الآية فيما أرى (¬5). وقد تداخلت أقوال المفسرين فيما يظهر لي في تأويل معنى المحكم والمتشابه في هذه الآية، يقول الطبري مرجحا: " بل"المحكم" من آي القرآن: ما عرف العلماءُ تأويله، وفهموا معناه وتفسيره , و"المتشابه": ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مَخْرج عيسى ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية (23). (¬2) سورة البقرة، الآية (185). (¬3) سورة البقرة، الآية (205). (¬4) سورة النازعات، الآية (40). (¬5) التحرير والتنوير، ج 3، ص 155.

ابن مريم، ووقت طُلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناءِ الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحدٌ. وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب"المتشابه"، الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو"ألم" و"ألمص"، و"ألمر"، و"ألر"، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ "، ومثله قول القرطبي (¬1) .. ويرى ابن عطية أن المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد " (¬2). في حين يرى الرازي أن المحكم هو الواضح الدلالة، والمتشابه الخفيها، ومثله قول أبي حيان (¬3). وقال ابن كثير: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. والمتشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرّفن عن الحق (¬4). ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 3، ص 205، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 4، ص 14. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 401. (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 3، ص 138، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 396. . (¬4) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 3، ص 9.

وقال الشوكاني: " الأولى أن يقال إن المحكم المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره، والمتشابه مالا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره" (¬1) وقال الألوسي: " محكمات أي واضحة المعنى ظاهرة الدلالة والمتشابهات المحتملة لمعان متشابهة لا يمتاز بعضها عن بعض " ويشبهه قول القاسمي (¬2). قلت: وتلك الأقوال وإن كان يظهر عليها الاختلاف إلا أنها تصب في معنى واحد، فبعضها عام وبعضها جزء من ذلك العام. وقد علق ابن عطية بعد أن ذكر قول ابن عباس في معنى المحكم والمتشابه بقوله: " وهذا عندي على جهة التمثيل أي يوجد الإحكام في هذا والتشابه في هذا، لا أنه وقف على هذا النوع من الآيات " (¬3). كما علق الشوكاني بعد أن استعرض أقوال العلماء في المحكم والمتشابه فقال: " وإذا عرفت هذا عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدّمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها. ولا شك أن مفهوم المحكم، والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه " (¬4). القول الراجح: وبذلك يمكننا القول بأن الراجح في معنى هذه الآية هو مجموع ما ذهب ¬

(¬1) فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 314. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 2، ص 79، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 303. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 400. (¬4) فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 314.

إليه المفسرون في ذلك. وإيراد الخلاف في مثل هذا المبحث قد لا يهمنا كثيرا لأن المعول عليه هنا هو الجمع بين هذه الآية وغيرها من الآيات التي تصف القرآن بأنه محكم كله أو متشابه كله وقد تبين لنا أنه لا تعارض بين الآيات. وممن اهتم بذلك من المفسرين ابن عاشور ومن قبله القرطبي وكذلك الشنقيطي حيث ساق كل منهما هذا الاحتمال الوارد من الإشكال وأجابوا عنه. قال القرطبي: " قيل: القرآن كله محكم: لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} " (¬1) ,، وقيل: كله متشابه، لقوله: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (¬2) ,. وليس هذا من معنى الآية في شئ، فإن قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله , ومعنى {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} كتابا متشابها، أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا. وليس المراد بقوله: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} " هذا المعنى، وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} (¬3) أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعا كثيرة من البقر والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحدا. ¬

(¬1) سورة هود، الآية (1). (¬2) سورة الزمر، الآية (23). (¬3) سورة البقرة، الآية (70).

وقيل: إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما. فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع (¬1). وقال الشنقيطي: " هذه الآية الكريمة تدل على أن من القرآن محكما ومنه متشابها, وقد جاءت آية أخرى تدل على أنّ كله محكم, وأية تدل على أنّ كله متشابه, أمّا التي تدل على إحكامه كله قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‍} (¬2) وأما التي تدل على أنّ كله متشابه قوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (¬3) , ووجه الجمع بين الآيات أنّ معنى كونه كله محكما أنه في غاية الإحكام أي الإتقان في ناحية ألفاظه ومعانيه وإعجازه أخباره صدق, وأحكامه عدل, لا تعتريه وصمة ولا عيب في الألفاظ, ولا في المعاني, ومعنى كونه متشابها أن آياته يشبه بعضها بعضا في الحسن والصدق والإعجاز والسلامة من جميع العيوب ومعنى كونه بعضه محكما وبعضه متشابها أن المحكم منه الواضح المعنى لكل الناس كقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} (¬4) , {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (¬5) , والمتشابه: هو ما خفي علمه على غير ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 4، ص 14. (¬2) سورة هود، الآية (1). (¬3) سورة الزمر، الآية (23). (¬4) سورة الإسراء، الآية (32). (¬5) سورة الإسراء، الآية (39).

الراسخين في العلم بناء على أن الواو في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (¬1) , عاطفة, أو هو ما استأثر الله بعلمه كمعاني الحروف المقطعة في أوائل السور بناء على أن الواو في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} استئنافية لا عاطفة " (¬2). 2 - مثال قتل العمد: قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (¬3). هذه الآية تدل على أن القاتل عمدا لا توبة له , وأنه مخلد في النار، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك , كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬4)، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬5) - إلى قوله -: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية (7). (¬2) انظر دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب / الشنقيطي، ص 38. (¬3) سورة النساء، الآية (93). (¬4) سورة النساء، الآية (48). (¬5) سورة الفرقان، الآية (68).

يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (¬1)، الآية. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (¬2) وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} (¬3) الآية (¬4). وذكر ابن عاشور في تفسيره أن هذه الآية وقع فيها خلاف بين العلماء واضطربت فيها كلمات المفسرين على عدة أقوال، فمنهم من ذهب إلى أن القاتل عمداً في النار لا تقبل توبته، ومنهم من يرى أن الآية منسوخة بآيات التوبة , وآخرون يرون أن الآية محكمة مخصصة بآيات التوبة، ومنهم من يرى أن الآية خاصة بالكفار (¬5). ورجّح ابن عاشور أنه لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة، وأن القاتل له توبة، وممن وافق قوله قول ابن عاشور فيمن سبقه من المفسرين الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي (¬6). ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية (76). (¬2) سورة الزمر، الآية (53). (¬3) سورة طه، الآية (82). (¬4) دفع إيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله / الشنقيطي، ص 67. (¬5) انظر التحرير والتنوير، ج 3، ص 166. (¬6) انظر جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 260، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 96، والتفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 184، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 334، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 3، ص 340، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 209، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 499، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 3، ص 275.

حجة أصحاب القول الأول الذين يقولون: إن المؤمن القاتل عمداً مخلد في النار لا تقبل توبته: قال ابن عاشور: " رأى بعض السلف أنّ ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره، دون تأويل، لشدّة تأكيده تأكيداً يمنع من حمل الخلود على المجاز، فيُثبت للقاتل الخلودَ حقيقة " (¬1). واستدلوا على ذلك بما روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ... } هي آخر ما نزل وما نسخها شيء (¬2). وروى النسائي عنه قال: سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا (¬3). وروي عن زيد بن ثابت نحوه، وإن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر، وفي رواية بثمانية أشهر، ذكرهما النسائي عن زيد بن ثابت (¬4). وإلى عموم هذه الآية مع هذه الأخبار عن زيد وابن عباس ذهبت المعتزلة وقالوا: هذا مخصص عموم قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 165. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب فمالكم في المنافقين فئتين .. ، ج 4، ص 1676 , ح- 4314. (¬3) أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب المحاربة، باب تعظيم الدم، ج 2، ص 287، ح- 3464. (¬4) أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب المحاربة، باب تعظيم الدم، ج 2، ص 288، ح- 3469.

ورأوا أن الوعيد نافذ حتما على كل قاتل، فجمعوا بين الآيتين بأن قالوا: التقدير ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدا (¬1). حجة القائلين: إن القاتل عمداً تقبل توبته وأن الآية عامة خصصت بآيات التوبة: قال الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا، فجزاؤه إن جزاه جهنم خالدًا فيها، ولكنه يعفو ويتفضَّل على أهل الإيمان به وبرسوله، فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إيّاها ثم يخرجه منها بفضل رحمته، لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (¬2). قال ابن كثير: " والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها: أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع، وعمل عملا صالحا، بدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 334. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 5، ص 260.

الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} (¬1) وهذا خبر لا يجوز نسخه، وحمله على المشركين (¬2). قال ابن عاشور: " إن آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها، حتّى بلغت حدّ النصّ المقطوع به، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلّها " (¬3). حجة القائلين: إن الآية منسوخة بآيات التوبة: ذكر ابن حزم أن قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} نسخت بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وبالآية التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬4). وقال المقري: " أجمع المفسرون من الصحابة والتابعين على نسخ هذه الآية إلا ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية (68 - 69). (¬2) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 4، ص 209. (¬3) التحرير والتنوير، ج 3، ص 166. (¬4) انظر الناسخ والمنسوخ / ابن حزم، ج 1، ص 35.

عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - وعبد الله بن عمر - رضي الله عنه - , فإنهما قالا إنها محكمة " (¬1). حجة القائلين: إن الآية خاصة بالكفار ولذلك فإن القاتل عمداً مخلد في النار: قالوا: إن الآية نزلت في مقيس بن صبابة، وهو كافر، فالخلود لأجل الكفر. وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه هشام بن صبابة، فوجد هشاما قتيلا في بني النجار فأخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه وأرسل معه رجلا من بني فهر، فقال بنو النجار: والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي الدية، فأعطوه مائة من الابل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة , فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه , وأخذ الإبل وانصرف إلى مكة كافرا مرتدا، وجعل ينشد: قتلت به فهرا وحملت عقله ............ سراة بني النجار أرباب فارع حللت به وتري وأدركت ثورتي .. ......... وكنت إلى الأوثان أول راجع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا أؤمنه في حل ولا حرم" , وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة (¬2). القول الراجح إنه لا تعارض بين هذه الآية وغيرها من الآيات التي تحكي التوبة والمغفرة لمن تاب. وأن القاتل عمدا مؤمن عاص له توبة , كما عليه جمهور علماء الأمة , وهو ¬

(¬1) الناسخ والمنسوخ / المقري، ج 1، ص 77. (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 3، ص 113، والبيهقي في الشعب، فصل في أصحاب الكبائر من أهل القبلة، ج 1، ص 277، ح- 296.

صريح قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ .. } الآية. قال الشوكاني: " والحق أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه، وإذا كان الشرك، وهو أعظم الذنوب وأشدّها تمحوه التوبة إلى الله، ويقبل من صاحبه الخروج منه، والدخول في باب التوبة، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً؟ " (¬1). ومما يؤكد هذا القول القاعدة الترجيحية (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له) وقد توافرت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وصرح تعالى بأن القاتل أخو المقتول في قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (¬2)، وقد قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (¬3)، فسماهم مؤمنين مع أن بعضهم يقتل بعضا، ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، لأن هذه الأمة أولى بالتخفيف من بني إسرائيل لأن الله رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم (¬4). كما يؤكد القول بأن الآية محكمة وغير متعارضة مع آيات التوبة القاعدة الترجيحية التالية (النسخ لا يقع في الأخبار) , قال القرطبي: " هذا حسن - يعني ¬

(¬1) فتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 499. وروح المعاني / الألوسي، ج 3، ص 113. (¬2) سورة البقرة، الآية (178). (¬3) سورة الحجرات، الآية (9). (¬4) انظر دفع إيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله / الشنقيطي، ص 68.

القول بأن الآية محكمة - لأن النسخ لا يدخل الأخبار إنما المعنى فهو يجزيه (¬1). وأما ادعاء تخصيصها بالكفار فإنه لا دليل عليه، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} وضعّف الرازي قول من خصصها بالكفار فقال: " أما الوجه الأول فضعيف، وذلك لأنه ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا ثبت أن اللفظ الدال على الاستغراق حاصل، فنزوله في حق الكفار لا يقدح في ذلك العموم، فيسقط هذا الكلام بالكلية، ثم نقول: كما أن عموم اللفظ يقتضي كونه عاما في كل قاتل موصوف بالصفة المذكورة، فكذا ههنا وجه آخر يمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر. وبيانه من وجوه: الأول: أنه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون اليه عند اشتغالهم بالجهاد، فابتدأ بقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} (¬2) فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات: كفارة قتل المسلم في دار الإسلام، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد، ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقرونا بالوعيد، فلما كان بيان حكم قتل الخطأ ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 5، ص 335. (¬2) سورة النساء، الآية (92).

بيانا لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم القتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ، وجب أن يكون أيضا مختصا بالمؤمنين، فإن لم يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه. الثاني: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (¬1). وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوما فأسلموا فقتلوهم وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف، وعلى هذا التقدير: فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الإيمان؛ وهذا أيضا يقتضي أن يكون قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} نازلا في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب، فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار (¬2). 3 - مثال الظلم: قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (94). (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 4، ص 183.

وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1). أشكلت هذه الآية على بعض المفسرين، واختلفوا فيها، ورأوا أنها متعارضة مع آيات أخرى حتى قال بعضهم إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬2)، وفسروا الظلم هنا بالشرك (¬3). أما ابن عاشور فقد وضّح هذا الإشكال في تفسيره بقوله: " وسياق الآية يدل على أن المراد بالمغفرة هنا التجاوز عن المشركين في الدنيا بتأخير العقاب لهم إلى أجل أراده الله أو إلى يوم الحساب، وأن المراد بالعقاب في قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} ضد تلك المغفرة وهو العقاب المؤجل في الدنيا أو عقاب يوم الحساب، فمحمل الظلم على ما هو المشهور في اصطلاح القرآن من إطلاقه على الشرك. ويجوز أن يحمل الظلم على ارتكاب الذنوب بقرينة السياق كإطلاقه في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (¬4).فلا تعارض أصلاً بين هذا المحمل وبين ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية (6). (¬2) سورة النساء، الآية (48). (¬3) انظر الناسخ والمنسوخ / المقري، ج 1، ص 17. (¬4) سورة النساء، الآية (160).

قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1) كما هو ظاهر (¬2). ومعظم المفسرين يرون أن هذه الآية محكمة , وليست منسوخة , ولكنهم لم يوردوا هذا التعارض الذي قد يرد على الآية كما فعل ابن عاشور. حجة القائلين بأن بين الآيتين تعارضا , وادعوا نسخها: قال الضحاك: الآية منسوخة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (¬3). وقال ابن حزم: "قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} (¬4) منسوخة وناسخها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (¬5) والظلم ههنا الشرك (¬6). حجة أصحاب القول الثاني الذين لا يرون أن الآيات متعارضة، وقد تأولوا الآية على تأويلين: إن المراد أن الله يغفر الذنوب مطلقا إلا الشرك، أي: أن الآية عامة ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (48). (¬2) التحرير والتنوير، ج 7، ص 93. (¬3) الناسخ والمنسوخ / الكرمي، ج 1، ص 126. (¬4) سورة الرعد، الآية (6). (¬5) سورة النساء، الآية (48). (¬6) الناسخ والمنسوخ / ابن حزم، ج 1، ص 42.

ويخصصها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وإما أن يكون المراد بالمغفرة معناها اللغوي , وهو الستر بالإمهال وتأخير العذاب. وهذان المعنيان حكاهما ابن عاشور , وجعل كلا منهما محتملا (¬1). وقد اعترض الرازي على المعنى الثاني بقوله: " إن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة، وإلا لوجب أن يقال: الكفار كلهم مغفور لهم لأجل أن الله تعالى أخر عقابهم إلى الآخرة، وعن الثاني: أنه تعالى تمدح بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل. أما بأداء الواجب فلا تمدح فيه وعندكم يجب غفران الصغائر وعن الثالث: أنا بينا أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة حال الظلم، وبينا أن حال حصول الظلم يمنع حصول التوبة، فسقطت هذه الأسئلة وصح ما ذكرناه " (¬2). القول الراجح إن المقصود بالظلم في هذه الآية ارتكاب الذنوب , وعليه لا تعارض بين الآيات , كما قال ابن عاشور: " ويجوز أن يحمل الظلم على ارتكاب الذنوب بقرينة السياق كإطلاقه في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (¬3) فلا تعارض أصلاً بين هذا المحمل وبين قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 7، ص 93. (¬2) التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 12. (¬3) سورة النساء، الآية (160).

وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1) كما هو ظاهر" (¬2). وقد ردّ ابن الجوزي على من قال بأن الآية منسوخة , فقال: " قد توهم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة لأنه قال المراد بالظلم ها هنا الشرك ثم نسخت بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وهذا التوهم فاسد؛ لأن الظلم عام وتخصيصه بالشرك هاهنا يحتاج إلى دليل، ثم إن كان المراد به الشرك فلا يخلو الكلام من أمرين: إما أن يراد التجاوز عن تعجيل عقابهم في الدنيا , أو الغفران لهم إذا رجعوا عنه وليس في الآية ما يدل على أنه يغفر للمشركين إذا ماتوا على الشرك " (¬3). وقال الشوكاني: " وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجمع بين هذه الآية وبين قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} هو: أن كل ذنب كائنا ما كان ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له , على أنه يمكن أن يقال: إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعا يدل على أنه يشاء غفرانها جميعا , وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكل المذنبين من المسلمين , فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية, وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين من تقييد هذه الآية بالتوبة , وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات فإنها لو مقيدة بالتوبية لم يكن لها كثير موقع فإن التوبة ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (48). (¬2) التحرير والتنوير , ج 7 , ص 93. (¬3) نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 183.

من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين وقد قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فلو كانت التوبة قيدا في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة وقد قال سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} " (¬1). ومما يؤكد هذه القول ويرجحه قاعدة أخرى وهي: (القول الذي تؤيده آيات قرآنية مقدم على غيره) ومما يوضح معنى هذه الآية وبها يزول الإشكال قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} (¬2)، وكقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} (¬3)، وقوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (¬4) وأكثر من اهتم بهذه القاعدة ووظفها في تفسيره الشنقيطي (¬5). ونلحظ من خلال هذا المثال مدى اهتمام ابن عاشور في تأصيل هذه القاعدة حيث إن معظم المفسرين لم يوردوا مثل هذا التعارض , ولم ينبهوا عليه , ¬

(¬1) فتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 70. (¬2) سورة الرعد، الآية (47). (¬3) سورة العنكبوت، الآية (53)، (¬4) سورة العنكبوت، الآية (54)، (¬5) انظر أضواء البيان / الشنقيطي، ص 387.

بينما ابن عاشور ذكر أنه لا تعارض بين الآيات مؤكدا أن كل آية يجب أن تحمل على محملها من خلال السياق الذي ترد فيه. 4 - مثال التساؤل يوم القيامة: قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (¬1) وقوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (¬2). هذه الآيات قد يبدو في أول الأمر أن ظاهرها التعارض، والقرآن الكريم منزه عن ذلك، والمفسرون متفقون جميعاً على أنه لا تعارض بين آيات القرآن الكريم، كما أنهم متفقون على أنه لا تعارض بين هاتين الآيتين المذكورة أعلاه , وإنما هي مواقف في يوم القيامة يمر بها البشر، وإنما حصل الاختلاف بين المتأولين في صفة ارتفاع الأنساب في تلك المواقف متى يكون السؤال ومتى لا يكون؟ وابن عاشور قد اهتم بتجلية هذه القاعدة في تفسيره فكان إذا مر بمثل تلك الآيات التي تشكل على البعض يبين حالها، ويعالج الإشكال الواقع فيها. ومن ذلك موقفه من هذه الآيات حيث يقول فيها: " لا تعارض بين هذه الآيات وإنما هي مواقف وأحوال بعد النفخة الأولى والثانية. وعلق ابن عاشور بعد أن ساق ذلك الحديث بقوله: " إن تساؤلهم المنفي ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية (101). (¬2) سورة الصافات، الآية (27).

هنالك هو طلب بعضهم مِن بعض النجدة والنصرة وأن تساؤلهم هنا تساؤل عن أسباب ورطتهم فلا تعارض بين الآيتين " (¬1). وذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بالآية أنه لا أنساب بينهم بعد النفخة الثانية من هول الفزع، ثم يتساءلون بعد ذلك .. وهو قول ابن مسعود وابن عطية، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي، والشنقيطي (¬2). وذكر الطبري، وكذلك الألوسي كلا المعنيين ولم يرجحا وقال الألوسي بعد أن ذكر المعنيين: وحينئذٍ يختار في وجه الجمع أحد الأوجه التي أشرنا إليها ... (¬3). وانفرد الرازي بقول مختلف وهو أن الآية الأولى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (¬4) في صفة أهل النار، وأما قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (¬5) في صفة أهل ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 106. . (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 156، البحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 388، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 148، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 501، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 317، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1197. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 18، ص 67 - 68، وروح المعاني / الألوسي، ج 9، ص 265. (¬4) سورة المؤمنون، الآية (101). (¬5) سورة الصافات، الآية (27).

الجنة (¬1). وذكر القرطبي أن الآية الثانية تتعلق بأهل الجنة (¬2). حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن المقصود بالآية {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} أي بعد النفخة الأولى: حجتهم في ذلك حديث ابن عباس - رضي الله عنه -: قال البخاري في صحيحه: قال المنهال عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس - رضي الله عنه -: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي- وذكر منها - {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (¬3) {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (¬4) فقال: فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى ثم ينفخ في الصور , فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون .... " (¬5). قال ابن عاشور بعد أن ساق حديث ابن عباس: .. " يريد به اختلاف ¬

(¬1) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 295. (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 12، ص 157. (¬3) سورة المؤمنون، الآية (101). (¬4) سورة الصافات، الآية (27). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه معلقا، كتاب التفسير، باب تفسير سورة حم السجدة فصلت، ج 4، ص 1815 ,ح- 4537، والحاكم في المستدرك، ج 2، ص 428 , ح- 3489، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

الزمان " (¬1). وكذلك أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه، أنه سئل عن قوله: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} وقوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فقال: إنها مواقف، فأما الموقف الذي لا أنساب بينهم ولا يتساءلون عند الصعقة الأولى، لا أنساب بينهم فيها إذا صعقوا، فإذا كانت النفخة الآخرة فإذا هم قيام يتساءلون (¬2). قال ابن عطية معلقا على هذا المعنى وإن كان يميل إلى المعنى الآخر: " وهذا التأويل يزيل ما في الآية من ذكر هول الحشر" (¬3). وهذا القول هو الذي رجحه ابن عاشور ولم يذكر غيره. حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المقصود بالآية أنه لا أنساب بينهم بعد النفخة الثانية ابتداءً .. ثم بعد ذلك يتساءلون .. : استدلوا بحديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: " يؤخذ العبد أو الأمة يوم القيامة، فينصب على رؤوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد، فيقول الربّ تبارك وتعالى للعبد: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: أي ربّ، فَنِيت الدنيا، فمن أين أعطيهم؟ فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة وأعطوا لكل إنسان بقدر طلبته، فإن كان له فضلُ مثقال حبة من خردل ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة، ثم تلا ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 9، ص 126. (¬2) ذكره السيوطي في الدر المنثور، ج 6، ص 116. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 156.

ابن مسعود - رضي الله عنه -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1) وإن كان عبدا شقيا، قالت الملائكة: ربنا، فنيت حسناتُه وبقي طالبون كثير، فيقول: خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته، وصُكُّوا له صَكًّا إلى النار " (¬2). قال ابن عطية: " المعنى أنه عند النفخة الثانية وقيام الناس من القبور , فهم حينئذ لهول المطلع , واشتغال كل امرئ بنفسه , قد انقطعت بينهم الوسائل وزال انتفاع الأنساب فلذلك نفاها المعنى (فلا أنساب) , وروي عن قتادة أنه قال: ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممن يعرف؛ لأنه يخاف أن تكون له عنده مظلمة وفي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ويفرح كل أحد يومئذ أن يكون له حق على ابنه وأبيه، وقد ورد بهذا الحديث، وكذلك ارتفاع التساؤل والتعارف لهذه الوجوه التي ذكرناها ثم تأتي في القيامة مواطن يكون فيها السؤال والتعارف " (¬3). ورجّح ابن عطية هذا القول بقوله: وهذا التأويل حسن ,, وهو مروي المعنى عن ابن عباس - رضي الله عنه - (¬4). وكذلك ابن كثير حيث يقول: " يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (40). (¬2) أخرجه ابن المبارك في الزهد، ص 498، ح- 1416، والطبري مقطعاً، ج 18، ص 68، وأبو نعيم في الحلية، ج 4، ص 202. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 156. (¬4) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 156.

النشور، وقام الناس من القبور، (فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ) أي: لا تنفع الأنساب يومئذ، ولا يرثي والد لولده، ولا يلوي عليه، قال الله تعالى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ} (¬1)، أي: لا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره، وهو كان أعز الناس عليه في الدنيا، ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬2) " (¬3). وقال القاسمي: " وجليّ أن نفي التساؤل إنما هو وقت النفخ، كما دل عليه قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}: أي وقت القيام من القبور وهول المطلع يشتغل بنفسه. وأما بعده فقد يقع التساؤل، كما قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (¬4) , لأن يوم القيامة يوم ممتد , ففيه مشاهد ومواقف فيقع في بعضها، وفي بعضها دهشة تمنع منه (¬5). ويقول السعدي في تفسبره لهذه الآية: " يخبر تعالى عن هول يوم القيامة، وما ¬

(¬1) سورة المعارج، الآية (10 - 11). (¬2) سورة عبس، الآية (34 - 37). (¬3) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 148. (¬4) سورة الصافات، الآية (27). (¬5) محاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 317.

في ذلك اليوم، من المزعجات والمقلقات، وأنه إذا نفخ في الصور نفخة البعث، فحشر الناس أجمعون، لميقات يوم معلوم، أنه يصيبهم من الهول ما ينسيهم أنسابهم، التي هي أقوى الأسباب، فغير الأنساب من باب أولى، وأنه لا يسأل أحد أحدا عن حاله، لاشتغاله بنفسه، فلا يدري هل ينجو نجاة لا شقاوة بعدها؟ أو يشقى شقاوة لا سعادة بعدها؟ قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬1). القول الراجح فيما يبدو لي والله أعلم أنه لا تعارض ولا خلاف حقيقي بين الفريقين، وإن الاختلاف إنما هو باعتبار عدد النفخات، فالفريق الأول يرى أن هناك ثلاث نفخات، والفريق الثاني يرى أن هناك نفختين، فالثانية عند الفريق الأول هي الأولى عند الفريق الثاني. وعليه فالخلاف بينهما لفظي لا حقيقي. 5 - مثال النطق يوم القيامة: قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} (¬2). هذه الآية الكريمة تدل على أن أهل النار لا ينطقون ولا يعتذرون , وقد ¬

(¬1) سورة عبس، الآية (34 - 37). (¬2) سورة المرسلات، الآية (35).

جاءت آيات تدل على أنهم ينطقون ويعتذرون , كقوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬1)، وقوله: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} (¬2) وقوله: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} (¬3). وقوله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} (¬4) إلى غير ذلك من الآيات. وهذه الآيات قد تبدو لأول وهلة أن ظاهرها التعارض، ولذلك حرص المفسرون على توضيح وبيان مثل تلك الآيات وإزالة الإشكال الحاصل فيها، وأقوالهم في ذلك متقاربة، وإن كان ظاهرها الاختلاف، ولكن هذا الاختلاف لا يضر وإنما يزيد في المعنى، وابن عاشور قد اهتم كثيراً بمثل تلك الآيات ووقف عندها وأزال اللبس الحاصل فيها فيقول مثلاً في هذه الآيات: " واعلم أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين الآيات التي جاء فيها ما يقضي أنهم يعتذرون نحو قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} (¬5) لأن وقت انتفاء نطقهم يوم الفصل، وأما نطقهم المحكي في قوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} فذلك صراخهم ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (23). (¬2) سورة النحل، الآية (28). (¬3) سورة غافر، الآية (74). (¬4) سورة الشعراء، الآية (98). (¬5) سورة غافر، الآية (11).

في جهنم بعد انقضاء يوم الفصل " (¬1). وممن ذهب إلى رأيه في توضيح هذه الآيات ممن سبقه الطبري، وابن عطية، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي (¬2). فهؤلا يرون أن يوم القيامة مواقف وأحوال، فحصل النطق في حال ومنعوا عن الكلام في حال آخر. في حين ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود بعدم النطق في ذلك اليوم هو: عدم الحجة أي لا ينطقون بحجة (¬3). وجوّز الشنقيطي كلا القولين (¬4). وإليك حجة أصحاب كل قول: حجة أصحاب القول الأول الذين يرون أن القيامة مواقف وأحوال فحصل النطق في موقف دون آخر: حجتهم في ذلك أن يوم القيامة فيه من المواقف والأحوال ما يحصل النطق في بعضها ولا يحصل في البعض الآخر. ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 14، ص 440. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 29، ص 289، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 420، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 160، والبحر المحيط / أبو حيان ج 8، ص 399 وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 224، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 260، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 19، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 304. (¬3) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 777. (¬4) دفع إيهام الاضطراب عن آيات كتاب لله / الشنقيطي، ص 249.

قال الفراء: " أراد بقوله: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} تلك الساعة وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه، كما يقول: آتيك يوم يقدم فلان، والمعنى ساعة يقدم وليس المراد باليوم كله، لأن القدوم إنما يكون في ساعة يسيرة، ولا يمتد في كل اليوم (¬1). وقال الطبري: " وقوله: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} يخبر عنهم أنهم لا ينطقون في بعض أحوال ذلك اليوم، لا أنهم لا ينطقون ذلك اليوم كله. فإن قال: فهل من بُرهان يعلم به حقيقة ذلك؟ قيل: نعم، وذلك إضافة يوم إلى قوله: (لا يَنْطِقُونَ) والعرب لا تُضيف اليوم إلى فعل يفعل، إلا إذا أرادت الساعة من اليوم والوقت منه، وذلك كقولهم: آتيك يومَ يقدمُ فلان، وأتيتك يوم زارك أخوك، فمعلوم أن معنى ذلك: أتيتك ساعة زارك، أو آتيك ساعة يقدُم، وأنه لم يكن إتيانه إياه اليوم كله، لأن ذلك لو كان أخذ اليوم كله لم يضف اليوم إلى فعل ويفعل، ولكن فعل ذلك إذ كان اليوم بمعنى إذ وإذا اللتين يطلبان الأفعال دون الأسماء " (¬2). وقال ابن عطية: " أي يوم القيامة أسكتتهم الهيبة وذل الكفر، و (هذا) في موطن قاض بأنهم (لا ينطقون) فيه إذ قد نطق القرآن بنطقهم ربنا أخرجنا، ربنا أمتنا، فهي مواطن " (¬3). حجة أصحاب القول الثاني الذين يرون أن المقصود بقوله لا ينطقون أي ¬

(¬1) معاني القرآن / الفراء، ج 3، ص 226. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 29، ص 289. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 420.

لا ينطقون بحجة: أجاب الرازي عن ذلك بعدة وجوه , ذكر منها قول الحسن , وهذا قوله: "فيه إضمار، والتقدير: هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، لأنه ليس لهم فيما عملوه عذر صحيح وجواب مستقيم، فإذا لم ينطقوا بحجة سليمة وكلام مستقيم فكأنهم لم ينطقوا، لأن من نطق بما لا يفيد فكأنه لم ينطق، ونظيره ما يقال لمن ذكر كلاماً غير مفيد: ما قلت شيئاً (¬1). وقال القاسمي: " أي بحجة أو في وقت من أوقاته؛ لأنه يوم طويل ذو مواقف ومواقيت. أو جعل نطقهم كلا نطق؛ لأنه لا ينفع ولا يسمع، فلا ينافي آية: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬2) وآية {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (¬3) (¬4). القول الراجح هو ما رجحه ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين، وقد وضح ذلك بقوله " واعلم أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين الآيات التي جاء فيها ما يقضي أنهم يعتذرون ". وبنحو هذا أجاب ابن عباس - رضي الله عنه - نافع بنَ الأزرق حين قال نافع: إنِّي أجد ¬

(¬1) التفسير الكبير/ الرازي، ج 10، ص 777. (¬2) سورة الأنعام، الآية (23). (¬3) سورة النساء، الآية (42). (¬4) محاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 304.

في القرآن أشياء تختلف عليَّ قال الله: {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (¬1)، وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (¬2) فقال ابن عباس: لا يتساءلون في النفخة الأولى حين نُفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض فلا يتساءلون حينئذٍ، ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون (¬3). قال القرطبي: " قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} أي لا يتكلمون {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي إن يوم القيامة له مواطن ومواقيت ,فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها ولا يؤذن لهم في الاعتذار والتنصل " (¬4). كما قال الألوسي: " {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} الإشارة إلى وقت دخولهم النار , أي: هذا يوم لا ينطقون فيه بشيء لعظم الدهشة وفرط الحيرة ولا ينافي هذا ما ورد في موضع آخر من النطق؛ لأن يوم القيامة طويل له مواطن ومواقيت ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون, وجوز أن يكون المراد هذا يوم لا ينطقون بشيء ينفعهم وجعل نطقهم لعدم النفع كلا نطق " (¬5). ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية (101). (¬2) سورة الصافات، الآية (27). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة حم- السجدة - فصلت، ج 4، ص 1815، ح- 4537. (¬4) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 160. (¬5) روح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 19

كما عالج الشنقيطي هذا الإشكال في كتابه "دفع إيهام الاضطراب" من عدة أوجه فقال: " الأول: أن القيامة مواطن؛ ففي بعضها ينطقون، وفي بعضها لا ينطقون. الثاني: أنهم لا ينطقون بما لهم فيه فائدة. ومالا فائدة فيه كالعدم. الثالث: أنهم بعد أن يقول الله لهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (¬1) ينقطع نطقهم، ولم يبق إلا الزفير والشهيق. قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} وهذا الوجه الثالث راجع للوجه الأول (¬2). ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية (108). (¬2) دفع إيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله / الشنقيطي، ص 249. ونظائر هذه الأمثلة كثيرة جداً في تفسيره منها: 1 - ما جاء في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. (البقرة: 2) أشار الله تعالى إلى القرآن في هذه الآية إشارة البعيد وقد أشار له في آيات أخر إشارة القريب كقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9)، وكقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (النمل: 76)، وكقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} (الأنعام: 92)، وقد تشكل الآيات للناظر من أول وهلة كيف يشير إلى القرآن إشارة البعيد وأحياناً بالقريب، وقد أجاب ابن عاشور على هذا التساؤل حيث يقول: " ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد، قال الرضي «وُضِع اسم الإشارة للحضور والقرب لأنه للمشار إليه حسًّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول: «واللَّهِ وذلك قسم عظيم» لأن اللفظ زال =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارةُ بلفظ الحضور فتقول وهذا قسم عظيم" اهـ (التحرير والتنوير، ج 1، ص 219). 2 - ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102)، وفيها ذكر ابن عاشور قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) وبيّن أنه لا تعارض بين الآيتين، ومن قوله: " الاستطاعة هي القدرة، والتَّقوى مقدورة للنَّاس. وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ (التحرير والتنوير، ج 3، ص 30). 3 - ما جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (الأنعام: 35)، وفيها قال ابن عاشور: فلا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى في آخر هذه السورة {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الأنعام: 148، فهذا من المشيئة المتعلّقة بالخلق والتكوين لا من المشيئة المتعلّقة بالأمر والتشريع. وبينهما بَوْن، سقط في مهواته من لم يقدّر له صون. (التحرير والتنوير، ج 4، ص 206). 4 - ما جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} (سورة الإسراء: 83)، وفيها قوله: ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} ... (سورة فصلت: 51) (التحرير والتنوير، ج 7، ص 193). 5 - ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)} (سورة النبأ: 31 - 35)، وفيها قول ابن عاشور: " وليس هذا الحساب للاحتراز عن تجاوز الحد المعيَّن، فذلك استعمال آخر كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (سورة الزمر: 10) ولكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها فَلا تعارض بين الآيتين " (التحرير والتنوير، ج 15، 48).

الفصل السادس قواعد الترجيح المتعلقة بالمفردة القرآنية

الفصل السادس قواعد الترجيح المتعلقة بالمفردة القرآنية وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: إعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى المبحث الثاني: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. المبحث الثالث: إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها

المبحث الأول إعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى

المبحث الأول إعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى صورة القاعدة: إذا تنازع المفسرون في تفسير آية أو جملة من كتاب الله فأولى الأقوال بالصواب، هو القول الذي يوافق استعمال القرآن، ومعهوده في غير موضع النزاع، سواء كان ذلك في الألفاظ المفردة أو التراكيب (¬1). اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة في تفسيره وبيَّن أنه يجب على المفسر أن يتعرف عادات القرآن من نظمه وكلمه وذلك في المقدمة العاشرة من تفسيره، وذكر أمثلة كثيرة على اعتداد السلف بها، ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه -: إن كل كأس في القرآن , فالمراد بها الخمر، وعنه أيضاً أن كل ما جاء من يا أيها الناس فالمقصود به مشركو أهل مكة (¬2). كما نلحظ اهتمامه بهذه القاعدة في مواضع كثيرة من تفسيره , ومن ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (¬3) قال في كلمة (هؤلاء): " وقد اصطلح القرآن على إطلاق إشارة (هؤلاء) مرادا بها المشركون، وهذا معنى أُلهمنا إليه، ¬

(¬1) قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي ج 1، ص 172. (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 124. (¬3) سورة النساء، الآية (41).

أقوال العلماء في القاعدة

استقريناه فكان مطابقاً " (¬1). أقوال العلماء في القاعدة: قال ابن القيم: "للقرآن عرف خاص، ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها، ولا يجوز تفسيره بغير عرفه، والمعهود من معانيه، فلا يجوز تفسيره بغيره من المعاني التي لا تليق به .. إلى أن قال: فتَدَبَّر هذه القاعدة ولتكن منك على بال، فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها، وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه " (¬2). ومما يدل على أهمية هذا الضابط في التفسير أن بعض العلماء جعله مرجعاً يرجع إليه لمعرفة الصحيح من الأقوال عند تعارضها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يتكلم عن تفسير التابعين: " فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجةً على بعض، ولا على مَن بعدهم، ويُرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك " اهـ (¬3). ويقول الشنقيطي في ذلك: " ومن أنواع بيان القرآن بالقرآن، الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن، فغلبته فيه دليل على عدم خروجه من معنى الآية " (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 57. (¬2) التفسير القيم / ابن القيم، ص 269. (¬3) مقدمة في أصول التفسير / شيخ الإسلام ابن تيمية، ص 92. (¬4) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 747.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - مثال الرياح: قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬1). اختلف المفسرون في قراءة الرياح بين الجمع والإفراد (¬2) وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف في تفسيره فقال: " وقرأ الجمهور: الرّياح بصيغة الجمع. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخَلف: الرّيحَ بصيغة المفرد باعتبار الجنس، فهو مساو لقراءة الجمع " (¬3). ورجّح بعض المفسرين قراءة الجمع وذلك بناءً على المعنى الغالب في القرآن للرياح بالجمع أنها في الخير , وقد جاءت هنا في الخير بدليل قوله بعدها: بشرا، وابن عاشور وإن كان يميل إلى هذا المعنى الأغلبي للرياح في القرآن حيث ساق قول ابن عطية في ذلك، إلا أنه هنا في هذا المثال لم يرجح قراءة على أخرى , وذلك لأن كلا القراءتين متواترتان، وابن عاشور لا يرجح قراءة متواترة على ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية (57). (¬2) انظر السبعة في القراءات / ابن مجاهد، ص 283، والنشر في القراءات العشر، ج 2، ص 168، والبدور الزاهرة / عبد الفتاح القاضي، ص 116. (¬3) التحرير والتنوير، ج 5، ص 179.

أخرى , وإنما يأخذ بهما جميعاً. وممن وافق قوله قول ابن عاشور في الأخذ بكلا القراءتين الرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والألوسي (¬1). حجة من أخذ بقراءة الجمع وترك قراءة الإفراد: قال ابن عطيّة: " من قرأ بصيغة الجمع فقراءته أسعد , اتفق المفسرون على أن الرياح إذا جمعت يراد بها الخير والبشرى، وإذا أفردت تكون مقترنة بعذاب؛ لأنّ الرّياح حيثما وقعت في القرآن فهي مقترنة بالرّحمة، كقوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (¬2) وأكثر ذكر الرّيح المفردة أن تكون مقترنة بالعذاب كقوله: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3) ونحو ذلك" (¬4). قال الألوسي: " وخبر: اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً " مخرج على قراءة الأكثرين " (¬5). حجة من أخذ بقراءة الإفراد وترك قراءة الجمع: ¬

(¬1) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 287، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 203، والبحر المحيط / أبوحيان، ج 4، ص 320، وروح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 383. (¬2) سورة الحجر، الآية (22). (¬3) سورة الأحقاف، الآية (24). (¬4) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 412. (¬5) روح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 383.

قال ابن عاشور: "من قرأ بالإفراد فتقييدها بالنشر , يزيل الاشتراك" (¬1). حيث قرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير نشرا، والنشور: الريح الطيبة (¬2). القول الراجح: هو الأخذ بكلا القراءتين لأنهما متواترتان، وذلك لا يناكد المعنى الغالب على لفظة الريح والرياح في القرآن. قال الرازي: " قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (الريح) على لفظ الواحد , والباقون (الرياح) على لفظ الجمع، فمن قرأ (الرياح) بالجمع حسن وصفها بقوله: (بَشَرًا) فإنه وصف الجمع بالجمع، ومن قرأ (الريح) واحدة قرأ (بُشرًا) جمعاً؛ لأنه أراد بالريح الكثرة كقولهم كثير الدرهم والدينار والشاة والبعير , وكقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (¬3) ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬4) فلما كان المراد بالريح الجمع , وصفها بالجمع" (¬5). ويقول القرطبي: " ومن جمع مع الرحمة ووحَّد مع العذاب؛ فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن نحو: {الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} (¬6)، و {الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (¬7) ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 179. (¬2) انظر السبعة في القراءات / ابن مجاهد , ص 283. (¬3) سورة العصر، الآية (2). (¬4) سورة العصر، الآية (3). (¬5) التفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 287. (¬6) سورة الروم، الآية (46). (¬7) سورة الذاريات، الآية (41).

فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب" (¬1). وهذه القاعدة ليست مطردة في جميع القرآن، لأن الريح ترد أحيانا مفردة وهي في الرحمة, كما في قراءة ابن كثير في هذه الآية. 2 - مثال "هؤلاء": قال تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} (¬2) اختلف المفسرون تعالى في المراد بـ (هؤلاء) في هذه الآية فذهب معظم المفسرين إلى أن المراد بها في هذه الآية مشركو قريش، وقليل منهم يرى أن المراد بهم كفار الأمم المذكورة في الآيات قبلها. قال ابن عاشور: "و (هؤلاء) إشارة إلى كفار قريش ... إلى أن قال: وقد تتبعتُ اصطلاح القرآن فوجدتُه إذا استعمل (هؤلاء) ولم يكن معه مشار إليه مذكور: أنه يريد به المشركين من أهل مكة كما نبَهتُ عليه فيما مضى غير مرة " (¬3). وإلى ذلك ذهب معظم المفسرين (¬4). ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 203. (¬2) سورة ص، الآية (15). (¬3) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 11، ص 223. (¬4) انظر جامع البيان / الطبري، ج 23، ص 155، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 495، والتفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 372، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 150، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 372، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 424 وروح المعاني / الألوسي، ج 12، ص 165، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 128.

وقليل منهم ذهب إلى أن المراد بهم جميع الأحزاب (¬1)؛ أي جميع كفار الأمم المذكورة مثل قوم نوح وعاد وفرعون. حجة من قال: إن المراد بـ (هؤلاء) مشركو قريش: حجتهم في ذلك: إن الغالب في اصطلاح القرآن أن (هؤلاء) المراد بها مشركو قريش كما بيّن ذلك ابن عاشور. وكذلك من حججهم على ذلك: إن الآية في معرض الحديث عن عقابهم؛ لأن الآيات السابقة ذكرت ما حلّ بالأمم المذكورة , ثم جاءت هذه الآية لتبين أنه إذا كان هذا هو حالهم من شدة العناد والتصميم على الكفر فسيحل بهم ما حلّ بالأمم من قبلهم (¬2). قال الألوسي: " شروع في بيان عقاب كفار مكة إثر بيان عقاب إضرابهم فإن الكلام السابق مما يوجب ترقب السامع بيانه، والنظر بمعنى الانتظار، وعبر به مجازاً بجعل محقق الوقوع كأنه أمر منتظر لهم، والإشارة بهؤلاء للتحقير، والمراد بالصيحة الواحدة النفخة الثانية، أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة الحقيرون الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة في الكفر والتكذيب شيئاً إلا النفخة الثانية التي تقوم بها الساعة قاله قتادة " (¬3). وقال ابن عاشور: " و (هؤلاء) إشارة إلى كفار قريش؛ لأن تجدد دعوتهم ¬

(¬1) انظر الكشاف / الزمخشري، ج 5، ص، 247. (¬2) انظر نظم الدرر / البقاعي، ج 6، ص 367. (¬3) روح المعاني / الألوسي، ج 12، ص 165.

ووعيدهم وتكذيبهم يوماً فيوماً جعلهم كالحاضرين، فكانت الإِشارة مفهوماً منها أنها إليهم " (¬1). حجة من قال: إن المراد بـ (هؤلاء) جميع الأحزاب: جوز الزمخشري أن يكون المراد بـ (هؤلاء) جميع الأحزاب لاستحضارهم بالذكر في الآية، أو لأنهم كالحضور عند الله (¬2). ولكن الذي يظهر لي أن هذا القول لا يستقيم؛ لأن الأمم قد وقع عليه العذاب وانتهى أمرها، ويدل عليه قوله تعالى في الآية التي سبقت: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} (¬3) والآية بعدها هنا عبرت بالانتظار للعذاب {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ} فترجح أن المراد بهؤلاء هم مشركو قريش، والله تعالى أعلم. القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين، في أن المراد بـ (هؤلاء) المشركون من قريش كما هو الغالب في اصطلاح القرآن، وفي ذلك يقول: " تتبعتُ اصطلاح القرآن فوجدتُه إذا استعمل (هؤلاء) ولم يكن معه مشار إليه مذكور: أنه يريد به المشركين من أهل مكة " (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 223. (¬2) انظر الكشاف / الزمخشري، ج 5، ص، 247، واحتمل هذا القول أيضاً الشوكاني في فتح القدير، ج 4، ص 424. (¬3) سورة ص، الآية (14). (¬4) التحرير والتنوير، ج 11، ص 223.

وقول ابن عاشور هذا يدل على مدى استحضاره للقاعدة، وقد قرر هذه القاعدة في أكثر من موضع في تفسيره , ومن ذلك قوله: " و (هؤلاء) إشارة إلى غير مذكور في الكلام, وقد استقريْتُ أن مصطلح القرآن أن يريد بمثله مشركي العرب، ولم أر من اهتدى للتنبيه عليه، وقد قدّمتهُ عند قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (¬1) في سورة النساء وفي مواضع أخرى " (¬2). ومما يرجح هذا القول القاعدة الترجيحية التالية: (القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره) وهي قاعدة نصّ عليها ابن عاشور في تفسيره ,وعمل بها كما تقدم، وسياق الآية وما قبلها من الآيات يدل على أن المراد بهم مشركو مكة، وقد بين هذا البقاعي في" نظم الدرر"، والألوسي في تفسيره , وقد تقدم قولهما عند الحديث عن حجة أصحاب هذا القول ... . 3 - مثال " الناس ": قال تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (¬3) اختلف المفسرون في المراد بالناس في هذه الآية على ثلاثة أقوال: ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (41). (¬2) التحرير والتنوير، ج 12، ص 197. (¬3) سورة الفتح، الآية (20).

فقيل: المراد بالناس أهل مكة، وقيل: الأعراب المشركين، وقيل: اليهود، وقد ذكر هذه الأقوال ابن عاشور في تفسيره فقال: " فالمراد بـ (الناس): أهل مكة جرياً على مصطلح القرآن في إطلاق هذا اللفظ غالباً. وقيل: المراد كف أيدي الأعراب المشركين من بني أسد وغطفان , وكانوا أحلافاً ليهود خيبر وجاءوا لنصرتهم لما حاصر المسلمون خيبر فألقى الله في قلوبهم الرعب فنكصوا. وقيل: إن المشركين بعثوا أربعين رجلاً ليصيبوا من المسلمين في الحديبية , فأسرهم المسلمون، وهو ما سيجيء في قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} (¬1). وقيل: كفّ أيدي اليهود عنكم، أي عن أهلكم وذراريكم إذ كانوا يستطيعون أن يهجموا على المدينة في مدة غيبة معظم أهلها في الحديبية (¬2)، وهذا القول لا يناسبه إطلاق لفظ (الناس) في غالب مصطلح القرآن " (¬3). ومن هذا المثال نلحظ اهتمام ابن عاشور بقاعدة المبحث حيث رجّح أن المراد بالناس كفار مكة جرياً على مصطلح القرآن، وقد سبق ابن عاشور إلى هذا الاختيار عدد من المفسرين منهم الرازي، والقرطبي، وأبو حيان، والشوكاني (¬4). ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية (24). (¬2) وهذا القول لقتادة أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 26، ص 105. (¬3) التحرير والتنوير، ج 12، ص 178. (¬4) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 81، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 16، ص 267، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 96، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 52.

ورجّح الطبري، وابن عطية أن المراد بالناس في هذه الآية اليهود (¬1). وجوّز ابن كثير والقاسمي كلا المعنيين , أي أهل مكة واليهود (¬2). واختار الألوسي أن المراد بالناس أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان (¬3). وإليك الآن حجة أصحاب كل قول: حجة من قال: إن المراد بالناس كفار مكة: حجتهم في ذلك: إن من معهود القرآن أنه إذا أطلق لفظ الناس فالمراد به كفار مكة. قال ابن عاشور: " امتنان عليهم بنعمة غفلوا عنها حين حزنوا لوقوع صلح الحديبية , وهي نعمة السلم، أي كف أيدي المشركين عنهم فإنهم لو واجهوهم يوم الحديبية بالقتال دون المراجعة في سبب قدومهم لرجع المسلمون بعد القتال متعبين , ولَمَا تهيأ لهم فتح خيبر، وأنهم لو اقتتلوا مع أهل مكّة لدُحِض في ذلك مؤمنون ومؤمنات كانوا في مكة كما أشار إليه قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} (¬4). فالمراد بـ (الناس): أهل مكة جرياً على مصطلح القرآن في إطلاق هذا اللفظ غالباً " (¬5). ¬

(¬1) انظر جامع البيان / الطبري، ج 26، ص، 105، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 135. (¬2) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 13، ص 106، وانظر محاسن التأويل/ القاسمي، ج 8، ص 400. (¬3) روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 263. (¬4) سورة الفتح، الآية (25). (¬5) التحرير والتنوير، ج 12، ص 177.

حجة من قال: إن المراد بالناس اليهود: قالوا إن الله ذكر كف أيدي المشركين في الآية التي تليها فلا يحسن أن يكون المراد بالناس هنا المشركين أيضاً وإلا ليفضي هذا إلى التكرار. قال الطبري: " والذي قاله قتادة (¬1) في ذلك عندي أشبه بتأويل الآية، وذلك أن كفّ الله أيدي المشركين من أهل مكة عن أهل الحُديبية , قد ذكره الله بعد هذه الآية في قوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} (¬2) فعلم بذلك أن الكفّ الذي ذكره الله تعالى في قوله: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} (¬3) غير الكفّ الذي ذكر الله بعد هذه الآية في قوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} (¬4). حجة من قال: إن المراد بالناس الأعراب المشركين من بني أسد وغطفان، وكانوا أحلافاً ليهود خيبر: وهذا قول مقاتل (¬5)، وعلل البغوي هذا القول بقوله: " وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قصد خيبر وحاصر أهلها همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال ¬

(¬1) أخرج رواية قتادة الطبري في تفسيره، ج 26، ص 105. (¬2) سورة الفتح، الآية (24). (¬3) سورة الفتح، الآية (20). (¬4) جامع البيان / الطبري، ج 26، ص 105. (¬5) تفسير مقاتل / مقاتل بن سليمان، ج 3، ص 250.

المسلمين وذراريهم بالمدينة، فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم " (¬1)، وكذا قال الألوسي في قوله تعالى: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} أي: أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان حين جاؤوا لنصرتهم , فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فنكصوا (¬2). القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور من أن المراد بالناس في هذه الآية أهل مكة، وذلك جرياً على مصطلح القرآن. قال سيد طنطاوي: " ويرى بعض المفسرين أن الإِشارة فى قوله: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} (¬3) إلى صلح الحديبية وقد روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنه -. وعليه يكون المراد بالناس في قوله: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} مشركي قريش، أي: منعهم من حربكم، بأن قذف في قلوبهم الرعب منكم، وهذا الرأي الذي قاله ابن عباس - رضي الله عنه - هو الأقرب إلى الصواب، لأنه يتسق مع سياق الآيات " (¬4). وأما قول من قال: إن المراد بهم اليهود فقد استبعده عدد من العلماء، منهم: الرازي والقاسمي وابن عاشور. ¬

(¬1) معالم التنزيل / البغوي، ج 7، ص 306. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 13، ص 263. (¬3) سورة الفتح، الآية (20). (¬4) التفسير الوسيط / محمد سيد طنطاوي، ج 13، ص 276.

قال الرازي: " إن الآية: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} (¬1) تبييناً لما تقدم من قوله: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} (¬2) أي هو بتقدير الله، لأنه كف أيديهم عنكم بالفرار، وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم، وقوله تعالى: (بِبَطْنِ مَكَّةَ) إشارة إلى أمر كان هناك يقتضي عدم الكف، ومع ذاك وجد كف الأيدي" (¬3). وقال القاسمي: " قد يقول قائل مؤيداً لاختيار ابن جرير , والتأسيس خير من التأكيد ولك أن تقول: لا مانع من التأكيد، لا سيما في مقام التذكير بالنعم، والتنويه بشأنها. وتكون الآية الثانية بمثابة التفسير للأولى، والتبيين لمطلقها " (¬4). وذكر ابن عاشور أن هذا القول لا يناسبه إطلاق لفظ الناس في غالب مصطلح القرآن (¬5) كما يؤكد هذا القول ويقويه القاعدة الترجيحية التالية: (إذا صحّ سبب النزول الصريح فهو مرجح لما وافقه من أوجه التفسير) وقد أخرج أحمد ومسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس - رضي الله عنه -: أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذهم أسراء , فاستحياهم , فأنزل الله الآية: {وَهُوَ الَّذِي ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية (24). (¬2) سورة الفتح، الآية (22). (¬3) التفسير الكبير / الرازي، ج 10، ص 81. (¬4) محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 400. (¬5) انظر التحرير والتنوير، ج 12، ص 178.

كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} (¬1) (¬2). 4 - مثال الفاحشة: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬3). اختلف العلماء في المراد بالفاحشة في هذه الآية على عدة أقوال , فمنهم من يرى أن المقصود بالفاحشة الزنا، ومنهم من يرى أن المراد بها البذاء على الأهل والجيران، ومنهم من يرى أن المراد بها المعصية عموماً، وغير ذلك من الأقوال، وقد ذكر هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: " وقد اختلفوا في المراد من الفاحشة هنا وفي معنى الخروج لأجلها: فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - وابن عباس - رضي الله عنه - والشعبي والحسن وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث بن سعْد وأبي يوسف: أن الفاحشة الزنا، ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية (24). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول الله تعالى: " وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم"، ج 3، ص 1442، ح- 1808، وأحمد في مسنده، ج 3، ص 124، ح- 12376. (¬3) سورة الطلاق، الآية (1).

قالوا: ومفاد الاستثناء الإِذن في إخراجهن، أي ليقام عليهن الحد. وفسرت الفاحشة بالبَذَاء على الجيران والأحماء أو على الزوج , بحيث أن بقاء أمثالهن في جوار أهل البيت يفضي إلى تكرر الخصام فيكون إخراجها من ارتكاب أخف الضررين، ونسب هذا إلى أبي بن كعب - رضي الله عنه - لأنه قرأ «إلا أن يَفحُشن عليكم» (بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي الاعتداء بكلام فاحش) وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أيضاً واختاره الشافعي وفسرت الفاحشة: بالمعصية من سرقة أو سب أو خروج من البيت , فإن العدة بَلْه الزنا ونسب إلى ابن عباس - رضي الله عنه - أيضاً وابن عُمر - رضي الله عنه - وقاله السدي وأبو حنيفة. وعن قتادة: الفاحشة: النشوز، أي إذا طلقها لأجللِ النشوز فلا سكنى لها " (¬1). ورجّح ابن عاشور بعد أن ذكر تلك الأقوال أن الفاحشة في هذه الآية تشمل جميع أنواع الفساد، فقال: " والفاحشة: الفِعلة الشديدة السوء بهذا غلب إطلاقها في عرف اللغة , فتشمل الزنا كما في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} (¬2)، وشَمل غيره من الأعمال ذات الفساد كما في قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} (¬3) (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 13، ص 300. (¬2) سورة النساء، الآية (15). (¬3) سورة الأعراف، الآية (28). (¬4) التحرير والتنوير، ج 13، ص 300.

وهذا هو مصطلح القرآن في الفاحشة أن المراد بها الزنى وكل معصية. وممن وافق قوله قول ابن عاشور في أن المراد بالفاحشة في هذه الآية كل معصية، الطبري حيث يقول: " والصواب من القول في ذلك عندي قول من قال: " عنى بالفاحشة في هذا الموضع: المعصية، وذلك أن الفاحشة هي كلّ أمر قبيح تعدّى فيه حدّه، فالزنى من ذلك، والسرق والبذاء على الأحماء، وخروجها متحوّلة عن منزلها الذي يلزمها أن تعتدّ فيه منه، فأي ذلك فعلت وهي في عدتها، فلزوجها إخراجها من بيتها ذلك، لإتيانها بالفاحشة التي ركبتها " (¬1) وتبعه ابن عطية في ترجيحه هذا وكذلك ذهب إلى هذا القول ابن كثير، والقاسمي (¬2) وذكر ابن عطية عند تفسيره لهذه الآية قول بعض الناس ولم يسميه , وهو أن: (الفاحشة متى وردت معرفة فهي الزنا، ومتى جاءت منكرة فهي المعاصي) وكذلك نقله ابن عاشور عن ابن عطية، ولم يعلقا عليه (¬3). والذي يبدو لي أن ما ذكره ابن عطية ونقله عنه ابن عاشور في معنى الفاحشة معنى غير مطرد في القرآن , ولا يمكن أن يكون قاعدة أغلبية وسيأتي توضيح ذلك عند ذكر القول الراجح. أما الرازي وأبو حيان فقد ساقا الأقوال في معنى الفاحشة ولم يرجحا (¬4). ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 28، ص 151. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 323، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 28، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 151, وأضواء البيان / الشنقيطي ,ص 90. (¬3) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 323، والتحرير والتنوير، ج 13، ص 300. (¬4) انظر التفسير الكبير/ الرازي، ج 10، ص 560، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 278.

ومال القرطبي، وكذلك الشوكاني إلى أن معنى الفاحشة في هذه الآية البذاءة على الأحماء (¬1). ورجح الألوسي أن المراد بالفاحشة هنا الخروج قبل انقضاء العدة (¬2). وإليك الآن حجة أصحاب كل قول: حجة من فسّر الفاحشة في هذه الآية بالزنا: استدلوا بما روي عن ابن عباس وابن عمر والشعبي والحسن ومجاهد أن المراد بالفاحشة في هذه الآية: هو الزنى؛ والإخراج هو إخراجها لإقامة الحد (¬3). وردّ ابن العربي هذا المعنى بقوله: "فأما من قال: إنه الخروج للزنا فلا وجه له؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام " (¬4). حجة من فسر االفاحشة بالبذاءة على الأهل والأحماء: ذكر ابن عطية إن من حجة أصحاب هذا القول قراءة في مصحف أبي بن كعب: " إلا أن يفحشن عليكم " (¬5) وهذا قول لابن عباس أيضاً (¬6). ¬

(¬1) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 18، ص 151، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 241. (¬2) انظر روح المعاني / الألوسي، ج 14، ص 329. (¬3) أخرج روايتهم الطبري في تفسيره، ج 28، ص 149. (¬4) أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص / 209. (¬5) وهذه قراءة شاذة، انظر القراءات الشاذة / ابن خالويه، ص 158. (¬6) رواه الطبري في تفسيره، ج 28، ص 150.

قال ابن العربي: "وأما من قال: إنه البذاء فهو معتبر في حديث فاطمة بنت قيس (¬1). وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها؛ فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تنتقل " (¬2). قال القرطبي: " ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روى أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله فإنك تعلمين لم أُخرجت " (¬3). حجة من فسّر الفاحشة في هذه الآية بجميع أنواع المعصية: استدلوا بقول ابن عباس - رضي الله عنه - (¬4). أيضا: " الفاحشة كل معصية كالزنى والسرقة والبذاء على الأهل، وهو اختيار معظم المفسرين منهم الطبري وابن عطية وابن كثير والقاسمي، وهو الذي اختاره ابن عاشور، وقد تقدم ذكر ذلك. قال القاسمي: عموم اللفظ الكريم يدل على ذلك (¬5). وقال السعدي موضحاً معنى الآية: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي: بأمر قبيح واضح، موجب لإخراجها، بحيث يدخل على أهل البيت الضرر ¬

(¬1) أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص / 209. (¬2) أخرجه الشافعي في الأم، ج 5، ص 217 - 218، والطحاوي في شرح معاني الآثار، ج 3، ص 69. (¬3) أخرجه الشافعي في الأم، ج 5، ص 217، ومن طريقه البيهقي في الكبرى، ج 7، ص 433 ,ح - 15270. (¬4) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 28، ص 150. (¬5) محاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 151.

من عدم إخراجها، كالأذى بالأقوال والأفعال الفاحشة، ففي هذه الحال يجوز لهم إخراجها، لأنها هي التي تسببت لإخراج نفسها، والإسكان فيه جبر لخاطرها، ورفق بها، فهي التي أدخلت الضرر على نفسها، وهذا في المعتدة الرجعية، وأما البائن، فليس لها سكنى واجبة، لأن السكن تبع للنفقة، والنفقة تجب للرجعية دون البائن " (¬1). وقال ابن عاشور عند تفسيره لقوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (¬2): " والفاحشة الفَعلة المتجاوزة الحدّ في الفساد، ولذلك جمعت في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (¬3) واشتقاقها من فَحُش بمعنى قال قولاً ذميماً، كما في قول عائشة: «لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفحّشاً»، أو فعلَ فعلاً ذميماً، ومنه: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (¬4) ... . ولا شك أنّ التَّعريف هنا تعريف الجنس، أي فعلوا الفواحش، وظلمُ النفس هو الذنوب الكبائر، وعطفها هنا على الفواحش كعطف الفواحش عليها في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} فقيل: ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 5، ص 260. (¬2) سورة آل عمران، الآية (135). (¬3) سورة النجم، الآية (33). (¬4) سورة الأعراف، الآية (28).

الفاحشة المعصية الكبيرة، وظلم النَّفس الكبيرة مطلقاً، وقيل: الفاحشة هي الكبيرة المتعدية إلى الغير، وظلم النَّفس الكبيرة القاصرة على النَّفس، وقيل: الفاحشة الزنا، وهذا تفسير على معنى المثال" (¬1). أما ابن العربي فقد اعترض على هذا القول بقوله: " وأما من قال: إنه كل معصية , فوهم؛ لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج " (¬2). حجة من فسر الزنا بخروجها من بيتها في العدة: وهو قول السدي (¬3) , قال ابن العربي: " وأما من قال: أنه الخروج بغير حق فهو صحيح، وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن شرعاً إلا أن يخرجن تعدياً. وتحقيق القول في الآية أن الله تعالى أوجب السكنى، وحرّم الخروج والإخراج تحريماً عاماً " (¬4). واستبعد الشوكاني أن يكون القول بأن خروجهن على هذا الوجه يسمى فاحشة (¬5). القول الراجح هو ما ذهب إليه ابن عاشور وأكثر المفسرين مستندين في ذلك على القاعدة ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 92. (¬2) أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص / 209. (¬3) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 28، ص 150. (¬4) أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص / 209. (¬5) انظر فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 241.

الترجيحية وهو أن الغالب في مصطلح القرآن أن الفاحشة يراد بها الفعلة الشديدة السوء فتشمل الزنى، وكل أعمال الفساد. أما قول القائل: أن (الفاحشة متى وردت معرفة فهي الزنا، ومتى جاءت منكرة فهي المعاصي) (¬1)، فهذا قول لا يستقيم , ويعارضه ما جاء في القرآن من آيات جاءت فيها الفاحشة معرفة , ولم تدل على الزنى بدلالة السياق، ومن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (¬2). وقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (¬3). وكذلك العكس جاءت آيات نُكِّرت فيها الفاحشة وهي تدل على الزنى بدلالة سياق الآيات، ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬4) ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة حين ردت على اليهود الذين دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليك يا محمد- يعنون بالسام: الموت- فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وعليكم". فقالت عائشة رضي عنها: "عليكم السام واللعنة وغضب الله عليكم". فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقولي ذلك يا عائشة، فإن الله لا يحب ¬

(¬1) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، 323. (¬2) سورة الأنعام، الآية (151). (¬3) سورة النجم، الآية (33). (¬4) سورة النساء، الآية (25).

الفحش ولا التفاحش " (¬1). فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفحش التعدي. ومما يعضد هذه القاعدة وهذا الترجيح قاعدة (إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها) (¬2)، وهي من القواعد الترجيحية التي اعتمدها ابن عاشور في تفسيره وبذلك يتبين لنا صحة ما ذهب إليه ابن عاشور من كون المراد بالفاحشة: كل معصية أي جميع ما ذكر من الأقوال , وذلك حسب مصطلح القرآن يدخل في ذلك الزنا وغيره مما فبح فعله، إلا ما خصصته الآيات، ودل عليه السياق في اقتصار المعنى على أمر معين. 5 - مثال السفرة: قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (¬3). اختلف بعض المفسرين في المراد بالسفرة في هذه الآية، فمنهم من ذهب إلى أن المراد بهم الكتبة، ومنهم من قال هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من قال هم القراء، في حين ذهب معظم المفسرين إلى أن المراد بهم الملائكة (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، ج 4، ص 1707 ,ح- 2165 (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 9، ص 45. (¬3) سورة عبس، الآية (11 - 16). (¬4) انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 68، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 348، والنكت والعيون / الماوردي، ج 6، ص 204.

وفي ذلك يقول ابن عاشور: "سَفَرة يجوز أن يكون جمع سَافر، مثل كاتب وكتبة، ويجوز أن يكون اسم جمع سَفير، وهو المرسَل في أمر مهم، فهو فَعيل بمعنى فاعل، وقياس جمعه سفراء وتكون (في) للظرفية المجازية، أي المماثلة في المعاني ". ثم ذكر ابن عاشور عدة وجوه في معنى سفرة فقال: إما أن يكون السفرة محمله الملائكة لأنهم سفراءُ بين الله ورسله , والمراد بأيْديهم: حِفْظهم إياه إلى تبليغه، فمثّل حال الملائكة بحال السفراء الذين يحملون بأيديهم الألوك والعُهود. وإما أن يراد: الرسلُ الذين كانت بأيديهم كتُبهم مثل موسى وعيسى عليهما السلام. وإما أن يراد كتَّاب الوحي مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعمر وعثمان وعلي وعامر بن فهيرة. وفي وصفهم بالسفرة ثناء عليهم؛ لأنهم يبلغون القرآن للناس وهم حفاظه ووعاته قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (¬1) فهذا معنى السفرة (¬2). ثم رجَّح ابن عاشور أن السفرة المراد بهم الملائكة مستدلاً على ذلك بأدلة ستأتي. وممن سبق ابن عاشور في ترجيح هذا القول من المفسرين الطبري وابن ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية (49). (¬2) التحرير والتنوير، ج 15، ص 119.

عطية، والرازي، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، وكذلك الشنقيطي من بعده (¬1). وساق أبوحيان جميع الأقوال في معنى السفرة، ولم يعلق عليها، وكذلك القاسمي ساق بعضها ولم يرجح (¬2). وهنا يجدر بي أن أذكر حجة كل قول من الأقوال في معنى السفرة؛ لنصل بعد ذلك إلى القول الراجح منها: حجة من قال: بأن المقصود بالسفرة هم الكتبة: حجتهم في ذلك: إن المعنى اللغوي يدل عليه. قال الزجاج: إنما قيل للكتَاب سِفْر وللكاتب سافر من تبيين الشيء وإيضاحه، كما يقال أسفر الصبح إذا وضح ضياؤه وظهر، وسفرت المرأة إذا كشفت نقابها (¬3) وهو قول لابن عباس (¬4). والكتبة يدخل فيهم: كتبة الوحي وكتبة الملائكة. قال الشوكاني: " السفرة جمع سافر ككتبة وكاتب، والمعنى: أنها بأيدي كتبة ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 68، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 438، والتفسير الكبير / الرازي، ج 11، ص 56، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 19، ص 206، ، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 249. وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 383، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 245، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 1902. (¬2) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 420، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 9، ص 328. (¬3) انظر معاني القرآن / الزجاج، ج 5، ص 284، والنكت والعيون / الماوردي، ج 6، ص 204. (¬4) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 30، ص 68.

من الملائكة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ" (¬1). قال الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الملائكة الذين يَسْفِرون بين الله ورسله بالوحي ... - إلى أن قال: "وإذا وُجِّه التأويل إلى ما قلنا، احتمل الوجه الذي قاله القائلون: هم الكَتَبة، والذي قاله القائلون: هم القرّاء لأن الملائكة هي التي تقرأ الكتب، وتَسْفِر بين الله وبين رسله " (¬2). كما استدل أصحاب هذا القول ومنهم ابن كثير وابن عاشور (¬3) بالحديث الصحيح في ذلك " الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة -والذي يقرؤه - وهو عليه شاق - له أجران " (¬4). حجة من قال: بأن المقصود بالسفرة هم القراء: وهو قول قتادة (¬5)، وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس - رضي الله عنه -: (سفرة) قال: بالنبطية القراء (¬6). وردَّ هذا القول الألوسي , وذكر أنه قولاً لا يعول عليه (¬7). ¬

(¬1) فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 383. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 68. (¬3) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 249، والتحرير والتنوير، ج 15، ص 119. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب سورة عبس، ج 8، ص 691 ,ح - 4937، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتعتع فيه، ج 6، ص 121 ,ح- 244. (¬5) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 30، ص 68. (¬6) أخرج روايته ابن أبي حاتم في تفسيره، ج 7، ص 521. (¬7) روح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 244.

حجة من قال: إن المقصود بالسفرة هم الأنبياء: قالوا: هم الأنبياء عليهم السلام؛ لأنهم سفراء بين الله تعالى والأمة أو لأنهم يكتبون الوحي (¬1). حجة من قال: بأن المقصود بالسفرة هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: حجتهم في ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم سفراء بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلقه. أخرج عبد بن حميد عن وهب بن منبه: إنهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - " (¬2). قال ابن عطية في سبب تسميتهم بالسفرة: " لأنهم سفراء ووسائط بينه عليه الصلاة والسلام وبين سائر الأمة، وقيل: لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والتعلم " (¬3). القول الراجح: هو ما ذهب إليه ابن عاشور ومن سبقه من المفسرين من أن المراد بالسفرة: الملائكة وذلك بناء على قاعدة الأغلب في القرآن، حيث يقول: " والغالب في اصطلاح القرآن أن البررة هم الملائكة" (¬4)، والبررة إنما جاءت صفة لما قبلها وهم السفرة. قال الفراء: "السفرة هنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله، من ¬

(¬1) هذا القول ذكره ابن عاشور ولم ينسبه، انظر التحرير والتنوير، ج 15، ص 119. (¬2) لم أقف عليه في المنتخب من المسند. (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 438. (¬4) التحرير والتنوير، ج 15، ص 119.

السفارة وهو: السعي بين القوم " (¬1). ومما يعضد هذا القول قاعدة: (إذا ثبت الحديث وكان في معنى أحد الأقوال فهو مرجح له) وهذه القاعدة قد استدل بها ابن عاشور ابتداءً أيضا في ترجيحه لهذا القول , حيث يقول: " ورد وصف البررة صفة للملائكة في الحديث الصحيح " الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة " (¬2) وقد تقدم. والذي ظهر لي بعد النظر في تلك الأقوال في معنى السفرة: أنه لا خلاف حقيقي بين بعض المفسرين في معنى السفرة , وليس هناك تناقض في أقوال ابن عباس - رضي الله عنه - في معنى السفرة؛ فقول ابن عباس - رضي الله عنه -: إن المقصود بالسفرة الكتبة, يعني الكتبة من الملائكة وكذلك تفسيره السفرة بالقراء , فإنه ينزل على الملائكة فهم قراء لما يأتون به. وقال أبو السعود: " بأيدي سفرة أي كتبة من الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح على أنه جمع سافر من السفر وهو الكتب، وقيل بأيدي رسل من الملائكة يسفرون بالوحي بينه تعالى وبين الأنبياء على أنه جمع سفيرا من السفارة، وحملُهم على الأنبياءِ عليهم السلامُ بعيدٌ فإن وظيفتَهم التلقِّي من الوَحْي لا الكتبُ منه وإرشادُ الأمةِ بالأمرِ والنَّهي وتعليمُ الشرائعِ والأحكامِ لا مجردُ السفارةِ إليهم " (¬3). وأبعد منه من قال: هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - , وقد ردّ ابن العربي هذا القول ¬

(¬1) معاني القرآن / الفراء، ج 3، ص 236. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم / أبو السعود، 9، ص 109.

فقال: " لقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفرة، كراما بررة، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية، ولا قاربوا المرادين بها، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الاطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم" (¬1). ¬

(¬1) أحكام القرآن / ابن العربي، ج 4، ص 273. ونظائر هذه الأمثلة كثيرة جداً في تفسيره منها: 1 - ... ما جاء في قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} (سورة البقرة: 26).وفيه قول ابن عاشور: " فالأظهر أن المراد من الفاسقين اليهود وقد أطلق عليهم هذا الوصف في مواضع من القرآن". (التحرير والتنوير، ج 1، ص 367). 2 - ... ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} (فاطر: 29) ... . اختلف المفسرون في المراد بالإنفاق في هذه الآية، فمنهم من ذهب إلى أن المراد به الزكاة المفروضة وصدقة التطوع، ومنهم من ذهب إلى أن المراد به صدقة التطوع فقط، وذكر ابن عاشور في تفسيره هذا الخلاف، واختار ابن عاشور أن المراد بالإنفاق في هذه الآية صدقة التطوع بناءً على الغالب في القرآن. وهذا قوله: " والمراد بالإِنفاق حيثما أطلق في القرآن هو الصدقات واجبها ومستحبها وما ورد الإِنفاق في السور المكية إلا والمراد به الصدقات المستحبة إذ لم تكن الزكاة قد فرضت أيامئذ؛ على أنه قد تكون الصدقة مفروضة دون نُصب ولا تَحديد ثم حدِّدت بالنصب والمقادير " (التحرير والتنوير، ج 11، ص 306). 3 - ماجاء في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (سورة الصافات: 158) رجح ابن عاشور أنهم المحضرون في العذاب وترجيحه هذا بناءً على الغالب في القرآن وكذلك القرينة، حيث قال: " والمحضرون =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = المجلوبون للحضور، والمراد محضرون للعقاب، بقرينة مقام التوبيخ فإن التوبيخ يتبعه التهديد، والغالب في فعل الإحضار أن يراد به إحضار سوء قال تعالى: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} " (سورة الصافات: 57). (انظر التحرير والتنوير ج 11، ص 187). 4 - ماجاء في قوله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (سورة القمر: 46)، وفيه قول ابن عاشور: " والساعة علم بالغلبة في القرآن على يوم الجزاء ". (التحرير والتنوير، ج 8، ص 38). 5 - ما جاء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} (سورة الممتحنة: 13) وفيها قول ابن عاشور " وقد نعتهم الله بأنهم قوم غضب الله عليهم، وهذه صفة تكرر في القرآن إلحاقها باليهود كما جاء في سورة الفاتحة أنهم المغضوب عليهم ". (التحرير والتنوير، 13، ص 169).

المبحث الثاني زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى

المبحث الثاني زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى صورة القاعدة: إن أي زيادة تطرأ على اللفظ في كتاب الله تعالى، فإنما تدل على معنى زائد على ما يدل عليه اللفظ دونها , وسواء في ذلك ما إذا أكانت هذه الزيادة حرفاً، أم كانت زيادة في وزن الكلمة، أو تضعيفها (¬1). شرح مفردات القاعدة: الزيادة لغة: قال ابن فارس: "الزاء والياء والدال أصل يدل على الفضل. يقولون: زاد الشيء يزيد فهو زائد " (¬2)، والزيادة ما زاد على الشيء، وزاد يزيد وزيادة نما وكثر (¬3). اصطلاحاً: تطلق الزيادة عند أهل العربية على الحرف غير الأصلي , وقد يطلق الزائد ¬

(¬1) انظر البرهان في علوم القرآن / الزركشي، ج 3، ص 34، وقواعد التفسير / خالد السبت، ج 1، ص 356. (¬2) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس، ص 445. (¬3) المعجم الوسيط / إبراهيم مصطفى، حسن الزيات وحامد عبد القادر، ومحمد علي النجار، ج 1، ص 409.

أقوال العلماء في القاعدة

على مالا فائدة له , كما يطلق على الكلمة التي وجودها وعدمها لا يخل بالمعنى الأصلي , وإن كان لها فائدة أخرى (¬1). وقد اعتنى ابن عاشور بهذه القاعدة في تفسيره فقال فيها: " وهي قاعدة أغلبية لا تتخلف إلا في زيادات معروفة موضوعة لزيادة معنى جديد دون زيادة في أصل معنى المادة , مثل زيادة ياء التصغير فقد أفادت معنى زائدا على أصل المادة وليس زيادة في معنى المادة. وأما نحو حذر الذي هو من أمثلة المبالغة , وهو أقل حروفا من حاذر , فهو من مستثنيات القاعدة لأنها أغلبية " (¬2). أقوال العلماء في القاعدة: قال الزركشي في معرض حديثه عن الزيادة في بنية الكلمة: " إن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه , فلا بد أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا؛ لأن الألفاظ أدلة على المعاني فإذا زيدت في الألفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة ومنه قوله تعالى {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (¬3) فهو أبلغ من قادر لدلالته على أنه قادر متمكن القدرة لا يرد شئ عن اقتضاء قدرته ويسمى هذا قوة اللفظ لقوة المعنى" (¬4). ويقول ابن الأثير في "المثل السائر": " إن الألفاظ أدلة المعاني، وأمثلة للإبانة ¬

(¬1) انظر كشاف اصطلاحات الفنون/ محمد التهانوي، (مادة الزائد)، ج 3، ص 10. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 171. (¬3) سورة القمر، الآية (42). (¬4) البرهان في علوم القرآن / الزركشي، ج 3، ص 34.

عنها، فإذا زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعاني، وهذا لا نزاع فيه لبيانه، وهذا النوع لا يستعمل إلا في مقام المبالغة " (¬1). كما ذكر الألوسي في معرض تفسيره لقوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} (¬2) أن الاستحسار أبلغ من الحسور؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى (¬3). وقال السمين الحلبي في تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬4): "فلانٌ مالكُ كذا" لمَنْ يملكه، بخلاف "ملك" فإنه يُضاف إلى غيرِ الملوك نحو: "مَلِك العرب والعجم"، ولأنَّ الزيادةَ في البناءِ تدلُّ على الزيادةِ في المعنى كما تقدَّم في "الرحمن"، ولأنَّ ثوابَ تالِيها أكثرُ من ثواب تالي "مَلِك" (¬5). وقال البقاعي: " ومن البين أنَّ أيَّ تغييرٍ يطرأُ على أيِّ وحدةٍ (حرف أو حركة) في بناء الكلمة إنما يؤثرِّ في دلالة الكلمة، وقدرتها الدِّلاليِّة تأثيرًا بيِّنًا عند قومٍ، وخفيًّا عند آخرين، إى أنَّه تأثيرٌ قأئمٌ يختلفُ ظهورًا وخفاءً اختلافًا نسبيًّا لأمورٍ ترجع إلى ملكات المتلقين. وكذلك الأمر في بناء الجملة: أيُّ تغيير يطرأُ على أيِّ وحدةٍ منها (الكلمة) ¬

(¬1) المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر / ابن الأثير، ج 1، ص 169. (¬2) سورة الأنبياء، الآية (19). (¬3) انظر روح المعاني / الألوسي، ج 9، ص 21. (¬4) سورة الفاتحة، الآية (3). (¬5) الدر المصون في علوم الكتاب المكنون / السمين الحلبي، ، ج 1، ص 5 - 6.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

إنما يؤثِّرُ في دلالة الجملة، وقدرتها الدلالية، تأثيرًا جليا أو خفيا، وفق قدرات المتلقين " (¬1). الأمثلة التطبيقية على القاعدة: مثال " الرحمن الرحيم ": قال تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬2). اختلفت عبارات أهل العلم في معنى الاسمين الكريمين (الرحمن الرحيم) ولكنها لم تخرج عن كون الاسمين اشتقا من الرحمة على وجه المبالغة. ولكن اختلفت أقوالهم في أي الاسمين أبلغ؛ فمن قائل بالترادف، ومن قائل بالتباين والاختلاف. وقد فصّل ابن عاشور في معانيها فقال: " وبعد كون كل من صفتي الرحمن الرحيم دالة على المبالغة في اتصافه تعالى بالرحمة , فقد قال الجمهور: إن الرحمن أبلغ من الرحيم بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى وإلى ذلك مال جمهور المحققين ....... إلى أن قال: " وينسب إلى قطرب: أن الرحمن والرحيم يدلان على معنى واحد من الصفة المشبهة فهما متساويان وجعل الجمع بينهما في الآية من قبيل التوكيد اللفظي " (¬3). ورجّح ابن عاشور أن الرحمن أبلغ من الرحيم بناءً على القاعدة , وقد سبقه ¬

(¬1) البقاعي ومنهاجه في تأويل بلاغة القرآن / محمود توفيق محمد سعد، ج 1، ص 146. (¬2) سورة الفاتحة، الآية (3). (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 171.

إلى ذلك معظم المفسرين. (¬1) بل يكاد يتفق العلماء على أن الرحمن أبلغ من الرحيم، وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا (¬2). حجة من قال: إن الرحمن أبلغ الرحيم: حجتهم في ذلك أن الرحمن فيها من المبالغة ما ليس في الرحيم. قال الزمخشري موضحاً هذا المعنى: "و (الرحمن) فعلان من رحم، كغضبان وسكران، من غضب وسكر، وكذلك (الرحيم) فعيل منه، كمريض وسقيم، من مرض وسقم، وفي (الرحمن) من المبالغة ما ليس في (الرحيم)، ولذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، ويقولون: إنّ الزيادة في البناء لزيادة المعنى " (¬3). وقال ابن عطية: "والرحمن صفة مبالغة من الرحمة، ومعناها أنه انتهى إلى غاية الرحمة كما يدل على الانتهاء سكران وغضبان، وهي صفة تختص بالله ولا تطلق على البشر، وهي أبلغ من فعيل، وفعيل أبلغ من فاعل، لأن راحماً يقال لمن رحم ولو مرة واحدة، ورحيماً يقال لمن كثر منه ذلك، والرحمن النهاية في ¬

(¬1) انظر جامع البيان الطبري، ج 1، ص 66، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 63، والتفسير الكبير/ الرازي، ج 1، ص 202، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 121، والبحر المحيط / أبو حيان، 1، ص 125، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 1، ص 198، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 18، وروح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 64، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 1، ص 245، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 19. (¬2) انظر جامع البيان الطبري، ج 1، ص 66، . (¬3) الكشاف / الزمخشري، ج 1، ص 108.

الرحمة " (¬1). وكذلك أكَّد الشنقيطي هذا المعنى بقوله: "والرحمن أشد مبالغة من الرحيم، لأن الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة. وعلى هذا أكثر العلماء، ويدل له الأثر المروي عن عيسى كما ذكره ابن كثير وغيره أنه قال عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (الرحمن) رحمن الدنيا والآخرة، و (الرحيم) رحيم الآخرة. وقد أشار الله تعالى إلى هذا حيث قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (¬2) وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬3) ومن أظهر الأدلة في ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (¬4) إلى قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (¬5) وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (¬6) " (¬7). وهذا القول هو الذي رجّحه ابن عاشور, وذكر أنه قول جمهور المحققين , ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 63. (¬2) سورة الفرقان، الآية (59). (¬3) سورة طه، الآية (5). (¬4) سورة الرحمن، الآية (1 - 2). (¬5) سورة الرحمن، الآية (13). (¬6) سورة الأحزاب، الآية (43). (¬7) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 19.

وذلك بناءً على قاعدة المبحث أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى (¬1). ولكنهم اختلفوا في مراد كل منهما تحديداً: حجة من قال: إن الرحمن والرحيم يدلان على معنى واحد: استدل أصحاب هذا القول بظاهر الحديث: " رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما" (¬2). وإليه ذهب الجويني (¬3). وقال قطرب: يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد (¬4). قال أبو إسحاق: وهذا قول حسن، وفي التوكيد أعظم الفائدة، وهو كثير في كلام العرب، ويستغني عن الاستشهاد، والفائدة في ذلك ماقاله محمد بن يزيد: إنه تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطامع الراغبين، ووعد لا يخيب آمله (¬5). ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 1، ص 171. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك، ج 1، ص 696، ح- 1898. (¬3) الجويني هو عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حَيُّويَه الشيخ أبو محمد الجُوَيْنِيّ والد إمام الحَرَمَين، كان إماماً فقيهاً، بارعاً، مفسراً، نحوياً، أديباً. تفقه على أبي الطيِّب الصُّعْلوكي 1، وأبي بكر القفال، وقعد للتدريس والفتوى، وكان مجتهداً في العبادة، مهيباً بين التلامذة. صنف " التبصرة " في الفقه، و " التذكرة "، و " التفسير الكبير " و " التعليق " سمع من أبي الحسين بن بشران 2 وجماعة، روى عنه ابنه إمام الحرمين وغيره. مات في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة. (طبقات المفسرين / السيوطي، ج 1، ص 9). (¬4) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 121. (¬5) انظر معاني القرآن / النحاس، ج 1، ص 55، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 1، ص 121.

القول الراجح نصل إلى أن الزيادة في المبنى دليل على الزيادة في المعنى , وأن الرحمن أشد مبالغة من الرحيم، وهذا هو ما ذهب إليه ابن عاشور بناءً على قاعدة المبحث. قال أبو على الفارسي: " الرحمن " اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص به الله. " والرحيم " إنما هو في جهة المؤمنين، كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (¬1). وقال العزرمي (¬2): " الرحمن " بجميع خلقه في الأمطار ونعم الحواس والنعم العامة، و " الرحيم " بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم، قال ابن عطية وهذه كلها أقوال تتعاضد (¬3). وأما قول من قال: إن الرحمن والرحيم بمعنى واحد , فقد ردّه ابن عاشور بقوله: " وهو وجه ضعيف إذ التوكيد خلاف الأصل، والتأسيس خير من التأكيد والمقام هنا بعيد عن مقتضى التوكيد. وقد ذُكِرت وجوه في الجمع بين الصفتين ليست بمقنعة " (¬4). ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية (43). (¬2) هو عبد الملك بن أبي سليمان، أبو محمد، العرزمي الفزاري، ولد عام 77 هـ، وهو شاعر حضرمي، له اشتغال بالحديث انتقل من حضرموت إلى الكوفة وأدرك أول الدولة العباسية، أكثر شعره آداب وأمثال، وهو القائل: (إن يحسدوني فاني غير لائمهم * قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا) وكان يحفظ الحديث ويرويه، وليس بثقة: ضاعت كتبه فحدث من حفظه فأتى بمناكير، توفي سنة (145 هـ. (انظر الأعلام / الزركلي ,ج 6 , ص 258). (¬3) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 63. (¬4) التحرير والتنوير، ج 1، ص 172.

2 - مثال "افتدى": قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (¬1). اختلف المفسرون في قوله " فدى" , فمنهم من يرى: أن فدى بمعنى افتدى دون النظر إلى الغرض من زيادة التاء، في حين يرى البعض: أن زيادة التاء تدل على زيادة المعنى بمعنى تكلفت في فداء نفسها. وهذا ما ذهب إليه ابن عاشور حيث يقول: " و (افتدى) مرادف فدى. وفيه زيادة تاء الافتعال لتدل على زيادة المعنى، أي لتكلفت فداءها " (¬2) ولم يتطرق أحد من المفسرين الذين اعتمدتهم في هذا البحث إلى مثل هذه الزيادة في الحرف في كلمة افتدى وأثرها في المعنى سوى ابن عاشور (¬3). حجة من يرى أن افتدى فيها زيادة معنى على (فدى): ومن حجتهم في ذلك: أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى (¬4). ¬

(¬1) سورة يونس، الآية (54). (¬2) التحرير والتنوير، ج 6، ص 197. (¬3) انظر جامع البيان الطبري، ج 11، ص، 142.، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 125. (¬4) انظر التحرير والتنوير، ج 6، ص 197.

حجة من يرى أن فدى وافتدى بمعنى واحد ولا مزية لإحداهما على الأخرى: قال أبو حيان: " لما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته، وأنهم لا يفلتون منه، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة. وظلمت صفة لنفس. والظلم هنا الشرك والكفر، وافتدى يأتي مطاوعاً لفدى، فلا يتعدى تقول: فديته فافتدى، وبمعنى فدى فيتعدى، وهنا يحتمل الوجهين " (¬1). وقال الألوسي: " {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أي: بالكفر أو بالتعدي على الغير أو غير ذلك من أصناف الظلم كذا قيل، وربما يقتصر على الأول لأنه الفرد الكامل مع أن الكلام في حق الكفار و (لَوْ) قيل بمعنى أن وقيل على ظاهرها واستبعد ولا أراه بعيداً {مَا فِي الْأَرْضِ} أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالها ومنافعها قاطبة {لَافْتَدَتْ بِهِ} أي لجعلته فدية لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه فالمفعول محذوف أي لافتدت نفسها به. وجوز أن يكون افتدى لازماً على أنه مطاوع فدى المتعدي يقال فداه فافتدى، وتعقب بأنه غير مناسب للسياق إذ المتبادر منه أن غيره فداه لأن معناه قبلت الفدية والقابل غير الفاعل، ونظر فيه بأنه قد يتحد القابل والفاعل إذا فدى نفسه نعم المتبادر الأول " (¬2). وقال القاسمي: " {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أي بالشرك بالله، أو ¬

(¬1) البحر المحيط / أبو حيان، ج 5، ص 167. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 6، ص 129.

التعدي على الغير، أو مطلقاً {مَا فِي الْأَرْضِ} أي من الأموال " لافتدت به" أي لجعلته فدية لها من العذاب " (¬1). ومما تقدم , وقد اطلعنا على أقوال معظم المفسرين في هذه الآية لم نجد منهم من نبه على تلك اللطيفة التي ذكرها ابن عاشور من زيادة المبنى وأثرها على المعنى في كلمة افتدت، وبذلك نصل إلى اهتمام ابن عاشور بهذه القاعدة وأثرها على التفسير. 3 - مثال "استطاعوا": قال تعالى: ... {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} (¬2) اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: ... اسْطَاعُوا واسْتَطَاعُوا ... ، والفرق بينهما، فمنهم من يرى أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى وعليه يكون قوله (وَمَا اسْتَطَاعُوا) فيه زيادة في المعنى على (اسْطَاعُوا)، ومنهم من لا يرى فرقاً بينهما وقد ذهب ابن عاشور إلى أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، وقوله (استطاعوا) يدل على زيادة في المعنى، وهذا قوله: " ومن خصائص مخالفة مقتضى الظاهر هنا إيثار فعل ذي زيادة في المبنى بموقع فيه زيادة المعنى لأن استطاعة نقب السد أقوى من استطاعة تسلقه، فهذا من مواضع دلالة ¬

(¬1) محاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 36. (¬2) سورة الكهف، الآية (97).

زيادة المبنى على زيادة في المعنى " (¬1). وممن وافق ابن عاشور في كون الزيادة في الحرف تدل على زيادة المعنى ابن كثير، والألوسي (¬2). في حين ذهب بعض المفسرين (¬3) إلى أن معناهما واحد وأن هذه الزيادة في قوله " وَمَا اسْتَطَاعُوا " بناءً على القراءات الواردة فيها. حجة من قال: إن هناك فرقا بينهما، وأن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى: حجتهم في ذلك اللغة، لأنه من القواعد العربية المعروفة عند جمهور أهل اللغة أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى؛ ولهذا السبب ذهب أصحاب هذا القول إليه. ويرى ابن عاشور أن قوله: {وَمَا اسْتَطَاعُوا} فيها زيادة في المعنى يقتضيه الزيادة في مبناها , واهتم بقاعدة المبحث كثيراً. وفي ذلك يقول ابن كثير: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} وهو الصعود إلى أعلاه، {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}، وهو أشق من ذلك، فقابل كلا بما يناسبه لفظًا ومعنى (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 8، ص 38. (¬2) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 181، وروح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 363. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 16، ص 34، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 453، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 11، 67، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 156، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 313. (¬4) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 181.

قال البقاعي: " وزيادة التاء هنا تدل على أن العلو عليه أصعب من نقبه لارتفاعه وصلابته والتحام بعضه ببعض حتى صار سبيكة واحدة من حديد ونحاس في علو الجبل " (¬1). وقال الألوسي: " ولا يخفى لطف الإتيان في استطاعوا هنا " (¬2). وقال الدكتور فاضل السامرائي: " الفرق بين " استطاعوا " وَ " اسطاعوا " أن "اسطاعوا" هذه من الحذف للتقليل من الفعل وهو الصعود على ظهره، وأما "استطاعوا" تحتاج إلى جهد لنقب السدّ، وبالتأكيد أن إحداث نقب في السد المصنوع من الحديد والنحاس أشدّ من الصعود على ظهره ويستغرق وقتاً أطول فحذف من الفعل الذي مدته أقل وذكر في الحدث الممتد " (¬3). حجة من قال: إنه لا فرق بين اسطاعوا وَاستطاعوا: حجتهم في ذلك اللغة، لأن العرب يقولون اسطاع ويستطيع يريدون بها معنى واحد، كما احتجوا على قولهم هذا بالقراءات الواردة فيها. قال أبو جعفر الطبري: " واختلف أهل العربية في وجه حذف التاء من قوله: (فَمَا اسْطَاعُوا) فقال بعض نحويي البصرة: فعل ذلك لأن لغة العرب أن تقول: اسطاع يسطيع، يريدون بها: استطاع يستطيع، ولكن حذفوا التاء إذا جُمعت مع الطاء ومخرجهما واحد. قال: وقال بعضهم: استاع، فحذف الطاء ¬

(¬1) نظم الدرر / البقاعي، ج 4، ص 505. (¬2) روح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 363. (¬3) لمسات بيانية في نصوص من التنزيل / فاضل السامرائي، ج 1، ص 293.

لذلك. وقال بعضهم: أسطاع يسطيع، فجعلها من القطع كأنها أطاع يطيع، فجعل السين عوضًا من إسكان الواو. وقال بعض نحوييّ الكوفة: هذا حرف استعمل فكثر حتى حذف" (¬1). وقال ابن عطية: " وقوله (اسطاعوا) بتخفيف الطاء، على قراءة الجمهور, قيل: هي لغة بمعنى استطاعوا وقيل بل استطاعوا بعينه، كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء، فقالوا: (اسطاعوا)، وحذف بعضهم منه الطاء فقال: » استاع «يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة وقرأ حمزة وحده) فما اسطّاعوا (بتشديد الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه (¬2)، قال أبو علي: هي غير جائزة (¬3)، وقرأ الأعمش: ) فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا (بالتاء في الموضعين " (¬4). وذكر ابن الجوزي أن قوله تعالى: (فما اسطاعوا) أصله: فما «استطاعوا» فلما كانت التاء والطاء من مخرج واحد أحبُّوا التخفيف فحذفوا (¬5). وقال الرازي: " فما اسطاعوا حذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري , ج 16 , ص 34. (¬2) قلت: لا وجه لتضعيف ابن عطية لها، وذلك لأنها قراءة متواترة فلا يجوز ردها. انظر السبعة / ابن مجاهد، ص 401، التيسير في القراءات السبع / الداني، ص 146. (¬3) ووجه تضعيف أبي علي الفارسي لها أنه جمع بين ساكنين - انظر الحجة للقراء السبعة / أبو علي الفارسي، ج 3، ص 108. (¬4) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 543. (¬5) زاد المسير / ابن الجوزي، ج 3، ص 110.

الطاء، وقرئ فما اصطاعوا بقلب السين صاداً (¬1). القول الراجح هو ما ذهب إليه ابن عاشور من أن هناك فرقا بينهما، وذلك بناء على القاعدة الترجيحية أن (الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى). وفي تفسير هذه الآية يقول الشيخ محمد بن عثيمين: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} لم تأتِ التاء في الفعل الأول (اسطاعوا) وأتت فيه ثانياً، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أيهما أشق أن يصعدوا الجبل أو أن يَنقبوا هذا الحديد؟ الجواب: الثاني أصعب ولهذا قال: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} لأنه حديد ممسوك بالنحاس، فصاروا لا يستطيعون ظهوره لعلوه وملاسته، فيما يظهر، ولم يستطيعوا له نقباً لصلابته وقوته، إذاً صار سداً منيعاً وكفى الله شر هؤلاء المفسدين وهم يأجوج ومأجوج. وقد يقول قائل لماذا لم تحذف التاء في قوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} وحذفت في قوله تعالى: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} والجواب: لأن المقام في الآية الأولى مقام شرح وإيضاح وتبيين فلم يحذف من الفعل, أما في الآية الثانية فهي في مقام مفارقة ولم يتكلم بعدها الخضر بكلمة وفارق موسى فاقتضى ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 500.

الحذف من الفعل" (¬1). 4 - مثال "كبكبوا": قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} (¬2). اختلفت أقوال المفسرين حول قوله: {فَكُبْكِبُوا} فمنهم من يرى أن الزيادة في الفعل تدل على معنى زائد، ومنهم من يرى أن كب وكبكب بمعنى واحد. ويرى ابن عاشور أن التضعيف فيها لأجل الزيادة في المعنى، وفي ذلك يقول: " ومعنى (كُبكِبوا) كُبُّوا فيها كَباً بعد كَبَ فإنَّ (كبكبوا) مضاعف كُبُّوا بالتكرير , وتكرير اللفظ مفيد تكرير المعنى مثل: كفكَف الدمعَ، ونظيره في الأسماء: جيش لَمْلَم، أي كثير، مبالغة في اللَّم، وذلك لأن له فعلاً مرادفاً له مشتملاً على حروفه ولا تضعيف فيه فكان التضعيف في مرادفه لأجل الدلالة على الزيادة في معنى الفعل" (¬3). وممن ذهب إلى هذا المعنى من المفسرين الذين سبقوا ابن عاشور الرازي، والألوسي وساق القاسمي قول الزمخشري في ذلك (¬4). ¬

(¬1) تفسير الشيخ محمد بن عثيمين، ج 6، ص 108. (¬2) سورة الشعراء، الآية (94). (¬3) التحرير والتنوير، ج 9، ص 152. (¬4) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 518، وروح المعاني / الألوسي، ج 10، ص 101، محاسن التأويل / القاسمي، ج 7، 484.

ولم يتطرق الطبري ولا من جاء بعده إلى الزيادة في المعنى (¬1). وذكر ابن عطية أن كبّ وكبكب بمعنى واحد (¬2). حجة من قال: إن تكرير اللفظ في " فَكُبْكِبُوا " يعني الزيادة في المعنى: حجتهم في ذلك: إن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى , وهو من أساليب اللغة العربية. قال الزمخشري: "الكَبْكَبَةُ تكريرُ الكَبِّ جَعَلَ التكريرَ في اللفظِ دليلاً على التكريرِ في المعنى , كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها" (¬3). قال الرازي: " والكبكبة تكرير الكب، كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها" (¬4). وقال ابن جزي: " وإنما كرر دلالةً على شدة العقاب وأنهم لا يكبون مرة واحدة بل دفعات " (¬5). جاء في هذا النصّ اختيار لفظ (كُبْكِبُوا) ملائماً تماماً للمعنى المراد منه، وذلك لأنّ فعل: "كَبّ" يَدُلُّ على المرّة الواحدة، والمعنيّون لا يُجْمَعُونَ ويُكَبُّونَ ¬

(¬1) انظر جامع البيان، ج 19، ص 103، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 13، ص 124، تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 356.، وفتح القدير/ الشوكاني، ج 4، ص 106. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 236. (¬3) الكشاف / الزمخشري، ج 4، ص 400. (¬4) التفسير الكبير / الرازي، ج 8، ص 518. (¬5) التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي، ج 3، ص 160.

كبَّةٌ واحدة. أمّا فعل: (كَبْكَبَ) فهو يَدُلُّ على معنى الكبّ المتكرّر المتتابع، وهو أمْرٌ تدلُّ عليه الصيغة الّتي فيها تكرير للحروف كدلالة "الوسوسة" على التكرير، ودلالة "السلسلة" على تتابع الحلقات، ودلالة "الصلصلة" على تكرار الصوت، كصَوت الجرس (¬1). حجة من قال: إن (كبكبوا) وَ (كبوا) بمعنى واحد: قال ابن عطية: "إن "كبكب" مضاعف من كبّ , وأن معناهما واحد" (¬2). وقال ابن منظور: " وقيل: قوله فكُبْكِبُوا فيها أَي جُمِعُوا , مأْخوذ من الكَبْكَب" (¬3). القول الراجح هو ما ذهب إليه ابن عاشور من أن المعنى كبوا فيها مرة بعد أخرى , وذلك بناءً على القاعدة الترجيحية: (الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى). قال الزجاج: " كُبْكِبُوا طُرحَ بعضُهم على بعض , قال أَهلُ اللغة: معناه دُهْوِرُوا وحقيقةُ ذلك في اللغة تكرير الانْكِبابِ , كأَنه إِذا أُلْقِيَ يَنْكَبُّ مَرَّةً بعد مرَّة حتى يَسْتَقِرَّ فيها نَسْتَجيرُ بالله منها " (¬4). ¬

(¬1) انظر البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها / عبد الرحمن حبنكه، ج 1، ص 853. (¬2) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 236. (¬3) لسان العرب / ابن منظور، ج 12، ص 8. (¬4) معاني القرآن / الزجاج، ج 4، ص 94.

5 - مثال الكوثر: قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (¬1). اختلف المفسرون في معنى الكوثر على عدة أقوال، فمنهم من فسره بالخير الكثير، ومنهم من فسره بنهر في الجنة، ومنهم من فسره بالنبوة، ومنهم من فسره بالقرآن، ومنهم من فسره بالحوض .. وقد جمع ابن عاشور تلك الأقوال في تفسيره فقال: " وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير، وروي عن ابن عباس، قال سعيد بن جبير: فقلت لابن عباس - رضي الله عنه -: إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير. وعن عكرمة: الكوثر هنا: النبوة والكتاب، وعن الحسن: هو القرآن، وعن المغيرة: أنه الإِسلام، وعن أبي بكر بن عَيَّاش: هو كثرة الأمة، وحكى الماوردي: أنه رفعة الذكر، وأنه نور القلب، وأنه الشفاعة، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره. وأريد من هذا الخبر بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإزالةُ ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه: هو أبتر، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر، إبطالاً لقولهم " (¬2). ورجّح ابن عاشور كون الكوثر بمعنى الخير الكثير , وذلك بناء على القاعدة أن (الزيادة في المبنى دليل على الزيادة في المعنى) وفي ذلك يقول: " و (الكوثر): ¬

(¬1) سورة الكوثر، الآية (1). (¬2) التحرير والتنوير، ج 15، ص 573.

اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زِنة فوْعل، وهي من صيغ الأسماء الجامدة غالباً نحو الكوكب، والجورب، والحوشب والدوسر، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها، ولما وقع هنا فيها مادة الكَثْر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة، وهو أحسن ما فُسر به وأضبطُه، ونظيره: جَوْهر، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوّه، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها " (¬1). وممن وافق قوله قول ابن عاشور من المفسرين قبله ابن عطية , وقريب منهم أبو حيان والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي، ويرى أبو حيان أنه لا ينبغي حصر الكوثر في واحد من تلك الأقوال - وهي التي ذكر بعضها ابن عاشور- وإنما تحمل تلك الأقوال على إنها من باب التمثيل (¬2). وذهب آخرون إلى أن الكوثر نهر في الجنة وهو الذي رجحه الطبري، والقرطبي، والشوكاني (¬3). وساق ابن كثير الأقوال في الكوثر ولم يرجح (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 572. (¬2) انظر المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 529، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 8، ص 521.، وروح المعاني / الألوسي، ج 15، ص 479.، محاسن التأويل / القاسمي، ج 8، ص 492 (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 30، ص 394، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 20، ص 215.، وفتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 503.، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 2014. (¬4) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 14، ص 467 - 477.

حجة من قال: إن الكوثر نهر في الجنة: استدلوا بالأخبار الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك منها: ماروي عن أبي عبيدة عن عائشة رضي الله عنها قال: سألتها عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قالت: نهر أعطيه نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، شاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم " (¬1). وأخرج مسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا فقرأ: : {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم , قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك " (¬2). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال: أبو بشر: قلت لسعيد: إن أناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة قل ياأيها الكافرون، ج 4، ص 1900، ح- 4681. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب حجة من قال: " البسملة آية من أول كل سورة "، ج 1، ص 300، ح- 400. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب في الحوض، ج 5، ص 2405، ح- 2237.

حجة من قال: إن الكوثر الخير الكثير: استدلوا بقول ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال في الكوثر: الخير الكثير، وقد تقدم. قال ابن عطية: " كوثر: بناء مبالغة من الكثرة، ولا مجال أن الذي أعطى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - من النبوة والحكمة العلم بربه والفوز برضوانه والشرف على عباده هو أكثر الأشياء وأعظمها كأنه يقول في هذه الآية: (إنا أعطيناك) الحظ الأعظم " (¬1). وقال الشنقيطي: والذي تطمئن إليه النفس أن الكوثر: هو الخير الكثير، وأن الحوض أو النهر من جملة ذلك. وقد أتت آيات تدل على إعطاء الله لرسوله الخير الكثير، كما جاء في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (¬2). وفي القريب سورة الضحى وفيها: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (¬3)، أعقبها بنعم جليلة من شرح الصدور، ووضع الوزر، ورفع الذكر، واليسر بعد العسر. وبعدها في سورة التين جعل بلده الأمين، وأعطى المؤمنين الذين يعملون الصالحات أجراً غير ممنون - وغيرها من الآيات التي تدل على ذلك " (¬4). ¬

(¬1) المحرر الوجيز / ابن عطية، ج 5، ص 529. (¬2) سورة الحجر، الآية (87). (¬3) سورة الضحى، الآية (5). (¬4) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 2014.

حجة من قال: إن الكوثر حوض أعطيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر الناس عليه يوم القيامة: استدلوا بما رواه مسلم في صحيحه بسنده من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما , فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك " (¬1). قال القاضي عياض: " أحاديث الحوض صحيحة , والإيمان به فرض , والتصديق به من الإيمان , وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأول ولا يختلف فيه, قال القاضي وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة " (¬2). ولكن هنا يرد تساؤل هل الحوض هو الكوثر؟ جاء في الحديث عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب حجة من قال البسملة آية من كل سورة، ج 1، ص 300، ح- 400. (¬2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج 15، ص 53.

رسول الله! ما آنية الحوض؟ قال: والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ. آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثل طوله بين عُمان إلى آيلة، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل " (¬1). وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر (¬2). والذي يظهر لي بعد النظر في الأدلة أن الكوثر غير الحوض، فالحوض المورود حوض في الأرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، والكوثر نهر في الجنة يصب منه ميزابان في الأرض في هذا الحوض الذي وعد الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويرد عليه المؤمنون من أمته، وهو حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر، يرد عليه أهل الإيمان ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وآنيته عدد نجوم السماء، وماءه من الجنة ينزل من نهر الكوثر. يقول القرطبي في التذكرة: " ذهب صاحب قوت القلوب وغيره إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس والصحيح أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - حوضين أحدهما في الموقف قبل الصراط والآخر داخل الجنة وكل منهما ¬

(¬1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا وصفاته، ج 4، ص 1798، ح- 2300. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب في الحوض، ج 5، ص 2406، ح- 6210.

يسمى كوثرا " (¬1). القول الراجح فيما يظهر لي والله أعلم أن القول الراجح في معنى الكوثر أنه نهر في الجنة، وذلك لثبوته بالنص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهر في الجنة، وما ذهب إليه ابن عاشور من أن الكوثر يدل على الكثرة والخير الكثير , بناء على أن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى ترجيح تعارضه قاعدة أقوى منه وهي أنه (إذا ثبت الحديث وكان نصاً في تفسير الآية فلا يصار إلى غيره) , وقد تتابعت الأخبار في أن الكوثر نهر في الجنة، وعليه فيتأكد الأمر وتبقى الدلالة على الكوثر بأنه يعني الكثرة من حيث كثرة الواردة والشاربة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويسمى أيضا بالكوثر لما فيه من الخير الكثير والماء الكثير. قال الشوكاني بعد أن ساق الأحاديث الواردة في الكوثر: " فهذه الأحاديث تدلّ على أن الكوثر هو النهر الذي في الجنة، فيتعين المصير إليها، وعدم التعويل على غيرها، وإن كان معنى الكوثر: هو الخير الكثير في لغة العرب، فمن فسره بما هو أعمّ مما ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فهو تفسير ناظر إلى المعنى اللغويّ. أخرج أحمد، والترمذي وصححه، وابن ماجه، وابن جرير عن عطاء بن السائب قال: سعيد بن جبير في الكوثر: حدّثنا عن ابن عباس أنه قال: هو الخير الكثير، فقال: صدق إنه للخير الكثير، ولكن حدّثنا ابن عمر قال: نزلت: (إِنَّا أعطيناك الكوثر) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدرّ، ¬

(¬1) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة / القرطبي، ص 256.

والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل " (¬1). وأخرج البخاري من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير، فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه (¬2). وهذا التفسير من حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه ناظر إلى المعنى اللغويّ كما عرّفناك، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فسّره فيما صح عنه أنه النهر الذي في الجنة " (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده، ج 2، ص 67، ح- 5355، والترمذي في سننه باب ومن سورة الكوثر، ج 5، ص 449، وابن ماجه في سننه، باب صفة الجنة، ج 2، ص 1450، ح- 4334، والطبري في تفسيره، ج 30، ص 392. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الكوثر، ج 4، ص 1900، ح- 4682. (¬3) فتح القدير / الشوكاني، ج 5، ص 503. ونظائر هذه الأمثلة كثيرة في تفسيره منها: 1 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: 23).قال ابن عاشور: " غلّقت لإفادة شدّة الفعل وقوته، أي أغلقت إغلاقاً محكماً ". (التحرير والنوير، ج 6، ص 250. 2 - ... ماجاء في قوله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (القصص: 24)، وفيه قول ابن عاشور: "ويظهر أن تولى مرادف (ولى) ولكن زيادة المبنى من شأنها أن تقتضي زيادة المعنى فيكون تولى أشد من ولى ". (التحرير والتنوير (10/ 102). 3 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (فاطر: 37) , وفيه قول ابن عاشور: " و {يصطرخون} مبالغة في (يصرخون) لأنه افتعال من الصراخ وهو الصياح بشدة وجهد، فالاصطراخ مبالغة فيه، أي يصيحون من شدة ما نابهم" (التحرير والتنوير، ج 11، ص 318). 4 - ... ما جاء في قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (الفتح: 25) وفيه قول ابن عاشور: " والتزيَّل: مضارع زيَّله إذا أبعده عن مكان، وزيلهم: أي أبعد بعضهم عن بعض، أي فرقهم، وهو هنا بمعنى التفرق والتميز من غير مراعاة مطاوعة لفعل فاعل لأن أفعال المطاوعة كثيراً ما تطلق لإرادة المبالغة لدلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى وذلك أصل من أصول اللغة" (التحرير والتنوير، ج 12، ص 192). 5 - ... ما جاء في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (الأعلى: 1) وفيه قول ابن عاشور: " فلفظ (الأعلى) اسم يفيد الزيادة في صفة العلو، أي الارتفاع " (التحرير والتنوير، ج 15، ص 274).

المبحث الثالث إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها.

المبحث الثالث إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها (¬1). صورة القاعدة: إذا كانت الآية تحتمل معاني كلها صحيحة , فإنه يتعين حملها على الجميع (¬2). وقد بدت هذه القاعدة واضحة في تفسير ابن عاشور حيث ركّز الضوء عليها بأن جعل المقدمة التاسعة من تفسيره بعنوان: (المعاني التي تتحملها جمل القرآن، تعتبر مرادة بها)، وفيها يقول: " جاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب، وهو لكونه كتاب تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقاً بأن يودع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ، في أقل ما يمكن من المقدار. ويقول: " وإنك لتمر بالآية الواحدة فتتأملها وتتدبرها فتنهال عليك معان كثيرة يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي. وقد تتكاثر عليك فلا تك من كثرتها في حصر ولا تجعل الحمل على بعضها منافياً للحمل على البعض الآخر ... إلى أن يقول في آخر تلك المقدمة: " وقد كان المفسرون غافلين (¬3) عن تأصيل هذا الأصل فلذلك كان ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 9، ص 45، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 405. (¬2) انظر أضواء البيان، ص 13. (¬3) هذه العبارة فيها شدة وتحامل على المفسرين لا تليق بهم، وهم قد أفنوا أعمارهم في خدمة وتفسير كتاب الله، ومسألة تعميم ذلك على المفسرين أيضاً مرفوضة، وإن كان بعضهم قد وقع في خطأ فإن ذلك كان بعد اجتهاد منه وتحري، ولكن نلتمس العذر لابن عاشور في كونه اعتنى بهذه القاعدة عناية كبيرة وتشربها حتى لينظر أن كل من خالفها قد وقع في خطأ كبير.

أقوال العلماء في القاعدة

الذي يرجح معنى من المعاني التي يحتملها لفظ آية من القرآن، يجعل غير ذلك المعنى ملغى، ونحن لا نتابعهم على ذلك بل نرى المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع الكلام العربي معاني في تفسير الآية " (¬1). أقوال العلماء في القاعدة: اعتنى شيخ الإسلام بهذه القاعدة، وخلاصة ما قاله أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات، ليس اختلافاً حقيقياً متضاداً يكذب بعضه بعضاً، إلا أن الآيات تشمل جميعه، فينبغي حملها على شمول ذلك كله، وهذا هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة (¬2). كما اعتمد الشنقيطي هذه القاعدة، وجعلها أصلاً يسير عليه في كتابه، فقال: " وربما كان في الآية الكريمة أقوال كلها حق، وكل واحد منها يشهد له قرآن، فإنا نذكرها ونذكر القرآن الدال عليها من غير تعرض لترجيح بعضها، لأن كل واحد منها صحيح " (¬3). وقال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين في "الشرح الممتع" في باب عقد الذمة في معرض تفسيره لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬4): ¬

(¬1) انظر التحرير والتنوير، ج 1، ص 93 - 100. (¬2) انظر مقدمة أصول التفسير / ابن تيمية، ص 29. (¬3) انظر أضواء البيان، ص 13. (¬4) سورة التوبة، الآية (29).

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

" المعنى أن يعطوا الجزية عن قوة، ويدا بيد؛ لأن لدينا قاعدة في التفسير وهي متى احتملت الآية معنيين لا يتنافيان وجب حملها عليهما جميعا؛ لأن ذلك أعم، وكلما عمت دلالة الآية كان أولى" (¬1). الأمثلة التطبيقية على القاعدة: 1 - مثال التهلكة: قال تعالى {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬2). اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} على عدة أقوال , حصرها الماوردي في ستة أقوال (¬3). وذكرها ابن عاشور في تفسيره فقال: " وقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} عطف غرض على غرض، عُقِّب الأمر بالإنفاق في سبيل الله بالنهي عن الأعمال التي لها عواقب ضارة إبلاغاً للنصيحة والإرشاد , لئلا يدفع بهم يقينهم بتأييد الله إياهم إلى التفريط في وسائل الحذر من غلبَة العدو، فالنهي عن الإلقاء بالنفوس إلى التهلكة يجمع معنى الأمر بالإنفاق وغيره ¬

(¬1) الشرح الممتع على زاد المستقنع / الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ج 8، ص 73. (¬2) سورة البقرة، الآية، 195. (¬3) انظر النكت والعيون / الماوردي، ج 1، ص 253.

من تصاريف الحرب وحفظ النفوس، ولذلك فالجملة فيها معنى التذييل وإنما عطفت ولم تفصل باعتبار أنها غرض آخر من أغراض الإرشاد. ومعنى النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة النهي عن التسبب في إتلاف النفس أو القوم عن تحقق الهلاك بدون أن يجتنَى منه المقصودُ. وعُطِف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الأمر به فإنَّ ترك الإنفاق في سبيل الله والخروجَ بدون عُدة إلقاءٌ باليد للهلاك كما قيل: ... كساعٍ إلى الهَيْجَا بغير سِلاَح. ثم ذكر ابن عاشور خلاصة الأقوال فيها فقال: وقد قيل في تفسير {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أقوال: الأول: إنَّ (أنفقوا) أمرٌ بالنفقة على العيال، والتهلكة: الإسراف فيها أو البخل الشديد رواه البخاري عن حذيفة. الثاني: إنها النفقة على الفقراء؛ أي الصدقة، والتهلكة الإمساك. الثالث: الإنفاق في الجهاد، والإلقاء إلى التهلكة الخروج بغير زاد. الرابع: الإلقاء باليد إلى التهلكة: الاستسلام في الحرب أي لا تستسلموا للأسر. الخامس: إنه الاشتغال عن الجهاد وعن الإنفاق فيه بإصلاح أموالهم (¬1). وقد رجح ابن عاشور كل تلك الأقوال ماعدا القول الأول والثاني. فقال: والآية ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 2، ص 215.

تتحمل جميع المعاني المقبولة يعني بقية الأقوال الثالث والرابع والخامس (¬1). وممن ذهب إلى ما ذهب إليه ابن عاشور في كون المعاني معظمها مرادة: الطبري، وابن عطية والرازي، والقرطبي , وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي (¬2) , ورجح الشنقيطي أن المراد من قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أن الإلقاء إلى التهلكة هو: ترك الجهاد , والإقبال على الدنيا وعمارتها (¬3). حجة من قال: إن المراد لا تتركوا النفقة على العيال فتهلكوا: استدل أصحاب هذا القول بما جاء في صحيح البخاري عن حذيفة {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال: نزلت في النفقة " (¬4). وقد استبعد ابن عاشور هذا القول فقال: " وهذا القول يبعده قوله " في سبيل ¬

(¬1) التحرير والتنوير / ابن عاشور، ج 245. (¬2) انظر جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 246.، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 1، ص 264، والتفسير الكبير / الرازي، ج 2، ص 294، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 360، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 2، ص 78 - 79، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 2، ص 223، وفتح القدير / الشوكاني، ج 1، ص 193، وروح المعاني الألوسي، ج 1، ص 474، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 2، ص 100. (¬3) أضواء البيان / الشنقيطي , ص 880. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " ج 4، ص 1642، ح- 4244.

الله" وإن إطلاق التهلكة على السرف بعيد وعلى البخل أبعد. وذكر ابن عاشور قولاً آخر يشبه القول السابق وهو: أن المقصود بالتهلكة الإمساك من النفقة على الفقراء , وكذلك استبعده ابن عاشور لعدم مناسبة العطف وإطلاق التهلكة على الإمساك (¬1). حجة من قال: إن المراد بالتهلكة الخروج بغير زاد: دليلهم أن ذلك قد كان فعله قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس (¬2).وهو من قول زيد بن أسلم (¬3)، والمعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد. حجة من قال: إن المراد بالتهلكة الاستسلام في الحرب: استدلوا بقول البراء بن عازب - رضي الله عنه -: أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع، ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل، وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فأما إذا كان آيساً من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول فليس له أن يقدم عليه (¬4)، ونقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: هو الرجل يستقل بين الصفين (¬5). وقد ردّ قوم هذا القول. ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 215. (¬2) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 360. (¬3) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 2، ص 243. (¬4) لم أقف على تخريجه. انظر التفسير الكبير/ الرازي، ج 2، ص 295. (¬5) لم أقف عليه في كتب الأحاديث والمصنفات.

قال الرازي: " ومن الناس من طعن في هذا التأويل وقال: هذا القتل غير محرم واحتج عليه بوجوه: الأول: روي أن رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدو , فصاح به الناس, فألقى بيده إلى التهلكة , فقال أبو أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصرناه وشهدنا معه المشاهد فلما قوي الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا وتصالحنا، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد " (¬1) والثاني: روى الشافعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الجنة، فقال له رجل من الأنصار: أرأيت يا رسول الله إن قُتِلتُ صابراً محتسباً؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «لك الجنة» فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كانت عليه حين ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنة ثم انغمس في العدو فقتلوه (¬2). والثالث: روي أن رجلاً من الأنصار تخلف عن بني معاوية فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه، فقال لبعض من معه: سأتقدم إلى العدو فيقتلونني , ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي، ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال فيه قولا حسناً (¬3) (¬4) ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله، باب ومن سورة البقرة، ج 5، ص 212، ح- 2972، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬2) أخرجه الشافعي في الأم، ج 4، ص 242. (¬3) أخرجه البيهقي في الكبرى، باب جواز انفراد الرجل والرجال بالغزو، ج 9، ص 100، ح- 17979. (¬4) انظر التفسير الكبير/ الرازي، ج 2، ص 295.

حجة من قال: إن المراد بالتهلكة الاشتغال عن الجهاد وعن الإنفاق فيه بإصلاح أموالهم: استدلوا بما رواه الترمذي عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم (القسطنطينية) فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فحمل رجل من المسلمين على صف للروم حتى دخل فيهم, فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت فينا معاشر الأنصار لما أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه يرد علينا ما قلنا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو" (¬1). وهناك قول آخر في معنى التهلكة لم يذكره ابن عاشور وهو أن المراد بالآية: أي لا تيأسوا من المغفرة عند ارتكاب المعاصي فلا تتوبوا: استدلوا بقول عبيدة السلماني يقول: هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم ويلقي بيده إلى التهلكة، ويقول لا توبة له يعني قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب تفسير القرآن، باب ومن البقرة ,ج 5 , ص 212 , ح- 2972.

إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬1). القول الراجح هو ما ذهب إليه ابن عاشور مستنداً في ذلك إلى القاعدة الترجيحية وهي: (إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها). وفي ذلك يقول الطبري: " فإذ كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله: "ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" ولم يكن الله عز وجلّ خصَّ منها شيئًا دون شيء، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة - وهي العذاب - بترك ما لزمنا من فرائضه، فغيرُ جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا، مما نستوجب بدخولنا فيه عَذابَه. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله، ولا تتركوا النفقة فيها، فتهلكوا باستحقاقكم (¬2) وفي ذلك يقول الجصاص: " وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية لاحتمال اللفظ لها وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف " (¬3). كما ذكر القرطبي أن اللفظ يتناول جميع سبله (¬4) وكذلك يرى الألوسي أن ظاهر اللفظ العموم (¬5). ¬

(¬1) أخرج روايته الطبري في تفسيره، ج 2، ص 244. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 2، ص 246. (¬3) أحكام القرآن / الجصاص، ج 1، ص 163. (¬4) انظر الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 2، ص 360. (¬5) انظر روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 474.

وقال السعدي: " والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد، إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح، فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك، ترك الجهاد في سبيل الله، أو النفقة فيه، الموجب لتسلط الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف، أو محل مسبعة أو حيات، أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك، فهذا ونحوه، ممن ألقى بيده إلى التهلكة. ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة: الإقامة على معاصي الله، واليأس من التوبة، ومنها: ترك ما أمر الله به من الفرائض، التي في تركها هلاك للروح والدين " (¬1). وأختم بقول ابن عاشور: " والآية تتحمل جميع المعاني المقبولة، ووقوع فعل (تلقوا) في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد للتهلكة أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهياً عنه محرماً ما لم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم وهو ما يكون حفظه مقدماً على حفظ النفس مع تحقق حصول حفظه بسبب الإلقاء بالنفس إلى الهلاك أو حفظ بعضه بسبب ذلك " (¬2). 2 - مثال الأنعام: قال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / السعدي، ج 1، ص 153. (¬2) التحرير والتنوير، ج 2، ص 215.

اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (¬1). اختلف المفسرون في تفسير الفرش في هذه الآية، وقد ذكر هذا الخلاف ابن عاشور في تفسيره فقال: " الفرش ما لا يُطيق الحَمل من الإبل أي فهو يركب كما يُفرش الفَرش، وهذا قول الراغب. وقيل: الفَرش الصّغار من الإبل أو من الأنعام كلّها، لأنَّها قريبة من الأرض فهي كالفرش، وقيل: الفرش ما يذبح لأنّه يفرش على الأرض حين الذبح أو بعده، أي فهو الضان والمعز والبقر لأنَّها تذبح. وفي «اللّسان» عن أبي إسحاق: أجمع أهل اللّغة على أنّ الفرش هو صغار الإبل " وزاد في «الكشاف»: «أو الفَرْش: ما يُنْسَج من وبره وصوفه وشَعْره الفرْش» يريد أنه كما قال تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (¬2) {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (¬3)، ولأنَّهم كانوا يفترشون جلود الغنم والمعز للجلوس عليها " (¬4). ورجّح ابن عاشور جميع تلك المعاني في معنى الفرش لكونها جميعاً محتملة فقال: " ولفظ (فرشا) صالح لهذه المعاني كلّها، ومحامله كلّها مناسبة للمقام، ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (142). (¬2) سورة النحل، الآية (80). (¬3) سورة النحل، الآية (5 - 6). (¬4) التحرير والتنوير، ج 5، ص 125.

فينبغي أن تكون مقصودة من الآية، وكأنّ لفظ الفرش لا يوازنه غيره في جمع هذه المعاني، وهذا من إعجاز القرآن من جانب فصاحته، فالحمولة الإبل خاصّة، والفَرش يكون من الإبل والبقر والغنم على اختلاف معاني اسم الفرش الصّالحة لكلّ نوع مع ضميمته إلى كلمة (من) الصالحة للابتداء. فالمعنى: وأنشأ من الأنعام ما تحملون عليه وتركبونه، وهو الإبل الكبيرة والإبل الصّغيرة، وما تأكلونه وهو البقر والغنم، وما هو فرش لكم وهو ما يُجزّ منها، وجلودها " (¬1). وقد وافق قول ابن عاشور قول القرطبي حيث وصف هذا اللفظ بأنه لفظ مشترك، كما حسّن قول من قال أن الفرش ما خلقه الله من الجلود والصوف مما يجلس عليه ويتمهد (¬2) ورجّح ابن جرير أن الفرش كل ما قرب جسمه من الأرض، وقريب منه قول ابن عطية، والرازي، والقرطبي (¬3). وساق أبو حيان، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي معظم الأقوال الواردة في الفرش ولم يرجّحوا أحدها (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 126. (¬2) انظرالجامع لاحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 112. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 8، ص 78.، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 354.، والتفسير الكبير / الرازي، ج 5، ص 165، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 112. (¬4) انظر البحر المحيط / أبو حيان، ج 4، ص 241، وفتح القدير / الشوكاني، ج 2، ص 169، وروح المعاني / الألوسي، ج 4، ص 282، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 4، ص 521.

وحسّن ابن كثير قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في أن الفرش ما تأكلون وتحلبون، شاة لا تحمل تأكلون لحمها، وتتخذون من صوفها لحافاً وفراشاً (¬1)، وهو قريب من ترجيح الطبري. وإليك الآن حجة أصحاب كل قول، وإن كان بين الأقوال تداخل: حجة من قال: إن الفرش كل ما قرب من الأرض جسمه: حجتهم في ذلك: أن الفرش صفة لما قرب جسمها من الأرض كا لأغنام. قال الطبري: " والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: أن "الفرش"، إنما هو صفة لما لطف فقرب من الأرض جسمه، ويقال له: "الفرش" , وأحسبها سميت بذلك تمثيلا لها في استواء أسنانها ولطفها بالفَرْش من الأرض، وهي الأرض المستوية التي يتوطَّؤُها الناس " (¬2). وقال الخازن: " الفرش مالا يصلح للحمل سمي فرشاً لأنه يفرش للذبح ولأن قريب من الأرض لصغره " (¬3). حجة من قال: إن الفرش صغار الإبل: احتج أصحاب هذا القول بأن الأنعام تطلق على الإبل وحدها، وبذلك يكون قوله: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} أي من الإبل حمولة وفرشاً. قال مجاهد: الحمولة ما قد حمل من الإبل، والفرش صغار الإبل التي لم ¬

(¬1) انظر تفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 6، ص 192. (¬2) جامع البيان / الطبري، ج 8، ص 78. (¬3) لباب التأويل في معاني التنزيل / الخازن، ج 2، ص 165.

تحمل (¬1). وقال ابن بحر (¬2): الافتراش الإضجاع للنحر، فتكون الحمولة كبارها، والفرش صغارها، قال الراجز: أورثني حمولة وفرشاً ...... أمشها في كل يوم مشاً (¬3). وقال الزجاج: أجمع أهل اللغة على أن الفرش هو صغار الإبل (¬4). حجة من قال: إن الفرش ما خلق لكم من أصوافها وجلودها: قال النحاس: "ومن أحسن ما قيل فيها أن الفرش ما خلقه الله عز وجل من الجلود والصوف مما يجلس عليه ويتمهد" (¬5). وهذا القول حسنه ابن كثير كما تقدم. القول الراجح والذي يظهر والله أعلم صحة ما ذهب إليه ابن عاشور من كون المعاني كلها محتملة، وذلك بناء على قاعدة المبحث بأنه (إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها). ¬

(¬1) تفسير مجاهد، ص 330. (¬2) هو محمد تقي بن السيد رضا بن بحر العلوم الطباطبائي النجفي، من فقهاء ية، من أهل النجف، له القواعد في أصول الفقه، توفي سنة 1289 م. (انظر الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني، ج 2، ص 204، والإعلام / الزركلي، ج 6، ص 63). (¬3) النكت والعيون / الماوردي، ج 2، ص 179. (¬4) معاني القرآن / الزجاج، ج 2، ص 298. (¬5) معاني القرآن / النحاس، ج 2، ص 503.

وردّ القرطبي قول من قال: إن الأنعام المراد بها الإبل وحدها فقال: " وكذلك البقر والغنم فهي أنعام أيضاً وذكر في ذلك قول أحمد بن يحيى (¬1) ووصفه بأنه أصحها حيث قال: الأنعام كل ما أحله الله عز وجل من الحيوان , ويدل على صحة هذا قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (¬2) " (¬3). ومما يعضد هذا القول، ويرد القول بأن المقصود بها صغار الإبل فقط سياق الآية بعدها حيث جاء بعدها ذكر الأصناف كلها: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬4) فجاءت هذه الآية بدلاً من قوله عز وجل {حَمُولَةً وَفَرْشًا} جعله للبقر والغنم مع الإبل (¬5). ¬

(¬1) هو: أبو العباس أ. حمد بن يحيى بن زيد بن سيّار الشيباني، المعروف بثعلب , إمام الكوفيين في النحو واللغة , كان راوية للشعر , محدثا مشهورا بالحفظ , من كتبه: الفصيح , وقواعد الشعر , ومجالس ثعلب , ومعاني القرآن , مات عام (291 هـ). (انظر تبصير المنتبه بتحرير المشتبه / ابن حجر ,ج 1 , ص 198 , والأعلام / الزركلي , ج 1 , ص 267. (¬2) سورة المائدة، الآية (4). (¬3) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 7، ص 112. (¬4) سورة الأنعام، الآية (143). (¬5) انظر معاني القرآن / الأخفش، ج 1، ص 315.

3 - مثال الضمير في السميع والبصير: قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). اختلف المفسرون في مرجع الضمير في قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فمعظمهم ذهب إلى أن الضمير يعود إلى الله تعالى، وقلة منهم ذهبت إلى أنه يعود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد مال ابن عاشور إلى أن الضمير يعود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان لا يستبعد القول الآخر بل يراه محتملاً تكثيراً لمعاني الآية وهذا قوله: " فقوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الأظهرُ أن الضميرين عائدان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاله بعض المفسرين، ولكن جمهرة المفسرين على أنه عائد إلى الله تعالى., ولعل احتماله للمعنيين مقصود، وقد تجيء الآيات محتملة عدّةَ معان، واحتمالها مقصود تكثيراً لمعاني القرآن، ليأخذ كل منه على مقدار فهمه كما ذكرنا في المقدمة التاسعة. وأياما كان فموقع (إنّ) التوكيد والتعليل كما يؤذن به فصل الجملة عما قبلها. وهي إما تعليل لإسناد فعل (نريه) إلى فاعله؛ وإما تعليل لتعليقه بمفعوله، فيفيد أن تلك الإراءة من باب الحكمة، وهي إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، فهو من ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية (1).

إيتاء الحكمة من هو أهلها " (¬1). وقد مال إلى هذا القول قبل ابن عاشور الألوسي حيث ذكر كلا القولين وذكر أن كون الضمير يعود إلى الله تعالى هو الأظهر , وعليه الأكثر، كما أنه لم يستبعد القول بأن الضمير يعود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2). في حين ذهب معظم المفسرين منهم الطبري، وابن عطية، والرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي إلى أن الضمير في الآية عائد إلى الله تعالى، ولم يذكروا قولاً آخر غيره (¬3). حجة من قال: إن الضمير في قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} يعود إلى الله تعالى: دليلهم في ذلك: إن الله تعالى هو الموصوف وحده بالسميع والبصير، وفي ذلك يقول الطبري: " إن الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة في مسرى محمد - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى بيت المقدس، ولغير ذلك من قولهم وقول غيرهم، البصير بما يعملون من الأعمال، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولا يعزب عنه علم شيء منه، بل هو محيط بجميعه علما، ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 7، ص 22. (¬2) انظر روح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 15، والتحرير والتنوير، ج 7، ص 22. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 22، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 436، والتفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 293، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 10، ص 218، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 7، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 8، ص 374، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 207، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 449.

ومحصيه عددا، وهو لهم بالمرصاد، ليجزي جميعهم بما هم أهله" (¬1). حجة من قال: إن الضمير يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل عوده إلى الله تعالى: قالوا: إنه لا يبعد أن يتصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصفات ,فهو السميع لأوامر الله تعالى البصير المعتبر بمخلوقاته. قال الألوسي: " إنه لا يبعد، والمعنى عليه إن عبدي الذي شرفته بهذا التشريف هو المستأهل له فإنه السميع لأوامري ونواهي العامل بهما البصير الذي ينظر بنظرة العبرة في مخلوقاتي فيعتبر، أو البصير بالآيات التي أريناه إياها كقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (¬2) " (¬3). وذهب البقاعي إلى أن المقصود بالضمير هنا هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أي هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو (السميع) أي: أذناً وقلباً بالإجابة لنا والإذعان لأوامرنا، (البصير): بصراً وبصيرة بدليل ما أخبر به من الآيات، وصدقه من الدلالات، حين نعت ما سألوه عنه من بيت المقدس ومن أمر عيرهم وغيرهما مما هو مشهور في قصة الإسراء مما كان يراه وهو ينعت لهم وهم لا يرونه ولا يقاربون ذلك ولا يطمعون فيه، وقال من كان دخل منهم إلى بيت المقدس: أما النعت والله فقد أصاب، أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها، ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 22. (¬2) سورة النجم، الآية (17). (¬3) روح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 15.

وأحوالها وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق، فخرجوا ذلك اليوم نحو الثنية يشتدون، فقال قائل: هذه والله الشمس قد طلعت، فقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت، يقدمها جمل أورق كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا وقالوا: إن هذا إلا سحر مبين " (¬1). وقال ابن عاشور: " والتعليل على اعتبار مرجع الضمير إلى النبي أوقع، إذ لا حاجة إلى تعليل إسناد فعل الله تعالى لأنه محقق معلوم. وإنما المحتاج للتعليل هو إعطاء تلك الإراءة العجيبة لمن شك المشركون في حصولها له ومن يحسبون أنه لا يطيقها مثله. على أن الجملة مشتملة على صيغة قصر بتعريف المسند باللام وبضمير الفصل قصراً مؤكداً، وهو قصر موصوف على صفة قصراً إضافياً للقلب، أي هو المدرك لما سمعه وأبصرهُ لا الكاذِبُ ولا المتوهمُ كما زعم المشركون. وهذا القصر يؤيد عود الضمير إلى النبي لأنه المناسب للرد , ولا ينازع المشركون في أن الله سميع وبصير إلا على تأويل ذلك بأنه المُسمع والمبصِر لرسوله الذي كذبتموه، فيؤول إلى تنزيه الرسول عن الكذب والتوهم. ثم إن الصفتين على تقدير كونهما للنبي - صلى الله عليه وسلم - هما على أصل اشتقاقهما للمبالغة في قوة سمعه وبصره وقبولهما لتلقي تلك المشاهدات المدهشة، على حد قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وقوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} (¬2) (¬3). ¬

(¬1) نظم الدرر / البقاعي، ج 4، ص 330. (¬2) سورة النجم، الآية (12). (¬3) التحرير والتنوير، ج 7، ص 22.

القول الراجح هو ما ذهب إليه ابن عاشور من كون كلا المعنيين محتملين , وذلك يدل على مدى استحضار ابن عاشور لهذه القاعدة، في الوقت الذي ذهب معظم المفسرين إلى القول أن الضمير يعود إلى الله تعالى ولم يذكروا احتمالاً غيره. ومما يدل على احتمال القول الآخر أحاديث كثيرة وردت في أنه - صلى الله عليه وسلم - يبصر من ورائه كما يبصر من أمامه كما أخرجه البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أقيموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري , وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه " (¬1). وما رواه مسلم من حديث ثوبان - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها " (¬2). 4 - مثال القفو: قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬3). اختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ}. إلى عدة أقوال: أحدها: معناه لا تقل ما ليس لك به علم، وهو من قول قتادة. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتب الجماعة وة، باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف، ج 1، ص 254، ح- 692. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، ج 4، ص 2215، ح- 2889. (¬3) سورة الإسراء، الآية (36).

الثاني: معناه ولا ترم أحدًا بما ليس لك به علم، وهذا من قول ابن عباس. الثالث: إنه من القيافة , وهو اتباع الأثر، وكأنه يتبع قفا المتقدم (¬1). وقد ذكر ابن عاشور هذه الأقوال في تفسيره وزاد عليها فقال: "ويندرج تحت هذا أنواع كثيرة منها: الطعن في أنساب الناس، حيث كانوا يرمون النساء برجال ليسوا بأزواجهن، ويليطون بعض الأولاد بغير آبائهم بهتاناً، أو سوءَ ظن إذا رأوا بُعداً في الشبه بين الابن وأبيه أو رأوا شَبَهه برجل آخر من الحي أو رأوا لوناً مخالفاً للون الأب أو الأم، تخرصاً وجهلاً بأسباب التشكل، فإن النسل ينزع في الشبه وفي اللون إلى أصول من سلسلة الآباء أو الأمهات الأدنَيْن أو الأبعدِين، وجهلا بالشبه الناشئ عن الوحَم فهذا كان شائعاً في مجتمعات الجاهلية فنهى الله المسلمين عن ذلك، ومنها القذف بالزنى وغيره من المساوي بدون مشاهدة، وربما رموا الجيرة من الرجال والنساء بذلك .... وكذلك كان عملهم إذا غاب زوج المرأة لم يلبثوا أن يلصقوا بها تهمة ببعض جيرتها، وكذلك يصنعون إذا تزوج منهم شيخ مُسِنٌّ امرأة شابة أو نصفاً فولدت له ألصقوا الولد ببعض الجيرة. ولذلك لمّا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً «سلوني» أكثر الحاضرون أن يسأل الرجل فيقول: مَن أبي؟ فيقول: أبوك فلان. وكان العرب في الجاهلية يطعنون في نسب أسامة بن زيد من أبيه زيد بن حارثة لأن أسامة كان أسود اللون , وكان زيد أبوه أبيض أزهر، وقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أسامة بن زيد بن حارثة , فهذا ¬

(¬1) انظر هذه الأقوال في جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 100 - 102، والنكت والعيون / الماوردي، ج 3، ص 243.

خلق باطل كان متفشياً في الجاهلية نهى الله المسلمين عن سوء أثره ومنها تجنب الكذب. قال قتادة: لا تقف: لا تقل: رأيتُ وأنتَ لم تر، ولا سمعتُ وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم. ومنها شهادة الزور وشملها هذا النهي، وبذلك فسر محمد بن الحنفية وجماعة. ورجّح ابن عاشور جميع هذه المعاني لأنه يرى أنها كلها محتملة مستنداً في ذلك إلى القاعدة: " إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها " (¬1). وممن وافق قوله قول ابن عاشور في احتمال تلك المعاني كلها فيمن سبقه الرازي، والقرطبي، وأبو حيان، وابن كثير، وكذلك الشوكاني، والألوسي، والقاسمي، والشنقيطي. قال الرازي: وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما، وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة. وقال القرطبي: " وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة (¬2). ورجح الطبري وابن عطية أن المراد بالقفو: رمي الناس بالباطل، والشهادة عليهم بغير الحق، وإن كان الطبري حقيقة لا يستبعد الأقوال الأخرى لأنه بعد ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 7، ص 101. (¬2) انظر التفسير الكبير / الرازي، ج 7، ص 339.، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 10، ص 263.، والبحر المحيط / أبو حيان، ج 6، ص 32، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 9، ص 9، وفتح القدير / الشوكاني، ج 3، ص 227.، وروح المعاني / الألوسي، ج 8، ص 71.، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 480.، وأضواء البيان / الشنقيطي، ص 580.

أن ذكر بعضها. قال: " وتلك المعاني متقاربة لأن القول بما لا يعلمه القائل يدخل فيه شهادة الزور، ورمي الناس بالباطل، وادعاء سماع مالم يسمعه، ورؤية مالم يره " (¬1). حجة من قال: إن المراد بالقفو القول بما ليس لك به علم: حجتهم: ما جاء في اللغة من معنى القفو , ومنه قول أبي عبيد: الأصل في القفو والتقافي البهتان يرمي به الرجل صاحبه، وقَفَوْتُه أَقْفُوه رميته بأمر قبيح " (¬2). قال قتادة: "لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم" (¬3). وقال مجاهد: " لا تذم أحدا بما ليس لك به علم " (¬4). حجة من قال: إن المراد بالقفو رمي الناس بالباطل: دليلهم في ذلك ما جاء في الحديث أنه جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي ولدت ولداً أسودَ (يريد أن ينتفي منه) فقال له النبي: " هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانهن؟ قال: وُرْق. قال: وهل فيها من جمل أسود؟ قال: نعم. قال: فمن أين ذلك؟ قال: لعله عِرقٌ نزَعَه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فلعل ابنك ¬

(¬1) جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 101، 102، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 3، ص 455. (¬2) مجاز القرآن / أبو عبيدة، ج 1، ص 379. (¬3) أخرج رواية قتادة الطبري في تفسيره، ج 15، ص 100. (¬4) تفسير مجاهد، ص 436.

نزعه عِرق "، ونهاه عن الانتفاء منه (¬1). فهذا كان شائعاً في مجتمعات الجاهلية فنهى الله المسلمين عن ذلك. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أُمَّنا، ولا ننتفي من أبينا " أي: لا نسُبُّ أمنا " (¬2). كما استدل أصحاب هذا القول عليه بأن الغالب في استعمال العرب أن القفو هو رمي الناس بالباطل. قال الطبري: " وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه " (¬3). حجة من قال: إن المراد بالقفو اتباع الأثر من القيافة: حجتهم في ذلك اللغة، وهو ورود كلمة القفو: بمعنى تتبع الأثر. قال ابن منظور: " قفاه قفْواً وقُفواً واقتفاه تبعه (¬4). وقال الزمخشري: " قفا أثره وقافه، ومنه: القافة، يعني: ولا تكن في اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل، كمن يتبع مسلكاً لا يدري أنه يوصله إلى ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المحاربين، باب ما جاء في التعريض، ج 6، ص 2511، ح - 6455، ومسلم في صحيحه، كتاب اللعان، ج 2، ص 1137، ح- 1500. (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه، باب من نفى رجل من قبيلة، ج 2، ص 871، ح- 2612. (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 15، ص 102. (¬4) لسان العرب / ابن منظور، ج 11، ص 263.

مقصده فهو ضال. والمراد: النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم " (¬1). القول الراجح هو ما ذهب إليه ابن عاشور في كون المعاني كلها محتملة. يقول ابن عاشور: " وما يشهد لإرادة جميع هذه المعاني تعليل النهي بجملة {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} فموقع الجملة موقع تعليل، أي أنك أيها الإنسان تُسأل عما تسنده إلى سمعك وبصرك وعقلك من مراجع القفو المنهي عنه " (¬2). ولا شك أن ترجيح ابن عاشور ليدل على مدى استحضاره لقاعدة المبحث، وأن الآية إذا كانت تحتمل أكثر من معنى فالأولى الأخذ بهم جميعاً تكثيراً لمعاني الآية. قال القاسمي: " ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة. كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل. وكشهادة الزور والقذف ورمي المحصنات الغافلات والكذب وما شاكلها (¬3). ويقول الشنقيطي في ذلك: " ويدخل في هذه الآية كل قول بلا علم، وأن ¬

(¬1) الكشاف / الزمخشري، ج 3، ص 517. (¬2) التحرير والتنوير، ج 7، ص 101 (¬3) محاسن التأويل / القاسمي، ج 6، ص 480.

يعمل الإنسان بما لا يعلم " (¬1). 5 - مثال رؤية العذاب: قال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} (¬2). حصل خلاف بين المفسرين في قوله تعالى: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} على عدة أقوال , جمعها ابن عاشور في تفسيره فقال: " وأما قوله تعالى: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} فيحتمل معاني كثيرة فرضها المفسرون: وجماع أقوالهم فيها أخذاً ورداً أن نجمعها في خمسة وجوه: أحدها: أن يكون عطفاً على جملة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} والرؤية بصرية، والعذاب عذاب الآخرة، أي أحضر لهم آلة العذاب ليعلموا أن شركاءهم لا يغنون عنهم شيئاً. وعلى هذا تكون جملة: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} مستأنفة ابتدائية مستقلة عن جملة {وَرَأَوُا الْعَذَابَ}. الثاني: أن تكون الواو للحال , والرؤية أيضاً بصرية والعذاب عذاب الآخرة، أي وقد رأوا العذاب فارتبكوا في الاهتداء إلى سبيل الخلاص فقيل لهم: ادعوا ¬

(¬1) أضواء البيان / الشنقيطي، ص 580. (¬2) سورة القصص، الآية (64).

شركاءكم لخلاصكم، وتكون جملة: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} كذلك مستأنفة ابتدائية. الثالث: أن تكون الرؤية علمية، وحذف المفعول الثاني اختصاراً، والعذاب عذاب الآخرة. والمعنى: وعلموا العذاب حائقاً بهم، والواو للعطف أو الحال. وجملة: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} مستأنفة استئنافاً بيانياً , كأن سائل سأل: ماذا صنعوا حين تحققوا أنهم معذبون؟ فأجيب بأنهم لو أنهم كانوا يهتدون سبيلاً لسلكوه ولكنهم لا سبيل لهم إلى النجاة. وعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون (لو) حرف شرط وجوابها محذوفاً دل عليه حذف مفعول (يهتدون) أي يهتدون خلاصاً أو سبيلاً. والتقدير: لتخلصوا منه. وعلى الوجوه الثلاثة ففعل (كانوا) مزيد في الكلام لتوكيد خبر (أنّ) أي لو أنهم يهتدون اهتداء متمكناً من نفوسهم، وفي ذلك إيماء أنهم حينئذ لا قرارة لنفوسهم. وصيغة المضارع في (يهتدون) دالة على التجدد فالاهتداء منقطع عنهم وهو كناية عن عدم الاهتداء من أصله. الرابع: أن تكون (لو) للتمني المستعمل في التحسر عليهم , والمراد: اهتداؤهم في حياتهم الدنيا كيلا يقعوا في هذا العذاب، وفعل (كانوا) حينئذ في موقعه الدال على الاتصاف بالخبر في الماضي، وصيغة المضارع في (يهتدون) لقصد تجدد الهدى المتحسر على فواته عنهم فإن الهدى لا ينفع صاحبه إلا إذا استمر إلى آخر حياته. الخامس: أن يكون المراد بالعذاب: عذاب الدنيا، والكلام على حذف

مضاف تقديره: ورأوا آثار العذاب، والرؤية بصرية، أي وهم رأوا العذاب في حياتهم أي رأوا آثار عذاب الأمم الذين كذبوا الرسل وهذا في معنى قوله تعالى في سورة إبراهيم: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} (¬1) وجملة: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} شرط جوابه محذوف دل عليه: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أي بالاتعاظ وبالاستدلال بحلول العذاب في الدنيا على أن وراءه عذاباً أعظم منه لاهتدوا فأقلعوا عن الشرك وصدقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا لأنه يفيد معنى زائداً على ما أفادته جملة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} فهذه عدة معان يفيدها لفظ الآية، وكلها مقصودة، فالآية من جوامع الكلم (¬2). ومما تقدم نلمس اهتمام ابن عاشور بقاعدة المبحث وذلك من خلال احتماله لكل ما سبق من المعاني في الآية. ورجّح الطبري، وابن عطية، والقرطبي، وابن كثير، والشوكاني، والألوسي، والقاسمي أن المراد بقوله تعالى {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} أي: في الآخرة , عاينوه فودوا حين رأو لعذاب لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين (¬3). ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية (45). (¬2) التحرير والتنوير، ج 10، ص 160 - 161. (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 20، ص 115.، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 4، ص 295، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي، ج 13، ص 315.، وتفسير القرآن العظيم / ابن كثير، ج 10، ص 478، وفتح القدير / الشوكاني، ج 4، ص 182.، وروح المعاني / الألوسي، ج 10، ص 308، ومحاسن التأويل / القاسمي، ج 7، ص 553.

وترجيحهم هذا بناءً على أن (لو) حرف شرط , وجوابها محذوف دل عليه حذف مفعول (يهتدون) أي يهتدون خلاصاً أو سبيلاً. أما الرازي فلا يرى أن جواب لو محذوف، ولذلك احتمل وجوهاً أخرى، وسيأتي قوله. ويمكنني إجمال تلك الأقوال التي ذكرها ابن عاشور على قولين يظهران ببيان حجة كل منهما: حجة من قال: إن الرؤية يوم القيامة حين عاينوا العذاب: استدل أصحاب هذا القول بما جاء في القرآن موضحا ما جاء في هذه الآية: قال ابن كثير وهذا كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} (¬1). كما استدلوا على ذلك أيضا بما جاء في اللغة قال الزجاج: "جواب لو محذوف؛ والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم الهدى، ولما صاروا إلى العذاب _أي يوم القيامة - " (¬2). ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية (52). (¬2) معاني القرآن / الزجاج، ج 4، ص 151.

وابن عاشور فيما سبق احتمل أن يكون جواب لو محذوف , وبنى على ذلك وجوها تقدمت. واحتمل الرازي وجوهاً أخرى لكونه لا يرى أن جواب لو محذوف فيقول: " وعندي أن الجواب غير محذوف , وفي تقريره وجوه: أحدها: أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} فههنا يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار , ويصيرون بحيث لا يبصرون شيئاً فقال تعالى: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}.شيئاً أما لما صاروا من شدة الخوف بحيث لا يبصرون شيئاً لا جرم ما رأوا العذاب. وثانيها: أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء , وهي الأصنام أنهم لا يجيبون الذين دعوهم ,قال في حقهم {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين ولكنها ليست كذلك فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل قوله: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} ضمير لا يليق إلا بالعقلاء فكيف يصح عوده إلى الأصنام؟ قلنا هذا كقوله: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} وإنما ورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا. وثالثها: أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب , أي والكفار علموا حقية هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون , وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك النظم من الآية

الأمر " (¬1). وردّ أبو حيان ما اختاره الرازي بقوله: " وقد أثنى على هذا الذي اختاره، وليس بشيء، لأنه بناه على أن الضمير في رأوا عائد على المدعوين، قال: وهم الأصنام. والظاهر أنه عائد على الداعين، كقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (¬2) ولأن حمل مهتدين على الأحياء في غاية البعد، لأن ما قدره هو جواب، ولا يشعر به أنه جواب، إذ صار التقدير عنده: لو كانوا من الأحياء رأوا العذاب، لكنها ليست من الأحياء، فلا ترى العذاب ألا ترى إلى قوله: فلا جرم ما رأت العذاب؟ (¬3). حجة من قال: إن المراد بالرؤية أي في الدنيا: احتج هؤلاء باللغة حيث قالوا: إن الكلام على حذف مضاف تقديره: ورأوا آثار العذاب في حياتهم. قال ابن عاشور محتملاً هذا القول أيضاً: " المراد بالعذاب عذاب الدنيا، والكلام على حذف مضاف تقديره: ورأوا آثار العذاب، والرؤية بصرية، أي وهم رأوا العذاب في حياتهم أي رأوا آثار عذاب الأمم الذين كذبوا الرسل وهذا في معنى قوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ¬

(¬1) التفسير الكبير / الرازي، ج 9، ص 9. (¬2) سورة البقرة، الآية (166). (¬3) البحر المحيط / أبو حيان، ج 7، ص 124.

وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} (¬1)؛ وجملة {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}. شرط جوابه محذوف دل عليه {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}. أي: بالاتعاظ وبالاستدلال بحلول العذاب في الدنيا على أن وراءه عذاباً أعظم منه لاهتدوا, فأقلعوا عن الشرك , وصدقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا لأنه يفيد معنى زائداً على ما أفادته جملة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} (¬2). القول الراجح إن المراد بالرؤية رؤية العذاب يوم القيامة ومما يرجح هذا القول ويقويه القاعدة الترجيحية (القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره) وقد جاء في سورة الكهف ما يدل على أن رؤية العذاب يوم القيامة كما تقدم , قال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} (¬3). كما يؤكد هذا القول أيضاً القاعدة الترجيحية القائلة: (القول الذي يدل ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية (45). (¬2) النكت والعيون / الماوردي، ج 1، ص 253. (¬3) سورة الكهف، الآية (52 - 53).

عليه السياق أولى من غيره) وسياق الآيات قبلها في الحديث عن حالهم يوم القيامة. قال تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ..... } الآية (¬1). ¬

(¬1) سورة القصص، الآية (61 - 64). ونظائر هذه الأمثلة كثير جداً في تفسيره منها: 1 - ... ما جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 23) وفيه قول ابن عاشور: " وعندي أن الاحتمالات التي احتملها قوله: (من مثله) كلها مرادة " (التحرير والتنوير، ج 1، ص 338). 2 - ... ماجاء في تفسير قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (1) (يوسف: 18)، قال ابن عاشور: " وقوله: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} عطف على جملة {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} فتكون محتملة للمعنيين المذكورين من إنشاء الاستعانة أو الإخبار بحصول استعانته بالله على تحمل الصبر على ذلك، أو أراد الاستعانة بالله ليوسف عليه السّلام على الخلاص مما أحاط به (التحرير والتنوير، ج 6، ص 240). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

= 3 - ... ما جاء في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} (الأنبياء: 26 - 30)، وفيها ذكر ابن عاشور معانٍ عدة في معنى رتقاً منها: " أن يراد بالرتق الاتصال أي كانت السموات والأرض كتلة واحدة، ويحتمل أن يراد بالتق العدم والفتق الإيجاد، ويحتمل أن يراد بالتق الظلمة، وبالفتق النور، وغيرها ... إلى أن قال: " والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من اعتبار معنى عام يجمعها، فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم كل الناس وعلى عبرة خاصة بأهل النظر والعلم. (التحرير والتنوير، ج 8، ص 56). 4 - ... ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا} (الصافات: 28) احتمل ابن عاشور عدة معاني لقوله (عَنِ الْيَمِينِ) منها: أي تأتوننا من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم وتُظهرون فيها أنها جهة الرشد ومما تحتمله الآية أن يريدوا: إنكم كنتم تأتوننا، أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليُمْن (التحرير والتنوير، ج 11، ص 105). 5 - ... ما جاء في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصف: 6)، قال ابن عاشور: "ونحن نجري على أصلنا في حمل ألفاظ القرآن على جميع المعاني التي يسمح بها الاستعمال الفصيح كما في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير، فنحمل الاسم في قوله: (اسمه أحمد) على ما يجمع بين هذه الاستعمالات الثلاثة، أي مسماه أحمد، وِذكْره أحْمد، وعَلَمه أحمَد " (التحرير والتنوير، ج 13، ص 184).

الفصل السابع تقويم منهج ابن عاشور في الترجيح

الفصل السابع تقويم منهج ابن عاشور في الترجيح وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: معالم منهج ابن عاشور في الترجيح ومميزاته المبحث الثاني: المآخذ على منهج ابن عاشور في الترجيح. المبحث الثالث: أثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها.

المبحث الأول معالم منهج ابن عاشور في الترجيح ومميزاته

المبحث الأول معالم منهج ابن عاشور في الترجيح ومميزاته وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: صيغ الترجيح عند ابن عاشور. المطلب الثاني: منهج ابن عاشور في استعمال وجوه الترجيح المطلب الثالث: مميزات الترجيح عند ابن عاشور.

المطلب الأول صيغ الترجيح عند ابن عاشور

اعتنى ابن عاشور بتحقيق الأقوال وترجيحها على الأصول الصحيحة سواءً في اللغة، أو الفقه، أو السنة، والقراءات، وغير ذلك. مما يدل على قوته العلمية وتمكنه من أصول التفسير، وقد نهج في ترجيحه منهجاً علمياً واضحاً متمثلا في ثلاثة مطالب: المطلب الأول صيغ الترجيح عند ابن عاشور ويشتمل على: 1 - الترجيح بصيغ التفضيل، ومنها (أظهر، وأشهر، وأرجح، وأصح .. ). 2 - الترجيح بألفاظ التضعيف أو البعد والبطلان بأحد الألفاظ لأحد الأقوال: ضعيف - بعيد - باطل فيعتبر ترجيحاً للقول الآخر. 3 - الترجيح بذكر القول الراجح في أول الأقوال وتقديمه. 4 - الترجيح بذكر القول الراجح فقط دون ذكر بقية الأقوال فيعتبراً اختياراً وترجيحاً لهذا القول. وإليك التفصيل: • الترجيح بصيغ التفضيل، ومنها: (أظهر، وأشهر، وأرجح، وأصح .. ): أكثر ابن عاشور من الترجيح بصيغ أفعل التفضيل في تفسيره، ومن الألفاظ التي استعملها ابن عاشور مرتبة حسب كثرة استعمالها:

أولاً: الترجيح بعبارة (أظهر): استخدم ابن عاشور عبارة أظهر في الترجيح بين الأقوال، وقد أكثر من استخدامها في أغراض متعددة منها: 1 - في بيان القول الراجح الذي يقتضيه سياق الآية وألفاظها، ومن ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} (¬1) قال: " والمراد من الأبناء , قيل: أطفال اليهود , وقيل: أريد به الرجال بدليل مقابلته بالنساء , وهذا الوجه أظهر وأوفق بأحوال الأمم، إذ المظنون أن المحق والاستئصال إنما يقصد به الكبار، ولأنه على الوجه الأول تكون الآية سكتت عن الرجال إلا أن يقال: إنهم كانوا يذبحون الصغار قطعاً للنسل ويسْبون الأمهات استعباداً لهن ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدريج " (¬2). 2 - الترجيح بها عند تقديم معنى على معنى آخر، ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (¬3) قال: " والظاهر أن خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (49). (¬2) التحرير والتنوير، ج 1 ص 492. (¬3) سورة البقرة، الآية (30).

الروح فيه , أو قبل النفخ، والأول أظهر " (¬1). 3 - الترجيح بها في الناحية الإعرابية، ومن ذلك قوله عند قوله تتعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (¬2) قال ابن عاشور: " وجملة: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} تحتمل الحال والاستئناف والأول أظهر (¬3) 4 - الترجيح بأظهر فيما يتعلق بالناحية البلاغية، ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4) قال: " {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً؛ لأن السامع إذا سمع ما تقدم من صفات الثناء عليهم ترقب فائدة تلك الأوصاف، واسم الإشارة هنا حل محل ذكر ضميرهم والإشارة أحسن منه وقعاً؛ لأنها تتضمن جميع أوصافهم المتقدمة فقد حققه التفتزاني في باب الفصل والوصل من الشرح المطول أن الاستئناف بذكر اسم الإشارة أبلغ من الاستئناف الذي يكون بإعادة اسم المستأنف عنه. وهذا التقدير أظهر معنى وأنسب بلاغة وأسعد باستعمال اسم ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 400. (¬2) سورة البقرة، الآية (71). (¬3) التحرير والتنوير، ج 1، ص 557. (¬4) سورة البقرة، الآية (5).

الإشارة في مثل هاته المواقع " (¬1). ثانياً: الترجيح بعبارة (أشهر): استخدم ابن عاشور هذه العبارة في مواضع متعددة من تفسيره، ومن أبرزها: 1 - ترجيح قراءة على أخرى ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (¬2) قال: " وقرأ حفص عن عاصم {وَمَا أَنْسَانِيهُ} بضم هاء الضمير على أصل الضمير وهي لغة، والكسر أشهر لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف" (¬3) ... . 2 - في ترجيح معنى على آخر فيما كان لفظاً يحتمل عدة معاني فإنه يرجح بصيغة التفضيل أشهر في الغالب , ومن ذلك قوله عند قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬4): " والقروء جمع قرء بفتح القاف وضمها وهو مشترك للحيض والطهر. وقال أبو عبيدة: إنه موضوع للانتقال من الطهر إلى الحيض، أو من الحيض إلى الطهر، فلذلك إذا أطلق على الطهر أو على الحيض كان إطلاقاً على أحد طرفيه، وتبعه الراغب، ولعلهما أرادا بذلك وجه إطلاقه على الضدين. وأحسب أن أشهر معاني القرء عند ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 242. (¬2) سورة الكهف، الآية (63). (¬3) التحرير والتنوير، ج 7، ص 367. (¬4) سورة البقرة، الآية (228).

العرب هو الطهر " (¬1). 3 - في ترجيح سبب نزول على آخر، ومن ذلك ما جاء عنه في تفسيره قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬2) قال: " وقد تضافرت الروايات عند المفسرين عن أم سلمة، وابن عباس، والحارث بن ضرارة الخزاعي أن هذه الآية نزلت عن سبب قضية حدثت , ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتي بصدقاتهم فلمّا بلغهم مجيئه، أو لمّا استبطأُوا مجيئه، فإنهم خرجوا لتلقيه أو خرجوا ليبلغوا صدقاتهم بأنفسهم وعَليهم السلاح، وأن الوليد بلغه أنهم خرجوا إليه بتلك الحالة وهي حالة غير مألوفة في تلقي المصدقين وحدثته نفسه أنهم يريدون قتله، أو لما رآهم مقبلين كذلك (على اختلاف الروايات) خاف أن يكونوا أرادوا قتله إذ كانت بينه وبينهم شحناء من زمن الجاهلية فولّى راجعاً إلى المدينة .... إلى أن قال: "وقد روي أن سبب نزول هذه الآية قضيتان أخريان، وهذا أشهر " (¬3). . ثالثاً: الترجيح بعبارة (أرجح): يستخدم ابن عاشور عبارة (أرجح) لأغراض عدة منها: 1 - الترجيح بعبارة أرجح إذا ذكر دليل القول الراجح سواء من كتاب ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 390. (¬2) سورة الحجرات، الآية (6). (¬3) التحرير والتنوير، ج 12، ص 228.

أو سنة أو غير ذلك ولم يذكر دليل القول المرجوح، مما يجعل للقول الراجح ميزة ترجحه وتؤيده، ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) قال: " وأما جلد الميتة فله شبه من جهة ظاهره كشبه الشعر والصوف، ومن جهة باطنه كشبه اللحم، ولتعارض هذين الشبهين اختلف الفقهاء في الانتفاع بجلد الميتة إذا دُبغ , فقال أحمد بن حنبل: لا يطهر جلد الميتة بالدبغ، وقال أبو حنيفة والشافعي: يطهر بالدبغ ما عدا جلد الخنزير لأنه محرم العين، ونسب هذا إلى الزهري، وألحق الشافعي جلد الكلب بجلد الخنزير، وقال مالك يطْهر ظاهر الجلد بالدبغ لأنه يصير صلباً لا يداخله ما يجاوره، وأما باطنه فلا يطْهر بالدبغ , ولذلك قال: يجوز استعمال جلد الميتة المدبوغ في غير وضع الماء فيه، ومنع أن يصلي به أو عليه. وقول أبي حنيفة أرجح للحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى شاة ميتة كانت لميمونة أم المؤمنين فقال «هلاَّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» (¬2) " (¬3). 2 - ترجيح قراءة على أخرى، ومثاله عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (173). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ، ج 1، ص 276، ح- 363. (¬3) التحرير والتنوير، ج 2، ص 116.

آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (¬1). قال: " و (الطير) منصوب بالعطف على المنادَى لأن المعطوف المعرَّف على المنادى يجوز نصبُه ورفعه، والنصب أرجح " (¬2). . 3 - ترجيح حكم على آخر، ومثاله عند تفسير قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} (¬3) حيث ساق ابن عاشور خلاف الفقهاء فيمن عقد عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمّ كفّ عنها، وهل يجوز لها أن تتزوج أم تثبت لها حرمة التزوج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تتزوج، وفيه رجّح ابن عاشور مذهب الإمام مالك فقال: " تثبت حرمة التزوج بهن حفظاً لحرمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل لا يثبت لهن ذلك والأول أرجح " (¬4). 4 - في ترجيح ناحية إعرابية على أخرى حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً ¬

(¬1) سورة سبأ، الآية (10). (¬2) التحرير والتنوير، ج 11، ص 156. (¬3) سورة الأحزاب، الآية (6). (¬4) التحرير والتنوير، ج 10، ص 269.

وَسَلَامًا} (¬1): " واسم الإشارة هو الخبر عن قوله: {وعباد الرحمن} (¬2) كما تقدم على أرجح الوجهين (¬3). 5 - الترجيح لكونه الأكثر والغالب في القرآن حيث قال عند تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (¬4): " وقد اختلف في المراد من هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم، فقيل: هم من بني إسرائيل خالفوا على نبي لهم في دعوته إياهم للجهاد، ففارقوا وطنهم فراراً من الجهاد، وهذا الأظهر، فتكون القصة تمثيلاً لحال أهل الجبن في القتال، بحال الذين خرجوا من ديارهم، بجامع الجبن، وهذا أرجح الوجوه لأن أكثر أمثال القرآن أن تكون بأحوال الأمم الشهيرة وبخاصة بني إسرائيل " (¬5). . 6 - الترجيح بـ " أرجح " لدلالة السياق، ومثاله عند تفسيره لقوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية (75). (¬2) سورة الفرقان، الآية (63). (¬3) التحرير والتنوير، ج 9، ص 84. (¬4) سورة البقرة، الآية (243). (¬5) التحرير والتنوير، ج 2، ص 478.

ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (¬1) قال: " وجملة (لا يكفون) مضاف إليها (حينَ). وضمير (يكفون) فيه وجهان: أحدهما بدا لي أن يكون الضمير عائداً إلى ملائكة العذاب فمعاد الضمير معلوم من المقام، ونظائر هذا المعاد كثيرة في القرآن وكلام العرب. ومعنى الكف على هذا الوجه: الإمساك وهو حقيقته، أي حين لا يمسك الملائكة اللفح بالنار عن وجوه المشركين. وتكون هذه الآية في معنى قوله تعالى في سورة: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (¬2) والوجه الثاني: أن يكون ضمير (يكُفُّون) عائداً إلى الذين كفروا، والكَفّ بمعنى الدّرْءِ والستر مجازاً بعلاقة اللزوم، أي: حين لا يستطيعون أن يدفعوا النار عن وجوههم بأيديهم ولا عن ظهورهم , أي: حين تحيط بهم النار مواجهَةً ومدابرَةً. وذِكر الظهور بعد ذكر الوجوه عن هذا الاحتمال احتراس لدفع توهم أنهم قد يكفّونها عن ظهورهم إن لم تشتغل أيديهم بكفها عن وجوههم وهذا الوجه هو الذي اقتصر عليه جميعُ من لدينا كُتبهم من المفسرين. والوجه الأول أرجح معنى، لأنه المناسب مناسبة تامة للكافرين الحاضرين المقرعين ولتكذيبهم بالوعيد بالهلاك في قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية (39). (¬2) سورة الأنفال، الآية (50).

صَادِقِينَ} (¬1)، ولقوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} (¬2) " (¬3). رابعاً: الترجيح بعبارة (أصح): استخدم ابن عاشور عبارة أصح في الترجيح وإن كان لم يكثر منها، ولكنه استخدمها في أغراض متنوعة: 1 - لترجيح سبب نزول آية على سبب آخر، ومن ذلك قوله عند تفسيره قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬4): " روى الطّبري عن قتادة قال «كان المسلمون يسبّون أوثان الكفّار فيردّون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستَسبّوا لربّهم». وهذا أصحّ ما روي في سبب نزول هذه الآية وأوفَقُه بنظم الآية " (¬5). 2 - في ترجيح حكم على حكم آخر، ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬6) قال: " وأما ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية (38). (¬2) سورة الأنبياء، (37). (¬3) التحرير والتنوير، ج 8، ص 70 - 71. (¬4) سورة الأنعام، الآية (108). (¬5) التحرير والتنوير، ج 4، ص 428. (¬6) سورة البقرة، الآية (227).

الغاية فاختلفوا أيضاً في الحاصل بعد مضي الأجل، فقال مالك والشافعي: إن رفعته امرأته بعد ذلك يوقف لدى الحاكم، فإما أن يفئ أو يطلق بنفسه، أو يطلق الحاكم عليه، وقال أبو حنيفة: إن مضت المدة ولم يفيءْ فقد بانت منه، واتفق الجميع على أن غير القادر يكفي أن يفيء بالعزم، والنية، وبالتصريح لدى الحاكم، كالمريض والمسجون والمسافر. واحتج المالكية بأن الله تعالى قال: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فدل على أن هنالك مسموعاً؛ لأن وصف الله بالسميع معناه العليم بالمسموعات، على قول المحققين من المتكلمين، لا سيما وقد قرن بعليم، فلم يبق مجال لاحتمال قول القائلين من المتكلمين بأن السميع مرادف للعليم وليس المسموع إلاّ لفظ المولي، أو لفظ الحاكم، دون البينونة الاعتبارية. وقوله (عليم) يرجع للنية والقصد. وقال الحنفية (سميع) لإيلائه، الذي صار طلاقاً بمضي أجله، كأنهم يريدون أن صيغة الإيلاء جعلها الشرع سبب طلاق، بشرط مضي الأمد (عليم) بنية العازم على ترك الفَيئة. وقول المالكية أصح؛ لأن قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} جُعل مفرعاً عن عزم الطلاق لا عن أصل الإيلاء؛ ولأن تحديد الآجال وتنهيتها موكول للحكام" (¬1). 3 - استخدم هذه العبارة للترجيح إذا كان دليل القول الراجح صحيحاً , سواءً كان من كتاب أو سنة، ومن ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 387.

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1): " وقد اختلف السلف في الإسراء أكان بجسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى بيت المقدس أم كان بروحه في رؤيا هي مشاهدة رُوحانية كاملة ورؤيا الأنبياء حق. والجمهور قالوا: هو إسراء بالجسد في اليقظة، وقالت عائشة ومعاوية والحسن البصري وابن إسحاق رضي الله عنهم: إنه إسراء بروحه في المنام , ورؤيا الأنبياء وحي. واستدل الجمهور بأن الامتنان في الآية وتكذيبَ قريش بذلك دليلان على أنه ما كان الإخبار به إلا على أنه بالجسد. واتفق الجميع على أن قريشاً استوصفوا من النبي علامات في بيت المقدس وفي طريقه فوصفها لهم كما هي، ووصف لهم عيراً لقريش قافلة في طريق معين ويوم معين فوجدوه كما وصف لهم. ففي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بينما أنا في المسجد الحرام بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل. . . " إلى آخر الحديث. وهذا أصح وأوضح مما روي في حديث آخر أن الإسراء كان من بيته أو كان من بيت أم هاني بنت أبي طالب أو من شعب أبي طالب " (¬2). a. الترجيح بألفاظ التضعيف أو البطلان أو البعد بأحد الألفاظ: ضعيف - بعيد - باطل يعتبر ترجيحاً للقول آخر: ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية (1). (¬2) التحرير والتنوير، ج 7، ص 23.

ومن ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)} (¬1) حيث ذكر أن قول عكرمة في أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان قول ضعيف، ورجَّح القول بأنها في العشر الأواخر من رمضان، ومن قوله: " وتنكير (ليلة) للتعظيم، ووصفها بـ (مباركة) تنويه بها وتشويق لمعرفتها. فهذه الليلة هي الليلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - في الغار من جَبل حِرَاءٍ في رمضان قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (¬2). والليلة التي ابتدئ نزول القرآن فيها هي ليلة القدر, قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬3)، والأصح أنها: في العشر الأواخر من رمضان , وأنها في ليلة الوتر إلى أن قال: وعن عكرمة: أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان هو قول ضعيف " (¬4). وكذلك ما جاء عنه عند تفسيره لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ ¬

(¬1) سورة الدخان، الآية (5). (¬2) سورة البقرة، الآية (185). (¬3) سورة القدر، الآية (4) (¬4) التحرير والتنوير، ج 12، ص 277.

وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1) حيث ذكر أن من الناس من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى قُصد إخفاؤها ليحافظ الناس على جميع الصلوات، وردّ هذا القول بقوله: " هذا قول باطل؛ لأن الله تعالى عرَّفها باللام ووصفها فكيف يكون مجموع هذين المعرفين غير مفهوم. إلى أن يقول: "وأصح ما في هذا الخلاف: ما جاء من جهة الأثر وذلك قولان: أحدهما: إنها الصبح، هذا قول جمهور فقهاء المدينة، وبه قال مالك، وهو عن الشافعي، لأن الشائع عندهم أنها الصبح، وهم أعلم الناس بما يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو قرينة حال. القول الثاني: إنها العصر، وهذا قول جمهور من أهل الحديث، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في رواية، وحجتهم ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يومَ الخندق حين نسي أن يصلي العصر من شدة الشغل في حفر الخندق، حتى غربت الشمس فقال: «شغلونا أي المشركون عن الصلاة الوسطى، أضرم الله قبورهم ناراً». والأصح من هذين القولين أولهما لما في «الموطأ» و «الصحيحين» أن عائشة وحفصة أمَرَتا كاتبي مصحفيهما أن يكتبا قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين) وأسندت عائشة ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تسنده حفصة، فإذا بطل أن تكون الوسطى هي العصر، بحكم عطفها على الوسطى تعين كونها الصبح، هذا من جهة الأثر " (¬2). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (238). (¬2) التحرير والتنوير، ج 2، ص 468.

b. الترجيح بذكر القول الراجح في الأول وتقديمه: درج ابن عاشور على ذكر القول الراجح في الأول وتقديمه على بقية الأقوال، ومن أمثلة تقديمه للقول الراجح ما جاء عنه في تفسيره لقوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). حيث نصّ على أن هذا من كلام امرأة العزيز حيث يقول " ظاهر ترتيب الكلام أن هذا من كلام امرأة العزيز، مضت في بقية إقرارها فقالت: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}. وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (¬2) من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب العظيم ادعاءٌ بأن نفسها بريئة براءة عامة فقالت: : {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}، أي ما أبرئ نفسي من محاولة هذا الإثم لأن النفس أمّارة بالسوء وقد أمرتني بالسوء ولكنه لم يقع. - ثم ذكر ابن عاشور القول الآخر بصيغة التمريض حيث يقول: " وقيل هذا الكلام: كلام يوسف عليه السلام متصل بقوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (¬3) (¬4). ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية (53). (¬2) سورة يوسف، الآية (52). (¬3) سورة يوسف، الآية (50). (¬4) التحرير والتنوير، ج 7، ص 5.

o الترجيح بذكر القول الراجح فقط دون ذكر بقية الأقوال فيعتبراً اختياراً وترجيحاً لهذا القول: اقتصر ابن عاشور أحياناً على القول الراجح فقط دون أن يعرض لبقية الأقوال، ومثال ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} (¬1) حيث قال ابن عاشور: " ارتد: رجع، وهو افتعال مطاوع ردّه، أي رد الله إليه قوة بصره كرامة له وليوسف عليهما السلام وخارق للعادة (¬2). بينما ذكر بعض المفسرين قولاً آخر هو: أن المعنى ارتد بصيراً - أي عليماً - بخبر يوسف (¬3)، وهذا القول لم يذكره ابن عاشور لأنه لا يراه. ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية (96). (¬2) التحرير والتنوير، ج 7، ص 53. (¬3) انظر النكت والعيون / الماوردي، ج 3، ص 78.

المطلب الثاني منهج ابن عاشور في استعمال وجوه الترجيح

المطلب الثاني منهج ابن عاشور في استعمال وجوه الترجيح ويشتمل على: 1 - الترجيح بدلالة النص القرآني وهو موضوع البحث، ويشتمل: أولاً: الترجيح بدلالة النص القرآني ذاته: وفيه عدة مباحث معززة بالأمثلة - راجع الفصل الثاني من هذا البحث - ثانياً: الترجيح بدلالة النسخ في الآية: وفيه عدة مباحث معززة بالأمثلة - راجع الفصل الثالث من هذا البحث - ثالثاً: الترجيح بدلالة القراءة القرآنية، وفيه عدّة مباحث معززة بالأمثلة. راجع الفصل الرابع. رابعاً: الترجيح بدلالة رسم المصحف، وفيه عدّة مباحث. راجع الفصل الخامس. خامساً: الترجيح بدلالة السياق القرآني، وفيه عدّة مباحث. راجع الفصل الخامس. سادساً: الترجيح بدلالة المفردة القرآنية، وفيه عدّة مباحث. راجع الفصل السادس من هذا البحث. 2 - الترجيح بدلالة الحديث النبوي، وفيه: أولاً: الترجيح بدلالة حديث نبوي في تفسير الآية.

ثانياً: الترجيح بدلالة حديث نبوي في معنى أحد الأقوال. ثالثاً: الترجيح بدلالة أسباب النزول. رابعاً: الترجيح بدلالة إجماع الحجة من أهل التأويل. خامساً: الترجيح بدلالة عصمة النبوة. ويمكنني توضيح ذلك من خلال بعض الأمثلة التطبيقية: أولاً: الترجيح بدلالة حديث نبوي في تفسير الآية: اعتنى ابن عاشور بالترجيح بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أمثلة ذلك قوله عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬1): " والظّلم: الاعتداء على حقّ صاحب حقّ، والمراد به هنا: إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية وفي العبادة، قال تعالى: {إنّ الشِّرك لظلم عظيم} (¬2) لأنَّه أكبر الاعتداء، إذ هو اعتداء على المستحقّ العظيم، لأنّ من حقّه أن يفرد بالعبادة اعتقاداً وعملاً وقولاً لأنّ ذلك حقّه على مخلوقاته. ففي الحديث " حقّ العباد على الله أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً " وقد ورد تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك. في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: " لمّا نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} شَقّ ذلك على المسلمين وقالوا: أيّنا لم ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (82). (¬2) سورة لقمان، الآية (13).

يظلم نفسه " فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ليس كما تَظُنّون إنَّما هو كما قال لقمان لابنه: {إنّ الشِّرك لظلم عظيم} " (¬1). حيث رجّح ابن عاشور في هذه الآية أن الظلم هو الشرك بدلالة الحديث النبوي. ثانياً: الترجيح بدلالة حديث نبوي في معنى أحد الأقوال: ومنه ما ذكره عند قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} (¬2). قال ابن عاشور: " و (قد) مفيد للتحقيق لأنهم لنفاقهم ومَرض قلوبهم يشكّون في لازم هذا الخبر وهو إنباء الله رسوله عليه الصلاة والسلام بهم، أو لأنهم لجهلهم الناشئ عن الكفر يظنون أن الله لا يعلم خفايا القلوب , وذلك ليس بعجيب في عقائد أهل الكفر , ففي «صحيح البخاري» عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: «اجتمع عند البيت قُرشيان وثقفيّ أو ثقفيان وقرشي كثيرةٌ شُحمُ بطونهم قليلةٌ فِقهُ قلوبهم، فقال أحدهم: أتُرَوْنَ أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 332. (¬2) سورة الأحزاب، الآية (18)

كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} (¬1) فللتوكيد بحرف التحقيق موقع " (¬2). فأنت تراه هنا لم يورد هذا الحديث في بيان معنى الآية نفسها، وإنما أراد أن يدلل لما ذهب إليه من معناها. ثالثاً: الترجيح بدلالة أسباب النزول: عدَّ ابن عاشور أسباب النزول من وجوه الترجيح حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} (¬3). : " وقوله: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} عطف على {شَعَائِرَ اللَّهِ}: أي ولا تحلّوا قاصدي البيت الحرام , وهم الحجّاج، فالمراد قاصدوه لحجّه، لأنّ البيت لا يقصد إلاّ للحجّ، ولذلك لم يقل: ولا آمِّين مكة، لأنّ من قصد مكة قد يقصدها لتجر ونحوه، لأنّ من جملة حُرمَة البيت حرمة قاصده. ولا شك أنّ المراد آمِّين البيت من المشركين؛ لأنّ آمِّين البيت من المؤمنين محرّم أذاهم في حالة قصد البيت وغيرها من الأحوال. وقد روي ما يؤيّد هذا في أسباب النزول: ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية (22). (¬2) التحرير والتنوير، ج 10، ص 293. (¬3) سورة المائدة، الآية (2).

وهو أن خيلاً من بكر بن وائل وردوا المدينة وقائدهم شريح بن ضُبَيْعَة الملقّب بالحُطَم (بوزن زُفر)، والمكنّى أيضاً بابن هند. نسبة إلى أمّه هند بنت حسّان بن عَمْرو بنِ مَرْثَد، وكان الحُطَم هذا من بكر بن وائل، من نزلاء اليمامة، فترك خيلَه خارج المدينة ودخل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إلام تدعو» فقال رسول الله: (إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) فقال: حَسَن ما تدعو إليه وسأنظُرُ ولعلّي أن أسْلِم وأرى في أمرك غِلظة ولي مِن وَرائي مَنْ لا أقطَع أمراً دونهم وخرج فمرّ بسَرْح المدينة فاستاق إبلاً كثيرة ولحقه المسلمون لمَّا أُعلموا به فلم يلحقوه، ثم أقبل الحُطم في العام القابل وهو عام القَضية فسمعوا تلبيَة حُجَّاج اليمامة فقالوا: هذا الحُطَم وأصحابه ومعهم هَدْي هو ممَّا نهبه من إبل المسلمين، فاستأذنوا رسول الله في نَهبهم، فنزلت الآية في النهي عن ذلك , فهي حكم عامّ نزل بعد تلك القضية، وكان النهي عن التعرّض لبُدْن الحُطم مشمولاً لما اشتملت عليه هذه الآية" (¬1). رابعاً: الترجيح بإجماع الحجة من أهل التأويل: رجّح ابن عاشور بعض الأقوال بناءً على الإجماع ومن ذلك ما ذكره عند تفسير قوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 4، ص 83.

تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1). حيث رجّح أن الآية منسوخة بالإجماع - الإجماع المستند إلى الدليل - فقال: " وعلى تفسير الطاقة بالقدرة , فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع , قالوا في حمل الآية عليه: إنها حينئذٍ تضمنت حكماً كان فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فُرِض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬2) ونقل ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنه - وفي البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنه - وسلَمةَ بن الأكْوَع - رضي الله عنه - نسختْها آية {شَهْرُ رَمَضَانَ} (¬3) ثم أخرج عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - نَزَل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكيناً تركَ الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسَختها: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬4)، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر " (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (184). (¬2) سورة البقرة، الآية (185). (¬3) سورة البقرة، الآية (185). (¬4) سورة البقرة، الآية (184). (¬5) التحرير والتنوير، ج 2، ص 166.

خامساً: الترجيح بدلالة عصمة النبوة. رجّح ابن عاشور بعض الأقوال بناءً على عصمة النبوة، ومن ذلك ماجاء عنه في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (¬1) قال: " وبذلك يظهر أن يوسف عليه السّلام لم يخالطه همّ بامرأة العزيز؛ لأن الله عصمه من الهمّ بالمعصية بما أراه من البرهان " (¬2). وكذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا‍} (¬3) حيث قال فيها: "والفتْن والفتون: معاملةُ يلحق منها ضُرّ واضطراب النفس في أنواع من المعاملة يعسر دفعها، من تغلب على القوة وعلى الفِكر، وتقدم في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (¬4). وعدي " يفتنونك " بحرف (عَن) لتضمينه معنى فعللٍ كان الفَتن لأجله، وهو ما فيه معنى (يصرفونك).والذي أوحي إليه هو القرآن. هذا هو الوجه في تفسير الآية بما تعطيه معاني تراكيبها مع ملاحظة ما ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية (24). (¬2) التحرير والتنوير، ج 6، ص 253. (¬3) سورة الإسراء، الآية (73). (¬4) سورة البقرة، الآية (191).

تقتضيه أدلة عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أن تتطرق إليه خواطر إجابة المشركين لما يطمعون. وللمفسرين بضعة محامل أخرى لهذه الآية استقصاها القرطبي، فمنها ما ليس له حظ من القبول لوهن سنده وعدم انطباقه على معاني الآية، ومنها ما هو ضعيف السند وتتحمله الآية بتكلف " (¬1). 3 - الترجيح بدلالة اللغة: برع ابن عاشور في اللغة العربية، وتعرّض في مقدمة تفسيره للعلوم اللازمة التي يستمد منها علم التفسير، ذكر في أولها علم اللغة العربية ومعرفة قواعدها , وقال أيضاً: " إن القرآن كلام عربي , فكانت قواعد العربية طريقاً لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم، لمن ليس بعربي السليقة، ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي وهي: متن اللغة والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان " (¬2). وقد اعتمد ابن عاشور الترجيح بدلالة اللغة من عدة نواح منها: أولا: الترجيح باعتماد المستفيض والمعروف من كلام العرب: ومن ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} حيث قال: " وليس قوله تعالى: {بِالسِّنِينَ} دليلاً على أنها طالت أعواماً؛ لأن السنين هنا جمع سنة ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 7، ص 171 - 172. (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 18.

بمعنى الجدْب لا بمعنى الزمن المقدر من الدهر , فالسنة في كلام العرب إذا عُرِّفت باللام يراد بها سنة الجدب، والقحط وهي حينئذ علم جنس بالغلبة " (¬1). ثانيا: الترجيح بدلالة اشتقاق الكلمة وتصريفها: ومن ذلك قوله عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (¬2): " والخليل في كلام العرب الصاحب الملازم الذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه، مشتقّ من الخِلال، وهو النواحي المتخلّلة للمكان: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} (¬3) {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} (¬4). هذا أظهر الوجوه في اشتقاق الخليل. ويقال: خِلّ وخُلّ بكسر الخاء وضمّها ومؤنّثهُ: خُلّة بضمّ الخاء، ولا يقال بكسر الخاء .. " (¬5). ثالثا: توظيف ابن عاشور النحو في اختياراته التفسيرية: اعتنى ابن عاشور بوجوه الإعراب والمسائل النحوية، وقد كان لها أثراً واضحاً في ترجيحاته ومن ذلك ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 63. (¬2) سورة النساء، الآية (125). (¬3) سورة النور، الآية (43). (¬4) سورة الكهف، الآية (33). (¬5) التحرير والتنوير، ج 3، ص 210.

رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} (¬1) قال: " وقد تردد المفسرون في محل اللام في قوله: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} وقد ذكر الوجه الصحيح، وأعقبه بخمسة أوجه للمفسرين وعقب عليها بقوله: " وهي وجوه ضعيفة متفاوته الضعف فلا نطيل بتقريرها. وقد أيد القول الذي رجحه بما ذهب إليه النحاة فقال: " والذي سلكه أهل التدقيق منهم - يعني من المفسرين - أن اللام لام العاقبة ونقل ذلك عن نحاة البصرة (الخليل بن أحمد، وسيبويه، والأخفش، وأصحابهما " (¬2). ¬

(¬1) سورة يونس، الآية (88). (¬2) التحرير والتنوير، ج 6، ص 268.

المطلب الثالث مميزات الترجيح عند ابن عاشور

المطلب الثالث مميزات الترجيح عند ابن عاشور ظهرت عناية ابن عاشور بقواعد الترجيح المتعلقة بالنص القرآني من خلال الدلالة على أصح الأقوال، وإليك أبرز مميزاته في الترجيح: 1 - ميّز ابن عاشور بين النسخ وغيره من الأمور المتشابهة، وفرّق بين تخصيص العام والنسخ، كما فرّق بين تقييد المطلق والنسخ، وكذلك بينه وبين البيان والاستثناء، وكان من نتائج تحريه ودقته في مسائل النسخ أن انعكس ذلك على ترجيحاته فمثلاً عند قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬1). ذكر بعض العلماء: "إن حكم هذه الآية منسوخ بآية الزكاة، وكان هذا قبل أن تفرض الزكاة , فلما فرضت الزكاة نسخ الله بها كل صدقة في القرآن (¬2). في حين قرر ابن عاشور أن هذه الآية محكمة حيث قال: " وعلى القول المختار فهذه الآية غير منسوخة، ولكنّها مخصّصة ومبيَّنة بآيات أخرى وبما يبيّنه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يُتعلّق بإطلاقها، وعن السدّي أنَّها نسخت بآية الزّكاة يعني: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬3)، وقد كان المتقدّمون يسمّون التّخصيص ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية (141). (¬2) وهو مذهب إبراهيم النخعي، والحسن البصري، والسدي. وروي عن ابن عباس، وابن الحنفية، وسعيد بن جبير. انظر جامع البيان / الطبري، ج 8، ص 70. (¬3) سورة التوبة، الآية (103).

نسخاً " (¬1). .وكذلك قال عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (¬2) ذهب بعض المفسرين إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3) (¬4) أما ابن عاشور فقد ذكر أن الآية محكمة ومن قوله: "والحق أن هذا بيان لا نسخ، كما حققه المحققون، ولكن شاع عند المتقدمين من إطلاق النسخ على ما يشمل البيان (¬5). 2 - إنه يرد على الروافض ويبين أصولهم ويُفنّدُها، فظهرت ترجيحاته حازمة عليهم، فعلى سبيل المثال عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (¬6) رجَّح ابن عاشور أن أهل البيت هم: أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: "والخطاب موجه إليهن وكذلك ما قبله وما بعده، لا يخالط أحداً شك في ذلك، ولم يفهم منها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعون إلا أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام هن المراد بذلك , وأن النزول في شأنهنّ , وأما ما رواه الترمذي عن عطاء بن أبي رباح عن عُمر بن أبي سلمة قال: "لما نزلت على النبي ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 5، ص 122. (¬2) سورة آل عمران، الآية (102) (¬3) سورة التغابن، الآية (16). (¬4) انظر نواسخ القرآن / ابن الجوزي، ج 1، ص 107. (¬5) التحرير والتنوير، ج 3، ص 30. (¬6) سورة الأحزاب، الآية (33).

- صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} في بيت أم سلمة دعا فاطمةَ وحسناً وحسيناً فجَلَّلهم بكساء وعليٌّ خلْف ظهره ثم قال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهِب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً ". وقال: هو حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة ولم يَسِمْه الترمذي بصحة ولا حُسن، ووسمه بالغرابَة. وفي «صحيح مسلم» عن عائشة: خرج رسول الله غداةً وعليه مرط مرحَّل فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وهذا أصرح من حديث الترمذي. فمَحمله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية وجعلهم أهلَ بيته، وبهذا يتضح أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - هن آل بيته بصريح الآية، وأن فاطمة وابنيْها وزوجها مجعولون أهل بيته بدعائه أو بتأويل الآية على محاملها. ولذلك هُمْ أهل بيته بدليل السنة، وكل أولئك قد أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، بعضه بالجعل الإلهي، وبعضه بالجعل النبوي. وقد تلقّف الشيعة حديث الكساء فغصبوا وصف أهل البيت، وقصروه على فاطمة وزوجها وابنيهما عليهم الرضوان، وزعموا أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لسن من أهل البيت. وهذه مصادمة للقرآن بجعل هذه الآية حشواً بين ما خوطب به أزواج النبي. وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف على أهل الكساء إذ ليس في قوله: «هؤلاء أهل بيتي» صيغة

قصر , وهو كقوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} (¬1) ليس معناه ليس لي ضيف غيرهم، وهو يقتضي أن تكون هذه الآية مبتورة عما قبلها وما بعدها , ويظهر أن هذا التوهم من زمن عصر التابعين، وأن منشأه قراءة هذه الآية على الألسن دون اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها. ويدل لذلك ما رواه المفسرون عن عكرمة أنه قال: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - , وأنه قال أيضاً: ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان يصرخ بذلك في السوق , وحديث عمر بن أبي سلمة صريح في أن الآية نزلت قبل أن يدعو النبي الدعوة لأهل الكساء وأنها نزلت في بيت أم سلمة. وأما ما وقع من قول عُمر بن أبي سلمة: أن أم سلمة قالت: وأنا معهم يا رسول الله؟ فقال: " أنت على مكانك وأنتِ على خير ". فقد وهم فيه الشيعة فظنوا أنه منعها من أن تكون من أهل بيته، وهذه جهالة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد أن ما سألته من الحاصل، لأن الآية نزلت فيها وفي ضرائرها، فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم، فالدعاء لها بأن يذهب الله عنها الرجس ويطهرها دعاء بتحصيل أمر حصل وهو مناف بآداب الدعاء كما حرره شهاب الدين القرافي في الفرق بين الدعاء المأذون فيه والدعاء الممنوع منه، فكان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليماً لها. وقد وقع في بعض الروايات أنه قال لأم سلمة: " إنكِ من أزواج النبي " , وهذا أوضح في المراد بقوله: «إنك على خير» " (¬2). ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية (68). (¬2) التحرير والتنوير، ج 11، ص 15 - 16.

3 - إنه يرد عل الروايات الواهية والأسانيد المغلوطة ويقوّمُها , فمثلاً عند قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (¬1) ذكر الطبري وغيره من المفسرين تلك الروايات الواهية ولم يعلق عليها، في حين نجد ابن عاشور ذكر الرواية وبيَّن خطأها، وفي ذلك يقول: " وقد رويت في هذه القصة أخبار مخلوطة، فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة، فلا تصْغ ذهنك إلى ما ألصقه أهل القصص بهذه الآية من تبسيط في حال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أمر زيداً بإمساك زوجه، فإن ذلك من مختلقات القصاصين؛ فإما أن يكون ذلك اختلاقاً من القصاص لتزيين القصة، وإما أن يكون كله أو بعضه من أراجيف المنافقين وبهتانهم , فتلقفه القصاص وهو الذي نجزم به. ومما يدل لذلك أنك لا تجد فيما يؤثر من أقوال السلف في تفسير هذه الآية أثراً مسنداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى زيد أو إلى زينب أو إلى أحد من الصحابة رجالهم ونسائهم، ولكنها كلها قصص وأخبار وقيل وقال. ولسوء فهم الآية كبر أمرها على بعض المسلمين واستفزّت كثيراً من الملاحدة وأعداء الإسلام من ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية (37).

أهل الكتاب. وقد تصدى أبو بكر بن العربي في «الأحكام» لوهن أسانيدها وكذلك عياض في «الشفاء» والآن نريد أن ننقل مجرى الكلام إلى التسليم بوقوع ما روي من الأخبار الواهية السند لكي لا نترك في هذه الآية مهواة لأحد. ومجموع القصة من ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بيت زيد يسأل عنه فرأى زينب متفضلة، وقيل رفعتْ الريحُ ستار البيت فرأى النبي عليه الصلاة والسلام زينب فجأة على غير قصد فأعجبه حسنها وسبَّح اللَّه، وأن زينب علمت أنه وقعت منه موقع الاستحسان وأن زيداً علم ذلك وأنه أحب أن يطلقها ليؤثر بها مولاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} (وهو يودّ طلاقها في قلبه ويعلم أنها صائرة زوجاً له).وعلى تفاوت أسانيده في الوهن أُلقي إلى الناس في القصة فانتُقل غَثه وسمينه، وتُحُمِّل خِفه ورزينه، فأخذ منه كلٌّ ما وسعه فهمُه ودينه " (¬1). ومن ذلك أيضاً ردّه لتلك الروايات التي وردت في شأن يوسف عليه السلام عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (¬2) ... , حيث فصّل في تفسير الآية , وذكر أن الله صرف يوسف عن الهم بها , وأن الله عصمه، وذكر وجه جميل في تفسير الهم من تفسير أبي عبيدة وهو أن هذا على التقديم والتأخير؛ أي تقديم الجواب وتأخير الشرط، كأنه قال: " ولقد همّت به ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 35 - 36. (¬2) سورة يوسف، الآية 24.

ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها " وعاب ابن عاشور على الطبري طعنه في هذا التأويل بأن جواب لولا لا يتقدم عليها وذكر قول أبي عبيدة ومن قوله: " ويدفع هذا الطعن أن أبا عبيدة لما قال ذلك علمنا أنه لا يرى منع تقديم جواب (لولا)، على أنه قد يجعل المذكور قبل (لولا) دليلاً للجواب والجواب محذوفاً لدلالة ما قبل (لولا) عليه. ولا مفرّ من ذلك على كل تقدير فإن (لولا) وشرطها تقييد لقوله: (وهمّ بها) على جميع التأويلات، فما يقدّر من الجواب يقدّر على جميع التأويلات " (¬1). . 4 - حرص ابن عاشور على الترجيح بين أقوال المفسرين، كما أنه لا يكتفي بالترجيح فقط، وإنما يذكر سبب الترجيح، فعلى سبيل المثال عند تفسيره لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2). ذكر خلاف المفسرين وترددهم في المراد من التفث من قوله {تَفَثَهُمْ} وبعد أن ساق أقوال المفسرين رجّح ما يراه راجحاً , وذكر أن ذلك يؤيده ما جاء في السنة. وهذا قوله: " وعندي: أن فعل (ليقضوا) ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج , وليس وسَخاً ولا ظفراً ولا شعراً. ويؤيده ما روي عن ابن عمر وابن عباس آنفاً. وأن موقع (ثمّ) في عطف جملة الأمر على ما قبلها ينادي على معنى التراخي الرتبي فيقتضي أنّ المعطوف بـ (ثمّ) أهم مما ذكر قبلها فإن أعمال ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 6، ص 253. (¬2) سورة الحج، الآية (29).

الحج هي المهم في الإتيان إلى مكة، فلا جرم أن التفث هو من مناسك الحجّ وهذا الذي درج عليه الحريري في قوله في المقامة المكية: «فلمّا قضيت بعون الله التفث، واستبحت الطيبَ والرفث، صادف موسم الخَيف، معمعان الصيف» (¬1). . 5 - من مميزاته أيضاً أنه لا يكتفي فقط بالترجيح بالقاعدة، وإنما يناقش ويوجّه، ويلوم بعض المفسرين لأنهم لم يلتزموا بالترجيح ضمن القاعدة. على سبيل المثال عند قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (¬2) من سورة البلد رجّح ابن عاشور أن المراد بالكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك وذلك لتناسب هذا المعنى مع السياق، وعاب على المفسرين إبعادهم في تفسير الكبد وعدم اعتبارهم للسياق حيث يقول: " وقد تعددت أقوال المفسرين في تقرير المراد بالكَبَد، ولم يعرج واحد منهم على ربط المناسبة بين ما يفسِّر به الكَبَد وبين السياق المسوق له الكلام وافتتاحِه بالقسم المشعر بالتأكيد وتوقع الإنكار، حتى كأنَّهم بصدد تفسير كلمة مفردة ليست واقعة في كلام يجب التِئامُه، ويَحِق وئامه. وقد غضُّوا النظر عن موقع فِعل (خلقنا) على تفسيرهم الكبد إذ يكون فعل (خلقنا) كمعذرة للإِنسان الكافر في ملازمة الكَبد له إذ هو مخلوق فيه. وذلك يحط من شدة التوبيخ والذم، فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 8، ص 249. (¬2) سورة البلد، الآية (4).

الآلهة " (¬1). وكذلك عند قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} (¬2) أبطل عمل بعض المفسرين كالزمخشري في مقارنته بين جبريل والرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعاب عليه عدم النظر إلى سياق الآيات بغية التأصيل للمذهب الاعتزالي ومن قوله: " والمعنى: أن الذي تخاصمونه وتكذبونه وتصفونه بالجنون ليس بمجنون وأنكم مخالطوه وملازموه وتعلمون حقيقته فما قولكم عليه: «إنه مجنون» إلا لقصد البهتان وإساءة السمعة. فهذا موقع هذه الجملة مع ما قبلها وما بعدها، والقصد من ذلك إثبات صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يخطر بالبال أنها مسوقة في معرض الموازنة والمفاضلة بين جبريل ومحمد عليهما السلام والشهادة لهما بمزاياهما حتى يشم من وفرة الصفات المجراة على جبريل أنه أفضل من محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا أن المبالغة في أوصاف جبريل مع الاقتصاد في أوصاف محمد - صلى الله عليه وسلم - تؤذن بتفضيل أولهما على الثاني .. ومن أسمج الكلام وأضعف الاستدلال قول صاحب «الكشاف»: " وناهيك بهذا دليلاً على جلالة مكانة جبريل عليه السلام ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا وازنت بين الذِّكْرين وقايست بين قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} (¬3)، وبين قوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 15، ص 351. (¬2) سورة التكوير، الآية (22). (¬3) سورة التكوير، الآية (19 - 20).

بِمَجْنُونٍ} (¬1) اهـ. وكيف انصرف نظرُه عن سياق الآية في الرد على أقوال المشركين في النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقولوا في جبريل شيئاً لأن الزمخشري رام أن ينتزع من الآية دليلاً لمذهب أصحاب الاعتزال من تفضيل الملائكة على الأنبياء، وهي مسألة لها مجال آخر، على أنك قد علمتَ أن الصفات التي أجريت على (رسول) في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} إلى قوله: (أَمِينٍ)، غيرُ متعين انصرافُها إلى جبريل فإنها محتملة الانصراف إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد يطغى عليه حب الاستدلال لعقائد أهل الاعتزال طغياناً يرمي بفهمه في مهاوي الضَّآلة، وهل يسمح بال ذي مسكة من علم بمجاري كلام العقلاء أن يتصدى متصد لبيان فضل أحد بأن ينفي عنه أنه مجنون، وهذا كله مبني على تفسير: {رَسُولٍ كَرِيمٍ} بجبريل فأما إن أريد به محمد - صلى الله عليه وسلم - أوْ هو وجبريل عليهما السلام فهذا مقتلَع من جذره. ولا يخفى أن العدول عن اسم النبي العَلَم إلى (صَاحِبُكُمْ) لما يؤذن به (صَاحِبُكُمْ) من كونهم على علم بأحواله، وأما العدول عن ضميره إن كان المراد بـ (رسول) خصوص النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن الإظهار في مقام الإِضمار للوجه المذكور وإذا أريد بـ (رسول) كلاهما فذكر (صَاحِبُكُمْ) لتخصيص الكلام به " (¬2). ¬

(¬1) الكشاف / الزمخشري، ج 6، ص 326. (¬2) التحرير والتنوير، ج 15، ص 158.

وهذا من أهم مميزاته فيما يتعلق بالترجيح، وأما مميزاته في التفسير بشكل عام فأذكر منها: 1 - إنه يردّ على أهل العقائد الضالة ويبين بطلان دعواهم في التفسير ومن ذلك ما ذكره عند قوله تعالى: " {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). قال ابن عاشور: " قفُّوا على صريح كفرهم بالقرآن وغيره من الشرائع بكلام كَنَّوْا به عن إبطال حقية الإِسلام بدليل سفسطائي , فجعلوا كثرة أموالهم وأولادهم حجة على أنهم أهل حظ عند الله تعالى، فضمير (وَقَالُوا) عائد إلى (الذين كفروا) من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} (¬2) وهذا من تمويه الحقائق بما يحفّ بها من العوارض فجعلوا ما حف بحالهم في كفرهم من وفرة المال والولد حجةً على أنهم مظنة العناية عند الله وأن ما هم عليه هو الحق. وهذا تعريض منهم بعكس حال المسلمين بأن حال ضعف المسلمين، وقلة عددهم، وشظِف عيشهم حجة على أنهم غير محظوظين عند الله، ولم يتفطنوا إلى أن أحوال الدنيا مسببة على أسباب دنيوية لا علاقة لها بأحوال الأولاد. وهذا المبدأ الوهمي السفسطائي خطير في العقائد الضالة التي كانت لأهل الجاهلية والمنتشرة عند غير ¬

(¬1) سورة سبأ 35 - 36. (¬2) سورة سبأ، الآية (31).

المسلمين، ولا يخلو المسلمون من قريب منها في تصرفاتهم في الدين ومرجعها إلى قياس الغائب على الشاهد وهو قياس يصادف الصواب تارة ويخطئه تارات. ومن أكبر أخطاء المسلمين في هذا الباب خطأ اللجَأ إلى القضاء والقدر في أعذارهم، وخطأ التخلق بالتوكل في تقصيرهم وتكاسلهم. فجملة {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} عطف على جملة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ} الخ، وقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كالنتيجة لقولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا}، وإنما جيء فيه بحرف العطف لترجيح جانب الفائدة المستقلة على جانب الاستنتاج الذي يومئ إليه ما تقدمه وهو قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} فحصل من هذا النظم استدلال لصحة دينهم ولإِبطال ما جاء به الإِسلام ثم الافتخار بذلك على المسلمين والضعة لِجانب المسلمين بإِشارة إلى قياس استثنائي بناء على ملازمة موهومة، وكأنهم استدلوا بانتفاء التعذيب على أنهم مقرّبون عند الله بناء على قياس مساواة مطوي فكأنهم حصروا وسائل القرب عند الله في وفرة الأموال والأولاد. ولولا هذا التأويل لخلت كلتا الجملتين عن أهم معنييهما وبه يكون موقع الجواب بـ {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أشدّ اتصالاً بالمعنى، أي قل لهم: إن بسط الرزق وتقتيره شأن آخر من تصرفات الله المنوطة بما قدره في نظام هذا العالم، أي فلا ملازمة بينه وبين الرشد والغي، والهدى والضلال، ولو تأملتم أسباب الرزق لرأيتموها لا تلاقي أسباب الغي

والاهتداء، فربما وسع الله الرزق على العاصي وضيّقه على المطيع وربما عكس فلا يغرنهم هذا وذاك فإنكم لا تعلمون. وهذا ما جعل قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} مصيباً المحزّ. فأكثر الناس تلتبس عليهم الأمور فيخلطون بينها ولا يضعون في مواضعها زيْنها وشَيْنها (¬1). 2 - يطرح بعض الأمور المشكلة ويجيب عليها كما في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} (¬2) حيث يقول: " فإن قلت هل تكون هذه الآية حجة للذين قالوا من علمائنا: إن إعجاز القرآن بالصرفة، أي أعجز الله المشركين عن معارضته أي صرفهم عن محاولة المعارضة لتقوم الحجة عليهم، فتكون الصرفة من جملة الأكنة التي جعل الله على قلوبهم. قلت: لم يحتجّ بهذه الآية أصحاب تلك المقالة لأنك قد علمت أن الأكنة تخييل , وأن الوقر استعارة وأن قول النظر (ما أدري ما أقول) بهتان ومكابرة، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} " (¬3) ... . 3 - لم يغرق ابن عاشور في ذكر الإسرائيليات، ولم يذكر الروايات ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 213. (¬2) سورة الأنعام، الآية (25). (¬3) التحرير والتنوير، ج 4، ص 180.

والأخبار غير الصحيحة، التي تتعلق بقصص الأنبياء، كما فعل كثير من المفسرين بالمأثور، وهذه مزية تسجل له , وليس معنى هذا أن تفسيره قد سلم من الإسرائيليات تماماً، فقد ورد فيه بعضها، ولكن تلك الإسرائيليات قليلة جداً فيه إذا ما قورن بالتفاسير الأخرى. 4 - من مميزاته أيضاً في التفسير أنه إذا رأى تفسيراً مخالفاً لما عليه جمهور المفسرين نبّه إلى ذلك، وبيّن أنه لم يسبقه إليه أحد , كما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} (¬1) ذكر ابن عاشور أن الأمر بالاستماع حقيقته الإنصات والإصغاء، وأن جمهور المفسرين حملوا الاستماع على حقيقته، ثم ذكر أن ابن عطية نحا إلى حمل (استمع) على المجاز، أي انتظر. قال: «لأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمر بأن يستمع في يوم النداء؛ لأن كل مَن فيه يستمع وإنما الآية في معنى الوعيد للكفار فقيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - تحسس هذا اليوم وارتقبه فإن فيه تبّين صحة ما قلته» اهـ. ثم ذكر ابن عاشور أنه لم يسبقه إلى هذا المعنى أحد (¬2). 5 - تمكنه من اللغة، الأمر الذي جعله يرد على من لا يحسن اختيار الألفاظ في القرآن الكريم، ويصحح العبارات الخاطئة، فعلى سبيل المثال عند تفسيره لقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ ¬

(¬1) سورة ق، الآية (41). (¬2) انظر التحرير والتنوير، ج 21، ص 329.

كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (¬1) قال: " وسمَّى الطيبي هذا الانتقال إلى ذكر داود وسليمان تخلصاً، والوجه أن يسميه استطراداً أو اعتراضاً وإن كان طويلاً، فإن الرجوع إلى ذكر أحوال المشركين بعدما ذكر من قصة داود وسليمان وسبأ يرشد إلى أن إبطال أحوال أهل الشرك هي المقصود من هذه السورة (¬2). 6 - يتكلم عن ضلالات بعض الفرق ويبيّن عقائدهم، كما حصل ذلك عند حديثه عن البابية والبهائية في معرض تفسيره لقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (¬3) حيث يقول: " وقد أجمع الصحابة على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم الرسل والأنبياء، وعُرف ذلك وتواتر بينهم وفي الأجيال من بعدهم، ولذلك لم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العَنْسِي , فصار معلوماً من الدين بالضرورة , فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإِسلام ولو كان معترفاً بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله للناس كلّهم ... إلى أن يقول: " ولذلك لا يتردد مسلم في تكفير من يُثبت نبوةً لأحد بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي إخراجه من حظيرة الإِسلام، ولا تعرف ¬

(¬1) سورة سبأ، الآية (6 - 10). (¬2) التحرير والتنوير، ج 11، ص 155. (¬3) سورة الأحزاب، الآية (40).

طائفة من المسلمين أقدمت على ذلك إلا البابِيَّة والبَهائية وهما نحْلتان مشتقة ثانيتهما من الأولى. وكان ظهور الفرقة الأولى في بلاد فارس في حدود سنة مائتين وألف وتسربت إلى العراق وكان القائم بها رجلاً من أهل شيراز يدعوه أتباعه السيد علي محمد، كذا اشتهر اسمه، كان في أول أمره من غلاة الشيعة الإِمامية. أخذ عن رجل من المتصوفين اسمه الشيخ أحمد زين الدين الأَحسائي الذي كان ينتحل التصوف بالطريقة الباطنية , وهي الطريقة المتلقاة عن الحلاج. وكانت طريقته تعرف بالشيخية، ولما أظهر نحلته علي محمد هذا لقبَ نفسه بَاب العلم فغلب عليه اسم الباب. وعرفت نحلته بالبَابِيّة وادعى لنفسه النبوءة وزعم أنه أوحي إليه بكتاب اسمه «البيان» وأن القرآن أشار إليه بقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (¬1)، وكتاب «البيان» مؤلف بالعربية الضعيفة ومخلوط بالفارسية. وقد حكم عليه بالقتل فقتل سنة (1266 هـ) في تبريز. ... وأما البهائية فهي شعبة من البابِيّة تنسب إلى مؤسسها الملقّب ببهاء الله واسمه ميرزا حُسين عَلي من أهل طهران تتلمذ للباب بالمكاتبة وأخرجته حكومة شاه العجم إلى بغداد بعد قتل الباب. ثم نقلته الدولة العثمانية من بغداد إلى أدرنة , ثم إلى عكا، وفيها ظهرت نحلته وهم يعتقدون نبوة الباب وقد التفّ حوله أصحاب نحلة البابيّة وجعلوه خليفة البَاب فقام اسم البهائية مقام اسم البَابية فالبهائية هم البابية. وقد كان البهاء بَنى بناء في جبل الكرمل ليجعله مدفناً ¬

(¬1) سورة الرحمن، الآية (3 - 4) ..

لرفات (الباب) وآل أمره إلى أن سجنته السلطنة العثمانية في سجن عَكا فلبث في السجن سبعَ سنوات ولم يطلق من السجن إلا عند ما أُعلن الدستور التركي فكان في عداد المساجين السياسيين الذين أُطلقوا يومئذٍ فرحل منتقلاً في أوروبا وأميركا مدة عامين ثم عاد إلى حيفا فاستقرّ بها إلى أن توفي سنة (1340 هـ) وبعد موته نشأ شقاق بين أبنائه وإِخوته فتفرقوا في الزعامة وتضاءلت نحلتهم. فمن كان من المسلمين متّبعاً للبَهائية أو البابية فهو خارج عن الإِسلام مرتدّ عن دينه تجري عليه أحكام المرتدّ. ولا يرث مسلماً ويرثه جماعة المسلمين ولا ينفعهم قولهم: إنا مسلمون ولا نطقهم بكلمة الشهادة لأنهم يثبتون الرسالة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم قالوا بمجيء رسول من بعده. ونحن كفَّرنا الغُرابية من الشيعة لقولهم: بأن جبريل أرسل إلى علي ولكنه شُبّه له محمد بعليّ إذ كان أحدهما أشبه بالآخر من الغراب بالغراب (وكذبوا) فبلغ الرسالة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فهم أثبتوا الرسالة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم زعموه غير المعيّن من عند الله. وتشبه طقوس البهائية طقوس الماسونية إلا أن البهائية تنتسب إلى التلقي من الوحي الإِلهي، فبذلك فارقت الماسونية وعُدّت في الأديان والملل ولم تعد في الأحزاب (¬1). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 11، ص 46 - 47.

المبحث الثاني المآخذ على منهج ابن عاشور في الترجيح

المبحث الثاني المآخذ على منهج ابن عاشور في الترجيح 1 - إهماله لبعض القواعد الترجيحية والتي نصّ عليها في تفسيره في باب الأسماء والصفات، وذلك لتبنيه مذهبا بدعيا في العقيدة , وهو المذهب المنسوب إلى أبي الحسن الشعري، فنجده لا يكتفي بحكاية المذهب، بل يناصره، ويجمع الأدلة لتأييده وتقرير أفكاره. ومن ذلك: إهماله العمل بالقاعدة الترجيحية والتي كان يرجح بها، كقاعدة: " الأصل إطلاق اللفظ على ظاهره مالم يأتي دليل يصرفه عن ذلك. والتي ترجح إثبات الصفات على ظاهرها ومن ذلك: دلالة قوله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} (¬1) نفى ابن عاشور صفة العجب لله تعالى , حيث يقول: " وقرأ حمزة والكسائي وخلف (بَلْ عَجِبْتُ) بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد: أن الله أسند العجب إلى نفسه. ويُعرَف أنه ليس المراد حقيقةَ العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه، وهو استعظام الأمر المتعجب منه. وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوة منه قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله ليعجب من رجلين يَقتُل أحدهُما الآخرَ يدخلان الجنة يقاتل هذا في ¬

(¬1) سورة الصافات، الآية (12).

سبيل الله فيُقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد " (¬1) بهذا اللفظ , يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافراً فيقاتل فيستشهد في سبيل الله". (¬2) وسيأتي الحديث عن مثل هذه الأمثلة مفصلاً في مبحث أثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها من الفصل السابع. 2 - رجّح ابن عاشور بين بعض القراءات الصحيحة صراحة وكان الأولى أن يأخذ بها جميعاً دون ترجيح أحدها على الأخرى وإن كان هذا قليلا جداً في تفسيره، والغالب عليه عدم الترجيح بين القراءات المتواترة، ولكن لما أنه وقع في تفسيره، أحببت أن أنبه عليه ومن أمثلة ذلك: ترجيحه قراءة الصاد على السين في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (¬3) حيث قال: " وقد قرأ باللغة الفصحى (بالصاد) جمهور القراء وقرأ (بالسين) ابن كثير في رواية قنبل، والقراءة بالصاد هي الراجحة لموافقتها رسم المصحف وكونها اللغة الفصحى " (¬4). 3 - نقله من الكتاب المقدس التوراة والإنجيل المحرفة في بيان كلام الله فيقول: (وجاء في سفر كذا)، وحمل قصص القرآن على ما ورد فيها، ¬

(¬1) أخرجه النسائي في المجتبى، كتاب الجهاد، باب اجتماع القاتل والمقتول في سبيل الله في الجنة، ج 6، ص 38، ح- 3165. (¬2) التحرير والتنوير، ج 11، ص 96. (¬3) سورة الفاتحة، الآية (6). (¬4) التحرير والتنوير، ج 1، ص 190.

وحاول التوفيق بينه وبينها مما يُشعر بثقته فيها، مع أنه ذكر الإجماع على تحريفه (¬1) ومن الأمثلة على ذلك ما جاء عنه في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (¬2). حيث ذهب عامة المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن المسخ في هاتين الآيتين كان مسخاً حقيقياً وصورياً , مسخت قلوب المعتدين في السبت، ومسخت صورهم قردة، أي أجسامهم تحولت من الصور البشرية إلى صورة القردة، بقدرة الله القادر على كل شيء قدير، فقد قال لهم: كونوا فكانوا (¬3). في حين شذّ ابن عاشور وغيره عن تفسير الجماعة في الآية حيث ذهب إلى أن المسخ كان معنوياً لا حقيقياً وصورياً، مسخت قلوبهم فقط مستنداً في ذلك إلى أنه لم يرد مسخ في كتب تاريخ اليهود، حيث قال بعد إيراده قول الجمهور وقول مجاهد: " والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين، والأول أظهر في العبرة؛ لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني، والثاني أقرب للتاريخ؛ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين، والقدرة صالحة للأمرين " (¬4). ¬

(¬1) ابن عاشور ومنهجه في التفسير / عبد الله الريس، رسالة ماجستير، ج 2، ص 656. (¬2) سورة البقرة، الآية (65). (¬3) انظر جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 382، والمحرر الوجيز / ابن عطية، ج 2، ص 470. (¬4) التحرير والتنوير، ج 1، ص 544.

وقد ردَّ هذا القول جميع المفسرين المحققين؛ لأجل مخالفته لظاهر القرآن الكريم، وشذوذه عن قول عامة المفسرين. قال الطبري: " وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف. وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} (¬1).، وأن الله تعالى ذِكْره أصعَقَهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (¬2) فابتلاهم بالتيه. فسواء قائل قال: هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم. ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان على قوله، وعورض -فيما أنكر من ذلك- بما أقر به، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح. هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه. وكفى دليلا على فساد قول، إجماعها على تخطئته " (¬3). ومما يدل أيضاً لى أن المسخ كان حقيقياً وحسياً ظاهر النص في الآيتين المذكورتين: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ ¬

(¬1) سورة النساء، الآية (153). (¬2) سورة المائدة، الآية (24). (¬3) جامع البيان / الطبري، ج 1، ص 382.

كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. وكذلك ما ثبت في الحديث الصحيح أنه سيكون مسخ في هذه الأمة، ففي حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - مرفوعاً: والله ما كذبني سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف , ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم يعني الفقير لحاجة فيقولوا ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة. " (¬1). والمبحث الخامس من الفصل الثاني في هذا البحث يُظهر مدى اهتمامه بالكتب المقدسة. 4 - خالف إجماع العلماء في بعض المسائل الفقهية، ومن ذلك ربا الفضل فقد ذهب إلى جوازه فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬2) بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في الربا قال: " فلأجل هذه الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع: ... الأول: ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير. ... الثاني: ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعُبادة بن الصامت. ... الثالث: ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخّراً. وزاد المالكية نوعاً رابعاً: وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيّل على الربا .... ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، ج 5، ص 2123، ح- 5268. (¬2) سورة البقرة، الآية (275).

وعندي أنّ أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس، وأنّ أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ليجمع بين الحديثين " (¬1). وترجيحه هذا معارض بأمرين: الأول: رجوع ابن عباس - رضي الله عنه - عن القول بجواز ربا الفضل، وقد نقل رجوعه الحازمي في الاعتبار، روى بسنده عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: " إنما كنت أفتي فيه برأيي وقد تركته، وذلك أن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - حدثني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ربا إلا في الدين) (¬2) (¬3) ... . ... الثاني: إن الإجماع منعقد على تحريم ربا الفضل، وقد نقل الإجماع جماعة من العلماء منهم: ابن المنذر (¬4)، والنووي (¬5)، وابن حزم (¬6)، وابن قدامة (¬7)، وابن، وابن قيم الجوزية (¬8) .. وإذا حصل الإجماع فلا تجوز مخالفته. وكذلك مسألة عدة الأمة المتوفى عنها زوجها فقد حكى العلماء الإجماع فيها ورجّح ابن عاشور خلافه فقال: " وإن إجماع فقهاء الأسلام على تنصيف عدة الوفاة في الأمة المتوفى زوجها لمن معضلات المسائل الفقهية، فلنا أن ننظر ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 3، ص 89. (¬2) أخرجه ابن أبي عوانة في مسنده، ج 3، ص 387، ح- 5421. (¬3) انظر ابن عاشور ومنهجه في التفسير / عبد الله الريس، ج 2، ص 624، رسالة ماجستير. (¬4) الإجماع / ابن المنذر، ص 117 - 118. (¬5) شرح مسلم / النووي، ج 11، ص 9. (¬6) المحلى / ابن حزم، ج 8، ص 468. (¬7) المغني / ابن قدامة، ج 4، ص 3. (¬8) أعلام الموقعين / ابن القيم، ج 2، ص 1552.

إلى حكمة مشروعية عدة الوفاة، وإلى حكمة مشروعية التنصيف لذي الرق، فيما نصف له فيه حكم شرعي، فنرى بمسلك السبر والتقسيم أن عدة الوفاة إما أن تكون لحكمة تحقق النسب أو عدمه، وإما أن تكون لقصد الإحداد على الزوج، لما نسخ الإسلام ما كان عليه أهل الجاهلية من الإحداد حولاً كاملاً، أبقى لهن ثلث الحول، كما أبقى للميت حق الوصية بثلث ماله، وليس لها حكمة غير هذين؛ إذ ليس فيها ما في عدة الطلاق من حكمة انتظار ندامة المطلق، وليس هذا الوجه الثاني بصالح للتعليل؛ لأنه لا يظن بالشريعة أن تقرر أوهام أهل الجاهلية، فتبقي منه تراثاً سيئاً، ولأنه قد عهد من تصرف الإسلام إبطال تهويل أمر الموت والجزع له، الذي كان عند الجاهلية عرف ذلك في غير ما موضع من تصرفات الشريعة، ولأن الفقهاء اتفقوا على أن عدة الحامل من الوفاة وضع حملها، فلو كانت عدة غير الحامل لقصد استبقاء الحزن لاستوتا في العدة، فتعين أن حكمة عدة الوفاة هي تحقق الحمل أو عدمه، فلننقل النظر إلى الأمة نجد فيها وصفين: الإنسانية والرق، فإذا سلكنا إليهما طريق تخريج المناط، وجدنا الوصف المناسب لتعليل الاعتداد الذي حكمته تحقق النسب هو وصف الإنسانية؛ إذ الحمل لا يختلف حاله باختلاف أصناف النساء وأحوالهن الاصطلاحية أما الرق فليس وصفاً صالحاً للتأثير في هذا الحكم، فالوجه أن تكون عدة الوفاة للأمة كمثل الحرة، وليس في تنصيفها أثر، ومستند الإجماع قياس مع وجود الفارق " (¬1) ... . ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 2، ص 443.

المبحث الثالث أثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها

المبحث الثالث أثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها إن المتتبع للتفسير يجد أن ابن عاشور قد ذهب إلى ما ذهبت إليه الأشاعرة في معظم آيات الأسماء والصفات، وقد صرّح في أكثر من موضع بأنه أشعري يلتزم بمذهب الأشاعرة في الاعتقاد، ولذلك فقد كان لذلك أثر في ترجيحاته في ضوء قواعد الترجيح المتعلقة بالنص القرآني؛ يتجلى ذلك بعد التتبع للمسائل الخلافية والتي أورد فيها ابن عاشور أقوالاً مختلفة في تفسيرها حيث يظهر أثر المعتقد عنده في ترجيحاته ومن ذلك ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1): قال: " وهذه الآية أسعد بمذهبنا أيها الأشاعرة من عدم وجوب الهدى كله على الله تعالى ..... " (¬2). ومما تقدم ندرك بالضرورة أثر عقيدة ابن عاشور على تفسيره , وعلى صياغة القواعد الترجيحية , ومن تلك القواعد التي ظهرت لي من خلال تفسيره والتي كان لعقيدته أثر عليها هي الآتي: أولاً: قاعدة: الله منزّه عن الأعراض: هذه القاعدة ذكرها ابن عاشور في تفسيره، وطبقها ولكنه أخطأ في ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (38). (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 443.

استخدامها بسبب أشعريته، فمثلا: عند تفسيره لقوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (¬1) قال: "فأهل الإيمان إذا سمعوا أو أطلقوا وصفي الرحمن الرحيم لا يفهمون منه حصول ذلك الانفعال الملحوظ في حقيقةِ الرحمة في متعارف اللغة العربية لسطوع أدلة تنزيه الله تعالى عن الأعراض، بل إنه يراد بهذا الوصف في جانب الله تعالى إثباتُ الغرض الاسمي من حقيقة الرحمة , وهو صدور آثار الرحمة من الرفق واللطف والإحسان والإعانة؛ لأن ما عدا ذلك من القيود الملحوظة في مسمى الرحمة في متعارف الناس لا أهمية له لولا أنه لا يمكن بدونه حصول آثاره فيهم ألا ترى أن المرء قد يرحم أحداً ولا يملك له نفعاً لعَجز أو نحوه. وقد أشار إلى ما قلناه أبو حامد الغزالي في «المقصد الأسنى» بقوله: «الذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها فإن كان قادراً على قضائها لم يسمَّ رحيماً إذ لو تمت الإرادة لوفَّى بها وإن كان عاجزاً فقد يسمى رحيماً باعتبار ما اعتوره من الرحمة والرقة ولكنه ناقص، وبهذا تعلم أن إطلاق نحو هذا الوصف على الله تعالى ليس من المتشابه لتبادر المعنى المراد منه بكثرة استعماله وتحقق تنزه الله عن لوازم المعنى المقصود في الوضع مما لا يليق بجلال الله تعالى كما نطلق العليم على الله مع التيقن بتجرد علمه عن الحاجة إلى النظر والاستدلال وسبق الجهل، وكما نطلق الحي عليه تعالى مع اليقين بتجرد حياته عن العادة والتكون، ونطلق القدرة مع اليقين ¬

(¬1) سورة الفاتحة، الآية (2).

بتجرد قدرته عن المعالجة والاستعانة. فوصفه تعالى بالرحمن الرحيم من المنقولات الشرعية فقد أثبت القرآن رحمة الله في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬1) فهي منقولة في لسان الشرع إلى إرادة الله إيصال الإحسان إلى مخلوقاته في الحياة الدنيا وغالبُ الأسماء الحسنى من هذا القبيل (¬2). . الرد على ابن عاشور: هذا الذي ذكره ابن عاشور في تأويل صفة الرحمة بإرادة الرفق واللطف والإحسان هو مذهب المتأولة من أشعرية ومعتزلة وغيرهما (¬3). . وقد ردّ ابن القيم هذا التأويل فقال في " مختصر الصواعق": " الوجه الثامن عشر: إن الله سبحانه وتعالى فرق بين رحمته ورضوانه المنفصل، فقال تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (¬4). . فالرحمة والرضوان صفته، والجنة ثوابه. وهذا يبطل قول من جعل الرحمة ثواباً منفصلاً مخلوقاً، وقول من قال: هي إرادة الإحسان، فإن إرادته الإحسان هي من لوازم الرحمة فإنه يلزمه من الرحمة أن يريد الإحسان إلى المرحوم فإذا انتفت حقيقة الرحمة انتفى لازمها وهو إرادة الإحسان " (¬5). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية (156). (¬2) التحرير والتنوير، ج 1، ص 170. (¬3) انظر المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات/ محمد عبد الرحمن المغراوي، ج 1، ص 291. (¬4) سورة التوبة، الآية (21). (¬5) مختصر الصواعق المرسلة / ابن القيم، ج 2، ص 121.

2 - قاعدة: وجوب صرف اللفظ (الصفة) إلى المجاز بعلاقة اللزوم: ذكر ابن عاشور هذه القاعدة عند تفسيره لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬1). فقال: " والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضبُ اللَّهِ , وحقيقة الغضب المعروف في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام، فالكيفيةُ سبب لطلب الانتقام وطلب الإنتقام سبب لحصول الانتقام , والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ,ولكنها قد تكون من آثاره، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملتُه بالعُنف وبقطع الإحسان وبالأذى، وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنَوا على القوانين العربية. وإذْ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادُها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية، فقد وجب على المؤمن صَرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي، وطريقةُ أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو ¬

(¬1) سورة الفاتحة، الآية (7).

إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية " (¬1). الرد على ابن عاشور: هذا الذي ذكره ابن عاشور في تأويل صفة الغضب هو مذهب الأشاعرة. قال الشيخ الهراس في شرح العقيدة الواسطية عند قول المصنف ابن تيمية: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬2) , {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} (¬3): تضمنت هذه الآيات إثبات بعض صفات الفعل لله من الرضا والغضب واللعن والكره والسخط والمقت والأسف، وهي عند أهل الحق صفات حقيقية لله عز وجل على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق فلا حجة للأشاعرة والمعتزلة على نفيها , ولكنهم ظنوا أن اتصاف الله عز وجل بما يلزمه أن تكون هذه الصفات فيه على نحو ما هي في المخلوق وهذا الظن الذي ظنوه في ربهم أرداهم فأوقعهم في حمأة النفي والتعطيل " (¬4). ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 197. (¬2) سورة المجادلة، الآية (22). (¬3) سورة النساء، الآية (93). (¬4) شرح العقيدة الواسطية / محمد خليل هراس، ج 1، ص 111.

وقال شارح العقيدة الواسطية الشيخ زيد فياض في " الروضة الندية ": " ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضا والعداوة والولاية والحب، والبغض، ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى كما يقولون مثل ذلك في السمع، والبصر، والكلام، وسائر الصفات، ولا يقال أن الرضا إرادة الإحسان والغضب إرادة الانتقام فإنه نفي للصفة. ويُقال لمن تأول الغضب والرضا لم تأولت ذلك؟ فلا بد أن يقول: لأن الغضب غليان دم القلب والرضا والميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى، فيُقال له: غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب، ويقال له أيضاً، وكذلك الإرادة والمشيئة فينا ميل الحي إلى الشيء أو إلى ما يلائمه ويناسبه , فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذلك وإن امتنع هذا امتنع ذاك فإن قالوا: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد وإن كان كل منهما حقيقة قيل له: إن الغضب والرضا الذي يوصف به الله مخالف لما يوصف به العبد، وإن كلاً منهما حقيقة، فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات لم يتعين التأويل، بل يجب تركه، وصفات الله تليق به، وصفات العبد تليق به بل لو قيل غضب ملك خازن النار وغضب غيره من الملائكة لم يجب أن يكون مماثلاً لكيفية غضب الآدميين، فغضب الله أولى " (¬1). ¬

(¬1) شرح العقيدة الواسطية / زيد بن فياض، ص 94 - 97.

3 - قاعدة: الفعل القبيح لا يليق إسناده إلى الله تعالى حقيقة: ذكر ابن عاشور هذه القاعدة في معرض تفسيره لقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬1) فقال: " وفعل: (يستهزئ) المسند إلى الله ليس مستعملاً في حقيقته , لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يُسمى بالاستهزاء بدليل قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين، بما يشبه فعل المستهزئ بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راض عنهم أو أن أَصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلافَ ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم , والمضارع في قوله: (يستهزئ) لزمن الحال. ولا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في الدنيا، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة. ويجوز أن يكون {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في (يستهزئ) للاستقبال، وإلى هذا المعنى نَحَا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية، ويجوز أن يكون مراداً به جزاءُ استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازاً ومشاكلة، أو مراداً به مآلُ الاستهزاء من رجوع الوبال ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (15).

عليهم. وهذا كله وإن جاز فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينَّه الفخر الرازي والبيضاوي وعيَّنه المعتزلة أيضاً لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعلٌ قبيحٌ ينزه الله تعالى عنه كما في «الكشاف» وهو مبني على المتعارف بين الناس " (¬1). الرد على ابن عاشور: الأرجح في هذا كله، أن تثبت هذه الأوصاف لله تعالى كما وردت بذلك الآيات والأحاديث على ما يليق بجلاله وعظمته من غير أن يشتق له اسم أو صفة , لا يقال: ماكر ولا مخادع ولا مستهزئ تعالى الله عن ذلك (¬2). قال ابن القيم في " مدارج السالكين": " فنسبة الكيد والمكر ونحوهما إليه سبحانه من إطلاق الفعل عليه تعالى والفعل أوسع من الاسم. ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالاً لم يتسم منها بأسماء الفاعل كأراد وشاء، وأحدث ولم يسم بالمريد والشائي والمحدث كما لم يسم نفسه بالصانع والفاعل والمتقن وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء , وقد أخطأ أقبح الخطأ من اشتق له من كل فعل اسما وبلغ بأسمائه زيادة على الألف فسماه الماكر، والمخادع، والفائن، والكائد ونحو ذلك وكذلك باب الأخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به فإنه يخبر عنه بأنه شيئ موجود ومذكور ومعلوم ومراد ولا يسمى بذلك " (¬3) ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 294. (¬2) المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات / محمد المغراوي، ج 1، ص 298. (¬3) مدارج السالكين / ابن القيم، ج 3، ص 415.

وقال ابن القيم أيضاً في " أعلام الموقعين ": " وقد قيل إن تسمية ذلك مكراً وكيداً واستهزاءً وخداعاً من باب الاستعارة ومجاز المقابلة نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬1) , ونحو قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬2) وقيل: وهو أصوب، بل تسمية ذلك حقيقة على بابه، فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان قبيح، وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه، وحسن، وهو إيصاله إلى من يستحقه عقوبة له، فالأول مذموم، والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه، عدلاً منه وحكمة وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب، لا كما يفعل الظلمة بعباده، وأما السيئة فهي فعلة مما يسوء، ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها فهي سيئة له حسنة من الحكم العدل " (¬3). 4 - نفي الوصف لا يستلزم صحة الاتصاف: قال ابن عاشور عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (¬4): " والاستحياء والحياء واحد، ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية (40). (¬2) سورة البقرة، الآية (194). (¬3) أعلام الموقعين / ابن القيم، ج 3، ص 218 - 217. (¬4) سورة البقرة، الآية (26).

فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب، وهو انقباض النفس من صدور فعل، أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يُفعل. والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفاً لله تعالى , فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله، والتعللُ لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعللٌ غير مسلم " (¬1). الرد على ابن عاشور: ما ذكره ابن عاشور من نفي صفة الحياء لله تعالى مخالف لما عليه مذهب السلف من إثبات الصفات على ما جاءت من غير تكييف ولا تحريف , فلله تبارك وتعالى حياء يليق بجلاله وعظمته، وما ذكره ابن عاشور هو من توهم تشبيه الخالق بالمخلوق، فإثبات الصفة لله تعالى، يكون إثباتاً كاملاً، منزهاً عن التشبيه من جميع وجوهه، وقد ذكر الحياء في غير ما حديث، فيجب إثبات الصفة في جميع مواردها من القرآن والسنة على ما يليق به (¬2) قال الألوسي في "روح المعاني": " وللناس في ذلك مذهبان: فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناءً على ما روي أنهم قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب، والعنكبوت، وبعض، وأنا والحمد لله منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث على ما جاءت , ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة " (¬3). 5 - قاعدة: إذا كانت الصفة تستلزم الجسم تعيّن صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي: ذكر ابن عاشور هذه القاعدة عند تفسيره لقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ ¬

(¬1) التحرير والتنوير، ج 1، ص 361. (¬2) المفسرون بين التأويل والإثبات / المغراوي، ج 1، ص 300. (¬3) روح المعاني / الألوسي، ج 1، ص 208.

إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} (¬1) فقال: " والإتيان حضور الذات في موضع من موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات , فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالاً في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم التنقل الجسم والله منزه عنه، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي، فإن كان الكلام خبراً أو تهكماً فلا حاجة للتأويل، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيداً من الله لزم التأويل، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت، فلا بد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه، وهذا التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول، وإلى هذه الاحتمالات ترجع الوجوه التي ذكرها المفسرون: الوجه الأول: ذهب سلف الأمة قبل حدوث تشكيكات الملاحدة إلى إقرار الصفات المتشابهة دون تأويل فالإتيان ثابت لله تعالى، لكن بلا كيف فهو من المتشابه كالاستواء والنزول والرؤية أي هو إتيان لا كإتيان الحوادث. فأما على طريقة الخلف من أئمة الأشعرية لدفع مطاعن الملاحدة فتجيء وجوهٌ منها: الوجه الثاني: أقول يجوز تأويل إتيان الله بأنه مجاز في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعاً لمن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، أو بأنه مجاز في تعلق القدرة التنجيزي بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعاً للفريقين، أو هو مجاز في ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (210).

الاستئصال يقال أتاهم الملك إذا عاقبهم قاله القرطبي، قلت وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول: أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكه واستأصلَه، فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} (¬1). الوجه الثالث: إسناد الإتيان إلى الله تعالى إسناد مجازي وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا وكونه {في ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} زيادة تنويه بذلك المظهر ووقعه لدى الناظرين. الوجه الرابع: يأتيهم كلام الله الدالُّ على الأمر ويكون ذلك الكلام مسموعاً من قِبَل ظلل من الغمام تحفه الملائكة. الوجه الخامس: أن هنالك مضافاً مقدراً أي يأتيهم أمر الله أي قضاؤه بين الخلق أو يأتيهم بأس الله بدليل نظائره في القرآن أو يأتي أمر ربك وقوله: {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} (¬2) ولا يخفى أن الإتيان في هذا يتعين أن يكون مجازاً في ظهور الأمر. الوجه السادس: حذف مضاف تقديره، آيات الله أو بيناته أي دلائل قدرته أو دلائل صدق رُسُله ويبعِّده قوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} إلاّ أن ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية (2). (¬2) سورة الأعراف، الآية (4).

يرجع إلى الوجه الخامس أو إلى الوجه الثالث. الوجه السابع: أن هنالك معمولاً محذوفاً دل عليه قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1) والتقدير أن يأتيهم الله بالعذاب أو ببأسه. والأحسن تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعْداً ووعيداً " (¬2) ... . الرد على ابن عاشور: الذي ينبغي أن يقرر في صفتي الإتيان والمجيء هو مذهب السلف الصالح. إتيان ومجيء يليق بجلال الله وعظمته منزهاً عن جميع التشبيه الذي يخطر في عقول المعطلة (¬3) ... . قال عبد الباقي الحنبلي: " ومنها نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف , بل يثبت الحنابلة ما أثبته رسول الله ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، وكذلك ما أنزل الله عز اسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} وفي قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} الآية، ونؤمن بذلك بلا كيف فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل فانتهينا إلى ما أحكمه وكففنا عن الذي يتشابه، ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية (209). (¬2) التحرير والتنوير، ج 2، ص 284 - 285. (¬3) انظر المفسرون بين التأويل والإثبات / المغراوي، ج 1، ص 380.

وقال مالك: إياكم والبدع قيل: وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفي صحف إدريس لا تروموا أن تحيطوا بالله خبرة فإنه أعظم وأعلى أن تدركه فطن المخلوقين " (¬1). 7 - قاعدة: إذا كانت الصفة تقتضي التحيّز تعيّن أن يكون المراد غير حقيقة: ذكر هذه القاعدة عند تفسيره لقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ} (¬2) حيث يقول: " والكرسي شيء يُجلس عليه مُتركب من أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية، عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصاً واحداً في جلوسه، فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعاً فهو العرش. وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضائه التحيّز، فتعين أن يكون مراداً به غير حقيقته. والجمهور قالوا: إنّ الكرسي مخلوق عظيم، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته، فقيل هو العرش، وهو قول الحسَن. وهذا هو الظاهر لأنّ الكرسي لم يذكر في القرآن إلاّ في هذه الآية وتكرّر ذكر العرش، ولم يَرِد ذكرهما مقترنين، فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذُكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى: ¬

(¬1) العين والأثر في عقائد أهل الأثر / عبد الباقي الحنبلي، ج 1، ص 61. (¬2) سورة البقرة، الآية (255).

{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (¬1) وقيل الكرسي غير العرش، فقال ابن زيد هو دون العرش وروى في ذلك عن أبي ذَر - رضي الله عنه - أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما الكرسيُ في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيَتْ بين ظهري فلاة من الأرض " وهو حديث لم يصح. وقال أبو موسى الأشعري والسُدى والضحاك: الكرسي موضع القدمين من العرش، أي لأنّ الجالس على عرش يكون مرتفعاً عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربَّع، وروي هذا عن ابن عباس. وقيل: الكرسي مثلَ لعلم الله، وروي عن ابن عباس لأنّ العالم يجلس على كرسي ليعلّم الناس. وقيل: مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق " (¬2). الرد على ابن عاشور: ما ذكره ابن عاشور في تفسير معنى الكرسي وأنه غير مراد على حقيقته قول تردّه الآثار، فقد صحّ عن ابن عباس: " {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} قال: موضع القدمين ولا يقدر قدر عرشه " (¬3)، وفيه: إثبات القدمين لله عز وجل على ما يليق بجلال الله وعظمته. ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية (86). (¬2) التحرير والتنوير، ج 3، ص 23. (¬3) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ج 12، ص 39، ح- 12404، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، ج 6، ص 323، وقال: رجاله رجال الصحيح.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية لما سئل عن العرش والكرسي فأجاب: الحمد لله بل العرش موجود بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها , وكذلك الكرسي ثابت بالكتاب والسنة وإجماع جمهور السلف. وقد نقل عن بعضهم أن كرسيه علمه , وهو قول ضعيف ,فإن علم الله وسع كل شيء كما قال: ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما والله يعلم نفسه , ويعلم ما كان وما لم يكن , فلو قيل وسع علمه السموات والأرض لم يكن هذا المعنى مناسبا لا سيما وقد قال تعالى ولا يؤوده حفظهما أي لا يثقله ولا يكرثه وهذا يناسب القدرة لا العلم , والآثار المأثورة تقتضى ذلك لكن الآيات والأحاديث في العرش أكثر من ذلك صريحة متواترة (¬1) ... . ¬

(¬1) مجموع الفتاوى / شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 6، ص 584.

الخاتمة الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. والصلاة والسلام على رسول الله إمامنا في جميع الحالات وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد .. فقد وفقني الله تعالى بكرمه ومنته إلى إتمام هذه الرسالة، وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله، فهو الموفق، وهو الملهم، والهادي إلى الطريق المستقيم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وحسبي أنني استطعت بهذه الرسالة أن أنير الطريق للسالك في هذا الفن، وأن أبين المعالم لمن أراد البحث والترجيح بين الأقوال للوصول إلى الحقيقة، وساهمت بقدر ضئيل في خدمة القرآن الكريم، واستطعت أن أكشف الصورة عن القواعد الترجيحية المتعلقة بالنص في تفسير ابن عاشور، وفي الختام أذكر بعض النتائج والأمور المستخلصة من هذا البحث على النحو التالي: 1 - إن ابن عاشور كان عالماً فذاً ومصلحاً كبيراً، له تأثيره في إصلاح التعليم بجامع الزيتونة، والذي كان له الأثر الكبير في إعداد القيادات الإصلاحية في المغرب العربي الإسلامي. 2 - اعتنى الشيخ ابن عاشور في تفسيره بتفاصيل المذهب المالكي، ولعل الداعي له أن أغلب أهل بلده مالكية، ومع أنه تتلمذ على المذهب المالكي إلا أنه غير متعصب له، ولا مقلد، بل قد بلغ رتبة الاجتهاد، معتمداً في ذلك على الدليل من النص والإجماع والقياس.

3 - نحا ابن عاشور في تفسيره لآيات العقائد المذهب المنسوب لأبي الحسن الأشعري في أغلب المسائل العقدية، إلا القليل، وقد بينت ذلك في المبحث الثالث من الفصل السابع عند الحديث عن أثر عقيدة ابن عاشور في صياغة القواعد والترجيح بها. 4 - إن القواعد التي ذكرها ابن عاشور والمتعلقة بالعقيدة متفق عليها أو على أصلها؛ لكن الخلاف وقع في تطبيقها عنده بسبب جذور عقدية وهي تأثره بالمذهب الأشعري. 5 - من خلال هذا البحث تبيّن لي توسع ابن عاشور وإلمامه بشتى أنواع العلوم الشرعية حيث رجَّح بناءً على فهمه لدلالة الآيات، ودلالة السنة النبوية والآثار، وبناءً على القواعد اللغوية والإعرابية ونحوها. ولكن من خلال هذه الدراسة المتخصصة في قواعد الترجيح المتعلقة بالنص في تفسير ابن عاشور تبين الآتي: 1 - حرص ابن عاشور على تقديم القول الذي تؤيده الآيات القرآنية. 2 - اعتنى ابن عاشور على الاقتصار على المعنى الظاهر للآية وبيّن أنه الأصل، ولكنه خالف أحياناً في هذه القاعدة ولجأ إلى التأويل ولا سيما في آيات العقيدة متأثراً بالأشاعرة. 3 - بيّن ابن عاشور في تفسيره أن الأولى إعمال اللفظ القرآني بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن، ويرى أن المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن أساليب الكلام العربي البليغ، معانيَ في تفسير الآية.

4 - قرّر ابن عاشور في تفسيره وجوب حمل اللفظ على حقيقته إلا إذا وجد صارف يصرفه عن المعنى الحقيقي، وذكر بأن المعنى المجازي أحياناً قد يكون أرجح من الحقيقي؛ لكونه أسبق إلى الفهم من معناه الحقيقي. 5 - استعان ابن عاشور بما جاء في التوراة لتأييد القول الذي يذهب إليه لا سيما إذا تساوت الأقوال في القوة فإنه يجد ما جاء في التوراة لطيفة تعينه على الترجيح، ولكن قد يبالغ ابن عاشور أحياناً حين نجده يرد قولاً للمفسرين لكونه لم يجده في كتب بني إسرائيل. 6 - اعتنى ابن عاشور بالقواعد الترجيحية المتعلقة بالنسخ، ومن ذلك أنه يرى أن الأصل عدم النسخ إلا إذا قام الدليل على ذلك، وقد حرّر كثيراً من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين النسخ والإحكام، كما قرّر في تفسيره أن النسخ لا يقع في الأخبار وإنما يجوز وقوعه في الأمر والنهي. 7 - قررّ ابن عاشور في تفسيره أن الزيادة على النص ليست بنسخ، كما ذهب في تفسيره إلى أن تخصيص العام وتقييد المطلق لا يعدّ نسخاً، وإن المتقدمين هم الذين اصطلحوا على تسمية ذلك نسخاً. كما يرى ابن عاشور أن إجماع العلماء يعدّ ناسخاً ولكن بشرط أن يكون هذا الإجماع مستند إلى نص شرعي، فيكون النص هو الناسخ الحقيقي للحكم. 8 - اعتمد ابن عاشور على القراءات المتواترة، وذلك بخلاف حال كثير من المفسرين الذين شحنوا تفاسيرهم بالقراءات المتعددة الصحيحة والشاذة. 9 - يرى ابن عاشور أن تواتر القراءات القرآنية هو الشرط الرئيس لقبول القراءات، وأما الشروط الثلاثة التي اشترطها العلماء من موافقتها وجهاً في

العربية, وموافقتها خط المصحف، وصحة سندها، إنما هي شروط في قبول القراءات إذا كانت غير متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما القراءة المتواترة فهي غنية عن هذه الشروط لأن تواترها يجعلها حجة في العربية، ويغنيها عن الاعتضاد بموافقة المصحف المجمع عليه. 10 - أشار ابن عاشور في تفسيره إلى أن الأصل توافق القراءات في الآية الواحدة في المعنى، وإن حصل اختلاف في المعنى لم يكن حمل أحد القراءتين على الأخرى متعينا، بل إن الاختلاف يعدّ أمراً مطلوباً حيث يكثِّر المعاني في الآية الواحدة. 11 - اعتبر ابن عاشور القراءة القرآنية مرجحاً لأحد المعاني إذا اختلفت المعاني في الآية، كما اعتمد رسم المصحف في الترجيح حيث ذهب إلى أن التفسير الموافق لرسم المصحف مقدمٌ على غيره من التفاسير. 12 - اعتنى ابن عاشور بالسياق القرآني، فهو كثيراً ما يرجّح بعض الأقوال بناءً على مناسبته للسياق، كما حرص على ترجيح القول الذي لا يصادم نظم الآية ولا ترتيبها. 13 - عالج ابن عاشور كثيراً من الآيات التي تبدو متعارضة عند النظرة الأولى لها وبيّن أن لكل آية مقامها، ومناسبتها التي ذكرت فيها فلا تعارض بين الآيات. 14 - حرص ابن عاشور على التعرف على عادات القرآن ومعهوده في التفسير، واعتمد أسلوب القرآن في الترجيح بين الأقوال. 15 - ذهب ابن عاشور إلى أن الألفاظ تدل على المعاني، وأن أي زيادة في

لفظ الكلمة فيه زيادة في معناها. 16 - بيّن ابن عاشور في تفسيره أن جميع المعاني التي تتحملها جمل القرآن، تعتبر مرادة بها، وأن فيه من المعاني والمقاصد أكثر مما تحتمله الألفاظ، وهذا لكونه معجزة الإسلام الخالدة، ولذلك فهو يرى أنه إذا اختلفت المعاني حول الآية وكانت جميعها مما يحتملها اللفظ فالأولى الأخذ بها جميعاً ما لم يوجد قرينة أو دليل يرجح أحدهما.

التوصيات: ولعل هذه الخاتمة فرصة لإبداء مقترحاتي حول هذا الموضوع خاصةً وموضوعات الدراسات القرآنية عموماً، وهي: أولاً: أن تتم دراسة مستقلة في مقدمات ابن عاشور التي افتتح بها تفسيره , لأنك إذا قارنتها بما كتبه معاصروه لن تجد وجهاً للمقارنة ألبتة، فهي من الأعلاق النفيسة ذات الشأو البعيد تحتاج إلى عناية ودراسة متخصصة. ثانياً: أقترح إخراج كتب ابن عاشور المخطوطة وتحقيقها، ثم طباعتها ليستفيد منها طلبة العلم. ثالثاً: أن يقوم أحد الباحثين بدراسة مقارنة بين قواعد الترجيح في التفسير من حيث القوة والأَوْلى في تقديم العمل بها، لا سيما عندما تتنازع أكثر من قاعدة حول تفسير الآية فيحتاج إلى معرفة درجة قوة كل منهما وأيهما أقوى حتى تقدَّم في اعتماد الترجيح. رابعاً: نظراً لتميّز ابن عاشور في تحرير المسائل وترجيحها فإنني أرى دراسة القواعد الترجيحية المتعلقة بالسنة عنده، وأما اللغة فهي قيد الدراسة. خامساً: نظراً للارتباط الوثيق بين علم أصول الفقه وقواعد الترجيح، فحبذا لو يتمّ تدريس بعض أبواب أصول الفقه وطرق الاستنباط في الدراسات العليا بقسم القرآن وعلومه. وكذا يتم تدريس التفسير الفقهي وأنواعه في الدراسات العليا بكليات الشريعة. وأخيراً أحمد الله العلي القدير على توفيقه وتيسيره على إنجاز هذا

البحث، هذا وإن كنت قصَّرت في بعض الفصول، فأرجو أن يقبل القارئ عذري لأن الكمال لله وحده: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬1) وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ¬

(¬1) سورة هود، الآية (88).

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع 1 - إبراز المعاني من حرز الأماني في القراءات السبع / عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة المقدسي؛ تحقيق الاستاذ الشيخ: إبراهيم عطوة، ط الحلبي. 2 - ابن عاشور ومنهجه في تفسيره (التحرير والتنوير) / عبد الله بن إبراهيم الريس، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية , رسالة ماجستير، (1408 هـ). 3 - إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر / شهاب الدين أحمد بن محمد عبد الغني الدمياطي؛ تحقيق: أنس مهرة، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1419 هـ- 1998 م. 4 - الإتقان في علوم القرآن / جلال الدين السيوطي؛ تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار التراث، ط 3، 1405 هـ. 5 - أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء / مصطفى سعيد الخن، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 7، 1418 هـ - 1998 م. 6 - الإجماع / أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر , تحقيق: أحمد بن محمد حنيف , الرياض: دار طيبة , ط 1 , 1402 هـ , 1982 م. 7 - الإجماع في التفسير / محمد بن عبد العزيز الخضيري؛ إشراف: علي بن سليمان العبيد، الرياض: دار الوطن للنشر، ط 1، 1420 هـ - 1999 م.

8 - أحكام القرآن / أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، ضبط نصه وخرج آياته: عبد السلام محمد علي شاهين , بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1415 هـ - 1994 م. 9 - أحكام القرآن / أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي؛ تحقيق: عبد الرزاق المهدي، بيروت: دار الكتاب العربي، ط 1، 1421 هـ , 2000 م. 10 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم / أبو السعود محمد بن محمد العمادي القاهرة: دار المصحف. 11 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول / محمد بن علي الشوكاني؛ تحقيق: شعبان محمد إسماعيل، القاهرة: دار السلام، ط 1, 1418 هـ , 1998 م. 12 - أسباب الخطأ في التفسير / طاهر محمود محمد يعقوب، دار ابن الجوزي، ط 1، 1425 هـ. 13 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب / يوسف بن عبد الله بن عبد البر؛ تحقيق: علي محمد البيجاوي، بيروت: دار الجيل، 1412 ط 1، هـ -1992 م. 14 - الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز / العز بن عبد السلام؛ تحقيق: رمزي دمشقية، بيروت: دار البشائر الإسلامية، ط 1، 1408 هـ. 15 - الإصابة في تمييز الصحابة / أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، بيروت: دار الجيل، ط 1، 1412 هـ ,1992 م.

16 - أصول التفسير وقواعده / خالد عبد الرحمن العك، بيروت: دار النفائس، ط 3، 1414 هـ , 1994 م. 17 - أصول السرخسي / أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي؛ تحقيق: أبو الوفاء الأفغاني، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1414 هـ , 1993 م 18 - أصول الفقه الميسر المقدمة الموسوعة الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة مجمع البيان الحديث / سميح عاطف الزين، بيروت: دار الكتاب اللبناني، مصر: دار الكتاب العربي، ط 1، 1410 هـ ,1990 م. 19 - أصول في التفسير / محمد بن صالح العثيمين، القاهرة: دار ابن تيمية، ط: بدون، 1410 هـ. 20 - أصول النظام الاجتماعي في الإسلام / محمد الطاهر ابن عاشور، القاهرة: دار السلام، ط 1، 1426 هـ, 2005 م. 21 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن / محمد الأمين الشنقيطي؛ تحقيق: محمد عبد العزيز الخالدي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1427 هـ , 2006 م. 22 - إعراب القرآن / أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس؛ تحقيق: زهير غازي زاهد، بيروت: عالم الكتب، ط 3، 1409 هـ , 1988 م. 23 - أعلام الموقعين عن رب العالمين / محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي المعروف بابن القيم الجوزية؛ تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، بيروت:

دار الجيل، 1973 م 24 - الأعلام / خير الدين الزركلي، بيروت: دار العلم للملايين، ط 5، 1980 م. 25 - الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى /علي بن هبة الله بن أبي نصر بن ماكولا، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1411 هـ 26 - أليس الصبح بقريب / محمد الطاهر ابن عاشور، تونس: الشركة التونسية لفنون الرسم، ط 2، 1988 م. 27 - الأم / أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، بيروت: دار المعرفة، ط 2، 1393 م. 28 - الإمام البقاعي جهاده ومنهاج تأويله بلاغة القرآن / محمود توفيق محمد سعد، القاهرة: مكتبة وهبة، ط 1، 1424 هـ. 29 - إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات / أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري، بيروت: دار الفكر، ط: بدون، 1414 هـ _ 1993 م. 30 - إنباه الرواة على أنباء النحاة / جمال الدين علي بن يوسف القفطي؛ تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، ط: بدون، 1371 هـ. 31 - أنوار التنزيل وأسرار التأويل / أبو سعيد عبد الله أبو عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، تحقيق: عبد القادر عرفات، بيروت: دار الفكر،

1425 هـ , 2005 م. 32 - الإيضاح في علوم البلاغة / جلال الدين أبو عبد الله محمد بن سعد الدين القزويني، بيروت: دار إحياء العلوم، ط 4، 1998 هـ. 33 - بحر العلوم / أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي، تحقيق وتعليق: علي معوض وعادل عبد الموجود وزكريا الغوتي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1 , 1413 هـ , 1993 م. 34 - البحر المحيط / محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1422 هـ , 2001 م. 35 - البحر المحيط في أصول الفقه /بدر الدين محمد الشافعي الزركشي، راجعه: عبد الستار أبو غدة، محمد سليمان الأشقر، ط: بدون. 36 - بحوث في أصول التفسير ومناهجه / فهد بن عبد الرحمن الرومي، الرياض: مكتبة التوبة، ط 1، 1413 هـ. 37 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع / أبو بكر بن مسعود الكاساني الحنفي، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1417 هـ - 1996 م. 38 - بدائع الفوائد / ابن القيم محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي؛ تحقيق: هشام عبد العزيز عطا وعبد الحميد العدوي وأشرف أحمد، مكة: مكتبة نزار مصطفى الباز، 1416 ط 1، هـ, 1996 م. 39 - البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة من طريقي الشاطبية والدرة / عبد الفتاح القاضي، مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط 1،

1375 هـ , 1955 م. 40 - البرهان في علوم القرآن / بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي؛ تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت: دار المعرفة , ط 2. 41 - بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز / مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، بيروت: المكتبة العلمية، ط: بدون. 42 - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة / عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي؛ تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي، ط 1، 1964 م. 43 - البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها /عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، دمشق: دار القلم، ط 2، 1428 هـ , 2007 م. 44 - البيان في إعجاز القرآن / د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، الأردن: دار عمار، ط 3، 1413 هـ , 1992 م. 45 - تاج العروس من جواهر القاموس /محمد مرتضى الزبيدي، بيروت: دار مكتبة الحياة. 46 - تاريخ مدينة دمشق / أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي؛ تحقيق: محب الدين أبي سعيد العمري، بيروت: دار الفكر، ط: بدون، 1995 م. 47 - تأويل مشكل القرآن / أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة؛ تحقيق: أحمد صقر، القاهرة: مكتبة دار التراث، ط 2، 1427 هـ, 2006 م. 48 - تبصير المنتبه بتحرير المشتبه / ابن حجر العسقلاني , تحقيق: علي محمد

البجاوي , بيروت: المكتبة العلمية , ط: بدون. 49 - التبيان في أقسام القرآن / أبو عبد الله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، بيروت: دار الفكر , ط: بدون. 50 - التحرير والتنوير / محمد الطاهر بن عاشور، تونس: دار سحنون للنشر والتوزيع. 51 - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة / الإمام القرطبي؛ تحقيق: نبيل صلاح، ط 1، 1425 هـ , 2004 م. 52 - تراجم المؤلفين التونسيين / محمد محفوظ، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1404 هـ , 1984 م. 53 - التسهيل لعلوم التنزيل / محمد بن أحمد بن جزي الكلبي، بيروت: دار الكتاب العربي، ط 4، 1403 هـ. 54 - التعارض والترجيح عند الأصوليين وأثرهما في الفقه الإسلامي / محمد الحفناوي، مصر: دار الوفاء، ط 2، 1408 هـ. 55 - التعريفات / علي بن محمد بن علي الجرجاني؛ تحقيق: إبراهيم الأبياري، بيروت - دمشق: دار الفكر، ط 1، 1410 هـ. 56 - تفسير ابن أبي حاتم المسمى التفسير بالمأثور / عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس التميمي الرازي، ضبطه وراجعه: أحمد فتحي حجازي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1427 هـ , 2006 م. 57 - تفسير الإمام مجاهد بن جبر؛ تحقيق: محمد عبد السلام أبو النيل، القاهرة، مدينة نصر: دار الفكر الإسلامي، ط 1، 1410 هـ ,

1989 م. 58 - تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل / علاء الدين علي بن محمد البغدادي الشهير بالخازن؛ ضبطه وصححه: عبد السلام محمد علي شاهين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1425 هـ , 2004 م. 59 - تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار / محمد رشيد رضا، بيروت , ط 2. 60 - تفسير القرآن العظيم / إسماعيل بن كثير الدمشقي؛ تحقيق: مصطفى السيد ومحمد رشاد ومحمد العجماوي وعلي عبد الباقي وحسن عباس قطب، الرياض: دار عالم الكتب، ط 1، 1425 هـ , 2004 م. 61 - تفسير القرآن الكريم / محمد بن صالح العثيمين، الرياض: دار الثريا للنشر التوزيع، ط 1، 1425 هـ , 2004 م. 62 - تفسير القشيري المسمى لطائف الإشارات / أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري النيسابوري؛ تعليق: عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، بيروت: دار الكتب العلمية، 1420 هـ , 2000 م. 63 - التفسير القيم / ابن القيم، جمعه: أويس الندوي؛ تحقيق: محمد حامد الفقي, بيروت: دار العلوم الحديثة. 64 - التفسير الكبير / الفخر الرازي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 2، 1417 هـ , 1995 م. 65 - التفسير المختصر المفيد للقرآن المجيد - مختصر تفسير المنار / محمد

رشيد رضا؛ أتمه وعلق عليه: محمد أحمد كنعان، بيروت: المكتب الإسلامي، ط 1، 1404 هـ , 1984 م. 66 - التفسير الميسر / نخبة من العلماء؛ إشراف الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، المدينة المنورة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، 1419 هـ. 67 - تفسير النسفي / أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، القاهرة: دار إحياء الكتب العربية , ط: بدون. 68 - التفسير الوسيط / محمد سيد طنطاوي، مصر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر، 1998 م. 69 - التفسير الوسيط / وهبة الزحيلي، بيروت: دار الفكر، ط 2، 1427 هـ, 2006 م. 70 - تفسير عبد الرزاق / عبد الرزاق بن همام الصنعاني , تحقيق: محمود محمد عبده، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1419 هـ , 1999 م. 71 - تفسير غريب القرآن / أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، شرحه وراجعه إبراهيم محمد رمضان، بيروت: دار مكتبة الهلال، ط 1، 1411 هـ - 1991 م 72 - تفسير مقاتل بن سليمان / أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي , تحقيق: أحمد فريد، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1424 هـ , 2003 م.

73 - التفسير والمفسرون / محمد بن حسين الذهبي، القاهرة: مطبعة المدني، ط 6، 1416 هـ , 1995 م. 74 - تقريب التهذيب / أحمد بن علي الشهير بابن حجر؛ تحقيق: خليل مأمون شيحا، بيروت: دار المعرفة، ط 2، 1417 هـ , 1997 م. 75 - تهذيب التهذيب / أحمد بن عليبن حجر؛ ضبطه وصححه: صدقي جميل العطار، بيروت: دار الفكر، ط 1، 1415 هـ, 1995 م. 76 - تهذيب الكمال في أسماء الرجال / جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي؛ تحقيق: بشار عواد معروف، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1413 هـ. 77 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تصحيح: محمد سليمان البسام، القاهرة: مطبعة المدني، ط: بدون، 1408 هـ، 1988 م. 78 - التيسير في القراءات السبع / أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، بيروت: دار الكتاب العربي، ط 3، 1406 هـ , 1985 م. 79 - التيسير في القراءات السبع المشهورة وتوجيهها / صابر حسن أبو سليمان، بيروت: دار عالم الكتب، ط 1، 1415 هـ , 1994 م. 80 - التيسير في قواعد علم التفسير / محمد بن سليمان الكافيجي؛ تحقيق: ناصر بن محمد المطرودي، بيروت: دار القلم، ط 1، 1410 هـ, 1990 م. 81 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن / أبو جعفر محمد بن جرير الطبري،

ضبط وتعليق محمود شاكر، بيروت: دار إحياء التراث، ط 1، 1421 هـ , 2001 م. 82 - جامع الزيتونة المعلم ورجاله / محمد العزيز ابن عاشور، تونس: دار سراس للنشر، 1991 م. 83 - الجامع الصحيح سنن الترمذي / محمد أبو عيسى الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون , بيروت: دار إحياء التراث العربي. 84 - الجامع لأحكام القرآن / أبو عبد الله محمد القرطبي، راجعه وخرج أحاديثه: محمد الحفناوي، محمود عثمان، القاهرة: دار الحديث، ط 2، 1416 هـ , 1996 م. 85 - حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح على شرح تنقيح الفصول في الأصول للقرافي / محمد الطاهر ابن عاشور، تونس: مطبعة النهضة، 1341 هـ. 86 - حجة القراءات / عبد الرحمن محمد بن زنجلة، ت: سعيد الأفغاني، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1402 هـ - 1982 م. 87 - الحجة في القراءات السبع / أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه؛ تحقيق: عبد العال سالم مكرم، بيروت: دار الشروق، ط 4، 1401 هـ. 88 - الحجة للقراء السبعة / أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي؛ وضع حواشيه وعلق عليه كامل مصطفى الهنداوي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1421 هـ , 2001 م.

89 - حلية الأولياء / أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، بيروت: دار الكتاب العربي، ط 4، 1405 هـ. 90 - خزانة الأدب، ولب لباب لسان العرب / عبد القادر بن عمر البغدادي، القاهرة: مكتبة الخانجي، ط 1، 1299 م. 91 - دائرة المعارف التونسية / إشراف الأستاذ أحمد خالد، ومحمد الطالبي، وعبد القادر المهيري، ومحمد العروسي، تونس: بيت الحكمة، ط 1، 1990 م. 92 - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون / أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي؛ تحقيق: أحمد محمد الخراط، دمشق: دار القلم، ط 1، 1407 هـ , 1987 م. 93 - الدر المنثور / عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي، بيروت: دار الفكر ط: بدون، 1993 م. 94 - دفع إيهام الاضطراب عن آيات كتاب الله / محمد الأمين الحلبي الشنقيطي القاهرة: مكتبة ابن تيمية. 95 - دقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية / أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني؛ تحقيق: محمد السيد الجليند، دمشق: مؤسسة علوم القرآن، ط 2، 1404 هـ. 96 - دلائل الإعجاز / عبد القاهر الجرجاني؛ تحقيق: محمد رضوان الداية وفايز الداية دار قتيبة، ط 1، 1403 هـ, 1983 م. 97 - دليل الجيب إلى تونس - معلومات كاملة للسائح ورجل الأعمال

حول تونس، بيروت: الدار العربية للعلوم، ط 1، 1422 هـ , 2001 م. 98 - الذريعة إلى تصانيف الشيعة / محمد محسن الشهير بالشيخ أغا بزرك الطهراني، طبع في النجف، 1936 م. 99 - روح البيان في تفسير القرآن / إسماعيل حقي بن مصطفى الحنفي الخلوتي، ضبطه وصححه: عبد اللطيف حسن عببد الرحمن، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1424 هـ - 2003 م. 100 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني / محمود الألوسي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1422 هـ - 2001 م. 101 - الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة / ابن القيم الجوزية، بيروت: دار الكتب العلمية، 1395 هـ , 1975 م. 102 - روضة الناظر وجنة المناظر / عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي؛ تحقيق: عبد العزيز السعيد، الرياض: جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية، ط 2، 1399 هـ. 103 - الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية / زيد بن عبد العزيز الفياض، بيروت: مؤسسة عبد الحفيظ البساط، ط 4، 1423 هـ. 104 - زاد المسير في علم التفسير / أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي؛ تحقيق: عبد الرزاق المهدي، بيروت: دار الكتاب العربي، ط 1، 1422 هـ, 2001 م

105 - الزهد ويليه كتاب الرقائق / عبد الله بن المبارك المرزوي؛ حققه: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت: دار الكتب العلمية , ط: بدون. 106 - سنن أبي داود / سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي؛ تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت: دار الفكر. 107 - سنن البيهقي الكبرى / أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مكة المكرمة: مكتبة دار الباز، 1414 هـ , 1994 م. 108 - السنن الكبرى / أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي؛ تحقيق: عبد الغفار سليمان بندار وسيد كسروي حسن، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1411 هـ , 1991 م. 109 - سير أعلام النبلاء / شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي؛ تحقيق: جماعة بإشراف شعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 3، 1405 هـ. 110 - شجرة النور الزكية في طبقات المالكية / محمد بن محمد مخلوف، القاهرة: المطبعة السلفية، 1349 هـ. 111 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب / العماد الحنبلي، بيروت: دار إحياء التراث العربي. 112 - شرح التلويح على التوضيح لمتن التلقيح في أصول الفقه / عبيد الله بن مسعود المحبوبي البخاري؛ تحقيق: زكريا عميرات، بيروت: دار الكتب، 1416 هـ, 1996 م.

113 - شرح الطحاوية في العقيدة السلفية / علي بن علي بن محمد بن أبي العز النفي؛ تحقيق: أحمد محمد شاكر، الرياض: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف، 1418 هـ. 114 - شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية / محمد خليل هراس، الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية، ط 1، 1413 هـ , 1993 م. 115 - شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير / الفتوحي الحنبلي، القاهرة: مطبعة السنة المحمدية، 1372 هـ. 116 - الشرح الممتع على زاد المستقنع / الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، الرياض: مؤسسة آسام للنشر، ط 1، 1471 هـ. 117 - شرح النووي على صحيح مسلم / أبو زكريا يحيى بن شرف مري النووي، بيروت: دار حياء التراث، ط 2، 1392 هـ. 118 - شرح معاني الآثار / أبو جعفر الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك؛ تحقيق: محمد زهري النجار، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1399 م. 119 - شرح الهداية/ أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي، تحقيق: حازم سعيد حيدر , الرياض: مكتبة الرشد , ط 1 , 1416 هـ , 1995 م. 120 - شعب الإيمان / أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1410 هـ. 121 - شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر ابن عاشور: حياته وآثاره، تأليف: بلقاسم الغالي، بيروت: دار ابن حزم، ط 1، 1417 هـ ,

1996 م. 122 - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ومنهجه في تفسيره التحرير والتنوير / د. هيا ثامر مفتاح العلي، قطر: دار الثقافة، ط 1، 1994 م. 123 - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية / إسماعيل بن حماد الجوهري؛ تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، القاهرة، ط 2، 1402 هـ , 1982 م. 124 - صحيح ابن حبان / أبو حاتم محمد بن حبان أحمد التميمي البستي؛ تحقيق: شعيب الأرنؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1414 هـ , 1993 م. 125 - صحيح البخاري / محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري؛ تحقيق: مصطفى ديب البغا، بيروت: دار ابن كثير، اليمامة، ط 3، 1407 هـ , 1987 م. 126 - صحيح مسلم/ مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري؛ تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت: دار إحياء التراث , ط: بدون. 127 - صفوة التفاسير / محمد علي الصابوني، القاهرة: دار الصابوني , ط 10. 128 - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة / ابن قيم الجوزية، بيروت، ط 1، 1428 هـ , 2007 م. 129 - طبقات الحفاظ / جلال الدين السيوطي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1414 هـ , 19994 م. 130 - طبقات الشافعية الكبرى / تاج الدين بن علي بن عبد الكافي السبكي؛ تحقيق: محمود محمد الطناحي، عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة،

ط 2، 1413 هـ. 131 - طبقات الفقهاء / أبو إسحاق الشيرازي؛ تحقيق: إحسان عباس، بيروت: دار الرائد العربي، ط 1، 1970 م. 132 - الطبقات الكبرى / أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري؛ تحقيق: إحسان عباس، بيروت: دار صادر، ط 1، 1968 م. 133 - الطعن في القرآن والرد على الطاعنين / عبد المحسن بن زبن بن متعب المطيري في القرن الرابع الهجري، رسالة دكتوراه، كلية دار العلوم. 134 - طيبة النشر في القراءات العشر / محمد بن محمد بن علي الجزري، ضبطه وصححه محمد تميم الزعبي، المدينة المنورة: مكتبة دار الهدى، ط 2، 1414 هـ , 1994 م. 135 - العبر في خبر من غبر / محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي؛ تحقيق: صلاح الدين المنجد، الكويت: مطبعة حكومة البيت، ط 2، 1948 م. 136 - العقل وفهم القرآن / الحارث بن أسد المحاسبي؛ تحقيق: حسن القوتلي، دار الكندي للطباعة والنشر، ط 3، 1402 هـ , 1982 م. 137 - عقود المرجان في قواعد المنهج الأمثل في تفسير القرآن من خلال أضواء البيان / أحمد سلامة أبو الفتوح، الرياض: دار الكيان، ط 1، 1426 هـ. 138 - علم القراءات نشأته - أطواره - أثره في العلوم الشرعية / نبيل بن محمد إبراهيم آل إسماعيل، الرياض: مكتبة التوبة، ط 1، 1421 هـ, 2000 م.

139 - علماء ومفكرون معاصرون: محمد الطاهر ابن عاشور علامة الفقه وأصوله / إياد خالد الطباع، بيروت: دار القلم، ط 1، 1426 هـ , 2005 م. 140 - العواصم من القواصم / أبو بكر بن العربي؛ تحقيق: عمار طالبي، القاهرة: دار التراث، ط 1، 1417 هـ , 1997 م. 141 - العين والأثر في عقائد أهل الأثر / عبد الباقي المواهبي الحنبلي؛ تحقيق: عصام رواس قلعجي، دمشق: دار المأمون للتراث، ط 1، 1987 م. 142 - غاية النهاية في طبقات القراء / أبو الخير محمد بن محمد الجزري، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1402 هـ , 1982 م. 143 - غرائب القرآن ورغائب الفرقان / الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري؛ ضبطه وخرّج آياته: زكريا عميرات، ط 1، بيروت - لبنان: دار الكتب العلمية، 1416 هـ - 1996 م. 144 - غيث النفع في القراءات السبع / علي النووي الصفاقسي، ضبطه وصححه: محمد عبد القادر شاهين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1419 هـ , 1999 م. 145 - فتح الباري شرح صحيح البخاري / أحمد بن علي بن حجر العسقلاني؛ تحقيق: محب الدين الخطيب، بيروت: دار المعرفة. 146 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير / محمد بن علي الشوكاني، الرياض: دار عالم الكتب، ط: بدون، 1424 هـ ,2003 م.

147 - فتح المنان في نسخ القرآن / علي حسن العريض، مصر: مكتبة الخانجي، ط 1، 1973 م. 148 - الفصل في الملل والأهواء والنحل / أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري، بيروت: دار المعرفة، ط 2، 1395 هـ , 1975 م. 149 - فصول في أصول التفسير / مساعد بن سليمان الطيار، المملكة العربية السعودية: دار ابن الجوزي، ط 3، 1420 هـ , 1999 م. 150 - في ظلال القرآن / سيد قطب، القاهرة: دار الشروق، ط 26، 1418 هـ, 1997 م. 151 - القراءات الشاذة / ابن خالويه، الأردن: دار الكندي للنشر والتوزيع , ط: بدون. 152 - قصة المولد / محمد الطاهر بن عاشور، تونس: الدار التونسية للنشر والتوزيع , ط 8. 153 - قلائد العقيان ومحاسن الأعيان / أبو نصر محمد بن عبيد الله القيسي الشهير بابن خاقان؛ تحقيق: محمد الطاهر بن عاشور، ط 1، 1409 هـ , 1989 م. 154 - قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن / مرعي بن يوسف بن أبي بكر الكرمي، تحقيق سامي عطا حسن، الكويت: دار القرآن الكريم، 1400 هـ. 155 - قواعد الترجيح عند المفسرين / حسين الحربي، راجعه: الشيخ مناع القطان، الرياض: دار القاسم , ط 1.

156 - قواعد التفسير /خالد بن عثمان السبت، المملكة العربية السعودية / دار بن عفان للنشر والتوزيع، ط 1، 1417 هـ , 1997 م. 157 - القواعد الحسان لتفسير القرآن / الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، الرياض: مكتبة الرشد، ط 3، 1424 هـ , 2003 م. 158 - القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى / محمد بن صالح العثيمين، الرياض: دار الوطن، ط 1، 1412 هـ. 159 - الكتاب / أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه؛ تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، القاهرة: مطبعة المدني، ط 3، 1408 هـ , 1988 م. 160 - كشاف اصطلاحات الفنون / محمد علي الفاروقي التهانوي؛ تحقيق: لطفي عبد البديع، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية. 161 - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل؛ تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، الرياض: مكتبة العبيكان، ط 1، 1418 هـ , 1998 م. 162 - كشف المغطى من الألفاظ والمعاني الواقعة في الموطأ /محمد الطاهر بن عاشور، تونس: الشركة التونسية للتوزيع، 1975 م. 163 - الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، أبو محمد مكيبن أبي طالب القيسي؛ تحقيق: محيي الدين رمضان، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 5، 1418 هـ , 1997 م. 164 - الكشف والبيان المعروف بتفسير الثعلبي / أبو إسحاق أحمد الثعلبي،

تحقيق: أبو محمد بن عاشور، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1, 1422 هـ. 165 - الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي؛ تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1419 هـ ,1998 م. 166 - اللباب في علوم الكتاب / أبوحفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي؛ تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد معوض، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1419 هـ، 1998 م. 167 - لسان العرب/ ابن منظور، بيروت: دار إحياء التراث، ومؤسسة التاريخ العربي ط 1، 1416 هـ , 1995 م. 168 - لسان الميزان / أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني؛ تحقيق: دائرة المعارف النظامية: الهند، بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 3، 1406 هـ , 1986 م. 169 - لطائف الإشارات / القشيري؛ تحقيق: إبراهيم بسيوني، القاهرة: مركز تحقيق التراث، ط 3 , 1981 م. 170 - لمسات بيانية في نصوص من التنزيل / فاضل صالح السامرائي , عمان: دار عمار, ط 3 , 1423 هـ. 171 - المؤتلف والمختلف / أبو القاسم الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي؛ تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1381 هـ, 1961 م

172 - مباحث في علوم القرآن / مناع القطان، الرياض: مكتبة المعارف، ط 2، 1417 هـ , 1996 م. 173 - متن الشاطبية في القراءات السبع / أبو القاسم بن فيرة الشهير بالشاطبي , القاهرة: مكتبة السنة , ط 2 , 1429 هـ , 2008 م. 174 - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر / أبو الفتح ضياء الدين نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير؛ تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي , ط: بدون. 175 - مجاز القرآن / أبو عبيدة معمر بن مثنى التيمي؛ خرج أصوله وعلق عليه: محمد فؤاد سزكين، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1401 هـ , 1981 م. 176 - مجلة البحوث الإسلامية / الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء، الرياض: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والإرشاد، 1413 هـ. 177 - مجلة جامعة الملك سعود , العلوم التربوية والدراسات الإسلامية، مجلد 15، الرياض، 1423 هـ , 2003 م. 178 - مجمع الزوائد / علي بن أبي بكر الهيثمي، القاهرة: دار الريان , ط: بدون. 179 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية / جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، المدينة المنورة: طبعة مجمع الملك فهد لطباعة

المصحف الشريف، 1416 هـ, 1995 م. 180 - محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي؛ تحقيق: أحمد بن علي وحمدي صبح القاهرة: دار الحديث، 1424 هـ , 2003 م. 181 - المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها / أبو الفتح عثمان بن جني؛ تحقيق: محمد عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1419 هـ , 1998 م. 182 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز / أبو محمد بن عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي؛ تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1413 هـ , 1993 م. 183 - المحصول في علم أصول الفقه / فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي؛ تحقيق: جابر فياض العلواني، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 412 هـ , 1992 م. 184 - المحلى / أبو محمد علي بن حزم، القاهرة: نشر مكتبة الجمهورية العربية، ط: بدون، 1388 هـ , 1968 م. 185 - مختار الصحاح / ابن عبد القادر الرازي، تحقيق: محمود خاطر , بيروت: مكتبة لبنان، طبعة جديدة، 1415 هـ. 186 - مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة / محمد أبي بكر ابن القيم الجوزية، بيروت: دار الفكر , ط: بدون. 187 - مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين / أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم؛ تحقيق: محمد حامد الفقي، بيروت: دار

الكتاب العربي، ط 2، 1393 هـ , 1973 م. 188 - المستدرك على الصحيحين / محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري؛ تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1411 هـ , 1990 م. 189 - المستصفى في علم الأصول / أبو حامد محمد الغزالي، ترتيب: محمد عبد الشافي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1413 هـ , 1993 م. 190 - مسند أبي عوانة / أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني، بيروت: دار المعرفة , ط: بدون. 191 - مسند الإمام أحمد بن حنبل / أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني، مصر: مؤسسة قرطبة , ط: بدون. 192 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي / أحمد بن محمد الفيومي، بيروت: المكتبة العلمية. 193 - مصنف ابن أي شيبة / أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة؛ تحقيق: كمال يوسف الحوت، الرياض: مكتبة الرشد، ط 1، 1409 هـ. 194 - معالم التنزيل / أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي؛ تحقيق: محمد عبد الله النمر- عثمان جمعة- سليمان الحرش، دار طيبة للنشر، ط 4، 1417 هـ , 1997 م. 195 - معالم السنن شرح سنن أبي داود / أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي، بيروت - لبنان: المكتبة العلمية، ط 2، 1401 هـ , 1981 م. 196 - معاني القرآن / أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، بيروت: عالم الكتب،

ط 3، 1403 هـ , 1983 م. 197 - معاني القرآن / علي بن حمزة الكسائي، أعاد بناءه وقدم له: عيسى شحاته عيسى، القاهرة: دار قباء، 1998 م. 198 - معاني القرآن وإعرابه / أبو إسحاق بن إبراهيم السري الزجاج؛ تحقيق: عبد الجليل عبده شلبي، بيروت: دار عالم الكتب، ط 1، 1408 هـ , 1988 م. 199 - المعجم الأوسط / أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني؛ تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد وعبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، القاهرة: دار الحرمين، 1415 هـ. 200 - معجم البلدان/ أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، بيروت: دار الكتاب العربي، ط: بدون. 201 - معجم الشعراء من العصر الجاهلي حتى نهاية العصر الأموي / عفيف عبد الرحمن بيروت: دار المناهل، ط 1، 1417 هـ , 1996 م. 202 - المعجم الكبير / أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني؛ تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، الموصل: مكتبة العلوم والحكم، ط 2، 1404 هـ , 1983 م 203 - المعجم الوسيط / إبراهيم مصطفى، أحمد حسن الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد علي النجار، القاهرة: مجمع اللغة العربية- الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث , ط: بدون. 204 - معجم مقاييس اللغة / أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا، بيروت:

دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1422 هـ , 2001 م. 205 - معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار / أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي؛ تحقيق: بشار عواد معروف، وشعيب الأرناؤوط، وصالح مهدي عباس، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 1، 1404 هـ. 206 - مغاني الأخيار في شرح أسامي رجال معاني الآثار / الحافظ العيني, تحقيق: أسعد محمد الطيب , الرياض - مكة: مكتبة نزار مصطفى الباز , ط 1 , 1418 هـ, 1997 م. 207 - المغني / أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، الرياض: مكتبة الرياض الحديثة، ط: بدون. 208 - مفتاح السعادة ومصباح السيادة / طاش كبري زاده، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1406 هـ. 209 - مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني؛ تحقيق: صفوان عدنان داوودي، دمشق: دار القلم، بيروت: الدار الشامية، ط 2، 1418 هـ , 1997 م. 210 - المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات / محمد عبد الرحمن المغراوي، الرياض: دار طيبة، ط 1، 1405 هـ , 1985 م. 211 - مقاصد الشريعة الإسلامية / محمد الطاهر ابن عاشور، تونس: الشركة التونسية للتوزيع، ط 1، 1978 م. 212 - مقدمة في أصول التفسير / تقي الدين أحمد بن عبد الحليم؛ تحقيق:

عدنان زرزور، مكة المكرمة: دار الرسالة، ط: بدون، 1415 هـ , 1995 م. 213 - مناهل العرفان في علوم القرآن / محمد عبد العظيم الزرقاني؛ تحقيق: فوّاز أحمد زمر لي، بيروت: دار الكتاب العربي، ط 3، 1419 هـ , 1999 م. 214 - منجد المقرئين ومرشد الطالبين /محمد بن محمد الجزري، دار الكتب العلمية، 1400 هـ. 215 - منهاج السنة النبوية / أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني؛ تحقيق: د. محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، ط 1، 1406 هـ. 216 - منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة / عثمان بن علي حسن، الرياض: مكتبة الرشد، 1412 هـ. 217 - الموافقات في أصول الشريعة / أبو إسحاق الشاطبي، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر. 218 - موجز البلاغة / محمد الطاهر ابن عاشور، تونس: المطبعة العلمية، 1939 م. 219 - الناسخ والمنسوخ / أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس؛ تحقيق: د محمد عبد السلام محمد، الكويت: مكتبة الفلاح، ط 1، 1408 هـ. 220 - الناسخ والمنسوخ / قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي؛ تحقيق: حاتم صالح الضامن، بيروت: مؤسسة الرسالة , ط 1. 221 - الناسخ والمنسوخ / هبة الله بن سلامة المقري؛ تحقيق: زهير الشاويش،

محمد كنعان، بيروت: المكتب الإسلامي , ط 1. 222 - الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم / أبو بكر محمد بن عبد الله ابن العربي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 3، 1427 هـ , 2006 م. 223 - الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم / علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري؛ تحقيق: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1406 هـ. 224 - النسخ في القرآن الكريم / أ. د مصطفى زيد؛ تعليق وعناية محمد يسري إبراهيم، القاهرة: دار اليسر، ط 1، 1427 هـ , 2006 م. 225 - النشر في القراءات العشر / الحافظ أبي الخير محمد بمن محمد الدمشقي الشهير بابن الجزري، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1418 هـ , 1998 م. 226 - النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح / محمد الطاهر ابن عاشور تونس: الدار العربية للكتاب، 1399 هـ , 1979 م. 227 - النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح، تونس: الدار العربية للكتاب، ط 2، 1398 هـ , 1979 م. 228 - نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء / محمد الرّوكي، طبعة كلية الآداب، الرباط، 1994 م. 229 - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور / أبو الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي؛ خرّج أحاديثه ووضع حواشيه: عبد الرزاق غالب المهدي , بيروت: دار الكتب العلمية , ط 2، 1424 هـ , 2003 م. 230 - نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم / محمد الطاهر بن عاشور، مصر: المطبعة السلفية، ط 1، 1344 هـ.

231 - النكت والعيون تفسير الماوردي / أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، راجعه وعلق عليه السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، بيروت: دار الكتب العلمية , ط: بدون. 232 - نهاية الإيجاز في دراسة الإعجاز / الفخر الرازي؛ تحقيق: ابراهيم السامرائي ومحمد بركات حمدي، عمان: دار الفكر للنشر والتوزيع، ط: بدون، 1985 م. 233 - نواسخ القرآن / أبو الفرج عبد الرحمن علي بن محمد بن الجوزي، ط 1، بيروت: دار الكتب العلمية، 1405 هـ. 234 - الوافي بالوفيات / صلاح الدين خليل بن إيبك الصفدي، عناية: ديدر ينغ، بيروت: دار صادر، ط 2، 1389 هـ , 1970 م. 235 - الوسيط في تفسير القرآن المجيد / أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري؛ تحقيق: عادل عبد الموجود، وعلي محمد معوض، وأحمد محمد صيرة، وأحمد عبد الغني الجمل، بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1415 هـ , 1994 م. 236 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان / أبو العباس شمس الدين أحمد بن خلكان؛ تحقيق: إحسان عباس، بيروت: دار صادر، ط 1، 1994 م. 237 - الوقف وآثاره في الإسلام / محمد الطاهر بن عاشور، مصر: مطبعة الهداية الإسلامية.

§1/1