قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث

القاسمي، جمال الدين

المقدمات

المقدمات: السيد محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي لكاتب الشرق الأكبر أمير البيان المرحوم الأمير شكيب أرسلان: لا يخفى على أهل الأدب، أن الجمال والقسام في العربي واحد، وأن معنى القاسم هو الجميل. فلا يوجد إذن لتأدية هذا المعنى أحسن من قولنا: "الجمال القاسمي" الذي جاء أسمًا على مسمى، مع العلم بأن الجمال الحقيقي، هو الجمال المعنوي، لا الجمال الصوري، الذي هو جمال زائل. فالجمال المعنوي هو الذي ورد به الحديث الشريف: "إن الله جميل ويحب الجمال". وعلى هذا يمكنني أن أقول: إنه لم يعط أحد شطر الجمال المعنوي الذي يحبه الله تعالى، ويشغف به عباد الله تعالى، بدرجة المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي، الذي كان في هذه الحقبة الأخيرة جمال دمشق، وجمال القطر الشامي بأسره، في غزارة فضله، وسعة علمه، وشفوف حسه، وزكاء نفسه، وكرم أخلاقه، وشرف منازعه، وجمعه بين الشمائل الباهية، والمعارف المتناهية، بحيث أن كل من كان يدخل دمشق، ويتعرف إلى ذاك الحبر الفاضل، والجهبذ الكامل، كان يرى أنه لم يكن فيها إلا تلك الذات البهية، المتحلية بتلك الشمائل السرية، والعلوم العبقرية، لكان ذلك كافيًا في إظهار مزيتها على سائر البلاد، وإثبات أن أحاديث مجدها موصولة الإسناد. لقد تعرفت إلى العلامة المشار إليه رحمه الله، منذ ثلاث وعشرين سنة أو أكثر وذلك بواسطة صديقه الأستاذ العلامة نادرة عصره، الشيخ عبد الرزاق البيطار، قدس الله روحه اللطفية، فقد كان هذان الجهبذان فرقدين في سماء الشام، يتشابهان كثيرًا في سجاحة الخلق، ورجاحة العقل، ونبالة القصد، وغزارة العلم، والجمع بين العقل والنقل، والرواية والفهم.

ولم يكن في وقتهما أعلى منهما فكرًا، وأبعد نظرًا، وأثقب ذهنًا، في فهم المتون والنصوص، والتمييز في بين العموم والخصوص؛ وكان وجودهما ضربة شديدة على الحشوية، وتلك الطبعة الجامدة، التي هي وأمثالها صارت حجة على الإسلام في تدهوره وإنحطاطه، وفقده معاليه السالفة. وقد كنت لا أغشى دمشق مرة من المرار -والله يعلم كم كنت أزورها كل سنة- إلا كان أول ما أبادر إليه زيارة الأستاذين: الشيخ عبد الرازق البيطار، والشيخ كمال القاسمي، رحمهما الله، وجزاهما عن الإسلام خيرًا، وكانت تستمر مجالستي مع كل منهما أو معهما مجتمعين، الساعات الطوال، في الأيام والليال، ولا نشرع بمرورها، بسبب طرافة الحديث، ولطفاة النكات، وجلالة المواضيع، ونصاعة البراهين، وغزارة الشواهد، والنظم بين المعقول والمنقول، والجمع بين الفروع والأصول. فكنت إذا سمعت محاضراتهما نسيت نفسي، ورأيتني في حياة غير الحياة التي أعهدها. وكم حفظت مما سمعته منهما من شوارد، وعلقت من نوادر، وفهمت من حقائق، وتذوقت من رقائق، أنا فيها عيال عليهما وإني لأجر ذيل التية بهذا السند. وقد كان للشيخ جمال رحمه الله عدا إحاطته العلمية، معارف لا يساويه فيها أحد من المجتمع الإسلامي عمومًا، والعربي الشامي خصوصًا. فقد صح فيه ذلك التعريف الذي عرف به بعضهم "العالم" فقالوا: "هو قبل كل شيء العالم بأحوال عصره ومصره". وقد كنت إذا فارقت ذينك الأستاذين، لا أفتأ أعشو إلى منارهما، وأجاذبهما حبال المراسلة، استفادة منهما على البعد، واستحضارًا في الخيال لروحيهما اللتين هما معدن الأنس. وعندي منهما كتب أعدها من أنفس الذخائر، وأثمن ما يورثه الأول للآخر. وربما أنشر بعض كتابات الشيخ جمال في أول فرصة تتسنى لي. وكنت أعلم أن للشيخ جمال تآليف ممتعة، وربما كان يطلعني على بعضها، وربما طالعني ببعض آرائه فيها، واستأنس برأي القاصر، واستوري زندي الفاتر، وهو مع ذلك صاحب الرأي الذي انتهت إليه الأصالة، والقولخ الذي اندمجت فيه الدقة مع الجلالة.

ولكني لم أكن أطلعت على كتابه الذي هو تحت الطبع الآن، المسمى "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث" فقد بعث به إلى ولده الأديب السيد ظافر القاسمي، أظفره الله بما أراده، وجعله فرعًا صالحًا لذلك الأصل المنقطع النظير. فرأيت من هذا الكتاب في حسن ترتيبه وتبويبه، وتقريب الطرق على مريد الحديث، والإحاطة بكل ما يلزم المسلم معرفته، من قواعد هذا العلم الشريف ما يقضي بالعجب لمن لم يكن يعرف علو درجة المؤلف، ولكنه مما لا يعجب منه مثلي ممن حضروا مجالسة الزاهرة. وسمعوا تقريراته الساحرة. وإني لأوصي جميع الناشئة الإسلامية، التي تريد أن تفهم الشرع فهمًا ترتاح إليه ضمائرها، وتنعقد عليه خناصرها، أن لا تقدم شيئًا على قراءة تصانيف المرحوم الشيخ جمال القاسمي، الذي قسم الله له من اكتناه أسرار الشرع، ما لم يقسمه إلا لكبار الأئمة، وأحبار الأمة. والله تعالى ينفع المسلمين بآثاره، ويهديهم في ظلمات هذه الحياة بزاهر أنواره آمين. جنيف 5 رجب الفرد 1353 شكيب أرسلان

قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث؛ لمصلح العصر المرحوم الإمام السيد محمد رشيد رضا: نُعي إلينا القاسمي في شهر رجب من سنة 1332 فكتبت له ترجمة نشرتها في هذا الشهر والذي بعده من مجلد المنار السابع عشر وصفته في أولها بقولي1: "هو علامة الشام، ونادرة الأيام، والمجلد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعلم والعمل والتعليم، والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، والارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن، الفقيه الأصولي، المفسر المحدث، الأديب المتفنن، التقي الأواب، الحليم الأواه، العفيف النزيه، صاحب التصانيف الممتعة، والأبحاث المقنعة صديقنا الصفي، وخلنا الوافي، وأخونا الروحي، قدس الله روحه، ونور ضريحه، وأحسن عزاءنا عنه". ثم ذكرت تصانيفه ورسائله2 مرتبة على الحروف فبلغت 79، ومنها هذا الكتاب "قواعد التحديث" الذي عني بطبعه نجله الكريم السيد ظافر القاسمي فتم في هذا الشهر "شوال سنة 1353" وكان يرسل إلي ما يتم طبعه منه متفرقًا لأنظر فيه، وأكتب للقراء تعريفًا به، على علم تفصيلي بمباحثه وأسلوبه، وتقسيمه وترتيبه، فأقول: ليتني كنت أملك من وقتي الحاشك بالضروريات، الحاشد بالواجبات، فرصة واسعة أو نهزًا متفرقة في شهر أو شهرين أقرأ فيها هذا السفر النفيس كله، فأتذكر به من هذا العلم ما لعلي نسيت، وأتعلم مما جمعه المؤلف فيه ما جهلت، فهو الحقيق بأن يقرأ ما كتب، ويحصى ما جمعه، لتحريه النفع، وحسن اختياره في الجمع، وسلامة ذوقه في التعبير والتقسيم

_ 1 ص558. 2 ص628.

والترتيب والوضع، وقد بلغ في مصنفه هذا سدرة المنتهى من هذا العلم الاصطلاحي المحض، الذي يوعى بكد الحافظة، وتستنبط بقوة الذاكرة، فلا يستلذه الفكر الغواص على حقائق المعقولات، ولا الخيال الجوال في جواء الشعريات، ولا الروح المرفرف في رياض الأدب أو المحلق في سماء الإلهيات إذ جعله كأنه مجموعة علوم وفنون وأدب وتاريخ وتهذيب وتصوف، مصطفاة كلها من علم حديث المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله، ومن كتب طبقات العلماء المهتدين به، كأنه قرص من أقراص أبكار النحل، جنته من طرائف الأزهار العطرية، ومجت فيه عسلها المشتار من طوائف الثمار الشهية، فلعل الظمآن لهذا العلم لا يجد فيه كتابًا له مطالعته كله، فينله ويعله ولا يمله، كأنه أقصوصة حب، أو ديوان شعر، اللهم إلا هذا الكتاب. أقول هذا بعد أن طفت بجميع أبوابه، وكثير من مباحثه وفصوله، طوافًا سريعًا كأشواط الرمل في طواف النسك، ثم قرأت فيه بعض ما اختلفت العلماء في تحقيقه، وبعض ما لم يسبق لي الاطلاع عليه من مختارات نقوله، فصح لي أن أصفه وصفًا صحيحًا مجملًا يهدي إلى تفصيل: صفة للكتاب وما فيه: فأما تقسيمه وترتيب أبوابه وفصوله ومباحثه وضع عناوينها، فهو غاية في الحسن وتسهيل المطالعة والمراجعة بكثرتها، وجعلها عامة شاملة لوسائلها كمقاصدها، وفروعها كأصولها، وزادها حسنًا مراعاته في الطبع، بجعلها على أحدث وضع: من ترك بياض واسع بين سوادها، شامل للمعدود بالأرقام من مباحثها، مع إفراط فيه بترك بعض الصفات بعد ختام للفصل أو البحث خالية كلها. ومن آيات إخلاص المؤلف وحسن اختيار الناشر، أن طبعه في هذا العهد الذي توجهت فيه همم الكثيرين من أهل الدين وطلاب العلم إلى الاشتغال بما كان متروكًا من علم الحديث، والاهتداء بالسنن الصحيحة في هذه الأقطار العربية، واجتناب الروايات الموضوعة المنكرة والواهية، واشتدت حاجتهم إلى معرفة الشذوذ والعلل والتعارض والتراجيح فيها، وبيان

ذلك في كتاب سهل العبارة، جامع لأهم ما يحتاجون إليه من المصطلحات في الرواية والدراية ووصف دواوين السنة من المسانيد الصحاح والسنن، وكل ما يرشد إلى الاحتجاج والعمل، وأحسن أقوال الحفاظ، ورجال الجرح والتعديل وعلماء أصول الفقه في ذلك، وإنهم ليجدون كل هذه المطالب في هذا الكتاب دانية القطوف، مع زيادة يندر فيها المنكر ويكثر المعروف. وأما طريقة المؤلف في تدوينه فهو أنه طالع كثيرًا من مصنفات المحدثين والأصوليين والفقهاء والصوفية والمتكلمين والأدباء من المتقدمين والمتأخرين، وكتب مذاكرات فيما اختار منها في هذا الفن وما يتصل به من العلم، ثم جمعها ورتبها كما وصفناها، وقد وفى بعض المسائل حقها، ببيان كل ما تمس إليه حاجة طلابها، وأوجز في بعضها واختصر، إما ليمحصه في فرصة أخرى، وإما ليفوض أمره إلى أهل البحث والنظر، ولا غضاضة عليه في هذا، فإمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري قد سبقه في بعض أبواب جامعه الصحيح إلى مثله. وقد فتح فيه بعد الخطبة والمقدمة تسعة أبواب لمباحث الحديث: من فضله وعلومه ومصطلحاته، ورواته، وكتبه، ومصنفيها، ودرجاته، وما يحتج به وما لا يحتج به، وحكم العمل به، وغير ذلك من المسائل في نوعي الرواية والدراية، فاستغرق ذلك 254 صفحة، وفتح الباب العاشر لفقه الحديث ومكانه من أصول الدين والمذاهب فيه، وما روي وألف في الاهتداء والعمل به، فبلغت صفحاته بهذه المباحث 383، يليها الخاتمة وهي في فوائد متفرقة يضطر إليها الأثري. الكتب التي استمد منها هذا الكتاب: وأما المصنفات التي استمد منها مباحث الكتاب ومسائله، فأكثرها لأشهر علماء الإسلام من الأئمة المستقلين أو المنتسبين إلى المذاهب المتبعة في الأمصار المعتمدة عند أهلها، وأقلها للمشهورين عند عوام القراء ومقلدة العمائم بالعلم والعرفان، أو بالولاية والكشف والإلهام. لهذا تجد فيه كل فئة من القراء ما تنتقد عليه نقله، من حيث تجد فيه كل فئة ما تعتمد ممن تقبل علمه ورأيه.

وأما المؤلف فغرضه من هذا وذاك، أن تنتفع بكتابه كل فئة من الفئات، فأهل البصيرة والاستدلال يزدادون علمًا ونورًا بما اختاره لهم من كتب الأئمة وعلماء الاستقلال، ولا يضرهم ما لا يوثق به من أقوال المقلدين ومدعي الكشف والإلهام، ولكن الذين يقدسون هؤلاء يجدون من أقوالهم ونقولهم وكشفهم أنهم يتفقون مع الآخرين على أن أصل هذا الدين "الإسلام" الأساسي المقدس المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو كتاب الله وكلامه "القرآن العظيم" ويليه ما بينه للناس بأمره من سنة رسوله خاتم النبيين، التي تواترت أو اشتهرت عنه بعمل الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار، ويليها ما صح عند هؤلاء الأئمة من حديثه -صلى الله عليه وسلم- المروي بنقل الثقات، وما دون هذا من الأخبار والآثار التي اختلف الحفاظ في أسانديها أو استشكل فقهاؤهم متونها، فهو محل اجتهاد. ويجد قارئ هذا الكتاب من أقوال أصناف العلماء ما فيه لعله لا يجده مجموعًا في غيره، وإنني أورد نموذجًا من مباحثه وطريقته في نقوله: المذاهب في الضعيف والمرسل والموقوف: من أهم هذه المباحث: أقوال المحدثين في معنى الحديث الضعيف الذي وقع الاختلاف في العمل به، فاستحبه بعضهم في فضائل الأعمال، والأخذ به في المناقب. ومن فروع هذا الاختلاف أن الضعيف في جامع الترمذي ودون الضعيف في مسند أحمد، فيقبل من ضعاف المسند ما لا يقبل من ضعاف الترمذي لأنها تساوي الحسان فيه. ومنها: الاحتجاج بالحديث المرسل واختلاف المذاهب فيه، واستثناء الجمهور مراسيل أصحابة، وحجتهم وحجة مخالفيهم، والأقوال في الموقوف على الصحابي الذي له حكم المرفوع، والذي يعد رأيا له، والأقوال في عدالة جميع الصحابة في الرواية عند جمهور أهل السنة وحجة مخالفيهم فيها، وغير ذلك من المسائل التي لا يستغني عن معرفتها الذين هداهم الله في هذا العهد إلى الاهتداء بهدي محمد -صلى الله عليه وسلم- على صراط الله الذي استقام عليه السلف الصالح وهي كثيرة. وقد بين المؤلف رحمه الله تعالى رأيه وفهمه في بعض دون بعض، وما كان لمن يُعنى بكثرة النقل، وعرض وجوه الاختلاف في العلم، أن يمحص المسائل كلها فيه،

ويكون له حكم الترجيح بينها، على أن رأي كل مؤلف في مسائل الخلاف ينتظم في سلك سائر الآراء، والواجب على المطلع عليه من أهل العلم أن ينظر في دليله كدلائل غيره، ويعتمد ما يظهر له رجحانه، كما فعل المؤلف في بحث الجلال الدواني في الحديث الضعيف وأبدى رأيه في الاختلاف فيه إذ قال: بحث الدواني في الضعيف: "قال المحقق الجلال الدواني في رسالته أنموذج العلوم: اتفقوا على أن الحديث الضعيف لا تثبت له الأحكام الشرعية، ثم ذكروا أنه يجوز بل يستحب العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، وممن صرح به النووي في كتبه لا سيما كتاب الأذكار وفيه إشكال؛ لأن جواز العمل واستحبابه كلاهما من الأحكام الشرعية الخمسة فإذا استحب العمل بمقتضى الحديث الضعيف كان ثبوته بالحديث الضعيف، وذلك ينافي ما تقرر من عدم الأحكام بالأحاديث الضعيفة". ثم نقل عن الدواني أن بعضهم حاول التقصي من هذا الإشكال، وتصحيح كلام النووي بما أورده وناقش فيه، ثم نقل عن الشهاب الخفاجي مناقشة للدواني في المسألة من شرحه للشفاء، ورد عليه ردًّا شديدًا فوق المعهود من لين الأستاذ القاسمي، بأن حكم على كل مناقشات الخفاجي بأنها عادة استحكمت في مصنفاته لا يحظى واقف عليها بطائل، وأنه سود وجه القرطاس هنا، وأن كلام الجلال غبار عليه، وأن مؤاخذته بمطلق الفضائل افتراء أو مشاغبة، وختم الرد بقوله: "فتأمل لعلك تجد القوس في يد الجلال، كما رآه الجمال." ا. هـ. وأقول: نعم! إنها قد تحلت وتجلت بحلة الجلال والجمال؛ ولو أن الثاني حول نظره عن كتب هذه الطبقة الوسطى من العلماء المستدلين كالدواني والنووي والمناقشة العليمة فيها إلى كتب المناقب والفضائل لجامعي كل ما روي من المحدثين، وكتب الأوراد والتصوف التي لفقها من دونهم من المؤلفين، لوجد فيها من الغلو في الإطراء المنهي عنه والتشريع الذي لم يأذن به الله، ومن الاحتجاج بأقوال الصوفية ومقلدة الفقهاء وعبادتهم المبتدعة، ما فيه جناية على عقائد الإسلام القطعية، ومخالفة لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة، ولوجدهم

يحتجون عليها بقول من قالوا إنه يجوز الأخذ والعمل بالأحاديث الضعيفة، وهم لا يميزون بين الضعاف التي ألحقوها بالحسن، والمنكرة الواهية التي لم يقل بالأخذ بها أحد والتي نقل لنا القاسمي عن الإمام مسلم في مقدمة صحيحه وعن غيره من الإنكار عليها ما نقل، ولعقده لهذا الحديث فصلًا خاصًّا به. الموضوعات والأحاديث غير المخرجة: عقد المؤلف المقصد 48 من الباب الرابع للكلام على الحديث الموضوع بعد أن تكلم على الحديث الضعيف بما نقلنا بعضه عنه آنفًا، وأورد في هذا المقصد 14 مسألة، الخامسة منها فتوى الشيخ أحمد بن حجر الفقيه الشافعي في خطيب لا يبين مخرجي الأحاديث نقلها من كتابه الفتاوى الحديثية ملخصة، فلم يذكر فيها اعتماده على ما نقله عن الحافظ ابن حجر في منع ولي الأمر لهذا الخطيب من الخطابة إذا لم يكن محدثًا يروي الحديث بنفسه. فعلم بهذا أن ما اشترطه على نفسه من التزام نقل الأقوال بحروفها أغلبي لا مطرد1. أهم فوائد الكتاب المقصورة منه بالذات: الجمال القاسمي رحمه الله تعالى من المصلحين المجددين في هذا القرن "الرابع عشر للهجرة" وغرضه الأول من هذا الكتاب بث هداية الكتاب والسنة في الأمة على منهاج السلف الصالح وتسهيل سبيلها، وما أهلك المسلمين في دينهم ودنياهم إلا الإعراض عن هذه الهداية التي شرع الله الدين لأجلها. ولهذا الإعراض سببان: أهونهما الجهل البسيط، وهو عدم العلم بما خاطب الله الناس في كتابه، وبما بينه لهم رسوله -صلى الله عليه وسلم- منه نسبته وهديه، وربما كان عليه أهل العصر الأول عصر النور من الاهتداء بالكتاب والسنة علمًا وعملًا وخلقًا، وجهادًا وفتحًا وحكمًا بين الناس وأعسرهما وأضرهما: الجهل المركب ووهم التعليم التقليدي لكتب المتأخرين من المتكلمين

_ 1 ناقش السيد الإمام رحمه الله ما نقله المؤلف عن نهج البلاغة "ص144" ولما لم يكن هذا البحث داخلًا في التعريف بالكتاب، وكان السيد قد خيرنا بين إبقائه وحذفه، فقدر تركنا للقارئ مطالعته في المنار.

والفقهاء والصوفية، والاستغناء بها عما كان عليه السلف ومنهم أئمة الأمصار من المحدثين والفقهاء بشبهة شيطانية، هي أن فهم الكتاب والسنة خاص بالمجتهدين وأن المتأخرين من العلماء أعلم بما فهمه المصنفون المقلدون للائمة في القرون الوسطى، وأولئك أعلم بما فهمه الأئمة المجتهدون منهما مباشرة، وأن العلماء على طبقات في تقليد بعضهم لبعض، عدها بعض متأخري الفقهاء خمسًا، وعدها الشعراني من متأخري الصوفية ستًّا، كل طبقة تحجب أهل عصرها عما قبله، حتى تجرأ بعض من يؤلفون ويكتبون في المجلات ممن أعدوا لقب "كبار علماء الأزهر" -وهم الطبقة العاشرة على حساب الشعراني- على التصريح على عصرنا هذا بأن من يؤمن بآيات القرآن في بعض صفات الله تعالى على ظاهرها يكون كافرًا "!!! " وتجرأ بعض من قبله منهم على التصريح في مجلس إدارة الأزهر بأن من يقول إنه يعمل بما صح من الأحاديث على خلاف فقهاء المذاهب فهو زنديق "كما بيناه في المنار وفي تاريخ الأستاذ الإمام" وهؤلاء يكرهون علم الحديث وأهله. وقد صرح الحفاظ الأولون بأن الوقيعة في أهل الأثر من أدب أهل البدع كما نقله المؤلف. نقوله ودروسه وغرضه الاصطلاحي فيهما: نقل لنا الجمال القاسمي بحسن اختياره وجماله وقسامته في إرشاده، نصوصًا من كتب أشهر الأئمة من علماء الملة المستقلين، وكتب المنتسبين إلى مذاهب الكلام والفقه والتصوف المقلدين، صريحة في اتفاق الجميع على وجوب الاهتداء والعمل بكتاب الله وسنة رسوله، واتباع سلف الملة في الدين، وعلى خطإ من يخالفهم في هذا بما يقطع ألسنة الذين يصدون عن سبيل الله من عميان الجهل المركب، الذين لا يعلمون، ولا يعلمون أنهم لا يعلمون، وهم الذين وصفهم أبو حامد الغزالي بقوله: "أولئك هم العميان المنكسون، وعماهم في كلتا العينين" فهذه حكمة نقله عن كل طبقة من العلماء المشهورين حتى المعاصرين له ولنا من المصنفين، ومحرري المجلات العلمية، ومنها المنار، ومما نقله عنه ما ترى في بحث "قراءة البخاري لنازلة الوباء" ولكنه لم يصرح باسمه ولا باسم صاحبه خوفًا من الحكومة1.

_ 1 يلاحظ أن المؤلف رحمه الله أنجز كتابه عام 1324هـ - 1906 ميلادية، في زمن كانت مجلة المنار فيه ممنوعة على الناس في الأقطار العثمانية.

وصفت الأستاذ القاسمي في ترجمة المنار له بإصلاح، ورددت على من ينكر على هذا الوصف بما بينت طريقته فيه، واستنبطت مما أطلعت عليه من كتبه ومن حديثي معه أربعًا من مزاياه في الاستقامة على هذه الطريقة: أولاهن: سبب تدريسه لبعض الكتب المتداولة كجمع الجوامع وكتب السعد التفتازاني وما هي كتب إصلاح، بل فنون اصطلاح أشبه بالألغاز. الثانية: الاستعانة بنقول بعض المشهورين على إقناع المقلدين والمستدلين جميعًا من المعاصرين بما يقوم عليه الدليل. الثالثة: أنه كان يتحرى مذهب السلف في الدين وينصرف في دروسه ومصنفاته، وما مذهب السلف إلا العمل بالكتاب والسنة بلا زيادة ولا نقصان. وذكرت شاهدين من شعره على مذهبه هذا. الرابعة: أنه كان يتحرى في المسائل الخلافية الاعتدال والإنصاف، واتباع ما يقوم عليه الدليل من غير تشنيع على المخالف ولا تحامل. وقد أطلت في هذه بما لم أطل فيما قبلها، وذكرت ما أنكره عليه بعض متبعي السلف من أنه خالفهم في كتابه "تاريخ الجهمية والمعتزلة" وكتابه "نقد النصائح الكافية" وبينت ما توخاه من التأليف بين فرق المسلمين الكبرى فيهما، بما لا محل لإعادته هنا، وإنما ذكرت هذا الموضوع لأُذكر به من يستنكر مثله في هذا الكتاب، وقد نقل فيه عن داعية السلف المحقق العلامة ابن القيم سبقه إلى مثله، وتصريحه بأن في كلام كل فرقة ومذهب حقًّا وباطلًا. كذلك: وقد ألف الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله بعده كتاب "توجيه النظر، إلى أصول أهل الأثر" وهو في موضوع "كتاب قواعد التحديث" والعلامتان الجزائري والقاسمي كانا سيين في سعة الاطلاع وحسن الاختيار، إلا أن الجزائري أكثر اطلاعًا على الكتب، وولوعًا بالاستقصاء، والبحث، والقاسمي أشد تحريًا للإصلاح، وعناية بما ينفع

جماهير الناس، فمن ثم كان كتاب الجزائري، وهو أطول، قاصرًا على المسائل الخاصة بمصطلح الحديث وكتب المحدثين التي قلما ينتفع بها إلا المشتغلون بهذا العلم، فقد وفى بعض مسائلها حقه من الاستقصاء بما لم يفعله القاسمي، ولكنه أطال كل الإطالة بتخليص "كتاب علوم الحديث" للحاكم النيسابوري وهي اثنان وخمسون نوعًا ثم بما لخصه من "كتاب علل الحديث" لابن أبي حاتم الرازي، ثم بما استطرد من الكلام في مبحث كتابة الحديث إلى الكلام في "الخط العربي وتدرجه بالترقي إلى وصله للكمال الذي عليه الآن، وما يحتاج إليه بعد هذا الكمال من علائم الوقف والابتداء" وهو على إطالته في هذا الفن لم يراعه في العمل فكتابه كأكثر الكتب القديمة، وكتاب القاسمي كما علمت في تقسيمه وتفصيل عناوينه والبياض بينها لتسهيل المطالعة والمراجعة، فهو في هذا وفي طبعه على أحسن ما انتهت إليه الكتب الحديثة، كما أنه أكثر جمعًا وأعم نفعًا. وخلاصة القول في تقريظ هذا الكتاب أننا لا نعرف مثله في موضوعه ومقصدًا ومبدأ وغاية، فنسأل الله تعالى أن يحسن جزاء مؤلفه وطابعه، وأن يوفق الأمة للانتفاع به. محمد رشيد رضا صاحب المنار.

السيد محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي 1: 1- ولادته: "ولد ضحوة يوم الاثنين لثمان خلت من شهر جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف 17 أيلول 1866 في دمشق"2. 2- نسبه: "هو محمد جمال الدين أبو الفرج بن محمد بن سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكرن المعروف بالقاسمي، نسبة إلى جده المذكور، وهو الإمام فقيه الشام وصالحها في عصره، الشيخ قاسم المعروف بالحلاق، ولا يعرف من أجداده من خدم العلم حق الخدمة إلا جده المنوه به"2. 3- نشأته وشيوخه: نشأ القاسم في بيت عرف بالتقوى والعلم. وكان أبوه فقيها غلب عليه الأدب، ميالا إلى الموسيقى، وله معرفة بأنغامها، حلو الصوت. ففي جو من حرمة الدين وجلاله، وهداه وسلطانه، ورقة الأدب وروائه، وتهذيبه وصفائه، وطلاوة الموسيقى وحلاوتها، وعذوبتها ونشوتها، فتح عينيه على النور. فأعانه هذا كله، كما أعانه تشجيع أبيه على أن ينشأ نشأة صحيحة صالحة. فضلًا عما فطر عليه من عناصر الحق والخير. أخذ العلم على طريقة القدماء "فقرأ القرآن أولًا على الشيخ عبد الرحمن المصري، ثم تعلم الكتابة، على الشيخ محمود القوصي، نزيل دمشق، من صلحاء الأتراك، ثم انتقل إلى مكتب في المدرسة الظاهرية، وكان معلمه الشيخ رشيد قزيها، أخذ عنه مبادئ التوحيد والصرف والنحو والمنطلق والبيان والعروض وغيرها".

_ 1 ملخص من كتاب "أبي جمال الدين القاسمي" قيد الوضع. 2 ما وضع بين نمنمين من كلام القاسمي في ترجمته لنفسه.

"ثم جود القرآن على شيخ القراء الشيخ أحمد الحلواني". "وكان مواظبًا على دورس الشيخ سليم العطار لقراءة حصة من الكتب المعينة كشرح الشذور، وابن عقيل، وشرح القطر، ومختصر السعد، وجمع الجوامع، وتفسير البيضاوي ... ". "وسمع منه مجالس من البخاري دراية، وحضر دروسه في الموطأ، والشفاء، ومصابيح السنة، والجامع الصغير، والطريقة المحمدية وغيرها". وذكر من مشايخة كلا من الشيخ بكري العطار، والشيخ محمد الخاني، وخال والده الشيخ حسن جبينة الشهير بالدسوقي. وأجازه كثير من علماء عصره. 4- إقراؤه وإمامته للناس: بدأ في إقراء الطلاب مبادئ العلوم، وله من العمر أربعة عشر عامًا. وكان معيدًا لوالده بدرسه العام في جامع السنانية حتى عام 1303-1887 وانتدب من عام 1309-1312هـ "1893-1896" لإلقاء دروس عامة خلال شهر رمضان في وادي العجم والنبك وبعلبك. وقام مقام أبيه في الدرس العام بعد وفاته عام 1317-1901. وبقي يؤم الناس في جامع السنانية، ويلقي الدرس العام فيه، إلى أن لقي وجه ربه. 5- عصره: عاش القاسمي معظم حياته في أشد أيام الظلم والظلام. ولد ونظام الحكم المطلق قائم في الدولة العثمانية -وكانت البلاد الشامية جزءًا منها- فالحريات مفقودة، والأقلام مغلولة، والعقول مقيدة، والصحافة على ضعفها وقلتها مكبلة، والأحرار مطاردون، والدستور معلق والمجالس النيابية معطلة، والناس يحاسبون على الهمسة والنبسة، والجاسوسية تفتك بالأبرياء. أما العدالة فمفقودة، لفساد النظام القضائي، وشراء مراكز القضاء، وانتشار الرشوة علنا بين موظفي السلطة العامة والمواطنين.

وأما الحياة الثقافية، فكانت مفقودة أو بالمفقودة أشبه، فلا مدارس ولا معاهد، ولا جامعات، والطباعة والصحابة ضعيفتان، ليس فيهما أي غناء. واعتماد القلة من الناس على الكتاتيب، وحلقات الجوامع، والدروس الخاصة في البيوت. والأمية منتشرة لأن الدولة فرضت الجهل المطلق على الناس، ليعشوا في جو من الظلام والغباء، وليس على الحكم والمستغلين أطراد الأمور في سلك من الظلم والبطش والخضوع. وكان حال الحياة الدينية نتيجة طبعية للحياة الثقافية: جمود على القديم، وكتب صفراء يتداولها الطلاب، ومتون كثيرًا ما يحفظونها بدون فهم، وحواش وشروح وتقريرات وتعليقات تزيد في اضطراب عقول الطلاب وتشويشها. وتقليد أعمى غلت معه العقول، فكتب الحديث لا تقرأ إلا للتبرك. وكتب التفسير ممتنعة عن الخاصة بله العامة. ولا يقرأ الناس إلا كتب الفقه التي وضعها المتأخرون. أما كتب اللغة والنحو والصرف والأدب وما إليها فيقرؤها بعض الطلاب على أنها أداة لفهم الكتاب والسنة، لا لذاتها. وكانت الطرق، في ذلك العصر، في أوج انتشارها، يعتنقها بعض رجال الدين ويجمعون العامة حولهم، ويشغلونهم عن العمل النافع لإقامة المجتمع الإسلامي الصالح. والحياة الاجتماعية كانت مفقودة فلا ندوات، ولا جمعيات إصلاحية، ولا حلقات اجتماعية، حتى ولا جمعيات خيرية. والمرأة التي هي نصف المجتمع غائبة عنه، فليس لها في خدمته إلا نصيب قعيد البيت. في هذا الجو الخانق العجيب، المتخلف في جميع مرافق الحياة، نشأ القاسمي، فكان كالطائر المغني في غير سربه، غريبًا عن أهل الزمان. ولعل هذا كله كان أدعى لإقدامه، والاقتناع بقدسية رسالته، وضرورة العمل لها، والسعي لنشرها، والمضي في تبليغها. 6- ثقافتة العامة: أخذ القاسمي معارفة الأولى على الطريقة المألوفة في عصره. ثم أخذت الآفاق تتسع أمامه،

فعكف على مكتبته الخاصة التي أسسها جده وأبوه، ينهل من معينها، ثم أخذ يتابع تطور الحرة العلمية في جميع نواحيها، راغبًا في الإحاطة بجميع أنواع المعرفة، لو أن الإحاطة ممكنة، وعنون ثقافته العامة مكتبته الخاصة، والكتب التي ألفها. فأما مكتبته الخاصة، التي تنوف على ألف مجلد، فلم يخل كتاب فيها من تصحيح أو تعليق وترى فيها إلى جانب كتب التفسير والحديث والفقه واللغة والتصوف والأدب والتاريخ والأصول وغيرها، كتب الفلسفة القديمة والحديثة، والاجتماع، والرياضيات، والقانون المقارب، وكتب الفرق الإسلامية كالمعتزلة والظاهرية والشيعة الزيدية وغيرها. كما أنها ضمت مجموعة قاربت مائة كتاب من كتب الديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية. وأما الكتب التي ألفها فترى فيها إلى جانب كتب التفسير والحديث والأصول، كتابًا في تاريخ دمشق، ورسالة في الجن، وكتيبًا في الشاي والقهوة والدخان، ومقالة عن القلب، وسفرا في دلائل التوحيد، وكتابًا في الآداب والأخلاق، إلى غير ذلك مما تراه واضحًا في أسماء كتبه. وتقرأ هذه الكتب، فترى أنه عرف الاشتراكية قبل أكثر من نصف قرن، وما مدلولها، وما معناها، في وقت كان الذين سمعوا بها في العالم العربي أفرادًا معدودين1. ونلحظ فيها حصيلة حسنة من علوم الفلك والجغرافيا والحيوان والنبات والجيولوجيا2. وينقل عن الفارابي بحثًا، فيرى أنه استعمل كلمة "أثولوجيا"، فيصححها في الهامش ويقول: كذا في الأصل، وصوابه "ته ثولوجيا"3. ويضع رسالته الشهيرة عن الجن، فيترجم له طلابه ما جاء في معجم لاروس وفي دائرة المعارف البريطانية تحت كلمة "جن"4. وترى في كتابه "إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق" بحثا عن "التلغراف" ومعناه، واشتقاقه من اللغة اليونانية، وأول من استعمل الكهرباء في المخابرة بعد. وكذلك "التليفون". ثم يشير إلى "التلغراف اللاسلكي" الذي كان حديث العهد بالظهور5.

_ 1 الفتوى في الإسلام ص66. 2 دلائل التوحيد ص48. 3 دلائل التوحيد ص64. 4 مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن ص47-48. 5 ص75.

ويصاب بالبواسير، فيؤلف كتابًا يسميه "ما قاله الأطباء المشاهير في علاج البواسير"1. قال عنه عميد كلية الطب الأستاذ الدكتور عزة مريدن: "رسالة جامعة لكل ما يريد الباحث معرفته مما قيل عن هذا المرض قديمًا وحديثًا". ويشير إلى ما قاله علماء البيولوجيا من موافقة الأولاد لوالديهم في بعض الأوضاع الجسدية والصفات النفسية2. ويبحث في ذرائع إصلاح الزراعة، فينبه إلى السمادات الكيماوية وأنواعها: الفوسفورية، والبوتاسية، وإلى ضرورة استعمال الآلات الميكانيكية في الحرث والحصاد، وإلى الآفات والأمراض والحشرات الزراعية، وطرق مكافتحها ... 3. ويتناول الحياة الدستورية، ويعقد فصلا عن أدب النائب في مجلس المبعوثين، وعن شروطه فيقول: "لا يطلب النائب بين خزائن النقود، ولا من وراء سجوف النعمة، ورغد العيش، فإن من ترفع عنك لا يهبط إليك" ولا يفوته من أن يشترط على النائب تضلعه في علم الحقوق، ومعرفته لحركة المجالس النيابية عند الأمم الراقية، وإدراكه علائق حكومته بحكومات أوروبا، وما نلته من الامتيازات، وأن يكون قادرًا على الاستخراج من كتب السياسة والإدارة والقضاء بإحدى اللغات الأجنبية4. واستشهد بشروح قانون التجارة وقوة المراسلات -ومنها البرق- في الإثبات بين الخصوم5. ويدعو المفتين إلى ضرورة التضلع في العلوم الرياضية6. ويبحث مشكلة من مشاكل هذا القرن الكبرى وهي التمييز بسبب العنصر أو العرق أو اللون عام 1321-1904 فقرر أن "منشأ هذه الخرافة استعباد الزنوج، وأن من أحنى قامة الذل والهوان، نهض يطالب بحقوقه المهضومة، ويناقش ظلامه الحساب"7.

_ 1 ما زال مخطوطًا. 2 شرف الأسباط ص45. 3 تعطير المشام ج3 "مخطوط". 4 جوامع الآداب ص112. 5 إرشاد الخلق 57. 6 الفتوى في الإسلام ص50. 7 دفتر أواخر شوال "مخطوط" الورقة 39.

وأولع عام 1324 - 1907 بفقة اللغات "الفيلولوجيا"، وأخذ يبحث عن أصول بعض الألفاظ المعربة من لغاتها الأصلية: اليونانية، والسريانية، والعبرية، والفارسية، والقبطية، والألمانية، والإيطالية، والفرنسية، وغيرها1. لقد كان آخذا بأطراف المعرفة من كل سبب، لم يمنعه عن ذلك مخالفة في الدين أو المذهب أو العقيدة أو الطريقة، وأتاحت له حريته الفكرية أن يجول في آثار عقول الأمم، إلى اختلاف مللهم ونحلهم. 7- حرية واضطهاده: آمن القاسمي بالحرية وقدسها، وأحب رجالها، وعشق أبطالها، وسعي إليها، وقضى حياته كلها، هو يرى أن الإنسانية ملازمة للحرية. ولقد كان هذا واضحًا منذ طفولته المبكرة، فعرف بين أقرانه بالتحرير من الأوهام، وتقديسه لسلطان العقل، وحرية الفكر. ولم يكن هذا خافيًا على حكام ذلك الزمان، فلفقوا له من مطلع شبابه تهمه خطيرة هي "الاجتهاد"، وألفوا لذلك محكمة خاصة دُعي للمثول أمامها مع لفيف من العلماء فاستجوبوا جميعًا، وأطلق سراحهم، إلا القاسمي، فقد أوقف ليلة واحدة في دائرة الشرطة، ثم أخلي سبيله في الصباح. كان هذا في عام 1313 - 1897، وله من العمر ثلاثون عامًا. لقد دون القاسمي وقائع المحاكمة في ترجمته لنفسه. ويغلب على ظني أن هذه الحادثة هي الحادثة الكبرى التي وقعت في أوائل القرن الرابع عشر الهجري -أواخر القرن التاسع عشر الميلادي- في البلاد الشامية. فلم يكن في البلاد أحزاب سياسية، ولا حركات قومية، وإنما كان قوام الدولة على الخلافة ومذهب الدولة الرسمي هو المذهب الحنفي، فاتهام القاسمي بالاجتهاد مذهب

_ 1 المفكرة اليومية لعام 1324-1306 "مخطوط".

خامس في الإسلام هو "المذهب الجمالي"، كان ممكنًا أن يؤدي به إلى أعماق السجون أو إلى أبعد المنافي. أضف إلى ذلك أن الاجتهاد يعني الحرية، وكلمة "الحرية" بمختلف أشكالها وألوانها، بما في ذلك الحرية الدينية، كانت تأباها سياسة الدولة، وتحاربها دون هوادة أو رحمة. ولئن كانت هذه الحادثة قد مرت دون أن تؤثر على حياة القاسمي، إلا أنها تركت آثارًا كبرى في طرائقه في الإصلاح، والتأليف والدعوة والإرشاد. ووقعت حادثة أخرى كانت أخف من الأولى وقعًا: ذلك أنه في 8 من صفر 1326 - 19 آذارأيار 1908 فتشت كبته بالرسدة في الجامع، وفي حجرته بالدار. وبقيت الكتب التي أشتبه بها وصودرت حتى 18 ربيع الآخر 1326 - 19 إيار 1908 وأعيدت1. ثم يعلن استئناف الحياة الدستورية في المملكة العثمانية، فينتهج مع الأحرار، ويرى أن فجر عصر جديد قد آذن بالانبلاج. ولكن الواقع يكذب هذه الآمال، ويتضح أن الأتراك قبل الدستور كانوا أرحم من الأتراك بعد الدستور، فلم تكد تمضي سنة وبعض السنة، على إعلان الحرية، حتى يدعى القاسمي أمام قاضي التحقيق بدمشق ليستجوب عن التهم التي تضمنها إدعاء الحق العام عليه وهي: "أن جمعية النهضة السورية لم تنشأ إلا بتشويقه، هو والشيخ عبد الرزاق البيطار، وأنهما من أركانها، وأنها فرع لجميعات في البلاد كاليمن ونجد، وأنها تطلب الاستقلال الإداري، وتريد تشويش الأمور الداخلية بطلب حكومة عربية، وأن لهم مكاتبات مع أمراء نجد ومواصلات، وكذلك مع المتمهدي في اليمن، وأن الشيخ طاهرا المغربي هو المحرض للمتمهدي على القيام لأنه مغربي. وما مذهب الوهابية، وكما عدتهم في الشام.. إلى نحو ذلك"2. وإذا كنا لا نعرف عن هذه الحاديثة التاريخية الكبرى أكثر من هذه الأسطر، لفقدان إضبارتها، ولأن الأحياء الذين عاصروها لا يذكرون عنها شيئًا، فإن في هذه

_ 1 المفكرة اليومية 1326 - 1908 "مخطوط". 2 المفكرات اليومية، 14 رمضان 1327 - 298 أيلول 1909 "مخطوط".

الأسطر من الدلالة على خطورتتها ما كان يمكن أن يؤدي بالقاسمي إلى المشنقة، أو إلى التنكيل القبيح. وهكذا فإن القاسمي قد عاش الدستور وبعده، وهو هدف للاضطهاد، بسبب آرائه الحرة، وأفكاره الجريئة. أما مظاهر حريته الكاملة فستراها حين بحث آرائه وأفكاره. 8- آراؤه وأفكاره: في هذا البحث عناوين لبعض آراء القاسمي وأفكاره، والتقطتها من بعض كتبه دون استقصاء. وهذه العناوين التي كتبها بقلمه لا تغني عن الرجوع إلى أصول الأبحاث. وإنما تعطى فكرة عن عقل الرجل وتفكيره، فلقد كان يرى: إن الدين مدرسة أخلاق1 وأنه يدعو للوحدة لا للتفرق2. وأن العقل حجة الله القاطعة البالغة، والنقل لا يأتي بما يناقض العقل3. وأن العلماء اتفقوا على أنه إذا تعارض العقل والنقل، أول النقل بالعقل4. إن باب التناظر، والتحاور في المسائل مفتوح، حتى في مثل أخبار الصحيحين، وهي ما هي، وإن غل الفكر عن النظر والتأمل هو أعظم هادم لصرح التحقيق، فإن الحقيقة بنت البحث5. وإن حرية العلم والتأليف قضت أن لا يبخل بفكر، ولا يضن برأي، لا على أن يهمس به همسًا، بل على أن يبث وينشر، ويصدع به في المجامع والجوامع ويجهر به على المسامع6. إن تبين وجه الحق إنما هو بالوقوف على تفصيل المتنازع فيه وتحليله، وطرح كل ما سبق إلى القلب وغرس فيه، من تقليد أو تحزب أو تقية، أو حمية7 ... وإن الحق ليس منحصرًا في قول ولا مذهب، وقد أنعم الله على الأمة بكثرة مجتهديها8.

_ 1 دلائل التوحيد ص134. 2 إقامة الحجة ص4. 3 دلائل التوحيد ص129. 4 دلائل التوحيد ص31. 5 الأجوبة المرضية ص6. 6 نقد النصائح الكافية ص7. 7 نقد النصائح ص24. 8 الاستئناس ص44.

وإن مراد الإصلاح العلمي بالاجتهاد ليس القيام بمذهب خاص، والدعوة له على انفراده، وإنما المراد إنهاض همم رواد العلم، لتعرف المسائل بأدلتها 1 ... إنا في الرأي مستقلون، ولسنا بمقليدن ولا متحزبين2. ظهر لي أن قول بعض الفقهاء: "هو تعبدي لا يعقل معناه" فيه حجر على العقول والأفهم أن تنظر وتتأمل وتتدبر. فهو مناف لقاعدة إعمال الفكر لاستنباط المعاني3. وله آراء في الدولة وقوتها والوطن والسياسة والعرب وغيرها جاء في بعضها: إن القرآن قد أمر بوجوب إعداد القوة الحربية، وإنه لما ترك المسلمون العمل بهذا الأمر، أهملوا فرضًا من فروض الكفاية، وأصبحت جميع الأمة أئمة. وأن طمع العدو في البلاد الإسلامية؛ لأنه ليس فيها معامل للأسلحة، بل كلها مما يشترى من بلاد العدو. ولقد آن للأمة أن تنتبه من غفلتها قبل أن يداهم العدو ما بقي منها، فيقضي على الإسلام وممالك المسلمين، لاستعمار الأمصار، واستعباد الأحرار، ونزع الاستقلال المؤذن بالدمار4. وإن حب الوطن من أمهات الفضائل، وهو أن يبذل المرء ما يقدر عليه، مما أعطاه الله من العلم والمال والخبرة والنصح في عامة الأحوال والأزمان لمنفعة وطنه ومواطنيه5. وحض على الجهاد لأن العدو يريد أن يقضي على الدين، وأن ينهب الأموال والمقتنيات ويهتك الحرم، ويمحو تاريخ المجد، ويفني اللغة والعلوم6. وهلل للدستور بكثير من الفرح7. ودعا لتولية الأكفياء، وإعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الأشياء في مواضعها، وتفويض الأعمال للقادرين عليها.. لأن كل من تتبع تواريخ الأمم، علم أنه ما انقلب عرش مجدها، إلا لتفويض الأعمال لمن لا يحسن القيام عليها، ويضع الأشياء في غير موضعها8.

_ 1 إرشاد الخلق ص4. 2 الجرح والتعديل ص14. 3 السوانح ص3 "مخطوط". 4 محاسن التأويل ج8 ص3025. 5 جوامع الآدب ص111. 6 جومع الآداب ص110. 7 دلائل التوحيد ص205. 8 الفتوى في الإسلام ص54.

وكان يحترم آراء الفرق؛ لأن الخطأ من شأن غير المعصوم1. وقد ترك دفترًا تاريخه أواخر شوال 1321 - 1904، قيد فيه من أوابد أفكاره ما يدعو إلى كثير من الإعجاب والتقدير2. فهو يسر للانتقاد، ويعتبر الانتحار هربًا من القيام بالفروض، وأن القدر الذي يجب الإيمان به لا ينطوي على شيء يميت العزم أو يخمده، وأن الغرب قد اختارهم الله لتهذيب الأمم؛ لأنه أنزل القرآن بلغتهم، وأن قصص القرآن ليست إلا آيات وعبرًا. وأن وظيفة الأستاذ والرئيس أن ينظر في أمور جماعته، ويمهد لها سبيل المجد والارتقاء. وأن المناظرة في الأمور المذهبية التي توجب الضغائن. وتولد التعصب آفة العمران. وأن الكسل من النقائص التي تولد الحسائس والشرور. وأن من اشتهر بالبخل من الناس مرفوض. وكذلك من اشتهر بالنميمة والثلب والسفه والكبرياء.. وأن أعمال المتقين تفقًا حصرمًا في أعين الحاسدين. وأن المتعصبين يستعملون تعاليمهم الفاسدة في تفريق الناس بعضهم عن بعض. وأن الحق يصرع إذا عمد إلى إظهاره بالسباب والشتائم. وأن الحياة معترك هائل، يموج بالرزايا موجًا، وأن الإنسان فيها بمثابة المخاطر في معترك الحرب، إن فاتته ضربة سيف، ولا تفوته طعنة رمح، أو رمية سهم. وأن الإسلام لا يبيح الحرب لذاتها، وقد حرم الاعتداء، وإنما يوجب تعميم الدعوة، فمن عراضها وجب جهاده عند القدرة، حتى يقبلها، أو يكون لأهلها السلطان الذي يتمكنون به من نشرها بدون معارض. وأن اللباس من الأمور العادية. والدين لا يذم لباسًا إلا إذا كان في لبسه ضرر في الأخلاق. وأن السياسة مصابرة المكاره، ومسايرة الأهوال والمصاعب، وركوب الأسنة في سبيل المداراة والمجاراة، وتحين الفرص والظروف. وأنه لا ينبغي للإنسان أن تكون وظيفته في الحياة دون النبات: ذاك يتطاول، وهم يتقاصرون.

_ 1 الجرح والتعديل ص7. 2 ستنشر نصوص هذا الدفتر الكاملة في الكتاب.

وأن العاقل لا ينتصر لرأيه الذاتي، ولا يصر عليه، فربما كان صوابًا أو خطأ. وأن عثمان كان محقًّا في نفي أبي ذر الغفاري لأن الحث على الزهد في الدنيا، والقناعة باليسير والكف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية، والتباعد عن الزينة والمفاخرة.. كل هذه الأصول فقرات مخدرات لا يرتضيها عقل، ولم يأت بها شرع. وأن حال الأمة لا يستقيم ولا يثبت على أساس مكين ما لم يتفق الكبراء بعضهم مع بعض، ويتصافوا مع الذين دونهم، ويفصلوا كل خلاف وخصومة بالتحكيم. وأن الجبان يموت مرارًا قبل وفاته، والشجاع لا يذوق مرارة الموت إلا مرة واحدة. وبعد فهذا قليل من كثير مما ترك القاسمي. عرضنا منه عناوين، وتركنا التفصيل إلى كتابنا الذي نعده عنه. 9- أسلوبه ومؤلفاته: كان الكتاب في العصر الذي عاش فيه القاسمي يعتبرون السجع المثل الأعلى في الإنشاء. وكانت "مقامات الحريري" القدوة التي يحتذيها الكتاب فيما يكتبون. ولقد درجوا على تحفيظها للطلاب، لتنمية الملكة الأدبية، وللنسج على منوالها. ولقد كان والده أديبًا، إلى جانب تعمقه بالفقه فنشأه نشأة أدبية، على الطريقة المألوفة في عصره، فلما أخذ في الكتابة والتأليف جرى على الأسلوب الذي لقن إليه. فالتزم السجع في أكثر ما كتب في مطلع حياته، ثم استمر على التزامه في أكثر مقدمات كتبه حتى آخر حياته، وفي بعض رسائله الخاصة. على أن سجعه في أوائل أيامه أقرب إلى سجع المبتدئين، وكان في أواخرها أقرب إلى سجع أئمة الكتاب المتقدمين1. ثم شاعت طرقة الترسل، وكان الأستاذ الإمام محمد عبده، من الذين استعملوها، ودعوا إلى نشرها. وكان القاسمي معجبًا بالأستاذ الإمام، فعدل عن السجع إلى الترسل، وفي أكثر ما كتب بعد تعرفه عليه عام 1321 - 1904، فجاء أسلوبه فيه عربيًّا صافيًا، رائعًا

_ 1 راجع ص75 من الجزء الثاني من محاسن التأويل وأكثر مقدمات كتبه.

في قوة التركيب، وجزالة الألفاظ، ودقة الأداء، دليلًا على تمكنه من لغة العرب، وصفا ذهنه، وغوصه على المعاني1. أما كتبه التي ألفها فقد قاربت المائة. وأقدم ما عثرت عليه مؤلفاته، مجموعة سماها "السفينة" يرجع تاريخها إلى عام 1299 - 1883، ضم فيها طرائف من مطالعاته في الأدب والأخلاق والتصوف والتاريخ والشعر وغير ذلك وله من العمر ستة عشر عامًا. ومضى يكتب ويكتب إلى أن عجب الناس من بعده، كيف اتسع وقته -ولم يعش إلا تسعة وأربعين عامًا- لهذا الإنتاج الضخم، فضلًا عن تحمل مسئولية الرأي، وترجيح الأقوال ومناقشتها، والرجوع إلى المصادر، وفضلًا عن أعبائه العائلية، فلقد كان له زوج وسبعة أولاد، وفضلًا عن أمامته للناس في الأوقات الخمسة دون انقطاع، ودروسه العامة والخاصة، وتفقده للرحم ورحلاته، وزياراته لأصدقائه، وغير ذلك من المشاغل. وليس من شأن هذه المقدمة أن تعد لك مؤلفات القاسمي وقد قاربت المائة، ولا أن تعرفك بمواضيعها، فارجع إلى هذا البحث، إن شئت، في الكتاب الذي لخصنا عنه هذا الفصل. 10- أسلوبه في الدعوة: عرف عن القاسمي أنه كان عف اللسان والقلم، لم يتعرض بالأذى لأحد من خصومه، سواء أكان ذلك في دروسه الخاصة أو العامة، أو في مجالسه وندواته. وإنما كان يناقش بالبرهان والدليل، من الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة والمراجع المعتمدة. وكانت له طريقة في مناقشة خصومه له يعرف أهدأ منها، ولا أجمل من صبرها. وكثيرًا ما قصده بعض المتقحمين في داره، لا مستفيدًا، ولا مستوضحًا، ولا مناقشًا، بل محرجًا. فكان يستقبلهم بصدره الواسع، وعلمه العميق، فلا يخرج المقتحم من داره إلا وقد أفحم وامتلأ إعجابًا وتقديرًا.

_ 1 راجع ص3025 من الجزء الثاني من محاسن التأويل، والمقتطفات التي أوردناها في بحث "آرائه وأفكاره".

ولم تتضمن كتبه، على كثرتها، وبعضها إنما وضع للرد على مخالفيه، لفظًا نابيًا، وإنما اعتصم بالنقاض العلمي الأدبي. ومن الواضح لمن يطلع على هذه الكتب، أن القاسمي لم يكن يريد من الرد على مخالفيه، إفحام خصومه، أو تصغيره أقدارهم، أو الحط من مكانتهم، وإنما كان يهدف إلى الهدى والرشاد، وسواء السبيل، والدعوة إلى الصراط المستقيم، حتى ينقلب المخطئ مصيبًا، وحتى يعود المنحرف إلى الحق. "ادفع بالتي هي أحسن" طريقته الوحيدة في الدعوة إلى الحق، فلم تعرف عنه رغبة لجاجة ولا إلحاح مع معاند، ولا استمرار مع مكابر أو مغرض. 11- وفاته: وافاه أجله مساء السبت 23 جمادى الأولى 1332 - 18 نيسان 1914 ودفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق. الخاتمة: هذه لمحة عن سيرة هذا الرجل الذي عاش للعلم والحق والخير وترك أعمق الأثر في معاصريه وأقرانه وتلاميذه، وفي العصر الذي عاش فيه، وفي العصور التي أتت من بعده، سواء أكان في النهضة الدينية، أم في النهضة الإسلامية والعربية بوجه عام. لقد كان حلقة في سلسلة الهدى والإصلاح التي لا ينقطع نورها عن العالم الإسلامي خلال القرون، فجددت للناس حقائق الدين، وجلت عنها ما علق بها من الخرافات والأوهام. ظافر القاسمي

خطبة الكتاب

خطبة الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل أحسن الحديث، وأودع درر بيانه في محكم الحديث، وألهم حملته العدول، وحفظته الفحول، إيضاح مصطلحه وقواعده، ليدنوا اجتناء ثمرات فوائده فإنه لسماء المعارف الشمس البازغة، وللهداية إلى طريق الحق الحجة الدامغة، أحمده حمد من أعمل بالحمد لسانه، وشغل بالشكر أركانه وجنانه، وأشكره شكر معترف بامتنانه، مغترف من بحر بره وإحسانه وأصلي وأسلم على من أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، سيدنا محمد أفضل من كحلت به الرسالة أجفانها، ونظمت به النبوة جمانها، وعلى آله الفائزين بتلقي إرساله، واتباع أقواله وأفعاله، وعلى أصحابه الذين دأبوا في المآثر الصالحة، ونصبوا على تعاطي التجارت الرابحة، وعلى السادة الأتباع، الذين اقتفوا مسالك الأتباع، وجانبوا محدثات الابتداع، وعلى من تبعهم بإحسان، وتأسى بهم في حفظ الهدي النبوي المصون، ما أرسل راو الإسناد وعنعنه، وصحح متنه وحسنه. أما بعد. فإن من سعادة الأمة أن يكون لديها من العلماء طائفة مهتمة، يختص عملها بتنوير عقولهم بالمعارف الحقة، وتحليتها بالعلوم الصافية بكمال الدقة، لا ينون في تبيين طرق السعادة ومواردها. ولا يألون جهدًا في السلوك بهم في جوادها، وذلك أن بداهة العقل حاكمة بأن جل المعارف البشرية، والعقائد الدينية، والأحكام الشرعية، مكتسبة أي من العلوم النظرية، فإن لم يكن في الناس معلم حكيم، قصرت العقول عن درك ما ينبغي لها دركه من التقويم، وانقطعت دون الكفاية مما يلزم لسد ضرورات الحياة الأولى، والاستعداد لما يكون في الأخرى، وساوى الإنسان في معيشته سائر الحيوانات، وحرم سعادة الدارين وفارق هذه الدنيا على أتعس الحالات. وإن من أعظم ما يسعى إليه الساعون، ويتنافس في الدعوة إليه المتنافسون، علوم الحديث الكاشفة النقاب، عن جمال وجوه مجملات الكتاب، والمدار لتفصيل الأحكام، وتبيين أقسام الحلال والحرام: إذ مستندها ما صح من الأخبار، وثبت حسنه من الآثار، ولا طريق لتعريف ذلك، إلا

بما اصطلع عليه من أصول تلك المسالك. ولما كان الشيء يشرف بشرف موضوعه أو بمسيس الحاجة إليه، كان فن المصطلح مما جمع الأمرين، وفاز بالشرفين؛ لأنه يبصر من سواء السبيل الجواد، ويرقى الهمم لتعرف سنن الرشاد، وإني منذ تنشقت من علم الحديث أرج أردانه، حتى عمت من بحره في زاخره، وجريت طلقًا في ميدانه، لم أزل أسرح طرق الطرف في رياضه، وأورد ذود الفكر في حياضه، أستشيم بارقه إذا سرى، وأجرى مع هواه حيث جرى، وأنظم فرائده، وأقيد أوابده، وأدل على مقاصده، وأعوج إلى معاهده، حتى أشحذت كليل العزم، وأيقظت نائم الهم، وأجبت داعي الفكر لمقترحه، من جمع ما كنت وعيت من مصطلحه؛ إذ هو قطب تدور عليه أفلاك الأخبار، وعباب تنصب منه جداول معاني الآثار، قد سجم وابل فضله في الأصول فأزهرها، وتبسم وجه إقباله في الفروع فنورها، فاستخرت الله فيما قصدت، وتوكلت عليه فيما أردت، وشرعت في جمع لبابه، والمهمات من أبوابه، وإبراز دفائنه وكنوزه، وحل غوامضه ورموزه، ومن الكتب المعول عليها، والأصول المرجوع إليها، حتى غدا جامعًا لمجمع المصطلحات، وحاصرًا لامهاتها المعتبرات، مع تنبيهات نافعة وتنويرات ساطعة، توضح معالم أسرار الآثار، وتصيرها كالشمس في رائعة النهار، وضممت إليه فرائد تبهج الألباب، عثرت على خباياها في غير ما كتاب، مما لم يذكر في أسفار المصطلح، ولا يعلم مظانها إلا من لزند التنقيب اقتدح، فقيدت شواردها، وقصرت أوابدها على أسلوب جديد، يسهل الوقوف على أسرار هذا الفن الباهرة، ويرقى إلى الرسوخ في مقاصد السنة الطاهرة، والحذق في رد الخلاف إلى الحق المأثور، الذي تطمئن به القلوب وتنشرح الصدور. مما يتنافس فيه الكاملون، ويتباهي بتحصيل معرفته الراغبون، وقد سميته: "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث" ورتبته على مقدمة وعشرة أبواب، مذيلة بخاتمة في فوائد متنوعة يضطر إليها الأثرى، ثم بتتمة في مقصدين بديعين. وعلى الله التكلان، في كل وقت وأوان، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

مقدمة: في مطالع مهمة المطلع الأول: قال الزركشي في قواعده: "إن تصنيف العلم فرض كفاية على من منحه الله فهمًا واطلاعًا فلو ترك التصنيف لضيع العلم على الناس وقد قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} 1 الآية، ولن تزال هذه الأمة في ازدياد وترق في المواهب والعلم". ا. هـ. وقال نابغة البلغاء ابن المقفع في مقدمة الدرة اليتيمة2: "وجدنا الناس قبلنا لم يرضوا بما فازوا به من الفضل لأنفسهم حتى أشركونا معهم فيما أدركوا من علم الأولى والآخرة، فكتبوا به الكتب الباقية، وكفونا مئونة التجارب والفطن، وبلغ من اهتمامهم بذلك أن الرجل منهم كان يفتح له الباب من العلم والكلمة من الصواب وهو بالبلد غيرالمأهول فيكتبه على الصخور مبادرة منه للأجل، وكراهية لأن يسقط ذلك على من بعده3، فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالد الشفيق على ولده الرحيم بهم الذي يجمع لهم الأموال، والعقد4 إرادة أن لا تكون عليهم مئونة في الطلب وخشية عجزهم إن هم طلبوا فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمان أن يأخذ من علمهم، وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم، وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم فيكون كأنه إياهم يحاور، ومنهم يستمع غير أن الذي نجد في كتبهم هو المنتخل في آرائهم، والمنتقي من أحاديثم ولم تجدهم غادروا شيئًا يجد واصف بليغ في صفة له مقالًا لم يسبقوه إليه لا في تعظيم لله عز وجل وترغيب فيما عنده ولا في تصغير للدنيا وتزهيد فيها ولا في تحرير صنوف العلم، وتقسيم أقسامه وتجزئة أجزائها وتوضيح سبلها،

_ 1 سورة آل عمران، آية 81. 2 ص9 بيروت المطبعة الأدبية 1897. طبعة ثانية. 3 أي يفوته. 4 جمع عقدة: ما فيه بلاغ الرجل وكفايته "قاموس".

وتبيين مآخذهم، ولا في وجوه الأدب، وضروب الأخلاق. فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال، وقد بقيت أشياء من عمل الأمور فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس" انتهى كلامه. وفي قوله: "وقد بقيت ... " فتح لباب التصنيف على نحو هذا المعنى وقد قالوا: ينبغي أن لا يخلو تصنيف من أحد المعاني الثمانية التي تصنف لها العلماء وهي: اختراع معدوم، أو جمع مفترق، أو تكميل ناقص، أو تفصيل مجمل، أو تهذيب مطول، أو ترتيب مخلط، أو تعيين مبهم، أو تبيين خطأ كذا عدها أبو حيان يمكن الزيادة فيها. قال ملا كاتب جلبي رحمه الله: "ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقًا، ولا وجه لإنكاره من أهله وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار والله در القائل: قل لمن لا يرى المعاصر شيئًا ... ويرى للأوائل التقديما إن ذاك القديم كان حديثًا ... وسيبقى هذا الحديث قديما واعلم: أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له، وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي، ليس له انقطاع ولا آخر، والعلوم منح إلهية ومواهب صمدانية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما لم يدخر لكثير من المتقدمين، فلا تغتر بقول القائل: "ما ترك الأول للآخر! " بل القول الصحيح الظاهر: "كم ترك الأول للآخر! " فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته، ورداءته في ذاته لا تقدمه، وحدوثه. ويقال "ليس كلمة أضر بالعلم من قولهم: ما ترك الأول شيئًا" لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التعلم، فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظاهر، وهو خطر عظيم، وقول سقيم فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها، فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها كما قال عليه الصلاة والسلام:

"أمتي أمة مباركة لا يُدرى أولها خير أو آخرها" قال ابن عبد ربه في العقد: "إني رأيت آخر كل طبقة، واضعي كل حكمة، ومؤلفي كل أدب، أهذب لفظا وأسهل لغة، وأحكم مذاهب، وأوضح طريقة من الأول؛ لأنه ناقض متعقب، والأول بادي متقدم". وفي كتاب: "جامع بيان العلم وفضله" للحافظ ابن عبد البر1 عن علي -رضي الله عنه- أنه قال في خطبة خطبها: "واعلموا أن الناس أبناء ما يحسنون وقدر كل آمري ما يحسن فتكلموا في العلم تتبين أقداركم". قال ابن عبد البر: "ويقال إن قول علي بن أبي طالب: قيمة كل امرئ ما يحسن، لم يسبقه إليه أحد، وقالوا: "ليس كلمة أحض على طلب العلم منها" وقالوا: "ولا كلمة أضر بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل: "ما ترك الأول للآخر شيئًا". ا. هـ. المطلع الثاني: أتأسى في هذا التصنيف الميمون بقول السيد مرتضى اليماني رحمه الله في كتابه: "إيثار الحق على الخلق"2: "وإنما جمعت هذا المختصر المبارك، إن شاء الله تعالى، لمن صنفت لهم التصانيف، وعنيت بهدايتهم العلماء؛ وهم من جمع خمسة أوصاف، معظهما: الإخلاص والفهم والإنصاف، ورابعها -وهو أقلها وجودًا في هذه الأعصار- الحرص على معرفة الحق من أقوال المختلفين وشدة الداعي إلى ذلك الحامل على الصبر والطلب كثيرًا وبذل الجهد في النظر على الإنصاف ومفارقة العوائد وطلب الأوابد". قال رحمه الله: "فإن الحق في مثل هذا الأعصار قلما يعرفه إلا واحد، وإذا عظم المطلوب قل المساعد، فإن البدع قد كثرت، وكثرت الدعاة إليها، والتعويل عليها، وطالب الحق اليوم شبيه بطلابه في أيام الفترة، وهم: سلمان الفارسي، وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما رحمهما الله تعالى؛ فإنهم قدوة الطالب للحق، وفيهم له أعظم أسوة فإنهم لما حرصوا

_ 1 ص50 القاهرة، مطبعة الموسوعات، 1320هـ. 2 ص24. القاهرة 1218، مطبعة الآداب والمؤيد.

على الحق وبذلوا الجهد في طلبه، بلغهم الله إليه، وأوقفهم عليه، وفازوا من بين العوالم الجمة، فكم أدرك الحق طالبة في زمن الفترة! وكم عمي عنه المطلوب له في زمن النبوة! فاعتبر بذلك واقتد بأولئك فإن الحق ما زال مصونًا عزيزًا نفيسًا كريمًا، لا ينال مع الإضراب عن طلبه وعدم التشوف والتشوق إلى سببه ولا يهجم على المبطلين المعرضين ولا يفاجئ أشباه الأنعام الغافلين؛ ولو كان كذلك ما كان على وجه الأرض مبطل ولا جاهل ولا بطال ولا غافل". انتهى كلامه رحمه الله تعالى. المطلع الثالث: لا خفاء أن من المدارك المهمة في باب التصنيف، عزو الفوائد والمسائل والنكت إلى أربابها تبرؤا من انتحال ما ليس له، وترفعًا عن أن يكون كلابس ثوبي زور. لهذا ترى جميع مسائل هذا الكتاب معزوة إلى أصحابها بحروفها وهذه قاعدتنا فيما جمعناه ونجمعه. وقد اتفق أني رأيت في "المزهر" للسيوطي هذا الملحظ حيث قال في ترجمة "ذكر من سئل عن شيء فلم يعرفه فسأل من هو أعلم منه" ما نصه1: "ومن بركة العلم وشكره، عزوه إلى قائله؛ قاله الحافظ أو طاهر السلفي: سمعت أبا الحسن الصيرفي، يقول: سمعت أبا عبد الله الصوري يقول: قال لي عبد الغني بن سعيد: "لما وصل كتابي إلى أبي عبد الله الحاكم، أجابني بالشكر عليه، وذكر أنه أملاه على الناس، وضمن كتابه إلى الاعتراف بالفائدة وأنه لا يذكرها إلا عني". وأن أبا العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثهم، قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري، قال: سمعت أبا عبيد يقول: "من شكر العلم أن تستفيد الشيء، فإذا ذكر لك قلت: خفي عليَّ كذا وكذا ولم يكن لي به علم، حتى أفادني فلان فيه كذا وكذا، فهذا شكر العلم. قال السيوطي: "ولهذا لا تراني أذكر في شيء من تصانيفي حرفًا إلا معزوا إلى قائله من العلماء مبينا كتابه الذي ذكره فيه". ا. هـ.

_ 1 ص164 ج2 المطبعة الكبرى السنية: مصر 1282هـ.

المطلع الرابع: قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر1: "أول من صنف في الاصطلاح القاضي أبو محمد الرامهرمزي، فعمل كتابه: "المحدث الفاصل" لكنه لم يستوعب والحاكم أبو عبد الله النيسابوري لكنه لم يهذب ولم يرتب وتلاه أبو نعيم الأصبهاني فعمل كتابه مستخرجًا وأبقى أشياء للمتعقب ثم جاء بعده الخطيب البغدادي فعمل على قوانين الرواية كتابًا سماه: "الكفاية" وفي آدابها كتابًا سماه: "الجامع لآداب الشيخ والسامع" وقل فن من فنون الحديث إلا وقد صنف فيه كتابًا مفردًا فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: "كل من أنصف علم أن المحدثين بعده عيال على كتبه". ثم جمع ممن تأخر عنه القاضي عياض كتابه: "الإلماع" وأبو حفص الميانجي جزءًا سماه: "ما لا يسع المحدث جهله" والحافظ أبو بكر بن أحمد القسطلاني في: "المنهج المبهج عند الاستماع، لمن رغب في علوم الحديث على الاطلاع" إلى أن جاء الحافظ الإمام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري نزيل دمشق فجمع لما ولي تدريس الحديث بالمدرسة الإشرفية المعروفة بدار الحديث، كتابه المشهور، فهذب فنونه، وأملاه شيئًا فشيئًا واعتنى بتصانيف الخطيب المفرقة فجمع شتات مقاصدها وضم إليها من غيرها نخب فوائدها فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره فمنهم المختصر له كالنووي في تقريبه والناظم له كالعراقي والمستدرك والمعارض فجزاهم الله خيرًا". ا. هـ. وكتابنا هذا حوى بمعونته تعالى لباب مقاصد هذا الفن، من خلاصة المصنفات المنوه بها، ومن نخب كتب الأصول، وممن حام حول خدمة فقه السنة مما ستقف، على العزو إليه بحوله تعالى وقوته، وهو نعم المعين.

_ 1 تدريب الرواي ص9 "ذ. س".

الباب الأول: في التنويه بشأن الحديث وفيه مطالب

الباب الأول: في التنويه بشأن الحديث وفيه مطالب 1- شرف علم الحديث: عن أبي نجيح العرباض بن سارية السلمي -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون قلنا: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنها موعظة مودع فأوصنا! قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد. وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة". رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن" وأبو نعيم وقال: "حديث جيد من صحيح حديث الشاميين". وفي بعض الطرق: فماذا تعهد إلينا؟ قال: "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها فلا يزيغ عنها إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ". وفي بعضها: "فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار". قال الحافظ المنذري: وقوله -صلى الله عليه وسلم: "عضوا عليها بالنواجذ" أي اجتهدوا على السنة وألزموها واحرصوا عليها كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفًا من ذهابه وتفلته والنواجذ الأنياب أو الأضراس. وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "العلم ثلاثة؛ آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما سوى ذلك فهو فضل" رواه أبو داود وابن ماجه.

وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته: "أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة".... نحو ما تقدم". رواه الإمام أحمد ومسلم وغيرهما. وفي رواية: "أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد" الحديث. قال الإمام النووي قدس الله سره: "إن من أهم العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات، أعني معرفة متونها صحيحها وحسنها وضعيفها وبقية أنواعها المعروفات ودليل ذلك: أن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات؛ فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات وبيانها في السنن المحكمات. وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالمًا بالأحاديث الحكميات فثبت بما ذكرناه أن الاشتغال بالحديث من أجل العلوم الراجحات وأفضل أنواع الخير وآكد القربات وكيف لا يكون كذلك وهو مشتمل على بيان حال أفضل المخلوقات عليه من الله الكريم أفضل الصلوات والسلام والبركات ولقد كان أكثر اشتغال العلماء بالحديث في الأعصار الخاليات حتى لقد كان يجتمع في مجلس الحديث من الطالبين ألوف متكاثرات فتناقص ذلك وضعفت الهمم فلم يبق إلا آثار من آثارهم قليلات والله المستعان على هذه المصيبة وغيرها من البليات، وقد جاء في فضل إحياء السنن المماتات أحاديث كثيرة معروفات مشهورات فينبغي الاعتناء بعلم الحديث والتحريض عليه لما ذكرنا من الدلالات ولكونه أيضًا من النصيحة لله تعالى وكتابه ورسوله وللأئمة والمسلمين والمسلمات وذلك هو الدين كما صح عن سيد البريات. ولقد أحسن القائل: "من جمع أدوات الحديث استنار قلبه واستخرج كنوزه الخفيات، وذلك لكثرة فوائده البارزات والكامنات وهو جدير بذلك فإنه كلام أفصح الخلق ومن أعطى جوامع الكلمات صلى الله عليه وآله وسلم صلوات متضاعفات". وقال العلامة الشهاب أحمد المنيني الدمشقي الحنفي في القول السديد: "إن علم الحديث

علم رفيع القدر، عظيم الفخر، شريف الذكر لا يعتني به إلا كل حبر، ولا يحرمه إلا كل غمر، ولا تفنى محاسنه على ممر الدهر؛ لم يزل في القديم والحديث يسمو عزة وجلالة، وكم عز به من كشف الله له عن مخبآت أسراره وجلاله؛ إذ به يعرف المراد من كلام رب العالمين ويظهر المقصود من حبله المتصل المتين، ومنه يُدرى شمائل من سما ذاتًا ووصفًا واسمًا ويوقف على أسرار بلاغة من شرف الخلائق عربًا وعجمًا، وتمتد من بركاته للمعتنى به موائد الإكرام من رب البرية، فيدرك في الزمن القليل من المولى الجليل المقامات العلية، والرتب السنية من كرع من حياضه أو رتع في رياضه فليهنه الأنس بجنى جنانه السنة المحمدية، والتمتع بمقصورات خيام الحقيقة الأحمدية؛ وناهيك بعلم من المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بدايته، وإليه مستنده وغايته. وحسب الراوي للحديث شرفًا وفضلًا وجلالة ونبلًا أن يكون أول سلسلة آخرها الرسول وإلى حضرته الشريفة بها الانتهاء والوصول. وطالما كان السلف الصالح يقاسون في تحمله شدائد الأسفار، ليأخذوه عن أهله بالمشافهة ولا يقنعون بالنقل من الأسفار فربما ارتكبوا غارب الاغتراب بالارتحال إلى البلدان الشاسعة لأخذ حديث عن إمام انحصرت رواتيه فيه أو لبيان وضع حديث تتبعوا سنده حتى انتهى إلى من يختلق الكذب ويفتريه وتأسى بهم من بعدهم من نقلة الأحاديث النبوية وحفظة السنة المصطفوية، فضبطوا الأسانيد وقيدوا منها كل شريد، وسبروا الرواة بين تجريح وتعديل، وسلكوا في تحرير المتن أقوم سبيل، ولا غرض لهم إلا الوقوف على الصحيح من أقوال المصطفى وأفعاله، ونفي الشبهة بتحقيق السند واتصاله فهذه هي المنقبة التي تتسابق إليها الهمم العوالي والمأثرة التي يصرف في تحصيلها الأيام والليالي" وقال الإمام أبو الطيب السيد صديق خان الحسيني الأثري عليه الرحمة والرضوان قي كتابة: "الخطة": "اعلم أن آنف1 العلوم الشرعية ومفتاحها ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها وعمدة المناهج اليقينية ورأسها ومبني شرائع الإسلام وأساسها ومستند الروايات الفقهية كلها ومآخذ الفنون الدينية دقها وجلها وأسوة جملة الأحكام وأسها

_ 1 آنف أول.

وقاعدة جميع العقائد وأسطقسها، وسماء العبادات وقطب مدارها، ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها، هو علم الحديث الشريف الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم وتدور عليه رحى الشرع بالأسر، وهو ملاك كل نهي وأمر ولولاه لقال من شاء ما شاء وخبط الناس خبط عشواء وركبوا متن عمياء فطوبى لمن جد فيه وحصل منه على تنويه يملك من العلوم النواصي، ويقرب من أطرافها البعيد القاصي. ومن لم يرضع من دره، ولم يخض في بحره، ولم يقتطف من زهره، ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام فقد جار فيما حكم وقال على الله تعالى ما لم يعلم؛ كيف وهو كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين، وقد أُوتي جوامع الكلم وسواطع الحكم، من عند رب العالمين. فكلامه أشرف الكلم وأفضلها، وأجمع الحكم وأكملها كما قيل: "كلام الملوك ملوك الكلام". وهو تلو كلام الله العلام وثاني أدلة الأحكام. فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها؛ وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها، تتوقف على بيانه -صلى الله عليه وسلم- فإنها ما لم توزن بهذا القسطاس المستقيم ولم تضرب على ذلك المعيار القويم، لا يعتمد عليها ولا يصار إليها فهذا العلم المنصوص والبناء المرصوص بمنزلة الصراف لجواهر العلوم عقليها ونقليها وكالنقاد لنقود كل الفنون أصليها وفرعيها من وجوه التفاسير والفقهيات ونصوص الأحكام ومآخذ عقائد الإسلام وطرق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام فما كان منها كامل العيار في نقد هذا الصراف فهو الحري بالترويج والاشتهار وما كان زيفا غير جيد عند ذاك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار فكل قول يصدقه خبر الرسول فهو الأصلح للقبول وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان فهي مصابيح الدجى ومعالم الهدى وبمنزلة البدر المنير من أنقاد لها فقد رشد واهتدى وأُوتي الخير الكثير ومن أعرض عنها وتولى فقد غوى وهوى وما زاد نفسه إلا التخسير فإنه -صلى الله عليه وسلم- نهى وأمر وأنذر وبشر، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل

القرآن بل هي أكثر1. وقد أرتبط بها اتباعه -صلى الله عليه وسلم- الذي هو ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين كيف وما الحق إلا فيما قاله -صلى الله عليه وسلم- أو عمل به أو قرره أو أشار إليه، أو تفكر فيه أو خطر بباله أو هجس في خلده واستقام عليه. فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب، والعمل بهما في كل إياب وذهاب ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء: "وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"2 فيا له من علم سيط3 بدمه الحق والهدى ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى. وقد كان الإمام محمد بن علي بن الحسين عليه السلام يقول: "إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث". ولقد صدق فإنه لو تأمل المتأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق لعلم أن لكل علم خاصية تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة وهذا علم تعطى مزاولته صاحب هذا العلم معنى الصحابية لأنها في الحقيقة هي الاطلاع على جزئيات أحواله -صلى الله عليه وسلم- ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان وإليه أشار القائل بقوله: أهل الحديث هموا أهل النبي وإن ... لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا" ويروى عن بعض الصلحاء أنه قال: "أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فالحاصل أن أهل الحديث، كثر الله تعالى سوادهم، ورفع عمادهم لهم نسبة خاصة، ومعرفة مخصوصة بالنبي لا يشاركهم فيها أحد من العالمين فضلا عن الناس أجمعين لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العليا، وأحواله الكريمة وشمائله الشريفة على لسانهم، ولم يبرح تمثال جماله الكريم، وخيال وجهه الوسيم ونور حديثه المستبين يتردد في حاق وسط جنانهم فعلاقة باطنهم بباطنه العلي متصلة، ونسبة ظاهرهم بظاهره النقي مسلسلة فأكرم بهم من كرام يشاهدون عظمة المسمى حين يذكر الاسم ويصلون عليه كل لمحة ولحظة بأحسن الحد والرسم".

_ 1 المراد بالمثلية. ها هنا، مثلية العدد، بقرينة قوله: "بل هي أكثر". 2 سورة المائدة، آية 57، والحديد آية 21 وغيرهما. 3 سيط: خلط.

فضل راوى الحديث

2- فضل راوي الحديث: كفى خادم الحديث فضلًا دخوله في دعوته -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "نضر الله امرأ سمع مقالتي، فحفظها ووعاها وأداها". رواه الشافعي والبيهقي عن ابن مسعود، وأخرجه أبو داود والترمذي بلفظ: "نضر الله امرأ سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع". قال الترمذي: "حسن صحيح" وعن زيد بن ثابت، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "نضر الله المرء سمع منا حديثًا فبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه". رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجه بزيادة وعن أنس بن مالك قال خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمسجد الخيف من منى فقال: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها من لم يسمعها الحديث" رواه الطبراني وروى نحوه الإمام أحمد وغيره عن جبير بن مطعم. قال سفيان بن عيينة: "ليس من أهل الحديث أحد إلا وفي وجهه نضرة لهذا الحديث". وقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم أرحم خلفائي" قيل: ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي، ويعلمونها الناس". رواه الطبراني وغيره. وكأن تلقيب المحدث بأمير المؤمنين مأخوذ من هذا الحديث، وقد لقب به جماعة منهم سفيان وابن راهويه والبخاري وغيرهم. وقد قيل في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} 1 ليس لأهل الحديث منقبة أشرف من ذلك لأنه لا إمام لهم غيره -صلى الله عليه وسلم. كذا في التدريب2 وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". ورواه من الصحابة غير واحد أخرجه ابن عدي، والدارقطني وأبو نعيم.

_ 1 سورة الإسراء آية 71. 2 ص170 القاهرة المطبعة الخيرية 1307هـ.

وتعدد طرقه يقضي بحسنه كما جزم به العلائي. وفيه تخصيص حملة السنة بهذه المنقبة العلية، وتعظيم لهذه الأمة المحمدية، وبيان لجلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم في العالمين؛ لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين، بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها. وقال النووي رحمه الله تعالى في أول تهذيبه: "هذا إخبار منه -صلى الله عليه وسلم- بصيانة هذا العلم وحفظه، وعدالة ناقليه. وإن الله يوفق له في كل عصر خلفا من العدول يحمونه وينفون عنه التحريف، فلا يضيع". وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر. وهكذا وقع ولله الحمد، وهو من أعلام النبوة، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئًا من علم الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف شيئًا منه. ومن شرف علم الحديث ما رويناه من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة". قال الترمذي: "حسن غريب" وقال ابن حبان في صحيحه: "في هذا الحديث بيان صحيح على أن أولى الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في القيامة أصحاب الحديث إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم". وقال أبو نعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر ما يعرف لهذه العصابة. وكان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: لولا أهل المحابر لخطبت الزنادقة على المنابر. وقال أيضًا: "أهل الحديث في كل زمان كالصحابة في زمانهم". وقال أيضًا: "إذا رأيت صاحب حديث فكأني رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم". وكان أحمد بن سريج يقول: "أهل الحديث أعظم درجة من الفقهاء لاعتنائهم بضبط الأصول".

وكان أبو بكر بن عياش يقول: "أهل الحديث في كل زمان؛ كأهل الإسلام مع أهل الأديان". وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل" نقله الشعراني في مقدمة ميزانه1. وقال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قدس الله سره في فتوحاته في الباب الثالث عشر وثلاثمائة2 وللورثة حظ من الرسالة ولهذا قيل في معاذ وغيره: "رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وما فاز بهذه الرتبة ويحشر يوم القيامة مع الرسل إلا المحدثون الذين يروون الأحاديث بالأسانيد المتصلة بالرسول عليه السلام في كل أمة فلهم حظ في الرسالة وهم نقلة الوحي وهم ورثة الأنبياء في التبليغ والفقهاء إذا لم يكن لهم نصيب في رواية الحديث فليست لهم هذه الدرجة ولا يحشرون مع الرسل بل يحشرون في عامة الناس ولا ينطلق اسم العلماء إلا على أهل الحديث وهم الأئمة على الحقيقة". "وكذلك الزهاد والعباد وأهل الآخرة، ومن لم يكن من أهل الحديث منهم كان حكمه حكم الفقهاء لا يتميزون في الورثة ولا يحشرون مع الرسل بل يحشرون مع عموم الناس ويتميزون عنهم بأعمالهم الصالحة لا غير كما أن الفقهاء أهل الاجتهاد يتميزون بعلمهم عن العامة". ا. هـ.

_ 1 ص62 القاهرة، المطبعة الكستلية، 1279هـ. 2 ص65، ج3 القاهرة، المطبعة الأميرية 1293هـ.

الأمر النبوى برواية الحديث وإسماعه

3- الأمر النبوي برواية الحديث وإسماعه: روي الإمام أحمد والبخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعدة من النار". وروى الطبراني عن أبي قرصافة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "حدثوا عني بما تسمعون، ولا تقولوا إلا حقا، ومن كذب عليَّ بني له بيت في جهنم يرتع فيه". وروى الإمام أحمد، والبخاري في الأدب عن ابن عباس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "علموا، ويسروا، ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت! ". وروى الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض القرآن وعلموا الناس، فإني مقبوض". قال العارف الشعراني قدس سره في العهود الكبرى1: "وفي كتابة الحديث وإسماعه للناس فوائد عظيمة منها: عدم اندراس أدلة الشريعة، فإن الناس لو جهلوا الأدلة جملة -والعياذ بالله تعالى- لربما عجزوا عن نصرة شريعتهم عند خصمهم، وقولهم: "إنا وجدنا آباءنا على ذلك" لا يكفي. وماذا يضر الفقيه أن يكون محدثا يعرف أدلة كل باب من أبواب الفقه. ومنها: تجديد الصلاة والتسليم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل حديث. وكذلك تجديد الترضي والترحم على الصحابة والتابعين من الرواة إلى وقتنا هذا ومنها: وهو أعظمها فائدة الفوز بدعائه لمن بلغ كلامه إلى أمته في قوله: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها" ودعاؤه مقبول بلاشك إلا ما استثني كعدم إجابته في أن الله تعالى لا يجعل بأس أمته فيما بينهم كما ورد". انتهى.

_ 1 ص32 "على هامش لطائف المنن والأخلاق" القاهرة المطبعة العامرة 311هـ.

حث السلف على الحديث

4- حث السلف على الحديث: قال الشعراني قدس سره في مقدمة ميزانه1: كان الأعمش -رضي الله عنه- يقول: "عليكم بملازمة السنة وعلموها للأطفال، فإنهم يحفظون على الناس دينهم إذا جاء وقتهم". وكان وكيع رحمه الله تعالى يقول: "عليكم باتباع الأئمة المجتهدين والمحدثين فإنهم يكتبون ما لهم وما عليهم بخلاف أهل الأهواء والرأي فإنهم لا يكتبون قط ما عليهم". وكان الشعبي وعبد الرحمن بن مهدي يزجران كل من رأياه يتدين بالرأي وينشدان: دين النبي محمد أخبار ... نعم المطية للفتي الآثار

_ 1 ص62، 63.

لا ترغبن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار وكان مجاهد يقول لأصحابه: "لا تكتبوا عني كل ما أفتيت به، وإنما يُكتب الحديث ولعل كل شيء أفتيتكم به اليوم أرجع عنه غدًا". وكان أبو عاصم رحمه الله تعالى يقول: "إذا تبحر الرجل في الحديث، كان الناس عنده كالبقر". وكان الإمام أبو حنيفة -رضي الله عنه- يقول: "إياكم والقول في دين الله تعالى بالرأي؛ وعليكم باتباع السنة فمن خرج عنها ضل". ودخل عليه مرة رجل من أهل الكوفة والحديث يقرأ عنده فقال الرجل: "دعونا من هذه الأحاديث! " فزجره الإمام أشد الزجر، وقال له: "لولا السنة ما فهم أحد منا القرآن". وقيل له مرة: "قد ترك الناس العمل بالحديث واقبلوا على سماعه" فقال -رضي الله عنه: "نفس سماعهم للحديث عمل به". وكان -رضي الله عنه- يقول: "لم تزل الناس في صلاح ما دام فيهم من يطلب الحديث فإذا طلبوا العلم بلا حديث فسدوا". وكان يقول: "لا ينبغي لأحد أن يقول قولًا حتى يعلم أن شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقبله". وكان الإمام مالك -رضي الله عنه- يقول: إياكم ورأى الرجال إلا إن أجمعوا عليه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 1 وما جاء عن نبيكم، وإن لم تفهموا المعنى فسلموا لعلمائكم، ولا تجادلوهم فإن الجدال في الدين من بقايا النفاق. وروى الحاكم والبيهقي عن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- أنه كان يقول: " إذا صح الحديث فهو مذهبي" قال ابن حزم: "أي صح عنده أو عند غيره من الأئمة" وفي رواية أخرى: "إذا رأيتم كلامي يخالف كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعملوا بكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضربوا بكلامي الحائط" وقال مرة للربيع: "يا أبا أسحق، لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين". وكان -رضي الله عنه- إذا توقف في حديث يقول: "لو صح ذلك لقلنا به". وكان يقول: "إذا ثبت عن النبي -بأبي هو وأمي- شيء لم يحل تركه لشيء أبدًا" وروى البيهقي عن الإمام أحمد -رضي الله عنه- أنه كان إذا سئل عن مسألة يقول: "أولأحد كلام مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ " وكان يتبرأ كثيرًا من رأي الرجال ويقول: "لا ترى أحدًا ينظر في كتب الرأي غالبًا إلا وفي قلبه دخل"2 وكان ولده عبد الله يقول: "سألت الإمام أحمد عن الرجل

_ 1 سورة الأعراف، آية 2. 2 الدخل -بفتحتين- الفساد.

يكون في بلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحة من سقيمه، وصاحب رأي، فمن يسأل منهما عن دينه؟ فقال: يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي". وبلغنا أن شخصًا استشاره في تقليد أحد من علماء عصره فقال: "لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الأوزاعي، ولا النخعي، ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا". قال الشعراني: "وهو محمول على من له قدرة على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة". وقال الشعراني أيضًا في العهود1: "وسمعت سيدي عليًّا الخواص رحمه الله يقول: ليس مراد الأكابر من حثهم على العمل على موافقة الكتاب والسنة إلا مجالسة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الأمر لا غير، فإنهم يعلمون أن الحق تعالى لا يجالسهم إلا في عمل شرعه هو ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أما ما ابتدع، فلا يجالسهم الحق تعالى ولا رسوله فيه، وإنما يجالسون فيه من ابتدعه من عالم أو جاهل". ا. هـ. والآثار في الحث على الحديث عن السلف، وافرة وفي هذا القدر كفاية.

_ 1 ص17.

اجلال الحديث وتعظيمه والرهبة من الزيغ عنه

5- إجلال الحديث وتعظيمه والرهبة من الزيغ عنه: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ومسلم، وأبو داود ولفظة: "من صنع أمرًا على غير أمرنا فهو رد" وفي رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من رغب عن سنتي فليس مني" رواه مسلم. وعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة بإسناد حسن.

وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستة لعنتهم ولعنهم الله، وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط على أمتي بالجبروت ليذل من أعز الله، ويعز من أذل الله والمستحل حرمة الله، والمستحل من عترتى ما حرم الله والتارك السنة" رواة الطبراني وابن حبان في صحيحة والحاكم وقال: "صحيح الإسناد" قال المنذري: "ولا أعرف له علة". وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" رواه البغوي في شرح السنة. وقال النووي في أربعينه: "هذا حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح". قال الشافعي -رضي الله عنه- في باب الصيد من الأم: "كل شيء خالف أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سقط ولا يكون معه رأي ولا قياس فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس لأحد معه أمر ولا نهى غير ما أمر هو به". وكان -رضي الله عنه- يقول: "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به". وقال الإمام محمد الكوفي -رضي الله عنه: "رأيت الإمام الشافعي بمكة: وهو يفتي الناس، ورأيت الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه حاضرين فقال الشافعي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل ترك لنا عقيل من دار"؟ فقال إسحاق: "روينا عن الحسن!! وإبراهيم أنهما لم يكونا يريانه وكذلك عطاء ومجاهد" فقال الشافعي لإسحاق: "لو كان غيرك موضعك لفركت أذنه أقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول قال عطاء ومجاهد والحسن وهل لأحد مع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة بأبي هو وأمي" كذا في ميزان الشعراني1 قدس سره. وقال الإمام الصغاني رحمه الله تعالى في: "مشارق الأنوار": "أخذت مضجعي ليلة

_ 1 ص65.

الأحد الحادية عشرة من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وقلت: اللهم أرني الليلة نبيك محمدًا -صلى الله عليه وسلم- في المنام وإنك تعلم اشتياقي إليه، فرأيت بعد هجعة من الليل، كأني والنبي -صلى الله عليه وسلم- في مشربة، ونفر من أصحابنا أسفل منا عند درج المشربة، فقلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما تقول في ميت رماه البحر أحلال؟ فقال وهو مبتسم إليَّ "نعم" فقلت وأنا أشير إلى من بأسفل الدرج: فقل لأصحابي فإنهم لا يصدقوني، فقال: "لقد شتمتني وعابوني! " فقلت: كيف يا رسول الله؟ فقال كلامًا ليس يحضرني لفظه وإنما معناه: "عرضت قولي على من لا يقلبه"؛ ثم أقبل عليهم يلومهم ويعظهم فقلت صبيحة تلك الليلة: وأنا أعوذ بالله من أن أعرض حديثه بعد ليلتي هذه إلا على الذين يحكمونه فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضى ويسلموا تسليمًا. ا. هـ. وسيأتي إن شاء الله تعالى في الباب العاشر في فقه الحديث مزيد لهذا بحوله سبحانه وقوته.

فضل المحامى عن الحديث والمحيى للسنة

6- فضل المحامي عن الحديث والمحيي للسنة: عن عمرو بن عوف -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال بن الحرث يومًا: "اعلم يا بلال" قال: "ما أعلم يا رسول الله؟ " قال: "إن من أحيا سنة من سنتي أميتت بعدي، كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئًا". رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه قال الحافظ المنذري: "وللحديث شواهد". وعن أنس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة". رواه الترمذي قال الإمام السيد محمد بن المرتضى اليماني رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه: "إيثار الحق على

الخلق"1 ما نصه: "المحامي عن السنة، الذاب عن حماها كالمجاهد في سبيل الله تعالى يعد للجهاد ما استطاع من الآلات والعدة والقوة، كما قال الله سبحانه {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة} 2 وقد ثبت في الصحيح أن جبريل عليه السلام كان مع حسان بن ثابت يؤيده ما نافح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أشعاره، فكذلك مع ذب عن دينه وسنته من بعده إيمانًا به وحبًّا ونصحًا له ورجاء أن يكون من الخلف الصالح الذين قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم3: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين" والجهاد باللسان أحد أنواع الجهاد سبله وفي الحديث4: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" وقد أحسن من قال في هذا المعنى شعرًا: جاهدت فيك بقولي يوم يختصم الـ ... أبطال إذ فات سيفي يوم يمتصع5 عن اللسان لوصال إلى طرق ... في الحق لا تهتديها الذبل السرع ثم قال: "ولا ينبغي أن سنتوحش الظافر بالحق من كثرة المخالفين له، كما لا يستوحش الزاهد من كثرة الراغبين، ولا المتقى من كثرة العاصين ولا الذاكر من كثرة الغافلين ينبغي منه أن يستعظم المنة باختصاصة بذلك مع كثرة الجاهلين له الغافلين عنه، وليوطن نفسه على ذلك فقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم وآله وسلم- أنه قال: "عن هذا الدين بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء! " رواه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة ورواه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال: "هذا حديث حسن صحيح" ورواه ابن ماجه وعبد الله بن أحمد من حديث أنس وروى البخاري نحوه بغير لفظه من حديث ابن عمر وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "طلب الحق غربة" رواه الحافظ الأنصاري في أول كتابه: "منازل السائرين إلى الله" من حديث جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده وقال: "هذا حديث غريب، لم اكتبه عاليًا إلا من رواية علان، ولذلك شواهد قوية عن تسعة من الصحابة ذكرها البيهقي في: "مجمع الزوائد" فنسأل الله أن يرحم غربتنا في الحق، ويهدي ضالنا ولا يردنا عن أبواب رجائه، ودعائه وطلبه محرومين إنه مجيب الداعين، وهادي المهتدين وأرحم الراحمين.

_ 1 ص20. 2 سورة الأنفال، آية: 61. 3 رواه الديلمي في مسند الفردوس. 4 رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه غيرهم من غيره. بلفظ آخر أيضًا. 5 يمتصع: يضرب.

أجر المتمسك بالسنة إذا اتبعت الأهواء وأوثرت الدنيا

7- أجر المتمسك بالسنة إذا اتبعت الأهواء وأوثرت الدنيا: عن أبي ثعلبة الخشنى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ايتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شحًّا مطاعًا وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن كالقبض على الجمر؛ للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله". رواه ابن ماجه والترمذي وقال: "حديث حسن غريب" وأبو داود وزاد قيل: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجر خمسين رجلًا منا أو منهم، قال: "بل أجر خمسين منكم". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي قال: "المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد" رواه الطبراني ورواه البيهقي من رواية الحسن بن قتيبة عن ابن عباس رفعه: "من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد". وعن معقل بن يسار -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "عبادة في الهرج 1 كهجرة إليَّ" رواه مسلم والترمذي وابن ماجه.

_ 1 الهرج: هو الاختلاف والفتن.

بيان أن الوقيعة في أهل الأثر من علامات أهل البدع

8- بيان أن الوقيعة في أهل الأثر من علامات أهل البدع: قال الإمام الحافظ أبو حاتم الرازي: "علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر وعلامة الجهمية أن يسموا أهل السنة مشبهة ونابتة وعلامة القدرية أن يسمعوا أهل السنة مجبرة، وعلامة الزنادقة أن يسموا أهل الأثر حشوية" نقله عنه الذهبي في كتاب: "العلو". وقال الإمام العارف الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره في كتاب: "الغنية" نحو ما ذكر وزاد1: "وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة عاصبيه وكل ذلك عصبية، وغياظ لأهل السنة ولا اسم لهم إلا اسم واحد وهو: "أصحاب الحديث" ولا يلتصق بهم ما لقيهم به أهل البدع كما لم يلتصق بالنبي تسمية كفار مكة ساحرًا، وشاعرًا ومجنونًا ومفتونًا وكاهنًا، ولم يكن اسمه عند الله وعند ملائكته وعند أنسه وجنه وسائر خلقه إلا رسولًا نبيًّا بريًّا من العاهات كلها: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} 2. ا. هـ. وزاد شيخ الإسلام ابن تيميه: "أن المرجئة تسميهم شكاكًا، قالوا: وهذا علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتقادًا واقتصادًا وقولًا وعملًا فكما كان المنحرفون عنه يسمونه بأسماء مذمومة مكذوبة وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس بها في المحيا والممات باطنًا". ا. هـ.

_ 1 ص71 مكة المكرمة، المطبعة الميرية 1314هـ. 2 سورة الإسراء، آية: 48. وسورة الفرقان، آية: 9.

ما روى أن الحديث من الوحى

9- ما روي أن الحديث من الوحي: عن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألا أوتيت القرآن، ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول علكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما حرم الله". رواه أبو داود والدارمي وابن ماجه. وعن حسان بن عطية قال: "كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنسبة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن". وعن مكحول قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "آتاني الله القرآن ومن الحكمة مثليه" أخرجهما أبو داود في مراسيله. قال أبو البقاء في كلياته: "والحاصل أن القرآن والحديث يتحدان في كونهما، وحيًا منزلًا من عند الله بدليل: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1، إلا أنهما يتفارقان من حيث إن القرآن هو المنزل للإعجاز والتحدي به بخلاف الحديث، وإن ألفاظ القرآن مكتوبة في اللوح المحفوظ، وليس لجبريل عليه السلام، ولا للرسول عليه الصلاة والسلام أن يتصرفا فيها أصلًا، وأما الأحاديث فيحتمل أن يكون النازل على جبريل معنى صرفًا فكساه حلة العبارة وبين الرسول بتلك العبارة أو ألهمه كما نتفقه2، فأعرب الرسول بعبارة تفصح عنه". ا. هـ. وفي المراقاة أن "منهم"3 من قال بأنه عليه الصلاة والسلام كان مجتهدًا ينزل اجتهاده منزلة الوحي لأنه لا يخطئ وإذا أخطأ ينبه عليه بخلاف غيره. وفيها عن الشافعي أنه قال: "كل ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مما فهمه من القرآن، قال: لقوله -صلى الله عليه وسلم4: "إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه" وقال: "جميع ما تقوله الأئمة شرح للسنة جميع السنة شرح للقرآن" وقال: "ما نزل بأحد من الدين نازلة إلا وهي في كتبا الله تعالى". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود: "إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله". وعن ابن جبير: "ما بلغني حديث على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله تعالى". ا. هـ.

_ 1 سورة النجم، آية: 4. 2 كذا في كليات أبي البقاء ص288 القاهرة، المطبعة الأميرية، 1281، طبعة ثانية. 3 لفظ -منهم- غير موجود في الأصل، ولكن اقتضاه السياق فأثبتناه بين هلالين. 4 رواه البزار من حديث معقل بن يسار بلفظ: اعملوا بالقرءان، وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتدوا به.

أيادى المحدثين البيضاء على الأمة وشكر مساعيهم

10- أيادي المحدثين البيضاء على الأمة وشكر مساعيهم: يقول جامعه الفقير: من أين للبليغ أن يحصي أيادي المحدثين، وهم الذين عشقوا الهدى النبوي دون العالمين، فتتبعوه ممن بدا وحضر، وكابدوا لأخذه أهوال السفر! فكم جابوا صحاري تتلظى يلظي الرمضاء، وقطعوا عن العمران فيافي تستدعي اليأس، وتروع الأحشاء فحفظوا، ووعوا ولعهد النفر للتفقه في الدين رعوا، ودفعوا عن الدين صنع الوضاعين، وانتحال المفترين وذبوا الكذب عن كلام الرسول الصادق بما مهدوه من تحري كل راو موافق فدونوا ما سمعوه بالسند، فرارًا عن الرمي باتباع الأهواء، وتحكيم الآراء فاستبرءوا لدينهم بجليل هذا الاحتياط، ودربوا الأمة على التثبت في توثيق عرى الارتباط رحماك اللهم فالاعتراف بآثرهم الحسنة أمر، واجب وشكر فضلهم لا يقص عنه إلا من هو عن الاتباع ناكب أفليست دواوينهم بعد القرآن دعائم الإسلام التي قامت عليها صروحه، وأعضاد الدين التي بأن منها صريحه لا جرم لولا أخذهم بناصية ما دونوه من صحيح السنة لانثالت على الناس جراثيم الأباطيل المستكنة التي رزى بها الدين في عصر الوضاعين المنافقين الذين دخلوا في دين الله للتشويش فرد الله كيدهم بتنقيب المحدثين من خرافاتهم ودأبهم في التفتيش حتى أشرقت شموس صحاح الأخبار وانبعثت أشعتها في الأقطار وتمزقت عن البصائر حجب الجهالة وأغشية الضلالة، فرحم الله تلك الأنفس التي نهضت لتأييد الدين، ورضى عمن أحيا آثارهم من اللاحقين. آمين.

الباب الثاني: في معنى الحديث وفيه مباحث

الباب الثاني: في معنى الحديث وفيه مباحث ماهية الحديث والخبر والأثر ... الباب الثاني: في معنى الحديث؛ وفيه مباحث 1- ماهية الحديث والخير والأثر: اعلم: أن هذه الثلاثة مترادفة عند المحدثين على معنى ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قولًا أو فعلًا أو تقريرًا أو صفة وفقهاء خراسان يسمعون الموقوف أثرًا والمرفوع خبرًا وعلى هذه التفرقة جرى كثير من المصنفين وقال أبو البقاء1: الحديث هو اسم من التحديث وهو الإخبار ثم سُمي به قول أو فعل أو تقرير نسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويجمع على: "أحاديث" على خلاف القياس. قال الفراء: واحد الأحاديث أحدوثة ثم جعلوه جمعًا للحديث، وفيه أنهم لم يقولوا أحدوثة النبي. وفي الكشاف: "الأحاديث اسم جمع ومنه حديث النبي". وفي البحر: ليس الأحاديث باسم جمع، بل هو جمع تكسير لحديث على غير القياس كأباطيل، واسم الجمع يأت على هذا الوزن وإنما سميت هذه الكلمات، والعبارات أحاديث كما قال الله تعالى {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِه} 2 لأن الكلمات إنما تتركب من الحروف المتعاقبة المتوالية، وكل واحد من تلك الحروف يحدث عقيب صاحبه؛ أو لأن سماعها يحدث في القلوب من العلوم والمعاني والحديث نقيض القديم كأنه لوحظ فيه مقابلة القرآن والحديث ما جاء عن النبي والخبر ما جاء عن غيره وقيل بينهما عموم وخصوص مطلق فكل حديث خبر من غير عكس". والأثر: ما روي عن الصحابة ويجوز إطلاقه على كلام النبي أيضًا". ا. هـ.

_ 1 ص152. 2 سورة الطور، آية: 34.

وفي التدريب1: "يقال أثرت الحديث بمعنى رويته، ويسمى المحدث أثريًّا نسبة للأثر". وقال الإمام تقي الدين بن تيميه في بعض فتاويه: "الحديث النبوي: هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حُدث به عنه -صلى الله عليه وسلم- بعد النبوة، من قوله، وفعله، وإقراره، فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة، فما قاله، إن كان خبرًا، وجب تصديقه به، وإن كان تشريعًا إيجابا أو تحريما أو إباحة وجب اتباعه فيه، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء، دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقًّا، وهذا معنى النبوة وهو يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب، والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه". وقد رُوي أن عبد الله بن عمرو كان يكتب ما يسمع من النبي فقال له بعض الناس: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع". فسأل النبي عن ذلك فقال2: "اكتب! فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق". يعني شفتيه الكريمتين وقد ثبت عن أبي هريرة أنه قال: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحفظ مني إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب بيده ويعي بقلبه، وكنت أعي بقلبي ولا أكتب بيدي". وكان عند آل عبد الله بن عمرو بن العاص نسخة كتبها عن النبي وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص وقالوا: "إن عنى جده الأدنى محمدًا، فهو مرسل فإنه لم يدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن عنى جده الأعلى فهو منقطع فإن شعيبًا لم يدركه" وأما أئمة الإسلام، وجمهور العلماء فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا صح النقل إليه مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ونحوهما، ومثل الشافعي وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم قالوا: "الجد هو عبد الله

_ 1 ص4. 2 أخرجه أبو داود.

فإنه يجيء مسمى، ومحمد أدركه"، قالوا: "وإذا كانت نسخة مكتوبة من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان هذا أوكد لها وأدل على صحتها"، ولهذا كان في نسخة عمرو بن شعيب من الأحاديث الفقهية، التي فيها مقدرات ما احتاج إليه عامة علماء الإسلام. والمقصود أن حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا أطلق دخل فيه ذكر ما قاله بعد النبوة وذكر ما فعله فإن أفعاله التي أقر عليها حجة لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها كقوله1: "صلوا كما رأيتموني أصلى" وقوله2: "لتأخذوا عني مناسككم". وكذلك ما أحله الله له فهو حلال للأمة ما لم يقم دليل التخصيص؛ ولهذا قال: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} 3 ولما أحل الله له الموهوبة قال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 4 ولهذا كان النبي إذا سئل عن الفعل يذكر للسائل أنه يفعله ليبين للسائل أنه مباح وكان إذا قيل له قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال5: "إني أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده". ومما يدخل في مسمى حديثه ما كان يقرهم عليه، مثل إقراره على المضاربة التي كانوا يعتادونها6، وإقراره لعائشة على اللعب بالبنات7، وإقراره في الأعياد على مثل غناء الجاريتين8، ومثل لعب الحبشة بالحراب في المسجد9، ونحو ذلك وإقراره لهم على أكل الضب على مائدته10، وإن كان قد صح عنه أنه ليس

_ 1 رواه أحمد والشيخان والنسائي من حديث مالك بن حويرث. 2 رواه مسلم عن جابر. 3 سورة الأحزاب، الآية: 37. 4 سورة الأحزاب، الآية: 5. 5 رواه البخاري من حديث عائشة بلفظ آخر. 6 دفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يهود خيبر نخلها وأرضها. على أن يعتملوها من أموالهم، وللنبي -صلى الله عليه وسلم- شطر تمرها وأخرجه الشيخان وأصحاب السنن من حديث ابن عمر. 7 رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها. 8 لم أجده. 9 عن أنس -رضي الله عنه: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحًا بذلك متفق عليه. 10 في "باب ما جاء في الضب" أحاديث، منها حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الضب فقال: "لا آكله ولا أحرمه" -متفق عليه- ومن حديث آخر: "لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه".

بحرام، إلى أمثال ذلك؛ فهذا كله يدخل في مسمى الحديث، وهو المقصود بعلم الحديث فإنه إنما يطلب ما يستدل به على الدين، وذلك إنما يكون بقوله أو فعله أو إقراره، وقد يدخل فيها بعض أخباره قبل النبوة وبعض سيرته قبل النبوة مثل تحنثه بغار حراء ومثل حسن سيرته لأن الحال يستفاد منه ما كان عليه قبل النبوة من كرائم الأخلاق، ومحاسن الأفعال كقول خديجة له: "كلا والله لا يخزيك الله إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف، وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق". ومثل المعرفة فإنه كان أميًّا لا يكتب، ولا يقرأ وإنه كان معروفًا بالصدق، والأمانة، وأمثال ذلك مما يستدل به على أحواله التي تنفع في المعرفة بنبوته، وصدقة فهذه الأمور ينتفع بها في دلائل النبوة كثيرًا ولهذا يذكر مثل ذلك في كتب سيرته كما يذكر فيها نسبه وأقاربه وغير ذلك من أحواله، وهذا أيضًا قد يدخل في مسمى الحديث، والكتب التي فيها أخباره منها كتب التفسير ومنها كتب السيرة، والمغازي ومنها كتب الحديث، وكتب الحديث هي ما كان بعد النبوة أخص، وإن كان فيها أمور جرت قبل النبوة فإن تلك لا تذكر لتوحد وشرع فعله قبل النبوة بل قد أجمع المسلمون على أن الذي فرض على العباد الإيمان بهن والعمل هو ما جاء به بعد النبوة". ا. هـ.

بيان الحديث القدسى

2- بيان الحديث القدسي: قال العلامة الشهاب ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين النووية، في شرح الحديث الرابع والعشرين المسلسل بالدمشقيين وهو حديث أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال: "يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا ... " الحديث ما نصه: "فائدة يعم نفعها، ويعظم وقعها في الفرق بين الوحي المتلو وهو: "القرآن" والوحي المروي عنه -صلى الله عليه وسلم- عن ربه عز وجل، وهو ما ورد من الأحاديث الإلهية وتسمى: "القدسية"؛ وهي أكثر من مائة، وقد جمعها بعضهم في جزء كبير. وحديث: "أبي ذر" هذا من أجلها:

اعلم: أن الكلام المضاف إليه تعالى أقسام ثلاثة: أولها- وهو أشرفها: "القرآن" لتميزه عن البقية بإعجازه من أوجه كثيرة، وكونه معجزة باقية على مر الدهر محفوظة من التغيير، والتبديل وبحرمة سمه لمحدث، وتلاوته لنحو الجنب، وروايته بالمعنى وبتعينه في الصلاة، وبتسميته قرآنا وبأن كل حرف منه بعشر حسنات، وبامتناع بيعه في رواية عند أحمد وكراهته عندنا، وبتسمية الجملة منه آية وسورة وغيره من بقية الكتب، والأحاديث القدسية لا يثبت لها شيء من ذكر فيجوز مسه، وتلاوته لمن ذكر وروايته بالمعنى ولا يجري في الصلاة بل يبطلها، ولا يسمى قرآنا ولا يعطى قارئة بكل حرف عشرا، ولا يمنع بيعه ولا يكره اتفاقًا ولا يسمى بعضه آية ولا سورة اتفاقًا أيضًا. ثانيهًا- كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل تغييرها وتبديلها. ثالثهًا- بقية الأحاديث القدسية وهي ما نقل إلينا آحادًا عنه -صلى الله عليه وسلم- مع إسناده لها عن ربه، فهي من كلامه تعالى فتضاف إليه وهو الأغلب، ونسبتها إليه حينئذ نسبة إنشاء لأنه المتكلم بها أولًا وقد تضاف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه المخبر بها عن الله تعالى بخلاف القرآن فإنه لا تضاف إلا إليه تعالى فيقال فيه: "قال الله تعالى" وفيها: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه تعالى" واختلف في بقية السنة هل هو كله يوحى أو لا وآية: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 1 تؤيد الأول؟ ومن ثم قال -صلى الله عليه وسلم2: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه". ولا تنحصر تلك الأحاديث القدسية في كيفية من كيفيات الوحي بل يجوز أن تنزل بأي كيفية من كيفياته كرؤيا النوم، والإلقاء في الروع وعلى لسان الملك، ولراويها صيغتان إحداهما أن يقول: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمعنى واحد". ا. هـ.

_ 1 سورة النجم، آية: 4. 2 من رواية أبي داود في سننه، وللترمذي: وأن ماحرم رسول الله كما حرم الله.

وفي كليات أبي البقاء في الفرق بين القرآن والحديث القدسي1: "أن القرآن ما كان لفظه ومعناه من عند الله بوحي جلي، وأما الحديث القدسي، فهو ما كان لفظه من عند الرسول، ومعناه من عند الله بالإلهام أو المنام". وقال بعضهم: "القرآن لفظ معجز، ومنزل بواسطة جبريل، والحديث القدسي غير معجز، وبدون الواسطة، ومثله يسمى بالحديث القدسي والإلهي والرباني" وقال الطيبى: "القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- والقدسي إخبار الله معناه بالإلهام أو بالمنام فأخبر النبي أمته بعبارة نفسه، وسائر الأحاديث لم يضفها إلى الله تعالى ولم يروها عنه تعالى". ا. هـ. وقال العلامة السيد أحمد بن المبارك رحمه اله تعالى في الإبريز2: "وسألته -يعني أستاذه نجم العرفان السيد عبد العزيز الدباغ قدس سره- الفرق بين هذه الثلاثة يعني القرآن والحديث القدسي وغير القدسي فقال قدس سره: "الفرق بين هذه الثلاثة وإن كانت كلها خرجت من بين شفتيه -صلى الله عليه وسلم- وكلها معها أنوار من أنواره -صلى الله عليه وسلم: أن النور الذي في القرآن، قديم من ذات الحق سبحانه لأن كلامه تعالى قديم والنور الذي في الحديث القدسي من روحه -صلى الله عليه وسلم- وليس هو مثل نور القرآن، فإن نور القرآن قديم، ونور هذا ليس بقديم، والنور الذي في الحديث الذي ليس بقدسي من ذاته -صلى الله عليه وسلم- فهي أنوار ثلاثة، اختلفت بالإضافة، فنور القرآن من ذات الحق سبحانه، ونور الحديث القدسي من روحه -صلى الله عليه وسلم- نور ما ليس بقدسي من ذاته -صلى الله عليه وسلم." فقلت: "ما الفرق بين نور الروح ونور الذات؟ ". فقال -رضي الله عنه: "الذات خلقت من تراب، ومن التراب خلق سائر العباد؛ والروح من الملأ الأعلى، وهم أعرف الخلق بالحق سبحانه، وكل واحد يحن إلى أصله فكان نور الروح متعلقا بالحق سبحانه ونور الذات متعلقًا بالخلق؛ فلذات ترى الأحاديث القدسية تتعلق بالحق سبحانه وتعالى بتبيين عظمته أو لإظهار رحمته أو بالتنبيه على سعة ملكه وكثرة عطائه فمن الأول حديث: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم،

_ 1 ص288 "ذ. س". 2 ص66 طبع حجر، 1287.

وإنسكم وجنكم ... " إلى آخره وهو حديث أبي ذر في مسلم. ومن الثاني حديث: "أعددت لعبادي الصالحين ... " 1 الحديث. ومن الثالث حديث: "يد الله ملأى، لا يغيضها نفقه، سحاء الليل والنهار ... " 2 إلخ وهذه من علوم الروح في الحق سبحانه، وترى الأحاديث التي ليست بقدسية تتكلم على ما يصلح البلاد، والعباد بذكر الحلال، والحرام والحث على الامتثال بذكر الوعد والوعيد". هذا بعض ما فهمت من كلامه -رضي الله عنه- والحق أني لم أوف به، ولم آت بجميع المعنى الذي أشار إليه. فقلتك: "الحديث القدسي من كلام الله عز وجل أم لا؟ ". فقال: "ليس هو من كلامه وإنما هو من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم:". فقلت: "فلم أضيف للرب سبحانه فقيل فيه: "حديث قدسي" وقيل فيه: "فيما يرويه عن ربه"، وإذا كان من كلامه عليه السلام فأي رواية له فيه عن ربه وكيف نعمل مع هذه الضمائر في قوله: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ... " إلخ وقوله: "أعددت لعبادي الصالحين ... " وقوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكاف ر3 ... "؟ فإن هذه الضمائر لا تليق إلا بالله فتكون الأحاديث القدسية من كلام الله تعالى وإن لم تكن ألفاظها لإعجاز ولا تعبدنا بتلاوتها". فقال -رضي الله عنه- مرة: "إن الأنوار من الحق سبحانه تهب على ذات النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تحصل له مشاهدة خاصة -وإن كان دائمًا في المشاهدة- فإن سمع من الأنوار كلام الحق سبحانه، أو نزل عليه ملك فذلك هو: "القرآن"؛ وإن لم يسمع كلامًا، ولا نزل عليه ملك فذلك وقت الحديث القدسي. فيتكلم عليه الصلاة والسلام ولا يتكلم حينئذ إلا في شأن الربوبية بتعظيمها، وذكر حقوقها، ووجه إضافة هذا الكلام إلى الرب سبحانه أنه كان مع هذه المشاهدة التي اختلطت فيها الأمور حتى رجع الغيب شهادة، والباطن ظاهرًا فأضيف إلى الرب وقيل فيه: "حديث رباني"، وقيل فيه: "فيما يرويه عن

_ 1 أخرجه في الصحيحين من رواية عبد الرزاق وغيرهما. 2 أخرجه البخاري في كتاب التوحيد من حديث أبي هريرة. 3 أخرجه الشيخان في صحيحيهما وغيرهما بألفاظ مختلفة.

ربه عز وجل"؛ ووجه الضمائر، أن كلامه عليه السلام، خرج على حكاية لسان الحال التي شاهدها من ربه عز وجل. وأما الحديث الذي ليس بقدسي فإنه يخرج مع النور الساكن في ذاته عليه السلام الذي لا يغيب عنها أبدًا، وذلك أنه عز وجل أمد ذاته عليه السلام بأنوار الحق كما أمد جرم الشمس بالأنوار المحسوسة فالنور لازم للذات الشريفة لزوم نور الشمس لها. وقال مرة أخرى: "وإذا فرضنا محمومًا دامت عليه الحمى على قدر معلوم وفرضناها تارة تقوى حتى يخرج بها عن حسه، ويتكلم بما لا يدري وفرضناها مرة أخرى تقوى، ولا تخرجه عن حسه ويبقي على عقله، ويتكلم بما يدري فصار لهذه الحمى ثلاثة أحوال قدرها المعلوم، وقوتها المخرجة عن الحس وقوتها التي لا تخرج عن الحس فكذا الأنوار في ذاته عليه السلام فإن كانت على القدر المعلوم فما كان من الكلام حينئذ فهو الحديث الذي ليس بقدسي، وإن سطعت الأنوار وشغلت في الذات حتى خرج بها عليه السلام عن حالته المعلومة فما كان من الكلام حينئذ فهو كلام الله سبحانه، وهذه كانت حالته عليه السلام عند نزول القرآن عليه، وإن سطعت الأنوار ولم تخرجه عن حالته عليه السلام فيما كان من الكلام حينئذ قيل فيه: حديث قدسي". وقال مرة: "إذا تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان الكلام بغير اختياره، فهو: "القرآن"، وإن كان باختياره، فإن سطعت حينئذ أنوار عارضة، فهو الحديث القدسي وإن كانت الأنوار الدائمة فهو الحديث الذي ليس بقدسي ولأجل أن كلامه لا بد أن تكون معه أنوار الحق سبحانه كان جميع ما يتكلم به -صلى الله عليه وسلم- وحيًا يوحى وباختلاف أحوال الأنوار افترق إلى الأقسام الثلاثة والله أعلم". قال السيد أحمد بن المبارك: "فقلت هذا كلام في غاية الحسن ولكن ما الدليل على أن الحديث القدسي ليس من كلامه عز وجل؟ ". فقال -رضي الله عنه: "كلامه تعالى لا يخفى" فقلت: "بكشف؟ " فقال -رضي الله عنه: "بكشف وبغير كشف، ولك من له عقل، وأنصت للقرآن ثم أنصت لغيره أدرك

الفرق لا محالة. والصحابة -رضي الله عنهم- أعقل الناس، وما تركوا دينهم الذي كانت عليه الآباء إلا بما وضح من كلامه تعالى، ولو لم يكن عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ما يشبه الأحاديث القدسية ما آمن من الناس أحد، ولكن الذي ظلت له الأعناق خاضعة هو القرآن العزيز الذي هو كلام الرب سبحانه وتعالى. فقلت له: "ومن أين لهم أنه كلام الرب تعالى وإنما كانوا على عبادة الأوثان، ولم تسبق لهم معرفة بالله عز وجل، حتى يعلموا أنه كلامه وغاية ما أدركوه أنه كلام خارج عن طوق البشر فلعله من عند الملائكة مثلًا؟ ". فقال -رضي الله عنه: "كل من استمع القرآن، وأجرى معانيه على قلبه علم علمًا ضروريًّا أنه كلام الرب سبحانه فإن العظمة التي فيه والسطوة التي عليه ليست إلا عظمه الربوبية، وسطوة الألوهية والعاقل الكيس إذا استمع لكلام السلطان الحادث ثم استمع لكلام رعيته، وجد لكلام السلطان نفسًا به يعرف حتى إنا فرضناه أعمى، وجاء إلى جماعة يتكلمون والسلطان معمور فيهم، وهم يتناوبون الكلام لميز كلام السلطان من غيره بحيث لا تدخله في ذلك ريبة هذا في الحادث مع الحادث فكيف بكلام القديم، وقد عرف الصحابة -رضي الله عنهم- من القرآن ربهم عز وجل وعرفوا صفاته وما يستحقه من ربوبيته، وقام لهم سماع القرآن في إفادة العلم القطعي به عز وجل مقام المعاينة والمشاهدة وحتى صار الحق سبحانه عندهم بمنزلة الجليس ولا يخفى على أحد جليسه؟ ". ثم نقل ابن المبارك كلام أستاذه المنوه به، في ما يعرف به كلامه تعالى فانظره، وما نقلنا بحثه المذكور إلا لنفاسته لأنه منزع بديع ينشرح له القلب والله العليم.

ذكر أول من دون الحديث

3- ذكر أول من دون الحديث: قال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري1: "اعلم -علمني الله وإياك- أن آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع، ولا مرتبه لأمرين: أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك كما ثبت في صحيح مسلم، خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم. وثانيهما: لسعة حفظهم وسيلان أذهابهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار، وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار. فأول من جمع ذلك: "الربيع بن صبيح" و"سعيد بن أبي عروبة" وغيرهما. وكانوا يصنفون كل باب على حدة إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة، فدونوا الأحكام. فصنف الإمام مالك: "الموطأ" وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزحه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ومن بعدهم وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح بمكة، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي خاصة وذلك على رأس المائتين فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسندا وصنف أسد بن موسى الأموي سندا وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسندا". "ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك آثرهم فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وعثمان بن شيبة وغيرهم من النبلاء".

_ 1 ص4 القاهرة المطبعة الأميرية الكبرى 1301هـ.

"ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معًا كأبي بكر بن أبي شيبة". "ولما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها، وجدها جامعة للصحيح والحسن، والكثير منها يشمله التضعيف، فحرك همته لجمع الحديث الصحيح وقوى همته لذلك ما سمعه من أستاذه الإمام إسحاق بن راهويه حيث قال لمن عنده والبخاري فيهم: "لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم" قال البخاري: "فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح". ا. هـ. قال السيوطي: "وهؤلاء المذكورون في أول من جمع، كلهم من أثناء المائة الثانية، وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز". وأفاد الحافظ في الفتح أيضًا: أن أول من دون الحديث ابن شهاب بأمر عمر بن عبد العزيز كما رواه أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن عن مالك قال: "أول من دون العلم ابن شهاب -يعني الزهري-" وأخرج الهروي في ذم الكلام من طريق يحيى بن سعيد عن عبد الله بن دينار قال: "لم يكن الصحابة، ولا التابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها لفظًا ويأخذونها حفظًا إلا كتاب الصدقات والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر الحزمي فيما كتب إليه أن انظر ما كان من سنة أو حديث فاكتبه". وقال مالك في الموطأ، رواية محمد بن الحسن: "أخبرنا يحيى بن سعيد، أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم أن: "انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو سنة أو حديث أو نحو هذا فاكتبه لي فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء" علقه البخاري في صحيحه، وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان بلفظ كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: "انظروا حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاجمعوه". وروى عبد الرزاق عن ابن وهب سمعت مالكا يقول: "كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن، والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى، وأن يعملوا بما عندهم، ويكتب إلى أبي بكر بن حزن أن يجمع السنن ويكتب بها إليه" فتوفي عمر وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث بها إليه. ا. هـ.

بيان أكثر الصحابة حديثا وفتوى

4- بيان أكثر الصحابة حديثا وفتوى: في التقريب وشرحه1: "أكثرهم -يعني الصحابة- حديثا، أبو هريرة، روى خمسة آلاف وثلائمائة وأربعة وسبعين حديثا؛ وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل وهو أحفظ الصحابة أسند البيهقي عن الشافعي أنه قال: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره". وروى ابن سعد أن ابن عمر كان يترحم عليه في جنازته ويقول: "كان يحفظ على المسلمين حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- "ثم عبد الله بن عمر روى ألفي حديث وستمائة وثلاثين حديثًا ثم أنس بن مالك روى ألفين، ومائتين وستة وثمانين حديثًا ثم ابن عباس روى ألفا وستمائه وستين حديثًا. ثم جابر بن عبد الله روى ألفًا وخمسائة وأربعين حديثًا. ثم أبو سعيد الخدري سعد بن مالك روى ألفًا ومائة وسبعين حديثًا. ثم عائشة الصديقة أم المؤمنين روت ألفين ومائتين وعشرة وليس في الصحابة من يزيد حديثه على ألف غير هؤلاء وإياهم عني من أنشد: سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا ... من الحديث عن المختار خير مضر أبو هريرة، سعد، جابر، أنس ... صديقة، وابن عباس، كذا ابن عمر2 وأما أكثرهم فتوى فقال ابن حزم: "أكثرهم فتوى مطلقا عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت وعائشة". قال: "ويمكن أن يجمع من فتيا كل واحد من هؤلاء مجلد ضخم". قال: "وليهم عشرون أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، ومعاذ، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسلمان، وجابر، وأبو سعيد،

_ 1 ص205. 2 السيوطي: تدريب الراوي، ص205 "ذ. س".

وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكر، وعبادة بن الصامت، ومعاوية، وابن الزبير، وأم سلمة". قال: "ويمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير". قال: "وفي الصحابة نحو مائة وعشرين نفسًا، يقلون في الفتيا جدا، لا يُروى عن الواحد منهم إلا المسألة أو المسألتان أو الثلاث، كأبي بن كعب وأبي الدرداء وأبي طلحة والمقداد ... " وسرد الباقين. وقال الإمام محمد بن سعد في الطبقات: قال محمد بن عمر الأسلمى: "إنما قلت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنهم ماتوا قبل أن يحتاج إليهم وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا، وقضيا بين الناس وكل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عنهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون وسمعوا أحاديث فأدوها فكان الأكابر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقل حديثًا عنه من غيرهم مثل أبي بكر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي بن كعب وسعد بن عبادة، وعبادة بن الصامت وأسيد بن حضير، ومعاذ بن جبل ونظرائهم فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس، ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب، ونظرائهم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم في الناس فاحتاج الناس إليهم ومضى كثير من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنهم من لم يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا ولعله أكثر له صحبة ومجالسة وسماعًا من الذي حدث عنه ولكنا حملنا الأمر في ذلك منهم على التوقي في الحديث، وعلى أنه لم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى الاستغال بالعبادة والأسفار في الجهاد في سبيل الله حتى مضوا ولم يحفظ عنهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء". ا. هـ.

ذكر صدور التابعين في الحديث والفتيا

5- ذكر صدور التابعين في الحديث وألفتيا: وهم المعروفون بالفقهاء السبعة من أهل: المدينة سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعروة بن الزبير، وخارجه بن زيد بن ثابت، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار الهلالي هكذا عدهم أكثر علماء أهل الحجاز، وجعل ابن المبارك سالم بن عبد الله بن عمر بدل أبي سلمة وجعل أبو الزناد بدلهما أبا بكر بن عبد الرحمن وعدهم ابن المديني اثني عشر وزاد إسماعيل أخا خارجة وسالمًا وحمزة وزيدًا أو عبيد الله وبلالًا بدل عبد الله بن عمر وأبان بن عثمان وقبيصة بن ذؤيب. وعن الإمام أحمد بن حنبل: "أفضل التابعين ابن المسيب، قيل له: فعلقمة والأسود؟ قال: هو وهما". وعنه أيضًا: "لا أعلم فيهم مثل أبي عثمان النهدي، وقيس بن أبي حازم ولقمة ومسروق". وعنه أيضًا: "ليس أحد أكثر فتوى في التابعين من الحسن، وعطاء كان عطاء مفتي البصرة". كذا في التقريب وشرحه1.

_ 1 ص214.

الباب الثالث: في بيان علم الحديث وفيه مسائل

الباب الثالث: في بيان علم الحديث؛ وفيه مسائل 1- ماهية علم الحديث؛ رواية ودراية وموضوعه وغايته: قال عز الدين بن جماعة: "علم الحديث علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن وموضوعه السند، والمتن وغايته معرفة الصحيح من غيره". وقال ابن الأكفاني: "علم الحديث الخاص بالرواية علم يشتمل على نقل أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها. وعلم الحديث الخاص بالدراية علم يعرف منه حقيقة الرواية وشروطها، وأنواعها، وأحكامها، وحال الرواة وشروطهم وأصناف المرويات وما يتعلق بها". قال السيوطي: "فحقيقة الرواية نقل السنة ونحوها وإسناد ذلك إلى من عزى إليه بتحديث وإخبار وغير ذلك؛ وشروطها: تحمل راويها لما يرويه بنوع من أنواع التحمل، من سماع أو عرض أو إجازة ونحوها، وأنواعها الاتصال والانقطاع، ونحوهما وأحكامها القبول، والرد وحال الرواة العدالة والجرح وشروطهم في التحمل وفي الأداء سيأتي نبذة منه وأصناف المرويات المصنفات من المساند والمعاجم والأجزاء وغيرهم، وما يتعلق بها: هو معرفة اصطلاح أهلها".

المقصود من علم الحديث

2- المقصود من علم الحديث: قال الإمام النووي قدس الله سره في شرح خطبة مسلم ما نصه1: "إن المراد من علم الحديث، تحقيق معاني المتون، وتحقيق علم الإسناد والمعلل، والعلة عبارة عن معنى في الحديث خفي يقتضي ضعف الحديث مع أن ظاهره السلامة منها، وتكون العلة تارة في المتن، وتارة في الإسناد وليس المراد من هذا العلم مجرد السماع، ولا الإسماع ولا الكتابة بل الاعتناء بتحقيقه، والبحث عن خفي معاني المتون، والأسانيد والفكر في ذلك ودوام الاعتناء به، ومراجعة أهل المعرفة به ومطالعة كتب أهل التحقيق فيه، وتقييد ما حصل من نفائسه، وغيرها فيحفظها الطالب بقلبه ويفيدها بالكتابة ثم يديم مطالعة ما كتبه، ويتحرى التحقيق فيما يكتبه، ويتثبت فيه فإنه فيما بعد ذلك يصير معتمدًا عليه، ويذاكر بمحفوظاته من ذلك من يشتغل بهذا الفن سواء كان مثله في المرتبة أو فوقه أو تحته فإن بالمذاكرة يثبت المحفوظ، ويتحرر ويتأكد ويتقرر، ويزداد بحسب كثرة المذاكر، ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة، والحفظ ساعات بل أيامًا، وليكن في مذاكرته متحريًا الإنصاف قاصدًا الاستفادة والإفادة غير مترفع على صاحبه بقلبه ولا بكلامه ولا بغير ذلك من حاله، مخاطبًا له بالعبارة الجميلة اللينة فبهذا ينمو علمه، وتزكو محفوظاته والله أعلم".

_ 1 ص28 القاهرة، المطبعة الكستلية، 1283هـ.

حد المسند والمحدث والحافظ

3- حد المسند والمحدث والحافظ: كثيرًا ما يوجد في الكتب تلقيب من يعاني الآثار بأحدها، فيظن من لا وقوف له على مصطلح القوم ترادفها وجواز التلقيب بها مطلقًا، وليس كذلك. بيانه أن المسند: "بكسر النون" هو من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد روايته، وأما المحدث فهو أرفع منه بحيث عرف الأسانيد والعلل، وأسماء الرجال. وأكثر من حفظ المتون وسماع الكتب الستة والمسانيد والمعاجم والأجزاء الحديثية، وأما الحافظ فهو مرادف للمحدث عند السلف. وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس: "المحدث في عصرنا، من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع بين رواته، وأطلع على كثير من الرواة والروايا في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه حظه واشتهر فيه ضبطه فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه، وشيوخ طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله فهذا هو الحافظ، وأما ما يُحكى عن بعض المتقدمين من قولهم كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء فذلك بحسب أزمنهم! ". وقال الإمام أبو شامة: "علوم الحديث الآن ثلاثة أشرفها: حفظ متونه ومعرفة غريبها وفقهها، والثاني حفظ أسانيدها ومعرفة رجالها وتمييز صحيحها من سقيمها، والثالث جمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وطلب العلو فيه". قال الحافظ ابن حجر: "من جمع هذه الثلاث كان فقيها محدثًا كاملًا ومن انفرد باثنين منها كان دونه" كذا في التدريب.

الباب الرابع: في معرفة أنواع الحديث وفيه مقاصد

الباب الرابع: في معرفة أنواع الحديث وفيه مقاصد 1- بيان المجموع من أنواعه: اعلم: "أن أئمة المصطلح، سردوا في مؤلفاتهم من أنواعه ما أمكن تقريبه، وجملة ما ذكره النووي، والسيوطي في التدريب خمسة وستون نوعًا وقال: "ليس ذلك بآخر الممكن في ذلك، فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى إذ لا تحصى أحوال رواه الحديث وصفاتهم ولا أحوال متون الحديث وصفاتها". وقال الحازمي في كتاب العجالة: "علم الحديث يشتمل على أنواع كثيرة تبلغ مائة؛ كل نزع منها علم مستقل.". ا. هـ. ومع ذلك فأنواع الحديث لا تخرج عن ثلاثة: حسن صحيح، وحسن، وضعيف. لأنه إن اشتمل من أوصاف القبول على أعلاها فالصحيح أو على أدناها فالحسن أو لم يشتمل على شيء منها فالضعيف وسترى تفصيل ما ذكر مع مهمات أنواعه على نمط بديع.

بيان الصحيح

2- بيان الصحيح: قال أئمة الفن: "الصحيح ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله، وسلم عن شذوذ وعلة، ونعني بالمتصل ما لم يكن مقطوعًا بأي وجه كان فخرج المنقطع والمعضل والمرسل على رأي من لا يقبله وبالعدل من لم يكن مستور العدالة ولا مجروحًا فخرج ما نقله مجهول عينًا أو حالًا أو معروف بالضعيف وبالضابط من يكون حافظًا متيقظًا فخرج ما نقله مغفل كثير الخطأ. وبالشذوذ ما يرويه الثقة مخالفًا لرواية الناس. وبالعلة ما فيه أسباب خفية قادحة فخرج الشاذ والمعلل وسيأتي بيان هذه المخرجات كلها إن شاء الله تعالى.

بيان الصحيح لذاته والصحيح لغيره

بيان الصحيح لذاته والصحيح لغيره ... 3- بيان الصحيح لذاته الصحيح لغيره: اعلم: "أن ما عرفناه أولًا هو الصحيح لذاته لكونه اشتمل من صفات القبول على أعلاها؛ وأما الصحيح لغيره فهو ما صحح لأمر أجنبي عنه إذ لم يشتمل عن صفات القبول على أعلاها كالحسن: فإنه إذا روي من غير وجه. أرتقى بما عضده من درجة الحسن إلى منزلة الصحة وكذا ما أعتضد بتلقي العلماء له بالقبول فإنه يحكم له بالصحة وإن لم يكن له إسناد صحيح". وكذا ما وافق آية من كتاب تعالى أو بعض أصول الشريعة. قال ابن الحصار: "قد يعلم الفقيه صحة الحديث إذا لم يكن في سنده كذاب بموافقة آية من كتاب الله أو بعض أصول الشريعة فيحمله ذلك على قبول والعمل".

تفاوت رتب الصحيح

4- تفاوت رتب الصحيح: تتفاوت رتب الصحيح بسبب تفاوت الأوصاف المقتضية للتصحيح في القوة فإنها لما كانت مفيدة لغلبة الظن الذي علية مدار الصحة اقتضت أن يكون لها درجات بعضها فوق بعض بحسب الأمور المقوية، وإذا كان كذلك فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة، والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه فمن المرتبة العليا في ذلك ما أطلق علية بعض الأئمة أنه أصح الأسانيد كالزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وكمحمد بن سيرين عن عبيدة بن عمر، والسلماني عن علي وكإبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود وكمالك عن نافع عن ابن عمر وهذا قول البخاري. قال الإمام أبو منصور التميمى: "فعلى هذا أجل الأسانيد الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر للإجماع على أن أجل الرواة عن مالك الشافعي وعليه فأجلها رواية الإمام أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك للاتفاق على أن أجل من أخذ عن الشافعي أهل الحديث الإمام أحمد وتسمى هذه الترجمة: "سلسلة الذهب". والمعتمد عدم إطلاق أصح الأسانيد لترجمة معينة منها نعم يستفاد من مجموعة ما أطلق الأئمة عليه ذلك أرجحيته على ما لم يطلقوه ويلتحق بهذا التفاضل ما اتفق الشيخان على تخريجه بالنسبة إلى ما انفرد به أحدهما، وما انفرد به البخاري بالنسبة إلى ما انفرد به مسلم لاتفاق العلماء بعدهما على تلقي كتابهما بالقبول كذا في شرح النخبة والتدريب1.

_ 1 ص37 من التدريب.

أثبت البلاد في الحديث الصحيح في عهد السلف

5- أثبت البلاد في الحديث الصحيح في عهد السلف: قال الإمام تقي الدين بن تيميه رحمه الله تعالى: "اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث ما رواه أهل المدينة ثم أهل البصرة ثم أهل الشام". وقال الخطيب: "أصح طرق السنن، ما يرويه أهل الحرمين؛ مكة والمدينة، فإن التدليس عنهم قليل، والكذب ووضع الحديث عندهم عزيز. ولأهل اليمن روايات جيدة، وطرق صحيحة، إلا أنها قليلة، ومرجعها إلى أهل الحجاز أيضًا. ولأهل البصرة من السنن الثابتة بالأسانيد الواضحة، ما ليس لغيرهم من إكثارهم والكوفيون مثلهم في الكثرة غير أن رواياتهم كثيرة الدغل قليلة السلامة من العلل وحديث الشاميين أكثره مراسيل ومقاطيع وما اتصل منه مما أسنده الثقات فإنه صالح والغالب عليه ما يتعلق بالمواعظ". وقال هشام بن عروة: "إذا حدثك العراقي بألف حديث فالق تسعمائة وتسعين وكن من الباقي في شك". قال الحاكم: "أثبت أسانيد الشاميين الأوزاعي عن حسان بن عطية عن الصحابة". وقال الحافظ ابن حجر: "رجح بعض أئمتهم رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر". كذا في التدريب. أقول: يتعرف حديث رواة هذه البلاد من مثل مسند أحمد فإنه يترجم فيه بمسند البصريين ومسند الشاميين وهكذا

أقسام الصحيح

6- أقسام الصحيح: قال النووي رحمه الله تعالى: "الصحيح أقسام: أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري ثم ما انفرد به مسلم ثم ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه، ثم على شرط البخاري ثم على شرط مسلم، ثم ما صححه غيرهما من الأئمة فهذه سبعة أقسام". قال العلامة قاسم قطلوبوغا في حواشيه على شرح النخبة لشيخه ابن حجر: "الذي يقتضيه النظر، أن ما كان على شرطهما، وليس له علة يقدم على ما أخرجه مسلم وحده لأن قوة الحديث إنما هي بالنظر إلى رجاله لا بالنظر إلى كونه في كتاب كذا". ا. هـ.

معنى قولهم: أصح شيء في الباب كذا

7- معنى قولهم أصح شيء في الباب كذا: قال النووي رحمه الله تعالى: "لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث فإنهم يقولون: "هذا أصح ما جاء في الباب" وإن كان ضعيفًا ومرادهم أرجحة أو أقله ضعفًا"

أول من دون الصحيح

8- أول من دون الصحيح: قال النووي في التقريب1 "أول مصنف في الصحيح المجرد صحيح البخاري". واحترز: "بالمجرد" عن الموطأ للإمام مالك فإنه وإن كان أول مصنف في الصحيح، لكن لم يجرد فيه الصحيح، بل أدخل المرسل والمنقطع، والبلاغات وذلك حجة عنده. وأما البخاري فإنه وإن أدخل التعاليق ونحوها لكنه أوردها استئناسًا واستشهادًا فذكرها فيه لا يخرجه عن كونه جرح الصحيح كذا فرق ابن حجر وتعقبه السيوطي بأن ما في الموطأ من المراسيل مع كونها حجة عندنا إذا اعتضد وما من مرسل في الموطأ من المراسيل مع كونها حجة عنده بلا شرط وعند من وافقه من الأئمة هي حجة عندنا لأن المرسل حجة عندنا إذا اعتضد وما في مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد وقد صنف ابن عبد البر كتابًا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل". ا. هـ. وعليه فأول من صنف في الصحيح الإمام -رضي الله عنه.

_ 1 ص24 من تدريب السيوطي شرح التقريب.

بيان أن الصحيح لم يستوعب في مصنف

9- بيان أن الصحيح لم يستوعب في مصنف: قال العلامة الأمير في شرح: "غرامي صحيح": "لم يستوعب الصحيح في مصنف أصلًا لقول البخاري: "أحفظ مائة ألف حديث من الصحيح ومائتي ألف من غيره" ولم يوجد في الصحيحين بل ولا في بقية الكتب الستة هذا القدر من الصحيح". وقال النووي رحمه الله: "إن البخاري ومسلمًا -رضي الله عنهما، لم يلتزما استيعاب الصحيح بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعياه وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه جمع جملة من مسائلة لا أنه يحضر جميع مسائلة لكنهما إذا كان الحديث الذي تركاه أو تركه أحدهما مع صحة إسناده في الظاهر أصلًا في بابه ولم يخرجا له نظيرًا ولا ما يقوم مقامه فالظاهر من حالهما أنهما اطلعا فيه على علة إن كانا رأياه ويحتمل أنهما تركاه نسيانًا أو إيثارًا لترك الإطالة أو رأيا أن غيره مما ذكراه يسد مسده أو لغير ذلك والله أعلم. وقال السخاوي في الفتح: "إن الشيخين لم يستوعبا كل الصحيح في كتابيهما،

بل لو قيل إنهما لم يستوعبا مشروطهما لكان موجهًا؛ وقد صرح كل منهما بعدم الاستيعاب، وحينئذ فإلزام الدارقطني لهما في جزء أفرده بالتصنيف بأحاديث من رجال الصحابة رويت عنهم من وجوه صحاح تركاها مع كونها على شرطهما". وكذا قول ابن حبان: "ينبغي أن يناقش البخاري ومسلم في تركهما إخراج أحاديث هي من شرطهما" ليس بلازم؛ ولذلك قال الحاكم: "ولم يحكما ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما خرجه هذا" وذكر السلفي في معجم السفر: "أن بعضهم رأى في المنام أبا داود صاحب السنن في آخرين مجتمعين وأن أحدهم قال: "كل حديث لم يروه البخاري فأفلت عنه رأس دابتك".

بيان أن الأصول الخمسة لم يفتها من الصحيح إلا اليسير

10- بيان أن الأصول الخمسة لم يفتها من الصحيح إلا اليسير: قال النووي: "الصواب أنه لم يفت الأصول الخمسة من الصحيح إلا اليسير أعني الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي، والنسائي، ولا يقال إن أحاديثها دون المقدار الذي عده البخاري المتقدم بكثير لأنا نقول: "أراد البخاري بلوغ الصحيح مائة ألف بالمكرر والموقوف وآثار الصحابة والتابعين وفتاويهم مما كان السلف يطلقون على كل منها اسم الحديث وهو متعين".

ذكر من صنف في أصح الأحاديث

11- ذكر من صنف في أصح الأحاديث: جمع الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم العراقي فيما عد من أصح الأسانيد كتابًا في الأحكام رتبه على أبواب الفقه سماه: "تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد" وهو كل كتاب لطيف جمعه من تراجم ستة عشر قيل فيها إنها أصح الأسانيد إما مطلقًا أو مقيدًا ومع ذلك فقد فاته جملة من الأحاديث كما قاله ابن حجر.

بيان الثمرات المجتناة من شجرة الحديث المباركة

بيان الثمرات المجتناة من شجرة الحديث المباركة ... 12- بيان الثمرات المجتناة من شجرة الحديث الصحيح المباركة: الثمرة الأولى: صحة الحديث توجب القطع به، كما اختاره ابن الصلاح في الصحيحين، وجزم بأنه هو القول الصحيح. قال السخاوي في فتح المغيث: "وسبقه إلى القول بذلك في الخبر المتلقى بالقبول الجمهور من المحدثين والأصوليين، وعامة السلف، بل وكذا غير واحد في الصحيحين". قال أبو أسحق الإسفراييني: "أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها، ومتونها ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها ورواتها قال: "فمن خالف حكمه خبرًا منها وليس له تأويل سائغ للخبر نقضنا حكمه لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول". ونقل السيوطي في التدريب1، في آخر الكلام على الفائدة الرابعة من مسائل الصحيح عن الحافظ ابن نصر السجزي أنه قال: "أجمع الفقهاء، وغيرهم أن رجلًا لو حلف بالطلاق أن جميع ما في البخاري صحيح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا شك فيه لم يحنث". ا. هـ. ونقل بد أيضًا1 أن إمام الحرمين قال: "لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في الصحيحين مما حكما بصحته من قول النبي ألزمته الطلاق لإجماع المسلمين على صحته". ا. هـ. واستثنى ابن الصلاح من المقطوع بصحته فيهما ما تكلم فيه من أحاديثهما، وقد أجاب عنها الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح بتمامها قال النووي: "ما ضعف من أحاديثهما مبني على علل ليست بقادحة". هذا وقيل إن صحة الحديث لا توجب القطع به في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان على الثقة، وعزاه النووي1 للأكثرين والمحققين، وأنهم قالوا:"إنه يفيد الظن ما لم يتواتر" قال في شرح مسلم: "لأن ذلك شأن الآحاد، ولا فرق في ذلك بين الشيخين

_ 1 ص41.

وغيرهما، وتلقي الأمة بالقبول إنما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقف على النظر فيه، بخلاف غيرهما فلا يعمل به حتى ينظر فيه ويوجد فيه شروط الصحيح ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على القطع بأنه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم". وناقش البلقيني النووي فيما اعتمده، وذكر أن ما قاله ابن الصلاح محكي عن كثير من فضلاء المذاهب الأربعة وأنه مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة بل بالغ ابن طاهر المقدسي فألحق به ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه. وقال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة1: "الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم، خلافًا لمن أبى ذلك، قال: وهو أنواع، منها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ التواتر فإنه احتف به قرائن منها: جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر إلا أن هذا مختص بما لم ينقده أحد من الحفاظ وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته". ثم قال: ومنها المشهور، إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل، ومنها المسلسل بالأئمة الحفاظ حيث لا يكون غريبًا كحديث يرويه أحمد مثلا، ويشاركه فيه غيره عن الشافعي ويشاركه فيه غيره عن مالك فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته". قال: "وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم فيها إلا للعالم المتبحر في الحديث، العارف بأحوال الرواة والعلل، وكون غيره لا يحصل له العلم لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور". انتهى قال ابن كثير: "وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه". قال السيوطي: "قلت وهو الذي أختاره ولا أعتقد سواه". ا. هـ.

_ 1 ص7 القاهرة، المطبعة الميمنية 1038هـ.

أقول: تلخص في القول بأن صحة الحديث توجب القطع به ثلاثة مذاهب: الأول: إيجابها ذلك مطلقًا ولو لم يخرجه الشيخان وهو ما قاله ابن طاهر المقدسي. الثاني: إيجابها ذلك فيما روياه أو أحدهما وهو ما اعتمده ابن الصلاح وغيره. الثالث: إيجابها ذلك في الصحيحين، وفي المشهور وفي المسلسل بالأئمة، وهو ما اعتمده ابن حجر كما بينا. الثمرة الثانية: قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "اتفق العلماء على وجوب العمل بكل ما صح ولو لم يخرجه الشيخان". وقال الإمام شمس الدين بن القيم في: "إعلام الموقعين: "ترى كثيرًا من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلدة وقد خالفه راويه يقول: "الحجة فيما روى لا في قوله" فإذا جاء قول الراوي موافقًا لقول من قلده، والحديث يخالفه قال: "لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا قد رأينا ذلك في الباب الواحد وهذا من أقبح التناقض. "والذي ندين لله به، ولا يسعنا غيره أن الحديث إذا صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يصح عنه حديث آخر بنسخه أن القرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك ما خلفه، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائنًا من كان لا راوية، ولا غيره إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره، وقت الفتيا أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا أو يكون في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا في نفس الأمر أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله -ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه- لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك". ا. هـ.

وفي كتاب: "قاموس الشريعة" للسعدي: "إذا رفع الصحابي خبرًا عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإيجاب فعل وجب العمل به على من بلغه من المكلفين إلى أن يلقى خبرًا غيره ينسخ ذلك الخبر وحينئذ فعلى من عمل بالخبر الأول الرجوع إلى الثاني وترك العمل بالأول". وفيه أيضًا: "كل مسألة لم يخل الصواب فيها من أحد القولين ففسد أحدهما لقيام الدليل على فساده صح أن الحق في الآخر قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 1. وقال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين2: "كان الإمام أحمد إذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه، كائنًا من كان ولذا لم يلتفت إلى خلاف عمر -رضي الله عنه- في المبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس3 ولا إلى خلافه في التيمم للجنب لحديث عمار بن ياسر4، ولا خلافة في استدامة المحرم الطيب الذي يطيب به قبل إحرامه لصحة حديث عائشة في ذلك5 ولا خلافه في منع المنفرد والقارن من الفسخ إلى التمتع

_ 1 سورة يونس، آية: 32. 2 ص32 ج1 القاهرة مطبعة النيل 1325. 3 تجد حديثها في الصحيحين والسنن، وخلاصته: أن زوجها قد طلقها ثلاثا ولم يجعل لها الرسول -صلى الله عليه وسلم- سكنى ولا نفقة؛ وقد أنكر عليها عمر وعائشة هذا الحديث وقال عمر: "لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت"؛ فقالت فاطمة: "بيني وبينكم كتاب الله" قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} .. حتى قال {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ راجع: نيل الأوطار، ج6، ص228. 4 يشير إلى ما أورده البخاري في صحيحه ومنه قول عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما: "أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت "أي تمرغت في التراب" فصليت فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "كان يكفيك هكذا" فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- بكفيه الأرض ونفخ فيهما، ثم مسخ بهما وجه وكفيه". -أي الرسغين- وهذا مذهب أحمد فلا يجب عنده المسح إلى المرفقين، ولا الضربة الثانية إلى الكفين، راجع شرح القسطلاني للبخاري، ج1، ص72. 5 يشير إلى ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عائشة، قالت: "كنت أطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لإحرامه حين يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت". واستدل به على استحباب التطيب عنده إرادة الإحرام، وجواز استدامته بعد الإحرام. راجعه فتح الباري، ج3، ص315-316.

لصحة أحاديث الفسخ1 وكذا لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي بن كعب -رضي الله عنهم- في ترك الغسل من الإكسال2، لصحة حديث عائشة3 أنها فعلته هي ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغتسلا ولم يلتفت إلى قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن علي أن عدة المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين لصحة حديث سبيعة الأسلمية4؛ ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما5؛ ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصرف لصحة الحديث بخلافه6 ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحمر كذلك7 وهذا كثير جدًّا ولم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملًا، ولا رأيًا ولا قياسًا ولا قول صاحب ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد نص الشافعي في رسالته الجديدة على أن: "ما لا يعلم فيه الخلاف لا يقال له إجماع" ولفظه: "ما لا يعلم فيه الخلاف فليس إجماعًا" ثم قال ابن القيم: "ونصوص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث أجل من أن يقدم عليها توهم إجماع مضمونه عدم العلم المخالف ولو ساغ لتعطلت

_ 1 أحاديث الفسخ من الحج إلى العمرة في البخاري وغيره؛ وفيها أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بجعل الحج عمرة لمن لم يسق الهدي معه، وراجع فتح الباري، ج3، ص334-344. 2 أكسل الرجل: إذا جامع ثم أدركه فتور، فلم ينزل؟ راجع النهاية لابن الأثيرج 4، ص21. 3 أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل. وعائشة -رضي الله عنها- جالسة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل". 4 وضعت سبيعة بعد وفاة زوجها بليال. فجاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- فستأذنته أن تنكح، فأذن لها. فنكحت والحديث مروي بطرق، وتجده في الصحيحين وغيرهما. راجع فتح الباري ج9، ص414. 5 الحديث المشار إليه، وهو حديث أسامة بن زيد الذي أخرجه البخاري في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم". وقد رواه أصحاب السنن أيضًا. 6 الحديث المشار إليه هو حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح؛ مثلًا بمثل يدا بيد فمن ازداد واستزاد فقد أربى. والآخذ والمعطي فيه سواء" رواه أحمد والبخاري، وفي الصحيحين والسنن أحاديث أخرى بمعناه. 7 نهى النبى -صلى الله عليه وسلم- عن لحموم الحمر. أخرجه البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب في الصحيحين وغيرهما أيضًا بمعناه.

النصوص، وساغ لكل من لم يعلم مخالفًا في حكم مسألة، أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص؛ فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده". ا. هـ. وقال العارف الشعراني قدس الله سره في الميزان1: "فإن قلت: "فما أصنع بالأحاديث التي صحت بعد موت إمامي، ولم يأخذ بها" فالجواب: "ينبغي لك أن تعمل بها فإن إمامك لو ظفر بها، وصحت عنده لربما كان أمرك بها فإن الأئمة كلهم أسرى في يد الشربعة، ومن فعل ذلك فقد حاز الخير بكلتا يديه ومن قال: "لا أعمل بالحديث إلا إن أخذ به إمامي" فاته خير كثير كما عليه كثير من المقلدين لأئمة المذاهب وكان الأولى لهم العمل بكل حديث صح بعد إمامهم تنفيذًا لوصية الأئمة فإن اعتقادنا فيهم أنهم لو عاشوا، وظفروا بتلك الأحاديث التي صحت بعدهم لأخذوا بها، وعملوا بها وتركوا كل قياس كانوا قاسوه، وكل قول كانوا قالوه وقد بلغنا من طرق صحيحة أن الإمام الشافعي أرسل بقول للإمام أحمد بن حنبل: "إذا صح عندكم حديث فأعلموا به لنأخذ به، ونترك كل قول قلناه قبل ذلك أو قاله غيرنا فإنكم أحفظ للحديث ونحن أعلم به". وقال الشعراني2 قدس سره أيضًا في الرد على من يزعم أن الإمام أبا حنيفة -رضي الله عنه- يقدم القياس على الحديث ما نصه: "ويحتمل أن الذي أضاف إلى الإمام أبي حنيفة، أنه يقدم القياس على النص ظفر بذلك في كلام مقلديه الذين يلزمون العمل بما وجدوه عن إمامهم من القياس، ويتركون الحديث الذي صح بعد موت الإمام فالإمام معذور وأتباعه غير معذورين، وقولهم: "إن إمامنا لم يأخذ بهذا الحديث" لا ينهض حجة لاحتمال أنه لم يظفر به أو ظفر به لكن لم يصح عنده وقد تقدم قول الأئمة كلهم: "إذا صح الحديث فهو مذهبنا" وليس لأحد معه قياس ولا حجة إلا طاعة الله وطاعة رسوله بالتسليم له". ا. هـ.

_ 1 الميزان ص20. 2 ص71.

وقال العمدة الشهير السيد محمد عابدين الدمشقي في شرح المنظومة المسماة بعقود رسم المفتي: "إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى، من شدة احتياطه وورعه وعلمه بأن الاختلاف من آثار الرحمة قال لأصحابه إن توجه لكم دليل فقولوا به". وقال بعد أسطر: "فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة؛ ونقله أيضًا الإمام الشعراني عن الأئمة الأربعة؛ ونقل فيها عن البحر قال إنهم نقلوا عن أصحابنا أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعلم من أين قلنا حتى نقل في السراجية أن هذا سبب مخالفة عصام للإمام، وكان يفتي بخلاف قوله كثيرًا لأنه لم يعلم الدليل، وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به. وفيها أيضًا عن العلامة قاسم أنه قال في رسالته المسماة رفع الاشتباه عن مسألة المياه: "لما منع علماؤنا رضي الله تعالى عنهم من كان له أهلية النظر من محض تقليدهم على ما رواه الشيخ الإمام العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف، قال حدثنا أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال ليس لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعرف من أين قلنا تتبعت مآخذهم وحصلت منها بحمد الله تعالى على الكثير ولم أقنع بتقليد ما في صحف كثير من المصنفين ... إلخ". وقال في رسالة أخرى: "وإني ولله الحمد لأقول كما قال الطحاوي لابن حربويه لا يقلد إلا عصبي أو غبي". ا. هـ. الثمرة الثالثة: في "حصول المأمول من علم الأصول" ما نصه1: "اعلم أنه لا يضر الخبر الصحيح عمل أكثر الأمة بخلافه؛ لأن قول الأكثر ليس بحجة؛ وكذا عمل أهل المدينة بخلافه، خلافًا لمالك وأتباعه؛ لأنهم بعض الأمة ولجواز أنهم لم يبلغهم الخبر. ولا يضره عمل

_ 1 صديق حسن خان: ص59 القسطنطينية، مطبعة الجوائب 1296هـ.

الراوي له بخلافه خلافًا لجمهور الحنفية وبعض المالكية لأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر، ولم نتعبد بما فهمه الراوي، ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصالح للاستدال بها، ولا يضره كونه مما تعم به البلوى خلافًا للحنفية، وأبي عبد الله البصري لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك، ولا يضره كونه في الحدود، والكفارات خلافًا للكرخي من الخنفية، ولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية، ولا يضره أيضًا كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية خلافًا للحنفية فقالوا إذا ورد بالزيادة كان نسخًا لا يقبل، والحق القبول لأنها زيادة غير منافية للمزيد فكانت مقبولة، ودعوى أنها ناسخة ممنوعة وهكذا إذا ورد الخبر مخصصًا للعام من كتاب أو سنة فإنه مقبول ويبنى العام على الخاص خلافًا لبعض الخنفية، وهكذا إذا ورد مقيدًا لمطلق الكتاب أو السنة المتواترة، ولا يضره أيضًا كون راوية انفرد بزيادة فيه على ما رواه غيره إذا كان عدلًا فقد يحفظ الفرد ما لا تحفظه الجماعة، وبه قال الجمهور وهذا في صورة عدم المنافاة وإلا فروية الجماعة أرجح ومثل انفراد العدل بالزيادة انفراده برفع الحديث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي وقفه الجماعة وكذا انفراده بإسناد الحديث الذي أرسلوه وكذا انفراده بوصل الحديث الذي قطعوه فإن ذلك مقبول منه لأنه زيادة على ما ردوه وتصحيح لما أعلوه، ولا يضره أيضًا كونه خارجًا مخرج ضرب الأمثال". الثمرة الرابعة: قال الإمام شمس الدين ابن القيم الدمشقي في كتاب الروح: "ينبغي أن يُفهم عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يُحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر عن مراده وما قصده من الهدي والبيان. وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله بل سوء الفهم عن الله رسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع ولا سيما إن أضيف إليه

سوء القصد فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوء القصد من التابع فيا محنة الدين، وأهله والله المستعان وهل أوقع القدر به والمرجئة، والخوارج والمعتزلة والجهمية والروافض، وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام والذي فهمه الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ومن تبعهم عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فمهجور لا يلتفت إليه ولا يرفع هؤلاء به رأسًا ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها، فإنا لو ذكرناها لزادت على عشرات ألوف حتى إنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مراده كما ينبغي في موضع واحد وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس، وعرضه على ما جاء به الرسول وأما من عكس الأمر فعرض ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ما اعتقده وانتحله، وقلد فيه من أحسن به الظن فليس يجدي الكلام معه شيئًا فدعه وما اختاره لنفسه ووله ما تولى وأحمد الذي عافاك مما ابتلاه به". ا. هـ. وقال الإمام علم الدين الشيخ صالح الفلاني المالكي الأثري في كتابه: "إيقاظ الهمم"1: "ترى بعض الناس إذا وجد حديثًا يوافق مذهبة فرح به وانقاد له وسلم وإن وجد حديثًا صحيحًا سالمًا من النسخ، والمعارض مؤيدًا لمذهب غير إمامه فتح له باب الاحتمالات البعيدة، وضرب عنه الصفح والعارض، ويلتمس لمذهب إمامه أوجها من الترجيح مع مخالفته للصحابة، والتابعين والنص الصريح وإن شرح كتابا من كتب الحديث حرف كل حديث خالف رأيه الحديث، وإن عجز من ذلك كله ادعى النسخ بلا دليل أو الخصوصية أو عدم العمل به أو غير ذلك مما يحضر ذهنه العليل وإن عجز عن ذلك كله ادعى أن إمامه اطلع على كل مروي أو جله فما ترك هذا الحديث الشريف إلا وقد اطلع على طعن فيه برأيه المنيف فيتخذ علماء مذهبه أربابا ويفتح لمناقبهم، وكراماتهم أبوابًا ويعتقد أن كل من خالف ذلك لم يوافق صوابًا، وإن نصحه أحد من علماء السنة اتخذه عدوا ولو كانوا قبل ذلك أحبابًا وإن وجد كتابا من كتب مذهب

_ 1 ص109 أمر تسر "الهند" مطبعة رياض الهند 1298هـ.

إمامه المشهورة قد تضمن نصحه وذم الرأي والتقليد، وحرض على اتباع الأحاديث المشهورة، نبذه وراء ظهره وأعرض عن نهيه وأمره واعتقده حجرًا محجورًا". ا. هـ. أقول إن الشيخ الفلاني هو من كبار من أخذ عنه مسند الشام الشيخ عبد الرحمن الكزبري ومن طريقه ارتفع علو إسناده في البخاري هو ومن شاركه في الأخذ عنه رحمه الله تعالى. الثمرة الخامسة: لزوم قبول الصحيح وإن لم يعمل به أحد -قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في رسالته الشهيرة: "ليس لأحد دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقول إلا لاستدلال ولا يقول بما استحسن فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق". وقال أيضًا: "إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قضى في الإبهام بخمس عشرة، فلما وجد كتاب آل عمرو بن حزم وفيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال1: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" صاروا إليه قال ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم -والله أعلم- حتى ثبت لهم أنه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي هذا الحديث دلالتان إحداهما قبول الخبر، والأخرى أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه، وإن لم يمض عمل من أحد من الأئمة يمثل الخبر الذي قبلوا، ودلالة على أنه لو مضى أيضًا عمل من أحد من الأئمة ثم وجد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودلالة على أن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده". قال الشافعي: "ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا من المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه ولا غيركم بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك كل عمل خلفه ولو بلغ عمر هذا صار إليه إن شاء الله

_ 1 أخرجه مالك والنسائي من حديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بلفظ: "وفي كل أصبع من أصابع اليد أو الرجل عشرة من الإبل".

كما صار إلى ما بلغه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتقواه لله، وتأديته الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلمه بأن ليس لأحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم". وقال علم الدين الفلاني المتقدم ذكره في كتابه: "إيقاظ الهمم": "قال شيخ مشايخنا محمد حياة السندي، قال ابن الشحنة في: "نهاية النهاية": "وإن كان -أي ترك الإمام الحديث- لضعفه في طريقة فينظر إن كان له طريق غير الطريق الذي ضعفه به فينبغي أن تعتبر فإن صح عمل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلدة عن كونه حنفيًّا بالعمل به، فقد صح أنه قال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" كذا قال بعض من صنف في هذا المقصود". وقال في البحر: وإن لم يستفت ولكن بلغه الخبر وهو قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام1: "أفطر الحاجم والمحجوم" وقوله2: "الغيبة تفطر الصائم" ولم يعرف النسخ ولا تأويله فلا كفارة عليه عندهما لأن ظاهر الحديث واجب العمل خلافًا لأبي يوسف لأنه قال: "ليس للعامي العمل بالحديث لعدم علمه بالناسخ والمنسوخ". ونقل ابن العز في حاشية الهداية ذلك أيضًا عن أبي يوسف وعلل بأن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث؛ قال: "في تعليله نظر فإن المسألة إذا كانت مسألة النزاع بين العلماء، وقد بلغ العامي الحديث الذي احتج به أحد الفريقين كيف يقال في هذا إنه غير معذور فإن قيل: "هو منسوخ" فقد تقدم أن المنسوخ ما يعارضه، ومن سمع الحديث فعمل به، وهو منسوخ فهو معذور إلى أن

_ 1 رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وآخرون، من حديث شداد وثوبان مرفوعا. وقال أحمد والبخاري: إنه عن ثوبان أصح، ورواه الترمذي عن رافع بن خديج، ورواه غيرهم عن آخرين. وهذا الحديث معارض بما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم. والأول متواتر وهو صحيح كما جاء في الجامع الصغير وغيره. والجامع بينهما أن يأمنا على نفسهما الأفطار. 2 رواه الأزدي في الضعفاء والديلمي في مسند الفردوس عن أنس.

يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح: لا تعمل به حتى تعرضه على رأي فلان، أو فلان وإنما يقال له: انظر هل هو منسوخ أم لا؟ أما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخة كما في هذه المسألة فالعامل به في غاية العذر فإن تطرق الاحتمال إلى خطأ المفتي أولى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث، إلى أن قال: "فإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي كيف لا يسوغ الأخذ بالحديث فلو كانت سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يجوز العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان، لكان قولهم شرطًا في العمل بها وهذا من أبطل الباطل ولذا أقام الله الحجة برسوله -صلى الله عليه وسلم- دون آحاد الأمة؛ ولا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطأه من صوابه، ويجوز عليه التناقض، والاختلاف ويقول القول ويرجع عنه ويحكي عنه عدة أقوال وهذا كله فيمن له نوع أهلية وأما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1 وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتب له من كلامه أو كلام شيخه وإن علا، فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولي بالجواز، وإذا قدر أنه لم يفهم الحديث فكما إذا لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرف معناها فكذلك الحديث. انتهى بحروفه. الثمرة السادسة: قال علم الدين الفلاني في: "إيقاظ الهمم"2 نقلًا عن الإمام السندي الحنفي قدس سره ما نصه: "تقرر أن الصحابة ما كانوا كلهم مجتهدين على اصطلاح العلماء، فإن فيهم القروي والبدوي ومن سمع منه حديثًا واحدًا أو صحبه مرة، ولا شك أن من سمع حديثًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن واحد من الصحابة -رضي الله عنهم- كان يعمل به حسب فهمه مجتهدًا كان أو لا، ولم يعرف أن غير المجتهد منهم كلف بالرجوع إلى المجتهد

_ 1 سورة النحل آية 43، الأنبياء آية 7. 2 ص90.

فيما سمعه من الحديث لا في زمانه -صلى الله عليه وسلم- ولا بعده في زمان الصحابة -رضي الله عنهم- وهذا تقرير منه -صلى الله عليه وسلم- بجواز العمل بالحديث لغير المجتهد، وإجماع من الصحابة عليه، ولولا ذلك لأمر الخلفاء غير المجتهد منهم سيما أهل البوادي أن لا يعملوا بما بلغهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مشافهة أو بواسطة حتى يعرضوا على المجتهدين منهم، ولم يرد من هذا عين ولا أثر؛ وهذا هو ظاهر قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 ونحوه من الآيات حيث لم يقيَّد بأن ذلك على فهم الفقهاء، ومن هنا عرفت أنه لا يتوقف العمل بعد وصول الحديث الصحيح على معرفة عدم الناسخ، أو عدم الإجماع على خلافه، أو عدم المعارض، بل ينبغي العمل به إلى أن يظهر شيء من الموانع، فينظر ذلك، ويكفي في العمل كون الأصل عدم هذه العوارض المانعة عن العمل، وقد بنى الفقهاء على اعتبار الأصل في شيء أحكامًا كثيرة في الماء، ونحوه لا تحصى على المتتبع لكتبهم، ومعلوم أن من أهل البوادي والقرى البعيدة من كان يجيء إليه -صلى الله عليه وسلم- مرة أو مرتين ويسمع شيئًا ثم يرجع إلى بلاده ويعمل به والوقت كان وقت نسخ، وتبديل ولم يعرف أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر أحدًا من هؤلاء بالمراجعة ليعرف الناسخ من المنسوخ بل إنه قرر من قال2: "لا أزيد على هذا ولا أنقص" -على ما قال- ولم ينكر عليه بأنه يحتمل النسخ بل دخل الجنة إن صدق؛ وكذلك ما أمر الصحابة أهل البوادي وغيرهم بالعرض على مجتهد ليميز له الناسخ من المنسوخ؛ فظهر أن المعتبر في النسخ ونحوه بلوغ الناسخ لا وجوده، ويدل على أن المعتبر البلوغ لا الوجود أن المكلف مأمور بالعمل على وفق المنسوخ ما لم يظهر عنده الناسخ فإذا ظهر لا يعيد ما عمل على وفق المنسوخ بل صحح ذلك حديث نسخ القبلة

_ 1 سورة الحشر، آية: 7. 2 هذا حديث الأعراب الذي سأل عن الإسلام من صلاة وصيام وغيرهما من الفرائض، ثم أدبر وهو يقول: لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق"، أو "دخل الجنة إن صدق". أخرجه الشيخان وأصحاب السنن، إلا الترمذي.

إلى الكعبة المشرفة، فإن خبره وصل إلى أطراف المدينة المنورة كأهل قباء، وغيرهم بعدما صلوا على وفق القبلة المنسوخة فمنهم من وصله الخبر في أثناء الصلاة ومنهم من وصله بعد أن صلى الصلاة والنبي -صلى الله عليه وسلم- قررهم على ذلك ولم يأمر أحدًا منهم بالإعادة فلا عبرة لما قيل: "لا يجوز العمل قبل البحث عن المعارض والمخصص وإن ادُّعي عليه الإجماع" فإنه لو سلم فإجماع الصحابة وتقرير النبي -صلى الله عليه وسلم- مقدم على إجماع من بعدهم على أن ما ادُّعي من الإجماع قد علم خلافه كما ذكر في بحر الزركشي في الأصول" انتهى ملخصًا. الثمرة السابعة: قال ابن السمعاني: "متى ثبت الخبر، صار أصلا من الأصول، ولا يحتاج إلى عرضه على أصل آخر لأنه إن وافقه فذاك وإن خالفه لم يجز رد أحدهما لأنه رد للخبر بالقياس وهو مردود بالاتفاق فإن السنة مقدمة على القياس". ا. هـ. ومنه يعلم أن من رد حديث أبي هريرة في المصراة1، المتفق عليه؛ لأنه لم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة فلا يؤخذ بما رواه مخالفًا للقياس فقد آذى قائله به نفسه وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه، ولا قول لأحد مع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كائنًا من كان، وأيا كان وممن كان و"إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل"2، وأين القياس وإن كان جليًّا من السنة المطهرة إنما يصار إليه عند فقد الأصل من الكتاب والخبر لا مع وجود واحد منهما. وقال ابن السمعاني في الاصطلاح: "التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة، وقد اختص أبو هريرة بمزيد الحفظ لدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له

_ 1 التصرية: حبس اللبن في الضروع؛ والمصراة: الشاة أو الناقة تترك عن الحلب أياما حتى يعظم ضرعها، ويخيل للمشتري غزارة لبنها فيغتر. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك. فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وأن سخطها ردها وصاعا من تمر" وأخرجه البخاري عن ابن مسعود أيضًا. 2 هو من أمثال المولدين، ذكره الميداني في مجمع الأمثال ص58.

يعني قوله: "إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا ... " الحديث، وهو في كتاب العلم وأول البيوع أيضًا عند البخاري. الثمرة الثامنة: لا يضر صحة الحديث تفرد صحابي به -قال الإمام ابن القيم في: "إغاثة اللهفان"1 في مناقشة من طعن في حديث ابن عباس في المطلقة ثلاثًا بأنها كانت واحدة2 على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ِ وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر ما نصه: وقد رده آخرون بمسلك أضعف من هذا كله فقالوا: هذا حديث لم يروه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ابن عباس وحده، ولا عن ابن عباس إلا طاوس وحده قالوا فأين أكابر الصحابة، وحفاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم الذي الحاجة إليه شديدة جدًّا فكيف خفي هذا على جميع الصحابة وعرفه ابن عباس وحده وخفي على أصحاب ابن عباس كلهم، وعلمه طاوس وحده؟ وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبله الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به من هو دون طاوس بكثير، ولم يرده أحد من الأئمة ولا نعلم أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا قال: "إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل" وإنما يُحكى عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء، وقد تفرد الزهري بنحو ستين سنة لن يروها غيره وعملت بها الأمة، ولم يردوها بتفرده هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس -رضي الله عنه- حديث ركانه، وهو موافق لحديث طاوس عنه فإن قدح في عكرمة أبطل، وتناقض فإن الناس احتجوا بعكرمة وصحح أئمة الحفاظ حديثه، ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه.

_ 1 ص160 القاهرة، المطبعة الميمنية. 2 يشير إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم".

فإن قيل: "فهذا هو الحديث الشاذ، وأقل أحواله أن يتوقف فيه، ولا يجزم بصحته عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه السلام" قيل: "ليس هذا هو الشاذ، وإنما الشذوذ أن يخالف1 الثقات فيما رووه، فيشذ عنهم بروايته، فأما إذا روى الثقة حديثًا منفردًا به لم يرو الثقات خلافه فإن ذلك لا يسمى شاذًّا. وإن اصطلح على تسميته شاذًّا بهذا المعنى لم يكن هذا الاصطلاح موجبًا لرده ولا مسوغًا له قال الشافعي رحمه الله: "وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات" قاله في مناظرته بعض من رد الحديث بتفرد الراوي فيه ثم إن هذا القول لا يمكن أحدًا من أهل العلم، ولا من الأئمة ولا من أتباعهم طرده ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم، وفتاويهم والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرًا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم وذلك أشهر وأكثر من أن يعد". الثمرة التاسعة: ما كل حديث صحيح تُحَدَّث به العامة -والدليل على ذلك ما رواه الشيخان عن معاذ -رضي الله عنه- قال كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال: "يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله"؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا" قلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلا أبشر به الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا! " وفي رواية لهما عن أنس أن النبي -صلى الله علينه وسلم- قال لمعاذ وهو ردفه: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار" قال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلا أخبر به الناس فيستبشروا. قال: "إذًا يتكلوا" فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا وروى البخاري تعليقًا عن علي -رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ " ومثله

_ 1 في الأصل: الشذوذت تخالف.

قول ابن مسعود: "ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" رواه مسلم. قال الحافظ ابن حجر: "وممن كره التحديث ببغض دون بعض، أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على الأمير؛ مالك في أحاديث الصفات؛ وأبو يوسف في الغرائب؛ ومن قبلهم أبو هريرة كما روي عنه في الجرابين1وأن المراد ما يقع من الفتن؛ ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين2، أنه أتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي؛ وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب". ا. هـ. ولما كان النهى للمصلحة لا للتحريم أخبر به معاذ لعموم الآية بالتبليغ. قال بعضهم: "النهى في قوله: -صلى الله عليه وسلم- "لا تبشرهم" مخصوص ببعض الناس وبه احتج البخاري على أن للعالم أن يخص بالعلم قومًا دون قوم، كراهة أن لا يفهموا وقد يتخذ أمثال هذه الأحاديث البطلة3 والمباحية4 ذريعة إلى ترك التكاليف ورفع الأحكام وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد خراب العقبى. وأين هؤلاء ممن إذا بشروا زادوا جدًّا في العبادة وقد قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم: أتقوم الليل وقد غفر الله لك؟ فقال -صلى الله عليه وسلم5: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".

_ 1 في مسند أحمد أن أبا هريرة قال: "حفظت ثلاثة أجربة، بثتت منها جرابين". وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنه قال: "حفظت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاءين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم". 2 العرنيون نفر قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فاجتووا المدينة، فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فصحوا، فارتدوا وقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل، فبعث في آثارهم فأُتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينمهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا. والحديث في الصحيحين وغيرهما. "راجع فتح الباري: ج12، ص98". 3 يقال أبطل: إذا جاء بالباطل: والبطلة: السحرة والشياطين، وفي مسند أحمد من حديث أبي أمامة: "اقرءوا البقرة، فإن أخذها بركة. وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة" وأخرجه مسلم في الصلاة. 4 كذا في الأصل ولعلها الإباحية. 5 أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث المغيرة بن شعبة.

بيان الحديث الحسن ذكر ماهيته

13- بيان الحديث الحسن ذكر ماهيته: قال العلامة الطيبي: "الحسن مسند من قرب من درجة الثقة، أو مرسل ثقة وروى كلاهما من غير وجه، وسلم من شذوذ وعلة" وهذا الحد أجمع الحدود التي نقلت في الحسن وأضبطها وإنما سمي حسنًا لحسن الظن براويه.

بيان الحسن لذاته ولغيره

14- بيان الحسن لذاته ولغيره: اعلم أن ما عرفناه أولًا هو الحسن لذاته قال ابن الصلاح: "الحسن لذاته أن تشتهر رواته بالصدق ولم يصلوا في الحفظ رتبة رجال الصحيح؛ والحسن لغيره أن يكون في الإسناد مستور لم تتحقق أهليته، غير مغفل، ولا كثير الخطأ في روايته، ولا متهم بتعمد الكذب فيهان ولا ينسب إلى مفسق آخر واعتضد بمتابع أو شاهد فأصله ضعيف وإنما طرأ عليه الحسن بالعاضد الذي عضده فاحتمل لوجود العاضد ولولاه لاستمرت صفة الضعف فيه ولاستمر على عدم الاحتجاج به" كذا في فتح المغيث1.

_ 1 ص11 "على هامش ألفية العراقي" الهند، دلهى طبع حجر.

ترقى الحسن لذاته إلى الصحيح بتعدد طرقه

15- ترقي الحسن لذاته إلى الصحيح بتعدد طرقه: اعلم أن الحسن إذا رُوي من وجه آخر ترقى من الحسن إلى الصحيح لقوته من الجهتين، فيعتضد أحدهما بالآخر؛ وذلك لأن الراوي في الحسن متأخر عن درجة الحافظ الضابط مع كونه مشهورًا بالصدق، والستر فإذا رُوي حديثه من غير، وجه ولو وجهًا واحدًا قوي بالمتابعة، وزال ما كان يخشى عليه من جهة سوء حفظ راويه فارتفع حديثه من درجة الحسن إلى الصحيح قال السيد الشريف: "ونعني بالترقي أنه ما حق في القوة بالصحيح لا أنه عينه"

بيان أول من شهر الحسن

16- بيان أول من شهر الحسن: قال الإمام النووي في التقريب وشارحه السيوطي1: "كتاب الترمذي أصل في معرفة الحسن وهو الذي شهره وأكثر من ذكره وإن وجد في متفرقات من كلام بعض مشايخه والطبقة التي قبله". وقال الإمام تقي الدين بن تيمية قدس سره في بعض فتاويه: "أول من عرف أنه قسم الحديث إلى صحيح وحسن، وضعيف أبو عيسى الترمذي ولم تعرف هذه القسمة عن أحد قبله، وقد بين أبو عيسى مراده بذلك فذكر أن الحسن ما تعددت طرقة، ولم يكن فيهم متهم بالكذب، ولم يكن شاذا وهو دون الصحيح الذي عرف عدالة ناقليه، وضبطهم" وقال: "الضعيف الذي عرف أن ناقله متهم بالكذب رديء الحفظ فإنه إذا رواه المجهول خيف أن يكون كاذبًا أو سيئ الحفظ فإذا وافقه آخر لم يأخذ عنه عرف أنه لم يتعمد كذبه، واتفاق الاثنين على لفظ واحد طويل قد يكون ممتنعًا، وقد يكون بعيدًا ولما كان تجويز اتفاقهما في ذلك ممكنًا نزل من درجة الصحيح" ثم قال تقي الدين قدس سره: "وأما من قبل الترمذي من العلماء فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي لكن كانوا يقسمونه إلى صحيح، وضعيف، والضعيف كان عندهم نوعان ضعيف ضعفًا لا يمتنع العمل به، وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي وضعيف ضعفًا يوجب تركه وهو الواهي".

_ 1 ص54.

معنى قول الترمذى "حسن صحيح"

17- معنى قول الترمذي: "حسن صحيح": للعلماء في ملحظ الترمذي بهذه العبارة وجوه نقلها السيوطى في التدريب1. قالوا: "العبارة المذكورة مما استشكل؛ لأن الحسن قاصر عن الصحيح فكيف يجتمع إثبات القصور ونفيه في حديث، واحد وأجاب ابن دقيق العيد بأن الحسن لا يشترط فيه القصور عن الصحة إلا حيث انفرد الحسن أما إذا ارتفع إلى درجة الصحة فالحسن حاصل لا محالة تبعًا للصحة لأن وجود الدرجة العليا، وهي الحفظ والإتقان لا ينافي وجود الدنيا كالصدق فيصح أن يقال حسن باعتبار الصفة الدنيا صحيح باعتبار العليا، ويلزم على هذا أن كل صحيح حسن، وقد سبقه إلى نحو ذلك ابن المواق قال الحافظ ابن حجر: وشبه ذلك قولهم في الراوي صدوق فقط وصدوق ضابط فإن الأول قاصر عن درجة رجال الصحيح والثاني منهم فكما أن الجمع بينهما لا يضر ولا يشكل فكذلك الجمع بين الصحة والحسن". ا. هـ.

_ 1 ص52، 53

الجواب عن جمع الترمذي بين الحسن والغرابة على اصطلاحه

18- الجواب عن جمع الترمذي بين الحسن والغرابة على اصطلاحه: قد أنكر بعض الناس على الإمام الترمذي تحديده للحسن بما حد به من كونه يُروى من غيروجه لقوله في بعض الأحاديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه والغريب الذي انفرد به الواحد، وأجاب الحافظ ابن حجر في شرح النخبة1: "بأن الترمذي لم يعرف الحسن مطلقًا وإنما عرفه بنوع خاص منه وقع في كتابه، وهو ما يقول فيه حسن من غير صفة أخرى، وذلك أنه يقول في بعض الأحاديث حسن، وفي بعضها صحيح وفي بعضها غريب، وفي بعضها حسن صحيح، وفي بعضها حسن غريب وفي بعضها صحيح غريب، وفي بعضها حسن صحيح غريب، وتعريفه إنما وقع على الأول فقط وعبارته ترشد إلى ذلك حيث قال في آخر كتابه:

_ 1 ص12.

"وما قلنا في كتابنا: حديث حسن، فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا؛ إذ كل حديث يروى، لا يكون راويه متهما بكذب ويروى من غير وجه نحو ذلك ولا يكون شاذا فهو عندنا حديث حسن" فعرف بهذا أنه إنما عرف الذي يقول فيه حسن فقط أما ما يقول فيه حسن صحيح أو حسن غريب أو حسن صحيح غريب فلم يعرج على تعريف ما يقول فيه صحيح فقط أو غريب فقط، وكأنه ترك ذلك استغناء لشهرته عند أهل الفن واقتصر على تعريف ما يقول فيه في كتابه حسن فقط إما لغموضه، وإما لأنه اصطلاح جديد ولذلك قيده بقوله: "عندنا" ولم ينسبه إلى أهل الحديث كما فعل الخطابي". ا. هـ. وقال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في فتوى له: "الذين طعنوا على الترمذي لم يفهموا مراده في كثير مما قاله. فإن أهل الحديث قد يقولون: "هذا الحديث غريب" أي من هذا الوجه؛ وقد يصرحون بذلك فيقولون غريب من هذا الوجه فيكون الحديث عندهم صحيحًا معروفًا من طريق واحد. فإذا رُوي من طريق آخر، كان غريبًا من ذلك الوجه وإن كان المتن صحيحًا معروفا. فالترمذي إذا قال: حسن غريب قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق لكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن". ا. هـ.

مناقشة الترمذي في بعض ما يصححه أو يحسنه

19- مناقشة الترمذي في بعض ما يصححه أو يحسنه: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية: "بعض ما يصححه الترمذي ينازعه غيره فيه، كما قد ينازعونه في بعض ما يضعفه ويحسنه، فقد يضعف حديثًا ويصححه البخاري، كحديث ابن مسعود لما قال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ابغني أحجارًا أستنفض بهن"؛ قال: فأتيته بحجرين وروثة قال فأخذ الحجرين وترك الروثة وقال: "إنها رجس" 1. فإن هذا اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي، فجعل الترمذي هذا الاختلاف علة، ورجح روايته له عن أبي عبيدة عن أبيه وهو لم يسمع من أبيه، وأما البخاري فصححه من طريق أخرى لأن أبا إسحاق كان الحديث يكون عنده عن جماعة يرويه عن هذا تارة وعن هذا تارة، كما كان الزهري يروي الحديث تارة عن سعيد بن المسيب، وتارة عن أبي سلمة وتارة يجمعها فمن لا يعرفه فيحدث به تارة عن هذان، وتارة عن هذا يظن بعض الناس أن ذلك غلط وكلاهما صحيح وهذا باب يطول وصفه".

_ 1 في البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث، فلم أجده، فأخذت روثة، فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: "هذا ركس". وأما رواية: "ابغني أحجارًا أستنقض بها" أو نحوه فهي في البخاري من حديث أبي هريرة وكلاهما في كتاب الوضوء.

بيان أن الحسن على مراتب

20- بيان أن الحسن على مراتب: نبه الأئمة على أن الحديث الحسن على مراتب كالصحيح. قال الحافظ الذهبي: "فأعلى مراتبه: بهز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ وابن إسحاق عن التيمي؛ وأمثال ذلك مما قيل فيه إنه صحيح، إنه أدنى مراتب الصحيح ثم بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وضعفه كحديث الحرث بن عبد الله وعاصم بن ضمرة وحجاج بن أرطاة ونحوهم".

بيان كون الحسن حجة في الأحكام

21- بيان كون الحسن حجة في الأحكام: قال الأئمة: "الحسن كالصحيح في الاحتجاح به، وإن كان دونه في القوة ولهذا أدرجه طائفة من نوع الصحيح، كالحاكم وابن حبان وابن خزيمة مع قولهم بأنه دون الصحيح المبين أولًا". وقال السخاوى في الفتح: "منهم من يدرج الحسن في الصحيح لاشتراكهما في الاحتجاج، بل نقل ابن تيمية إجماعهم إلا الترمذي خاصة عليه". قال الخطابي: "على الحسن مدار أكثر الحديث لأن غالب الأحاديث لا تبلغ رتبة الصحيح وعمل به عامة الفقهاء، وقبله أكثر العلماء وشدد بعض أهل الحديث، فرد بكل علة قادحة كانت أم لا، كما رُوي عن ابن أبي حاتم أنه قال: سألت أبي عن حديث فقال: "إسناده حسن" فقلت: "يحتج به" فقال: "لا". ا. هـ. والصواب مع الجمهور لما بينه الخطابي. هذا في الحسن لذاته وأما الحسن لغيره فيلحق بذلك في الاحتجاج لكن فيما تكثر طرقه عند قوم، كما سنبينه في بحث أنجبار الضعيف قريبًا.

قبول زيادة راوى الصحيح والحسن

22- قبول زيادة راوي الصحيح والحسن: قال الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها: "وزيادة راويهما -أي الصحيح والحسن- مقبولة ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة؛ لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها فهذه تقبل مطلقًا لأنها في حكم الحديث المستقل الذي ينفرد به الثقة ولا يرويه عن شيخه غيره، وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها رد الراوية الأخرى فهذه التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها فيقبل الراجح ويرد المرجوح، واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقًا من غير تفصيل ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذا ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والعجب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح وكذا الحسن، والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها؛ ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة". ا. هـ.

بيان ألقاب للحديث تشمل الصحيح والحسن وهي الجيد والقوى والصالح والمعروف والمحفوظ والمجود والثابت والمقبول

بيان ألقاب للحديث تشمل الصحيح والحسن وهي الجيد والقوى والصالح والمعروف والمحفوظ والمجود والثابت والمقبول ... 23- بيان ألقاب للحديث نشمل الصحيح والحسن وهي الجيد والقوي والصالح والمعروف والمحفوظ والمجود والثابت والمقبول: "هذه الألفاظ مستعملة عند أهل الحديث في الخبر المقبول، والفرق بينها أن الجودة قد يعبر بها عن الصحة فيتساوى حينئذ الجيد والصحيح، إلا أن المحقق منهم، لا يعدل عن الصحيح إلى جيد إلا لنكتة كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته ويتردد في بلوغه الصحيح، فالوصف به حينئذ أنزل رتبة من الوصف بصحيح وكذا القوى، وأما الصالح فيشمل الصحيح والحسن لصلاحيتهما للاحتجاج، ويستعمل أيضًا في ضعيف يصلح للاعتبار، وسيأتي إن شاء الله معنى الاعتبار في تنبيه على حدة قبل بحث الأنواع التي تختص بالضعيف، وأما المعروف فهو مقابل المنكر والمحفوظ مقابل الشاذ وسيأتي بيان ذلك والمجود الثابت يشملان الصحيح والحسن" كذا في التدريب1 وقد عرف الحافظ ابن حجر المقبول في شرح النخبة بالذي يجب العمل به عند الجمهور، والمراد بالذي لم يرجح صدق المخبر به.

_ 1 ص58.

بيان الضعيف ماهية الضعيف وأقسامه

24- بيان الضعيف ماهية الضعيف وأقسامه: قال النووي1: "الضعيف ما لم يوجد فيه شروط الصحة، ولا شروط الحسن، وأنواعه كثيرة: منها الموضوع والمقلوب، والشاذ والمنكر، والمعلل، والمضطرب، وغير ذلك" مما سيفصل بعونه تعالى.

_ 1 شرح صحيح مسلم: ج1، ص19.

تفاوت الضعيف

25- تفاوت الضعيف: يتفاوت ضعفه بحسب شدة ضعف رواته وخفته، كصحة الصحيح؛ فمنه أوهى، كما أن من الصحيح أصح. قال السخاوي في الفتح: "واعلم أنهم كما تكلموا في أصح الأسانيد، مشوا في أوهى الأسانيد؛ وفائدته ترجيح بعض الأسانيد على بعض وتمييز ما يصلح للاعتبار مما لا يصلح". ا. هـ. وللحاكم تفصيل لأوهى أسانيد الرجال والبلاد ساقه في التدريب؛ ولابن الجوزي كتاب في الأحاديث الواهية.

بحث الضعيف إذا تعددت طرقه

26- بحث الضعيف إذا تعددت طرقه: "اعلم أن الضعيف لكذب راويه أو لفسقه لا ينجبر بتعدد طرقة المثاثلة له لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر. نعم! يرتقي بمجموعه عن كونه منكرًا، أو لا أصل له، وربما كثرت الطرق حتى أوصلته إلى درجة المستور، والسيئ الحفظ بحيث إذا وجد له طريق آخر فيه ضعف قريب محتمل ارتقى بمجموع ذلك إلى درجة الحسن" نقله في التدريب1 عن الحافظ ابن حجر. وقال السخاوي في فتح المغيث إن الحسن لغيره يلحق فيما يحتج به، لكن فيما تكثر طرقه؛ ولذلك قال النووي في بعض الأحاديث: "وهذه وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوي بعضه بعضًا ويصير الحديث حسنًا ويحتج به". وسبقه البيهقي في تقوية الحديث بكثرة الطرق الضعيفة، وظاهر كلام أبي الحسن بن القطان يرشد إليه، فإنه قال: "هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام، إلا إذا كثرت طرفه أو عضده اتصال عمل، أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن واستحسنه شيخنا -يعني ابن حجر- وصرح في موضع آخر بأن

_ 1 ص58.

الضعف الذي ضعفه ناشئ عن سوء حفظه إذا كثرت طرقه ارتقى إلى مرتبة الحسن. وفي عون الباري نقلًا عن النووي أنه قال: "الحديث الضعيف عند تعدد الطرق يرتقي عن الضعف إلى الحسن، ويصير مقبولًا معمولًا به". قال الحافظ السخاوي: "ولا يقتضي ذلك الاحتجاج بالضعيف، فإن الاحتجاج إنما هو بالهيئة المجموعة، كالمرسل حيث اعتضد بمرسل آخر، ولو ضعيفًا كما قاله الشافعي والجمهور". ا. هـ. وقد خالف في ذلك الظاهرية قال ابن حزم في الملل1 في بحث صفة وجوه النقل الستة عند المسلمين ما صورته: "الخامس شيء نقل كما ذكرنا إما بنقل أهل المشرق والمغرب أو كافة عن كافة أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن في الطريق رجلًا مجروحًا بكذب أو غفلة أو مجهول الحال فهذا أيضًا يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه وهو المتجه".

_ 1 ص83، ج2 القاهرة، المطبعة الأدبية 1317هـ.

ذكر قول مسلم رحمه الله إن السراوى عن الضعفاء غاش آثم جاهل

ذكر قول مسلم رحمه الله إن السراوى عن الضعفاء غاش آثم جاهل ... 27- ذكر قول مسلم رحمه الله إن الراوي عن الضعفاء غاسن آثم جاهل: قال الإمام النووي1: "اعلم أن جرح الرواة جائز بل واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه، لصيانة الشريعة المكرمة وليس هو من الغيبة المحرمة بل من النصيحة لله تعالى ورسوله والمسلمين ولم يزل فضلاء الأئمة وأخبارهم، وأهل الورع منهم يفعلون ذلك". ا. هـ. وقد تكلم الإمام مسلم على جماعة منهم في مقدمة صحيحة ثم قال2: "وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وإخبارهم عن معايبهم كثير يطول الكتاب

_ 1 صحيح مسلم، ص60. 2 المصدر نفسه، ص59.

بذكره على استقصائه، وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا، وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم، أو أمر أو نهى أو ترغيب أو ترهيب فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق، والأمانة ثم أقدم على الراوية عند من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثما بفعله ذلك غاشًّا لعوام المسلمين إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها مع أن الأخبار الصحاح من رواة الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة، ولا مقنع ولا أحسب كثيرًا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة، ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن والضعف إلا أن الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألف من العدد، ومن ذهب في العلم هذا المذهب، وسلك هذا الطريق لا نصيب له فيه، وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم" انتهى كلام الإمام مسلم رحمه الله تعالى ورضي عنه ولقد شفى وكفى.

مستنكر عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة الحديث، لما سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل؛ ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة، بالأسانيد الضعاف المجهولة، وقذفهم بها، إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت" ثم قال: "اعلم -وفقك الله تعالى- أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع، والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1 الآية وقال عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} 2 وقال سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم} 3. فدل بما ذكرنا من هذا الآي، أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول وأن شهادة غير العدل مردوة والخبر إن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في معظم معانيها إذ خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جمعهم: ودلت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار، كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق وهو الأثر المشهور عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم4: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". ثم ساق مسلم رحمه الله ما ورد وعيد الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم- مما هو متواتر. ثم أسند عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال5: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم".

_ 1 سورة الحجرات، الآية، 6. 2 سورة البقرة، آية: 282. 3 سورة الطلاق، آية: 2. 4 رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن سمرة. 5 أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

تشنيع الإمام مسلم على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة. وقذفهم بها إلى العوام، وإيجابه رواية ما عرفت صحة مخارجه

28- تشنيع الإمام مسلم على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة وقذفهم بها إلى العوام، وإيجابه رواية ما عرفت صحة مخارجه: قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى في خطبة صحيحه1: "فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثًا فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة، والروايات المنكرة وتركهم الاقتصار على الأخبار الصحيحة، مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة، بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرًا مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس، هو

_ 1 ص33.

تحذير الإمام مسلم من روايات القصاص والصالحين

29- تحذير الإمام مسلم من روايات القصاص والصالحين: روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عاصم قال: "لا تجالسوا القصاص" وعن يحيى بن سعيد القطان قال: "لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث". وفي رواية: "لم نر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث" قال مسلم: "يعني أنه يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب". قال النووي: "لكونهم لا يعانون صناعة أهل الحديث فيقع الخطأ في رواياتهم ولا يعرفونه ويروون الكذب ولا يعلمون أنه كذب".

ذكر المذاهب في الأخذ بالضعيف واعتماد العمل به في الفضائل

30- ذكر المذاهب في الأخذ بالضعيف واعتماد العمل به في الفضائل: ليعلم أن المذاهب في الضعيف ثلاثة: الأول لا يعمل به مطلقًا؛ لا في الأحكام، ولا في الفضائل. حكاه ابن سيد الناس في عيون الأثر، عن يحيى بن معين، ونسبه في فتح المغيث لأبي بكر بن العربي، والظاهر أن مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضًا يدل عليه شرط البخاري في صحيحة، وتشنيع الإمام مسلم على رواة الضعيف كما أسلفناه وعدم إخراجهما في صحيحهما شيئًا منه، وهذا مذهب ابن حزم رحمه الله أيضًا حيث قال في الملل والنحل: "ما نقله أهل المشرق والمغرب أو كافة عن كافة أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن في الطريق رجلًا مجروحًا بكذب أو غفلة، أو مجهول الحال فهذا يقول به بعض المسلمين ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ولا الأخذ بشيء منه". ا. هـ. الثاني: أنه يعمل به مطلقًا قال السيوطي: "وعزى ذلك إلى أبي داود وأحمد لأنهما يريان ذلك أقوى من رأي الرجال". الثالث: يعمل به في الفضائل بشروطه الآتية وهذا هو المعتمد عند الأئمة. قال ابن عبد البر:

"وأحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى ما يحتج به". وقال الحاكم: "سمعت أبا زكريا العنبري يقول الخبر إذا ورد لم يحرم حلالًا، ولم يوجب حكما، وكان في ترغيب أو ترهيب أغمض عنه وتسوهل في رواته". ولفظ ابن مهدي فيما أخرجه البيهقي في المدخل: "إذا روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحلال والحرام والأحكام، شددنا في الأسانيد، وانتقدنا في الرجال وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال". ولفظ أحمد في رواية الميموني عنه: "الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيها حكم". وقال في رواية عباس الدوري عنه: "ابن إسحاق رجل تكتب عنه هذه الأحاديث" -يعني المغازي ونحوها- وإذا جاء الحلال والحرام أردنا قومًا هكذا -وقبض أصابع يده الأربع.

الجواب عن رواية بعض كبار الأئمة عن الضعفاء

31- الجواب عن رواية بعض كبار الأئمة عن الضعفاء: قال الإمام النووي في شرح مسلم1: "قد يقال لم حدث هؤلاء الأئمة عن هؤلاء مع علمهم بأنهم؟ لا يحتج بهم ويجاب عنه بأجوبة: أحدها: أنهم رووها ليعرفوها وليبنوا ضعفها لئلا يلتبس في وقت عليهم أو على غيرهم أو يتشككوا في صحتها. الثاني: أن الضعيف يكتب حديثه ليعتبر أو يستشهد ولا يحتج به على انفراده. الثالث: رواية الراوي الضعيف يكون فيها الصحيح والباطل، فيكتبونها ثم يميز أهل الحديث والإتقان بعض ذلك من بعض وذلك سهل عليهم معروف عندهم وبهذا احتج سفيان رحمه الله حين نهى عن الراوية عن الكلبي فقيل له: أنت تروي عنه فقال: "أنا أعلم صدقة من كذبه". الرابع أنهم قد يروون عنهم أحاديث الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال والقصص،

_ 1 ص60.

وأحاديث الزهد، ومكارم الأخلاق ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلال، والحرام وسائر الأحكام، وهذا الضرب من الحديث يجوز عند أهل الحديث، وغيرهم التساهل فيه ورواية ما سوى الموضوع منه، والعمل به لأن أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع معروفة عند أهله، وعلى كل حال فإن الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئًا يحتجون به، على انفراده في الأحكام فإن هذا شيء لا يفعله إمام من أئمة المحدثين، ولا محقق من غيرهم من العلماء، وأما فعل كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم ذلك، واعتمادهم عليه فليس بصواب بل قبيح جدًّا، وذلك لأنه إن كان يعرف ضعفه لم يحل له أن يحتج به فإنهم متفقون على أنه لا يحتج بالضعيف في الأحكام وإن كان لا يعرف ضعفه لم يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفا أو بسؤال أهل العلم به إن لم يكن عارفا". ا. هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى: "قد يكون الرجل عندهم ضعيفًا لكثرة الغلط في حديثه ويكون حديثه الغالب عليه الصحة فيروون عنه لأجل الاعتبار به، والاعتضاد به فإن تعدد الطرق، وكثرتها يقوى بعضها بعضًا حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فجارًا وفساقًا فكيف إذا كانوا علماء عدولًا ولكن كثر في حديثهم الغلط، وهذا مثل عبد الله بن لهيعة فإنه من أكابر علماء المسلمين، وكان قاضيًا بمصر كثير الحديث، ولكن احترقت كتبه فصار يحدث من حفظه فوقع في حديثه غلط كثير مع أن الغالب على حديثه الصحة قال أحمد قد أكتب حديث الرجل للاعتبار به مثل ابن لهيعة، وأما من عرف منه أنه يتعمد الكذب فمنهم من لا يروي عن هذا شيئًا، وهذه طريقة أحمد بن حنبل، وغيره لم يرو في مسنده عمن يعرف أنه يتعمد الكذب لكن يروي عمن عرف منه الغلط للاعتبار به والاعتضاد، ومن العلماء من كان يسمع حديث من يكذب، ويقول إنه يميز بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه، ويذكر عن الثوري أنه كان يأخذ عن الكلبي وينهى عن الأخذ عنه ويذكر أنه يعرف ومثل هذا قد يقع لمن كان خبيرًا بشخص إذا حدثه بأشياء يميز بين ما صدق فيه وما كذب فيه، بقرائن لا يمكن

ضبطها. وخبر الواحد قد يقترن به قرائن تدل على أنه صدق، وقرائن تدل على أنه كذب". ا. هـ. وروى الإمام ابن عبد البر في: "جامع بيان العلم وفضله" في باب الرخصة في كتابة العلم1 عن سفيان الثوري أنه قال: "إني أحب أن أكتب الحديث على ثلاثة أوجه، حديث أكتبه أريد أن أتخذه دينًا وحديث رجل أكتبه فأوفقه لا أطرحه، ولا أدين به وحديث رجل ضعيف أحب أن أعرفه ولا أعبأ به، وقال الأوزاعي تعلم ما لا يؤخذ به كما تتعلم ما يؤخذ به".

_ 1 ص38.

ما شرطه المحققون لقبول الضعيف

32- ما شرطه المحققون لقبول الضعيف: قال السيوطي في التدريب: "لم يذكر ابن الصلاح والنووي لقبوله سوى هذا الشرط كونه في الفضائل ونحوها". وذكر الحافظ ابن حجر له ثلاثة: شروط أحدها أن يكون الضعف غير شديد فيخرج من انفرد من الكذابين، والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه؛ نقل العلائي الاتفاق عليه؛ الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به؛ الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط. وقال الزركشي: "الضعيف مردود ما لم يقتض ترغيبًا، أو ترهيبًا، أو تتعدد طرقه؛ ولم يكن المتابع منحطًّا عنه". ا. هـ. قال السيوطي: "ويعمل بالضعيف أيضًا في الأحكام إذا كان فيه احتياط"1. ا. هـ.

_ 1 السيوطي: تدريب الراوي، ص108.

تزييف درع الموسوسين في المتفق على ضعفه

تزييف درع الموسوسين في المتفق على ضعفه ... 33- تزييف ورع الموسوسين في المتفق على ضعفه: ذكر شارحو صحيح البخاري عند قوله في كتاب البيوع "باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات" أن غرض البخاري بيان ورع الموسوسين، كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيد كان لإنسان ثم انفلت منه، وكمن يترك شراء ما يحتاج إليه من مجهول لا يجري أماله حرام أم حلال، وليست هناك علامة تدل على الحرمة، وكمن يترك تناول الشيء لخبر ورد فيه متفق على ضعفه وعدم الاحتجاج به ويكون دليل الإباحة قويًّا وتأويله ممتنع أو مستبعد. قال الغزالي: "الورع أقسام: ورع الصديقين، وهو ترك ما لا يتناول بغير نية القوة على العبادة؛ وورع المتقين، وهو ترك ما لا شبهة فيه، ولكن يخشى أن يجر إلى الحرام؛ وورع الصالحين، وهو ترك ما يتطرق إليه احتمال التحريم بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع فإن لم يكن فهو ورع الموسوسين. قال: ووراء ذلك ورع الشهود، وهو ترك ما يسقط الشهادة أعم من أن يكون ذلك المتروك حراما أم لا".

ترجيح الضعيف على رأى الرجال

34- ترجيح الضعيف على رأي الرجال: نقل السخاوي في فتح المغيث عن الحافظ ابن منده مما سمعه من محمد بن سعد الباوردي: "أن النسائي صاحب السنن لا يقتصر في التخريج عن المتفق على قبولهم، بل يخرج عن كل من يجمع الأئمة على تركه". قال العراقي: "وهو مذهب متسع". قال ابن منده: "وكذلك أبو داود يأخذ مأخذ النسائي، يعني في عدم التقيد بالثقة والتخريج لمن ضعف في الجملة وإن اختلف صنيعهما". وقال السخاوي: "أبو داود يخرج الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وهو أقوى عنده من رأي الرجال، وهو تابع في ذلك شيخه الإمام أحمد فقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بالإسناد الصحيح إليه قال: سمعت أبي يقول: لا تكاد ترى أحدا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه غل والحديث الضعيف أحب إلى من الرأي"

قال: "فسألته عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يدري صحيحه من سقيمه وصاحب رأي فمن يسأل قال: يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي". وذكر ابن الجوزي في الموضوعات أنه كان قدم الضعيف على القياس. بل حكى الطوفي عن التقى ابن تيميه أنه قال: اعتبرت مسند أحمد فوجدته موافقًا بشرط أبي داود وزعم ابن حزم أن جميع الحنفية على أن مذهب إمامهم أيضًا: أن ضعيف الحديث أولى عنده من الرأي والقياس. ا. هـ. ثم رأيت في: "منهاج السنة" للإمام تقي الدين بن تيميه ما نصه: "وأما نحن فقولنا إن الحديث الضعيف خير من الرأي ليس المراد به الضعيف المتروك لكن المراد به الحسن؛ كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ وحديث إبراهيم الهجري وأمثالهما ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه. وكأن الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي إما صحيح، وإما ضعيف. والضعيف نوعان: ضعيف متروك، وضعيف ليس بمتروك؛ فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح، فجاء من لا يعرف إلا اصطلاح الترمذي، فسمع قول بعض الأئمة: "الحديث الضعيف أحب إليَّ من القياس" فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه اتبع للحديث الصحيح، وهو في ذلك من المتناقضين الذي يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه". ا. هـ.

بحث الدواني في الضعيف

35- بحث الدواني في الضعيف: قالت المحقق جلال الدين الدواني في رسالته أنموذج العلوم: "اتفقوا على أن الحديث الضعيف، لا تثبت به الأحكام الشرعية، ثم ذكروا أنه يجوز، بل يستحب العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال. وممن صرح به النووي في كتبه لا سيما كتاب: "الأذكار" وفيه إشكال لأن جواز العمل، واستحبابه كلاهما من الأحكام الشرعية الخمسة فإذا استحب العمل بمقتضى الحديث الضعيف، كان ثبوته بالحديث الضعيف، وذلك ينافي ما تقرر من عدم ثبوت الأحكام بالأحاديث الضعيفة. وقد حاول بعضهم التفصي1 عن ذلك وقال: إن مراد النووي أنه إذا ثبت حديث صحيح أو حسن في فضيلة عمل من الأعمال، تجوز رواية الحديث الضعيف في هذا الباب؛ ولا يخفى أن هذا لا يرتبط بكلام النووي فضلًا عن أن يكون مراده ذلك! فكم من فرق بين جواز العمل واستحبابه، وبين مجرد نقل الحديث، على أنه لو لم يثبت الحديث الصحيح أو الحسن في فضيلة عمل من الأعمال، يجوز نقل الحديث الضعيف فيها لا سيما من التنبيه على ضعفه، ومثل ذلك في كتب الحديث، وغيره كثير شائع يشهد به من تتبع أدنى تتبع، والذي يصلح للتعويل أنه إذا وجد حديث ضعيف في فضيلة عمل من الأعمال، ولم يكن هذا العمل مما يحتمل الحرمة أو الكراهة فإنه يجوز العمل به، ويستحب لأنه مأمون الخطر، ومرجو النفع إذ هو دائر بين الإباحة والاستحباب فالاحتياط العمل به. رجاء الثواب وأما إذا دار بين الحرمة والاستحباب فلا وجه لاستحباب العمل به. وأما إذا دار بين الكراهة والاستحباب فمجال النظر فيه واسع إذ في العمل دغدغة2 الوقوع في المكروه، وفي الترك مظنة ترك المستحب فلينظر إن كان خطر الكراهة أشد بأن تكون الكراهة المحتملة شديدة كان خطر الكراهة أضعف بأن تكون الكراهة على تقدير وقوعها ضعيفة دون مرتبة ترك العمل على تقدير استحبابه فالاحتياط العمل به وفي صورة المساواة يحتاج إلى نظر تام، والظاهر أنه يستحب أيضًا لأن المباحات تصير بالنية عبادة فكيف ما فيه شبهة الاستحباب لأجل الحديث الضعيف فجواز العمل واستحبابه مشروطان أما جواز العمل فبعدم احتمال الحرمة وأما الاستحباب فيما ذكر مفصلًا. "بقي ها هنا شيء وهو أنه عدم احتمال الحرمة فجواز العمل ليس لأجل الحديث إذ لو لم يوجد يجوز العمل أيضًا لأن المفروض انتفاء الحرمة. لا يقال: الحديث الضعيف ينفي احتمال الحرمة لأنا نقول الحديث الضعيف لا يثبت به شيء من الأحكام الخمسة،

_ 1 في أساس البلاغة: ليتني أتقصى من فلان، أي أتخلص منه. 2 الدغدغة: هي، الحركة.

وانتفاء الحرمة يستلزم ثبوت الإباحة والإباحة حكم شرعي فلا يثبت بالحديث الضعيف ولعل مراد النووي ما ذكرنا، وإنما ذكر جواز العمل توطئة للاستحباب. "وحاصل الجواب: أن الجواز معلوم من خارج، والاستحباب أيضًا معلوم من القواعد الشرعية الدالة على استحباب الاحتياط في أمر الدين فلم يثبت شيء من الأحكام بالحديث الضعيف، بل أوقع الحديث شبهة الاستحباب فصار الاحتياط أن يعمل به، فاستحباب الاحتياط معلوم من قواعد الشرع". ا. هـ. وقد ناقش الدواني رحمه الله الشهاب الخفاجي في: "شرح الشفا" فقال بعد نقله ملخص كلامه المذكور ما صورته: "ما قاله الجلال، مخالف لكلامهم برمته، وما نقله من الاتفاق غير صحيح، مع ما سمعته من الأقوال -يعني في العمل بالضعيف- والاحتمالات التي أبداها لا تفيد سوى تسويد وجه القرطاس، والذي أوقعه في الحيرة توهمه، أن عدم ثبوت الأحكام به متفق عليه، وأنه يلزم من العمل به في الفضائل والترغيب أنه يثبت به حكم من الأحكام، وكلاهما غير صحيح أما الأول فلأن من الأئمة من جوز العمل به بشروطه، وقدمه على القياس، وأما الثاني فلأن ثبوت الفضائل والترغيب لا يلزمه الحكم ألا ترى أنه لو روى حديث ضعيف في ثواب بعض الأمور الثابت استحبابها والترغيب فيه أو في فضائل بعض الصحابة رضوان الله عليهم أو الأذكار المأثورة، لم يلزم مما ذكر ثبوت حكم أصلا، ولا حاجة لتخصيص الأحكام والأعمال كما توهم للفرق الظاهر بين الأعمال وفضائل الأعمال وإذا ظهر عدم الصواب؛ لأن القوس في يد غير باريها ظهر أنه إشكال ولا خلل ولا اختلال". ا. هـ. وأقول إن للشهاب ولعًا في المناقشة غريبًا، وإن لم يحظ الواقف عليها بطائل! وتلك عادة استحكمت منه في مصنفاته، كما يعلمه من طالعها؛ ولعله هو الذي سود وجه القرطاس ها هنا؟ إذ لا غبار على كلام الجلال. وأما انتقاده عليه بنقله الاتفاق على أن الحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام مع وجود الخلاف فيه فلأنه عنى اتفاق مدققي النقاد وأولى اشتراط

الصحة في قبول الإسناد، كالشيخين وأضرابهما ممن أسلفنا النقل عنهما في المذهب الأول في الضعيف، إن لم نقل إن الجلال لم ير مقابله مما يجدر سوقه مقابلًا، حتى يحكي الخلاف فيه؛ وكثيرًا ما يترفع المؤلفون عن الأقوال الواهية؛ ولو في نظارهم فيحكون الاتفاق، ومرادهم اتفاق ذوي التحقيق، كما هو معلوم في المؤلفات المتداولة. وأما مناقشته، بأن ثبوت الفضائل والترغيب لا يلزمه الحكم، فإلزام لما لم يلتزمه الجلال؛ لأنه لم يدعه، وكلامه في الأعمال خاصة؛ فمؤاخذته بمطلق الفضائل افتراء أو مشاغبة! وأما قوله: "ولا حاجة لتخصيص الأحكام ... إلى آخره". فشط من القلم إلى جداول الجدل الفاضح! وهل كلامه إلا في الأحكام والأعمال؟ وتعليله بظهور الفرق بين الأعمال وفضائلها غير ظاهر هنا، لاتحادها في هذا البحث؛ لأن الإضافة في فضائل الأعمال بيانه، أو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الأعمال الفاضلة. فتأمل لعلك ترى القوس في يد الجلال، كما رآه الجمال.

مسائل تتعلق بالضعيف

36- مسائل تتعلق بالضعيف: الأولى: من رأى حديثا بإسناد ضعيف، فله أن يقول: "هو ضعيف بهذا الإسناد" ولا يقول: "ضعيف المتن" بمجرد ذلك الإسناد، فقد يكون له إسناد آخر صحيح؛ إلا أن يقول إمام إنه لم يرد من وجه صحيح، أو إنه حديث ضعيف مبينًا ضعفه. الثانية: من أراد رواية ضعيف بغير إسناد فلا يقل: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل يقول: روي عنه كذا، أو بلغنا عنه كذا، أو ورد عنه، أو جاء عنه، أو نقل عنه" وما أشبه ذلك من صيغ التمريض كروى بعضهم، وكذا يقول في ما يشك في صحته وضعفه. أما الصحيح فيذكر بصيغة الجزم، ويقبح فيه صيغة التمريض، كما يقبح في الضعيف صيغة الجزم. الثالثة: لا يتصدى للجواب عن الحديث المشكل إلا إذا كان صحيحًا. وأما إذا كان ضعيفًا فلا. قال العلامة السيد أحمد بن المبارك في "الإبريز" في خلال بحث في بعض الأحاديث الضعيفة: وإن كان الحديث في نفسه مردودًا، هان الأمر ولله در أبي الحسن القابسي

رحمه الله حيث اعترض على الأستاذ أبي بكر بن فورك رحمه الله حيث تصدى للجواب عن أحاديث مشكلة وهي باطلة، قال القابسي: "لا يتكلف الجواب عن الحديث حتى يكون صحيحًا والباطل يكفي في رده كونه باطلًا". ا. هـ. وأما اعتذار ابن حجر الهيتمي في: "فتاواه الحديثية" عن ابن فورك بأنه: "إنما تكلف الجواب عنها مع ضعفها لأنه ربما تشبث بها بعض من لا علم له بصحيح الأحاديث من ضعيفها، فطلب الجواب عنها بفرض صحتها إذ الصحة والضعف ليسا من الأمور القطعية بل الظنية، والضعيف يمكن أن يكون صحيحًا، فبهذا الفرض يحتاج إلى الجواب عنه" فلا يخفي ما فيه إذ الكلام مع من يعلم، ومن لا يعلم فأحقر من أن يتمحل له والإمكان المذكور لا عبرة به لأنا نقف مع ما صححوه أو ضعفوه وقوف الجازم به ونطرح ذاك الفرض الذي لا عبرة له في نظر الأئمة إذ لا ثمرة لهم فافهم. وفي الموعظة الحسنة: لا يستحق ما لا أصل أن يشتغل برده بل يكفي أن يقال: "هذا كلام ليس من الشريعة" وكل ما هو ليس منها فهو رد أي مردود على قائله، مضروب في وجهه. ا. هـ. نعم، لو اختلف في صحة حديث لعلة فيه رآها بعضهم غير قادحة فصححه وخالفه آخر، فلا بأس أن يشتغل بتأويل هذا المعلل المختلف في صحته لاحتمال صحته فيتأول على هذا التقدير. الرابعة: إذا قال الحافظ الناقد المطلع في حديث: "لا أعرفه" اعتمد ذلك في نفيه؛ لأنه بعد التدوين والرجوع إلى الكتب المصنفة يبعد عدم اطلاعه على ما يورده غيره، فالظاهر عدمه كذا في التدريب. الخامسة: قولهم: هذا الحديث ليس له أصل أو: لا أصل له قال ابن تيميه: معناه ليس له إسناد. السادسة: قال الحافظ ابن حجر: "لا يلزم من كون الحديث لم يصح أن يكون موضوعًا". قال الزركشي: "بين قولنا موضوع، وقولنا لا يصح بون كثير، فإن في الأول إثبات الكذب والاختلاق، وفي الثاني إخبارًا عن عدم الثبوت، ولا يلزم منه إثبات العدم، وهذا يجيء في كل حديث قال فيه ابن الجوزي لا يصح ونحوه. السابعة: قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: "الضعيف لا يعل به الصحيح".

ذكر أنواع تشترك في الصحيح والحسن والضعيف

37- ذكر أنواع تشترك في الصحيح والحسن والضعيف: الأول المسند: هو على المعتمد ما اتصل سنده من راوية إلى متنهاه، مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم. الثاني المتصل: ويسمى الموصول وهو ما اتصل سنده سواء كان مرفوعًا إليه -صلى الله عليه وسلم- أو موقوفًا. الثالث المرفوع: وهو ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة من قول أو فعل أو تقرير، سواء كان متصلًا أو منقطعًا، بسقوط الصحابي منه أو غيره؛ فالمتصل قد يكون مرفوعًا وغير مرفوعا، والمرفوع قد يكون متصلًا وغير متصل والمسند متصل مرفوع. الرابع المعنعن: وهو ما يقال في سنده: فلان عن فلان، قيل إنه مرسل حتى يتبين اتصاله، والجمهور على أنه متصل إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضًا، مع براءة المعنعن من التدليس وإلا فليس بمتصل. وقد كثر المعنعن في الصحيحين؛ وكثير من طرقة صرح فيها بالتحديث والسماع في المستخرجات عليهما، وإن كان لا يرتاب في صحته فيهما وبراءة معنعنه من التدليس لدقة شرطهما وكثر أيضًا استعمال: "عن" في الإجازة فإذا قال أحدهم: "قرأت على فلان عن فلان" فمراده أنه رواه عنه فلا تخرج عن الاتصال. الخامس المؤنن: وهو ما يقال في مسنده: "حدثنا فلان أن فلانا" وهو كالمعنعن. قيل إنه منقطع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى؛ والجمهور على أنه كالمعنعن في الاتصال بالشرط المتقدم.

السادس المعلق: وهو ما حذف من مبدأ إسناده واحد فأكثر على التوالي ويعزي الحديث إلى من فوق المحذوف من رواته؛ مأخوذ من تعليق الجدار والطلاق لاشتراكهما في قطع الاتصال وهو في البخاري كثير جدًّا. قال النووي: "فما كان منه بصيغة الجزم كقال، وفعل، وأمر وروى، وذكر معروفًا، فهو حكم بصحته عن المضاف إليه؛ وما ليس فيه جزم كيُروى، ويُذكر، ويُحكى، ويقال، وحُكي عن فلان، ورُوي، وذكر مجهولًا فليس فيه حكم بصحته عن المضاف إليه ومع ذلك فإيراده في كتاب الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارًا يونس به ويركن إليه وعلى المدقق إذا رام الاستدلال به أن ينظر في رجاله وحال سنده ليرى صلاحيته للحجة وعدمها. السابع المدرج: وهو أقسام: أخدها مدرج في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يذكر الراوي عقيبه كلامًا لنفسه أو لغيره، فيرويه من بعده متصلًا بالحديث من غير فصل، فيتوهم أنه من الحديث؛ الثاني: أن يكون عنده متنان بإسنادين فيرويهما بأحدهما؛ الثالث: أن يسمع حديثًا من جماعة مختلفين في إسناده أو متنه فيرويه عنهم باتفاق ولا يبين ما اختلف فيه قالوا تعمد كل واحد من الثلاثة حرام، وصاحبه ممن يحرف الكلم عن مواضعه، وهو ملحن بالكذابين نعم ما أدرج لتفسير غريب لا يمنع ولذلك فعله الزهري وغير واحد من الأئمة. الثامن المشهور: وهو ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين سُمي بذلك لوضوحه ويطلق على ما اشتهر على الألسنة، فيشمل ما له إسناد واحد فصاعدًا بل ما لا يوجد له إسناد أصلا. "كذا في النخبة"1. وما اشتهر على الألسنة، أعم عن اشتهاره عند المحدثين خاصة أو عندهم أو عند العامة مما لا أصل له. التاسع المستفيض: هو المشهور، على رأي جماعة من أئمة الفقهاء، سُمي بذلك لانتشاره، من فاض الماء يفيض فيضا؛ ومنهم من غاير بين المستفيض والمشهور بأن المستفيض

_ 1 ص5.

يكون في ابتدائه وانتهائه سواء، والمشهور أعم من ذلك ومنهم من غاير على كيفية أخرى، وليس من مباحث هذا الفن "كذا في شرح النخبة"1. العاشر الغريب: هو ما رواه راو منفردًا بروايته، فلم يروه غيره أو انفرد بزيادة في متنه، أو إسناده، سواء انفرد به مطلقًا، أو بقيد كونه عن إمام شأنه أن يجمع حديثه لجلالته وثقته وعدالته، كالزهري وقتادة وإنما سُمي غريبًا لانفراد راويه عن غيره كالغريب الذي شأنه الانفراد عن وطنه، والغالب أنه غير صحيح ومن ثم كره جمع من الأئمة تتبعها قال مالك: "شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس". وقال الإمام أحمد: "لا تكتبوا هذه الغرائب، فإنها مناكير وغالبها عن الضعفاء". ا. هـ. وينقسم الغريب إلى غريب متنا وإسنادا كما لو انفرد بمتنه واحد، وإلى غريب إسنادًا لا متنًا كحديث معروف روى متنه جماعة من الصحابة انفرد واحد بروايته عن صحابي آخر؛ فيه يقول الترمذي: غريب من هذا الوجه ولا يوجد ما هو غريب متنًا، وليس غريبًا إسنادًا إلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن انفرد به فرواه عنه عدد كثير فإنه يصير غريبًا مشهورًا، وغريبًا متنًا لا إسنادًا لكن بالنظر إلى أحد طرفي الإسناد فإن إسناده غريب في طرفه الأول مشهور في طرفه الآخر كحديث: "إنما الأعمال بالنيات" فإن الشهرة إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد الآخذ عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة ابن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب رفعه، ولا يدخل في الغريب إفراد البلدان كقولهم: "تفرد به أهل مكة أو الشام أو البصرة" إلا أن يراد بتفرد أهل مكة انفراد واحد منهم تجوزًا فيكون حينئذ غريبًا. الحادي عشر، العزيز: وهو ما انفرد عن راويه اثنان أو ثلاثة ولو رواه بعد ذلك عن هذين الاثنين أو الثلاثة مائة فقد يكون الحديث عزيزًا مشهورًا وينفرد عن الغريب

_ 1 ص5.

بكونه لا يرويه أقل من اثنين عن اثنين، بخلاف الغريب سمي عزيزًا لقلة وجوده أو لكونه قوي بمجيئه من طريق أخرى. الثاني عشر، المصحف: وهو الذي وقع فيه تصحيف، ويكون في الإسناد والمتن فمن الأول: العوام بن مراجم -بالراء والجيم- صحفه بعض الثقات فقال مزاحم -بالزاي والحاء- ومن الثاني حديث1: "احتجر النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد" أي اتخذ حجرة صحفه بعضهم: "احتجم"؛ وهذان القسمان من تصحيف اللفظ، وقد يكون في المعنى كقول محمد بن المثنى العنزي: "نحن قوم لنا شرف نحن من عنزة صلى إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فتوهم أنه صلى إلى قبلتهم وإنما العنزة هنا: "الحرية" تنصب بين يديه -صلى الله عليه وسلم. فائدة: التصحيف لغة: الخطأ في الصحيفة، باشتباه الحروف، مولدة، وقد تصحف عليه لفظ كذا، والصحفي محركة من يخطئ في قراءة الصحيفة؛ وقول العامة: "الصُّحُفي" بضمتين، لحن: الثالث عشر، المنقلب: وهو الذي ينقلب بعض لفظه على الراوي، فيتغير معناه، كحديث البخاري في باب: "إن رحمه الله قريب من المحسنين" عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه اختصمت الجنة والنار إلى ربهما ... " الحديث، وفيه أنه: "ينشئ للنار خلقا". صوابه كما رواه في موضع آخر من طريق عبد الرزاق، عن همام عن أبي هريرة بلفظ: "فأما الجنة فينشئ الله لها خلقا.." فسبق لفظ الراوي من الجنة إلى النار وصار منقلبًا، ولذا جزم ابن القيم بأنه غلط ومال إليه البلقيني حيث أنكر هذه الرواية واحتج بقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} 2. الرابع عشر، المسلسل: وهو ما يتابع رجال إسناده على حالة واحدة إما في الراوي قولًا نحو: "سمعت فلانا يقول سمعت فلانا. إلى المنتهى" أو: "أخبرنا فلان والله،

_ 1 لم أجده. 2 سورة الكهف، الآية: 50.

قال أخبرنا فلان والله ... " أو فعلًا كحديث التشبيك باليد1 أو قولًا وفعلًا كحديث2: "لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره" وقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على لحيته، وقال: "آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره" وكذا كل راو من رواته قبض وقال ... وإما على صفة واحدة كاتفاق أسماء الرواة كالمحمديين أو صفاتهم كالفقهاء أو نسبتهم كالدمشقيين، وقد جمع الحفاظ في ذلك مؤلفات مشهورة، وأفضل المسلسلات ما دل على الاتصال في السماع، وعدم التدليس ومن فوائده استماله على زيادة الضبط من الرواة ولكن قلما يسلم عن خلل في التسلسل، وقد ينقطع تسلسله في وسطه أو أوله أو آخره كحديث الرحمة المسلسل بالأولية فإنه انتهى فيه التسلسل إلى عمرو بن دينار. الخامس عشر، العالي: وهو ما قربت رجال سنده من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبب قلة عددها بالنسبة إلى سند آخر يرد بذلك الحديث بعينه بعدد كثير أو بالنسبة لمطلق الأسانيد، وأجله ما كان بإسناد صحيح ولا التفات إلى العلو مع ضعفه وإن وقع في بعض المعاجم، ومن العلو القرب من إمام من أئمة الحديث كما لك، وإن كثر بعده العدد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنه القرب إلى الصحيحين وأصحاب السنن والمسانيد والأول العلو الحقيقي وما بعده العلو النسبي. قال الحافظ في شرح النخبة3: "وفي العلو النسبي الموافقة وهي الوصول إلى شيخ أحد المصنفين من غير طريقة كأن يروي البخاري عن قتيبة عن مالك حديثًا، فإذا رُوي من طريق البخاري كان العدد إلى قتيبة ثمانية، وإذا رُوي من غير طريقه كان العدد إليه سبعة، فالراوي من الثاني وافق البخاري في شيخه مع علو الإسناد على الإسناد إليه. وفي

_ 1 التشبيك باليد: إدخال بعضها في بعض وقد مثلوا له بقول أبي هريرة: شبك بيدي أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم- وقال: "خلق الله التربة يوم السبت ... " الحديث؛ فإنه مسلسل بتشبيك كل منهم بيد من رواه عنه. أما الحديث فقد أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وأوله: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي وقال. 2 أحاديث القدر في الصحيحين وفي السنن وفي مسند الإمام أحمد وغيره. 3 ص31.

العلو النسبي البدل، وهو الوصول إلى شيخ شيخه كذلك وفيه أيضًا المساواة، وهي استواء عدد الإسناد من الراوي إلى آخره مع إسناد أحد المصنفين وفيه المصافحة وهي الاستواء مع تلميذ ذلك المصنف". السادس عشر، النازل: وهو ما قابل العالي بأقسامه السابقة، والإسناد النازل مفضول إلا إن تميز بفائدة كزيادة الثقة في رجاله على العالي أو كونهم أحفظ أو أفقه، ونحو ذلك قال ابن المبارك: "ليس جودة الحديث قرب الإسناد بل جودته صحة الرجال". السابع عشر، الفرد: وهو نوعان: فرد مطلق، وفرد نسبي. ولكل أقسام. فإما الفرد المطلق فهو ما تفرد به راو واحد عن جميع الرواة، ثقات وغيرهم. وله أربعة أحوال: حال يكون مخالفًا لرواية من هو أحفظ منه فهذا ضعيف، ويسمى شاذا ومنكرًا كما سيأتي. وحال لا يكون مخالفًا ويكون هذا الراوي حافظًا ضابطًا متقنًا فيكون صحيحًا وحال يكون قاصرًا عن هذا، ولكنه قريب من درجته فيكون حديثه حسنًا، وحال يكون بعيدًا عن حاله فيكون شاذا منكرًا مردودًا فتحصل أن الفرد المذكور قسمان: مقبول، ومردود. والمقبول ضربان: فرد لا يخالف، وراويه كامل الأهلية، وفرد هو قريب منه، والمردود أيضًا ضربان: فرد مخالف للأحفظ، وفرد ليس في راويه من الحفظ والإتقان ما يجبر تفرده. القسم الثاني، الفرد النسبي: وهو ما كان بالنسبة إلى صفة خاصة. وهو أنواع: ما قيد بثقة كقولهم: لم يروه ثقة إلا فلان انفرد به عن فلان. أو قيد ببلد معين كمكة والبصرة ومصر، كقولهم: لم يرو هذا الحديث غير أهل البصرة، ونحو تفرد به أهل مصر لم يشركهم أحد، ولا يقتضي شيء من ذلك ضعفه إلا أن يراد تفرد واحد من أهل هذه البلاد فيكون من الفرد المطلق أو قيد براو مخصوص كقولهم لم يروه عن بكر إلا وائل ولم يروه عن وائل غير فلان فيكون غريبًا. الثامن عشر المتابع "بكسر الباء": وهو ما وافق روايه راو آخر، ممن يصلح أن يخرج حديثه، فرواه عن شيخه أو من فوقه قال الحافظ في النخبة وشرحها1: "والفرد

_ 1 ص14.

النسبي إن وافقه غيره، فهو المتابع. والمتابعة على مراتب، إن حصلت للراوي نفسه فهي تامة، أو لشيخه فمن فوقه فهي القاصرة، ويستفاد منها التقوية ولو جاءت بالمعنى كفى لكنها مختصة من كونها من رواية ذلك الصحابي". التاسع عشر، الشاهد: وهو ما وافق راو راويه عن صحابي آخر. قال الحافظ في النخبة وشرحها1: "وإن وجد متن يروي من حديث صحابي آخر يشبه في اللفظ والمعنى، أو في المعنى فقط فهو الشاهد. وخص قوم المتابعة بما حصل باللفظ سواء كان من رواية ذلك الصحابي أم لا والشاهد بما حصل بالمعنى كذلك وقد تطلق المتابعة على الشاهد وبالعكس". ا. هـ. تنبيه: في التقريب وشرحه2: "أن الاعتبار والمتابعات والشواهد أمور يتداولها أهل الحديث، يتعرفون بها حال الحديث. ينظرون: هل تفرد راويه أو لا؟ وهل هو معروف أو لا فالاعتبار أن يأتي إلى حديث لبعض الرواة فيعتبره بروايات غيره من الرواة بسبر طرق الحديث ليعرف هل شارحه في ذلك الحديث، راو غيره فرواه عن شيخه أو لا فإن لم يكن فينظر هل تابع أحد شيخ شيخه فرواه عمن روى عنه، وهكذا إلى آخر الإسناد وذلك المتابعة فإن لم يكن فينظر هل أتى بمعناه حديث آخر وهو الشاهد فإن لم يكن فالحديث فرد فليس الاعتبار قسيمًا للمتابع والشاهد بل هو هيأة التوصل إليهما". ا. هـ. وقال الحافظ في النخبة وشرحها3: "واعلم أن تتبع الطرق من الجوامع والمسانيد والأجزاء لذلك الحديث الذي يظن أنه فرد، ليعلم هل له متابع أم لا، هو الاعتبار".

_ 1 ص14. 2 ص85. 3 ص15.

ذكر أنواع تختص بالضعيف

38- ذكر أنواع تختص بالضعيف: النوع الأول الموقوف: وهو المروي عن الصحابة قولًا لهم أو فعلًا أو تقريرًا، متصلًا إسناده إليهم أو منقطعًا؛ ويستعمل في غيرهم مقيدًا؛ فيقال: وقفه فلان على الزهري ونحوه، وسبق أول الكتاب أن فقهاء خراسان يسمون الموقوف أثرًا والمرفوع خبرًا. قال النووي: "وعند المحدثين، كل هذا يسميى أثرًا؛ أي لأنه مأخوذ من أثرت الحديث أي رويته" والموقوف ليس بحجة على الأصح. الثاني، المقطوع: وهو ما جاء عن التابعين، أو من دونهم من أقوالهم، وأفعالهم موقوفًا عليهم وليس بحجة أيضًا. فائدتان: الأولى: قال الزركشي في"النكت": "إدخال المقطوع في أنواع الحديث فيه تسامح كبير، فإن أقوال التابعين، ومذاهبهم لا دخل لها في الحديث فكيف تعد نوعا منة قال: نعم يجيء هنا ما في الموقوف من أنه إذا كان ذلك لا مجال للاجتهاد فيهن يكون في حكم المرفوع، وبه صرح ابن العربي وادعى أنه مذهب مالك". الثانية: من مظان الموقوف والمقطوع، مصنف ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق وتفاسير، ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وغيرهم. الثالث، المنقطع: وهو ما لم يتصل إسناده، سواء سقط منه صحابي أو غيره. وبعبارة أخرى سواء ترك ذكر الراوي من أول الإسناد أو وسطه أو آخره، إلا أن الغالب استعماله في رواية من دون التابعي عن الصحابة كمالك عن ابن عمر. الرابع المعضل: "بفتح الضاد" وهو ما سقط من إسناده اثنان فأكثر بشرط التوالي كقول مالك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقول الشافعي قال ابن عمر. الخامس، الشاذ: قال الشافعي: "الشاذ ما رواه المقبول مخالفًا لرواية من هو أولى

منه، لا أن يروي ما لا يروي غيره، فمطلق التفرد لا يجعل المروي شاذا كما قيل، بل مع المخالفة المذكورة". السادس، المنكر: وهو الحديث الفرد الذي لا يعرف متنه عن غير راويه وكان راويه، بعيدًا عن درجة الضابط. تنبيه: اعلم أن الشاذ والمنكر يجتمعان في اشتراط المخالفة لما يرويه الناس ويفترقان في أن الشاذ رواية ثقة أو صدوق والمنكر رواية ضعيف وقد غفل من سوى بينهما. السابع، المتروك: وهو ما يرويه متهم بالكذب، ولا يعرف إلا من جهته ويكون مخالفًا للقواعد المعلومة أو معروفًا بالكذب في غير الحديث النبوي أو كثير الغلط أو الفسق أو الغفلة. الثامن، المعلل: ويقال المعلول، وهو ما ظاهره السلامة، اطلع فيه بعد التفتيش على قادح؛ وتدرك العلة بعد جمع الطرق والفحص عنها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، ممن هو أحفظ أو أضبط أو أكثر عددًا مع قرائن تضم إلى ذلك يهتدي الناقد إليها إلى اطلاعه على تصويب إرسال في الموصول، أو تصويب وقف في المرفوع أو دخل حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك كإبدال راو ضعيف بثقة بحيث غلب على ظنه ما وقف عليه من ذلك فحكم به أو تردد في ذلك فوقف عن الحكم بصحة الحديث مع أن ظاهره السلامة من العلة، وأكثر ما تكون العلة في السند، وقد تكون في المتن، ثم التي في السند قد تقدح في صحة المتن وقد لا تقدح، وكما تكون خفية تكون ظاهرة فقد كثر إعلال الموصول بالإرسال، والمرفوع بالوقف إذا قوي الإرسال أو الوقف بكون راويهما أضبط أو أكثر عددًا على الاتصال أو الرفع وقد يعلون الحديث بأنواع الجرح من الكذب والغفلة وفسق الراوي وسوء الحفظ بل أطلق الخليل1 اسم العلة على غير القادح توسعًا، كالحديث الذي وصله الثقة وأرسله غيره.

_ 1 ذكر في إحدى النسختين بلفظ "الخليل" وفي الثانية بلفظ "الخليلي" وكلاهما صحيح؛ لأنه هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن القزويني الخليلي أبو يعلى.

التاسع المضطرب: "بكسر الراء". وهو الذي يروى على أوجه مختلفة متقاربة، والاختلاف إما من راو واحد، بأن رواه مرة على وجه، ومرة على وجه آخر مخالف له أو أزيد من واحد بأن رواه كل من جماعة على وجه مخالف للآخر. والاضطراب يوجب ضعف الحديث لإشعار بعدم الضبط من رواته الذي هو شرط في الصحة، والحسن. ويقع الاضطراب في الإسناد وفي المتن وفي كليهما معًا ثم إن رجحت إحدى الروايتين أو الروايات يحفط راويها أو كثرة صحبته المروي عنه، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات الآتية فالحكم للراجحة، ولا يكون الحديث مضطربًا. تنبيه: قد يجامع الاضطراب الصحة، وذلك بأن يقع الاختلاف في اسم رجل واحد وأبيه ونسبته ونحو ذلك ويكون ثقة، فيحكم للحديث بالصحة ولا يضر الاختلاف فيما ذكر مع تسميته مضطربًا، وفي الصحيحين أحاديث كثيرة بهذه المثابة قال الزركشي: "قد يدخل القلب والشذوذ والاضطراب في قسم الصحيح والحسن". العاشر: المقلوب: وهو ما بدل فيه راو بآخر في طبقته، أو أُخذ إسناد متنه فرُكب على متن آخر. ويقال له المركب. والقصد فيه إما الإعراب، فيكون كالوضع أو اختبار حفظ المحدث، كما قلب أهل بغداد على البخاري لما جاءهم مائة حديث امتحانًا فردها على وجوهها فأذعنوا بفضله وقد يقع القلب غلطًا لا قصدًا كما يقع الوضع كذلك. الحادي عشر، المدلس: "بفتح اللام" وهو ما سقط من إسناده راو لم يسمه من حدث عنه، موهمًا سماعه للحديث ممن لم يحدثه بشرط معاصرته له فإن لم يكن عاصره فليست الرواية عنه تدليسًا على المشهور، ومن التدليس أن يسقط الراوي شيخ شيخه أو أعلى منه لكونه ضعيفًا، وشيخه ثقة أو صغيرًا تحسينًا للحديث، ومنه أن يسمى شيخه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف ثم إن كان الحامل للراوي على التدليس تغطية الضعيف فجرح لأن ذلك حرام وغش وإلا فلا، وما كان في الصحيحين وشبههما عن المدلسين: "بعن" فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى وإيثار صاحب الصحيح طريق العنعنة لكونها على شرطه دون تلك والله أعلم.

الثاني عشر، المرسل: وهو ما سقط منه الصحابي؛ كقول نافع قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا أو فعل كذا. أو فُعِلَ بحضرته كذا ونحو ذلك هذا هو المشهور. وقد يطلق المرسل على المقطع والمعضل السالف ذكرهما، كما يقع ذلك في كثير من السنن والصحيح أيضًا "كما في فتح المغيث". وهو رأي الفقهاء والأصوليين. ومما يشهد للتعميم، قول ابن القطان: "إن الإرسال رواية الرجل عمن لم يسمع منه". تنبيه: عدنا للمرسل في أنواع الضعيف، موافقة للأكثرين ولا بأس بالإشارة إلى المذاهب فيه، مع بسطٍ ما فإنه موقف مهم فنقول: للأئمة مذاهب في المرسل، مرجعها إلى ثلاثة: الأول: أنه ضعيف مطلقًا الثاني: حجة مطلقًا الثالث التفصيل فيه. فأما المذهب الأول: فهو المشهور. قال النووي رحمه الله في التقريب1: "ثم المرسل حديث ضعيف عند جماهير المحدثين وكثير من الفقهاء، وأصحاب الأصول". وقال رحمه الله في شرح المهذب بعد هذا: "وحكاه الحاكم أبو عبد الله عن سعيد بن المسيب وجماعة أهل الحديث" وقال مسلم في مقدمة صحيحه: "والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة ". ا. هـ. قال النووي: "ودليلنا في رد العمل به، أنه إذا كانت رواية المجهول المسمى لا تقبل لجهالة حاله، فرواية المرسل أولى لأن المروي عنه محذوف مجهول العين والحال. قال الحافظ في شرح النخبة2: "وإنما ذكر -يعني المرسل- في قسم المردود للجهل بحال المحذوف؛ لأنه يحتمل أن يكون صحابيًّا، ويحتمل أن يكون تابعيًّا وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفًا، ويحتمل أن يكون ثقة، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حمل عن صحابي ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق، ويتعدد أما بالتجويز العقلي فإلى ما لا نهاية له، وأما بالاستقراء فإلى ستة أو سبعة وهو أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض". ا. هـ.

_ 1 ص66. 2 ص17.

وأما المذهب الثاني وهو من قال: "المرسل حجة مطلقًا" فقد نقل عن مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في رواية حكاها النووي، وابن القيم، وابن كثير وغيرهم وحكاه النووي أيضا في شرح المهذب عن كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم. قال: "ونقله الغزالي عن الجماهير" قال القرافي في شرح التنقيح1: "حجة الجواز أن سكوته عنه مع عدالة الساكت، وعلمه أن روايته يترتب عليها شرع عام فيقتضي ذلك أنه ما سكت عنه إلا وقد جزم بعدالته فسكوته كإخباره بعدالته، وهو لو زكاه عندنا قبلنا تزكيته، وقبلنا روايته فكذلك سكوته عنه حتى قال بعضهم إن المرسل أقوى من المسند بهذا الطريق لأن المرسل قد تذمم الراوي وأخذه في ذمته عند الله تعالى، وذلك يقتضي وثوقه بعدالته، وأما إذا أسند فقد فوض أمره للسامع ينظر فيه، ولم يتذممه فهذه الحالة أضعف من الإرسال". ا. هـ. وفي التدريب2 عن ابن جرير قال: "أجمع التابعون بأسرهم على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين، قال ابن عبد البر: كأنه يعني أن الشافعي أول من رده". ا. هـ. وقال السخاوي في فتح المغيث: "قال أبو داود في رسالته: وأما المراسيل فقد كان أكثر العلماء يحتجون بها فيما مضى مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي حتى جاء الشافعي رحمه الله فتكلم في ذلك وتابعه عليه أحمد وغيره". ا. هـ. ثم اختلفوا هل هو أعلى منه المسند أو دونه أو مثله وتظهر فائدة الخلاف عند التعارض والذي ذهب إليه أحمد وأكثر المالكية والمحققون من الحنفية كالطحاوي وأبي بكر الرازي تقديم المسند قال ابن عبد البر: "وشبهوا ذلك بالشهود يكون بعضهم أفضل حالًا من بعض وأقعد وأتم معرفة وإن كان الكل عدولًا جائزي الشهادة". ا. هـ. والقائلون بأنه أعلى وأرجح من المسند، وجهوه بأن من أسند فقد أحالك على إسناده، والنظر في أحوال رواته والبحث عنهم، ومن أرسل مع علمه ودينه وإمامته وثقته،

_ 1 ص164، القاهرة، المطبعة الخيرية، 1306هـ. 2 ص67.

فقد قطع لك بصحته، وكفاك النظر فيه كما قدمنا عن القرافي. ومحل الخلاف فيما قيل، إذا لم ينضم إلى الإرسال ضعف في بعض رواته، وإلا فهو حينئذ أسوأ حالًا من مسند ضعيف جزمًا ولذا قيل: إنهم اتفقوا على اشتراط ثقة المرسل، وكونه لا يرسل إلا عن الثقات، قاله ابن عبد البر، وكذا أبو الوليد الباجي من المالكية وأبو بكر الرازي من الحنفية. "وأما الثاني"1 فلا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير متحرز بل يرسل عن غير الثقات أيضًا وعبارة الأول: "فقال لم تزل الأئمة يحتجون بالمرسل إذا تقارب عصر المرسل، والمرسل عنه، ولم يعرف المرسل بالرواية عن الضعفاء، وممن اعتبر ذلك من مخالفيهم الشافعي فجعله شرطًا في المرسل المعتضد، ولكن توفق شيخنا في صحة نقل الاتفاق من الطرفين قبولًا وردًّا، قال لكن ذلك فيهما عن جمهور مشهور". ا. هـ. وفي كلام الطحاوي ما يومئ إلى احتياج المرسل، ونحوه إلى الاحتفاف بقرينة وذلك أنه قال -في حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنه سئل: "كان عبد الله مع النبي ليلة الجن قال: لا" ما نصه فإن قيل هذا منقطع لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا يقال: نحن لم نحتج به من هذه الجهة إنما احتججنا به. لأن مثل أبي عبيدة على تقدمه في العلم وموضعه من عبد الله، وخلطته بخاصته من بعده لا يخفى عليه مثل هذا من أموره، فجعلنا قوله حجة لهذا لا من الطريق التي وصفت ونحوه قول الشافعي رحمه الله في حديث لطاوس عن معاذ: "طاوي لم يلق معاذًا لكنه علام بأمر معاذ، وإن لم يلقه لكثرة من لقيه ممن أخذ عن معاذ وهذا لا أعلم من أحد فيه خلافا". وتبعه البيهقي وغيره ومن الحجج لهذا القول أن احتمال الضعف في الواسطة حيث كان تابعيا لا سيما بالكذب بعيدا جدًّا فإنه أثنى على عصر التابعين، وشهد له بعد الصحابة بالخيرية ثم للقرنين كما تقدم بحيث استدل بذلك على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل فإرسال التابعي،

_ 1 في هذا الموضع شيء من الغموض، ولعل سببه نقص أو تحريف. على أن السيوطي في التدريب ص67 والشوكاني في إرشاد الفحول ص61 يعزون هذا القول "الثاني" إلى ابن عبد البر.

بل ومن اشتمل عليه باقي القرون الثلاثة الحديث بالجزم من غير وثوق بمن قاله، مناف لها؛ هذا مع كون المرسل عنه ممن اشترك معهم في هذا الفضل. وأوسع من هذا قول عمر -رضي الله عنه: "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد. أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينًا في ولاء أو قرابة" قالوا فاكتفى -رضي الله عنه- بظاهر الإسلام في القبول إلا أن يعلم منه خلاف العدالة، ولو لم يكن الواسطة من هذا القبيل لما أرسل عنه التابعين، والأصل قبول خبره حتى يثبت عنه ما يقتضي الرد وكذا ألزم بعضهم المانعين بأن مقتضى الحكم لتعاليق البخاري المجزومة بالصحة إلى من علق عنه أن من يجزم من أئمة التابعين عن النبي بحديث يستلزم صحته من باب أولى لا سيما وقد قيل إن المرسل لو لم يحتج بالمحذوف لما حذفه فكأنه عدله. ويمكن إلزامهم لهم أيضًا بأن مقتضى تصحيحهم في قول التابعي، من السنة وقفه على الصحابي حمل قول التابعي: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم" على أن المحدث له بذلك صحابي، تحسينا للظن به في حجج يطول إيرادها لاستلزامه التعرض للرد مع كون جامع التحصيل في هذه المسألة للعلائي متكفلًا بذلك كله وكذا صنف فيها ابن عبد الهادي جزءًا.

ذكر مناقشة الفريق الأول لما ذكره أهل المذهب الثاني

39- ذكر مناقشة الفريق الأول لما ذكره أهل المذهب الثاني: قال السخاوي في فتح المغيث بعد حكايته عن الحاكم أنه روى عن سعيد بن المسيب عدم قبول المرسل ما نصه: "وبسعيد يرد على ابن جرير الطبري من المتقدمين، وابن الحاجب من المتأخرين، ادعاؤهما إجماع التابعين على قبوله؛ إذ هو من كبارهم، مع أنه لم يتفرد من بينهم بذلك بل قال به منهم ابن سيرين والزهري، وغايته أنهم غير متفقين على مذهب واحد، كاختلاف من بعدهم ثم إن ما أشعر به كلام أبي داود في كون الشافعي أول من ترك الاحتجاج به ليس على ظاهره، بل هو قول ابن مهدين ويحيى القطان وغير واحد ممن قبل الشافعي، ويمكن أن يكون اختصاص الشافعي لمزيد التحقيق فيه" ثم قال السخاوي: "وما أوردته من حجج الأولين مردود أما الحديث فمحمول على الغالب

والأكثرية، وإلا فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين، من وجدت فيه الصفات المذمومة، لكن بقلة، بخلاف من بعد القرون الثلاثة فإن ذلك كثر فيهم واشتهر. وقد روى الشافعي عن عمه، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، قال: إني لأسمع الحديث استحسنه، فما يمنعنى من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به. وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدث به عمن أثق به، أو اسمعه من الرجل أثق به، قد حدث عمن لا أثق به. وهذا كما قال ابن عبد البر، يدل على أن ذلك الزمان، أي زمان الصحابة والتابعين كان يحدث فيه الثقة وغيره ونحوه ما أخرجه العقيلي من حديث ابن عون قال ذكر أيوب السختياني لمحمد بن سيرين حديثا عن أبي قلابة فقال أبو قلابة رجل صالح، ولكن عمن ذكره أبو قلابة، ومن حديث عمران بن حدير أن رجلا حدثه عن سليمان التيمي عن محمد بن سيرين أن من زار قبرًا أو صلى إليه فقد برئ الله منه قال عمران: "فقلت لمحمد عن أبي مجلز إن رجلا ذكر عنك كذا فقال أبو مجلز كنت أحسبك يا أبا بكر أشد اتقاء فإذا لقيت صاحبك. فأقرئه السلام وأخبره أنه كذب، قال ثم رأيت سليمان عند أبي مجلز فذكرت ذلك له فقال سبحان الله إنما حدثنيه مؤذن لنا، ولم أظنه يكذب فإن هذا والذي قبله فيهما رد أيضًا على من يزعم أن المراسيل لم تزل مقبولة معمولا بها، ومثل هذه حديث عاصم عن ابن سيرين قال: كانوا لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة بعد وأعلى من ذلك ما رويناه في الحلية من طريق ابن مهدي عن ابن لهيعة أنه سمع شيخًا من الخوارج، يقول: بعد ما تاب: "إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم إنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثا". ا. هـ. ولذا قال شيخنا إن هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل إذ بدعة الخوارج كانت في صدر الإسلام والصحابة متوافرون ثم في عصر التابعين، فمن بعدهم وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمرًا جعلوه حديثًا، وأشاعوه فربما سمع الرجل الشيء فحدث به، ولم يذكر من حدثه به تحسينًا للظن فيحمله عنه غيره ويجيء الذي يحتج بالمقاطيع فيحتج به مع كون أصله

ما ذكرت، فلا حول ولا قوة إلا بالله1. وأما الإلزام بتعاليق البخاري، فهو قد علم شرطه في الرجال وتقيده بالصحة بخلاف التابعين. وأما ما بعده فالتعديل المحقق في المبهم لا يكفي على المعتمد فكيف بالاسترسال إلى هذا الحد نعم قد قال ابن كثير: المبهم الذي لم يسم أو سُمي ولم تعرف عينه لا يقبل روايته أحد علمناه، ولكن إذا كان في عصر التابعين, والقرون المشهود لها بالخير فإنه يستأنس بروايته ويستضاء بها في مواطن وقد وقع في مسند أحمد وغيره من هذا القبيل كثير، وكذا يمكن الانفصال عن الأخير بأن الموقوف لا انحصار له فيما اتصل بخلاف المحتج به وبهذا وغيره مما لا نطيل بإيراده قويت الحجة في المرسل، وإدراجه في جملة الضعيف.

_ 1 الخوارج فرق متعددة، لا فرقة واحدة. فأما الذين كانوا منهم أعرابًا. وقد قرءوا القرآن، ولكنهم لم يتفقهوا في السنن الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يبعد أن يقع منهم مثل ذلك؛ وأما الذين تفقهوا في الدين، وكانوا من أئمة الرواية، وخرج لهم مثل الإمام البخاري في صحيحه -على سعة معرفته في الرجال: وانفراده بأدق الشروط، واشتراط العدالة والضبط في كل من يروي عنهم- فلا يعقل أن يكون في مثلهم هوى يجعلون ما يستحسنونه حديثًا. وكيف يعقل ذلك منهم، وقد عرف من مذهبهم أنهم يرون الكذب كفرًا؟ ولقد حبر شيخنا المصنف، رحمه الله ورضي عنه، المقالات الضافية، وحرر الرسائل المنوعة، وفي تعديل رواة السنة والسنن والمسانيد، الذين خرجوا لهم في كتبهم، أتقى لله منا، وأعرف بحال الرواة والمحدثين، ونعى على الخلف هجرهم لمذهب السلف، ونبزهم لمخالفيهم بالألقاب. {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} ومن أراد الوقوف على كلامه فيهم، فلينظر في كتبه نقد النصائح الكافية وميزان الجرح والتعديل وتاريخ الجهمية والمعتزلة ليتحقق ذلك وقد عقدت فصلا في كتابي "نقد عين الميزان" جعلته معيارًا على الجرح والتعديل. وذكرت فيه ما للخوارج وما عليهم.

ذكر المذهب الثالث في المرسل ممن اعتدل في شأنه وفصل فيه

40- ذكر المذهب الثالث في المرسل ممن اعتدل في شأنه وفصل فيه: ذهب كثير من الأئمة إلى الاحتجاج بالمرسل بملاحظات دققوا فيها منهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. قال النووي في مقدمة شرح المهذب: "قال الشافعي رحمه الله: وأحتج بمرسل كبار التابعين، إذا أُسند من جهة أخرى، أو أرسله من أخذ عن غير رجال الأول، أو وافق قول الصحابي، أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه". هذا نظر الشافعي في الرسالة وغيرها. وكذا نقل عنه الأئمة المحققون من أصحابنا الفقهاء والمحدثين كالبيهقي والخطيب البغدادي وآخرين؛ لا فرق في هذا عنده بين مرسل سعيد بن المسيب وغيره. هذا هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون. وقد قال الشافعي في مختصر المزني في آخر باب الربا: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع اللحم بالحيوان. وعن ابن عباس: أن جزورًا نحرت على عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فجاء رجل بعناق1، فقال أعطوني بهذه العناق! فقال أبو بكر -رضي الله عنه: لا يصلح هذا. قال الشافعي رحمه الله: "وكان القاسم بن محمد وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، يحرمون بيع اللحم بالحيوان" قال الشافعي: "وبهذا نأخذ ولا نعلم أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالف أبا بكر الصديق -رضي الله عنه" قال الشافعي: "وإرسال ابن المسيب عندنا حسن" هذا نص الشافعي في المختصر نقلته بحروفه لما يترتب عليه من الفوائد فإذا عرف هذا فقد اختلف أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي: "إرسال ابن المسيب عندنا حسن" على وجهين حكاهما الشيخ أبو إسحاق في كتابه اللمع، وحكاهما أيضًا الخطيب البغدادي في كتابه: "كتاب الفقيه، والمتفقه الكفاية" وحكاهما جماعات آخرون: أحدهما: معناه أنه حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل. قالوا لأنها فتشت فوجدت مسندة. والوجه الثاني: أنها ليست بحجة عنده بل هي كغيرها على ما ذكرناه. قالوا: وإنما رجح الشافعي رحمه الله بمرسله، والترجيح بالمرسل جائز. قال الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه: "والصواب الوجه الثاني؛ وأما الأول فليس

_ 1 العناق: الأنثى من ولد المعز قبل اسكمالها الحول "المصباح".

بشيء". وكذا قال في الكفاية: "الوجه الثاني هو الصحيح عندنا من الوجهين؛ لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندًا، بحال من وجه يصح". قال: "وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على غيرهم كما استحسن مرسل سعيد" هذا كلام الخطيب. وذكر الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله نص الشافعي كما قدمته. قال: "قال الشافعي: نقبل مراسيل كبار التابعين، إذا انضم إليها ما يؤكدها؛ فإن لم ينضم لم نقبلها، سواء كان مرسل ابن المسيب أو غيره". قال: "وقد ذكرنا مراسيل لابن المسيب لم يقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها، ومراسيل لغيره قال بها حين انضم إليها ما يؤكدها". قال: "وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره أنه أصح التابعين إرسالها فيما زعم الحفاظ". فهذا كلام البيهقي والخطيب، وهما إمامان حافظان فقيهان شافعيان، متضلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي، ومعاني كلامه؛ ومحلهما من التحقيق والإتقان، والنهاية في العرفان بالغاية القصوى، والدرجة العليا. وأما قول الإمام أبي بكر القفال المروزي رحمه الله في أول كتابه: "شرح التلخيص": "قال الشافعي في رهن الصغير: مرسل ابن المسيب عندنا حجة". فهو محمول على التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والمحققين والله أعلم. "قلت: ولا يصح تعلق من قال: إن مرسل سعيد حجة، بقوله: "إرساله حسن" لأن الشافعي رحمه الله لم يعتمد عليه وحده، بل اعتمده لما انضم إليه من قول أبي بكر الصديق ومن حضره وانتهى إليه قوله من الصحابة -رضي الله عنهم، مع ما انضم إليه من قول أئمة التابعين الأربعة والذين ذكرهم وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة وهو مذهب مالك وغيره. فهذا عاضد ثان للمرسل فلا يلزم من هذا الاحتجاج بمرسل ابن المسيب إذا لم يعضده فإن قيل ذكرتم أن المرسل إذا أسند من جهة أخرى احتج به. وهذا القول فيه تساهل لأنه إذا أسند عملنا بالمسند فلا فائدة حينئذ في المرسل، ولا عمل به والجواب أن بالمسند يتبين صحة المرسل وأنه مما يحتج به فيكون في المسألة حديثان

صحيحان، حتى لو عارضهما حديث صحيح من طريق واحد، وتعذر الجمع قدمناهما عليه، والله أعلم". انتهى كلام النووي. تتمة: أورد العلامة القرافي رحمه الله تعالى في التنقيح1 سؤالًا فقال: "الإرسال هو إسقاط صحابي من السند والصحابة كلهم عدول، فلا فرق بين ذكره والسكوت عنه؛ فكيف جرى الخلاف فيه؟ " وأجاب هو كما في نسخة من التنقيح: "بأنهم عدول إلا عند قيام المعارض وقد يكون المسكوت عنه منهم عرض في حقه ما يوجب القدح فيتوقف في قبول الحديث حتى تعلم سلامته عن القادح". ا. هـ. وبهذا علل أيضًا من رد المرسل، كما في شرح جمع الجوامع للمحلي، واعترضه الشهاب2: "بأن هذا يخالف ما مر من أنهم عدول لا يبحث عن حالهم" وأجاب ابن قاسم: "بأن هذا التوجيه مفرع على القول بأنهم كغيرهم يبحث عن عدالتهم". ا. هـ. والتحقيق: أن جريان الخلاف فيه وقوة ضعفه لما أسلفناه أولًا عن شرح النخبة فتأمله.

_ 1 ص164. 2 حاشية البناني على شرح جمع الجوامع للمحلي، ص150، ج2، القاهرة، المطبعة الأميرية، 1297هـ.

بيان أكثر من تروى عنهم المراسيل والموازنة بينهم

41- بيان أكثر من تُروى عنهم المراسيل والموازنة بينهم: قال الحاكم في علوم الحديث: "أكثر ما تروى المراسيل من أهل المدينة، عن ابن المسيب؛ ومن أهل مكة عن عطاء بن أبي رباح؛ ومن أهل البصرة عن الحسن البصري ومن أهل الكوفة عن إبراهيم بن يزيد النخعي، ومن أهل مصر عن سعيد بن أبي هلال، ومن أهل الشام عن مكحول" قال: "وأصحها كما قال ابن معين مراسيل ابن المسيب لأنه من أولاد الصحابة، وأدرك العشرة وفقيه أهل الحجاز ومفتيهم وأول الفقهاء السبعة الذين يعتد مالك بإجماعهم كإجماع كافة الناس. وقد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله فوجدوها بأسانيد صحيحة، وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره". قال: "والدليل على عدم الاحتجاج بالمرسل غير المسموع من الكتاب قوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} 1. ومن السنة: "تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم" 2. قال السيوطي: "تكلم الحاكم على مراسيل سعيد فقط، دون سائر من ذكر معه؛ ونحن نذكر ذلك: فمراسيل عطاء: قال ابن المديني: كان عطاء يأخذ عن كل ضرب؛ مرسلات مجاهد أحب إليَّ من مرسلاته بكثير وقال أحمد بن حنبل. مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات؛ ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها؛ وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن، وعطاء بن أبي رباح، فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. ومراسيل الحسن تقدم القول فيها عن أحمد. وقال ابن المديني: "مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح ما أقل ما يسقط منها! " وقال أبو زرعة: "كل شيء قال الحسن قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجدت له أصلًا ثابتًا ما خلا أربعة أحاديث". وقال يحيى بن سعيد القطان: "ما قال الحسن في حديثه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وجدنا له أصلًا إلا حديثًا، أو حديثين" قال شيخ الإسلام ابن حجر: "ولعله أراد ما جزم به الحسن" وقال غيره: "قال رجل للحسن يا أبا سعيد! إنك تحدثنا فتقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلو كنت تسنده لنا إلى من حدثك؟ " فقال الحسن: "أيها الرجل ما كَذَبْنَا ولا كُذِّبْنَا!! ولقد غزونا غزوة إلى خراسان ومعنا فيها ثلاثمائة من أصحاب محمد". وقال يونس بن عبيد: "سألت الحسن قلت: يا أبا سعيد إنك تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنك لم تدركه" فقال: "يابن أخي لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ولولا منزلتك مني

_ 1 سورة التوبة، الآية: 23. 2 ذكره الحافظ ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" ص177، عن ثابت بن قيس الأنصاري. قال: "ومثله عن ابن عباس".

ما أخبرتك: إني في زمان كما ترى -وكان في زمن الحجاج- كل شيء سمعتني أقوله: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو عن علي بن أبي طالب غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليا". وقال محمد بن سعيد: "كل ما أسند من حديثه، أو روي عمن سمع منه، فهو حسن حجة وما أرسل من الحديث فليس بحجة". مراسيل الحسن عندهم شبه الريح وأما مراسيل النخعي فقال ابن معين مراسيل إبراهيم أحب إليَّ من مراسيل الشعبي. وعنه أيضًا أعجب إليَّ من مرسلات سالم بن عبد الله، والقاسم وسعيد بن المسيب، وقال أحمد لا بأس بها. وقال الأعمش: "قلت لإبراهيم النخعي أسند لي عن ابن مسعود فقال إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت وإذا قلت قال عبد الله فهو عن غير واحد عن عبد الله". ا. هـ.

ذكر مرسل الصحابة

42- ذكر مرسل الصحابة: قال النووي: "ما تقدم من الخلاف في المرسل، كله في غير مرسل الصحابي؛ أما مرسل الصحابي كإخباره عن شيء فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- أو نحوه مما يعلم أنه لم يحضره، لصغر سنه، أو لتأخر إسلامه أو غير ذلك؛ فالمذهب الصحيح المشهور الذي قطع به جمهور أصحابنا وجماهير أهل العلم أنه حجة، وأطبق المحدثون المشترطون للصحيح القائلون بأن المرسل ليس بحجة على الاحتجاج به. وإدخاله في الصحيح وفي صحيحي البخاري، ومسلم من هذا ما لا يحصى، وقال أبو إسحاق الإسفراييني لا يحتج به بل حكمه حكم مرسل غيره إلا أن يتبين أنه لا يرسل إلا ما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- أو صحابي. قال: لأنهم قد يروون عن غير صحابي. قال النووي: "والصواب الأول وأنه يحتج به مطلقًا لأن روايتهم عن غير الصحابي، نادرة وإذا رووها بينوها فإذا أطلقوا ذلك فالظاهر أنه عن الصحابة، والصحابة كلهم عدول". ا. هـ. أي فلا تقدح فيهم الجهالة بأعيانهم، وأيضًا فما يروونه عن التابعين، غالبه بل عامته إنما هو من الإسرائيليات، وما أشبهها من الحكايات والموقوفات.

مراتب المرسل

43- مراتب المرسل: قال السخاوي في فتح المغيث: "المرسل مراتب، أعلاها ما أرسله صحابي ثبت سماعه، ثم صحابي له رؤية فقط ولم يثبت سماعه ثم المخضرم، ثم المتقن كسعيد بن المسيب، ويليها من كل يتحرى في شيوخه، كالشعبي ومجاهد، ودونها مراسيل من كان يأخذ عن كل أحد، كالحسن. وأما مراسيل صفار التابعين كقتادة، والزهري وحميد الطويل فإن غالب رواية هؤلاء عن التابعين.

بحث قول الصحابي: من السنة كذا، وقوله أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا

44- بحث قول الصحابي من السنة كذا وقوله أمرنا بكذا ونهينا عن كذا: اعلم أن قول الصحابي: "من السنة كذا، أو أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا" وما أشبهه، كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور؛ لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من له الأمر والنهي، ومن يجب اتباع سنته وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واحتمال أن يكون الآمر غيره، وأن يريد سنة غيره بعيد، وإن كنا لا ننكر أن إطلاق ذلك يصدق مع الواسطة، ولكن العادة أن من له رئيس معظم فقال: أمرنا بكذا فإنما يريد أمر رئيسه ولا يفهم عنه إلا ذلك ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو عظيم الصحابة، ومرجعهم والمشار إليه في أقوالهم، وأفعالهم فتصرف إطلاقاتهم إليه وما قيل: "إن الفاعل إذا حذف احتمل النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره فلا نثبت شرعًا بالشك" فجوابه أن ظاهر الحال صارف للنبي -صلى الله عليه وسلم- كما تقدم تقريره. وكذلك السنة، أصلها في اللغة: الطريقة، ومنه سنن الطريق الذي يمشى فيه، غير أنها في عُرف الاستعمال صارت موضوعة لطريقته عليه السلام في الشريعة. كذا قاله القرافي في التنقيح، ومما يؤيد أن ذلك في حكم الرفع في السنة ما رواه البخاري في صحيحة في حديث ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له: "إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة" قال ابن شهاب: "فقلت لسالم:

أفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ " فقال: وهل يعنون بذلك إلا سنته -صلى الله عليه وسلم!. فنقل سالم -وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة- أنهم إذا أطلقوا السنة لا يريدون بذلك إلا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم. ومما يؤيد الرفع في: "كنا نؤمر" ما رواه الشيخان عن أبي موسى في قصة استئذانه على عمر؛ ولفظ البخاري: "عن أبي موسى قال استأذنت على عمر؛ ثلاثا فلم يؤذن لي وكأنه كان مشغولا فرجعت ففرغ عمر فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ إيذنوا له! قيل: قد رجع فدعاني فقلت: "كنا نؤمر بذلك" فقال: "تأتيني على ذلك بالبينة؟ " فانطلقت إلى مجلس الأنصار، فسألتهم فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري، فذهبت بأبي سعيد الخدري فذهبت بأبي سعيد الخدري فقال عمر: "أخفي عليَّ هذا من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألهاني الصفق بالأسواق" -يعنى الخروج إلى التجارية- زاد مالك في الموطأ: "فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم" قال الشراح: "وحينئذ فلا دلالة في طلبه البينة على أنه لا يحتج بخبر الواحد بل أراد سد الباب خوفا من غير أبي موسى أن يختلق كذبا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الرغبة والرهبة" وقالوا في بالحديث: "إن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" له حكم الرفع". قال الحافظ في شرح النخبة: "وأما قول بعضهم: إن كان مرفوعًا، فلم لا يقولون فيه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فجوابه أنهم تركوا الجزم بذلك تورعًا واحتياطًا ومن هذا قول أبي قلابة عن أنس: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا". أخرجاه قال أبو قلابة: "لو شئت لقلت إن أنسًا رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم" أي لو قلت، لم أكذب لأن قوله: "من السنة" هذا معناه لكن إيراده بالصيغة التي ذكرها الصحابي أولى". ا. هـ. أقول قوله: "تورعًا واحتياطًا" هذا يظهر في بعض الوجوه ومنه ما ذكره،

وأحسن منه أن يقال: إن قولهم من السنة، أو كنا نؤمر، ونحوهما، هو من التفنن في تبليغ الهدي النبوي، لا سيما وقد يكون الحكم الذي قيل فيه أمرنا، أو من السنة، من سنن الأفعال لا الأقوال، وقد يقولون ذلك إيجازًا، أو لضيق المقام؛ وكثيرًا ما يجيب العالم عن المسائل التي يعلم حديثها المرفوع ويحفظه بحروفه بقوله: "من السنة كذا" لما ذكرنا من الوجوه ولغيرنا وهو ظاهر. تنبيه: ذكرنا أن السنة لغة: الطريقة؛ والمراد بها في اصطلاح الشارع وأهل عصره، ما دل عليه دليل من قوله -صلى الله عليه وسلم- أو فعله، أو تقريره؛ ولهذا جعلت السنة مقابلة للقرآن، وبهذا الاعتبار تطلق على الواجب، كما تطلق على المندوب وأما ما اصطلح عليه الفقهاء وأهل الأصول من أنها خلاف الواجب فهو اصطلاح حادث، وعرف متجدد.

الكلام على الخبر المتواتر وخبر الآحاد

45- الكلام على الخبر المتواتر وخبر الآحاد: اعلم: أن المتواتر ما نقله من يحصل العلم بصدقهم ضرورة، بأن يكونوا جمعًا لا يمكن تواطؤهم على الكذب على مثلهم، من أوله إلى آخره؛ ولذا كان مقيدًا للعلم الضروري وهو الذي يضطر إليه الإنسان بحيث لا يمكنه دفعه، ويجب العمل به من غير بحث عن رجاله، ولا يعتبر فيه عدد معين في الأصح. ثم المتواتر قسمان: لفظي وهو ما تواتر لفظه، ومعنوي وهو ما تواتر القدر المشترك فيه. وللأول أمثله كثيرة منها حديث: "من كذب عليَّ متعمدًا ... " رواه نحو المائتين وحديث الحوض، رواه خمسون ونيف وحديث المسح على الخفين رواه سبعون، وحديث رفع اليدين في الصلاة رواه نحو الخمسين وسوى ذلك مما ساقه في التدريب1. وللثاني أمثلة أيضًا فمنه أحاديث رفع اليدين في الدعاء فقد رُوي عنه -صلى الله عليه وسلم- نحو مائة حديث

_ 1 ص190، 191.

فيه رفع يديه في الدعاء، لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها، وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع. تنبيه: وقع في كلام النووي في شرح مسلم في المتواتر أنه لا يشترط في الخبرين به الإسلام، وكذا قال الأصوليون؛ ولا يخفى أن هذا اصطلاح للأصوليين؛ وإلا فاصطلاح المحدثين فيه، أن يرويه عدد من المسلمين؛ لأنهم اشترطوا فيمن يحتج برواية أن يكون عدلًا ضابطًا، بأن يكون مسلمًا بالغًا فلا تقبل رواية الكافر في باب الأخبار وإن بلغ في الكثرة ما بلغ، وعبارة جمع الجوامع مع شرحه: "ولا تقبل رواية كافر وإن عرف بالصدق لعلو منصب الرواية عن الكفار" نعم يقبل من الكافر ما تحمله في كفره إذا أسلم، كما سيأتي التطرق لها في الباب السادس في الإسناد في بحث توسع الحفاظ، في طبقات السماع وقد أفردت في مطولات المصطلح وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر سواء كان الراوي له واحدًا أو أكثر.

بيان أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل

46- بيان أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل: قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مقدمة مسلم1: "نبه مسلم رحمه الله تعالى على القاعدة العظيمة التي ينبني عليها معظم أحكام الشرع، وهو وجوب العمل بخبر الواحد فينبغي الاهتمام بها، والاعتناء بتحقيقها، وقد أطنب العلماء رحمهم الله في الاحتجاج لها وإيضاحها وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف، واعتنى بها أئمة المحدثين، وأول من بلغنا تصنيفه فيها الإمام الشافعي رحمه الله، وقد تقررت أدلتها النقلية، والعقلية في كتب أصول الفقه، ونذكر هنا طرفًا فنقول اختلف العلماء في حكمه فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول، أن خبر الواحد الثقة حدة من حجج الشرع يلزم العمل بها، ويفيد الظن ولا يفيد العلم؛ وأن وجوب

_ 1 ص63.

العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل. وذهبت القدرية والرافضة وبعض أهل الظاهر. إلى أنه لا يجب العمل به؛ ثم منهم من يقول: منع من العمل به دليل العقل؛ ومنهم من يقول: منع دليل الشرع. وذهبت طائفة إلى أنه يجب العمل به من جهة دليل العقل. وقال الجبائي من المعتزلة: "لا يجب العمل إلا بما رواه اثنان عن اثنين" وقال غيره: "لا يجب العمل إلا بما رواه أربعة عن أربعة". وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم، وقال بعضهم: "يوجب العلم الظاهر دون الباطن". وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري وصحيح مسلم تفيد العلم دون غيرها من الآحاد. وهذه الأقاويل كلها، سوى قول الجمهور، باطلة؛ وإبطال من قال: "لا حجة فيه" ظاهر. فلم تزل كتب النبي -صلى الله عليه وسلم- وآحاد رسله، يعمل بها، ويلزمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- العمل بذلك، واستمر على ذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم، ولم تزل الخلفاء الراشدون، وسائر الصحابة، فمن بعدهم من السلف والخلف، على امتثال خبر الواحد إذا أخبرهم بسنة، وقضائهم به، ورجوعهم إليه في القضاء والفتيا، ونقضهم به ما حكموا على خلافة، وطلبهم خبر الواحد عند عدم الحجة ممن هو عنده، واحتجاجهم بذلك على من خالفهم، وانقياد المخالف لذلك، وهذا كله معروف لا شك في شيء منه، والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد وقد جاء الشرع بوجوب العمل به فوجب المصير إليه وأما من قال: "يوجب العلم" فهو مكابر للحسن وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم والكذب، وغير ذلك متطرف إليه". ا. هـ. وفي حصول المأمول1: "قد دل على العمل بخبر الواحد، الكتاب والسنة والإجماع ولم يأت من خالف في العمل به بشيء يصلح للتمسك به. ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد، وجد ذلك في غاية الكثرة، بحيث لا يتسع له إلا مصنف بسيط2؛ وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال

_ 1 ص56. 2 البسيط: الواسع كما في الأساس وغيره.

فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحد من ريبة في الصحة، أو تهمة للراوي، أو وجود معارض راجح أو نحو ذلك". ا. هـ. وقد جود الكلام على قبول خبر الواحد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: في رسالته الشهيرة في باب على حدة، ويجدر بذي الهمة الوقوف على لطائفة وأوسع فيه أيضًا الحافظ ابن حجر في الفتح عند قول البخاري: "باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان، والصلاة والصوم، والفرائض، والأحكام" فليرجع إليه ومما نقله فيه أن بعض العلماء احتج لقبول خبر الواحد أن كل صاحب أو تابع سئل عن نازلة في الدين فأخبر السائل بما عنده فيها من الحكم أنه لم يشترط عليه أحد منهم أن لا يعمل بما أخبره به. من ذلك حتى يسأل غيره فضلًا عن أن يسأل الكواف بل كان كل منهم يخبره بما عنده، فيعلم بمقتضاه ولا ينكر عليه ذلك فدل على اتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد. وفيه أيضًا: قال ابن القيم في الرد على من رد خبر الواحد إذا كان زائدًا على القرآن ما ملخصه: "السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه أحدها: أن توافقه من كل وجه فيكون من توارد الأدلة، ثانيها: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن، ثالثها: أن تكون دالة على حكم سكت عنه القرآن. وهذا الثالث يكون حكما مبتدأ من النبي -صلى الله عليه وسلم- فتجب طاعته فيه ولو كان النبي لا يطاع إلا فيما وافق القرآن لم تكن له طاعة خاصة؛ وقد قال تعالى1 {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} وقد تناقض من قال إنه لا يقبل الحكم الزائد على القرآن، إلا إن كان متواترًا أو مشهورًا فقد قالوا بتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم ما يحرم من النسب بالرضاعة، وخيار الشرط والشفعة، والرهن في الحضر وميراث الجدة وتخيير الأمة إذا أعتقت، ومنع الحائض من الصوم والصلاة، ووجوب الكفارة على من جامع وهو صائم في رمضان ووجوب إحداد المعتدة عن الوفاة، وتجويز الوضوء بنبيذ التمر وإيجاب الوتر وأن أقل الصداق عشرة دراهم وتوريث بنت الابن السدس مع البنت واستبراء المسبية بحيضة، وأن أعيان بني الأم يتوارثون، ولا يقاد الوالد بالولد، وأخذ الجزية من المجوس، وقطع رجل السارق في الثانية، وترك الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال، والنهى عن بيع الكالئ وغيرها مما يطول شرحه، وهذه الأحاديث كلها آحاد، وبعضها ثابت وبعضها غير ثابت، ولكنهم قسموها إلى ثلاثة أقسام ولهم في ذلك تفاصيل يطول شرحها، ومحل بسطها أصول الفقه وبالله التوفيق". ا. هـ.

_ 1 سورة النساء آية: 79.

الكلام على الحديث الموضوع وفيه مباحث

48- الكلام على الحديث الموضوع وفيه مباحث: 1- ماهية الموضوع: "هو الكذب المختلق المصنوع" أي كذب الراوي في الحديث النبوي بأن يروي عنه ما لم يقله، متعمدًا لذلك. 2- حكم روايتة: اتفقوا على أنه تحرم روايته مع العلم بوضعه، سواء كان في الأحكام أو القصص والترغيب ونحوها، إلا مبينا وضعه؛ لحديث مسلم عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: $"من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين" ورواه الإمام أحمد وابن ماجه رُوي الكذابين على صيغة التثنية، والكاذبين بالجمع. 3- معرفة الوضع والحامل عليه: ذكر المحدثون أمورًا كليه، يعرف بها كون الحديث موضوعا؛ منها: اشتماله على مجازفات في الوعد والوعيد، ومنها: سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه، مثل ما يروى في وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنها مناقضته لما جاءت به السنة الصريحة،

ومنها أن يكون باطلا في نفسه، فيدل بطلانه على وضعه، ومنها: أن لا يشبه كلام الأنبياء، بل لا يشبه كلام الصحابة، ومنها أن يشتمل على تواريخ الأيام المستقبلة، ومنها: أن يكون بكلام الأطباء أشبه، ومنها أن تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه، ومنها: مخالفته لصريح القرآن، ومنها: أحاديث صلوات الأيام والليالي، ومنها اقترانه بقرائن يعلم بها أنه باطل. وقد استقصى المصنفون في الموضوعات إيراد الأمثلة المتوافرة لكل ما ذكر فليرجع إليها وسيأتي نوع تفصيل لها قريبًا. قال الحافظ في شرح النخبة1: "الحكم بالوضع إنما هو بطريق الظن الغالب" لا بالقطع؛ إذ قد يصدق الكذوب، لكن لأهل العلم بالحديث ملكة قوية يميزون بها ذلك، وإنما يقوم بذلك منهم من يكون اطلاعه تاما، وذهنه ثاقبًا وفهمه قويا، ومعرفته بالقرائن الدالة على ذلك متمكنة وقد يعرف الوضع بإقرار واضعه". ثم قال: "ومن القرائن التي يدرك بها الوضع، ما يؤخذ من حال الراوي، كما وقع للمأمون بن أحمد، أنه ذكر بحضرته الخلاف في كون الحسن سمع من أبي هريرة أولا فساق في الحال إسناده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: سمع الحسن من أبي هريرة وكما وقع لغياث بن إبراهيم حيث دخل على المهدي فوجده يلعب بالحمام فساق في الحال إسنادًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال سمع الحسن من أبي هريرة، وكما وقع لغياث بن إبراهيم حيث دخل على المهدي فوجده يلعب بالحمام فساق في الحال إسنادًا إلى النبي أنه قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر 2 -أو جناح- " فزاد في الحديث: "أو جناح" فعرف المهدي أنه كذب لأجله فأمر بذبح الحمام. ومنها: ما يؤخذ من حال المروي، كأن مناقضًا لنص القرآن، أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعي أو صريح العقل حيث لا يقبل شيء من ذلك التأويل ثم المروي تارة يخترعه الواضع، وتارة يأخذ كلام غيره كبعض السلف الصالح أو قدماء الحكماء أو الإسرائيليات أو يأخذ حديثا ضعيف الإسناد فيركب له إسنادًا صحيحًا ليروج والحامل للواضع على الوضع إما عدم

_ 1 ص19. 2 أخرجه أصحاب السنن وأحمد في المسند من حديث أبي هريرة، ولم يذكر فيه ابن ماجه "أو نصل".

الدين، كالزنادقة، أو غلبة الجهل كبعض المتعبدين، أو فرط العصبية، كبعض المقلدين، أو اتباع هوى بعض الرؤساء، أو الإعراب لقصد الاشتهار، وكل ذلك حرام بإجماع من يعتد به. إلا أن بعض الكرامية وبعض المتصوفة، نقل عنهم إباحة الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خطأ من فاعله نشأ عن جهل لأن الترغيب والترهيب من جملة الأحكام الشرعية. واتفقوا على أن تعمد الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكبائر وبالغ أبو محمد الجويني فكفر من تعمد الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم". ا. هـ. وقال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء1: "وقد ظن ظانون، أنه يجوز وضع الأحاديث في فضائل الأعمال، وفي التشديد في المعاصي، وزعموا أن القصد منه صحيح، وهو خطأ محض؛ إذ قال -صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعدة من النار" وهذا لا يترك إلا لضرورة، ولا ضرورة إذ في الصدق مندوحة عن الكذب ففيما، ورد من الآيات، والأخبار كفاية عن غيرها، وقول القائل إن ذلك قد تكرر على الأسماع، وسقط وقعه، وما هو جديد فوقعه أعظم فهذا هوس إذ ليس هذا من الأعراض التي تقاوم محذور الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى الله تعالى ويؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة فلا يقاوم خير هذا شره أصلا، والكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن الكبائر التي لا يقاومها شيء نسأل الله العفو عنه وعن جميع المسلمين". ا. هـ. ورأيت لبعض فضلاء العصر مقالة غراء في هذا الموضوع، لا بأس بإيرادها تعزيزًا للمقام، قال رعاه الله: "الحديث الموضوع، هو المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زورًا وبهتانًا، وهو أشد خطرًا على الدين، وأنكى ضررًا بالمسلمين، من تعصب أهل المشرقين والمغربين؛ لأنه يطرف الملة الحنيفية عن صراطها المستقيم، ويقذف بها في غياهب الضلالات حتى ينكر الرجل أخاه والولد أباه وتطير الأمة شعاعًا وتتفرق بدادًا بدادًا لالتباس الفضيلة وأفول شمس الهداية وانشعاب الأهواء وتباين الآراء.

_ 1 ص168، ج3، القاهرة 1279هـ.

وإن تفرق المسلمين إلى شيعة ورافضة وخوارج ونصيرية إلخ ... لهو أثر قبيح من آثار الوضع في الدين. ولقد قام الحفاظ الثقات، وكادوا يزهقون الروح بضبطهم الحديث حفظًا وكتابة تلقينا، ومازوا الخبيث من الطيب، وقشعوا سحب اللبس فتلألأ نور اليقين". ثم قال: "ورب سائل يقول: إني ساغ للمسلمين أن يضعوا في دينهم ما ليس منه؟ فالجواب أن أسباب الوضع كثيرة؛ منها: غفلة المحدث؛ أو اختلاط عقله في آخر حياته؛ أو التكبر عن الرجوع إلى الصواب بعد استبانة الخطأ لسهو مثلًا. ومنهم قوم وضعوا الأحاديث لا يقصدون إلا الترغيب والترهيب، ابتغاء وجه الله فيما يزعمون؛ وآخرون وضعوها انتصارًا لمذهبهم؛ ومنهم طائفة أهمتهم أنفسهم، فاختلقوا ما شاءوا للتقرب من السلاطين والأمراء، أو لاستمالة الأغنياء إلى الإعطاء. ومن هذا الصنف القصاص الذين انتحلوا وظيفة الوعظ والتذكير في المساجد والمجامع وأخذوا يهدمون من أركان هذا الدين لفلس يقتنونه أو حطام خبيث يلتهمونه". قال: ولقد شاهدت منهم في المسجد الحسيني رجلًا بيده رقاع صغيرة، فيها دعاء يقول: إنه دعاء موسى، وإن من قرأه أو حمله تسقط عنه الصلوات المفروضة، والزحام حوله شبيه بزحام الحشر، حتى لا تكاد ترى إلا عمائم وطرابيش وبرانس وخمرًا، وأيديا ممتدة بفلوس أو دراهم، وهو في بهرة حلقهم، كأنه أبو زيد السروجي يوزع الرقاع، ويجمع المتاع، ويخلب الأسماع، حتى كاد يبيح للمتصدقين والمتصدقات، كل ما دخل تحت الحرمة، وشمله اسم النهي، هذا، وقد بلغني أن بعضهم نبه شيخ الجامع الأزهر والسادات إلى إزالة هذا المنكر من مسجد سبط الرسول، فأجاب بأن: هذا تجسس، والله يقول: {وَلا تَجَسَّسُوا} 1 ولا أدري هذا صح عنه، من الذي أخطأ؟ أهو أم عمر بن الخطاب الذي كان يطرد القصاصين أمثال هؤلاء من المساجد، مع أنهم لم يكونوا بهذه المثابة من التغرير والتضليل؟

_ 1 سورة الحجرات، آية: 12.

ولنرجع إلى الوضاع، فمنهم زنادقة قصدوا إفساد الشريعة والتلاعب بالدين، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} 1 فعملوا على لبس الحق بالباطل، وخلط السم بالترياق، وهيئت لهم الفرص في الأزمان الغابرة مجالًا فسيحًا لهذا البهتان، حتى شحنوا الأذهان وسودوا الدفاتر وأفعموا الكتب بمفتريات: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} 2. وقد سرى هذا الداء في كتب التفسير والسير والتاريخ، وتلقتها العامة عن سلامة صدر، إما لشهرة المعزو إليه، أو لاستبعاد كذبه على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فخبطوا وحادوا عن الجادة: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 3. ثم قال: "ولست أعجب من العامة وصنعهم هذا، ولكن العجب العجاب، من أهل العلم الذين يرون هذا المنكر رأي العين صباحًا ومساء، ويتأولون له كأنما أعمال هؤلاء السوقة وحي سماوي متشابه، يجب تأويله في رأي العلماء المتأخرين اللهم ألهمنا السداد، ووفقنا إلى سبيل الرشاد! "والداهية الدهياء، أن الناس الآن، أخذت تروي الأحاديث من غير إجازة ولا تلقين، وحول العلماء وجهتهم إلى فروع الفقه، وآلات التفسير والتوحيد وانصرفوا عن الحديث إلا ما كان منه قراءة على سيل التبرك! فراجت سوق الأراجيف المعزوة للدين، واختلط الباطل بالحق فمهدوا بهذا للطاغين على الدين سبلا كان عذراء، وخططا كانت وعثاء فلا تكاد ترى حمارًا أو حوذيًّا أو خادما أو طاهيا أو أكارًا أو قصارًا أو كناسًا أو رشاشا إلا وهو يستشهد في كل عمل من أعماله بالحديث، سواء صح معناه ولفظه أم لم يصح. فإذا جلست في مرتاض أو ناد أو سوق أو حانوت أو محفل عرس أو مأتم سمعت من خلطهم وخبطهم في الدين ما تخرج لأجله النفوس من العيون وتمشي له القلوب في الصدور وربما كان في مجلسهم عالم فيسأل عند اختلافهم فلا يجيب إلا: "بأظن كذا! "؛ "ويمكن أن يكون كذا" والورع يقول: "لا أدري! " أو: "حتى أراجع

_ 1 سورة التوبة، آية: 33. 2 سورة يوسف، آية: 40. 3 سورة الكهف، آية، 15.

الصحاح! " وقد يكون الحديث مشهورًا بين كل الطبقات، وهو موضوع! فيظن أنه صحيح لشهرته، خصوصا على ألسنة بعض المشايخ فيفتي بأنه صحيح وهناك الطامة الكبرى!. ثم قال: "الغرض إحياء السنة، وإماتة البدعة. ودرء المطاعن الأجنبية بشيء ليس من ديننا، وذلك بالوقوف على طائفة من الأحاديث الموضوعة التي يستدل بها الناس على عقيدة أو حكم أو فضيلة أو النهي عن رذيلة ليتميز الخبيث من الطيب، ويبتعد حملة القرآن وخطباء المنابر ووعاظ المساجد من رواة الأكاذيب المضادة للشرع والعقل باسم الدين وهم لا يشعرون، وفي مقدمة ذلك الأحاديث المشهورة على ألسنة العامة، والخاصة في احتجاجهم، وأمرهم ونهيهم فإن ضررها عظيم، وخطبها جسيم وذلك كحديث: "حب الوطن من الإيمان" الذي لا يفهم منه بعد التأويل والتحليل إلا الحث على تفرق الجامعة الإسلامية التي ننشد الإيمان" الذي لا يفهم منه بعد التأويل والتحليل إلا الحث على تفرق الجامعة الإسلامية التي ننشد ضالتها الآن فإنه يقضي بتفضيل مسلمي مصر مثلا على من سواهم وإن من في الشام يفضل إخوته هناك على غيرهم وهكذا وهو الانحلال بعينه والتفرق المنهي عنه والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} 1، ولم يقيد الأخوة بمكان ويقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} 2، وأقل ما فيه تفويت فضيلة الإيثار ومن ذلك: "شاوروهن وخالفوهن" إلى غير ذلك. ومما هو جدير بالعناية قصص المولد النبوي الذي اشتمل كثير من الخيال الشعري، والأحاديث التي وضعها المطرون الغلاة كحديث: "لولاك ما خلقت الأفلاك" وقولهم: "إن الميم من اسمه الشريف تدل على كذا والدال على كذا" إلى آخر تصرفات الخيال ووصفهم الرسول -صلى الله ععليه وسلم- بضروب من الغزل لا تليق إلا بمتخذات أخدان، مما يحل مقام النبوة عنه، وتنفر طبيعة الجلال منه؛ وكروايتهم من المعجزات ما ليس له أصل، كحديث الضب، وأن الورد من عرقه إلى آخر ما ينسبونه للمناوي، ولا أظنه إلا مصطنعا باسم الشيخ رحمه الله ورضي عنه" انتهى ملخصا.

_ 1 سورة الحجرات، الآية: 10. 2 سورة الحشر، الآية: 9.

4- مقالة في الأحاديث الموضوعة في فضيلة رجب: نبه بعض الفضلاء ذلك في مقالة نشرها في مجلة نصحًا لخطباء المنابر المغفلين، وللوعاظ والقصاص البله فقال ما نصه: "كم اختلق الكذابون على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكم وضعوا الأباطيل والمناكير، وركبوا الأسانيد الملفقة، وأسهبوا وأطنبوا، وبالغوا في التحذير والترهيب، وشددوا، وسهلوا على حسب ما تسول لهم أنفسهم، ولم يخشوا خالقا يعلم سرهم وعلانيتهم، فيجازيهم بمقاعد في النار يتبوءونها جزاء افترائهم واختلاقهم وتجرئهم على وضع الأحاديث التي: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان} وقد قال الحافظ سهل بن السري: "قد وضع أحمد بن عبد الله الجوربياري، ومحمد بن عكاشة الكرماني، ومحمد بن تميم الفريابي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من عشرة آلاف حديث. وقال حماد بن زيد: "وضعت الزنادقة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعة آلاف حديث". وقال بعضهم: "سمعت ابن مهدي يقول لميسرة بن عبد ربه: من أين جئت بهذه الأحاديث، من قرأ كذا فله كذا ومن صام كذا فله كذا؟ قال: وضعتها أرغب الناس فيها!! " وقيل لأبي عصمة بن أبي مريم المروزي: "من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة، سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة!! " ومما يوجب الأسف أن يرى الإنسان تلك الموضوعات، والمناكير، والأباطيل قد انتشرت في الكتب انتشارًا زائدًا، ورواها الخلف عن السلف وشحنت بها كتب الوعظ، والإرشاد ودواوين الخطباء حتى إنك لا تطالع ديوانًا من الدواوين المتداولة بين خطبائنا إلا وترى فيه من فظائع الأكاذيب على نبينا عليه الصلاة والسلام ما يستوجب العجب وما ذاك إلا لذهاب علماء الحديث ودخولهم في خبر كان وعدم اعتناء أهل عصرنا به. ومن افظع هذه الأباطيل، الأحاديث التي تروى في فضيلة رجب وصيامه، فأغلب الدواوين نراها مشحونة بها. ونحن نأتي بتلك الأباطيل التي اختلقها الوضاعون، ليحذرها

العموم، ويعرفها خطباء المنابر والوعاظ والقصاص، فيجتنبوها ولا ينسبوها إليه عليه الصلاة والسلام؛ حذرًا من الوقوع في الإثم، وفرارًا من الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- فنقول: حديث: "فضل رجب على الشهور، كفضل القرآن على سائر الكلام؛ وفضل شهر شعبان على الشهور، كفضلى على سائر الأنبياء؛ وفضل شهر رمضان، كفضل الله على سائر العباد" موضوع قاله الحافظ ابن حجر؛ ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة. وقولهم: "أكثروا من الاستغفار في رجب، فإن لله في كل ساعة منه عتقاء من النار؛ وإن لله مدائن لا يدخلها إلا من صام رجب" موضوع وفي إسناده: "الإصبغ بن نباتة" ليس بشيء قاله السيوطي في اللآلئ المصنوعة. وقولهم: "رجب شهر الله وشعبان شهري ... إلخ" أورده الصاغاني في الموضوعات. ومنها: "فضيلة ليلة أول جمعة من رجب، والصلاة الموضوعة فيها المسماة بليلة الرغائب". وقولهم: "في رجب يوم وليلة، من صام ذلك اليوم، وقام تلك الليلة، كان له من الأجر كمن صام مائة سنة، وقام سنة وهي لثلاث بقين من رجب في ذلك اليوم بعث الله محمدًا نبيًّا" موضوع قاله السيوطي في النكت البديعات. وقولهم: "من صام يومًا من رجب، وقام ليلة من لياليه بعثه الله آمنا يوم القيامة ومر على الصراط، وهو يهلل أو يكبر" موضوع وفي إسناده: "إسماعيل بن يحيى" كذاب. وقولهم: "من أحيى ليلة من رجب، وصام يومًا منه أطعمه الله من ثمار الجنة، وكساه من حلل الجنة، وسقاه من الرحيق المختوم" موضوع، وفي إسناده: "حصين بن مخارق" كان يضع الحديث قاله السيوطي في اللآلئ المصنوعة. وقولهم رجب من الأشهر الحرم وأيامه مكتوبة على أبواب السماء السادسة؛ فإذا صام الرجل منه يومًا وجرد صومه بتقوى الله، نطق الباب، ونطق اليوم وقال: "يا رب! اغفر له! " وإذا لم يتم صومه بتقوى الله لم يستغفرا له، وقالا: "خدعتك نفسك" موضوع وفي إسناده: "إسماعيل بن يحيى" كذاب قاله السيوطي.

وقولهم: "رجب شهر الله الأصم المنبتر الذي أفرده تعالى لنفسه، فمن صام منه يومًا إيمانًا واحتسابًا، استوجب رضوان الله الأكبر.. إلخ" موضوع وفي إسناده "عصام بن طليق" قال ابن معين ليس بشيء، وأبو هارون العبدي متروك. وقولهم خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل رجب بجمعه فقال: "أيها الناس! إنه قد أظلكم شهر عظيم، شهر رجب، شهر الله الأصم تضاعف فيه الحسنات وتستجاب الدعوات، وتفرج فيه الكربات، لا ترد للمؤمن فيه دعوة؛ فمن اكتسب فيه خيرًا ضوعف له فيه أضعافًا مضاعفة فعليكم بقيام ليله وصيام نهاره ... إلخ" موضوع ذكره السيوطي. وقولهم: "من صام من رجب يومًا تطوعًا، أطفأ صومه ذلك اليوم غضب الله، وأغلق عنه أبواب النار ... الخ" موضوع؛ ذكره السيوطي وقال: إسناده ظلمات بعضها فوق بعض". انتهت المقالة. ثم اعترض بعض الناس على من نشرها في مجلته وقال: "إن كانت هذه الأحاديث موضوعة كما قال الكاتب، فما الغرض منها إلا الترغيب في العبادة التي يثاب فاعلها على كل حال! وحينئذ يكون بيان كيفية وضعها وتكذيب واضعيها تثبيطًا غير محمود عن عبادة الله". فأجاب ناشرها بقوله: "إن نشر مثل هذه الرسالة كان واجبًا؛ ومن أفضل ضروب العبادة إعلام المسلمين بأن هذا الحديث موضوع، إن كان كذلك، وصحيح إن كان سنده صحيحًا سواء كان مغزى الحديث مما ندبت إليه الشريعة بوجه عام أو مما نهت عنه وكاتب الرسالة لم يحكم بوضع حديث من عندياته، وإنما ذكر أقوال أئمة الحديث والحفاظ حتى ذكر قول الحافظ السيوطي في سند حديث من تلك الأحاديث أنه ظلمات بعضها فوق بعض مبالغة في إنكار سند الحديث، وعدم الاعتداد به. وهناك غرض لأئمة الحديث، في بيان صحته وضعفه، أسمى من غرض الترغيب في العبادة والصيام والقيام: ألا وهو غرض تحرير الشريفة الغراء، وصونها عن الدخيل فيها، خيرًا كان أو شرًّا؛ لأنه إذا تطرق للحديث الكذب فيه بنية حسنة، تطرقه كذلك نبيه سيئة وانهار بناء الشريعة المحمدية

بكثرة ما يتخللها من الأجنبي عنها، وأي شر أعظم مما يطرأ على الشريعة الغراء لو أرخى العنان لوضاع الأحاديث، يضعون كيف شاءوا دون أن يميز الصدق من الكذب في رواياتهم، ثم من هو الذي يقبل من المعترضين أن يكتب باسمه الكتاب ما شاءوا من أفكار وأقوال ولو كانت حسنة مقبولة في حد ذاتها؟ بل من يصدق أن يقوم أحد من الناس ويفتري على وزير أو مدير قرارًا أو منشورا يصدره بإمضائه، ولا يعد عابثا بالنظام، متوجبًا التأديب أو على الأقل التكذيب؟ أو من يتصور أنه يلفق صورة أمر عال، مهما كان موضعه وينشره كأنه صادر من السلطان ولا يعاقب على فعله هذا فأي مسلم بعد هذا يسوغ أن يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" لذلك نحن نشرنا رسالة الفاضل الذي أسند كل ما قال فيها للسلف الصالح من أئمة الحديث وحفاظه شاكرين همته، مثنين عليه بما هو أهله معتبرين عمله هذا من خير أعمال العبادة التي يتقرب بها إلى الله في مثل شهر رجب المبارك، مؤملين أن يحذو الفضلاء الباحثون حذوه، ولا خوف من ذلك على الناس أن تثبط هممهم عن عبادة الله، فإن الله عز وجل، قد أتم شريعته قبل أن يأخذ رسوله إلى الرفيق الأعلى، فهي لا ينقصها شيء يحتاج وضاعو الحديث المفترون على الله وعلى رسوله أن يتموه وعلى القراء أن يفقهوا مقاصد الكتاب في هذا الباب والله الموفق والمعين. ثم أجاب ناشرها أيضًا بقوله في محاورة ثانية: "لم يقصد كاتب الرسالة في بيان الأحاديث الموضوعة التي سردها تثبيط همم الناس عن العبادة، وإنما أراد بيان عدم صحة تلك الأحاديث التي اعتاد بعض الخطباء العناية بذكرها عند دخول مثل شهر رجب المبارك، ويحسبونها من أصول الدين، وليست منه في شيء تلك الأحاديث التي أسندت للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال أئمة الحديث السالفون وحفاظه المحققون إنها موضوعة مفتراة عليه. فقد قال كاتب الرسالة: "ونحن نأتي بتلك الأباطيل التي اختلقها الوضاعون ليحذرها العموم، ويعرف خطباء المنابر والوعاظ، والقصاص فيجتنبوها، ولا ينسبوها إليه عليه الصلاة والسلام حذرًا من الوقوع في الإثم وفرارًا من الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم ... إلخ"

وهذا صريح في أنه إنما ينصح الخطباء والوعاظ، ليعدلوا عن ارتكاب الكذب في إرشاد العامة، إلى ما هو الصدق فيه، والخير كله مع الصادقين. ثم قال: "وقد بلغ حد التهافت على بيان أسرار الشريعة الغراء، عند بعض خطباء الجمع على المنابر، أن جعلوا للفظه "ر ج ب" حروفا مقطعة، مدلولات أخرى. فالراء لمعنى والجيم لآخر، والباء لغيرهما مع أن هذه الحروف ذاتها موجودة في كل كلمة ثلاثية تركبت منها كجرب، وبرج ورجب أسماء مسميات أخرى، وهلم جرا. بل لا ينكر عاقل أن الدخيل في الأحاديث، قد كان منه ما أضر بالجامعة الإسلامية وجوهر الدين الحنيفي، ضررًا بليغًا، لو قيس بما نتجته الأحاديث الموضوعة لمثل الترغيب في العبادة من الحسنات، لرجح عليها رجحانا مبينًا فكيف لا يكون سد هذا الباب مهمًا، وكيف لا يكون في الأمة، وعاظ ومرشدون يبيتون الصدق من الكذب، والغث من السمين في كل وقت وليس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقت مخصوص، وأشد ما يطلب ذلك في الظروف التي يكون فيها الأمر والنهي أبلغ تأثيرًا في النفوس ولهذا اختار صاحب رسالة الأحاديث الموضوعة أن يبين ما يختص منها بشهر رجب في الوقت الذي يصدع الخطباء فيه بمواعظهم له، والله يوفق الجميع لما فيه الخير، والصواب وهو الهادي إلى سبيل الرشاد". وأقول: رأيت لشيخ الإسلام ابن تيميه قدس سره في كتابه: "اقتضاء الصراط المستقيم" تطرقًا لهذا المبحث الجليل، قال قدس سره: "شهر رجب، أحد الأشهر الحرم". وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا دخل شهر رجب قال1: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان" ولم يثبت عن النبي في فضل رجب حديث آخر، بل عامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كذب والحديث إذا لم يعلم أنه كذب فروايته في الفضائل أمر قريب أما إذا علم كذبه فلا يجوز روايته إلا مع بيان حاله لقوله -صلى الله عليه وسلم2: "من روى عني حديثًا

_ 1 رواه ابن أحمد والبيهقي عن أنس. ورواه ابن ماجه عنه أيضًا. 2 رواه مسلم وأحمد وابن ماجه عن سمرة.

وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". نعم، رُوي عن بعض السلف في تفضيل العشر الأول من رجب بعض الأثر ورُوي غير ذلك فاتخاذه موسما بحيث يفرد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد وغيره، كما روي عن عمر بن الخطاب وأبي بكرة وغيرهما من الصحابة -رضي الله عنهم- وروى ابن ماجه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن صوم رجب، وهل الإفراد المكروه أن يصومه كله، أو أن يقرن به شهر آخر؟ فيه للأصحاب وجهان والله أعلم". ا. هـ. 5- فتوى الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله في خطيب لا يبين مخرجي الأحاديث: في فتاواه الحديثية1 ما نصه: "وسئل -رضي الله عنه- في خطيب يرقى المنبر في كل جمعة، ويروي أحاديث كثيرة، ولم يبين مخرجيها، ولا رواتها فما الذي يجب عليه؟ فأجاب بقوله: ما ذكره من الأحاديث في خطبه من غير أن يبين رواتها، أو من ذكرها، فجائز بشرط أن يكون من أهل المعرفة في الحديث أو بنقلها من مؤلفه كذلك؛ وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث، أو في خطب ليس مؤلفها كذلك فلا يحل ذلك! ومن فعله عزر عليه التعزير الشديد. وهذا حال أكثر الخطباء فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث حفظوها، وخطبوا بها من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلًا أم لا فيجب على حكام كل بلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك، ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه". ثم قال: "فعلى هذا الخطيب أن يبين مستنده في روايته فإن كان مستندًا صحيحًا فلا اعتراض عليه والإساغ الاعتراض عليه بل وجاز لولي الأمر -أيد الله به الدين وقمع بعدله المعاندين- أن يعزله من وظيفة الخطابة زجرًا له عن أن يتجرأ على هذه المرتبة السنية بغير حق" انتهى ملخصا.

_ 1 ص32، القاهرة، المطبعة الميمينة 1307هـ.

6- ما جاء في نهج البلاغة من وجوه اختلاف الخبر وأحاديث البدع: سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عما في أيدي الناس من أحاديث البدع واختلاف الخبر فقال1: "إن في أيدي الناس حقًّا وباطلًا وصدقًا وكذبًا، وناسخًا، وممسوخًا وعامًّا، وخاصًّا ومحكمًا، ومتشابها وحفظًا ووهمًا، ولقد كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عهده حتى قام خطيبًا فقال: "من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوا مقعده من النار" وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متعمدا فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه، ولم يصدقوا قوله ولكنهم قالوا صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى وسمع منه، ولقف عنه فيأخذون بقوله وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ووصفهم بما وصفهم به لك ثم بقوا بعده عليه وعلى آله السلام فتقربوا إلى الأئمة فولوهم الأعمال، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا وإلا من عصم الله فهو أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه ولم يعرف كذبا، فهو في يديه، ويرويه ويعمل به ويقول: "أنا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوا منه ولو علم أنه كذلك لرفضه. ورجل ثالث سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا يأمر به، ثم نهى عنه وهو لا يعلم؛ أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ فلو علم أنه منسوخ لرفضه ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله مبغض للكذب خوفًا من الله وتعظيمًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يهم بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه فحفظ الناسخ فعمل به وحفظ المنسوخ فجنب عنه وعرف الخاص والعام،

_ 1 نهج البلاغة: ص233، بيروت، المطبعة الأديبة، 1307هـ.

فوضع كل شيء موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه وقد كان يكون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكلام له وجهان فكلام خاص وكلام عام فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به، ولا عنى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به، وما خرج من أجله وليس كل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كان يسأله ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي الطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألت عنه. وحفظته فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم". ا. هـ. 7- بيان ضرر الموضوعات على غير المحدثين وأن الدواء لمعرفتها الرسوخ في الحديث: قال الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني في كتابه: "إيثار الحق"1 في خلال البحث عن كون معظم ابتداع المبتدعين من أهل الإسلام راجعًا إلى هذين الأمرين الواضح بطلانهما وهما: الزيادة في الدين والنقص منه، ما نصه: "من أنواع الزيادة في الدين، الكذب فيه عمدًا، وهذا الفن يضر من لم يكن من أئمة الحديث والسير والتواريخ، ولا يتوقف على نقدهم فيه بحيث لا يفرق بين ما يتواتر عند أهل التحقيق، وبين ما يزوره غيرهم وليس له دواء إلا إتقان هذا الفن، والرسوخ فيه وعدم المعارضة لأهله بمجرد الدعاوي الفارغة، وهو علم صعب يحتاج إلى طول المدة، ومعرفة علوم الحديث، وعدم العجلة بالدعوى، وإن كان جليًّا في معناه فإن الرسوخ فيه بعيد عن حصول العلم الضروري بأحوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحوال السلف بحيث يعلم دينهم بالضروة. مثل ما يعلم مذهب المعتزلة والأشعرية كذلك يطول البحث في علم الكلام ويعلم ما يختلفون فيه وما لا يختلفون فيه، وما يمكن القدح فيه من المنقولات المشهورة، وما لا يمكن من غير تقليد ولا أقل من معرفة مثل علوم الحديث للحاكم في ذلك وهذا عندي هو الفائدة

_ 1 ص128.

العظمي في الرسوخ في علم الحديث، وليس الفائدة العظمي فيه معرفة أحاديث الأحكام، في فروع الحلال والحرام، كما يظن ذلك من يقتصر على قراءة بعض المختصرات في ذلك، ويكتفي به في هذا العلم الجليل. ولأمر ما كان أئمة الحديث الراسخون أركان الإيمان في الثبوت عند الفتن والامتحان". ا. هـ. وقال العارف الشعراني قدس سره في العهود الكبرى: "أخذ علينا العهد العام من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا نتهور في رواية الحديث بل نتثبت في كل حديث نرويه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نرويه عنه إلا إن كان لنا به رواية صحيحة" ثم قال قدس سره: "واعلم يا أخي أن أكثر من يقع في خيانة هذا العهد المتصوفة الذين لا قدم لهم في الطريق فربما رووا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ليس من كلامه لعدم ذوقهم، وعدم فرقانهم بين كلام النبوة، وكلام غيرها، وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول إنما قال بعض المحدثين: أكذب الناس الصالحون لغلبة سلامة بواطنهم فيظنون بالناس الخير، وأنهم لا يكذبون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمرادهم بالصالحين المتعبدون الذي لا غوص لهم في علم البلاغة، فلا يفرقون بين كلام النبوة، وغيره بخلاف العارفين فإنهم لا يخفى عليهم ذلك". ا. هـ. 8- هل يمكن معرفة الموضوع بضابط من غير نظر في سنده؟ سئل الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن يُنظر في سنده؟ فقال: "هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعرف ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، وخلطت بلحمه، ودمه وصار له فيها ملكة، واختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهديه فيما يأمير به وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه ويحبه ويكرهه ويشرعه للأمة بحيث كأنه مخالط له عليه الصلاة والسلام بين أصحابه الكرام فمثل هذا يعرف من أحواله وهديه وكلامه وأقواله وأفعاله وما يجوز أن يخبر به وما لا يجوز ما لا يعرفه غيره، وهذا شأن كل متبوع

مع تابعه، فإن للأخص به، الحريص على تتبع أقواله وأفعاله، من العلم بها، والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح، ليس كمن لا يكون كذلك. وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم، يعرفون من أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم وأساليبهم ومشاربهم ما لا يعرفه غيرهم". ثم أورد جملة مما روي في ذلك "انظر الموضوعات لملا علي القاري". وقال ابن دقيق العيد: "كثيرًا ما يحكمون بالوضع باعتبار أمور ترجع إلى المروي، وألفاظ الحديث. وحاصلة يرجع إلى أنه حصلت لهم لكثرة محاولة ألفاظ النبي -صلى الله عليه وسلم- هيئة نفسانية وملكة قوية عرفوا بها ما يجوز أن يكون من ألفاظ النبوة وما لا يجوز". وقد روى الخطيب عن الربيع بن خيثم التابعي الجليل قال: "إن للحديث ضوءًا كضوء النهار يعرف وظلمة كظلمة الليل تنكر". ونحوه قول ابن الجوزي: "الحديث المنكر يقشعر منه جلد طالب العلم، وينفر منه قلبه" يعني الممارس لألفاظ الشارع الخبير بها وبرونقها وبهجتها. 9- بيان أن للقلب السليم إشرافا على معرفة الموضوع: قال أبو الحسن علي بن عروة الحنبلي في "الكواكب": فصل: القلب إذا كان نقيًّا نظيفًا زاكيًا، كان له تمييز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والهدي والضلال، ولا سيما إذا كان قد حصل له إضاءة وذوق من النور النبوي، فإنه حينئذ تظهر له خبايا الأمور، ودسائس الأشياء والصحيح من السقيم ولو ركب على متن ألفاظ موضوعة على الرسول إسناد صحيح، أو على متن صحيح إسناد ضعيف لميز ذلك وعرفه، وذاق طعمه وميز بين غثه وسمينه وصحيحة وسقيمه فإن ألفاظ الرسول لا تحفى على عاقل ذاقها، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسه المؤمن فإنه ينظر بنور الله". رواه الترمذي من حديث أبي سعيد وقال جماعة من السلف في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِين} 1 أي للمتفرسين، وقال معاذ بن جبل

_ 1 سورة الحجر، الآية: 75.

"إن للحق منارًا كمنار الطريق". وإذا كان الكفار لما سمعوا القرآن في حال كفرهم قالوا: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوه، وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمورق وإن له لثمرة، وإن له في القلوب لصولة ليست بصوله مبطل! " فما الظن بالمؤمن التقي النقي، الذي له عقل تام عند ورود الشبهات، وبصر نافذ عند ورود الشهوات؟ قال بعض السلف: "إن العبد ليهم بالكذب فأعرف مراده قبل أن يتمم" وقد قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} 1 وقد كان عمر بن الخطاب له حظ من ذلك كقصته2 مع سواد بن قارب وغيره. فإن القلب الصافي له شعور بالزيغ والانحراف في الأفعال والأعمال. فإذا سمع الحديث عرف مخرجه من أين، وإن لم يتكلم فيه الحفاظ وأهل النقد. فمن كانت أعماله خالصة لله موافقة للسنة ميز بين الأشياء، كذبها وصدقها، بشواهد تظهر له على صفحات الوجوه وفلتات الألسنة. قال شاه الكرماني: "من عمر باطنة بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة، وغض بصره عن المحارم، وعود نفسه أكل الحلال لم تخطئ له فراسة فالله سبحانه هو الذي يخلق الرعب والظلمة في قلوب الكافرين، والنور والرهان في قلوب المتقين، ولهذا ذكر الله آية النور عقيب غض النظر، وكف النفس عن المحارم. وكذلك إذا كان العبد صدوق اللسان، كان أقوى له وأتم على معرفة الأكاذيب والموضوعات فإن الجزاء من جنس العمل، فيثيب الله الصدوق ويجد للكذب مضاضة ومرارة ينبو عنها سمعه ولا يقبلها عقله". ولما قدم وفد هوازن على النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلمين وسألوه أن يرد عليهم سبيهم ومالهم قال لهم: "أحب الحديث إلى أصدقه" 3 ولهذا كان كعب بن مالك، بعد أن عمي، إذا تلكم الرجل بين يديه بالكذب يقول له: "اسكت، إني لأجد من فيك رائحة الكذب! " إذا سمع حديثا مكذوبا، عرف كذبه وذلك أنه أجمع الصدق لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قدم من غزوة تبوك وأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 4 فإن الله سبحانه يلهم الصادق الذكي معرفة الصدق

_ 1 سورة محمد، الآية: 30. 2 راجع القصة في الإصابة ج2 ص96. 3 أخرجه البخاري من حديث مروان والمسور بن مخرمة. 4 سورة التوبة، الآية: 120.

من الكذب كما في الحديث: "الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" وقال لوابصة: "استفت قلبك" 1 وقد ترك النبي أمته على البيضاء ليلها كنهارها، وهذا من أدل الأشياء على ما قلنا. وإنما يُؤتى الإنسان ويدخل الزيف عليه والباطل من نقص متابعته للرسول، بخلاف المؤمن المحسن المتبع له في أقواله وأفعاله فإن أقوال الرسول عليها جلالة ولها ناموس، ولقد رأيت رجلا إذا سمع حديثا مرويا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان ليس مما قاله يرده ويقول: "هذا موضوع أو ضعيف أو غريب" من غير أن يسمع في ذلك بشيء فيكشف عنه، فإذا هو كما قال وكان قل أن يخطئ في هذا الباب فإذا قيل له من أين لك هذا؟ يقول كلام الرسول عليه جلالة وفيه فحولة ليست لغيره من الناس وكذلك كلام أصحابه وكنت أكشف عما يقول فأجده غالبًا كما قال، وكان من أتبع الناس للسنة وأقلاهم للبدع والأهواء وكذلك كان يقع هذا كثيرًا، فإن الدين هو فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، فمن تلبس في باطنه بالإخلاص والصدق، وفي ظاهره بالشرع لانت له الأشياء ووضحت على ما هي عليه عكس حال أهل الضلال والبدع الذين يتكلمون بالكذب والتحريف، فيدخلون في دين الله ما ليس منه وانظر ألفاظ القرآن لما كانت محفوظة منقولة بالتواتر لم يطمع مبطل ولا غيره في إبطال شيء منه ولا في زيادة شيء بخلاف الحديث فإن المحرفين والوضاعين تصرفوا فيه بالزيادة والنقصان والكذب والوضع في متونه وأسانيده، ولكن أقام الله به من ينفي عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ويحميه من وضع الوضاعين فبينوا ما أدخل أهل الكذب والوضع فيه وأهل التحريف في معانيه كمن صنف في الصحيح كالبخاري ومسلم وابن خزيمة وكذلك أهل المساند كمسند أحمد ونحوه وكمالك وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم من تكلم على الحديث، وكذلك الذين تكلموا على الرجال وأسانيدها:

_ 1 هذه جملة من حديث أخرجه الإمامان أحمد والدارمي في مسنديهما. قال الحافظ ابن رجب: "وقد رُوي هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه متعددة، وبعض طرقه جيدة".

كيحيى بن سعيد الأنصاري ويحيى القطان وشعبة وسفيان وابن معين وابن المدايني وابن مهدي وغيرهم فهؤلاء وأمثالهم أهل الذب عن أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عكس حال من صنف كتبًا فيها من الموضوعات شيء كثير، وهو لا يميز ولا يعرف الموضوع والمكذوب من غيره فيجيء الغر الجاهل فيرى حديثًا في كتاب مصنف فيغتر به وينقله وهؤلاء كثير أيضًا مثل مصنف كتاب: "وسيلة المتعبدين" الذي صنفه الشيخ عمر الموصلي ومثل: "تنقلات الأنوار" للبكري الذي وضع فيه من الكذب ما لا يخفى على من له أدنى مسكة عقل، بل قد أنكر العلماء على أهل التصوف كثيرًا مما ذكروه في كتبهم من الأحاديث التي يعلمون أنها من الموضوعات، ومن تفاسير آيات يعلمون أنها مخالفة مع أنهم قوم أحبوا الأعمال، وكذلك أهل التفسير يضعون في تفاسيرهم أحاديث مكذوبة، وكذلك كثير من الفقهاء يستدلون في كتبهم على المسائل بأحاديث ضعيفة أو مكذوبة، ومن لم يميز يقع في غلط عظيم فالله المستعان، وقد فرق الله بين الحق والباطل بأهل النور والإيمان والنقد العارفين بالنقل والذائقين كلام الرسول بالعقل، وقد صنفوا في ذلك كتبًا في الجرح والتعديل فهذا العلم مسلم لهم ولهم فيه معارف وطرق يختصون بها. وقد قال الإمام أحمد: "ثلاثة علوم ليس لها أصل: المغازي والملاحم والتفسير" ومعنى ذلك أن الغالب عليها أنها مرسلة وكذلك: "قصص الأنبياء" للثعلبي فيها ما فيها. والمقصود أن الصادق تمر به أحاديث يقطع قلبه بأنها موضوعة أو ضعيفة. قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية: "القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بمجرد رأيه فهو ترجيح شرعي" قال: "فمتي ما وقع عنده وحصل في قلبه ما يظن معه أن هذا الأمر أو هذا الكلام أرضى الله ورسوله كان ترجيحًا بدليل شرعي، والذين أنكروا كون الإلهام ليس طريقا إلى الحقائق مطلقا أخطئوا؛ فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه، كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة فإلهام هذا دليل في حقه، وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها

كثير من الخائضين في المذاهب والخلاف وأصول الفقه. وقد قال عمر بن الخطاب: "اقربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة" وحديث مكحول المرفوع: "ما أخلص عبد العبادة لله تعالى أربعين يومًا إلا أجرى الله الحكمة على قلبه، وأنطق بها لسانه"1 وقال أبو سليمان الداراني: "إن القلوب إذا أجمعت على التقوى جالت في الملكوت، ورجعت إلى صاحبها بطرف الفوائد من غير أن يؤدي إليها عالم علما" وقد قال النبي: "الصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء" 2 ومن معه نور وبرهان وضياء كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها، ولا سيما الأحاديث النبوية فإنه يعرف ذلك معرفة تامة لأنه قاصد العمل فتتساعد في حقه هذه الأشياء مع الاقتداء ومحبة الله ورسوله حتى إن المحب يعرف من فحوى كلام محبوبه مراده تلويحًا لا تصريحًا: والعين تعرف من عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها وقد قيل: إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا وفي الحديث الصحيح: "لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" 3 ومن كان توفيق الله له كذلك، فكيف لا يكون ذا بصيرة نافذة ونفس فعالة، وإذا كان الإثم والبر في صدور الخلق له تردد وجولان فكيف حال من الله سمعه وبصره، وهو في قلبه. وقد قال ابن مسعود: "الإثم حزاز القلوب" وقد قدمنا أن: "الكذب ريبة والصدق طمأنينة" فالحديث الصدق تطمئن إليه النفس ويطمئن إليه القلب وأيضًا فإن الله فطر عبادة على الحق فإذا لم تستحل

_ 1 روى في الجامع الصغير من حديث أبي أيوب بلفظ: "من أخلص لله أربعين يومًا، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"، وعزاه لأبي نعيم في الحلية وقال شارحه العزيزي: "إسناده ضعيف". 2 أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري. 3 قال الحافظ إن رجب: "هذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري دون بقية أصحاب الكتب".

الفطرة، شاهدت الأشياء على ما هي عليه فأنكرت منكرها، وعرفت معروفها. قال عمر: "الحق أبلج لا يخفى على فطن" فإذا كانت الفطرة مستقيمة على الحقيقة منورة بنور القرآن تجلت لها الأشياء على ما هي عليه في تلك المرايا، وانقشعت عنها ظلمات الجهالات فرأت الأمور عيانًا مع غيبها عن غيرها، وفي السنن والمسند، وغيره عن النواس بن سمعان عن النبي قال: "ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو من فوق فالصراط المستقيم هو الإسلام، والستور المرخاة حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله فإذا أراد العبد أن يفتح بابًا من تلك الأبواب ناداه المنادى يا عبد الله لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه؛ والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط، واعظ الله في قلب كل مؤمن" فقد بين هذا الحديث العظيم الذي من عرفه انتفع به انتفاعًا بالغًا إن ساعده التوفيق، واستغنى به عن علوم كثيرة أن في قلب كل مؤمن واعظًا والوعظ هو الأمر والنهى والترغيب والترهيب، وإذا كان القلب معمورًا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت بخلاف القلب الخراب المظلم قال حذيفة بن اليمان: "إن في قلب المؤمن سراجًا يزهر" وفي الحديث الصحيح: "إن الدجال مكتوب بين عينيه: "كافر" يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ" 1 فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين، ولا سيما في الفتن وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله. فإن الدجال أكذب خلق الله مع أن الله يجري على يديه أمورًا هائلة، ومخاريق مزلزلة؛ حتى إن من رآه افتتن به؛ فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها. وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له، وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف. وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم ولهذا قال بعض السلف في

_ 1 أحاديث الدجال كثيرة، ثابتة في الصحيحين وغيرهما بألفاظ مختلفة.

قوله1: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} قال: "هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق، وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر، كان نورًا على نور" فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن فالإلهام القلبي تارة يكون من جنس القول والعلم، والظن أن هذا القول كذب وأن هذا العمل باطل وهذا أرجح من هذا وأصوب، وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فيهم أحد فعمر" 2. والمحدث هو الملهم المخاطب في سره، وما قال عمر لشيء إني لأظنه كذا وكذا إلا كان كما ظنه وكانوا يرون أن السكينة تنطق على قلبه ولسانه أيضًا، فإذا كانت الأمور الكونية تنكشف للعبد المؤمن لقوة إيمانه يقينًا وظنًّا فالأمور الدينية كشفها له أيسر بطريق الأولى فإنه إلى كشفها أحوج فالمؤمن تقع في قلبه أدلة على الأشياء لا يمكنه التعبير عنها في الغالب فإن كل أحد لا يمكنه إبانه المعاني القائمة بقلبه فإذا تكلم الكاذب بين يدي الصادق عرف كذبه من فحوى كلامه فتدخل عليه نخوة الحياء الإيماني فتمنعه البيان، ولكن هو في نفسه قد أخذ حذره منه، وربما لوح أو صرح به خوفًا من الله وشفقة على خلق الله فيحذرون من روايته أو العمل به، وكثير من أهل الإيمان والكشف يلقي الله في قلبه أن هذا الطعام حرام، وأن هذا الرجل كافر، أو فاسق، أو ديوث، أو لوطي، أو خمار، أو مغن، أو كاذب من غير دليل ظاهر بل بما يلقي الله في قلبه، وكذلك بالعكس يلقي في قلبه حجة لشخص، وأنه من أولياء الله تعالى وأن هذا الرجل صالح وهذا الطعام حلال، وهذا القول صدق فهذا وأمثاله لا يجوز أن يستبعد في حق أولياء الله المؤمنين المتقين، وقصة الخضر مع موسى هي من هذا الباب، وأن الخضر علم هذه الأحوال المغيبة بما أطلعه الله عليه، وهذا باب واسع يطول بسطه وقد نبهنا فيه على نكت شريفة تطلعك على ما وراءها. والمقصود: أن الحديث الموضوع يعرف كونه موضوعًا إما بإقرار واضعه أو بركاكة لفظه أو غير ذلك. وقد أشرنا فيما

_ 1 سورة النور الآية: 35. 2 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.

كتبنا فيما تقدم أن أهل الإيمان والتقوى والصدق والإخلاص لهم اطلاعات وكشف وفراسات وإلهامات يلقيها الله في قلوبهم يعرفون بها صدق الصادق وكذب الكاذب ووضع الوضاعين وصحيح الأخبار وكاذبها، وقد كان أبو سليمان الداراني يُسمي أحمد بن عاصم الأنطاكي: "جاسوس القلب" لحدة فراسته فعليك يا أخي بالصدق وإياك والكذب فإنه يجانب الإيمان، والله سبحانه أعلم بالصواب وإليه المنقلب والمآب والحمد لله رب العالمين" انتهى كلام الإمام ابن عروة الحنبلي الدمشقي، رحمه الله تعالى. 10- الكلام على حديث من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار: أعلم أن حديث: "من كذب عليَّ ... " في غاية الصحة ونهاية القوى حتى أطلق عليه جماعة أنه متواتر ونوزع بأن شرط التواتر استواء طرفيه وما بينهما في الكثرة وليست موجودة في كل طريق بمفردها أجبيب بأن المراد من إطلاق كونه متواترًا رواية المجموع من المجموع من ابتدائة إلى انتهائه في كل عصر، وهذا كاف في إفادة العلم، وقد رواه عن أنس العدد الكثير وتواترت عنهم الطرق، ورواه عن علي -رضي الله عنه- ستة من مشاهير التابعين، وثقاتهم والعدد المعين لا يشترط في التواتر بل ما أفاده العلم كاف، والصفات العليَّة في الرواة تقوم مقام العدد أو تزيد عليه، ولا سيما قد رُوي هذا الحديث عن جماعة كثيرين من الصحابة فحكى الإمام أبو بكر الصيرفي في شرحه لرسالة الشافعي أنه قد رُوي عن أكثر من ستين صحابيا مرفوعا، وقال بعض الحفاظ إنه قد رُوي عن اثنين وستين صحابيا، وفيهم العشرة المبشرة وقال: "ولا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة المبشرة إلا هذا، ولا حديث يُروى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا" وقال بعضهم إنه رواه مائتان من الصحابة، وقد اعتنى جماعة من الحفاظ بجمع طرقه فقال إبراهيم الحربي إنه ورد من حديث أربعين من الصحابة، وكذا قال أبو بكر البزار وجمع طرقه أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد فزاد قليلا وجمعها الطبراني فزاد قليلًا، وقال أبو القاسم

بن منده. رواه أكثر من ثمانين نفسًا، وجمع طرقه ابن الجوزي في مقدمة كتاب الموضوعات فجاوز التسعين، وبذلك جزم ابن دحية ثم جمعها الحافظان يوسف بن خليل الدمشقي، وأبو علي البكري، وهما متعاصران فوقع لك منهما ما ليس عند الآخر، وتحصل من مجموع ذلك كله رواية مائة من الصحابة -رضي الله عنهم- وقال ابن الصلاح: "ثم لم يزل عدده في ازدياد، وهلم جرا على التوالي والاستمرار، وليس في الأحاديث ما في مرتبته من التواتر" وقيل لم يوجد في الحديث مثال للمتواتر إلا هذا، وقال ابن دحية قد أخرج من نحو أربعمائة طريق "كذا في عمدة القاري للعيني" وهو خلاصة ما قرره الحافظ ابن حجر في الفتح قال الحافظ في هذا الحديث: "أخرجه البخاري من حديث المغيرة، وعبد الله بن عمرو وواثلة، واتفق مسلم معه على تخريجه عن علي وأنس وأبي هريرة والمغيرة وأخرجه مسلم من حديث أبي سعيد أيضًا وصح في غير الصحيحين من حديث ثلاثين من الصحابة، وورد أيضًا عن نحو خمسين من غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو من عشرين بأسانيد ساقطة ثم بين رحمه الله من اعتنى بجمعه كما تقدم. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "فليتبوأ مقعده من النار" أي فليتخذ لنفسه منزلا. يقال تبوأ الدار إذا اتخذها مسكنا وهو أمر معناه الخبر يعني فإن الله يبوئه، وتعبيره بصيغة الأمر للإهانة، ولذا قيل الأمر فيه للتهكم أو التهديد إذ هو أبلغ في التغليظ والتشديد من أن يقال كان مقعدة في النار، ومن ثم كان ذلك كبيرة بل قال الشيخ أبو محمد الجويني إنه كفر يعني لأنه يترتب عليه الاستخفاف بالشريعة، ويؤخذ من الحديث أن من قرأ حديثه وهو يعلم أنه يلحن فيه سواء كان في أدائه أو إعرابه يدخل في هذا الوعيد الشديد لأنه بلحنه كاذب عليه، وفيه إشارة إلى أن من نقل حديثا وعلم كذبه يكون مستحقا للنار إلا أن يتوب لا من نقل عن راو عنه عليه الصلاة والسلام أو رأى في كتاب، ولم يعلم كذبه قال الطيبي: "فيه إيجاب التحرز عن الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يحدث عنه إلا بما يصح بنقل الإسناد" قال ابن حجر: "وما أوهمه كلام شارح من حرمة التحديث بالضعيف مطلقا مردود". ا. هـ. والظاهر أن

مراد الطيبي بقوله: "إلا بما يصح" الصحة اللغوية التي بمعنى الثبوت لا الاصطلاحية، وإلا لأوهم حرمة التحديث بالحسن أيضا، ولا يحسن ذلك ولا يظن به هذا إذ من المعلوم أن أكثر الأحاديث الدالة على الفروع حسان، ومن المقرر أن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال فيتعين حمل كلامه على ما ذكرناه، وكلامه أيضًا مشعر بذلك إذ لم يقل: "بنقل الإسناد الصحيح" ولكنه موهم أنه لا بد من ذكر الإسناد وليس كذلك لأن المراد أنه لا يحدث عنه إلا بما ثبت عنه، وذلك الثبوت إنما يكون بنقل الإسناد وفائدته أنه لو روى عنه ما يكون معناه صحيحا، لكن ليس له إسناد فلا يجوز أن يحدث به عنه واللام في الإسناد للعهد أي الإسناد المعتبر عند المحدثين، وإلا فقد يكون للحديث الموضوع إسناد أيضًا قال عبد الله بن المبارك: "الإسناد من الدين ولو الإسناد لقال من شاء ما شاء" قال ابن حجر: "ولكون الإسناد يعلم به بالموضوع من غيره كانت معرفته من فروض الكفاية قيل: "بلغوا عني" يحتمل وجهين: أحدهما اتصال السند بنقل الثقة عن مثله إلى منتهاه لأن التبليغ من البلوغ وهو إنهاء الشيء إلى غايته، والثاني: أداء اللفظ كما سمع من غير تغيير، والمطلوب في الحديث كلا الوجهين". "كذا في مرقاة المفاتيح". تنبيه: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، في الفتح في شرح حديث البخاري عن علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تكذبوا عليَّ فإنه من كذب عليَّ فليلج النار" معناه: لا تنسبوا الكذب إلي، ولا مفهوم لقوله: "عليَّ" لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب. وقد اعتز قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا: "نحن لم نكذب عليه، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته" وما دروا أن تقويله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى؛ لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية، سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه. ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامية، حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب، في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتج بأنه كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية.

وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت، وهي ما أخرجه البزار من حديث ابن مسعود بلفظ: "من كذب عليَّ ليضل به الناس ... " الحديث وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، وأخرجه الدارمي من حديث يعلي بن مرة بسند ضعيف وعلى تقرير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة كما فسر قوله تعالى1: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} . والمعنى أن مآل أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر، فلا مفهوم له كقوله تعالى2: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} فإن قتل الأولاد ومضاعفة الربا والإضلال في هذه الآيات إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا اختصاص الحكم". ا. هـ. 11- بيان أنه ليس كل حديث في باب الترغيب تحدث به العامة: ترجم لهذا المقصد المهم الإمام البخاري في صحيحه بقوله: "باب من خص بالعلم أقواما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا" ثم قال: قال علي -رضي الله عنه- حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ ثم أسند عن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعاذ رديفه على الرحل قال: "يا معاذ بن جبل" قال: لبيك يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسعديك! " قال: "يا معاذ" قال: "لبيك يا رسول الله وسعديك! ثلاثًا؛ "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا حرمه الله على النار" وقال: "يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلا أخبر به الناس فيستبشروا" قال: "إذًا يتكلوا" وأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا وروى مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا هريرة أن يبشر بذلك الناس، فلقيه عمر فدفعه وقال: ارجع يا أبا هريرة ودخل على أثره فقال: "يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس فخلهم يعملون" فقال: "فخلهم".

_ 1 سورة الأنعام، الآية: 144. 2 سورة الأنعام، الآية: 151.

وسبق في الثمرة التاسعة1 في بحث الصحيح شذرة من هذا البحث الجليل فتذكر. وقد توسع فيه وأجاد صديقنا مؤلف كتاب أشهر مشاهير الإسلام2 بقوله تحت عنوان ما كل حديث تحدث به العامة، وندم أبي عبيدة على نقله الحديث لعامة الناس ما صورته: "كل مسلم أكتنه كنه الدين الإسلامي، ووقف على حكمه وأسراره، يرى من آياته العظمى في الترغيب، والترهيب، ما لو أحسن استعماله ووضع في موضعه، لكفى لإزعاج النفوس الشريرة عن مواطن الرذيلة مهما التصقت بها وأمعنت فيها، ولجعل النفوس البارة نورًا على نور، وألبسها من الفضيلة لباسًا لا يصيبه بلى، وقد جاء الكتاب الكريم بالترغيب ليكون باعثا للنفوس على العمل الصالح رجاء الثواب الأخروي الذي أعده الله لعباده الصالحين لا ليكون لاستدراج النفوس في مدارج الاستباحة طمعًا في عفو الله لهذا جاء بإزاء الترغيب بالترهيب لترسم على صفحات النفوس صورة العقاب، كما ارتسمت صورة الثواب فيكون لها منها داع إلى الخير يذكرها بالثواب، ويمكن منها الرغبة فيه لا إلى حد الطمع، والغرور ثم الاستدراج في الشرور وزاجر عن الشر يذكرها بالعقاب، ويمكن منها الرهبة منه لا إلى حد الانقطاع إلى تقويم أود النفس وتعطيل وظائف الحياة ولا إلى حد اليأس والقنوط ثم الاسترسال في الشهوات واقتراف المنكرات على ذلك الأساس بني الترغيب والترهيب في الإسلام وكل ما جاء منه في الحديث النبوي فالمراد منه عين ما أراده القرآن، ولكن ما الحيلة وقد أولع كثير من علماء المسلمين بالإفراط في الوعظ ترغيبًا وترهيبًا وحملوا عامة الناس على طريقتهم في فهم الدين فأكثروا من حمل الحديث وروايته دون التفهم له والعلم بمقاصده ووضع كل شيء منه في محله، والتفريق بين صحيحه وموضوعه حتى أغروا العامة بعقيدة الإباحة لكثرة ما يروون لهم من أحاديث الترغيب ولو موضوعه كفضائل الصيام والصلاة وفضائل الشهور والأيام وفضائل التلاوات وجلها -إن لم نقل كلها- من

_ 1 ص100 من هذ الكتاب. 2 رفيق العظم، أشهر مشاهير الإسلام ج2، ص267، القاهرة مطبعة الموسوعات، 1219هـ.

الموضوع الذي تستدرج به العامة للاستباحة لاعتقادهم بأن من صام كذا غفر له من السيئات كذا وكذا ومن تنفل بيوم كذا محيت سيئاته إلى كذا. ولقد بلغ ببعضهم سوء الفهم للدين أن جعلوا لبعض القصائد النبوية من الفضائل ما لم يجعلوه للقرآن فقالوا إن البيت الفلاني منها لشفاء الأسقام، والآخر لمحو الذنوب والآثام والثالث للنجاة من ظلم الحكام فليت شعري إذا اعتقد العامي أن تلاوة بيت من قصيد يكفي لمحو كل ما يقترفه في يومه من الآثام فإلى أية درجة ينتهى فساد أخلاقه وشرور نفسه، وماذا ينفعه القرآن بأوامره ونواهيه ووعده ووعيده وحكمه وأحكامه اللهم إن هذا لغاية الاستهانة بالدين والجهل بمقاصد الإسلام، ومنشؤه اضطراب الأفهام، وتلبس الحقائق بالأوهام منذ أخذ الوضاعون بالكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدخلوا في الدين ما ليس منه يضاف إليه الإكثار من حمل الحديث على غير تفقه فيه، ووضع له في مواضعه التي أرادها الشارع وقصدها الإسلام، ولو تتبع العلماء سيرة الصحابة الكرام سيما خاصهم الذين لازموا النبي وفهموا هذا الدين حق الفهم لرأوا كيف أنهم كانوا يقلون من رواية الحديث إلا للخاصة، أو ما تعلق منه بالأحكام حتى بلغ بعمر -رضي الله عنه- أنه كان ينهى عن رواية الحديث ويقول: "عليكم بالقرآن" وما ذلك إلا خوف الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كثرت الرواية، والنقل وخوف افتنان العامة بما ليس لهم به علم، وبما لم يتفقهوا فيه من الحديث. "أبو عبيدة بن الجراح"، كان من خيرة الصحابة وعلى جانب من التفقه في الدين والورع والتقوى دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن يسميه أمين هذه الأمة وقد سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا ربما لم يسمعه منه أحد من الصحابة، أو سمعه بعض الخاصة فرأى هذا الأمين أن يطوى هذا الحديث بين الجوانح ويضن به، على العامة كما ضن به عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن عقول العامة يلامسها الاغترار، ونفوسهم يلامسها الضعف وحب الشهوات فهم بالوعيد أولى وبإلزامهم ظواهر الشرع أخرى، ولكن لما ألجأته الضرورة القصوى وهو

محصور مع المسلمين في حمص، ورأى منهم فتورا عن الحرب لا لوهن في نفوسهم، أو جبن أصابهم كلا! وإنما هو لرهبة الخالق التي تمكنت من أفئدتهم وقلوبهم وإخافتهم من الموت، لا لذاته، بل لما بعده، فقام فخطب فيهم وتلا عليهم ذلك الحديث وهو1: $"من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة" استحثاثا لهممهم، وتخفيفا لروعهم مما بعد الموت، رجاء رحمه الله وعفوه عن ذنوب اقترفوها مما دون الشرك إذا تابوا، وأنابوا قال لهم هذا وهو يظن أن هذا الحديث لا يتعدى أسماعهم لاعتقاده أنهم إذا خرجوا لمكافحة الروم لا يبقى منهم أحد يحدث به، أو يلابس نفسه أثر منه لكثرة من كان على حصارهم من جند الروم، ولما تم الظفر للمسلمين ونجوا من براثن العدو ندم على أن حدثهم بذلك الحديث وخشي من أن يعلق في نفوسهم شيء منه مع أنه علقه على التوبة، فقام وخطب فيهم فقال: لا تتكلوا ولا تزهدوا في الدرجات فلو علمت أنه يبقى منا أحد لم أحدثكم بهذا الحديث. وتالله إن قومًا بلغ بهم الإيمان الصادق، واليقين الثابت ذلك المقام مقام الرهبة من الله ومن الوقوف بين يدي قدرته بعد الموت لقوم عامتهم أعلم بالدين وأخلص في اليقين من خاصتنا ذلك العصر وماذا يشترط في المحدثين وحملة علوم الدين؟ ألا يشترط الوقوف على مقاصد الإسلام، والتفقه في الحديث والعلم بحالة الخاطبين واجتناب الغلو معهم في الترغيب والترهيب، ومراعاة ما يلابس عقولهم من القوة والضعف وأنى يتيسر هذا وقد نتج عن كثرة الرواية وحمل الحديث بلا تفقه فيه زيغ العقول عن مقاصد الشرع واجتراء الكذابين على وضع الحديث، وشحن الكتب الإسلامية بما لا يرضاه الله والرسول وهو ما كان يحذره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولهذا نهى في عصره الذي هو خير العصور عن الإكثار من رواية الحديث فما بالك بما يلي عصره من العصور؟ "ذكر الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي الأندلسي في كتابه: "جامع بيان

_ 1 رواه مسلم، وأخرجه الشيخان وأحمد، عن ابن مسعود.

العلم وفضله"1 في باب ذكر من ذم الإكثار من الحديث دون التفهم له والتفقه فيه ما نصه: "عن ابن وهب قال سمعت سفيان بن عيينه يحدث عن بيان عن عامر الشعبي عن قرظة بن كعب قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى حرار فتوضأ، فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشيت معنا فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امضوا وأن شريككم فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا قال: نهانا عمر بن الخطاب". ثم قال ابن عبد البر بعد هذا بقليل ما نصه: "قول عمر، إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن فخشي عليهم الاشتغال بغيره عنه؛ إذ هو الأصل لكل علم. هذا معنى قول أبي عبيدة في ذلك ثم قال أيضًا إن نهيه عن الإكثار، وأمره بالإقلال من الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما كان خوف الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخوفًا من أن يكونوا مع الإكثار يحدثون بما لم يتيقنوا حفظه ولم يعوه؛ لأن ضبط من قلت روايته أكثر من ضبط المستكثر، وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يؤمن مع الإكثار، فلهذا أمرهم عمر من الإقلال من الرواية". ا. هـ. 12- وجوب نعرف الحديث الصحيح من الموضوع: لمن يطالع المؤلفات التي لم تميز بين صحيح الأحاديث وسقيمها: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مكتوبة لجماعة العارف الجليل الشيخ عدي بن مسافر رحمه الله تعالى في بعض فصوله2: وأنتم -أصلحكم الله- قد من الله عليكم بالانتساب إلى الإسلام الذي هو دين الله وعافاكم مما ابتلي به من خرج عن الإسلام من المشركين وأهل الكتاب وعافاكم بانتسابكم إلى السنة من أكثر البدع المضلة

_ 1 ص174، 175. 2 الوصية الكبرى، ص272 ج1، من مجموعة الرسائل الكبرى.

مثل كثير من بدع الروافض والجهمية والخوارج والقدرية، بحيث جعل عندكم من البغض لمن يكذب بأسماء الله وصفاته وقضائه، وقدره أو يسب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما هو من طريقة أهل السنة والجماعة. وهذا من أكبر نعم الله على من أنعم عليه بذلك، فإن هذا تام الإيمان وكمال الدين؛ ولهذا أكثر فيكم من أهل الصلاح والدين ما لا يوجد مثله في طرائف المبتدعين وفيكم من أولياء الله المتقين من له لسان صدق في العالمين فإن قدماء المشايخ الذين كانوا فيكم مثل الملقب بشيخ الإسلام أبي الحسن علي بن أحمد بن يوسف القرشي الهكاري، وبعده الشيخ العارف القدرة عدي بن مسافر الأموي، ومن سلك سيبلهما فيهم من الفضل والدين والصلاح والاتباع للسنة ما عظم الله به أقدارهم ورفع به منارهم. ثم قال: "والشيخ عدي قدس الله روحه، عقيدته المحفوظة عنه، لم يخرج فيها عن عقيدة من تقدم من المشايخ الذين سلك سبيلهم، كالشيخ عبد الواحد الشيرازي، وكشيخ الإسلام الهكاري ونحوهما. وهؤلاء المشايخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول أهل السنة، والجماعة بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة، والدعاء إليها والحرص على نشرها، ومنابذة من خالفها مع الدين والفضل والصلاح ما رفع الله به أقدارهم، وأعلى منارهم وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار جيد مع أنه لا بد وأن يوجد في كلامهم وكلام نظرائهم من المسائل المرجوحة والدلائل الضعيفة كأحاديث لا تثبت ومقاييس لا تطرد ما يعرفه أهل البصيرة وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا سيما المتأخرون من الأمة الذين لم يحكموا معرفة الكتاب والسنة والفقه فيهما ويميزوا بين صحيح الأحاديث وسقيمها وناتج المقاييس وعقيمها مع ما ينضم إلى ذلك من غلبة الأهواء وكثرة الآراء وتغلظ الاختلاف والافتراق وحصول العداوة والشقاق، فإن هذه الأسباب ونحوها مما يوجب قوة الجهل والظلم اللذين نعت الله بهما الإنسان في قوله: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} 1 فإذا مَنَّ الله على الإنسان بالعلم

_ 1 سورة الأحزاب، الآية: 73.

والعدل، أنقذه من هذا الضلال. وقد قال سبحانه: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإنسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} . وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} 1. وأنتم تعلمون -أصلحكم الله- أن السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها ويذم من خالفها هي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمور الاعتقادات وأمور العبادات وسائر أمور الديانات. وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الثابتة عنه في أقواله وأفعاله، وما تركه من قول وعمل ثم ما كان عليه السابقون والتابعون لهم بإحسان، وذلك في دواوين الإسلام المعروفة مثل صحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن مثل سنن أبي داود والنسائي وجامع الترمذي وموطأ الإمام مالك، ومثل المسانيد المعروفة كمثل مسند الإمام أحمد وغيره ويوجد في كتب التفاسير والمغازي وسائر كتب الحديث جملها وأجزائها من الآثار ما يستدل ببعضها على بعض، وهذا أمر قد أقام الله له من أهل المعرفة من اعتنى به حتى حفظ الله الدين على أهله، وقد جمع طوائف من العلماء الأحاديث والآثار المروية في أبواب عقائد أهل السنة مثل حماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم في طبقهم ومنها ما بوب عليه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم في كتبهم، ومثل مصنفات أبي بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد وأبي بكر الخلال وأبي القاسم الطبراني وأبي الشيخ الأصبهاني وأبي بكر الآجري وأبي الحسن الدارقطني وأبي عبد الله بن منده وأبي القاسم اللالكائي وأبي عبد الله بن بطة وأبي عمر الطلمنكي وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر البيهقي وأبي ذر الهروي، وإن كان يقع في بعض هذه المصنفات من الأحاديث الضعيفة ما يعرفه أهل المعرفة. "وقد يروي كثير من الناس في الصفات وسائر أبواب الاعتقادات وعامة أبواب الدين أحاديث كثيرة تكون مكذوبة موضوعة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي قسمان:

_ 1 سورة السجدة، الآية 24.

منها ما يكون كلامًا باطلًا لا يجوز أن يقال فضلًا عن أن يضاف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم. والقسم الثاني: من الكلام، ما يكون قد قاله بعض السلف، أو بعض العلماء، أو بعض الناس ويكون حقًّا أو مما يسوغ فيه الاجتهاد أو مذهبًا لقائله فيعزى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث مثل المسائل التي وصفها الشيخ أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري وجعلها محنة يفرق فيها بين السني والبدعي وهي مسائل معروفة عملها بعض الكذابين، وجعل لها إسنادًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلها من كلامه؛ وهذا يعلمه من له أدنى معرفة أنه مكذوب مفترى، وهذه المسائل وإن كان غالبها موافقًا لأصول السنة ففيها ما إذا خالفه الإنسان، لم يحكم بأنه مبتدع مثل أول نعمة أنعم بها على عبده فإن هذه المسألة فيها نزاع بين أهل السنة والنزاع فيها لفظي؛ لأن مبناها على أن اللذة يعتقبها ألم، هل تسمى نعمة أم لا؟ وفيها أيضًا أشياء مرجوحة. والواجب: أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة. فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عمومًا ولمن يدعي السنة خصوصًا. ا. هـ. 13- بيان أنه لا عبرة بالأحاديث المنقولة في كتب الفقه والتصوف؛ ما لم يظهر سندها وإن كان مصنفها جليلا: قال العلامة ملا علي القاري في رسالة الموضوعات1: "حديث: من قضى صلاته من الفرائض في آخر جمعة من رمضان، كان ذلك جابرًا لكل صلاة فاتته في عمره إلى سبعين سنة" باطل قطعا، ولا عبرة بنقل صاحب النهاية وغيره من بقية شراح الهداية، فإنهم

_ 1 ص85، طبع القسطنطينية.

ليسوا من المحدثين ولا أسندوا الحديث إلى أحد من المخرجين. ا. هـ. وقال السيوطي في مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود، على حديث: "نهى أن يمتشط أحدنا كل يوم ... " فإن قلت: "إنه -صلى الله عليه وسلم- كان يسرح لحيته كل يوم مرتين، قلت: لم أقف على هذا بإسناد، ولم أر من ذكره إلا الغزالي في الإحياء؛ ولا يخفى ما فيه من الأحاديث التي لا أصل لها". ا. هـ. وظاهر أنهم لم يوردوا ما أوردوا مع العلم بكونه موضوعًا، بل ظنوه مرويا. ونقد الآثار من وظيفة حملة الأخبار؛ إذ لكل مقام مقال ولكل فن رجال. 14- الرد على من يزعم تصحيح بعض الأحاديث بالكشف بأن مدار الصحة على السند: في فتاوى العلامة الشيخ عليش رحمه الله ما مثاله: "وسئل عن حديث يس لما قرئت له" هل هو صحيح وما يترتب على من شنع على من أنكر صحته أفيدوا الجواب؛ فأجاب بما نصه: "الحمد لله؛ نص الحافظ السخاوي في كتابه: "المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة" على أن هذا الحديث لا أصل له، وكذلك سيدي محمد الزرقاني في مختصره، ويترتب على هذا المشنع المذكور الأدب الشديد لتجرئه على التكلم بغير علم، والظاهر من حال هذا الرجل أنه جاهل جاف غليظ الطبع لم يخالط أحدًا من أهل العلم، ومثل هذا يخشى عليه مقت الله تعالى لخوضه في الأحاديث بغير معرفة إذ من له معرفة لا ينكر المنصوص، وشدة الجهل وضعف العقل وعدم الديانة توجب أكثر من ذلك والله أعلم. وكتب على هذا السؤال أيضًا الشيخ إبراهيم السقاء خطيب الأزهر ما نصه: "الحمد لله؛ قرر الشعراني في كتابه البدر المنير، نقلًا عن الحافظ السخاوي، أن الحديث بهذا اللفظ لا أصل له ثم قال، وهو عند جماعة الشيخ إسماعيل اليمني قطعي". ا. هـ. فهذا مما اختلف فيه الناس فلا يليق أن يُرد على من أنكر صحته، فإن السخاوي أنكرها، ولا يليق أن يرد على من قرره، فإن بعض الناس قد قرره كما سمعته عن

الشعراني وفضل: "يس" وكونها لقضاء الأغراض الدنيوية والأخروية، لا يتوقف على هذا الحديث فإنه قد وردت به أحاديث أخر. هذا ما فتح الله به". الفقير: إبراهيم السقاء الشافعي عفى عنه. قال جامع فتاوى الشيخ عليش رحمه الله ولما اطلع على هذا الجواب شيخنا أبو يحيى "يعني الشيخ عليشا" كتب عليه ما نصه: "الحمد لله؛ من المعلوم لكل أحد أن الأحاديث لا تثبت إلا بالأسانيد لا بنحو الكشف، وأنوار القلوب فما نقله الشعراني عن جماعة سيدي إسماعيل اليمني إن كان المراد صحة اللفظ كما فهم المفتي توقف الأمر على السند، وإلا رد القول على قائله كائنا من كان ودين الله لا محاباة فيه، والولاية والكرامات لا دخل لها هنا إنما المرجع للحفاظ العارفين بهذا الشأن، والحديث عندهم متفق على أنه لا أصل له فقد ذكره ملا علي قاري وقال: قال السخاوي: لا أصل له، وقال في خطبة كتابه إنه لا يذكر الحديث الثابت، ولا المختلف في، وضعه وإن كان المراد صحة معناه كما هو اللائق بتحسين الظن بالسادة فهذا أمر قريب لأن من صح توكله وصدق إخلاصه إذا دعا إلاله أجابه خصوصًا إذ توسل بالقرآن ويقع مثل هذا في كلام الحفاظ فقد قال أبو بكر بن العربي لما تكلم على حديث: "سورة المائدة نعمت الفائدة" أنا أقول سورة المائدة نعمت الفائدة لكن اللفظ لم يرد". ا. هـ. إلا أن هذا غير ما نحن فيه فتعقب هذا المفتي على السخاوي بآخر عبارة الشعراني في غير محله؛ لأنه مبني على ما فهم من إراده صحة اللفظ وقد علمت أنه لا يصح لتوقفه على السند ولم يوجد؛ إذ لو وجد لعرفه الحفاظ، وذكروا الحديث في كتبهم، وقوله: "فهذا مما اختلف فيه" فيه ما فيه ويرده كلام ملا علي. وقوله: "ولا يليق الرد على من قرره" كأن مراده المفتي الأول، وهو لم يرد على من قرر، إنما رد على من تكلم بلا علم وخاض بغير معرفة، والرد على هذا متعين وكأنه لم يفهم ألفاظ من رد عليه، كما أنه لم يفهم مراد

من ردبه، وكما أنه لم يفهم السؤال حيث قال وفضل: "يس" إلخ فإن فضل جميع القرآن لا نزاع فيه بين المسلمين وقوله: "هذا ما فتح الله به لم أفهم معناه فإنه إذا لم يحقق مراد من يتعقب بكلامه، ولا يتدبر السؤال ولم يفهم ألفاظ من رد عليه مع كون الرد فضولًا؛ لأنه إنما سئل عما في السؤال وأما في جواب المجيب فلا فبأى شيء وقع الفتح، وإن كان هذا غاية ملكة هذا الرجل، فإنا لله قد كنت أظن أن تحت القبة شيخا والله أعلم". ا. هـ. كلام الشيخ عليش.

الباب الخامس: في الجرح والتعديل وفيه مسائل

الباب الخامس: في الجرح والتعديل وفيه مسائل 1- بيان طبقات السلف في ذلك: قال الحافظ الذهبي الدمشقي رحمه الله تعالى في جزء جمعه في الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ما نصه: "وأما الصحابة -رضي الله عنهم- فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات فما يكاد يسلم من الغلط أحد لكنه غلط نادر لا يضر أبدًا إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوا العمل وبه ندين الله تعالى، وأما التابعون فيكاد يعدم فيهم من يكذب عمدًا لكن لهم غلط وأوهام فما ندر غلطه في جنب ما قد حمل احتمل ومن تعدد غلطه وكان من أوعية العلم اغتفر له أيضًا ونقل حديثه وعمل به على تردد بين الأئمة الأثبات في الاحتجاج بمن هذا نعته كالحادث الأعور وعاصم بن ضمره وصالح مولى التوءمة وعطاء بن السائب ونحوهم، ومن فحش خطؤه وكثر تفرده لم يحتج بحديثه، ولا يكاد يقع ذلك في التابعين الأولين، ولو وجد ذلك في صغار التابعين فمن بعدهم، وأما أصحاب التابعين كمالك والأوزاعي وهذا الضرب فعلى المراتب المذكورة ووجد في عصرهم من يتعمد الكذب أو من كثر غلطة فترك حديثه هذا مالك هو النجم الهادي بين الأمة، وما سلم من الكلام فيه، ولو قال قائل عند الاحتجاج بمالك فقد تكلم فيهن لعزر وأهين وكذا الأوزاعي ثقة حجة وربما انفرد ووهم وحديثه عن الزهري فيه شيء ما، وقد قال فيه أحمد بن حنبل: "رأي ضعيف وحديث ضعيف، وقد تكلف لمعنى هذه اللفظة وكذا تكلم من لا يفهم في الزهري لكونه خضب بالسواد، ولبس زي الجند، وخدم هشام بن عبد الملك. وهذا باب واسع، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث؛ والمؤمن إذا رجحت حسناته وقلت سيئاته فهو من المفلحين. هذا أن لو كان ما قيل في الثقة الرضي مؤثرًا فكيف وهو لا تأثير له؟ " انتهى كلام الذهبي.

بيان أن جرح الضعفاء من النصيحة

2- بيان أن جرح الضعفاء من النصيحة: قال الإمام النووي: اعلم أن جرح الرواة جائز، بل واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه لصيانة الشريعة المكرمة، وليس هو من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة لله تعالى ورسوله والمسلمين ولم يزل فضلاء الأئمة، وأخيارهم، وأهل الورع منهم يفعلون ذلك". وقد تكلم الإمام مسلم على جماعة منهم في مقدمة صحيحه، وقدمنا في مبحث الضعيف تحت ترجمة قول مسلم رحمه الله أن الراوي عن الضعفاء غاش آثم جاهل زيادة على ذلك فارجع إليه1.

_ 1 ص91 من هذا الكتاب.

بحث تعارض الجرح والتعديل

3- بحث تعارض الجرح والتعديل: "إذا اجتمع في الراوي جرح مفسر وتعديل فالجمهور على أن الجرح مقدم. ولو كان عدد الجارح أقل من المعدل. قالوا: لأن مع الجارح زيادة علم؛ وقيل: إن زاد المعدلون في العدد على المجرحين قدم التعديل". انتهى ما في التقريب وشرحه1. وهذا القول وإن ضعف فهو الذي يتجه. وما أحسن مذهب النسائي في هذا الباب: وهو أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه، ولذا أرى من الواجب على المحقق أن لا يكتفي في حال الراوي على المختصرات في أسماء الرجال بل يرجع إلى مطولاته التي تحكي أقوال الأئمة فعسى أن لا يرى إجماعًا على تركه بل يرى كثرة فيمن عدله فليتق الله الجارح، وليستبرئ لدينه والله الموفق.

ثم رأيت التاج السبكي قال في طبقاته: "الحذر كل الحذر أن تفهم أن قاعدتهم: الجرح مقدم على التعديل إطلاقها، بل الصواب أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه، وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره لم يلتفت إلى جرحه". وقال أيضًا: "قد عرفناك أن الجارح لا يقبل منه الجرح، وإن فسره في حق من غلبت طاعته على معاصيه ومادحوه على ذاميه ومزكوه على جارحيه إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثله من تعصب مذهبي أو منافسة دنيوية كما يكون بين النظراء وغير ذلك، وحينئذ فلا يلتفت لكلام الثوري وغيره في أبي حنيفة وابن أبي ذئب وغيره في مالك وابن معين في الشافعي، والنسائي في أحمد بن صالح ونحوه، ولو أطلقنا تقديم الجرح لما سلم لنا أحد من الأئمة إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون". ا. هـ. وقال الحافظ الذهبي في ميزانه في ترجمة الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ما نصه: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعدواه أو لمذهب أو لحسد وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين ولو شئت لسردت من ذلك كراريس". ا. هـ. وقال العارف الشعراني قدس سره في مقدمة الميزان: "ما من راوٍ من الرواة المحدثين والمجتهدين كلهم إلا وهو يقبل الجرح كما يقبل التعديل لو أضيف إليه ما عدا الصحابة، وكذا التابعون عند بعضهم لعدم العصمة، أو الحفظ في بعضهم، ولكن لما كان العلماء -رضي الله عنهم- أمناء على الشريعة، وقدموا الجرح أو التعديل عمل به مع قبول كل الرواة لما وصف به الآخر احتمالًا، وإنما قدم جمهورهم التعديل على الجرح وقالوا الأصل العدالة والجرح طارئ لئلا يذهب غالب أحاديث الشريعة كما قالوا أيضًا إن إحسان الظن بجميع الرواة المستورين أولى، وكما قالوا إن مجرد الكلام في شخص لا يسقط مروية فلا بد من الفحص عن حاله، وقد خرج الشيخان لخلق كثير ممن تكلم الناس فيهم إيثارًا لإثبات الأدلة الشرعية على نفيها ليحوز الناس فضل العمل بها؛ فكان في ذلك فضل كثير للأمة، أفضل من تجريهم؛ كما أن تضعيفهم للأحاديث أيضًا رحمه للأمة، بتخفيف الأمر بالعمل بها، وإن لم يقصد الحفاظ ذلك، فإنهم لو لم يضعفوا شيئًا من الأحاديث وصححوها كلها لكان العمل بها واجبًا، وعجز عن ذلك غالب الناس فاعلم ذلك". ا. هـ.

بيان أن تجريح بعض رجال الصحيحين لا يعبأ به

4- بيان أن تجريح بعض رجال الصحيحين لا يعبأ به: قال الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: "ما احتج البخاري ومسلم به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب". وقال النووي في شرح البخاري: "ما ضعف من أحاديثهما مبني على علل ليست بقادحة". وقال الحافظ الذهبي في جزء جمعه في الثقات الذين تكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ما نصه وقد كتبت في مصنفي الميزان عددًا كثيرًا من الثقات الذين احتج البخاري أو مسلم، أو غيرهم بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في مصنفات الجرح، وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك، وما زال يمر بي الرجل الثبت، وفيه مقال من لا يعبأ به، ولو فتحنا هذا الباب على نفوسنا لدخل فيه عدة من الصحابة والتابعين والأئمة فبعض الصحابة كفر بعضهم بتأويل ما، والله يرضي عن الكل ويغفر لهم فما هم بمعصومين، وما اختلافهم ومحاربتهم بالتي تلينهم عندنا أصلًا، وبتكفير الخوارج لهم انحطت رواياتهم بل صار كلام الخوارج والشيعة فيهم جرحًا في الطاعنين فانظر إلى حكمة ربك نسأل الله السلامة، وهكذا كثير من كلام الأفران بعضهم في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى، ويطرح ولا يجعل طعنًا، ويعامل الرجل بالعدل والقسط. ا. هـ. وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح1، في الفصل التاسع في سياق أسماء من طعن فيه من رجال الصحيح والجواب عنه ما نصه: "ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راوٍ كان مقتض لعدالته عنده، وصحة ضبطه وعدم غفلته، ولا سيما

_ 1 ص183.

ما الضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين: وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما هذا إذا خرج له في الأصول فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط، وغيره مع حصول اسم الصدق لهم، وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنًا فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرًا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي، وفي ضبطه مطلقًا أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: "هذا جاز القنطرة" يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه قال الشيخ: أبو الفتح القشيري هو ابن دقيق العيد في مختصره لكتاب ابن الصلاح في مختصره: "وهكذا نعتقد وبه نقول ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهره، وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما. "قلت: فلا يقبل الطعن في أحد منهم إلا بقادح واضح لأن أسباب الجرح مختلفة، ومدارها على خمسة أشياء: البدعة أو المخالفة أو الغلط أو جهالة الحال أو دعوى الانقطاع في السند بأن يدعى في الراوي أنه كان يدلس أو يرسل: فأما جهالة الحال فمندفعة عن جميع من أخرج لهم في الصحيح لأن شرط الصحيح أن يكون راويه معروفًا بالعدالة فمن زعم أن أحدًا منهم مجهول فكأنه نازع المصنف في دعواه أنه معروف ولا شك أن المدعي لمعرفته مقدم على من يدعي عدم معرفته لما مع المثبت من زيادة العلم، ومع ذلك فلا تجد في رجال الصحيح أحدًا ممن يسوغ إطلاق اسم الجهالة عليه أصلًا كما سنبينه، وأما الغلظ فتارة يكثر من الراوي، وتارة يقل فحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر فيما أخرج له إن وحد مرويا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط علم أن المعتمد أصل

الحديث لا خصوص هذه الطريق، وإن لم يوجد إلا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا سبيله، وليس في الصحيح بحمد الله من ذلك شيء وحيث يوصف بقلة الغلط كما يقال سيء الحفظ، أو له أوهام، أو له مناكير وغير ذلك من العبارات، فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله إلا أن الرواية عن هؤلاء في المتابعات أكثر منها عند المصنف من الرواية عن أولئك، وأما المخالفة وينشأ عنها الشذوذ والنكارة فإذا روى الضابط والصدوق شيئًا فرواه من هو احفظ منه، أو أكثر عددًا بخلاف ما روي بحيث يتعذر الجمع على قواعد المحدثين فهذا شاذ، وقد تشتد المخالفة أو يضعف الحفظ فيحكم على ما يخالف فيه بكونه منكرًا، وهذا ليس في الصحيح منه إلا نزر يسير، أما دعوى الانقطاع فمدفوعة عمن أخرج لهم البخاري لما علم من شرطه، ومع ذلك فحكم من ذكر من رجاله بتدليس أو إرسال أن تسبر أحاديثهم الموجودة عنده بالعنعنة فإن وجد التصريح بالسماع فيها اندفع الاعتراض وإلا فلا، وأما البدعة فالموصوف بها إما أن يكون ممن يكفر بها أو يفسق فالمكفر بها لا بد أن يكون ذلك التكفير متفقًا عليه من قواعد جميع الأئمة كما في غلاة الروافض من دعوى بعضهم حلول الإلهية في علي أو غيره، أو الإيمان برجوعه إلى الدنيا قبل يوم القيامة، أو غير ذلك وليس في الصحيح من حديث هؤلاء شيء البتة، والمفسق بها كبدع الخوارج والروافض الذين لا يغلون ذلك الغلو، وغير هؤلاء من الطوائف المخالفين لأصول السنة خلافًا ظاهرًا لكنه مستند إلى تأويل ظاهره سائغ فقد اختلف أهل السنة في قبول حديث من هذا سبيله إذا كان معروفًا بالتحرز من الكذب مشهورًا بالسلامة من خوارم المروءة موصوفًا بالديانة أو العبادة فقيل يقبل مطلقًا، وقيل يرد مطلقًا والثالث التفصيل بين أن يكون داعية لبدعته، أو غير داعية فيقبل غير الداعية، ويرد حديث الداعية وهذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة وادعى ابن حبان إجماع أهل النقل عليه لكن في دعوى ذلك نظر. ثم اختلف القائلون بهذا التفصيل فبعضهم أطلق ذلك، وبعضهم زاده تفصيلًا فقال إن اشتملت رواية غير الداعية على

ما يشيد بدعته ويزينها ويحسنها ظاهرًا فلا يقبل، وإن لم تشتمل فتقبل، وطرد بعضهم هذا التفصيل بعينه في عكسه في حق الداعية فقال إن اشتملت روايته على ما يرد بدعته قبل وإلا فلا، وعلى هذا إذا اشتملت رواية المبتدع، سواء كان داعية أم لم يكن على ما لا تعلق له ببدعته أصلًا هل تقبل مطلقا أو ترد مطلقًا مال أبو الفتح القشيري إلى تفصيل آخر فيه فقال: إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه هو إخمادًا لبدعته وإطفاء لناره، وإن لم يوافقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث، ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته والله أعلم. "واعلم: أنه قد وقع من جماعة الطعن في جماعة بسبب اختلافهم في العقائد، فينبغي التنبيه لذلك وعدم الاعتداد به إلا بحق، وكذا عاب جماعة من الورعين جماعة دخلوا في أمر الدنيا فضعفوهم لذلك، ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط والله الموفق، وأبعد ذلك كله من الاعتبار تضعيف من ضعف بعض الرواة بأمر يكون الحمل فيه على غيره أو للتحامل بين الأقران، وأشد من ذلك تضعيف من ضعف من هو أوثق منه أو أعلى قدرًا أو أعرف بالحديث فكل هذا لا يعتبر به"1. ثم سرد الحافظ أسماء من طُعِنَ فيه من رجال البخاري مع حكاية الطعن والتنقيب عن سببه، والقيام بجوابه والتنبيه على وجه رده فرحمه الله تعالى ورضي عنه وجزاه خيرا.

_ 1 كذا ولعل الأصل: لا يعتد به.

الناقلون المبدعون

5- الناقلون المبدعون: سلف في المقالة قبل أن من أسباب الجراح البدعة، ونقلنا عبارة الفتح في ذلك بما كفى، بيد أن نزيد المقام بيانا لأهميته فنقول. ذهب الجمهور إلى أنه لا تقبل رواية المكفر ببدعته، وهو من يعتقد ما يستلزم الكفر قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة1: "والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته؛ لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها. فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف، فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرًا متواترًا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله" قال السخاوي: "وسبقه ابن دقيق العيد فقال: الذي تقرر عندنا أنه لا نعتبر المذاهب في الرواية إذ لا نكفر أحدًا من أهل القبلة إلا بإنكار قطعي من الشريعة فإذا اعتبرنا ذلك، وانضم إليه الورع والتقوى فقد حصل معتمد الرواية، وهذا مذهب الشافعي حيث يقبل شهادة أهل الأهواء" ثم قال السخاوي: "وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيما روينا عنه لا تظنن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم شرًّا وأنت تحد لها في الخير محلًّا". وفي جمع الجوامع2: "يقبل مبتدع يحرم الكذب". ا. هـ. قال المحلي2: "لأمنه فيه مع تأويله في الابتداع سواء دعا الناس إليه أم لا". ا. هـ. ولذا رد العراقي3 على من زعم أنه لا يحتج بالدعاة بأن الشيخين احتجا بهم قال: فاحتج البخاري بعمران بن حطان، وهو من الدعاة -أي دعاة الخوارج- واحتجا بعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني وكان داعية إلى الإرجاء وأجاب بأن أبا داود قال: "ليس في أهل الأهواء أصح حديثًا

_ 1 ص24. 2 ج2 ص115. 3 شرح مقدمة ابن الصلاح ص128 حلب، المطبعة العلمية، 1350هـ.

من الخوارج" ثم ذلك عمران بن حطان وأبا حسبان الأعرج. أقول: ها هنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن رجال الجرح والتعديل عدوا في مصنفاتهم كثيرًا ممن رُمِيَ ببدعة، وسندهم في ذلك ما كان يقال عن أحد من أولئك أنه شيعي أو خارجي، أو ناصبي أو غير ذلك مع أن القول عنهم بما ذكر قد يكون تقولا، وافتراء، ومما يدل عليه أن كثيرًا ممن رمي بالتشيع من رواة الصحيحين لا تعرفهم الشيعة أصلا، وقد راجعت من كتب رجال الشيعة كتاب: "الكشي" و"النجاشي" فما رأيت من رماهم السيوطي نقلًا عمن سلفه بالتشيع في كتابه، التقريب ممن خرج لهم الشيخان وعدهم خمسة وعشرين إلا راويين وهما أبان بن تغلب وعبد الملك بن أعين، ولم أر للبقية في ذينك الكتابين ذكرا، وقد استفدنا بذلك علما مهما، وفائدة جديدة وهي أنه ينبغي الرجوع في المرمى ببدعه إلى مصنفات رجالها فيها يظهر الأصيل من الدخيل والمعروف من المنكور، ونظير هذا ما كنت أدل عليه، وهو الرجوع في أقوال الفرق إلى مصنفاتها المتداولة حتى ينثلج بها الصدر وإلا فكم من قول افترى على مذهب، أو نقل مقلوبًا أو فاقد شرط كما يعلمه من حقق ورجع إلى الأصول، بل رأيت من الشراح من يضبط لفظه لغوية ويعزوها وبمراجعة المعزو إليه يظهر اشتباه في المادة، فتنبيه لهذه الفائدة واحرص عليها.

الناقلون المجهولون

6- الناقلون المجهولون: قال الخطيب البغدادي: "المجهول عند أهل الحديث، هل كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء ومن لم يُعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحد، وأقل ما يرتفع به الجهالة أن يروي عنه اثنان فصاعدا من المشهورين بالعلم، إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه" وقال الدارقطني: "تثبت العدالة برواية ثقتين عنه".

قول الراوى: حدثني الثقة، أو من لا يتهم، هل هو تعديل له

7- قول الراوي حدثني الثقة أو من لا يتهم هل هو تعديل له؟ ذهب الأكثرون إلى أنه لا يُكتفى به في التعديل حتى يسميه؛ لأنه وإن كان ثقة عنده، فلعله ممن جرح بجرح قادح عند غيره، بل إضرابه عن تسميته ريبة توقع ترددًا في القلب، وقيل إن قائل ذلك متى كان ثقة مأمونا فإنه يُكتفى به كما لو عينه؛ إذ لو علم فيه جرحا لذكره، ولو لم يذكره لكان غاشًا في الدين، ولا يلزم من إبهامه له تضعيفه عنده لأنه قد يهم لصغر سنة، أو لطبيعة المعاصرة أو المجاورة مما تقتضيه ظروف الزمان، والمحققون على الأول كما في التقريب وشرحه

ما وقع في الصحيحين وغيرهما من نحو: اين فلان، أو ولد فلان

ما وقع في الصحيحين وغيرهما من نحو: اين فلان، أو ولد فلان ... 8- ما وقع في الصحيحين وغيرهما من نحو ابن فلان أو ولد فلان: قال النووي: من عرفت عينه وعدالته، وجهل اسمه ونسبه احتج به أي لأن الجهل باسمه لا يخل بالعلم بعدالته.

قولهم: عن فلان أو فلان، وهما عدلان

9- قولهم: عن فلان أو فلان وهما عدلان قال النووي: وإذا قال الراوي: أخبرني فلان أو فلان على الشك، وهما عدلان احتج به أي لأنه قد عينهما وتحقق سماعه لذلك الحديث من أحدهما، وكلاهما مقبول. وذلك كحديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء، أو من زيد بن وهب أن سويد بن غفلة ... الحديث.

من لم يذكر في الصحيحين أو أحدهما لا يلزم منه جرحه

10- من لم يذكر في الصحيحين أو أحدهما لا يلزم منه جرحه: قال الذهبي في ميزانه في ترجمة أشعث بن عبد الملك: "ما ذكره أحد في الضعفاء. نعم، ما أخرجا له في الصحيحين فكان ماذا؟ ". ا. هـ.

اقتصار البخارى على رواية من روايات إشارة إلى نقد في غيرها

11- اقتصار البخاري على رواية من روايات إشارة إلى نقد في غيرها: قال الإمام تقي الدين بن تيميه في تفسير سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} 1: "قد أنكروا على مسلم إخراج أشياء كثيرة يسيرة: مثل ما روى في بعض طرق حديث صلاة كسوف الشمس أنه صلاها بثلاث ركوعات وأربع والصواب أنه لم يصلها إلا مرة واحدة بركوعين، ولهذا لم يخرج البخاري إلا هذا، وكذلك الشافعي وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وغيرهما، والبخاري سلم من مثل هذا فإنه إذا وقع في بعض الروايات غلط ذكر الروايات المحفوظة التي تبين غلط الغالط فإنه كان أعرف بالحديث وعلله وأفقه في معانية من مسلم ونحوه". ا. هـ.

_ 1 ص12 القاهرة المطبعة الحسينية، 1222هـ.

ترك رواية البخاري لحديث لا يوهنه

12- ترك رواية البخاري لحديث لا يوهنه: قال الإمام ابن القيم في: "إغاثة اللهفان"1 في بحث كون المطلق ثلاثا كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر يحسب له واحدة، وتقرير حديث مسلم في ذلك ما نصه: "رد الحديث فيه ضرب من التعنت ورواته كلهم أئمة حفاظ" ثم قال: "والحديث من أصح الأحاديث، وترك رواية البخاري لا يوهنه، وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه الجامع المختصر الصحيح". ا. هـ. وتوقف فيه بعض المحققين، بأن دعوى تسمية البخاري لجامعة بالمختصر، مطلوبة البيان، ودعوى التسيمة غير دعوى عدم الاحاطة بالصحيح، فإنها معنى آخر لا ينكر، إلا أن المدار على ما وقع عليه السبر.

_ 1 ص165.

بيان أن من روى له حديث في الصحيح لا يلزم صحة جميع حديثه

13- بيان أن من روى له حديث في الصحيح لا يلزم صحة جميع حديثه: قال الشعراني قدس سره في مقدمة ميزانه: "قال الحافظ المزي والحافظ الزيلعي رحمهما الله تعالى: وممن خرج لهم الشيخان مع كلام الناس فيهم جعفر بن سليمان الضبعي والحارث بن عبيدة، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي، وأبو أويس، لكن للشيخين شروط في الرواية عمن تكلم الناس فيه منها أنهم لا يروون عنه إلا ما توبع عليه، وظهرت شواهده، وعلموا أن له أصلًا فلا يروون عنه ما انفرد به، أو خالفه فيه الثقات وهذه العلة قد راجت على كثير من الحفاظ لا سيما من استدرك على الصحيحين كأبي عبد الله الحاكم فكثيرًا ما يقول: "وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين، أو أحدهما مع أن فيه هذه العلة" إذ ليس كل حديث احتج براويه في الصحيح يكون صحيحًا إذ لا يلزم من كون راويه محتجًا به في الصحيح أن يكون كل حديث وجدناه له يكون صحيحًا على شرط صاحب ذلك الصحيح لاحتمال فقد شرط من شروط ذلك الحافظ كما قدمنا". ا. هـ.

ما كان من روى المناكير ضعيف

ما كان من روى المناكير ضعيف ... 14- ما كل من روى المناكير ضعيف: قال السخاوي في فتح المغيث: "قال ابن دقيق العيد: قولهم "فلان روى المناكير" لا يقتضي بمجردة ترك روايته، حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي إلى أن يقال فيه منكر الحديث لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك بحديثه؛ وقد قال أحمد بن حنبل في محمد بن إبراهيم التيمي: يروي أحاديث منكرة، وهو ممن اتفق عليه الشيخان وإليه المرجع في حديث: "إنما الأعمال بالنيات". ا. هـ. وقال الحافظ الذهبي: "ما كل من روى المناكير بضعيف".

متى يترك حديث المتكلم فيه

15- متى يترك حديث المتكلم فيه: نقل الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "أن مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه". ا. هـ. وهو مذهب جيد.

جواز ذكر الراوى بلقبه الذى يكرهه للتعريف وأنه ليس بغيبة له

16- جواز ذكر الراوي بلقبه الذي يكرهه للتعريف وأنه ليس بغيبة له: قال النووي: "قال العلماء من أصحاب الحديث والفقه وغيرهم: يجوز ذكر الراوي بلقبه وصفته ونسبه الذي يكرهه، إذا كان المراد تعريفه لا تنقيصه، وجوز هذا للحاجة كما جوز جرحهم للحاجة، ومثال ذلك الأعمش والأعرج والأحول، والأعمى والأصم والأثرم، وابن علية وغير ذلك، وقد صنفت فيهم كتب معروفة".

الاعتماد في جرح الرواة وتعديلهم على الكتب المصنفة في ذلك

17- الاعتماد في جرح الرواة وتعديلهم على الكتب المصنفة في ذلك: لا يخفى أن الناس قد اعتمدوا في جرح الرواة وتعديلهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في ذلك، ولا يقال: قد اشترط الأئمة أن الجرح لا يثبت إلا إذا كان مفسرًا. وفي بعض تلك المصنفات المختصرات لا يتعرض لبيان السبب بل يقتصر فيها على نحو: ضعيف، أو مستور؛ واشتراط ذلك يفضي إلى تعطيل تلك المصنفات لأنا نقول إنما لم يتعرض لسبب الجرح فيها اختصارًا. وظاهر أن كل تصنيف لم يُتعرض فيه لذلك، فهو من المختصرات التي قصد بها تقريب الحكم للمراجع وإلا فالمطولات تكفلت بذلك، وليس الوقوف عليها لذي الهمة بعزيز.

بيان عدالة الصحابة أجمعين

18- بيان عدالة الصحابة أجمعين: وأن قول الراوي عن رجل من الصحابة من غير تسمية لا يضر في ذلك الخبر قال النووي في التقريب: "الصحابة كلهم عدول، من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به". وقيل: يجب البحث عن عدالتهم مطلقًا. وقال المازري في شرح البرهان: لسنا نعني بقولنا: "الصحابة عدول" كل من رآه -صلى الله عليه وسلم- يوما ما أو زاره، أو اجتمع به لغرض وانصرف وإنما يعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه. فإذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمه، كان ذلك حجة، ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم:

بيان معنى الصحابي

بيان معنى الصحابي ... 19- بيان معنى لصحابي: "هو من لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا به، ولو ساعة، سواء روى عنه أم لا. وإن كانت اللغة تقتضي أن الصاحب هو من كثرت ملازمته، فقد ورد ما يدل على إثبات الفضيلة لمن لم يحص منه إلا مجرد اللقاء القليل، والرؤية، ولو مرة ولا يشترط البلوغ لوجود كثير من الصحابة الذين أدركوا عصر النبوة، ورووا ولم يبلغوا إلا بعد موته، ولا الرؤية لأن من كان أعمى مثل ابن أم مكتوم، وقد وقع الاتفاق على أنه من الصحابة، ويعرف كونه صحابيا بالتواتر، والاستفاضة وبكونه من المهاجرين أو من الأنصار"1.

_ 1 راجع حصول المأمول لصديق حسن خان، ص65.

تفاضل الصحابة

20- تفاضل الصحابة: في شرح النخبة1: "لا خفاء برجحان رتبة من لازمه -صلى الله عليه وسلم- وقاتل معه، أو قتل معه تحت رأيته، على من لم يلازمه، أو لم يحضر معه مشهدًا، وعلى من كلمه يسيرًا، أو ما شاه قليلًا، أو رآه على بعد، أو في حاله الطفولية؛ وإن كان شرف الصحبة حاصلًا للجميع ومن ليس له منهم سماع منه، فحديثه مرسل من حيث الرواية وهم مع ذلك معدودون في الصحابة لما نالوه من شرف الرؤية". ا. هـ.

_ 1 ص28.

الباب السادس: في الإسناد وفيه مباحث

الباب السادس: في الإسناد؛ وفيه مباحث 1- فضل الإسناد: اعلم: أن الإسناد في أصله خصيصة فاضلة لهذه الأمة ليست لغيرها من الأمم. قال ابن حزم: "نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الاتصال، خص الله به المسلمين، دون سائر الملل وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من اليهود، ولكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد -صلى الله عليه وسلم- بل يقفون بحيث يكون بينهم، وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرًا، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه". قال: "وأما النصارى، فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق فقط، وأما النقل بالطريق المشتملة على كذاب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود، والنصاري" قال: "وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبي أصلًا ولا إلى تابع له، ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص". وقال أبو علي الجياني: "خص الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد والأنساب، والإعراب". ومن أدلة ذلك ما رواه الحاكم وغيره عن مطر الوراق في قوله تعالى {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} 1 قال: "إسناد الحديث". وقال ابن المبارك: "الإسناد من الدين لولا الإسناد لقال من شاء ما يشاء" أخرجه مسلم وقال سفيان بن عيينة: حدث الزهري يومًا بحديث فقلت هاته بلا إسناد؛ فقال الزهري أترقى السطح بلا سلم؟ وقال الثوري: الإسناد سلاح المؤمن. وقال أحمد بن حنبل: طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف لأن أصحاب عبد الله كانوا يرحلون من الكوفة إلى المدينة فيتعلمون من عمر، ويسمعون منه وقال محمد بن أسلم الطوسي قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله تعالى.

_ 1 سورة الأحقاف، الآية: 4.

معنى السند والإسناد والمسند والمتن

2- معنى السند والإسناد والمسند والمتن: أما السند: فقال البدر بن جماعة والطيبي "هو الإخبار عن طريق المتن". قال ابن جماعة: وأخذه إما من السند، وهو ما ارتفع وعلا من سفح الجبل؛ لأن المسند يرفعه إلى قائله؛ أو من قولهم فلان سند، أي معتمد فسمى الإخبار عن طريق المتن سندًا لاعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليه. وأما الإسناد: فهو رفع الحديث إلى قائله. قال الطيبي: "وهما متقاربان في معنى اعتماد الحفاظ في صحة الحديث وضعفه عليهما" وقال ابن جماعة: " المحدثون يستعلمون السند والإسناد لشيء واحد". وأما المسند: "بفتح النون" فله اعتبارات أحدها: الحديث السابق في أنواع الحديث؛ الثاني: الكتاب الذي جمع فيه ما أسنده الصحابة أي رووه، فهو اسم مفعول؛ الثالث: أن يطلق ويراد به الإسناد فيكون مصدرًا كمسند الشهاب ومسند الفردوس؛ أي أسانيد أحاديثهما. وأما المتن: فهو ألفاظ الحديث التي تقوم بها المعاني قاله الطيبى: وقال ابن جماعة: "هو ما ينتهي إليه غاية السند من الكلام". وأخذه إمام المماتنه، وهي المباعدة في الغاية لأنه غاية السند أو من متنت الكبش إذا شققت جلدة بيضته، واستخرجتها فكأن المسند استخرج المتن بسنده أو من المتن، وهو ما صلب وارتفع من الأرض لأن المسند يقويه بالسند ويرفعه إلى قائله أو من تمتين القوس أي شدها بالعصب؛ لأن المسند يقوي الحديث بسنده

أقسام تحمل الحديث

3- أقسام تحمل الحديث: الأول: السماع من لفظ الشيخ إملاء من حفظه أو تحديثًا من كتابه. الثاني: قراءة الطالب على الشيخ وهو ساكت يسمع، سواء كانت قراءة الطالب عليه من كتاب أو حفظ وسواء حفظ الشيخ ما قرئ عليه أم لا إذا أمسك أصله هو أو ثقةٌ غيره؛ ويسمى هذا عرضًا؛ لأن القارئ يعرض على الشيخ ما يقرؤه أهل السماع من الشيخ أعلى من القراءة عليه، أو القراءة أعلى أو هما سيان أقوال: أصحها أولها حكاه ابن الصلاح عن جمهور أهل المشرق، وأصله الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه كان يقرأ على الناس القرآن ويعلمهم السنن. الثالث: سماع الطالب على الشيخ بقراءة غيره. الرابع: المناولة مع الإجازة، كأن يدفع له الشيخ أصل سماعه، أو فرعًا مقابلًا به ويقول له: أجزت لك روايته عني. الخامس: الإجازة المجردة عن المناولة وهي أنواع. أعلاها أن يجيز لخاص في خاص، أي: بكون المجاز له معينًا، والمجاز به معينًا، كأجزت لك أن تروي عني البخاري، ويليه الإجازة لخاص في عام كأجزت لك رواية جميع مسموعاتي ثم لعام في خاص نحو أجزت لمن أدركني رواية البخاري ثم لعام في عام، كأجزت لمن عاصرني رواية جميع مروياتي، ثم لمعدوم تبعًا للموجود كأجزت لفلان، ومن يوجد بعد ذلك من نسله، وقد فعل ذلك أبو بكر بن أبي داود فقال: أجزت لك، ولولدك ولحبل الحبلة يعني الذين لم يولدوا بعد وأما إجازة المعدوم استقلالًا كأجزت لمن يولد لفلان، ولمن سيوجد فجوزها الخطيب البغدادي، وألف فيها جزءًا، وحكى صحتها عن أبي الفراء الحنبلي، وابن عمروس المالكي، ونسبه القاضي عياض لمعظم الشيوخ ومنعها غيرهم وصححه النووي في التقريب، وأما الإجازة للطفل الذي لا يميز فصحيحة قال الخطيب: "وعلى الجواز كافة شيوخنا، واحتج له بأنها إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه، والإباحة تصح للعاقل ولغيره قال ابن الصلاح:

"كأنهم رأوا الطفل أهلًا للتحمل ليؤدي بعد حصول الأهلية لبقاء الإسناد. وأما المميز فلا خلاف في صحة الإجازة له. هذا، والصحيح الذي قاله الجمهور واستقر عليه العمل: جواز الرواية والعمل بالإجازة. وادعى أبو الوليد الباجي، والقاضي عياض الإجماع عليها حتى قصر أبو مروان الطبني الصحة عليها، وحكى في التقريب، والتدريب عن جماعات إبطالها، وعن ابن حزم أنها بدعة بيد أن الجمهور على قبولها وصحتها وهو الذي درج عليه المحدثون سلفًا وخلفًا. السادس: المناولة من غير إجازة، بأن يناوله الكتاب مقتصرًا على قوله: "هذا سماعي" ولا يقول له: اروه عني ولا أجزت لك روايته؛ فقيل تجوز الرواية بها والصحيح المنع. السابع: الإعلام؛ كأن يقول هذا الكتاب من مسموعاتي على فلان، من غير أن يأذن له في روايته عنه وقد جوز بها الرواية كثيرون وصحح آخرون المنع. الثامن: الوصية، كأن يوصي بكتاب إلى غيره عند سفره أو موته، فجوز بعضهم للموصي له روايته عنه تلك الوصية لأن دفعها له نوعًا من الإذن، وشبهًا من المناولة وصحح الأكثرون المنع. التاسع: الوجادة، كأن يجد حديثًا أو كتابًا بخط شيخ معروف لا يرويه الواحد عنه بسماع، ولا إجازة فله أن يقول وجدت أو قرأت بخط فلان وفي مسند الإمام أحمد كثير من ذلك من رواية ابنه عنه قال النووي: "وأما العمل بالوجادة فعن المعظم أنه لا يجوز، وقطع البعض بوجوب العمل بها عند حصول الثقة به، قال: "وهذا هو الصحيح الذي لا يتجه في هذه الأزمان غيره". تنبيه: الألفاظ التي تؤدي بها الرواية على ترتيب ما تقدم هكذا: أملى عليًّ، حدثني، قرأت عليه، قرئ عليه وأنا أسمع أخبرني إجازة ومناولة أخبرني إجازة أنبأني مناولة أخبرني إعلاما أوصي إليَّ، وجدت بخطه.

بحث وحيز في الإجازة، ومعنى قولهم: أجزت له كذا بشرطه

بحث وحيز في الإجازة، ومعنى قولهم: أجزت له كذا بشرطه ... 4- بحث وخبر في الإجازة ومعنى قولهم أجزت له كذا بشرطه: قال الشهاب القسطلاني في المنهج: "الإجازة مشتقة من التجوز، وهو التعدي، فكأنه عدي روايته حتى أوصلها للراوي عنه.". ا. هـ. وقال الغمام اللغوي ابن فارس رحمه الله في جزئه في المصطلح: "يعني بالإجازة في كلام العرب1 مأخوذ من جواز الماء الذي يسقاه المال من الماشية، والحرث، يقال منه استجزت فلانًا فأجازني إذا أسقاك ماء لأرضك أو ماشيتك قال القطامي: وقالوا فقيم قيم الماء فاستجز ... عبادة إن المستجيز على قتر أي: على ناحية. كذلك طالب العلم يسأل العالم أن يجيزه علمه فيجيزه إياه فالطالب، مستجيز والعالم مجيز". ا. هـ. قال النووي: إنما تستحسن الإجازة إذا علم المجيز ما يجيزه، وكان المجاز له من أهل العلم واشترطه بعضهم في صحتها فبالغ وقال ابن سيد الناس: أقل مراتب المجيز أن يكون عالمًا بمعنى الإجازة العلم الإجمالي، من إنه روى شيئا، وأ، معنى إجازته لذلك الغير في رواية ذلك الشئ عنه بطريق الإجازة المعهودة، ولا العلم التفصيلي بما روى، وبما يتعلق بأحكام الإجازة، وهذا العلم الإجمالي، حاصل فيما رأيناه من عوام الرواة فإن انحط راوٍ في الفهم عن هذه الدرجة -ولا إخال أحدًا ينحط عن إدراك هذا إذا عرف به- فلا أحسبه أهلًا لن يتحمل عنه بإجازة ولا سماع، قال: وهذا الذي أشرت إليه من التوسع في الإجازة هو طريق الجمهور قال القسطلاني: وما عداه من التشديد فهو منافٍ لما جوزت الإجازة له من بقاء السلسلة نعم لا يشترط التأهل حين التحمل، ولم يقل أحد بالأداء بدون شرط الرواية، وعليه يحمل قولهم: أجزت له رواية كذا بشرطه ومنه ثبوت المروي من حديث المجيز وقال أبو مروان الطبي: إنها لا تحتاج لغير مقابلة نسخة بأصول الشيخ. وقال عياض: تصح بعد تصحيح روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها وصحة مطابقة كتب الراوي لها، والاعتماد على الأصول المصححة وكتب بعضهم لمن علم منه التأهل: "أجزت له الرواية عني وهو لما علم من إتقانه وضبطه غني عن تقييدي ذلك بشرطه". ا. هـ. وقد أوسعت الكلام على مادة الإجازة في شرحي على الأربعين العجلونية2 المسمى: "بالفضل المبين على عقد الجوهر الثمين" في شرح خطبة المتن فارجع إليه إن شئت

_ 1 المراد أن لفظ الإجازة مأخوذ من جواز الماء. 2 نسبة إلى الإمام المسند الشيخ إسماعيل ثم الدمشقي. وقد شرحه أستاذنا المؤلف رحمه الله في مائة وخمسين صفة من القطع الوسط ولا يزال مخطوطًا في الخزانة القاسمية.

أقدم إجازة عثرت عليها

5- أقدم إجازة عثرت عليها: جاء في شرح ألفيه العراقي نقلا عن الإمام أبي الحسن محمد بن أبي الحسين بن الوزان قال: ألفيت بخط أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب الحافظ الشهير صاحب يحيى بن معين وصاحب التاريخ ما مثاله: "قد أجزت لأبي زكريا يحيى بن مسلمة أن يروي عني ما أحب من كتاب التاريخ الذي سمعه مني، أبو محمد القاسم بن الأصبغ، ومحمد بن عبد الأعلى كما سمعاه مني، وأذنت له في ذلك ولمن أحب من أصحابه فإن أحب أن تكون الإجازة لأحد بعد هذا فأنا أجزت له ذلك بكتابي هذا، وكتبه أحمد بن أبي خيثمة بيده في شوال من سنة ست وسبعين ومائتين". وكذلك أجاز حفيد يعقوب بن شيبة وهذه نسختها فيما حكاه الخطيب: "يقول محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة: قد أجزت لعمر بن أحمد الخلال، وابنه عبد الرحمن بن عمرو لختنه علي بن الحسن جميع ما فاته من حديثي مما لم يدرك سماعه من المسند وغيره، وقد أجزت ذلك لمن أحب عمر فليرووه عني إن شاءوا وكتبت لهم ذلك بخطي في صفر سنه اثنتين وثلاثين وثلاثمائة". ا. هـ.

هل قول المحدث: حدثنا وأخبرنا وانبأنا بمعنى واحد أم لا

6- هل قول المحدث حدثنا وأخبرنا وأنبأنا بمعنى واحد أم لا؟ قال الحكيم الترمذي قدس الله سره في نوادر الأصول: "من أراد أن يؤدي إلى أحد حديثًا قد سمعه، جاز له أن يقول أخبرني وحدثني، وكذلك إذا كتب إليه من بلدة أخرى جاز أن يقول أخبرني، وحدثني فإن الخبر يكون شفاها أو بكتاب وذلك قوله تعالى في تنزيله1: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير} فإنما صار نبأ وخبرًا بوصول علم ذلك إليه، وكذلك يجوز أن يقول حدثني لأنه قد حدث إليه الخبر فسواء حدث شفاها أو بكتاب، وكذلك إذا ناوله كتابه فقال هذا حديثي لك، وهذا خبرني إياك فحدث عني، وأخبر عني جاز له أن يقول حدثني وأخبرني وكان صادقًا في قوله لأنه قد حدث إليه وأخبره فليس للمتمنع أن يمتنع من هذا تورعًا، ويتفقد الألفاظ مستقصيا في تحري الصدق بتوهم أن ترجمة قوله أخبرني وحدثني لفظه وبالشفتين، وليس هو كذلك فاللفظ لفظ والكلام كلام والقول قول والحديث حديث والخبر خبر، فالقول ترجيع الصوت، والكلام كلم القلب بمعاني الحروف، والخبر إلقاء المعنى إليك فسواء ألقاه إليك لفظًا أو كتابًا، وقد سمي الله القرآن في تنزيله: "حديثًا". حدث به العباد وخاطبهم به، وسمى الذي يحدث في المنام حديثًا فقال2: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} . ا. هـ. وروى البخاري في صحيحه عن الحميدي قال: "كان عند ابن عيينة حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحدًا" قال الحافظ في الفتح إيراده قول ابن عيينة دون غيره دال على أنه مختاره، واستدل البخاري على التسوية بين هذه الصيغ بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي" -وفي رواية: "أخبروني" وفي رواية: "أنبئوني" فدل ذلك على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى اللغة. ومن

_ 1 سورة التحريم، الآية: 3. 2 سورة يوسف، الآية: 2.

أصرح الأدلة فيه قوله تعالى1: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} وقوله تعالى2: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وأما بالنسبة إلى الاصطلاح ففيه الخلاف: فمنهم من استمر على أصل اللغة. وهذا رأي الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان وأكثر الحجازيين والكوفيين، وعليه استمر عمل المغاربة ورجحه ابن الحاجب في مختصره، ونقل عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة، ومنهم من رأى إطلاقه ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه، وتقييده حيث يقرأ عليه وهو التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التحمل فيخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ والإخبار بما يُقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جريج والأوزاعي والشافعي وابن وهب وجمهور أهل المشرق، ثم أحدث أتباعهم تفصيلًا آخر، فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال: حدثني، ومن سمع مع غيره جمع، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد فقال: أخبرني، ومن سمع بقراءة غيره جمع وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه، وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل، وظن بعضهم أن ذلك على وجوب فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته نعم، يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط؛ لأنه صار حقيقة عرفية عندهم فمن تجوز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين.

_ 1 سورة الزلزال، الآية: 4. 2 سورة فاطر، الآية: 14.

قول المحدث: وبه قال حدثنا

7- قول المحدث وبه قال حدثنا: قال القسطلاني: "إذا قرأ المحدث إسناد شيخه المحدث أول الشروع، وانتهى، عطف عليه بقوله في أول الذي يليه: "وبه قال حدثنا" ليكون كأنه أسنده إلى صاحبه في كل حديث أي لعود ضمير: "وبه" على السند المذكور كأنه يقول: "وبالسند المذكور، قال: أي صاحب السند لنا فهذا معنى قولهم: وبه قال.

الرمز بـ "ثنا" و "نا" و"أنا" و"ح"

8- الرمز بـ: "ثنا" و"نا" و"أنا" و"ح": قال النووي1: "جرت العادة بالاقتصار على الرمز في "حدثنا" و"أخبرنا" واستمر الاصطلاح عليه من قديم الأعصار إلى زماننا، واشتهر ذلك بحيث لا يخفى فيكتبون من حدثنا "ثنا" وربما حذفوا الثاء ويكتبون من أخبرنا "أنا"، وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، وجمعوا بينهما في متن واحد كتبوا عند الانتقال من إسناده إلى إسناد "ح" وهي حاء مهملة مفردة، والمختار أنها مأخوذة من التحول لتحوله من إسناده إلى إسناده وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها "حا" ويستمر في قراءة ما بعدها، وقيل إنها من حال بين الشيئين إذا حجز لكونها حالت بين الإسنادين، وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء، وليست من الرواية وقيل إنها رمز إلى قوله: "الحديث" وإن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصوا إليها: "الحديث" وقد كتب جماعة من الحفاظ موضعها: "صح" فيشعر بأنها رمز "صح"، وحسنت ها هنا كتابة "صح" لئلا يتوهم أنه سقط من الإسناد الأول ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرًا". ا. هـ. قلت: وقد كان بعض مشايخنا المسندين إذا وصل إليها يقول: "تحويل"، وكنت أستحسنه منه.

_ 1 التقريب: ص157.

عادة المحدثين في قراءة الإسناد

9- عادة المحدثين في قراءة الإسناد: قال النووي: "جرت عادة أهل الحديث بحذف "قال" ونحوه فيما بين رجال الإسناد في الخط، وينبغي للقارئ أن يلفظ بها، وإذا كان في الكتاب قرئ على فلان أخبرك فلان فيقولون قرئ على فلان قيل أخبرك فلان، وإذا تكررت كلمة: "قال" كقوله: "حدثنا صالح قال: قال الشعبي: "فإنهم يحذفون إحداهما في الخط فيلفظ بهما القارئ".

الإتيان بصيغة الجزم في الحديث الصحيح والحسن دون الضعيف

10- الإتيان بصيغة الجزم في الحديث الصحيح والحسن دون الضعيف: قال النووي في شرح مسلم: "قال العلماء ينبغي لمن أراد رواية حديث أو ذكره أن ينظر، فإن كان صحيحًا أو حسنًا قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا أو فعله أو تحو ذلك من صيغ الجزم"؛ وإن كان ضعيفًا فلا يقل قال أو فعل أو أمر أو نهى، وشبه ذلك من صيغ الجزم بل يقول رُوي عنه كذا أو جاء عنه كذا أو يُروى أو يُذكر أو يُحكى أو بلغنا وما أشبهه". وقال في شرح المهذب: "قالوا صيغ الجزم موضوعة للصحيح أو الحسن، وصيغ التمريض لسواهما. وذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته من المضاف إليه، فلا ينبغي أن تطلق إلا فيما صح وإلا فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه، وهذا الأدب أخل به جماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم بل جماهير أصحاب العلوم مطلقًا ما عدا حذاق المحدثين، وذلك تساهل قبيح فإنهم يقولون كثيرًا في الصحيح: "رُوي عنه" وفي الضعيف: "قال وروى فلان، وهذا حيد عن الصواب". ا. هـ.

متى يقول الراوى "أو كما قال"

11- متى يقول الراوي "أو كما قال": قال النووي: "ينبغي للراوي وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظة فقرأها على الشك أن يقول عقيبه: أو كما قال؛ وكذا يستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده: أو كما قال، أو نحو هذا كما فعلته الصحابة فمن بعدهم والله أعلم. وقد روى الدارمي في مسنده في باب: "من هاب ألفتيا مخافة السقط" آثارًا كثيرة في ذلك فمن شاء فليرجع إليه".

السر في تفرقة البخارى بين قوله: حديثا فلان، وقال لى فلان

السر في تفرقة البخارى بين قوله: حديثا فلان، وقال لى فلان ... 12- السر في تفرقة البخاري بين قوله: حدثنا فلان وقال لي فلان: لا يخفى أن البخاري رحمه الله احتاط لصحيحة ما لم يحتط لغيره من مصنفاته، فإنه التزم فيه غاية الصحة فربما عبر في صحيحه يقول: "وقال لي علي بن عبد الله، يعني ابن المديني"؛ وفي غيره كتاريخه بقوله: "حدثا علي بن عبد الله" في القضية الواحدة. والسر في ذلك أنه لا يعبر في صحيحة بقوله: وقال لي فلان، إلا في الأحاديث التي يكون في إسنادها عنده نظر أو التي تكون موقوفة، وزعم بعضهم أنه يعبر في ذلك فيما أخذه في المذاكرة، أو المناولة قال الحافظ ابن حجر: "وليس عليه دليل".

سر قولهم في خلال ذكر الرجال: يعنى ابن فلان أو هو ابن فلان

13- سر قولهم في خلال ذكر الرجال: يعني ابن فلان أو هو ابن فلان: قال النووي: "ليس للراوي أن يزيد في نسب غير شيخه ولا صفته على ما سمعه من شيخه، لئلا يكون كاذبًا على شيخه فإذا أراد تعريفه وإيضاحه وزوال اللبس المتطرق وإليه لمشابهة غيره، فطريقة أن يقول: قال حدثني فلان يعني ابن فلان أو الفلاني، أو هو ابن فلان أو الفلاني أو نحو ذلك، وقد استعمله الأئمة، وقد أكثر البخاري ومسلم منه غاية الإكثار، وهذا ملحظ دقيق ومن لا يعاني هذا الفن قد يتوهم أن قوله: "يعني" وقوله: "هو" زيادة لا حاجة إليها، وأن الأول حذفها وهذا جهل وسرها ما عرفت".

قولهم: دخل حديث بعضهم في بعض

14- قولهم: دخل حديث بعضهم في بعض: إذا روى الحفاظ حديثًا في صحاحهم أو سننهم أو مسانيدهم، واتفقوا في لفظه أو معناه، ووجد عند كل منهم ما انفرد به عن الباقين، وأراد راوٍ أن يخرجه عنهم بسياق واحد، فيقول حالتئذ: أخرج فلان وفلان وفلان دخل حديث بعضهم في بعض إشارة إلى أن اللفظ لمجموعهم، وأن عند كلٍّ ما انفرد به عن غيره.

قولهم: "أصح شيء في الباب كذا"

15- قولهم: "أصح شيء في الباب كذا": قال النووي في الأذكار1: "لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث. فإنهم يقولون هذا أصح ما جاء في الباب وإن كان ضعيفا ومرادهم أرجحه أو أقله ضعفا".

_ 1 تقدم مثله ص82 ولعل المناسبة اقتضت إعادته.

قولهم: "وفي الباب عن فلان"

16- قولهم: "وفي الباب عن فلان": كثيرًا ما يأتي بذلك الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في جامعه حيث يقول: "وفي الباب عن فلان وفلان" ويعدد صحابة، ولا يريد ذلك الحديث المعين بل يريد أحاديث آخر يصح أن تكتب في الباب. قال العراقي: "وهو عمل صحيح، إلا أن كثيرًا من الناس يفهمون من ذلك أن من سُمي من الصحابة يروون ذلك الحديث بعينه وليس كذلك بل قد يكون كذلك" وقد يكون حديثًا آخر يصح إيراده في ذلك الباب.

أكثر ما وجد من رواية التابعين بعضهم عن بعض

17- أكثر ما وجد من رواية التابعين بعضهم عن بعض: قال الحافظ ابن حجر: "أكثر ما وجد من رواية التابعين عن بعض بالاستقراء ستة أو سبعة".

هل يشترط في رواية الأحاديث السند أم لا

18- هل يشترط في رواية الأحاديث السند أم لا: اختلف العلماء فيمن نقل حديثًا من كتاب من الكتب المشهورة، وليس له به سند من أحد بطريق من الطرق، هل يسوغ له أن يقول قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا فالجمهور على جوازه، وضعفه قوم كما هو ظاهر كلام العراقي، وصريح كلام الحافظ أبي بكر الإشبيلي، ونقل العلامة الشهاب ابن حجر المكي في فتاواه الحديثية عن الزين العراقي، أنه قال: نقل الإنسان ما ليس له به رواية غير سائغ بإجماع أهل الدراية، وعن الحافظ ابن جبر الإشبيلي خال الحافظ السهيلي أنه قال: "اتفق العلماء أنه لا يصح لمسلم أن يقول قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا حتى يكون عنده ذلك القول مرويا، ولو على أقل وجوه الروايات"، وأطال في ذلك من النقول ثم قال: "كلام النووي، وابن الصلاح متفق على عدم اشتراط تعدد الأصل المقابل عليه إذا كان النقل منه للرواية بخلافه للعمل والاحتجاج فقد اشترط ابن الصلاح تعدد الأصول المقابل عليها دون النووي فإنه اكتفى بأصل، واحد معتمد وقال ابن برهان: ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه بل إذا صحت عنده النسخة من الصحيحين مثلًا، جاز له العمل بها وإن لم يسمعها". ا. هـ. وإلى هذا أشار الزين العراقي في ألفيته حيث قال: وأخذ متن من كتاب لعمل ... أو احتجاج حيث ساغ قد جعل عرضا له على أصول يشترط ... وقال يحيى النووي أصل فقط ثم قال ابن حجر في الفتاوى المذكورة: "ومن هذا وما قبله تعين حمل اشتراط ابن الصلاح للتعدد على الاستجباب، كما قاله جماعة، ولا منافاة بين ما قاله ابن برهان من الإجماع على الجواز بشرطه على ما إذا كان لمجرد الاستنباط، وبحمل عدمه بشرطه على ما إذا كان للرواية عن ذلك المصنف من غير أن تصح أصول بسماعه له ولا تيقن أنه سمعه من شيخه". ا. هـ. ملخصًا. وقال الحافظ السيوطي في كتابه: "تدريب الرواي شرح تقريب النواوي": خاتمة: زاد العراقي في ألفيته هنا لأجل قول ابن الصلاح حيث ساغ له وذلك أن الحافظ أبا بكر محمد بن جبر بن عمر الأموي "بفتح الهمزة" الإشبيلي خال أبي القاسم السهيلي قال في برنامجه، اتفق العلماء على أنه لا يصح لمسلم أن يقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا

حتى يكون عنده ذلك القول مرويًّا، ولو على أقل وجوه الروايات لحديث: "من كذب عليًّ". ا. هـ. ولم يتعقبه العراقي، وقد تعقبه الزركشي في جزء له فقال فيما قرأته بخطه: نقل الإجماع عجيب، وإنما حكى ذلك عن بعض المحدثين؛ ثم هو معارض بنقل ابن برهان إجماع الفقهاء على الجواز فقال في الأوسط: ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه بل إذا صح عنده النسخة جاز له العمل بها، وإن لم يسمع، وحكى الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة، ولا يشترط اتصال السند إلى مصنفيها وذلك شامل لكتب الحديث والفقه، وقال إلكيا الطبري في تعليقه من وجد حديثًا في كتاب صحيح جاز له أن يرويه ويحتج به، وقال قوم من أصحاب الحديث لا يجوز له أن يرويه لأنه لم يسمعه، وهذا غلط. وكذا حكاه إمام الحرمين في البرهان عن بعض المحدثين، وقال: هم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول -يعني المقتصرين على السماع لا أئمة الحديث- وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في جواب سؤال كتبه إليه محمد بن عبد الحميد: "وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها، فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها والاستناد؛ إليها لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم لحصول الثقة بها وبعد التدليس، ومن اعتقد أن الناس قد اتفقوا على الخطأ في ذلك فهو أولى بالخطأ منهم، ولولا جواز الاعتماد على ذلك لتعطيل كثير من المصالح المتعلقة بها، وقد رجع الشارع إلى قول الأطباء في صور، وليست كتبهم مأخوذة في الأصل إلا عن قوم كفار، ولكن لما بعد التدليس فيها اعتمد عليها كما اعتمد في اللغة على أشعار العرب لبعد التدليس". ا. هـ. قال: -أي الزركشي المتقدم- "وكتب الحديث أولى بذلك من كتب الفقه وغيرها؛ لاعتنائهم بضبط النسخ وتحريرها فمن قال إن شرط التخريج من كتاب يتوقف على اتصال السند إليه فقد خرق الإجماع، وغاية المخرج أن ينقل الحديث من أصل موثوق بصحته وينسبه إلى من رواه، ويتكلم على علته وغريبه وفقهه. قال: وليس الناقل لإجماع مشهورًا بالعلم مثل اشتهار هؤلاء الأئمة قال: بل نص الشافعي في الرسالة على أنه يجوز أن يحدث بالخبر

وإن لم يعلم أنه سمعه، فليت شعري أي إجماع بعد ذلك؟ قال: واستدلاله على المنع بالحديث المذكور أعجب وأعجب؛ إذ ليس في الحديث اشتراط ذلك وإنما فيه تحريم القول بنسبة الحديث إليه حتى يتحقق أنه قاله، وهذا لا يتوقف على روايته بل يكفي في ذلك وجوده في كتب من خرج الصحيح أو كونه نص على صحته إمام وعلى ذلك عمل الناس". ا. هـ. "فتحرر من مجموعة ذلك أن الصحيح جواز نقل الحديث من الكتب المعتمدة وإضافته إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يكن للناقل به رواية لكن بشرط أن يكون المنقول عنه كتابًا معتمدًا به في الحديث مقابلًا، ولو بأصل واحد فلا يجوز إضافة حديث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمجرد وجوده في كتاب لم يعلم مؤلفه أو علم ولم يكن من أهل الحديث كما يؤخذ من كلام العز بن جماعة" انتهى من القول السديد في اتصال الأسانيد للشهاب المنيني.

فوائد الأسانيد المجموعة في الأثبات

19- فوائد الأسانيد المجموعة في الأثبات: اعلم أن في تطلب أسانيد الكتب غاية للحكماء سامية، ألا وهي التشوف إلى الرجوع إليها ومطالعتها. فإن العاقل إذا رأى حرص الأقدمين على روايتها بالسند إلى مصنفيها علم أن لها مقاما مكينا في سماء العرفان فيأخذ في قراءتها، واقتباس الفوائد، والمعارف منها فيزداد تنورًا وترقيا في سلم العلوم، فإن العلم قوام العالم وعماد العمران وهو الكنز الثمين والذخر الذي لا يفنى. ومن فوائد أسانيد الكتب: حفظها من النسيان والضياع؛ ومن فوائدها: نشر العلوم والمعارف وترويجها وإذاعتها بين الخاصة والعامة، لتقف عليها الطلاب ومنها: الترغيب والتشويق لمطالعة الكتب فإن الرغبة في المطالعة من أكبر النعم التي خص بها نوع الإنسان، ومن فوائدها الدلالة على اعتبار الأولين لكتب العلم والتنويه بشأنها، وتعظيم قدرها وإعلائها فإن كتبهم تحمل علومهم ومعارفهم وتذيعها في الخافقين وتقربها من طلابها ذانية القطوف، قريبة الجنا والمرء يفخر وينافس أقرانه إذا لقي

رجلًا من كبار العلماء، وحادثه ساعة من الزمان فكيف إذا استطاع أن يقيم معه، ويحادثه مدة حياته؟ وهكذا من نظر في كتب الحديث فهو محادث للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومطلع على هديه وأخباره كما لو ساكنه، وعاشره وشافهه وما أقربه وأيسره لمن روى تلك الكتب ودراها ولذلك قال الترمذي عن سننه: "من كان في بيته فكأنما في بيته نبي يتكلم"، وهكذا يقال في بقية الجوامع الحديثية فاعلم ذلك وما أرق ما قاله الوزير لسان الدين بن الخطيب في مقدمة كتابه: "الإحاطة في أخبار غرناطة"، ولولا ذلك لو يشعر آت في الخلق بذاهب، ولا اتصل بغائب فماتت الفضائل بموت أهليها، وأفلت نجومها عن أعين مجتليها فلم يرجع إلى خبر ينقل، ولا دليل يعقل، ولا سياسة تكتسب، ولا أصالة إليها ينتسب فهدى سبحانه وألهم، وعلم الإنسان بالقلم ما لم يكن يعلم حتى ألفينا المراسم قائدة، والمراشد هادية والأخبار منقولة والأسانيد موصولة والأصول محررة والتواريخ مقررة والسير مذكورة والآثار مأثورة والفضائل من بعد أهلها باقية والمآثر قاطعة شاهدة كأن نهار القرطاس وليل المداد ينافسان الليل والنهار في عالم الكون والفساد، فمهما طويا شيئا ولعا بنشره أو دفنا ذكرًا دعوا إلى نشره.

ثمرة رواية الكتب بالأسانيد في الأعصار المتأخرة

20- ثمرة رواية الكتب بالأسانيد في الأعصار المتأخرة: قال الشيخ ابن الصلاح: "اعلم أن الرواية بالأسانيد المتصلة ليس المقصود منها في عصرنا، وكثير من الأعصار قبله إثبات ما يروى إذ لا يخلو إسناد منها عن شيخ لا يدري ما يرويه، ولا يضبط ما في كتابه ضبطا يصلح لأن يعتمد عليه في ثبوته، وإنما المقصود بها بقاء سلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة، زادها الله كرامة". ا. هـ.

بيان أن تحمل الأخبار على الكيفيات المعروفة من ملح العلم لا من صلبه، وكذا استخراج الحديث من طرق كثيرة

21- بيان أن تحمل الأخبار على الكيفيات المعروفة من ملح العلم لا من صلبه وكذا استخراج الحديث من طرق كثيرة: قد بين ذلك الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى في موافقاته1 بقوله في أقسام ما كان من ملح العلم: "الثاني: تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها، ولا يطلب التزامها كالأحاديث المسلسلة التي أتى بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد، فالتزمها المتأخرون بالقصد فصار تحملها على ذلك القصد تحريا له، بحيث يتعنى في استخراجها، ويبحث عنها بخصوصها مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل، وإن صحبها العمل؛ لأن تحلفه في أثناء تلك الأسانيد لا يقدح في العمل بمقتضى تلك الأحاديث كما في حديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن ... " فإنهم التزموا فيه أن يكون أول حديث يسمعه التلميذ من شيخه فإن سمعه منه بعد ما أخذ عنه، لم يمنع ذلك الاستفادة بمقتضاه، وكذا سائرها غير أنهم التزموا ذلك على جهة التبرك، وتحسين الظن خاصة وليس بمطرد في جميع الأحاديث النبوية أو أكثرها حتى يقال إنه مقصود فطلب مثل ذلك من ملح العلم لا من صلبه. "والثالث: التأنق في استخراج الحديث من طرق كثيرة لا على قصد طلب تواتره، بل على أن يعد آخذا له عن شيوخ كثيرة من جهات شتى وإن كان راجعًا إلى الآحاد في الصحابة والتابعين أو غيرهم فالاشتغال بهذا من الملح لا من صلب العلم خرج أبو عمر بن عبد البر عن حمزة بن محمد الكناني قال: خرجت حديثا واحدًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتى طريق أو من نحو مائتى طريق شك الراوي، فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل وأعجبت بذلك فرأيت يحيى بن معين في المنام فقلت له: يا أبا زكرياء قد خرجت حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتى طريق، قال فسكت عني ساعة ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت: "ألهاكم التكاثر"، هذا ما قال وهو صحيح في الاعتبار لأن تخريجه من طرق يسيرة كاف في المقصود منه فصار الزائد على ذلك فضلًا. ا. هـ.

_ 1 ص46، ح1 القاهرة، المطبعة السلفية 1341هـ.

توسع الحفاظ رحمهم الله تعالى في طبقات السماع

22- توسع الحفاظ رحمهم الله تعالى في طبقات السماع: قال السخاوي في فتح المغيث: "لما صار الملحوظ بقاء سلسلة الإسناد، توسعوا فيه بحيث كان يكتب السماع عند المزي وبحضرته لمن يكون بعيدًا عن القارئ، وكذا للناعس والمتحدث والصبيان الذين لا ينضبط أحدهم بل يلعبون غالبًا، ولا يشتغلون بمجرد السماع حكاه ابن كثير قال: وبلغني عن القاضي التقي سليمان بن حمرة أنه زجر في مجلسه الصبيان عن اللعب فقال: لا تزجروهم فإنا إنما سمعنا مثلهم، وكذا حُكي عن ابن المحب الحافظ التسامح في ذلك، ويقول: كذا كنا صغارا نسمع، فربما ارتفعت أصواتنا في بعض الأحيان، والقارئ يقرأ فلا ينكر علينا من حضر المجلس من كبار الحفاظ كالمزي، والبرزالي والذهبي وغيرهم من العلماء، وذكر السخاوي قبل ذلك أن شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- سئل عمن لا يعرف من العربية كلمة فأمر بإثبات سماعه، وكذا حكاه ابن الجزري عن كلٍّ من ابن رافع وابن كثير وابن المحب، بل حكى ابن كثير أن المزي كان يحضر عنده من يفهم ومن لا يفهم -يعني من الرجال- ويكتب للكل السماع، وذكر أيضًا عند قول العراقي: "وقبلوا من مسلم تحملًا في كفره" ما نصه: "ومن هنا أثبت أهل الحديث في الطباق اسم من يتفق حضوره مجالس الحديث من الكفار رجاء أن يسلم، ويؤدي ما سمعه كما وقع في زمن التقي ابن تيميه أن الرئيس المطبب يوسف بن عبد السيد اليهودي الإسرائيلي سمع في حال يهوديته مع أبيه من الشمس محمد بن عبد المؤمن الصوري أشياء من الحديث، وكتب بعض الطلبة اسمه في الطبقة في جملة أسماء السامعين فأنكر عليه، وسئل ابن تيميه عن ذلك فأجازه ولم يخالفه أحد من أهل عصره بل ممن أثبت اسمه في الطبقة: الحافظ المزي، ويسر الله أنه أسلم بعد، وسُمي محمدًا، وأدى فسمعوا منه، وممن سمع منه الحافظ الشمس الحسين وغيره من أصحاب المؤلف -يعني العراقي- ولم يتيسر له هو السماع منه مع أنه رآه بدمشق، ومات في رجب سنة سبع وخمسين وسبعمائة". ا. هـ.

بيان الفرق بين المخرج "اسم فاعل" والمخرج "اسم مكان"

23- بيان الفرق بين المخرج "اسم فاعل" والمخرج "اسم مكان": كثيرًا ما يقولون بعد سوق الحديث: "خرَّجه فلان، أو أخرجه" بمعنى ذكره، فالمخرج "بالتشديد أو التخفيف" اسم فاعل، هو ذاكر الرواية كالبخاري؛ وأما قولهم في بعض الأحاديث: "عرف مخرجه" أو: "لم يعرف مخرجه" فهو "بفتح الميم والراء" بمعنى محل خروجه، وهو رجاله الراوون له لأنه خرج منهم.

سر ذكر الصحابي في الأثر ومخرجه من المحدثين

24- سر ذكر الصحابي في الأثر ومخرجه من المحدثين: اعلم أنه يكفي في الأثر المروي ذكر الصحابي الذي رواه، ومخرجه من المحدثين المشهورين، وفي ذلك فوائد جمة: أما ذكر الصحابي ففائدته أن الحديث تتعدد رواته وطرقه وبعضها صحيح وبعضها ضعيف، فيُذكر الصحابي ليعلم ضعيف المروي من صحيحة، ومنها رجحان الخبر بحال الراوي من زيادة فقهه وورعه ومعرفة ناسخه من منسوخه بتقدم إسلام الراوي وتأخره، وأما ذكر المخرج ففائدته تعيين لفظ الحديث وتبيين رجال إسناده في الجملة، ومعرفة كثرة المخرجين وقلتهم في ذلك الحديث لإفادة الترجيح، وزيادة التصحيح، ومنها: الرجوع إلى الأصول عند الاختلاف في الفصول إلى غير ذلك من المنافع الجليلة "كذا في شرح المشكاة".

الباب السابع: في أحوال الرواية وفيه مباحث

الباب السابع: في أحوال الرواية؛ وفيه مباحث: 1- رواية الحديث بالمعنى: اعلم أنه قد رخص في سوق الحديث بالمعنى، دون سياقه على اللفظ، جماعة منهم: علي، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وأبو هريرة -رضي الله عنهم- ثم جماعة من التابعين يكثر عددهم منهم إمام الأئمة الحسن البصري ثم الشعبي وعمرو بن دينار وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة نقل ذلك عنهم في كتب سيرهم بأخبار مختلفة الألفاظ، وقال ابن سيرين: "كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد والألفاظ مختلفة" وكذلك اختلفت ألفاظ الصحابة في رواية الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من يرويه تاما ومنهم من يأتي بالمعني، ومنهم من يورده مختصرًا وبعضهم يغاير بين اللفظين ويراه واسعا إذا لم يخالف المعنى، وكلهم لا يتعمد الكذب، وجميعهم يقصد الصدق، ومعنى ما سمع فلذلك وسعهم وكانوا يقولون: "إنما الكذب على من تعمده" وقد رُوِيَ عن عمران بن مسلم، قال رجال للحسن: يا أبا سعيد إنما تحدث بالحديث أنت أحسن له سياقا، وأجود تحبيرًا، وأفصح به لسانا منه إذا حدثنا به. فقال: "إذا أصيب المعنى فلا بأس بذلك" وقد قال النضر بن شميل: "كان هشيم لحانا فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة -يعني بالإعراب- وكان النضر بن شميل نحويًّا، وكان سفيان يقول: "إذا رأيتم يشدد في ألفاظ الحديث في المجلس، فاعلم أنه يقول: اعرفوني" قال: وجعل رجل يسأل يحيى بن سعيد القطان عن حرف في الحديث على لفظه

فقال له يحيى: يا هذا ليس في الدنيا أجل من كتاب الله تعالى، قد رخص للقراءة فيه بالكلمة على سبعة أحرف فلا تشدد!. وفي شرح التقريب1 للحافظ السيوطي في النوع السادس والعشرين، في الفرع الرابع منه، ما نصه مع بعض اختصار: "إن لم يكن الراوي عالما بالألفاظ، خبيرًا بما يحيل معانيها لم تجز له الرواية، لما سمعه بالمعنى بلا خلاف، بل يتعين اللفظ الذي سمعه فإن كان عالمًا بذلك فقالت طائفة من أهل الحديث والفقه والأصول: لا يجوز إلا بلفظه، وإليه ذهب ابن سيرين وثعلب وأبو بكر الرازي من الحنفية، ورُوِيَ عن ابن عمر وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف، منهم الأئمة الأربعة: يجوز بالمعنى في جميع ذلك إذا قطع بأداء المعنى؛ لأن ذلك هو الذي يشهد به أحوال الصحابة والسلف، ويدل عليه رواياتهم اللفظة الواحدة بألفاظ مختلفة، وقد ورد في المسألة حديث مرفوع رواه ابن منده في: "معرفة الصحابة" والطبراني في: "الكبيرة" من حديث عبد الله بن سليمان بن أكثم الليثي قال: قلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني إذا سمعت منك الحديث لا أستطيع أن أرويه كما أسمع منك يزيد حرفا أو ينقص حرفًا فقال: "إذا لم تحلوا حرامًا ولم تحرموا حلالًا وأصبتم المعنى فلا بأس" فذكرت ذلك للحسن فقال: "لولا هذا ما حدثنا! " وقد استدل الشافعي لذلك بحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" 2. وروى البيهقي عن مكحول قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على وأثلة بن الأسقع فقلنا له: "حدثنا بحديث سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس فيه وهم ولا تزيد ولا نسيان! " فقال: "هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئا فقلنا: نعم وما نحن بحافظين له جدًّا إنا نريد الواو والألف وننقص فقال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظا، وإنكم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عسى أن لا يكون سمعنا لها منه إلا مرة واحدة؟ حسبكم إذا حدثنا كم بالحديث على المعنى".

_ 1 ص61. 2 أخرجه الشيخان وأحمد والترمذي وغيرهم من حديث أبي وغيره.

وأسند أيضًا في: "المدخل" عن جابر بن عبد الله قال حذيفة: "إنا قوم عرب نورد الحديث فنقدم ونؤخر" وأسند أيضًا عن شعيب بن الحجاب قال: "دخلت أنا، وعبدان على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد الرجل يحدث بالحديث فيزيد فيه، أو ينقص منه" قال: "إنما الكذب من تعمد ذلك". وأسند أيضًا عن جرير بن حازم، قال: "سمعت الحسن يحدث بأحاديث الأصل واحد والكلام مختلف" وأسند عن ابن عمون قال: "كان الحسن وإبراهيم والشعبي يأتون بالحديث على المعاني" وأسند عن أويس قال: "سألنا الزهري عن التقديم والتأخير في الحديث فقال: هذا يجوز في القرآن فكيف به في الحديث وإذا أصيب معنى الحديث فلم يحل به حراما، ولم يحرم حلالا فلا بأس" ونقل ذلك سفيان عن عمرو بن دينار وأسند عن وكيع قال: "إن لم يكن المعنى واسعًا فقد هلك الناس". ا. هـ. "ذكره السيد مرتضى في شرح الإحياء". وقال الحكيم الترمذي قدس الله سره في كتابه: "نوادر الأصول": الأصل الثامن والستون والمائتان: في سرد رواية الحديث بالمعنى عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم1: "نضر الله امرأ سمع منا حديثًا فبلغه كما سمع منا فإنه رب مبلغ هو أوعى له من سامع" ثم رواه عن زيد بن ثابت، وجبير بن مطعم قال الترمذي قدس سره اقتضى العلماء الأداء، وتبليغ العلم فلو كان اللازم لهم أن يؤدوا تلك الألفاظ التي بلغت أسماعهم بأعيانها بلا زيادة، ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير كانوا يستودعونها الصحف كما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقران فكان إذا نزل الوحي دعا الكاتب فكتبه مع ما توكل الله له يجمعه، وقرآنه فقال2: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . وقال3: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فكان الوحي محروسا بكتبه ولو كانت هذه الأحاديث سبيلها

_ 1 راجع تخريج هذا الحديث في ص48. 2 سورة القيامة الآية: 17. 3 سورة يوسف الآية 12، 63.

هكذا لكتبها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهل جاءنا عن أحد منهم أنه فعل ذلك؟ وجاء عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما، أنه استأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صحيفة فأذن له، وأما سائر الأخبار فإنهم تلقوها منه حفظًا وأدوها حفظًا فكانوا يقدمون ويؤخرون، وتختلف ألفاظ الرواية فيما لا يتغير معناه فلا ينكر ذلك منهم، ولا يرون بذلك بأسًا. ثم أسند الترمذي قدس سره عن أبي هريرة وعبد الله بن أكيمة مرفوعًا جواز ذلك إذا لم يحرم حلال ولم يحل حرام وأصيب المعنى كما تقدم قيل ثم قال الترمذي: "فمن أراد أن يؤدي إلى من بعده حديثًا قد سمعه جاز له، أن يغير لفظه ما لم يتغير المعنى". ا. هـ. وقال الإمام ابن فارس في جزئه في المصطلح في الكلام على من كان من الرواة يتورع في أداء اللفظ الملحون ويكتب عليه "كذا" ما مثاله: "هذا التثبت حسن لكن أهل العلم قد يتساهلون إذا أدوا المعنى، ويقولون: لو كان أداء اللفظ واجبا حتى لا يغفل منه حرف لأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإثبات ما يسمعون منه كما أمرهم بإثبات الوحي الذي لا يجوز تغيير معناه ولا لفظه فلما لم يأمرهم بإثبات ذلك دل على أن الأمر في التحديث أسهل وإن كان أداء ذلك اللفظ الذي سمعه أحسن". ا. هـ. وقال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "وأما الرواية بالمعنى فالخلاف فيها شهير، والأكثر على الجواز أيضًا ومن أقوى حججهم الإجماع على شرح الشريعة للعجم بلسانهم للعارف به. فإذا جاز الإبدال بلغة أخرى فجوازه باللغة العربية أولى، وقيل: إنما يجوز في المفردات دون المركبات، وقيل: إنما يجوز لمن يستحضر اللفظ ليتمكن من التصرف فيه، وقيل: إنما يجوز لمن كان يحفظ الحديث فنسي لفظه، وبقي معناه مرتسمًا في ذهنه فله أن يرويه بالمعنى لمصلحة تحصيل الحكم منه بخلاف من كان مستحضرًا للفظه وجميع ما تقدم يتعلق بالجواز وعدمه، ولا شك أن الأولى إيراد الحديث بألفاظه دون التصرف فيه قال القاضي عياض: "ينبغي سد باب الرواية بالمعني لئلا يتسلط من لا يحسن ممن يظن أنه يحسن كما وقع لكثير من الرواة قديمًا وحديثًا والله الموفق".

تنبيه: احتج بعضهم لمنع الرواية بالمعنى بحديث: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها" وبأنه -صلى الله عليه وسلم- مخصوص بجوامع الكلم، ففي النقل بعبارة أخرى لا يؤمن الزيادة والنقصان. والجواب عن الأول: بأن الأداء كما سمع، ليس مقصورًا على نقل اللفظ، بل النقل بالمعنى من غير تغيير، أداء كما سمع، فإنه أدى المعنى كما سمع لفظه، وفهمه منه نظيره أن الشاهد والمترجم إذا أدى المعنى من غير زيادة ولا نقصان، يقال إنه أدى كما سمع، وإن كان الأداء بلفظ آخر. ولو سلم أن الأداء كما سمع مقصور على نقل اللفظ، فلا دلالة في الحديث على عدم الجواز غايته أنه دعاء للناقل باللفظ لكونه أفضل، ولا نزاع في الأفضلية وعن الثاني بأن الكلام في غير جوامع الكلم ونظائرها. "كذا في المرآة وحواشيها".

جواز رواية بعض الحديث بشروطه

2- جواز رواية بعض الحديث بشروطه: قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "أما اختصار الحديث فالأكثر على جوازه بشرط أن يكون الذي يختصره عالمًا؛ لأن العالم لا ينقص من الحديث إلا ما لا تعلق له بما يبقيه منه، بحيث لا تختلف الدلالة، ولا يختل البيان، حتى يكون المذكور والمحذوف بمنزلة خبرين، أو يدل ما ذكره على ما حذفه؛ بخلاف الجاهل فإنه قد ينقص ما له تعلق، كترك الاستثناء". وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: "الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير والمحققون من أصحاب الحديث جواز رواية بعض الحديث من العارف، إذا كان ما تركه غير متعلق بما رواه، بحيث لا يختل البيان، ولا تختلف الدلالة في تركه، سواء جوَّزنا الرواية بالمعنى أم لا، وسواء رواه قبلُ تامًَّا أم لا". ثم قال: وأما تقطيع المصنفين الحديث في الأبواب، فهو بالجواز أولى، بل يبعد طرد الخلاف فيه؛ وقد استمر عليه عمل الأئمة الحفاظ الجلة من المحدثين وغيرهم من أصناف العلماء. ا. هـ.

سر تكرار الحديث في الجوامع والسنن والمسانيد

3- سر تكرار الحديث في الجوامع والسنن والمسانيد: قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح1 في الفصل الثالث في بيان تقطيع البخاري للحديث، واختصاره وفائدة إعادته له في الأبواب وتكراره ما نصه "قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي فيما رويناه عنه في جزء سماه جواب المتعنت اعلم أن البخاري رحمه الله كان يذكر الحديث في كتابه مواضع، ويستدل به في كل باب بإسناد آخر، ويستخرج منه بحسن استنباطه، وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه وقلما يورد حديثًا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد، وإنما يورده من طريق أخرى لمعان نذكرها والله أعلم بمراده منها. "فمنها: أنه يخرج الحديث عن صحابي ثم يورده عن صحابي آخر، والمقصود منه أن يخرج الحديث عن حد الغرابة وكذلك يفعل في أهل الطبقة الثانية والثالثة وهلم جرا إلى مشايخه فيعتقد من يرى ذلك من غير أهل الصنعة أنه تكرار، وليس كذلك لاشتماله على فائدة زائدة. ومنها: أنه صحح أحاديث على هذه القاعدة يشتمل كل حديث منها على معان متغايرة فيورده في كل باب من طريق غير الطريق الأولى. ومنها أحاديث يرويها بعض الرواة تامة ويرويها بعضهم مختصرة فيوردها كما جاءت ليزيل الشبهة عن ناقليها. ومنها: أن الرواة ربما اختلفت عباراتهم فحدث راو بحديث فيه كلمة تحتمل معنى، وحدث به آخر فعبر عن تلك الكلمة بعينها بعبارة أخرى تحتمل معنى آخر فيورده بطرقه إذا صحت على شرطه ويفرد لكل لفظه بابًا مفردًا.

_ 1 ص12.

ومنها: أحاديث تعارض فيها الوصل والإرسال، ورجح عنده الوصل فاعتمده، وأورد الإرسال منبهًا على أنه لا تأثير له عنده في الوصل. ومنها: أحاديث تعارض فيها الوقف والرفع والحكم فيها كذلك. ومنها: أحاديث زاد فيها بعض الرواة رجلًا في الإسناد، ونقصه بعضهم فيوردها على الوجهين حيث يصح عنده أن الراوي سمعه من شيخ حدثه به عن آخر ثم لقي الآخر فحدثه به فكان يرويه، على الوجهين. ومنها: أنه ربما أورد حديثًا عنعنه راويه فيرويه من طريق أخرى مصرحًا فيها بالسماع على ما عرف من طريقته في اشتراط ثبوت اللقاء في المعنعن، فهذا جميعه فيما يتعلق بإعادة المتن الواحد في موضع آخر أو أكثر. وأما تقطيعه للحديث في الأبواب تارة، واقتصاره منه على بعضه أخرى فذلك لأنه إن كان المتن قصيرًا أو مرتبطًا بعضه ببعض، وقد اشتمل على حكمين فصاعدًا فإنه يعيده بحسب ذلك مراعيًا مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثية، وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه قبل ذلك كما تقدم تفصيله فيستفيد بذلك تكثير الطرق لذلك الحديث، وربما ضاق عليه مخرج الحديث حيث لا يكون له إلا طريق واحدة فيتصرف حينئذ فيه فيورده في موضع موصولًا، وفي موضع معلقًا ويورده تارة تامًّا وتارة مقتصرًا على طرفه الذي يحتاج إليه في ذلك الباب فإن كان المتن مشتملًا على جمل متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى فإنه يخرج كل جملة منها في باب مستقل فرارًا من التطويل، وربما نشط فساقه بتمامه فهذا كله في التقطيع. "وقد حكى بعض شراح البخاري أنه وقع في أثناء الحج في بعض النسخ بعد باب قص الخطبة بعرفة باب تعجيل الوقوف قال أبو عبد الله يزاد في هذا الباب حديث مالك عن ابن شهاب ولكني لا أريد أن أدخل فيه معادًا". ا. هـ. وهو يقتضي أن لا يتعمد أن يخرج في كتابه حديثًا معادًا بجميع إسناده ومتنه، وإن كان قد وقع له من ذلك شيء فعن غير قصد، وهو قليل جدًّا

"وأما اقتصاره على بعض المتن ثم لا يذكر الباقي في موضع آخر، فإنه لا يقع له ذلك الغالب، إلا حيث يكون المحذوف موقوفا على الصحابي؛ وفيه شيء، قد يحكم يرفعه فيقتصر على الجملة التي يحكم لها بالرفع، ويحذف الباقي لأنه لا تعلق له بموضوع كتابه كما وقع في حديث هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن أهل الإسلام لا يسيبون وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون هكذا أورده وهو مختصر من حديث موقوف أوله جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال إني أعتقت عبدًا لي سائبة فمات، وترك مالًا ولم يدع وارثًا، فقال عبد الله: "إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون فأنت ولي نعمته فلك ميراثه فإن تأثمت، وتحرجت في شيء فنحن نقبله منك ونجعله في بيت المال" فاقتصر البخاري على ما يعطي حكم الرفع من هذا الحديث الموقوف، وهو قوله: "إن أهل الإسلام لا يسيبون" لأنه يستدعى بعمومه النقل عن صاحب الشرع لذلك الحكم واختصر الباقي لأنه ليس من موضوع كتابه، وهذا من أخفى المواضع التي وقعت له من هذا الجنس وإذا تقرر ذلك اتضح أنه لا يعيد إلا لفائدة حتى لو لم تظهر لإعادته فائدة من جهة الإسناد ولا من جهة المتن لكان ذلك لإعادته لأجل مغايرة الحكم التي1 تشتمل عليه ترجمة الثانية موجبًا لئلا يعد مكررًا فلا فائدة. كيف وهو لا يخليه مع ذلك من فائدة إسنادية وهي إخراجه للإسناد عن شيخ غير الشيخ الماضي أو غير ذلك والله الموفق". انتهى كلام الحافظ ابن حجر وبه يعلم سر صنيع من حذا حذو الإمام البخاري في مشربه جميعه، أو بعضهن فتدبر فإنه من البدائع.

_ 1 كذا في مقدمة الفتح ولعله [الذي] .

5- ذكر الخلاف في الاستشهاد بالحديث على اللغة والنحو وكذلك بكلام الصحابة وآل البيت -رضي الله عنهم:

5- ذكر الخلاف في الاستشهاد بالحديث على اللغة والنحو وكذلك بكلام الصحابة وآل البيت -رضي الله عنهم: قال الشيخ عبد القادر البغدادي في خزانة الأدب، على شواهد شرح الكافية: "قال الأندلسي في شرح بديعية رفيقه ابن جابر: علوم الأدب ستة وهي: الصرف والنحو واللغة والمعاني والبيان والبديع؛ والثلاثة الأول لا يستشهد عليها إلا بكلام العرب، دون الثلاثة الأخيرة فإنه يستشهد فيها بكلام غيرهم من المولدين لأنها راجعة إلى المعاني، ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم، ولذلك قبل من أهل هذا الفن الاستشهاد بكلام البحتري وأبي تمام وأبي الطيب وهلم جرا، قال وأقول الكلام الذي يستشهد به نوعان شعر وغيره فقائل الأول العلماء على طبقات أربع: الطبقة الأولى: الشعراء الجاهليون، وهم قبل الإسلام كامرئ القيس والأعشى، والثانية: المخضرمون وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام كلبيد وحسان، والثالثة: المتقدمون ويقال لهم الإسلاميون وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق، والرابعة المولدون ويقال لهم المحدثون وهم من بعدهم إلى زماننا كبشار بن برد وأبي نواس. فالطبقتان الأوليان يستشهد بشعرهما إجماعًا وأما الثالثة فالصحيح صحة الاستشهاد -لعل الصواب عدم صحة الاستشهاد- بكلامها وقد كان أبو عمرو بن العلاء، وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن البصري وعبد الله بن شبرمة يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة وأضرابهم وكانوا يعدونهم من المولدين لأنهم كانوا في عصرهم، وأما الرابعة فالصحيح أنه لا يحتج بكلامها مطلقا، وقيل يحتج بكلام من يوثق به منهم واختاره الزمخشري وتبعه الشارح المحقق "أي الرضي" فإنه استشهد بشعر أبي تمام في عدة مواضع من هذا الشرح، واستشهد الزمخشري أيضًا في تفسير أوائل البقرة من الكشاف ببيت من شعره، وقال: وهو وإن كان محدثا لا يستشهد بشعره في اللغة فهو عن علماء العربية فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه.

وأما قائل الثاني "أي غير الشعر" فهو إما ربنا تبارك وتعالى، فكلامه عز اسمه أفصح كلام وأبلغه، وإما أحد الطبقات الثلاث الأولى من طبقات الشعر التي قدمناها. وأما الاستدلال بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد جوزه ابن مالك ومنعه ابن الضائع وأبو حيان وسندهما أمران: أحدهما: أن الأحاديث لم تنقل كما سمعت من النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما رويت بالمعنى. وثانيهما: أن أئمة النحو المتقدمين من المصرين لم يحتجوا بشيء منه، ورد الأول على تقدير تسليمه بأن النقل بالمعنى إنما كان في الصدر الأول قبل تدوينه في الكتب، وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لف بلفظ يصح الاحتجاج به، ورد الثاني: بأنه لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به. "والصواب جواز الاحتجاج بالحديث للنحوي في ضبط ألفاظه، ويلحق به ما رُوي عن الصحابة وأهل البيت". وقال السيوطي في "الاقتراح": "وأما كلامه -صلى الله عليه وسلم- فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المروي، وذلك نادر جدًّا، إنما يوجد في الأحاديث القصار، على قلة أيضًا، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولوون قبل تدوينها، وفرووها بما أدت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا، وقدموا وأخروا، وبدلوا ألفاظًا بألفاظ، ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مرويًّا على أوجه شتى بعبارات مختلفة". وقال أبو حيان في شرح التسهيل: "قد أكثر المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحدًا من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء فقال: إنما ذكر العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإنما كان كذلك لأمرين أحدهما أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كأسمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى والأمر الثاني أنه وقع اللحن كثيرًا فيما رُوي من الحديث لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ويتعلمون لسان العرب

بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وروايتهم، وهم لا يعلمون، ودخل في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب" انتهى باختصار. قال بعضهم: ويلحق بذلك ما رُوي من خطب الإمام علي التي جمعها السيد الرضي في كتاب: "نهج البلاغة"؛ وهذه أيضًا لم يثبت أنها لفظ الإمام، فقد جاء في خطبة جامع الكتاب ما نصه: "وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد والمعنى المكرر والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدًا فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول إما بزيادة مختارة أو بلفظ عبارة لتقتضى الحال أن يعاد، واستظهارًا للاختيار وغيره على عقائل الكلام" انتهى بحروفه. بل جاء في ترجمة ابن خلكان للشريف المرتضى أخي الشريف الرضي ما نصه: "وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه والله أعلم".

الباب الثامن: في آداب المحدث وطالب الحديث وغير ذلك وفيه مسائل

الباب الثامن: في آداب المحدث وطالب الحديث وغير ذلك؛ وفيه مسائل 1- آداب المحدث: قال حجة الإسلام الغزالين في كتاب: "الأدب في الدين"1 ما مثاله: آداب المحدث: يقصد الصدق ويجتنب الكذب ويحدث بالمشهور، ويروى عن الثقات ويترك المناكير ولا يذكر ما جرى بين السلف، ويعرف الزمان ويتحفظ من الزلل والتصحيف واللحن والتحريف ويدع المداعبة ويقل المشاغبة ويشكر النعمة إذ جعل في درجة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويلزم التواضع ويكون معظم ما يحدث به ما ينتفع المسلمون به من فرائضهم وسننهم وآدابهم في معاني كتاب ربهم عز وجل، ولا يحمل علمه إلى الوزراء ولا يغشى أبواب الأمراء فإن ذلك يزري بالعلماء، ويذهب بهاء علمهم إذا حملوه إلى ملوكهم ومياسيرهم ولا يحدث بما لا يعلمه في أصله ولا يقرأ عليه ما لا يراه في كتابه ولا يتحدث إذا قرئ عليه، ويحذر أن يدخل حديثًا في حديث.

_ 1 ص5، القاهرة، المطبعة العربية، 1343هـ.

آداب طالب الحديث

2- آداب طالب الحديث: يكتب المشهور، ولا يكتب الغريب، ولا يكتب المناكير، ويكتب عن الثقات، ولا يغلبه شهرة الحديث على قرينه، ولا يشغله طلبه عن مروءته وصلاته يجتنب الغيبة وينصت للسماع ويلزم الصمت بين يدي محدثه، ويكثر التلفت عند إصلاح نسخته، ولا يقول: سمعت وهو ما سمع، ولا ينشره لطلب العلو فيكتب من غير ثقة ويلزم أهل المعرفة بالحديث من أهل الدين، ولا يكتب عمن لا يعرف الحديث من الصالحين1. ا. هـ.

_ 1 المصدر السابق: ص5.

ما يفتقر إليه المحدث

3- ما يفتقر إليه المحدث: قال النووي: "مما يفتقر إليه من أنواع العلوم، صاحب هذه الصناعة، معرفة الفقه والأصولين، والعربية، وأسماء الرجال، ودقائق علم الأسانيد، والتاريخ، ومعاشرة أهل هذه الصنعة، ومباحثتهم مع حسن الفكر ونباهة الذهن، ومداومة الاشتغال ونحو ذلك من الأدوات التي يفتقر إليها".

ما يستحب للمحدث عند التحديث

ما يستحب للمحدث عند التحديث ... 4- ما يستحب للمحدث عنه التحديث: يستحب له إذا أراد حضور مجلس التحديث أن يتطهر بغسل أو وضوء، ويتطيب ويتبخر ويستاك كما ذكره ابن السمعاني، ويسرح لحيته ويجلس في صدر مجلسه متمكنًا في جلوسه بوقار وهيبة، وقد كان مالك يفعل ذلك فقيل له فقال: "أحب أن أعظم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أحدث إلا على طهارة متمكنًا". وكان يكره أن يحدث في الطريق أو وهو قائم "أسنده البيهقى" وأسند عن قتادة قال: "لقد كان يستجب أن لا تقرأ الأحاديث إلا على طهارة"، وعن ضرار بن مرة قال: "كانوا يكرهون أن يحدثوا على غير طهر"، وعن ابن المسيب أنه سئل عن حديث، وهو مضطجع في مرضه فجلس، وحدث به فقيل له وددت أنك لم تتعن فقال: "كرهت أن أحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا مضطجع". وعن بشر بن الحارث أن ابن المبارك سئل عن حديث وهو يمشي فقال: "ليس هذا من توقير العلم! " وعن مالك قال: "مجالس العلم تُحتضر

بالخشوع والسكينة والوقار، ويكره أن يقوم لأحد" فقد قال: إذا قام القارئ لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأحد فإنه يكتب عليه خطيئة، فإن رفع أحد صوته في المجلس زبره - أي انتهره- وزجره فقد كان مالك يفعل ذلك أيضًا ويقول قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} 1 فمن رفع صوته عند حديثه فكأنما رفع صوته فوق صوته، ويقبل على الحاضرين كلهم فقد قال حبيب بن أبي ثابت: "إن من السنة إذا حدث الرجل القوم أن يقبل عليهم جميعًا ويفتتح مجلسه ويختمه بتحميد الله تعالى والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعاء يليق بالحال بعد قراءة قارئ حسن الصوت شيئًا من القرآن العظيم فقد روى الحاكم في: "المستدرك" عن أبي سعيد قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا اجتمعوا تذاكروا العلم، وقرءوا سورة، ولا يسرد الحديث سردًا عجلًا يمنع فهم بعضه كما رُوي عن مالك أنه كان لا يستعجل ويقول: "أحب أن أفهم حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم" وأورد البيهقي في ذلك حديث البخاري عن عروة قال: جلس أبو هريرة إلى جنب حجرة عائشة، وهي تصلي فجعل يحدث فلما قضت صلاتها قال: ألا تعجب إلى هذا وحديثه إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يسرد الحديث كسردكم" في لفظ عند البيهقي عقيبه: "إنما كان حديثه فصلًا تفهمه القلوب" "كذا في التقريب شرحه التدريب"2.

_ 1 سورة الحجرات، الآية: 2. 2 ص172.

بيان طرق درس الحديث

5- بيان طرق درس الحديث: اعلم أن لدرس الحديث ثلاثة طرق عند العلماء: أولها: السرد: وهو أن يتلو السيخ المسمع أو القارئ كتابًا من كتب هذا الفن من دون تعرض لمباحثه اللغوية والفقهية وأسماء الرجال ونحوها وثانيها: طريق الحل والبحث: وهو أن يتوقف بعد تلاوة الحديث الواحد مثلًا على لفظه الغريب، وتراكيبه العويصة، واسم قليل الوقوع من أسماء الإسناد، وسؤال ظاهر الورود والمسألة المنصوص عليها، ويحله بكلام متوسط ثم يستمر في قراءة ما بعدها. وثالثها: طريق الإمعان: وهو أن يذكر على كلمة ما لها وما عليها، كما يذكر مثلًا على كل كلمة غريبة، وتراكيب عويصة شواهدها من كلام الشعراء، وأخوات تلك الكلمة وتراكيبها في الاشتقاق ومواضع استعمالاتها؛ وفي أسماء الرجال حالات قبائلهم وسيرهم ويخرج المسائل الفقيهة على المسائل المنصوص عليها ويقص القصص العجيبة والحكايات الغريبة بأذنى مناسبة، وما أشبهها فهذه الطرق هي المنقولة عن علماء الحرمين قديمًا وحديثًا. قال المولى ولي الله الدهلوي، ومختار الشيخ حسن العجيمي، والشيخ أحمد القطان، والشيخ أبي طاهر الكردي: هو الطريق الأول -يعني السرد- بالنسبة إلى الخواص المتبحرين ليحصل لهم سماع الحديث، وسلسلة روايته على عجالة ثم إحالة بقية المباحث على شروحه لأن ضبط الحديث مداره اليوم على تتبع الشروح والحواشي، وبالنسبة إلى المبتدئين والمتوسطين الطريق الثاني -يعني البحث والحل- ليحيطوا بالضروري في علم الحديث علمًا، ويستفيدوا منه على وجه التحقيق دركًا وفهمًا، وعلى هذا يسرحون أنظارهم في شرح من شروح كتب الحديث غالبًا، ويرجعون إليه أثناء البحث لحل العضال ورفع الإشكال، وأما الطريق الثالث فهو طريقة القصاص القاصدين منه إظهار الفضل والعلم لأنفسهم ونحوها والله أعلم.

أمثلة من لا تقبل روايته، ومنهم من يحدث لا من أصل مصحح

6- أمثلة من لا تقبل روايته ومنهم من يحدث لا من أصل مصحح: في التقريب وشرحه1، في المسألة الحادية عشرة من النوع الثالث والعشرين ما نصه: "لا تقبل رواية من عرف بالتساهل في سماعه أو في إسماعه، كمن لا يبالي بالنوم في السماع منه أو عليه، أو يحدث لا من أصل مصحح مقابل على أصله أو أصل شيخه".

_ 1 ص124.

الأدب عند ذكره تعالي وذكر رسوله والصحابة والتابعين

7- الأدب عند ذكره تعالى وذكر رسوله والصحابة والتابعين: قال النووي: "يستحب لكاتب الحديث إذا مر ذكر الله عز وجل أن يكتب: "عز وجل" أو "تعالى" أو "سبحانه وتعالى" أو "تبارك وتعالى" أو "جل ذكره" أو "تبارك اسمه" أو "جلت عظمته" أو ما أشبه ذلك وكذلك يذكر عند ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم: "بكمالهما لا رمزًا إليهما ولا مقتصرًا على أحدهما، وكذلك يقول في الصحاب: "رضي الله عنه" فإن كان صحابيًّا ابن صحابي قال: "رضي الله عنهما" وكذلك يترضى ويترحم على سائر العلماء والأخيار ويكتب1 كل هذا وإن لم يكن مكتوبًا في الأصل الذي ينقل منه، فإن هذا ليس رواية وإنما هو دعاء، وينبغي للقارئ أن يقرأ كل ما ذكرناه، وإن لم يكن مذكورًا في الأصل الذي يقرأ منه، ولا يسأم من تكرر ذلك ومن أغفل هذا حرم خيرًا عظيمًا وفوت فضلًا جسيمًا".

_ 1 قد يقال: إن المحافظة على كلام المؤلف ومشربه يقتضي أن لا يزيد في كلامه ذلك، نعم لا عليه أن يأتي بذلك لسانًا، فتأمل. ا. هـ. "المصنف".

الاهتمام بتجويد الحديث

8- الاهتمام بتجويد الحديث: قال الإمام البديري في آخر شرحه لمنظومة البيقونية: "أما قراءة الحديث مجودة كتجويد القرآن فهي مندوبة. وذلك لأن التجويد من محاسن الكلام، ومن لغة العرب، ومن فصاحة المتكلم وهذه المعاني مجموعة فيه -صلى الله عليه وسلم- فمن تكلم بحديثه -صلى الله عليه وسلم- فعليه بمراعاة ما نطق به -صلى الله عليه وسلم". ا. هـ. ولا يخفى أن التجويد من مقتضيات اللغة العربية؛ لأنه من صفاتها الذاتية؛ لأن العرب لم تنطق بكلمها إلا مجودة فمن نطق بها غير مجودة، فكأنه لم ينطق بها فما هو في الحقيقة من محاسن الكلام بل من الذاتيات له فهو إذن من طبيعة اللغة لذلك من تركه لقد وقع في اللحن الجلي لأن العرب لا تعرف الكلام إلا مجودًا.

الباب التاسع: في كتب الحديث وفيه فوائد

الباب التاسع: في كتب الحديث؛ وفيه فوائد 1- بيان طبقات كتب الحديث: قال الإمام العارف الكبير الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله الدهلوي قدس الله سره في كتابه: "حجة الله البالغة"1 تحت الترجمة المذكورة ما نصه: "اعلم أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الشرائع والأحكام إلا خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف المصالح فإنها قد تدرك بالتجربة والنظر الصادق والحدس ونحو ذلك، ولا سبيل لنا إلى معرفة أخباره إلا تلقي الروايات المنتهية إلية بالاتصال والعنعنة سواء كانت من لفظه أو كانت أحاديث موقوفة قد صحت الرواية بها عن جماعة الصحابة والتابعين بحيث يبعد إقدامهم على الجزم بمثله لو النص أو الإشارة من الشارع فمثل ذلك رواية عنه دلالة، وتلقي تلك الروايات لا سبيل إليه في يومنا هذا إلا تتبع الكتب المدونة في علم الحديث، فإنه لا يوجد اليوم رواية يعتمد عليها غير مدونة. "وكتب الحديث على طبقات مختلفة، ومنازل متباينة، فوجب الاعتناء بمعرفة طبقات كتب الحديث فنقول: هي باعتبار الصحة، والشهرة على أربع طبقات، وذلك لأن أعلى أقسام الحديث ما ثبت بالتواتر، وأجمعت الأمة على قبوله والعمل به ثم ما استفاض من طرق متعددة لا يبقى معها شبهة يعتد بها، واتفق على العمل به جمهور فقهاء الأمصار أو لم يختلف فيه علماء الحرمين خاصة فإن الحرمين محل الخلفاء الراشدين

_ 1 ص105، القاهرة، المطبعة الخيرية، 1322هـ.

في القرون الأولى، ومحط رجال العلماء طبقة بعد طبقة، يبعد أن يسلموا منهم الخطأ الظاهر؛ أو كان قولًا مشهورًا معمولًا به في قطر عظيم مرويًّا عن جماعة عظيمة من الصحابة والتابعين؛ ثم صح أو حسن سنده، وشهد به علماء الحديث ولم يكن قولًا متروكًا لم يذهب إليه أحد من الأمة. "أما ما كان ضعيفًا1 موضوعًا أو منقطعًا أو مقلوبًا في سنده أو متنه، أو من رواية المجاهيل، أو مخالفًا لما أجمع عليه السلف، طبقة بعد طبقة فلا سبيل إلى القول به". "فالصحة أن يشترط مؤلف الكتاب على نفسه إيراد ما صح، أو حسن غير مقلوب ولا شاذ ولا ضعيف إلا من بيان حاله، فإن إيراد الضعيف مع بيان حاله لا يقدح في الكتاب". "والشهرة أن تكون الأحاديث المذكورة فيها دائرة على ألسنة المحدثين قبل تدوينها، وبعد تدوينها فيكون أئمة الحديث قبل المؤلف رووها بطرق شتى وأوردوها في مسانيدهم، ومجاميعهم وبعد المؤلف اشتغلوا برواية الكتاب وحفظه وكشف مشكله وشرح غريبه وبيان إعرابه وتخريج طرق أحاديثه واستنباط فقهها، والفحص عن أحوال رواتها طبقة بعد طبقة إلى يوما هذا حتى لا يبقى شيء مما يتعلق به غير مبحوث عنه إلا ما شاء الله، ويكون نقاد الحديث قبل المصنف وبعده، وافقوه في القول بها وحكموا بصحتها وارتضوا رأي المصنف فيها، وتلقوا كتابه بالمدح والثناء ويكون أئمة الفقه لا يزالون يستنبطون ويعتمدون عليها ويعتنون بها ويكون العامة لا يخلون عن اعتقادها، وتعظيمها، وبالجملة فإذا اجتمعت هاتان الخصلتان في كتاب كان من الطبقة الأولى ثم وثم، وإن فقدتا رأسا لم يكن له اعتبار، وما كان أعلى حد في الطبقة الأولى فإنه يصل إلى حد التواتر وما دون ذلك يصل إلى الاستفاضة ثم إلى الصحة القطعية أعني القطع المأخوذ في علم الحديث المفسد للعمل، والطبقة الثانية إلى الاستفاضة أو الصحة القطعية، أو الظنية وهكذا ينزل الأمر.

_ 1 كذا في "حجة الله البالغة" ولعله "أو موضوعًا".

فالطبقة الأولى: محصرة بالاستقراء في ثلاثة كتب: الموطأ وصحيح البخاري وصحيح مسلم، قال الشافعي: أصح الكتب بعد كتاب الله موطأ مالك، واتفق أهل الحديث على أن جميع ما فيه صحيح على رأي مالك ومن وافقه، وأما على رأي غيره فليس فيه مرسل، ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه. "ولم يزل العلماء يخرجون أحاديثه، ويذكرون متابعاته وشواهدة، ويشرحون غريبة ويضبطون مشكله، ويبحثون عن فقهه، ويفتشون عن رجاله إلى غاية. ليس بعدها غاية وإن شئت الحق الصراح، فقس كتاب: "الموطأ" بكتاب: "الآثار" لمحمد و"الأمالي" لأبي يوسف، تجد بينه وبينهما بعد المشرقين فهل سمعت أحدًا من المحدثين والفقهاء تعرض لهما واعتنى بهما؟ "أما الصحيحان فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأن كل من يهون أمرهما فهو مبتدع غير سبيل المؤمنين، وإن شئت الحق الصراح فقسهما بكتاب ابن أبي شيبة، وكتاب الطحاوي، ومسند الخوارزمي وغيرهما تجد بينها وبينهما بعد المشرقين. وهذه الكتب الثلاثة التي اعتنى القاضي عياض في المشارق بضبط مشكلها ورد تصحيفها. الطبقة الثانية: كتب لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين، ولكنها تتلوها، كان مصنفوها معروفين بالوثوق والعدالة والحفظ، والتبحر في فنون الحديث ولم يرضوا في كتبهم هذه بالتساهل فيما اشترطوا على أنفسهم، وتلقاها من بعدهم بالقبول، واعتنى بها المحدثون والفقهاء طبقة بعد طبقة واشتهرت فيما بين الناس، وتعلق بها القوم شرحا لغريبها، وفحصًا عن رجالها، واستنباطًا لفقهها وعلى تلك الأحاديث بناء عامة العلوم كسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتبى النسائي وهذه الطبقة الأولى اعتنى بأحاديثها

"رزين" في "تجريد الصحاح"، وابن الأثير في "جامع الأصول". وكاد مسند أحمد يكون من جملة هذه الطبقة، فإن الإمام أحمد جعله أصلا يعرف به الصحيح والسقيم. قال: "ما ليس فيه فلا تقبلوه". والطبقة الثالثة: مسانيد وجوامع ومصنفات صنفت قبل البخاري ومسلم: وفي زمانهم وبعدهما، جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف والمعروف والغريب والشاذ والمنكر والخطأ والصواب والثابت والمقلوب، ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار وإن زال عنها اسم النكارة المطلقة، ولم يتداول ما تفردت به الفقهاء كثير تداول، ولم يفحص عن صحتها وسقمها المحدثون كثير فحص ومنه ما لم يخدمه لغوي لشرح غريب، ولا فقيه لتطبيقه بمذاهب السلف ولا محدث ببيان مشكله، ولا مؤرخ بذكر أسماء رجاله ولا أريد المتأخرين المتعمقين، وإنما كلامي في الأئمة المتقدمين من أهل الحديث فهي باقية على استتارها واختفائها وخمولها كمسند أبي يعلى ومصنف عبد الرزاق ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ومسند عبد بن حميد، والطيالسي وكتب البيهقي والطحاوي والطبراني، وكان قصدهم جمع ما وجدوه لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل. والطبقة الرابعة: كتب قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في الطبقتين الأوليين، وكانت في المجاميع والمسانيد المختفية فنوهوا بأمرها، وكانت على ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون ككثير من الوعاظ المتشدقين وأهل الأهواء والضعفاء أو كانت من آثار الصحابة والتابعين أو من أخبار بني إسرائيل أو من كلام الحكماء والوعاظ خلطها الرواة بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- سهوا أو عمدًا أو كانت من محتملات القرآن والحديث الصحيح فرواها بالمعنى قوم صالحون لا يعرفون غوامض الرواية فجعلوا المعاني أحاديث مرفوعة أو كانت معاني مفهومة من إشارات الكتاب والسنة جعلوها أحاديث مستبدة برأسها عمدًا، وكانت جملًا شتى في أحاديث مختلفة جعلوها حديثًا واحدا بنسق واحد، ومظنة هذه الأحاديث كتاب: "الضعفاء" لابن حبان، وكامل بن عدي،

وكتب الخطيب وأبي نعيم والجوزقاني وابن عساكر وابن النجار والديلمي؛ وكاد مسند الخوارزمي يكون من هذه الطبقة، وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفًا محتملًا وأسوؤها ما كان موضوعًا أو مقلوبا، شديد النكارة. وهذه الطبقة مادة كتاب: "الموضوعات" لابن الجوزي. "وها هنا طبقة خامسة: منها ما اشتهر على ألسنة الفقهاء والصوفية والمؤرخين ونحوهم وليس له أصل في هذه الطبقات الأربع؛ ومنها: ما دسه الماجن في دينه العالم بلسانه فأتى بإسناد قوى لا يمكن الجرح فيه، وكلام بليغ لا يبعد صدوره عنه -صلى الله عليه وسلم- فأثار في الإسلام مصيبة عظيمة. لكن الجهابذة من أهل الحديث يوردون مثل ذلك على المتابعات، والشواهد فتهتك الأستار ويظهر العوار. "أما الطبقة الأولى والثانية فعليهما اعتماد المحدثين، وحوم حماهما مرتعهم ومسرحهم، وأما الثالثة فلا يباشرها للعمل عليها والقول بها إلا النحارير الجهابذة الذين يحفظون أسماء الرجال وعلل الأحاديث نعم ربما يؤخذ منها المتابعات والشواهد وقد جعل الله لكل شيء قدرًا، وأما الرابعة فالاشتغال بجمعها والاستنباط منها نوع تعمق من المتأخرين، وإن شئت الحق فطوائف المبتدعين من الرافضة والمعتزلة وغيرهم يتمكنون بأن يلخصوا منها شواهد مذاهبهم فالأنصار بها غير صحيح في معارك العلماء بالحديث والله أعلم".

بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة الحافظ ابن حجر في التدريب

2- بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة الحافظ ابن حجر في التدريب: قال رحمه الله في مقدمة التقريب: "وقد اكتفيت بالرقم على اسم كل راو إشارة إلى من أخرج حديثه من الأئمة؛ فللبخاري في: "صحيحة" "خ"، فإن كان حديثه عنده معلقا "خت"، وللبخاري في: "الأدب المفرد" "بخ"، وفي: "خلق أفعال العباد" "عخ"، وفي: "جزء القراءة" "ز"، رفع اليدين" "ي"، ولمسلم "م"، وفي مقدمة صحيحة "مق"، ولأبي داود "د"، وفي: "المراسيل" له "مد"، وفي: "فضائل الأنصار" "صد"، وفي: "الناسخ" "خد"، وفي: "القدر" "قد"، وفي: "التفرد" "ف"، وفي: "المسائل" "ل"، وفي: "مسند مالك" "كد"، وللترمذي "ت"، وفي: "الشمائل" له "تم"، وللنسائي "س"، وفي: "مسند علي" له "عس"، وفي كتاب: "عمل يوم وليلة" "سي"، وفي: "خصائص علي" "ص"، وفي: "مسند مالك" "كس"، ولابن ماجه "ق"، فإن كان حديث الرجل في أحد الأصول الستة اكتفى برقمه ولو أخرج له في غيرها، وإذا اجتمعت فالرقم "ع" وأما علامة "4" فهي لهم سوى الشيخين، ومن ليست له عندهم رواية مرقوم عليه تمييز إشارة إلى أنه ذكر ليتميز عن غيره".

بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة السيوطي في الجامع الكبير والجامع الصغير

3- بيان الرموز لكتب الحديث على طريقة السيوطي في الجامع الكبير والجامع الصغير: "خ" للبخاري، "م" لمسلم، "ق" لهما. "د" لأبي داود، "ت" للترمذي، "ن" للنسائي، "هـ" لابن ماحه، "4" لهؤلاء الأربعة، "3" لهم إلا ابن ماجه، "حم" للإمام أحمد في مسنده "عم" لابنه في زوائدة "ك" للحاكم، فإن كان في المستدرك أطلقت، وإلا بينته "خد" للبخاري في الأدب، "تخ" له في التاريخ، "حب" لابن حبان في صحيحه، "طب" لسعيد بن منصور في سننه، "طس" له في الأوسط، "طص" له في الصغير، "ص" لسعيد بن منصور في سننه، "ش" لا بن أبي شيبة، "عب" لعبد الرزاق في الجامع، "ع" لأبي يعلى في مسنده، "قط" للدارقطني فإن كان في السنن أطلقت، وإلا بينته، "فر" للديلمي في الفردوس، "حل" لأبي نعيم في الحلية، "هب" للبيهقي في شعب الإيمان، "هق" له في السنن، "عد" لأبي عدي في الكامل، "عق" للعقيلي في الضعفاء، "خط" للخطيب، فإن كان في التاريخ أطلقت وإلا بينته، "ض" للضياء المقدسي في المختارة، "ط" لأبي داود الطيالسي، "كر" لابن عساكر في تاريخه "كذا في مقدمة الجامع الكبير".

بيان ما اشتمل على الصحيح فقظ أو مع غيره من هذه الكتب المرموز بها

بيان ما اشتمل على الصحيح فقظ أو مع غيره من هذه الكتب المرموز بها ... 4- بيان ما اشتمل على الصحيح فقط أو مع غيره من هذه الكتب المرموز بها: قال الحافظ السيوطي في مقدمة جمع الجوامع ما نصه: "جميع ما في الكتب الخمسة: خ، م، حب، ك، ض، صحيح، فالعزو إليها معلم بالصحة، سوى ما في: "المستدرك" من المتعقب، فأنبه عليه؛ وكذا ما في: "موطأ مالك" وصحيح ابن خزيمة وأبي عوانة وابن السكن والمنتقى لابن الجاورد والمستخرجات، فالعزو إليها معلم بالصحة أيضًا، وفي د ما سكت عليه فهو صالح وما بين ضعفه نقلت عنه؛ وفي ت. ن. هـ. ط. حم. عم. عب. ص. ش. ع. طب. طس. قط. حل. هب. هق. صحيح وحسن، وضعيف فأبينه غالبا؛ وكل ما كان في مسند أحمد فهو مقبول، فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن؛ وكل ما عزى إلى عق عد خط كر أو للحكيم الترمذي في: "نوادر الأصول" أو للحاكم في تاريخه أو لابن الجارود في تاريخه، أو للديلمي في مسند الفردوس فهو ضعيف فيستغنى بالعزو إليها أو إلى بعضها عن بيان ضعفه، وإذا أطلقت العزو إلى ابن جرير فهو في تهذيب الآثار فإن كان في تفسيره أو في تاريخه بينته". ا. هـ. وقد بسط الكلام في ذلك صاحب "الأجوبة الفاضلة" في السؤال الثاني ونصه: هل كل ما في هذه الكتب الضخام، كالسنن الأربعة، وتصانيف البيهقي، وتصانيف الدارقطني، والحاكم، وابن أبي شيبة وغيرها من الكتب المشتهرة من الأحاديث المجموعة، صحيح لذاته أو لغيره، أو حسن لذاته أو لغيره أم لا؟ الجواب: ليس كل ما في هذه الكتب وأمثالها صحيحًا أو حسنًا، بل هي مشتملة على الأخبار الصحيحة والحسنة والضعيفة والموضوعة؛ أما كتب السنن فذكر ابن الصلاح والعراقي وغيرهما أن فيها غير الحسن من الصحيح، والضعيف، وذكر النووي أن في السنن الصحيح والحسن والضعيف والمنكر، ومن ها هنا اعترضوا على تسمية صاحب المصابيح أحاديث

السنن بالحسان، بأنه اصطلاح لا يعرف عند أهل الفن؛ وذكر العراقي أنه قد تساهل من أطلق الصحيح على كتب السنن، كأبي طاهر السلفي حيث قال في الكتب الخمسة: اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب؛ وكالحاكم حيث أطلق على جامع الترمذي "الجامع الصحيح"، وكذلك الخطيب أطلق عليه اسم الصحيح، وذكر الذهبي في "أعلام سير النبلاء" أن أعلى ما في كتاب أبي داود من الثابت، ما أخرجه الشيخان وذلك نحو شطر الكتاب ثم يليه، ما أخرجه أحد الشيخين ورغب عنه الآخر ثم يليه ما رغبا عنه، وكان إسناده جيدًا سالمًا من علة وشذوذ ثم يليه ما كان إسناده صالحًا، وقبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين فصاعدًا ثم يليه ما ضعف إسناده لنقص حفظ راويه فمثل هذا يسكت عنه أبو داود غالبًا ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة رواته فهذا لا يسكت عنه بل يوهنه غالبًا، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته، وذكر أيضًا قال أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق الجامع -أي جامع الترمذي- على أربعة أقسام قسم مقطوع بصحته، وقسم على شرط أبي داود والنسائي، وقسم أبان عن علته، وقسم رابع أبان عنه فقال ما أخرجت في كتابي هذا إلا حديثًا عمل به بعض الفقهاء سوى حديث: "فإن شرب في الرابعة فاقتلوه" 1 وحديث: "جمع بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر"2 وذكر أيضًا قد كان ابن ماجه حافظًا صدوقًا واسع العلم وإنما غض من رتبة سننه ما في الكتاب من المناكير، وقليل من الموضوعات. وقال ابن الصلاح في مقدمته: "كتاب أبي عيسى الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن". وقال أيضًا: "ومن مظانه سنن أبي داود روينا عنه أنه قال ذكرت فيه الصحيح وما يشبهه ويقاربه وروينا عنه أيضًا ما معناه إنه يذكر في كل باب أصح ما يعرفه في ذلك الباب وقال: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد بينته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض. قلت: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورًا

_ 1 أخرجه الجماعة من حديث أبي هريرة وغيره. 2 الشيخان وأصحاب السنن من حديث ابن عباس بألفاظ مختلفة.

مطلقًا، وليس في واحد من الصحيحين ولا نص على صحته أحد ممن ميز بين الصحيح والحسن جزمنا بأنه من الحسن عند أبي داود وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عند غيره. وقال أيضًا: حكى أبو عبد الله بن منده الحافظ أنه سمع محمد بن سعد البارودي بمصر يقول: كان من مذهب النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه قال ابن منده، وكذلك أبو داود يأخذ مأخذه، ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال وذكر السيوطي في: "ديباجة زهر الربى على المجتبى" قال الحافظ أبو الفضل بن طاهر في شروح الأئمة كتاب أبي داود والنسائي ينقسم على ثلاثة أقسام الأول: الصحيح المخرج في الصحيحين؛ الثاني: صحيح على شرطهما؛ وقد حكى عبد الله بن منده أن شرطهما إخراج أحاديث أقوام لم يجمع على تركهم إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطع، ولا إرسال فيكون هذا القسم من الصحيح إلا أنه طريق لا يكون طريق ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما بل طريقه ما ترك البخاري ومسلم من الصحيح، القسم الثالث: أحاديث أخرجاها من غير قطع عنهما بصحتها، وقد أبانا عليها بما يفهمه أهل الطريق، وذكر أيضًا قال الأمام أبو عبد الله بن رشيد كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة في السنن وأحسنها ترصيفًا وكأن كتابه بين جامع البخاري ومسلم مع حظ كثير من بيان العلل، وبالجملة فهو أقل الكتب بعد الصحيحين حديثًا ضعيفًا، ورجلًا مجروحًا ويقاربه كتاب أبي جارود وكتاب الترمذي، ومقابله من الطرف الآخر كتاب ابن ماجه فإنه تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم، وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زر عن الرازي أنه نظر فيه فقال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثًا مما فيه ضعف فهي حكاية لا تصح لانقطاع سندها، وإن كانت صحيحة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية. وذكر أيضًا: ذكر بعضهم أن النسائي لما صنف السنن الكبرى أهداه إلى أمير الرملة فقال له الأمير: أكل ما في هذا صحيح قال لا! قال: فجرد الصحيح،

فصنف: "المجتبى" وهو بالباء الموحدة. وقال الزركشي في تخريج أحاديث الرافعي: ويقال بالنون أيضًا. وقال السيوطي في التدريب: قال شيخ الإسلام -يعني الحافظ ابن حجر- مسند الدارمي ليس دون السنن في الرتبة، بل لو ضم إلى الخمسة لكان أولي من ابن ماجه، فإنه أمثل منه بكثير. وقال العراقي: اشتهر تسميته بالمسند كما سمى البخاري كتابه بالمسند، لكون أحاديثه مسندة إلا أن فيه المرسل والمقطع والمقطوع كثيرًا، على أنهم ذكروا في ترجمة الدارمي أن له الجامع والمسند والتفسير وغير ذلك؛ فلعل الموجود الآن هو الجامع والمسند قد فقد. وأما تصانيف الدارقطني فقال العيني في: "البناية شرح الهداية" في بحث قراءة الفاتحة في حقه: "من أين له تضعيف أبي حنيفة وهو مستحق التضعيف، وقد روى في مسنده أحاديث سقيمة ومعلولة ومنكرة وغريبة وموضوعة". ا. هـ. وقال أيضًا في بحث جهر البسملة: "الدارقطني كتابه مملوء من الأحاديث الضعيفة والشاذة والمعللة، وكم فيه من حديث لا يوجد في غيره وحكى أنه لما دخل مصر سأله بعض أهلها تصنيف شيء في الجهر بالبسملة فصنف فيه جزءًا فأتاه بعض المالكية فأقسم عليه أن يخبره بالصحيح من ذلك فقال كل ما رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجهر فليس بصحيح وأما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف". ا. هـ. وأما تصانيف البيهقي: فهي أيضًا مشتملة على الأحاديث الضعيفة، وكذا تصانيف الخطيب فإنه قد تجاوز عن حد التحامل واحتج بالأحاديث الموضوعة صرح به العيني في البناية في بحث البسملة. وأما تصانيف الحاكم: فقال الزيلعي في تخريج أحاديث الهداية: "قال ابن دحية في كتابه: "العلم"؛ المشهور: يجب على أهل الحديث أن يتحفظوا من قول الحاكم، فإنه كثير الغلط ظاهر السقط، وقد غفل عن ذلك كثير من جاء بعده وقلده في ذلك". ا. هـ. وقال العيني في "البناية": "قد عرف تساهله وتصحيحه للأحاديث الضعيفة، بل الموضوعة". ا. هـ.

وقال السيوطي في رسالة التعقبات على ابن الجوزي: قال شيخ الإسلام ابن حجر: تساهله وتساهل الحاكم في المستدرك أعدم النفع بكتابهما إذ ما حدث فيهما إلا ويمكن أنه مما وقع فيه التساهل فلذلك وجب على الناقد الاعتناء بما ينقله منهما من غير تقليد لهما". ا. هـ. وفي طبقات الشافعية لتقي الدين شهبة: قال الذهبي في المستدرك جملة وافرة على شرطهما، وجملة وافرة على شرط أحدهما، ومجموع ذلك نحو نصف الكتاب وفيه نحو الربع مما صح سنده، وفيه بعض الشيء معلل وما بقى مناكير وواهيات لا تصح وفي ذلك بعض الموضوعات قد أعلمت عليها لما أختصرته". ا. هـ. وفي مقدمة ابن الصلاح: "هو -أي الحاكم- واسع الخطو في شرط الصحيح متساهل في القضاء به. فما حكم بصحته ولم نجد ذلك لغيره من الأئمة إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يحتج به ويعمل إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه". ا. هـ. وتبعه النووي حيث قال في التقريب: "فما صححه ولم نجد فيه لغيره تصحيحًا ولا تضعيفًا حكمنا بأنه حسن إلا أن يظهر فيه علة توجب ضعفه" قال السيوطي في التدريب: "قوله فما صححه احتراز مما وجد في الكتاب ولم يصرح بتصحيحه فلا يعتمد عليه". ا. هـ. لكن تعقب ابن الصلاح البدر بن جماعة فقال في مختصره: الصواب أن يتتبع، ويحكم عليه بما يليق من الحسن أو الصحة أو الضعف وتبعه في هذا التعقب شراح الألفية العراقي والأنصاري والسخاوي، وقالوا: إنما قال ابن الصلاح ما قال بناء على رأيه، أنه ليس لأحد أن يصحح في هذه الأعصار حديثًا وذكر ابن الصلاح أن صحيح ابن حبان يقاربه -أي مستدرك الحاكم- في التساهل لكن نقل العراقي عن الحازمي أنه قال: ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم. ا. هـ. وقال السيوطي في التدريب: "قيل ما ذكر من تساهل ابن حبان ليس بصحيح، غايته

أن يسمي الحسن صحيحًا، فإن كان نسبته إلى التساهل باعتبار وجد أن الحسن في كتابه فهي مشاحة في الاصطلاح، وإن كان باعتبار خفة شروطه، فإنه يخرج في الصحيح ما كان راويه ثقة غير مدلس سمع من شيخه، وسمع منه الآخذ عنه ولا يكون هناك إرسال ولا انقطاع، وإذا لم يكن في الراوي جرح ولا تعديل كان كل من شيخه والراوي عنه ثقة ولم يأت بحديث منكر فهو عنده ثقة، وفي كتاب الثقات له كثير ممن هذا حاله ولأجل هذا ربما اعترض عليه في جعله ثقة من لم يعرف حاله فلا اعتراض عليه فإنه لا مشاحة في ذلك، وهذا دون شرط الحاكم، فالحاصل أن ابن حبان وفي بالتزام شروطه، ولم يوف الحاكم". ا. هـ. ومما يدل على كون ابن حبان أشد تحريًا من الحاكم ما نقله السيوطي في: "اللآلئ المصنوعة" عن تخريج أحاديث الرافعي للزركشي أن تصحيح الضياء المقدسي صاحب المختارة أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وأنه قريب من تصحيح الترمذي، وابن حبان. ا. هـ. وذكر النووي في شرح المهذب اتفق الحفاظ على أن البيهقي أيضًا أشد تحريًا من الحاكم. ا. هـ. وذكر ابن الصلاح كتب المسانيد غير ملتحقة بالكتب الخمسة التي هي الصحيحان وسنن أبي داود وسنن النسائي وجامع الترمذي وما جرى مجراها في الاحتجاج بها، والركون إلى ما هو فيها كمسند أبي داود الطيالسي ومسند عبيد الله بن موسى ومسند أحمد ومسند إسحاق بن رهويه ومسند عبد بن حميد ومسند الدارمي ومسند أبي يعلى الموصلي ومسند الحسن بن سفيان ومسند البراز وأشباهها، فهذه عادتهم فيها أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن يكون حديثًا محتجًا به. ا. هـ. وفي التدريب: "صرح الخطيب وغيره بأن الموطأ مقدم على كل كتاب من الجوامع والمسانيد فعلى هذا هو بعد صحيح الحاكم وأما ابن حزم فقال: أولى الكتب الصحيحان ثم صحيح سعيد بن السكن والمتقى لابن الجارود وقاسم بن أصبغ، ثم بعد هذه الكتب كتاب أبي داود وكتاب النسائي ومصنف قاسم بن أصبغ ومصنف الطحاوي ومسانيد أحمد والبزار وابني أبي شيبة أبي بكر وعثمان،

وابن راهويه، والطيالسي، والحسن بن سفين، وابن سنجر، وعلي بن المديني، وما جرى مجراها التي أفردت بكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم ما كان فيه الصحيح فهو أجل، مثل مصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، وبقي بن مخلد، وكتاب محمد بن نصر المروزي، وابن المنذر، ثم مصنف حماد بن مسلمة، وسعيد بن منصور، ووكيع وموطأ مالك، وموطأ ابن أبي ذئب، وموطأ ابن وهب، ومسائل ابن حنبل، وفقه أبي ثور. انتهى ملخصًا. ثم نقل السيوطي عنه أنه قال: في الموطأ نيف وسبعون حديثًا، وقد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيها أحاديث ضعيفة. ونقل الذهبي في سير النبلاء عن ابن حزم نحو ما مر، وقال: ما أنصف ابن حزم، بل رتبة الموطأ أن يذكر تلو الصحيحين مع سنن أبي داود، لكنه تأدب وقدم المسندات النبوية الصرفة وما ذكر سن ابن ماجه، ولا جامع أبي عيسى، فإنه ما رآهما، ولا دخلا إلى الأندلس إلا بعد موته. ا. هـ. وذكر الزرقاني في شرح الموطأ عن السيوطي أن الموطأ صحيح كله على شرط مالك. وقال الذهبي في سير النبلاء: فيه -أي مسند أحمد- جملة من الأحاديث الضعيفة مما يسوغ نقلها، ولا يجب الاحتجاج بها، وفيه أحاديث معدودة شبيهة الموضوعة، لكنها قطرة في بحر. ا. هـ. وقال ابن تيمية في منهاج السنة: "صنف أحمد كتابا في فضائل الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، وقد روى في هذا الكتاب ما ليس في مسنده، وليس كل ما رواه أحمد في المسند وغيره يكون حجة عنده، بل يروى ما رواه أهل العلم، وشرطه في المسند أن لا يروى عن المعروف بالكذب عنده، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف، وشرطه في المسند أمثل من شرط أبي داود في سننه. وأما في كتب الفضائل فروى ما سمعه من شيوخه سواء كان صحيحًا أو ضعيفًا، فإنه لم يقصد أن لا يروى في ذلك إلا ما ثبت عنده، ثم زاد ابنه عبد الله على مسند أحمد زيادات، وزاد أبو بكر القطيعي زيادات. وفي زيادات القطيعي أحاديث كثيرة موضوعة، فظن ذلك الجهال أنه من رواية أحمد، رواها أحمد في المسند، وهذا خطأ قبيح. ا. هـ.

وخالفه العراقي وادعى أن في مسند أحمد موضوعات وصنف جزءا مستقلًّا وقال فيه بعد الحمد والصلاة: "قد سألتني بعض أصحابنا من مقلدي الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل في سنة خمسين وسبعمائة، أو بعدها بيسير، أن أفرد له ما وقع في مسند الإمام أحمد من الأحاديث التي قيل فيها إنها موضوعة، فذكرت له أن الذي في المسند من هذا النوع أحاديث ذوات عدد ليست بالكثيرة، ولم يتفق لي جمعها، فلما قرأت المسند سنة ستين وسبعمائة على الشيخ المسند علاء الدين أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد بن صالح الدمشقي وقع في أثناء السماع كلام: هل في المسند أحاديث ضعيفة أو كله صحيح؟ فقلت: إن فيه أحاديث ضعيفة كثيرة، وإن فيه أحاديث يسيرة موضوعة فبلغني بعد ذلك أن بعض ما ينتمي إلى مذهب أحمد أنكر هذا إنكارا شديدًا. ونقل عن الشيخ ابن تيمية الذي وقع فيه من هذا هو من زيادات القطيعي، لا من رواية أحمد، ولا من رواية ابنه، فحرضنى قول هذا القائل على أن جمعت في هذه الأوراق ما وقع في المسند من رواية أحمد، ومن رواية ابنه مما قال فيه بعض أئمة هذا الشأن إنه موضوع" انتهى ملخصًا. ثم أورد تسعة أحاديث من المسند، ونقل عن ابن الجوزي وغيره الحكم بوضعها، ورده في بعضها، ثم قام لرده الحافظ ابن حجر فصنف "القول المسدد في الذب عن مسند أحمد" قال فيه بعد الحمد والصلاة: فقد رأيت أن أذكر في هذه الأوراق ما حضرني من الكلام على الأحاديث التي زعم أهل الحديث أنها موضوعة وهي في مسند أحمد ... إلخ ونقل فيه جزء شيخه العراقي حرفًا حرفًا، وأجاب عنه حديثًا حديثًا، ثم أورد عدة أحاديث أخر من المسند حكم عليها ابن الجوزي بالوضع مما لم يذكره العراقي ونفى وضعها بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة. وفي التدريب: "قيل: وإسحاق يورد أمثل ما ورد عن ذلك الصحابي فيما ذكره أبو زرعة والرازي عنه، قال العراقي: ولا يلزم من ذلك أن يكون جميع ما فيه صحيحًا، بل هو أمثل بالنسبة لما تركه، وفيه الضعيف". ا. هـ. وفيه أيضًا: "قيل: ومسند البزار يبين فيه الصحيح من غيره. قال العراقي: ولم يفعل ذلك إلا قليلًا إلا أنه يتكلم في تفرد بعض رواة الحديث ومتابعة غيره". ا. هـ.

وفي منهاج السنة لابن تيميه: "ما ينقله الثعلبي في تفسيره: لقد أجمع أهل العلم بالحديث أنه يروي طائفة من الأحاديث الموضوعة كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة وأمثال ذلك ولهذا يقولون: هو كحاطب ليل. وهكذا الواحدي تلميذه، وأمثالهما من المفسرين، ينقلون الصحيح والضعيف ولهذا لما كان البغوي عالمًا بالحديث أعلم به من الثعلبي والواحدي، وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي لم يذكر في تفسيره شيئًا من الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي يذكرها الثعلبي مع أن الثعلب فيه خير ودين لكنه لا خبر له في الصحيح والسقيم من الأحاديث، وأما أهل العلم الكبار أصحاب التفسير مثل تفسير محمد بن جرير الطبري وبقي بن مخلد وابن أبي حاتم وأبي بكر بن المنذر وأمثالهم فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات دع من هو أعلم منهم مثل تفسير أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه بل ولا يذكر مثل هذا عبد بن حميد ولا عبد الرزاق مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع ويروي كثيرًا من فضائل علي -رضي الله عنه- وإن كانت ضعيفة وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد من جنس الثعلب والنقاش والواحدي وأمثال هؤلاء المفسرين لكثره ما يروونه من الحديث ويكون ضعيفًا بل موضوعا". ا. هـ. وفي موضع آخر منه قد روى أبو نعيم في الحلية في أول فضائل الصحابة، وفي كتاب مناقب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أحاديث بعضها صحيحة وبعضها ضعيفه بل منكرة، وكان رجلا عالما بالحديث لكن هو وأمثاله يروون ما في الباب لأن يعرف أنه قد روى كالمفسر الذي ينقل أقوال الناس في التفسير والفقيه الذي يذكر الأقوال في الفقه، وإن كان كثير من ذلك لا يعتقد صحته بل يعتقد ضعفه لأنه يقول إنما نقلت ما ذكر غيري فالعهدة على القائل لا على الناقل. ا. هـ. وفي موضع آخر منه: "إن أبا نعيم روى كثيرًا من الأحاديث التي هي ضعيفه بل موضوعة، باتفاق علماء الحديث، وأهل السنة والشيعة وهو وإن كان حافظا ثقة كثير الحديث واسع الرواية لكن روى كما هو عادة المحدثين يروون ما في الباب لأجل المعرفة بذلك، وإن كان لا يحتج من ذلك إلا ببعضه". ا. هـ.

وفي موضع آخر منه: "الثعلبي يروي ما وجد، صحيحا كان أو سقيما، وإن كان غالب الأحاديث التي في تفسيره صحيحة، ففيه ما هو كذب موضوع". وفي موضع آخر منه: "كتاب الفردوس للديلمي فيه موضوعات كثيرة، أجمع أهل العلم على أن مجرد كونه رواه لا يدل على صحة الحديث". ا. هـ. وفي موضع آخر: "النسائي صنف خصائص علي، وذكر فيه عدة أحاديث كثيرة في فضائل علي كثير منها ضعيف"، وفي موضع آخر منه: "من الناس من قصد رواية كل ما روي في الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف كما فعله أبو نعيم وكذلك غيره ممن صنف في الفضائل مثل ما جمعه أبو الفتح بن أبي الفوارس وأبو علي الأهوازي وغيرهما في فضائل معاوية، وكذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في تاريخه في فضائل علي وغيره، وهذه عبارات العلماء قد أفادت وجود المنكرات والمضعفات في الكتب المدونة وأمثالها كثيرة لا تخفى على الناظر في الكتب المشتهرة، ولعل المتدبر يعلم مما نقلنا أن ما ارتكز في أذهان بعض العوام أن كل حديث في السنن محتج به غير معتد به وكذا ما ارتكز في أذهان البعض أن كل حديث في السنن محتج به غير معتد به. وكذا ما ارتكز في أذهان البعض أن كل حديث في غير الكتب الستة أو السبعة ضعيف غير محتج به". ا. هـ.

الرجوع إلى الأصول الصحيحة

5- الرجوع إلى الأصول الصحيحة المقابلة على أصل صحيح لمن أراد العمل بالحديث: قال النووي في التقريب: "ومن أراد العمل بحديث من كتاب، فطريقة أن يأخذه من نسخة معتمدة قابلها هو أو ثقة بأصول صحيحة، فإن قابلها بأصل محقق معتمد أجزأه". ا. هـ. وقال العلامة ملا علي القاري في مرقاة المفاتيح عند قول صاحب: "المشكاة" -وإذا نسبت الحديث إليهم كأني أسندت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم: "عُلِمَ من كلام المصنف أنه يجوز نقل الحديث من الكتب المعتمدة التي اشتهرت وصحت نسبها لمؤلفيها كالكتب الستة وغيرها من الكتب المؤلفة، سواء في جواز من نقله مما ذكر، أكان نقله للعمل بمضمونة، وما اقتضاه كلام ابن الصلاح من اشتراطه، حملوه على الاستحباب، ولكن يشترط في ذلك الأصل أن يكون قد قوبل على أصل له معتمد مقابلة صحيحة لأنه حيئنذ يحصل به الثقة التي مدار الاعتماد عليها صحة واحتجاجًا. "وعُلِمَ من كلام المنصف أيضًا أنه لا يشترط في النقل من الكتب المعتمدة للعمل أو للاحتجاج أن يكون له به رواية إلى مؤلفيها، ومن ثم قال ابن برهان: ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه، بل إذا صحت عنه النسخة من السنن جاز العمل بها وإن لم يسمع". ا. هـ. وفي تدريب الراوي شرح تقريب النواوي: "حكى الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة، ولا يشترط اتصال السند إلى مصنفيها، وذلك شامل لكتب الحديث والفقه. وقال الطبري في تعليقه: من وجد حديثًا في كتاب صحيح، جاز له أن يرويه ويحتج به، وقال قوم من أصحاب الحديث: لا يجوز له أن يروي لأنه لم يسمعه، وهذا غلط، وكذا حكاه إمام الحرمين في البرهان عن بعض المحدثين، وقال: هم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول -يعني المقتصرين على السماع، لا أئمة الحديث- وقال عز الدين بن عبد السلام في جواب سؤال كتبه إليه أبو محمد بن عبد الحميد، وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوقة، فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها والاستناد إليها؛ لأن الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم، لحصول الثقة بها، وبعد التدليس، ومن زعم أن الناس اتفقوا على الخطأ في ذلك، فهو أولى بالخطأ منهم، ولولا جواز الاعتماد على ذلك لتعطل كثير من المصالح المتعلقة بها، قال: وكتب الحديث أولى بذلك من كتب الفقه وغيرها، لاعتنائهم بضبط النسخ وتحريرها، فمن قال: إن شرط التخريج من كتاب يتوقف على اتصال السند فقد خرق الإجماع". ا. هـ.

إذا كان عند العالم الصحيحان

6- إذا كان عند العالم الصحيحان: أو أحدهما أو كتاب من السنن موثوق به هل له أن يفتي بما فيه. قال المسند الجليل علم الدين الفلاني في: "إيقاظ الهمم": "قال الإمام ابن القيم: إذا كان عند الرجل الصحيحان أو أحدهما، أو كتاب من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موثوق بما فيه فهل له أن يفتي بما يجده فيه فقالت طائفة من المتأخرين ليس "له" ذلك لأنه قد يكون منسوخًا أو له معارض أو يفهم من دلالته خلاف ما دل عليه، أو يكون أمر ندب فيفهم منه الإيجاب، أو يكون عاما له مخصص أو مطلقا له مقيد، فلا يجوز له العمل به ولا الفتيا حتى يسأل أهل الفقه والفتيا، وقالت طائفة: بل له أن يعمل به ويفتي بل متعين عليه كما كان الصحابة يفعلون إذا بلغهم الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحدث به بعضهم بعضا بادروا إلى العمل به، من غير توقف، ولا بحث عن معارض، ولا يقول أحد منهم قط هل عمل بهذا فلان وفلان ولو رأوا ذلك لأنكروا عليه أشد الإنكار، وكذلك التابعون وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة بحال القوم وسيرتهم وطول العهد بالسنة وبعد الزمان، ولو كانت سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قول فلان وفلان عيارًا على السنن ومزكيا لها وشرطا في العمل بها، وهذا من أبطل الباطل وقد أقام الله الحجة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون آحاد الأمة، وقد أمر النبي بتبليغ سننه ودعا لمن بلغها فلو كان من بلغته لا يعمل بها حتى يعمل بها الإمام فلان والإمام فلان لم يكن في تبليغها فائدة وحصل الاكتفاء بقول فلان وفلان. قالوا: والنسخ الواقع الذي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث البتة، بل ولا شطرها فتقدير وقوع الخطأ في الذهاب إلى المنسوخ أقل بكثير في وقوع الخطأ من تقليد من يصيب ويخطئ، ويجوز عليه التناقض والاختلاف ويقول القول ويرجع عنه ويحكي

عنه في المسألة الواحدة عدة أقوال، ووقوع الخطأ في فهم كلام المعصوم أقل بكثير من وقوع الخطأ في فهم كلام الفقيه المعين، فلا يعرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن قلد من لا يعلم خطأه من صوابه، والصواب في هذه المسألة التفصيل: فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بينة لكل من سمعه لا يحتمل غير المراد فله أن يعمل به ويفتي به ولا يطلب له التزكية من قول فقيه وإمام، بل الحجة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن خالفه من خالفه، وإن كانت دلالة خفية لا يتبين له المراد فيها لم يجز له أن يعمل ولا يفتي بما يتوهمه مرادًا، حتى يسأل ويطلب بيان الحديث ووجهه وإن كانت دلالة ظاهرة كالعام على أفراده، والأمر على الوجوب، والنهي على التحريم فهل له العمل والفتوى يخرج على أصل وهو العمل بالظواهر قبل البحث على المعارض، وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره الجواز والمنع والفرق بين العام، فلا يعمل به قبل البحث عن المخصص والأمر والنهي فيعمل به قبل البحث من المعارض، وهذا كله إذا كان ثَمَّ أهلية، ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الأصوليين والعربية، وأما إذا لم يكن ثم أهلية ففرضه ما قال الله: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وقول النبي -صلى الله عليه وسلم1: "ألا اسألوا إذا لم تعلموا، إنما شفاء العي السؤال". وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي من كلامه وكلام شيخه وإن علا، فاعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى بالجواز وإذا قدر أنه لم يفهم الحديث كما لو لم يفهم فتوى المفتي، فيسأل من يعرفه معناه كما يسأل من يعرفه معنى جواب المفتي وبالله التوفيق.

_ 1 من حديث جابر عند أبي داود والدارقطني، وأخرجه غيرهما وله تتمة.

هل يجوز الاحتجاج في الأحكام بجميع ما في هذه الكتب من غير توقف أم لا؟ وهل تعذر التصحيح في الأزمان المتأخرة أم لا؟

7- هل يجوز الاحتجاج في الأحكام بجميع ما في هذه الكتب من غير توقف أم لا? وهل تعذر التصحيح في الأزمان المتأخرة أم لا؟ : في الأجوبة الفاضلة ما نصه: "هل يجوز الاحتجاج في الأحكام بجميع ما في هذه الكتب من غير وقفه ونظر أم لا؟ وعلى الثاني: فما وجه تمييز ما يجوز الاحتجاج به، عما لا يجوز الاحتجاج؟ ". الجواب: "لا يجوز الاحتجاج في الأحكام بكل ما في الكتب المذكورة وأمثالها، من غير تعمق يرشد إلى التمييز، لما مر أنها مشتملة على الصحاح والحسان والضعاف، فلا بد من التمييز بين الصحيح لذاته أو لغيره، والحسن لذاته أو لغيره، فيحتج به، وبين الضعيف بأقسامه فلا يحتج به، فيأخذ الحسن من مظانه، والصحيح من مظانه، ويرجع إلى تصريحات النقاد الذين عليهم الاعتماد، وينتقد بنفسه إن كان أهلا لذلك، فإن لم يوجد شيء من ذلك توقف فيما هنالك. قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في: "فتح الباقي شرح ألفية العراقي": من أراد الاحتجاج بحديث من السنن أو المسانيد إن كان متأهلًا لمعرفة ما يحتج به من غيره فلا يحتج به حتى ينظر في اتصال إسناده، وأحوال رواته وإلا فإن وجد أحد من الأئمة صححه أو حسنة فله تقليده وإلا فلا يحتج به". ا. هـ. وقال الإمام ابن تيميه في: "منهاج السنة": "المنقولات فيها كثير من الصدق، وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وبين هذا إلى أهل الحديث، كما يرجع إلى النحاة في النحو ويرجع إلى علماء اللغة في ما هو من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب، وغير ذلك فلكل علم رجال يعرفون به والعلماء بالحديث أجل هؤلاء وأعظم قدرًا وأعظمهم صدقًا وأعلاهم منزلة وأكثرهم دينًا". ا. هـ. وقال أيضًا في موضع آخر: "لو تناظر فقيهان في مسألة من مسائل الفروع، ولم تقم

الحجة على المناظر إلا بحديث يعلم أنه مسند إسنادًا تقوم به الحجة أو يصححه من يرجع إليه من ذلك، فإذا لم يعلم إسناده، ولا أثبته أئمة النقل فمن أين يعلم؟ ". ا. هـ. وفي خلاصة الطيبي: "اعلم أن الخبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام قسم يجب تصديقه: وهو ما نص الأئمة على صحته، وقسم يجب تكذيبه: وهو ما نصوا على وضعه وقسم يجب التوقف فيه لاحتماله الصدق والكذب كسائر الأخبار الكثيرة فإنه لا يجوز أن يكون كله كذبًا؛ لأن العادة تمنع في الأخبار الكثيرة أن تكون كلها كذبًا، مع كثرة رواتها واختلافهم ولا أن تكون كلها صدقًا لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيكذب عليَّ بعدي". ا. هـ. وفي مقدمة ابن الصلاح: "ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها عما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة المشتهرة لأئمة الحديث، كأبي داود السجستاني، وأبي عيسى الترمذي وأبي عبد الرحمن النسائي، وأبي بكر بن خزيمة وأبي الحسن الدارقطني، وغيرهم منصوصًا على صحته فيها، ولا يكفي في ذلك مجرد كونه موجودًا في كتاب أبي داود وكتاب الترمذي وكتاب أبي بكر الإسماعيلي وكتاب النسائي وسائر من جمع في كتابه بين الصحيح وغيره، ويكفي مجرد كونه موجودًا في كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه ككتاب ابن خزيمة، وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة على كتاب البخاري ومسلم ككتاب أبي عوانة الإسفرايبني وكتاب أبي بكر وغيرهم". ا. هـ. وفيه أيضًا: "إذا وجدنا فيما يُروى من أجزاء الحديث وغيرها حديثًا صحيح الإسناد، ولم نجده في أحد الصحيحين، ولا منصوصًا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، فإننا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد لأنه ما من إسناد إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريًّا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان فآل الأمر إذن في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها لشهرتها من التغيير والتحريف". ا. هـ.

وقد اقتفى أثر ابن الصلاح في كل ما ذكره، من جاء بعده إلا في تعذر التصحيح في الأعصار المتأخرة فخالفه فيه جمع ممن لحقه، فقال العراقي في شرح ألفيته: "لما تقدم أن البخاري ومسلمًا لم يستوعبا إخراج الصحيح، فكأنه قيل فمن أين يعرف الصحيح الزائد على ما فيهما؟ فقال: خذه إذ ينص صحته -أي حيث ينص على صحته- إمام معتمد كأبي داود والترمذي والنسائي والدارقطني والبيهقي والخطابي في مصنفاتهم المعتمدة كذا قيده ابن الصلاح ولم أقيده، بل إذا صح الطريق إليهم أنهم صححوه ولو في غير مصنفاتهم أو صححه من لم يشتهر له تصنيف من الأئمة كيحيى بن سعيد القطان وابن معين ونحوهما فالحكم كذلك على الصواب، وإنما قيده ابن الصلاح بالمصنفات لأنه ذهب إلى أنه ليس لأحد في هذه الأعصار أن يصحح الأحاديث فلذا لم يعتمد على صحة السند في غير تصنيف مشهور ويؤخذ الصحيح أيضًا من المصنفات المختصة بجمع الصحيح فقط كصحيح أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وصحيح أبي حاتم محمد بن حبان البستي المسمى بالتقاسيم والأنواع وكتاب المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم، وكذلك لم يوجد في المستخرجات على الصحيحين من زيادة، أو تتمة لمحذوف فهو محكوم بصحته". ا. هـ. ثم نقل بعد ذلك تعذر الحكم بالصحيح في هذه الأعصار عن ابن الصلاح. ا. هـ. وقال ابن جماعة في مختصره بعد ما نقل عن ابن الصلاح التعذر: "قلت مع غلبة الظن إنه لو صح لما أهمله أئمة الأعصار المتقدمة؛ لشدة فحصهم واجتهادهم، فإن بلغ واحد في هذه الأعصار أهلية ذلك، والتمكن من معرفته احتمل استقلاله". ا. هـ. وقال النووي في التقريب: "الأظهر عندي جوازه لمن تمكن وقويت معرفته". ا. هـ. وقال السيوطي: "قال العرافي: وهو الذي عليه عمل أهل الحديث فقد صحح جماعة من المتأخرين أحاديث، لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحا؛ فمن المعاصرين لابن الصلاح أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك بن القطان صاحب كتاب الوهم والإيهام صحح فيه حديث ابن عمر أنه كان يتوضأ ونعلاه في رجليه ويمسح عليهما ويقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك

أخرجه البزار، وحديث أنس: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقوم إلى الصلاة" أخرجه قاسم بن أصبغ. ومنهم الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي، جمع كتابا سماه: "المختارة" التزم فيه الصحة وذكر فيه أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها: "وصحح الحافظ زكي الدين المنذري حديث يونس عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة في غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولم يزل ذلك دأب من بلغ أهليه ذلك". ا. هـ. ثم قال: "الحاصل أن ابن الصلاح سد باب التصحيح والتحسين والتضعيف على أهل هذه الأزمان لشفع أهليتهم، وإن لم يوافق على الأول ولا شك أن الحكم بالوضع أولى بالمنع مطلقًا إلا حيث لا تخفى كالأحاديث الطوال الركيكة، وإلا ما فيه مخالفة للعقل أو الإجماع، وأما الحكم للحديث بالتواتر والشهرة فلا يمتنع إذا وجدت الطرق المعتبرة". ا. هـ.

الاهتمام بمطالعة كتب الحديث

8- الاهتمام بمطالعة كتب الحديث: قال العارف الشعراني قدس سره في عهوده الكبرى: "أخذ عليها العهد العام من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا نمل من كثرة تعلمنا العلم والعمل به لكون شربنا من حوض نبينا -صلى الله عليه وسلم- يكون بقدر تضلعنا من الشريعة، كما أن مشينا على الصراط يكون بحسب استقامتنا بالعمل بها، فالحوض علوم الشريعة والصراط أعمالها". ثم قال: "فاجتهد يا أخي في حفظ الشريعة ولا تغفل. وعليك بكتب الحديث فطالعها لتعرف منازع الأئمة وماذا استندوا إليه من الآيات والأحاديث والآثار ولا تقنع بكتب الفقه دون معرفة أدلتها". ا. هـ.

ذكر أرباب الهمة الجليلة في قراءتهم كتب الحديث في أيام قليلة

9- ذكر أرباب الهمة الجليلة في قراءتهم كتب الحديث في أيام قليلة: ذكر في ترجمة المجد الفيروزآبادي صاحب القاموس أنه قرأ صحيح مسلم في ثلاثة أيام بدمشق، وأنشد قرأت بحمد الله جامع مسلم ... بجوف دمشق السام جوف لإسلام على ناصر الدين الإمام بن جهبل ... بحضرة حفاظ مشاهير أعلام وتم بتوفيق الإله وفضله ... قراءة ضبط في ثلاثة أيام وقرأ الحافظ أبو الفضل العراقي صحيح مسلم على محمد بن إسماعيل الخباز بدمشق في ستة مجالس متوالية قرأ في آخر مجلس منها أكثر من ثلث الكتاب، وذلك بحضور الحافظ زين الدين بن رجب، وهو يعارض بنسخته وفي تاريخ الذهبي في ترجمة إسماعيل بن أحمد الحيري النيسابوري الضرير ما نصه: "وقد سمع عليه الخطيب البغدادي بمكة صحيح البخاري بسماعه من الكشميهني في ثلاثة مجالس: اثنان منها في ليلتين كان يبتدئ بالقراءة وقت المغرب ويختم عند صلاة الفجر، والثالث من ضحوة النهار إلى طلوع الفجر" قال الذهبي: "وهذا شيء لا أعلم أحدًا في زماننا يستطيعه". ا. هـ. وقال الحافظ السخاوي: "وقع لشيخنا الحافظ ابن حجر أجل مما وقع لشيخه المجد اللغوي، فإنه قرأ صحيح البخاري في أريعين ساعة رملية، وقرأ صحيح مسلم في أربعة مجالس سوى مجلس الختم في يومين وشيء، وقرأ سنن ابن ماجه في أربعة مجالس، وقرأ كتاب النسائي الكبير في عشرة مجالس كل مجلس منها نحو أربع ساعات، وقرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس كل مجلس منها أربع ساعات" ثم قال السخاوي: "وأسرع شيء وقع له -أي لابن حجر- أنه قرأ في رحلته الشامية معجم الطبراني الصغير في مجلس واحد بين صلاتي الظهر والعصر قال: وهذا الكتاب في مجلد يشتمل على نحو ألف حديث وخمسمائة حديث". ا. هـ.

والعبد الضعيف، جامع هذا الكتاب، قد مَنَّ الله عليه بفضله فأسمع صحيح مسلم رواية ودراية في مجالس من أربعين يومًا آخرها في 28 من شهر صفر الخير سنة "1316" وأسمع أيضًا سنن ابن ماجه كذلك في مجالس من إحدى وعشرين يومًا آخرها في 22 من شهر ربيع الأول سنة "1316" وأسمع أيضًا الموطأ كذلك مجالس من تسعة عشر يومًا آخرها في 15 من شهر ربيع الآخر سنة "1316"، وطالعت بنفسي لنفسي: "تقريب التهذيب" للحافظ ابن حجر مع تصحيح سهو القلم فيه وضبطه وتحشيته من نسخة مصححة جدًّا في مجالس من عشرة أيام آخرها في 18 من شهر ذي الحجة سنة "1315" أقول وهذه الكتب قرأتها بإثر بعضها فأجهدت نفسي وبصرى حتى رمدت بأثر ذلك شفاني الله بفضله وأشفقت من العود إلى مثل ذلك، وتبين أن الخيرة في الاعتدال نعم لا يُنكر أن بعض النفوس لا تتأثر بمثل ذلك لقوة حواسها، وللإنسان بصيرة على نفسه وهو أدري بها!

قراءة البخارى لنازلة الوباء

10- قراءة البخاري لنازلة الوباء: نقل القسطلاني رحمه الله تعالى، شارح البخاري، في مقدمة شرحه عن الشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي جمرة، قال: "قال لي من العارفين، عمن لقيه من السادة المقر لهم: إن صحيح البخاري ما قرئ في شدة إلا فرجت، ولا ركب به مركب فغرقت". ا. هـ. وقد جرى على العمل بذلك كثير من رؤساء العلم ومقدمي الأعيان إذا ألم بالبلاد نازلة مهمة فيوزعون أجزاء الصحيح على العلماء والطلبة ويعينون للختام يومًا يفدون فيه لمثل الجامع الأموي أمام المقام اليحيوي في دمشق وفي غيرها، كما يراه مقدموها، وهذا العمل ورثه جيل عن جيل مذ انتشار ذاك القول وتحسين الظن بقائله، بل كان ينتدب بعض المقدمين إلى قراءته موزعًا ثم ختمه اجتماعًا لمرض، والي بلدة أو عظيم من عظمائها مجانًا أو بجائزة، بل قد يستأجر من يقرؤه لخلاص وجيه من سجن أو شفائه من مرض على النحو المتقدم اعتقادًا ببركة هذا الصحيح وتقليدًا لمن مضى ووقوفًا مع ما مر عليه

قرون، وصقله العرف، وفي ذلك من تمكين الاعتقاد بصحيح البخاري والركون إليه، والحرص عليه، ما لا يخفى. ولم يكن يخطر لي أن يناقش أحد في هذا العمل، ويزيفة بمقالة رنانة تطبع وتنشر! نعم ربما يوجد من ينكر ذلك بقلبه، أو يشافه به خاصته، والله أعلم بالضمائر! ولغرابة تلك المقالة آثرت نقلها بحروفها؛ ليحيط الواقف علما بما وصلت إليه حرية الأفكار. وتلك المقالة قدمها أحد الفضلاء الأزهريين في جمادى الآخر سنة "1320" لإحدي المجلات العلمية في مصر فنشرتها عنه، وهاكها بحروفها تحت عنوان: بماذا دفع العلماء نازلة الوباء؟ دفعوها يوم الأحد الماضي في الجامع الأزهر، بقراءة متن البخاري موزعًا كراريس على العلماء، وكبار المرشحين للتدريس، في نحو ساعة، جريًا على عادتهم من إعداد هذا المتن أو السلاح الجبري؛ لكشف الخطوب، وتفريج الكروب فهو يقوم عندهم في الحرب مقام المدفع والصرام والأسل، وفي الحريق مقام المضخة والماء، وفي الهيضة مقام الحيطة الصحيحة وعقاقير الأطباء، وفي البيوت مقام الخفراء والشرطة وعلى كل حال هو مستنزل الرحمات، ومستقر البركات ولما كان العلماء أهل الذكر والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} 1، فقد جئت أسألهم بلسان كثير من المسترشدين عن مأخذ هذا الدواء من كتاب الله، أو صحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو رأي مستدل عليه لأحد المجتهدين الذين يقلدونهم، إن كانوا قد أتوا هذا العمل على أنه ديني، داخل في دائرة المأمور به. وإلا فعن أي حذاق الأطباء تلقوه ليتبين للناس منه أو من مؤلفاته عمل تلاوه متن البخاري في درء الهيضة عن الأمة، وأن هذا داخل في نواميس الفطرة أو خارج عنها خارق لها، وإذا كان هذا السر العجيب جاء من جهة أن المقروء حديث نبوي، فلم خص بهذه المزية مؤلف البخاري، ولِمَ لَمْ يجز في هذا موطأ مالك، وهو أعلى كعبًا وأعرق نسبًا وأغزر علمًا، ولا يزال مذهبه حيًّا مشهورًا، وإذا جروا على أن الأمر من وراء الأسباب فلم لا يقرؤه العلماء لدفع ألم الجوع كما يقرءونه لإزالة المغص أو

_ 1 سورة النحل الآية: 43.

القيء أو الإسهال، حتى تذهب شحناء الجراية من صدور كثير من أهل العلم "أي من أهل جامع الأزهر" وعلى هذا القياس يقرأ لكل شيء، ما دامت العلاقة بين الشيء وسببه مفصومة فإن لم يستطيعوا عزو هذا الداء إلى نطاس الأطباء، سألت الملم منهم بالتاريخ أن يرشدنا إلى من سن هذه السنة في الإسلام، وهل قرئ البخاري لدفع الوباء قبل هذه المرة، فإنا نعلم أنه قرئ للعرابيين في واقعة التل الكبير "أي في مصر" فلم يلبثوا أن فشلوا، ومزقوا شر ممزق، ونعلم أنه يقرأ في البيوت لتأمن الحريق والسرقة، ولكن بأجر ليس شيئًا مذكورًا في جانب أجر شركة التأمين المعروفة مع أن الناس يتسابقون إليها تسابقهم إلى شراء الدواء إذا نزل الداء، ويعدلون عن الوقاية التي نحن بصددها، وهي تكاد تتكون بالمجان ويجدون في نفوسهم اطمئنانا لذلك دون هذه فإن لم يجد العلماء عن هذه المسألة إجابة شافية خشيت -كما يخشى العقلاء حملة الأقلام- عليهم حملة تسقط الثقة بهم، حتى من نفس العامة وحينئذ تقع الفوضى الدينية المتوقعة من ضعف الثقة، واتهام العلماء بالتقصير وكون أعمالهم حجة على الدين، هذا وقد لهج الناس بآراء على أثر الاجتماع الهيضي الأزهري، فمن قائل: إن العلماء المتأخرين من عادتهم أن يهربوا في مثل هذه النوازل من الأخذ بالأسباب، والاصطبار على تحملها لمشقتها الشديدة، ويلجئون إلى ما وراء الأسباب من خوارق العادات لسهولته ولإيهام العامة أنهم مرتبطون بعالم أرقى من هذا العالم المعروف النظام فيكسبون الراحة والاحترام معًا فيظهرون على الأمة ظهور إجلال، ويمتكلون قلوبهم ويسيطرون على أروحهم ولهذا تمكثوا حتى فترت شرة الوباء فقرءوا تميمتهم، ليوهموا أن الخطر إنما زال ببركة تميمتهم، وطالع يمنهم ومن قائل: إنهم يخدعون أنفسهم بمثل هذه الأعمال بدليل أن من يصاب منهم لا يعالج مرضه بقراءة كراسة من ذلك الكتاب، بل يعمد إلى المجربات من النعنع والخل وماء البصل وما شابه أو يلجأ إلى الطبيب لا تلتفت نفسه إلى الكراسة التي يعالج بها الأمة فهذا يدل على أن القوم يعملون على خلاف ما في وجدانهم لهذه الأمة خادعين أنفسهم بتسليم أعمل سلفهم، ومن قائل: إن عدوا من أعداء الدين الإسلامي أراد أن يشكك المسلمين فيه فدخل عليهم من جهة تعظيمه

فأوحى إلى قوم من متعالمية السابقين أن يعظموا من شأنه ويرفعوا من قدره حتى يجعلوه فوق ما جاءت له الأديان فيدعون كشف نوائب الأيام بتلاوة أحاديث خير الأيام ويروجون ما يقولون بأنه جرب، وأن من شك فيه فقد طعن في مقام النبوة حتى إذا رسخت هذه العقيدة في الناس وصارت ملكة دينية راسخة عند العوام وجربوها فلم تفلح وقعوا -والعياذ بالله- في الشك وأصابهم دوار الحيرة كما حصل ذلك على أثر واقعة التل الكبير من كثير من الذين لم يتذوقوا الدين من المسلمين حتى كانوا يسألون عن قوة: "البخاري" الحربية ونسبته إلى البوارج ساخرين منه ومن قارئة، ولولا وقوف أهل الفكر منهم على أن هذا العمل ليس من الدين وأن القرآن يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} 1 لضلوا وأضلوا وقد جرأ هذا الأمر غير المسلمين على الخوض في الدين الإسلامي وإقامة الحجة على المسلمين من عمل علمائهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول قوم: إن التقليد بلغ بالعلماء مبلغًا حرم على العقول النظر في علم السلف وإن كذبته العينان وخالف الحسن والوجدان ويقول آخرون -ممن لا خبرة لهم بهمة العلماء في مثل هذه الكوارث- أما كان ينبغي لهم أن ينبثوا في المساجد والأبدية والولائم حاثين الناس على الوقاية من العدوى معاضدين الحكومة في تسكين سورة الأهلين مفاوضين الصحة في فتح المساجد وتعهدها بالنظافة فإن هذا يرتبط بهم أكثر مما يرتبط بوفد أعيان القاهرة جزاه الله خير الجزاء، فإن أعوزهم البيان وخلب القلوب بذلاقة اللسان فلا أقل من أن يؤلفوا رسالة في فهم ما ورد متشابهًا في موضوع العدوى حتى يعلم الناس أن الوقاية من الداء مأمور بها شرعًا وعقلًا وسياسة، فيكون كل فرد عارف عضدًا للحكومة ولو طلبوا من الصحة طبع ما ألفوا وتوزيعه على المصالح والنواحي للبت ذلك شاكرة وكان لهم الأثر النافع. "وهذا ما يقوله القوم في شأن علمائهم نرفعه إليهم ليكونوا على بينه منه؛ لأنهم لا يختلطون بالناس غالبًا إلا في الولائم والمآتم وإن اختلطوا فقلما يناقشونهم في شيء تحرزًا

_ 1 سورة الأنفال، الآية: 61.

من حديثهم في المناقشة، ورميهم مناظرهم بأول وهلة بالزيغ والزندقة؛ فلذلك يجاملونهم ويوافقونهم خشية الهجر والمعاندة. أما أنا فإني لا أزال ألح في طلب الجواب الشافي عن أصل دفع الوباء بقراءة الحديث، وعن منح متن البخاري مزية لم يمنحها كتاب الله الذي نعتقد أنه متعبد بتلاوته دون الحديث؛ ولو كان هذا العمل من غير العلماء الرسميين لضربت عنهم وعن عملهم صفحًا، ولما خططت كلمة، ولكنه من علماء لهم مراكز رسمية، يزاحمون بها مراكز الأمراء، فيجب أن يؤبه لهم، وأن ينظر لعملهم بإزاء مركزهم عن الأمة التي يسألون عنها، والله ولي التوفيق". هذا ما رأيته، أثبته بحروفه، وقد وقع منشئها بإمضاء "متنصح"، ولو عرفنا اسمه لنسبناه إليه أداء للأمانة إلى أهلها. ثم رأيت العلامة عصام الدين الطاشكبري الحنفي ذكر في رسالة "الشفاء، لأدواء الوباء" في المطلب السادس نقلًا عن السيوطي أن الدعاء يرفع الطاعون والاجتماع له بدعة، قال: "لأنه وقع في أيام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، والصحابة يومئذ متوافرون وأكابرهم موجودون، فلم ينقل عن أحد منهم أنه فعل شيئًا من ذلك، ولا أمر به. وكذا في القرن الثاني، وفيه خيار التابعين وأتباعهم؛ وكذا في القرن الثالث والرابع. وإنما حدث الدعاء برفعه في الزمن الأخير، وذلك في سنة 749".

الباب العاشر: في فقه الحديث

الباب العاشر: في فقه الحديث 1- بيان أقسام ما دون في علم الحديث: قال الإمام ولي الله الدهلوي، قدس سره في الحجة البالغة ما نصه1، "اعلم أن ما رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ودون في كتب الحديث على قسمين: "أحدهما: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} منه علوم المعاد، وعجائب الملكوت، وهذا كله مستند إلى الوحي2 ومنه شرائع وضبط للعبادات، والارتفاقات، وهذه بعضها مستند إلى الوحي، وبعضها مستند إلى الاجتهاد، واجتهاده -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة الوحي؛ لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرر رأيه على الخطإ، وليس يجب أن يكون اجتهاده استنباطًا من المنصوص، كما يظن، بل أكثره أن يكون علمه الله تعالى مقاصد الشرع وقانون التشريع والتيسير والأحكام؛ فبين المقاصد المتلقاة بالوحي بذلك القانون. ومنه3 حكم مرسلة ومصالح مطلقة، لم يُوقتها، ولم يبيح حدودها، كبيان الأخلاق الصالحة وأضدادها، ومستندها غالبًا الاجتهاد، بمعنى أن الله تعالى علمه قوانين الارتفاقات، فاستنبط منها حكمة وجعل فيها كلية. ومنه فضائل الأعمال، ومناقب العمال؛ وأرى أن بعضها مستند إلى الوحي، وبعضها إلى الاجتهاد، وهذا القسم هو الذي نقصد شرحه وبيان معانيه.

_ 1 ص102. 2 أي ليس للاجتهاد فيها دخل. ا. هـ. دهلوي. 3 أي مما سبيله تبليغ الرسالة. ا. هـ. دهلوى.

وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم1: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أن بشر" وقوله -صلى الله عليه وسلم- في قصة تأبير النخل1: "فإني إنما ظننت ظنًّا، ولا تُؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لم أكذب على الله". فمنه الطب ومنه باب قوله -صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالأدهم والأقرح" ومستنده التجربة، ومنه ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيل العادة، دون العبادة، وبحسب الاتفاق، دون القصد، ومنه ما ذكره كما كان يذكر قومه، كحديث أم زرع2، وحديث خرافة3، وهو قول زيد بن ثابت، حيث دخل عليه نفر، فقالوا: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي، بعث إليَّّ فكتبته له، فكنا إذا ذكرنا الدنيا، ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، وكل هذا أحدثكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ، وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة، وذلك مثل ما يأمر به الخليفة من تعبئة الجيوش، وتعيين الشعار، وهو قول عمر -رضي الله عنه: "ما لنا وللرمل، كما نتراءى به قومًا قد أهلكهم الله! " ثم خشي أن يكون له سبب آخر، وقد حمل كثير من الأحكام عليه كقوله -صلى الله عليه وسلم4: "من قتل قتيلًا فله سلبه" ومنه حكم وقضاء خاص، وإنما كان يتبع فيه البينات والأيمان، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- لعلي رضي الله عنه5: "الشاهد يرى ما لا يراه الغائب". ا. هـ.

_ 1 روى مسلم هذه القصة من حديث موسى بن طلحة عن أبية، ورافع بن خديج، وعائشة، وأنس "رض"، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما أن بشر ... " فهو من تمام القصة في رواية رافع. 2 هي من الأزواج الإحدى عشرة اللاتي اجتمعن في الجاهلية، فتعاهدن لتخبرن كل امرأة بما في زوجها ولا تكذب، والرواية في الصحيحين من حديث عائشة "رض". 3 هو عند أحمد في مسنده من حديث عائشة "رض". 4 أخرجه البخاري من حديث أبي قتادة. 5 أخرجه الإمام أحمد في مسنده.

بيان كيفية تلقى الأمة الشرع من النبي صلى الله عليه وسلم

2- بيان كيفية تلقي الأمة الشرع من النبي صلى الله عليه وسلم: قال ولي الله قدس سره أيضًا في الحجة البالغة1: واعلم أن تلقي الأمة منه الشرع على وجهين: أحدهما تلقي الظاهر، ولا بد أن يكون ما ينقل إما متواترًا أو غير متواتر؛ والمتواتر منه المتواتر لفظًا كالقرآن العظيم، وكنبذ يسيره من الأحاديث منها قوله -صلى الله عليه وسلم2: "إنكم سترون ربكم"، ومنه المتواتر معنى ككثير من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والبيوع والنكاح والغزوات مما لم يختلف فيه فرقة من فرق الإسلام، وغير المتواتر أعلى درجاته المستفيض وهو ما رواه ثلاثة من الصحابة فصاعدًا ثم لم يزل يزيد الرواة إلى الطبقة الخامسة، وهذا قسم كثير الوجود وعليه بناء رءوس الفقه ثم الخبر المقضي له بالصحة أو الحسن على ألسنه حفاظ المحدثين وكبرائهم ثم أخبار فيها كلام قبلها بعض، ولم يقبلها آخرون فما اعتضد منها بالشواهد أو قول أكثر أهل العلم أو العقل الصريح وجب اتباعه. وثانيهما: التلقي دلالة وهي أن يرى الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول أو يفعل، فاستنبطوا من ذلك حكما من الوجوب وغيره، فأخبروا بذلك الحكم فقالوا: الشيء الفلاني واجب وذلك الآخر جائز ثم تلقي التابعون من الصحابة كذلك فدون الطبقة الثالثة فتاواهم وقضاياهم، وأحكموا الأمر وأكابر هذا الوجه3 عم وعلي وابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهم، لكن كان من سيرة عمر "رض" أنه كان يشاور الصحابة، ويناظرهم حتى تنكشف الغمة ويأتيه الثلج فصار غالب قضاياه، وفتاواه متبعة في مشارق الأرض، ومغاربها، وهو قول إبراهيم لما مات عمر -رضي الله عنه: "ذهب تسعة أعشار العلم" وقول ابن مسعود -رضي الله عنه- كان عمر إذا سلك طريقا، وجدناه سهلًا وكان علي -رضي الله عنه- لا يشاور

_ 1 ص104، "ذ. س". 2 أخرجه البخاري من حديث جرير بن عبد الله البجلي. 3 أي التلقي دلالة. ا. هـ. دهلوى.

غالبًا، وكان أغلب قضاياه بالكوفة ولم يحملها عنه الناس وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- بالكوفة، فلم يحمل عنه غالبًا إلا أهل تلك الناحية، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- اجتهد بعد عصر الأولين، فناقضهم في كثير من الأحكام واتبعه في ذلك أصحابه من أهل مكة، ولم يأخذ بما تفرد به جمهورًا أهل الإسلام. وأما غير هؤلاء الأربعة فلم يكن لهم قول عند تعارض الأخبار، وتقابل الدلائل إلا قليلًا، كابن عمر وعائشة وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- وأكابر هذا الوجه من التابعين بالمدينة الفقهاء السبعة، لا سيما ابن المسيب بالمدينة، وبمكة عطاء بن بأبي رباح، وبالكوفة إبراهيم وشريح والشعبي، وبالبصرة الحسن، وفي كل من الطريقتين خلل، إنما ينجبر بالأخرى، ولا غنى لإحداهما عن صاحبتهما أما الأولى فمن خللها ما يدخل الرواية بالمعنى، من التبديل ولا يؤمن من تغيير المغنى وونه ما كان الأمر في واقعة خاصة، فظن الرواي وجوبًا أو حرمة، وليس الأمر على ذلك، فمن كان فقيهًا وحضر الواقعة، استنبط من القرا حقيقة الحال كقول زيد -رضي الله عنه- في النهي عن المزارعة، وعن بيع الثماء قبل أن يبدو صلاحها إن ذلك كان كالمشهورة، وأما الثانية فيدخل فيها قياسات الصحابة والتابعين، واستنباطهم من الكتاب والسنة، وليس الاجتهاد مصيبًا في جميع الأحوال، وربما كان لم يبلغ أحدهم الحديث، أو بلغه بوجه لا ينتهض بمثلة الحجة، فلم يعمل به، ثم ظهر جلية الحال على لسان صحابي آخر بعد ذلك كقول عمر وابن مسعود -رضي الله عنهما- في التيمم عن الجنابة. وكثيرًا ما كان اتفاق رءوس الصحابة -رضي الله عنهم- على شيء من قبل دلالة العقل على ارتفاق وهو قوله -صلى الله عليه وسلم1: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" وليس من أصول الشرع، فمن كان متبحرًا في الأخبار وألفاظ الحديث يتيسر له التقصي عن مزال الأقدام، ولما كان الأمر كذلك وجب على الخائض في الفقه أن يكون متضلعًا من كلا المشربين، ومتبحرًا في كلا المذهبين، وكان أحسن شعائر الملة ما أجمع عليه جمهور الرواة وحملة العلم، وتطابق فيه الطريقتان جميعًا. ا. هـ.

_ 1 راجع تخريج هذا الحديث في ص43 من هذا الكتاب.

بيان أن السنة حجة على جميع الأمة وليس عمل أحد حجة عليها

3- بيان أن السنة حجة على جميع الأمة وليس عمل أحد حجة عليها: قال الله تعالى1: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال تعالى2: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} . وقال تعالى3: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقال تعالى4: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} وقال تعالى5: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقال تعالى6: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . قال العلماء معناه إلى الكتاب والسنة وقال تعالى7: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} 8: وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ} وقال تعالى9: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقال تعالى10: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} ..

_ 1 سورة الحشر، الآية: 7. 2 سورة النجم، الآية: 3. 3 سورة آل عمران، الآية: 31. 4 سورة الأحزاب، الآية: 21. 5 سورة النساء، الآية: 64. 6 سورة النساء، الآية: 58. 7 سورة النساء، الآية: 79. 8 سورة الشورى، الآية: 52. 9 سورة النور، الآية: 63. 10 سورة الأحزاب، الآية: 34.

والآيات في ذلك كثيرة، وقد ساقها مع عدة أحاديث في معناها الإمام النووي قدس الله سره في باب المر بالمحافظة على السنة وآدابها من: "رياض الصالحين" فارجع إليه1. وقد روى البيهقي عن الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقولوا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعوا ما قلت. فهذا مذهبه في اتباع السنة. وأخرج البيهقي أيضًا عن الشافعي قال: إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو ثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يترك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث أبدًا إلا حديث وجد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث يخلفه، وقال الشافعي: إذا كان الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا مخالف له عنه، وكان يروي عمن دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث يوافقه لم يزده قوة، وحديث النبي مستغن بنفسه وإن كان يروي عمن دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث يخلفه لم يلتفت إلى ما خالفه، وحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى أن يؤخذ به، ولو علم من روي عنه خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اتبعها إن شاء الله تعالى. وأخرج البيهقي أيضًا عن الربيع قال: قال الشافعي في أقاويل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم: إذا تفرقوا فيها نصير إلى ما وافق الكتاب والسنة والإجماع أو كان أصح في القياس، وإذا قال الواحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة، ولا خلاف صرت إلى اتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتابا، ولا سنة ولا إجماعًا ولا شيئًا في معناه يحكم له بحكمه أو وجد معه قياس. وأخرج أيضًا عن الربيع قال: قال الشافعي: ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعها مقطوع إلا باتباعهما فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو واحدهم ثم كان قول الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم، إذا صرنا إلى التقليد أحب إلينا، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف

_ 1 ص22، المطبعة الميرية، مكة 1312.

من الكتاب والسنة، فنتبع القول الذي منه الدلالة لأن قول الإمام مشهور بأنه يلزم الناس، ومن لزم قول الناس كان أشهر ممن يفتي الرجل والنفر، وقد يأخذ بفتياه أو يدعها وأكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم ولا تعني العامة بما قالوا اعتناءهم بما قال الإمام، وقد وجدنا الأئمة يبتدئون فيسألون عن العلم من الكتاب والسنة فيما أرادوا أن يقولوا فيه، ويقولون فيخبرون بخلاف قولهم فيقبلون من المخبر ولا يستنكفون أن يرجعوا لتقواهم الله، وفضلهم في حالاتهم فإذا لم يوجد عن الأئمة فأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدين في وضع الأمانة أخذنا بقولهم، وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم قال والعلم طبقات الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت السنة ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يعلم له مخالف منهم، والرابعة: اختلاف أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، والخامسة: القياس على هذه الطبقات، ولا يصار إلى شيء غير الكتاب، والسنة وهما موجودان وإنما يؤخذ العلم من أعلى وذكر الشافعي في كتاب الرسالة القديمة بعد ذكر الصحابة والثناء عليهم بما هم أهله قال: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم أو استنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا، والله تعالى أعلم ومن أدركنا ممن أراضي أو حكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، وقول بعضهم إن تفرقوا هكذا نقول إذا اجتمعوا أخذنا بإجماعهم، وإن قال واحد منهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله، وإن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم، ولم نخرج من أقاويلهم كلهم قال الشافعي: إذا قال الرجلان منهم في شيء قولين مختلفين نظرت فإن كان قول أحدهما أشبه بكتاب الله تعالى أو أشبه بسنه من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذت به لأن معه شيئًا يقوى بمثله ليس مع الذي يخالف مثله فإن لم يكن على واحد من القولين دلالة بما وصفت كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان -رضي الله عنهم، أرجح عندنا من أحد لو خالفهم غير إمام، وذكر في موضع آخر من هذا الكتاب وقال: وإن لم يكن على القول دلالة من كتاب أو سنة كان قول أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي -رضي الله عنهم- أرجج عندنا من أحد لو خالفهم غير إمام وذكر في موضع آخر من هذا الكتاب، وقال: وإن لم يكن على القول دلالة من كتاب أو سنة كان قول أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي -رضي الله عنهم- أحب

إلى أن أقول به، من قول غيرهم إن خالفهم من قبل أنهم أهل علم وحكام. ثم ساق الكلام إلى أن قال: فإن اختلف الحكام استدللنا بالكتاب والسنة في اختلافهم، فصرنا إلى قول الذي عليه الدلالة من الكتاب والسنة وقلما يخلو اختلافهم من دلائل كتاب أو سنة، وإن اختلف المفتون -يعني من الصحابة بعد الأئمة- بلا دلالة فيما اختلفوا فيه نظرنا إلى الأكثر فإن تكافأ نظرنا إلى أحسن أقاويلهم مخرجًا عندنا، وإن وجدنا للمفتين في زماننا وقبله إجماعًا في شيء لا يختلفون فيه تبعناه، وكان أحد طرق الأخبار الأربعة وهي كتاب الله تعالى ثم سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ثم قول بعض الصحابة ثم إجماع الفقهاء فإذا نزلت نازلة لم يجد فيها واحدة من هذه الأربعة الأخبار فليس السبيل في الكلام في النازلة إلا اجتهاد الرأي. وقال شمس الدين ابن القيم في إعلام الموقعين: "قال الأصم: أخبرنا الربيع بن سليمان قال الشافعي: أنا أعطيك جملة تغنيك إن شاء الله تعالى: لا تدع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا أبدًا إلا أن يأتي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث خلافه فتعمل بما قررت لك في الأحاديث إذا اختلف، وقال أبو محمد الجارودي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول إذا وجدتم سنة محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلاف قولي فإني أقول به قال أحمد بن عيسى بن ماهان الرازي سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: كل مسألة فيها صح الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي وقال حرملة بن يحيى قال الشافعي: ما قلت وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال بخلاف قولي فما صح من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى ولا تقلدوني وقال الحميدي: سأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه وقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا وكذا فقال الرجل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال الشافعي: أرأيت في وسطي زنارًا؟ أتراني خرجت من الكنيسة؟ أقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول لي: أتقول بهذا؟! أروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أقول به؟

وقال الربيع: قال الشافعي: لم أسمع أحدًا نسبته إلى العلم أو نسبته العامة إلى علم أو نسب نفسه إلى علم يحكي خلافًا في أن فرض الله تعالى اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتسليم لحكمه فإن الله تعالى لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وإنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله تعالى أو سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن ما سواهما تبع لهما، وإن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا قبول الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى. قال الشافعي: ثم تفرق أهل الكلام في تثبيت خبر الواحد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفرقا متباينًا، وتفرق منهم ممن نسبه العامة إلى الفقه فامتنع بعضهم عن التحقيق من النظر وآثروا التقليد والغفلة والاستعجال بالرئاسة، وقال الإمام أحمد: قال لنا الشافعي: إذا صح عندكم الحديث فقولوا لي كي أذهب إليه، وقال الإمام أحمد: كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله، قال الربيع: قال الشافعي: لا تترك الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يدخله القياس ولا موضع له من السنة، قال الربيع: وقد روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي، أنه قضى1 في بروع بنت واشق ونُكحت بغير مهر فمات زوجها فقضى لها بمهر مثلها وقضى لها بالميراث، فإن كان لم يثبت عن النبي فهو أولى الأمور بنا، ولا حجة في قول أحد دون النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في القياس ولا شيء إلا طاعة الله تعالى بالتسليم له، وإن كان لا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن لأحد أن يثبت عنه ما لم يثبت ولم أحفظه من وجه يثبت مثله هو مرة عن معقل بن يسار ومرة عن معقل بن سنان ومرة عن بعض أشجعي لا يسمى، قال الربيع: سألت الشافعي عن رفع الأيدي في الصلاة فقال: يرفع المصلي يديه إذا افتتح الصلاة حذو منكبيه وإذا أراد أن يركع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ولا يفعل ذلك في السجود قلت له: فما الحجة في ذلك قال: أنبأنا ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل قولنا قال الربيع: فقلت فإنا نقول يرفع في الابتداء ثم لا يعود قال

_ 1 أخرجه الشيخان وأصحاب السنن وصححه الترمذي.

الشافعي: أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر، كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما قال الشافعي -وهو يعني مالكًا- يروي عن النبي أنه كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ثم خالفتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عمر فقلتم: لا يرفع يديه إلا في ابتداء الصلاة، وقد رويتم أنهما رفعا في الابتداء، وعند الرفع من الركوع أفيجوز لعالم أن يترك فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن عمر لرأي نفسه أو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لرأي ابن عمر ثم القياس على قول ابن عمر ثم يأتي موضع آخر يصيب فيه فيترك على ابن عمر ما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فكيف لم ينته بعض هذا عن بعض أرأيت إذا جاز له أن يروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرفع يديه في مرتين أو ثلاث أو عن ابن عمر فيه اثنتين، ويأخذ بواحدة أيجوز لغيره ترك الذي أخذ به، وأخذ الذي ترك أو يجوز لغيره ما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت له: إن صاحبنا قال فما معنى الرفع قال: معناه تعظيم الله، واتباع لسنة النبي ومعنى الرفع في الأدلة معنى الرفع الذي خالقتم فيه النبي عند الركوع، وعد رفع الرأس ثم خالفتم فيه روايتكم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن عمر معًا ويروي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر رجلًا، ويروى عن أصحاب النبي من غير وجه، ومن تركه فقد ترك السنة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "قلت: وهذا تصريح من الشافعي بأن تارك رفع اليدين عند الركوع، والرفع منه تارك للسنة؛ ونص أحمد على ذلك أيضًا في إحدى الروايتين عنه. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الطيب قبل الإحرام بما يبقى ريحه بعد الإحرام أو بعد رمي الجمرة والحلق وقبل الإفاضة، فقال: جائز أخبه ولا أكرهه لثبوت السنة فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولإخبار غير واحد من الصحابة فقلت: وما حجتك فيه؟ فذكر الأخبار، والآثار ثم قال: حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم قال: قال عمر: من رمى الجمرة فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب. قال سالم وقالت عائشة: طيبت

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحله قبل أن يطوف بالبيت. وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن تتبع. قال الشافعي: وهكذا ينبغي أن يكون الصالحون وأهل العلم فأما ما تذهبون إليه من ترك السنة وغيرها، وترك ذلك الغير لرأي أنفسهم، فالعلم إذن إليكم تأتون منه ما شئتم وتدعون ما شئتم. وقال في كتاب القديم: رواية الزعفراني في مسألة بيع المدين في جواب من قال له: إن بعض أصحابك قال خلاف هذا، قال الشافعي: فقلت له من تبع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وافقته، ومن غلط فتركها خالفته صاحبي الذي لا أفارقه اللازم الثابت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن بعد، والذي أفارقه من لم يقل بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن قرب. ا. هـ. وقال العارف الشعراني قدس سره في مقدمة الميزان: "روى الحاكم، والبيهقي عن الإمام الشافعي أنه كان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي. قال ابن حزم: أي صح عنده أو عند غيره من الأئمة. وفي رواية أخرى: إذا رأيتم كلامي يخالف كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعملوا بكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واضربوا بكلامي عرض الحائط. وقال مرة للربيع: يا أبا إسحاق! لا تقلدني في كل ما أقول وانظر في ذلك لنفسك، فإنه دين. وكان -رضي الله عنه- إذا توقف في حديث يقول: لو صح ذلك لقلنا به، وروى البيهقي عنه ذلك في باب حديث المستحاضة تغسل عنها أثر الدم وتصلي ثم تتوضأ لكل صلاة وقال: لو صح هذا الحديث لقلنا به، وكان أحب إلينا من القياس على سنة محمد في الوضوء مما خرج من قبل أو دبر. ا. هـ. وكان يقول إذا ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي شيء لم يحل لنا تركه. وقال في باب: "سهم البراذين": "لو كنا نثبت مثل هذا الحديث ما خالفناه؛ وفي رواية أخرى: لو كنا ثبت مثل هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأخذنا به فإنه أولى الأمور بنا، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كثروا ولا في قياس ولا شيء إلا طاعة الله ورسوله بالتسليم له. ذكره البيهقي في سننه في باب: "أحد الزوجين يموت ولم يفرض صداقًا" وروى عنه أيضًا في باب السير أنه كان يقول: إن كان هذا الحديث

يثبت فلا حجة لأحد معه. وكان -رضي الله عنه- يقول: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به. وقال الشافعي في باب الصيد من الأم: "كل شيء خالف أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سقط، ولا يقوم معه رأي ولا قياس فإن الله تعالى قطع العذر بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس لأحد معه أمر، ولا نهى غير ما أمر هو به، وقال في باب: "المعلم يأكل من الصيد": وإذا ثبت الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحل تركه أبدًا وقال في باب العتق من الأم: "وليس في قول أحد وإن كانوا عددًا مع النبي حجة". قال الشعراني: "هذا ما اطلعت عليه من المواضع التي نقلت عن الإمام الشافعي في تبرئة من الرأي، وأدبه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل روينا عنه أنه كان يتأدب مع أقوال الصحابة والتابعين فضلًا عن كلام سيد المرسلين فنقل ابن الصلاح في علوم الحديث أن الشافعي قال في رسالته القديمة بعد أن أثنى على الصحابة بما هم أهله والصحابة -رضي الله عنهم- فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وفي كل أمر استدرك به علم وآراؤهم لنا أحمد وأولى من رأينا عندنا لأنفسنا". ا. هـ. قال الشيخ الأكبر قدس الله سره في فتوحاته المكية، في فصل صلاة الكسوف: "فإن أخطأ المجتهد فهو بمنزلة الكسوف الذي في غيبة المكسوف، فلا وزر عليه وهو مأجور وإن ظهر له النص، وتركه لرأية أو لقياسه فلا عذر له عند الله، وهو مأثور وهو الكسوف الظاهر الذي يكون له الأثر المقرر عند علماء هذا الشأن، وأكثر ما يكون هذا في الفقهاء المقلدين لمن قالوا لهم لا تقلدونا، واتبعوا الحديث إذا وصل إليكم المعارض لكلامنا فإن الحديث مذهبنا، وإن كنا لا نحكم بشيء إلا بدليل يظهر لنا في نظرنا أنه دليل، وما يلزمنا غير ذلك، ولكن ما يلزمكم اتباعنا ولكن يلزمكم سؤالنا، وفي كل وقت في النازلة الواحدة قد يتغير الحكم عند المجتهدين، ولهذا كان يقول مالك إذا سئل في نازلة هل وقعت فإن قيل لا يقول لا أفتي وإن قيل نعم أفتى بذلك الوقت بما أعطاه دليله فأبت المقلدة من الفقهاء أن توفي حقيقة تقليدها لإمامها باتباعها الحديث عن أمر إمامها، وقلدته في الحكم مع وجود المعارض، فعصت الله في قوله: "وما آتاكم الرسول فخذوه" وعصت الرسول في قوله: "فاتبعون" وعصت إمامها في قوله: "خذوا بالحديث إذا بلغكم، واضربوا بكلامي الحائط". فهؤلاء الفقهاء في كسوف دائم سرمد عليهم إلى يوم القيامة فيتبرأ منهم الله ورسوله، والأئمة فانظر مع من يحشر مثل هؤلاء" انتهى كلام الشيخ الأكبر قدس سره بحروفه.

العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم

4- العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم: قال علم الدين الفلاني في: "إيقاط الهمم": "قال بعض أهل التحقيق: الواجب على من له أدنى دراية بالكتاب وتفسيره، والحديث وفنونه، أن يتتبع كل التتبع، ويميز الصحيح عن الضعيف، والقوى عن غيره فيتبع ويعمل بما ثبتت صحته، وكثرت رواته، وإن كان الذي قلده على خلافه ولا يخفى أن الانتقال من مذهب إلى مذهب ما كان معلومًا في الصدر الأول، وقد انتقل كبار العلماء من مذهب إلى مذهب، وهكذا كان ما كان من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ينتقلون من قول إلى قول، والحاصل أن العمل بالحديث يحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم من المصلحة الدينية هو المذهب عند الكل وهذا الإمام الهمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان يفتي، ويقول: هذا ما قدرنا عليه في العلم فمن وجد أوضح منه فهو أولى بالصواب "كذا في تنبيه المغترين" وعنه أنه قال: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعرف مأخذه من الكتاب والسنة أو إجماع الأمة أو القياس الجلي في المسألة". ا. هـ.

لزوم الإفتاء بلفظ النص مهما أمكن

5- لزوم الإفتاء بلفظ النص مهما أمكن: قال الفلاني رحمه الله في: "إيقاظ الهمم": قال ابن القيم رحمه الله: "ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان. وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري" ثم قال: "فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولما كانت هي عصمة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون، كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك وهلم جرا" ثم قال: "قد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سئلوا عن مسألة يقولون: قال الله تعالى كذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا وفعل كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلا قط فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور".

حرمة الإفتاء بضد لفظ النص

6- حرمة الإفتاء بضد لفظ النص: قال العلامة الفلاني قدس الله سره في: "إيقاظ الهمم" في أواخره: "يحرم على المفتي أن يفتي بضد لفظ النص وإن وافق مذهبه، ومثاله أن يسأل عن رجل صلى من الصبح ركعة ثم طلعت الشمس فهل يتم صلاته أم لا فيقول لا يتمها ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "فليتم صلاته" 1، ومثل أن يسأل عن رجل مات وعليه صيام هل يصوم عنه وليه؟ فيقول: لا يصوم عنه وليه، وصاحب الشرع يقول: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"2 ومثل أن يسأل عن رجل باع متاعه ثم أفلس المشتري فوجده بعينه هل هو أحق به؟ فيقول: ليس هو أحق به، وصاحب الشرع يقول3: "هو أحق به" أن يسأل ومثل أن يسأل عن أكل كل ذي ناب: هل هو حرام؟ فيقول: ليس بحرام؛ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أكل كل ذي ناب من السباع حرم" 4 ومثل أن يسأل عن رجل له شريك في أرض، أو دار أو بستان هل له أن يبيع حصته قبل إعلام الشريك بالبيع

_ 1 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، وأحمد في مواضع من مسنده. 2 أخرجه الشيخان وأصحاب السنن وأحمد في مسنده. 3 أخرجه الشيخان وأصحاب السن وأحمد في مسنده. 4 رواه الجماعة من حديث أبي ثعلبة الخشني.

وعرضها عليه؟ فيقول: نعم يحل له أن يبيع حصته قبل إعلام شريكه بالبيع، وصاحب الشرع يقول: "من كان له شريك في أرض أو ربعة أو حائط فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه"1، ومثل أن يسأل عن قتل المسلم بالكافر فيقول نعم: "يقتل المسلم بالكافر، وصاحب الشرع يقول: "لا يقتل المسلم بالكافر" 2، ومثل أن يسأل عن الصلاة الوسطى فيقول ليست العصر، وصاحب الشرع يقول: "هي صلاة العصر"3 ومثل أن يسأل عن رفع اليدين عند الركوع، والرفع منه هل مشروع في الصلاة أو ليس بمشروع فيقول ليس بمشروع أو مكروه، وربما غلا بعضهم فقال: إن صلاته باطلة، وقد روى بضعه وعشرون نفسًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-4 أنه كان يرفع يديه عند الافتتاح والركوع والرفع منه بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها، ومثل أن يسأل عن إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما ليلة الإغمام فيقول: لا يجوز إكماله ثلاثين يومًا، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" 5 وأمثلته كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية وقد أنهاها ابن القيم إلى مائة وخسمين مثالًا". ا. هـ.

_ 1 لم أر هذا الحديث. 2 أخرجه الجماعة إلا مسلمًا من حديث أبي جحيفة. 3 تفسير الصلاة الوسطى بصلاة العصر: هو عند مسلم وأحمد وأبي داود ولفظه: "هي صلاة العصر" في مسند أحمد. 4 أحاديث رفع اليدين في الصلاة مشهورة في الصحيحين والسنن. 5 الحديث مروي في الصحيحين بألفاظ مختلفة.

رد ما خالف النص أو الإجماع

7- رد ما خالف النص أو الإجماع: قال الإمام القرافي رحمه الله تعالى في فروقه في الفرق الثامن والسبعين: تنبيه: كل شيء أفتى فيه المجتهد فوقعت فتياه فيه على خلاف الإجماع، أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلدة أن ينقله للناس، ولا يفتي به في دين الله تعالى فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه وما لا نقره شرعا بعد نقرره بحكم الحاكم أولى أن لا نقره شرعا إذا لم يتأكد، وهذا لم يتأكد فلا نقره شرعا والفتيا بغير شرع حرام فالفتيا بهذا الحكم حرام، وإن كان الإمام المجتهد غير عاص به، بل مثابا عليه؛ لأنه بذل جهده على حسب ما أمر به، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران". فعلى هذا يجب على أهل العصر تفقد مذاهبهم، لكل ما وجدوه من هذا النوع يحرم عليهم الفتيا به، ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه، لكنه قد يقل وقد يكثر غير أنه لا يقدر أن يعلم هذا من مذهبه إلا من عرف القواعد والقياس الجلي والنص الصريح عدم المعارض لذلك، وباعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتوى فتأمل ذلك فهذا أمر لازم وكذلك كان السلف رضوان الله عليه يتوقفون في الفتوى توقفًا شديدًا، وقال مالك: "لا ينبغي للعامل أن يفتي حتى يراه الناس أهلا لذلك ويرى هو نفسه أهلا لذلك". ا. هـ.

تشنيع المتقدمين على من يقول: العمل على الفقه لا على الحديث

8- تشنيع المتقدمين على من يقول العمل على الفقه لا على الحديث: قال العلامة الفلاني في "إيقاظ الهمم": "قال عبد الحق الدهلوي في شرح الصراط المستقيم إن التحقيق في قولهم: إن الصوفي لا مذهب له أنه يختار من روايات مذهبة الذي التزمه للعمل عليه ما يكون أحوط، أو يوافق حديثا صحيحا وإن لم يكن ظاهر روايات ذلك المذهب ومشهورها نقل عنه أنه قال في الشرح المذكور: "إذا وجد تابع المجتهد حديثا صحيحا، مخالفا لمذهبه هل له أن يعمل به ويترك مذهبه فيه اختلاف فعند المتقدمين له ذلك قالوا لأن المتبوع والمقتدى به هو النبي، ومن سواه فهو تابع له فبعد أن علم وصح قوله فالمتابعة لغيره غير معقولة، وهذه طريقة المتقدمين". ا. هـ. وفي الظهيرية: "ومن فعل مجتهدًا أو تقلد بمجتهد فلا عار عليه ولا شناعة ولا إنكار". ا. هـ. وأما الذي لم يكن من أهل الاجتهاد، فانتقل من قول إلى قول من غير دليل، لكن

لما يرغب من عرض الدنيا وشهواتها فهو المذموم الآثم "كذا في الجمادى" وأما "ما" يورد على الألسنة من أن العمل على الفقه لا على الحديث، فتفوه لا معنى له، إذ من البين أن مبنى الفقه ليس إلا الكتاب والسنة، وأما الإجماع والقياس فكل واحد منهما يرجع إلى كل من الكتاب والسنة فما معنى إثبات العمل على الفقه ونفي العمل عن الحديث فإن العمل بالفقه عين العمل بالحديث كما عرفت، وغاية ما يمكن في توجيهه أن يقال إن ذلك حكم مخصوص بشخص مخصوص، وهو من ليس من أهل الخصوص بل من العوام الذين هم كالهوام لا يفهمون معنى الحديث ومراده ولا يميزون بين صحيحه وضعيفه ومقدمه ومؤخره ومجملة ومفسره وموضوعه وغير ذلك من أقسامه، بل كل ما يورد عليهم بعنوان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهم يعتمدون عليه، وستندون إليه من غير تمييز ومعرفة بأن قائل ذلك من نحو المحدثين أم من غيرهم، وعلى تقدير كونه من المحدثين أعدل وثقة أم لا وإن كان جيد الحفظ أو سيئه أو غير ذلك من فنونه فإن ورد على العامي حديث ويقال له إنه يعمل على الحديث فربما يكون ذلك الحديث موضوعًا ويعمل عليه لعدم التمييز، وربما يكون ذلك الحديث ضعيفًا والحديث الصحيح على خلافه فيعمل على ذلك الحديث الضعيف ويترك الحديث الصحيح، وعلى هذا القياس في كل أحواله يغلط أو يخلط فيقال لأمثاله إنه يعمل بما جاء عن الفقيه لا يعمل بمجرد سماع الحديث لعدم ضبطه إنه يعمل بما جاء من فقيه، وإن كانت الأحاديث الواردة فيه على خلاف ذلك لأن العمل على الفقه لا على الحديث هذا ثم مع هذا لا يخفى ما في هذا اللفظ من سوء الأدب والشناعة والبشاعة فإن التفوه بنفي العمل على الحديث على الإطلاق مما لا يصدر من عاقل فضلًا عن فاضل، ولو قيل بالتوجيه الذي ذكرناه أن العمل بالفقه لا على الحديث لقال قائل بعين ذلك التوجيه إن العمل على الفقه لا على الكتاب فإن العامي لا يفهم شيئًا من الكتاب، ولا يميز بين محكمة ومتشابهة وناسخه ومنسوخه ومفسره ومجملة وعامه وخاصة وغير ذلك من أقسامه، فصح أن يقال إن العمل على الفقه لا على الكتاب والحديث وفساده، أظهر من أن يظهر وشناعته

أجلى من أن تُستر؛ بل لا يليق بحال المسلم المميز أن يصدر عنه أمثال هذه الكلمات على ما لا يخفى على ذوي الفطانة والدراية، وإذا تحققت ما تلونا عليك عرفت أنه لو لم يكن نص من الإمام على المرام لكان من المتعين على أتباعه من العلماء الكرام، فضلًا عن العوام أن يعملوا بما صح عن سيد الأنام عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، ومن أنصف ولم يتعسف عرف أن سبيل أهل التدين من السلف والخلف، ومن عدل عن ذلك فهو هالك يوصف بالجاهل المعاند المكابر، ولو كان الناس من الأكابر وأنشدوا في هذا المعنى شعرًا. أهل الحديث همو أهل النبي وإن ... لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا أماتنا الله سبحانه على محبة المحدثين وأتباعهم من الأئمة المجتهدين، وحشرنا مع العلماء العاملين تحت لواء سيد المرسلين، والحمد لله رب العالمين. ا. هـ. وقال العارف الشعراني قدس سره في مقدمة ميزانه: "أقول: الواجب على كل مقلد من طريق الإنصاف أن لا يعمل برخصه قال بها إمام مذهبه، إلا إن كان من أهلها، وأنه يجب عليه العمل بالعزيمة التي قال بها غير إمامه حيث قدر عليها لأن الحكم راجع إلى كلام الشارع بالأصالة لا إلى كلام غيره لا سيما إن كان دليل الغير أقوى خلاف ما عليه بعض المقلدين حتى إنه قال لي: لو وجدت حديثًا في البخاري ومسلم لم يأخذ به إمامي لا أعمل به، وذلك جهل منه بالشريعة وأول من يتبرأ منه إمامه، وكان الواجب عليه حمل إمامه على أنه لم يظفر بذلك الحديث أو لم يصح عنده". ا. هـ.

رد الإمام السندى الحنفى رحمه الله على من يقول: ليس لمثلنا أن يفهم الحديث

9- رد الإمام السندي الحنفي رحمه الله على من يقول ليس لمثلنا أن يفهم الحديث: قال علم الدين الفلاني رحمه الله تعالى في: "إيقاظ الهمم" ناقلًا عن شيخه مسند الحرمين في عصره أبي الحسن السندي الحنفي في حواشيه على: "فتح القدير" ما نصه: "والعجب من الذي يقول: أمر الحديث عظيم وليس لمثلنا أن يفهمه فكيف يعمل به؟ وجوابه بعد أن فرضنا موافقة فهمه لفهم ذلك العالم الذي يعتد بعلمه وفهمه بالإجماع، أنه إن كان المقصود بهذا تعظيم الحديث وتوقيره، فالحديث أعظم وأجل لكن من جملة تعظيمه وتوقيره أن يعمل به ويستعمل في مواده، فإن ترك المبالاة به إهانة له نعوذ بالله منه، وقد حصل فهمه على الوجه الذي هو مناط التكليف حيث وافق فهم ذلك العالم فترك العمل بذلك الفهم لا يناسب التعظيم والإجلال فمقتضى التعظيم والإجلال الأخذ به لا بتركه، وإن كان المقصود مجرد الرد عن نفسه بعد ظهور الحق فهذا لا يليق بشأن مسلم فإن الحق أحق بالاتباع إذ لا يعلم ذلك الرجل أن الله عز وجل قد أقام برسوله الحجة على من هو أغبى منه من المشركين الذين كانوا يعبدون الأحجار، وقد قال تعالى فيهم1: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَل} فهل أقام عليهم الحجة من غير فهم أو فهموا كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن فهم هؤلاء الأغبياء فكيف لا يفهم المؤمن مع تأييد الله تعالى له بنور الإيمان، وبعد هذا فالقول بأنه لا يفهم قريب من إنكار البديهيات، وكثير ممن يعتذر بهذا الاعتذار يحض دروس الحديث أو يدرس الحديث فلولا فهم أو أفهم، كيف قرأ أو أقرأ فهل هذا إلا من باب مخالفة القول الفعل، والاعتذار بأن ذلك الفهم ليس مناطًا للتكليف باطل إذ ليس الكتاب والسنة إلا لذلك الفهم فلا يجوز البحث عنهما بالنظر إلى المعاني التي لا يعمل بها كيف وقد أنزل الله تعالى كتابه الشريف للعمل به وتعقل معانيه ثم أمر رسوله بالبيان للناس عمومًا فقال تعالى2: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} وقال3: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} فكيف يقال إن كلامه الذي هو بيان للناس غير مفهوم لهم إلا لواحد منهم بل في هذا الوقت، ليس مفهومًا لأحد بناء على زعمهم أنه لا مجتهد في الدنيا منذ كم سنين، ولعل أمثال هذه الكلمات صدرت من بعض من أراد أن لا تنكشف حقيقة رأيه للعوام بأنه مخالف للكتاب والسنة فتوصل إلى ذلك بأن جعل فهم الكتاب والسنة على الوجه الذي هو مناط الأحكام مقصورًا على أهل

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 178. 2 سورة يوسف، الآية: 3. 3 سورة النحل، الآية: 43.

الاجتهاد، ثم نفى عن الدنيا أهل الأحكام ثم شاعت هذه الكلمات بينهم". انتهى كلام السندي بحروفه، وله تتمة سابغة لتنظر في إيقاظ الهمم للفلاني ويقرب من كلام السندي رحمه الله ما جاء في حواشي تنبيه الأفهام ولفظه: "لا ندري ما هو الباعث لبعض المتفقهة على إنكار الاجتهاد وتحريمه على غير أئمة المذاهب، والمبالغة في التقليد إلى درجة حملت بعض المستشرقين الأوروبيين على الظن بأن الفقهاء إنما هم يعتقدون في الأئمة منزلة التشريع لا منزلة الضبط، والتحرير وهذا وإن يكن سوء ظن أوجبه الفقهاء أنفسهم إلا أن الحقيقة ليست كما ظنه ذلك المستشرق معاذ الله لأن الشارع، واحد والشرع كذلك والأئمة لم ينهوا أحدًا عن العمل بالدليل، والرجوع إلى الكتاب والسنة إذا تعارض القول والنص، ومن كلام الإمام الشافعي بهذا الصدر إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقال: إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث، واضربوا بكلامي عرض الحائط، ومن كلام الإمام الأعظم لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يأخذ بكلامي لهذا كان من جاء بعدهم من أصحابهم أو من يوازيهم في العلم من المرجحين يخالفون أئمتهم في كثير من الأحكام التي لم يتقيدوا بقول إمامهم فيها لما قام لهم الدليل على مخالفتها لظاهر النص، وإنما بعض الفقهاء الذين يسترون جهلهم بالتقليد ينتحلون -لدعواهم التقيد بقول الإمام دون نص الكتاب أو السنة- أعذارًا لا يسلم لهم بها أحد من ذوي العقل الراجح من أفاضل المسلمين وعلمائهم العاملين الذين هم على بصيرة من الدين". وجاء في الحواشي المذكورة أيضًا ما نصه: "يعتذر بعضهم عن سد باب الاجتهاد بسد باب الخلاف، وجمع شتات الأفكار المتأتى عن تعدد المذاهب والحال أن الاجتهاد على طريقة السلف لا يؤدي إلى هذا المحذور كما هو مشاهد الآن عند الزيدية من أهالي جزيرة العرب -وهم الذين ينتسبون إلى زيد بن زين العابدين لا زيد بن الحسن المذكور في حواشي الدر- فإن دعوى الاجتهاد بين علمائهم شائعة مستفيضة وطريقهم فيه طريقة السلف أي أنهم يأتون بالحكم معززًا بالدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وليس بعد إيراد الدليل مع الحكم أدنى طريق للخلاف أو الاختلاف اللهم إلا فيما لم يوجد بإزائه نص صريح أو إجماع من الصحابة أو التابعين واحتيج فيه إلى الاستنباط من أصول الدين وليس في

هذا من الخطر أو تشتت الأفكار، ولو جزءًا يسيرًا مما في طريقة الترجيح والتخريج عند الفقهاء الآن على أصول أي مذهب من المذاهب الأربعة ويكفي ما في هذه الطريقة من تشتت الأفكار خلاف الخرجين والمرجحين في المسألة الواحدة خلافًا لا ينتهي إلى غاية يرتاح إليها ضمير مستفيد لقذفهم بفكره في تيار تتلاطم أمواجه بين قولهم المتعمد والمعول عليه كذا والصحيح كذا والأصح كذا ... والمفتي به كذا إلى غير ذلك من الخلاف العظيم في كل مسألة لم ينص عليها الإمام نصًّا صريحًا، ولا يخفى ما في هذا من الافتئات على الدين مما لا يعد شيئًا في جانبه خلاف الأئمة المجتهدين، ومنشؤه التقيد بالتقليد البحت وعدم الرجوع إلى الكتاب والسنة، ولو عند تعذر وجود النص، ومع هذا فإنهم يرون هذا الافتئات على الدين من الدين، ويوجبون على المؤمن العمل بأقوالهم بلا حجة تقوم لهم ولا له يوم الدين مع أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز1: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} الآية وفي هذا دليل على فساد التقليد، وأن لا بد في الدين من حجة ثابتة لهذا كان التقليد البحت لا يرضاه لنفسه إلا عامي أعمى، أو عالم لم يصل إلى مرتبة كبار الفضلاء المتقدمين والمتأخرين الذين لم يرضوا لأنفسهم التقليد البحت كالإمام الغزالي وابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيميه والإمام السيوطي، والشوكاني وغيرهم ممن اشتهر بالاجتهاد من أئمة المذاهب" انتهى بحروفه.

_ 1 سورة الكهف، الآية: 15.

رد الإمام السندى رحمه الله أيضا على من يقرأ كتب الحديث لا للعمل

10- رد الإمام السندي رحمه الله أيضًا على من يقرأ كتب الحديث لا للعمل: قال العلامة الفلاني في: "إيقاظ الهمم": "لو تتبع الإنسان من النقول لوجد أكثر مما ذكر، ودلائل العمل على الخبر أكثر من أن تذكر، وأشهر من أن تشهر لكن لبس إبليس على كثير من البشر فحسن لهم الأخذ بالرأي لا الأثر وأوهمهم أن هذا هو الأولى والأخير، فجعلهم بسبب ذلك محرومين عن العمل بحديث خير البشر -صلى الله عليه وسلم- وهذه البلية من البلايا الكبر، إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن أعجب العجائب أنهم إذا بلغهم من بعض الصحابة -رضي الله عنهم- ما يخالف الصحيح من الخبر، ولم يجدوا له محملًا جوزوا عدم بلوغ الحديث إليه، ولم يثقل ذلك عليهم، وهذا هو الصواب وإذا بلغهم حديث يخالف قول من يقلدونه اجتهدوا في تأويله القريب والبعيد وسعوا في محامله النائية والدانية وربما حرفوا الكلم عن مواضعها، وإذا قيل لهم عند عدم وجود المحامل المعتبرة لعل من تقلدونه لم يبلغه الخبر أقاموا على القائل القيامة، وشنعوا عليه أشد الشناعة، وربما جعلوه من أهل البشاعة، وثقل ذلك عليهم فانظر أيها العاقل إلى هؤلاء المساكين يجوزون عدم بلوغ الحديث في حق أبي بكر الصديق الأكبر، وأحزابه ولا يجوزون ذلك في أرباب المذاهب مع أن البون بين الفريقين كما بين السماء والأرض، وتراهم يقرءون كتب الحديث ويطالعونها ويدرسونها لا ليعملوا بها بل ليعلموا دلائل من قلدوه، وتأويل ما خالف قوله ويبالغون في المحامل البعيدة، وإذا عجزوا عن المحمل قالوا من قلدنا أعلم منا بالحديث ألا يعلمون أنهم يقيمون حجة الله تعالى عليهم بذلك، ولا يستوي العالم والجاهل في ترك العمل بالحجة وإذا مر عليهم حديث يوافق قول من قلدوه انبسطوا وإذا مر عليهم حديث يخالف قوله أو يوافق مذهب غيره ربما انقبضوا ولم يسمعوا قول الله1: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} انتهى كلام السندي رحمه الله تعالى.

_ 1 سورة النساء، الآية: 64.

التحذير من التعسف في رد الأحاديث إلى المذاهب

11- التحذير من التعسف في رد الأحاديث إلى المذاهب: قال العلامة المحقق المقري في قواعده: "لا يجوز اتباع ظاهر نص الإمام مع مخالفته لأصول الشريعة عند حذاق الشيوخ. قال الباجي: لا أعلم قولًا أشد خلافًا على مالك من أهل الأندلس، لأن مالكًا لا يجوز تقليد الرواة عنه عند مخالفتهم الأصول، وهم لا يعتمدون على ذلك". ا. هـ. وقال أيضًا: قاعدة: لا يجوز رد الأحاديث إلى المذاهب على وجه ينقص من بهجتها، ويذهب بالثقة بظاهرها فإن ذلك فساد لها وحط من منزلتها لا أصلح الله المذاهب لفسادها ولا رفعها يخفض درجاتها فكل كلام يؤخذ منه ويرد إلا ما صح لنا عن محمد بل لا يجوز الرد مطلقا؛ لأن الواجب أن ترد المذاهب إليها كما قال الشافعي، وغيره لا أن ترد هي إلى المذاهب كما تسامح فيه بعض الحنفية خصوصًا والناس عمومًا؛ إذ ظاهرها حجة على من خالفها حتى يأتي بما يقاومها فنطلب الجمع مطلقًا ومن وجه على وجه لا يصير الحجة أجحية، ولا يخرجها عن طرق الخاطبات العامة التي انبنى عليها الشرع، ولا يخل بطرق البلاغة والفصاحة التي جرت من صاحبه مجرى الطبع فإن لم يوجد طلب التاريخ للنسخ فإن لم يكن طلب الترجيح، ولو بالأصل وإلا تساقطا في حكم المناظرة، وسلم لكل ما عنده ووجب الوقف والتخيير في حكم الانتقال، وجاز الانتقال على الأصح. ثم قال: قاعدة: لا يجوز التعصب إلى المذاهب بالانتصاب للانتصار بوضع الحجاج، وتقريبها على الطرق الجدلية مع اعتقاد الخطأ والمرجوحية عند المجيب، كما يفعله أهل الخلاف إلا على وجه التدريب على نصب الأدلة والتعليم لسلوك الطريق بعد بيان ما هو الحق، فالحق أعلى من أن يُعلى وأغلب من أن يغلب، وذلك أن كل من يهتدي لنصب الأدلة، وتقرير الحجاج لا يرى الحق أبدًا في جهة رجل قطعًا ثم إنا لا نرى منصفًا في الخلاف ينتصر لغير مذهب صاحبه مع علمنا برؤية الحق في بعض آراء مخالفيه، وهذا تعظيم للمقلدين بتحقير الدين وإيثار للهوى على الهدى، ولم يتبع الحق أهواءهم، ولله در علي -رضي الله عنه- أي بحر علم ضم جنباه إذ قال لكميل بن زياد لما قال له أترانا نعتقد أنك على الحق وأن طلحة والزبير على الباطل: "اعرف الرجال بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله"، وما أحسن قول أرسطو لما خالف أستاذه أفلاطون: "تخاصم الحق، وأفلاطون وكلاهما صديق لي، والحق أصدق منه" وقال الشيخ أحمد زروق في

عمدة المريد الصادق ما نصه: "قال أبو إسحاق الشاطبي كل ما عمل به المتصوفة المعتبرون في هذا الشأن -يعني كالجنيد وأمثاله- لا يخلو إما أن يكون مما ثبت له أصل في الشريعة فهم خلفاؤه، كما أن السلف من الصحابة والتابعين خلفاء بذلك، وإن لم يكن له أصل في الشريعة فلا أعمل عليه لأن السنة حجة على جميع الأمة، وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة، ولأن السنة معصومة عن الخطأ، وصاحبها معصوم وسائر الأمة لم تثبت لهم العصمة إلا مع إجماعهم خاصة وإذا أجمعوا تضمن إجماعهم دليلًا شرعيًّا والصوفية والمجتهدون كغيرهم ممن لم يثبت لهم العصمة، ويجوز عليهم الخطأ والنسيان والمعصية كبيرها وصغيرها والبدعة محرمها ومكروهها، ولذا قال العلماء: كل كلام منه مأخوذ ومنه متروك إلا ما كان من كلامه عليه الصلاة والسلام قال: وقد قرر ذلك القشيري رحمه الله تعالى أحسن تقرير فقال: فإن قيل فهل يكون الولي معصومًا قيل أما وجوبًا كما يكون للأنبياء فلا، وأما أن يكون محفوظًا حتى لا يصر على الذنوب، وإن حصلت منهيات أو زلات في أوقات فلا يمنع في وصفهم قال: ولقد قيل للجنيد رحمه الله: "العارف يزني؟ " فأطرق مليًّا ثم رفع رأسه وقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} وقال: فهذا كلام منصف فكما يجوز على غيرهم المعاصي بالابتداع وغير ذلك يجوز عليهم البدع، فالواجب علينا أن نقف مع الاقتداء به إشكال، بل يعرض ما جاء عن الأئمة على الكتاب والسنة فما قبلاه قبلناه، وما لم يقبلاه تركناه وما عملنا به إذا قام الدليل على اتباع الشارع، ولم يقم لنا الدليل على اتباع أقوال الفقهاء والصوفية، وأعمالهم إلا بعد عرضها، وبذلك رضي شيوخهم علينا وإن جاء به صاحب الوجد والذوق من العلوم والأحوال والفهوم يعرض على الكتاب والسنة فإن قبلاه صح وإلا لم يصح، قال ثم نقول ثانيًا إن نظرنا في رسومهم التي حددوها وأعمالهم التي امتازوا بها عن غيرهم بحسب تحسين الظن، والتماس أحسن المخارج ولم نعرف له مخرجًا فالواجب التوقف عن الاقتداء، وإن كانوا في جنس من يقتدي بهم لا ردا له، ولا اعتراضًا عليه بل لأن لم نفهم وجه

رجوعه إلى القواعد الشرعية كما فهمنا غيره. ثم قال بعد كلام: فوجب بحسب الجريان على آرائهم في سلوك أن لا يُعمل بما رسموه، بما فيه معارضة بأدلة الشرع، ونكون في ذلك متبعين لآثارهم مهتدين بأنوارهم خلافًا لمن يعرض عن الأدلة ويجمد على تقليدهم فيه فيما لا يصح تقليدهم على مذهبهم فالأدلة الشرعية، والأنظار الفقهية، والرسوم الصوفية تذمه، وترده وتحمد من تحرى واحتاط وتوقف عند الاشتباه، واستبرأ لدينه وعرضه، وهو من مكنون العلم وبالله التوفيق. ا. هـ. وقال شمس الدين ابن القيم في كتاب: "الروح": "اعلم أنه لا يعترض على الأدلة من الكتاب والسنة بخلاف المخالف، فإن هذا عكس طريقة أهل العلم، فإن الأدلة هي التي تبطل ما خالفها من الأقوال، ويعترض بها على خالف موجبها فتقدم على كل قول اقتضى خلافها لا أن أقوال المجتهدين تعارض بها الأدلة، وتبطل بمقتضاها وتعدم عليها". ا. هـ. وقال رحمه الله أيضًا في الكتاب المذكور: "الفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع، والحكم المؤول الذي غايته أن يكون جائز الاتباع أن الحكم المنزل هو الذي أنزله الله عز وجل على رسوله وحكم به بين عبادة وهو الحكم الذي لا حكم له سواه، وأما الحكم المؤول فهو أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها، ولا يكفر ولا يفسق من خالفها فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله ورسوله، بل قالوا اجتهدنا رأنا فمن شاء قبله، ومن شاء لم يقبله، قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: هذا رأي فمن جاءنا بخير منه قبلناه، ولو كان هو حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد مخالفتهما فيه وكذلك مالك استشاره الرشيد أن يحمل الناس على ما في: "الموطأ" فمنعه مالك، وقال: قد تفرق أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البلاد وصار عند كل قوم علم غير ما عند الآخرين، وهكذا الشافعي ينهى أصحابه عن تقليده بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه، وهذا الإمام أحمد ينكر على من كتب فتاوية ودونها ويقول: لا تقلدوني ولا تقلد فلانًا ولا فلانًا وخذ من حيث أخذوا ولو علموا رضي الله تعالى

عنهم أن أقوالهم وحي يجب اتباعه لحرموا على أصحابهم مخالفتهم، ولما ساغ لأصحابهم أن يفتوا بخلافهم في شيء، ولما كان أحدهم يقول القول ثم يفتي بخلافه فيروي عنه في المسألة القولان والثلاثة وأكثر من ذلك فالرأي والاجتهاد أحسن أحواله أن يسوغ اتباعه، والحكم المنزل لا يحل لمسلم أن يخالفه، ولا يخرج عنه وأما الحكم المبدل، وهو الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل فلا يحل تنفيذه، ولا العمل به ولا يسوغ اتباعه وصاحبه بين الكفر والفسوق والظلم". ا. هـ. وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في جزء رفع اليدين قال وكيع: من طلب الحديث كما هو فهو صاحب سنة، ومن طلب الحديث ليقوى هواه فهو صاحب بدعة قال: يعني أن الإنسان ينبغي أن يلغي رأيه لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث يثبت الحديث، ولا يعلل بعلل لا تصح ليقوى هواه، وقد ذكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" وقد قال معمر: "أهل العلم كان الأول فالأول أعلم، وهؤلاء الآخر فالآخر عندهم أعلم" وروى البخاري رحمه الله تعالى أيضًا في جزء القراءة خلف الإمام عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: ليس أحد بعد النبي إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي. ا. هـ.

الترهيب من عدم توقير الحديث وهجر من يعرض عنه والغضب لله في ذلك

الترهيب من عدم توقير الحديث وهجر من يعرض عنه والغضب لله في ذلك ... 12- الترهيب من عدم توفير الحديث وهجر من يعرض عنه والغضب لله في ذلك: قال الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي رحمه الله تعالى في سننه: باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث فلم يعظمه ولم يوقره: أخبرنا عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني ابن عجلان عن العجلان عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يتبختر في بردين خسف الله به الأرض، فهو يتجلل فيها إلى يوم القيامة"! فقال له فتي قد سماه وهو في حلة له يا أبا هريرة! أهكذا كان يمشي ذلك الفتي الذي خسف به؟ ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد يتكسر فيها فقال أبو هريرة للمنخرين وللفم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} .

أخبرنا محمد بن حميد حدثنا هارون -هو ابن المغيرة- عن عمر بن أبي قيس، عن الزبير بن عدي عن خراش بن جبير، قال: رأيت في المسجد فتى يخذف1 فقال له شيخ: لا تخذف فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف فغفل الفتي، فظن أن الشيخ لا يفطن له فخذف فقال له الشيخ: أحدثك أني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن الخذف ثم تخذف، والله لا أشهد لك جنازة، ولا أعودك في مرض، ولا أكملك أبدًا، فقلت لصاحب لي يقال له مهاجر: انطلق إلى خراش فاسأله، فأتاه فسأله عنه، فحدثه. أخبرنا سفيان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن مغفل قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخذف وقال: "إنها لا تصطاد صيدًا ولا تنكي عدوًّا، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين" فرفع رجل بينه وبين سعيد قرابة شيئا من الأرض فقال: هذه، وما تكون هذه؟ فقال سعيد: ألا أراني أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم تهاون به! لا أكلمك أبدًا. أخبرنا عبد الله بن يزيد حدثنا كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريده قال: رأى عبد الله بن مغفل رجلا من أصحابه يخذف، فقال: لا تخذف! فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عن الخذف، وكان يكرهه وإنه لا ينكأ به عدو ولا يصاد به صيد، ولكنه قد يفقأ العين ويكسر السن ثم رآه بعد ذلك يخذف فقال له: ألم أخبرك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عنه ثم أراك تخذف، والله لا أكلمك أبدًا! أخبرنا مروان بن محمد، حدثنا إسماعيل بن بشر، عن قتادة قال: حدث ابن سيرين رجلًا يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال رجل: قال فلان وفلان كذا وكذا، فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول: قال فلان وفلان كذا وكذا لا أكلمك أبدًا!. أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أستأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها". قال فلان بن عبد الله

_ 1 الخذف: هو رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمي بها "النهاية".

إذن والله وأمنعها، فأقبل عليه ابن عمر فشتمه شتمة لم أره شتمها أحدًا قبله، ثم قال: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: إذن والله أمنعها؟ أخبرنا محمد بن حميد حدثنا هارون بن المغيرة، عن معروف عن أبي المخارق، قال: ذكر عبادة بن الصامت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن درهمين بدرهم، قال فلان: ما أرى بهذا بأسًا يدًا بيد فقال عبادة: أقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول: لا أرى به بأسًا والله لا يظلني وإياك سقف أبدًا. أخبرنا محمد بن يزيد الرفاعي حدثنا أبو عامر العقدي، عن زمعة عن سلمة بن وهرام عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تطرقوا النساء ليلًا"، قال: وأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قافلًا فانساق رجلان إلى أهليهما، وكلاهما وجد مع امرأته رجلًا. أخبرنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، عن سعيد بن المسيب، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر، نزل المعرش ثم قال: "لا تطرقوا النساء ليلًا" فخرج رجلان ممن سمع مقالته فطرقا أهلهما فوجد كل واحد منهما مع إمراته رجلا! أخبرنا أبو المغيرة، حدثنا الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه بحج أو عمرة فقال له: لا تبرح حتى تصلي فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يخرج بعد النداء من المسجد، إلا منافق، إلا رجل أخرجته حاجة، وهو يريد الرجعة إلى المسجد" فقال: إن أصحابي بالحرة قال: فخرج قال: فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه. ا. هـ. وروى مسلم حديث سالم عن ابن عمر المتقدم ورواه الإمام أحمد وزاد: "فما كلمه عبد الله حتى مات". قال الطيبي رحمه الله - شارح المشكاة: "عجبت ممن يتسمى بالسني، إذا سمع من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وله رأي رجح رأيه عليها وأي فرق بينه وبين

المبتدع؟ أما سمع: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" 1؟ وها هو ابن عمر وهو من أكابر الصحابة وفقهائها كيف غضب لله ورسوله وهجر فلذة كبده لتلك الهنة عبرة لأولي الألباب. ا. هـ. وقال النووي في شرح مسلم عند الكلام على حديث عبد الله بن مغفل الذي تقدم: "فيه جواز هجران أهل البدع والفسوق، وأنه يجوز هجرانهم دائمًا فالنهي عنه فوق ثلاثة أيام إنما هي في هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما هجر أهل البدع فيجوز على الدوام كما يدل عليه هذا مع نظائر له كحديث كعب بن مالك قال السيوطي: "وقد ألفت مؤلفًا سميته: "الزجر بالهجر" لأني كثير الملازمة لهذه السنة". ا. هـ. وقال الشعراني قدس سره: "سمع الإمام أحمد بن أبي إسحاق السبيعي يقول إلى متى حديث: "اشتغلوا بالعلم"2 فقال له الإمام أحمد: "قم يا كافر لا تدخل علينا أنت بعد اليوم ثم إنه التفت إلى أصحابه، وقال: ما قلت أبدًا لأحد من الناس لا تدخل داري غير هذا الفاسق". ا. هـ. فانظر يا أخي كيف وقع من الإمام هذا الزجر العظيم لمن قال إلى متى حديث: "اشتغلوا بالعلم" فكانوا -رضي الله عنهم- لا يتجرأ أحد منهم أن يخرج عن السنة قيد شبر بل بلغنا أن مغنيًا كان يغني للخليفة فقيل له: إن مالك بن أنس يقول بتحريم الغناء فقال المغني: وهل لمالك وأمثاله أن يحرم في دين ابن عبد المطلب والله يا أمير المؤمنين ما كان التحريم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بوحي من ربه عز وجل، وقد قال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 3 لم يقل: "بما رأيت يا محمد" فلو كان الدين بالرأي لكان رأي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحتاج إلى وحي وكان الحق تعالى أمره أن يعمل به بل عاتبه الله تعالى حين حرم على نفسه ما حرم في قصة مارية وقال4: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك} الآية. ا. هـ.

_ 1 راجع تخريج هذا الحديث في ص54، من هذا الكتاب. 2 لم نره بهذا اللفظ، وأحاديث الترغيب في طلب العلم كثيرة. 3 سورة النساء، الآية: 104. 4 سورة التحريم، الآية: 1.

وقال قدس الله سره أيضًا: "كان الإمام أبو حنيفة -رضي الله عنه- يقول: إياكم وآراء الرجال. ودخل عليه مرة رجل من أهل الكوفة والحديث يقرأ عنده فقال الرجل: دعونا من هذه الأحاديث! فزجره الإمام أشد الزجر وقال له: لولا السنة ما فهم أحد منا القرآن ثم قال للرجل: ما تقول في لحم القرد وابن دليله من القرآن؟ فأفحم الرجل. فقال للإمام: فما تقول أنت فيه؟ فقال: ليس هو من بهيمة الأنغام. فانظر يا أخي إلى مناضلة الإمام عن السنة وزجره من عرض له بترك النظر في أحاديثها فكيف ينبغي لأحد أن ينسب الإمام إلى القول في دين الله بالرأي الذي لا يشهد له ظاهر كتاب ولا سنة وكان -رضي الله عنه- يقول عليكم بآثار من سلف، وإياكم ورأي الرجال وإن زخرفوه بالقول فإن الأمر ينجلي حين ينجلي، وأنتم على صراط مستقيم، وكان يقول: إياكم والبدع والتبدع والتنطع وعليكم بالأمر الأول العتيق، ودخل شخص الكوفة بكتاب: "دانيال" فكاد أبو حنيفة أن يقتله، وقال له أكتاب ثَمَّ غير القرآن والحديث، وقيل له مرة: ما تقول فيما أحدثه الناس من الكلام في العرض والجوهر والجسم، فقال: هذه مقالات الفلاسفة فعليكم بالآثار وطريقة السلف وإياكم وكل محدث فإنه بدعة، وقيل له مرة: قد ترك الناس العمل بالحديث، وأقبلوا على سماعه فقال -رضي الله عنه: نفس سماعهم للحديث عمل به، وكان يقول: لم تزل الناس في صلاح ما دام فيهم من يطلب الحديث فإذا طلبوا العلم بلا حديث فسدوا، وكان -رضي الله عنه- يقول: قاتل الله عمرو بن عبيد فإنه فتح للناس باب الخوض في الكلام فيما لا يعنيهم، وكان يقول: لا ينبغي لأحد أن يقول قولًا حتى يعلم أن شريعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقبله" انتهى ملخصًا.

ما ينفى من قول أحد عند قول النبى صلى الله عليه وسلم

ما ينفى من قول أحد عند قول النبى صلى الله عليه وسلم ... 13- ما يتقى من قول أحد عند قول النبي -صلى الله عليه وسلم: قال الإمام الدارمي رحمه الله تعالى في مسنده، في باب: "ما يتقى من تفسير حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وقول غيره عند قوله -صلى الله عليه وسلم": أخبرنا موسى بن خالد حدثنا معتمر عن أبيه قال ليتق من تفسير حديث كما تقي من تفسير القرآن. أخبرنا صدقة بن الفضل حدثنا معتمر عن أبيه قال: قال ابن عباس: أما تخافون أن تعذبوا ويخسف بكم أن تقولوا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال فلان. أخبرنا الحسن بن بشر حدثنا المعافي عن الأوزاعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن لا رأي لأحد في كتاب الله، وإنما رأي الأئمة فيما لا ينزل فيه كتاب ولم تمض به سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم. حدثنا موسى بن خالد حدثنا معتمر بن سليمان عن عبيد الله بن عمر أن عمر بن عبد العزيز خطب فقال: "يا أيها الناس إن الله لم يبعث نبيًّا بعد نبيكم ولم ينزل بعد هذا الكتاب الذي أنزله عليه كتابًا، فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة ألا وأني لست بقاض ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، ولست بخير منكم غير أني أثقلكم حملًا، وأنه ليس لأحد من خلق الله أن يطاع في معصية الله ألا هل أسمعت؟ ". أخبرنا عبيد الله بن سعيد حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير قال: كان طاوس يصلي ركعتين بعد العصر فقال له ابن عباس: اتركهما قال: إنما نهى عنهما أن تتخذا سلما، قال ابن عباس: فإنه قد نهى عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليها أم تؤخر؛ لأن الله يقول1: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} قال سفيان تتخذ سلما يقول: يصلي بعد العصر إلى الليل حدثنا قبيصة أخبرنا سفيان عن أبي رباح شيخ من آل

_ 1 سورة الأحزاب، الآية: 36.

عمر قال: رأى سعيد بن المسيب رجلًا يصلي بعد العصر الركعتين، يكثر فقال له: يا أبا محمد! أيعذبني الله على الصلاة؟ لا ولكن يعذبك الله بخلاف السنة. ا. هـ. وقال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في رسالته: "أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهاب قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن المقبري، عن أبي شريح الكعبي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عام الفتح1: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين عن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود" قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري، وصاح عليَّ صياحًا كثيرًا، ونال منى وقال: أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: أتأخذ به؟ نعم آخذ به، وذلك الفرض عليَّ وعلى من سمعه إن الله تبارك وتعالى اختار محمدًا من الناس فهداهم به، وعلى يديه واختار لهم ما اختار له، وعلى لسانه فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك قال: وما سكت حتى يمنيت أن يسكت". ا. هـ. وقال العارف الشعراني في مقدمة ميزانه: "قال الإمام محمد الكوفي رأيت الإمام الشافعي -رضي الله عنه- بمكة وهو يفتي الناس، ورأيت الإمام أحمد إسحاق بن راهويه حاضرين فقال الشافعي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم2: "وهل ترك لنا عقيل من دار"؟ فقال إسحاق روينا عن الحسن، وإبراهيم أنهما لم يكونا يريانه، وكذلك عطاء ومجاهد فقال الشافعي لإسحاق: لو كان غيرك موضعك لفركت أذنه أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: قال عطاء ومجاهد والحسن؟ وهل لأحد مع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة -بأبي هو وأمي-". ا. هـ. وأخرج الحافظ ابن عبد البر عن بكير بن الأشج، أن رجلًا قال للقاسم بن محمد: عجبًا من عائشة كيف كانت تصلي في السفر أربعًا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي ركعتين ركعتين؟ فقال: يا بن أخي عليك بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث وجدتها

_ 1 رواه الجماعة من حديث أبي هريرة. 2 أخرجه الشيخان من حديث أسامة بن زيد.

فإن من الناس من لا يعاب. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال عروة: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: يا تقول ما عروة؟ قال يقولون: نهي أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون أقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقولون: قال أبو بكر وعمر قال ابن عبد البر: يعني متعة الحج، وهو فسخ الحج في عمرة1. وقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية أحدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويخبرني برأيه لا أساكنك بأرض أنت فيها، وعن عبادة بن الصامت مثل ذلك، وعن عمر بن دينار عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال عمر: إذا رميتم الجمرة سبع حصيات، وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء، قال سالم وقالت عائشة2 أنا طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحله قبل أن يطوف بالبيت قال سالم: فسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن تتبع. نقله العلامة الفلاني في إيقاظ الهمم.

_ 1 أحاديث فسخ الحج في إلى العمرة كثيرة أخرجها الشيخان وغيرهما من حديث عائشة وغيرها. 2 أخرجه مالك في الموطأ من حديث عائشة.

ما يقوله من بلغه حديث كان يعتقد خلافه

14- ما يقوله من بلغه حديث كان يعتقد خلافه: قال الإمام النووي في: "رياض الصالحين1" في باب: "وجوب الانقياد لحكم الله وما يقوله عن دعي إلى ذلك". "قال الله تعالى2: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} . وقال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . ثم ساق شذرة من الأحاديث في ذلك. وقال -رضي الله عنه- في أذكاره3 في باب: "ما يقوله من دعي إلى حكم الله تعالى" ما صورته: "وكذلك ينبغي إذا قال له صاحبه هذا الذي فعلته خلاف حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو نحو ذلك أن لا يقول لا ألتزمُ الحديث، أو لا أعمل بالحديث أو نحو ذلك من العبارات المستبشعة. وإن كان الحديث متروك الظاهر لتخصيص أو تأويل أو نحو ذلك: يقول عند ذلك هذا الحديث مخصوص أو متاول، أو متروك الظاهر بالإجماع، وشبه ذلك". ا. هـ.

_ 1 ص22. 2 سورة النساء، الآية: 64. 3 ص153 طبع مصر 1306هـ.

ما روى عن السلف في الرجوع إلى حديث

ما روى عن السلف في الرجوع إلى حديث ... 15- ما رُوي عن السلف في الرجوع إلى البيت: قال الإمام الشافعي في الرسالة أخبرنا سفيان بن عيينة، وعبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قضى في الإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشر وفي الوسطى بعشر، وفي التي تلي الخنصر بتسع وفي الخنضر بست قال الشافعي لما كان معروفًا والله أعلم عند عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع نزلها منازلها فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف فهذا قياس على الخبر قال الشافعي: فلما وجد كتاب آل عمرو بن حزم1 فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" صاروا إليه قال: ولم يقبلوا كتاب آل عمر بن حزم والله أعلم حتى ثبت لهم أنه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي هذا الحديث دلالتان إحداهما قبول الخبر والأخرى أن يقبل الخبر في الوقت الذي يثبت فيه وإن لم يمض عمل من أحد من الأئمة بمثل الخبر الذي قبلوا، ودلالة على أنه لو مضى أيضًا عمل من أحد من الأئمة ثم وجد عن النبي خبر يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودلالة على أن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده قال الشافعي: ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا من المهاجرين والأنصار ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه،

_ 1 أخرجه النسائي وغيره.

ولا غيركم، بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك كل عمل خالفه. ولو بلغ عمر هذا صار إليه إن شاء الله، كما صار إلى غيره مما بلغه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتقواه لله وتأديته الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلمه بأن ليس لأحد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر، وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي: "فإن قال لي قائل: فادللني على أن عمر عمل شيئًا ثم صار إلى غيره لخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلت: فإن أوجدتكه، قال: ففي إيجادك إياي ذلك دليل على أمرين: أحدهما: أنه قد يعمل من جهة الرأي إذا لم يجد سنة والآخر: أن السنة إذا وجدت عليه ترك عمل نفسه، ووجب على الناس ترك كل عمل، وجدت السنة بخلافة، وإبطال أن السنة لا تثبت إلا بخبر تقدمها وعلم أنه لا يوهيها شيء إن خالفها قال الشافعي: "أخبرنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يقول والدية على العاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضباني من ديته فرجع إليه عمر. قال الشافعي: أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار، وابن طاوس عن طاوس أن عمر قال: أذكر الله امرأ سمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنين شيئًا فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جاريتين لي -يعني ضرتين- فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينًا ميتًا فقضى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغرة1 فقال عمر -رضي الله عنه: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، وقال غيره: إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا قال الشافعي: فقد رجع عمر عما كان يقضي به لحديث الضحاك إلى أن خالف فيه حكم نفسه، وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع بهذا لقضى فيه بغيره، وقال: إن كدنا أن نقضي في مثل هذا بآرائنا قال الشافعي: يخبر -والله أعلم- أن السنة إذا كانت موجودة بأن في النفس مائة من الإبل فلا يعدو الجنين أن يكون حيًّا فتكون فيه مائة من الإبل، أو ميتا فلا شيء فيه فلما أخبر بقضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه سلم له، ولم يجعل لنفسه إلا اتباعه فيما مضى حكمه بخلافه وفيما كان رأيا منه لم يبلغه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه شيء، فلما بلغه خلاف فعله صار إلى حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك حكم نفسه وكذلك كان في كل أمره، وكذلك يلزم الناس أن يكونوا. ا. هـ.

_ 1 قصة حمل بن مالك أخرجها ابن داود والنسائي وغيرهما من حديث ابن عباس.

حق الأدب فيما لم تدرك حقيقة من الأخبار النبوية

16- حق الأدب فيما لم تدرك حقيقة من الأخبار النبوية: نقل القسطلاني في شرح البخاري عند باب: "صفة إبليس" آخر الباب عن: "التوربشتي" في حديث: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثًا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه" 1 ما نصه: "حق الأدب دون الكلمات النبوية التي هي مخازن لأسرار الربوبية ومعادن الحكم الإلهية أن لا يتكلم في الحديث وإخوانه بشيء فإن الله تعالى خص رسوله -صلى الله عليه وسلم- بغرائب المعاني وكاشفة عن حقائق الأشياء ما يقصر عن بيانه باع الفهم ويكل عن إدراكه بصر العقل". ا. هـ. وقال العارف الشعراني قدس سره في ميزانه: "روينا عن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- أنه كان يقول التسليم نصف الإيمان قال له الربيع الجيزي بل هو الإيمان كله يا أبا عبد الله فقال وهو كذلك وكان الإمام الشافعي يقول: من كمال إيمان العبد أن لا يبحث في الأصول، ولا يقول فيها: "لم ولا كيف" فقيل له: وما هي الأصول فقال: هي الكتاب والسنة، وإجماع الأمة. ا. هـ. قال الشعراني: أي فنقول في كل ما جاءنا عن ربنا أو نبينا آمنا بذلك على علم ربنا فيه. ا. هـ. أقول: رأيت بخط شيخنا العلامة المحقق الشيخ محمد الطندتائي الأزهري ثم الدمشقي على سؤال في فتاوي ابن حجر في الميت إذا ألحد في قبره هل يقعد ويسأل، أم يسأل هو راقد وهل تلبس الجثة الروح إلخ ما نصه: "اعلم أن السؤال عن هذه الأشياء، من باب الاشتغال بما لا يعني وقد ورد: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وإنما كان من الاشتغال بما لا يعني لأن الله تعالى لم يكلفنا بمعرفة حقائق الأشياء، وإنما كلفنا بتصديق نبيه في كل ما جاء به وبامتثال أمره واجتناب نهيه. وإنما اشتغل بالبحث عن حقائق الأشياء. هؤلاء الفلاسفة الذين سمعوا أنفسهم بالحكماء؛ لأنهم أنكروا المعاد الجسماني، وقالوا بالحشر الروحاني، وزعموا أن النعيم إنما هو بالعلم، والعذاب إنما هو بالجهل، وقد عم هذا البلاد كثيرًا من العلماء حتى اعتقدوا أن هذه الفلسفة هي الحكمة، ورأوها أفضل ما يكتسبه الإنسان، وإن ما سواها من علوم الدين وآلاتها ليس فضيلة فلا حول ولا قوة إلا بالله، فالواجب تصديق الشارع في كل ما ثبت عنه، وإن لم يفهم معناه فلا تضيع وقتك في الاشتغال بما لا يعنيك. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

_ 1 أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، ومسلم من حديث بشر بن الحكم وغيرهما.

بيان إمرار السلف الأحاديث على ظاهرها

17- بيان إمرار السلف الأحاديث على ظاهرها: قال العارف الشعراني في ميزانه: "كان الإمام الشافعي يقول الحديث على ظاهره، لكنه إذا احتمل عدة معان، فأولاها ما وافق الظاهر". ا. هـ. وقال قدس سره أيضًا: "وقد كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين يقدرون على القياس، ولكنهم تركوا ذلك أدبًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن هنا قال سفيان الثوري: من الأدب إجراء الأحاديث التي خرجت مخرج الزجر، والتنفير على ظاهرها من غير تأويل فإنها إذا أولت خرجت عن مراد الشارع كحديث: "من غشنا فليس منا" 1 وحديث: "ليس منا من تَطير أو تُطير له" 2وحديث: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" 3 فإن العالم إذا أولها بأن المراد: "ليس منا" في تلك الخصلة فقط أي وهو منا في غيرها هان على الفاسق الوقوع فيها وقال مثل المخالفة في خصلة واحدة أمر سهل فكان أدب السلف الصالح بعدم التأويل أولى بالاتباع للشارع وإن كان قواعد الشريعة قد تشهد أيضًا لذلك التأويل". ا. هـ. وهكذا مذهب السلف في الصفات. قال الحافظ شمس الدين الذهبي الشافعي الدمشقي

_ 1 أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. 2 أخرجه الطبراني من حديث عمران بن حصين 3 متفق عليه من حديث ابن مسعود وغيره.

رحمه الله تعالى في كتاب: "العلو": "قال الإمام العلامة حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد البر الأندلسي في شرح الموطأ: أهل السنة يجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لم يكيفوا شيئًا من ذلك، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل منها شيئًا على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود" قال الحافظ الذهبي صدق، والله فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب، وأن يشابه المعدوم كما نقل عن حماد بن زيد أنه قال: "مثل الجهمية كقوم قالوا في دارنا نخلة قيل: ألها سعف؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة قلت: كذلك هؤلاء النفاة قالوا: إلهنا الله تعالى، وهو لا في زمان ولا مكان، ولا يرى ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يرضى ولا يريد، ولا ولا وقالوا سبحان المنزه عن الصفات بل نقول سبحان الله تعالى العظيم السميع البصير المريد الذي كلم موسى تكليمًا، واتخذ إبراهيم خليلًا، ويرى في الآخرة المتصف بما وصف نفسه ووصفه به رسله المنزه عن سمات المخلوقين، وعن جحد الجاحدين ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير". ثم قال الذهبي: "وقال عالم العراق أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء البغدادي الحنبلي في كتاب: "إبطال التأويل" له: لا يجوز رد هذه الأخبار، ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها وأنها صفات الله عز وجل لا تشبه بسائر صفات الموصوفين بها من الخلق قال: ويدل على إبطال التأويل أن الصحابة، ومن بعدهم حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها فلو كان التأويل سائغًا لكانوا إليه أسبق لما فيه من إزالة التشبيه يعني على زعمهم من قال إن ظاهرها تشبيه". قال الذهبي: قلت: المتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولده ما علمت أحدًا سبقهم بها. قالوا: هذه

الصفات تمر كل جاءت، ولا تؤول مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. فتفرع من هذا أن الظاهر يعين به أمران: "أحدهما: أنه لا تأويل لها غير دلالة الخطاب، كما قال السلف: الاستواء معلوم؛ وكما قال سفيان وغيره: قراءتها تفسيرها، يعني أنها بينة واضحة في اللغة لا يُبتغى بها مضايق التأويل والتحريف، وهذا هو مذهب السلف مع اتفاقهم أيضًا أنها لا تشبه صفات البشر بوجه، إذ الباري لا مثل له لا في ذاته، ولا في صفاته". "الثاني: أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة، كما يتشكل في الذهن من وصف البشر. فهذا غير مراد، فإن الله تعالى فرد صمد ليس له نظير، وإن تعددت صفاته فإنها حق ولكن ما لها مثل ولا نظير فمن ذا الذي عانيه ونعته لنا، ومن ذا الذي يستطيع أن ينعت لنا كيف سمع كلامه؟ والله إنا لعاجزون كالون حائرون باهتون في حد الروح التي فينا وكيف تعرج كل ليلة إذا توفاها بارئها وكيف يرسلها وكيف تستقل بعد الموت، وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله، وكيف حياة النبيين الآن، وكيف شاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أخاه موسى يصلي في قبره قائمًا ثم رآه في السماء السادسة، وحاوره وأشار عليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه على أمته، وكيف ناظر موسى أباه آدم، وحجه آدم بالقدر السابق وكذلك نعجز عن، وصف هيئتنا في الجنة ووصف الحور العين فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة مع رونقهم، وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني فالله أعلى، وأعظم له المثل الأعلى والكمال المطلق ولا مثل له أصلًا آمنا بالله واشهد بأننا مسلمون". ا. هـ. ثم قال الذهبي: "قال الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: أما الكلام في كل لصفات: فأما ما روى منها في السنن الصحاح، فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها نفى الكيفية والتشبيه عنها. ثم قال: والمراد بظاهرها أنه لا باطن لألفاظ الكتاب السنة غير ما وضعت له كما قال مالك وغيره: "الاستواء معلوم" وكذلك القول في السمع والبصر والعلم، والكلام والإرادة والوجه ونحو ذلك. هذه الأشياء معلومة فلا تحتاج إلى بيان وتفسير، لكن الكيف في جميعها مجهول عندنا. وقد نقل الذهبي في كتابه المذكور هذا المذهب عن مائة وخمسين إمامًا بدأ منهم بأبي حنيفة -رضي الله عنهم- وختم بالقرطبي فانظره.

قاعدة الإمام الشافعى رحمه الله في مختلف الحديث

18- قاعدة الإمام الشافعي رحمه الله في مختلف الحديث: ساقها ضمن محاورة مع باحث فيما ورد في التغليس بالفجر والإسفار: قال -رضي الله عنه- في رسالته في باب: "ما يعد مختلفًا وليس عندنا بمختلف" أخبرنا ابن عيينة عن محمد بن عجلان عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أسفروا بصلاة الفجر فإن ذلك أعظم للأجر، أو أعظم لأجوركم" قال الشافعي أخبرنا ابن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كنَّ من نساء المؤمنات يصلين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصبح ثم ينصرفن وهن متلفعات بمروجهن ما يعرفهن أحد من الغلس قال الشافعي، وذكر تغليس النبي بالفجر سهل بن سعد وزيد بن ثابت وغيرهما من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شبيهًا بمعنى حديث عائشة قال الشافعي: "قال لي قائل نحن نرى أن يسفر بالفجر اعتمادًا على حديث رافع، ونزعم أن الفضل في ذلك، وأنت ترى جائزًا لنا إذا اختلف الحديثان أن نأخذ بأحدهما، ونحن نعد هذا مخالفًا لحديث عائشة قال الشافعي: فقلت له إن كان مخالفًا لحديث عائشة، فكأن الذي يلزمنا وإياك أن نصير إلى حديث عائشة دونه لأن أصل ما نبني نحن، وأنتم عليه أن الأحاديث إذا اختلفت لم نذهب إلى واحد منها دون غيره إلا بسبب يدل على أن الذي ذهبنا إليه أقوى من الذي تركنا قال: وما ذلك السبب قلت: أن يكون أحد الحديثين أشبه بكتاب الله فإذا أشبه كتاب الله كانت فيه الحجة قال: هكذا نقول، قلت: فإن

لم يكن فيه نص في كتاب الله كان أولاهما بنا الأثبت منهما، وذلك أن يكون من رواه أعرف إسنادًا، وأشهر بالعلم والحفظ له من الإملاء أو يكون روى الحديث الذي ذهبنا إليه من وجهين أو أكثر، والذي تركنا من وجه فيكون الأكثر أولى بالحفظ من الأقل، أو يكون الذي ذهبنا إليه أشبه بمعنى كتاب الله أو أشبه بما سواهما من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأولى بما يعرف أهل العلم وأوضح في القياس، والذي عليه الأكثر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال: وهكذا نقول ويقول أهل العلم. قلت: فحديث عائشة أشبه بكتاب الله؛ لأن الله عز وجل يقول: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} فإذا حل الوقت فأولى المصلين بالمحافظة المقدم للصلاة. وهو أيضًا أشهر رجل بالفقه وأحفظ ومع حديث عائشة ثلاثة، كلهم يروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل معنى حديث عائشة: زيد بن ثابت، وسهل بن سعد؛ والعدد الأكثر أولى بالحفظ والنقل، وهذا أشبه بسنن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث رافع بن خديج قال: وأي سنن قلت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أول الوقت رضوان الله وآخره عفوه" 1. وهو لا يؤثر على رضوان الله شيئًا والعفو لا يحتمل إلا معنيين عفوًا عن تقصير، أو توسعة، والتوسعة تشبه أن يكون الفضل في غيرها إذ لم يؤمر بترك ذلك لغير التي وسع في خلافها. قال: وما تريد بهذا؟ قلت: إذا لم يؤمر بترك الوقت الأول وكان جائزًا أن يصلي فيه، وفي غيره قبله فالفضل في التقديم والتأخير تقصير موسع، وقد أبان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما قلنا وسئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة في أول وقتها" 2 وهو لا يدع موضع الفضل ولا يأمر الناس إلا به وهو الذي لا يجهله عالم أن تقديم الصلاة في أول وقتها أولي بالفضل لما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل التي لا تجهلها العقول وهو أشبه بمعنى كتاب الله قال أين هو من الكتاب؟ قلت: قال الله جل ثناؤه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} ومن قدم الصلاة في أول وقتها كان أولى بالمحافظة عليها ممن أخرها عن

_ 1 أخرجه الدارقطني عن جرير ورمز إليه في الجامع الصغير بالضعف. 2 أخرجه أبو داود والترمذي عن أم فروة.

أول الوقت. وقد رأينا الناس فيما وجب عليهم وفيما تطوعوا به، يؤمرون بتعجيله إذا أمكن، لما يعرض للآدميين من الأشغال والنسيان والعلل التي لا تجهلها العقول، وأن تقديم صلاة الفجر في أول وقتها عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وغيرهم -رضي الله عنهم- مثبت قال الشافعي: فقال إن أبا بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم، دخلوا الصلاة مغلسين وخرجوا منها مسفرين، بإطاله القراءة، فقلت له قد أطالوا القراءة وأوجزوها، والوقت في الدخول لا في الخروج من الصلاة، وكلهم دخل مغلسًا، وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منها مغلسًا فخالفت الذي هو أولى بك أن تصير إليه مما ثبت عن رسول، وخالفتهم فقلت يدخل الداخل منها مسفرًا ويخرج مسفرًا، ويوجز القراءة فخالفتهم في الدخول وما احتججت به، من طول القراءة وفي الأحاديث عن بعضهم أنه خرج منها مغلسًا قال الشافعي: فقلت إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما حض الناس على تقديم الصلاة وأخبر بالفضل فيها احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر فقال: "أسفروا بالفجر" يعني حتى يتبين الفجر الآخر معترضًا، قال أفيحتمل معنى غير ذلك قال: نعم، يحتمل ما قلت؛ وما بين ما قلنا وقلت، وكل معنى يقع عليه اسم الإسفار. قال: فما جعل معناكم أولى من معنانا؟ قلت: بما وصفت لك من الدليل وبأن النبي -صلى الله عليه وسلم1: قال: هما فجران: "فأما الذي كأنه ذنب السرحان فلا يحل شيئا ولا يحرمه وأما الفجر المعترض فيحل الصلاة ويحرم الطعام". يعني على من أراد الصيام". ا. هـ. وقال -رضي الله عنه- قبل ذلك في باب وجه آخر من الاختلاف: "قال الشافعي: فقال لي قائل قد اختلف في التشهد فروى ابن مسعود2 عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يعلمهم التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن فقال في مبتدئة ثلاث كلمات التحيات لله فبأي التشهد أخذت قلت: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن

_ 1 السرحان: الذئب، والحديث أخرجه الحاكم والبيهقي عن جابر مرفوعًا. 2 أخرجه الستة إلا مالكا من حديث ابن مسعود.

عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه سمع عمر بن الخطاب1 -رضي الله عنه- يقول على المنبر هو يعلم الناس التشهد -يقول قولوا: "التحيات لله الزاكيات لله الطيبات، لله الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمه الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده وروسوله" قال الشافعي: هذا الذي علمنا من سبقنا بالعلم من فقهائنا صغارًا، ثم سمعناه بإسناده وسمعنا ما يخالفه فلم نسمع إسنادًا في التشهد يخالفه، ولا يوافقه أثبت عندنا منه وإن كان غيره ثابتًا، وكان الذي نذهب إليه أن عمر لا يعلم الناس على المنبر بين ظهراني أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ما علمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما انتهى إلينا من حديث أصحابنا حديث نثبته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- صرنا إليه وكان أولى بنا قال: وما هو قلت أخبرنا الثقة وهو يحيى بن حسان عن الليث بن سعد عن أبي الزبير المكي عن سعيد بن جبير، وطاوس عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فكان يقول التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمه الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله قال الشافعي: فإن قال قائل: فإنا نرى الرواية اختلفت فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فروى2 ابن مسعود خلاف هذا، وأبو موسى3 خلاف هذا وجابر4 خلاف هذا، وكلها قد يخالف بعضها بعضًا في شيء من لفظه ثم علم عمر خلاف هذا كله في بعض لفظه، وكذلك تشهد عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها وكذلك تشهد ابن عمر ليس فيها شيء إلا في لفظه شيء غير ما في لفظ صاحبه، وقد يزيد بعضهم الشيء على البعض قال الشافعي: فقلت له الأمر في هذا بين قال فأبنه لي قلت كل كلام

_ 1 هو في موطأ مالك. 2 أخرجه مسلم عن ابن عباس. 3 رواية ابن مسعود تقدمت، وللنسائي عن أبي موسى رفعه: إذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم: التحيات لله ... إلى قوله لا شريك له. وله عن جابر: كان "ص" يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله التحيات لله ... إلخ تشهد ابن مسعود. 4 تشهد عائشة وابن عمر يراجعان في موطأ مالك. وتركنا ذكرهما اختصارًا.

أريد به تعظيم الله جل ثناؤه فعلمهموه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلعله جعل يعلمه الرجل فينسى، والآخر فيحفظه وما أخذ خفظًا فأكثر ما يحترس فيه منه إحالة المعنى. فلم يكن فيه زيادة ولا نقص ولا اختلاف شيء من كلامه يحيل المعنى فلا يسع إحالته، فلعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز لكل امرئ منهم ما حفظ كما حفظ إذ كان لا معنى فيه يحيل شيئا عن حكمه، ولعل من اختلفت روايته، واختلف تشهده إنما توسعوا فيه فقالوا على ما حفظوا على ما حضرهم فأجيز لهم قال أتجد شيئًا يدل على إجازة ما وصفت فقلت: نعم قال: وما هو؟ قلت: أخبرنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام، يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه فجئت به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اقرأ" فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت" ثم قال: "اقرأ" فقرأت فقال: "هكذا أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه" 1 قال الشافعي: فإذا كان الله جل ثناؤه لرأفته بخلقه انزل كتابه على سبعة أحرف معرفة منه بأن الحفظ منه قد يزل ليحل لهم يعني قراءته، وإن اختلف اللفظ فيه ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى كان ما سوى كتاب الله أولى أن يجوز فيه اختلاف اللفظ ما لم يحل معناه، وكل ما لم يكن فيه حكم فاختلاف اللفظ فيه لا يحيل معناه، وقد قال بعض التابعين: رأيت أناسا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجمعوا لي في المعنى، واختلفوا في اللفظ فقلت لبعضهم ذلك فقال: لا بأس ما لم يحل المعنى قال الشافعي: فقال ما في التشهد إلا تعظيم الله، وإني لأرجو أن يكون كل هذا فيه واسعًا، وأن لا يكون الاختلاف فيه إلا من حيث ما ذكرت، ومثل هذا كما قلت يمكن في صلاة الخوف فيكون إذا جاء بكمال الصلاة على أي الوجوه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم. اجزأه إذ خالف الله عز وجل بينها وبين ما سواها من الصلوات قال: ولكن كيف صرت إلى اختيار حديث ابن ابن عباس عن النبي في التشهد دون غيره؟ قلت: لما رأيته واسعًا وسمعته عن ابن عباس صحيحًا كان عندي أجمع وأكثر لفظا من غيره فأخذت به غير معنف لمن أخذ بغيره مما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ا. هـ.

_ 1 أخرجه الشيخان وأصحاب السنن من حديث عمر.

فذلكة وجوه الترجيح بين ما ظاهره التعارض

19- فذلكة وجوه الترجيح بين ما ظاهره التعارض: اعلم أن من نظر في أحوال الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم وجدهم متفقين على العمل بالراجح، وترك المرجوح وطرق الترجيح كثيرة جدًّا، ومدار الترجيح على ما يزيد الناظر قوة في نظره على وجه صحيح مطابق للمسالك الشرعية فما كان محصلا لذلك فهو مرجح معتبر، والترجيح قد يكون باعتبار الإسناد وباعتبار المتن وباعتبار المدلول وباعتبار أمر خارج فهذه أربعة أنواع: 1- وجوه الترجيح باعتبار الإسناد: 1- الترجيح بكثرة الرواة: فيرجح ما رواته أكثر على ما رواته أقل، لقوة الظن به وإليه ذهب الجمهور. قال ابن دقيق العيد: هذا المرجح من أقوى المرجحات وقال الكرخي: إنهما سواء، ولو تعارضت الكثرة من جانب والعدالة من الجانب الآخر ففيه قولان ترجيح الكثرة، وترجيح العدالة فإنه رب عدل يعدل ألف رجل في الثقة كما قيل إن شعبة بن الحجاج كان يعدل مائتين، وقد كان الصحابة يقدمون رواية الصديق على رواية غيره. 2- ترجح رواية الكبير على رواية الصغير لأنه أقرب إلى الضبط إلا أن يعلم أن الصغير مثله في الضبط، أو أكثر ضبطًا منه. 3- ترجح رواية من كان فقيهًا على من لم يكن كذلك لأنه أعرف بمدلولات الألفاظ. 4- ترجح رواية الأوثق. 5- ترجح رواية الأحفظ.

6- أن يكون أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر. 7- أن يكون أحدهما صاحب الواقعة لأنه أعرف بالقصة. 8- أن يكون أحدهما مباشرًا لما رواه دون الآخر. 9- أن يكون أحدهما كثير المخالطة للنبي -صلى الله عليه وسلم- دون الآخر لأن كثرة الاختلاط تقتضي زيادة في الاطلاع. 10- أن يكون أحدهما قد ثبتت عدالته بالتزكية والآخر بمجرد الظاهر. 11- أن يكون المزكون لأحدهما أكثر من المزكين للآخر. 12- ترجح رواية من يوافق الحفاظ على رواية من ينفرد عنهم في كثير من رواياته. 13- ترجح رواية من دام حفظه وعقله ولم يختلط على من اختلط في آخر عمره ولم يعرف هل روى الخبر حال سلامته أو حال اختلاطه. 14- تقدم رواية من كان أشهر بالعدالة والثقة من الآخر لأن ذلك يمنع عن الكذب. 15- تقدم رواية من تأخر إسلامه على من تقدم إسلامه لاحتمال أن يكون ما رواه من تقدم إسلامه منسوخًا. 16- تقدم رواية من ذكر سبب الحديث على من لم يذكر سببه. 17- تقدم الأحاديث التي في الصحيحين على الأحاديث الخارجة عنهما. 18- تقدم رواية من لم ينكر عليه على رواية من أنكر عليه فإن وقع التعارض في بعض هذه المرجحات فعلى المجتهد أن يرجح بين ما تعارض منها. 2- وجوه الترجيح باعتبار المتن: الأول- يقدم الخاص على العام. الثاني- تقدم الحقيقة على المجاز إذا لم يغلب المجاز. الثالث- يقدم ما كان حقيقة شرعية أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية.

الرابع- يقدم ما كان مستغنيًا عن الإضمار في دلالته على ما هو مفتقر إليه. الخامس- يقدم الدال على المراد من وجهين على ما كان دالًّا عليه من وجه واحد. السادس- يقدم ما كان فيه الإيماء إلى علة الحكم على ما لم يكن كذلك لأن دلالة المعلل أوضح من دلالة غير المعلل. السابع- يقدم المقيد على المطلق. 3- وجوه الترجيح باعتبار المدلول: الأول- يقدم ما كان مقررًا لحكم الأصل والبراءة على ما كان ناقلًا. الثاني- أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط فإنه أرجح. الثالث- يقدم المثبت على المنفي لأن مع المثبت زيادة علم. الرابع- يقدم ما كان حكمه أخف على ما كان حكمه أغلط. 4- وجوه الترجيح باعتبار أمور خارجة: الأول- يقدم ما عضده دليل آخر على ما لم يعضده دليل آخر. الثاني- أن يكون أحدهما قولًا والآخر فعلًا فيقدم القول لأن له صيغة والفعل لا صيغة له. الثالث- يقدم ما كان فيه التصريح على ما لم يكن كذلك كضرب الأمثال ونحوها فإنها ترجح العبارة على الإشارة. الرابع- يقدم ما عمل عليه أكثر السلف على ما ليس كذلك لأن الأكثر أولى بإصابة الحق. الخامس- أن يكون أحدهما موافقًا لعمل الخلفاء الأربعة دون الآخر فإنه يقدم الموافق. السادس- أن يكون أحدهما موافقًا لعمل أهل المدينة. السابع- أن يكون أحدهما أشبه بظاهر القرآن دون الآخر فإنه يقدم. وللأصوليين مرجحات آخر في الأقسام الأربعة منظور فيها ولا اعتداد عندي بمن نظر فيما سقناه لأن القلب السليم لا يرى فيه مغمزًا، وبالجملة: فالمرجح في مثل هذه الترجيحات هو نظر المجتهد المطلق فيقدم ما كان عنده أرجح على غيره إذا تعارضت.

بحث الناسخ والمنسوخ

2- بحث الناسخ والمنسوخ: قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: "النسخ رفع تعلق حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه، والناسخ ما دل على الرفع المذكور، وتسميته ناسخا مجاز؛ لأن الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى، ويعرف النسخ بأمور أصرحها ما ورد في النص كحديث بريده في صحيح مسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة " ومنها ما يجزم الصحابي بأنه متأخر كقول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك الوضوء مما مست النار، أخرجه أصحاب السنن ومنها ما يعرف بالتاريخ، وهو كثير وليس منها ما يرويه الصحابي المتأخر الإسلام معارضًا لمتقدم عنه لاحتمال أن يكون سمعه من صحابي آخر أقدم من المتقدم المذكور أو مثله فأرسله، لكن إن وقع التصريح بسماعه له من النبي فيتجه أن يكون ناسخا بشرط أن يكون لم يتحمل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئا قبل إسلامه. ا. هـ.

بحث التحيل على إسقاط حكم أو قلبه

بحث التحيل على إسقاط حكم أو قلبه ... 21- بحث التحيل على إسقاط أو قلبه: روى أبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عباس مرفوعًا: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" وفي رواية: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها" أي أذابوها قال الخطابي: "في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى المحرم وأنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه". قال شيخ الإسلام ابن تيميه: "وجه الدلالة ما أشار إليه الإمام أحمد أن اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم، أرادوا الاحتيال على الانتفاع بها، على وجه لا يقال في الظاهر إنهم انتفعوا بالشحم، فجملوه وقصدوا بذلك أن يزول عنه اسم الشحم، ثم انتفعوا بثمنه بعد ذلك لئلا يكون الانتفاع في الظاهر بعين المحرم ثم مع كونهم احتالوا بحيلة خرجوا بها في زعمهم من ظاهر التحريم من هذين الوجهين لعنهم الله تعالى على لسان رسوله على هذا الاستحلال نظرًا إلى المقصود، وأن حكمه التحريم لا تختلف سواء كان جامدًا أو مائعًا، وبدل الشيء يقوم مقامه ويسد مسده فإذا حرم الله الانتفاع بشيء حرم الاعتياض عن تلك المنفعة فعلم أنه لو كان التحريم معلقًا بمجرد اللفظ، وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود إلى الشيء المحرم، وحقيقته لم يستحقوا اللعنة لوجهين. أحدهما: أن الشحم خرج بجمله عن أن يكون شحمًا، وصار ودكًا، كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا، إلى أن يصير بيعًا عند من يستحل ذلك، فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحال، ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة: "دراهم بدراهم دخلت بينها حريرة" فلا فرق بين ذلك وبين مائة بمائة وعشرين بلا حيلة البتة لا في شرع ولا عقل ولا عرف بل المفسدة، ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ومن رسوله، ويتوعده أشد توعد ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه مع قيام تلك المفسدة وزيادتها تبعث الاحتيال في مقته ومخادعة الله ورسوله هذا لا يأتي به شرع، فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب المراقي يترابى المترابيان على رأسه فيا لله العجب أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتياط والخداع، فهل صار هذا الذئب العظيم -الذي هو من أكبر الكبائر عند الله- حسنة وطاعة بالخداع والاحتيال، تالله كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبث إلى الطيب، ومن المفسدة إلى المصلحة

وجعله محبوبًا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطا له؟ وإن كان الاحتيال يبلغ هذا المبلغ، فإنه عند الله عز وجل ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة، وإنه من أقوى دعائم الدين، وأوثق عراه وأجل أصوله. ويا لله العجب كيف تزول مفسدة التحليل التي أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلعن فاعله مرة بعد أخرى بتسليف شرطه وتقديمه على صلب العقد وإخلاء صلب العقد من لفظه، وقد وقع التواطؤ والتوافق عليه وأي غرض للشارع، وأي حكمة في تقديم الشرط وتسليفه حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خمرة هذا العقد خلًّا، وهل كان عقد التحليل مسخوطًا لله ورسوله بحقيقته ومعناه أم لعدم حقيقة مقارنة الشرط له وحصول نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته وحصول نكاح التحليل، وهكذا الحيل الربوبة فإن الربا لم يكن حرامًا لصورته ولفظه، وإنما كان حرامًا لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة ركبت، وبأي لفظ عبر عنها فليس الشأن في الأسماء وصور العقود، وإنما الشأن في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له. الوجه الثاني: أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، وإنما انتفعوا بثمنه. ويلزم من راعي الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك؛ فلما لعنوا على استحلال الثمن، وإن لم ينص على تحريمه، علم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة. ونظير هذا أن يقال لرجل: لا تقرب مال اليتيم، فيبيعه ويأخذ ثمنه، ويقول: لم أقرب ماله! وكمن يقول لرجل: لا تشرب من هذا النهر فيأخذ بيديه ويشرب من كفيه، ويقول: لم أشرب منه وبمنزلة من يقول: لا تضرب زيدًا فيضربه فوق ثيابه، ويقول إنما ضربت ثيابه، وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطبيب في معالجة المرضى لزاد مرضهم، ولو استعملها المريض لكان مرتكبًا لنفس ما نهاه عنه الطبيب كمن يقول له الطبيب: لا تأكل اللحم فإنه يزيد في مواد المرض فيدقه، ويعمل منه هريسة، ويقول: لم آكل اللحم وهذا المثال مطابق العامة الحيل الباطلة في الدين، ويا لله العجب أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين صريحًا وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلًا بل دخولها كخروجها؟ ولهذا

لا يسأل العاقد عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها، ولا عيب فيها ولا يبالي بذلك البتة حتى لو كانت خرقة مقطعة أو أذن جدي أو عودًا من حطب، أدخلوه محللًا للربا، ولما تفطن المحتالون إلى أن هذه المسألة لا اعتبار بها في نفس الأمر، وأنها ليست مقصودة بوجه، وأن دخولها كخروجها تهاونوا بها ولم يبالوا بكونها مما يتحول عادة، أو لا يتحول ولا يبالي بعضهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة، وكل هذا واقع من أرباب الحيل وهذا لما علموا أن المشتري لا غرض له في السلعة، وقالوا: أي سلعة اتفق حضورها حصل بها التحليل كأي يتس اتفق في باب محلل النكاح، وما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراع المقاصد والمعاني إلا كمثل رجل قيل له لا تسلم على صاحب بدعة فقبل يده ورجله ولم يسلم عليه، أو قيل له اذهب فاملأ هذه الجرة فذهب وملأها ثم تركها على الحوض، وقال: لم يقل ائتني بها، وكمن قال لوكيله بع هذه السلعة فباعها بدرهم، وهي تساوي مائة، ويلزم من وقف مع الظواهر أن يصحح هذا البيع، ويلزم به الموكل وإن نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألقاها في غير موضع، وكمن أعطاء رجلًا ثوبًا فقال: والله لا ألبسه لما فيه من المنة فباعه، وأعطاه ثمنه فقبله وكمن قال: والله لا أشرب هذا الشراب فجعله عقيدًا أو ثرد فيه خبزًا وأكله، ويلزم من وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحد من فعل ذلك بالخمر، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن من الأمة من يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه فقال: "لتشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف، والقينات يخسف الله بهم ويجعل منهم القردة والخنازير" رواه أحمد وأبو داود. قال شيخ الإسلام ابن تيميه: وقد جاء حديث آخر يوافق هذا مرفوعًا وموقوفًا من حديث ابن عباس: "يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء يستحلون الخمر باسم يسمونها إياه، والسحت بالهدية والقتل بالرهبة، والزنا بالنكاح والربا بالبيع" وهذا حق فإن استحلال الربا

باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع، وحقيقتها حقيقة الربا. ومعلوم أن الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته لا لصورته واسمه. فهب أن المرابي لم يسمه ربا، وسماه بيعًا فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها، وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحل من استحل المسكر من غير عصير العنب، وقال: لا اسميه خمرًا وإنما هو نبيذ كما يستحلها طائفة إذا مزجت، ويقولون: خرجت بالمزج عن اسم الخمر كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق، وكما يستحلها من يستحلها إذا اتخذت عقيدًا، ويقول: هذه عقيد لا خمر، ومعلوم أن التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا الاسم ولا الصورة، وأما استحلال السحت باسم الهدية فهو أظهر من أن يذكر كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما فإن المرتشي ملعون هو والراشي لما في ذلك من المفسدة، ومعلوم قطعًا أنهما لا يخرجان عن اللعنة، وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية وقد علمنا وعلم الله وملائكته ومن له اطلاع على الحيل أنها رشوة، وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسميه ولاة الجور سياسة وهيبة وناموسًا وحرمة للملك فهو أظهر من أن يذكر، وأما استحلال الزنا بالنكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غرض له أن تقيم معه ولا أن تكون زوجته وإنما غرضه أن يقضي منها وطره ويأخذ جعلا على الفساد بها ويتوصل إلى ذلك باسم النكاح وإظهار صورته، وقد علم الله ورسوله والملائكة والروح والمرأة أنه محلل لا ناكح1، وأنه ليس بزوج وإنما هو تيس مستعار2 للضراب. فيا لله العجب أي فرق في نفس الأمر بين الزنا وبين هذا. نعم هذا زنا بشهود من البشر، وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبين كما صرح به أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالا لا يزالان زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم أنه إنما يريد أن يحلها، والمقصود أن هذا المحلل إذا قيل له، هذا زنا قال: ليس بزنا، بل نكاح. كما أن المرابي إذا قيل له هذا ربا، قال: بل هو بيع، ولو أوجب تبدل الأسماء والصور

_ 1 في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي والترمذي من حديث ابن مسعود وقال: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المحلل والمحلل له، قال الترمذي حديث حسن صحيح. 2 تسميته بالتيس المستعار هو في سن ابن ماجه من حديث عقبة بن مالك مرفوعًا.

تبدل الأحكام والحقائق، لفسدت الديانات، وبدلت الشرائع واضمحل الإسلام. هذا ملخص ما أفاده في هذه المسألة الإمام ابن القيم في: "إعلام الموقعين"1 وذكر رحمه الله أيضًا فيه حكم الحيلة في إسقاط الزكاة إذا كان في يده نصاب بأن يبيعه، أو يهبه قبل الحول ثم يشتريه فقال: "هذه حيلة محرمة باطلة، ولا يسقط ذلك عنه فرض الله الذي فرضه، وأوعد بالعقوبة الشديدة من ضيعة وأهمله، فلو جاز إبطاله بالحيلة التي هي مكر وخداع لم يكن في إيجابه والوعيد على تركه فائدة، وقد استقرت سنة الله سبحانه في خلقه شرعًا وقدرًا على معاقبة العبد بنقيض قصده كما حرم القاتل الميراث وورث المطلقة في مرض الموت، وكذلك الفار العبد من الزكاة لا يسقطها عنه فراره ولا يعان على قصد الباطل فيتم مقصودة ويسقط مقصود الرب سبحانه وتعالى. وكذلك عامة الحيل أنى يساعد فيها المتحيل على بلوغ غرضه ويبطل غرض الشارع، وكذلك المجامع في نهار رمضان إذا تغدى أو شرب الخمر أولًا ثم جامع قالوا لا تجب عليه الكفارة، وهذا ليس بصحيح فإن ضمه إلى إثم الجماع إثم الأكل، والشرب لا يناسب التخفيف عنه بل يناسب تغليظ الكفارة عليه فسبحان الله هل أوجب الشارع الكفارة لكون الوطء لم يتقدمه مفطر قبله أو للجناية على زمن الصوم الذي لم يجعله الله محلا للوطء وانقلبت كراهة الشرع له محبة، ومنعه إذنا هذا من المحال، فتأمل كيف تتضمن الحيل المحرمة مناقضة الدين وإبطال الشرائع، ويا لله العجب! أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على أحكم الحاكمين الذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور فتعالى شارع هذه الشريعة الفائقة على كل شريعة أن يشرع فيها الحيل التي تسقط فرائضه وتحل محارمه وتبطل حقوق عباده وتفتح للناس أبواب الاحتيال، وأنواع المكر والخداع، وأن يبيح التوصل بالأسباب المشروعة إلى الأمور المحرمة المنوعة، وقد أخبر الله سبحانه عن عقوبة المحتالين على حل ما حرمه عليهم، وإسقاط ما فرضه عليهم في غير موضع من كتابه قال أبو بكر

_ 1 ص107 ج3.

الآجرى -وقد ذكر بعض الحيل الربوية التي يفعلها الناس- لقد مسخت اليهود قردة بدون هذا، ولقد صدق إذا أكل حوت صيد يوم السبت، أهون عند الله وأقل جرمًا من أكل الربا الذي حرمه الله بالحيل والمخادعة، ولكن قال الحسن: عجل لأولئك عقوبة تلك الأكلة الوخيمة وأرجئت عقوبة هؤلاء فهذه العظائم والمصائب الفاضحات لو اعتمدها مخلوق مع مخلوق لكان في نهاية القبح فكيف بم يعلم السر وأخفى، وإذا وازن اللبيب بين حيلة أصحاب السبت والحيل التي يتعاطاها أرباب الحيل في كثير من الأبواب ظهر له التفاوت، ومراتب المفسدة التي بينها وبين هذه الحيل فإذا عرف قدر الشرع وعظمة الشارع وحكمته وما اشتمل عليه شرعه من رعاية مصالح عبادة تبين له حقيقة الحال وقطع بأن الله سبحانه تنزه وتعالى أن يسوغ لعبادة نقض شرعه وحكمته بأنواع الخداع والاحتيال. ا. هـ. وكما بسط رحمه الله الكلام في ذلك في: "إعلام الموقعين" أطنب فيه أيضًا في كتابه: "إغائة اللهفان" اهتمامًا بهذا الموضوع، ومما جاء فيه قوله1 ومن مكايده -يعني الشيطان- التي كاد بها الإسلام، وأهله الحيل والمكر والخداع الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه ومضادته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه فإن الرأي رأيان رأي يوافق النصوص وتشهد له بالصحة والاعتبار وهو الذي اعتبره السلف وعملوا به، ورأي يخالف النصوص، وتشهد له بالإبطال والإهدار فهو الذي ذموه وأنكروه، وكذلك الحيل نوعان نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه والتخلص من الحرام وتخليص المحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي فهذا النوع محمود ظالمًا والظالم مظلومًا والحق باطلًا والباطل حقًّّّّا فهذا النوع الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض. قال الإمام أحمد رحمه الله لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق مسلم

_ 1 ص183 طبع بمصر.

وقال الميموني: "قلت لأبي عبد الله: من خلف على يمين ثم احتال لإبطالها فهل تجوز تلك الحيل؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز، قلت: أليس حيلتنا فيها أن تتبع ما قالوا، وإذا وجدنا لهم قولًا في شيء اتبعناه قال بلى هكذا هو. قلت: أو ليس هذا منا نحن حيلة؟ قال: نعم -فبين الإمام أحمد أن من اتبع ما شرع له وجاء عن السلف في معاني الأسماء التي علقت بها الأحكام ليس بمحتال الحيل المذمومة وإن سميت حيلة فليس الكلام فيها، وغرض الإمام أحمد بهذا الفرق بين سلوك الطريق المشروعة التي شرعت بحصول مقصود الشارع، وبين الطرق التي تسلك لإبطال مقصودة فهذا هو سر الفرق بين النوعين، وكلامنا الآن في النوع الثاني" ثم جود الكلام في ذلك فأطال، وأطاب رحمه المولي الوهاب. وكذلك الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى في موافقاته في كتاب: "المقاصد في المسألة العاشرة"1، أسبغ البحث في ذلك، ولسهولة الوقوف من هذه الكتب الجليلة اكتفينا بالإحالة عليها والله الموفق.

_ 1 ص264 ج2 طبع بمصر سنة 1341.

بيان أسباب اختلاف الصحابة والتابعين في الفروع

22- بيان أسباب اختلاف الصحابة والتابعين في الفروع: قال الإمام العلامة ولي الله الدهلوي في: "الحجة البالغة" تحت هذه الترجمة1 "اعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن الفقه في زمانه مدونًا، ولم يكن البحث في الأحكام يومئذ مثل البحث من هؤلاء الفقهاء حيث يبنون بأقصى جهدهم الأركان، والشروط وآداب كل شيء ممتازًا عن الآخر بدليله، ويفرضون الصور يتكلمون على تلك الصور المفروضة ويحدون ما يقبل الحد، ويحصرون ما يقبل الحصر إلى غير ذلك من صنائعهم، أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان يتوضأ فيرى الصحابة وضوءه فيأخذون به من غير أن يبين أن هذا ركن وذلك أدب، وكان يصلي فيرون صلاته فيصلون كما رأوه يصلي، وحج فرمق الناس حجة ففعلوا

_ 1 ص112.

كما فعل فهذا كان غالب حاله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، ولم يفرض أنه يحتمل أن يتوضأ إنسان بغير موالاة، حتى يحكم عليه بالصحة أو الفساد إلا ما شاء الله وقلما كانوا يسألونه عن هذه الأشياء. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ما رأيت قومًا خيرًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما سألوه عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن منهن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 1، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيض} 2 قال: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم قال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن قال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها وتنقرون3 عن أشياء ما كنا ننقر عنها، تسألون عن أشياء ما أدري ما هي، ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمها عن عمر بن إسحاق قال: لمن أدركت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر ممن سبقني منهم فما رأيت قومًا أيسر سيرة، ولا أقل تشديدًا منهم، وعن عبادة بن بسر الكندي، وسئل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي فقال: أدركت أقوامًا ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم "أخرج هذه الآثار الدارمي"، وكان يستفتيه الناس في الوقائع فيفتيهم وترفع إليه القضايا فيقضي فيها، ويرى الناس يفعلون معروفًا فيمدحه أو منكرًا فينكر عليه وكل ما أفتى به مستفتيًا أو قضى به في قضية أو أنكره على فاعله كان في الاجتماعات، وكذلك كان الشيخان أبو بكر وعمر إذا لم يكن لهما علم في المسألة يسألون الناس عن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال أبو بكر -رضي الله عنهما- سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فيها شيئا -يعني الجدة- وسأل الناس فلما صلى الظهر قال: أيكم سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في الجدة شيئا فقال: المغيرة بن شعبة أنا فقال: ماذا؟ قال: قال: أعطاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سدسا قال: أيعلم ذاك أحد غيرك؟ فقال محمد بن سلمة: صدق - فأعطاها أبو بكر السدس وقصة سؤال عمر الناس في الغرة

_ 1 سورة البقرة، الآية: 217. 2 سورة البقرة، الآية: 222. 3 التنقير: التفتيش والاستقصاء في البحث والمبالغة فيه.

ثم رجوعه إلى خبر مغيرة، وسؤاله إياهم في الوباء، ثم رجوعه إلى خبر عبد الرحمن بن عوف، وكذا رجوعه في قصة المجوس إلى خبره وسرور عبد الله بن مسعود بخير معقل بن يسار لما وافق رأيه، وقصة رجوع أبي موسى عن باب عمر وسؤاله عن الحديث وشهادة أبي سعيد له، وأمثال ذلك كثيرة معلومة مروية في الصحيحين والسنن، وبالجملة فهذه كانت عادته الكريمة -صلى الله عليه وسلم- فرأى كل صحابي ما يسره الله له من عبادته وفتاواه وأقضيته، فخفظها وعقلها وعرف لكل شيء وجها من قبل حفوف القرائن به فحمل بعضها على الإباحة وبعضها على النسخ لأمارات وقرائن كانت كافية عنده، ولم يكن العمدة عندهم إلا وجدان الاطمئنان والثلج من غير التفات إلى طرق الاستدلال كما ترى الأعراب يفهمون مقصود الكلام فيما بينهم وتثلج صدورهم بالتصريح والتلويح والإيماء من حيث لا يشعرون فانقضي عصره الكريم وهم على ذلك ثم إنهم تفرقوا في البلاد وصار كل واحد مقتدي ناحية من النواحي فكثرت الوقائع ودارت المسائل فاستفتوا فيها فأجاب كل واحد حسب ما حفظه أو استنبط وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبط ما يصلح للجواب اجتهد برأيه وعرف العلة التي أدار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليها الحكم في منصوصاته، فطرد الحكم حيثما وجدها لا يألو جهدًا في موافقه عرضه عليه الصلاة والسلام فعند ذلك وقع الاختلاف بينهم على ضروب منها أن صحابيا سمع حكما في قضية أو فتوى ولم يسمعه الآخر فاجتهد برأيه في ذلك، وهذا على وجوه. أحدها: أن يقع اجتهاده موافق الحديث مثاله ما رواه النسائي وغيره أن ابن مسعود -رضي الله عنه- سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها -أي لم يعين لها المهر- فقال: لم أر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي في ذلك فاختلفوا عليه شهرًا، وألحوا فاجتهد برأيه وقضى بأن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط1 وعليها العدة، ولها الميراث فقام معقل بن يسار فشهد بأنه قضى بمثل ذلك في امرأة منهم، ففرح بذلك ابن مسعود فرحة لم يفرح مثلها قط بعد الإسلام.

_ 1 قوله: لا وكس ولا شطط: أي لا نقصان ولا زيادة. ا. هـ.

ثانيها: أن يقع بينهما المناظرة ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب الظن فيرجع عن اجتهاده إلى المسموع، مثاله ما رواه الأئمة من أن أبا هريرة -رضي الله عنه- كان من مذهبه أنه من أصبح جنبًا فلا صوم له حتى أخبرته بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف مذهبه فرجع. وثالثها: أن يبلغة الحديث، ولكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن فلم يترك اجتهاده، بل طعن في الحديث مثاله: ما رواه أصحاب الأصول1 من أن فاطمة بنت قيس شهدت عند عمر بن الخطاب بأنها كانت مطلقة الثلاث فلم يجعل لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفقة ولا سكنى فرد شهادتها، وقال: لا أترك كتاب الله بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت لها النفقة والسكني وقالت عائشة -رضي الله عنها- لفاطمة ألا تتقي الله؟ يعني في قولها لا سكني ولا نفقة، ومثال آخر روى الشيخان أنه كان من مذهب عمر بن الخطاب أن التيمم لا يجزي للجنب الذي لا يجد ماء، فتمعك في التراب فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنما كان يكفيك أن تفعل هكذا" وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه ويديه فلم يقبل عمر، ولم ينهض عنده حجة لقادح خفي رآه فيه حتى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة واضمحل وهم القادح فأخذوا به. ورابعها: أن لا يصل إليه الحديث أصلًا مثاله: ما أخرج مسلم أن ابن عمر كان يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن، فسمعت عائشة بذلك فقالت: يا عجبًا لابن عمر هذا يأمر النساء أن ينقضن رءؤسهن، أفلا يأمرهن أن يحلقن رءوسهن؟ لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد وما أزيد على أن أفرع على رأسي ثلاث إفراغات. مثال آخر: ما ذكره الزهري من أن هندًا لم تبلغها رخصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المستحاضة فكان تبكي لأنها كانت لا تصلي. ومن تلك

_ 1 راجع تخريج هذا في ص88.

الضروب أن يروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعل فعلًا فحمله بعضهم على القربة وبعضهم على الإباحة، مثاله: ما رواه أصحاب الأصول في قضية التخصيب -أي النزول بالأبطح عند النفر- نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- به فذهب أبو هريرة، وابن عمر إلى أنه على وجه القربة فجعلوه من سنن الحج، وذهبت عائشة وابن عباس إلى أنه كان على وجه الاتفاق وليس من السنن، ومثال آخر ذهب الجمهور إلى أن الرمل في الطواف سنة، وذهب ابن عباس إلى أنه إنما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيل الاتفاق لعارض عرض، وهو قول المشركين حطمتهم حمى يثرب، وليس بسنة ومنها اختلاف الوهم مثاله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حج فرآه الناس فذهب بعضهم إلى أنه كان متمتعًا، وبعضهم إلى أنه كان قارنًا وبعضهم إلى أنه كان مفردًا، مثال آخر أخرج أبو داود عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا العباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أوجب1 فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها كانت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة فمن هناك اختلفوا. خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجًّا فلما صلى في مسجد ذي الخليفة ركعة أوجب في مجلسه وأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالًا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين استقلت به ناقته ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيداء، وايم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته وأهل حين علا على شرف البيداء. ومنها: اختلاف السهو والنسيان مثاله ما روي أن ابن عمر كان يقول اعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمرة في رجب فسمعت بذلك عائشة فقضت عليه بالسهو.

_ 1 أي أهل وأتى بما وجب من أفعال الإحرام. ا. هـ.

ومنها: اختلاف الضبط مثاله ما روى ابن عمر1 أو عمر عنه -صلى الله عليه وسلم- من أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقضت عائشة عليه بأنه لم يأخذ الحديث على وجهه مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على يهودية يبكي عليها أهلها، فقال: "إنهم يبكون عليها وإنها تعذب في قبرها". فظن العذاب معلولًا للبكاء فظن الحكم عامًّا على كل ميت2. ومنها: اختلافهم في علة الحكم، مثاله: القيام للجنازة فقال قائل: لتعظيم الملائكة فيعم المؤمن والكافر، وقال قائل: لهول الموت فيعمهما، وقال2 الحسن بن علي -رضي الله عنهما: مر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجنازة يهودي فقام لها كراهية أن تعلو فوق رأسه فيخص الكافر. ومنها: اختلافهم في الجمع بين المختلفين، مثاله: رخص3 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المتعة عام خيبر، ثم رخص فيها عام أوطاس، ثم نهى عنها، فقال ابن عباس: كانت الرخصة للضرورة، والنهي لانقضاء الضرورة، والحكم باق على ذلك، وقال الجمهور: كانت الرخصة إباحة والنهي نسخًا لها مثال آخر4. نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن استقبال القبلة في الاستنجاء فذهب قوم إلى عموم هذا الحكم، وكونه غير منسوخ ورآه جابر يبول قبل أن يتوفى بعام مستقبل القبلة فذهب إلى أنه نسخ للنهي المتقدم، ورآه ابن عمر قضى حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام فرد به قولهم وجمع قوم بين

_ 1 أخرجه في الصحيحين من حديث عائشة وابن عمر. 2 في الصحيحين من حديث جابر قال: مر بنا جنازة فقام لها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقمنا معه، قيل له: يا رسول الله إنها جنازة يهودي فقال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها"، ومن حديث سهل بن حنيف فيهما فقال: "أليست نفسًا"؟. وأما ما أخرجه الطبراني والبيهقي من حديث الحسن بن علي وقوله فيه. كراهية أن يعلو رأسه، فيخص الكافر، فقد قال في نيل الأوطار: إن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة، ومقتضى التعليل بقوله: "أليست نفسًا"؟، أن ذلك يستحب لكل جنازة. ا. هـ. ملخصًا. 3 أخرجاه في الصحيحين من حديث علي. 4 عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جلس أحدكم لحاجته، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها". رواه أحمد ومسلم.

الروايتين. فذهب الشعبي وغيره إلى أن النهي مختص بالصحراء، فإذا كان في المراحيض فلا بأس بالاستقبال والاستدبار، وذهب قوم إلى أن القول عام محكم، والفعل يحتمل كونه خاصًّا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا ينتهض ناسخًا ولا مخصصًا، وبالجملة فاختلفت مذاهب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ عنهم التابعون كذلك كل واحد ما تيسر له فحفظ ما سمع من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومذاهب الصحابة وعقلها وجمع المختلف على ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض واضمحل في نظرهم بعض الأقوال وإن كان مأثورًا عن كبار الصحابة كالمذهب المأثور عن عمر وابن مسعود في تيمم الجنب، اضمحل عندهم لما استفاض من الأحاديث عن عمار وعمران بن الحصين وغيرهما فعند ذلك صار لكل عالم من علماء التابعين مذهب على حياله فانتصب في بلد إمام مثل سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة، وبعدهما الزهري والقاضي يحيى بن سعيد وربيعة بن عبد الرحمن فيها، وعطاء بن أبي رباح بمكة وإبراهيم النخعي، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، وطاوس بن كيسان باليمن، ومكحول بالشام فأظمأ الله أكبادًا إلى علومهم فرغبوا فيها وأخذوا عنهم الحديث وفتاوي الصحابة، وأقاويلهم ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم من عند أنفسهم واستفتي منهم المستفتون ودارت المسائل بينهم، ورفعت إليهم الأقضية وكان سعيد بن المسيب وإبراهيم وأمثالهما جمعوا أبواب الفقه أجمعها، وكان لهم في باب أصول تلقوها من السلف، وكان سعيد وأصحابه يذهبون إلى أن أهل الحرمين أثبت الناس في الفقه، وأصل مذهبهم فتاوي عبد الله بن عمر وعائشة وابن عباس وقضايا قشاة المدينة فجمعوا من ذلك ما يسره الله لهم ثم نظروا فيها نظر اعتبار وتفتيش فما كان منها مجمعًا عليه بين علماء المدينة فإنهم يأخذون عليه بنواجذهم، وما كان فيه اختلاف عندهم فإنهم يأخذون بأقواها وأرجحها إما بكثرة من ذهب إليه منهم، أو لموافقته بقياس قوي أو تخريج صريح من الكتاب والسنة أو نحو ذلك، وإذا لم يجدوا فيما حفظوا منه جواب المسألة خرجوا من كلامه، وتتبعوا الإيماء فحصل لهم مسائل كثيرة في كل باب، وكان إبراهيم

وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود وأصحابه أثبت الناس في الفقة، كما قال علقمة لمسروق: هل أحد منهم أثبت من عبد الله؟ وقول أبي حنيفة -رضي الله عنه- للأوزاعي: إبراهيم أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لقلت إن علقمة أفقه من عبد الله بن عمر، وعبد الله هو عبد الله وأصل مذهبه فتاوي عبد الله بن مسعود، وقضايا علي -رضي الله عنهما- وفتاواه وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة فجمع من ذلك ما يسره الله ثم صنع في آثارهم كما صنع أهل المدينة في آثار أهل المدينة، وخرج كما خرجوا فلخص له مسائل الفقه في كل باب باب، وكان سعيد بن المسيب لسان فقهاء المدينة، وكان أحفظهم لقضايا عمر، ولحديث أبي هريرة وإبراهيم لسان فقهاء الكوفة فإذا تكلما بشيء، ولم ينسباه إلى أحد فإنه في الأكثر منسوب إلى أحد من السلف صريحًا وإيماء، ونحو ذلك فاجتمع عليهما فقهاء بلدهما، وأخذوا عنهما، وعقلوه وخرجوا عليه والله أعلم.

بيان أسباب اختلاف مذاهب الفقهاء

23- بيان أسباب اختلاف مذاهب الفقهاء: قال الإمام ولي الله الدهلوي قدس سره في الحجة البالغة أيضًا تحت هذه الترجمة ما صورته1: "اعلم أن الله تعالى أنشأ بعد عصر التابعين نشئًا من حملة العلم، إنجازًا لما وعده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" 2، فأخذوا عمن اجتمعوا معه صفة الوضوء والغسل والصلاة والحج والنكاح والبيوع وسائر ما يكثر وقوعه ورووا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمعوا قضايا قضاة البلدان، وفتاوي مفتيها وسألوا عن المسائل، واجتهدوا في ذلك كله ثم صاروا كبراء قوم ووسدوا إليهم الأمر فنسجوا على منوال شيوخهم، ولم يألوا في تتبع الإيماءات والاقتصاءات فقضوا، وأفتوا ورووا وعلموا وكان صنيع العلماء في هذه الطبقة متشابهًا، وحاصل صنيعهم أن يتمسك بالمسند من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمرسل جميعًا ويستدل بأقوال

_ 1 ص115. 2 رواه الحاكم في المستدرك وابن عساكر.

الصحابة والتابعين، علمًا منهم أنها إما أحاديث منقولة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختصروها فجعلوها موقوفة كما قال إبراهيم، وقد روى حديث نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة والمزابنة1 فقيل له أما تحفظ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا غير هذا قال: بلي، ولكن أقول قال عبد الله قال علقمة أحب إلي، وكما قال الشعبي، وقد سئل عن حديث وقيل إنه يرفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا عليَّ من دون النبي -صلى الله عليه وسلم- أحب إلينا فإن كان فيه زيادة ونقصان كان على من دون النبي -صلى الله عليه وسلم- أو يكون استنباطًا منهم من المنصوص، أو اجتهادًا منهم بآرائهم وهم أحسن صنيعًا في كل ذلك ممن يجيء بعدهم، وأكثر إصابة وأقدم زمانًا وأوعى علمًا فتعين العمل بها إلا إذا اختلفوا وكان حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخالف قولهم مخالفة ظاهرة، وإنه إذا اختلفت أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسألة رجعوا إلى أقوال الصحابة، فإن قالوا بنسخ بعضها أو بصرفه عن ظاهره أو لم يصرحوا بذلك ولكن اتفقوا على تركه، وعدم القول بموجبه فإنه كإبداء علة فيه، أو الحكم بنسخه أو تأويله اتبعوهم في كل ذلك، وهو قول مالك في حديث2: "إذا ولغ الكلب": "جاء هذا الحديث ولكن لا أدري ما حقيقته" يعني حكاه ابن الحاجب في مختصر الأصول لم أر الفقهاء يعلمون به، وإنه إذا اختلفت مذاهب الصحابة في مسألة فالمختار عند كل عالم مذهب أهل بلده وشيوخه لأنه أعرف بصحيح أقاويلهم من السقيم وأوعى للأصول المناسبة لها، وقلبه أميل إلى فضلهم وتبحرهم فمذهب عمر وعثمان وابن عمر وعائشة وابن عباس وزيد بن ثابت وأصحابهم مثل سعيد بن المسيب فإنه كان أحفظهم لقضايا عمر وحديث أبي هريرة، ومثل عروة وسالم وعطاء بن يسار وقاسم وعبيد الله بن عبيد الله والزهري ويحيى بن سعيد وزيد بن أسلم وربيعة، أحق بالأخذ من غيره عند أهل المدينة لما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضائل المدينة ولأنها مأوى الفقهاء ومجمع العلماء في كل عصر، ولذلك ترى مالكًا يلازم محجتهم ومذهب عبد الله بن مسعود وأصحابه وقضايا علي وشريح والشعبي

_ 1 أخرجه الشيخان وأحمد وأصحاب السن من حديث أنس وغيره. 2 "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا، إحداهن بالتراب"، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وفي بعض رواياته اختلاف.

وفتاوي إبراهيم أحق بالأخذ عند أهل الكوفة من غيره، وهو قول علقمة حين مال مسروق إلى قول زيد بن ثابت في التشريك، قال: هل أحد منكم أثبت من عبد الله؟ فقال: لا، ولكن رأيت زيد بن ثابت وأهل المدينة يشركون، فإن اتفق أهل البلد على شيء أخذوا بنواجذه وهو الذي يقول في مثله مالك: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا كذا وكذا، وإن اختلفوا أخذوا بأقواها وأرجحها، إما بكثرة القائلين به، أو لموافقته لقياس قوي أو تخريج من الكتاب والسنة، وهو الذي يقول في مثله مالك: هذا أحسن ما سمعت فإذا لم يجدوا فيما حفظوا منهم جواب المسألة خرجوا من كلامهم، وتتبعوا الإيماء والاقتضاء وألهموا في هذه الطبقة التدوين فدون مالك، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب بالمدينة وابن جريج وابن عيينة بمكة، والثوري بالكوفة وربيع بن الصبيح بالبصرة، وكلهم مشوا على هذا المنهج الذي ذكرته، ولما حد المنصور قال لمالك قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي صنفتها فتنسخ ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم بأن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره فقال يا أمير المؤمنين: لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم وأتوا به، من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لنفسهم، ويحكي نسبة هذه القصة إلى هارون الرشيد، وأنه شاور مالكًا في أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه فقال: لا تفعل فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان وكل سنة مضت قال وفقك الله يا أبا عبد الله "حكاه السيوطي" وكان مالك من أثبتهم في حديث المدنيين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأوثقهم إسنادًا وأعلمهم بقضايا عمر وأقاويل عبد الله بن عمر وعائشة وأصحابهم من الفقهاء السبعة وبه وبأمثاله قام علم الرواية والفتوى، فلما وسد إليه الأمر حدث وأفتى وأجاد وعله انطبق قول النبي -صلى الله عليه وسلم1: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل، يطلبون العلم فلا يجدون أحدًا أعلم

_ 1 أخرجه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه.

من علام المدينة" على ما قاله ابن عيينة، وعبد الرزاق وناهيك بهما، فجمع أصحابه، رواياته، ومختاراته، ولخصوها، وحرروها وشرحوها وخرجوا عليها، وتكلموا في أصولها ودلائها وتفرقوا إلى المغرب، ونواحي الأرض فنفع الله بهم كثيرًا من خلقه، وإن شئت أن تعرف حقيقة ما قلناه من أصل مذهبه فانظر في كتاب الموطأ، تجده كما ذكرنا، وكان أبو حنيفة -رضي الله عنه- ألزمها بمذهب إبراهيم، وأقرانه لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه دقيق النظر في وجوه التخريجات مقبلًا على الفروع أتم إقبال، وإن شئت أن تعلم حقيقة ما قلنا فلخص أقوال إبراهيم وأقرانه من كتاب الآثار لمحمد رحمه الله، وجامع عبد الرزاق ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة ثم قايسه بمذهبه تجده لا يفارق تلك المحجة إلا في مواضع يسيرة، وهو في تلك اليسيرة أيضًا لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة، وكان أشهر أصحابه ذكرًا أبو يوسف رحمه الله فولى قضاء القضاة أيام هارون الرشيد فكان سببًا لظهور مذهبه، والقضاء به في أقطار العراق وخراسان، وما وراء النهر. وكان أحسنهم تصنيفًا وألزمهم درسًا محمد بن الحسن، وكان من خبره أنه تفقه على أبي حنيفة وأبي يوسف، ثم خرج إلى المدينة فقرأ الموطأ على مالك ثم رجع إلى نفسه فطبق مذهب أصحابه على الموطأ مسألة مسألة فإن وافق فيها، وإلا فإن رأى طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك، وإن وجد قياسًا ضعيفًا أو تحزيجًا لينًا يخالفه حديث صحيح فيما عمل به الفقهاء، أو يخالفه عمل أكثر العلماء تركه إلى مذهب من مذاهب السلف ما يراه أرجح ما هناك، وهذان لا يزالان على محجة إبراهيم، وأقرانه ما أمكن لهما كما كان أبو حنيفة -رضي الله عنه- يفعل ذلك، وإنما كان اختلافهم في أحد شيئين إما أن يكون لشيخهما تخريج على مذهب إبراهيم يزاحمانه فيه، أو يكون هناك لإبراهيم ونظرائه أقوال مختلفة يخالفان شيخهما في ترجيح بعضها على بعض فصنف محمد رحمه الله، وجمع رأي هؤلاء الثلاثة، ونفع كثيرًا من الناس، فتوجه أصحاب أبي حنيفة -رضي الله عنه- إلى تلك التصانيف تلخيصًا وتقريبًا أو شرحًا أو تخريجًا، أو تأسيسًا أو استدلالًا ثم تفرقوا إلى خراسان، وما وراء النهر فيسمى ذلك مذهب أبي حنيفة

"ونشأ الشافعي في أوائل ظهور المذهبين وترتيب أصولهما وفروعهما فنظر في صنيع الأوائل فوجد فيه أمورًا كبحث عنانه عن الجريان في طريقهم، وقد ذكرها في أوائل كتاب الأم. منها: أنه وجدهم يأخذون بالمرسل والمنقطع فيدخل فيهما الخلل فإنه إذا جمع طرق الحديث يظهر أنه كم من مرسل لا أصل له، وكم من مرسل يخالف مسندًا فقرر أن لا يأخذ بالمراسيل إلا عند وجود شروط وهي مذكورة في كتب الأصول، ومنها أنه لم تكن قواعد الجمع بين المختلفات مضبوطة عندهم فكان يتطرق بذلك خلل في مجتهداتهم فوضع لها أصولًا، ودونها في كتاب وهذا أول تدوين كان في أصول الفقه مثاله ما بلغنا أنه دخل على محمد بن الحسن، وهو يطعن على أهل المدينة في قضائهم بالشاهد الواحد مع اليمين، ويقول هذا زيادة على كتاب الله فقال الشافعي: أثبت عندك أنه لا تجوز الزيادة على كتاب الله بخبر الواحد قال: نعم قال: فلم قلت: إن الوصية للوارث لا تجوز لقوله: "ألا لا وصية لوارث" وقد قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت} 1 الآية، وأورد عليه أشياء من هذا القبيل، فانقطع كلام محمد بن الحسن. ومنها: أن بعض الأحاديث الصحيحة لم يبلغ علماء التابعين ممن وسد إليهم الفتوى فاجتهدوا بآرائهم، واتبعوا العمومات واقتدوا بمن مضى من الصحابة فأفتوا حسب ذلك ثم ظهرت بعد ذلك في الطبقة الثالثة، فلم يعملوا بها ظنًّا منهم أنها تخالف عمل أهل مدينتهم، وسنتهم التي لا اختلاف لهم فيها، وذلك قادح في الحديث، وعلة مسقطة له أو لم تظهر في الثالثة، وإنما ظهرت بعد ذلك عندما أمعن أهل الحديث في جمع طرق الحديث، ورحلوا إلى أقطار الأرض، وبحثوا عن حملة العلم فكثر من الأحاديث ما لا يرويه من الصحابة إلا رجل، أو رجلان ولا يرويه عنه أو عنهما إلا رجل أو رجلان، وهلم جرا فخفي على أهل الفقه وظهر في عصر الحفاظ الجامعين لطرق الحديث كثير من الأحاديث رواه أهل البصرة مثلًا، وسائر الأقطار في غفلة منهن فبين الشافعي أن العلماء من الصحابة والتابعين لم يزل شأنهم أنهم يطلبون الحديث في المسألة فإذا لم يجدوا تمسكوا بنوع آخر من الاستدلال،

_ 1 سورة البقرة، الآية: 180.

ثم إذا ظهر عليهم الحديث بعد رجعوا من احتهادهم إلى الحديث فإذا كان الأمر على ذلك، لا يكون عدم تمسكهم بالحديث قدحا فيه اللهم إلا إذا بينوا العلة القادحة مثاله حديث القلتين، فإنه حديث صحيح رُوي بطرق كثيرة معظمها يرجع إلى أبي الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله، أو محمد بن عباد بن جعفر عن عبيد الله بن عبد الله كلاهما عن ابن عمر ثم تشعبت الطرق بعد ذلك، وهذان وإن كانا من الثقات لكنهما ليسا ممن وسد إليهم الفتوى وعول الناس عليهم فلم يظهر الحديث في عصر سعيد بن المسيب، ولا في عصر الزهري ولم يمش عليه المالكية، ولا الحنيفة فلم يعملوا به وعمل به الشافعي، وكحديث: "خيار المجلس" فإنه حديث صحيح روى بطرق كثيرة، وعمل به ابن عمر وأبو هريرة من الصحابة، ولم يظهر على الفقهاء السبعة ومعاصريهم فلم يكونوا يقولون به، فرأى مالك وأبو حنيفة هذه علة قادحة في الحديث، وعمل به الشافعي. ومنها أن أقوال الصحابة جمعت في عصر الشافعي فتكثرت واختلفت وتشعبت، ورأى كثيرًا منها يخالف الحديث الصحيح حيث لم يبلغهم، ورأى السلف لم يزالوا يرجعون في مثل ذلك إلى الحديث فترك التمسك بأقوالهم، ما لم يتفقوا وقال: هم رجال ونحن رجال! ومنها أنه رأى قومًا من الفقهاء يخلطون الرأي الذي لم يسوغه الشرع بالقياس الذي أثبته فلا يميزون واحدًا منها من الآخر، ويسمونه تارة بالاستحسان، وأعني بالرأي أن ينصب مظنة حرج أو مصلحة علة الحكم، وإنما القياس أن تخرج العلة من الحكم المنصوص، ويدار عليها الحكم فأبطل هذا النوع أتم إبطال، وقال: من استحسن فإنه أراد أن يكون شارعا -حكاه ابن الحاجب في مختصر الأصول- مثاله رشد اليتيم أمر خفي فأقاموا مظنة الرشد، وهو بلوغ خمس وعشرين سنة مقامه وقالوا: إذا بلغ اليتيم هذا العمر سلم إليه ماله قالوا: هذا استحسان، والقياس أن لا يسلم إليه، وبالجملة لما رأى في صنيع الأوائل مثل هذه الأمور أخذ الفقه من الرأس فأسس الأصول وفرع الفروع وصنف الكتب فأجاد وأفاد واجتمع عليه الفقهاء وتصرفوا اختصارًا وشرحا واستدلالا وتخريجا، ثم تفرقوا في البلدان، فكان هذا مذهبا للشافعى والله أعلم".

بيان الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأى

24- بيان الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي: قال الإمام ولي الله الدهلوي قدس سره تحت هذا العنوان في الحجة البالغة ما نصه1: "اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب، وإبراهيم والزهري، وفي عصر مالك وسفيان، وبعد ذلك يكرهون الخوص بالرأي، ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بدا. وكان أكبرهم رواية حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم. سئل عبد الله بن مسعود عن شيء فقال: إني لأكره أن أحل لك شيئا حرمه الله عليك، أو أحرم ما أحله الله لك، وقال معاذ بن جبل: يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فإنه لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سرد وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود في كراهة التكلم فيما لم ينزل، وقال ابن عمر لجابر بن زيد إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت، وأهلكت، وقال أبو النصر لما قدم أبو سلمة البصرة أتيته أنا، والحسن فقال للحسن: أنت الحسن؟ ما كان أحد بالبصرة أحب إلى لقاء منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول أو كتابًا منزلا. وقال ابن المنكدر: إن العالم يدخل فيما بين الله وبين عبادة، فليطلب لنفسه المخرج، وسئل الشعبي: كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم؟ قال: على الخبير، وقعت كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه: أفتهم فلا يزال حتى يرجع إلى الأول. وقال الشعبي: ما حدثوك هؤلاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخذ به وما قالوه برأيهم فألقه في الحش "أخرج هذه الآثار عن آخرها الدارمي". "فوقع شيوع تدوين الحديث والأثر في بلدان الإسلام وكتابه الصحف والنسخ،

_ 1 ص118.

حتى قل من يكون أهل الرواية إلا كان له تدوين أو صحيفة أو نسخة من حاجتهم، لموقع عظيم، فطاف من أدرك من عظائهم ذلك الزمان بلاد الحجاز والشام والعراق ومصر واليمن وخراسان وجمعوا الكتب، وتتبعوا النسخ وأمعنوا في التفحص غريب الحديث، ونوادر الأثر فاجتمع باهتمام أولئك من الحديث والآثار ما لم يجتمع لأحد قبلهم، ويتسر لهم ما لم يتيسر لأحد قبلهم، وخلص إليهم من طرق الأحاديث شيء كثير حتى كان يكثر من الأحاديث عندهم مائة طريق فما فوقها فكشف بعض الطرق ما استتر في بعضها الآخر، وعرفوا محل كل حديث من الغرابة والاستفاضة وأمكن لهم النظر في المتابعات والشواهد، وظهر عليهم أحاديث صحيحة كثيرة لم تظهر على أهل الفتوى من قبل قال الشافعي: لأحمد أنتم أعلم بالأخبار الصحيحة منا فإذا كان خبر صحيح فأعلموني حتى أذهب إليه كوفيًّا كان أو بصريًّا أو شاميًّا "حكاه ابن الهمام" وذلك لأنه كم من حديث صحيح لا يرويه إلا أهل بلد خاصة كأفراد الشاميين والعراقيين أو أهل بيت خاصة كنسخة بريد عن أبي بردة عن أبي موسى، ونسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أو كان الصحابي مقلا خاملا لم يحمل عنه إلا شرذمة قليلون فمثل هذه الأحاديث يغفل عنها عامة أهل الفتوى، واجتمعت عندهم آثار فقهاء كل بلد من الصحابة والتابعين، وكان الرجل فيما قبلهم لا يتمكن إلا من جمع حديث بلده وأصحابه، وكان من قبلهم يعتمدون في معرفة أسماء الرجال ومراتب عدالتهم على ما يخلص إليهم من مشاهدة الحال، وتتبع القرائن وأمعنت هذه الطبقة في هذا الفن، وجعلوه شيئًا مستقلًّا بالتدوين والبحث، وناظروا في الحكم بالصحة وغيرها فانكشف عليهم بهذا التدوين والمناظرة ما كان خافيًا من حال الاتصال والانقطاع، وكان سفيان ووكيع وأمثالهما يجتهدون غاية الاجتهاد فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث كما ذكره أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة، وكان أهل هذه الطبقة يروون أربعين ألف حديث فما يقرب منها بل صح عن البخاري أنه اختصر صحيحة من

ستة آلاف حديث. وعن أبي داود أنه اختصر سننه من خمسة آلاف حديث، وجعل أحمد مسنده ميزانًا يعرف به حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ فما وجد فيه ولو بطريق واحد منه! فله وإلا فلا أصل له، فكان رءوس هؤلاء عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وأبو بكر بن أبي شيبة، ومسدد وهناد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن واهويه، والفضل بن دكين وعلي المديني وأقرانهم، وهذه الطبقة هي الطراز الأول من طبقات المحدثين فرجع المحققون منهم بعد إحكام فن الرواية، ومعرفة مراتب الأحاديث إلى الفقه فلم يكن عندهم من الرأي أن يجمع على تقليد رجل ممن مضى مع ما يَرَون من الأحاديث والآثار المناقضة في كل مذهب من تلك المذاهب فأخذوا يتبعون أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وآثار الصحابة والتابعين والمجتهدين على قواعد أحكموها في نفوسهم وأنا أبينها في كلمات يسيرة. "كان عندهم أنه إذا وجد في المسألة قرآن ناطق فلا يجوز التحول إلى غيره، وإذا كان القرآن محتملًا لوجوه فالسنة قاضية عليه، فإذا لم يجدوا في كتاب الله أخذوا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سواء كان مستفيضًا دائرًا بين الفقهاء أو يكون مختصًّا بأهل بلد أو أهل بيت أو بطريق خاصة، وسواء عمل به الصحابة والفقهاء أو لم يعملوا به، ومتى كان في المسألة حديث فلا يتبع فيها خلاف أثر من الآثار، ولا اجتهاد أحد من المجتهدين وإذا فرغوا جهدهم في تتبع الأحاديث ولم يجدوا في المسألة حديثًا أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة والتابعين، ولا يتقيدون بقوم دون قوم ولا بلد دون بلد كما كان يفعل من قبلهم فإن اتفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شيء فهو المقنع، وإن اختلفوا أخذوا بحديث أعلمهم علمًا وأورعهم ورعًا أو أكثرهم ضبطًا أو ما اشتهر عنهم، فإن وجدوا شئيًا يستوي فيه قولان فهي مسألة ذات قولين فإن عجزوا عن ذلك أيضًا تأملوا في عمومات الكتاب والسنة وإيماءاتهما واقتضاءاتهما، وحملوا نظير المسألة عليها في الجواب إذا كانتا متقاربتين بادي الرأي لا يعتمدون في ذلك على قواعد من الأصول، ولكن ما يخلص إلى الفهم ويثلج به الصدر كما أنه ليس ميزان

التواتر عدد الرواة، ولا حالهم ولكن اليقين الذي يعقبه في قلوب الناس. وكانت هذه الأصول مستخرجه عن صنيع الأوائل وتصريحاتهم، وعن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا؛ فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به، وعن شريح أن عمر بن الخطاب كتب إليه: "إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به. ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تتقدم فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرًا لك، وعن عبد الله بن مسعود قال أتى علينا زمان لسنا نقضي، ولسنا هنالك وإن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن جاءه ما ليس في كتاب الله، ولم يقض به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليقض بما قضى به الصالحون ولا يقل إني أخاف وإني أرى1 فإن الحرام بين والحلال بين، وبين ذلك أمور مشتبهة فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وكان ابن عباس إذا سئل عن الأمر، فإن كان في القرآن أخبر به

_ 1 رواه بنحو هذا الطبراني في الأوسط عن عمر، وأخرجه الشيخان وأصحاب السنن من حديث النعمان بن بشير بلفظ: الحلال بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس. وله تتمة.

وإن لم يكن في القرآن، وكان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبر به، وإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر، فإن لم يكن قال فيه برأيه. عن ابن عباس أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال فلان، عن قتاده قال حدث ابن سيرين رجلًا بحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال الرجل: قال فلان كذا وكذا ... فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: قال فلان كذا وكذا عن الأوزاعي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز أنه لا رأي لأحد في كتاب الله، وإنما رأي الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب، ولم تمض فيه سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الأعمش قال كان إبراهيم يقول: يقوم1 عن يساره، فحدثته عن سميع الزيات عن ابن عباس2 أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقامه عن يمينه، فأخذ به. عن الشعبي: جاءه رجل يسأله عن شيء فقال: كان ابن مسعود يقول فيه كذا وكذا، قال: أخبرني أنت برأيك، فقال: ألا تعجبون من هذا؟ أخبرته عن ابن مسعود ويسألني عن رأيي! وديني عندي آثر من ذلك! والله لأن أتغنى بأغنية3 أحب إليَّ من أن أخبرك برأيي. "أخرج هذه الآثار كلها الدارمي". وأخرج الترمذي عن أبي السائب، قال: كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي: أشعر4 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول أبو حنيفة: "هو مثله" قال الرجل: فإنه قد روى عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثله، قال: رأيت وكيعًا غضب غضبًا شديدًا وقال أقول لك قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: قال إبراهيم؟! ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا!! عن عبد الله بن عباس وعطاء ومجاهد ومالك بن أنس -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يقولون: ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

_ 1 أي المتقدى عن يسار الإمام. ا. هـ. 2 أخرجه الشيخان وأصحاب السنن. 3 الأغنية: واحدة الأغاني. ا. هـ. 4 الإشعار: أن يضرب في صفحة سنام الهدى من الجانب الأيمن بحديد حتى يتلطخ بالدم ظاهرًا. ا. هـ.

"وبالجملة فلما مهدوا الفقه على هذه القواعد، فلم تكن مسألة من المسائل التي تكلم فيها من قبلهم، والتي وقعت في زمانهم إلا وجدوا فيها حديثًا مرفوعًا متصلًا أو مرسلًا أو موقوفًا، صحيحًا أو حسنًا أو صالحًا للاعتبار، أو وجدوا أثرًا من آثار الشيخين، أو سائر الخلفاء وقضاءة الأمصار، وفقهاء البلدان، أو استنباطًا من عموم، أو إيماء أو اقتضاء، فيسر الله لهم العمل بالنسبة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأنًا وأوسعهم رواية، وأعرفهم للحديث مرتبة، وأتمهم فقهًا أحمد بن محمد بن حنبل ثم إسحاق بن راهويه، وكان ترتيب الفقه على هذا الوجه يتوقف على جمع شيء كثير من الأحاديث والآثار. "ثم أنشأ الله تعالى قرنًا آخر، فرأوا أصحابهم قد كفوا مئونة جمع الأحاديث، وتمهيد الفقه على أصلهم فتفرغوا لفنون أخرى، كتمييز الحخديث الصحيح المجمع عليه بين كبراء أهل الحديث كزيد بن هارون، ويحيى بن سعيد القطان، وأحمد، وإسحاق، وأضرابهم، وكجمع أحاديث الفقه التي بنى عليها فقهاء الأمصار وعلماء البلدان مذاهبهم، وكالحكم على كل حديث بما يستحقه، وكالشاذة والفاذة من الأحاديث التي لم يرووها، أو طرقها التي لم يخرجوها من جهتها الأوائل، مما فيه اتصال أو علو سند أو رواية فقيه عن فقيه أو حافظ عن حافظ، ونحو ذلك من المطالب العلمية، وهؤلاء هم: البخاري ومسلم وأبو داود وعبد الله بن حميد والدارمي وابن ماجه وأبو يعلى والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي والخطيب والديلمي وابن عبد البر وأمثالهم. وكان أوسعهم علمًا عندي، وأنفعهم تصنيفًا وأشهرهم ذكرًا رجال أربعة، متقاربون في العصر: أولهم: أبو عبد الله البخاري، وكان غرضه تجريد الأحاديث الصحاح المستفيضة المتصلة من غيرها، واستنباط الفقه والسيرة والتفسير منها، فصنف جامعه الصحيح، ووفى بما شرط. وبلغنا أن رجلًا من الصالحين رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منامه وهو يقول: مالك اشتغلت بفقه محمد بن إدريس وتركت كتابي؟ قال: يا رسول الله وما كتابك؟ قال: صحيح البخاري. ولعمري! إنه نال من الشهرة والقبول درجة لا يرام فوقها.

وثانيهم: مسلم النيسابوي توخى تجريد الصحاح المجمع عليها بين المحدثين المتصلة المرفوعة، مما يستنبط منه السنة، وأراد تقريبها إلى الأذهان، وتسهيل الاستنباط منها، فرتب ترتيبًا جيدًا وجمع طرق كل حديث في موضع واحد ليتضح اختلاف المتن، وتشعب الأسانيد أصرح ما يكون، وجمع بين المختلفات، فلم يدع لمن له معرفة لسان العرب عذرًا في الإعراض عن السنة إلى غيرها. وثالثهم: أبو داود السجستاني، وكان همته جمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء ودارت فيهم، وبنى عليها الأحكام علماء الأمصار، فصنف سننه، وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح للعمل. قال أبو داود: "ما ذكرت في كتابي حديثًا أجمع الناس على تركه" وما كان منها ضعيفًا صرح بضعفه، وما كان فيه علة بينهما بوجه يعرفه الخائض في هذا الشأن. وترجم على كل حديث بما قد استنبط منه عالم وذهب إليه ذاهب، ولذلك صرح الغزالي وغيره بأن كتابه كافٍ للمجتهد. ورابعهم: أبو عيسى الترمذي، وكأنه استحسن طريقة الشيخين حيث بينا وما أبهما، وطريقة أبي داود حيث جمع كل ما ذهب إليه ذاهب، فجمع كلتا الطريقتين وزاد عليهما بيان مذاهب الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، فجمع كتابًا جامعًا، واختصر طرق الحديث اختصارًا لطيفًا، فذكر واحدًا، وأومأ إلى ما عداه، وبين أمر كل حديث من أنه صحيح أو حسن أو ضعيف أو منكر وبين وجه الضعف، ليكون الطالب على بصيرة من أمره، فيعرف ما يصلح للاعتبار عما دونه. وذكر أنه مستفيض أو غريب. وذكر مذاهب الصحابة وفقهاء الأمصار، وسمى من يحتاج إلى التسمية، وكنى من يحتاج إلى الكنية، ولم يدع خفاء لمن هو من رجال العلم؛ ولذلك يقال: إنه كاف للمجتهد، مغن للمقلد. "وكان بازاء هؤلاء في عصر مالك وسفيان وبعدهم قوم لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفتيا، ويقولون: على الفقه بناء الدين، فلا بد من إشاعته، ويهابون رواية حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والرافع إليه، حتى قال الشعبي: على من دون النبي -صلى الله عليه وسلم- أحب إلينا، فإن كان

فيه زيادة أو نقصان، كان على من دون النبي -صلى الله عليه وسلم. وقال إبراهيم: أقول: قال عبد الله وقال علقمة أحب إلينا. وكان ابن مسعود إذا حدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تربد1 وجهه وقال: هكذا أو نحوه. وقال عمر حين بعث رهطًا من الأنصار إلى الكوفة: إنكم تأتون الكوفة فتأتون قومًا لهم أزيز2 بالقرآن، فيأتونكم فيقولون: قد أصحاب محمد، فيأتونكم، فيسألونكم عن الحديث، فأفلوا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال ابن عون: كان الشعبي إذا جاءه شيء اتقى، وكان إبراهيم يقول ويقول "أخرج هذه الآثار الدارمي". "فوقع تدوين الحديث والفقه أو المسائل من حاجتهم بموقع من وجه آخر، وذلك أنه لم يكن عندهم من الأحاديث والآثار ما يقدرون به على استنباط الفقه على الأصول التي اختارها أهل الحديث، ولم تنشرح صدورهم للنظر في أقول علماء البلدان وجمعها والبحث عنها، واتهموا أنفسهم في ذلك، وكانوا اعتقدوا في أتمتهم أنهم في الدرجة العليا من التحقيق، وكان قلوبهم أميل شيء إلى أصحابهم، كما قال علقمة: هل أحد منهم أثبت من عبد الله؟ وقال أبو حنيفة: إبراهيم أفقه من سالم، ولولا فضل الصحبة لقلت: علقمة أفقه من ابن عمر؛ وكان عندهم من الفطانة والحدس وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسائل على أقوال أصحابهم، و "كل ميسر لما خلق له" 3 و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون} 4 فمهدوا الفقه على قاعدة التخريج، وذلك أن يحفظ كل أحد كتاب من هو لسان أصحابه وأعرفهم بأقوال القومن وأصحهم نظرًا في الترجيح، فيتأمل في كل مسألة وجه الحكم، فكلما سئل عن شيء أو احتاج إلى شيء، رأي فيما يحفظه من تصريحات أصحابه، فإن وجد الجواب فيها، وإلا نظر إلى عموم كلامهم، فأجراه على هذا الصورة أو إشارة ضمنية لكلام، فاستنبط منها، وربما كان لبعض الكلام إيمان أو اقتضاء يفهم المقصود، وربما كان للمسألة المصرح بها نظير يحمل عليها، وربما نظروا في علة الحكم المصرح به بالتخريج أو باليسر والحذف، فأداروا حكمه على غير المصرح به، وربما كان له

_ 1 تربد: تغير. 2 أي صوت بالبكاء. 3 أخرجه الشيخان في الصحيحين. 4 المؤمنون، الآية: 54.

كلامان، لو اجتمعا على هيئة القياس الاقتراني أو الشرطي، أنتجا جواب المسألة؛ وربما كان في كلامهم ما هو معلوم بالمثال والقسمة، غير معلوم بالحد الجامع المانع، فيرجعون إلى أهل اللسان، ويتكلفون في تحصيل ذاتياته، وترتيب حد جامع مانع له، وضبط مبهمه، وتمييز مشكله، وربما كان كلامهم محتملًا بوجهين، فينظرون في ترجيح أحد المحتملين، وربما يكون تقريب الدلائل خفيًّا، فيبينون ذلك؛ وربما استدل بعض المخرجين من فعل أئمتنهم وسكوتهم ونحو ذلك، فهذا هو التخريج، ويقال له: القول المخرج لفلان كذا على مذهب فلان أو على أصل فلان، أو على قول فلان، وجواب المسألة كذا وكذا، ويقال لهؤلاء: المجتهدون في المذهب، وعنى هذا الاجتهاد على هذا الأصل من قال: من حفظ المبسوط كان مجتهدًا! أي: وإن لم يكن له علم برواية أصلًا، ولا بحديث واحد، فوقع التخريج في كل مذهب وكثر، فأي مذهب كان أصحابه مشهورين وسد إليهم القضاء والإفتاء، واشتهر تصانيفهم في الناس، ودروسوا درسًا ظاهرًا انتشر في أقطار الأرض. ولم يزل ينشر كل حين، وأي مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يولوا القضاء والإفتاء، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين". ا. هـ.

بيان حال الناس في الصدر الأول وبعده

25- بيان حال الناس في الصدر الأول وبعده: قال الإمام أبو زيد الدبوسي رحمه الله تعالى في تقويم الأدلة: "كان الناس في الصدر الأول أعني: الصحابة والتابعين والصالحين يبنون أمورهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة، ثم بأقوال من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يصح بالحجة؛ فكان الرجل يأخذ بقول عمر في مسألة، ثم يخالفه بقول علي في مسألة أخرى. وقد ظهر من أصحاب أبي حنيفة أنهم وافقوا مرة، وخالفوه أخرى، بحسب ما تتضح لهم الحجة، ولم يكن المذهب في الشريعة عمريًّا، ولا علويًّا، بل النسبة كانت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانوا قرونًا أثنى عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخير، فكانوا يرون الحجة لا علماءهم ولا نفوسهم، فلما ذهبت

التقوى عن عامة القرن الرابع، وكسلوا عن طلب الحجج، جعلوا علماءهم حجة واتبعوهم، فصار بعضهم حنفيًّا، وبعضهم مالكيًّا، وبعضهم شافعيًّا، ينصرون الحجة بالرجال، ويعتقدون الصحة بالميلاد على ذلك المذهب، ثم كان قرن بعدهم اتبع عالمه كيف ما أصابه بلا تمييز، حتى تبدلت السنن بالبدع، فضل الحق بين الهوى". ا. هـ. وقال العلامة الدهلوي في الحجة البالغة، في باب حكاية حال الناس قبل المائة الرابعة وبعدها1: "اعلم أن الناس كانوا قبل المائة الرابعة غير مجتمعين على التقليد الخالص لمذهب واحد بعينه. قال أبو طالب المكي في قوت القلوب: إن الكتب والمجموعات محدثة، والقول بمقالات الناس، والفتيا بمذهب الواحد من الناس، واتخاذ قوله، والحكاية له من كل شيء، والتفقه على مذهبه، لم يكن الناس قديمًا على ذلك في القرنين الأول والثاني". ا. هـ. قال الدهلوي قدس سره: "وبعد القرنين، حدث فيهم شيء من التخريج، غير أن أهل المائة الرابعة لم يكونوا مجتمعين على التقليد الخالص على مذهب واحد والتفقه له، والحكاية لقوله كما يظهر من التتبع، بل كان فيهم العلماء والعامة، وكان من خبر العامة أنهم كانوا في المسائل الإجماعية التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أو جمهور المجتهدين لا يقلدون إلا صاحب الشرع، وكانوا يتعلمون من الوضوء والغسل والصلاة والزكاة ونحو ذلك من آبائهم أو معلمي بلدانهم، فيمشون حسب ذلك، وإذا وقعت لهم واقعة استفتوا فيها أي مفت وجدوا من غير تعيين مذهب، وكان من خبر الخاصة أنه كان أهل الحديث منهم يشتغلون بالحديث، فيخلص إليهم من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وآثار الصحابة ما لا يحتاجون معه إلى شيء آخر في المسألة من حديث مستفيض أو صحيح قد عمل به بعض الفقهاء، ولا عذر لتارك العمل به، أو أقوال متظاهرة لجمهورة الصحابة والتابعين، مما لا يحسن مخالفتها، فإن لم يجد -أي أحدهم- في المسألة ما يطمئن به قلبه، لتعارض النقل وعدم وضوح الترجيح، ونحو ذلك، رجع إلى كلام بعض من مضى من الفقهاء، فإن وجد قولين اختار

_ 1 ص122.

أوثقهما؟ سواء كان من أهل المدينة أو من أهل الكوفة، وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدونه مصرحًا، ويجتهدون في المذهب، وكان هؤلاء ينسبون إلى مذهب أصحابهم فيقال: فلان شافعي، وفلان حنفي، وكان صاحب الحديث أيضًا قد ينسب إلى أحد المذهب لكثرة موافقته له، كالنسائي والبيهقي، ينسبان إلى الشافعي، فكان لا يتولى القضاء ولا الإفتاء إلا مجتهد، ولا يمسى الفقيه إلا مجتهد، ثم بعد هذه القرون، كان ناس آخرون ذهبوا يمينًا وشمالًا وحدث فيهم أمور، منها الجدل والخلاف في علم الفقه. وتفصيله على ما ذكره الغزالي أنه لما انقرض عهد الخلفاء الراشدين المهديين أفضت الخلافة إلى قوم تولوهم بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم، وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، فكانوا إذا طلبوا هربوا أو أعرضوا، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء، وإقبال الأئمة عليهم، مع إعراضهم، فاشرأبوا بطلب العلم توصلًا إلى نيل العز، ودرك الجاه، فأصبح الفقهاء، بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين، أذلة بالإقبال عليهم، إلا من وفقه الله. وقد كان من قبلهم قد صنف ناس في علم الكلام، وأكثروا القال والقيل، والإيراد والجواب، وتمهيد طرق الجدل. فوقع ذلك منهم بموقع من قبل أن كان من الصدور والملوك من مالت نفسه إلى المناظرة في الفقه، وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمه الله، فترك الناس الكلام وفنون العلم وأقبلوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة رحمه الله على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد بن حنبل وغيرهم، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرون عليه إلى الآن، لسنا ندري ما الذي قدر الله تعالى فيما بعدها من الأعصار، انتهى حاصله. ومنها: أنهم أطمأنوا بالتقليد ودب التقليد في صدروهم دبيب النمل، وهم لا يشعرون. وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم، فإنهم لما وقعت المزاحمة في الفتوى، كان كل من أفتى

بشيء نوقض في فتواه ورد عليهم، فلم ينقطع الكلام إلا بمصير إلى تصريح رجل من المتقدمين في المسألة. وأيضًا جوز القضاة، فإن القضاة لما جار أكثرهم، ولم يكونوا أمناء لم يقبل منهم إلا ما لا يريب العامة فيه، ويكون شيئًا قد قيل من قبل. وأيضًا جهل رءوس الناس، واستفتاء الناس من لا علم له بالحديث، ولا بطريق التخريج كما ترى ذلك ظاهرًا في أكثر المتأخرين، وقد نبه عليه ابن الهمام وغيره، وفي ذلك الوقت يسمى غير المجتهد فقيهًا. ومنها: أن أقبل أكثرهم على التعمقات في كل فن، فمنهم من زعم أنه يؤسس علم أسماء الرجال، ومعرفة مراتب الجرح والتعديل ثم خرج من ذلك إلى التاريخ: قديمه وحديثه. ومنهم من تفحص من نوادر الأخبار وغرائبها، وإن دخلت في حد الموضوع. ومنهم من أكثر القال والقيل في أصول الفقه، واستنبط كل لأصحابه قواعد جدلية، فأورد فاستقصى، وأجاب وتفصى، وعرف، وقسم، فحرر، طول الكلام تارة، وتارة اختصر. ومنهم من ذهب إلى هذا بفرض الصورة المستبعدة التي من حقها أن لا يتعرض لها عاقل، وبفحص العمومات والإيماءات من كلام المخرجين فمن دونهم، مما لا يرتضي استماعه عالم ولا جاهل. وفتنة هذا الجدل والخلاف والتعمق، قريبة من الفتنة الأولى حين تشاجروا في الملك، وانتصر كل رجل لصاحبه: فكما أعقبت تلك ملكًا عضوضًا، ووقائع صماء عمياء، فكذلك أعقبت هذه جهلًا واختلاطًا وشكوكًا ووهمًا ما لها من إرجاء. فنشأت بعدهم قرون على التقليد الصرف، لا يميزون الحق من الباطل، ولا الجدل من الاستنباط. فالفقيه يومئذ هو الثرثار المتشدق الذي حفظ أقول الفقهاء، قويها وضعيفها، من غير تمييز، وسردها بشقشقة شدقيه. والمحدث من عد الأحاديث، صحيحها وسقيمها، وهذها كهذ الأسمار بقولة لحييه. ولا أقول ذلك كليًّا مطردًا، فإن لله طائفة من عباده، لا يضرهم من خذلهم، وهم حجة الله في أرضه، وإن قلوا1. "ولم يأت قرن بعد ذلك إلا هو أكثر فتنة، وأوفر تلقيدًا، وأشد انتزاعًا للأمانة

_ 1 يشير إلى الحديث عند أحمد والشيخين عن معاوية مرفوعًا: "لا تزل طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس".

من صدور الرجال، حتى اطمأنوا بترك الخوض في أمر الدين، وبأن يقولوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 1 وإلى الله المشتكى، وهو المستعان، وبه الثقة وعليه التكلان" انتهى كلام ولي الله الدهلوي، وقد سبقه إلى كشف هذه الأسرار الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات المكية حيث قال في الباب الثامن عشر وثلاثمائة في معرفة منزل نسخ الشريعة المحمدية وغير المحمدية، بالأغراض النفسية -عافانا الله وإياكم من ذلك ما نصه بعد أبيات صدر بها هذا الباب: "اعلم -وقفنا الله وإياك- أيها الولي الحميم، والصفي الكريم، أنا روينا في هذا الباب عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلًا أصاب من عرضه، فجاء إليه يستحله من ذلك، فقال له: يابن عباس! إنني قد نلت منك، فاجعلني في حل من ذلك. فقال: أعوذ بالله أن أحل ما حرم الله! إن الله قد حرم أعراض المسلمين، فلا أحله، ولكن غفر الله لك. فانظر: ما أعجب هذا التصريف، وما أحسن العلم. ومن هذا الباب خلف الإنسان على ما أبيح له فعله أن لا يفعله، أو يفعله، ففرض الله تحلة الإيمان، وهو من باب الاستدراج والمكر الإلهي، إلا لمن عصمة الله بالتنبيه عليه، فما ثم شارع إلا الله تعالى، قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه} 2 ولم يقل له: "بما رأيت". بل عاتبه سبحانه وتعالى، لما حرم على نفسه باليمين، في قضية عائشة وحفصة3، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} ؟ 4 فكان هذا ما أرته نفسه. فهذا يدلك أن قوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ اللَّه} أنه ما يوحى به إليه، لا ما يره في رأيه. فلو كان الدين بالرأي لكان رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى من رأي كل ذي رأي، فإذا كان هذا حال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رأته نفسه فكيف رأي من ليس بمعصوم؟ ومن الخطأ أقرب إليه من الإصابة؟ فدل أن الاجتهاد الذي ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما هو في طلب

_ 1 سورة الزخرف الآية: 22. 2 سورة النساء الآية 104. 3 أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي في التفسير والأيمان والنذور والأشربة وغيرها. 4 سورة التحريم الآية: 1.

الدليل على تعيين الحكم في المسألة الواقعة، لا في تشريع حكم في النازلة. فإن ذلك شرع لم يأذن به الله. ولقد أخبرني القاضي عبد الوهاب الأسدي الإسكندري بمكة المشرفة سنة تسع وتسعين وخمسمائة قال: رأيت رجلًا من الصالحين بعد موته في المنام، فسألته ما رأيت؟ فذكر أشياء؛ منها: قال: ولقد رأيت كتبًا موضوعة، وكتبًا مرفوعة، فسألت ما هذه الكتب المرفوعة؟ فقيل لي: هذه كتب الحديث. فقلت: وما هذه الكتاب الموضوعة؟ فقيل لي: هذه كتب الرأي، حتى يسأل عنها أصحابها. فرأيت الأمر فيه شدة. اعلم -وفقنا الله وإياك- أن الشريعة، هي المحجة الواضحة البيضاء، محجة السعداء، وطريق السعادة، من مشي عليها نجا، ومن تركها هلك، قال1 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أنزل عليه قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} 2 خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأرض خطًّا، وخط خطوطًا على جانبي الخط، يمينًا وشمالًا، ثم وضع -صلى الله عليه وسلم- إصبعه على الخط، وقال تاليًا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} وأشار إلى تلك الخط المستقيم. ولقد أخبرني بمدينة "سلا" -مدينة بالمغرب على شاطئ البحر المحيط، يقال لها: منقطع التراب، ليس وراءها أرض- رجل من الصالحين الأكابر من عامة الناس، قال: رأيت في النوم محجة بيضاء مستوية، عليها نور سهلة، ورأيت عن يمين تلك المحجة وشمالها خنادق وشعابًا وأودية، كلها شوك، لا تسلك لضيقها، وتوعر مسالكها، وكثرة شوكها، والظلمة التي فيها، ورأيت جميع الناس يخطبون فيها خبط عشواء، ويتركون المحجة البيضاء السهلة، وعلى المحجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونفر قليل معه يسير وهو ينظر إلى من خلفه، وإذا في الجماعة متأخر عنها، لكنه عليها، الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن قرقور المحدث، كان سيدًا فاضلًا في الحديث، اجتمعت بابنه، فكان يفهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يقول له: ناد في الناس بالرجوع إلى الطريق، فكان ابن قرقور يرفع صوته ويقول

_ 1 أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن. 2 سورة الأنعام: 153.

في ندائه، ولا من داع، ولا من متداع: "هلموا إلى الطريق هلموا" قال: فلا يجيبه أحد، ولا يرجع إلى الطريق أحد. واعلم أنه لما غلبت الأهواء على النفوس، وطلبت العلماء المراتب عند الملوك، تركوا المحجة البيضاء وجنحوا إلى التأويلات البعيدة لينفذوا أغراض الملوك فيما لهم فيه هوى نفس ليستندوا في ذلك إلى أمر شرعي مع كون الفقيه ربما لا يعتقد ذلك، ويفتي به، وقد رأينا منهم جماعة على هذا من قضاتهم، وفقهائهم ولقد أخبرني الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب -وقد وقع بيني وبينه في مثل هذا كلام- فنادى بمملوك وقال: جئني بالحرمدان فقلت: ما شأن الحرمدان قال: أنت تنكر على ما يجري في بلدي، ومملكتي من المنكرات والظلم وأنا والله أعتقد مثل ما تعتقد أنت فيه من أن ذلك كله منكر، ولكن والله يا سيدي ما منه منكر إلا بفتيا فقيه، وخط يده عندي بجواز ذلك فعليهم لعنة الله، ولقد أفتاني فقيه هو فلان -وعين لي أفضل فقيه عنده في بلده في الدين والتقشف- بأنه لا يجب عليَّ صوم شهر رمضان هذا بعينه، بل الواجب على شهر في السنة، والاختيار لي فيه أي شهر شئت من شهور السنة، قال السلطان فلعنته في باطني، ولم أظهر له ذلك -وهو فلان فسماه لي- رحم الله جمعيهم. "فليعلم أن الشيطان قد مكنه الله من حضرة الخيال، وجعل له سلطانا فيها فإذا رأى أن الفقيه يميل إلى هوى يعرف أنه لا يرضى عند الله زين له سوء عمله بتأويل غريب، يمهد له فيه، وجها يحسنه في نظره ويقول له: إن الصدر الأول قد دانوا الله بالرأي، وقاس العلماء في الأحكام واستنبطوا العلل للأشياء فطردوها، وحكموا في المسكوت عنه بما حكموا به في المنصوص عليه، للعلة الجامعة بينهما، والعلة من استنباطه فإذا مهد له هذا السبيل جنح إلى نيل هواه، وشهوته بوجه شرعي في زعمه فلا يزال هكذا فعله في كل ماله أو لسلطانه فيه هو نفس ويرد الأحاديث النبوية، ويقول لو أن هذا الحديث يكون صحيحًا وإن كان صحيحًا يقول لو لم يكن له خبر آخر يعارضه، وهو ناسخ له لقال به الشافعي إن كان هذا الفقيه شافعيًّا -أو قال به أبو حنيفة- إن كان الرجل حنفيًّا وهكذا قول أتباع هؤلاء

الأئمة كلهم، ويرون أن الحديث والأخذ به مضلة وأن الواجب تقليد هؤلاء الأئمة وأمثالهم فيما حكموا به، وإن عارضت أقوالهم الأخبار النبوية، فالأولى الرجوع إلى أقاويلهم وترك الأخذ بالأخبار والكتاب والسنة فإن قلت لهم قد روينا عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: إذا أتاكم الحديث يعارض قولي فاضربوا بقولي الحائط، وخذوا بالحديث فإن مذهبي الحديث، وقد روينا عن أبي حنيفة أنه قال لأصحابه: حرام على كل من أفتى بكلامي ما لم يعرف دليلي، وما روينا شيئًا من هذا عن أبي حنيفة إلا من طريق الحنفيين، ولا عن الشافعي إلا من طريق الشافعية، وكذلك المالكية والحنابلة فإذا ضايقهم في مجال الكلام هربوا وسكنوا، وقد جرى لنا هذا معهم مرارًا بالمغرب وبالمشرق فما منهم أحد على مذهب من يزعم أنه على مذهبه فقد انتسخت الشريعة بالأهواء، وإن كانت الأخبار الصحاح موجودة مسطرة في الكتب الصحاح، وكتب التواريخ بالتجريح والتعديل موجودة والأسانيد محفوظة مصونة من التغيير والتبديل، ولكن إذا ترك العمل بها، واشتغل الناس بالرأي ودانوا أنفسهم بفتاوى المتقدمين مع معارضة الأخبار الصحاح لها فلا فرق بين عدمها ووجودها إذا لم يبق لها حكم عندهم، وأي نسخ أعظم من هذا، وإذا قلت لأحدهم في ذلك شيئًا يقول لك هذا هو المذهب، وهو والله كاذب فإن صاحب المذهب قال له إن عارض الخبر كلامي فخذ بالحديث، واترك كلامي في الحش فإن مذهبي الحديث. فلو أنصف لكان على مذهب الشافعي من ترك كلام الشافعي للحديث المعارض فالله يأخذ بيد الجميع" انتهى كلام الشيخ الأكبر قدس سره.

فتوى الإمام تقى الدين أبي العباس فيمن تفقه على مذهب

26- فتوى الإمام تقي الدين أبي العباس فيمن تفقه على مذهب: ثم اشتغل بالحديث فرأى في مذهبه ما يخالفه الحديث كيف يعمل؟ سئل شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيميه عليه الرحمة، والرضوان عن رجل تفقه على مذهب من المذاهب الأربعة، وتبصر فيه واشتغل بعده بالحديث فوجد أحاديث صحيحة لا يعلم لها ناسخًا ولا مخصصًا ولا معارضًا؛ وذلك المذهب فيه ما يخالف تلك الأحاديث، فهل له العمل بالمذهب، أو يجب عليه الرجوع إلى العمل بالحديث ومخالفة مذهبه؟ فأجاب رحمه الله تعالى: "قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها -صلى الله عليه وسلم، ورضي عنه يقول: "أطيعوني ما اطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم". واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصومًا في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه. وذلك هو الواجب وقال أبو حنيفة: "هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه" ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف بإمام دار الهجرة مالك بن أنس، وسأله عن مسألة الصاع، وصدقة الخضروات، ومسألة الأحباس، فأخبره مالك بما دلت عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت لقولك يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. ومالك رحمه الله كان يقول: "إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة". أو كلام هذا معناه. والشافعي رحمه الله كان يقول: "إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط. وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي. وفي قال مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء. والإمام أحمد رحمه الله كان يقول: "من ضيق علم الرجل أن يقلد دينه الرجال. قال: "لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لم يسلموا أن يغلطوا". وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال1: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ... " ولازم ذلك أن من لم يفقه في الدين لم يرد الله به خيرًا فيكون التفقه في الدين فرضًا. والتفقه في الدين معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها السمعية

_ 1 أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث معاوية وغيره.

فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقهًا في الدين. لكن من الناس من قد يعجز عنها، فيلزمه ما يقدر عليه. وأما القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التقليد مطلقًا وقيل يجوز مطلقًا، وقيل يجوز عند الحاجة كما إذا ضاق الوقت عند الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال إن شاء الله تعالى، والاحتهاد ليس هو أمرًا لا يقبل التجزء والانقسام، بل يكون الرجل مجتهدا في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة وكل فاجتهاده بحسب وسعه فمن نظر في مسألة قد تنازع العلماء فيها فرأى مع أحد القولين نصوصًا لم يعلم لها معارضًا بعد نظر مثله فهو بين الأمرين إما أن يتبع قول القائل الآخر لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه، ومثل هذا ليس بحجة شرعية بل مجرد عادة تعارضها عادة غيره واشتغاله بمذهب إمام آخر، وإما يتبع القول الذي ترجح بنظره بالنصوص الدالة عليه فحينئذ موافقته لإمام يقاوم به ذلك الإمام، وتبقى النصوص النبوية سالمة في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يصلح، وإنما تنزلنا هذا التنزل لأنه قد يقال إن نظر هذا قاصر، وليس اجتهاده تامًّا في هذه المسألة لضعف آلة الاجتهاد في حقه أما إذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع النص فهذا يجب عليه اتباع النصوص، وإن لم يفعل كان متبعًا للظن، وما تهوى الأنفس وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله بخلاف من يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص ويقول: "أنا لا أعلمها" فهذا يقال له قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1 وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" 2 والذي تستطيعه من العلم، والفقه في هذه المسألة قد دل على أن حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل إذا تغير اجتهاده، وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه بخلاف إقراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول إلى قول بمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم وإذا كان المقلد قد سمع الحديث وتركه لا سيما إذا كان قد رواه أيضًا عدل فمثل هذا وحده لا يكون عذرًا في ترك النص فمن ترك الحديث لاعتقاده أنه لم يصح،

_ 1 سورة التغابن الآية: 16. 2 أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة.

أو راويه مجهول، ونحو ذلك ويكون غيره قد علم صحته وثقة راويه فقد زال عذر ذلك في حق هذا، ومن ترك الحديث لاعتقاده أن ظاهر القرآن يخالفه، أو القياس أو عمل لبعض الأمصار وقد تبين لآخر أن ظاهر القرآن لا يخالفه، وأن نص الحديث الصحيح مقدم على الظواهر ومقدم على القياس، والعمل لم يكن عذر ذلك الرجل عذرًا في حقه فإن ظهور المدارك الشرعية للأذهان، وخفاءها عنها أمر لا يضبط طرفاه لا سيما إذا كان التارك للحديث معتقدًا أنه يترك العمل به المهاجرون والأنصار أهل المدينة النبوية، وغيرها الذين يقال إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادهم أنه منسوخ، أو معارض براجح وقد بلغ من بعدهم أن المهاجرين والأنصار لم يتركوه بل قد عمل به بعضهم أو من سمعه منهم، ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارض للنص، وإذا قيل لهذا المستفتي المسترشد أنت أعلم أم الإمام الفلاني كانت هذه معارضه فاسدة لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظير من الأئمة، ولست من هذا ولا من هذا ولكن نسبة هؤلاء الأئمة إلى نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر، وكذلك موارد النزاع بين الأئمة، وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود -رضي الله عنهما- في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- وغيره لما احتج بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان لما كان من السنة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هذه وهذه سواء" وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس -رضي الله عنهما- في المتعة فقال له قال أبو بكر وعمر فقال ابن عباس يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون قال أبو بكر وعمر، وكذلك ابن عمر -رضي الله عنهما- لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوه بقول عمر فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه فقال لهم أرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن يتبع أم عمر؟ مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهم- ولو فتح هذا الباب لأوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمته. وهذا تبديل للدين وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1 والله سبحانه أعلم". ا. هـ. كلام الإمام تقي الدين قدس سره.

_ 1 سورة التوبة، الآية: 32.

بيان معرفة الحق بالدليل

27- بيان معرفة الحق بالدليل: قال الإمام الرباني أبو العباس أحمد الشهير بزروق المغربي قدس الله سره في كتابه: "قواعد التصوف": "قاعدة: العلماء مصدقون فيما ينقلون؛ لأنه موكول لأمانتهم مبحوث معهم فيما يقولون لأنه نتيجة عقولهم، والعصمة غير ثابتة لهم فلزم التبصر طلبًا للحق والتحقيق لا اعتراضًا على القائل والناقل، ثم إن أتى المتأخر بما لم يسبق إليه فهو على رتبيه، ولا يلزمه القدح في المتقدم ولا إساءة الأدب معه لأن ما ثبت من عدالة المتقدم قاض برجوعه للحق عند بيانه لو سمعه". ا. هـ. وقال الأصفهاني في: "أطباق الذهب" في المقالة الثالثة والثلاثين: "مثل المقلد بين يدي المحقق كالضرير عند البصير المحدق، ومثل الحكيم والحشوي كالميتة، والمشوي ما المقلد إلا جمل مخشوش له عمل مغشوش قصاراه لوح منقوش يقنع بظواهر الكلمات، ولا يعرف النور من الظلمات يركض خيول الخيال في ظلال الضلال شغله نقل النقل عن نخبة العقل، وأقنعه رواية الرواية عن در الدراية يروي في الدين عن شيخ هم كمن يقود الأعمى في ليل مدلهم ومن عرف الحق بالعنعت تورط في هوة العنت، والحق وراء السماع والعلم بمعزل عن الرقاع فما أسعد من هدى إلى العلم ونزل رباعه وأرى الحق حقًّا ورزق اتباعه".

وقال أيضًا في المقالة السابعة والثلاثين: "الحق يتضح بالأدلة، والشهور تشتهر بالأهلة، وشفاء الصدور يحصل بالبلة طالب الحق ضيف الله، والدليل القاطع سيف الله به يفك العلم وينشر، وبه يبقر الحق ويقشر ومثل العلوم والبرهان كمثل المصباح والأدهان الحجة للأحكام كالعماد للخيام إعصار الظن كدر كعصارة الدن، الزم اليقين تكن من المتقين فشواظ الوهم يشوي حمامة القلب شيا، {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 1. ا. هـ. وفي كتاب قاموس الشريعة: "لا يصح لامرئ إلا موافقة الحق، ولا يلزم الناس طاعة أحد لأجل أنه عالم أو إمام مذهب، وإنما يلزم الناس قبول الحق ممن جاء به على الإطلاق، ونبذ الباطل ممن جاء به بالاتفاق". وفيه أيضًا: "كل مسألة لم يخل الصواب فيها من أحد القولين، ففسد أحدهما لقيام الدليل على فساده صح أن الحق في الآخر قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 2. وفيه أيضًا: "والذي يحرم على العالم تصنييع الاجتهاد والسكوت بعد التبصرة، والإفراد بعد القطع حديث عبادة بن الصامت3: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن نقول الحق ونعمل به، وأن لا تأخذنا في الله لومة لائم في العسر، واليسر والمنشط والمكره". ا. هـ. وقال الإمام مفتي مكة الشيخ محمد عبد العظيم بن ملا فروخ في رسالته: "القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد" في الفصل الأول: "اعلم أنه لم يكلف الله تعالى أحدًا من عبادة أن يكون حنفيًّا أو مالكيًّا أو شافعيًّا أو حنبليًّا، بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث به محمد، والعمل بشريعته غير أن العمل بها متوقف على الوقوف عليها، والوقوف عليها له طرق فما كان منها مما يشترك فيه العامة، وأهل النظر، كالعلم بفريضة

_ 1 سورة النجم، الآية: 28. 2 سورة يونس، الآية: 32. 3 أخرجه الشيخان وأحمد في مسنده.

الصلاة والزكاة والحج والصوم والوضوء إجمالًا، وكالعلم بحرمة الزنا والخمر واللواطة وقتل النفس ونحو ذلك مما علم من الدين بالضرورة، فذلك لا يتوقف فيه على اتباع مجتهد ومذهب معين، بل كل مسلم عليه اعتقاد ذلك، يجب عليه فمن كان في العصر الأول فلا يخفى وضوح ذلك في حقه، ومن كان في الأعصار المتأخرة فلوصول ذلك إلى عمله ضرورة من الإجماع والتواتر والآيات والسنن المستفيضة المصرحة بذلك في حق من وصلت إليه، وأما ما لا يتوصل إليه إلا بضرب من النظر والاستدلال فمن كان قادرًا عليه بتوفر آلته وجب عليه فعله كالأئمة المجتهدين، ومن لم يكن له قدرة عليه، وجب عليه اتباع من أرشده إلى ما كلف به من هو من أهل النظر والاحتهاد والعدالة، وسقط عن العاجز تكليفه في البحث، والنظر لعجزه لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} 1 وقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} 2 وهي الأصل في اعتماد التقليد كما أشار إليه المحقق الكمال بن الهمام في التحرير". ا. هـ. وقال الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس: "اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه خلق للتأمل والتدبر وقبيح بمن أعطى شمعة يستضيء بها أن يطفئها، ويمشي في الظلمة واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم التفحص عن أدلة إمامهم فيتبعون قوله وينبغي النظر إلى القول لا إلى القائل كما قال علي -رضي الله عنه- للحارث بن عبد الله الأعور بن الحوطي وقد قال له أتظن أن طلحة، والزبير كانا على الباطل فقال له: يا حارث إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله". ا. هـ. وقال ابن القيم: "فإذا جاءت هذه - أي النفس المطمئنة - بتجريد المتابعة للرسول لجاءت تلك -أي الأمارة- بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم فأتت بالشبهة المضلة بما يمنع من كمال المتابعة، وتقسم بالله ما مرادها إلا الإحسان والتوفيق والله يعلم أنها كاذبة، وما مرادها إلا التفلت من سجي المتابعة إلى قضاء إرادتها وحظوظها وتريه -أي وترى

_ 1 سورة البقرة، الآية: 286. 2 سورة النحل، الآية: 43.

النفس الأمارة صاحبها- تجريد المتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتقديم قوله على الآراء في صورة تنقص العلماء وإساءة الأدب عليهم المفضي إلى إساءة الظن به، وأنهم قد فاتهم الصواب فكيف لنا قوة برد عليهم أو نحظى بالصواب دونهم وتقاسمهم بالله إن أرادت إلا إحسانًا وتوفيقًا {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} 1. والفرق بين تجريد متابعة المعصوم، وإهدار أقواله، وإلغائها أن تجريد المتابعة أن لا تقدم على ما جاء به الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قول أحد، ولا رأيه كائنًا من كان بل تنظر في صحة الحديث أولًا فإذا صح نظر في معناه ثانيًا فإذا تبين له لم يعدل عنه، ولو خالفه من بين المشرق والمغرب، ومعاذ الله أن تتفق الأمة على ترك ما جاء به نبينا، بل لا بد أن يكون في الأمة من قال به، ولو خفي عليك فلا تجعل جهلك بالقائل حجة على الله تعالى ورسوله في تركه، بل اذهب إلى النص ولا تضعف، واعلم أنه قد قال به قائل قطعًا، ولكن لم يصل إليك علمه هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه فهم -رضي الله عنهم- دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة، ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم منك فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النصوص أعلم فهلا وافقته إن كنت صادقًا فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف بها ما منها خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك بل مخالفتهم في ذلك أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا بها ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم، ومن هذا يتبين الفرق بين تقليد العالم في جميع ما قال وبين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب دليله من الكتاب والسنة والمستعين بأفهامهم يجعلهم بمنزلة الدليل الأول فإذا وصل استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره فمن استدل بالنجم على القبلة لم يبق لاستدلاله معنى

_ 1 سورة النساء، الآية: 62.

إذا شاهدها. قال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد، ومن هذا يتبين الفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع، والحكم المؤول الذي غايته أن يكون جائز الاتباع بأن الأول هو الذي أنزل الله تعالى على رسوله متلوًّا، أو غير متلو إذا صح وسلم من المعارضة، وهو حكمه الذي ارتضاه لعباده، ولا حكم له سواه، وأن الثاني أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها، ولا يكفر ولا يفسق من خالفها فإن أصحابها لم يقولوا هكذا حكم الله ورسوله قطعًا، وحاشاهم عن قول ذلك، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النهي عنه في قوله: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة رسوله فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن أجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم، وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله، ورسوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله أم لا" أخرجه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من حديث بريدة، بل قالوا اجتهدنا رأينا فمن شاء قبله، ومن شاء لم يقبله ولم يلزم أحد منهم بقول الأئمة قال الإمام أبو حنيفة: "هذا رأي فمن جاء بخير منه قبلته" ولو كان هو عن حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه، وكذلك قال مالك لما استشاره هارون الرشيد في أن يحمل الناس على ما في الموطأ فمنعه من ذلك وقال: "قد نفر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في البلاد، وصار عند كل قوم من الأحاديث ما ليس عند الآخرين" وهذا الشافعي ينهى أصحابه عن تقليده، ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه، وهذا الإمام أحمد منكر على من كتب فتاويه ودونها ويقول: لا تقلدوني ولا تقلد فلانًا وفلانًا وخذ من حيث أخذوا". ا. هـ. كلام ابن القمي نقله الفلاني في: "إيقاظ الهمم". وقال السيد الشريف المشتهر فضله في سائر الأقطار الأمير عبد القادر الحسني الجزائري ثم الدمشقي في مقدمة كتابه: "ذكرى العاقل، وتنبيه الغافل" ما نصه: "اعلموا أنه يلزم العاقل أن ينظر في القول ولا ينظر إلى قائله، فإن كان القول حقًّا قبله سواء كان

قائله معروفا بالحق أو الباطل، فإن الذهب يستخرج من التراب والنرجس من البصل، والترياق من الحيات ويجتني الورد من الشوك فالعاقل يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال والكلمة من الحكمة ضالة العاقل يأخذها من عند كل من وجدها عنده سواء كان حقيرًا أو جليلًا وأقل درجات العالم أن يتميز عن العامي بأمور منها أنه لا يعاف العسل إذا وجده في محجمة الحجام، ويعرف أن الدم قذر لا لكونه في المحجمة، ولكنه قذر في ذاته فإذا عدمت هذه الصفة في العسل فكونه في ظرف الدم المستقذر لا يكسبه تلك الصفة ولا يوجب نفرة عنه، وهذا وهم باطل غلب على أكثر الناس فمهما نسب كلام إلى قائل حسن اعتقادهم فيه قبلوه، وإن كان القول باطلا وإن نسب القول إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه، وإن كان حقا ودائما يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، وهذا غاية الجهل والخسران فالمحتاج إلى الترياق إذا هربت نفسه منه حيث علم أنه مستخرج من حية جاهل فيلزم تنبيهه على أن نفرته جهل محض وهو سبب حرمانه من الفائدة التي هي مطلوبة فإن العالم هو الذي يسهل عليه إدراك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأفعال لا بأن يكون ملتبسًا عليه الحق بالباطل والكذب بالصدق والجميل بالقبيح ويصير يتبع غيره ويقلده فيما يعتقد، وفيما يقول فإن هذه ما هي إلا صفات الجهال والمتبعون من الناس على قسمين قسم عالم مسعد لنفسه ومسعد لغيره، وهو الذي عرف الحق بالدليل لا بالتقليد ودعا الناس إلى معرفة الحق بالدليل لا بأن يقلدوه، وقسم لنفسه ومهلك لغيره وهو الذي قلد آباءه وأجداده فيما يعتقدون ويستحسنون، وترك النظر بعقله ودعا الناس لتقليده، والأعمى لا يصح أن يقود العميان وإذا كان تقليد الرجال مذموما غير مرضي في الاعتقادات فتقليد الكتب أولى وأخرى بالذم، وإن بهيمة تقاد أفضل من مقلد ينقاد، وإن أقوال العلماء والمتدينين متضادة متخالفة في الأكثر، واختيار واحد منها واتباعه بلا دليل باطل لأنه ترجيح بلا مرجح فيكون معارضًا بمثله، وكل إنسان من حيث هو إنسان فهو مستعد لإدراك الحقائق

على ما هي عليه؛ لأن القلب الذي هو محل العلم بالإضافة إلى حقائق الأشياء كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات تظهر فيها كلها على التعاقب، لكن المرآة قد لا تنكشف فيها الصور لأسباب أحدها: نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل، والثاني: لخبثه وصدئه وإن كان تام الشكل، والثالث: لكونه غير مقابل للجهة التي فيها الصورة كما إذا كانت الصورة وراء المرآة، والرابع: لحجاب مرسل بين المرآة والصورة وجهتها فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن ينجلي فيها صور المعلومات كلها، وإن خلت القلوب عن العلوم التي خلت عنها لهذه الأسباب الخمسة أولها نقصان في ذات القلب كقلب الصبي فإنه لا تنجلي له المعلومات لنقصائه، والثاني: لكدورات الأشغال الدينوية، والخبث الذي يتراكم على وجه القلب منها فالإقبال على طلب كشف حقائق الأشياء والإعراض عن الأشياء الشاغلة القاطعة هو الذي يجلو القلب ويصفيه، والثالث: أن يكون معدولًا به عن جهة الحقيقة المطلوبة، والرابع: الحجاب فإن العقل المتجرد للفكر في حقيقة من الحقائق ربما لا تنكشف له لكونه محجوبًا باعتقاد سبق إلى القلب وقت الصبا على طريق التقليد والقبول بحسن الظن فإن ذلك يحول بين القلب والوصول إلى الحق ويمنع أن ينكشف في القلب غير ما تلقاه بالتقليد، وهذا حجاب عظيم حجب أكثر الخلق عن الوصول إلى الحق لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية رسخت في نفوسهم وجمدت عليها قلوبهم، والخامس الجهل بالجهة التي يقع فيها العثور على المطلوب فإن الطالب لشيء ليس يمكنه أن يحصله إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبة حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيبًا مخصوصًا يعرفه العلماء فعند ذلك يكون قد صادف جهة المطلوب فتظهر حقيقة المطلوب لقلبه فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تصاد إلا بشبكة العلوم الحاصلة، بل كل علم لا يحصل إلا عن علمين سابقين يأتلفان ويزدوجان على وجه مخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال حصول النتاج من ازدواج الفحل والأنثى، ثم كما أن من أراد أن يستنتج فرسًا لم يمكنه ذلك من حمار وبعير، بل من أصل مخصوص من الخيل الذكر والأنثى، وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص، فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان، وبينهما طريق مخصوص في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المطلوب فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم ومثاله ما ذكرناه من الجهل بالجهة التي الصورة فيها". ا. هـ. ملخصًا.

بيان أن معرفة الشيء ببرهانه طريقة القرآن الكريم

28- بيان أن معرفة الشيء ببرهانه طريقة القرآن الكريم: قال الأستاذ العلامة مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده في المقالة أثرت عنه ما صورته: "سعادة الناس في دنياهم، وأخراهم بالكسب والعمل فإن الله خلق الإنسان، وأناط جميع مصالحه ومنافعه بعمله وكسبه والذين حصلوا سعادتهم بدون عمل ولا سعى هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحدهم لا يشاركهم في هذا أحد من البشر مطلقًا، والكسب مهما تعددت وجوهه فإنها ترجع إلى كسب العلم لأن أعمال الإنسان إنما تصدر عن إرادته وإرادته تنبعث عن آرائه، وآراؤه هي نتائج علمه فالعلم مصدر الأعمال كلها دنيوية وأخروية فكمالا يسعد الناس في الدنيا إلا بأعمالهم كذلك لا يسعدون في الآخرة إلا بأعمالهم، وحيث كان للعلم هذا الشأن فلا شك أن الخطأ فيه خطأ في طريق السير إلى السعادة عائق أو مانع من الوصول إليها فلا جرم أن الناس في أشد الحاجة إلى ما يحفظ من هذا الخطأ، ويسير بالعلم في طريقة القويم حتى يصل السائر إلى الغاية". ثم قال: "اعتنى العلماء في كل أمة بضبط اللسان، وحفظه من الخطأ في الكلام، ووضعوا لذلك علومًا كثيرة، وما كان للسان هذا الشأن إلا لأنه مجلي للفكر وترجمان له، وآله لإيصال معارفه من ذهن إلى آخر فأجدر بهم أن تكون عنايتهم بضبط الفكرأعظم كما أن اللفظ مجلي الفكر هو غطاؤه أيضًا فإن الإنسان لا يقدر على إخفاء أفكاره إلا بحجاب الكلام الكاذب حتى قال بعضهم إن اللفظ لا يوجد إلا ليخفي الفكر". ثم كشف الأستاذ النقاب عن حقيقة الفكر الصحيح الذي ينتفع بالميزان، ويكون

مطلقًا يجري في مجراه الذي وضعه الله تعالى عليه، إلى أن يصل إلى غايته؛ أما المقيد بالعادات، فهو الذي لا شأن له، وكأنه لا وجوده له، وقد جاء الإسلام ليعتق الأفكار من رقها، ويحلها من عقلها، فترى القرآن ناعيًا على المقلدين، ذاكرًا لهم بأسوأ ما يذكر به المجرم ولذلك بني على اليقين ثم قال: "على طالب العلم أن يسترشد بم تقدمه، سواء كانوا أحياء أم أمواتًا، ولكن عليه أن يستعمل فكره فيما يؤثر عنهم، فإن وجده صحيحًا أخذ به وإن وجده فاسدًا تركه، وحينئذ يكون ممن قال الله تعالى فيهم: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1 الآية، وإلا فهو كالحيوان، والكلام كاللحام له أو الزمام يمنع به عن كل ما يريد صاحب الكلام منعه عنه، وينقاد إلى حيث يشاء المتكلم أن ينقاد إليه من غير عقل ولا فهم". ثم ألمع إلى الأشياء التي تجعل الفكر صحيحًا مطلقًا، فقال: "إن الكلام عنه يحتاج إلى شرح طويل، ويمكن أن نقول فيه كلمة جامعة يرجع إليها كل ما يقال وهي الشجاعة، الشجاع: هو الذي لا يخالف في الحق لومة لائم فمتى لاح له يصرح به ويجاهر بنصرته، وإن خالف في ذلك الأولين والآخرين. ومن الناس من يلوح له نور الحق فيبقى متمسكًا بما عليه الناس ويجتهد في إطفاء نور الفطرة، ولكن ضميره لا يستريح فهو يوبخه إذا خلا بنفسه ولو في فراشه لا يرجع عن الحق أو يكتم الحق لأجل الناس إلا الذي لم يأخذ إلا بما قال الناس، ولا يمكن أن يأتي هذا من موقن يعرف الحق معرفة صحيحة". وبعد أن أفاض في الكلام على الشجاعة وبين احتياج الفكر والبصيرة في الدين إليها قال: "وهنا شيء يحسبه بعضهم شجاعة، وما هو بشجاعة وإنما هو وقاحة وذلك كالاستهزاء بالحق وعدم المبالاة بالحق فترى صاحب هذه الخلة يخوض في الأئمة، ويعرض بتنقيص أكابر العلماء غرورًا وحماقة، والسبب في ذلك أنه ليس عنده من الصبر والاحتمال

_ 1 سورة الزمر، الآية: 18.

وقوة الفكر، ما يسبر به أغوار كلامهم، ويمحص به حججهم وبراهينهم ليقبل ما يقبل عن بينة، ويترك ما يترك عن بينه، وهذا ولا شك أجبن ممن تحمل ثقل التقليد على ما فيه، وربما تنبع في عقله خواطر ترشده إلى البصيرة أو تلمع في ذهنه بوارق من الاستدلال لو مشى في نورها لاهتدى وخرج من الحيرة، وأما المستهزئ فهو أقل احتمالًا من المقلد فإن الهوى الذي يعرض لفكرة إنما يأتيه من عدم صبره، وثباته على الأمور وعدم التأمل فيها، والحاصل أن الفكر الصحيح يوجد بالشجاعة، وهي ها هنا التي يسميها بعض الكتاب العصريين: "الشجاعة الأدبية" وهي قسمان شجاعة في رفع القيد الذي هو التقليد الأعمى، وشجاعة في وضع القيد الذي هو الميزان الذي لا ينبغي أن يقر رأي ولا فكر إلا بعد ما يوزن به ويظهر رحجانه، وبهذا يكون الإنسان عبدًا للحق وحده، وهذه الطريقة طريقة معرفة الشيء بدليله وبرهانه ما جاءتنا من علم المنطبق، وإنما هي طريقة القرآن الكريم الذي ما قرر شيئًا إلا واستدل عليه، وأرشد متبعيه إلا الاستدلال، وإنما المنطق آله لضبط الاستدلال كما أن النحو آله لضبط الألفاظ في الإعراب والبناء". ا. هـ.

بيان أن من المصالح هذه المذاهب المدونة وفوائد مهمة من أصل التخريج على كلام الفقهاء وغير ذلك

29- بيان أن من المصالح هذه المذاهب المدونة وفوائد مهمة من أصل التخريج على كلام الفقهاء وغير ذلك: قال الإمام ولي الله الدهلوي قدس سره في الحجة البالغة: "ومما يناسب هذا المقام التنبيه على مسائل ضلت في بواديها الأفهام، وزلت الأقدام وطغت الأقلام، منها: أن هذه المذاهب الأربعة المدونة المحررة قد اجتمعت الأمة، أو من يعتد به منها على جواز تقليدها إلى يومنا هذا، وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى لا سيما في هذه الأيام التي قصرت فيها الهمم جدًّا، وأشربت النفوس الهوى وأعجب كل ذي رأي برأيه1 فما ذهب إليه ابن حزم

_ 1 ما مبتدأ، وخبره قوله فيما يأتي. إنما يتم فمن له ضرب من الاجتهاد.

حيث قال: "التقليد حرام ولا يحل لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلا برهان لقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} 1 وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} 2 وقال مادحًا لمن لم يقلد: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} 3 وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 4 فلم يبح الله تعالى الرد عند التنازع إلى أحد دون القرآن والسنة، وحرم بذلك الرد عند التنازع إلى قوله قائل لأنه غير القرآن والسنة، وقد صح إجماع الصحابة كلهم أولهم عن آخرهم، وإجماع التابعين أولهم عن آخرهم، وإجماع تابعي التابعين أولهم عن آخرهم على الامتناع، والمنع من أن يقصد منهم أحد إلى قول إنسان منهم أو ممن قبلهم فيأخذه كله فليعلم من أخذ بجميع أقوال أبي حنيفة أو جميع أقوال مالك أو جميع أقوال الشافعي أو جميع أقوال أحمد -رضي الله عنهم- ولم يترك قول من اتبع منهم أو من غيرهم إلى قول غيره، ولم يعتمد على ما جاء في القرآن والسنة غير صارف ذلك إلى قول إنسان بعينه أنه قد خالف إجماع الأمة كلها أولها عن آخرها بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا يجد لنفسه سلفًا ولا إنسانًا في جميع الأعصار المحمودة الثلاثة فقد اتبع غير سبيل المؤمنين نعوذ بالله من هذه المنزلة، وأيضًا فإن هؤلاء الفقهاء كلهم قد نهوا عن تقليد غيرهم فقد خالفهم من قلدهم، وأيضًا فما الذي جعل رجلًا من هؤلاء أو من غيرهم أولى أن يقلد من عمر بن الخطاب أو علي بن أبي طالب أو ابن مسعود أو ابن عمر أو ابن عباس أو عائشة أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنهم- فلو ساغ التقليد لكان كل واحد من هؤلاء أحق بأن يتبع من غيره". ا. هـ. إنما5 يتم فيمن له ضرب من الاجتهاد ولو في مسألة واحدة وفيمن

_ 1 سورة الأعراف، الآية: 2. 2 سورة البقرة، الآية: 170. 3 سورة الزمر، الآية: 17، 18. 4 سورة النساء، الآية: 58. 5 إنما يتم من كلام الدهلوي وهو خبر لقوله السابق في طليعة البحث: "فما ذهب إليه ابن حزم".

ظهر عليه ظهورًا بينًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بكذا ونهى عن كذا وأنه ليس بمنسوخ إما بأن يتتبع الأحاديث، وأقوال المخالف والموافق في المسألة فلا يجد لها نسخًا، أو بأن يرى جمًّا غفيرًا من المتبحرين في العلم يذهبون إليه، ويرى المخالف له لا يحتج إلا بقياس أو استنباط أو نحو ذلك فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا نفاق خفي أو حمق جلي، وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث قال: "ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا، وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم جمودًا على تقليد إمامه بل بتحيل لدفع ظاهر الكتاب والسنة ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالًا عن مقلدة" وقال: "لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد بمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين إلى أن ظهرت هذه المذاهب، ومتعصبوها من المقلدين فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلدًا لهم فيما قال كأنه نبي أرسل، وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي الألباب" وقال الإمام أبو شامة: "ينبغي لمن اشتغل بالفقه أن لا يقتصر على مذهب إمام ويعتقد في كل مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة، وذلك سهل عليه إذا كان أتقن معظم العلوم المتقدمة، وليجتنب التعصب والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة فإنها مضيعة للزمان، ولصفوه مكدرة فقد صح عن الشافعي أنه نهى عن تقليده وتقليد غيره، قال صاحبه المزني في أول مختصره: "اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله لأقر به على من أراد مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه، ويحتاط لنفسه أي مع إعلامي من أراد علم الشافعي نهى الشافعي عن تقليده، وتقليد غيره". ا. هـ. وفيمن1 يكون عاميًّا، ويقلد رجلًا من الفقهاء بعينه يرى أنه يمتنع من مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب البتة وأضمر في قلبه أن لا يترك تقليده، وإن ظهر الدليل على خلافه، وذلك ما رواه الترمذي عن عدي بن حاتم أنه قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ

_ 1 وفيمن: عطف على قوله: إنما يتم فيمن له ضرب إلخ.

أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 قال إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه، وفيمن2 لا يجوز أن يستفتي الحنفي مثلًا فقيهًا شافعيًّا وبالعكس ولا يُجوز أن يقتدى الحنفي بإمام شافعي مثلًا، فإن هذا قد خالف إجماع القرون الأولى وناقض الصحابة والتابعين وليس محله3 فيمن لا يدين إلا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يعتقد حلالًا إلا ما أحله الله ورسوله ولا حرامًا إلا ما حرمه الله ورسوله، لكنه لما لم يكن له علم بما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا بطريق الجمع بين المختلفات من كلامه ولا بطريق الاستنباط من كلامه اتبع عالمًا راشدًا على أنه مصيب فيما يقول ويفتي ظاهرًا متبع سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فإن خالف ما يظنه أقلع من ساعته من غير جدال ولا إصرار، فهذا كيف ينكره أحد مع أن الاستفتاء والإفتاء لم يزل بين المسلمين من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا فرق بين أن يُستفتى هذا دائمًا أو يُستفتى هذا حينًا، وذلك حينًا بعد أن يكون مجمعًا على ما ذكرناه كيف لا، ولم نؤمن بفقيه أيًّا كان أنه أوحى الله إليه الفقه، وفرض علينا طاعته وأنه معصوم فإن اقتدينا بواحد منهم فذلك لعلمنا بأنه عالم بكتاب الله وسنة رسوله فلا يخلو قوله إما أن يكون من صريح الكتاب والسنة أو مستنبطًا منهما بنحو من الاستنباط، أو عرف بالقرائن أن الحكم في صورة ما منوط بعلة كذا، وأطمان قلبه بتلك المعرفة فقاس غير المنصوص على المنصوص فكأنه يقول: ظننت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كلما وجدت هذه العلة فالحكم في طريقة ظنون، ولولا ذلك لما قلد مؤمن مجتهدًا فإن بلغنا حديث من الرسول المعصوم الذي فرض الله علينا طاعته بسند صالح يدل على خلاف مذهبه، وتركنا حديثه واتبعنا ذلك التخمين فمن أظلم منا؟ وما عذرنا يوم يقوم الناس لرب العالمين؟. "ومنها: أن التخريج على كلام الفقهاء وتتبع لفظ الحديث لكل منهما أصل أصيل في الدين، ولم يزل المحققون من العلماء في كل عصر يأخذون بهما، فمنهم من يقل من ذا،

_ 1 سورة التوبة، الآية: 32. 2 وفيمن: عطف على ما تقدم. 3 أي قول ابن حزم المتقدم.

ويكثر من ذاك، ومنهم من يكثر من ذا، ويقل من ذاك فلا ينبغي أن يهمل أمر واحد منهما بالمرة كما يفعله عامة الفريقين، وإنما الحق البحث أن يطابق أحدهما بالآخر، وأن يجبر خلل كل بالآخر، وذلك قول الحسن البصري: "سنتكم، والله الذي لا إله إلا هو بينهما" بين الغالي والجافي، فمن كان من أهل الحديث ينبغي أن يعرض ما اختاره، وذهب إليه على رأي المجتهدين من التابعين، ومن كان من أهل التخريج له أن يجعل من السنن ما يحترز به من مخالفة الصريح الصحيح، ومن القول برأيه فيما فيه حديث أو يقدر الطاقة، ولا ينبغي لمحدث أن يتعمق بالقواعد التي أحكمها أصحابه وليست منا نص عليه الشارع فيرد به حديثًا أو قياسًا صحيحًا كرد ما فيه أدنى شائبة الإرسال والانقطاع كما فعله ابن حزم رد حديث تحريم المعازف لشائبة الانقطاع في رواية البخاري على أنه في نفسه متصل صحيح فإن مثله إنما يصار إليه عند التعارض، وكقولهم فلان أحفظ لحديث فلان من غيره فيرجحون حديثه على حديث غيره لذلك وإن كان في الآخر ألف رجه من الرجحان، وكان اهتمام جمهور الرواة عند الرواية بالمعنى برءوس المعاني دون الاعتبارات التي يعرفها المتعمقون من أهل العربية فاستدلالهم بنحو الفاء والواو وتقديم كلمة وتأخيرها، ونحو ذلك من التعمق وكثيرًا ما يعبر الراوي الآخر عن تلك القصة فيأتي مكان ذلك الحرف بحرف آخر، والحق أن كل ما يأتي به الراوي فظاهره أنه كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن ظهر حديث آخر أو دليل آخر وجب المصير إليه، ولا ينبغي لمخرج أن يخرج قولًا لا يفيده نفس كلام أصحابه، ولا يفهمه منه أهل العرف والعلماء باللغة ويكون بناء على تخريج مناط أو حمل نظير المسألة عليها مما يختلف فيه أهل الوجوه وتتعارض فيه الآراء، ولو أن أصحابه مثلوا عن تلك المسألة ربما يحملون النظير على النظير لمانع، وربما ذكروا علة غير ما خرجه هو، وإنما جاز التخريج لأنه في الحقيقة من تقليد المجتهد ولا يتم إلا فيما يفهم من كلامه، ولا ينبغي أن يرد حديثًا أو أثر تطابق عليه القوم لقاعدة استخرجها هو أو أصحابه كرد حديث المصراة1. وكإسقاط سنهم ذوي القربى2، فإن رعاية الحديث أوجب من رعاية تلك

_ 1 راجع ص98 من هذا الكتاب. 2 أي قربى النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفيء والغنيمة، والمعروف أن ذلك مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد أخرج أبو داود والنسائي من حديث عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بعير من المغنم فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: "ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم".

القاعدة المخرجة، وإلى هذا المعنى أشار الشافعي حيث قال: "مهما قلت من قول أو أصلت من أصل فبلغ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلاف ما قلت فالقول ما قاله -صلى الله عليه وسلم". "ومنها: أن تتبع الكتاب والآثار لمعرفة الأحكام الشرعية على مراتب أعلاها أن يحصل له من معرفة الأحكام بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل ما يتمكن به من جواب المستفتين في الوقائع غالبًا بحيث يكون جوابه أكثر مما يتوقف فيه، وتخص "أي هذه المعرفة" باسم الاجتهاد، وهذا الاستعداد يحصل تارة بالإمعان في جمع الروايات وتتبع الشاذة والفاذة منها، كما أشار إليه أحمد بن حنبل مع ما لا ينفك منه العاقل العارف باللغة من معرفة مواقع الكلام، وصاحب العلم بآثار السلف من طريق الجمع بين المختلفات، وترتيب الاستدلالات ونحو ذلك، وتارة بإحكام طرق التخريج على مذهب شيخ من مشايخ الفقه من معرفة جملة صالحة من السنن والآثار بحيث يعلم أن قوله لا يخالف الإجماع القرآن والسنن ما يتمكن به من معرفة رءوس مسائل الفقه المجمع عليها بأدلتها التفصيلية، ويحصل له غاية العلم ببعض المسائل الاجتهادية من أدلتها، وترجيح بعض الأقوال على بعض، ونقد التخريجات، ومعرفة الجيد والزيف، وإن لم يتكامل له الأدوات كما يتكامل للمجتهد المطلق فيجوز لمثله أن يلفق من المذهبين إذا عرف دليلهما، وعلم أن قوله ليس مما لا ينفذ فيه اجتهاد المجتهد، ولا يقبل فيه قضاء القاضي ولا يجري فيه فتوى المفتين، وأن يترك بعض التخريجات التي سبق الناس إليها إذا عرف عدم صحتها، ولهذا لم يزل العلماء ممن لا يدعي الاجتهاد المطلق يصنفون ويرتبون ويخرجون ويرجحون، وإذا كان الاجتهاد يتجزأ عند الجمهور والتخريج يتجزأ، وإنما المقصود تحصيل الظن وعليه مدار التكليف،

فما الذي يستبعد من ذلك؟ وأما ما دون ذلك من الناس، فمذهبه فيما يرد عليه كثيرًا ما أخذه عن أصحابه وآبائه وأهل بلده من المذاهب المتبعة، وفي الوقائع النادرة فتاوى مفتيه، وفي القضايا ما يحكم القاضي، وعلى هذا وجدنا محققي العلماء من كل مذهب قديمًا وحديثًا، وهو الذي أوصى به أئمة المذاهب أصحابهم". ثم قال الدهلوي رحمه الله: "قال ابن الصلاح من وجد من الشافعية حديثًا يخالف مذهبه نظر: إن كملت له آله الاجتهاد مطلقًا، أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به، وإن لم يكمل له آلة الاجتهاد وشق مخالفة الحديث بعد أن يبحث فلم يجد للمخالف جوابًا شافيًا عنه فله العمل به، إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذرًا له في ترك مذهب إمامه ها هنا وحسنة النووي. "ومنها: أن أكثر صور الاختلاف بين الفقهاء لا سيما في المسائل التي ظهر فيها أقوال الصحابة في الجانبين كتكبيرات التشريق وتكبيرات العيدين، ونكاح المحرم وتشهد ابن عباس وابن مسعود، والإخفاء بالبسملة وبآمين والإسفاع، والإيثار في الإقامة، ونحو ذلك إنما هو في ترجيح أحد القولين، وكان السلف لا يختلفون في أصل المشروعية، وإنما كان خلافهم في أولى الأمرين ونظيره اختلاف القراء في وجوه القراءة، وقد عللوا كثيرًا من هذا الباب بأن الصحابة مختلفون، وأنهم جميعًا على الهدى ولذلك لم يزل العلماء يجوزون فتاوى المفتين في المسائل الاجتهادية، ويسلمون قضاء القضاة ويعملون في بعض الأحيان بخلاف مذهبهم، ولا ترى أئمة المذاهب في هذه المواضع إلا وهم يضجعون القول ويبينون الخلاف يقول أحدهم: هذا أحوط وهذا هو المختار وهذا أحب إلي ويقول: ما بلغنا إلا ذلك، وهذا كثير في المبسوط وآثار محمد رحمه الله وكلام الشافعي رحمه الله ثم خلف من بعدهم خلف اختصروا كلام القوم فقووا الخلاف، وثبتوا على مختار أئمتهم، والذي يروى من السلف من تأكيد الأخذ بمذهب أصحابهم، وأن لا يخرج منها بحال فإن ذلك إما لأمر جبلي، فإن كل إنسان يحب ما هو مختار أصحابه وقومه حتى في الزي والمطاعم، أو لصوله ناشئة من ملاحظة الدليل، أو لنحو ذلك من الأسباب

فظن البعض تعصبًا دينيًّا، حاشاهم من ذلك. وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ البسملة، ومنهم من لا يقرؤها، ومنهم من يجهر بها، ومنهم من لا يجهر بها، وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت في الفجر ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ مما مسته النار، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك، ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض مثل ما كان أبو حنيفة أو أصحابه والشافعي وغيرهم -رضي الله عنهم- يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم، وإن كانوا لا يقرءون البسملة لا سرا ولا جهرًا وصلى الرشيد إمامًا وقد احتجم فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد، وكان أفتاه الإمام مالك بأنه لا وضوء عليه، وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة فقيل له فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب؟ ورُوي أن أبا يوسف ومحمدًا كانا يكبران في العيدين تكبير ابن عباس لأن هارون الرشيد كان يحب تكبير جده، وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريبًا من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت تأدبًا معه، وقال أيضًا: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق وقال مالك رحمه الله للمنصور وهارون الرشيد ما ذكرنا عنه سابقا، وفي البزازية عن الإمام الثاني، وهو أبو يوسف رحمه الله أنه صلى يوم الجمعة مغتسلًا من الحمام، وصلى بالناس وتفرقوا ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام فقال إذن نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا" 1. ا. هـ. ثم قال الدهلوي قدس سره: "ومنها: أني وجدت بعضهم يزعم أن هنالك فرقتين لا ثالث لهما: أهل الظاهر وأهل الرأي، وأن كل من قاس واستنبط فهو من أهل الرأي. كلا والله بل ليس المراد بالرأي نفس الفهم والعقل، فإن ذلك لا ينفك من أحد من العلماء، ولا الرأي الذي لا يعتمد على سنة أصلًا فإنه لا ينتحله مسلم البتة، ولا القدرة على الاستنباط والقياس فإن أحمد وإسحاق بل الشافعي أيضًا ليسوا من أهل الرأي بالاتفاق، وهم يستنبطون ويقيسون، بل المراد من أهل الرأي قوم توجهوا بعد المسائل المجمع عليها بين المسلمين أو بين جمهورهم إلى التخريج على أصل رجل من المتقدمين، فكان أكثر أمرهم حمل النظير على النظير، والرد إلى أصل من الأصول دون تتبع الأحاديث والآثار. والظاهري من لا يقول بالقياس ولا بآثار الصحابة والتابعين كداود وابن حزم وبينهما المحقون من أهل السنة كأحمد وإسحاق". ا. هـ.

_ 1 أخرجه أحمد وأصحابه السنن من حديث عبد الله بن عمر.

بيان وجوب موالاة الأئمة المجتهدين وأنه إذا وجد لواحد منهم قول صح الحديث بخلافه فلا بد له من عذر في تركه، وبيان العذر

3- بيان وجوب موالاة الأئمة المجتهدين وأنه إذا وجد لواحد منهم قول صح الحديث بخلافة فلا بد له من عذر في تركة وبيان العذر: قال الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيميه رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة متقلبه ومثواه آمين في كتابه: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" في مقدمته بعد الخطبة ما صورته: يجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصًا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم. ثم قال: فإنهم خلفاء الرسول في أمته والمحيون لما مات من سنته بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولًا عامًّا يتعمد مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شيء من سنته دقيق ولا جليل فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه وجماع الأعذار ثلاثة أصناف أحدهم: عدم اعتقاد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله، والثاني: عدم اعتقاده إراده تلك المسألة بذلك القول، والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة: السبب الأول: أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن

يكون عالمًا بموجبه، وإذا لم يكن قد بلغه، وقد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس أو موجب استصحاب، فقد يوافق ذلك الحديث تارة، ويخالفه أخرى وهذا السبب الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفًا لبعض الأحاديث فإن الإحاطة بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تكن لأحد من الأمة، وقد كان النبي يحدث أو يفتي أو يقضي أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضرًا، ويبلغه أولئك أو بعضهم لمن يبلغونه فينتهي علم ذلك إلى من شاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ثم في مجلس آخر قد يحدث أو يفتي أو يقول شيئًا ويشهده بعض من كان غائبًا من ذلك المجلس، ويبلغونه لمن أمكنهم فيكون عند هؤلاء من العلم ما ليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ما ليس عند هؤلاء، وإنما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم بكثرة العلم أو جودته، وأما إحاطة واحد بجميع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا لا يمكن ادعاؤه قط واعتبر ذلك بالخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة بأمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنته وأحواله خصوصًا الصديق -رضي الله عنه- الذي لم يكن يفارقه حضرًا ولا سفرًا، بل كان يكون معه في غالب الأوقات حتى إنه يسمر عنده بالليل في أمور المسلمين، وكذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فإنه -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يقول: "دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر" ثم مع ذلك لما سئل أبو بكر -رضي الله عنه- عن ميراث الجدة قال: "مالك في كتاب الله في شيء ولكن اسأل الناس"1 فسألهم فقام المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة فشهد أن النبي أعطاها السدس، وقد بلغ هذه السنة عمران بن حصين وليس هؤلاء الثلاثة مثل أبي بكر وغيره من الخلفاء ثم قد اختصوا بعلم هذه السنة التي قد اتفقت الأمة على العمل بها، وكذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لم يكن يعلم سنة الاستئذان حتى أخبره بها أبو موسى استشهد بالأنصار2. وعمر أعلم ممن حدثه بهذه

_ 1 أخرجه سعيد بن منصور في سننه وعبد الرزاق في جامعه من حديث قبيصة بن ذؤيب وله تتمة. 2 الحديث في الصحيحين وغيرهما.

السنة ولم يكن عمر أيضًا يعلم أن المرأة ترث من دية زوجها بل يرى أن الدية للعاقلة حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان، وهو أمير الرسول على بعض البوادي يخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-1 ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فترك رأيه لذلك وقال: "لو لم نسمع بهذا لقضينا بخلافه"2. ولم يكن يعلم حكم المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" 3. ولما قدم: "سرغ" وبلغه أن الطاعون بالشام استشار المهاجرين الأولين الذين معه ثم الأنصار ثم مسلمة الفتح، فأشار كل عليه بما رأى، ولم يخبره أحد بسنة حتى قدم عبد الرحمن بن عوف فأخبره بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الطاعون وأنه قال4: "إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه " وتذاكر هو وابن عباس أمر الذي يشك في صلاته، فلم يكن قد بلغته السنة في ذلك حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف عن النبي -صلى الله عليه وسلم-5 أنه يطرح الشك ويبني على ما استيقن، وكان مرة في السفر فهاجت ريح فجعل يقول: من يحدثنا عن الريح قال أبو هريرة: "فبلغني وأنا في أخريات الناس فحثثت راحلتي حتى أدركته فحدثنه بما أمر به النبي عند هبوب الريح"6. فهذه مواضع لم يكن يعلمها حتى بلغه إياها من ليس مثله، ومواضع أخر لم يبلغه ما فيها من السنة فقضى فيها أو أفتى فيها بغير ذلك مثل ما قضى في دية الأصابع أنها مختلفة بحسب منافعها، وقد كان عند أبي موسى وابن عباس -وهما دونه بكثير في العلم- علم بأن النبي قال: "هذه وهذه سواء" 7 يعني الإبهام، والخنصر فبلغت هذه السنة لمعاوية في إمارته فقضى بها

_ 1 أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. 2 رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي. 3 رواه الشافعي. 4 الحديث في الصحيحين وغيرهما. 5 روى مسلم وأحمد وابن ماجه والترمذي أحاديث بمعناه، راجع نيل الأوطار ج3 ص129 وما بعدها. 6 أخرجه أبو داود وابن ماجه، وعند مسلم من حديث عائشة قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به". 7 رواه الجماعة إلا مسلمًا.

ولم يجد المسلمون بدًّا من اتباع ذلك. ولم يكن عيبًا في عمر -رضي الله عنه- حيث لم يبلغه الحديث. وكذلك كان ينهى المحرم عن التطيب قبل الإحرام، وقبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي جمرة العقبة هو وابنه عبد الله -رضي الله عنهما- وغيرهما من أهل الفضل، ولم يبلغهم حديث عائشة -رضي الله عنها: "طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحرمه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف"1 وكان يأمر لابس الخف أن يمسح عليه إلى أن يخلعه من غير توقيت، واتبعه على ذلك طائفة من السلف، ولم تبلغهم أحاديث التوقيت التي صحت عند بعض من ليس مثلهم في العلم، وقد رُوي ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه متعددة صحيحة2. وكذلك عثمان -رضي الله عنه- لم يكن عنده علم بأن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيت الموت، حتى حدثته الفريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري بقضيتها لما توفي زوجها، وأن النبي قال لها: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" 3 فأخذ به عثمان، وأهدي له مرة صيد كان قد صيد لأجله فهم بأكله حتى أخبره علي -رضي الله عنه- أن النبي رد لحمًا أهدي له4. وكذلك علي -رضي الله عنه- قال: "كنت إذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر" وذكر حديث5 صلاة التوبة المشهور، وأفتى هو وابن عباس وغيرهما بأن المتوفى عنها إذا كانت حاملا تعتد أبعد الأجلين، ولم يكن قد بلغتهم سنة الله في سبيعة الأسلمية حيث أفتاها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن عدتها وضع حملها6 وأفتى هو وزيد وابن عمر وغيرهم بأن المفوضه إذا مات عنها زوجها فلا مهر

_ 1 أخرجاه في الصحيحين. 2 أخرج الطبراني من حديث أبي أمامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمسح على الخفين والعمامة ثلاثًا في السفر ويومًا وليلة في الحضر. والحديث متكلم فيه. راجع نيل الأوطار ج1 ص206. 3 رواه الخمسة وصححه الترمذي، ولم يذكر النسائي وابن ماجه إرسال عثمان. 4 رواه أحمد وابن ماجه. والذي في الصحيحين من حديث أبي قتادة أنه أكل منه. 5 أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وابن السني في عمل اليوم والليلة. 6 راجع ص89.

لها، ولم تكن بلغتهم سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "في بروع بنت واشق"1 وهذا باب واسع يبلغ المنقول منه عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عددًا كثيرًا جدًّا، وأما المنقول منه عن غيرهم، فلا يمكن الإحاطة به فإنه ألوف فإن هؤلاء كانوا أعلم الأمة وأفقهها وأتقاها وأفضلها، فمن بعدهم أنقص، فخفاء بعض السنة عليه أولى فلا يحتاج إلى بيان فمن اعتقد أن كل حديث صحيح قد بلغ كل واحد من الأئمة وإمامًا معينًا فهو مخطئ خطأ فاحشًا قبيحًا. ولا يقولن قائل: "إن الأحاديث قد دونت وجمعت، فخفاؤها والحال هذه بعيد! " لأن هذه الدواوين المشهورة في السنن، إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يُدعى انحصار حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة، وهو لا يحيط بما فيها، بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير لأن كثيرًا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول أو بإسناد منقطع أو لا يبلغنا بالكلية فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين، وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية. ولا يقولن قائل "من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدا" لأنه إن اشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله فيما يتعلق بالأحكام فليس في الأمة مجتهد، وإنما غاية العلم أن يعلم جمهور ذلك وعظمه بحيث لا يخفى عليه إلا القليل من التفصيل، ثم إنه قد يخالف ذلك القليل من التفصيل الذي يبلغه. السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الإسناد مجهول عنده أو متهم أو سيئ الحفظ، وإما أنه لم يبلغه مسندًا بل منقطعًا أو لم يضبط لفظ الحديث مع أن ذلك الحديث، قد رواه الثقات لغيره بإسناد متصل بأن يكون غيره يعلم من المجهول عنده الثقة، أو يكون قد رواه غير

_ 1 أي فإنه قضى لها بمهر مثلها والحديث عند أحمد وأهل السنن.

أولئك المجروحين عنده، أو قد اتصل من غير الجهة المنقطعة، وقد ضبط ألفاظ الحديث بعض المحدثين الحفاظ، أو لتلك الرواية من الشواهد والمتابعات ما يبين صحتها، وهذا أيضًا كثير جدًّا وهو في التابعين وتابعيهم إلى الأئمة المشهورين من بعدهم أكثر من العصر الأول أو كثير من القسم الأول، فإن الأحاديث كانت قد انتشرت واشتهرت، لكن كانت تبلغ كثيرًا من العلماء من طرق ضعيفة، وقد بلغت غيرهم من طرق صحيحة غير تلك الطرق فتكون حجة من هذا الوجه مع أنها لم تبلغ من خالفها من هذا الوجه، ولهذا وجد في كلام غير واحد من الأئمة تعليق القول بموجب الحديث على صحته فيقول قولي في هذه المسألة كذا، وقد رُوي فيها حديث بكذا فإن كان صحيحًا فهو قولي. السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره، مع قطع النظر عن طريق آخر، سواء كان الصواب معه أو مع غيره، أو معهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب ولذلك أسباب: منها: أن يكون الحديث يعتقده أحدهما ضعيفًا، ويعتقده الآخر ثقة -ومعرفة الرجال علم واسع- ثم قد يكون المصيب من يعتقد ضعفه لاطلاعه على سبب جارح، وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفته أن ذلك السبب غير جارح، إما لأن جنسه غير جارح أو لأنه كان له فيه عذر يمنع الجرح، وهذا باب واسع وللعلماء بالرجال وأحوالهم في ذلك من الإجماع والاختلاف مثل ما لغيرهم من سائر أهل العلم في علومهم. ومنها: أن لا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه وغيره يعتقد أنه سمعه لأسباب توجب معروفة ذلك. ومنها: أن يكون للمحدث حالان: حال استقامة وحال اضطراب، مثل أن يختلط أو تحرق كتبه، فما حدث به في حال الاستقامة صحيح، وما حدث به حال الاضطراب ضعيف، فلا يدري ذلك الحديث من أي النوعين. وقد علم غيره أنه مما حدث به في حال الاستقامة.

ومنها: أن يكون المحدث قد نسي ذلك الحديث، فلم يذكره فيما بعد. أو أنكر أن يكون حدثه معتقدًا أن هذا علة توجب ترك الحديث، ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به، والمسألة معروفة. ومنها: أن كثيرًا من الحجازيين يرون أن لا يحتج بحديث عراقي أو شامي إن لم يكن له أصل بالحجاز حتى قال قائلهم: "نزلوا أحاديث أهل العراق بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، لا تصدقوهم، ولا تكذبوهم". وقيل لآخر: "سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله حجة؟ " قال: إن لم يكن له أصل بالحجاز فلا. وهذا لاعتقادهم أن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء، وأن أحاديث العراقيين وقع فيها اضطراب أوجب التوقف فيها، وبعض العراقيين يرى أن لا يحتج بحديث الشاميين، وإن كان أكثر الناس على ترك التضعيف بهذا فمتى كان الإسناد جيدًا كان الحديث حجة سواء كان الحديث حجازيًّا أو عراقيًّا أو شاميًّا أو غير ذلك. وقد صنف أبو داود السجستاني كتابًا في مفاريد أهل الأمصار من السنن، يبين ما اختص به أهل كل مصر من الأمصار من السنن التي لا توجد مسنده عند غيرهم، مثل المدينة ومكة والطائف ودمشق وحمص والكوفة والبصرة وغيرها إلى أسباب أخر غير هذه. السبب الرابع: اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطًا يخالفه فيها غيره مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة، واشتراط بعضهم أن يكون المحدث فقيها إذا خالف قياس الأصول، واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى إلى غير ذلك مما هو معروف في مواضعه. السبب الخامس: أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده، لكن نسيه وهذا يرد في الكتاب والسنة، مثل الحديث المشهور عن عمر -رضي الله عنه- أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر فلا يجد الماء. فقال: "لا يصلي حتى يجد الماء" فقال له عمار1: "يا

_ 1 راجع ص88.

أمير المؤمنين أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فاجتنبنا، فأما أنا فتمرغت كما تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصل، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنما يكفيك هكذا" وضرب بيديه الأرض فمسح بها وجهه وكفيه. فقال له عمر: "اتق الله يا عمار" فقال: "إن شئت لم أحدث به" فقال: "بل نوليك من ذلك ما توليت" فهذه سنة شهدها عمر، ثم نسيها، حتى أفتى بخلافها، وذكره عمار فلم يذكر، وهو لم يكذب عمارًا، بل أمره أن يحدث به. وأبلغ من هذا أنه خطب الناس فقال: "لا يزيد رجل على صداق أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وبناته إلا رددته" فقالت امرأة: "يا أمير المؤمنين! بل تحرمنا شيئًا أعطانا الله إياه؟ ثم قرأت: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} 1. فرجع عمر إلى قولها، وقد كان حافظًا للآية ولكن نسيها. وكذلك ما روي عن عليًّا ذكر الزبير يوم الجمل شيئًا عهده إليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره حتى انصرف عن القتال، وهذا كثير في السلف والخلف. السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث، تارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريبًا عنده، مثل لفظ: المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة، والملامسة، والمنابذة، والغرر إلى غير ذلك من الكلمات الغريبة التي قد يختلف العلماء في تفسيرها2، وكالحديث المرفوع3: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق". فإنهم قد فسروا الإغلاق بالإكراه ومن يخالفه لا يعرف هذا التفسير وتارة لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يحمله على ما يفهمه في لغته، بناء على أن الأصل بقاء اللغة كما سمع بعضهم آثارًا في الرخصة في النبيذ فظنوه بعض أنواع المسكر لأنه لغتهم وإنما هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد فإنه جاء مفسرًا في أحاديث كثيرة صحيحة، وسمعوا لفظ الخمر في الكتاب والسنة فاعتقدوه عصير العنب المشتد خاصة بناء على أنه كذلك في اللغة، وإن كان قد جاء من الأحاديث أحاديث صحيحة تبين أن الخمر اسم لكل شراب مسكر وتارة لكون اللفظ

_ 1 سورة النساء، الآية: 19. 2 راجع معانيها في "النهاية" لابن الأثير. 3 أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة.

مشتركا أو مجملا أو مترددًا بين حقيقة ومجاز، فيحمله على الأقرب عنده وإن كان المراد هو الآخر كما حمل جماعة من الصحابة في أول الأمر الخيط الأبيض والخيط الأسود على الحبل، وكما حمل آخرون قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم} 1. على اليد إلى الإبط، وتارة لكون الدلالة من النص خفية، فإن جهات دلالات الأقوال متسعة جدًّا يتفاوت الناس في إدراكها وفهم وجوه الكلام بحسب منح الحق سبحانه ومواهبه، ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم ولا يتفطن لكون هذا المعنى داخلا في ذلك العام ثم قد يتفطن له تارة ثم ينساه بعد ذلك، وهذا باب واسع جدًّا لا يحيط به إلا الله، وقد يغلط الرجل فيفهم من الكلام ما لا تحتمله اللغة العربية التي بعث الرسول بها. السبب السابع: اعتقاده أن لا دلالة في الحديث، والفرق بين هذا وبين الذي قبله: أن الأول لم يعرف جهة الدلالة والثاني عرف جهة الدلالة، لكن اعتقد أنها ليست دلالة صحيحة بأن يكون له من الأصول ما يرد تلك الدلالة سواء كانت في نفس الأمر صوابًا أو خطأ مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة وأن المفهوم ليس بحجة وأن العموم الوارد على سبب مقصور على سببه أو أن الأمر المجرد لا يقتضى الوجوب أو لا يقتضي الفور أو أن المعرف باللام لا عموم له، أو أن الأفعال المنفية لا تنفي ذواتها ولا جميع أحكامها، أو أن المتقضى لا عموم له فلا يدعى العموم في المضمرات والمعاني إلى غير ذلك مما يتسع القول فيه فإن شطر أصول الفقه تدخل مسائل الخلاف منه في هذا القسم، وإن كانت الأصول المجردة لم تحط بجميع الدلالات المختلف فيها، وتدخل فيه أفراد أجناس الدلالات هل هي من ذلك الجنس أم لا مثل أن يعتقد أن هذا اللفظ المعين مجمل بأن يكون مشتركًا دلالة تعين أحد معنييه أو غير ذلك. السبب الثامن: اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة مثل معارضة العام بخاص أو المطلق بمقيد أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب أو الحقيقة بما

_ 1 سورة النساء، الآية: 42.

يدل على المجاز إلى أنواع المعارضات. وهو باب واسع أيضًا، فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم. السبب التاسع: اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخة أو تأويله إن كان قابلا للتأويل، بما يصلح أن يكون معارضا بالاتفاق مثل آية أو حديث آخر أو مثل إجماع، وهذا نوعان: "أحدهما" أن يعتقد أن هذا المعارض راجح في الجملة، فيتعين أحد الثلاثة من غير تعيين واحد منها، وتارة يعين أحدها بأن يعتقد أنه منسوخ أو أنه مؤول ثم قد يغلط في النسخ، فيعتقد المتأخر متقدمًا، وقد يغلط في التأويل بأن يحمل الحديث على ما يحتمله لفظه أو هناك ما يدفعه، وإذا عارضه من حيث الجملة فقد لا يكون ذلك المعارض دالًّا وقد لا يكون الحديث المعارض في قوة الأول إسنادًا أو متنًا وتجيء هنا الأسباب المتقدمة وغيرها في الحديث الأول، والإجماع المدعى في الغالب إنما هو عدم العلم بالمخالف، وقد وجدنا من أعيان العلماء من صاروا إلى القول بأشياء متمسكهم فيها عدم العلم بالمخالف مع أن ظاهر الأدلة عندهم يقتضي خلاف ذلك، لكن لا يمكن العالم أن يبتدئ قولًا لم يعلم به قائلا -مع علمه- بأن الناس قد قالوا خلافه حتى إن منهم من يعلق القول فيقول: إن كان في المسألة إجماع فهو أحق ما يتبع، وإلا فالقول عندي كذا وكذا، وذلك مثل من يقول لا أعلم أحدًا أجاز شهادة العبد وقبولها محفوظ عن علي وأنس وشريح وغيرهم، ويقول أجمعوا على أن المعتق بعضه لا يرث، وتوريثه محفوظ عن علي وابن مسعود، وفيه حديث1 حسن عن النبي، ويقول آخر: لا أعلم أحدًا أوجب الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة2 وإيجابها محفوظ عن أبي جعفر الباقر، وذلك أن غاية كثير من العلماء أن يعلم أهل العلم الذين أدركهم في بلاده وأقوال جماعات غيرهم كما تجد كثيرًا من المتقدمين لا يعلم إلا قول المدنيين والكوفيين، وكثيرًا من المتأخرين لا

_ 1 رواه النسائي من حديث ابن عباس بلفظ: "المكاتب يعتق بقدر ما أدى، ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه، ويورث بقدر ما عتق منه" وهو عند أبي داود والترمذي بمعناه. 2 لعله: في غير الصلاة.

يعلم إلا قول اثنين أو ثلاثة من الأئمة المتبوعين، وما خرج عن ذلك فإنه عنده مخالف الإجماع؛ لأنه لا يعلم به قائلا وما زال يقرع سمعه خلافه، فهذا لا يمكنه أن يصير إلى حديث يخالف هذا لخوفه أن يكون هذا خلافًا للإجماع أو لاعتقاده أنه مخالف للإجماع -والإجماع أعظم الحجج- وهذا عذر كثير من الناس في كثير مما يتركونه، وبعضهم معذور فيه حقيقة وبعضهم معذور فيه، وليس في الحقيقة بمعذور وكذلك كثير من الأسباب قبله وبعده. السبب العاشر: معارضته بما يدل على ضعفه أو نسخة أو تأويله مما لا يعتقد غيره، أو جنسه معارض أو لا يكون في الحقيقة معارضًا راجحًا، كمعارضة كثير من الكوفيين الحديث الصحيح بظاهر القرآن، واعتقادهم أن ظاهر القرآن من العموم، ونحوه مقدم على نص الحديث ثم قد يعتقد ما ليس بظاهر ظاهرًا لما في دلالات القول من الوجوه الكثيرة، ولهذا ردوا حديث الشاهد واليمين1، وإن كان غيرهم يعلم أن ليس في ظاهر القرآن ما يمنع الحكم بشاهد ويمين ولو كان فيه ذلك، فالسنة هي المفسرة للقرآن عندهم، وللشافعي في هذه القاعدة كلام معروف، ولأحمد فيها رسالته المشهورة في الرد على من يزعم الاستغناء بظاهر القرآن عن تفسير سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أورد فيها من الدلائل ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، ومن ذلك دفع الخبر الذي هو تخصيص لعموم الكتاب أو تقييد لمطلقة أو فيه زيادة عليه، واعتقاد من يقول ذلك أن الزيادة على النص كتقييد المطلق نسخ، وأن تخصيص العام نسخ وكمعارضه طائفة من المدنيين الحديث الصحيح بعمل أهل المدينة بناء على أنهم مجمعون على مخالفة الخبر، وأن إجماعهم حجة مقدمة على الخبر، كمخالفة أحاديث خيار المجلس بناء على هذا الأصل وإن كان أكثر الناس قد يثبتون أن المدنيين قد اختلفوا في تلك المسألة، وأنهم لو أجمعوا وخالفهم غيرهم لكانت الحجة في الخبر، وكمعارضة قوم من البلدين بعض الأحاديث بالقياس الجلي، بناء على أن القواعد الكلية لا تنقض بمثل هذا الخبر إلى غير ذلك من أنواع المعارضات سواء كان المعارض مصيبًا أو مخطئًا.

_ 1 عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بيمين وشاهد، رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وغيره بمعناه.

"فهذه الأسباب العشرة ظاهرة. وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث، لم نطلع نحن عليها فإن مدارك العلم، واسعة ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالم قد يبدي حجته وقد لا يبديها وإذا أبداها قد تبلغنا وقد لا تبلغ، وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه سواء كانت الحجة صوابًا في نفس الأمر أم لا، لكن نحن وإن جوزنا هذا فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة، وإن كان أعلم إذ تطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعي فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم، والدليل الشرعي يمتنع أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر ورأي العالم ليس كذلك، ولو كان العمل بهذا التجويز جائزًا لما بقي في أيدينا شيء من الأدلة التي يجوز فيها مثل هذا لكن الغرض أنه في نفسه قد يكون معذورًا في تركه له، ونحن معذورون في تركنا لهذا الترك وقد قال سبحانه: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَت} . وقال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} وليس لأحد أن يعارض الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بقول أحد من الناس كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- لرجل سأله من مسألة فأجابه فيها بحديث فقال له: قال أبو بكر، وعمر ... فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون: قال أبو بكر، وعمر، وإذا كان الترك بكونه لبعض هذه الأسباب فإذا جاء حديث صحيح فيه تحليل أو تحريم أو حكم فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له -من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم- يعاقب لكونه حلل الحرام أو حرم الحلال أو حكم بغير ما أنزل الله، وكذلك إن كان في الحديث وعيد على فعل من لعنه أو غضب أو عذاب ونحو ذلك فلا يجوز أن يقول إن ذلك العالم الذي أباح هذا أو فعله داخل في هذا الوعيد، وهذا مما لا نعلم بين الأمة فيه خلافًا إلا شيئًا عن بعض معتزلة بغداد مثل المريسي وإضرابه أنهم زعموا أن المخطئ من

المجتهدين يعاقب على خطئه، وهذا1 لأن لحوق الوعيد لمن فعل المحرم مشروط بعلمه بالتحريم أو بتمكنه من العلم بالتحريم. فإن من نشأ ببادية، أو كان حديث عهد بالإسلام، أو فعل شيئًا من المحرمات، غير عالم بتحريمها لم يأثم ولم يحد، وإن لم يستند في استحلاله إلى دليل شرعي فمن لم يبلغه الحديث المحرم، واستند في الإباحة إلى دليل شرعي أولى أن يكون معذورًا، ولهذا كان هذا مأجورًا محمودًا لأجل اجتهاده قال الله سبحانه: {دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله {وَعِلْمًا} فاختص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالحكم والعلم. وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" فتبين أن المجتهد مع خطئه له أجر وذلك لأجل اجتهاده، وخطؤه مغفور له لأن درك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} وفي الصحيحين عن النبي أنه قال لأصحابه عام الخندق: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فأدركهم صلاة العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة وقال بعضهم: لم يرد منا هذا فصلوا في الطريق فلم يعب واحدة من الطائفتين فالأولون تمسكوا بعموم الخطاب فجعلوا صورة الفوات داخلة في العموم، والآخرون كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم فإن المقصود المبادرة إلى القوم، وهي مسألة اختلف فيها الفقهاء اختلافًا مشهورًا هل يخص العموم بالقياس، ومع هذا فالذين صلوا في الطريق كانوا أصوب، وكذلك بلال -رضي الله عنه- لما باع الصاعين بالصاع أمره النبي برده ولم يرتب على ذلك حكم آكل الربا من التفسيق واللعن والتغليظ لعدم علمه كان بالتحريم، وكذلك عدي بن حاتم وجماعة من الصحابة لما اعتقدوا أن قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَد} معناه الحبال البيض والسود فكان أحدهم يجعل عقالين: أبيض وأسود ويأكل حتى يتبين أحدهما من

_ 1 أي عدم جواز أن يقول إن ذلك العالم إلخ.. ا. هـ.

الآخر، فقال النبي لعدي1: "إن وسادك إذن لعريض، إنما هو بياض النهار وسواد الليل" فأشار إلى عدم فقهه لمعنى الكلام ولم يرتب على هذا الفعل ذم من أفطر في رمضان، وإن كان من أعظم الكبائر بخلاف الذين أفتوا المشجوج في البرد بوجوب الغسل فاغتسل فمات فإنه قال2: "قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العِيِّ السؤال" فإن هؤلاء أخطئوا بغير اجتهاد إذ لم يكونوا من أهل العلم وكذلك لم يوجب على أسامة بن زيد قودًا ولا دية ولا كفارة لما قتل الذي قال: "لا إله إلا الله" في غزوة الحرقات3 فإنه كان معتقدًا جواز قتله بناء على أن هذا الإسلام ليس بصحيح مع أن قتله حرام، وعمل بذلك السلف وجمهور الفقهاء في أن ما استباحه أهل البغي من دماء أهل العدل بتأويل سائغ لم يضمن بقود، ولا دية ولا كفارة وإن كان قتلهم وقتالهم محرمًا، وهذا الشرط الذي ذكرناه في لحوق الوعيد لا يحتاج أن يذكر في كل خطاب لاستقرار العلم به في القلوب كما أن الوعد على العمل مشروط بإخلاص العمل لله، وبعدم حبوط العمل بالردة ثم إن هذا الشرط لا يذكر في كل حديث فيه وعد ثم حيث قدر قيام الموجب للوعيد فإن الحكم يتخلف عنه الوعيد لمانع، وموانع لحوق الوعيد متعددة؛ منها التوبة ومنها الاستغفار ومنها الحسنات الماحية للسيئات ومنها بلاء الدنيا ومصائبها ومنها شفاعة شفيع مطاع ومنها رحمة أرحم الراحمين، فإذا عدمت هذه الأسباب كلها -ولن تعدم إلا في حق من عتا وتمرد وشرد على الله شراد البعير على أهله- فهنالك يلحق الوعيد به وذلك أن حقيقة الوعيد بيان أن هذا العمل سبب في هذا العذاب فيستفاد من ذلك تحريم الفعل وقبحه أما أن كل شخص قام به ذلك السبب يجب وقوع ذلك المسبب به فهذا باطل قطعًا لتوقف ذلك المسبب على وجود الشرط، وزوال جميع الموانع وإيضاح هذا أن من ترك العمل بحديث فلا يخلو من ثلاثة أقسام: "إما أن يكون تركًا جائزًا باتفاق المسلمين، كالترك في حق من لم يبلغه ولا قصر في الطلب مع حاجته إلى الفتيا أو الحكم، كما ذكرناه عن الخلفاء الراشدين وغيرهم،

_ 1 أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن عدي. 2 رواه أبو داود والدارقطني من حديث جابر، وله تتمة. 3 أخرجه الشيخان وغيرهما.

فهذا لا يشك مسلم أن صاحبه لا يلحقه من معرة الترك شيء. "وإما أن يكون تركا غير جائز. فهذا لا يكاد يصدر من الأئمة إن شاء الله تعالى لكن الذي قد يخاف على بعض العلماء، أن يكون الرجل قاصرا في درك تلك المسألة فيقول مع عدم أسباب القول، وإن كان له فيها نظر واجتهاد، أو يقصر في الاستدلال فيقول قبل أن يبلغ النظر نهايته مع كونه متمسكًا بحجة أو يغلب عليه عادة أو غرض بمنعه من استيفاء النظر لينظر فيما يعارض ما عنده، وإن كان لم يقل إلا بالاجتهاد، والاستدلال فإن الحد الذي يجب أن ينتهي إليه الاجتهاد قد ينضبط للمجتهد، ولهذا كان العلماء يخافون مثل هذا خشية أن لا يكون الاجتهاد المعتبر قد وجد في تلك المسألة المخصوصة فهذه ذنوب، لكن لحوق عقوبة الذنب بصاحبه إنما تنال لمن لم يتب، وقد يمحوها الاستغفار والإحسان والبلاء والشفاعة والرحمة ولم يدخل في هذا من يغلبه الهوى ويصرعه حتى ينصر ما يعلم أنه باطل أو من يجزم بصواب قول أو خطئة من غير معرفة منه بدلائل ذلك القول نفيًا وإثباتًا فإن هذين في النار كما قال النبي -صلى اله عليه وسلم1: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة؛ فأما الذي في الجنة فرجل علم الحق فقضى به، وأما اللذان في النار فرجل قضى للناس على جهل ورجل علم الحق وقضى بخلافه" والمفتون كذلك لكن لحوق الوعيد للشخص المعين أيضًا له موانع كما بيناه فلو فرض وقوع بعض هذا من بعض الأعيان من العلماء المحمودين عند الأمة مع أن هذا بعيد أو غير واقع لم يعدم أحدهم هذه الأسباب، ولو وقع لم يقدح في إمامتهم على الإطلاق فإنا لا نعتقد في القوم العصمة، بل نجوز عليهم الذنوب ونرجو لهم مع ذلك أعلى الدرجات لما اختصهم الله به من الأعمال الصالحة والأحوال السنية، وأنهم لم يكونوا مصرين على ذنب، وليسوا بأعلى درجة من الصحابة -رضي الله عنهم- والقول فيهم كذلك فيما اجتهدوا فيه من الفتاوى والقضايا والدماء التي كانت بينهم وغير ذلك، ثم إنهم مع العلم بأن التارك الموصوف معذور بل مأجور لا يمنعنا أن نتبع الأحاديث الصحيحة التي لم نعلم لها معارضا يدفعها، وأن نعتقد وجوب العمل بها على الأمة ووجوب تبليغها، وهذا مما لا يختلف العلماء فيه" انتهى المقصود من هذا البحث من فتوى شيخ الإسلام، ولها تتمة بديعة فلتنظر.

_ 1 رواه ابن ماجه وأبو داود ومن حديث بريدة بلفظ آخر.

الخاتمة في فوائد متنوعة يضطر إليها الأثرى

الخاتمة في فوائد متنوعة يضطر إليها الأثري: 1- سبيل الترقي في علوم الدين: قال الإمام تقي الدين رحمه الله في إحدى وصاياه: "جماع الخير أن يستعين بالله سبحانه وتعالى في تلقي العلم المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه الذي يستحق أن يسمى علمًا، وما سواه إما أن يكون علمًا ولا يكون نافعًا، وإما أن لا يكون علمًا وإن سُمي به، ولئن كان علمًا نافعًا فلأن يكون في ميراث محمد ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه، وليكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه، فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله تعالى ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك، وليجهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور من النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا اشبته عليه مما قد اختلف في الناس فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول إذا قام يصلي من الليل: "الله رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات، والأرض عالم الغيث والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" فإن الله تعالى قال فيما رواه عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم". ا. هـ.

قاعدة المحققين في مسائل الدين وعلماء الفرق

2- قاعدة المحققين في مسائل الدين وعلماء الفرق: قال المحقق ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين: "إن عادتنا في مسائل الدين كلها، دقها وجلها، أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف الحق لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت عليه، ونلقى الله به ولا قوة إلا بالله". ا. هـ. وقال حكيم مصره بل عصره الشيخ محمد عبده مفتي مصر، في كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية في مبحث: "سماحة الإسلام" ما لفظه: "آخذ بيد القارئ الآن وأرجع به إلى ما مضى من الزمان، وأقف به وقفه بين يدي خلفاء بني أمية والأئمة من بني العباس ووزرائهم والفقهاء والمتكلون والمحدثون والأئمة المجتهدون من حولهم، والأدباء والمؤرخون والأطباء والفلكيون والرياضيون والجغرافيون والطبيعيون، وسائر أهل النظر من كل قبيل مطيفون بهم، وكل مقبل على عمله فإذا فرغ عامل من العمل أقبل على أخيه ووضع يده في يده يصافح الفقية المتكلم والمحدث الطبيب والمجتهد الرياضي والحكم، وكل يرى في صاحبه عونًا على ما يشتغل هو به، وهكذا أدخُلُ به بيتًا من بيوت العلم فأجد جميع هؤلاء سواء في ذلك البيت يتحادثون ويتباحثون، والإمام البخاري حافظ السنة بين يدي الحسن البصري شيخ السنة من التابعين يتلقى عنه، وقد سئل الحسن عنه فقال للسائل: "لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته إن قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له ما رأيت ظاهرًا أشبه بباطن منه، ولا باطنًا أشبه بظاهر منه" بل أرفع بصري فأجد الإمام أبا حنيفة أمام الإمام زيد بن علي صاحب مذهب الزيدية من الشيعة يتعلم منه أصول العقائد والفقه، ولا يجد أحدهم من الأخر إلا ما يجد

صاحب الرأي في حادثة ممن ينازعه فيه اجتهادًا في بيان المصلحة، وهما من أهل بيت واحد أمر به بين تلك الصفوف التي كانت تختلف وجهتها في الطلب وغايتها واحدة، وهي العلم، وعقيدة كل واحد منهم أن: "فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة"1 كما ورد في بعض الأحاديث. ثم قال: الخلفاء أئمة في الدين مجتهدون، وبأيديهم القوة، وتحت أمرهم الجيش، والفقهاء والمحدثون والمتكلمون والأئمة المجتهدون الآخرون، هم قادة أهل الدين ومن جند الخلفاء الدين في قوته والعقيدة في أوج سلطانها، وسائر العلماء ممن ذكرنا بعدهم يتمتعون في أكنافهم بالخير والسعادة ورفه العيش وحرية الفكر، لا فرق في ذلك بين من كان من دينهم، ومن كان من دين آخر فهناك يشير القارئ المنصف إلى أولئك المسلمين، وأنصار ذلك الدين، ويقول ها هنا يطلق اسم التسامح مع العلم في حقيقته ها هنا يوصف الدين بالكرم، والحلم ها هنا يعرف كيف يتفق الدين مع المدينة عن هؤلاء العلماء الحكماء تؤخذ فنون الحرية في النظر، ومنهم تهبط روح المسألة بين العقل الوجدان أو بين العقل والقلب، كما يقولون يرى القارئ أنه لم يكن جلاد بين العلم والدين، وإنما كان بين الله أهل العلم بين أهل الدين شيء من التخالف في الآراء شأن الأحرار في الأفكار لا الذين أطلقوا من غل التقليد، وعوفوا من علة التقليد، ولم يكن يجري فيما بينهم اللمز والتنابر بالألقاب، فلا يقول أحد منهم لآخر إنه زنديق أو كافر أو مبتدع أو ما يشبه ذلك، ولا تتناول أحدًا منهم يدٌ بأذى إلا إذا خرج عن نظام الجماعة، وطلب الإجلال بأمن العامة فكان كالعضو المجذم فيقطع ليذهب ضرره عن البدن كله. ثم قال بعد ذلك تحت عنوان: "ملازمة العلم للدين، وعدوى التعصب في المسلمين" ما صورته "متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق، ورمى زيد بأنه زنديق؟ أشرنا فيما سبق إلى مبدأ هذا المرض، ونقول الآن: إن ذلك بدأ فيهم عندما بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله -تلك الفتن التي كان يثيرها أعداء الدين في الشرق، وفي الغرب لخفض سلطانه وتوهين أركانه- وتصدر للقول في الدين برأيه من لم تمتزج روحه

_ 1 أخرجه أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة ورمز له السيوطي بالضعف.

بروح الدين، وأخذ المسلمون يظنون أن من البدع في الدين ما يحسن إحداثه لتعظيم شأنه تقليدًا لمن كان بين أيديهم من الأمم المسيحية وغيرها، وأنشئوا ينسون ماضي الدين، ومقالات سلفهم فيه ويكتفون برأي من يرونه من المتصدرين المتعالين، وتولى شئون المسلمين جهالهم وقام بإرشادهم في الأغلب ضلالهم في أثناء ذلك حدث الغلو في الدين، واستعرت نيران العداوات بين النظار فيه، وسهل كل منهم لجهله بدينه أن يرمي الآخر بالمروق منه لأدنى سبب، وكلما ازدادوا جهلًا بدينهم ازدادوا غلوا فيه بالباطل، ودخل العلم والفكر والنظر -وهي لوازم الدين الإسلامي- في جملة ما كرهوه وانقلب عندهم ما كان واجبًا من الدين محظورا فيه".

وصية الغزالى في معاملة المتعصب

3- وصية الغزالي في معاملة المتعصب: قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه فيصل التفرقة، في تتمة الفصل الأول، بعد حكمه على من يتخبط في الجواب، ويعجز عن كشف الغطاء بأنه ليس من أهل النظر، وإنما هو مقلد ما نصه: "وشرط المقلد أن يسكت ويسكت عنه؛ لأنه قاصر عن سلوك طريق الحجاج، ولو كان أهلًا له كان مستتبعا لا تابعا، وإماما لا مأمومًا، فإن خاض المقلد في المحاجة فذلك منه فضول، والمشتغل به صار كضارب في حديد بارد، وطالب لصلاح الفاسد، وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟ ". وقال رحمه الله في موضع آخر منه: "فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير والتضليل، فأعرض عنه، ولا تشغل به قلبك ولسانك، فإن التحدي بالعلوم غريزة في الطبع لا يصبر عنه الجهال ولأجله كثر الخلاف بين الناس، ولو ينكث من الأيدي من لا يدري لقل الخلاف بين الخلق". أقول: هذا بمعنى قول سقراط: لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف. وقال الغزالي قدس سره في كتابه "المنقذ من الضلال"1: "لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته؛ إذ من شرط المقلد أن لا يعلم أنه مقلد، فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده وهو شعب لا يرأب، وشعث لا يلم بالتلفيق، والتأليف إلا أن يذاب بالنار، ويستأنف لها صيغة أخرى مستجدة". ا. هـ.

_ 1 ص76، طبعة مكتب النشر العربي الثانية، دمشق 1353، مطبعة ابن زيدون.

بيان من يسلم من الأغلاط

4- بيان من يسلم من الأغلاط: قال الإمام السيد مرتضى اليماني في كتابه إيثار الحق: "واعلم أنه لا يكاد يسلم من هذه الأغلاط إلا أحد رجلين؛ إما رجل ترك البدعة كلها، والتمذهب والتقاليد والاعتزاء إلى المذاهب والأخذ من التعصب بنصيب، وبقي مع الكتاب والسنة كرجل نشأ قبل حدوث المذاهب، ولم يعبر عن الكتاب والسنة بعبارة منه مبتدعة، واستعان بالله وأنصف ووقف في مواقف التعارض والاشتباه، ولم يدع علم ما لم يعلم، ولا تكلف ما لا يحسن، وهذا هو مسلك البخاري، وأئمة السنة غالبًا في ترجمة تصدير الأبواب، وفي العقائد بالآيات القرآنية والأخبار النبوية، كما صنع في أبواب القدر وكتاب التوحيد والرد على الجهمية وأبواب المشيئة، ورجل أتقن العلمين: العقلي والسمعي، وكان من أئمتهما معًا بحيث يرجع إليه أئمتهما في وقائعهما ومشكلاتهما مع حسن قصد وورع وإنصاف وتحر للحق فهذا لا تخلف عنه هداية الله وإعانته، وأما من عادى أحد هذين العلمين، وعادى أهله ولم يكن على الصفة الأولى من لزوم ما يعرف وترك ما لا يعرف، فإنه لا بد أن تدخل عليه البدع والأغلاط والشناعات"

تتمة في مقصدين

تتمة في مقصدين: 1- المقصد الأول: في أن طلب الحديث أن يتقى به الله عز وجل، وأن طلب الشارع للعمل لكونه وسيلة إلى التعبد به. قال العلامة أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات في مقدمتها السابعة: "كل علم شرعي، فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع". ثم ساق الأدلة على ذلك، ومنها أن الشرع إنما جاء بالتعبد وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وجود الكلام في ذلك على عادته رحمه الله ثم قال في المقدمة الثامنة: "العلم الذي هو العلم المعتبر شرعًا أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريًا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعًا أو كرهًا، ومعنى هذه الجملة أن أصل العلم في طلبه، وتحصيله على ثلاثة مراتب: المرتبة الأولى: الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبه التقليد فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به فبمقتضى الحمل التكليفي، والحث الترغيبي والترهيبي، وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف، فلا يكتفي العلم ها هنا بالحمل دون أمر آخر خارج مقوله من زجر أو قصاص أو حد أو تعزير أو ما جرى هذا المجرى، ولا احتياج ها هنا إلى إقامة برهان على ذلك إذ التجربة الجارية في الخلق قد أعطت هذه المرتبة برهانًا لا يحتمل النقيض بوجه. والمرتبة الثانية: الواقفون منه على براهينه ارتفاعًا عن حضيض التقليد المجرد، واستبصارًا فيه، حسبما أعطاه شاهد النقل الذي يصدقه العقل تصديقا يطمئن إليه ويعتمد عليه إلا أنه بعد منسوب إلى العقل لا إلى النفس بمعنى أنه لم يصر كالوصف الثابت للإنسان

وإنما هو كالأشياء المكتسبة، والعلوم المحفوظة التي يتحكم عليها العقل ويعتمد في استجلابها حتى تصير من جملة مودعاته. فهؤلاء إذا دخلوا في العمل خف عليهم خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى، بل لا نسبة بينهما؛ إذ هؤلاء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا، ومن جملة التكذيب الخفي العمل على مخالفة العلم الحاصل لهم، ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف ربما كانت أوصافهم الثابته من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة أقوى الباعثين، فلا بد من الافتقار إلى أمر زائد من خارج غير أنه يتسع في حقهم فلا يقتصر فيه على مجرد الحدود والتعزيرات، بل ثم أمور أخرى كمحاسن العادات، ومطالبة المراتب التي بلغوها بما يليق بها، وأشباه ذلك، وهذه المرتبة أيضًا يقوم البرهان عليها من التجربة إلا أنها أخفى مما قبلها فيحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية، والأخذ في الإنصافات السلوكية. والمرتبة الثالثة: الذين صار لهم العلم وصفًا من الأوصاف الثابتة، بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأولى أو تقاربها، ولا ينظر إلى طريق حصولها، فإن ذلك لا يحتاج إليه، فهؤلاء لا يخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق، بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية وأوصافهم الخلقية، وهذه المرتبة هي المترجم لها، والدليل على صحتها من الشريعة كثير كقوله تعالى1: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} ثم قال1: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} الآية. فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم لا من أجل غيره. وقال تعالى2: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} والذين يخشون ربهم هم العلماء لقوله3: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وقال تعالى4: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} الآية. ولما كان السحرة قد بلغوا في علم السحر مبلغ

_ 1 الزمر: 9. 2 الزمر: 23. 3 فاطر: 28. 4 المائدة: 86.

الرسوخ فيه، وهو معنى هذه المرتبة بادروا إلى الانقياد والإيمان حين عرفوا من علمهم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق ليس بالسحر ولا الشعوذة، ولم يمنعهم من ذلك التخويف ولا التعذيب الذي توعدهم به فرعون وقال تعالى1: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} فحصر تعقلها في العالمين. وهو قصد الشارع من ضرب الأمثال، وقال2: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} ثم وصف أهل العلم بقوله3: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّه} إلى آخر الأوصاف وحاصلها يرجع إلى أن العلماء هم العاملون وقال في أهل الإيمان -والإيمان من فوائد العلم- {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم} 4 إلى أن قال5: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} . ومن هذا قرن العلماء في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} 6 فقال تعالى7: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فشهادة الله تعالى وفق علمه ظاهرة التوافق إذ التخالف محال وشهادة الملائكة على وفق ما علموا صحيحة لأنهم محفوظون من المعاصي وأولو العلم أيضًا كذلك من حيث حفظوا بالعلم، وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- إذا نزلت عليهم آية فيها تخويف أحزنهم ذلك وأقلقهم حتى يسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- كنزول آية البقرة8: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوه} الآية وقوله9: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} الآية، وإنما القلق والخوف من آثار العلم بالمنزل والأدلة أكثر من إحصائها هنا وجميعها يدل على أن العلم المعتبر هو الملجئ إلى العمل به، فإن قيل هذا غير ظاهر من وجهين: أحدهما: أن الرسوخ في العلم، إما أن يكون صاحبه محفوظا به من المخالفة أو لا؛ فإن لم يكن كذلك فقد استوى أهل هذه المرتبة مع من قبلهم ومعناه أن العلم بمجرده

_ 1 الحشر: 21. 2 المائدة: 67. 3 الرعد: 22. 4 الأنفال: 2. 5 الأنفال: 4. 6 التحريم: 6. 7 آل عمران: 18. 8 البقرة: 284. 9 الأنعام: 82.

غير كاف في العمل به، ولا ملجئ إليه؛ وإن كان محفوظًا به من المخالفة لزم أن لا يعصي العالم إذا كان من الراسخين فيه، لكن العلماء تقع منهم المعاصي ما عدا الأنبياء عليهم السلام، ويشهد لهذا في أعلى الأمور قوله تعالى في الكفار1: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} . وقال2: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وقال3: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} وقال4: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} ثم قال: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} وسائر ما في هذا المعنى فأثبت لهم المعاصي والمخالفات مع العلم فلو كان العلم صادًّا عن ذلك لم يقع. والثاني: ما جاء في ذم العلماء السوء وهو كثير، ومن أشد ما فيه قوله عليه السلام5: "إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه" وفي القرآن6: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَاب} وقال7: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية. وقال8: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الآية. وحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة والأدلة فيه كثيرة، وهو ظاهر في أن أهل العلم غير معصومين بعلهم، ولا هو ما يمنعهم عن إتيان الذنوب فكيف يقال إن العلم مانع من العصيان فالجواب عن الأول أن الرسوخ في العلم يأبى للعالم أن يخالفه بالأدلة المتقدمة، وبدليل التجربة العادية لأن ما صار كالوصف الثابت لا يصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادًا فإن تخلف فعلى أحد ثلاثة أوجه

_ 1 النمل: 14. 2 البقرة: 146. 3 المائدة: 46. 4 البقرة: 102. 5 رواه الطبراني في الأصغر، وابن عدي في الكامل، والبيهقي في شعب الإيمان، قال المناوي: ضعفه الترمذي وغيره. 6 البقرة: 4. 7 البقرة: 59. 8 البقرة: 174.

الأول: مجرد العناد، فقد يخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي، فغيره أولى؛ وعلى ذلك دل قوله تعالى1: {وَجَحَدُوا بِهَا} الآية وقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} وأشباه ذلك، والغالب على هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوى من حب دنيا أوجاه أو غيره ذلك، بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب حتى لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرا. الثاني: الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر، فقد يصير العالم بدخوله الغفلة غير عالم وعليه يدل عند جماعة قوله تعالى2: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} الآية. وقال تعالى3: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} ومثل هذا الوجه لا يعترض على أصل المسألة كما لا يعترض نحوه على سائر الأوصاف الجبلية فقد لا تبصر العين ولا تسمع الأذن لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حتى يصلب، ومع ذلك لا يقال إنه غير مجبول على السمع والإبصار فما نحن فيه كذلك. الثالث: كونه ليس من أهل هذه المرتبة، فلم يصر العلم له وصفًا أو كالوصف مع عده من أهلها وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه أو اعتقاد غيره فيه، ويدل عليه قوله تعالى4: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّه} . وفي الحديث5: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس" إلى أن قال: "اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" وقوله6: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرفة أشدها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور بآرائهم" الحديث.

_ 1 البقرة: 109. 2 النساء: 16. 3 الأعراف: 200. 4 القصص: 4، 5. 5 رواه الشيخان والترمذي. 6 رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة.

فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن الجهل علمًا، فليسوا من الراسخين في العلم ولا ممن صار لهم كالوصف، وعند ذلك لا حفظ لهم في العلم فلا اعتراض بهم فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة فهو الداخل تحت حفظ العلم حسبما نصته الأدلة، وفي هذا المعنى من كلام السلف كثير وقد رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال1: "إن لكل شيء إقبالًا وإدبارًا وإن لهذا الدين إقبالًا وإدبارًا، وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به حتى إن القبيلة لتتفقه من عند أسرها، أو قال آخرها حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان فهما مقموعان ذليلان إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا واضطهدا" الحديث وفي الحديث2: "سيأتي على أمتي زمان يكثر القراء ويقل الفقهاء ويقبض العلم ويكثر الهرج" إلى أن قال: "ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المنافق المشرك يمثل ما يقوله" وعن علي: "يا حملة العلم اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل ووافق عليه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم تخالف سريرتهم علانيتهم ويخالف علمهم عملهم يقعدون حلقا يباهي بعضهم بعضًا حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم تلك إلى الله عز وجل" وعن ابن مسعود: "كونوا للعلم وعاة ولا تكونا له رواة فإنه قد يوعى، ولا يروى وقد يروى ولا يوعى" وعن أبي الدرداء: "لا تكون تقيًّا حتى تكون عالمًا، ولا تكون بالعلم جميلًا حتى تكون به عاملًا" وعن الحسن: "العالم الذي وافق علمه عمله ومن خالف علمه عمله فذلك راوية حديث سمع شيئًا فقاله". وقال الثوري: "العلماء إذا علموا عملوا فإذا عملوا شغلوا فإذا شغلوا فقدوا فإذا فقدوا طلبوا فإذا طلبوا هربوا" وعن الحسن قال: "الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل" وعنه في قول الله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُم} قال: علمتم فعلتم ولم تعملوا فوالله ما ذلكم بعلم! وقال الثوري: "العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل" وهذا تفسير معنى كون العلم هو الذي يلجئ إلى العمل، وقال الشعبي:

_ 1 رواه أبو السني وأبو نعيم عن أبي أمامة. 2 أخرجه الطبراني في الأوسط والحاكم عن أبي هريرة.

"كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به" ومثله عن وكيع بن الجراح، وعن ابن مسعود: "ليس العلم عن كثرة الحديث إنما العلم خشية الله" والآثار في هذا النحو كثيرة، وبما ذكر يتبين الجواب عن الإشكال الثاني فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون، وإذا لم يكونوا كذلك فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم، وإنما هم رواة والفقه فيما رووا أمر آخر أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب، والعياذ بالله على أن المثابرة على طلب العلم والتفقه فيه وعدم اجتزاء باليسير منه يجر إلى العمل به ويلجئ إليه كما تقدم بيانه هو معنى قول الحسن: "كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخره"، وعن معمر أنه قال: "كان يقال من طلب العلم لغير الله يأبى عليه العلم حتى يصيره إلى الله"، وعن حبيب بن أبي ثابت: "طلبنا هذا الأمر، وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعد" وعن الثوري قال: "كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخره" وهو معنى قوله في كلام آخر: "كنت أغبط الرجل يجتمع حوله، ويكتب عنه فلما ابتليت به وددت أني نجوت منه كفافا لا علي ولا لي" وعن أبي الوليد الطيالسي قال: "سمعت ابن عيننة منذ أكثر من ستين سنة يقول: طلبنا هذا الحديث لغير الله فأعقبنا الله ما ترون"، وقال الحسن: "لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله وما عنده فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده" فهذا أيضًا مما يدل على صحة ما تقدم. ثم قال الشاطبي بعد ذلك: "ويتصدى النظر هنا في تحقيق هذه المرتبة وما هي، والقول في ذلك على الاختصار أنها أمر باطن، وهو الذي عبر عنه بالخشية في حديث ابن مسعود، وهو راجع إلى معنى الآية. وعنه عبر في الحديث في أول ما يرفع من العلم الخشوع1، وقال مالك: "ليس العلم بكثرة الرواية ولكنه نور يجعله الله في القلوب" وقال أيضًا: "الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء وليس بكثرة المسائل، ولكن عليه علامة ظاهرة وهو التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة وبالله التوفيق". ا. هـ.

_ 1 روى في التيسير عن الترمذي حديثًا طويلًا جاء فيه: أول علم يرفع من الناس الخشوع.

وقال الحافظ السخاوي في فتح المغيث، تحت قول العرافي: "واعمل بما تسمع في الفضائل" ما صورته: "لحديث مرسل قال رجل: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما ينفي عني حجة العلم قال: "العمل"، ولقول مالك بن مغول في قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِم} قال: تركوا العمل به ولقول إبراهيم الحربي إنه ينبغي للرجل إذا سمع شيئًا في آداب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتمسك به ولأن ذلك سبب ثبوته وحفظه ونموه والاحتياج فيه إليه، ويروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم" وعن أبي الدرداء قال: من عمل بعشر ما يعلم علمه الله ما يجهل، وعن ابن مسعود أنه قال: ما عمل أحد بما علمه الله إلا احتاج الناس إلى ما عنده. وقال النووي في الأذكار: ينبغي لما بلغه شيء من فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرة ليكون من أهله ولا ينبغي أن يتركه مطلقا، بل يأتي بما تيسر منه لقوله -صلى الله عليه وسلم1: "إذا أمرتكم بشيء فافعلوا منه ما استطعتم". قلت: ويروى في الترغيب في ذلك عن جابر مرفوع لفظه: "من بلغه عن الله عز وجل شيء فيه فضيلة فأخذ به إيمانا به ورجاء ثوابه أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك"، وله شاهد قال أبو عبد الله محمد بن خفيف ما سمعت شيئًا من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا واستعملته حتى الصلاة على أطراف الأصابع، وهي صعبة. وقال الإمام أحمد: "ما كتبت حديثًا إلا وقد عملت به حتى مر بي في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى أبا طيبة دينارًا فأعطيت الحجام دينارًا حين احتجمت ويقال: "اسم أبي طيبة دينار"، وحكاه ابن عبد البر ولا يصح وعن أبي عصمة عاصم بن عصام البيهقي قال: بت ليلة عند أحمد فجاء بالماء فوضعه فلما أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل، وقال أحمد في قصة: صاحب الحديث عندنا من يستعمل الحديث، وعن الثوري قال: "إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل"

_ 1 تقدم تخريجه.

وصلى رجل ممن يكتب الحديث بجنب ابن مهدي فلم يرفع يديه فلما سلم قال له: ألم تكتب عن ابن عيينة حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه في كل تكبيرة؟ قال: نعم! قال: فماذا تقول لربك إذا لقيك في تركك لهذا وعدم استعماله، وعن أبي جعفر أحمد بن حمدان بن علي النيسابوري قال: كنت في مجلس أبي عبد الله المروزي فلما حضرت الظهر، وأذن أبو عبد الله خرجت من المسجد فقال: إلى أين يا أبا جعفر قلت: أتطهر للصلاة قال: كان ظبي بك غير هذا يدخل عليك وقت الصلاة، وأنت على غير طهارة، وعن أبي عمرو محمد بن حمدان قال: صلى بنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بمسجده وعليه إزار ورداء فقلت لأبي: يا أبتا هو محرم فقال: لا، ولكنه يسمع مني المستخرج الذي خرجته على مسلم فإذا مرت به سنة لم يكن استعملها فيما مضى أحب أن يستعملها في يومه وليلته، وأنه سمع من جملة ما قرئ عليَّ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في إزار ورداء فأحب أن يستعمل هذه السنة قبل أن يصبح، وعن بشر بن الحارث أنه قال: يا أصحاب الحديث أتؤدون زكاة الحديث فقيل له: يا أبا نصر، وللحديث زكاة قال: نعم إذا سمعتم الحديث فما كان فيه من عمل أو صلاة أو تسبيح استعملتموه، وفي لفظ عنه رويناه بعلو في جزء للحسن بن عبد الملك أنه لما قيل له: كيف تؤدى زكاته قال: اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث، وروينا عن أبي قلابة قال: إذا أحدث الله لك علما فأحدث له عبادة، ولكن إنما همك أن تحدث به الناس، وعن الحسن البصري قال: كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وبصره ويده.

2- المقصد الثاني: فيما روي في مدح رواية الحديث ورواته من بدائع المنظومات: قال الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي المؤرخ الشهير: واظب على جمع الحديث وكتبه ... واجهد على تصحيحه في كتبه واسمعه من أربابه نقلًا كما ... سمعوه من سمعوه من أشياخهم تسعد به واعرف ثقات رواته من غيرهم ... كيما تميز صدقه من كذبه فهو المفسر لكتاب وإنما ... نطق النبي لنا به عن ربه وتفهم الأخبار تعرف حله ... من حرمه مع فرضه من ندبه وهو المبين للعباد بشرحه ... سير النبي المصطفى مع صحبة وتتبع العالي الصحيح فإنه ... قرب إلى الرحمن تحظ بقربه وتجنب التصحيف فيه فربما ... أدى إلى تحريفه بل قلبه واترك مقالة من لحاك بجهله ... عن كتبه أو بدعة في قلبه فكفى المحدث رفعة أن يرتضي ... ويعد من أهل الحديث وحزبه وقال رحمه الله تعالى: لقول الشيخ: "أنبأني فلان، ... وكان من الأئمة عن فلان" إلى أن ينتهي الإسناد أحلي ... لقلبي من محادثة الحسان ومشتمل على صوت فصيح ... ألذ إلي من صوت القيان وتزييني الطروس بنقش نقس ... أحب إلى من نقش الغوالي وتخريج الفوائد والأمالي ... وتسطير الغرائب والحسان وتصحيح العوالي من العوالي ... بنيسابور أو في أصفهان أحب إليَّ من أخبار ليلي ... وقيس بن الملوح والأغاني فإن كتابة الأخبار ترقي ... بصاحبها إلى غرف الجنان

وحفظ حديث خير الخلق مما ... ينال به الرضا بعد الأمان فأجر العلم ينمو كل حين ... وذكر المرء يبقي وهو فاني وقال الحافظ البرقاني رحمه الله تعالى: أعلل نفسي بكتب الحديـ ... ـث وأجمل فيه لها موعدا وأشغل نفسي بتصنيفه ... وتخريجه أبدًا سرمدا فطورًا أصنفة في الشيو ... خ وطورًا أصنفه مسندا وأقفو البخاري فيما نحا ... وصنفه جاهدًا مجهدا ومسلمًا إذ كان زين الأنا ... م بتصنيفه مسلمًا مرشدًا وما لي فيه سوى أنني ... أراه هوى وافق المقصدا وأرجو الثواب بكتب الصلا ... ة على السيد المصطفي أحمدا وأسأل ربي إله العبا ... د جربًا على ماله عودا وقال الحميدي صاحب: "الجمع بين الصحيحين" من قصيدة وافرة: ولو رواه الدين ضاعت وأصبحت ... معالمه في الآخرين تبيد همو حفظو الآثار من كل شبهة ... وغيرهمو عما افتنوه رقود وهم هاجروا في جمعها وتبادروا ... إلى كل أفق والمرام كؤود" وقاموا بتعديل الرواة وجرحهم ... قيام صحيح النقل وهو حديد بتبليغهم صحت شرائع ديننا ... حدود تحروا حفظها وعهود وصح لأهل النقل منها احتجاحهم ... فلم يبق إلا عاند وحقود ومما ينسب للإمام الشافعي -رضي الله عنه: كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه: "قال حدثنا" ... وما سواه فوسواس الشياطين

وأنشد أبو الظهير رحمه الله تعالى: إذا رمت أن تتوخى الهدى ... وأن تأتي الحق من بابه فدع كل قول ومن قاله ... لقول النبي وأصحابه فلم تتج من محدثات الأمور ... بغير الحديث وأربابه وقال الإمام شمس الدين ابن القيم الدمشقي في الكافية الشافية: يا من يريد نجاته يوم الحسا ... ب من الجحيم وموقد النيران ابتع رسول الله في الأقوال والـ ... أعمال لا تخرج عن القرآن وخذ الصحيحين اللذين هما لعقـ ... ـد الدين والإيمان واسطتان واقرأهما بعد التجرد من هوى ... وتعصب وحمية الشيطان واجعلهما حكمًا ولا تحكم على ... ما فيهما أصلا بقول فلان واجعل مقالته كبعض مقالة الـ ... أشباح تنصرها بكل أوان وانصر مقالته كنصرك للذي ... قلدته من غير ما برهان قد رسول الله عندك وحده ... والقول منه إليك ذو تبيان ماذا ترى فرضًا عليك معينًا ... إن كنت ذا عق ذو إيمان عرض الذي قالوا على أقواله ... أو عكس ذاك فذانك الأمران هي مفرق الطرقات بين طريقنا ... وطريق أهل الزيغ والعدوان قدر مقالات العباد جميعهم ... عدمًا وراجع مطلع الإيمان واجعل جلوسك بين صحب محمد ... وتلق معهم عنه بالإحسان وتلق عنهم ما تلقوه همو ... عنه من الإيمان والعرفان أفليس في هذا بلاغ مسافر ... يبغي الإله وجنة الحيوان لولا التنافس بين هذا الخلق ما ... كان التفرق قط في الحسبان فالرب رب واحد وكتابه ... حق وفهم الحق منه دان

ورسوله قد أوضح الحق المبيـ ... ـن بغاية الإيضاح والتبيان ما ثم أوضح من عبارته فلا ... يحتاج سامعها إلى تبيان والنصح منه فوق كل نصيحة ... والعلم مأخوذ عن الرحمن فلأي شي يعدل الباغي الهدى ... عن قوله لولا عمي الخذلان فالنقل عنه مصدق والقول من ... ذي عصمة ما عندنا قولان والعكس عند سواه في الأمرين يا ... من يهتدي هل يستوى النقلان تالله قد رح الصياح لمن له ... عينان نحو الفجر ناظرتان وأخو العماية في عمايته يقو ... ل: الليل بعد أيستوى الرجلان تالله قد رفعت له الأعلام إن ... كنت المشمر نلت دار أمان وقال الحافظ ابن عبد البر. مقالة ذي نصح وذات فوائد ... إذا من ذوي الألباب كان استماعها عليكم بآثار النبي فإنها ... من أفضل أعمال الرجال اتباعها وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: هينئًا لأصحاب خير الورى ... وطوبى لأصحاب أخباره أولئك فازوا بتذكيره ... ونحن سعدنا بتذكاره وهم سبقونا إلى نصره ... وها نحن أتباع أنصاره ولما حرمنا لقا عينه ... عكفنا على حفظ آثاره عسى الله يجمعنا كلنا ... برحمة معه في داره وقوله: "ولما حرمنا ... إلخ" أخذه من قول ابن خطيب داريا: لم أسع في طلب الحديث لسمعة ... أو لاجتماع قديمه وحديثه لكن إذا فات المحب لقاء من ... يهوى تعلل باستماع حديثه

وقال العلامة السيد محمد بن إسماعيل الأمير اليماني قدس الله سره: سلام على أهل الحديث فإنني ... نشأت على حب الأحاديث من مهدي همو بذلوا في حفظ سنة أحمد ... وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد وأعني بهم أسلاف سنة أحمد ... أولئك في بيت القصيد همو قصدي أولئك أمثال البخاري ومسلم ... وأحمد أهل الجد في العلم والجد رووا وارتووا من بحر علم محمد ... وليس لهم تلك المذاهب من ورد كفاهم كتاب الله والسنة التي ... كفت قبلهم صحب الرسول ذوي المجد ولها تتمة سابغة الذيل صاح فيها على المتعصب بالويل! وقال بعض الفضلاء وأجاد: علم الحديث أجل السؤل والوطر ... فاقطع به العيش تعرف لذة العمر وانقل رحالك عن مغناك مرتحلًا ... لكي تفوز بنقل العلم والأثر ولا تقل عاقني شغل فليس يري ... في الترك للعلم عن عذر لمعتذر وأي شغل كمثل العلم تطلبه ... ونقل ما قد رووا عن سيد البشر ألهى عن العلم أقوامًا تطلبهم ... لذات دنيا غدوا منها على غرر وخلفوا ما له حظ ومكرمة ... إلى التي هي دأب الهون والخطر وأي فخر بدنياه لمن هدمت ... معايب الجهل منه كل مفتخر لا تفخرن بدنيا لا بقاء لها! ... وبالعفاف وكسب العلم فافتخر يفنى الرجال ويبقى علمهم لهم ... ذكرًا يجدد في الآصال والبكر ويذهب الموت بالدنيا وصاحبها ... وليس يبقى له في الناس من أثر تظن أنك بالدنيا أخو كبر ... وأنت بالجهل قد أصبحت ذا صغر ليس الكبير عظيم القدر غير فتي ما ... زال بالعلم مشغولا مدى العمر قد زاحمت ركبتاه كل ذي شرف ... في العلم والحلم لا في الفخر والبطر

فجالس العلماء المقتدى بهم ... تستجلب النفع أو تأمن من الضرر هم سادة الناس حقًّا والجلوس لهم ... زيادة هكذا قد جاء في الخبر والمرء يحسب من قوم يصاحبهم ... فاركن إلى كل صافي العرض عن كدر فمن يجالس كريما نال مكرمة ... ولم يشن عرضه شيء من الغير كصاحب العطر إن لم تستفد هبة ... من عطره لم تخب من ريحه العطر ومن يجالس رديء الطبع يرد به ... وناله دنس من عرضه الكدر كصاحب الكير إن يسلم مجالسه ... من نتنه لم يوق الحرق بالشرر وكل من ليس ينهاه الحياء ولا ... تقوى فخف كل قبح منه وانتظر والناس أخلاقهم شتى وأنفسهم ... منهم بصير ومنهم مخطئ النظر وأصوب الناس رأيًا من تصرفه ... فيما به شرف الألباب والفكر واركن إلى كل من في وده شرف ... من نابه القدر بين الناس مشتهر فالمرء يشرف بالأخبار يصحبهم ... وإن يكن قبل شيئًا غير معتبر إن العقيق ليسمو عند ناظره ... إذا بدا وهو منظوم مع الدرر والمرء يخبث بالأشرار يألفهم ... ولو غدا حسن الأخلاق والسير فالماء صفو طهور في أصالته ... حتى يجاوره شيء من الكدر فكن بصحب رسول الله مقتديًا ... فإنهم للهدى كالأنجم الزهر وإن عجزت عن الحد الذي سلكوا ... فكن عن الحب فيهم غير مقتصر والحق بقوم إذا لاحت وجوهم ... رأيتها من سنا التوفيق كالقمر أضحوا من السنة العليا في سنن ... سهل وقاموا بحفظ الدين والأثر أجل شيء لديهم: "قال أخبرنا ... عن الرسول" بما قدر صح من خبر هذي المكارم لا قعبان من لبن ... ولا التمتع باللذات والأشر لا شيء أحسن من: "قال الرسول" وما ... أجل من سند عن كل مشهر

ومجلس بين أهل العلم جادبما ... حلا من الدر أو حلي من الدرر يوم يمر ولم أرو الحديث به ... فلست أحسب ذاك اليوم من عمر فإن في درس أخبار الرسول لنا ... تمتعًا في رياض الجنة الخضر تعللًا إذا عدمنا طيب رؤيته ... من فاته العين هد الشوق بالأثر كأنه بين ظهرينا نشاهده ... في مجلس الدرس بالآصال والبكر زين النبوة عين الرسل خاتمهم ... بعثًا وأولهم في سابق القدر صلى عليه إله العرش ثم على ... أشباعه ما جرى طل على زهر مع السلام دوامًا والرضا أبدًا ... عن صحبه الأكرمين الأنجم الزهر وعن عبيدك نحن المذنبين فجد ... بالأمن من كل ما نخساه من ضرر وتب على الكل منا واعطنا كرمًا ... دنيا وأخرى جميع السؤل والوطر سبحانه ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. جاء في آخر نسخة المؤلف قدس سره: يقول جامعه: كانت البداءة في تصنيفه في إحدى الجماديين عام "1320" ولما تم ترتيبه شرعت في تبييضه ليلة العشر الأخير من رمضان من العام المذكور في السدة اليمنى العلياء من حرم جامع السنانية في دمشق الفيحاء، ثم صحبته في رحلتي القدسية في أواخر المحرم، وبيضت جانبًا كبيرًا من آخره في عمان البلقاء أيام مسيري إلى القدس منها، وإقامتي بها عشرة أيام من أوائل صفر إلى أن كملت نسخًا وتبييضًا بعونه تعالى صباح الخميس لخمس بقين من صفر المذكور عام "1321" في المسجد الأقصى داخل حرمه الشريف أيام إقامتي في حجرته

القبلية. والحمد لله أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا. قاله بفمه ورقمه بقلمه، العبد الذليل الضعيف، أفقر الورى لرحمه مولاه، محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن بكر القاسمي الدمشقي غفر الله له. ولوالديه ولأسلافه وأشياخه وأولاده ومحبيه، ولجميع المؤمنين والحمد لله رب العالمين. ثم جاء تحت هذه العبارة بالحبر الأحمر بحمد تعالى تم مقابلة على أصلي، وكتبه مؤلفه جمال الدين في 19 ذي الحجة 1324.

فهرس

فهرس: الصفحة الموضوع المقدمات: 3 إهداء الكتاب. 5 السيد جمال الدين القاسمي للأمير شكيب أرسلان. 8 التعريف بالكتاب للسيد محمد رشيد رضا 20 السيد محمد جمال الدين القاسمي الكتاب: 35 خطبة الكتاب 37 مقدمة الكتاب في مطالع مهمة: 37 المطلع الأول ضرورة التصنيف في كل عصر 39 المطلع الثاني إهداء الكتاب 40 المطلع الثالث أهم من ألف في الاصطلاح 43 الباب الأول في التنويه بشأن الحديث وفيه مطالب: 43 شرف علم الحديث 48 فضل راوي الحديث 50 الأمر النبوي برواية الحديث وإسماعه 51 حث السلف على الحديث 53 إحلال الحديث وتعظيمه والرهبة من الزيغ عنه 55 فضل المحامي عن الحديث والمحبي للسنة 57 أجر المتمسك بالسنة إذا اتبعت الأهواء وأوثرت الدنيا 58 بيان أن الوقيعة في أهل الأثر من علامات أهل البدع 58 ما روي أن الحديث من الوحي 60 أيادي المحدثين البيضاء على الأمة وشكر مساعيهم 61 الباب الثاني في معنى الحديث وفيه مباحث: 61 ماهية الحديث والخبر والأثر 64 بيان الحديث القدسي 70 ذكر أول من دون الحديث 72 بيان أكثر الصحابة حديثا وفتوى 74 ذكر صدور التابعين في الحديث والفتيا 75 الباب الثالث في بيان علم الحديث وفيه مسائل: 75 ماهية علم الحديث، رواية ودراية وموضوعه وغايته. 76 المقصود من علم الحديث. 76 حد المسند والمحدث والحافظ 79 الباب الرابع في معرفة أنواع الحديث وفيه مقاصد 79 بيان المجموع من أنواعه 79 بيان الصحيح 80 بيان الصحيح لذاته والصحيح لغيره 80 تفاوت رتب الصحيح 81 أثبت البلاد في الحديث الصحيح في عهد السلف 82 أقسام الصحيح 82 معنى قولهم: أصح شيء في الباب كذا 82 أول من دون الصحيح 83 بيان أن الصحيح لم يستوعب في مصنف 84 بيان أن الأصول الخمسة لم يفتها من الصحيح إلا اليسير 84 ذكر من صنف في أصح الأحاديث 85 بيان الثمرات المجتناة من شجرة الحديث المباركة 85 الثمرة الأولى صحة الحديث توجب القطع به 87 الثمرة الثانية وجوب العمل بكل ما صح من الأحاديث 88 الثمرة الثانية الإفتاء بموجب النص 91 الثمرة الثالثة لا يضر الخبر عمل أكثر الأمة بخلافه

92 الثمرة الرابعة وجوب فهم كلام الرسول من غير غلو ولا تقصير 94 الثمرة الخامسة لزوم قبول الصحيح وإن لم يعمل به أحد 96 الثمرة السادسة الصحابة لم يكونوا كلهم مجتهدين 98 الثمرة السابعة متى ثبت الخبر، صار أصلا من الأصول 99 الثمرة الثامنة لا يضر صحة الحديث تفرد صحابي به 100 الثمرة التاسعة ما كل حديث صحيح تحدث به العامة 102 بيان الحديث الحسن ذكر ماهيته 102 بيان الحسن لذاته ولغيره 102 ترقي الحسن لذاته إلى الصحيح بتعدد طرقه 103 بيان أول من شهر الحسن 104 معنى قول الترمذي: "حسن صحيح" 104 الجواب عن جمع الترمذي بين الحسن والغرابة على اصطلاحه 105 مناقشة الترمذي في بعض ما يصححه أو يحسنه 106 بيان أن الحسن على مراتب 106 بيان كون الحسن حجة في الأحكام 107 قبول زيادة راوي الصحيح والحسن 108 بيان ألقاب للحديث تشمل الصحيح والحسن، وهي الجيد والقوي والصالح والمعروف والمحفوظ والمجود والثابت والمقبول 108 بيان الضعيف ماهية الضعيف وأقسامه 109 تفاوت الضعيف 109 بحث الضعيف إذا تعددت طرقه 110 ذكر قول مسلم رحمه الله: إن الراوي عن الضعفاء غاش آثم جاهل 111 تشنيع الإمام مسلم على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة. وقذفهم بها إلى العوام، وإيجابه رواية ما عرفت صحة مخارجه 113 تحذير الإمام مسلم من روايات القصاص والصالحين 113 ذكر المذاهب في الأخذ بالضعيف واعتماد العمل به في الفضائل 114 الجواب عن رواية بعض كبار الأئمة الضعفاء 116 ما شرطه المحققون لقبول الضعيف 117 تزييف ورع الموسوسين في المتفق على ضعفه 117 ترجيح الضعيف على رأي الرجال 118 بحث الدواني في الضعيف 120 رد الشهاب الخفاجي على الدواني ومناقشته 121 مسائل تتعلق بالضعيف 123 ذكر أنواع تشترك في الصحيح والحسن والضعيف: المسند، المتصل، المرفوع، المعنعن، المؤنن، المعلق، المدرج، المشهور، المستفيض، الغريب، الغريز، المصحف، المنقلب، المسلسل، العال. 127 مطلب في الموافقة والبدل والمساواة والمصافحة 128 النازل الفرد: المطلق والنسبي، والمتابع، الشاهد 130 ذكر أنواع تختص بالضعيف: الموقوف، المقطوع، المنقطع، المعصل، الشاذ، المنكر، المتروك، المعلل، المضطرب، المقلوب، المدلس، المرسل 133 المذهب الأول في المرسل: وهو أنه ضعيف مطلقًا 134 المذهب الثاني في المرسل: وهو أنه حجة مطلقًا 136 ذكر مناقشة الفريق الأول لما ذكره أهل المذهب الثاني

138 ذكر المذهب الثالث في المرسل ممن اعتدل في شأنه وفصل فيه 141 بيان أكثر من تروى عنهم المراسيل والموازنة بينهم 143 ذكر مرسل الصحابة 144 مراتب المرسل 144 بحث قول الصحابي: من السنة كذا، وقوله: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا 146 الكلام على الخبر المتواتر وخبر الآحاد 147 بيان أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل 150 الكلام على الحديث الموضوع وفيه مباحث 150 ماهية الموضوع وحكم روايته 150 معرفة الوضع والحامل عليه 156 مقالة في الأحاديث الموضوعة في فضيلة رجب 161 فتوى ابن حجر الهيتمي في خطيب لا يبين مخرجي الأحاديث 162 ما جاء في نهج البلاغة من وجوه اختلاف الخبر وأحاديث البدع 163 ضرر الموضوعات على غير المحدثين وأن الدواء لمعرفتها الرسوخ في الحديث 164 هل يمكن معرفة الموضوع بضابط من غير نظر في سنده؟ 165 بيان أن للقلب السليم إشرافًا على معرفة الموضوع 172 حديث. "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" 175 ما كل حديث في باب الترغيب تحدث به العامة 179 وجوب تعريف الحديث الصحيح من الموضوع لمن يضالع المؤلفات التي لم تميز بين صحيح الأحاديث وسقيهما 182 لا عبرة بالأحاديث المنقولة في كتب الفقة والتصوف ما لم يظهر سندها وإن كان مصنفها جليلًا 183 الرد على من يزعم تصحيح بعض الأحاديث بالكشف 187 الباب الخامس في الجرح والتعديل وفيه مسائل 187 طبقات السلف في ذلك 188 جرح الضعفاء من النصحية 188 تعارض الجرح والتعديل 190 تجريح بعض رجال الصحيحين لا يعبأ به 194 الناقلون المبدعون 195 الناقلون المجهولون 196 قول الراوي: حدثني الثقة، أو من لا أتهم هل هو تعديل له؟ 196 ما وقع في الصحيحين وغيرهما من نحو: ابن فلان، أو ولد فلان. 196 قولهم: عن فلان أو فلان: وهما عدلان 196 من لم يذكر في الصحيحين أو أحدهما لا يلزم منه جرحه 197 اقتصار البخاري على رواية من روايات إشارة إلى نقد في غيرها 197 ترك رواية البخاري لحديث لا يوهنه 198 من روى له حديث في الصحيح لا يلزم صحة جميع حديثه 198 ما كل من روى المناكير ضعيف 199 متى يترك حديث المتكلم فيه؟ 199 جواز ذكر الراوي بلقبه الذي يكرهه للتعريف، وأنه ليس بغيبة له

199 الاعتماد في جرح الرواة وتعديلهم على الكتب المصنفة في ذلك 199 عدالة الصحابة أجمعين 200 معنى الصحابي 200 تفاضل الصحابة 201 الباب السادس في الإسناد وفيه مباحث 201 فضل الإسناد 202 معنى السند والإسناد والمسند والمتن 203 أقسام تحمل الحديث 205 الإجازة، ومعنى قولهم: أجزت له كذا بشرطه 206 أدم إجازة عثرت عليها 207 هل قول المحدث: حدثنا وأنبأنا وأخبرنا بمعنى واحد؟ 208 قول المحدث: وبه قال حدثنا 209 الرمز: "ثنا" و"نا" و"أنا" "ح" 209 عادة المحدثين في قراءة الإسناد 210 الإتيان بصيغة الجزم في الحديث الصحيح والحسن دون الضعيف 210 متى يقول الراوي: "أو كما قال"؟ 210 السر في تفرقة البخاري بين قوله: حدثنا فلان، وقال لي فلان. 211 سر قولهم في خلال ذكر الرجال: يعني ابن فلان أو هو ابن فلان 211 قولهم: دخل حديث بعضهم في بعض 212 قولهم: أصح شيء في الباب كذا 212 قولهم: وفي الباب عن فلان 212 أكثر ما وجد من رواية التابعين بعضهم عن بعض 212 هل يشترط في رواية الأحاديث السند أم لا؟ 215 فوائد الأسانيد المجموعة في الأثبات 216 ثمرة رواية الكتب بالأسانيد في الأعصار المتأخرة 217 تحمل الأخبار على الكيفيات المعروفة من ملح العلم لا من صلبه، وكذا استخراج الحديث من طرق كثيرة 218 توسح الحفاظ رحمهم الله في طبقات السماع 219 الفرق بين المخرج والمخرج 219 سر ذكر الصحابي في الأثر ومخرجه من المحدثين. 221 الباب السابع في أحوال الرواية، وفيه مباحث 223 رواية الحديث بالمعنى 225 جواز رواية بعض الحديث بشروطه 226 سر تكرار الحديث في الجوامع والسنن والمسانيد 229 الخلاف في الاستشهاد فيها بالحديث على اللغة والنحو 233 الباب الثامن في آداب المحدث وطالب الحديث 233 آداب المحدث 233 آداب طالب الحديث 234 ما يستحب للمحدث عند التحديث 235 طرق درس الحديث 237 أمثلة من لا تقبل روايته، ومنهم من يحدث لا من أصل مصحح 237 الأدب عند ذكره تعالى وذكر رسوله والصحابة والتابعين 237 الاهتمام بتجويد الحديث

239 الباب التاسع في كتب الحديث وفيه فوائد 239 طبقات كتب الحديث 243 رموز كتب الحديث على طريقة ابن حجر في التدريب 244 رموز كتب الحديث على طريقة السيوطي في الجامع الكبير والصغير 245 ما اشتمل من هذه الكتب على الصحيح فقط أو مع غيره 254 الرجوع إلى الأصول الصحيحة المقابلة على أصل صحيح لمن أراد العمل بالحديث 256 إذا كان عند العالم الصحيحان أو أحدهما أو كتاب من السنن موثوق به، هل له أن يفتي بما فيه؟ 258 هل يجوز الاحتجاج في الأحكام بجميع ما في هذه الكتب من غير توقف أم لا؟ وهل تعذر التصحيح في الأزمات المتأخرة أم لا؟ 261 الاهتمام بمطالعة كتب الحديث 262 أرباب الهمة الجليلة في قراءاتهم كتب الحديث في أيام قليلة 263 قراءة البخاري لنازلة الوباء 269 الباب العاشر في فقه الحديث 269 كيفية تلقي الأمة الشرع من النبي -صلى الله عليه وسلم 273 السنة حجة في جميع الأمة وليس عمل أحد حجة عليها 281 العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم 281 لزوم الإفتاء بلفظ النص مهما أمكن 282 حرمة الإفتاء بضد لفظ النص 283 رد ما خالف النص أو الإجماع 284 تشنيع المتقدمين على من يقول: العمل على الفقه لا على الحديث 286 رد السندي على من يقول: "ليس لمثلنا أن يفهم الحديث" 289 رد السندي على من يقرأ كتب الحديث لا للعمل 292 التحذير من التعسف في رد الأحاديث إلى المذاهب 294 الترهيب من عدم توفير الحديث وهجر من يعرض عنه والغضب لله في ذلك 299 ما يتقى من قول أحد عند قول النبي -صلى الله عليه وسلم- 301 ما يقوله من بلغه حديث كان يعتقد خلافه 302 ما رُوي عن السلف في الرجوع إلى الحديث 304 حق الأدب فيما لم تدرك حقيقته من الأخبار النبوية 305 إمرار السلف الأحاديث على ظاهرها 308 قاعدة الإمام الشافعي في مختلف الحديث 313 فذلكة وجوه الترجيح بين ما ظاهره التعارض 313 وجوه الترجيح باعتبار الإسناد 314 وجوه الترجيح باعتبار المتن 315 وجوه الترجيح باعتبار المدلول 315 وجوه الترجيح باعتبار أمور خارجة 316 الناسخ والمنسوخ 316 التحيل على إسقاط حكم أو قبله 323 أسباب اختلاف الصحابة والتابعين في الفروع 330 أسباب اختلاف مذاهب الفقهاء 336 الفرق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي

344 حال الناس في الصدر الأول وبعده 351 فتوى ابن تيمية فيمن تفقه على مذهب ثم اشتغل بالحديث فرأى في مذهبه ما يخالف الحديث، كيف يعمل 355 معرفة الحق بالدليل 362 معرفة الشيء ببرهانه طريقة القرآن الكريم 364 هذه المذاهب المدونة من المصالح، وفوائد من أصل التخريج 372 وجوب موالاة الأئمة المجتهدين 387 خاتمة الكتاب في فوائد متنوعة يضطر إليها الأثرى 387 سبيل الترقي في علوم الدين 388 قاعدة المحققين في مسائل الدين وعلماء الفرق 390 وصية الغزالي في معاملة المتعصب 391 بيان من يسلم من الأغلاط 393 تتمة في مقصدين: 393 المقصد الأول: في أن طلب الحديث أن يتقى به الله عز وجل، وأن طلب الشارع للعلم لكونه وسيلة إلى التعبد به 402 المقصد الثاني: فيما رُوي في مدح رواية الحديث ورواته

§1/1