قواصم الظهور على دار الغرور الزهد

أزهري أحمد محمود

الحمد لله الغالب على أمره

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الغالب على أمره. الحكيم في نهيه وأمره. والصلاة والسلام على سيد خلقه. ومبلغ وحيه. وعلى آله وأصحابه زينة المجالس. وغرر الأيام الدوارس. وتابعيهم على الهدى والحق الذي ليس له طامس. وبعد: أخي المسلم: إن نفوسنا ألفت المألوف، وانقطعت إلى دنيا الحظوظ، وتقلَّبَتْ على بساط الأماني، ورضعت من لبان الشهوات، فأصبح نهارها في طول الآمال .. وليلها المظلم إذا حُدِّثَتْ بقصر الآمال .. انقطعت إلى الدنيا .. وتَعبَّدَتْ للآمال الدنية .. والأيام في زوال .. والدهور في ارتحال .. لا المال الكثير يُقنِّعُها! ولا الجاه العريض يزَهِّدُها! أخي: ماذا ننتظر بهذه النفوس الخداعة؟ ! وإلى متى نمد لها في حبال الآمال البراقة؟ ! أخي: أما كان فيمن مضى معتَبر؟ ! أمَا كان في القرون الخاليات مزدجر؟ ! أخي: أبَت النفس إلا ولوهًا بالشهوات .. وضلوعًا في الجهالات .. فيا تُرى فيم يكون الدواء الشافي؟ ! والسوط الرادع الواقي؟ ! أخي: سأدلك اليوم على دواء ترياق .. وسم للدنيا دَفَّاقْ .. إن أنت تناولته كنت من الدنيا في مكان حَرِيزْ .. ومنزل عزيزْ .. تداوى به الصالحون من الدنيا وأوصابها، فكان سببًا في ارتفاعهم وعلوهم،

فأثنت عليهم الألسنة بالمحامد والمفاخر، وكانوا كالملوك ولم يكونوا ملوكًا! ولكنها أخي الدنيا وعجائبها، من لهث خلفها صيرته عبدًا لها! ومن زهد عنها ورفضها وقال لها: إليك عني صار ملكًا مسودًا! فإن أردت أخي أن تعرف هذا الدواء فتأمل معي في هذه المنحة الإلهية، وبعدها أخبرك ما هو؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل» [رواه أحمد في الزهد والطبراني في الأوسط/ صحيح الجامع: 3845]. أخي: هل علمت هذا الدواء؟ ! إنه (الزهد). أخي في الله: لقد اختلفت عبارات العلماء في تعريف الزهد، ولكنهم لم يختلفوا في فضله ومنفعته لعلاج أدواء الركون إلى الدنيا دار الغرور. وها أنا أخي أفيض عليك هذه الدرر من كلام العلماء الربانيين؛ لتقف أخي على حقيقة (الزهد) الدواء العجيب! قال ابن المبارك: (هو الثقة بالله مع حب الفقر). وقال أبو سليمان الداراني: (هو ترك ما يشغل عن الله). وقال سفيان الثوري: (الزهد في الدنيا: قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباءة). وقال سفيان بن عيينة: (الزهد في الدنيا الصبر وارتقاب

الموت). وقال ذو النون: (حقيقته هو الزهد في النفس). وقال ابن الجلاء: (الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال لتصغر في عينيك فيتسهل عليك الإعراض عنها). وقال وهيب بن الورد: «الزهد في الدنيا أن لا تأسى على ما فاتك منها ولا تفرح بما أتاك منها». وقال الإمام أحمد بن حنبل: «الزهد في الدنيا قصر الأمل» وقال أيضًا: «إنه عدم مرحه بإقبالها ولا حزنه على إدبارها». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة». وقالوا: «الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد». وقالوا: (الزهد من قوله سبحانه: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد]. وقالوا: «هو عزوف القلب عن الدنيا بلا تكلَّف». أخي المسلم: ها أنت قد رأيت عبارات العارفين .. وإن شئت أخي جمعت لك ذلك كله في عبارة واحدة هي: إن الرغبة عن الدنيا، والفرار منها من غير تحريم لحلالها، ولا تحليل لحرامها، واتخاذ نعيمها مطية لطاعة الله تعالى يجمع لك حقيقة (الزهد) وحول هذه الأطلال حام الإمام ابن القيم رحمه الله فقال: «والتحقيق إنها إن شغلته عن الله فالزهد فيها أفضل وإن لم تشغله

أخي: إن الله تعالى زهدك في هذه الدنيا الغرارة

عن الله بل كان شاكرًا لله فيها فحاله أفضل، والزهد فيها تجريد القلب عن التعلق بها، والطمأنينة إليها والله أعلم». أخي: إن الله تعالى زَهَّدَك في هذه الدنيا الغرَّارة! وأكثر لك في كتابه من المواعظ والأمثال ما يَلينُ له الحجر! ولكن أخي أين القلوب؟ ؟ ! تاهت في بيداء الأماني والآمال! قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف]. وقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء]. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى]. وقال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه]. وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى]. وقد رغبك الله تعالى فيما عنده فقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ

وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل]. أخي في الله: إن المغرور حقًا من غرته هذه الدنيا .. وإن المبخوس حظًا من كان من أبناء الدنيا! ولا تَغترَّ بالدنيا ... فإنمَّ صحيحًها يَسْقَمْ وإنَّ جديدَها يَبْلَى ... وإنَّ شبابَها يَهْرَمْ وإنَّ نعيمَها يفنَى ... فتركُ نعيمها أحْزَمْ ومَنْ هذا الذي يبقَى ... على الحدثان أو يَسْلَمْ ثم هل لك أخي أن تتأمل معي هذه الوصايا الغالية لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وهو يُعَرِّفُنا بالدنيا ويبصرنا بكدرها .. جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله دلَّني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبَّني الناس. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما أيدي الناس يحبُّوك» [رواه ابن ماجه/ صحيح ابن ماجه: 3310]. وتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمةٌ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفَرَّق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له» [رواه الترمذي/ صحيح الجامع: 2222]. أخي: وها هو - صلى الله عليه وسلم - يخبرك عن الدنيا وشرها المستطير فيقول لك - صلى الله عليه وسلم -: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا الناس فإن أول فتنة بني

أخي المسلم: حقا لا يعشق الدنيا إلا ناقص في رأيه ..

إسرائيل كانت في النساء» [رواه مسلم]. كأنَّ محاسنَ الدُّنيَا ساربٌ ... وأيُّ يد تنازلت السَّرَابَا فيا عجبًا تموتُ وأنتَ تبني ... وتتَّخذُ المصانعَ والقبابَا أراك وكلَّما فَتَّحْتَ بابًا ... من الدنيا فَتَحتَ عليكَ نابَا ألمْ تَر أنَّ غُدوةَ كل يوم ... تزيُدكَ من منيَّتك اقترابَا أخي المسلم: حقًا لا يعشق الدنيا إلا ناقص في رأيه .. معكوس في سعيه! ولك أخي أن تنظر في هذا التعليم البديع من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الأبرار - رضي الله عنهم -، إذا مرَّ ذات مرة بالسوق والناس من حوله فإذا بجدي أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ » فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ ! قال: «أتحبون أنه لكم؟ » قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه لأن أسك فكيف وهو ميت؟ ! فقال: «فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم»! [رواه مسلم]. يا بَانيَ الدَّار المُعدَّ لهَا ... ماذَا عملتَ لداركَ الأخْرَى ومُمهِّدَ الفُرُش الوَثيرة لا ... تُغفلْ فراشَ الرَّقْدَة الكُبرى ++ ... ولقد دعيتَ وقد أجَبْتَ لما ... تُدعَى له فانظُرْ لما تُدْعَى ثم أخي أليس من زهادة الدنيا وحقارتها أن المؤمن لا يجد سعادته إلاَّ في دار القرار؟ ! مرَّت جنازة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «مستريح ومستراح منه» قالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ قال: «العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله عز وجل والعبد

الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشَّجر والدواب» [رواه البخاري ومسلم]. أخي في الله: ما أسعد أهل الزهادة غدًا .. نظروا لأنفسهم فهضموا حظوظها في دار الفناء .. ليسعدوا في دار البقاء .. قال علي - رضي الله عنه -: «طوبى للزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة أولئك قوم اتخذوا أرض الله بساطًا، وترابها فراشًا، وماءها طيبًا، والكتاب شعارًا، والدعاء دثارًا، ورفضوا الدنيا رفضًا». وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «من أراد الآخرة أضَرَّ بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضَرَّ بالآخرة، يا قوم فأضروا بالفاني للباقي». وقال أبو واقد الليثي - رضي الله عنه -: «تابَعْنَا الأعمال أيها أفضل؟ فلم نجد شيئًا أعون على طلب الآخرة من الزهد في الدنيا». وقال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: «إذا أراد الله بعبد خيرًا أزهده في الدنيا وفقهه في الدين وبصره عيوبه ومن أوتيَهُنَّ فقد أوتىَ خيرًا كثيرًا في الدنيا والآخرة». أخي المسلم: وأنت على مركب الزهد، لا يفوتنك أن تقف أخي عند أقسام الزهد، لتقف على تلك الأطلال عن قُرب .. عساك أن تحتذى آثار الزاهدين .. فتشبَّهُوا بالكرام إن لم تكونوا مثلهمُ ... إن التَّشبُّه بالكرام فَلاحُ أخي: إليك درجات الزهد .. «الدرجة الأولى: الزهد في

الشبهات: ولا يكون ذلك أخي إلاَّ بعد تركك للحرام فالشبهات برزخ بين الحلال والحرام. الدرجة الثانية: الزهد عن الفضول: وهو ما زاد عن الحاجة، اغتنامًا لعمارة الوقت قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الركب» مع قطع طمع النفس في التعلق بالدنيا، فلا يتعلق بها في حالتي الترك أو الأخذ، فإن الزهد زهد القلب. الدرجة الثالثة: الزهد في الزهد: فيرى أن زهده في الدنيا ليس بشيء إذ أنها لا تسوي عند الله جناح بعوضة، بل يرى أن أخذ ذلك وتركه سواء إذ أنه لا يسوى شيئًا، وهذا من دقائق فقه الزهد ويرى أيضًا أن الله تعالى هو المتفضل عليه في زهده في الدنيا أو أخذه منها، فإذا جمع العبد ذلك فهو الغاية في الزهد» [الإمام ابن القيم/ باختصار]. أخي في الله: أوَ مَا تشتهي أن أُتحفَك بعبارات العارفين .. الزاهدين .. وهم يُعرِّفُونَك بهذا الطريق، ويدُلُّونك على معالمه؟ فهذا شقيق البلخي رحمه الله يقول: «ثلاث خصال هي تاج الزهد؛ الأولى: أن يميل على الهوى لا يميل مع الهوى. والثانية: ينقطع الزاهد إلى الزهد بقلبه. والثالثة: أن يذكر كلما خلا بنفسه كيف مدخله في قبره، وكيف مخرجه ويذكر الجوع والعطش والعري وطول القيامة والحساب والصراط وطول الحساب والفضيحة البادية، فإذا ذكر ذلك شغله عن ذكر دار الغرور، فإذا كان ذلك كان من محبي

وها أنا أخي أنقلك إلى واد آخر من أودية الزهد مع العلماء الربانيين ..

الزهاد، ومن أحبهم كان معهم». أيُّها الباني قُصُورًا طوالاً ... أينَ تبغي هل تُريدُ السَّحَابَا إنَّما أنتَ بوادي المنايا ... إنْ رمَاكَ الموتُ فيه أصَابَا أيُّها الباني لهدم اللَّيالي ... ابن ما شئتَ سوفَ تَلْقَى خَرابَا وها أنا أخي أنقلك إلى واد آخر من أودية الزهد مع العلماء الربانيين .. وأهل المعرفة الراسخين .. فلنصطحب أخي سويًا لنقف على كلام الإمام ابن رجب رحمه الله يهدينا كلمات غاليات، تعين على سلوك درب الزاهدين، فيقول: «الذي يعين على الزهد ثلاثة أشياء: أحدها: علمك العبد أن الدنيا ظل زائل كما قال تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ... } وسمَّاها: {مَتَاعُ الْغُرُورِ}. والثاني: علمه أن وراءها دار أعظم منها، وهي دار البقاء، فالزهد في الدنيا لتلك الدار العظيمة. والثالث: أن تعلم أن ما قُدِّر لك من الدنيا لابد أن يأتيك، فزهدك عنها لا يمنع أن يأتيك ما كُتبَ لك منها، كما أن حرصك عليها لا يأتيك بما لم يكتب لك منها». أرى الدنيا لمَنْ هي في يديه ... عذابًا كلَّما كَثُرتْ لدَيْه تُهينْ المكرمينَ لها بصُغْر ... وتُكْرمُ كلَّ مَنْ هَانتْ عَليه إذا استغنيت عن شيء فَدَعْهُ ... وخُذْ ما أنتَ محتاجٌ إليه

أخي المسلم: لا يجد طعم الزهد إلا من تقلَّب في رياض الزاهدين .. فاقتبس أخبارهم .. واستروَح شَذَاهُم .. فهو في بستانهم يقطف من أزهارهم .. أخي: ينبيك عن طيب نفحات الزهاد، تلكم الصور الرائعة للزهاد وهم يَحيُونَ حياة الزهد .. وينعمون نعيم أهل الطاعات .. فما أسعدها من لَحْظَات أنسُوا بها .. وما أسعدها من لحَظات لنا إن اقتفينا آثار الركب .. ويممنا شطرهم .. وها أنا أخي أسرح بك في تلك الرياض .. لتحيا حياة الزاهدين حقًا .. فكن أخي كمن يرى ذلك بعينيه، ولا تقف على الأطلال وقوف الغافل اللاهي! وكم هو جميل عندي أخي أن أعرض لك أولاً هذه الصور الرائعة من زهد نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فهو سيد الزاهدين .. وإمام المهتدين .. خطب النعمان بن بشير رضي الله عنهما فقال: «ذكر عمرُ ما أصاب الناسُ من الدنيا فقال: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلاً (رديء التمر) يملأ به بطنه»! [رواه مسلم]. أخي أليس هو - صلى الله عليه وسلم - السائل ربه أن يحيه حياة الزاهدين يوم أن قال: «اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين» [رواه ابن ماجه والطبراني/ صحيح الجامع: 1261]. أخي في الله: إن الله تعالى لم يرض لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلا الدرجة العليا في الصالحات، فما من عمل يُلْتَمَسُ به وجه الله تعالى، والدار الآخرة إلا وكان فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - النصيب الأوفر، والقدح المُعَلَّى ..

فصلواتي وسلامي عليك يا رسول الله، لم تَألُ جهدًا أن تبذل لأمتك النصح قولاً وعملاً .. وهذه المصُونة الصديقة بنت الصديق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تخبرنا بطرف من هذا الزهد، حيث وقف ابن أختها عروة مشدوهًا بزهده عندما قالت له: «ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلَّة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نار فقال عروة: ما كان يعيشكم؟ ! قالت: الأسودان التمر والماء .. » [رواه البخاري]. وها هو - صلى الله عليه وسلم - ذات مرة بين أصحابه - رضي الله عنهم - وقد نام على حصير فأثر في جنبه - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له: لو اتخذنا لك وطاءً. فقال: «مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها! » [رواه الترمذي وأحمد والحاكم/ صحيح الجامع: 5668]. أخي: ما أجْفَى الدنيا وما أقلَّ وفاءَها، ولو كان فيها خير لأقبل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن أنَّى! وما عند لله خير وأبقى .. فمات - صلى الله عليه وسلم - وما شبع من خبز الشعير! قالت عائشة رضي الله عنها: «لقد مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين! » [رواه مسلم]. نَزْهٌ عن الدنيا وباطلها ... لا عَرَض يَشْغُلهُ ولا نَقْدُ رفضَ الحياةَ على حلاوتها ... واختارَ ما فيه له الخُلْدُ يكفيه ما بلغَ المحل به ... لا يشتكي إن نابَهُ جَهْدُ فاشدُدْ يديكَ إذا ظفرتَ به ... ما العيشُ إلا القَصْدُ والزُهْدُ

فهذا الفاروق عمر أمير المؤمنين - رضي الله عنه -

أخي المسلم: من ذلك الهدى النبوي الوضَّاء استنار الصحابة الأطهار - رضي الله عنهم -، فكانوا سادة الزاهدين .. ضربوا الدنيا بسيف الزهد فولَّت هاربة لا تلوي على شيء .. فعاشوا - رضي الله عنهم - يضعون البذر في مزرعة الآخرة ليحصدوا {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ... } [الشورى]. فهذا الفاروق عمر أمير المؤمنين - رضي الله عنه - لما قدم الشام قَدَّموا له برذونًا لما ركبه هَزَّه فنزل عنه، فَعَرَضَتْ له مخاضة، فنزل عن بعيره وأخذ بخطامه ونزع موقيه (خفيه) فأخذهما بيديه وخاض الماء قال أبو عبيدة: «صنعت اليوم صنيعًا عظيمًات عند أهل الأرض» فصكَّ عمر في صدره فقال: «إنه لو غيرك يقول هذا، إنكم كنتم أقل الناس وأذل الناس وأضعفهم فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم». وعندما نصحوه - رضي الله عنه - أن يأكل طعامًا طَيبًا. قال: «قد علمت نصحكم ولكني تركت صاحبيَّ على جادة فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل». وكان - رضي الله عنه - كثيرًا ما يقول: إن الله ذمَّ أقوامًا في كتابه فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف]. فرضى الله عن الفاروق فقد أبت نفسه إلا سؤددًا وعلوًا، وإلا فلو طعم طعامًا طيبًا، ولبس لباسًا لينًا، وركب مركبًا وثيرًا، لما كان في ذلك جناح؛ ولكنها أخي هي الهمة التي تبلغ بالصالحين منازل الثريا .. وحقًا إن حسنات الأبرار سيئات المقربين! !

ولك أن تعجب أخي أيضًا عندما أقف بك عند زهد أبي السبطين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. فقد خرج ذات مرت إلى السوق بسيفه وقال: «من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشترى بها إزارًا ما بعته! » وهو يومها أخي أمير المؤمنين! ورآه بعضهم ذات مرة وقد ركب حمارًا ودلَّى رجليه إلى موضع واحد! ثم قال: «أنا الذي أهنت الدنيا». ثم أخي وهذا رجل دخل على أبي ذر - رضي الله عنه - فجعل يقلب بصره في بيته فقال: يا أبا ذر ما أرى في بيتك متاعًا ولا غير ذلك من الأثاث! فقال أبو ذر: إن لنا بيتًا نوجه إليه صالح متاعنا! فقال الرجل: إنه لابد لك من متاع ما دمت ها هنا فقال أبو ذر - رضي الله عنه -: «إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه! ! ». أخي في الله: إنها كلمات أقوام ليس للدنيا إلى قلوبهم سبيل .. فما أبهاها وما أنضرها إذ تخرج من تلك الأفواه الطاهرة .. وأعجب معي أخي من أمير المدائن وسيدها الذي كان يعيش من صناعة القفاف! ! إنه سلمان الفارسي - رضي الله عنه -. كان يشتري الخوص بدرهم فيبيعه بثلاث دراهم، فيعيد درهمًا فيها، وينفق درهمًا على عياله ويتصدق بدرهم! مع أن عطاءه - رضي الله عنه - بلغ خمسة آلاف درهمًا. وكان يخطب الناس في عباءة. وكان يفرش نصفها ويلبس نصفها! فكان إذا خرج عطاؤه أمضاه وأكل من سفيف يده - رضي الله عنه -. إني رأيت عواقبَ الدنيا ... فتركتُ ما أهوى لما أخشى فكَّرتُ في الدنيا وجدَّتها ... فإذا جميعُ جديدها يَبْلَى

كلُّ امرئ في شأنه يَسعَى وبَلوتُ أكثر أهلها فإذا ولقد طلبتُ فلم أجدْ كَرمًا ... أعلى بصاحبه من التَّقوى أخي المسلم: لن تنقضي رحلتنا إلا بعد أن أتحفك بتحف نفيسة تحكى تلك التحف، التي جلوت بها ناظريك .. ولكن هذه المرأة أخي سأتحفك بصورة من زهد أقوام آخرين .. إنهم أولئك الذين انتفعوا بهدى الصالحين .. وسمت الزاهدين .. فكانوا مثلهم في الزهد ورفض الدنيا رحمهم الله تعالى. لما ولى سليمان بن عبد الملك أقطع الناس الاقطاعات فقال ابن للحسن البصري لأبيه: لو أخذنا كما يأخذ الناس؟ فقال: أسكت ما يسرني لو أن لي ما بين الجسرين بزنبيل تراب. وقال مالك بن دينار: «يقولون مالك زاهد، أي زهد عند مالك وله جبة وكساء؟ ! إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها». وهذا معروف الكرخي أوصى في علته فقال: «إذا متُّ فتصدقوا بقميصي هذا فإني أحب أن أخرج من الدنيا عريانًا كما دخلت غليها عريانًا». ودخل بعضهم على داود الطائي وهو في دار واسعة خربة ليس فيها إلا بيت وليس على بيته باب فقال له بعض القوم: أنت في دار وحشة فلو اتخذت لبيتك هذا بابًا أما تستوحش؟ فقال: «حالت وحشة القبر بيني وبين وحشة الدنيا».

أخي في الله: تلك زهرات قطفتها لك على عجل

وهذا هو الزاهد الإمام أحمد بن حنبل الذي صبر على الفقر سبعين سنة, يقول عنه سليمان بن الأشعث: «ما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط) وها هو يوصي شجاع بن مخلد فيقول له: «يا أبا الفضل إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس وإنها أيام قلائل». وهو القائل: «أسر أيامي إليَّ يوم أصبح وليس عندي شيء». أخي في الله: تلك زهرات قطفتها لك على عَجَل وما زال البستان أخي مليء بالأزهار الزَّاهية .. والورود الفيَّاحة .. ولن تدرك أخي درجات الصالحين إلاَّ بالاقتداء بهم وتَلَمُّس آثارهم .. ولا تنسَ- أخي- أن تأخذ معك هذه الكلمات للإمام ابن القيم إذ يقول: «الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذه في منازل الآخرة, ومتعلقة ستة أشياء لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها وهي: المال والصور والرياسة والناس والنفس وكل ما دون الله وليس المراد رفضها من الملك فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما ولهما من المال والملك والنساء ما لهما وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة وكان علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان - رضي الله عنهم - من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال وغيرهم كثير». ولكن أخي هي درجات فإياك أن تكون أخي من أهل الدرجة الدنيا، فالتمس أخي الدرجة العليا، لعلك تُحشَرُ مع أهل الدرجات

العاليات .. فإنها أخي الدنيا عدوك اللدود، فلا يكن بينك وبينها صلح أو سلم .. وعافاني الله وإياك من شرورها، ورزقنا الزَّهادة فيها. * * * *

§1/1