قمع الدجاجلة الطاعنين في معتقد أئمة الإسلام الحنابلة

عبد العزيز بن فيصل الراجحي

أبيات من الشعر لإسماعيل الترمذي

[أبيات من الشعر لإسماعيل الترمذي] إذا ميز الأشياخ يوما وحصلوا ... فأحمد من بين المشايخ جوهر رقيق أديم الوجه حلو مهذب ... إلى كل ذي تقوى وقور موقر أبي إذا ما حاف ضيم مؤمر ... ومر إذا ما خاشنوه مذكر لعمرك ما يهوي لأحمد نكبة ... من الناس إلا ناقص العقل معور هو المحنة اليوم الذي يبتلى به ... فيعتبر السني فينا ويسبر شجي في حلوق الملحدين وقرة ... لأعين أهل النسك عف مشمر فقا أعين المراق فعل ابن حنبل ... وأخرس من يبغي العيوب ويحقر جرى سابقا في حلبة الصدق والتقي ... كما سبق الطرف الجواد المضمر إذا افتخر الأقوام يوما بسيد ... فقيه لنا - والحمد لله - مفخر فقل للألى يشنونه لصلاحه ... ومحنته والله بالعذر يعذر جعلتم فداء أجمعين لنعله ... فإنكم منها أذل وأحقر لريحانة القراء تبغون عثرة ... وكلكم من جيفة الكلب أقذر فيا أيها الساعي لتدرك شأوه ... رويدك عن إدراكه ستقصر تمسكن بالعلم الذي كان قد وعى ... ولم يلهه عنه الخبيص المزعفر حمى نفسه الدنيا وقد سنحت له ... فمنزله إلا من القوت مقفر فإن يك في الدنيا مقلا فإنه ... من الأدب المحمود والعلم مكثر فقل للألى حادوا معا عن طريقه ... ولم يمكثوا حتى أجابوا وغيروا فلا تأمنوا عقبى الذي قد أتيتم ... فإن الذي جئتم ضلال مزور إسماعيل الترمذي قمع الدجاجلة الطاعنين في معتقد أئمة الإسلام الحنابلة

قمع الدجاجلة الطاعنين في معتقد أئمة الإسلام الحنابلة (رد على حسن بن فرحان المالكي، في كتابه " قراءة في كتب العقائد ")

تقديم معالي الشيخ العلامة الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان

[تقديم معالي الشيخ العلامة الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان] تقديم معالي الشيخ العلامة الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، نبيا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: فإن من حكمة الله - تعالى - وسنته في خلقه: أنه يبتلي أهل الحق بخصومهم من أهل الباطل، ليظهر الجهاد في سبيل الله، والموالاة في الله والمعاداة فيه. وليظهر المؤمن الصادق من المنافق الكاذب {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31] {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20] . والحق منصور وممتحن فلا ... تعجب فهذي سنة الرحمن وفي وقتنا هذا: ظهر كثير من هؤلاء الذين يبتلى بهم المسلمون، ومن هؤلاء: شخص يدعى " حسن بن فرحان المالكي " من جنوب المملكة، صار ينتقد أهل السنة، ويؤيد أهل البدعة. وظهرت له في ذلك كتابات جمعها في كتاب له سماه " قراءة في كتب العقائد، المذهب الحنبلي نموذجا "، شحنه بالافتراءات على أهل السنة وكتبهم.

فقيض الله من المشايخ من أبطل شبهاته، وكشف زيفه، وفضح كذبه. ومن هؤلاء: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن فيصل الراجحي في كتابه " قمع الدجاجلة، الطاعنين في معتقد أئمة الإسلام الحنابلة ". فجاء كتابه هذا وافيا بالمقصود من الرد على هذا المبطل، وعلى من يقف وراءه ممن {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] ، فجزاه الله خيرا وأثابه، وصلى الله وسلم على نبيا محمد وآله وصحبه. كتبه صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان عضو هيئة كبار العلماء (التوقيع) في 15 / 8 / 1423 هـ

المقدمة

[المقدمة] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رفع بدينه المتقين، وأعز بوحيه المهتدين، يحلون حلاله، ويحرمون حرامه، يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه. أذل به قلب كل مرتاب، وجعل نصيبه منه، تشكيكه المؤمنين في السنة والكتاب. إلا أنه - تعالت عظمته -، لم يجعل سلطانا لمخدول، أن يسقط ويعارض كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ومدح - سبحانه - عباده الصالحين، فوصفهم بالإيمان بالغيب، وأبان لهم أمور دنياهم وأخراهم، فكانوا منها على حجة وبينة، وإن كان غيرهم - من ذلك - في شك وريب. وأخبر عباده - مثبتا ومحذرا لهم، ومبينا نعمته وفضله عليهم -: أن الكافرين في حنق وغيض وحسد، من إيمان المؤمنين، وهل يستوي ما استهوته الشياطين حيران، وعبد قد سلم لله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به في سنته والقرآن؟ ! وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الصادق الأمين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة. أخبر بما أمره به ربه الناس، فأمن به من حقت له النجاة، ونكص عن ذلك من حقت عليه النار والإفلاس. قال فصدقه المؤمنون، وأمر فامتثل أمره الصالحون، ونهى فجانب نهيه الورعون المتنسكون.

أنذر أمته من كل أمر خطير، وأبعد عن النار كل من كان منها قريبا، على جرف هار أو شفير. إن غضب - صلى الله عليه وسلم -، فغضبه لله، وإن رضي، فما أرضى مولاه - جل وعلا - أرضاه. جاهد المشركين وحذر من المنافقين، وما ترك سبيل خير إلا دعى أمته إليه ودلها عليه، ولا سبيل شر إلا حذرها منه، وأبعدها عنه. وكان مما حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - وخشي على أمته منه: «كل منافق عليم اللسان» ، وأشد ما خشيه عليهم من الفتن والضلال: فتنة المسيح الدجال، وقال: «ما من نبي قبلي، إلا وحذر أمته من المسيح الدجال» . ثم وصفه لهم، وعرفهم به فقال: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور» . وما ذاك إلا لعظم افتتان الناس به، وقد قال سبحانه: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] ، {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] . وكذلك حال كل دجال أراد فتنة المؤمنين عما جاء به المرسلون، وبقدر الضلالة يكون الضلال والإضلال. وكان من هؤلاء الدجاجلة: دجيجيل عظم في نفسه وكبر، ما رأى المؤمنين فيه من خير إيمان وبر، تلجلج تائها في مفازات الضلالة، حين استقرت رحال المؤمنين في أرض النبوة والرسالة، فأخذ العهد على نفسه، متابعا إبليس لإغواء المؤمنين بحزبه ورجله وخيله وفلسه!

فصل في سبب كتابة هذا الرد

فاستعان بإخوانه من المبطلين، واستظهر بالمتلجلجين، من الروافض والعلمانيين والحداثيين، فلم يروا خيرا أحق بالهدم وضرره بالإسلام أعم وأطم: أعظم من اعتقاد أئمة الإسلام وعلمائه الأعلام، سلف الأمة ورياحين الجنة. فجعلوها هدفهم، وجمعوا لها ما قذفته الشياطين وتنزلت به عليهم وعلى سابقيهم، ثم قلبوا شبههم، وما اجتمع لديهم من خطلهم: فوجدوها بضاعة مزجاة لا تضل طفلا من أطفال الموحدين، فكيف بفحول المهتدين؟ ! فزادوها كذبا وتحريفا وتلبيسا، عسى أن تجد من مرضى القلوب أذنا صاغية. شبه تهافت كالزجاج تخالها ... حقا وقد سقطت على صفوان واختاروا لعصارة كل مدحور مذموم اسم " قراءة في كتب العقائد، المذهب الحنبلي نموذجا " لأخبثهم نحلة وأفسدهم ملة، حسن بن فرحان المالكي. خصوا الحنابلة بالتسمية لمزيد عنايتهم بالسنة، واشتهارهم بنصرتها، والقيام بها، والذب عن حماها وحياضها. فكم طاعن فيها قد جندلوه بسيوفهم، وكم متكبر عليها قد أهانوه وأذلوه ببأسهم، سارت بأخبارهم تلك الركبان، وأقر بها أعداؤهم والإخوان. [فصل في سبب كتابة هذا الرد] فصل ولما أعرض كثير من العلماء، عما عصره واعتصره السفهاء: ظنوا أنهم قد أفحموهم! وبكيد الشياطين قد كادوهم وأرغموهم!

فلا يستطيعون جوابا! ولا قولا باطلا كان أم صوابا! على حد قول الأول: سكت عن السفيه فظن أني ... عييت عن الجواب وما عييت فعزمت على كتابة ورقات تبين ضعف، هذه التفاهات والترهات، ليعلم حزب الشيطان أن النصر والحجة لحزب الرحمن، ألم يقل الله - جل وعلا -: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] بلا شك ولا امترى؟ ! ****

فصل في ذكر مقدمات قبل الشروع في الرد

[فصل في ذكر مقدمات قبل الشروع في الرد] [المقدمة الأولى أن التكفير والتبديع والتضليل والتفسيق كلها أحكام شرعية] فصل في ذكر مقدمات قبل الشروع في الرد إحداها: أن التكفير والتبديع والتضليل والتفسيق، كلها أحكام شرعية، يطلقها أهل العلم على من استحقها بالحجة والدليل، دون امتعاض ولا حياء أو استحياء من ذلك، وإن حاول بعض الزنادقة أن يعيب أئمة الدين بهذه الأحكام! آملا أن ينجيه كلامه هذا من حكم الإسلام فيه بالكفر أو التبديع، إذا ارتكب موجباتها. فلو طفق اليهود والنصارى وبقية الكفرة: يعيبون على المسلمين تكفيرهم لهم وتضليلهم: لم يكن للمسلمين ترك ذلك. [المقدمة الثانية: أن الحق واحد يعرفه المهتدون بدليله من الوحي] المقدمة الثانية: أن الحق واحد يعرفه المهتدون بدليله من الوحي، فكثرة زاعميه من المخالفين لا تجعله ملتبسا ولا خفيا إلا على من جهل الوحي، وكان سبب الهداية ودليلها عنده: الدعاوى الخالية، أو المزاعم الخاوية، أو كثرة المدعين وسوادهم، قال - عز وجل -: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50] . وقد زعم اليهود الاهتداء ونفوه عن النصارى، وكذلك زعم النصارى، وفعلوا باليهود ما فعله اليهود بهم من قبل! قال - سبحانه -: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] .

المقدمة الثالثة: أن الجهمية ومن لف لفها وقال بقولها كافر خارج من الإسلام

ثم عاب الله - تعالى - عليهم ذلك، وبينهم الوحي، لم يرجعوا إليه فقال: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113] ، وقال سبحانه: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135] . وقال - جل وعلا - مبينا سبب ضلال الأمم الماضية، وسبب هداية من هدى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ - فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 29 - 32] . [المقدمة الثالثة: أن الجهمية ومن لف لفها وقال بقولها كافر خارج من الإسلام] المقدمة الثالثة: أن الجهمية ومن لف لفها وقال بقولها، من خلق القرآن أو تعطيل صفات الرحمن وغير ذلك، من تلك المسالك والمهالك: فهو كافر خارج من الإسلام مرتد عنه، بإجماع أئمة الإسلام. حكى إجماعهم جماعات، وروي ذلك - ثابتا - عن عشرات بل مئات، زادت عدتهم على خمس مائة إمام من أئمة السلف، وحفاظ الإسلام. وقد ساق أسماءهم بأقوالهم مسندة: الحافظ الكبير، ذو القدر الخطير، أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي الشافعي (ت 418 هـ) في كتابه العظيم " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة "

(1 / 260 - 342) وحكى إجماع سلف الأمة وعلمائها على ذلك. ثم قال بعد ذلك (1 / 344) : (فهؤلاء خمس مائة وخمسون نفسا أو كثر من التابعين وأتباع التابعين، والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين، على اختلاف الأعصار، ومضي السنين والأعوام. وفيهم نحو مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم، وتدينوا بمذاهبهم، ولو اشتغلت بنقل أقوال المحدثين: لبلغت أسماؤهم ألوفا كثيرة. لكني اختصرت وحذفت الأسانيد للاختصار، ونقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر، لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه، أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه. ولا خلاف بين الأمة: أن أول من قال " القرآن مخلوق ": جعد بن درهم في سني نيف وعشرين، ثم جهم بن صفوان) اهـ. وحكى إجماعهم قبله عن هؤلاء الأئمة الأعلام أيضا: الحافظ أبو القاسم سليمان بن أيوب الطبراني (ت 360 هـ) - رحمه الله - في كتابه " السنة "، ولذلك أشار الإمام العالم العامل، أبو عبد الله ابن قيم الجوزية في " الكافية الشافية، في الانتصار للفرقة الناجية " بقوله: ولقد تقلد كفرهم , خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عنهم ... بل قد حكاه قبله الطبراني وقد ذكر مؤرخ الإسلام أبو عبد الله الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (12 / 290) : أن عدد من نصوا على أن " القرآن كلام الله غير مخلوق "

من أئمة السلف: أزيد من ثلاثمائة إمام. وروى اللالكائي في " شرح السنة " أيضا بسنده (1 / 253) : عن عمرو بن دينار قال: (أدركت تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: " من قال القرآن مخلوق: فهو كافر ") اهـ وروى البخاري في كتابه " خلق أفعال العباد " في أول أثر فيه بسند صحيح قال: (حدثني الحكم بن محمد الطبري - كتبت عنه بمكة - قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: (أدركت مشايخنا منذ سبعين سنة - منهم عمرو بن دينار - يقولون: القرآن كلام الله، وليس بمخلوق) . ورواه: * البخاري أيضا في " تاريخه " (2666) بهذا الإسناد. * واللالكائي في " شرح السنة " (386) و (396) . * والبيهقي في " الأسماء والصفات " (ص 315) ، و " الاعتقاد " (ص 46) . ورواه: * الإمام أبو سعيد الدارمي في " الرد على الجهمية " (344) . * والبيهقي في " الأسماء والصفات " (315) ، و " الاعتقاد " (ص 38) . * وابن بطة في " الإبانة الكبرى " (2 / 548) من طريق إسحاق بن راهويه عن سفيان عن عمرو به. وقال اللالكائي في " شرح السنة " بعد روايته للأثر السابق (1 / 267) : (ولقد لقي ابن عيينة نحوا من مائتي نفس من التابعين من

العلماء، وأكثر من ثلاثمائة من أتباع التابعين، من أهل الحرمين، والكوفة، والبصرة، والشام، ومصر، واليمن) اهـ. والمسألة مبسوطة بتفصيل، وذكر أقوال أئمة السلف فيها، في كتب معتقد أهل السنة المسندة وغيرها، مثل: * " الرد على الجهمية " لأبي سعيد عثمان بن سعيد الدارمي (ت 280 هـ) . * و " رد عثمان بن سعيد، على بشر المريسي الكافر العنيد " للدارمي (ت 280 هـ) كذلك. * و " السنة " لابن أبي عاصم (ت 287 هـ) . * و " السنة " لعبد الله بن الإمام أحمد (ت 290 هـ) . * و " السنة " لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال (ت 311 هـ) . * و " الشريعة " لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ت 360) . * و " الإبانة الكبرى " لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد ابن بطة العكبري (ت 387) . * و " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " لأبي القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي (ت 418 هـ) . * و " الأسماء والصفات " لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) . * و " الاعتقاد " له أيضا. * و " ذم الكلام وأهله " لشيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي (ت 481 هـ) ، وكلها مطبوعة، وغيرها.

وقال الحافظ أبو العلاء الهمذاني (ت 569 هـ) قي " فتواه في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف " (ص 90 - 91) : (فصل في ذكر الاعتقاد الذي أجمع عليه علماء البلاد) . ثم روى بسنده الصحيح إلى الإمام الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم (ت 327 هـ) قال: (سألت أبي وأبا زرعة - رضي الله عنهما -: عن مذاهب أهل السنة، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار: حجازا، وعراقا، ومصر، وشاما، ويمنا؟ فكان من مذهبهم: * أن الإيمان قول، وعمل، يزيد، وينقص. * والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته) . ثم ذكر بقية معتقدهما، إلى أن قالا (ص 93) : * (وأن الجهمية كفار. * والرافضة رفضوا الإسلام. * والخوارج مراق. * ومن زعم أن القرآن مخلوق: فهو كافر كفرا ينقل عن الملة. * ومن شك في كفره ممن يفهم: فهو كافر. * ومن شك في كلام الله، فوقف فيه شاكا يقول: لا أدري مخلون أو غير مخلوق: فهو جهمي. * ومن وقف في القرآن جاهلا: علم، وبدع، ولم يكفر.

* ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو القرآن بلفظي مخلوق: فهو جهمي) اهـ. وممن كفر القائلين بخلق القرآن، جماعات - ذكر كثيرا منهم: الحافظان أبو القاسم الطبراني واللالكائي كما سبق - منهم: - علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، زين العابدين الهاشمي (ت 93هـ) ، - وابنه: محمد، أبو جعفر الباقر (ت 114 هـ) . - وحماد بن أبي سليمان الكوفي (ت 120 هـ) . - وعمرو بن دينار الأثرم (ت 126 هـ) . - وجعفر بن محمد بن علي بن الحسين (ت 148هـ) . - والنعمان بن ثابت، أبو حنيفة الإمام (ت. 150 هـ) . - وسفيان بن سعيد الثوري (ت 161 هـ) . - والليث بن سعد الفهمي (ت 175هـ) . - وموسى بن أعين الجزري (ت 177 هـ) . - ومالك بن أنس الأصبحي، الإمام (ت 179 هـ) . - وعبد الله بن المبارك الحنظلي المروزي (ت 181 هـ) . - ويعقوب بن إبراهيم، أبو يوسف صاحب أبي حنيفة (ت 182 هـ) . - وهشيم بن بشير، أبو معاوية السلمي (ت 183 هـ) . - ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة الهمداني (ت 183 هـ) . - وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري (ت 185 هـ) .

- وإبراهيم بن محمد بن الحارث، أبو إسحاق الفزاري (ت 185 هـ) . - وعبدة بن سليمان الكلابي (ت 187 هـ) . - ومعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي (ت 187 هـ) . - ومحمد بن يزيد الواسطي (ت 188 هـ) . - وجرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي (ت 188 هـ) . - ومحمد بن الحسن بن فرقد الشيباني (ت 189 هـ) . - وعبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي (ت 192 هـ) . - وأبو بكر بن عياش (ت 139 هـ) . - وإسماعيل بن إبراهيم بن مقسم ابن علية البصري الحافظ (ت 193 هـ) . - وحفص بن غياث بن طلق النخعي (ت 149هـ) . - وعبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي (ت 194 هـ) . - والوليد بن مسلم الدمشقي (ت 195 هـ) . - ومحمد بن خازم السعدي، أبو معاوية الضرير (ت 195 هـ) . - ووكيع بن الجراح (ت 196 هـ) . - ومعاذ بن معاذ بن نصر العنبري (ت 196 هـ) . - وسفيان بن عيينة (ت 198هـ) . - ويحيى بن سعيد بن فروخ القطان (ت 198هـ) . - وعبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري (ت 198 هـ) . - وإسحاق بن سليمان الرازي الكوفي (ت 200 هـ) .

- وموسى بن سليمان الجوزجاني الحنفي (ت 200 هـ) . - وحماد بن أسامة بن زيد، أبو أسامة القرشي (ت 201 هـ) . - وعلي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الهاشمي، الرضى (ت 203 هـ) . - ومحمد بن إدريس الشافعي، أبو عبد الله الإمام (ت 204 هـ) . - ووهب بن جرير بن حازم الأزدي (ت 206هـ) . - وشبابة بن سوار الفزاري (ت 206 هـ) . - ومؤمل بن إسماعيل العدوي البصري (ت 206 هـ) . - وحجاج بن محمد الأعور المصيصي (ت 206 هـ) . - وهاشم بن القاسم الليثي، أبو النضر البغدادي (ت 207 هـ) . - وحسن بن موسى الأشيب (ت 209 هـ) . - وعبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني (ت 211 هـ) . - ومحمد بن يوسف بن واقد الفريابي (ت 212 هـ) . - والضحاك بن مخلد بن الضحاك الشيباني، أبو عاصم النبيل (ت 212 هـ) . - وعبد الله بن داود بن عامر الخريبي (ت 213 هـ) . - ومحمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري (ت 215 هـ) . - وعبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى الغساني الدمشقي (ت 218 هـ) . - وعفان بن مسلم بن عبد الله الصفار (ت 219 هـ) .

- وإبراهيم بن موسى بن يزيد الفراء (ت 220 هـ) . - والقاسم بن سلام، أبو عبيد البغدادي (ت 224 هـ) . - ومحمد بن مقاتل المروزي (ت 226 هـ) . - ويحيى بن يحيى بن بكر التميمي النيسابوري (ت 226 هـ) . - وهشام بن عبد الملك، أبو الوليد الطيالسي (ت 227 هـ) . - وعبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي (ت 231 هـ) . - ويوسف بن يحيى البويطي، صاحب الشافعي (ت 231 هـ) . - ويحيى بن معين بن عون الغطفاني (ت 233 هـ) . - وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني (ت 234 هـ) . - وزهير بن حرب بن شداد النسائي (ت 234 هـ) . - وسليمان بن داود العتكي، أبو الربيع الزهراني (ت 234 هـ) . - وعبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي، أبو بكر الحافظ (ت 235 هـ) . - وإسماعيل بن إبراهيم بن معمر، أبو معمر القطيعي (ت 236 هـ) . - وشيبان بن فروخ (ت 236 هـ) . - وعبد الأعلى بن حماد بن نصر النرسي (ت 237 هـ) . - وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي، ابن راهويه الحافظ (ت 238 هـ) . - ومحمود بن غيلان المروزي (ت 239 هـ) . - وعثمان بن محمد بن أبي شيبة العبسي، أبو الحسن الكوفي (ت 239 هـ) . - وقتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي (ت. 24 هـ) .

- وأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الله إمام أهل السنة، وحافظ الإسلام (ت 241 هـ) . - وهناد بن السري بن مصعب الدارمي (ت 243 هـ) . - وهارون بن عبد الله بن مروان الحمال (ت 243 هـ) . - وعلي بن حجر بن إياس السعدي (ت 244 هـ) . - وإسحاق بن موسى بن عبد الله الأنصاري (ت 244 هـ) . - وهشام بن عمار بن نصير الدمشقي (ت 245 هـ) . - ومحمد بن رافع بن سابور القشيري النيسابوري (ت 245 هـ) . - ومحمد بن سليمان بن حبيب الأسدي، لوين (ت 245 هـ) . - ومحمد بن العلاء بن كريب، أبو كريب الهمداني (ت 248 هـ) . - وعبد الوهاب بن عبد الحكم بن نافع الوراق (ت 251 هـ) . - ومحمد بن بشار بن عثمان العبدي، بندار (ت 252 هـ) . - ومحمد بن المثنى بن عبيد، أبو موسى العنزي (ت 252 هـ) ، - وأحمد بن سعيد بن صخر الدارمي (ت 253 هـ) . - ومحمد بن حرب النشائي (ت 255 هـ) . - ومحمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري (ت 256 هـ) . - وعبد الله بن سعيد بن حصين الكندي، أبو سعيد الأشج (ت 257 هـ) . - والحسن بن عرفة بن يزيد العبدي (ت 257 هـ) . - وعلي بن خشرم بن عبد الرحمن المروزي الحافظ (ت 257 هـ) .

المقدمة الرابعة أنه ما كفر من كفر ولا ضل من ضل إلا بتعليل باطل أو تأويل فاسد

- ومحمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي النيسابوري (ت 258 هـ) . - ومسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري (ت 261 هـ) . - ويونس بن عبد الأعلى بن موسى الصدفي (ت 264 هـ) . - وعبيد الله بن عبد الرحمن بن يزيد، أبو زرعة الرازي (ت 264 هـ) . - وإسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني (ت 264 هـ) . - ويحيى بن محمد بن يحيى الذهلي (ت 267 هـ) . - والربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي (ت 270 هـ) . - ومحمد بن حماد الطهراني الرازي (ت 271 هـ) . - ومحمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي، أبو حاتم الرازي (ت 277 هـ) . - وسهل بن عبد الله بن يونس التستري (ت 283 هـ) . هؤلاء أكثر من مائة إمام، كلهم من أئمة الإسلام، وشيوخه العظام، فضلهم ظاهر، ونور صبح خيرهم سافر. [المقدمة الرابعة أنه ما كفر من كفر ولا ضل من ضل إلا بتعليل باطل أو تأويل فاسد] أما التعليل الباطل: فأول من كفر به إبليس، فإن الله - سبحانه - لما أمره أن يسجد لآدم: أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] ، فقال سبحانه: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ - وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 34 - 35] .

ولما دعى نوح - عليه السلام - قومه للتوحيد والإيمان: كفروا ولم يستجيبوا، وعللوا قبيح فعلهم، بكون رسولهم بشرا مثلهم! وأتباعه ضعفاء! قال - تعالى -: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ - قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 25 - 28] . ومشركو العرب لما اتخذوا الأصنام وعبدوها، عللوا ذلك بأنها شفعاؤهم عند الله فحسب! قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] . وقال جل وعلا: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] . ولما بعث الله - سبحانه وتعالى - نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - قال المشركون: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . فهؤلاء جميعا سلف من رد الوحي بعقله ورأيه، ومآله هو كمآلهم هم، عياذا بالله من سخطه وعذابه وعقابه.

أما التأويل الفاسد: فما من طامة أدخلت في الإسلام، أو راجت على بعض أهله إلا بسببه. وما افترقت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة إلا بالتأويل. ولم يقتل عثمان وعلي - رضي الله عنهما - إلا به، ولا مرقت الخوارج من الإسلام إلا لأجله، ولأجله استباحوا دماء المسلمين المعصومة وأموالهم. وكل فرقة ضلت عن صراط الله المستقيم، أو أضلت غيرها عنه: فبه وبسببه. ولله در الإمام الكبير أبي عبد الله محمد ابن قيم الجوزية، حين وصف خطر التأويل الفاسد وضرره العظيم، فقال في نونيته " الكافية الشافية، في الانتصار للفرقة الناجية ": (فصل في جناية التأويل على ما جاء به الرسول، والفرق بين المردود منه والمقبول) هذا وأصل بلية الإسلام من ... تأويل ذي التحريف والبطلان وهو الذي قد فرق السبعين بل ... زادت ثلاثا قول ذي البرهان وهو الذي قتل الخليفة جامع الـ ... ــقرآن ذا النورين والإحسان وهو الذي قتل الخليفة بعده ... أعني عليا قاتل الأقران وهو الذي قتل الحسين وأهله ... فغدوا عليه ممزقي اللحمان

وهو الذي في يوم حرتهم أبا ... ح حمى المدينة معقل الإيمان حتى جرت تلك الدماء كأنها ... في يوم عيد سنة القربان وغدا له الحجاج يسفكها ويقـ ... ـتل صاحب الإيمان والقرآن وجرى بمكة ما جرى من أجله ... من عسكر الحجاج ذي العدوان وهو الذي أنشا الخوارج مثلما ... أنشأ الروافض أخبث الحيوان ولأجله شتموا خيار الخلق بعـ ... ــــــد الرسل بالعدوان والبهتان ولأجله سل البغاة سيوفهم ... ظنا بأنهم ذوو إحسان ولأجله قد قال أهل الاعتزا ... ل مقالة هدت قوى الإيمان ولأجله قالوا بأن كلامه ... سبحانه خلق من الأكوان ولأجله قد كذبت بقضائه ... شبه المجوس العابدي النيران ولأجله قد خلدوا أهل الكبا ... ئر في الجحيم كعابدي الأوثان

ولأجله قد أنكروا لشفاعة الـ ... ـمختار فيهم غاية النكران ولأجله ضرب الإمام بسوطهم ... صديق أهل السنة الشيباني ولأجله قد قال جهم ليس رب ... العرش خارج هذه الأكوان كلا , ولا فوق السماوات العلا ... والعرش من رب ولا رحمن ما فوقها رب يطاع , جباهنا ... تهوي له بسجود ذي خضعان ولأجله جحدت صفات كماله ... والعرش أخلوه من الرحمن ولأجله أفنى الجحيم وجنة الـ ... ـمأوى مقالة كاذب فتان ولأجله قالوا الإله معطل ... أزلا بغير نهاية وزمان ولأجله قد قال ليس لفعله ... من غاية هي حكمة الديان ولأجله قد كذبوا بنزوله ... نحو السماء بنصف ليل ثان ولأجله زعموا الكتاب عبارة ... وحكاية عن ذلك القرآن

ما عندنا شيء سوى المخلوق والـ ... ـقرآن لم يسمع من الرحمن ماذا كلام الله قط حقيقة ... لكن مجاز , ويح ذا البهتان ولأجله قتل ابن نصر أحمد ... ذاك الخزاعي العظيم الشان إذ قال: ذا القرآن نفس كلامه ... ما ذاك مخلوق من الأكوان وهو الذي جر ابن سينا ... والألى قالوا مقالته على الكفران فتأولوا خلق السماوات العلا ... وحدوثها بحقيقة الإمكان وتأولوا علم الإله وقوله ... وصفاته بالسلب والبطلان وتأولوا البعث الذي جاءت به ... رسل الإله لهذه الأبدان بفراقها لعناصر قد ركبت ... حتى تعود بسيطة الأركان وهو الذي جر القرامطة الألى ... يتأولون شرائع الإيمان فتأولوا العملي مثل تأول الـ ... ـعلمي عندكم بلا فرقان

المقدمة الخامسة أن المالكي متناقض تناقضا شديدا في كتابه هذا وفي غيره

وهو الذي جر النصير وحزبه ... حتى أتوا بعساكر الكفران فجرى على الإسلام أعظم محنة ... وخمارها فينا إلى ذا الآن [المقدمة الخامسة أن المالكي متناقض تناقضا شديدا في كتابه هذا وفي غيره] المقدمة الخامسة: أن المالكي متناقض تناقضا شديدا في كتابه هذا، وفي غيره، فلا تجده يأمر بأمر إلا خالفه! ولا ينهى عن شيء إلا ارتكبه! مع رميه الحنابلة - وهم سالمون منه - بذلك! 1 - فأمر وأوجب حصر بحوثنا وتصانيفنا في الرد على الإلحاد القادم! والتنصير! وإبطال النبوات ونحوها. وهذا يناقض أفعاله! فكتبه كلها وبحوثه ومقالاته - بلا استثناء -: فيما نهى عن الخوض فيه، من ذكر الخلافات بين المسلمين! ولم يكتب حرفا واحدا في كتاب أو بحث أو مقال فيما أمر به وأوجبه! 2 - ثم أمر الناس! وأوجب عليهم! : الاقتصار على الإيمان الجملي بالكليات! والإتيان بالواجبات والطاعات الكبرى المجمع عليها! واجتناب المعاصي الكبرى المجمع عليها! كما يسميها. وهذا مناقض لأفعاله وأقواله! فخاض فيما نهى عن الخوض فيه! مما هو ليس داخلا في الإيمانيات الجملية الكبرى! والواجبات الكبرى!

بل زاد على ذلك: التعصب لإثباتها! والإنكار على المخالف فيها! فأخرج جماعة من الصحابة من حد الصحبة! وطعن في إجماع الصحابة على بيعة أبي بكر! رضي الله عنه وعنهم، وطعن في جماعات من أئمة السلف والخلف، ورماهم بما هم برآء منه، مما سيأتي تفصيله. وطعن في علماء الحنابلة! زاعما أن طعنه في غلاتهم فحسب! وقد طعن في إمامهم! وإمام أهل السنة قاطبة أحمد بن حنبل رضي الله عنه. بل أشغل نفسه ومن يقرأ له بما هو دون ذلك بكثير: فكتب مقالات كثيرة ورد على باحثين كثر في القعقاع بن عمرو، أيصح وجوده أم لا؟ ! وكأن مناط صحة الإيمان - عنده - أو استقامة الشريعة وحوزتها، معلق بصحة وجوده أو عدمه! ! 3 - ثم أنكر على الحنابلة كرههم وبغضهم وشدتهم على أهل البدع، لكونهم داخلين في الإسلام! ثم أغلظ على الحنابلة وشتمهم، وافترى عليهم وطعن فيهم، لبغضه لهم مع أنهم داخلون في الإسلام! 4 - وطعن المالكي في البربهاري وهو أحد أئمة الإسلام - رحمه الله رحمة واسعة، وأكرم نزله ورفعه - وأساء القول فيه، لزعمه: أن البربهاري لا يريد إلا الآثار! ويذم من أراد القرآن دونها! ثم تناقض فمدح الرافضة وهون مخالفتهم لأهل السنة، مع أنهم مجمعون على الطعن في القرآن! والقول بنقصه وتحريفه! ومجمعون

على الطعن في كتب السنة جميعا! لرواية النواصب لها بزعمهم! فمن أولى بالطعن والذم: البربهاري أم الرافضة؟ ! 5 - وأنكر على أهل السنة عامة، وخص منهم الحنابلة: مطالبتهم بالسلف، في مسائل الاعتقاد. وزعم أن مرد ذلك إلى الكتاب والسنة ولغة العرب، دون اشتراط المتابعة للسلف الصالح! ثم تناقض! فبدع من أطلق لفظ " العقيدة " على أمور الإيمان والاعتقاد: لعدم وجود سلف لهذا الإطلاق! ! وخلو القرآن والسنة منه. 6 - وأمر بالعودة إلى متواتر السنة ثم الصحيح المشهور، وترك الأحاديث المتنازع فيها، سواء كان النزاع من حيث الثبوت، أو دلالة النص. ثم تناقض! فطعن في بعض العلماء والأئمة لتضعيفهم بعض الأحاديث التي لم تثبت، ولم يروها أحد من أهل الصحاح وليست متواترة، بل حكم بعض الأئمة بوضعها وكذبها، كحديث: (أنا مدينة العلم، وعلي بابها) ! فقد أنكر المالكي على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تضعيفه له، مع أنه غير مسلم بصحته! والثابت ضعفه. 7 - وحرم المالكي الإنكار على من أداه اجتهاده إلى قول ما، مما ليس من أمور الدين المعلومة بالضرورة. ثم تناقض! فأنكر على الحنابلة وغيرهم كثيرا من أقوالهم واجتهاداتهم، مع أنها - عنده - ليست من أمور الدين المعلومة

بالضرورة! وحسبك إنكاره على من أثبت وجود القعقاع بن عمرو، أو أثنى على بني أمية، أو ضعف حديث " أنا مدينة العلم، وعلي بابها ". 8 - وأنكر المالكي استخدام لفظ " العقيدة " في مسائل الإيمان والاعتقاد، لزعمه أنه لفظ مبتدع! ثم تناقض! فاستخدمه في غير موضع دون إنكار ولا تنبيه! 9 - وزعم أن الحنابلة كانوا يضعفون البيهقي! رحمه الله. ثم تناقض! فنسب القول بتضعيف البيهقي إلى شيخنا العلامة المحقق صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان حفظه الله، وزعم أنه أول من ضعف البيهقي! ! وتكلم فيه! ! ولا أدري! كيف كان الحنابلة يضعفون البيهقي، وأول من تكلم فيه شيخنا صالح الفوزان؟ ! وسيأتي بيان كذبه في نسبة تضعيف الشيخ صالح للبيهقي، وأنه عند الشيخ صالح الفوزان وأئمة السنة كلهم: حافظ إمام. 10 - وزعم أن الحنابلة رموا مذهب أبي حنيفة برد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل ذلك ظلما وكذبا. ثم تناقض! فأثبت لأبي حنيفة وأصحابه رد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إلا أنه جعل مرد ذلك وسببه: منهجهم المتشدد في قبول الحديث! وكأن محل النزاع: سبب الرد لا وجوده! 11 - وزعم أن من صفات الحنابلة النصب! وانتقاص جماعة من آل البيت! ووجود حساسية عندهم من الثناء على علي بن أبي طالب

المقدمة السادسة أن المالكي لا دليل له على جميع دعاواه التي ذكرها في كتابه هذا

رضي الله عنه وأهل بيته! ثم تناقض! فدافع عن الإباضية وهم نواصب باتفاق، فطعنهم في الخليفتين الراشدين عثمان وعلي - رضي الله عنهما - ظاهر مشهور، وكلاهما من آل البيت. هذا طرف من تناقضات المالكي، وسيأتي تفصيلها وذكر مثيلاتها عند الشروع في الرد بمشيئة الله. [المقدمة السادسة أن المالكي لا دليل له على جميع دعاواه التي ذكرها في كتابه هذا] المقدمة السادسة: أن المالكي لا دليل له على جميع دعاواه التي ذكرها في كتابه هذا، لذا تراه يلقي التهمة العظيمة، والفرية الكبيرة، دون دليل إلا أن يفتريه ولا وجود له! 1 - فزعم أن بعض الحنابلة ما زال على ذم بعض أئمة آل البيت! البريئين من غلو الأتباع، مع المبالغة في مدح بني أمية! وتبرير مظالمهم! ثم لم يذكر من المقصود ببعض الحنابلة! ولا المقصود ببعض آل البيت! البريئين من غلو الأتباع. 2 - ورمى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والشيخ صالحا الفوزان حفظه الله: بالنصب! ولم يذكر دليلا! ولا مثالا صحيحا! 3 - ورمى الحنابلة بالتشديد في نقد الرجال وتضعيفهم ممن لا يوافقونهم في شواذ العقائد، حتى ذموا لذلك البخاري ومسلما ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم!

ثم لم يذكر من أولئك الحنابلة الذامون للبخاري ومن ذكر معه! ولم يذكر شواذ العقائد التي قال بها أولئك الحنابلة وخالفهم فيها البخاري ومسلم ويحيى بن معين وعلي بن المديني! وقد بينت في موضعه كذب زعمه هذا وبطلانه. 4 - ورمى الحنابلة بالتكفير بأشياء ليست مكفرة! أو دون استيفاء شروط التكفير! ثم لم يذكر تلك المكفرات التي كفر بها الحنابلة وليست مكفرة! ولم يذكر شروط التكفير! التي لم يراعها الحنابلة. 5 - ورمى غلاة الحنابلة - كما يسميهم - بالاشتهار بالكذب على الإمام أحمد! ثم لم يذكر من هم أولئك الغلاة الكذابون؟ ! أو واحدا منهم فحسب؟ ! أو تلك الأقوال التي كذبوها؟ ! ولو قولا واحدا فحسب؟ ! 6 - وذكر أن الحنابلة يأمرون الناس بالوقوف عند النصوص الشرعية وعدم الزيادة عليها، وهم يزيدون فيها كثيرا من العقائد مما ليست في الكتاب والسنة! ولم يذكر تلك الزيادات التي زادها الحنابلة وليست في الكتاب والسنة! أو شيئا منها! 7 - وزعم أن الحنابلة يأمرون الناس بمضايق الاعتقادات التي لم تخطر على بال صحابي ولا تابعي! وبمسميات وألقاب ما أنزل الله بها من سلطان.

ولم يذكر لنا تلك المضايق ولا تلك المسميات والألقاب! ولا حتى شيئا منها! 8 - وزعم الح الحنابلة يدعون الإجماع في أمور ليس فيها إجماع! فإذا احتج عليهم بالإجماع: أنكروه وقالوا: " من ادعى الإجماع فقد كذب وما أدراك فلعل الناس قد اختلفوا "! ولم يذكر لنا تلك المسائل التي ادعى الحنابلة فيها الإجماع - دون غيرهم - فلم يصيبوا! أو تلك الأمور المجمع عليها وخالفها الحنابلة! وأنكروا انعقاد الإجماع عليها! 9 - وزعم أن أحد الأساتذة بجامعة سعودية: ذكر له أن عند بعض طلاب الجامعة آراءا إلحادية! ولم يذكر تلك الآراء الإلحادية! ومقياس الإلحاد عنده وعند محدثه الأستاذ! ! فلربما كان إلحاد أولئك الطلبة من جنس إلحاد الحنابلة! وإمامهم! وإلحاد أهل السنة في المعتقد! 10 - وزعم أن كثيرا من النقول عن الإمام أحمد في التكفير لو صحت: لردت عليه! لعدم استيفائها ضوابط التكفير التي دلت عليها النصوص الشرعية! ثم لم يذكر شيئا من تلك النقول التي لم تستوف الشروط! ولا تلك الضوابط والشروط للتكفير التي دلت عليها النصوص الشرعية، وغابت عن الإمام أحمد!

11 - وزعم أن المبالغة في صغائر المعتقدات، المرتكزة على نصوص ظنية بزعمه: كان سببها: الصراعات السياسية والمذهبية، وتسلط الحكام! ولم يذكر لنا مثالا واحدا على ذلك! من صغائر المعتقدات المبالغ فيها وهي لم تثبت إلا بنصوص ظنية! 12 - وزعم أننا نتواصى بالصبر على انتقاص علي وأهل بيته! رضي الله عنهم، وتكفير أبي حنيفة وسائر المسلمين! وعلى الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبريره! ونتواصى على تشبيه الله بخلقه جل وعلا! ثم لم يذكر مثالا، أو مثل لبعضها بمثال مكذوب لا حقيقة له! 13 - وزعم أن الحنابلة، خوارج وثوار على السلاطين! ثم لم يذكر دليلا أو مثالا واحدا! 14 - ورمى الحنابلة بعدم إدراك معاني الألفاظ والمصطلحات التي يتحدثون عنها! ويطلقون عبارات ضخمة، فإذا سألت أحدهم عن معانيها: بهت! ولم يذكر تلك الألفاظ والمصطلحات ولا واحدا منها! 15 - وزعم أن غلاة العقائديين من أقل الناس فهما لحجج المخالفين. ثم لم يبين من هم أولئك الغلاة! وحد الغلو عنده وضابطه؟ ! وما حجج المخالفين تلك التي لم يفهمها الغلاة!

16 - وزعم أنا نطلق لفظ السلف الصالح ثم نحصره في خمسة أشخاص جاءوا في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع! ورجلين جاءا في القرن الثامن! ثم لم يذكر من هم هؤلاء الحاصرون للسلف الصالح في سبعة أشخاص! ومن هم هؤلاء السبعة! 17 - وزعم أن في الحنابلة غلاة! ورماهم بأمور باطلة كثيرة يأتي بيانها بمشيئة الله. ثم لم يبين حد الغلو عنده! ومن هؤلاء الغلاة! وما الفرق بينهم وبين معتدليهم! الذي جعل أولئك غلاة وهؤلاء معتدلين! بل ولم يسم حنبليا واحدا في المعتدلين. وهذا أوان الشروع في الرد وفصوله، فأقول مستعينا بالله جل وعلا، وعليه توفيقي

فصل في بطلان ما ادعاه المالكي لنفسه من طلب للعلم والحق

[فصل في بطلان ما ادعاه المالكي لنفسه من طلب للعلم والحق] فصل في بطلان ما ادعاه المالكي لنفسه، من طلب للعلم والحق قال المالكي ص (9) : (أولا: قد يكون من فضول القول: التأكيد بأنني والحمد لله، من طلبة الحق والعلم، ومن أهل السنة والجماعة. ولا أرفع من الشعارات إلا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. متحريا الحق والصواب بحسب قدراتي واجتهادي، فما أصبت فيه الحق، فمن توفيق الله وفضله، وما أخطأت فيه فمن ضعف أنفسنا ومن الشيطان ونستغفر الله، ولا أدعي في أبحاثي السلامة من الخطأ) اهـ. والجواب: أن المالكي ادعى في هذه المقدمة مسائل عدة، كلها باطلة: - أولاها: أنه من طلبة الحق، متحر له وللصواب بحسب قدرته. وهذا باطل، فطالب الحق والمتحري للصواب: لا يكذب في نقله ولا ينسب أقوالا لغير أصحابها، ولا يبتر النقول ويحرف النصوص - وسيأتي بمشيئة الله تفصيله - وإنما ينقل بأمانة ويؤدي بسلامة ثم ينقد. - الثانية: أنه من طلبة العلم!

وهذا باطل أيضا، فإن العلم يؤخذ من أهله، فعلى من درس؟ ! ولم يعرف إلا بالجلوس عند أهل الأهواء والبدع والريب، والأخذ عنهم، وها هو ذا يحاول في كتابه هذا، تقريبهم وترويجهم لأهل السنة. - الثالثة: أنه من أهل السنة والجماعة! وكتابه هذا شاهد عليه ببطلان ذلك، وأنه مبتدع رافضي وأبعد الناس عن السنة وأهلها. بل إن في كتابه هذا مسائل مبتدعة، لم يجرؤ كثير من المبتدعة على التصريح بها والمجاهرة بنشرها، كما فعل هو. - الرابعة: أنه لا يرفع من الشعارات إلا قال الله وقال رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا باطل، فإنه لم يرفع من الشعارات إلا شعارات المبتدعة، وقد صرح المالكي في غير موضع من كتابه هذا، وأمر الناس وألزمهم: أن يجتمعوا على خطوط الإسلام العريضة - كما سماها - الإيمانيات القطعية، وهي أركان الإيمان الستة فقط، إيمانا جمليا بلا تفصيل. وأمرهم كذلك بالالتزام بالمحرمات والواجبات المقطوع بها، غير المتنازع فيها فحسب! فأين قال الله وقال رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يرد أمرهما حين يخالف من الناس مخالف؟ ! وكيف يجعل خلاف من خالف: حاكما عليهما محكما فيهما لا العكس؟ ! نسأل الله السلامة من الخذلان.

فصل في بطلان انتساب المالكي لمذهب أحمد

[فصل في بطلان انتساب المالكي لمذهب أحمد] فصل في بطلان انتساب المالكي لمذهب أحمد قال المالكي ص (10) : (ومن ذلك أيضا: أن يقوم حنبلي النشأة والتعليم والالتزام العام الواعي، بنقد أخطاء الحنابلة. لأن الحنابلة غير أحمد بن حنبل، مع أن أحمد بن حنبل نفسه بشر يخطىء ويصيب، وهو الذي حث أتباعه على ترك التقليد) إلخ كلامه. والجواب من وجوه: أحدها: أن دعواه أنه حنبلي، دعوى باطلة، وإنما هو زيدي معروف بذلك. وإن كان الضابط في المذهب: النشأة، فمذهب الزيدية أولى به، فلم ينشأ حنبليا. والولادة بالمملكة فحسب: لا تدخل أحدا في الحنابلة. مع أن في المملكة المذاهب الفقهية الأربعة وغيرها فقهية وعقدية! أما التعليم: فإن كان قصده بالتعليم: التعليم النظامي: فلم يكن تعليمه النظامي شرعيا حتى يقال فيه: حنبلي أو غير حنبلي! وإن كان قصده بالتعليم: التعليم في المساجد في حلقات المشايخ: فهذا باطل كذلك، فعلى من أخذ؟ وعمن تلقى ودرس؟ أما شيوخ هذه البلاد وعلماؤها: فلم يعرفوه إلا بضلالاته في كتبه بعد نشرها!

الثانية: أن من يقوم بالنقد الموفق: لا بد أن يكون بصيرا بما ينقد، أمينا لا جاهلا خائنا. الثالث: أن أئمة الدين كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، كانوا ينهون الناس عن تقليدهم في الفقه، لأنه مجال أخذ ورد، ومعلق بصحة الأدلة وضعفها. أما العقيدة: فلا، فإن الأمر فيها على التسليم، واتباع الكتاب والسنة على ما مضى عليه السلف الصالح. ولم يكن بينهم - رحمهم الله - خلاف واختلاف فيها حتى ينظر في الترجيح، وما يسنده الدليل وما هو خلو منه، بل أقوالهم متوافقة تخرج من مشكاة واحدة. لهذا لما خالفت المعتزلة الأمة بقولها بخلق القرآن، واستدلت لذلك واحتجت له بزعمها: لم يعذرهم أئمة الإسلام، بل كفروهم وأجمعوا على كفرهم، وقد قدمنا أسماء جملة من مكفريهم في " المقدمة الثالثة " أول الكتاب. وخلط المالكي هنا متعمد مقصود! معلوم النية والهدف!

فصل في بطلان حكم المالكي في المذهب

[فصل في بطلان حكم المالكي في المذهب] فصل في بطلان حكم المالكي في المذهب ثم أفتى المالكي! ص (10) فقال: (فالإسلام يجب الانتساب إليه. وترك الانتساب إليه: كفر مخرج من الملة بإجماع المسلمين قاطبة. أما المذهب: فلا يجب الانتساب إليه، بل قد يحرم إذا اقترن هذا الانتساب برد الحق المخالف للمذهب) إلخ كلامه. والجواب: أن هذه فتوى وحكم لا حقيقة له! فإن كان المالكي يعني بترك الانتساب إلى الإسلام: التمذهب! : غالب أئمة الإسلام والمسلمين على قوله: كفار! خارجون من الإسلام! لانتسابهم إلى تلك المذاهب! وهي عنده ليست الإسلام! وإن كان المقصود بترك الانتساب إلى الإسلام: أن يقول الرجل: " لست بمسلم": فهذا ليس بمسلم أصلا حتى نحكم بخروجه من الملة! وهل دخل فيها حتى يخرج منها؟ ! وإن كان مقصوده: الانتساب إلى المذاهب العقدية: فالمالكي نفسه كافر! فقد زعم فيما سبق: أنه من أهل السنة والجماعة، فلماذا ترك الانتساب إلى الإسلام وانتسب إلى غيره؟ !

فصل في بيان سبب اختيار المالكي مذهب الإمام أحمد لنقده

[فصل في بيان سبب اختيار المالكي مذهب الإمام أحمد لنقده] فصل في بيان سبب اختيار المالكي، مذهب الإمام أحمد لنقده قال المالكي ص (12 - 13) : (رابعا: بدايتي بنقد الأخطاء في كتب الحنابلة، له أسبابه المذكورة في الكتاب. وهذا لا يعني: أنني أقر أخطاء المذاهب الأخرى، سواء كانت سنية أو غير سنية. وقد ذكرت هذا صريحا في الكتاب، وذكرت أنني سأقوم بنقد مواطن الغلو في جميع المذاهب المشهورة، إيمانا مني بأن بيان الأخطاء وإيضاحها يسهم في وحدة المسلمين. لأن كل أصحاب مذهب لا يعرفون التواضع إلا إذا عرفوا أخطاء مذهبهم، وهذا التواضع يدفع أصحاب المذاهب لتصحيح مذهبهم قبل الانشغال بنقد الآخرين) اهـ والجواب من وجوه: أحدها: أنه اختار المذهب الحنبلي لشدة لزومه للسنة، وقيام الحنابلة بنصرة السنة حتى أصبح ذلك علما عليهم، من عهد إمامهم وإمام أهل السنة جميعا، الإمام أحمد - رضي الله عنه -، حين نصر السنة وقام بها وصدع بالحق، ولقي ما لقي في سبيل ذلك من ثلاثة خلفاء مبتدعة، أضلتهم المعتزلة فحملوا الأمة على القول بخلق القرآن.

وإلا لو كان السبب ما رآه من قصور وخلل: لكان مذهب الرافضة والمعتزلة والإباضية والزيدية ونحوهم: أولى بالنقد. أما الحنابلة: فمعتقدهم معتقد سلفي صحيح هو الإسلام الخالص من غير شائبة، لاعتصامهم بالوحيين على فهم السلف الصالح. إلا أن الحنابلة عند المالكي أولى بالنقد من أولئك جميعا، لاحتجاجهم بالأحاديث الموضوعة! والإسرائيليات! والتكفير والتبديع ظلما! كما صرح في غير موضع من كتابه. ولا أدري ما تلك الأحاديث التي احتج بها الحنابلة وكانت موضوعة أو إسرائيلية؟ أوما علم بكذب الرافضة وتعمدهم ذلك، وقد طفحت كتبهم بذلك؟ ! أم لم يعلم بتكفيرهم خيار الأمة، كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ ! أم أد؟ هذا من جملة إنصافه الذي وعد به؟ ! الثاني: أنني أتحدى المالكي - إن كان صادقا -: أن ينقد مذاهب الرافضة أو الزيدية أو الأشاعرة ونحوهم كما صنع في كتابه هذا، بهذه الوقاحة وهذه الصفاقة. إذ أنهم حزبه ورهطه الأدنون الناصرون المناصرون، وإن حاول ذر الرماد في العيون بكلامه هنا، وفي بعض التعليقات السمجة في حواشي بعض الصفحات، كنقده بعض مسائل الشيعة أو الزيدية، كاتخاذ بعض فرق الشيعة الغالية - كما يسميها -: قتل السني قربة!

وكأن هذه المسألة لم يقل بها إلا بعض الشاذين من الرافضة، مع إجماعهم - لعنهم الله - على تحريف القرآن ونقصه، واتهامهم أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعلى مسائل كثيرة يطول عرضها، كلهم مجمعون عليها، والسلف مجمعون على كفر من قال بها. وإنما عاب المالكي على الرافضة مسألة القتل دون غيرها: ليهون أمرها بعد ذلك حين زعم: أن جميع أهل المذاهب والعقائد - كما يزعم - يستحلون دماء المخالفين! كالرافضة تماما! فمن عاب الرافضة بهذا: لزمه عيب غيرهم! وها هم الحنابلة - ويعني بهم أهل السنة - يستحلون دماء القائلين بخلق القرآن! وهكذا. الثالثة: قوله بأن بيان الأخطاء وإيضاحها يسهم في وحدة المسلمين، فيه أمران: - الأول: أن ذلك لا يحصل إلا بنقد عالم عارف بما ينقد، وأن يكون ميزان نقده ميزان عدل وصدق، أما موازين المالكي: فباطلة تبخس الناس أشياءهم ولا توفيهم كيلهم، مع جهله وعدم معرفته. - الثاني: أن قوله هذا هنا، مناقض لما قرره في كتابه هذا مرارا، من أمره بترك الاختلافات، والتوحد على خطوط الإسلام العريضة! فإذا نقد أحذ مذهب المالكي الفاسد: كان ذلك النقد غير مثمر! مفرقا لوحدة المسلمين! ويجب ترك النقد والاتحاد على خطوط الإسلام العريضة!

أما إذا كان النقد لاعتقاد أهل السنة، كان النقد صائبا! يسهم في وحدة المسلمين! ! الرابعة: قوله بأن بيان الأخطاء وإيضاحها، يسبب تواضع المخالفين حين يرون خلل مذهبهم: - إن سلمنا ذلك - فهو مشروط بما سبق بالعلم والمعرفة، وسلامة الميزان، وقد قدمنا تعذرها جميعا في المالكي وتخلفها. ثم أنه لم يزل أهل السنة يردون على أهل البدع ولم نر منهم تواضعا. بل إما متعصب لبدعته، يزيده الرد بحثا لجمع الشبه، والاستكثار بها، وآخر رأى الحق فرجع عن مذهبه جملة. وعلى كلا الحالين: ليس فيهما متواضع لأخطاء مذهبه، بل إما متعصب، أو تارك لمذهبه إلى غيره.

فصل في عد المالكي كتابه هذا وأمثاله من نعم الله عز وجل على أمته

[فصل في عد المالكي كتابه هذا وأمثاله من نعم الله عز وجل على أمته] فصل في عد المالكي كتابه هذا وأمثاله، من نعم الله عز وجل على أمته! ! قال المالكي - مبينا نعمة الله - تعالى - على أمته بكتابه هذا! - ص (13) : (ولن نعرف الأخطاء التفصيلية إلا بمثل هذه الأبحاث التي تتناول مصادرنا الثانوية " كتب العلماء "، لا الأولية " القرآن والسنة " بالنقد العلمي المبني الواضح على الأدلة الشرعية) اهـ. والجواب من وجهين: أحدها: أن كتاب المالكي كتاب ضلالة لا علم فيه، يتضح ذلك ببرهانه إذا شرعنا في بيان انتقاداته على عقائد الحنابلة. الثاني: أن كتب العلماء المستندة على الوحيين، كتب أولية: لتعلق فهم الكتاب والسنة عليها. وهل يكون عالما بالكتاب والسنة: من لم يعرف معناهما؟ ! ولا المقصود بأحكامهما؟ ! وكيف يكون الكتاب والسنة مصادر أولية! وهي بهذه المثابة! مجهولة المقاصد والأحكام؟ ! وما فائدة جعلها أولية وهي غير معلومة؟ !

فصل في بيان تعميم المالكي أحكامه على جميع الحنابلة وكذب زعمه في نفي ذلك

[فصل في بيان تعميم المالكي أحكامه على جميع الحنابلة وكذب زعمه في نفي ذلك] فصل في بيان تعميم المالكي أحكامه على جميع الحنابلة، وكذب زعمه في نفي ذلك قال المالكي ص (13 - 14) : (خامسا: لم أقصد التعميم عندما أذكر كلمة " الحنابلة " أو " السلف من الحنابلة ". وقد صرحت في أكثر من موضع: أنني أريد الغلاة فقط، أو مواطن الغلو، وإذا كان ما ذكرته متفرقا وغير واضح: فإنني أؤكد الأمر الآن بأنني أعرف أن الحنابلة كغيرهم من أصحاب المذاهب، فيهم المعتدلون المنصفون الذين يحرصون على تجنب الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات وتجنب التكفير أو التبديع الظالم) اهـ ثم قال المالكي ص (14) : (لكن الخلاصة في هذه الفقرة: أن من ظن أنني أعمم الأخطاء على كل الحنابلة أو كتبهم، فقد أخطأ) اهـ. والجواب من أربعة وجوه: أحدها: أن المالكي لا يقصد بكلمة " الحنابلة ": الغلاة منهم، ولا غلاة فيهم أصلا، بل يقصد أهل السنة والجماعة والسلف كلهم. ودليل ذلك - أنه يعني أهل السنة عامة والسلف الصالح -: ظاهر بين، فإنه ذكر أقوالا نسبها للحنابلة ثم انتقدها، وشنع على قائليها وذم الحنابلة لأجلها، وهي في المصادر - التي نقل عنها المالكي

وغيرها -: أقوال لأئمة السلف وكبار علماء الإسلام قبل أحمد وأصحابه! كالفضيل بن عياض ومالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وغيرهم. فدعواه هنا وزعمه: كاذب. الثاني: أنه عد تكفير المخالفين كتكفير القائلين بخلق القرآن، غلوا ظاهرا - كما سيأتي - والحنابلة مجمعون على كفر أولئك، ولا خلاف بينهم في ذلك، فهم جميعا غلاة عنده. بل قد قدمنا إجماع السلف كذلك على ذلك، ويلحق السلف ما لحق الحنابلة! وقد عاب المالكي على غلاة الحنابلة - بزعمه - مسائل مجمعا عليها بين الحنابلة كافة، لا خلاف فيها بينهم، بل لا خلاف بين سلف الأمة فيها. ونحن نطالب المالكي هنا - ليظهر كذبه للناس -: أن يذكر لنا الحنابلة غير الغلاة! الذين رضي المالكي عنهم! ورضي مذهبهم وأقوالهم! وكانوا معتدلين عنده! وما كتبهم المرضية في العقيدة؟ ! الثالث: أن الحنابلة لا يحتجون إلا بالقرآن والسنة الصحيحة، أما ما في كتبهم من الموضوعات - كما يسميها المالكي، دون حجة أو دليل - أو الإسرائيليات: فأمرها مختلف، ولم يذكروها رحمهم الله احتجاجا، وإنما ذكروها لسببين: 1 - أحدهما: لبيان جميع ما ورد في ذلك الباب الواردة تحته، وهذه طريقة الأئمة في جمع الأحاديث والآثار في باب معين، إذا لم يشترطوا الصحة.

وقد فعل ذلك كثير من الحفاظ من غير الحنابلة، كالحافظ البيهقي في كتابه " الأسماء والصفات " وهو أشعري، بل من أئمة الأشاعرة، أورد في كتابه سالف الذكر شيئا من الموضوعات، وشيئا آخر من الإسرائيليات، قاصدا بيان جميع ما في الباب مما حفظ. قال شيخ الإسلام وعلم الأعلام، أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - في " منهاج السنة " (7 / 38 - 39) فيما رواه أبو نعيم في " الحلية " وغيره من أحاديث صحيحة وضعيفة ومنكرة: (وكان رجلا عالما بالحديث فيما ينقله، لكن هو وأمثاله يروون ما في الباب ليعرف أنه روي، كالمفسر الذي ينقل أقوال الناس في التفسير، والفقيه الذي يذكر الأقوال في الفقه، والمصنف الذي يذكر حجج الناس، ليذكر ما ذكروه، وإن كان كثير من ذلك لا يعتقد صحته، بل يعتقد ضعفه، لأنه يقول " أنا نقلت ما ذكر غيري " فالعهدة على القائل لا على الناقل. وهكذا كثير ممن صنف في فضائل العبادات وفضائل الأوقات، وغير ذلك: يذكرون أحاديث كثيرة وهي ضعيفة، بل موضوعة باتفاق أهل العلم) . ثم قال - رحمه الله - (7 / 39) : (وهذا وأمثاله: جروا على العادة المعروفة لأمثالهم ممن يصنف في الأبواب: أنه يروي ما سمعه في هذا الباب) اهـ.

2 - السبب الثاني: أن غالب ما يورده الأئمة من أخبار بني إسرائيل، لم يأتنا شرعنا بتكذيبه، وهو: - إما أن يكون له من شرعنا ما يؤيده. - أو يكون مسكوتا عنه. وهذا من حيث الإذن بذكره والتحديث به: مأذون فيه قد نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك حين قال: «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» . وكثير من الإسرائيليات والأحاديث الضعيفة المذكورة في كتب أهل العلم، خاصة كتب العقيدة: لها أصل صحيح قدموه قبل ذكرها، من آية أو حديث. والخلاصة: أن مقصودهم من روايتهم لها: - إيراد ما ورد في ذلك الباب من صحيح وضعيف. - والاستدلال - من حيث الجملة - بالقدر المشترك بين الأحاديث الصحاح وغيرها من الضعاف والإسرائيليات، لا بما انفردت به. ثم إن رواية تلك الأحاديث الضعيفة والإسرائيليات: لا يلزم منها التشبيه حتى لو قيل بصحتها. فإن السني المهتدي: يمضي فيها اعتقاد السلف في باب الأسماء والصفات من غير تشبيه ولا تكييف، تمر كما جاءت، وليست بأعجب من بقية الصفات الثابتة. وإنما يكون المحذور في هذا - إن أثبت صفة بحديث لم يصح -: في إثبات صفة لم تثبت، لا في التشبيه والتجسيم.

ولا يجعل مجرد إثبات الصفات تشبيها أو تجسيما، إلا مضطرب في باب الصفات. وثبوت الحديث في الصفات وصحته: لا يزيل عن المشبه التشبيه، كما أن ضعف الحديث: لا يثبت التشبيه لأحد. وكذلك المؤول إذا أخذ بحديث في الصفات لم يصح: فإنه يعمل فيه قانون التأويل فيؤولها، ويصرفها عن ظاهرها بمحامل اللغة، كما يفعل في بقية باب الصفات. وبالجملة: لم يشذ هذا ولا هذا عن قواعد معتقده وأصوله برواية هذه الأحاديث، والله الموفق. الوجه الرابع - وقد أشير إليه - وهو: أن زعم المالكي هنا: أن لغلاة الحنابلة - كما يسميهم - حرصا على الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات، فيروونها ويحتجون بها! وعندهم - كذلك - تكفير وتبديع ظالم، فلذلك رد عليهم! : زعم باطل، ولو - سلمنا له بذلك ولا نسلم - فإن الرافضة أولى بذلك، فما رووه من الموضوعات والمكذوبات في كتابهم " الكافي " - أصح كتبهم عندهم، بل أصح عندهم من القرآن! - يفوق جميع ما رواه الحنابلة في جميع كتبهم في المعتقد. فضلا عما رووه في كتبهم الأخرى من أحاديث وآثار مكذوبة كـ " الاحتجاج " وغيره. مع ما في تلك الروايات من طعن في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي آل بيته وصحابته وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم جميعا، وغير ذلك. فلم لم

يوجه المالكي نقده إليهم؟ ! وإن كان عمد المالكي إلى الحنابلة، لوجود التكفير والتبديع عندهم: فما - والله - كفروا مسلما قط، حاشا لله، وإثما كفروا من حكم الله ورسوله بكفره، وحكم السلف عليه بما حكما. وأينه من الرافضة وقد كفروا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعنوهم، إلا نفرا قليلا آثروهم بالغمز واللمز دون التكفير! وممن صرحوا بتكفيره وجاهروا به: أبو بكر وعمر، وابنتاهما عائشة وحفصة، وعبد الله وعبيد الله ابنا العباس بن عبد المطلب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبوه، وأمه هند بنت عتبة، وعمرو بن العاص، وغيرهم. وكفروا كذلك بني أمية إلا عمر بن عبد العزيز، فإنهم معه على استحياء! فمن أولى بنقد المالكي، مكفرو الجهمية والرافضة؟ أم مكفرو الصحابة وأمهات المؤمنين؟ !

فصل في حال الحنابلة المعاصرين عند المالكي

[فصل في حال الحنابلة المعاصرين عند المالكي] فصل في حال الحنابلة المعاصرين عند المالكي قال المالكي ص (14) : (لكن الذي أراه: أن معظم الحنابلة اليوم، ليس على تكفير أبي حنيفة وأصحابه، ولا تكفير الأشاعرة، ولا تكفير الشيعة من إمامية وزيدية، ولا الإباضية، ولا غيرها من طوائف المسلمين) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن الأصل أن متأخري أصحاب كل مذهب على مذهب متقدميهم، ولا ينقلون عنه إلا بحجة ما وبرهان، لا بهوى وكذب وبهتان. فإذا كان متقدمو الحنابلة على ما ذكر المالكي في كتابه: فإن متأخريهم - المفتخرين بما كان عليه أسلافهم - عليه كذلك. الثاني: أن الحنابلة لم يكفروا أبا حنيفة - رحمه الله - كما سيأتي تفصيله في فصل قادم (ص 137 - 142) عند ذكر المالكي له. الثالث: أن قرن الأشاعرة بالرافضة والإباضية: ظلم، فهم - على بدعتهم - خير من أولئك. والرافضة الإمامية: قد أجمعت على جملة معتقدات، قد أجمع السلف على كفر قائل آحادها. وأما الزيدية والإباضية: فمعتزلة، يقولون بخلق القرآن، وجملة أمور قد أجمع السلف على كفر قائلها.

فصل في زعم المالكي غلو بعض الحنابلة المعاصرين في ذم أبي حنيفة

[فصل في زعم المالكي غلو بعض الحنابلة المعاصرين في ذم أبي حنيفة] فصل في زعم المالكي غلو بعض الحنابلة المعاصرين في ذم أبي حنيفة قال المالكي ص (14) : (لكن المشكلة أن الغلو أيضا له وجود قوي نشعر به، ويكفي أن هناك كتبا وأبحاثا معاصرة، لا زالت على ذم أبي حنيفة وتبديعه وتضليله) اهـ. والجواب: أنا لا نريد من المالكي دليلا على صدق كلامه، إلا كتابا واحدا فقط، لحنبلي معاصر في ذم أبي حنيفة! من تلك الكتب! والبحوث! المعاصرة التي زعمها! ولا ينس أن يكون صاحب الكتاب حنبليا! لكونهم المنتقدين لا سواهم، فليتنبه! ونحن بالانتظار!

فصل في زعم المالكي غلو كثير من الحنابلة المعاصرين في تكفير المسلمين

[فصل في زعم المالكي غلو كثير من الحنابلة المعاصرين في تكفير المسلمين] فصل في زعم المالكي غلو كثير من الحنابلة المعاصرين في تكفير المسلمين! والرد عليه، وبيان كذبه قال المالكي ص (14) : (ولا زال كثير من الحنابلة المعاصرين على تكفير سائر المسلمين، من الطوائف الأخرى، كالشيعة والمعتزلة، بلا تفريق بين المعتدلين والغلاة. وتضليل سائر الأشاعرة والصوفية، وهم معظم المنتسبين لأهل السنة والجماعة اليوم) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: مطالبة المالكي بالتفريق بين معتدلي الشيعة والمعتزلة، وغلاتهم! وهذا يرتب أمرين: - الأول: إقراره بتكفير غلاة الشيعة والمعتزلة وغلاة غيرهم، دون معتدليهم! وفي هذا إقرار لمبدأ تكفيرهم، بغض النظر عن سببه. - الثاني: أنا نطالبه ببيان الفروق الجوهرية بين غلاة الشيعة والمعتزلة ومعتدليهم! التي لأجلها جاز تكفير غلاتهم! وحرم تكفير معتدليهم! فإن وجد فروقا: فما هي؟ وإن لم يجد: فلأي شيء فرق بينهم؟ ! ولأي شيء منع تعميم الحكم عليهم جميعا؟ !

الوجه الثاني: أن احتجاجه بالكثرة على الهداية: حجة باطلة فاسدة، بالقرآن والسنة وإجماع المسلمين قاطبة، من أهل السنة وغيرهم. أما القرآن: ففي مثل قوله - تعالى -: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] ، وقوله سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ} [الأنعام: 116] . وأما السنة: ففي مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله - تعالى -: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك. فيقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف: تسعمائة وتسعة وتسعون. فعنده يشيب الصغير» . ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخره: «ما أنتم في الناس - يعني أمته - إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود» . رواه أحمد في " مسنده " (3 / 32 - 33) ، والبخاري في " صحيحه " (3348) و (4741) و (6530) ، ومسلم (222) . ومن السنة: حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كفها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة» . رواه ابن ماجه (3993) عن هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم حدثنا أبو عمرو حدثنا قتادة عن أنس به. وهذا إسناد رجاله رجال البخاري. وفي بعض رواياته: «ثلاث وسبعين» ، والمقصود: كثرة المخالفين مع قلة المتبعين المهتدين.

أما الإجماع: فقد أجمع أهل السنة على صحة اعتقادهم، وضلال من خالفهم مع كثرة مخالفيهم. وكذلك الأشاعرة زمن أبي الحسن الأشعري وبعده وكانوا قلة، ولم تمنعهم كثرة مخالفيهم من أهل السنة والمعتزلة والرافضة وغيرهم، من التمسك بمذهبهم. وكذلك الحال في جميع الفرق والطوائف، وإن كان بعضها اليوم له كثرة وسواد، فقد كانت ولا سواد لها ولا كثرة، ولم يمنعها ذلك من البقاء على مذهبها وطريقتها. ثم لو كان الحق متعلقا بالكثرة، وكانت الكثرة دليلا عليه: لكان اعتقاد أهل السنة أولى بالاتباع، فهو اعتقاد المسلمين جميعا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزمن أصحابه في صدر الإسلام. وكل اعتقاد مخالف لاعتقادهم: فهو أمر محدث، لم يكن عليه إلا صاحبه، ثم تتابع الضلال عليه، فبدأوا قلة، وإن حصلت لهم أخيرا كثرة.

فصل في زعم المالكي أن بعض الحنابلة يطعن في بعض أئمة أهل البيت

[فصل في زعم المالكي أن بعض الحنابلة يطعن في بعض أئمة أهل البيت] فصل في زعم المالكي أن بعض الحنابلة، يطعن في بعض أئمة أهل البيت! ! قال المالكي ص (14) : (ولا زال بعضهم على ذم بعض أئمة أهل البيت البريئين من غلو الأتباع، مع المبالغة في مدح ملوك بني أمية، وتبرير مظالمهم، وقد ذمتهم الأحاديث الصحيحة، والآثار الصحابية والتابعية، ولبيان هذا موضع آخر) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أنا لا نعرف حنبليا قط، ذم أحدا من أهل البيت، من المهتدين المقتدين بسنة جذهم ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعرف في الحنابلة ناصبي قط حاشاهم. ولهذا لم يستطع المالكي هنا أن يسمي أحدا، بل اكتفى بقول: " بعضهم "، ولم يسم كذلك المطعون فيه، واكتفى بقوله " بعض أئمة أهل البيت "! فمن الطاعن؟ ! ومن المطعون فيه؟ ! ولا أظن ذكر المالكي لهما، سيطيل الكتاب! ويزيد حجمه هذا! ليصبح أضعافا! أما من ضل من آل البيت: فلا يغنيه نسبه، قال - تعالى - لنبيه وخيرته من خلقه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه» رواه الإمام أحمد في " مسنده " (2 / 252) ومسلم في " صحيحه " (2699)

وأبو داود (3643) والترمذي (2945) وابن ماجه (225) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد زعم المالكي في غير موضع، غير هذا: أن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله رحمة واسعة - وشيخنا العلامة، العالم العامل، بقية السلف، وخيرة الخلف، صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان: ناصبيان، ولم تسعفه شبهه الشيطانية، وتلبيساته الغبية، أن يأتي على ذلك ببينة. الثاني: أن خلفاء بني أمية من خيار ملوك المسلمين، ولا أدل على ذلك ولا أظهر من كثرة فتوحاتهم، وما خصهم الله - عز وجل - به من نشر الإسلام، وتمكينه في الأرض، حتى أصبح المسلم عزيزا، لا تجرؤ أمة على انتقاص قدره أو هضم حقه، وسيأتي تفصيل القول فيهم في فصل قادم (ص 212 - 234) .

فصل في بيان الفكر المنحرف الذي يجب محاصرته عند المالكي وما يترك

[فصل في بيان الفكر المنحرف الذي يجب محاصرته عند المالكي وما يترك] فصل في بيان الفكر المنحرف الذي يجب محاصرته عند المالكي، وما يترك! قال المالكي ص (16) : (بمعنى: يجب أن يكون عندنا نظرة استشرافية للمستقبل، ونفكر في الإلحاد القادم، وعقيدة إبطال النبوات، والتنصير، والعلمانية بتعريفها الصحيح لا المتوهم. فهذا هو الفكر الذي يجب محاصرته، وإعداد الدراسات والبحوث لحماية أبنائنا منه، وقد بدت بوادر هذه المصائب بين أبنائنا) اهـ. والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن هذا الكلام البارد لا يغر ذا لب، فإن المالكي قد بين - هنا - الأخطار المحيطة بالإسلام، بل زاد على ذلك: شهادته برؤية بوادر تلك الأخطار في الخروج بين أبنائنا! ثم بين العلاج، وهو إعداد الدراسات والبحوث لحماية أبنائنا منها، وترك الاختلافات الخارجة عما سبق، كما بينه فيما مضى، وسيعيده فيما يأتي. ثم لم نره فعل تجاه هذه المخاطر العظيمة شيئا قط، فبحوثه كلها، وكتبه ورسائله ودراساته: لم تتعرض لشيء مما سبق وصفه، وإنما هي محصورة فيما نهى عن الاشتغال به! فلم تخرج عما حدث بين الصحابة - رضي الله عنهم - من فتن معروفة في كتب التواريخ وغيرها، وعن

الطعن في أهل السنة، ورميهم بالنصب والتعصب وغيرها من الجهالات كحال كتابه هذا. وأنا أذكر هنا مؤلفاته وكتبه وبحوثه التي نشرها، أو وعد بنشرها، ليطلع القارئ الكريم على مدى كذب هذا الرجل، وقفة حيائه، فذكر المالكي أن له مع كتابه هذا المردود عليه: 2 - نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي. 3 - الصحبة والصحابة. 4 - مع الشيخ عبد الله السعد، حول الصحبة والصحابة. 5 - مع سليمان العلوان، حول الصحبة والصحابة. 6 - مع سليمان العودة، في موضوع عبد الله بن سبأ. 7 - مع الشيخ عبد المحسن العباد، حول الصحبة والصحابة. 8 - مع الشيخ ناصر العقل بين حراسة العقيدة، وحراسة الإيمان. 9 - نقض كشف الشبهات [للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب] . 10 - معنى الإمساك عما شجر بين الصحابة. 11 - نقد التقريب. 12 - بيعة علي بن أبي طالب، في ضوء الروايات التاريخية (مشترك) . 13 - القعقاع بن عمرو حقيقة أم أسطورة (مقالات كثيرة نشرت في الصحافة) وغيرها.

فأين هو من المخاطر التي وصف عظم خطرها، وظهور شرها؟ ! ألا يكون لهذه الأفكار الفاسدة، والمفاسد المقيمة، نصيبا في بحوثه ومؤلفاته، ولو واحدا من عشرة؟ ! ثانيا: نسأله لماذا يرى خطر ما سبق أن ذكر؟ فإن قال: لخطرها على الدين، ولربما أزالت اعتقاد المسلمين. قلنا: هذا حق أردت به باطلا، فإن ما خافه أئمة الإسلام على المسلمين - من انتحال العقائد الفاسدة، من تجهم ورفض واعتزال ونحوها -: هو ما تزعم أنت خوفه. إلا أنه يضاف لما خشوه: خفاء ظهوره على كثير من الأغمار، لتلبيسهم شرهم بمتشابه القرآن، واغترارهم بما ألقاه في قلوبهم الشيطان، وكما قال الإمام أبو عبد الله ابن قيم الجوزية في " نونيته ": والناس أكثرهم فأهل ظواهر ... تبدو لهم ليسوا بأهل معاني وإلا فإن مآل أتباع الحزبين، ومصير الفريقين - أعني الجهمية وأذنابها، وبقية أعداء الدين - واحد، وهو الكفر، غير أن الأولين يتسمون ويزعمون الإسلام، والآخرين لا يدعونه. وهذا الفرق قد أضل كثيرا من الجهال. ثالثا: أنا لم نر أحدا قام لدحض شبه أولئك الملاحدة الذين طلب المالكي التصدي لهم، إلا أئمة أهل السنة الذين طعن المالكي فيهم، ووصفهم بكل نقيصة وجريرة، ولم يرتض تسميتهم إلا بـ " العقائديين "!

رابعا: قوله: (وقد بدت بوادر هذه المصائب بين أبنائنا) : هذا الأمر نتيجة تصدر هذا المشبوه المفتون وأمثاله، فإنه لما كان علماء الأمة الربانيون هم المتصدرين للتأليف والتعليم والتوجيه: لم نر شيئًا من بوادر ذلك. فإن حصل: كفوا المسلمين شره، ببيان خطره بالعلم النبوي، لا بالكتابات الصحفية، والمقالات الارتجالية!

فصل في زعمه وجود آراء إلحادية عند بعض طلاب الجامعات السعودية والرد عليه

[فصل في زعمه وجود آراء إلحادية عند بعض طلاب الجامعات السعودية والرد عليه] فصل في زعمه وجود آراء إلحادية عند بعض طلاب الجامعات السعودية! والرد عليه قال المالكي في حاشية ص (16) : (أخبرني أحد أساتذة العقيدة بإحدى الجامعات السعودية: أن الآراء الإلحادية لها وجود عند بعض الطلاب، أثناء فتح باب الحوار معهم، وهم من طلبة الأقسام الشرعية، فضلا عن غيرها) اهـ. والجواب: أن هذا كذب وإسناده تالف، فالمالكي كذاب! بينا كذبه في غير موضع، وسيأتي ذكر العشرات، ومن نقل عنه المالكي: مجهول عين وعدالة! ومما يدل على كذب خبر المالكي أمران: أحدهما: أن العادة تحيل دراسة العلوم الشرعية عن الملاحدة وأشباههم، خاصة بمثل جامعاتنا بكلياتها الشرعية، لغيرة كثير من المشايخ المحاضرين بها، وتمسك غالب الطلاب الدارسين فيها. الثاني: عدم بيان المالكي مراده بالآراء الإلحادية، فإن صدق في زعمه السابق -ولا يصدق- فمراده بها جزما: القول بتكفير القائلين بخلق القرآن! ومنكري الرؤية! ومعطلي الصفات!

فصل في إبطال زعم المالكي أنه سني سلفي حنبلي

[فصل في إبطال زعم المالكي أنه سني سلفي حنبلي] فصل في إبطال زعم المالكي أنه سني! سلفي! حنبلي! قال المالكي ص (17) : (وأخيرا، فيجب أن أؤكد أنني مسلم، سني، سلفي، حنبلي، ومن زعم أنني أنتمي لمذهب آخر: باهلته. وهذا لا يتناقض مع نقدي لأخطاء المسلمين، أو السنة، أو السلفية، أو الحنابلة) إلخ كلامه. والجواب من وجهين: أحدهما: أن انتساب رجل لمذهب ما، أو جماعة ما: لا يصح إلا بدليله، خاصة إذا اقترن بتلك الدعوى أمران: 1 -. كذب المدعي، وشهرته به. 2 -. وإتيانه بنواقض دعاواه. وأي سنة أو سلفية يدعيها المالكي، وهو يقرر في كتابه هذا، أنواعا من البدع والضلالات، تكفي آحادها لتضليل أمة! وبم أصبح حنبليا؟! أبطعنه في معتقداتهم؟! أم تكذيبه لجملة من أئمتهم وانتقاصهم؟! ألا يخجل ويستحي؟! ولكن: يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

الثاني: أنه لا حاجة له في مباهلة أحد، إن زعم أنه ليس بسلفي أو ليس بحنبلي! وإنما إن كان المالكي صادقا، فليقل: من زعم أني لست بحنبلي سلفي: أقمت عليه الحجة، وأظهرت له صواب دعواي. وأنا أختصر الأمر على المالكي فأقول: قد زعمت أنك سني سلفي حنبلي، ولا نقبل دعواك -إن أردت قبولها- حتى تبين لنا اعتقادك في أبواب المعتقد، فإن ما ظهر لنا منك الآن: يخالف اعتقاد أهل السنة! وقد بينا سابقا ضلال المالكي، ومخالفته لاعتقاد أهل السنة حنابلة وغيرهم في أبواب كثيرة، سبق شيء منها، وسيأتي الكثير، وإنما قلنا ما قلنا: من باب إرغامه.

فصل في طلبه الاقتصار على أمور الإيمان الكلية دون تفصيل وبيان مراده وإبطاله

[فصل في طلبه الاقتصار على أمور الإيمان الكلية دون تفصيل وبيان مراده وإبطاله] فصل في طلبه الاقتصار على أمور الإيمان الكلية دون تفصيل! وبيان مراده وإبطاله قال المالكي ص (20) : (كان المسلم في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يتعلم الدين كله، إيمانا، وأحكاما، وأخلاقا، وأوامر، ومنهيات، جملة واحدة، لا فصل للإيمانيات "العقيدة فيها، عن الأخلاق والأحكام "العمليات ". وكان ما يسمى بالعقيدة، لا يعدو أركان الإيمان المعروفة، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء، والقدر خيره وشره. بل حتى هذه الأمور الستة، أصول الإيمان: لم يكن لها تلك التفصيلات المحيرة التي استحدثت في أزمنة الصراعات الكلامية. وإنما كان يؤمن بها الصحابة على وجه الإجمال، دون الدخول في تفصيلات جزئية، وتشقيقات كلامية، تثير الاختلافات والشكوك، ولا يكون لها ذلك الأثر الإيجابي على العمل والسلوك) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أنا لا نلزم أحدا دخل في الإسلام بغير ما سبق من أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة.

أما إذا اعتقد المسلم أمورا مخالفة لما جاء به الشرع، سواء كانت في الأصول أو في فروع تلك الأصول: فيجب رده إلى حظيرة الإسلام، وبيان ما وقع فيه من مخالفات، ليسلم له إسلامه، وليؤمنه في الآخرة إيمانه. الثاني: أنا -كذلك- لا نفصل بين أمور الإيمان وبقية أمور الشرع العملية، من حيث وجوب الإتيان بها، واتفاق مصدر تشريعها، وأنها شرع مطهر من رب العالمين. أما من حيث ما يدخل الرجل به في الإسلام، وما يبقى في دائرته إذا تركه: فهاهنا نفرق، لكي لا يدخل في الإسلام أحد من غير أهله، ولا يخرج منه أحد من أهله. ففي التفريق بين الاعتقادات والعمليات من هذا الوجه: محض الخير للمؤمنين، وعدم التفريق , فيه الشر كله. الثالث: أن جميع أمور وتفاصيل عقائد أهل السنة: مرجعها إلى أركان الإيمان الستة. فما آمن بالله -جل وعلا- حقا وصدقا، رجل وهو يجحد صفاته، وقد أثبتها سبحانه لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أخرجها بالتأويل أو التشبيه عن حقيقتها. ولم يؤمن به -عز وجل- من ينكر كلامه الذي أثبته لنفسه، أو أنكر شيئا مما أثبته الله وأمر به. وما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم رجل أنكر شيئا صح عنه، مما حكم به أو أخبر عنه. وكذلك القول في بقية أركان الإيمان، وإن كنا لا نلزم الناس إلا بالإيمان بها جملة، إلا أنه يجب بيان الحق لمن اعتقد ضلالة أو خطأ

في بعض فروع ومسائل تلك الأصول. الرابع: أن جميع أمور وتفاصيل عقائد أهل السنة: مما جاء بها الشرع، ونص عليها القرآن الكريم، أو السنة المطهرة. لهذا تجد أئمة السلف إذا استدلوا لتلك الفروع من هذه الأصول: استدلوا عليها بالكتاب والسنة، وهذا يجعل الإيمان بها لمن بلغته واجبا. أرأيت أن أركان الإسلام خمسة: (الشهادتان والصلاة والصيام والحج والزكاة) وأن الناس -كانوا ولا زالوا- يؤمرون بها جميعا: لكن هل دل ذلك على قبول الله تعالى، صلاة من لم يقم أركان صلاته وشروطها، وهي أمور لا يتم هذا الركن إلا بها، ولم يأت تفصيلها في حديث أركان الإسلام، وقد أجمع المسلمون قاطبة على ذلك. وقل مثل ذلك في الصيام والحج والزكاة، وكذلك -بلا شك- الشهادتان. أما من أراد فعل هذه الأركان دون بقية ما يستقيم به حالها: فقد ردت عليه ولم تقبل. الخامس: أنه إذا تقرر واستقر: أن مرجع عقائد أهل السنة: الوحيان، علم وظهر أن كلما زاد علم الرجل بأمور العقيدة، كلما زاد إيمانه وزادت بصيرته، لزيادة علمه بالله تعالى، وبرسوله صلى الله عليه وسلم. وكذلك كان السلف الصالح الذين نقلت عنهم عقائد أهل السنة أئمة في الورع والزهد والصلاح والعبادة والعلم وكمال أمور الإسلام فيهم.

خلافا للمبتدعة من أرباب الكلام وغيرهم، الذين لا يزيدهم علم الكلام إلا بعدا عن الإسلام وحقيقته، حتى قال كبيرهم، وقد عانى الكلام خمسين عاما: طلبتك جاهدا خمسين عاما ... فلم أحصل على برد اليقين فهل بعد الممات بك اتصال ... فأعلم غامض السر المصون

فصل في رمي المالكي السلف الصالح بالتكفير الظالم والتبديع والتضليل

[فصل في رمي المالكي السلف الصالح بالتكفير الظالم والتبديع والتضليل] فصل في رمي المالكي السلف الصالح، بالتكفير الظالم! والتبديع! والتضليل! قال المالكي ص (21- 22) : (ويظن بعض الناس: أن هذه الأمراض التي دخلت في كتب العقائد، وفي عقول المسلمين، من التكفير الظالم أو التبديع والتضليل دون استناد على أدلة وبراهين صحيحة، مع نشر الأكاذيب على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنما كان في الأزمنة المتأخرة فقط. وهذا نتيجة لعدم الاطلاع على كتب المتخاصمين في القرن الثالث والرابع، ففيها الكثير من هذا التكفير الظالم والتبديع والتفسيق. وهي الكتب التي يتحاكم إليها العقائديون المعاصرون، تاركين نصوص القرآن والسنة، ومحتجين بما لا حجة فيه، بأن السلف الصالح!! كانوا يكفرون ويفسقون ويضللون ويفحشون القول ويفتون بقتل مخالفيهم، واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم. ويقصدون بالسلف الصالح من كان على مذهبهم في الخصومات، فمن كان منهم، فهو من السلف الصالح، وإن كان كاذبا فاجرا! ومن كان من غيرهم، فهو من السلف الطالح!! وإن كان من أعبد الناس وأصد قهم) اهـ.

والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كلام كذب محض، والمالكي -كعادته- يلقي الاتهامات بلا دليل ولا تمثيل! ويرمي غيره بعدم الاستدلال مع استدلاله. ومن هذا: زعمه هنا، فما مثال زعمه ودليله؟ الثاني: ما الأحاديث المكذوبة التي نشرها الحنابلة؟ وكيف كان نشرهم لها؟ إن كان بمجرد روايتهم لها، فهذا جائز بالإجماع، إن رووها بأسانيدها، وعلى هذا عمل المسلمين من جميع الطوائف، وإن كان غير ذلك، فليبينه. الثالث: أن كتب أئمة الدين في العقيدة في القرون الفاضلة المفضلة الثلاثة الأولى، هي حجة علما المسلمين المتقدمين والمتأخرين، لا المعاصرين فحسب كما يزعم المالكي! وهذا من جهله بحال أئمة الإسلام، أو تلبيسه. أما من لم يحتج بها، ويرجع إليها: فهي حجة عليه، ولا يردها إلا راد الكتاب والسنة، فليس فيها إلا آية أو حديث، أو أثر صحابي، أو تابعي، أو إمام هدى، ممن جاء بعدهم، يبين معنى الوحي. أما سلخ المالكي آيات الكتاب، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من فهم أهل العلم -من أهل القرون الثلاثة المفضلة، أو ممن قفى أثرهم، وكان على منهاجهم-: فهي دعوى فاسدة، من جنس قول الخوارج منازعي علي رضي الله عنه في الفهم وغيره، لاضطراب هذا الباب عندهم، حين

قالوا له: "لا حكم إلا لله، وقد حكمت الرجال في دين الله "! وهكذا كان فهمهم للوحي، ولهذا أشار ابن قيم الجوزية في "نونيته" حين قال في وصف حالهم: ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأتوا من التقصير في العرفان الرابع: أننا ننزه السلف الصالح، مما رماهم ووصفهم به المالكي، بأنهم يكفرون! ويفسقون! ويضللون! ويفحشون القول! ويفتون بقتل مخالفيهم ظلما! واستحلال دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم! نعرف لهم فضلهم، وعلمهم، وسابقتهم في الإسلام، ونشرهم لعلومه، وإظهار المندرس من رسومه، ومنافحتهم عنه، وذبهم عن حياضه، حتى بقي صافيا، فجل وعلا من أقامهم لحفظ دينه. ولا يستقيم إسلام رجل غمطهم حقهم، أو رأى ضلالهم! فالإسلام الحق ما كانوا عليه، والإيمان الصالح ما كانوا يدعون إليه. فمن أفتوا بكفره وضلاله: فهو كافر ضال، ومن حكموا بردته وأوجبوا قتله: فهو حكم الله فيه، فما حكموا في أحد قط بغير الوحي، ولا تحاكموا وحاكموا أحدا إلا إليه، حيا كان أو ميتا. وخلاف هؤلاء الأئمة مع أولئك المكفرين الضالين من الأمة: من جنس خلاف النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي وقته. فما كان تضليلهم أو تكفيرهم لأحد لهوى أو دنيا، أو نزاع شخصي ونحوه، حاشا لله أن يقال ذلك في حملة الإسلام وهداة الأنام.

ومن كفروه أو ضللوه لقول قاله، فكل من قال ذلك عندهم: ضال هالك، لا تتبدل أحكامهم بتبدل حكامهم، ولا تغير فتاواهم تغير أيامهم وأعوامهم. قولهم ثابت، وحكمهم ماض، إن جلدوا فهم عليه، وإن قتلوا فمصيرهم إلا الله تعالى ليس إليه. أو لم يجلد أحمد، ليقول ما لا يحمد، فما تزعزع قوله، ولا خالف حكم الله وما جاء به رسوله، بل كان شامخا كالجبل، ثابتا على الحق الذي أوتيه، كالأنبياء والرسل، حتى عادت السنة، وسلمت الأمة، وارتفعت عن الإسلام وأئمته الغمة. فلله درهم، لا تفارق خشية الله قلوبهم، ولم تجف من وجلهم عيونهم، رحماء بالمؤمنين، هداة قداة للمتبعين، حتى إذا كاد المبطلون للدين، وأرادوا حماه الحصين، هبوا لنصرته أشداء قاسين، لا يعرف الضعف إليهم مسلكا، ولا الوهن منهم موضعا، وصدق الله -وهو أصدق القائلين- حين وصف محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] . فكل من أبغض أئمة الإسلام الأبرار: كان نصيبه من هذه الآية {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] .

الخامس: أن المقصود بالسلف الصالح عندنا: الصحابة رضي الله عنهم جميعا، والتابعون لهم بإحسان، وأتباعهم على ذلك. وهذا منضبط غير مضطرب، وهم مقبولون عند جميع المسلمين، عدا عباد الضلالة من الرافضة والجهمية ونحوهم. فهؤلاء هم سلفنا الصالح: الصحابة والتابعون وتابعوهم، لا من زعم المالكي! وليذكر لنا -إن كان صادقا-: من الكذابون الذين أدخلناهم في السلف الصالح وليسوا منهم؟! أما السلف الطالح: فهم من تلبس بالبدع المخالفة للشرع الحنيف، وأحدثوا في الدين ما ليس منه، كانوا من كانوا. وعبادتهم -إن كانت- وصدقهم: لا يثبت لهم الاتباع والاستقامة على السنة، وقد كان في اليهود والنصارى عباد صادقون، إلا أن ذلك لا ينفعهم ولم ينفعهم، حتى يتابعوا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به، فيسلموا، قال سبحانه: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105] وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ - وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ - عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ - تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً - تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية: 1 - 5] .

فصل في رمي المالكي المسلمين كافة بأن ضابط الصلاح عندهم هو المذهبية

[فصل في رمي المالكي المسلمين كافة بأن ضابط الصلاح عندهم هو المذهبية] فصل في رمي المالكي المسلمين كافة، بأن ضابط الصلاح عندهم، هو المذهبية والتعصب لها، لا الالتزام بالشرع! قال المالكي ص (22) : (فضابط الصلاح عند كل فرقة من فرق المسلمين بلا استثناء، هو المذهبية والتعصب لها لا غير، وليس الالتزام بأوامر الله عز وجل، واجتناب نواهيه) اهـ. والجواب: أن كلام المالكي هنا عن المسلمين: إن كان حقا - وكان ضابط الصلاح عند فرق المسلمين بلا استثناء، هو المذهبية والتعصب-: فهو الصواب! لإجماع المسلمين- بلا استثناء من جميع الفرق والمذاهب -عليه، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، ويكون على ذلك ضابط الصلاح: هو المذهبية والتعصب! وإن كان ذلك باطلا، وضابط الصلاح: هو متابعة الوحيين، والاستقامة عليهما- فإن الأمة لم تجتمع، ولن تجتمع على خلافه -فكلام المالكي كذب محض. وقد بينا فيما سبق من هم السلف الصالح، فمن سار على نهجهم، واقتدى بهم، فهو مهتد صالح، ومن خالفهم، فهو ضال طالح.

فصل في اضطراب معنى السلف الصالح عند المالكي

[فصل في اضطراب معنى السلف الصالح عند المالكي] فصل في اضطراب معنى "السلف الصالح" عند المالكي! باختلاف المراد به عند أهل المذاهب والفرق وبيان معناه الصحيح، والرد عليه قال المالكي ص (22) : (فسلف الحنابلة يختلف عن سلف الأحناف والشافعية والمالكية والظاهرية وسائر الأشاعرة. وسلف هؤلاء، يختلف عن سلف المعتزلة والشيعة. وسلف هؤلاء، يختلف عن سلف الإباضية والنواصب. وهكذا أصبح المصطلح -مصطلح السلف الصالح- مصطلح عائم (¬1) يدور مع المذهبية أينما كانت، وليس مع الصلاح. وأصبح هذا الصلاح يضبط بمعايير المذهبية، وليس بالقرآن الكريم، ولا بما صح من السنة النبوية. فمن كان معنا: فهو العالم الصالح، الثقة الزاهد، الحريص على دينه إلخ. ومن خالفنا في اجتهاد: فهو المشكوك في كلامه، وفي نيته، بل وفي دينه! وعلى هذا، فهو الكذاب المتعصب المبتدع إلخ) اهـ ¬

(¬1) هكذا هي في كتاب المالكي (مصطلح عائم) ! والصواب: (مصطلحا عائما) ، خبر أصبح منصوب وصفته، ولعل المالكي استغنى عن نصبها بنصبه!

والجواب من وجوه: أحدها: أن سلف أهل السنة باختلاف مذاهبهم: متفق واحد، قد قدمنا من يدخل فيهم عندنا، ومن يخرج، وذكرنا بعض أعلامهم قبل نشوء المذاهب الفقهية وبعد نشوئها. والمالكي لجهله، يخلط بين المذاهب الفقهية والمذاهب العقدية! فيذكر المذاهب الفقهية الأربعة، مع الأشاعرة والمعتزلة والشيعة والإباضية والناصبة!! وهذا شيء وذاك آخر. الثاني: أن مشاركة أهل البدع لأهل السنة في تسمية أسلافهم بالسلف الصالح، لا يجعل في هذا المصطلح اضطرابا، فلا تكاد تجد مصطلحا أو لفظا إلا وجماعات متباينة تدعيه وتزعمه، والعبرة في ذلك كله بالحق لا بمجرد الدعوى. فاليهود قد زعموا أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- سلفهم، وكذلك زعموا في موسى -عليه السلام- فكذبهم الله تعالى في مزاعمهم تلك، فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] . ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم اليهود بالمدينة تصوم عاشوراء وتقول: إنه يوم نجى الله فيه موسى من الغرق، فنحن نصومه شكرا لله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أولى بموسى منهم» فصامه وأمر بصيامه. والثالث: أن السلف الصالح رحمهم الله، كانوا مستقيمين على الكتاب والسنة، ولهذا رضيهم أهل السنة سلفا.

وكيف يكون سلف أهل السنة، مرتبطا ومتعلقا بالمذهبية، وقد وجدوا قبل أن تخلق المذاهب وأصحابها. والرابع: أن المخالفات الاجتهادية الفرعية: قد حصلت في الصدر الأول وما بعده، ولم توجب نزاعا بينهم ولا بين من بعدهم كما زعم المالكي. أما الأمور الاعتقادية: فلا يسوغ فيها الاجتهاد، وإنما هو الاتباع لا الابتداع. ومن خالف: فهو مبتدع، إلا أنه لا يكون عند أهل السنة كاذبا بذلك إلا إن كَذب، خلاف زعم المالكي الكذوب. دليل ذلك: رواية أئمة أهل السنة حنابلة وغيرهم، عن جماعة من أهل البدع لصدقهم في روايتهم مع ابتداعهم، فلو كان سبب التوثيق عندهم وقبول الرواية: المذهبية! لردوا حديث أولئك، وجعلوهم كذابين! ولما تركوا الرواية عن جماعة من أهل السنة وضعفوهم، لضعف حفظهم أو اختلاطهم ونحو ذلك. وطعن المالكي هنا في أهل السنة، وأن ضابط التعديل والتجريح عندهم في رواة الحديث: التعصب والمذهبية، لا إتقان الراوي: لم ينفرد به المالكي، بل هو طعن طعن به أسلافه من أهل البدع زيدية وغيرهم في أهل السنة، ومن أولئك: علم أعلامهم، وأطول أقزامهم، مرجعهم في المشكلات، ومضلهم في الواضحات الجليات: علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن جعفر الصنعاني (ت 837 هـ) ، كتبه في كتاب مشهور، وأظهره إظهار مجاهر مغرور،

فرد عليه الإمام العلامة محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله، فلم يبق له من شبهاته لا قليلا ولا كثيرا، في كتابين صنفهما ردا عليه، أولهما: "العواصم والقواصم "، ومختصره "الروض الباسم، في الذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم "، تجدها في المختصر في (1 / 195) .

فصل في طعن المالكي في الإمام ابن أبي يعلى ورميه للعقائديين بأن مقياسهم في الرجال مبتدع

[فصل في طعن المالكي في الإمام ابن أبي يعلى ورميه للعقائديين بأن مقياسهم في الرجال مبتدع] فصل في طعن المالكي في الإمام ابن أبي يعلى! ورميه للعقائديين كما يزعم، بأن مقياسهم في الرجال مبتدع! والرد عليه قال المالكي في حاشية ص (22) : (يقول ابن أبي يعلى: "ما أحب أحد أحمد بن حنبل من محب صادق، أو عدو منافق، إلا وانتفت عنه الظنون، وأضيفت إليه السنن ". انظر "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1 / 15) . وهذا دليل على إهمال العقائديين لمقياس الإسلام، وإعمالهم للمقياس المبتدع المتمثل في الثناء على الموافق، ولو كان منافقا كاذبا فاجرا، بل يصبح ما يقوله سنة!!) إلخ كلامه. والجواب من وجهين: أحدهما: أن الإمام الكبير الحافظ أبا الحسين محمد بن أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء الحنبلي البغدادي (451 هـ - 526 هـ) رحمه الله رحمة واسعة: لم يضع مقياسا للسنة والاتباع، وإنما يحكي حال الناس وعلماء المسلمين مع محب أحمد ومبغضه، فيقول: إنه لحب الناس للإمام أحمد وقيامه بالسنة، حتى أصبح إمام أهلها في عصره بإجماع أئمة الإسلام: قد ارتضوه وجعلوه محنة واختبارا، يعرفون بحبه المهتدي، كما يعرفون ببغضه الضال الردي.

فليس في أحمد -رضي الله عنه وأرضاه- شيء يبغض لأجله، سوى تمسكه بالسنة ونصرته لها، فإذا رأى الناس محبا له -سواء كان صادقا في حبه، أو منافقا أراد خداع الناس بذلك-: انتفت عنه ظنونهم أن يكون مبتدعا، أو متلبسا ببدعة، وأضيفت إليه السنن، أي إلى اتباعها. لا كما يهذو به المالكي: أن ما يقوله محب أحمد يصبح سنة! الثاني: أن ما ذكره الإمام ابن أبي يعلى: لم ينفرد به، بل قاله وذكره جماعة من أئمة الإسلام وحفاظه الكبار، مثل: - قول أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الإمام (ت 204 هـ) : "من أبغض أحمد بن حنبل: فقد كفر". - وقول قتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي (ت 240 هـ) : " أحمد بن حنبل إمامنا، من لم يرض به: فهو مبتدع ". وقال قتيبة أيضا: " إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل: فاعلم أنه صاحب سنة". - وقول أحمد بن إبراهيم الدورقي (ت 246 هـ) : "من سمعتموه يذكر أحمد بن حنبل بسوء: فاتهموه على الإسلام ". - وقول سفيان بن وكيع بن الجراح (ت 247 هـ) : " أحمد عندنا محنة، من عاب أحمد عندنا: فهو فاسق " اهـ. - وقول محمد بن يحيى الأزدي البصري (ت 252 هـ) : " إنا تقول بقول أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وإنه إمامنا، وهو بقية المؤمنين،

ولا نخالفه، وقد رضينا به إماما [فيما] فيه خلف من العلماء، ونتبرأ ممن خالفه، فليس يخالفه إلا مخذول مبتدع". - وقول أبى داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب " السنن " (ت 275 هـ) : " إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل: فاعلم أنه صاحب سنة". - وقول أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر الرازي (ت 277 هـ) : " إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل: فاعلم أنه صاحب سنة، وهو المحنة بيننا وبين أهل البدع ". - وأنشد إسماعيل الترمذي مادحا الإمام أحمد رضي الله عنه: إذا ميز الأشياخ يوما وحصلوا ... فأحمد من بين المشايخ جوهر هو المحنة اليوم الذي يبتلى به ... فيعتبر السني فينا ويسبر - وقول الحافظ الإمام الكبير، أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) ، صاحب "التفسير": "وأنا أتبع في هذا قول أبي عبد الله -رحمه الله- في جميع ما تكلم فيه الناس من هذه المعاني، وخاضوا فيه. وهو الرضا عندنا، والإمام في كل ما قال، ومن حاد عنه: فهو مبتدع رديء. ومن قصده بعيب، أو ذكره بسوء، أو ببغض، أو أحدا من أوليائه، وأتباعه، ومن كان على مذهبه: فهو رديء خبيث.

لأنه الشيخ الإمام الذي ارتضاه أهل الإسلام، وأهل الدين والسنة والجماعة" اهـ. - وقول علي بن أحمد الطرخاباذي: " أحمد بن حنبل محنة، به يعرف المسلم من الزنديق ". - وأنشد غير واحد من أئمة أهل السنة هذين البيتين الشهيرين: أضحى ابن حنبل محنة مأمونة ... وبحب أحمد يعرف المتنسك فإذا رأيت لأحمد متنقصا ... فاعلم بأن ستوره ستهتك - وأنشد الحافظ أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى الخاقاني (ت 325 هـ) : جزى الله ابن حنبل التقيا ... عن الإسلام إحسانا هنيا فقد أعطاه إذ صبر احتسابا ... على الأسواط إيمانا قويا وجاء بصادق الآثار حتى ... أقام بذلك الدين الرضيا فأحمد جامع ورعا وزهدا ... وعلما نافعا حبرا تقيا وأحمد كان للفتوى إمام ... رضي للمسلمين معا وقيا وأحمد محنة للناس طرا ... نميز به المعوج والسويا وأنشد أيضا رحمه الله: لقد صار في الآفاق أحمد محنة ... وأمر الورى فيها ليس بمشكل ترى ذا الهوى جهلا لأحمد مبغضا ... وتعرف ذا التقوى بحب ابن حنبل

- وأنشد شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري (ت 481 هـ) في مدح الإمام أحمد، وذكر مناقبه رضي الله عنه: وإمامي القوام لله الذي ... دفنوا حميد الشأن في بغدان جمع التقى والزهد في دنياهم ... والعلم بعد طهارة الأردان حبر العراق ومحنة لذوي الهوى ... يدرى ببغضته ذوو الأضغان هانت عليه نفسه في دينه ... ففدى الإمام الدين بالجثمان لله ما لقي ابن حنبل صابرا ... عزما وينصره بلا أعوان أنا حنبلي ما حييت فإن أمت ... فوصيتي ذاكم إلى إخواني فما ذكره الإمام ابن أبي يعلى: حق لا ريب فيه. ولا ينفرد الإمام أحمد -رضي الله عنه- بذلك، بل يشاركه في ذلك كل إمام عرف بنصرة السنة والقيام بها، والرد على أهل البدع. وكما نعرف أن محب الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ومقدمهما على سائر الصحابة في الفضل: بريء من الرفض في الظاهر. وكما نعرف أن محب علي -رضي الله عنه- ومقدمه على سائر الصحابة عدا الثلاثة قبله: بريء من النصب. وكما نعرف أن محب معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- والمرضي عنه، ومجتنب الطعن فيه، لصحبته رسول الله صلى الله عليه وسلم: سالم من معتقدات الرافضة في الصحابة، وأقوالها المنكرة.

كذلك نعرف المتبع المهتدي، بحبه لأهل السنة، وبغض من يبغضهم. وعكس ما تقدم: عكسه، فمبغض أحد الصحابة -رضي الله عنهم جميعا-: رافضي خبيث. ومحب عبد الرحمن بن ملجم، أو عمران بن حطان، أو أحمد بن أبي دؤاد، أو الجهم بن صفوان، أو الجعد بن درهم ونحوهم من أئمة الضلال، ممن لم يعرف إلا بضلالة وشر: هو ضال مضل مبتدع. فالحب والبغض في الله عز وجل، أعظم عرى الإيمان. وما سبق دليل واضح صادق، لسلامة الرجل واستقامته، أو بدعته وضلالته، وقد قال الإمام أبو عبد الله القحطاني الأندلسي في "نونيته" الشهيرة: لا يمدح البدعي إلا مثله ... تحت الرماد تأجج النيران تنبيه قد تلاعب " المالكي عمدا بكلام ابن أبي يعلى -رحمه الله- ولم يتمه، ولو أتمه لنقض كلامه! وأفسد مراده! وأنا أذكر كلام ابن أبي يعلى تاما ليظهر تلاعبه، قال الإمام أبو الحسين محمد بن أبي يعلى رحمه الله في "طبقات الحنابلة" (1 / 15) : (أنه ما أحبه أحد -إما محب صادق، وإما عدو منافق-: إلا وانتفت عنه الظنون، وأضيفت إليه السنن.

ولا انزوى عنه رفضا، وأظهر له عنادا أو بغضا: إلا واتفقت الألسن على ضلالته، وسفه في عقله وجهالته. وقد قدمنا قول الشافعي: "من أبغض أحمد بن حنبل: فقد كفر"، وقال قتيبة بن سعيد: " أحمد بن حنبل إمامنا، من لم يرض به: فهو مبتدع" اهـ. فسبب حذف المالكي تتمة كلام ابن أبي يعلى، المتضمن قول الشافعي، وقول قتيبة بن سعيد: ظاهر! ولو ذكره لكان الشافعي رحمه الله: أولى بالنقد والطعن والرمي بالتعصب من ابن أبي يعلى! كيف لا؟! وهو يجعل مبغض أحمد كافرا؟!

فصل في أسباب نكسات المسلمين عند المالكي وبيان فساد طريق السلامة منها عنده

[فصل في أسباب نكسات المسلمين عند المالكي وبيان فساد طريق السلامة منها عنده] فصل في أسباب نكسات المسلمين عند المالكي، وبيان فساد طريق السلامة منها عنده! قال المالكي ص (25) : (لو تتبعنا أسباب نكسات المسلمين في الماضي، كسقوط بغداد، واحتلال الشام، وفلسطين من قبل الصليبيين، وسقوط الأندلس: لوجدنا أن السبب الظاهر للخاصة والعامة، هو تفرق المسلمين. ولو نظرنا لسبب هذا التفرق: لوجدناه يكمن في الاتهامات المتبادلة، بالضلالة والبدعة والكفر، مع الاستغلال السياسي لهذه الطوائف؛ إذ أصبحت كل فرقة ترى أن اليهود والنصارى والصليبيين والمغول، أقرب لها من الطائفة الأخرى التي تلتقي معها في الأصول العامة للإسلام) اهـ. والجواب: أن هذا قياس منطقي صحيح المقدمات، فاسد النتيجة! فإن سبب نكسات المسلمين في الماضي والحاضر، هو التفرق، وعلاج ذلك وحله، هو الاعتصام بحبل الله كما أمر سبحانه وتعالى فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] ، وقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] . فالحل والعلاج: هو الاعتصام

بحبل الله جل وعلا، واتباع ما أنزل في كتابه وأتى به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا مجرد الاجتماع والاتفاق الظاهري! وكما قال الأول: وإذا الجرح رم على فساد ... تبين فيه تفريط الطبيب ولا يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه. والمسلمون ليسوا قلة كي تكون قوتهم في اجتماعهم وتجمعهم ليكونوا كثرة، وإنما علتهم القاتلة: بعدهم عن الوحي والاعتصام بدينهم، فكانت كثرتهم وحالهم هذه كالغثاء، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها " قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله يومئذ؟ قال: "لا! أنتم كثير لكن غثاء كغثاء السيل» [حم (5 / 278) د (4297) من حديث ثوبان رضي الله عنه] . ولم يسقط دول المسلمين ويسلط عليهم أعداءهم إلا فشو المعاصي فيهم، والبدع والضلالات، واللهو والمجون. وأما سقوط بغداد: فلم يكن سببه تقريب اليهود والنصارى، وإنما كان سببه تقريب المبتدعة والضلال، حتى إذا تمكنوا من وزارة الخلافة العباسية: كشفوا أسرارها، وأظهروا لعدو المسلمين عوارها، وشجعوه على النيل منها، فقدمت جيوشهم على حين غرة، فقتلوا الخليفة والعلماء والقضاة، وكثيرا من عامة المسلمين، حتى ذكر بعض العلماء: أن القتلى من المسلمين بلغوا ألف ألف نفس، أو نحو ذلك.

وقال غيره: لم ينقص القتلى عن سبع مائة ألف، ولم يزيدوا على ألفي ألف نفس، فالمقل يقول: سبع مائة ألف نفس، والمكثر يقول: ألفي ألف نفس. وكان ذلك بسبب استوزار آخر خلفاء بني العباس المستعصم لابن العلقمي الرافضي، الذي كان يراسل هولاكو قائد جيوش المغول، ويشجعهم على غزو دار الخلافة بغداد -مع إكرام المستعصم له، وثقته الكبيرة به، ومنزلته في دولته-: فقدمت جيوش المغول، وأسقطت الخلافة الإسلامية فيها، وأبادوا أهلها، فشفى هذا اللعين نفسه الخبيثة من المسلمين ودولتهم، وسانده في ذلك رفيق دينه وشبيهه الرافضي الآخر المسمى بالنصير الطوسي، فكان منجما مقربا عند هولاكو، وكان هولاكو يستشيره قبل همه في كثير من أموره، فأشار عليه الطوسي بقتل العلماء والقضاة وأهل الحل والعقد، ولا يبقي فيها أحدا سوى أهل الصنائع والحرف فحسب! فأخذ هولاكو بمشورته، وأنفذ وصيته، فأباد أهل بغداد، وأتلف غالب كتبهم الشرعية، بل بلغ القتل بالنساء والأطفال، فتبدلت بغداد على عارفيها، وأصبحت أثرا بعد عين، فهل يعتبر المسلمون اليوم؟! قال الإمام أبو عبد الله ابن القيم في "نونيته " ذاكرا ذلك: وكذا أتى الطوسي بالحرب الصري ...

_ ح بصارم منه وسل لسان

وأتى إلى الإسلام يهدم أصله ... من أسه وقواعد البنيان عمر المدارس للفلاسفة الألى ... كفروا بدين الله والقرآن وأراد تحويل "الإشارات " التي ... هي لابن سينا موضع الفرقان لكنه علم اللعين بأن هـ ... ـــــذا ليس في المقدور والإمكان إلا إذا قتل الخليفة والقضا ... ة وسائر الفقهاء في البلدان فسعى لذاك وساعد المقدور بالـ ... أمر الذي هو حكمة الرحمن فأشار أن يضع التتار سيوفهم ... في عسكر الإيمان والقرآن لكنهم يبقون أهل صنائع الد ... نيا لأجل مصالح الأبدان فغدا على سيف التتار الألف في ... مثل لها مضروبة بوزان وكذا ثمان مئينها في ألفها ... مضروبة بالعد والحسبان حتى بكى الإسلام أعداه اليهو ... د كذا المجوس وعابد الصلبان فشفى اللعين النفس من حزب الرسو ... ل وعسكر الإيمان والقرآن وقال رحمه الله في موضع آخر منها: وكذلك الطوسي لما أن غدا ... ذا قدرة لم يخش من سلطان قتل الخليفة والقضاة وحاملي الـ ... قرآن والفقهاء في البلدان

إذ هم مشبهة مجسمة وما ... دانوا بدين أكابر اليونان وما زال الروافض يحيكون المكائد بالمسلمين، ويسعون لما سعى إليه نصير الكفر الطوسي، كادهم الله، وجعل النار مثواهم ومثواه. وما زالت الروافض يعدون مكائد الطوسي تلك، من محاسنه ومناقبه، قال السيد حسين الموسوي، أحد علماء النجف، وخريج الحوزة العلمية النجفية الشيعية، في كتابه "كشف الأسرار، وتبرئه الأئمة الأطهار" ص (95) : (وتحدثنا كتب التاريخ، عما جرى في بغداد عند دخول هولاكو فيها، فإنه ارتكب أكبر مجزرة عرفها التاريخ، بحيث صبغ نهر دجلة باللون الأحمر، لكثرة من قتل من أهل السنة. فأنهار من الدماء جرت في نهر دجلة، حتى تغير لونه فصار أحمر، وصبغ مرة أخرى باللون الأزرق، لكثرة الكتب التي ألقيت فيه. وكل هذا بسبب الوزيرين: النصير الطوسي، ومحمد بن العلقمي، فقد كانا وزيرين للخليفة العباسي، وكانا شيعيين، وكانت تجري بينهما وبين هولاكو مراسلات سرية، حيث تمكنا من إقناع هولاكو بدخول بغداد، وإسقاط الخلافة العباسية، التي كانا وزيرين فيها. وكانت لهما اليد الطولى في الحكم، ولكنهما لم يرتضيا تلك الخلافة؛ لأنها تدين بمذهب أهل السنة. فدخل هولاكو بغداد، وأسقط الخلافة العباسية، ثم ما لبثا حتى صارا وزيرين لهولاكو، مع أن هولاكو كان وثنيا) . ثم ذكر الموسوي

بعض من كان يترضى عن الطوسي وابن العلقمي من الرافضة، لأعمالهم تلك، ويعدونها من أعظم الخدمات الجليلة للإسلام! ثم قال السيد الحسين الموسوي بعد ذلك: (وأختم هذا الباب، بكلمة أخيرة، وهي شاملة وجامعة في هذا الباب، قول السيد نعمة الله الجزائري في حكم النواصب، أهل السنة فقال: " إنهم كفار، أنجاس، بإجماع علماء الشيعة الإمامية، وإنهم شر من اليهود والنصارى. وإن من علامات الناصبي، تقديم غير علي عليه في الإمامة " "الأنوار النعمانية" (206- 207) اهـ كلام الموسوي، وقد كان من كبار علماء شيعة العراق، ومن المرضيين عندهم. إلا أنه لما ظهر له الحق، وظهر له فساد اعتقاد الشيعة، وأنهم صنيعة يهودية مجوسية، رجع إلى السنة، وكتب كتابه هذا -المنقول منه- مبينا مكيدة الشيعة بالإسلام وأهله، وما رآه -هو- منهم من فساد وإفساد وضلال وحقد على المسلمين جميعا، وعزا ذلك كله إلى كتبهم المشهورة المعتبرة عندهم -وهو الخبير المقدم فيها- ووعد بكتابة غيره، وفضحهم، إلا أنهم عاجلوه بالقتل -قتلهم الله- فمات شهيدا في نحو شهر رجب عام (1422 هـ) رحمه الله رحمة واسعة، وأبدل سيئاته حسنات. وهذا الأمر -أعني حدوث البدع، وظهور المبتدعة- هو سبب كل الفتن والمحن، من أول فتنة حدثت في صدر الإسلام إلى هذا اليوم. فبسببهم -لعنهم الله- قتل عثمان رضي الله عنه، واستحل دمه

الطاهر الشريف. وبسببهم خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقاتلوه في النهروان وغيرها، وهكذا سار ركبهم، ينقض بناء الإسلام، وينخر في جوف أعمدته العظام. فمن تولاهم، أو دافع عنهم، أو زين ما هم فيه: فقد كاد الإسلام، وسعى في هدمه، هدم الله أركانه.

فصل في إبطال المالكي الانتساب إلى السلف الصالح لتردد معناه عند أهل الفرق

[فصل في إبطال المالكي الانتساب إلى السلف الصالح لتردد معناه عند أهل الفرق] فصل في إبطال المالكي الانتساب إلى السلف الصالح! لتردد معناه عند أهل الفرق، والرد عليه قال المالكي ص (25- 26) : (والغريب: أن كل الفرق الإسلامية، دعواها واحدة، فكل فرقة تزعم أنها امتداد للسلف الصالح، وللمنهج الصحيح!! وأن الفرقة الأخرى، هي المبتدعة، المبتعدة عن الطريق الصحيح. وأصبحت كل فرقة، تسرد أسماء بعض علماء الصحابة والتابعين في سلفها الصالح!! ثم تدلل على ذلك بأقوال موهمة لهذا الصحابي، أو هذا التابعي. وأغلب تلك الأقوال أو الآثار، تكون ضعيفة أو موضوعة، وإن صحت تكون دلالتها موهمة، أو غير صريحة) اهـ. والجواب من وجوه ثلاثة: أحدها: تقدم أول الكتاب في "المقدمة الثانية" (ص 13- 14) ، وأن العبرة بصواب وصدق الادعاء، وموافقة الوحي، لا بمجرد وجوده. ولو اطرد هذا الشك والحيرة عند المالكي: لفسد الإسلام عنده، فإن أهل الأديان، يدعون في أديانهم وصحتها، ما تدعيها أهل الفرق في صحة مذاهبها، فاليهود والنصارى، يدعون أنهم على

دين الله الذي ارتضاه لعباده، وأنهم أتباع الأنبياء والرسل! الثاني: زعم المالكي، أن كل فرقة تزعم أنها امتداد للسلف الصالح: باطل، فمنها: من يدعي ذلك، سواء صدق في دعواه، أم لم يصدق. ومنها: من لا يدعيها! ولا يتشرف بنسبته إليهم! كرءوس المعتزلة، وكبار أئمة الاعتزال، عمرو بن عبيد ومن بعده. الثالث: أنا -بحمد الله- قاطعون جازمون بلا شك ولا ريب، بعلم ضروري قطعي: أن الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان، وتابعيهم على ذلك: كانوا على عقيدة أهل السنة. روى معتقداتهم، بأسانيدها الصحيحة العالية: أئمة الإسلام في مصنفاتهم، المفردة في العقيدة، أو العامة التي تطرقوا فيها إلى مسائل الاعتقاد. فأما المفردة التي صنفها أئمة السلف: فزادت على المائتين. وأما مصنفاتهم العامة في التفسير، والحديث، والفقه، وغيرها التي تطرقوا فيها لجملة من مسائل الاعتقاد: فهي أكثر من أن تحصى. قال الإمام ابن قيم الجوزية في "نونيته ": وانظر إلى السنن التي قد صنف الـ ... ـعلماء بالآثار والقرآن زادت على المئتين منها مفرد ... أوفى من الخمسين في الحسبان منها لأحمد: عدة موجودة ... فينا رسائله إلى الإخوان واللاء في ضمن التصانيف التي ... شهرت ولم تحتج إلى حسبان

فكثيرة جدا فمن يك راغبا ... فيها يجد فيها هدى الحيران أصحابها فم حافظو الإسلام لا ... أصحاب جهم حافظو الكفران وهم النجوم لكل عبد سائر ... يبغي الإله وجنة الحيوان وسواهم والله قطاع الطـ ... ـــــريق أئمة تدعو إلى النيران ما في الذين حكيت عنهم آنفا ... من حنبلي واحد بضمان بل كلهم والله شيعة أحمد ... فأصوله وأصولهم سيان وبذاك في كتب لهم قد صرخوا ... وأخو العماية ماله عينان فمن ادعى غير ذلك، كانت دعواه كاذبة، محتاجة إلى دليل، لا قدرة له عليه ولا سلطان. أما زعم المالكي: أن أقوالهم موهمة الدلالة! ضعيفة الأسانيد غالبا! : فكبقية مزاعمه، لا وجود لها إلا في مخيلته وذهنه، لذا لم يأت بمثال، ولو كان مثالا يتيما!

فصل في تنازع الفرق رجالا من أئمة السلف كلهم يدعيهم

[فصل في تنازع الفرق رجالا من أئمة السلف كلهم يدعيهم] فصل في تنازع الفرق رجالا من أئمة السلف كلهم يدعيهم مما يدل على بطلان دعاواهم جميعا عند المالكي! والرد عليه قال المالكي ص (26) : (والغريب: أن الفرق تتنازع أسماء معينة، فرجل مثل علي بن أبي طالب مثلا، يذكره السنة في سلفهم، وكذلك المعتزلة يذكرونه في سلفهم، ويذكره الشيعة في سلفهم وهكذا. وكذلك الحال في الحسن البصري، وجعفر الصادق، وزيد بن علي، والشافعي، وأبي حنيفة، وغيرهم من العلماء المشهورين. إذ تحاول كل فرقة، أن تجعله على منهجها، وتدعي أنه من سلفها الذين تسير على خطاهم!!) اهـ كلامه. والجواب: أن زعم المعتزلة والشيعة أن عليا -رضي الله عنه- من أسلافهم! كدعوى اليهود في إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فهي دعوى باطلة، لا دليل لها، ولم تخلق المعتزلة إلا بعده، فأينه وأينهم؟! أما دعوى أهل السنة فيه: فصحيحة، لا ريب فيها ولا مرية، بأبي هو وأمي رضي الله عنه وأرضاه، فقد تواتر عنه أنه خطب في الكوفة - مركز الشيعة- وتوعد من فضله أو قدمه على الشيخين أبي بكر وعمر

رضي الله عنهم، بأن يجلده حد المفتري. ولما سأله ابنه محمد: من أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال رضي الله عنه: " أبو بكر ثم عمر " وهذا في "صحيح البخاري". فمن أين تصح دعوى الشيعة فيه؟! ولم يتركوا له، أمرا إلا خالفوه، ولا نهيا إلا ارتكبوه؟! أو لم يخبر -رضي الله عنه- بنسخ نكاح المتعة، وأنه آخر الأمر، فلم خالفوا أمره، وردوا خبره؟! وسر دعواهم في علي -رضي الله عنه- معروف ظاهر، وإن خفي على الأغمار، فما الذي وجدته الرافضة فيه، ولم تجده في إخوانه من الصحابة السابقين؟! وإنما القوم أرادوا الكيد بالإسلام، وقد روى الإمام الكبير أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" (382) عن الإمام الحافظ أبي الربيع الزهراني -وهو أحد شيوخه الثقات- أنه قال: (كان من هؤلاء الجهمية رجل، وكان الذي يظهر من رأيه الترفض، وانتحال حب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال رجل ممن يخالطه ويعرف مذهبه: قد علمت أنكم لا ترجعون إلى دين الإسلام، ولا تعتقدونه، فما الذي حملكم على الترفض، وانتحال حب علي؟! قال: " إذا أصدقك أنا، إن أظهرنا رأينا الذي نعتقده، رمينا بالكفر والزندقة، وقد وجدنا أقواما ينتحلون حبا علي ويظهرونه، ثم

يقعون بمن شاءوا، ويعتقدون ما شاءوا، ويقولون ما شاءوا، فنسبوا إلى الترفض والتشيع! فلم نر لمذهبنا أمرا ألطف من انتحال حب هذا الرجل! ثم نقول ما شئنا! ونعتقد ما شئنا! ونقع بمن شئنا! فلأن يقال لنا: رافضة، أو شيعة، أحب إلينا من أن يقال: زنادقة كفار. وما علي عندنا أحسن حالا من غيره، ممن نقع بهم ") اهـ وهذا المعنى، ذكره غير واحد من الأئمة، بل من طالع كتب الرافضة: وقف على غمزهم لآل البيت، بل لأئمة الآل رضي الله عنهم: كعلي بن أبي طالب، وزوجه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحسن والحسين ابني علي، وعبد الله بن عباس، وجعفر الصادق وتسميتهم له بالكاذب! وزيد بن علي، وموسى الكاظم، وزين العابدين علي بن الحسين، ومحمد الباقر. ومحمد القانع طعنوا في نسبه، وشككوا فيه! أكان ابنا للرضا، أم ابن زنا!! بل لم يسلم منهم النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فرموه في زوجه، ونسبوها إلى ما برأها الله منه، حين قال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ - لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 11 - 12] . فكانت الرافضة كلها ممن تولى كبره، وحق عليها، ما حق على سالفها.

وارتقى طعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم فوق ذلك، فقال عالمهم، ومقدم جهالهم علي غروي، أحد أكبر علماء حوزتهم: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن يدخل فرجه النار؛ لأنه وطىء بعض المشركات) يريد بذلك أمي المؤمنين: عائشة بنت أبي بكر الصديقة بنت الصديق، وحفصة بنت عمر رضي الله عن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهن. وهل خفيت مكيدتهم بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبطه وريحانته: الحسين بن علي رضي الله عنهما، حين غرروا به، فبايعه منهم عشرون ألفا، حتى إذا لقي خصمه، تركوه يقتل وأهله! وقد اعترفوا بذلك! في كبار كتبهم وأصولهم، فذكر صاحب "الاحتجاج " (2 / 28) -وهو أحد صحاح كتبهم عندهم-: (أن فاطمة الصغرى رضي الله عنها، خطبت في أهل الكوفة فقالت: "يا أهل الكوفة، يا أهل الغدر والمكر والخيلاء، إنا أهل البيت، ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسنا. . فكفرتمونا، وكذبتمونا، ورأيتم قتالنا حلالا، وأموالنا نهبا. . كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت. تبا لكم، فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأن قد حل بكم.. . ويذيق بعضكم بأس بعض، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة، بما ظلمتمونا، ألا لعنة الله على الظالمين.

تبا لكم يا أهل الكوفة! كم قرأت لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم، ثم غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب، وجدي، وبنيه، وعترته الطيبين". فرد عليها أحد أهل الكوفة مفتخرا فقال: "نحن قتلنا عليا، وبني علي، بسيوف هندية ورماح، وسبينا نساءهم سبي ترك، ونطحناهم فأي نطاح ") اهـ. بل كتب الرافضة المعتمدة، مليئة من شكوى آل البيت من شيعتهم، وأذاهم لهم، وانتقاص هؤلاء المتشيعين لهم. وقد أعرضت عن ذكرها لكثرتها، ولئلا يطول هذا الموضع، فيخرج عن المراد، ومن أراد أن يرى ذلك مجموعا في كتاب، فليطالع كتاب "كشف الأسرار، وتبرئة الأئمة الأطهار" للحسين الموسوي (ص 14-32) . ومن وقف على هذا الكتاب ونحوه، أو كلام أئمة الإسلام والسنة: قطع بأن الرافضة، مزيج من المجوس الفرس، واليهود الطبرسيين وغيرهم. جمعهم الكيد للإسلام، فلم يبقوا للإسلام ركنا إلا سعوا في هدمه، فطعنوا في القرآن بالنقص! وفي السنة برواية النواصب لها! وأنهم كفار، لا يصح الاحتجاج بأقوالهم. ثم عمدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجاته، وأصحابه، وآل بيته، فنفوا عنهم كل فضيلة! وألصقوا بهم كل رذيلة!

فجميع دعاوى الرافضة في آل البيت، أو الصحابة، أو علماء الإسلام الصالحين: دعوى باطلة، وإنما سلفهم اليهود والصابئون. وكيف تصح دعوى المعتزلة في علي رضي الله عنه، وهم مقرون أن ما أمروا الناس به، وحملوهم عليه: لم يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إليه، ولا أحد من الصحابة؟! وإنما المالكي رجل أعمى الله قلبه وبصيرته، وتلبسته الفتن والشكوك، حتى غدا في ليل من الشك مظلم، فما يدري ما الصحيح من السقيم، ولا السمين من ذي الورم، نسأل الله السلامة والعافية. وقل مثل ذلك، في دعوى هؤلاء المبتدعة في الحسن البصري، وأبي حنيفة وغيرهم. أما الشافعي: فما نصيبهم منه، إلا حكمه فيهم بضربهم بالنعال والجريد، وأن يطاف بهم في القرى والهجر، وينادى عليهم: هذا حكم من ترك كتاب الله إلى علم الكلام.

فصل في زعم المالكي أن المستفيد من كتب اعتقاد المسلمين هم أعداء الإسلام

[فصل في زعم المالكي أن المستفيد من كتب اعتقاد المسلمين هم أعداء الإسلام] فصل في زعم المالكي أن المستفيد من كتب اعتقاد المسلمين، هم أعداء الإسلام وإيجابه الاقتصار على الإيمان الجملي بأركان الإيمان الستة! والإتيان بالواجبات الكبرى! والانتهاء عن المنهيات الكبرى! ليتحد المسلمون، ويكونوا صفا واحدا! والرد عليه، وبيان أن هذا باب الزندقة قال المالكي ص (27) : (وأكثر المستفيدين من التراث العقدي، المليء بالتكفير والتفسيق والتبديع، هم أعداء الأمة الإسلامية، من أهل الإلحاد، واليهود والنصارى. واستفادتهم لم تكن مؤامرة منهم، وإنما بمبادرة منا نحن المسلمين، الذين رضينا أن نعيش في الصراعات المزمنة، وننسى المهمة الكبرى، التي يجب أن نقوم بها، من الاعتصام بحبل الله، والالتقاء على الأصول الجامعة، من الإيمان الجملي، بالله، واليوم الآخر، والرسل، والكتب، والأنبياء، والقضاء والقدر. وفعل الواجبات الظاهرة: من صلاة، وصيام، وحج، وزكاة. والأخلاق الواجبة: من عدل، وصدق، وأمانة، ووفاء، وتعاون إلخ. وتزك المحرمات المعروفة: من ظلم، وسرقة، ونهب، وغش، وزنا، وشرب للخمر، وكذب، وخيانة، إلخ.

فهذه الإيمانيات الكبرى، والواجبات الكبرى، والمنهيات الكبرى: علامات بارزة، لمن أراد الهداية والاستقامة، وكان له حط من تدبر وتعقل. وهذه الإيمانيات، والواجبات، والمنهيات، كل لا يتجزأ، وهي التي يتفق عليها جميع المسلمين. فالاعتصام بهذه الأصول الكبرى، مع الاتفاق بين المسلمين، كانت خيرا للمسلمين، من التركيز على الفرعيات والجزئيات، التي لا يمكن الاتفاق فيها، مع ما يسببه هذا، من التفرق، والاختلاف بينهم، فما نكرهه في الاجتماع، خير مما نحبه في الفرقة) اهـ كلامه. والجواب من وجوه: أحدها: أنا لا نسلم أن المستفيد من كتب العقائد السلفية السنية، هم أعداء الأمة الإسلامية! ولا وجه لذلك. بل أعداء الأمة هم المستفيدون من تركها، ليدخل في المسلمين غيرهم من الكفرة والملحدين ونحوهم، ممن تتضمن عقائدهم، مزعزعات في العقيدة الصحيحة، في الله جل جلاله، أو في دلالة الكتاب والسنة، أو صحتهما، ونحو ذلك. الثاني: أن الإيمان الجملي بأركان الإيمان الستة: بالله، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره: لا يصح ولا ينفع صاحبه، إذا خالطه شيء مما يبطله، أو لم يؤمن ببعض فروع

تلك الأصول، إذا بلغته فردها. فهل يكون مؤمنا بالله جل وعلا: من أنكر أسماءه وصفاته؟! أو آمن ببعض وكفر ببعض؟! أو رد شيئا من كلام الله تعالى؟! وهل يكون مؤمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: من رد ما ثبت عنه بغير وجه حق، بل بأمور بدعية محدثة، لم يعرفها المسلمون في سالف عصرهم؟! وهل يكون مؤمنا بكتب الله سبحانه: من زعم أنها ليست كلام الله حقيقة وأن القرآن لم يتكلم به الله على الحقيقة وإنما خلقه كسائر مخلوقاته؟! وهل يكون مؤمنا باليوم الآخر وما فيه: من أنكر أحواله التي وصفها الله سبحانه لنا، أو وصفها رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بغضها، كالميزان حقيقة، ووزن الأعمال به، ومخاطبة الله سبحانه لعبيده في ذلك اليوم العظيم، ورؤيتهم له، وإتيانه إليهم، والصراط ونصبه، والحوض، وغير ذلك مما صح وثبت؟! وهل يكون مؤمنا بالقدر خيره وشره: من يقول بالجبر أو ينفيه؟! فالإيمان بأركان الإيمان السابقة، دون معانيها المذكور شيء منها سابقا، هو إيمان بألفاظ لا يدرى معناها الحق! وماذا يتضمن ذلك اللفظ من معان، يجب فيها، ما يحب في أصلها. وأما الاقتصار على الإتيان بالواجبات الكبرى -كما يسميها المالكي - وتجنب المنهيات الكبرى: فهو باطل كذلك.

لأن سبب الإتيان بالطاعة، أو الامتناع عن المعصية: هو أمر الله سبحانه أو نهيه، أو أمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، أو نهيه، لا كونها كبرى أو صغرى! أو اختلف الناس فيها! أو لم يختلفوا! فمن بلغه أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم الموجب الصحيح غير المنسوخ فرده، أو نهيه فلم يجتنبه: كان عاصيا آثما باغيا، وافقه غيره أو لم يوافقه، قال سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . وقال: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92] . وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] . وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] . وقال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] . والآيات في هذا، والأحاديث كثيرة معلومة. فبأي حجة أو دليل، يرد المالكي أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؟! إلا بزندقة يراد منها، أن تؤتى معاصي الله، وتجتنب مراضيه، بحجة اجتماع الناس! ألا يأمرهم أيضا، بترك ما أبقاه لهم من طاعات، حتى يكون الجمع أكبر؟! ويدخل فيهم اليهود والنصارى والصابئون؟!

أليست الكثرة مقصدا صحيحا عنده؟! فهكذا أكثر! والجمع أكبر! وأبى الله إلا أن يملأ جهنم. الثالث: أن المالكي يأمر الناس أن يقتصروا على الإيمان الجملي بالكليات، والإتيان بالطاعات الكبرى! واجتناب المعاصي الكبرى! وهو -مع بطلان هذه المزاعم وفسادها كما سبق- يناقض نفسه! ويخالف أمره! فلماذا لا يلتزم بما نصح به، ودعى إليه، ويترك البحث في عدالة الصحابة؟! ومن يصح أن يسمى منهم صحابيا، ومن لا يصح! وهل القعقاع بن عمرو التميمي، رجل له حقيقة ووجود؟! أو مختلق مفقود؟! ولماذا لا يترك الطعن في عقائد السلف الصالح، تحت ستار الطعن في عقائد الحنابلة؟! ويترك النصب والنواصب؟! والبحث في عبد الله بن سبإ؟! وهلم جرا. أم أنه أصبح يراها من الإيمانيات الكبرى، التي لا يصح الإسلام إلا بها! فمن لم يعتقد أن القعقاع بن عمرو رجل مختلق، فهو مرتد لا يصح إسلامه؟!

فصل في زعم المالكي أن كتب عقائد المسلمين فيها باطل كثيروحق قليل

[فصل في زعم المالكي أن كتب عقائد المسلمين فيها باطل كثيروحق قليل] فصل في زعم المالكي أن كتب عقائد المسلمين، فيها باطل كثير! وحق قليل! والرد عليه قال المالكي ص (28) : (وكتب العقائد رغم ما فيها من حق قليل، إلا أن فيها الكثير من الباطل، بل هو الغالب عليها، لما فيها من الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإسرائيليات المشككة للمسلم، والتكفير للمسلمين، وزرع بذور الشقاق، والتباغض، والتنازع بين المسلمين، وغير ذلك من الهوى والظلم والجهل، سواء كان ذلك في كتب العقائد عند الشيعة، أو السنة، أو الإباضية، أو الصوفية، أو غيرهم) اهـ. والجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا كلام باطل بإجماع المسلمين كافة، بجميع فرقهم، فكلهم يرى أن مذهبه فيه الهدى والخير كله، فالمسلمون في الجملة، مجمعون على صحة كتبهم في المعتقد، كل فرقة في كتبها، ولا يرى أحد منهم، ما يراه المالكي: أن في كتب العقائد عامة، حقا قليلا، وباطلا كثيرا. الثاني: أن عقائد أهل السنة كلها، خير وحق، لا باطل فيها أبدا، لاعتمادها على الوحيين، وعلى أئمة السلف والإسلام، في فهم معانيهما.

لذلك لم يستطع المالكي -مع كذبه- أن يأتي بدليل على صحة كلامه، أو يضرب مثالا، وكأن كلامه المجرد، دليل بنفسه يستدل به لا له! أما عقائد غيرهم: فلا يصح منها، إلا ما وافق الوحيين.

فصل في رد دعوى المالكي أنه لم يسلم من كتب العقائد إلا شيء قليل جدا

[فصل في رد دعوى المالكي أنه لم يسلم من كتب العقائد إلا شيء قليل جدا] فصل في رد دعوى المالكي: أنه لم يسلم من كتب العقائد، إلا شيء قليل جدا قال المالكي ص (28) : (ولم ينج من كثير من ذلك، إلا بعض كتب المجتهدين في الماضي أو الحاضر، وهي قلة، نسبة إلى هذه الكثرة) . ثم بين المالكي في حاشية تلك الصفحة من يعني فقال: (كالإمام ابن الوزير في كتابه "إيثار الحق على الخلق"، والإمام المقبلي في كتابه "العلم الشامخ، في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ"، وابن الأمير الصنعاني في كتابه "إيقاظ الفكرة"، وجمال الدين القاسمي في كتاب "تاريخ الجهمية والمعتزلة"، و"الجرح والتعديل"، وغيرهم من العلماء، الذين حاولوا التخلص من المذهبية العقدية والفقهية، والعودة لأصول الإسلام الجامعة، والابتعاد عن الجزئيات المفرقة، مع إعذار من اجتهد فأخطأ من سائر الطوائف الإسلامية) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: تقدم ببيان نجاة أهل السنة جميعا، مما وصمهم به المالكي، لاعتصامهم بالوحي. وتقدم كذلك ذكر شذوذ المالكي بقوله هذا، وأنه مخالف لإجماع المسلمين كافة، باختلاف طوائفهم.

الثاني: مطالبته ببيان الفروق، التي ميزت كتب المجتهدين السابقين -كما وصفهم المالكي - عن كتب غيرهم من أهل العلم. فإن قال -كما زعم سابقا-: محاولتهم التخلص من المذهبية العقدية والفقهية، والعودة لأصول الإسلام الجامعة، والابتعاد عن الجزئيات المفرقة، وعذر المجتهد إن أخطأ من جميع الطوائف. قلنا: هذا غير صحيح! وكتبهم كلها تدل على خلاف ذلك، فابن الوزير -وهو إمام مجتهد بحق- لم يعذر شيخه علي بن محمد بن أبي القاسم (ت 837 هـ) عندما صنف كتابا عاب فيه على أهل السنة والحديث أمورا، وتنقص بعض الأئمة، وطعن في بعض الأحاديث، وقال بمعتقدات مخالفة. ورد عليه ابن الوزير في كتابه الكبير "العواصم والقواصم، في الذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم" وهو في بضعة مجلدات. ثم زاد في إيجاع خصمه باختصاره المسمى "الروض الباسم" وبين منزلة المردود عليه العلمية، وتنقصه تنقصا بالغا، وسفه ما جاء به. أما المقبلي: "فالعلم الشامخ" دليل ظاهر على عدم إعذاره لأي مخالف له، فحمل على شيخ الإسلام ابن تيمية حملة كبيرة بغير حق، وحمل على القائلين بعلو الله سبحانه على خلقه، وتكلم في حقهم بكلام عظيم، يدل على أنه إمام لكن في الضلالة. وكذلك حمل على الزيدية، وسفه أقوالهم وأحلامهم، حتى قال قائل الزيدية فيه (وهو الحسن الهبل ت 1079 هـ) ، ضمن أبيات جائرة:

المقبلي ناصبي ... أعمى الشقا بصره فرق ما بين النبي ... وأخيه حيدره لا تعجبوا من بغضه ... للعترة المطهرة فأمه معرفة ... لكن أبوه نكرة فلم يعذر المقبلي أحدا من مخالفيه، ولم يخلع ربقة التبعية للمذاهب الضالة، بل خلع ربقة مذهب فاسد -أعني الزيدية- إلى مثله! وكتابه السابق، يدل على ذلك. أما الصنعاني: فمثلهم، لم يعذر أحدا خالفه قي أصول الدين، وكتبه شاهدة بذلك، وحسبنا قصيدته التي بين فيها ضلال عباد القبور، وكان مطلعها في مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومنها: سلام على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي لقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا ... رباها وحياها بقهقهة الرعد سرت من أسير ينشد الريح إن سرت ... ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد يذكرني مسراك نجد وأهله ... لقد زادني مسراك وجدا على وجدي قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد محمد الهادي بسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي , ويا حبذا المهدي لقد أنكرت كل الطوائف قوله ... بلا صدر في الحق منهم ولا ورد وما كل قول بالقبول مقابل ... ولا كل قول واجب الرد والطرد وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي

وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... ويلتمس الأركان منهن بالأيدي وحرق عمدا للدلائل دفترا ... أصاب ففيها ما يحل عن العد غلو نهى عنه الرسول وفرية ... بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي أحاديث لا تعزى إلى عالم ولا ... تساوي فليسا إن رجعت إلى النقد وصيرها الجهال للذكر ضرة ... ترى درسها أزكى لديها من الحمد لقد سرني ما جاءني من طريقه ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي فإن قال المالكي: قد تراجع الصنعاني عن هذه القصيدة، لما بلغه عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أمور تخالف ما يعتقده هو، ونظم فيه قصيدة ثانية ذمه بها. قلنا: جواب هذا من وجهين: أحدهما: أن قصيدته التي ذكر أنه تراجع فيها: إنما تراجع فيها عن مدحه للشيخ محمد بن عبد الوهاب فحسب، ولم يتراجع عن اعتقاده في فساد معتقدات القبورين، وذم بدعهم المحدثة، مما سبق ذكر شيء منه،

ومحل الشاهد من قصيدته الأولى، هو ذمه لأهل البدع المخالفين، وعدم إعذاره لهم بمخالفاتهم، لا مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وإذا تقرر هذا، فمحل الشاهد سالم من الاعتراض والانتقاض. الثاني: إن صح تراجعه، فهو دليل لنا لا علينا، فإن الصنعاني مع موافقته الجملية، للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في توحيد العبادة، إلا أنه لما بلغه عنه شيء يخالفه، لم يعذره، ونظم قصيدة في ذمه، والتحذير منه. وتمسك الشيخ الإمام المجدد، محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بالكتاب والسنة، واشتهاره بنصرتها، وتحمله الأذى لذبه عنها: قد أغناه الله به، عن مدح الصنعاني أو ذمه. أما جمال الدين القاسمي: فلا أظن أحدا يجعله مجتهدا! وأي علم بلغ القاسمي الاجتهاد فيه؟! كما أنه لم يسلم من تبعية المذاهب العقدية! فقد كان أشعريا صوفيا خلوتيا، كتب ذلك بخط يده عند إتمامه نسخ كتاب "الفوائد الجليلة، في مسلسلات ابن عقيلة " فقال: (تم كتابة، على يد الفقير إلى الله تعالى: محمد جمال بن الشيخ محمد سعيد بن الشيخ قاسم، الشهير بالحلاق الدمشقي موطنا، الشافعي مذهبا، والخلوتي طريقة، والأشعري معتقدا، غفر الله له ولوالديه ومشايخه والمسلمين أجمعين. وذلك في يوم الأحد، في الضحوة الكبرى، الواقع في أربعة وعشرين من شهر محرم الحرام، سنة اثنتين وثلاثمائة وألف 1302 هـ) اهـ

وصورة خطه هذا، في صفحة (48) من طبعة الكتاب، التي نشرتها "دار البشائر الإسلامية" عام (1421 هـ) . وكتاباه اللذان ذكرهما المالكي، دليلان كافيان على عدم تحقيقه في العلم عامة، والعقيدة خاصة. وقد ذكر بعض أهل العلم: أن القاسمي كان على ذلك أول حياته، ثم رجع عنه آخرها، وتأثر بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الحنبليين، وعكف على مطالعتها، فصلحت عقيدته، واستقامت طريقته، ودللوا على ذلك بما في "تفسيره" وبعض رسائله المتأخرة الأخرى، مما يخالف ما كان عليه أول حياته مما تقدم، والله أعلم. الوجه الرابع: أن المالكي اختط منهجا، لم يسر عليه أحد قط غيره! ولم يستطع أن يمثل عليه هو بمثال واحد صحيح فقط. بل أعجب من ذاك وأغرب: أن يلزم الناس به، ثم يكون أول مخالفيه! فأين التزامه بأمره بالاقتصار على الإيمانيات الكلية، وبحوثه لم تخرج قط عن باب الصحبة والصحابة، والنصب والنواصب، وأخطاء الحنابلة، ونحوها من أمور لا يراها هو داخلة في أركان الإيمان الستة؟! بل أين إعذاره -هو- للمخالف، وهو يطعن في جمع من أئمة الإسلام، ولا يعذر أحدا منهم، كالمروذي، وعبد الله بن الإمام أحمد، والبربهاري، وابن بطة، وابن أبي يعلى، وابن تيمية، وابن القيم، والفوزان، وغيرهم ممن سلط لسانه السليط، في أعراضهم المصونة؟!

فصل في زعم المالكي أن المصنفين أقحموا في كتب العقيدة مباحث ليست منها

[فصل في زعم المالكي أن المصنفين أقحموا في كتب العقيدة مباحث ليست منها] فصل في زعم المالكي أن المصنفين أقحموا في كتب العقيدة مباحث ليست منها كمبحث الصحابة، والدجال وغيرها! وإبطال زعمه، والرد عليه قال المالكي ص (28) : (إضافة إلى ذلك، فإن المؤلفين في كتب العقائد: لم يرضوا بهذا، حتى أدخلوا في العقيدة أمورا أخرى، ووسعوا جانب العقيدة، مع تشدد على المخالفين، فأدخلوا مباحث الصحابة، والدجال، والمهدي المنتظر، والمسح على الخفين، والجهر بالبسملة، وغير ذلك من الأخبار أو المواعظ أو الأحكام. فضلا عن التكفير، والتبديع، ونشر الأكاذيب. أدخلوا كل هذا وزيادة في العقيدة، وأصبح المخالف في شيء من ذلك، مبتدعا عندهم) اهـ والجواب عن هذا الهذيان: أنه لما كان من أصول الإيمان، ومعاقد الإسلام المجمع عليها: الإيمان بما جاء عن الله عز وجل، وصح عن نبيه صلى الله عليه وسلم، إيمانا مجملا، ومفصلا بما بلغ المسلم منها. وكان كلما خرجت طائفة وفرقة، كذبت بشيء مما جاء عن الله جل وعلا، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم: نص أئمة الإسلام -مقابل ذلك- على الإيمان بذلك الأمر خصوصا، والإيمان عموما بكل ما جاء، لخلل هذا الإيمان الكلي، بعدم الإيمان بجزء من فروعه.

لذا لا تراهم نصوا على الإيمان بشيء من فروع تلك الأصول، إلا بعد ظهور من يكذب بها، ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم، لم يكتفوا بالأمر بالإيمان بالغيب وأمور الآخرة على الإجمال، وصرحوا بوجوب الإيمان بأمور فرعية منها، لما ظهر التكذيب ببعض فروعها في عهدهم في القرن الهجري الأول، وضللوا من لم يؤمن بها وبدعوه، كعبيد الله بن زياد لما كذب بالحوض، أخبروه بصحة الأحاديث فيه، وأغلظوا عليه القول، وزجروه، وبدعوه، ومنهم: أبو برزة الأسلمي، وزيد بن أرقم، والبراء، وعائذ بن عمرو وغيرهم رضي الله عنهم جميعا. وذكر بعض أهل العلم أن ابن زياد رجع عن ذلك، لما رواه الإمام أحمد في "مسنده" (2 / 162 - 163) أن أبا سبرة حدث ابن زياد عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «موعدكم حوضي» ، فقال ابن زياد: (أشهد أن الحوض حق) . وكان ابن زياد ضالا ظالما مبتدعا، جمع إلى النصب الرفض، ولي البصرة سنة (55 هـ) وله ثنتان وعشرون سنة، وولي خراسان، وقتل يوم عاشوراء سنة (67 هـ) . وصح عند الترمذي (3780) بإسناد صححه أنه لما جئ برأس ابن زياد قتيلا، أتت حية فدخلت في منخره، فمكثت هنيهة، ثم خرجت وغابت، ثم عادت ففعلت ما فعلت، مرتين أو ثلاثا. قال الذهبي في ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (3 / 545-546) : (كان جميل الصورة، قبيح السريرة ... . وقد جرت لعبيد الله خطوب،

وأبغضه المسلمون لما فعل بالحسن رضي الله عنه) اهـ. أما حفظ حق الصحابة رضي الله عنهم، ومعرفة فضل الأربعة الخلفاء الراشدين على ترتيبهم، والإمساك عما شجر بينهم، وذكر فضلهم، وكف اللسان عن غمطهم: فمن الإيمان بلا شك، وقد أمر الله ورسوله بذلك. وأجمعت الأمة كلها، سنة ومبتدعة، على أن مبحث الصحابة رضي الله عنهم مبحث عقدي، ولم تخل كتب معتقداتهم باختلاف مذاهبهم منها، فالمهتدون يعتقدون فيهم ما سبق، والضالون المضلون يعتقدون خلافه. وإن كان المالكي لا يرى مباحث الصحابة داخلة في العقيدة، وقد أمر المسلمين -ليتحدوا- بالاقتصار على الإيمان بالأركان الستة، إيمانا جمليا: فلم كتب في مبحثهم وهو غير عقدي عنده، وترك مباحث الاعتقاد الجملي الكلي؟! وكذلك الإيمان بالمسيح الدجال: قد تواترت أحاديثه، ولا يردها إلا ضال استبان ضلاله. والمهدي: قد ثبتت أحاديثه وصحت، بل قال جماعة من أهل العلم: إنها متواترة، منهم: محمد بن عبد الرسول البرزنجي (ت 1103هـ) . ومحمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي (ت 1188 هـ) .

ومحمد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) . ومحمد بن جعفر بن إدريس الكتاني (ت 1345 هـ) . وقد أفرد جماعة من أهل العلم المهدي بالتصنيف، منهم: أبو بكر أحمد بن زهير بن حرب، ابن أبي خيثمة (ت 279 هـ) . وأبو الحسن أحمد بن جعفر ابن المنادي (ت 336 هـ) . وأبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 656 هـ) . ومحمد بن يوسف الكنجي الشافعي (ت 658 هـ) . ويوسف بن يحيى السلمي الشافعي (ت 685 هـ) . وإسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي الشافعي (ت 774 هـ) . وعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي (ت 911 هـ) . وابن كمال باشا أحمد بن سليمان الحنفي (ت 940 هـ) . ومحمد بن علي ابن طولون الصالحي الحنفي (ت 953 هـ) . وأحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي (ت 974 هـ) . وعلي بن حسام الدين المتقي الهندي (ت 975 هـ) له فيه كتابان. وعلي بن سلطان القاري الحنفي (ت 1014هـ) . ومرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي (ت 1033 هـ) . ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، ابن الأمير (ت 1182 هـ) . ومحمد بن علي الشوكاني (ت1250 هـ) . وأحمد بن محمد بن الصديق الغماري المغربي (ت 1380 هـ) .

وحمود بن عبد الله بن حمود التويجري الحنبلي (ت 1413 هـ) . وعبد العليم بن عبد العظيم البستوي (معاصر) في كتابين، أحدهما في الأحاديث الصحيحة التي وردت فيه، وأقوال العلماء، والآخر في الأحاديث الضعيفة، وهما كتابان نافعان. هذا طرف ممن صنف فيه من أهل العلم، وأثبته، من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وهم أكثر من هؤلاء، ولكن ما سقته، فيه خير، ويغني ذا البصيرة، ومن أراد الهداية والحق. أما المبطل: فقد قال فيه سبحانه: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] . قال الحافظ أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري السجزي (ت 363 هـ) في كتابه "مناقب الشافعي ": (وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا، وأن عيسى عليه السلام يخرج فيساعده على قتل الدجال، وأنه يؤم هذه الأمة، ويصلي عيسى خلفه، في طول من قصته وأمره) اهـ. واستشهد الأئمة بكلام الآبري رحمهم الله جميعا، مقرين بما قاله، ومنهم: محمد بن أحمد الخزرجي القرطبي (ت 671 هـ) في "التذكرة" (2 / 723) . وأبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي الشافعي (ت 742 هـ) .

ومحمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية الحنبلي (ت 751 هـ) في "المنار المنيف". والحافظ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت 852 هـ) في "فتح الباري" (6 / 494) ، و"تهذيب التهذيب " (9 / 144) . ومحمد بن عبد الرحمن السخاوي الشافعي (ت 902 هـ) في "فتح المغيث" (3 / 14) . والجلال عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي (ت 911 هـ) ، في غير كتاب. وأحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي (ت 974 هـ) في "الصواعق المرسلة" (ص 99) وغيره. وعلي بن سلطان القاري المكي الحنفي (ت 1014 هـ) . ومرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي (ت 1033 هـ) . ومحمد بن عبد الرسول البرزنجي (ت 1103 هـ) . ومحمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني (ت 1122 هـ) ، وغيرهم. وقد أنكره بعض أهل البدع، ومنهم ابن خلدون في "تاريخه"، ولم يكن من أصحاب هذا الشأن. بل مع إنكاره، أو تشكيكه في صحة أحاديث المهدي: اعترف بشهرة أمر المهدي بين أهل الإسلام كافة، فقال في "تاريخه" (1 / 555) : (اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار: أنة لا بد في

آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت، يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى المهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده -من أشراط الساعة الثانية في الصحيح- على أثره. وأن عيسى ينزل من بعده، فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته) اهـ. وهذا باب يطول فيه التفصيل، ويغني عنه ما تقدم من الإجمال والتجميل {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] .

فصل في إنكار المالكي مصطلح العقيدة وزعمه أنه لفظة مبتدعة

[فصل في إنكار المالكي مصطلح العقيدة وزعمه أنه لفظة مبتدعة] فصل في إنكار المالكي مصطلح "العقيدة"! وزعمه أنه لفظة مبتدعة! ليست في الكتاب والسنة! فيجب تركها! والرد عليه قال المالكي ص (30) تحت عنوان: (أولا: مصطلح العقيدة بين السنة والبدعة) . ثم قال: (مع أنني أستخدم مصطلح العقيدة بشروط سيأتي ذكرها، إلا أنه عند تعريفي لعنوان المحاضرة "قراءة في كتب العقائد" لفت نظري عدم وجود كلمة "عقيدة" في النصوص المتقدمة، لا في القرآن، ولا كتب السنة، ولا المؤلفات المشهورة في القرون الثلاثة الأولى. فكانت هذه أول فائدة، وفي الوقت نفسه كانت أكبر مصيبة، إذ لا يتم التنبيه على ذلك، مع حرصنا فيما نزعم، على هجران المصطلحات البدعية المستحدثة، التي لا أصل لها في الكتاب والسنة!!) اهـ. ثم قال في حاشية هذه الصفحة: (والغريب أننا ننكر على بعض الطوائف الأخرى كالأشاعرة، استحداثهم ألفاظا لم ترد في القرآن، ولا في السنة، مثل "الجزء" و "الجوهر" و"القديم" إلخ. وننكر على الصوفية، تسميتهم أنفسهم "أهل الحقيقة"، و"أهل الطريقة" إلخ كلام المالكي.

والجواب من وجهين: أحدهما: أن إنكار المالكي للفظ العقيدة، لعدم وروده في القرآن والسنة: من جملة جهله، وسذاجة فكره. فإنا لو تركنا تسمية "العقيدة" بهذا الاسم، وسميناها "الإيمان" أو غير ذلك من الأسماء التي يرضاها المالكي! : لم يكن ذلك حلا لاختلاف المسلمين، وتوحيد اعتقاداتهم؛ لأن الخلاف في المعنى والمسمى، لا في الاسم. الثاني: أن السلف رحمهم الله، إنما أنكروا أحد أمرين في هذه المسميات: أحدهما: إحداث مسميات لم تأت في الشرع، ثم إثباتها لله عز وجل أو نفيها، كمسمى "الجزء والجوهر" ونحوها. الثاني: استبدال ألفاظ شرعية بألفاظ أخرى كلامية مستحدثة، تتضمن معاني، لا يتضمنها اللفظ الشرعي، أو تنقص عما في اللفظ الشرعي من معان. أما استخدام الألفاظ اللغوية، مصطلحات على المسميات الشرعية: فلا حرج فيه، ولم ينكره أحد من علماء الإسلام، سنة كانوا أو مبتدعة، لهذا لم يجد المالكي -كما صرح واعترف- أحدا نبه عليه، فكان هو أول منبه، فلله دره!! وقد سمى المسلمون جميعا أمور الإيمان، فروعها وأصولها: "عقيدة"، ولم ينازع في ذلك أحد، لعدم وجود سبب للنزاع ولعدم فائدته!

ولو سرت واطردت ضلالة المالكي هذه: لبطلت غالب المصطلحات الشرعية، وغيرها من مصطلحات الفنون العلمية.

فصل في إبطال محاولة المالكي تقرير ما زعمه سابقا أن لفظ العقيدة لفظ مبتدع

[فصل في إبطال محاولة المالكي تقرير ما زعمه سابقا أن لفظ العقيدة لفظ مبتدع] فصل في إبطال محاولة المالكي، تقرير ما زعمه -سابقا- أن لفظ "العقيدة" لفظ مبتدع! ثم ذكر المالكي ص (32- 33) : ما ورد في القرآن والسنة في جذر كلمة "عقد"! ولم يجد -كما ذكر- أن لفظ "العقيدة" موجود فيهما، فكيف يستخدم في معنى كبير عظيم، ولا وجود له في القرآن ولا السنة؟! وقال ص (33-34) : إذن فليس لمصطلح "العقيدة" أصل في السنة النبوية أيضا. أما مصطلح "الإيمان": فهو مشهور في الكتاب والسنة بالمعنى الشرعي، وألف فيه بعضهم في هذا المصطلح وموضوعاته، ولعل أشهر هؤلاء: البيهقي في كتابه المشهور "شعب الإيمان". إضافة إلى وجود هذا المصطلح في كل مصنف من مصنفات المسلمين الحديثية المشهورة، كالصحيحين، والكتب الستة، تحت اسم "كتاب الإيمان" اهـ. والجواب: قد تقدم قريبا بأن العبرة بالمسمى لا بالاسم، وبالمعنى لا بمجرد اللفظ. وباب اختيار الألفاظ، مفتوح غير مقيد، إلا إذا خالف الشرع، ولفظ العقيدة هنا، وصف لغوي صحيح، موافق للإيمان تماما، وقد استعمله الأئمة دون نكير، كما استعملوا لفظ الإيمان كذلك.

والبيهقي، إن كان قد صنف كتابا سماه "شعب الإيمان": فقد صنف آخر وسماه "الاعتقاد"! جمع فيه مسائل العقيدة فيه، وصنف ثالثا سماه "الأسماء والصفات"، ولم يسمهما الإيمان، كما يطالب المالكي ويلزم! وهنا أمر آخر: وهو جهل المالكي بكتب السنة حيث قال: (كالصحيحين والكتب الستة) ! ، والصحيحان داخلان في "الكتب الستة" كما يعلم عامة الناس، فضلا عن غيرهم من طلاب العلم. إضافة إلى جهل آخر: وهو عدم وجود "كتاب الإيمان" بهذه التسمية في "سنن أبي داود " كما زعم، وهي ضمن "الكتب الستة"، وإنما في "سننه" رحمه الله "كتاب السنة"، وأدخل فيه ما يتعلق بالإيمان وغيره من أمور المعتقد الأخرى.

فصل في إيجاب المالكي تقييد السلف الصالح بالمهاجرين والأنصار من الصحابة دون سائرهم

[فصل في إيجاب المالكي تقييد السلف الصالح بالمهاجرين والأنصار من الصحابة دون سائرهم] فصل في إيجاب المالكي، تقييد السلف الصالح، بالمهاجرين والأنصار من الصحابة دون سائرهم! وبأتباعهم بإحسان. خلاف أهل السنة - بزعمه - الذين حصروهم في سبعة أشخاص! والرد عليه قال المالكي ص (37 - 38) : (ثم عند استخدامنا لـ " السلف الصالح "، ينبغي أن نقيده مباشرة بـ " المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان "، أو نشير إلى ذلك في المقدمة أو نحوها، حتى لا تختلط الأمور. أما إطلاق هذا اللفظ، ثم حصره في خمسة أشخاص جاءوا في نهاية القرن الثالث، وبداية القرن الرابع، ورجلين جاءا في القرن الثامن: فهذه غفلة، مخلوطة بجهل وتعصب! !) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: مطالبة المالكي بمن سبقه إلى هذا القيد؟ ومن أين أتى به؟ وأنى له بذلك! الثاني: أن تخصيص السلف الصالح بالمهاجرين والأنصار، دون بقية الصحابة رضي الله عنهم جميعا، فيه نفس رافضي لا يخفى، وإلا لما فرق بين المهاجرين والأنصار، وبين بقية الصحابة في هذا الباب.

فإنهم رضي الله عنهم جميعا، وإن كانوا مختلفين في الأفضلية، والمهاجرون والأنصار أفضل من بقية الصحابة، إلا أنهم في هذا الباب، متفقون غير مختلفين، فلم التفريق إذا؟ ! وسبب تفريق المالكي هذا: صرح به المالكي في كتبه الأخرى في " الصحابة "، حين حصر الصحبة في المهاجرين والأنصار، دون البقية من مسلمة الفتح وغيرهم. ولا أدري أسبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانتاه، وابناه: الحسن والحسين داخلان في الصحبة والصحابة، أم خارجان منها؟ ! وما أقرب باب النصب، من باب الرفض! بل إن كل رافضي ناصبي، وكل ناصبي رافضي عند التحقيق. فالرافضة - لعنها الله - لما زعمت توليها لعلي وفاطمة رضي الله عنهما وابنهما الحسين، وذريته، ونحوهم: تبرأت من سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه: الحسن بن علي، وسمته " بمسود وجوه المؤمنين " سود الله وجوههم. وكذلك طعنوا في بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنوا في عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، حبر الأمة، وترجمان القرآن. وهؤلاء جميعا من آل البيت، بل هم زهرته، بعد علي وفاطمة رضي الله عنهما، وعنهم جميعا.

الثالث: أن " السلف الصالح " عند أهل السنة جميعا، حنابلة وغيرهم: هم الصحابة جميعا، وتابعوهم على الإيمان والإحسان، وتابع تابعيهم، خير القرون بتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حين قال: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ثم ذكر الخلوف بعدهم. رواه البخاري (2651) و (3650) و (6428) و (6695) ، ومسلم (2535) ، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، وقال: (لا أدري، أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاثة) . ورواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: البخاري (2652) و (3651) و (6429) و (6658) ، ومسلم (2533) . ورواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: مسلم (2534) . ورواه من حديث عائشة رضي الله عنها: مسلم (2536) ، وذكرت فيه ثلاثة قرون. ومن سار على نهج هؤلاء السابقين المهديين وتقدم: كان سلفا لمن تأخر. ولم يحصر الحنابلة أو غيرهم من أهل السنة: السلف الصالح في خمسة رجال! أو حتى عشرة! كما زعم هذا الكذوب! وإنما - هو ومن كان على شاكلته -: هم الذين خصوا هذا اللفظ، بأشخاص معدودين من الصحابة فحسب! بل لم يرضهم ذلك، فأدخلوا المهاجرين والأنصار، وأخرجوا البقية! دون بينة مرضية!

فصل في زعم المالكي أن مراد بعض الحنابلة بالسنة هو التكفير والتجسيم والظلم والإسرائيليات

[فصل في زعم المالكي أن مراد بعض الحنابلة بالسنة هو التكفير والتجسيم والظلم والإسرائيليات] فصل في زعم المالكي أن مراد بعض الحنابلة بالسنة: هو التكفير! والتجسيم! والظلم! والإسرائيليات! وبيان مراد المالكي، والرد عليه قال المالكي ص (38) : (بل تجد بعض غلاتهم يقول: " لا خير في الإسلام بلا سنة " وقد يقصد بعضهم بالسنة للأسف: ما سيأتي ذكره من أمراض فكرية، كالتكفير، والظلم، والإسرائيليات، والتجسيم إلخ. فيكون بهذا، قد نفى الخيرية عن الإسلام الصافي من هذه الأمراض. وهذه ضلالة، وجرأة على الإسلام باسم " العقيدة "! !) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن معنى قول بعض الأئمة " لا خير في الإسلام بلا سنة ": أي لا خير في انتساب رجل إلى الإسلام بالاسم، دون حقيقة تحقيقه، باتباع الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فمعنى "السنة" في هذا الأثر، الذي قاله بعض أئمة الإسلام والسنة يشمل أمرين: 1 - العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: القولية والفعلية والإقرارية، بتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.

2 - وأن لا تصرف سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بتأويلات المتأولين المتكلفين، ولا المتكلمين المتهوكين، فتذهب روحها، ويفسد روحها. بل يفهم ذلك، بفهم الصحابة رضي الله عنهم، وفهم تابعيهم بإحسان وتابعيهم عليه، ومن سار على نهج هذه النخبة، التي اختصها الله بحفظ وحيه، والانتصار لدينه، وإغاضة الباطل ومحقه. إذا علم هذا: علمت صحة تلك الجملة، بل إن من أنكر أن ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وقاله: وحي، فهو كافر، لا يقبل منه إسلام ولا إيمان، ما بقي على ذلك، وهذا ليس بغلو. الثاني: مطالبة المالكي بمراده " ببعضهم " في عبارته السابقة، ومَن مِن أهل العلم، جعل التكفير، والظلم، والإسرائيليات، والتجسيم هي السنة، ولا يقصد سواها؟ ! الثالث: أن التكفير حكم شرعي، إذا وافق الشرع، كان من الدين، ومن الإسلام والسنة، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} [المائدة: 17] ، وقال سبحانه: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] ، وقال جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها: فقد كفر» ، رواه الإمام أحمد في " مسنده " (5 / 346) والترمذي (2621) والنسائي (463) وابن ماجه (1079) من حديث بريدة بن الحصيب.

وقال صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة» رواه مسلم (82) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. فالتكفير: ليس ظلما ولا بغيا، متى وافق الشروط، وزالت الموانع، بل هو من صلب الشرع. فمن أنكر ذلك، فقد أنكر شيئا من الدين. أما الظلم والتجسيم: فهذه مذاهب المالكي وأرباب نحلته! وهل من العدل الطعن في جملة من الصحابة رضي الله عنهم، وجملة من أئمة السلف، وآخرين من أئمة الخلف؟ ! والكذب عليهم، واختلاق الأباطيل، لتهجين اعتقادهم؟ ! أما التجسيم: فهو دين أسلافه، الرافضة الأوائل، وليس مذهبا لأهل السنة رحمهم الله.

فصل في زعم المالكي أن الحنابلة يكفرون أبا حنيفة وأصحابه ويذمونهم ويبدعونهم

[فصل في زعم المالكي أن الحنابلة يكفرون أبا حنيفة وأصحابه ويذمونهم ويبدعونهم] فصل في زعم المالكي أن الحنابلة يكفرون أبا حنيفة وأصحابه! ويذمونهم! ويبدعونهم! والرد عليه قال المالكي ص (106 - 107) تحت عنوان: " تكفير الإمام أبي حنيفة والحنفية وذمهم وتبديعهم في كتب الحنابلة ": (ساق عبد الله بن أحمد بن حنبل (ت 290 هـ) في كتابه " السنة " جملة من اتهامات وشتائم خصوم أبي حنيفة، تلك الاتهامات التي تصف أبا حنيفة بأنه. . .) ثم ساق نحو اثنين وأربعين وصفا أو عبارة. والجواب من وجوه سبعة: أحدها: أن تلك الأقوال جميعها، ليست بأقوال حنابلة، بل ليس فيها من أقوال الإمام أحمد رحمه الله، إلا قولين أو ثلاثة! أما بقية تلك الأقوال: فلجماعة من الأئمة المتقدمين على أحمد! بل جملة منهم لم يدرك أحمد حياتهم، بله أن يكونوا أتباعا له؟ ! فمولده سنة (164 هـ) ، ووفاته رحمه الله سنة (241 هـ) ، ومن أولئك: . أيوب بن كيسان السختياني (ت 131 هـ) ، . وعثمان بن مسلم البتي (ت 143 هـ) ، . والأعمش سليمان بن مهران (ت 157 هـ) ، . وعبد الله بن عون المزني (ت 150 هـ) ،

والأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو (ت 157 هـ) ، . وسفيان بن مسروق الثوري (ت 161 هـ) ، فهؤلاء كلهم لم يدرك أحمد حياتهم، فكيف كانوا حنابلة؟ ! ومتى؟ ! وساق عبد الله بن الإمام أحمد بأسانيده، أقوال آخرين، هم من طبقة شيوخ شيوخ أبيه، وليسوا بحنابلة أيضا، مثل:. همام بن يحيى العوذي (ت 165 هـ) ، . وحماد بن سلمة (ت 167 هـ) ، . والحسن بن صالح (ت 169 هـ) ، . وأبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري (ت 176 هـ) ، . ومالك بن أنس الأصبحي، إمام دار الهجرة (ت 179 هـ) ، . وحماد بن زيد (ت 179 هـ) ، . وعبد الله بن المبارك (ت 181 هـ) ، . وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (ت 182 هـ) تلميذ أبي حنيفة وصاحبه، . وأبي إسحاق الفزاري إبراهيم بن محمد بن الحارث (ت 185 هـ) ، . وأبي خالد الأحمر سليمان بن حيان (ت 189 هـ) ، . ويوسف بن أسباط (ت 195 هـ) ، وساق بأسانيده أقوال جماعة آخرين من شيوخ أبيه، أو من طبقتهم، أو من أقرانه، مثل:

وكيع بن الجراح (ت 196 هـ) ، . وسفيان بن عيينة (ت 198 هـ) ، . والأصمعي عبد الملك بن قريب (ت 216 هـ) ، . وهوذة بن خليفة (ت 216 هـ) ، . ويحيى بن معين (ت 233 هـ) . فهؤلاء كلهم، ليس فيهم حنبلي واحد، بله أن يكونوا كلهم حنابلة! فأين إنصاف هذا المنصف المزعوم؟ ! وما مقصده من هذا التلبيس؟ الوجه الثاني: أن عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله، ناقل لا قائل، وتابع لا متبوع، ولم يذكر هو شيئا في أبي حنيفة، وإنما روى في كتابه " السنة " ما حفظ عن أبيه وغيره من العلماء فيه. لهذا قال أول ذلك الباب (1 / 180) : (ما حفظت عن أبي وغيره من المشايخ في أبي حنيفة) . وكان أول أثر رواه في هذا الباب: ما سمعه من أبيه عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: " من حسن علم الرجل، أن ينظر في رأي أبي حنيفة "، فأين إنصاف هذا المنصف المزعوم؟ ! ! الوجه الثالث: أن أهل العلم، قد أسقطوا العهدة عمن روى الأحاديث الموضوعة والواهية عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذا ساقها بأسانيدها وإن كانت واهية، أو بين حالها إذا لم يروها بأسانيدها تلك. وهذا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وحي وتشريع. فكيف يعاب على الإمام عبد الله بن أحمد،

روايته تلك الآثار في حق أبي حنيفة، وهو قد رواها بأسانيدها، وغالبها صحيح الإسناد؟ ! الوجه الرابع: أن عبد الله بن الإمام أحمد، لم ينفرد برواية تلك الآثار، بل رواها معه جماعة من حفاظ المسلمين، كالحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي (ت 277 هـ) في كتابه العظيم " المعرفة والتاريخ " (1 / 779 - 803) و (3 / 21) و (2 / 277 و785) وهو متقدم على عبد الله. ورواها أيضا، حافظ العراق، بل حافظ المشرق: أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) في تاريخه " تاريخ بغداد " (13 / 323 - 423) وغير هذين الإمامين، فلم يحمل على عبد الله، ويترك غيره؟ ! الوجه الخامس: أن هذا الزيدي المنصف المالكي! يتباكى - بزعمه - على انتقاص بعض الأئمة المتقدمين لأبي حنيفة، بينما ينتقص - هو - عشرات الأئمة، ممن تكلموا في أبي حنيفة، وهم أعلم وأعظم منه! كالإمام مالك بن أنس، وعبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، والثوري، وغيرهم. ومراده ليس الدفاع عن أبي حنيفة، وإنما الطعن في أولئك، متسترا بذلك. الوجه السادس: أن هذا المنصف! يعيب الطعن في الحنفية، وينتصر لهم بزعمه، وهو يرميهم بالتجهم! فقد زعم المالكي في كتابه ص (106) أن في كتاب عبد الله بن الإمام أحمد: (أن استقضاء الحنفية على

بلد، أشد على الأمة من ظهور الدجال) . وهذا باطل غير صحيح، وإنما روى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناد صحيح (1 / 214) (352) إلى عبد الله بن المبارك أنه سئل: أيهم أسرع خروجا الدجال أو الدابة؟ فقال عبد الله بن المبارك: " استقضاء فلان الجهمي على بخارى، أشد على المسلمين من خروج الدابة، أو الدجال ". فهل يرى المالكي أن الحنفية جهمية؟ ! وإلا لما أقحم قولا قيل في جهمي في الحنفية! الوجه السابع: أن ما ساقه الإمام عبد الله بن أحمد في أبي حنيفة، لا يخرج عن أحد أمرين. 1 - إما أمر عابه الأئمة المتقدمون على أبي حنيفة، وهم على حق، كرده جملة من الأحاديث التي بلغته، وأخذه بالرأي مع وجودها، وهذا النوع قد ساق جملة منه، الإمام أبو بكر بن أبي شيبة رحمه الله (ت 325 هـ) في كتابه العظيم " المصنف " (13 / 148 - 282) قال في أول رده: (كتاب الرد على أبي حنيفة، هذا ما خالف به أبو حنيفة الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) . ثم ساق رحمه الله بأسانيده أربعمائة وخمسة وثمانين، ما بين حديث وأثر. 2 - وإما شيء عابه الأئمة على أبي حنيفة في اعتقاده، فهذا يظهر رجوعه عنه، كما دلت عليه نقول أصحابه وغيرهم.

أما من حكم من الأئمة المتقدمين على أبي حنيفة أنه مات على تلك الأمور: فلم يبلغه الرجوع. وهذا هو الأولى، لا أن ينتقص أحد بقول آخر، بل يمسك عن الجميع رحمهم الله، ما داموا على السنة أو تاب من خالفها، فعاد إليها. وليس مقصد هذا الزيدي، الانتصار لأبي حنيفة - فليس أبو حنيفة عنده بأكرم من جملة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لاك أعراضهم - وإنما قصده، الغض من الأئمة الآخرين، كما تقدم.

فصل في إبطال المالكي تبديع الحنابلة لأهل البدع

[فصل في إبطال المالكي تبديع الحنابلة لأهل البدع] فصل في إبطال المالكي تبديع الحنابلة لأهل البدع، ببطلان قولهم بابتداع أبي حنيفة بزعمه! والرد عليه، وإبطال مزاعمه قال المالكي ص (107) : (هذا نموذج واحد، من نماذج سلفنا الصالح! ! من غلاة الحنابلة) اهـ كلامه. قلت: قد تقدم أنه ليس فيهم حنبلي واحد. ثم قال المالكي ص (107 - 108) : (وهذا الفكر عند غلاة الحنابلة لا معتدليهم، هو الذي فرخ لنا اليوم، هؤلاء الغوغاء، من التيار التبديعي، الذي يصم الناس بالبدعة والضلالة، ولعلهم أوقع الناس فيها، فلذلك لا يستغرب بعض الأخوة إن قام بعض هؤلاء الغلاة، وشبه الباحثين من طلبة العلم المخالفين له بالمستشرقين، أو بفرعون، أو إبليس، أو سلمان رشدي. . . . ولا نستغرب منهم هذا التبديع والتكفير، فنحن نرحمهم، لأننا نعرف من أين أتوا! ! أتوا من الجهل المسمى علما، والظلم المسمى عدلا، والبدعة المسماة سنة! !) اهـ. والجواب: أن التبديع كالتكفير، له ضوابطه وأسبابه، التي يعرفها أهل العلم، فمن بدعوه كان مبتدعا، ومن كفروه، كان الفاجر الكافر.

فتبديع السلف إذا بدعوا: كان حقا صوابا، فهم أعلم الناس، وأصدقهم لهجة، وأتقاهم لله، وأتمهم خشية، فمن اقتدى بهم أصاب. أما التبديع غير الصحيح: فصاحبه غير مقتد بأولئك، فلا يحملون أخطاء غيرهم. ثم إنا لم نر أحدا من أهل العلم أو طلبته، حنبليا كان أو غير حنبلي، بدع أحدا في أمر يسوغ عنده فيه الخلاف. فما الأمور التي بدع أولئك الغوغاء، مخالفيهم من طلاب العلم، والباحثين المخالفين لهم! حتى وصفوهم بفرعون وإبليس؟ ! ولم أخفى المالكي أسباب تبديعهم وعماها؟ ! وما الأمر الذي يراه أولئك سنة، وهو عند المالكي بدعة؟ ! وما ضابط البدعة عند المالكي؟ وعمن أخذه إن لم يرتض ضوابط السلف؟ وكيف يعيب أمرا هو واقع فيه؟ !

فصل في زعم المالكي أن تكفير الحنابلة لأبي حنيفة فيه خير

[فصل في زعم المالكي أن تكفير الحنابلة لأبي حنيفة فيه خير] فصل في زعم المالكي أن تكفير الحنابلة لأبي حنيفة فيه خير، لإظهاره حال من ينسب إليهم الصلاح، ومقياس الحق عندهم! والرد عليه قال المالكي ص (108) : (على آية حال، لا يخلو شر من خير في الغالب، وعلى هذا فلا يخلو تكفير هؤلاء لأبي حنيفة من فوائد عظيمة، لعل أبرزها: معرفة طغيان العواطف على العلم، عند بعض السلف، الذين نصفهم بالصلاح، ونصم مخالفيهم بالضلالة! !) اهـ. والجواب: أن التكفير والتبديع - كما تقدم - له ضوابطه الشرعية، ولا يكون بالعواطف أو الأهواء، وهذا طعن آخر في السلف رحمهم الله. ونتيجة المالكي هذه، بناها على مقدمات كاذبة، بينا كذبها، فهي نتيجة فاسدة. ثم قال المالكي ص (158) : (فهذه الكتب تصلح لدراسة وقياس الإنصاف والظلم عند سلفنا، وقياس فهمهم للحجة من عدمها، مع قياس العلم والجهل، والصدق والكذب عند المتقدمين، فهي شاهد على ذلك العصر) اهـ.

والجواب: أن من جعل كتب ومصنفات كبار أئمة الإسلام، ومدار أئمته الأعلام: كتبا مليئة بعدم الإنصاف! والظلم! وعدم فهم حجة المخالف! وتظهر قدر علمهم، وجهلهم، وعدم صدقهم، وظهور كذبهم! : لهو الظالم الباغي، فإن أولئك هم ريحانة الإسلام، وعلماؤه العظام، بهم استقامت الشريعة، وعرف الحلال والحرام. وهي - بلا شك - دليل علمهم، وإنصافهم، ودقة فهمهم وصدقهم، ولو كانوا غير ذلك، لسقطت السنة، فهم حملتها، ورواتها، وحافظوها.

فصل في إبطال المالكي تكفير الأئمة لفرق الضلالة كالرافضة والمعتزلة وغيرهم

[فصل في إبطال المالكي تكفير الأئمة لفرق الضلالة كالرافضة والمعتزلة وغيرهم] فصل في إبطال المالكي: تكفير الأئمة لفرق الضلالة، كالرافضة، والمعتزلة وغيرهم، ببطلان تكفيرهم لأبي حنيفة الذي زعمه! والرد عليه قال المالكي ص (108) : (كما أن ظلمنا في تكفير أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، يجعلنا نتوقف في ظلمنا فرقا أخرى، كالشيعة، والمعتزلة، والصوفية، والأشاعرة، وغيرهم. لأنه إن سلمنا بأن تكفيرنا لأبي حنيفة كان خاطئا، فما الذي يمنع من أن تكفيرنا لهؤلاء، كان خاطئا أيضا؟ !) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن السلف، رحمهم الله، لم يظلموا أبا حنيفة، وقد تقدم رد هذا، فنتيجته هذه، مبنية على مقدمته تلك الفاسدة. مع أن أبا حنيفة ليس معصوما، حتى نطعن في غيره من أئمة الإسلام، إذا جرحوه أو تكلموا فيه، بل الأقرب صحة كلامهم، وإمضاء قولهم، لو تعارض الأمران، إما عدالة أبي حنيفة، أو صوابهم. الوجه الثاني: أن كلام السلف في الرافضة والمعتزلة والصوفية والأشاعرة: ليس مبنيا على الظنون والأهواء، بل بنوه على الأدلة الواضحة، والحجج الظاهرة.

فحال الرافضة: فصله شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله (ت 728 هـ) في " منهاج السنة "، وبين ضلالهم، وقبيح أقوالهم، وفساد اعتقادهم، بالحجة والدليل. وأما المعتزلة والأشاعرة: فبين حالهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبين موقف السلف الصالح منهم، في كثير من مؤلفاته منها: . "درء تعارض العقل والنقل"، . و "بيان تلبيس الجهمية"، و" الحموية"، . و" التسعينية"، و"النبوات"، و"الإيمان"، وغيرها كثير. وكذلك الصوفية في كتابيه: . "الاستقامة "، . و "الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن "، وغيرهما. وقد بين حالهم، وحكمهم بالدليل، وروى أقوال السلف فيهم جماعة من أئمة الدين وحفاظه، في كتب كثيرة. فمقصود هذا المخذول (المالكي) من زعمه ظلم الحنابلة - ويقصد بهم السلف -: تبرئة أهل البدع والضلال، كالرافضة، والمعتزلة، والصوفية، والأشاعرة.

أما زعم المالكي: أن الرافضة والمعتزلة والصوفية والأشاعرة كفار، ففيه تفصيل:. فإن كان - هو - يكفرهم، فليبد حجته! ! . وإن كان يقصد تكفيرنا - نحن - لهم، مع عدم تكفيره - هو - لهم: فليذكر لنا أسباب تكفيرنا لهم التي لم يرضها، وليبين لنا بطلانها. أما نحن: فحالهم عندنا على تفصيل يطول ذكره، مختصره: أن المعتزلة والرافضة كفار، قد أجمع السلف المتقدمون، والأئمة المرضيون على كفرهم، بل كفر من قال بآحاد مسائلهم، كخلق القرآن ونحوها. أما الأشاعرة: فمبتدعة. وأما الصوفية: فغلاتهم من القائلين بالحلول والاتحاد ونحوه، فلا شك في كفر من لم يكفرهم، بَلْهَ عنهم هم، وكذلك عباد القبور، ودعاة الموتى. أما من دونهم من أصحاب الأذكار والأوراد البدعية والرقص والضرب بالدف، والموالد ونحوها: فهم مبتدعة ليسوا بكفار.

فصل في طلب المالكي الاتغاظ بما حصل من السلف من تسرع في التكفير

[فصل في طلب المالكي الاتغاظ بما حصل من السلف من تسرع في التكفير] فصل في طلب المالكي الاتغاط بما حصل من السلف من تسرع في التكفير! والرد عليه ثم قال المالكي ص (108) : (والعاقل من اتعظ بهذه عن تلك، فلا يتسرع في التكفير قبل معرفة حجج الخصم، وارتفاع موانع تكفيره، ومعرفة شبهه واعتذاراته من قوله، لا من نقل خصمه) اهـ. وجوابه: أن السلف رحمهم الله لم يكفروا، إلا من ارتكب مكفرا، واستوفى شروط التكفير، وهم أتقى وأورع وأعظم من أن يكونوا متسرعين فيمن كفروه. فإن وقف المالكي على أحد كفروه بقول لم يقله: فليبد لنا حجته! أما قوله: "من قوله لا من نقل خصمه ": ففيه تفصيل:. فإن كان الخصم الناقل ثقة عدلا قُبِل، وبأي دليل شرعي، أو عقلي يرده؟ ! وقد قبلت أقوالهم في نقل الوحي، ألا تقبل فيما سواه؟ ! . وإن لم يكن عدلا ثقة: لم يقبل، كان خصما أو لم يكن، إلا بعد التثبت والتبين.

فصل في طعن المالكي فيما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة

[فصل في طعن المالكي فيما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة] فصل في طعن المالكي فيما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في " السنة " والرد عليه قال المالكي (108) : (فبعض ما نقله عبد الله بن أحمد هنا، لا يقره الأحناف، بل ينكر الحنفية أن يكون أبو حنيفة يقول بذلك أو يعتقده) اهـ. وجوابه من وجوه: أحدها: أن عبد الله بن الإمام أحمد لم يقل في أبي حنيفة شيئا، وإنما روى بأسانيده ما بلغه عن أئمة السلف كمالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك وغيرهم، وهم أئمة عدول ثقات. الثاني: أن كلام بعض أئمة السلف، الذين روى أقوالهم عبد الله بن أحمد في أبي حنيفة: هم معاصرون لأبي حنيفة، وأدرى به ممن جاء بعده، وتمذهب بمذهبه، فهم رحمهم الله مُحَكَّمون لا مَحْكومون، ومقدمون لا متقدمون. الثالث: أن الإنكار المجرد ليس بحجة، وقد تكاثر وتتابع كلام السلف في أبي حنيفة، فلا ينكر ولا يرد، إلا بحجة ودليل.

فصل في تكذيب المالكي من رمى أبا حنيفة برد الأحاديث واعتذار المالكي عنه رحمه الله

[فصل في تكذيب المالكي من رمى أبا حنيفة برد الأحاديث واعتذار المالكي عنه رحمه الله] فصل في تكذيب المالكي من رمى أبا حنيفة برد الأحاديث، واعتذار المالكي عنه رحمه الله، بأن له وأصحابه منهجا متشددا في قبول الأحاديث! ! والرد عليه قال المالكي في الحاشية ص (108) : (مثل قولهم: إن مذهب أبي حنيفة رد أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟ ! فهذا ظلم وكذب، فأبو حنيفة لا يرد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا ردا بالهوى، وإنما له ولأصحابه منهج متشدد في قبول الأحاديث وردها، يختلف عن منهج المحدثين) اهـ. والجواب: أن هذا الجاهل، ينفي عن أبي حنيفة ما يثبته - هو - له، فنفى وكذب من قال: إن أبا حنيفة رد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أثبت ذلك لأبي حنيفة! إلا أنه جعل ذلك، لمنهج أبي حنيفة المتشدد في قبول الحديث! ! فرد أبي حنيفة لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده ثابت، وإنما الاختلاف: في سبب الرد لا وجوده. ثم إذا كان الأمر كما سبق، فمن أين علم المالكي أن السلف جعلوا رد أبي حنيفة للأحاديث للهوى، لا إلى منهجه المتشدد في قبولها؟ !

أما زعم المالكي، أن منهج أبي حنيفة، منهج متشدد في قبول الحديث، وقوله في حاشية ص (108) : (وإنما له ولأصحابه منهج متشدد في قبول الأحاديث وردها، يختلف عن منهج المحدثين، فلا يجوز اتهامه برد أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يجوز تخطئته في المنهج نفسه. وكذلك الحنابلة عندما قبلوا ذلك، وظنوه صحيحا، وفق منهجهم المتساهل) اهـ: فجوابه من وجوه: أحدها: أن هذه مغالطة باردة، فمعلوم تساهل الأحناف في قبول الأحاديث، فاحتجاجهم بالرأي غالب عليهم، حتى أصبحوا لا يعرفون إلا به، فهم أهل الرأي، وغيرهم أهل الأثر. وأبو حنيفة نفسه - مع إمامته في الفقه رحمه الله - إلا أنه لم يكن صاحب حديث. بل أحاديثه القليلة التي رواها، ضعف لأجلها وردت! لذا لم يخرج له الشيخان شيئا قط، بل حتى أهل السنن الأربع لم يرووا له شيئا، عدا حديث واحد عند النسائي، اختلف فيه، هل المذكور في سنده أبو حنيفة النعمان بن ثابت أو غيره؟ ولا يكاد يسلم لأبي حنيفة حديث رواه، فإن سلم منه هو، لم يسلم من ضعف غيره! فأين المنهج المتشدد؟ ! وممن أخذه؟ ! الثاني: أن عناية الحنابلة رحمهم الله بالحديث، أعظم من أن يحتج لها، وحسب إمامهم حفظه ألف ألف حديث، وأنه عمدة أهل الفن ومرجعهم، في معرفة أحوال الرجال، وتعديلهم وتجريحهم، ومعرفة العلل

وغيرها، وأنه شيخ الشيوخ، وإمام الأئمة، المجمع على عدالته وتقدمه وإتقانه. الثالث: أن من عاب أبا حنيفة برد الأحاديث: جماعات من أئمة السلف، قدمنا بعضهم، كالحافظ أبي بكر عبد الله بن أبي شيبة (ت 235 هـ) في "مصنفه "، وليسوا بحنابلة، فلم علق المالكي رمي أبي حنيفة برد الأحاديث بالحنابلة؟ ! وجعل سبب ذلك ومرجعه: منهجهم المتساهل في قبول الحديث! ! بخلاف منهج أبي حنيفة وأصحابه المتشدد في قبولها؟ ! !

فصل في رمي المالكي الأئمة بتصحيح الروايات لتشويه الخصم وعدم سماعهم حجته

[فصل في رمي المالكي الأئمة بتصحيح الروايات لتشويه الخصم وعدم سماعهم حجته] فصل في رمي المالكي الأئمة بتصحيح الروايات لتشويه الخصم! وعدم سماعهم حجته! وتكفيرهم له بغير مكفر! والرد عليه قال المالكي (158) : (فمعنى هذا: أن عندنا خللا في النقل، فنصحح الروايات في تشويه الخصم، ولا نتفهم حجة الطرف الآخر، ولا نسمع له، ونكفر بأشياء ليست مكفرة، أو نكفر بإلزامات لا يجوز التكفير بها، فلازم القول ليس بقول) اهـ. وجوابه من وجوه: أحدها: أن عبد الله بن الإمام أحمد، ليس خصما لأبي حنيفة، بل وما أدرك شيئا من حياته ليكون خصما له، فإن كان ثم خصومة، فما سببها؟ وما الدليل؟ الثاني: أن غالب ما نقله عبد الله بن الإمام أحمد، من أقوال أئمة السلف، هو من باب الإخبار، أن أبا حنيفة يقول بكذا وكذا، وأنه كذا وكذا، وليس فيه مناظرة وجدال أو حكم، حتى نتفهم حجة الآخر ونسمع له! الثالث: مطالبة المالكي بالمكفرات التي كفرنا بها، وليست بمكفرات! لنجعلها مجالا للنقاش والجدال؟ !

فلماذا لم يذكر لنا الأمور التي كفرنا بها، وليست مكفرة، لئلا يحكم علينا بلا دليل ولا بينة! وحتى تبين له حجتنا، ونسمعه إياها! ! الرابع: قوله: " أو نكفر بإلزامات لا يجوز التكفير بها، فلازم القول ليس بقول ": غير مسلم له، وهذه المسألة، فيها خلاف طويل، وتدل على جهل المالكي بأصول الحوار والمناظرة! فإنه لا يستدل على الخصم إلا بأحد أمرين: . أمر يلتزمه، أو يقول به. . أو أمر لا يقول به وينكره، إلا أن مناظره يقرر صحته قبل الاستدلال به، ثم يحتج به.

فصل في رميه الحنابلة بتكفير معظم فرق المسلمين

[فصل في رميه الحنابلة بتكفير معظم فرق المسلمين] فصل في رميه الحنابلة بتكفير معظم فرق المسلمين، كالمعتزلة والرافضة والقدرية والمرجئة والجهمية، والرد عليه، وبيان حال من ذكر قال المالكي ص (108 - 109) : (وقد كفر غلاة الحنابلة، معظم فرق المسلمين، كالمعتزلة والشيعة والقدرية والمرجئة والجهمية وغيرهم) اهـ. والجواب: أنه ليس بالحنابلة غلاة، بل هم على الإسلام والسنة بحمد الله. ثم إن تكفير من ذكر: لم ينفرد به غلاة الحنابلة كما زعم، وإنما هو حكم شرعي استحقوه بشروطه، وقد كفر المعتزلة - القائلين بخلق القرآن وغيرها من الضلالات -: أئمة السلف والخلف، وقد قدمنا ذكر جملة منهم في " المقدمة الثالثة " أول الكتاب. والرافضة والجهمية على اعتقاد المعتزلة، وهم متفقون في اعتقاد ما كفرهم السلف لأجله، وإن اختلفوا في أمور أخرى. أما القدرية النفاة: فقد كفرهم: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قبل الحنابلة وغيرهم، عندما بلغه خبر رأسهم معبد الجهني، ونفيه للقدر، وهذا في " صحيح مسلم " (8) .

وتكفير القدرية والمرجئة: فيه تفصيل طويل، والمرجئة فرق، وليسوا كلهم بكفار، وليس محل نزاعنا في بسط فرقهم، والكلام على معتقداتهم. وإنما محل النزاع: هل انفرد الحنابلة بتكفير المعتزلة والجهمية والقدرية أو لا؟ وقد بينا عدم انفراد الحنابلة بذلك، بل هم متبعون لا مبتدعون، وتكفيرهم محل إجماع، والحمد لله. وقد طالبت المالكي فيما سبق: أن يذكر لنا من هم المعتدلون في الحنابلة؟ وهل هم يوافقون الغلاة في معتقداتهم الغالية أو لا؟ وبينت كذلك، أن اعتقاد السلف كله، وتكفير المارقين من فرق الزنادقة: غلو عند المالكي! ولم ينفرد به الحنابلة.

فصل في رميه غلاة الحنابلة بزعمه بالكذب على الإمام أحمد وبيان كذبه هو

[فصل في رميه غلاة الحنابلة بزعمه بالكذب على الإمام أحمد وبيان كذبه هو] فصل في رميه غلاة الحنابلة - بزعمه - بالكذب على الإمام أحمد! وبيان كذبه هو، والرد عليه قال المالكي ص (109) : (وقد أكثر الحنابلة من الاحتجاج بأقواله في تكفير المخالفين له من المسلمين) . ثم قال في حاشية ص (109) : (كنت أستبعد صدور مثل هذه الأقوال عن أحمد بن حنبل رحمه الله، لاشتهار غلاة الحنابلة بالكذب عليه) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن المخالفين الذين كفرهم الإمام أحمد رحمه الله: لم يكن خلافهم فرعيا، وإنما خلافهم أصلي أصولي، لا يسع أحدا قبوله، لذا كفر هؤلاء المخالفين أئمة السلف، وقد قدمنا جملة من أسمائهم في " المقدمة الثالثة " أول الكتاب. الثاني: أن تكفير هؤلاء المخالفين، القائلين بخلق القرآن ونحوه: أمر تواتر عن السلف جميعا، ومنهم الإمام أحمد رحمهم الله، وأقواله في ذلك متواترة عند جميع المسلمين، سنة ومبتدعة، تفيد العلم الضروري، بلا شك.

وتشكيك المالكي في صحة نسبة ذلك إلى أحمد رحمه الله، يدل على أمرين: . جهله بحال الإمام أحمد رحمه الله، وأقواله الظاهرة التي لا تخفى. . وجهله بسبب تكفير السلف لهم، وعظم مخالفتهم لأصول الإسلام. الثالث: مطالبة المالكي بأسماء غلاة الحنابلة - كما يصفهم - الذين كذبوا على الإمام أحمد رحمه الله! بل اشتهروا بالكذب عليه! أو يضرب لنا مثالا واحدا، أو مثالين لهؤلاء الكذبة! وفيما كذبوا! ليظهر - عيانا - كذب المالكي، ودجله، وظلمه، وخبثه. وقد روى مسائل الإمام أحمد وفتاواه: عشرات الأئمة، حنابلة، وغير حنابلة: فلم يناقض شيء منها شيئا آخر، بل هي تخرج من مشكاة هدى واحدة، ولولا مخافة الإطالة، لسقت جملة كبيرة منهم، لكني أكتفي بالإحالة إلى كتاب الشيخ العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد " المدخل المفضل " (2 / 622 - 665) ، فقد ذكر جملة كبيرة منهم، يغني من طالعه عن غيره، بمشيئة الله وتوفيقه.

فصل في رد طعنه في الإمام أحمد رحمه الله بأن فيه حدة في التكفير والتبديع

[فصل في رد طعنه في الإمام أحمد رحمه الله بأن فيه حدة في التكفير والتبديع] فصل في رد طعنه في الإمام أحمد رحمه الله، بأن فيه حدة في التكفير والتبديع! ! قال المالكي في حاشية ص (109) : (لكنني أصبحت متوقفا في صدور هذه الأقوال عن أحمد، لسببين اثنين: السبب الأول: كثرة النقولات عن أحمد في التكفير، حتى أصبحت تقترب من المتواتر عنه، خصوصا في تكفير القائلين بخلق القرآن. السبب الثاني: خروج أحمد منتصرا من السجن، بعد أن ظلم من المعتزلة وسلطتهم، وكان لنشوة الانتصار، والغضب على الخصوم، أثر على حدة الإمام في التكفير والتبديع، حتى هجر أمثال علي بن المديني، ويحيى بن معين، وللأسف أن أغلب المنتصرين، لا يتحكمون في عواطفهم) اهـ. وجوابه من وجوه: أحدها: تقدم في ثبوت تكفير الإمام أحمد، بل والسلف جميعا، للقائلين بخلق القرآن، وتواتر هذا عنهم، فإنكاره إما جهل مطبق، أو تلبيس. الثاني: أن الإمام أحمد بن حنبل، إمام أجمعت الأمة على عدالته، وورعه، وتقواه، وزهده، بل ارتضوه إماما لهم، باختلاف مذاهبهم الفقهية، وسموه إمام أهل السنة والجماعة، إمام أهل الحديث.

وهو رضي الله عنه أجل وأعظم من أن يعادي لحظ نفسه، وهذا معلوم من حاله وسيرته. الثالث: أن تبديع الإمام أحمد، وتكفيره للقائلين بخلق القرآن: لم يكن بعد خروجه من السجن فحسب، بل كان قبل ذلك، وما أدخله السجن إلا ذاك. الرابع: أن شدة الإمام أحمد على بعض أئمة السنة - رحمهم الله جميعا - ممن أكرهوا على القول بخلق القرآن بالسيف - وهم لا يرون ذلك - كان من أحمد غيرة لله عز وجل وشرعه. وكان رحمه الله، لا يرى رخصة لهؤلاء المكرهين، لعظم وخطر إجابتهم على معتقد المسلمين. لهذا كان هؤلاء المكرهون يعتذرون للإمام أحمد، بعرضهم على السيف، وأن الله عز وجل قد جعل رخصة لهم في قوله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] . الخامس: أن علي بن المديني، ويحيى بن معين وغيرهم رحمهم الله، ممن أجابوا في الفتنة، وقالوا بخلق القرآن بعد عرضهم على السيف: هم ممن كفروا القائلين بخلق القرآن، قبل الفتنة وبعد زوالها، فلا خلاف بينهم مع أحمد في هذا. وإن كانت في أحمد حدة لأجل تكفيره القائلين بخلق القرآن! فالحدة فيهم أيضا! .

فصل في رميه الإمام أحمد رحمه الله بأنه لم يتحكم في عواطفه لكون الدولة والعامة معه

[فصل في رميه الإمام أحمد رحمه الله بأنه لم يتحكم في عواطفه لكون الدولة والعامة معه] فصل في رميه الإمام أحمد رحمه الله، بأنه لم يتحكم في عواطفه! لكون الدولة والعامة معه! وبيان مراده، والرد عليه قال المالكي بعد كلامه السابق، في حاشية ص (109) : (وللأسف أن غالب المنتصرين لا يتحكمون في عواطفهم، خصوصا إذا كانت الدولة والعامة معهم. فالقلائل من عقلاء الناس، يتحكمون في خصوماتهم، حتى لا تخرج عن الشرع. ولعل من أبرز النماذج الجميلة في تاريخنا: نموذج الإمام علي مع الخوارج، فرغم أنهم كانوا يصرحون بعداوته، ويكفرونه، ويسبونه، ورغم ورود النصوص فيهم بأنهم يمرقون من الإسلام، إلا أن الإمام علي (¬1) كان شريف الخصومة، فلم يستغل كل هذا في تكفيرهم، وإنما قال: " إخواننا بغوا علينا ". وكان يمنحهم حقوقهم كغيرهم من المسلمين، ولم يقاتلهم إلا بعد سفكهم الدماء) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن الإمام أحمد وغيره من أئمة الإسلام سلفا وخلفا: لم يكفروا أحدا لعواطفهم، أو خصومتهم معه، بل كان ضابط ذلك ومرجعه: ¬

(¬1) كذا في كتاب المالكي! والصواب: "عليا".

كتاب الله سبحانه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لهذا تجد اتفاق أئمة الإسلام، بجميع مذاهبهم الفقهية، وطبقاتهم الحديثية، على كفر أولئك. فإن كانت العاطفة أخذت أحمد - حاشاه -، فهل أخذت أئمة الإسلام جميعا؟ ! الثاني: أن قياس الجهمية بالخوارج على الخليفة الراشد علي رضي الله عنه، كما فعل المالكي: قياس مع الفارق غير صحيح. فإن الخلاف مع الجهمية أصولي، أما الخوارج: فخلافهم - عند نشوئه في أوله - لم يكن أصوليا، لهذا قال فيهم علي رضي الله عنه ما قال. إلا أنهم - أعني الخوارج - انتحلوا بعد ذلك الاعتزال، فحكمهم كحكم بقية الجهمية والمعتزلة. الثالث: أن الإمام أحمد رحمه الله - وإن كان كفر المعتزلة - إلا أنه لم يقتل أحدا منهم، ولم يحرض الخليفة العباسي على قتل أحد منهم، بخلاف علي رضي الله عنه، فإنه مع عدم تكفيره للخوارج، إلا أنه سفك دماءهم، ونكل بهم - في مواقع مشهودة - شر تنكيل، فعلي رضي الله عنه، أشد في دين الله من أحمد رحمه الله، وفعل علي رضي الله عنه في الخوارج، حق ولا ريب. بل إن قتله لهم منقبة وفضيلة أتت في غير حديث له، فأخرج الإمام أحمد (1 / 113) والبخاري (6930) ومسلم (1066) عن علي رضي الله عنه قال: سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج في آخر الزمان، قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فافتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة» . وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج قوم فيهم رجل مودن اليد، أو مثدون اليد، أو مخدج اليد، ولولا أن تبطروا، لأنبأتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان نبيه» رواه الإمام أحمد في " مسنده " (1 / 59) ومسلم (1066) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تمرق مارقة في فرقة من المسلمين، يقتلهما أولى الطائفتين بالحق» رواه مسلم (1065) . وروى الإمام أحمد في " مسنده " (3 / 33) وابنه عبد الله في " السنة " (1512) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - وقد روى حديثا في الخوارج وعلاماتهم - قال: (فحدثني عشرون أو بضع وعشرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليا ولي قتلهم) . الرابع: أن عليا رضي الله عنه، إن كان وسعه خروج الخوارج عليه، وقال فيهم ما قال، إلا أنه لما خرج الزنادقة في عهده، ممن يزعمون حبه وتوليه، وكانت مخالفتهم عقدية أصولية: حرقهم بالنار ونكل بهم، ولم يكتف بتكفيرهم. فلو كانت الجهمية والمعتزلة في عصر

علي، وبلغه منهم ما بلغ أحمد: لأرانا علي رضي الله عنه فيهم، ما أرانا في أشباههم.

فصل في زعم المالكي بطلان نقول الحنابلة عن الإمام أحمد في التكفير على أي حال

[فصل في زعم المالكي بطلان نقول الحنابلة عن الإمام أحمد في التكفير على أي حال] فصل في زعم المالكي بطلان نقول الحنابلة عن الإمام أحمد في التكفير على أي حال، صحت أو لم تصح! والرد عليه قال المالكي ص (109 - 110) : (وهذه النقولات الكثيرة، التي نقلها الحنابلة عن الإمام أحمد في التكفير: . إما أن تكون صحيحة، . وإما أن تكون باطلة. فإن كانت صحيحة: فهي مردودة على الإمام أحمد، لعدم استيفائها لضوابط التكفير، التي دلت عليها النصوص الشرعية. وإن كانت هذه النقولات، باطلة عن الإمام أحمد: فهي دليل على وجود الكذب، داخل المنظومة الحنبلية) اهـ. وجوابه من وجوه: أحدها: تقدم مرارا، وهو أن تكفير الإمام أحمد للقائلين بخلق القرآن، أشهر وأظهر من أن يحتج له، وقد تواتر ذلك عنه. الثاني: أنه لا شك في كفر من قال بخلق القرآن، وقد أجمع أئمة الإسلام على ذلك، وتقدم ذكر جملة منهم في " المقدمة الثالثة " أول الكتاب، ولم ينفرد الإمام أحمد أو الحنابلة بذلك.

ثم ما ضوابط التكفير التي غابت عن الإمام أحمد وأئمة السلف عند تكفيرهم الجهمية، وعرفها المالكي الجاهل؟ ! ولم أغفلها ولم يبدها، ونحن في أمس الحاجة لها؟ ! كيف لا، وقد غابت عن السلف وجهلوها! ! الثالث: تقدم أيضا، في رد طعنه واتهامه لأئمة الحنابلة بالكذب تارة، وتشكيكه في صدقهم تارة أخرى، كما في كلامه السابق هنا. ونحن ننزه علماء المسلمين وأئمتهم، حنابلة كانوا، أو غير حنابلة، من الكذب والصفات الذميمة، التي يحاول المالكي إلصاقها بهم.

فصل في رميه شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه بالغ في التفريق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

[فصل في رميه شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه بالغ في التفريق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية] فصل في رميه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بأنه بالغ في التفريق بين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية! وهون من شأن الأول، وعظم الثاني! وتبديع المالكي لأصل هذا التفريق! والرد عليه زعم المالكي ص (116 - 117) : (أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بالغ في التفريق بين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وأنه رحمه الله هون من شأن الأول، وبالغ في شأن الثاني) . ثم قال المالكي: (والتفريق نفسه، تفريق مبتدع، ليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولم يقل بهذا التفريق أحد من الصحابة ولا التابعين، فالتوحيد شأنه واحد. وهذا التفريق، هو الذي جعل مقلدي ابن تيمية يزعمون: أن الله لم يبعث الرسل، إلا من أجل توحيد الألوهية، أما توحيد الربوبية، فقد أقر به الكفار! ! ونسوا أن فرعون قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] وقوله: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ، وأن صاحب إبراهيم قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فضلا عن سائر الملحدين في الماضي والحاضر، وغير ذلك.

مما يؤكد أن الرسل بعثوا للإقرار بوجود الله وربوبيته، واستحقاقه للعبادة، وبعثوا بسائر أنواع العبادة، والأخلاق، وتحريم المحرمات، وغير ذلك) اهـ. والجواب: أن في كلامه هذا مغالطات وتلبيسا، فإن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - بعثوا بأنواع التوحيد الثلاثة: الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات. إلا أنه لما كانت الفطر السليمة، مفطورة – بالاضطرار - إلى نسبة هذا الخلق إليه خالق عظيم، وأن الخلق لم يخلقوا أنفسهم، ولم يوجدوا دون خالق: كانت حاجة الناس إلى توحيد الألوهية والأسماء والصفات أعظم، لفسادهما عند أكثر الناس قبل بعثة الأنبياء والرسل، قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . ولذا ألزم الله - عز وجل - كفار قريش بتوحيده في العبادة، بإقرارهم له بتوحيد الربوبية، فقال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وقال جل وعلا: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85] وهذا في القرآن كثير. وهذان التوحيدان، متضمنان لتوحيد الربوبية بلا شك، ولم يخالف فيه إلا قليل كالمانوية!

أما قول فرعون: فكان مكابرة منه، لا اعتقادا له، وإلا فمن خلقه هو؟ ! وخلق الخلق قبله؟ ! لهذا قال سبحانه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وقال موسى - عليه الصلاة والسلام - لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] . أما قول النمرود {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] : فلم يرد به الإنشاء من العدم، وإنما أراد قدرته على القتل، والعفو عن مستحقه. فأخرج رجلا حكم عليه بالقتل، فعفى عنه! وآخر قتله! وهذا أمر يستوي فيه النمرود وغيره. أما تبديع المالكي لمن قسم التوحيد: فمن جملة جهله! وتسمية أمر الله عز وجل لخلقه، بإفراده بالعبادة: توحيد الألوهية، وتسمية إخباره سبحانه، بأنه له الخلق، وأنه منشؤهم من العدم: توحيد الربوبية، وتسمية ما وصف الله به نفسه، من صفات الكمال، وما سمى به نفسه: توحيد الأسماء والصفات: حق. ومن أنكر التسمية لمزيد جهله، وعمى بصره: فلا يسعه إنكار المعنى، ومن أثبت المعنى - وإنكاره كفر -: لم يكن لإنكاره التسمية معنى.

فصل في تعلق المالكي بكون أئمة الإسلام بشرا يصيبون ويخطئون لرد أقوالهم في الاعتقاد

[فصل في تعلق المالكي بكون أئمة الإسلام بشرا يصيبون ويخطئون لرد أقوالهم في الاعتقاد] فصل في تعلق المالكي بكون أئمة الإسلام بشرا، يصيبون ويخطئون: لرد أقوالهم في الاعتقاد! والتشكيك في صحة ما اعتقدوه وقالوه! والرد عليه قال المالكي ص (120) : (والصواب ليس مع هؤلاء ولا هؤلاء. فأبو حنيفة، وأحمد، وابن تيمية، وابن القيم، والأشعري، ومحمد بن عبد الوهاب: مسلمون مؤمنون، لكنهم بشر يصيبون ويخطئون) اهـ. وأقول: نعم! الصواب ليس مع هؤلاء، ولا مع هؤلاء! وإنما هو مع المالكي! فإن أبا حنيفة، وأحمد، وغيرهم ممن ذكر، بشر يصيبون ويخطئون، أما المالكي فلا! ولعله من مارج من نار! ثم بنى المالكي على ما سبق، وأدخل فيمن ذكر غيرهم فقال: (وكذلك الحال في أئمة المعتزلة أو الشيعة، مثل واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وابن المطهر، والجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وغيلان الدمشقي وغيرهم من العلماء: هم مسلمون، لهم حق الإسلام، لكنهم بشر يصيبون ويخطئون، بغض النظر عن نسبة الصواب والخطأ هنا) اهـ. وأقول: انظر لهذا الضال المضل، كيف يخلط عمدا، بين أئمة الإسلام والسنة،

وبين أئمة الكفر والبدعة، كمن ذكرهم هنا أخيرا. وقد حكم أئمة الإسلام والسنة - وهم أئمة عدل وعلم وتقى - بكفر هؤلاء الضلال وزندقتهم. مع خرق المالكي إجماع من سبق! فإن كل طائفة لم تجعل الأخرى داخلة معها في الإسلام، بل كل فريق يكفر الآخر! أما أمر المالكي: بغض النظر عن نسبة الصواب والخطأ هنا: فمن جملة ضلاله! فإن نسبة الخطأ والمخالفة، ونوعها: معتبر مطلوب، وإلا ما من أحد في الدنيا، لا يهودي ولا نصراني ولا غيرهم من الكفار والملحدين إلا وعنده شيء من الحق وشيء من الباطل، إلا أن نوع باطلهم ونسبته عظيمة.

فصل في زعم المالكي كثرة الأكاذيب والأحاديث الموضوعة والآثار الباطلة في كتب أهل السنة الحنابلة بزعمه

[فصل في زعم المالكي كثرة الأكاذيب والأحاديث الموضوعة والآثار الباطلة في كتب أهل السنة الحنابلة بزعمه] فصل في زعم المالكي كثرة الأكاذيب، والأحاديث الموضوعة، والآثار الباطلة، في كتب أهل السنة الحنابلة بزعمه! والرد عليه ذكر المالكي ص (122) : فصلا بعنوان " كثرة الأكاذيب من الأحاديث الموضوعة، والآثار الباطلة "، ثم قال: (وخاصة تلك المشتملة على التجسيم، وتشبيه الله بالإنسان، سواء ما كان منها مكذوبا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أو ما كان مكذوبا على بعض الصحابة والتابعين، أو كان مما تسرب إلى الكتب من الإسرائيليات المأخوذة عن اليهود والنصارى) اهـ. ثم ذكر جملة آثار، رواها الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه العظيم " السنة " بأسانيده، منها: ما ذكره المالكي فقال ص (124) : (وروى بإسناده عن ابن مسعود: " إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على صفوان! ! ") . ثم قال المالكي: (واتهم عبد الله بن أحمد من لم يقر بهذا بالجهمية والبدعة! ! مع أن هذا فيه تشبيه واضح، ولم يأت عليه دليل صحيح) اهـ. وكذب المالكي أيضا أحاديث أخرى، رواها عبد الله في كتابه ليس في رواتها أحد متهم! والجواب من وجوه:

أحدها: أن وصف الله عز وجل بصفة ما: شيء. ورواية ما ورد في الباب من الصفات شيء آخر، ومن ساق الإسناد فقد أحال، ولا تبعة عليه. وهذا الحافظ البيهقي أشعري شافعي، ليس بحنبلي: قد روى ما رواه عبد الله بن أحمد وغيره، في كتابه " الأسماء والصفات "، وكتابه الآخر " الاعتقاد ". وما حواه كتابه " الأسماء والصفات "، من الأسماء والصفات أكثر بأضعاف مما حواه كتاب عبد الله بن الإمام أحمد. بل لا يساوي عشره، بل هو أقل من ذلك. وفيها الصحيح والضعيف، وما دون ذلك وفوقه. الثاني: مطالبة المالكي: بدليل صحة كلامه، فإنه كذب ما رواه عبد الله بن أحمد من أحاديث وآثار في كتابه " السنة "، ولم يذكر - في جميع ما ساقه - دليلا واحدا، ولا علة واحدة! بل لم يطعن في أحد من رواتها بحرف، فمن أين يسلم له بصحة دعواه؟ ! الوجه الثالث: أن أثر ابن مسعود رضي الله عنه، الذي ذكره المالكي، وعاب على عبد الله بن الإمام أحمد روايته أثر صحيح، قد رواه عبد الله في " السنة " (1 / 281 - 282) بإسناد صحيح فقال: (حدثني أبو معمر [أخبر] نا جرير عن الأعمش، و [أخبر] نا ابن نمير، وأبو معاوية، كلهم عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال: " إذا تكلم الله عز وجل بالوحي، سمع أهل السماء له صلصلة،

كصلصلة الحديد على الصفا " اهـ. وهذا إسناد صحيح، لا ريب فيه، وقد شارك عبد الله في روايته غير واحد من الأئمة، منهم: . البخاري في "خلق أفعال العباد" (367 - 368) موقوفا، من طريق الأعمش به. . وأبو داوود في " سننه " (4738) من طريق أبي معاوية به مرفوعا. والبيهقي في " الأسماء والصفات " (262 - 263) من طريق أبي معاوية به، مرفوعا وموقوفا. . واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " (547 - 549) مرفوعا وموقوفا. . والدارمي في " الرد على الجهمية " (308) موقوفا. " وابن خزيمة في " التوحيد " (1 / 350 - 354) من طرق عدة، مرفوعة وموقوفة. وأبو الشيخ في " العظمة " (144) موقوفا. . وابن حبان في " صحيحه " (37) مرفوعا. والخطيب البغدادي في " تاريخه " (11 / 392 - 393) مرفوعا وموقوفا. ورجح الخطيب، وقبله الدارقطني: الرواية الموقوفة، وقالا: (هي المحفوظة) .

وهذه الرواية - وإن كانت موقوفة - فلها حكم الرفع، إذ أن مثلها لا يقال بالرأي. فإن كانت رواية عبد الله بن الإمام أحمد، لهذا الأثر تجسيما وتشبيها: فكل من خرجه معه - ممن ذكرناه أو غيرهم - مجسمون مشبهون! وقد جاء هذا الأثر مرفوعا بنحوه، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] » رواه: . البخاري في: صحيحه (4701) و (4800) و (7481) ، وفي " خلق أفعال العباد " (369) ، وهذا لفظه. . والترمذي (3223) ، وقال: (هذا حديث حسن صحيح) . وابن ماجه (194) واللالكائي (546) . والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص (162) ، وغيرهم. قال البخاري في " خلق أفعال العباد " (70) بعد أن ذكره: (وكذا قال ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما، وأهل العلم) اهـ ثم روى أثر ابن مسعود السابق.

فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو هريرة رضي الله عنهم، وأهل العلم - كما قال البخاري -: مشبهين مجسمين؟ ! ولم رمى المالكي عبد الله بن الإمام أحمد بالتشبيه والتجسيم لروايته هذا الحديث، وترك غيره ممن شاركه في روايته؟ ! بل ترك من قاله؟ ! والمالكي لا يريد الطعن في عبد الله بن أحمد، ولا في عقيدته، إنما يريد أمرا فوق ذلك! وهو الطعن في اعتقاد المسلمين، وأئمة الدين. وما عابه المالكي أيضا، على عبد الله بن أحمد، أنه اتهم من لم يقر بحديث ابن مسعود السابق: بالتجهم والابتداع: حق، فإن أئمة الإسلام على الإقرار به. وبكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع، كالجهمية. مع أن ما عابه المالكي عليه: ليس من قوله هو - رحمه الله - وإنما هو من قول أبيه الإمام أحمد، وهو رواه عن أبيه. إلا أن المالكي أراد نسبته لعبد الله دون أبيه ظانا أن الطعن في عبد الله أهون وأقرب من الطعن في أبيه!

فصل في رمي المالكي الحنابلة بالنصب والرد عليه

[فصل في رمي المالكي الحنابلة بالنصب والرد عليه] فصل في رمي المالكي الحنابلة بالنصب! والرد عليه زعم المالكي في حاشية ص (127) : أن الحنابلة لديهم حساسية كبيرة، من الثناء على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأهل بيته! بينما ينتشر بينهم، الثناء على بني أمية، وخاصة معاوية، وابنه يزيد! ثم زعم المالكي كذلك: أن المناهج التعليمية عندنا في المملكة، تسببت في انتشار النصب بين عموم طلبة العلم! ! والجواب: أن هذه الحساسية المزعومة، لا يشعر بها إلا الرافضة، وأبناؤهم، وأذنابهم. وما زالت كتب أهل السنة حنابلة وغيرهم: مليئة بفضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة، وخلفائه الراشدين الأربعة خاصة، وهذه كتبهم بيننا. والحنابلة من أشد الناس حرصا على سلامة أعراض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة، فكيف بخواص الصحابة وكبارهم منزلة؟ ! وما زال طلبة العلم يدرسونها ويدرسونها.

وهذه مساجدنا، وهاهم خطباؤنا، لا يختمون خطبهم إلا بالترضي على الخلفاء الأربعة، أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم. غير أن الحنابلة لم يؤلهوا عليا رضي الله عنه! ولم يقولوا بعصمته! أو رجعته! ولم يقدموه رضي الله عنه على أبي بكر وعمر. فإن كان ذلك هو النصب الذي يعنيه المالكي، فنعم إذن! أما رمي المالكي لمناهج تعليمنا، أنها تسببت في انتشار النصب بين عموم طلبة العلم: فدعوى باطلة، فليذكر لنا حرفا واحدا فحسب - ولا نريد منه دليلا غيره - في كتاب واحد فحسب من تلك المناهج التعليمية فيه تنقص لعلي رضي الله عنه، أو غض من مكانته الرفيعة رضي الله عنه، أو أحد من أهل بيته. فإذا لم يفعل - ولن يفعل - فلعنة الله على الكاذبين. وهذا " كتاب الشريعة "، مثال لكتاب من كتب الحنابلة في الاعتقاد، للحافظ الكبير الإمام أبي بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري رحمه الله (ت 360 هـ) . وترجمته عند: . ابن أبي يعلى (ت 526 هـ) في " طبقات الحنابلة " (332 - 333) ، . والنابلسي (ت 797 هـ) في " مختصر طبقات الحنابلة " (332) ، . والبرهان ابن مفلح (ت 884 هـ) في " المقصد الأرشد، في تراجم أصحاب الإمام أحمد " (2 / 389) ، . والعليمي (ت 927 هـ) في " الدر المنضد، في ذكر أصحاب الإمام أحمد " (1 / 175) ،

وفي كتاب العليمي الآخر " المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد " (2 / 271) ، . وابن العماد الحنبلي (ت 1089 هـ) في " شذرات الذهب " (3 / 35) ، . وابن عثيمين (ت 1410 هـ) في " تسهيل السابلة، لمريد معرفة علماء الحنابلة " (637) (1 / 428 - 429) ، . وبكر بن عبد الله أبو زيد، في " علماء الحنابلة " ص (92) وغيرهم كثير. عقد الآجري رحمه الله في كتابه " الشريعة ": كتبا وأبوابا كثيرة في فضائل الصحابة رضي الله عنهم، عامة وخاصة، وعقد كتابا في " الشريعة " سماه: (كتاب فضائل أمير المؤمنين رضي الله عنه) . ثم عقد تحته اثني عشر بابا في ذلك، يذكر الباب، ثم يسوق ما حفظ فيه، هي: . كتاب فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. . باب ذكر جامع مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه. . باب ذكر محبة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه، وأن عليا محب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. . باب ذكر منزلة علي رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كمنزلة هارون من موسى. . باب ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه، ومن كنت وليه فعلي وليه» .

باب ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، لمن والى عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وتولاه، ودعائه على من عاداه. باب ذكر عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي أنه لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، والمؤذي لعلي رضي الله عنه المؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. باب ذكر ما أعطي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، من العلم والحكمة، وتوفيق الصواب في القضاء، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالسداد والتوفيق. باب ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بالعافية من البلاء مع المغفرة. باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه بقتال الخوارج، وأن الله عز وجل أكرمه بقتلهم. باب ذكر جوامع فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الشريفة الكريمة عند الله عز وجل، وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند المؤمنين. باب ذكر مقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وما أعد الله الكريم لقاتله من الشقاء في الدنيا والآخرة. باب ذكر ما فعل بقاتل علي كرم الله وجهه. كتاب فضائل فاطمة رضي الله عنها. باب ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: " «إن فاطمة سيدة نساء عالمها» . باب ذكر إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها، وعظم قدرها عنده

باب ذكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم، لغضب فاطمة رضي الله عنها. . باب ذكر تزويج فاطمة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وعظيم ما شرفها الله عز وجل به في التزويج من الكرامات التي خصهما الله عز وجل بها. . باب ذكر بيان فضل فاطمة رضي الله عنها في الآخرة، على سائر الخلائق. . كتاب فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما. . باب ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» . . باب شبه الحسن والحسين رضي الله عنهما برسول الله صلى الله عليه وسلم. . باب ذكر محبة النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين رضي الله عنهما. . باب حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على محبة الحسن والحسين، وأبيهما، وأمهما رضي الله عنهم أجمعين. . باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين رضي الله عنهما: «هما ريحانتاي من الدنيا» . . باب ذكر حمل النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين رضي الله عنهما على ظهره في الصلاة، وغير الصلاة. . باب ذكر ملاعبة النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين رضي الله عنهما. . باب ذكر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاح المسلمين بالحسن بن علي رضي الله عنهما.

باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحسين رضي الله عنه، وقوله: «اشتد غضب الله على قاتله» . . باب ذكر نوح الجن على الحسين رضي الله عنه. . باب في الحسن والحسين رضي الله عنهما: من أحبهما فللرسول يحب، ومن أبغضهما فللرسول يبغض. . باب فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها. . باب ذكر تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها، وولدها منه. . باب ذكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها، وحسن ثنائه عليها. . باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها، سيدة نساء عالمها. . باب بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة رضي الله عنها، بما أعد الله عز وجل لها في الجنة. . كتاب جامع فضائل أهل البيت رضي الله عنهم. . باب ذكر قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] . . باب ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالتمسك بكتاب الله عز وجل، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبمحبة أهل بيته، والتمسك على ما هم عليه من الحق، والنهي عن التخلف عن طريقتهم الجميلة الحسنة. . باب قول الله عز وجل: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] . . باب فضل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

باب فضل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. . كتاب فضائل العباس بن عبد المطلب، وولده رضي الله عنهم أجمعين. . باب ذكر تعظيم قدر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. . باب ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للعباس رضي الله عنه، ولولده، وأنه قد أجيب في ذلك. . باب ذكر من آذى العباس رضي الله عنه، فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . باب ذكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم لغضب العباس رضي الله عنه. . باب ما روي أن للعباس رضي الله عنه شفاعة، يشفع بها للناس يوم القيامة. . باب فضل عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وما خضه الله الكريم من الحكمة والتأويل الحسن للقرآن. . باب ذكر ما انتشر من علم ابن عباس رضي الله عنه. . باب ذكر وفاة ابن عباس رضي الله عنه بالطائف، والآية التي رويت عند دفنه. . باب ذكر إيجاب حب بني هاشم، أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المؤمنين. . باب ذكر فضل بني هاشم على غيرهم. . باب فضل قريش على غيرهم.

روى الآجري رحمه الله في هذه الأبواب، كثيرا مما حفظ وروى من حديث وأثر، فجاءت هذه الأبواب حافلة، بكثير مما جاء في فضلهم، وعظيم حقهم. وكان مما قال الآجري رحمه الله، في أول كتاب فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من " الشريعة ": (أما بعد، فاعلموا - رحمنا الله وإياكم - أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - شرفه الله الكريم بأعلا الشرف، سوابقه بالخير عظيمة، ومناقبه كثيرة، وفضله عظيم، وخطره جليل، وقدره نبيل. أخو الرسول صلى الله عليه وسلم وابن عمه، وزوج فاطمة، وأبو الحسن والحسين، وفارس المسلمين، ومفرج الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتل الأقران، الإمام العادل، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، المتبع للحق، المتأخر عن الباطل، المتعلق بكل خلق شريف. الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم له محبان، وهو لله والرسول محب، الذي لا يحبه إلا مؤمن تقي، ولا يبغضه إلا منافق شقي، معدن العقل والعلم والحلم والأدب رضي الله عنه) . وقال رحمه الله في " كتاب فضائل فاطمة رضي الله عنها " من " الشريعة ": (اعلموا - رحمنا الله وإياكم - أن فاطمة رضي الله عنها، كريمة على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند جميع المؤمنين.

شرفها عظيم، وفضلها جزيل، النبي صلى الله عليه وسلم أبوها، وعلي رضي الله عنه بعلها، والحسن والحسين رضي الله عنهما سيدا شباب أهل الجنة ولداها، وخديجة الكبرى أمها. قد جمع الله الكريم لها الشرف من كل وجه، مهجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثمرة فؤاده، وقرة عينه رضي الله عنها، وعن بعلها، وعن ذريتها الطيبة المباركة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فاطمة سيدة نساء عالمها» . وقال صلى الله عليه وسلم: «حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآسية امرأة فرعون» . وقال الآجري رحمه الله أيضا في " الشريعة "، في " فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما ": (اعلموا - رحمنا الله وإياكم -: أن الحسن والحسين رضي الله عنهما، خطرهما عظيم، وقدرهما جليل، وفضلهما كبير، أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا) . الحسن والحسين رضي الله عنهما، هما ذريته الطيبة الطاهرة المباركة، وبضعتان منه، أمهما فاطمة الزهراء، مهجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبضعة منه، وأبوهما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخو رسول الله رب العالمين، وابن عمه، وختنه على ابنته، وناصره، ومفرج الكرب عنه، ومن كان الله ورسوله له محبين.

فقد جمع الله الكريم للحسن والحسين رضي الله عنهما الشرف العظيم، والحظ الجزيل من كل جهة، ريحانتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيدا شباب أهل الجنة. وسنذكر ما حضرني ذكره بمكة من الفضائل، ما تقر بها عين كل مؤمن محب لهما، ويسخن الله العظيم بها عين كل ناصبي خبيث باغض لهما، أبغض الله من أبغضها) . وقال رحمه الله في " الشريعة "، في " باب ذكر إيجاب حب بني هاشم، أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على جميع المؤمنين ": (واجب على كل مؤمن ومؤمنة: محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: بنو هاشم: علي بن أبي طالب، وولده، وذريته، فاطمة، وولدها، وذريتها، والحسن والحسين، وأولادهما، وذريتهما، وجعفر الطيار، وولده، وذريته، وحمزة، وولده، والعباس، وولده، وذريته رضي الله عنهم. هؤلاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجب على المسلمين محبتهم، وإكرامهم، واحتمالهم، وحسن مداراتهم، والصبر عليهم، والدعاء لهم. فمن أحسن من أولادهم وذراريهم: فقد تخلق بأخلاق سلفه الكرام الأخيار الأبرار. ومن تخلق منهم بما لا يحسن من الأخلاق: دعي له بالصلاح والصيانة والسلامة، وعاشره أهل العقل والأدب، بأحسن المعاشرة، وقيل

له: نحن نجلك عن أن تتخلق بأخلاق لا تشبه سلفك الكرام الأبرار، ونغار لمثلك أن يتخلق بما نعلم أن سلفك الكرام الأبرار، لا يرضون بذلك، فمن محبتنا لك، أن نحب لك أن تتخلق بما هو أشبه بك، وهي الأخلاق الشريفة الكريمة، والله الموفق لذلك) اهـ. وقد قدمت أن الآجري رحمه الله، قد روى في كل باب، ما حفظ فيه من حديث وأثر، وساقه بإسناده، فاجتمع فيها أحاديث كثيرة، وآثار تسر المؤمنين. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد حديث سفينة رضي الله عنه مرفوعا: «خلافة النبوة، ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه أو الملك من يشاء» : (رواه أهل السنن، كأبي داوود وغيره، واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره في تقريره خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة، وثبته أحمد، واستدل به على من توقف في خلافة علي، من أجل افتراق الناس عليه، حتى قال أحمد: " من لم يربع بعلي في الخلافة، فهو أضل من حمار أهله "، ونهى عن مناكحته. وهو متفق عليه بين الفقهاء، وعلماء السنة، وأهل المعرفة والتصوف، وهو مذهب العامة.

وإنما يخالفهم في ذلك، بعض أهل الأهواء، من أهل الكلام ونحوهم، كالرافضة الطاعنين في خلافة الثلاثة، أو الخوارج الطاعنين في خلافة الصهرين المنافيين: عثمان وعلي. أو بعض الناصبة النافين لخلافة علي رضي الله عنه، أو بعض الجهال من المتسننة، الواقفين في خلافته! ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ربيع، سنة إحدى عشرة من هجرته. وإلى عام ثلاثين سنة، كان إصلاح ابن رسول صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي السيد بين فئتين من المؤمنين، بنزوله عن الأمر عام إحدى وأربعين، في شهر جمادى الأولى، وسمي " عام الجماعة " لاجتماع الناس على معاوية، وهو أول الملوك) اهـ من " مجموع الفتاوى " (35 / 18 - 19) . وكلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الباب كثير، في كثير من مصنفاته وفتاواه، وفي " مجموع الفتاوي " شيء كثير وقفت عليه، وما قدمته يغني بمشيئة الله. وقال الإمام العلامة يحيى بن يوسف بن يحيى الأنصاري الصرصري الحنبلي (ت 656 هـ، شهيدا على يد المغول لعنهم الله، لما دخلوا العراق) في قصيدته اللامية العظيمة، التي ذكر فيها اعتقاد الحنابلة، والثناء على إمامهم أحمد بن حنبل وأتباعه رحمهم الله جميعا، بعد ذكره الخلفاء الثلاثة أبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، قال:

وكان أحق الناس بالأمر بعدهم ... أبو الحسن المرضي تاج الهدى علي وكان بأمر الله أعدل قائم ... على السنن المحمود لم يتنقل إمام هدى أكرم به من خليفة ... خليفة عدل للخلافة مكمل عظيم لأسباب المجادل قاطع ... كمي لأبطال الرجال مجدل أبر فتى جاءت به هاشمية ... كريم معم في الكرام ومخول يجلي دجى الهيجا بأبيض منصل ... يقطع من أبنائها كل مفصل ودرع علي كان صدرا فما الذي ... تظن بمقدام على الحرب مقبل وفي قتله عمرو بن ود ومرحبا ... دليل على ما قلت غير مبطل وسماه في الدارين أحمد سيدا ... وذلك فضل جامع كل أفضل وحلاه من زهرائه وإخائه ... بتاج من العلياء سام مكلل وكان له السبطان في جيد فضله ... كعقد بياقوت ودر مفصل وأنزله منه وتلك فضيلة ... كهارون من موسى فلا تتأول وأثنى عليه يوم خيبر إذ علا ... برايته العليا على كل أطول ثناء بحب الله , ثم رسوله ... وفتح عليه عاجل متسهل

علامة إيمان الموحد حبه ... وفي بغضه محض النفاق المضلل وكم جمعت ألفاظه من بلاغة ... وجاءت بحكم في قضاياه فيصل بفضل فتاواه وحد حسامه ... دياجي القضايا والوقائع تنجلي تقلد خمسا أمرها متحملا ... بأعبائها العظمى أشد تحمل يصوم هجير الصيف أجرا وحسبة ... ويهجر لذات الرقاد المخبل إلى أن أتى ما لا مرد لوقعه ... وما يتعجل وقته لا يؤجل فخضب أشقاها من الرأس شيبة ... تسامت وقارا بالدم المتبزل وذلك وعد صادق من محمد ... فآل بذاك الوعد أشرف موئل فأكرم بهم في الناس أربعة هم ... الربيع لقلب الموقن المتقبل ولم تجتمع إلا بباطن مؤمن ... محبتهم , لا في فؤاد مغلل وبعد علي كرم الله وجهه ... استنيب بصلح السيد المتفضل

لذي الحلم والتقوى معاوية الرضى ... أمين على التنزيل للوحي مسجل رديف رسول الله ثم دعى له ... بحلم وعلم إذ له بطنه يلي ثم شرع - بعد ذلك - في ذكر فضائل آل البيت رضي الله عنهم، فقال: وأذكر شيئا من فضائل أهله ... ففضلهم المشهور والظاهر الجلي هم العروة الوثقى لمستمسك ... ونور الهدى للمبصر المتأمل ثم ذكر جملة منهم رضي الله عنهم، فبدأ بذكر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فمدحه وأطال، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم العباس بن عبد المطلب، ثم الحسنين: الحسن والحسين ابني علي، ثم عبد الله بن عباس رضي الله عنهم. وقال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، في " الجوهرة الفريدة، في تحقيق العقيدة " (ص 31) ، في " باب الخلافة، ومحبة الصحابة وأهل البيت رضي الله عنهم ". وهو من المتون المتداولة عند الحنابلة، حفظا وشرحا، وممن شرحه: شيخنا العلامة المحقق عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين القضاعي الحنبلي حفظه الله، شرحه كاملا صيف عام (1422هـ) ، قال حافظ:

كذا علي أبو السبطين رابعهم ... بالحق معتضد , للكفر مضطهد فهؤلاء بلا شك خلافتهم ... بمقتضى النص , والإجماع نعتقد وأهل بيت النبي والصحب قاطبة ... عنهم ندب , وحب القوم نعتقد والحق في فتنة بين الصحاب جرت ... هو السكوت , وأن الكل مجتهد والنصر أن أبا السبطين كان هو الـ ... محق من رد هذا قوله فند تبا لرافضة , سحقا لناصبة ... قبحا لمارقة , ضلوا وما رشدوا هذا شيء مما تيسر لي في هذا، مما يظهر - جليا - كذب هذا الرافضي المالكي على أئمة الإسلام، حنابلة وغير حنابلة من أهل السنة. فأين الحساسية - التي زعمها المالكي الرافضي - من ذكر فضائل علي وأهل البيت رضي الله عنهم جميعا. وكتب الحنابلة طافحة بفضلهم، والترضي عنهم، وهذا أمر مستقر عندهم - بحمد الله - لا نزاع فيه. وقد أجمع أئمة الإسلام والسنة وأطبقوا، حنابلة وغيرهم، على عظم كتاب " الشريعة " وفضله، وأثنى على هذا الكتاب وصاحبه: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في غير موضع من كتبه. وكذلك الحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله في غير موضع، منها " اجتماع الجيوش الإسلامية ".

وقد أخد هذا السفر العظيم - أعني كتاب " الشريعة " - رسالة دكتوراة جامعية بالمملكة، وحقق في " جامعة أم القرى " بمكة المكرمة، ثم طبع بعد ذلك في المملكة أيضا، بتحقيق - صاحب الرسالة - الشيخ الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي. وهذا كتاب " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز الحنفي رحمه الله (ت 792 هـ) ، أحد الكتب المقررة على طلاب كلية الشريعة بالمملكة، وفيه الثناء على علي رضي الله عنه، قال رحمه الله فيه (2 / 721 -722) : (قوله: " ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ". ش: أي ونثبت الخلافة بعد عثمان لعلي رضي الله عنهما. لما قتل عثمان، وبايع الناس عليا: صار إماما حقا، واجب الطاعة، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة، كما دل عليه حديث سفينة المقدم ذكره، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلافة النبوة: ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء» ) 1 هـ. ثم ذكر شيئا من فضائله رضي الله عنه في (2 / 725 - 726) ، وفي غير موضع. ثم ذكر شيئا مما يجب في حق الآل رضي الله عنهم، في (2 / 737 -745) عند شرحه قول الطحاوي: (ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس: فقد برئ من النفاق) اهـ.

فصل في بيان حال معاوية رضي الله عنه والذب عنه وبيان حال ابنه يزيد

[فصل في بيان حال معاوية رضي الله عنه والذب عنه وبيان حال ابنه يزيد] فصل في بيان حال معاوية رضي الله عنه، والذب عنه، وبيان حال ابنه يزيد أما زعم المالكي انتشار الثناء على بني أمية، خاصة معاوية وابنه يزيد عند الحنابلة: ففيه تفصيل. أما معاوية: فنعم، وهو من جملة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره، وكل نسب وسبب منقطع يوم القيامة، إلا سبب النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه، ومعاوية - بلا شك - منهم رضي الله عنه. ولما ذكر الآجري تلك الكتب والأبواب السابقة، في فضائل علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين، والآل عامة وخاصة رضي الله عنهم: ختم كتابه بفضائل معاوية رضي الله عنه، فقال: " كتاب فضائل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ". ثم قال الآجري رحمه الله: (معاوية رضي الله عنه، كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على وحي الله عز وجل، وهو القرآن، بأمر الله عز وجل. وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيه العذاب. ودعا له أن يعلمه الله الكتاب، ويمكن له في البلاد، وأن يجعله هاديا مهديا. وأردفه النبي من خلفه فقال: «ما يليني منك؟ ". قال: بطني.

قال: " اللهم املأه حلما وعلما» . وأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك ستلقاني في الجنة» . وصاهره النبي صلى الله عليه وسلم بأن تزوج بأم حبيبة أخت معاوية رضي الله عنهما، فصارت أم المؤمنين، وصار هو خال المؤمنين، فأنزل عز وجل فيهم: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: 7] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني سألت ربي عز وجل: ألا أتزوج إلى أحد من أمتي، ولا يتزوج إلى أحد من أمتي، إلا كان معي في الجنة» ". وهو ممن قال الله عز وجل: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] ، فقد ضمن الله الكريم بأن لا يخزيه، لأنه ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيأتي في الأخبار ما يدل على ما قلت، والله الموفق لذلك إن شاء الله. اهـ. ثم عقد الآجري في عشرة أبواب في ذلك، هي:. باب ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه. . باب بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه بالجنة. . باب ذكر مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية بأخته أم حبيبة. . باب ذكر استكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية بأمر من الله عز وجل. . باب ذكر مشاورة النبي لمعاوية رحمه الله.

باب ذكر صحبة معاوية للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنزلته عنده. . باب ذكر تواضع معاوية رضي الله عنه في خلافته. . باب ذكر تعظيم معاوية رضي الله عنه، لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإكرامه إياهم. . باب تزويج أبي سفيان رضي الله عنه، بهند أم معاوية رضي الله عنهم. . باب ذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه. وهذا أمر مستقر عند أهل السنة جميعا، حنابلة وغيرهم رضي الله عن معاوية، وجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم. أما يزيد: فلا! بل صنف ابن الجوزي (ت 597 هـ) - وهو حنبلي - جزءا معروفا في لعنه. وأمر يزيد لا يخفى، وقد نص إمامنا وإمام المسلمين، الإمام أحمد بن حنبل فيه، فقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: إن قوما يقولون: إنهم يحبون يزيد! فقال: " يا بني! وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ ! ". فقلت: يا أبت فلماذا لا تلعنه؟ فقال: " يا بني! وهل رأيت أباك يلعن أحدا؟ ! ". وقال أبو محمد المقدسي الحنبلي، لما سئل عن يزيد: " فيما بلغني لا يسب ولا يحب ".

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كما في " مجموع الفتاوى " (4 / 483) و (4 / 487) . وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله (4 / 481 -482) : أن الناس قد افترقوا في يزيد ثلاث فرق، طرفان ووسط: فأحد الطرفين: كفروه! وجعلوه منافقا زنديقا! سعى في قتل سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشفيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاما منه! وأخذا بثأر جده عتبة، وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة وغيرهم! وأنشدوا له في ذلك شعرا. والطرف الآخر: جعلوه رجلا صالحا! وإماما عادلا! بل ظنه بعضهم صحابيا! وذكر شيخ الإسلام بعض أصحاب هذا القول، وليس فيهم حنبلي واحد. ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله (4 / 482) : (وكلا القولين ظاهر البطلان، عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور، وسير المتقدمين. ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة، ولا إلى ذي عقل من العقلاء، الذين لهم رأي وخبرة) اهـ. أما الوسط بين هذين الطرفين الشاذين: فذكر قولهم شيخ الإسلام (4 / 483) فقال: (القول الثالث: أنه كان ملكا من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يولد إلا في خلافة عثمان، ولم يكن كافرا،

ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحبا، ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة) اهـ. ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله (4 / 483 - 486) : أن أصحاب هذا القول الوسط، قد اختلفوا فيما بينهم، وافترقوا في يزيد ثلاث فرق، مع اجتماعهم على ما سبق، من ظلمه وفسقه: . ففرقة لعنته. وفرقة أحبته. . وفرقة أمسكت، فلم تسب، ولم تحب. وبين شيخ الإسلام رحمه الله: مأخذ كل أصحاب قول: فاللاعنون كأبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي، وإلكيا الهراسي وغيرهما: لعنوه: 1 - لما صدر منه من أفعال تبيح لعنته. 2 - وقد يقولون: هو فاسق، وكل فاسق يلعن. 3 - وقد يقولون بلعن صاحب المعصية، وإن لم يحكم بفسقه. فهذه ثلاثة مآخذ للعنته. أما الذين أحبوه: أحبوه، أو سوغوا محبته، كالغزالي - عالم الشافعية الشهير - فلهم مأخذان:

1 - أحدهما: أنه مسلم، ولي أمر الأمة على عهد الصحابة، وتابعه بقاياهم. وكانت فيه خصال محمودة، وكان متأولا فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون: هو مجتهد مخطئ. ويقولون: إن أهل الحرة، هم نقضوا بيعته أولا، وأنكر ذلك عليهم ابن عمر رضي الله عنهما وغيره. أما قتل الحسين رضي الله عنه: فلم يأمر به، ولم يرض به، بل ظهر منه التألم لقتله، وذم من قتله. ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى عبيد الله بن زياد. 2 - والمأخذ الثاني لهؤلاء المحبين: أنه قد ثبت في " صحيح البخاري " عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول جيش يغزو القسطنطينية، مغفور لهم» وأول جيش غزاها، كان أميره يزيد. ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله (4 / 486) بعد ذكره مأخذ اللاعنين والمحبين: (والتحقيق: أن هذين القولين، يسوغ فيهما الاجتهاد، فإن اللعنة لمن يعمل المعاصي، مما يسوغ فيها الاجتهاد. وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات. بل لا يتنافى عندنا: أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه، ويدعى له، وأن يلعن ويشتم أيضا، باعتبار وجهين) .

أما الممسكون عن سبه ولعنته: فلأنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه، أو لأن الفاسق المعين، لا يلعن بخصوصه، إما تحريما أو تنزيها. وأما تاركو محبته: فلأن المحبة الخاصة، إنما تكون للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس يزيد أحد هؤلاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» [خ (6168) و (6169) م (2641) عن ابن مسعود، وخ (6170) م (2641) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما] . ثم قال شيخ الإسلام (4 / 484) : (ومن آمن بالله واليوم الآخر، لا يختار أن يكون مع يزيد، ولا مع أمثاله من الملوك، الذين ليسوا بعادلين) . ثم ذكر شيخ الإسلام مأخذين لتاركي محبته: ا - أحدهما: أنه لم يصدر منه من الأعمال الصالحة، مما يوجب محبته، فبقي واحدا من الملوك المسلطين، ومحبة أشخاص هذا النوع، ليست مشروعة. وهذا المأخذ، ومأخذ من لم يثبت عنده فسقه، اعتقد تأويلا. 2 - الثاني: أنه صدر منه ما يقتضي ظلمه وفسقه في سيرته، كأمر الحسين رضي الله عنه، وأمر أهل الحرة. ولم يثبت عند شيخ الإسلام رحمه الله، علاقة يزيد بمقتل الحسين، من حيث الأمر به، أو الرضى.

وقد نبه عليه مرارا، لهذا قال رحمه الله (4 / 487) : (وأما من قتل الحسين، أو أعان على قتله، أو رضي بذلك: فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) اهـ ونحوه في (4 / 505) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (4 / 505 - 506) ذاكرا مقتل الحسين رضي الله عنه: (وكان الذي حض على قتله: الشمر بن ذي الجوشن، صار يكتب في ذلك إلى نائب السلطان على العراق عبيد الله بن زياد) . وعبيد الله هذا، أمر - بمقاتلة الحسين - نائبه عمر بن سعد بن أبي وقاص، بعد أن طلب الحسين منهم، ما طلبه آحاد المسلمين، لم يجئ معه مقاتلة، فطلب منهم: . أن يدعوه إلى أن يرجع إلى المدينة، . أو يرسلوه إلى يزيد ابن عمه، . أو يذهب إلى الثغر، يقاتل الكفار. فامتنعوا إلا أن يستأسر لهم، أو يقاتلوه! فقاتلوه حتى قتلوه وطائفة من أهل بيته وغيرهم. ثم حملوا ثقله وأهله إلى يزيد بن معاوية إلى دمشق، ولم يكن يزيد أمرهم بقتله، ولا ظهر منه سرور بذلك، ورضى به.

بل قال كلاما فيه، ذما لهم، حيث نقل عنه أنه قال: " لقد كنت أرضى من طاعة أهل العراق، بدون قتل الحسين ". وقال: " لعن الله ابن مرجانة - يعني عبيد الله بن زياد - والله لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله " يريد بذلك الطعن في استلحاقه، حيث كان أبوه زياد، استلحق حتى كان ينتسب إلى أبي سفيان صخر بن حرب: وبنو أمية وبنو هاشم، كلاهما بنو عبد مناف. وروي أنه لما قدم على يزيد، ثقل الحسين وأهله، ظهر في داره البكاء والصراخ لذلك، وأنه أكرم أهله، وأنزلهم منزلا حسنا، وخير ابنه عليا، بين أن يقيم عنده، وبين أن يذهب إلى المدينة، فاختار المدينة. والمكان الذي يقال له: سجن علي بن الحسين بجامع دمشق، باطل لا أصل له. لكنه مع هذا، لم يقم حد الله على من قتل الحسين رضي الله عنه، ولا انتصر له، بل قتل أعوانه لإقامة ملكه. وقد نقل عنه، أنه تمثل في قتل الحسين بأبيات تقتضي من قائلها الكفر الصريح، كقوله: لما بدت تلك الحمول وأشرفت ... تلك الرؤوس إلى ربى جيرون نعق الغراب فقلت: نح أو لا تنح ... فلقد قضيت من النبي ديوني

وهذا الشعر كفر) اهـ. ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله (4 / 507 - 508) : (وأما الحسين رضي الله عنه: فقتل بكربلاء، قريب من الفرات، ودفن جسده حيث قتل، وحمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد بالكوفة، هذا الذي رواه البخاري في " صحيحه " (3748) ، وغيره من الأئمة. وأما حمله إلى الشام إلى يزيد: فقد روي ذلك من وجوه منقطعة، لم يثبت شيء منها، بل في الروايات ما يدل على أنها من الكذب المختلق، فإنه يذكر فيها: أن يزيد جعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن بعض الصحابة الذين حضروه كأنس بن مالك، وأبي برزة، أنكر ذلك. وهذا تلبيس! فإن الذي جعل ينكت بالقضيب، إنما كان عبيد الله بن زياد، هكذا في الصحيح والمساند [خ (3748) حم (3 / 1 26) عن أنس بن مالك رضي الله عنه] . وإنما جعلوا مكان عبيد الله بن زياد: يزيد! وعبيد الله لا ريب أنه أمر بقتله، وحمل الرأس إلى بين يديه. ثم إن ابن زياد قتل بعد ذلك، لأجل ذلك. ومما يوضح ذلك: أن الصحابة المذكورين، كأنس وأبي برزة، لم يكونوا بالشام، وإنما كانوا بالعراق حينئذ. وإنما الكذابون، جهال بما يستدل به على كذبهم.

وأما حمله إلى مصر: فباطل باتفاق الناس، وقد اتفق العلماء كلهم، على أن هذا المشهد الذي بقاهرة مصر، الذي يقال له: مشهد الحسين: باطل، ليس فيه رأس الحسين، ولا شيء منه، وإنما أحدث في أواخر دولة بني عبيد الله ابن القداح) . ثم قال رحمه الله (4 / 511 -512) : (والحسين رضي الله عنه، أكرمه الله تعالى بالشهادة في هذا اليوم، وأهان بذلك من قتله، أو أعان على قتله، أو رضي بقتله) . وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء، فإنه وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، وكانا قد تربيا في عز الإسلام، لم ينالا من الهجرة، والجهاد، والصبر على الأذى في الله، ما ناله أهل البيت، فأكرمهما الله تعالى بالشهادة، تكميلا لكرامتهما، ورفعا لدرجتهما. وقتله مصيبة عظيمة، والله سبحانه قد شرع الاسترجاع عند المصيبة بقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] . وفي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرا منها» .

ومن أحسن ما يذكر هنا: أنه قد روى الإمام أحمد (1 / 201) وابن ماجه (1600) عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يصاب بمصيبة، فيذكر مصيبته وإن قدمت، فيحدث عندها استرجاعا، كتب الله له مثلها يوم أصيب» . هذا حديث رواه عن الحسين: ابنته فاطمة، التي شهدت مصرعه. وقد علم أن المصيبة بالحسين، تذكر مع تقادم العهد، فكان من محاسن الإسلام، أن بلغ هو هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها، فيكون للإنسان من الأجر مثل الأجر يوم أصيب بها المسلمون. وأما من فعل مع تقادم العهد بها، ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند حدثان العهد بالمصيبة: فعقوبته أشد، مثل لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية. ففي " الصحيحين " عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» [خ (1297) و (1298) و (3519) م (103) ] . ثم ذكر رحمه الله شيئا مما ورد في النهي عن ذلك. وكلام شيخ الإسلام في هذا الباب وهذه المسألة كلام جيد محرر كثير، سواء في المواضع التي سبقت أو غيرها، وما سبق يكفي بمشيئة الله.

فصل أما ما زعمه هذا الرافضي أن الحنابلة لا يذكرون آل البيت أو لديهم حساسية من ذلك فكذب باطل

[فصل أما ما زعمه هذا الرافضي أن الحنابلة لا يذكرون آل البيت أو لديهم حساسية من ذلك فكذب باطل] فصل أما ما زعمه هذا الرافضي: أن الحنابلة لا يذكرون آل البيت، أو لديهم حساسية من ذلك: فكذب باطل، لم يستطع أن يختلق دليلا عليه، بله أن يجد دليلا غير مختلق! لبعدهم رحمهم الله عن ذلك، ومحبتهم العظيمة، لآل البيت رضي الله عنهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " العقيدة الواسطية " - المتن المختصر اللطيف في العقيدة، الذي يحفظه طلابنا، ويحرسه علماؤنا في مساجدهم -: ويحبون (¬1) أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غديرخم: «أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي» . وقال أيضا للعباس عمه، وقد شكا إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمنون حتى يحبوكم ولقرابتي» . وقال: «إن الله اصطفى إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» . ¬

(¬1) 1 – أي أهل السنة والجماعة.

ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمهات المؤمنين، ويقرون بأنهن أزواجه في الجنة بالآخرة، خصوصا خديجة، أم أكثر أولاده، وأول من آمن به، وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العلية. والصديقة بنت الصديق، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام» . ويتبرؤون من: - طريقة الروافض، الذين يبغضون الصحابة، ويسبونهم. - وطريقة النواصب، الذين يؤذون أهل البيت، بقول أو عمل. اهـ. وهذا المختصر " الواسطية "، ليس أحد من طلاب العلم عندنا إلا وهو يحفظه. وليس أحد من مشايخنا، إلا وقد شرحه مرارا، في حلقات العلم بالمساجد، أو أفرده بشرح مؤلف. قال الشيخ العلامة المحقق عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي التميمي النجدي الحنبلي رحمه الله (ت 1376 هـ) ، في كتابه " التنبيهات اللطيفة، فيما احتوت عليه العقيدة الواسطية، من المباحث المنيفة " (ص 121) عند شرح الموضع السابق منها: (فمحبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة من وجوه، منها: لإسلامهم، وفضلهم، وسوابقهم) . ومنها لما تميزوا به من قرب النبي صلى الله عليه وسلم، واتصال نسبه. ومنها لما حث عليه، ورغب فيه. ومنها ولما في ذلك، من علامة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. اهـ.

ومن المعلوم المستقر عندنا وعند غيرنا، ممن له علم وعقل: أن كثيرا من بني هاشم طالبيين وغيرهم: حنابلة، بل فيهم جماعة، هم من كبار أئمتهم ومصنفيهم، كأبي الحسن اليونيني، وابن أبي موسى. فهل انتحل هؤلاء الهاشميون، مذهبا ينتقص من شأنهم! ويطعن في أجدادهم؟ ! أو أنهم أصبحوا يأمرون بذلك! ويصنفون فيه! ويحثون عليه؟ ! أو أنهم لم يعلموا بتلك الأمور؟ ! ولما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (4 / 478 - 488) عن محبة آل البيت قال: (محبتهم عندنا: فرض واجب، يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في " صحيح مسلم " (2408) عن زيد بن أرقم قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خما، بين مكة والمدينة فقال: " يا أيها الناس! إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله " فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: "وعترتي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي» . قلت لمقدم - وهو السائل: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ".

قال مقدم: فيمن يبغض أهل البيت؟ قلت: من أبغضهم، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. اهـ.

فصل في الذب عن خلفاء بني أمية الأئمة الفاتحين المجاهدين

[فصل في الذب عن خلفاء بني أمية الأئمة الفاتحين المجاهدين] فصل في الذب عن خلفاء بني أمية، الأئمة الفاتحين المجاهدين قد سبق ذكر جملة من مطاعن المالكي في بني أمية، مما يشق حصره في كتابه هذا، فضلا عن كتبه الأخرى ومقالاته! . فرماهم بكل قبيحة ورذيلة، وكل ظلم وبغي، وزعم مزاعم كبيرة، وكذب كذبات بلقاء كثيرة، لا يسترها الليل وإن طال، ولا مغيب الشمس، ولو حرمت الشروق والزوال. وزعم أن الأحاديث النبوية الصحيحة - زيدت شرفا -: قد جاءت بذمهم! والآثار الصحابية والتابعية، تكاثرت في ذم زمانهم! والجواب عن هذا كله وغيره، من وجوه: أحدها: أن خلفاء بني أمية من خيار ملوك المسلمين، ولا أدل على ذلك ولا أظهر، من كثرة فتوحاتهم، وما خصهم الله - عز وجل - ويسره على أيديهم، من نشر الإسلام، وتمكينه في الأرض، حتى أصبح المسلم عزيزا، لا تجرؤ أمة - وإن عظمت - على انتقاص قدره، أو هضم حقه. الثاني: ما حصل من بعضهم من ظلم: لم ننكره، وما ادعينا لهم العصمة؟ !

بل هم كغيرهم من المؤمنين، يحصل منهم تقصير وتفريط، وأفعالهم السابقة، كفيلة - بمشيئة الله ورحمته ورضوانه - بإزالة ما قيل إن صدقا، وإن كذبا، وكما قال الأول: من ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلا: أن تعد معايبه الثالث: أن زعمه أن الأحاديث الصحيحة قد جاءت بذمهم فكذب، ولم يصح في ذلك شيء، عدا ذم الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95 هـ) ، ولم يكن أمويا! وإنما كان عاملا لهم، استعملوه على العراق، ولم يوفقوا في اختياره. قال الإمام العلامة الكبير أبو عبد الله ابن قيم الجوزية في " المنار المنيف، في الصحيح والضعيف " (ص 117) : (وكل حديث في ذم بني أمية: فهو كذب) اهـ. الرابع: أن ما صح من الآثار الصحابية والتابعية، في ذم بني أمية: فلكون ميزانهم عزيزا، ولسان منجمهم رفيعا دقيقا، أحسوا بفرق حالهم في خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين، عمن جاء بعدهم مع ما حصل من بعض بني أمية من معاصي وجور، لم يكن في عهد من قبلهم. وكان بعض ذم أولئك الأئمة في الزمان، لا في الأعيان، لدخول المولدين في الإسلام، وما قدموا به معهم إليه، فأزالوا ثوابت، وأحدثوا حوادث.

ولظهور بدع زلزلت السنة، كبدعة الخوارج، والقدرية والرافضة، والجهمية، وغيرهم.

فصل في ذكر فضائل بني أمية وتقريب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم واعتماده عليهم

[فصل في ذكر فضائل بني أمية وتقريب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم واعتماده عليهم] فصل في ذكر فضائل بني أمية، وتقريب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، واعتماده عليهم، وإبقاء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لهم، وذكر سبب كثرة الافتراءات على بني أمية لقد كان عهد بني أمية من خير عهود الإسلام، ففيه انتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وانحسر الكفر وكبت. وفيه انتشر العلم والفقه، ودون الحديث، ودون التفسير، وعم الرخاء أرجاء العالم الإسلامي، حتى بلغ الحال بالمسلمين في بعض عهود بني أمية، ألا يجدوا محتاجا يأخذ زكاة أموالهم، لغنى المسلمين وكفايتهم، على الرغم من اتساع الرقعة، وكثرة المسلمين. ويشهد لفضلهم - على الجملة - قوله صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» أخرجاه في " الصحيحين " وتقدم تخريجه (ص 130) . وكذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] .

وقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] . فالله - عز وجل - قد مكن لبني أمية في الأرض، وبدل خوفهم أمنا، ونصرهم في جهادهم، حتى فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، من " كاشغر" على حدود " الصين " في الشرق، إلى " الأندلس " وجنوب " فرنسا " في الغرب. ومن " بحر قزوين " في الشمال، إلى " المحيط الهندي " في الجنوب. فهل بعد هذا النصر نصر؟ ! وهل بعد هذا التمكين تمكين؟ ! وهذه الأمور وغيرها زادت غيظ الحاقدين والمتربصين بالمسلمين، فأخذوا يلفقون الأكاذيب والأباطيل، محاولين تشويه عصر بني أمية، ونشروها بين الناس. خاصة عندما اشتد عود دعوة العباسيين في آخر عهد الدولة الأموية. وهكذا استمرت هذه الحملة بل الحملات، حتى بعد سقوط الدولة الأموية. وكان ممن يروج هذه الشائعات: الروافض والخوارج. فقد أقضت هذه الدولة الفتية مضاجعهم، وكسرت شوكتهم، وأبطلت شبههم. كما أقضت مضاجع الروم والفرس، وسائر الكافرين.

يعاونهم في ذلك كل طوائف الضلال، من منافقين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، خوفا من المسلمين، ومن مبتدعة كرهوا ما كانت عليه الدولة الأموية من نشر السنة، والعقيدة الصحيحة، ومحاربة البدع. وجهال تأثروا بهذه الدعوات، إذ أرضعوها منذ الصغر، فلم يجد معهم نصح ولا إرشاد، فعير بعضهم بني أمية، بأنهم عادوا الإسلام في بداية عهده! ! وأن إسلامهم قد تأخر إلى آخر ما قالوه! قال العلامة الدكتور عبد الشافي بن محمد عبد اللطيف - أستاذ التاريخ الإسلامي، بجامعة الأزهر - في كتابه: " العالم الإسلامي في العصر الأموي " ص (ب - د) ، رادا على أولئك الجهال وغيرهم: (فلئن كان بعض الأمويين، عادى الإسلام في البداية، وتأخر إسلامهم: إلا أنهم لما أسلموا عام الفتح، أظهروا من حسن البلاء في الفتوحات، وقاموا بأدوار بارزة في رفع راية التوحيد، وأبدوا من الحب لدين الله والجهاد في سبيله ما لفت إليهم الأنظار، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسند إلى كثير منهم أجل الأعمال وأخطرها، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون الثلاثة من بعده. ولكن على الرغم من ذلك كله، فإن بعض الكتاب والمؤرخين، سواء ممن اندفعوا وراء رغبة العباسيين، والتقرب إليهم بالإساءة إلى الأمويين، أو ممن سيطر عليهم الهوى، وأعماهم التعصب المذهبي: لم

يستطيعوا التخلص من نظرتهم إليهم قبل إسلامهم، فراحوا يعيرونهم بأنهم " الطلقاء وأبناء الطلقاء "! ونسوا أن الإسلام يجب ما قبله. بل وصل ببعضهم إلى حد اتهامهم بالكفر) . ثم قال الدكتور عبد الشافي كذلك، في ص (7 - 8) من كتابه المذكور: (ومع أن الجميع أسلموا بعد فتح مكة، وحسن إسلامهم، وأبلوا بلاء حسنا في نصرة الإسلام، وإعلاء كلمة الله، إلا أن بعض الناس، نسي كل عداوات قريش للرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر إلا عداء بني أمية! ! وكأنهم وحدهم الذين وقفوا هذا الموقف! ! ومع أن الإسلام يجب ما قبله، إلا أن بعض ذوي الأهواء، لا يريد أن يفهم ذلك، ولا يكفون عن ذكر المواقف السيئة لبني أمية التي كانت قبل إسلامهم، وكأن القوم ما أسلموا! ! وما جاهدوا في الله حق جهاده! ! حتى إن هؤلاء المدعين لتأصل العداوة بين البيتين [بني هاشم وبني أمية] قديما، نسوا أن بعض بني أمية، كانوا من السابقين إليه من بني هاشم، فقد كان عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية من السابقين إلى الإسلام. وكذلك كان أبناء سعيد بن العاص: خالد بن سعيد، وعمرو بن سعيد، من السابقين إلى الإسلام، فقد أسلم خالد بن سعيد بن العاص، وكان خامسا في الإسلام، كما تقول ابنته أم خالد: " كان أبي خامسا في الإسلام - أي أسلم بعد أربعة سبقوه فقط - وهاجر إلى أرض الحبشة،

وأقام بها عشر سنين، وولدت أنا بها " (¬1) . وكذلك أسلم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص، وهاجر الهجرتين (¬2) ثم لحق بهما أخوهما أبان بن سعيد (¬3) . وكان خالد وأبان ابنا سعيد بن العاص، من كتاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم (¬4) . لكن رغم إسلام هؤلاء الرجال من بني أمية، منذ البداية، وتضحياتهم، وهجرتهم إلى الحبشة، ورغم إسلام جميع بني أمية عند فتح مكة، وترحيب الرسول بهم، وفرحه بإسلامهم، والاعتماد عليهم في جلائل الأعمال - كما سنذكره بعد قليل - إلا أن كل ذلك لم يشفع عند أصحاب الأهواء، حتى الكلمة الطيبة، التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم، في معرض العفو العام عنهم، وفي اليوم الذي سماه يوم بر ووفاء، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» حتى هذه الكلمات، جعل بعض الناس منها، سبة في جبين بني أمية وحدهم! وجعلوا يعيرونهم بأنهم الطلقاء، وأبناء الطلقاء! ¬

(¬1) عزاه الدكتور إلى " السير " للذهبي (1/ 260) ، و" الإصابة " للحافظ ابن حجر (1/ 16) . (¬2) عزاه الدكتور إلى " السير " للذهبي (1/ 261) ، و" الإصابة " للحافظ ابن حجر (1/ 16) . (¬3) عزاه الدكتور إلى (السير) للذهبي (1/ 261) ، و" الإصابة " للحافظ ابن حجر (1/ 15) . (¬4) عزاه الدكتور إلى أبي الحسن الخزاعي في " تخريج الدلالات السمعية " (ص 159) .

ولم يفهموا أن هؤلاء الطلقاء وأبناءهم، قد أسلموا، وحسن إسلامهم، وكانت لهم مواقف مشهودة، في نصرة الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعده في الفتوحات في عهد خلفائه الراشدين. . .) . ثم قال الدكتور عبد الشافي ص (9) : (فتعيير الأمويين بأنهم الطلقاء، وأبناء الطلقاء، يكشف عن الحقد الدفين، عند بعض الغلاة من الشيعة وغيرهم. فبنو أمية يدخلون في جملة مسلمة الفتح، الذين وعدهم الله بالحسنى في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10] . الله سبحانه وتعالى يعدهم بالحسنى، جزاء قتالهم وجهادهم، حتى مع تأخر إسلامهم، رحمة منه سبحانه وتعالى. ولكن بعض أصحاب الأهواء من المؤرخين يأبى إلا أن يرميهم بالكفر، نعيذ أنفسنا وإياهم بالله من ذلك) . ثم ذكر الدكتور عبد الشافي في كتابه السابق، تحت عنوان " الأمويون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم " ص (10 - 11) جملة ممن ولاه النبي صلى الله عليه وسلم من بني أمية، ثم قال ص (12) : (وخلاصة القول: فقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعظم رجالات بني أمية على مختلف الأعمال، من الولاية، والكتابة، وجباية الأموال، ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش، فيها عمال

لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر منهم (¬1) واستعمال النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر رجال بني أمية: أكبر دليل على كفاءتهم وأمانتهم، فلو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم، مطمئنا إلى كفاءتهم، وقدرتهم، وأمانتهم، لما عهد إليهم بعمل من الأعمال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحابي أحدا حاشا لله، ولم يكن يستعمل إلا أهل الكفاية والأمانة. . .) . وقال الدكتور ص (12 - 13) تحت عنوان: " الأمويون في عهد أبي بكر رضي الله عنه ": (لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وبويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة، فسار على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم، في استعمال بني أمية، والاستعانة بهم في جلائل الأعمال. وقد استجابوا للصديق، ولكنهم فضلوا الجهاد في سبيل الله على الأعمال الإدارية، فاشتركوا في معارك الإسلام الكبرى، في عهدي الصديق والفاروق، سواء في حروب الردة، أو في معارك الفتوح في الشام وفارس. . .) . ثم ذكر أمثلة ذلك، وعزاها لبعض كتب التاريخ والسير، ثم قال ص (14) : (وهكذا استمر الأمويون يعملون في عهد أبي بكر، مجاهدين في سبيل الله، مفضلين ميادين القتال على الأعمال الإدارية، ولو كانوا ¬

(¬1) عزاه الدكتور عبد الشافي في حاشية كتابه، إلى " منهاج السنة " لشيخ الإسلام (3/ 175) .

يبحثون عن المناصب، والجاه والمال، لقعدوا في ولاياتهم، وأعمالهم الإدارية، كما طلب منهم أبو بكر) . ثم قال الدكتور عبد الشافي ص (15) تحت عنوان " الأمويون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ": (عندما توفي الصديق رضي الله عنه في جمادى الآخرة سنة 13 هـ وبويع الفاروق بالخلافة: سار على نهج صاحبيه في استعمال بني أمية، والثقة فيهم، فلم يعزل أحدا منهم من عمل، ولم يجد على أحد منهم مأخذا، والكل يعرف صرامة عمر، وتحريه أمر ولاته وعماله، وتقصيه أعمالهم وأخبارهم، ومحاسبتهم بكل دقة وحزم. فاستمرارهم في عهده، يدل على أمانتهم وكفايتهم، فقد بقي يزيد بن أبي سفيان واليا على دمشق، كما زاد عمر في عمل معاوية بالشام، فقد ضم إليه ولاية حمص فوق ما كان يتولاه من أعمال مدن الساحل) . إلى أن قال ص (16) : (وهكذا استمر الأمويون في خلافة الفاروق، وكانوا في خيرة من عماله، وعلى كثرة محاسبة عمر للولاة والعمال، وعزل بعضهم بسبب التقصير والإهمال، فقد بقي معاوية طوال خلافته في عمله، مواجها للروم، واقفا لهم بالمرصاد، ضابطا لعمله، قائما بالقسط، مرضيا عنه من الرعية، ومن الخليفة) . أما سبب كثرة الافتراءات على الأمويين: فقد بينه الدكتور عبد الشافي في كتابه السابق ص (أ – جـ) من المقدمة، في معرض كلامه عن

سبب تأليفه كتابه ذلك حيث قال: (ولقد كان الدافع لهذا العمل، أن تلك الحقبة من تاريخ المسلمين، لا تزال في حاجة إلى دراسة واعية متأنية، يكون رائدها البحث عن الحقيقة التاريخية المجردة، مستقاة من أوثق مصادرها، وإلى كلمة حيادية منصفة، تقوم على تحليل الروايات، ومقارنة الحوادث، واستنطاق النصوص التاريخية، ذلك لأن معظم الكتابات المعاصرة - وهي كثيرة - التي تناولت هذا العصر: اتخذت موقفا معاديا للأمويين! معتمدة في ذلك على روايات خصومهم! أو آراء ذوي الهوى والميول من المؤرخين! فجاء تاريخ خلفائهم وولاتهم مشوها، يشوبه كثير من الزيف والتحريف، والبعد عن حقائق التاريخ، وقد تظافرت عدة عوامل أسهمت في ذلك التشويه، وصبغت عصر بني أمية بألوان قاتمة مظلمة، منها: 1 - أن معظم الأمويين، وقفوا من الرسالة المحمدية موقف العداء المطلق، وحملوا لواء معارضتها، وشن الحرب ضدها أكثر من عشرين عاما، ولم يدخلوا الإسلام، إلا عند فتح مكة سنة (8 هـ) . ومع أنهم أسلموا، وحسن إسلامهم، إلا أن بعض خصومهم، استغلوا هذا الموقف، واتخذوا منه ذريعة للنيل منهم، والتشهير بهم. 2 - أن بني أمية، دخلوا في صراع سياسي مع آل البيت، منذ مقتل عثمان رضي الله عنه، فمالت عواطف كثير من المسلمين إلى آل البيت، نظرا لمكانتهم في نفوس الناس.

وعمق هذا الشعور، ما تعرض له بعض أفراد آل البيت من المآسي، مما خلق شعورا يكاد يكون عاما بالكراهية للأمويين، حيث لم يكن من السهل على أي مسلم، مهما كان مذهبه واتجاهه السياسي: أن يرضى عن حادث مقتل الحسين رضي الله عنه، ذلك الحادث الذي شغل حيزا كبيرا في كتب المؤرخين، وأساء إلى سمعة الدولة الأموية. 3 - ما وقع فيه بعض خلفاء وولاة بني أمية من أخطاء جسيمة، مثل غزو المدينتين المقدستين مكة والمدينة، مما هز مشاعر المسلمين، وتردد صداه في نفوسهم وكتاباتهم. 4 - كثرة أعداء بني أمية من الشيعة والخوارج، ومن الحاقدين عليهم، والطامعين في الحكم، مثل المختار الثقفي، وابن الأشعث، وابن المهلب وغيرهم، مما اضطر الأمويين إلى الدخول معهم في معارك طاحنة، والتنكيل بهم. وفوق ذلك: الموالي من الفرس، الذين لم ينسوا زوال دولتهم على أيدي العرب، فصبوا جام غضبهم على الأمويين، واتهموهم بالتعصب ضدهم. تجمعت كل هذه العناصر الموتورة، وكان لكل منها، شعراء وخطباء، ونقلة للأخبار ورواة، وراحت تبث الشائعات في جوانب العالم الإسلامي، وتضخم الأخطاء الصغيرة، وتفتعل الأكاذيب، وتلفق الروايات عن العصر الأموي ورجاله.

كما شارك دعاة بني العباس - إبان المرحلة السرية لدعوتهم، والتحضير للثورة على الدولة الأموية - في هذا التيار، وأخذوا يركزون على تشويه سمعة الخلفاء والولاة، ليخلقوا رأيا عاما معاديا للدولة، وقد نجحوا في ذلك نجاحا كبيرا. 5 - ظلت هذه الأخبار والشائعات، يتردد صداها على ألسنة الناس، حتى بدأ عصر التدوين، فدون المؤرخون كل ما وصل إلى سمعهم، وسواء أكان حقا أم باطلا. وكان من سوء حظ الأمويين أن تاريخهم دون في عصر خصومهم العباسيين. وقد لعبت الخصومة- التي بلغت حد استئصال شأفة الأمويين، ونبش قبورهم- دورها في تشويه هذا التاريخ، وطمس معالمه. لقد أدت تلك العوامل مجتمعة، إلى تشويه كثير من جوانب التاريخ السياسي لعصر بني أمية، وتزييف عديد من حقائقه، وتلفيق الشائعات والأباطيل، حول خلفائه وولاته) اهـ. وقال الدكتور محمد السيد الوكيل، في مقدمة كتابه: "الأمويون بين الشرق والغرب" ص (5- 6) : ألم تكن الدولة الأموية، نشازا في العالم الإسلامي، كما يدعي بعض المستغربين؟ ولم تكن حدا فاصلا بين نظام الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الرشيدة، وبين النظام الذي قامت على أساسه، كما يزعم بعض

المتقولين الذين يروجون لدعوة كاذبة، بأن الدولة الإسلامية لم تكن إلا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين. وإنما كانت دولة إسلامية أصيلة، وإن حدث فيها بعض التجاوزات، التي لا تعيبها حقيقة كدولة، وإنما تؤخذ على بعض الخلفاء الذين حصل منهم هذه التجاوزات. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هؤلاء المتجاوزين، بشر يقع منهم الخطأ، كما يقع من غيرهم، لارتفع هذا اللوم العنيف الذي يوجه إليهم. نعم، إن كذبة الأمير، بلقاء مشهورة، وخطأه ليس كخطأ العامة، ولكنه ما دام غير معصوم، فالخطأ حاصل لا محالة، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقرر تلك الحقيقة حين يقول: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطاءين التوابون» [مي (2727) ت (2499) جه (4251) كلهم من طريق علي بن مسعدة عن قتادة عن أنس به، وقال الترمذي: " هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة ". على أننا ينبغي أن نعلم أن كثيرا من التهم التي ألصقت بالخلفاء، وبخاصة بني أمية لم تثبت صحتها، وإنما كانت من وضع أعدائهم من الشيعة وغيرهم، فمن المعلوم أن الشيعة هم ألد أعداء بني أمية. وهم مع ما سببوه من المحن لآل البيت رضوان الله عليهم، فكل ما حل بآل البيت من نكبات كان بسببهم، فهم الذين خذلوا عليا كرم الله وجهه في وقت كان في أمس الحاجة إلى عونهم.

وهم الذين دعوا الحسين رضي الله عنه وألحوا في دعوته، ثم تخلوا عنه، وهو في أشد الحاجة إلى وقوفهم معه، وتركوه يتلقى مصيره وحده. والغريب أنهم هم القتلة الحقيقيون لآل البيت، وهم الذين يبكونهم، ويلطمون خدودهم، ويخمشون وجوههم، حسرة وأسفا على ما حل لهم. ولقد بلغ الكذب بهؤلاء الرافضة أن وضعوا الأحاديث كذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزينون بها باطلهم، ويذمون بها أعداءهم، ويؤيدون أهواءهم. ونحن لا نستبعد على هؤلاء الذين يضعون الحديث كذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يلصقوا بأعدائهم كل نقيصة، ويروجوا عنهم الشائعات التي تدفعهم زورا وبهتانا. وهذه بعض أقوال أئمة الحديث فيهم: سئل الإمام مالك رضي الله عنه عن الرافضة أيؤخذ عنهم الحديث؟ فقال: " لا تكلمهم، ولا ترو عنهم، فإنهم يكذبون ". ثم قال الدكتور الوكيل في ص (6- 7) من كتابه السابق: (هؤلاء هم الشيعة، الأعداء الألداء لبني أمية، وهذه هي آراء العلماء من السنة، ومن الشيعة المعتدلين فيهم، فهل يستبعد على من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يكذب على بني أمية؟

إن الذين استباحوا لأنفسهم الكذب، لا يتورعون عن إلصاق التهم بغيرهم، ولا يكفون عن تشويه حياة أعدائهم. ولست أريد من وراء ذلك تبرئة خلفاء بني أمية من كل ما نسب إليهم، ولكني أريد توضيح حقائق لا ينبغي أن تخفى على الباحث، وهي أن كثيرا مما وجه للخلفاء من التهم زيف لم يستطع أحد إثباته بطريق يمكن التسليم به) . ثم قال الدكتور الوكيل في ص (8- 9) : (إن الدولة الأموية التي فتحت بلاد الهند والسند، حتى وصلت حدود الصين شرقا، وواصلت فتوحاتها في المغرب العربي، بل وجاوزته إلى أوربا، حتى فتحت الأندلس، ووصلت جنوب فرنسا. هذه الدولة، لا يمكن أن تسلم من ألسنة المستشرقين والمستغربين على حد سواء؛ لأن هذه الفتوحات المذهلة أورثت الأعداء حقدا لم يستطيعوا إخفاءه، ولم يقدروا على تجاوزه، بل ظلوا يجترونه قرونا طويلة، حتى واتتهم الفرصة، بإصابة الدولة الإسلامية بالشيخوخة، التي تصيب الأمم دائما من غير تفريق، فانقضوا عليها وهي تحتضر، ليأخذوا منها ثأرهم، وهي على فراش الموت. ومهما قال الحاقدون عن الأمويين، ومهما أثاروا الزوابع والعواصف من حولهم فإن تاريخهم حقبة مشرقة من أحقاب التاريخ الفذ.

وسيرى الدارس لهذه الحقبة ما نشروه من الحضارة، وما خلفوه وراءهم من النظم، وما أنجبوا من القيادات، التي ساقت جيوشهم من نصر إلى نصر، حتى دان لهم أكثر من نصف الأرض المعروفة في تلك الفترة من الزمان. وإذا تركنا الأمويين في الشرق، لنلقي نظرة على دولتهم في الغرب نرى ما لم يخطر لأحد على بال في تلك الفترة. نرى حضارة في العمران، في القصور الرائعة، والمساجد المبهرة. نرى الحدائق في البيوت والميادين. نرى الشوارع المرصوفة، والأسواق العامرة) (¬1) انتهى المقصود من كلام الدكتور. ¬

(¬1) بل نرى قبل ذلك انتشار العلم النبوي والسنة، وكثرة الفقهاء والمحدثين، وارتفاع راية الجهاد، وإقبال الناس على الخير، وإدبارهم عن الشر، وظهور المعروف، وانحسار المنكر.

فصل في ذكر شيء من فتوحات الأمويين

[فصل في ذكر شيء من فتوحات الأمويين] فصل في ذكر شيء من فتوحات الأمويين بعد أن تم الصلح بين الحسن بن علي، وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، وبايع الحسن، معاوية - وذلك عام (41 هـ) ، فكان لأهل السنة عام الجماعة، وكان لأهل البدعة عام الفرقة - انطلقت جيوش الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، غازية في سبيل الله، ففتحت " سوسة " و" جلولا " و" فزان "، و" قصوركوار" و" خاور" و" غبرامس " و"ميلة " و"تلمسان " في بلاد المغرب الإسلامي، وغيرها. ثم لما وافت المنية خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين وخالهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، سنة (60 هـ) تولى ابنه يزيد، ومع ما قيل فيه حقا وباطلا إلا أنه كان شجاعا، ذا همة علية، ونفس أبية، تتطلع نفسه للقتال، فاستمر في إعداد الجيوش للجهاد، وإرسال الكتائب تلو الكتائب، ففتح الله للمسلمين في عهده: "المنستير" و"الزاب " و"تيهرت " و"طنجة" وغيرها إلى المحيط الأطلسي. ثم توالت الفتوحات، واستمرت في سائر عهود خلفاء بني أمية، حتى بلغت الفتوحات في عهدهم أقصى حد استطاعه المسلمون تقريبا، حتى أن خلفاء بني العباس لم يستطيعوا زيادة تلك الفتوحات - مع حرصهم على ذلك - زيادة تذكر، بجانب فتوحات الأمويين، فاقتصر

العباسيون على حماية الثغور، والمحافظة على هذه الرقعة العظيمة التي بلغت حدود "الصين " شرقا، و"الأندلس " وجنوب "فرنسا غربا، و"بحر قزوين " شمالا، و" المحيط الهندي " جنوبا. بل ربما لو سلمت دولتهم من ثورات الثائرين هنا وهناك، والدعوات السياسية السرية- بعد استقرار الأمر لبني أمية، بعد وفاة يزيد - التي أشغلتها عن الجهاد والفتوحات، وأضعفت التفاف الناس عليها، لكان قد عم الإسلام الأرض قاطبة. وغالب تلك الثورات كانت ثورات شيعية، لم تظفر من الدولة الأموية بشيء أكثر من إشغالها عن الجهاد والفتوحات، وأعظم به من ظفر، مما يدل على أن وراء الأمر مكيدة. وغالب أولئك الثائرين يطلبون لأنفسهم ما يحرمونه على غيرهم، فيطلبون ملك الأب والجد، ويحرمون على الأمويين توارث الخلافة والحكم، إذ أنه مخالف لحقيقة الخلافة، فحل لهم ما حرم على غيرهم. وإن كان بعض أولئك صالحا، إلا أن أقل أحواله أنه مستدرج. ولست أعني بهذا عليا وابنيه - حاشا لله - وهم أجل من أن يرد عليهم ذلك، وإنما قلته دفعا لما أعلمه من تلبيس الرافضة، وتحريفهم الكلم عن مواضعه.

وخلافة علي خلافة راشدة على منهاج النبوة، وبيعته صحيحة لا مرية فيها ولا ريب، ومن نازعه الأمر خالف وعصى، غير أن من في ذلك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متأول، مجتهد مخطئ. والحسن رضي الله عنه خلافته خلافة نبوة كذلك، فهي تمام الثلاثين، غير أن الأمر لم يستقم له، وما كان صاحب ملك ودنيا، وإنما كان صاحب تقى وزهد وأخرى، فنزل بالخلافة إلى معاوية رضي الله عنهما. أما الحسين رضي الله عنه، فكان يرى أن الخلافة بعد معاوية له، وهو أحق أهل ذلك العصر، وما كان أحد لينازعه، إلا أن معاوية كان قد أخذ البيعة لابنه يزيد، فكان ما كان. وقتل الحسين رضي الله عنه ظلم كبير، وفجور ظاهر، نال به رضي الله عنه الشهادة، ونال قاتله اللعنة والمحادة. وإنما عنيت ما حدث بعدهم، في دولة بني أمية من ثورات، يقف المتأمل من مقاصدها مواقف ريبة، مع حرمتها شرعا، وسذاجتها عقلا. وكما قررنا قريبا أن الإسلام انتشر في تلك البلاد، وانتفع أهلها بالإسلام والمسلمين، إذ تحرروا من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن ذل الدنيا، إلى عز الآخرة والدنيا. قال الدكتور عبد الشافي بن محمد عبد اللطيف، في كتابه (العالم الإسلامي في العصر الأموي) ص (587) : (أما أبرز أمجاد الأمويين الباقية

على الزمن، فهي جهودهم في ميدان الفتوحات الإسلامية، فرغم المصاعب الجمة التي كانت تعترض طريقهم، والقوى العديدة المعادية لهم، والتي كانت تشدهم إلى الوراء، فقد نفذوا برنامجا رائعا للفتوحات، ورفعوا راية الإسلام، ومدوا حدود العالم الإسلامي، من حدود "الصين" في الشرق، إلى " الأندلس "، و"جنوب فرنسا" في الغرب، ومن " بحر قزوين " في الشمال، حتى " المحيط الهندي " في الجنوب. ولم يكن هذا الفتح العظيم، فتحا عسكريا لبسط النفوذ السياسي، واستغلال خيرات الشعوب، كما يدعي بعض أعداء الإسلام، وإنما كان فتحا دينيا وحضاريا، حيث عمل الأمويون بجد واجتهاد على نشر الإسلام في تلك الرقعة الهائلة من الأرض، وطبقوا منهجا سياسيا في معاملة أبناء البلاد المفتوحة، هيأهم لقبول الإسلام دينا، حيث عاملوهم معاملة حسنى في جملتها، واحترموا عهودهم ومواثيقهم معهم، وأشركوهم في إدارة بلدهم، فأقبلوا على اعتناق الإسلام عن اقتناع ورضى. وبذلك تكون في العصر الأموي، عالم إسلامي واحد، على هذه الرقعة الكبيرة من الأرض، أخذ يشق طريقه تدريجيا نحو التشابه والتماثل في العادات والتقاليد والأخلاق، ومعاملات الحياة. وأخذت أممه وشعوبه، تنسلخ من ماضيها كله، وتنصهر في بوتقة الإسلام، الذي حقق لها العزة والكرامة والحرية والمساواة، مكونة الأمة الإسلامية) اهـ.

فصل في رمي المالكي للحنابلة بالتجسيم والتشبيه ورد ذلك عنهم

[فصل في رمي المالكي للحنابلة بالتجسيم والتشبيه ورد ذلك عنهم] فصل في رمي المالكي للحنابلة بالتجسيم والتشبيه، ورد ذلك عنهم قال المالكي ص (129) تحت عنوان "التجسيم والتشبيه ": (صحح الشيخ عبد المغيث الحربي الحنبلي حديث الاستلقاء، الذي فيه أن الله لما انتهى من الخلق، استلقى ووضع رجلا على رجل، وهذا تشبيه واضح) وعزا المالكي ذلك إلى " سير أعلام النبلاء " للذهبي (21 / 160) . والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا يعاب به الشيخ عبد المغيث لا الحنابلة. ولم يكن- رحمه الله - من علمائهم الكبار، بل كان قليل العلم، وقد بين قلة علمه، بعض أهل العلم، كابن الجوزي الحنبلي وغيره. الثاني: أن إثبات الاستلقاء - لو صح، أو عند من صححه - لا يلزم منه التشبيه. وإثبات الصفات المجرد، ليس فيه تشبيه، وإن كان جنس الصفة أو الفعل، موجودا في الخالق والمخلوق، والمالك والمملوك. فالله عز وجل، حي، سميع، متكلم، ينزل، ويغضب، ويحب، ويرضى، ويكره، وغير ذلك من الصفات والأفعال الثابتة له سبحانه في كتابه الكريم، أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك المخلوق، حي، سميع، بصير، متكلم، ينزل، ويغضب، ويحب، ويرضى، ويكره، وغير ذلك. وصفات الله وأفعاله سبحانه ليست كصفات خلقه جل وعلا، ولا تشبيه في ذلك. أما إثبات الاستلقاء، فالعمدة فيه صحة الحديث أو ضعفه، فإن صح، فليس لنا إلا التسليم. وإن كان الراجح ضعفه، إلا أن من صححه لم يكن مشبها، ومن ضعفه لم يكن معطلا. الثالث: أن نص حديث الاستلقاء الذي ذكره المالكي، ليس مذكورا في مصدر المالكي الذي أحال عليه، والذي في مصدره- " سير أعلام النبلاء "-: أنه صحح حديث الاستلقاء فحسب. فهذه الزيادة من المالكي، ولم ينبه عليها، وليست مستنكرة من مثله.

فصل في إقحام المالكي للأهوازي في الحنابلة وتحميلهم أخطاءه وبيان أنه لم يكن حنبليا قط

[فصل في إقحام المالكي للأهوازي في الحنابلة وتحميلهم أخطاءه وبيان أنه لم يكن حنبليا قط] فصل في إقحام المالكي، للأهوازي في الحنابلة وتحميلهم أخطاءه، وبيان أنه لم يكن حنبليا قط ولم يذكره أحذ في الحنابلة، وإبطال مزاعمه قال المالكي ص (129) : (أما الأهوازي- الحسن بن علي بن إبراهيم، وهو من غلاة أهل السنة، وغلاة أهل السنة حنابلة- الحنبلي، فقد ألف كتابا طويلا في الصفات، أورد فيه أحاديث باطلة، منها حديث عرق الخيل الذي نصه: " إن الله لما أراد أن يخلق نفسه، خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسه من ذلك العرق". تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) اهـ. والجواب من وجوه ثلاثة: أحدها: أن الأهوازي لم يكن، وما كان، ولن يكون: حنبليا قط، فلم أقحمه هذا المخذول فيهم؟! وحملهم أخطاءه؟! الثاني: أن الحديث المذكور، حديثا باطل، لم يصححه أحذ من الحنابلة قط. الثالث: أن رواية حديث "عرق الخيل " - مع بطلانه-: لا يدل على قول الأهوازي به، أو تصحيحه له، أو الأخذ به، لا هو ولا غيره ممن رواه، أو روى أمثاله.

وكان الأئمة- رحمهم الله- ربما رووا أحاديث في أسانيدها شيء في كتب " الأسماء والصفات " وغيرها، ليس للأخذ بها، بل للوقوف على أسانيدها، ومعرفة حالها، وعللها.

فصل في رميه مرويات شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري الهروي بأنها أحاديث باطلة

[فصل في رميه مرويات شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري الهروي بأنها أحاديث باطلة] فصل في رميه مرويات شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري الهروي رحمه الله، في كتابه "الصفات ": بأنها أحاديث باطلة، وإبطال زعمه قال المالكي ص (129- 130) : (وألف الهروي الحنبلي كتابا في الصفات، حشره بأحاديث باطلة من هذا الجنس) ثم عزا المالكي ذلك إلى الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (508 / 18) . والجواب من وجوه ثلاثة: أحدها: تقدم قريبا، وأن رواية أمثال تلك الأحاديث، لا يلزم منه القول بجميعها. الثاني: مطالبة المالكي بدليل صحة مزاعمه، أو سبيل معرفته، فإن كتاب شيخ الإسلام الأنصاري غير مطبوع، ولم يوقف له على نسخة خطية بعد. فإن قال: كان اعتمادي على الذهبي في " السير " (18 / 509) ، كما عزا. قلنا: لا تدل عبارة الحافظ الذهبي على ذلك، وهذا نص عبارته رحمه الله، قال: (وقد كان هذا الرجل، سيفا مسلولا على المتكلمين، له صولة وهيبة، واستيلاء على النفوس ببلده، يعظمونه ويتغالون فيه،

ويبذلون أرواحهم فيما يأمر به. كان عندهم أطوع وأرفع من السلطان بكثير، وكان طودا راسيا في السنة، لا يتزلزل ولا يلين، لولا ما كدر كتابه " الفارق في الصفات " بذكر أحاديث باطلة، يجب بيانها وهتكها، والله يغفر له بحسن قصده) اهـ. الثالث: أن الذهبي نفسه، قد أثنى على الكتاب بعد عبارته السابقة، فقال في " السير " (18 / 514) : (غالب ما رواه في كتاب " الفارق ": صحاح وحسان) اهـ. فلماذا أغفل المالكي كلام الذهبي، وهو في صلب موضوعه؟!

فصل في جعل المالكي لفظ الحد في كلام بعض أئمة السلف من الغرائب في الاعتقاد لعدم فهمه المراد منه

[فصل في جعل المالكي لفظ الحد في كلام بعض أئمة السلف من الغرائب في الاعتقاد لعدم فهمه المراد منه] فصل في جعل المالكي لفظ "الحد" في كلام بعض أئمة السلف، من الغرائب في الاعتقاد، لعدم فهمه المراد منه، وبيان معناه وصحته قال المالكي ص (131) : (وقال محمد بن إبراهيم القيسي الحنبلي: " قلت لأحمد بن حنبل: يحكى عن ابن المبارك أنه قيل له: كيف يعرف ربنا عز وجل؟ قال: في السماء السابعة، على عرشه بحد، أو يحد. فقال أحمد: هكذا هو عندنا ". أقول: الرواية منقطعة عن ابن المبارك، ولو صحت عنه، لما كانت حجة، فلم يرد لفظ الحد في الكتاب، ولا في السنة الصحيحة، فلماذا اللجاجة في هذه الغرائب؟!) اهـ كلام المالكي. والجواب من وجهين: أحدهما: أن قول ابن المبارك هذا: صحيح، ثابت عنه، رواه جماعات بأسانيد صحيحة، في غير كتاب، وقد صححه الذهبي في كتابه " العلو ". بل صنف الإمام محمود بن أبي القاسم بن بدران الدشتي (ت 665 هـ) جزءا في ذلك سماه " إثبات الحد لله تعالى "، ساق فيه ما ورد في الباب، من أحاديث وآثار، ومنها أثر ابن المبارك رحمه الله

السابق من طرق صحيحة عدة. الثاني: أنه ليس في قول عبد الله بن المبارك رحمه الله ما ينكر، وما أنكره المالكي إلا لجهله وفساد فهمه، فإن معنى الحد الذي أراده ابن المبارك، هو العلو، ومباينة الله تعالى لخلقه، فالله جل وعلا، كما هو مستقر عند أئمة الإسلام، عال على خلقه، بائن منهم، غير ممازج لهم. وهذا المراد بالحد. فإذا عرفت ذلك: علمت أنه قد دل عليه الكتاب، والسنة الصحيحة بل المتواترة، وآثار السلف، وإجماعهم.

فصل في إنكار المالكي عظيم ما شرف الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم

[فصل في إنكار المالكي عظيم ما شرف الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم] فصل في إنكار المالكي عظيم ما شرف الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم، من إقعاده على العرش، وطعنه في الحنابلة لإثباتهم ذلك، والرد عليه قال المالكي ص (131) : (ورووا- يعني بهم الحنابلة - أن المقام المحمود للنبي هو قعوده صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع ربه على العرش. واعتبروا من رد هذا الأثر الضعيف، جهميا أو زنديقا، وأنه لا يؤمن بيوم الحساب. أقول: انظروا إلى الأحكام الجائرة، فكلما كانت القصة، أو الأثر مكذوبا، كلما زاد إنكارهم على من أنكره، وحكموا عليه بالزندقة والكفر، وكأن الشدة، تعويض لضعف الحجة) اهـ كلام المالكي. والجواب: أن كلامه هذا، قد اشتمل على عدة كذبات: إحداهن: أن راوي هذا الأثر ليس بحنبلي، وإنما قائله الإمام التابعي الكبير، مجاهد بن جبر (ت 102 هـ) ، تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يكن- رحمه الله- حنبليا. وقد رواه عنه الأئمة في كتبهم، منهم: الحافظ الكبير، شيخ المفسرين وإمامهم: محمد بن جرير بن يزيد

الطبري (ت 315 هـ) في "تفسيره "، وليس حنبليا أيضا، بل قال رحمه الله بعد روايته له: (ليس في فرق الإسلام من ينكر هذا) اهـ. وقال الحافظ الذهبي، في كتابه "العلو" ص (194) : (وقد ذكرنا احتفال الإمام أبي بكر المروذي في هذا العصر، لقول مجاهد: "إن الله تعالى يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش" وغضب العلماء لإنكار هذه المنقبة العظيمة، التي انفرد بها سيد البشر. ويبعد أن يقول مجاهد ذلك إلا بتوقيف، فإنه قال: "قرأت القرآن من أوله إلى آخره ثلاث مرات على ابن عباس رضي الله عنهما، أقفه عند كل آية أسأله ". فمجاهد أجل المفسرين في زمانه، وأجل المقرئين، تلا عليه ابن كثير، وأبو عمرو، وابن محيصن. فممن قال " إن خبر مجاهد يسلم به، ولا يعارض ":. عباس بن محمد الدوري الحافظ (ت 271 هـ) . . ويحيى بن أبي طالب المحدث (ت 275 هـ) . . ومحمد بن إسماعيل السلمي الترمذي الحافظ (ت 280 هـ) . . وأبو جعفر محمد بن عبد الملك الدقيقي (ت 266 هـ) . . وأبو داوود سليمان بن الأشعث السجستاني، صاحب "السنن " (ت 275 هـ) . . وإمام وقته، إبراهيم بن إسحاق الحربي (ت 285 هـ) .

والحافظ أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي (ت 276 هـ) . . وحمدان بن علي الوراق الحافظ (ت 272هـ) . وخلق سواهم من علماء السنة ممن أعرفهم، وممن لا أعرفهم، ولكن ثبت في الصحاح أن المقام المحمود هو الشفاعة العامة، الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم) اهـ كلام الذهبي. وأثبتها أيضا أئمة كثير، غير من سمى الذهبي هنا، منهم:. محمد بن مصعب العابد شيخ بغداد. . والإمام الحجة الحافظ أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت 241 هـ) ، إمام أهل السنة قاطبة. . وعبد الله بن أحمد بن حنبل الحافظ (ت 290 هـ) . . ومحمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين (ت 310 هـ) ، وسبق ذكر قوله، بل حكايته الإجماع على ذلك. . ومحمد بن علي السراج. . وأبو بكر أحمد بن سلمان بن الحسن النجاد الحافظ شيخ العراق (ت 248 هـ) . . والحافظ يحيى بن محمد بن صاعد (ت 318 هـ) . . وأبو الحسن علي بن عمر الدارقطني، الحافظ الكبير (ت 348 هـ) ، ونظم في ذلك أبياتا مشهورة، قال فيها:

حديث الشفاعة في أحمد ... إلى أحمد المصطفى نسنده وأما حديث بإقعاده ... على العرش أيضا فلا نجحده أمروا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسده ولا تنكروا أنه قاعد ... ولا تنكروا أنه يقعده وغيرهم كثير كما قال الذهبي، مع سعة اطلاعه على الرجال، وأحوالهم، وأقوالهم رحمهم الله. وسبق أن ذكرنا حكاية ابن جرير الطبري الإجماع على القول بذلك. قال العلامة الإمام أبو عبد الله ابن قيم الجوزية في "نونيته ": واذكر كلام مجاهد في قوله ... (أقم الصلاة) وتلك في (سبحان) في ذكر تفسيرالمقام لأحمد ... ما قيل ذا بالرأي والحسبان إن كان تجسيما فإن مجاهدا ... هو شيخهم بل شيخه الفوقاني ولقد أتى ذكر الجلوس به وفي ... أثر رواه- جعفر الرباني أعني ابن عم نبينا وبغيره ... أيضا أتى والحق ذو تبيان والدارقطني الإمام يثبت ال ... آثار في ذا الباب غير جبان وله قصيد ضمنت هذا وفي ... ها لست للمروي ذا نكران وجرت لذلك فتنة في وقته ... من فرقة التعطيل والعدوان وقال ابن القيم في موضع آخر منها، حاكيا قول خصمه له:

وزعمت أن محمدا يوم اللقا ... يدنيه رب العرش بالرضوان حتى يرى المختار حقا قاعدا ... معه على العرش الرفيع الشان وكان شيخنا الكبير العلامة، إسماعيل بن محمد بن ماحي الأنصاري (ت 1417 هـ) رحمه الله، يستدل بأبيات الدارقطني ويذكرها، ويحتج لها، وبها، إذا عرضت هذه المسألة. فهذا اعتقاد أئمة الإسلام، وقولهم في هذا الأثر، الذي رواه مجاهد رحمه الله، وغالب من ذكر ليس بحنبلي. أما كذبة المالكي الثانية: فزعمه أن هذا الأثر مكذوب!! واحتجاج من ذكرنا به- وهم صيارفة الحديث، ونقاده وحفاظه- يغني عن غيره.

فصل في زعم المالكي أن معتقدات رواة الحديث سبب في توثيق الأئمة لهم، أو تجريحهم

[فصل في زعم المالكي أن معتقدات رواة الحديث سبب في توثيق الأئمة لهم، أو تجريحهم] فصل في زعم المالكي أن معتقدات رواة الحديث سبب في توثيق الأئمة لهم، أو تجريحهم، لذا يجب الحذر من توثيقهم وتجريحهم، فربما وثقوا لأجلها ضعيفا، أو ضعفوا ثقة وإبطال زعمه، والرد عليه قال المالكي ص (132) تحت فقرة "تأثير العقيدة على الجرح والتعديل ": (ولعل أبرز آثار العقيدة على الجرح والتعديل عند الحنابلة: تضعيف ثقات المخالفين، وتوثيق ضعفاء الموافقين، ومن ذلك: . تضعيف ثقات الشيعة، وخاصة فيما يروونه في فضائل علي. . تضعيف سائر المخالفين من العلماء، كعلماء المرجئة، والقدرية، والمعتزلة. . تضعيف القائلين بخلق القران، أو المتوقفين. . تضعيف من يتوهمون فيه أدنى مخالفة، حتى وصل تضعيفهم للبخاري، ومسلم، والكرابيسي، وأبي حنيفة إلخ. . تضعيف الكبار من أئمة الأشاعرة، كالبيهقي، يضعفه من الحنابلة المعاصرين: الشيخ صالح الفوزان، ويزعم أنه لا يوثق بنقله في العقيدة، وهذا ما لم يسبق إليه الشيخ، وإلى الآن لا أدري كيف تجرأ على هذا القول؟!) اهـ كلام المالكي.

والجواب من وجوه: أحدها: أن كلام المالكي هنا، محض كذب وافتراء، فما ضعف الحنابلة خاصة، وأهل السنة عامة، ثقة وردوا حديثه لأجل اعتقاده، لذا لم يستطع المالكي إيراد مثال صحيح واحد فحسب، ولا أدل على كذبه وضعف حجته من هذا. وقد كان أئمة السلف، وكبار علماء الإسلام، من التابعين ومن بعدهم: ربما ردوا حديث راو لبدعته، فلا يروونه عنه، لئلا يظهر ويقصد، فتعم فتنة المسلمين به، ويجد سبيلا إلى نشر ضلاله. أما أن يكذبوه، أو يضعفوه لأجل ذلك وهو ثقة، فكلا وحاشا. وأنا أبين كذب المالكي على الحنابلة، وأسوق لذلك عشرين مثالا، لرجال من أهل البدع، من الرافضة، والناصبة، والقدرية، والمعتزلة، والمرجئة: قد وثقهم الإمام أحمد بن حنبل، مع علمه ببدعهم، بل واشتهارهم بها، منهم: 1 -. إبراهيم بن طهمان الخراساني (ع) : وثقهم الإمام أحمد، وكان مرجئا. "تهذيب الكمال " (2 / 108) ، "بحر الدم " (28) . 2 -. تليد بن سليمان المحاربي: وثقه الإمام أحمد وقال: " كان مذهبه التشيع " اهـ، قلت: كان رافضيا، يطعن في عثمان رضي الله عنه. 3 -. ثور بن يزيد الكلاعي: قال فيه أحمد: " ثور بن يزيد ثقة، إلا أنه كان يرى القدر" اهـ. "بحر الدم " (139) .

4 -. الحسن بن صالح بن حي (بخ م 4) : قال فيه الإمام أحمد: " الحسن بن صالح، صحيح الرواية متفقة، صائن لنفسه في الحديث والورع ". وقال مرة: "ثقة، إلا أن مذهبه ذاك ". "تهذيب الكمال " (6 / 177) ، " بحر الدم " (194) . قلت: أراد أحمد أنه يرى السيف، ويترك الجمعة والجهاد خلف أئمة الجور. 5 -. حماد بن أبي سليمان (بخ م 4) : شيخ أبي حنيفة، وأول من تكلم في الرأي، كان مرجئا مشهورا بذلك، ومع ذلك وثقه أحمد وذكر عنه ما ذكرته عنه. "تهذيب الكمال " (7 / 269) ، "بحر الدم " (228) . 6 -. سعيد بن أبي عروبة (ع) : وثقه أحمد، وذكر أنه يقول بالقدر ويكتمه. "تهذيب الكمال " (11 / 5) ، "بحر الدم " (465) . 7 -. سليمان بن قرم بن معاذ الضبي (خت م د ت س) : وثقه أحمد وقال: " ما أرى به بأسا، لكنه يفرط في التشيع ". "تهذيب الكمال " (12 / 51) ، "بحر الدم " (398) . 8 -. قتادة بن دعامة السدوسي (ع) : ذكره أحمد فأطراه كثيرا، وذكر من فضله وعلمه، وقال: "كان قتادة أحفظ أهل البصرة"، وقد ذكر أحمد في موضع آخر: أن قتادة يقول بالقدر ويكتمه. " بحر الدم " (365) و (846) .

9 -. عبد الله بن شقيق العقيلي (بخ م 4) : قال أحمد فيه: " ثقة، وكان يحمل على علي رضي الله عنه لما. " تهذيب الكمال" (15 / 89) ، "بحر الدم " (534) . 10 -. عبد الله بن أبي نجيح يسار (ع) : وثقه أحمد، وكان قدريا، جالس عمرو بن عبيد فأفسده. "تهذيب الكمال " (16 / 215) ، و"بحر الدم " (567) . 11 -. عبد العزيز بن أبي رواد (م 4) : قال فيه أحمد: "رجل صالح، وكان مرجئا". "تهذيب الكمال " (18 / 136) ، "بحر الدم " (634) . 12 -. عبد الجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد (م 4) : قال فيه أحمد: "ثقة، تعلق في الإرجاء". "تهذيب الكمال " (18 / 273) ، "بحر الدم " (644) . قلت: كان غاليا في الإرجاء، داعيا إليه. 13 -. عثمان بن غياث الراسي (خ م دس) : قال فيه أحمد: "ثقة، كان يرى الإرجاء". " تهذيب الكمال " (19 / 473) ، "بحر الدم " (676) . 14 -. علقمة بن مرثد الحضرمي (ع) : قال فيه أحمد: "كان يتهم بالإرجاء، وكان ثقة في حديثه ضابطا". "تهذيب الكمال " (20 / 358) ، "بحر الدم " (705) . 15 -. علي بن بذيمة الحراني (ع) : قال فيه أحمد: "صالح الحديث، لكنه رأس في التشيع ". "تهذيب الكمال " (20 / 328) ، " بحر الدم " (708) .

16 -. الربيع بن صبيح السعدي (خت ت ق) : قال فيه أحمد: "هو في بدنه رجل صالح، وليس عنده حديث يحتاج إليه فيه " . وقال مرة: "ليس به بأس " وذكر أنه كان معتزليا. "تهذيب الكمال " (9 / 89) ، "بحر الدم " (293) . 17 -. سالم بن أبي حفصة العجلي (بخ ت) : قال فيه أحمد: "ليس به بأس، إلا أنه كان شيعيا". "تهذيب الكمال " (10 / 133) ، " بحرالدم " (334) . 18 -. علي بن المبارك الهنائي (ع) : وثقه أحمد، وكان قدريا، ولما قيل لأحمد في ذلك قال: "قد كان يرمى بالتشيع ". "تهذيب الكمال " (21 / 111) ، " بحر الدم " (722) . 19 -. عمرو بن الهيثم بن قطن (بخ م 4) : وثقه أحمد، وكان قدريا، ولما قيل لأحمد في ذلك قال: " نحن نحدث عن القدرية، ولو فتشت أهل البصرة، وجدت ثلثهم قدرية". "تهذيب الكمال " (22 / 280) ، "بحر الدم " (785) . 20 -. فطر بن خليفة (خ 4) : وثقه أحمد، وقال فيه: "صالح الحديث، خشبي مفرط ". "تهذيب الكمال " (23 / 312) ، " بحر الدم " (834) . قلت: كان شيعيا. 21 -. الوضين بن عطاء (د عس ق) : وثقه الإمام أحمد، وقال مرة: "ليس به بأس، وكان يرى القدر".

فصل ولم يكن الإمام أحمد ولا أئمة السلف جميعا يحابون في دين الله أحدا

[فصل ولم يكن الإمام أحمد ولا أئمة السلف جميعا يحابون في دين الله أحدا] فصل ولم يكن الإمام أحمد، ولا أئمة السلف جميعا، يحابون في دين الله أحدا، وافقهم أم خالفهم، وقد كان:. رواد بن الجراح (ق) : صاحب سنة، إلا أن ذلك لم يمنع أحمد من بيان حاله، فقال فيه: "لا بأس به، صاحب سنة، إلا أنه حدث عن سفيان أحاديث مناكير". "تهذيب الكمال " (9 / 227) ، "بحر الدم " (304) . . ونوح بن أبي مريم، أبو عصمة المروذي (ت فق) : مثله كذلك، قال فيه الإمام أحمد: "كان أبو عصمة يروي أحاديث مناكير، ولم يكن في الحديث بذاك، وكان شديدا على الجهمية يرد عليهم، تعلم منه نعيم بن حماد الرد على الجهمية". "تهذيب الكمال " (30 / 56) ، "بحر الدم " (1085) . . وكذلك حماد بن سلمة (خت م 4) : كان إماما في السنة، شديد التمسك بها، منافرا لأهل الباع، ولما سأل محمد بن يحيى النيسابوري الإمام أحمد عنه قال فيه: "إن حماد بن سلمة يخطئ" قال النيسابوري: (وأومأ بيده خطأ كثيرا، ولم ير بالرواية عنه بأسا) . "بحر الدم " (227) . فبما سبق، يظهر جليا كذب المالكي، فيما ادعاه. الوجه الثاني: أن زعم المالكي أن الحنابلة قد ضعفوا البخاري، ومسلما كذب أيضا، بل هما عندهم إمامان كبيران جليلان حافظان،

كتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل. بل يحكون الإجماع على ذلك، وينافرون وينابذون من تكلم فيهما. وأنا أتحدى المالكي، أن يسمي لي حنبليا واحدا فقط، قد ضعف البخاري أو مسلما رحمهما الله. وإنما من يشكك فيهما هو وأمثاله من أهل البدع، وقد دعا المالكي الناس إلى مراجعة " صحيح البخاري "، وإعادة دراسته، ودراسة أسانيده. وله كلام قبيح في " صحيح البخاري " أيضا، تفوه به لما استضافته القنوات الفضائية، لا يحضرني نصه، أما معناه فقد قدمته. الوجه الثالث: أما تضعيف الحنابلة للكرابيسي، وأبي حنيفة فأمر آخر، فقد ضعفهما في الحديث، أئمة هذا الشأن، قبل أن يخلق أحمد. الوجه الرابع: وأما زعمه أن الحنابلة يضعفون البيهقي: فحاشا وكلا، وهو من كبار حفاظ الحديث، ولم يتكلم في حفظه أحد منهم، بل هو محفوظ بما حفظ. وما نسبه هذا الكذوب إلى شيخنا الشيخ العلامة المحقق الدكتور صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان حفظه الله ونفع بعلومه، من تضعيفه للبيهقي، وعدم وثوقه بنقله، فكذب صريح أيضا.

وإنما الشيخ صالح الفوزان، وأهل السنة جميعا، يعيبون على البيهقي رحمه الله قوله لا نقله، فيعيبون ما يذكره من تأويل عقب بعض أحاديث الصفات التي يرويها، وإلا فهم مغتبطون بكتب البيهقي رحمه الله ومصنفاته، ومعتدون بمروياته وآرائه وأقواله، ما لم تكن مخالفة للصواب. وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبو هريرة من حفاظ الصحابة بلا ريب، ومع ذلك رد أهل العلم بعض آرائهم في مروياتهم، وقالوا: "يؤخذ بروايتهم، ولا يؤخذ برأيهم ". فهذا فيهم رضي الله عنهم، وهم حفاظ، صحابة، وفي مخالفاتهم الفرعية، فكيف بغيرهم ومخالفاته أصولية؟! وقد سألت شيخنا صالحا الفوزان، عما نسبه إليه المالكي في تضعيف البيهقي: فأنكره، وكذبه، وقال: " البيهقي - رحمه الله -من أئمة الإسلام، وحفاظ الحديث الثقات الكبار. وإنما أعيب عليه تأويله للصفات، وقد عابه عليه أهل السنة قبلي "اهـ. وهنا تناقضان ظاهران للمالكي، وتناقضاته كثيرة: أحدهما: إن كان الحنابلة يضعفون البيهقي - رحمه الله - كما ذكر المالكي، فكيف يكون الشيخ صالح الفوزان المعاصر، وما زال حيا- أطال الله في عمره، ومتعنا به ممتعا بصحته وعافيته- أول من ضعفه- كما

زعم سابقا- ولم يسبق إلى ذلك؟! فهل الحنابلة الذين يعنيهم المالكي، أتوا بعد الفوزان؟ ! الثاني: أن غيرته على البيهقي رحمه الله غيرة كاذبة، فكيف ينكر تضعيفه، وهو يكذب جماعة غيره كلهم من أئمة الدين، ويشكك في نقلهم: كعبد الله بن الإمام أحمد، وأبي بكر المروذي، وابن أبي يعلى، وابن بطة، والبربهاري، وغيرهم؟!! بل كيف ينكر الكذب ويستعظمه، وما بنى كتابه هذا إلا عليه؟!

فصل في رميه الحنابلة بأن فيهم ضعفاء ووضاعين أحق بالتجريح من غيرهم

[فصل في رميه الحنابلة بأن فيهم ضعفاء ووضاعين أحق بالتجريح من غيرهم] فصل في رميه الحنابلة بأن فيهم ضعفاء ووضاعين، أحق بالتجريح من غيرهم، وإبطال زعمه، والرد عليه قال المالكي ص (132-133) : (مع المضعفين لهؤلاء من الحنابلة من حيث الجملة أضعف في الرواية من خصومهم. بل إن بعض أئمتهم كانوا يضعون الأحاديث، ويغيرون في الأسانيد والمتون لخدمة المذهب، كما كان يفعل ابن بطة الحنبلي، وهو من كبار علماء الحنابلة في العقيدة، قال ابن حجر: " وقفت لابن بطة على أمر استعظمته، واقشعر جلدي ". ثم ذكر أثرا موضوعا عن ابن مسعود وهو أثر تكليم الله لموسى، وعليه جبة صوف، وعمامة (¬1) صوف. ثم ذكر ما يدل على أن ابن بطة، غير في أسماء رجال القصة، حتى يكون إسنادها صحيحا. وكان كثير من الحنابلة يكذبون على أحمد بن حنبل، ويسيئون لمنهجه وسمعته، ولذلك قال أحد العلماء: إمامان جليلان، ابتليا بأصحاب سوء، جعفر الصادق، وأحمد بن حنبل) اهـ كلام المالكي. ¬

(¬1) هكذا عند المالكي، وهو عند الحافظ ابن حجر بلفظ: "كساء" بدل "عمامة".

والجواب من وجوه أربعة: أحدها: أن الحديث الذي عابه المالكي على الإمام ابن بطة رحمه الله (ت 387 هـ) ، واتهمه بوضعه، وتغيير إسناده ليظهر صحته حديث قد رواه مع ابن بطة جماعة من الحفاظ والعلماء غيره. فقد رواه ابن بطة: عن إسماعيل بن محمد الصفار، عن الحسن بن عرفة، عن خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلم الله تعالى موسى يوم كلمه، وعليه جبة صوف، وكساء صوف» الحديث. وقد رواه البيهقي في " الأسماء والصفات " (ص 252) عن جماعة من شيوخه عن إسماعيل بن محمد الصفار - وهو شيخ ابن بطة - به. وهذا الحديث كذلك، في " جزء الحسن بن عرفة العبدي (ت 257 هـ) " المشهور ص (63) بسنده الذي ذكره ابن بطة دون تغيير ولا تبديل. وهو جزء متواتر عن الحسن بن عرفة، قبل أن يخلق ابن بطة. كما رواه الترمذي (1734) في "سننه" عن علي بن حجر عن خلف بن خليفة به.

وهذا الحديث: حديث معل بحميد بن علي الأعرج، قال ابن حبان فيه: "منكر الحديث جدا، يروي عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود، بنسخة كأنها موضوعة، لا يحتج بخبره إذا انفرد". ومع هذا: فقد رواه الحاكم في " مستدركه على الصحيحين " (2 / 379) من طريق خلف بن خليفة به، وظن حميد بن علي الأعرج راويه الضعيف: حميد بن قيس الأعرج الثقة، فصححه وقال: (هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه) . فإن كان أحد مستحقا للإنكار والتهمة بتغيير رجال إسناده، فالحاكم - وحاشاه- فقد جمع إلى روايته له: وهما في اسم أحد رجاله، ثم تصحيحه له. وما فهمه المالكي من التشبيه فيه: غير صحيح، فإن الضمير في قوله: "وعليه جبة صوف " إلخ، عائد على (موسى) عليه السلام، ليس على (الله) جل وعلا. ومن ذكر هذا الحديث، في كتب الاعتقاد، والأسماء والصفات- كما فعل الإمامان أبو عبد الله ابن بطة، وأبو بكر البيهقي - لم يرد منه إثبات لبس الجبة والصوف لله جل وعلا، وتنزه عن ذلك. وإنما مراده إثبات صفة الكلام لله، كما هي ظاهرة في الحديث، وهذه صفة قد ثبتت بالقرآن، والسنة المتواترة، والإجماع.

الوجه الثاني: أن ابن بطة (ت 387 هـ) رحمه الله إمام كبير بريء مما اختلقه المالكي في حقه، قال مؤرخ الإسلام أبو عبد الله الذهبي في " سير أعلام النبلاء " في ترجمته (16 / 529) : (ابن بطة: الإمام، القدوة، العابد، الفقيه، المحدث، شيخ العراق، أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العكبري الحنبلي) . قال الحافظ الكبير رشيد الدين العطار (ت 662 هـ) في كتابه " نزهة الناظر، في ذكر من حدث عن أبي القاسم البغوي من الحفاظ والأكابر " (ص 92) في ابن بطة بعد أن ذكره من الحفاظ والأكابر الآخذين عن البغوي: (فقيه، جليل، زاهد، مصنف، حدث بـ "معجم البغوي " عنه، لكن تكلم فيه الخطيب وغيره) اهـ. ومع إمامة ابن بطة في الدين كان في حفظه شيء، قال الذهبي في " السير " (16 / 530) : (لابن بطة مع فضله أوهام وغلط) . ونقل الذهبي عن الخطيب قوله: (حدثني أبو حامد الدلوي قال: "لما رجع ابن بطة من الرحلة، لازم بيته أربعين سنة لم ير في سوق، ولا رؤي مفطرا إلا في عيد، وكان أمارا بالمعروف، لم يبلغه خبر منكر إلا غيره ") اهـ. الوجه الثالث: أن المالكي عمى مصدر نقله عن الحافظ ابن حجر - عمدا- لئلا يوقف على حقيقة كلام الحافظ ابن حجر.

وكلام الحافظ موجود في كتابه "لسان الميزان " (4 / 131 - 132) في ترجمته لابن بطة، إلا أن المالكي حرفه وبتره، وكان مما قال الحافظ ابن حجر في ابن بطة هناك، وتعمد المالكي حذفه: (إمام، لكنه ذو أوهام) . ثم قال: (ومع قلة إتقان ابن بطة في الرواية، كان إماما في السنة، إماما في الفقه، صاحب أحوال، وإجابة دعوة رضي الله عنه) اهـ. ثم نقل الحافظ عن أبي الفتح القواس قوله: (ذكرت لأبي سعيد الإسماعيلي، ابن بطة، وعلمه، وزهده. فخرج إليه، فلما عاد قال لي: "هو فوق الوصف") اهـ. الوجه الرابع: أنا لا نسلم أن أحدا من علماء الحنابلة وأئمتهم، كان يكذب على الإمام أحمد رحمهم الله جميعا. وقد رمى المالكي، ابن بطة بالكذب، وبينا كذبه هو، وأن ابن بطة برئ من ذلك. ونحن نطالبه هنا، بمثال واحد صادق غير مكذوب، لعالم حنبلي كذب على الإمام أحمد، وما كذبات ذلك الكاذب؟!! وأني للمالكي بذلك؟!!

فصل في رميه كتب العقائد السلفية بالتناقض وإبطال زعمه

[فصل في رميه كتب العقائد السلفية بالتناقض وإبطال زعمه] فصل في رميه كتب العقائد السلفية بالتناقض، وإبطال زعمه قال المالكي ص (134) ، تحت عنوان "التناقض": (التناقض سمة رئيسة من سمات كتب العقائد، فتجد الشيء وضده، فتجدهم يأمرون بالاهتمام بالقرآن والسنة ووجوب اتباع الأثر، ثم يتركون الآيات الصريحة، والأحاديث المتفق عليها، إلى موضوعات، وأكاذيب، وإسرائيليات، لا تصح لا سندا، ولا متنا) اهـ كلام المالكي. وأقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] ومن نظر في كتب عقائد أهل السنة حنابلة وغيرهم وقف على صدق التزامهم بالقرآن والسنة، بفهم السلف الصالح رحمهم الله. وكيف يستدلون بالموضوعات والمكذوبات ونحوها، وهم صيارفة الحديث ونقاده؟! وما رووه- هم - وغيرهم من أحاديث معلة، فقد قدمنا سبب روايتهم لها، وبينا حجتهم في ذلك، وأن مقصدهم جمع ما في الباب، وإيقاف الناس على أسانيد تلك الأحاديث بعللها، ولم يلتزموا الصحة، فكيف يلزمون بها؟!

وذكرنا كذلك في موضع تقدم، أن هذا أمر مستقر، فعله حفاظ الإسلام حنابلة وغيرهم. وقد كانت تلك الأحاديث المعلة تروى، في عصر التابعين، ثم تابعيهم ومن بعدهم، ولم يكن حينذاك أحمد ولا أصحابه، فكيف يناط هذا بالحنابلة، ويترك غيرهم؟! وممن كان يرويها البيهقي في " الأسماء والصفات " وغيره، والحاكم في " المستدرك " وهما شافعيان، وغيرهما. أما أخبار بني إسرائيل فمان ذكر أحد الأئمة شيئا من أخبارهم، فإنهم لم يعتمدوها قط، وما رووها إلا جمعا لما في الباب، واستئناسا بها على أصل مستقر في الكتاب والسنة. ولهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتباعهم، وتابعيهم أسوة حسنة. وقد أذن لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم إذ قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار» [حم (2 / 159 و 202 و 214) خ (3461) ت (2669) عن عبد الله بن عمرو بن العاص] . ولما أتى حبر يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد، إنا نجد في التوراة أن الله عز وجل يضع السماوات على إصبع، والأراضين على إصبع» . . . " الحديث، تبسم النبي صلى الله عليه وسلم للحبر مقرا له بما قال. والعجب من هذا الغيور كيف يحمل على عقائد الحنابلة الذين يدعون اعتماد القرآن والسنة واتباع الأثر باعترافه هو، ويترك أئمة

الضلال والبدعة، الذين يأمرون بتجنبها ويزعمون: أن ظاهر الوحيين كفر، عياذا بالله. . وأن الواجب تحكيم عقولهم المعصومة بميزان العقول "المنطق" في الوحيين، لا جعله محكوما بهما. ويخعلون أصل دينهم، ومرجع عقائدهم إلى علم الكلام المذموم، وسفسطة الفلاسفة.

فصل في رميه الحنابلة بالغلو في التكفير والإطراء مع تحذيرهم منهما والرد عليه

[فصل في رميه الحنابلة بالغلو في التكفير والإطراء مع تحذيرهم منهما والرد عليه] فصل في رميه الحنابلة بالغلو في التكفير والإطراء، مع تحذيرهم منهما، والرد عليه قال المالكي ص (134) : (وتجدهم يحذرون من الغلو، مع غلوهم في التكفير، وغلوهم في الثناء على علمائهم) اهـ كلام المالكي. وأقول: ما مثال ذلك؟ وهل انفرد الحنابلة يوما بتكفير أحد لم يكفره السلف وأهل السنة؟! وإذا كان الحنابلة انفردوا بتكفير أحد، فمن هو؟! وما معتقده الذي كفره الحنابلة لأجله ولم يصيبوا؟!! وقد ذكرت مرارا أن المالكي يلقي قوله دون دليل أو بينة أو مثال، وكأن كلامه قد أصبح دليلا يستدل به لا له، وكلامه هنا من هذا الباب. وكان مما عاب المالكي به الحنابلة: تكفيرهم جملة من فرق المسلمين، وذكر منها المعتزلة، والرافضة. وقدمت أن هاتين الطائفتين ومن وافقهما: مجمعون على جملة اعتقادات أجمع السلف على كفر فاعل آحادها، فكيف بها مجتمعة؟!!

ومثلت لذلك بقولهم بخلق القرآن، وإنكار العلو، وإنكار الصفات، ونفي رؤية الله عز وجل في الآخرة، وغير ذلك. وذكرت في "المقدمة الثالثة" أول الكتاب: إجماع السلف الصالح قاطبة على كفر الجهمية، القائلين بخلق القرآن وكفر كل من قال بذلك. ومن أسلفنا داخلون في ذلك بلا ريب، فلم ينفرد الحنابلة بتكفير من ذكر، إن كان زعم إنفرادهم به. وقد رمى المالكي الحنابلة بفريته السابقة ظلما، مع سلامتهم منها، وترك الرافضة وهم أوقع الناس فيها، فكفروا الشيخين أبا بكر، وعمر أفضل الأمة بعد نبيها وأتمها إيمانا، بل قد كفروا غالب الصحابة وفسقوا أكثر الباقين، إلا عليا وجماعة قليلين حتى آل البيت، الذين يزعمون حبهم وتوليهم لم يسلموا من هذا، فأدخلوا عبد الله، وعبيد الله ابني العباس بن عبد المطلب في ذلك، ونالوا من الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه. فأين المالكي عنهم؟!! يدافع ويذب عن المعتزلة والقدرية والرافضة أن لا يكفروا بالحق؟!! ويتركهم- هم- وقد كفروا الصحابة بالظلم؟!! بل قد كفروا الأمة كلها عداهم.

فصل في رميه أهل الفرق جميعا بأنهم متناقضون يأمرون أتباعهم باتباع السواد الأعظم عند تمكنهم

[فصل في رميه أهل الفرق جميعا بأنهم متناقضون يأمرون أتباعهم باتباع السواد الأعظم عند تمكنهم] فصل في رميه أهل الفرق جميعا بأنهم متناقضون يأمرون أتباعهم باتباع السواد الأعظم عند تمكنهم، فإذا كانوا قلة قالوا "طوبى للغرباء"!! وبيان مراده، والرد عليه قال المالكي ص (134) : (وتجد هذه الفرق والطوائف عند سيطرتها وكثرة أتباعها، تأمر أتباعها باتباع السواد الأعظم، وعدم مخالفة الأمة. فإذا انتصر خصومهم، وأصبحوا سوادا أعظم، يأتي العقائديون ويقولون: "طوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس"، فالجماعة ما وافق الحق، ولو كنت وحدك.) اهـ. والجواب من ثلاثة وجوه: أحدها: أن السواد الأعظم، يراد به أحد أمرين كلام الأئمة: . إما لزوم جماعة المسلمين، وإمامهم وإن كان جائرا ظالما، وعدم الخروج عليه، وشق عصا الطاعة. . وإما الإجماع. فالأول: لا يخالف فيه إلا الخوارج. والثاني: لا يخالف فيه إلا صاحب قول منبوذ، شذ به عن الأمة، فخشي احتجاجهم عليه بالإجماع فأبطله، وقد قال سبحانه:

{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] . ولم يستدل أهل السنة حنابلة وغيرهم على الحق – قط – بكثرة أتباعه، كيف لا؟! وهم يتلون قول الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] وقوله جل وعلا: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] . ولو اطرد هذا؛ لبطل دين الإسلام برمته، فإن الكفار والمشركين أكثر من المؤمنين، بل قد ثبت في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك. فيقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين. فعنده يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد " قالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك الواحد؟ قال: "أبشروا، فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألفا ".

ثم قال: والذي نفسي بيده، إني أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة". فكبرنا، فقال: "أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة". فكبرنا، فقال: "أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة". فكبرنا، فقال: "ما أنتم في الناس، إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء، في جلد ثور أسود» [خ (3348) و (6530) ، م (222) ] . الوجه الثاني: متى كان الحنابلة أكثر من بقية أتباع المذاهب؟! وأي عصر ذاك؟! حتى أمر الحنابلة باتباع السواد الأعظم لذلك!! وما زال الحنابلة قليلي العدد، من عهد أحمد إلى يومنا هذا، وإن كانوا في معتقدهم على معتقد سلف الأمة وخيارها. وقد كانوا في صدر الإسلام الأول في عهد الصحابة، والتابعين، وأتباعهم سوادا أعظم. فأئمة الهدى المتقدمون، هم سلف الحنابلة، لهذا إن أمر الحنابلة باتباع أئمة الإسلام قبل أحمد، لا يأمرونهم باتباع مذهب الإمام أحمد وأصحابه، وإن كانوا جميعا على معتقد واحد، إلا أن المتبوع أولى بالاتباع من التابع. الوجه الثالث: أن الآمر بلزوم السواد الأعظم- على المراد الأول- هو النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث حذيفة رضي الله عنه، وفيه قال

حذيفة: ( «فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدرك الموت وأنت على ذلك» رواه البخاري، ومسلم [خ (8333) و (6557) ، م (3434] . وهو صلى الله عليه وسلم قائل: «إن الدين بدأ غريبا، ويرجع غريبا، فطوبي للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس من بعدي من سنتي» رواه عنه الترمذي في "جامعه" (2630) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح ". فإن كان ثمة تناقضن في الأمرين- كما يزعم المالكي -: فمرده للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي. وهل يبقى لقائل هذا إسلام وإيمان؟! عياذا بالله.

فصل في رميه للحنابلة بالتناقض في أمرهم بالوقوف عند حدود الشرع وعدم الزيادة عليه

[فصل في رميه للحنابلة بالتناقض في أمرهم بالوقوف عند حدود الشرع وعدم الزيادة عليه] فصل في رميه للحنابلة بالتناقض في أمرهم بالوقوف عند حدود الشرع، وعدم الزيادة عليه، ثم يزيدون هم أمورا في المعتقد ليست فيه، والرد عليه قال المالكي ص (134) : (وتراهم يأمرون بالوقوف عند حدود النصوص الشرعية، وعدم الزيادة عليها، بينما هم يزيدون كثيرا من العقائد، ليست في الكتاب ولا السنة) اهـ كلام المالكي. وأقول: أين مثال ذلك ودليله؟! أأعياه التمثيل له، ولو بمثال؟! وإن كان يعني بهذه الزيادات التي زادها الحنابلة، وليست في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما ذكره سابقا من وجوب الإيمان بالدجال، والمهدي، وحفظ حق الصحابة، والإمساك عفا شجر بينهم ونحوها، فهذه أمور قد أثبتها الشرع في الكتاب والسنة الصحيحة والمتواترة، كما أن الحنابلة لم ينفردوا بإيجاب الإيمان والأخذ بها، بل شاركهم كثير غيرهم، من أهل العلم والسنة، كما تقدم.

فصل في رميه للحنابلة بالتناقض في تكفير الخصوم

[فصل في رميه للحنابلة بالتناقض في تكفير الخصوم] فصل في رميه للحنابلة بالتناقض في تكفير الخصوم، فإذا كانوا ضعفاء حرموه وجعلوه من عقائد الخوارج، وإذا قووا كفروا المسلمين، والرد عليه قال المالكي ص (134) : (وتراهم يعظمون تكفير المسلم، وأنه من عقائد الخوارج، وأنه لا يجوز. وهذا الورع عن التكفير، إنما هو عند ضعفهم!! فإذا قووا، لا يرقبون في مسلم إلا ولا ذمة) اهـ. والجواب من وجهين: أحدهما: أن تكفير من ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام المعلومة المقررة: أصل من أصول الإسلام، أجمع على صحته- من حيث الأصل- المسلمون جميعا، باختلاف مذاهبهم، وتعدد طرائقهم، وليس من عقائد الخوارج، ولم ينفرد الخوارج بذلك، وبينا ذلك في "المقدمة الأولى" أول الكتاب. أما ما انفرد به الخوارج، وإخوانهم المعتزلة والرافضة، هو تكفير المؤمنين، بالمعاصي والكبائر التي لا يكفر فاعلها، أو جعله- لأجلها- في منزلة بين منزلتين، وربما كفروهم بطاعات عظيمة ليست بمعاص، كتكفير الرافضة لأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وتكفير الخوارج لعثمان

وعلي رضي الله عنهما، وتكفير المعتزلة وأضرابهم، لمعتقدي اعتقاد السلف الصالح رضي الله عنهم، وفي هذا يقول الإمام الكبير أبو عبد الله ابن قيم الجوزية في "الكافية الشافية": وخصومنا قد كفرونا بالذي ... هو غاية التوحيد والإيمان الوجه الثاني: أن الحنابلة وأهل السنة جميعا، قد كانوا ضعفاء، تسلطت عليهم المعتزلة في عهد الخليفة العباسي المأمون، وأعملوا سيوفهم في رقابهم، وجلدوا ظهورهم، وسجنوهم، وآذوهم فعظم بلاؤهم: ولم يمنعهم ذلك أبدا، أن يكفروا المعتزلة، وجميع من قال بقولها بخلق القرآن. بل قد كفر الإمام أحمد رضي الله عنه، بعض مجادليه من المعتزلة، في مجلس المعتصم، وأمام نظره وسمعه. وتعاقب على تعذيب الإمام أحمد رضي الله عنه، ثلاثة خلفاء من بني العباس، وطال عذابه، وطال سجنه، فلم يختلف قوله الأول عن قوله الأخير، ولم يزده ذلك إلا ثباتا، ورفعة في الدارين. فأي قوة كانت لأحمد حينذاك؟! وأي ظهور؟!! وكذلك كان حال أتباعه من معاصريه، ومن بعدهم إلى "شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيرهم، كانوا ضعفاء تسلط المبتدعة عليهم بالسلاطين، وسجنوا وأوذوا، وحصل لهم

ما هو معروف معلوم، فما حملهم هذا قط، على التبديل والتغيير، كما كان أتباع الأنبياء والرسل، قال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] .

فصل في رميه للحنابلة بالتناقض في نهيهم عن الاشتغال بما لم يشتغل به النبي صلى الله عليه وسلم

[فصل في رميه للحنابلة بالتناقض في نهيهم عن الاشتغال بما لم يشتغل به النبي صلى الله عليه وسلم] فصل في رميه للحنابلة بالتناقض في نهيهم عن الاشتغال بما لم يشتغل به النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يشتغلون بمضايق الاعتقادات، مما لم تعرف إلا عنهم كما يزعم، والرد عليه قال المالكي ص (134) : (وتراهم ينهون عن الاشتغال بأمر لم يشتغل به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، فإذا سنحت لهم الفرصة، أمروا الناس بمضايق من الاعتقادات، لم تخطر على بال صحابي، ولا تابعي مع مسميات وألقاب سموها هم وآباؤهم، ما أنزل الله بها من سلطان) اهـ. والجواب من وجهين: أحدهما: مطالبة المالكي بمثال واحد فحسب، على صدق دعواه! وقد ذكرت في مواضع كثيرة، وسيأتي كثير أن المالكي يلقي اتهاماته الكاذبة دون دليل ولا بينة ولا حتى مثال، كما هو حال كلامه هنا؛ لعجزه عنه، ولو كذبا وتلبيسا. الثاني: أن الحنابلة وأهل السنة عامة، شغلهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما دار في فلكهما، لم يدخلوا في منطق ولا فلسفة، بل يرون العلم في جهلهما، والجهل في علمهما، فمن أين تدخل عليهم ألفاظ ليست في الكتاب والسنة، وتخالفهما؟!

فصل في رميه الحنابلة بالتشدد في نقد وتضعيف الرجال المخالفين لهم

[فصل في رميه الحنابلة بالتشدد في نقد وتضعيف الرجال المخالفين لهم] فصل في رميه الحنابلة بالتشدد في نقد وتضعيف الرجال المخالفين لهم، وإن كانوا أئمة، والمبالغة في توثيق أتباعهم، وإن كانوا ضعفاء، والرد عليه قال المالكي ص (134) : (وتراهم يتشددون في نقد وتضعيف الرجال الذين لا يوافقونهم في شواذ العقائد، حتى وصل ذمهم للبخاري، ومسلم، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والكرابيسي، وابن الجعد، وأبي حنيفة، والحنفية. فضلا عن تضعيف سائر الشيعة، متمسكين بعبارة نقلوها عن الشافعي في تكذيب الخطابية من الروافض، لأنهم يستحلون الكذب، فجعلها هؤلاء في كل الشيعة، ثقاتهم وضعفائهم!! بينما يبالغون في توثيق أتباعهم، ولو كانوا ضعفاء، أو خفيفي الضبط، كما فعلوا في توثيق ابن بطة مثلا) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: كذب هذه المزاعم، كبقية مزاعمه السابقة، والآتية. الثاني: مطالبته بذكر حنبلي واحد فقط ذم البخاري، أو مسلما، أو يحيى بن معين، أو علي بن المديني، ولن يجد. وهؤلاء عند الحنابلة وأهل السنة حفاظ الإسلام وأعلامه الأعلام.

قال الإمام أحمد في البخاري: "ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل البخاري " وعد أحمد الحفاظ أربعة، وذكره منهم. أما يحيى بن معين: فقال فيه أحمد: "أعلمنا بالرجال: يحيى بن معين، وكل حديث لا يعرفه يحيى بن معين، فليس بحديث ". وأما ابن المديني: فلم يكن أحمد يسميه، بل كان يكنيه تبجيلا له وتعظيما، وكان يقول فيه: "أحفظنا للطوال علي ". أما علي بن الجعد: فثقة، وثقه يحيى بن معين، ولم يضعفه أحمد، ولا الحنابلة، وإنما نهى الإمام أحمد عن الجلوس إليه، والأخذ عنه، لتناوله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجاهرته بذلك، فخشي أحمد أن يتأثر به من جلس إليه، أو أن يظهر أمره، ويفشو شره، إذا كثر سواده. أما الكرابيسي: ففقيه، ليس عنده حديث، حتى يوثق أو يضعف، وكان صاحب بدعة. وأما أبو حنيفة رحمه الله: فإمام، فقية، كبير، ذا رأي، ولم يعتن بالحديث كثيرا لهذا كان مقلا، وقد تكلم بعض الأئمة في حفظه، لذا لم يحتج به أهل الصحاح، لا الشيخان، ولا غيرهما. إلا أن الترمذي روى له في "العلل" موضعا واحدا من قوله، لا من منقوله.

واختلف في حديث رواه النسائي في (سننه) ذكر فيه النعمان، فقال بعضهم: إنه أراد أبا حنيفة النعمان، وقال آخرون: لا، لم يرده، وأراد غيره. الوجه الثالث: أن الحنابلة لم يضعفوا ثقات الشيعة كما زعم المالكي، بل قد وثق الإمام أحمد جماعة منهم، مع علمه بتشيعهم، وكذلك أصحابه رحمهم الله، منهم: . سليمان بن قزم بن معاذ الضبي، قال فيه أحمد: " ما أرى به بأسا، لكنه يفرط في التشيع ". . علي بن بذيمة الحراني، قال فيه أحمد: "صالح الحديث، لكنه رأس في التشيع ". . سالم بن أبي حفصة العجلي، قال فيه أحمد: " ليس به بأسا، إلا أنه كان شيعيا". . علي بن المبارك الهنائي، وثقه أحمد وقال: "قد كان يرمى بالتشيع ". . فطر بن خليفة، قال فيه أحمد: "صالح الحديث، خشبي مفرط". الوجه الرابع: إن الحنابلة وأهل السنة عامة، إن وثقوا أحدا أو ضعفوه في الرواية، فمرد ذاك إلى حفظه، وضبطه، وصدقه، وأمانته، لا لكونه حنبليا أو غير حنبلي. وقد قدمت جملة ممن وثقهم الإمام أحمد وكانوا مبتدعة، وآخرين ضعفهم، وكانوا من أئمة السنة، كرواد بن الجراح، ونوح بن أبي مريم، وحماد بن سلمة وغيرهم.

أما تمثيل المالكي لمزاعمه السابقة، بابن بطة رحمه الله: فباطل، فإن ابن بطة - كما قدمنا - إمام كبير صاحب سنة واتباع، وفقه عظيم، أثنى عليه الأئمة لذلك، إلا أنهم لينوه- رحمه الله، ورحمهم- في حفظه. وعلم الرجل، واتباعه، وفقهه، وورعه شيء، وحفظه، وإتقانه فيما يروي شيء آخر. ومن خلط بينهما: لم يخف فساد رأيه. أما رميه لابن بطة بالكذب فحاشاه، وقد بينا فساده في فصل تقدم (ص 256 - 260) ، وأنه أجل من أن يدفع ذلك عنه رحمه الله.

فصل في رميه للحنابلة بأنهم لا يمدحون السلطان إلا إذا نصرهم

[فصل في رميه للحنابلة بأنهم لا يمدحون السلطان إلا إذا نصرهم] فصل في رميه للحنابلة بأنهم لا يمدحون السلطان إلا إذا نصرهم، ولو كان باغيا، أما إذا آذى أحدهم، فيذمونه، ولو كان عادلا، وإبطال زعمه قال المالكي ص (134 - 135) : (وتراهم يذمون السلطان إذا آذى أحد أتباعهم، وأن هذا سلطان سوء وينسون كل فضائله، كما فعلوا بالمأمون، وكان من أعدل ملوك بني العباس، وكثرهم علما. فماذا جاء سلطان آخر أظهر نصرتهم، يمدحونه بمبالغة، ولو كان مبتدعا ظالما كالمتوكل، بل ويبدعون ويضللون من يخالفه، ويرددون قواعد طاعة ولاة الأمور، وأن من لم يدع للإمام، فهو صاحب بدعة.) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن المالكي يلزمه ما يلزمنا، فإن كنا نمدح المتوكل، ونذم المأمون للمذهب، فهو قد مدح المأمون، وذم المتوكل للمذهب أيضا! غير أن مدحنا للمتوكل: كان لنصرته السنة، وإظهاره لها. وذمنا للمأمون: كان لابتداعه في الدين، وإدخاله علوم الفلاسفة الزنادقة على المسلمين، وحمله الناس على الكفر، وهو القول بخلق القرآن، وقتله أئمة الإسلام وحفاظه، وجلدهم وسجنهم، حين امتنعوا

عن طاعته في الكفر. أما مدح المالكي، للمأمون: فلفجوره وضلاله وبدعته. وذمه للمتوكل، فلاتباعه السنة ونصرتها، وقمع مخالفيها، وشدته على الرافضة. الثاني: أن من المستقر عند أهل السنة جميعا- والحنابلة منهم-: السمع والطاعة لمن ولي أمر المسلمين، وعدم الخروج عليه، إلا إذا أتى بكفر بواح عندنا فيه من الله برهان، كما جاءت به السنة، وزال المانع عنه، بجهل أو شبهة، وكان مقدورا على ذلك، ولا يتسبب خروجهم عليه، بفتنة أعظم مما خروجوا لأجلها. وهذا معلوم من مذهبهم، سواء كان الإمام محبا لهم مكرما، أم مبغضا لهم مناوئا. لهذا، لم يأمر الإمام أحمد بالخروج على خلفاء بني العباس الذين سجنوه، وجلدوه، وحصل منهم له ما هو معلوم. ولو كان سمعهم وطاعتهم للأئمة، معلقا بحظهم من الدنيا، أو بميل السلطان لهم ونحوه، لكان المأمون، والمعتصم، والواثق أولى الأئمة بالخروج والقتال وخلع البيعة. وكذلك كان حال الحنابلة وأهل السنة جميعا، وحال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ومن سجن معه من تلاميذه مع سلاطين عصورهم، المناوئين لهم والساجنين، لم يدعوا أحد منهم للخروج على السلطان،

أو منابذته بالسلاح، مع كثرة أتباعهم، ومحبيهم من عامة الناس وخاصتهم، وما أمر جنازة الإمام أحمد، ومن خرج فيها مشيعا باكيا، وجنازة شيخ الإسلام ابن تيمية، بخاف على أحد. الثالث: أن الخليفة العباسي المأمون: لم يكن- كما زعم المالكي - ذا عدل وعلم جم، وإنما كان باغيا جائرا، سفك دماء العلماء المعصومة، وفتن الأمة، وأدخل الفلسفة في علوم المسلمين، بعد أن كانت سالمة منها، فضل وأضل. فإن كان ظلم الحجاج وسيفه، غاية يضرب بها المثل في الظلم والشر، فلقد كان المأمون أطغى منه وأشر. وكيف يقاس الحجاج، بالمأمون، وكان سيف الحجاج صلتا على الخوارج، والبغاة، وفي الجهاد، إلا أنه نال جماعات من الصالحين فاختلطت فيه دماء زكية بأخرى ردية. أما سيف المأمون فقد عصم منه كل زنديق ومبطل، ولم يرق إلا دماء علماء الأئمة، وكبار الأئمة؟! وما نقم المأمون منهم، إلا ما نقمه من هم على شاكلته من المؤمنين، الذين قال فيهم جل وعلا: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] . قال الإمام الحافظ ابن كثير الشافعي، في "البداية والنهاية" (15 / 302) في ترجمته: (وقد كان فيه تشيع واعتزال، وجهل بالسنة الصحيحة) .

ثم قال: (وكان على مذهب الاعتزال؛ لأنه اجتمع بجماعة، منهم بشر بن غياث المريسي فخدعوه، وأخذ عنهم هذا المذهب الباطل. وكان يحب العلم، ولم يكن له بصيرة نافذة فيه، فدخل عليه بسبب ذلك الداخل، وراج عنده الباطل ودعا إليه، وحمل الناس عليه قهرا، وذلك في آخر أيامه، وانقضاء دولته) اهـ كلامه رحمه الله. فعدل المأمون الذي أراده المالكي: هو سفك دماء العلماء الربانيين، الذين قيدوا من مشارق الأرض ومغاربها، ليقولوا كلمة الكفر، أو تضرب أعناقهم، و! ستباح حرمة دمائهم، ظلما وبغيا. أما علم المأمون الذي أراده المالكي: فمجاهرته بالرفض والاعتزال، والتصريح بخلق القرآن، بل حمل الناس عليه بالسيف. الوجه الرابع: أن الخليفة العباسي المتوكل، الذي جعله المالكي (مبتدعا ظالما) : كان إمام هدى، وسنة، وصلاح، وعدل، وخير، قال الحافظ خليفة بن خياط: (استخلف المتوكل فأظهر السنة، وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة، وبسط السنة، ونصر أهلها) " السير " للذهبي (12 / 32) . وقال الذهبي رحمه الله في "سير أعلام النبلاء" أيضا (21 / 34) : (وفي سنة 234 هـ أظهر المتوكل السنة، وزجر عن القول بخلق القرآن،

وكتب بذلك إلى الأمصار، واستقدم المحدثين إلى سامراء، وأجزل صلاتهم، ورووا أحاديث الرؤية والصفات) اهـ. قلت: وكانت مجالس الحديث تعقد في المساجد، ويحضرها عشرات الآلاف. ثم قال الذهبي (12 / 36) : (وغضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد، وصادره وسجن أصحابه، وحمل ستة عشر ألف درهم، وافتقر هو وآله) اهـ. ثم أطلق المتوكل رحمه الله، من تبقى في السجون ممن امتنع من القول بخلق القران، وأنزلت عظام الإمام الحافظ الكبير أحمد بن نصر الخزاعي الشهيد، ودفنها أقاربه. وذكر ابن كثير في ترجمته في "البداية والنهاية" (10 / 387) : أن المتوكل قال يوما لبعضهم: "إن الخلفاء تغضب على الرعية لتطيعها، وإني ألين لهم ليحبوني ويطيعوني ". وقال ابن كثير أيضا رحمه الله: (وكان المتوكل محببا إلى رعيته، قائما في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة لأنه نصر الحق، ورده عليهم، حتى رجعوا إلى الدين، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية. وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها، فرحمه الله.

وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور، قال: " فقلت: المتوكل؟ ! قال: المتوكل. قلت: فما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بقليل من السنة أحييتها". وروى الخطيب عن صالح بن أحمد: أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل، كأن رجلا يصعد به إلى السماء، وقائلا يقول: ملك يقاد إلى مليك عادل ... متفضل في العفو ليس بجائر وروى عن عمرو بن شيبان الحلبي، قال: "رأيت ليلة المتوكل قائلا يقول: يا نائم العين أوطان جثمان ... أفض دموعك يا عمرو بن شيبان أما ترى الفئة الأرجاس ما فعلوا ... بالهاشمي , وبالفتح بن خاقان وافى إلى الله مظلوما فضج له ... أهل السماوات من مثنى ووحدان

وسوف يأتيكم من بعده فتن ... توقعوها لها شأن من الشان فابكوا على جعفر وابكوا خليفتكم ... فقد بكاه جميع الإنس والجان قال: فلما أصبحت، أخبرت الناس برؤياي، فجاء نعي المتوكل أنه قد قتل في تلك الليلة. قال: ثم رأيته بعد هذا بشهر، وهو واقف بين يدي الله عز وجل، فقلت: ما فعل بك ربك؟ فقال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بقليل من السنة أحييتها. قلت: فما تصنع ههنا؟ قال: أنتظر ابني محمدا، أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم " اهـ كلام الحافظ ابن كثير. وقد رواها أيضا الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى عمرو بن شيبان. وقال السيوطي في ترجمة المتوكل رحمهما الله، في "تاريخ الخلفاء" ص (391) : (أظهر الميل إلى السنة ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب

بذلك إلى الآفاق) . ثم قال: (وتوفر دعاء الخلق للمتوكل، وبالغوا في الثناء عليه، والتعظيم له، حتى قال قائلهم: "الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتل أهل الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم، والمتوكل في إحياء السنة، وإماتة التجهم ") اهـ كلام السيوطي. قلت: عنى السيوطي بقائلهم في كلامه السابق: قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي، فقد ذكر الذهبي مقولته هذه في "السير" (10 / 32) وعزاها إليه. ثم قال السيوطي ص (391) : (وقال أبو بكر ابن الخبازة في ذلك: وبعد فإن السنة اليوم أصبحت ... معززة حتى كأن لم تذلل تصول وتسطو إذ أقيم منارها ... وحط منار الإفك والزور من عل وولى أخو الإبداع في الدين هاربا ... إلى النار يهوي محبرا غير مقبل شفى الله منهم بالخليفة جعفر ... خليفته ذي السنة المتوكل خليفة ربي , وابن عم نبيه ... وخير بني العباس من منهم ولي

أطال لنا رب العالمين بقاءه ... سليما من الأهوال غير مبدل وبوأه للنصر للدين جنة ... يجاور في روضاتها خير مرسل وكان مما نقمه الرافضة المجوس على المتوكل - رحمه الله رحمة واسعة - مع ما سبق من نصرة السنة، وقمع المعتزلة: هدم المتوكل الدور والمشاهد التي أقامتها الرافضة عند الحسين بن علي رضي الله عنهما، لإقامة البدع والشنائع فيها. هدمها - رحمه الله - ممتثلا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ولا تدع قبرا مشرفا إلا سويته» رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1 / 129) ومسلم في "صحيحه" (969) وأبو داوود (3218) والترمذي (1049) والنسائي (2031) وكان ذلك سنة (236 هـ) . فلما فعل ذلك: ضجت الرافضة في العراق، ولهجت بسب المتوكل وشتمه وما زالوا إلى أن آل الأمر إلى صغير أفراخهم (المالكي) ، فتابع أجداده في ذلك، ورمى المتوكل رحمه الله بما قد رماه سلفه به. اللهم ارحم المتوكل رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناتك، وأعظم له أجره، واغفر له ذنبه، وارفع درجاته في عليين، وألحقه بالنبيين صلى الله عليه وسلم والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

فصل في رميه الحنابلة بالتناقض في الإجماع فيدعونه في أمور ليس فيها إجماع

[فصل في رميه الحنابلة بالتناقض في الإجماع فيدعونه في أمور ليس فيها إجماع] فصل في رميه الحنابلة بالتناقض في الإجماع، فيدعونه في أمور ليس فيها إجماع فإذا استدل عليهم أحد به، أبطلوه وقالوا: "وما أدراك لعل الناس قد اختلفوا"، وإبطال زعمه قال المالكي ص (135) : (وتراهم يحتجون بالإجماع، ويدعونه في أمور ليس فيها إجماع، فإذا احتججت عليهم بالإجماع في أمر أظهر منه، يرددون عبارة أحمد بن حنبل: "من ادعى الإجماع فقد كذب، وما أدراك لعلهم اختلفوا") اهـ. والجواب عليه من وجهين: أحدهما: مطالبة المالكي بأمرين لتصح دعواه: . مثال على ما ادعى الحنابلة فيه الإجماع، وليس فيه إجماع، بقول عالم، لا بهذيان المالكي. . ومثال آخر، ادعي فيه الإجماع علينا في مسألة خالف فيها الحنابلة، فتخلصوا منه بنفي صحة الاحتجاج بالإجماع. الوجه الثاني: أن الإمام أحمد رحمه الله لا ينكر صحة الاحتجاج بالإجماع، وهو يأخذ به، بل احتج به في مسائل عدة. ولكن مقولة أحمد السابقة في إنكار الإجماع، يراد بها أحد رجلين. . من حكى الإجماع، وهو ليس بأهل لحكايته.

أو رجل حكاه بعد انتشار العلماء في بلاد المسلمين الشاسعة، فما يدريه لعل الناس اختلفوا ولم يعلم.

فصل في رميه الحنابلة بالتناقض في الصحابة فيذمون الرافضة لطعنهم في كثير من الصحابة

[فصل في رميه الحنابلة بالتناقض في الصحابة فيذمون الرافضة لطعنهم في كثير من الصحابة] فصل في رميه الحنابلة بالتناقض في الصحابة، فيذمون الرافضة لطعنهم في كثير من الصحابة، ويتركون النواصب مع نيلهم من علي رضي الله عنه، وهو من الصحابة، ورد مزاعمه قال المالكي ص (135) : (وتراهم يتناقضون في الصحابة، ووجوب تقديرهم، فيذمون الشيعة؛ لأنهم ينتقصون أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بينما لا يذمون النواصب ولا يذكرونهم بسوء، مع أنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب ويذمونه، ويرمونه بكل طامة، سواء كان ذلك من قبل حكامهم من بني أمية، أو علمائهم كحريز بن عثمان، وثور بن يزيد ونحوهم) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن من سب صحابيا واحدا فأكثر، كان رافضيا خبيثا. وعلي رضي الله عنه صحابي، بل من أفاضل الصحابة وخيارهم، فمن تكلم فيه بشيء، كان رافضيا ناصبيا. وكل كلام الحنابلة وغيرهم من أهل السنة في ذم الرافضة ولعنهم، هو في الناصبة كذلك، من الطاعنين في علي رضي الله عنه.

الثاني: أن الحنابلة كبقية أهل السنة، يحبون آل البيت، ويحفظون وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، ويروون أحاديث فضائلهم ويحدثون بها، ويبغضون ويذمون من تكلم فيهم بحرف. وفي "مسند الإمام أحمد " مئات الأحاديث التي رووها، فأول المسانيد في "مسنده" رحمه الله، وهو من ترتيب ابنه عبد الله: مسند الخلفاء الراشدين الأربعة، رابعهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعنهم جميعا، روى عنه الإمام أحمد في "مسنده" (818) حديثا. ثم ذكر عبد الله مسند بقية العشرة ومسند توابعهم، ثم ذكر مسند آل أبي طالب الحسن، والحسين ابني علي بن أبي طالب، وعقيل، وجعفر ابني أبي طالب، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم. ثم ذكر عبد الله مسند آل العباس العباس بن عبد المطلب وأبنائه: الفضل، وتمام، وعبيد الله، وعبد الله، وروى فيه (1784) حديثا لهم. ثم ساق حديث مئات الصحابة رضي الله عنهم، ولم يرض عبد الله بن الإمام أحمد أن يتقدم آل البيت أحد، عدا الخلفاء الراشدين، وتتمة العشرة المبشرين بالجنة وتوابعهم، ثم حديثهم. ثم ختم عبد الله "مسند أبيه": بمسند النساء، بدأه بأم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، ثم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب، ثم أم سلمة، ثم زينب بنت جحش، ثم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، ثم أم حبيبة بنت أبي سفيان، ثم خنساء بنت خذام، ثم

أخت مسعود ابن العجماء، ثم رميثة، ثم ميمونة بنت الحارث، ثم صفية أم المؤمنين، ثم أم الفضل بنت عباس، ثم أم هانئ فاختة بنت أبي طالب رضي الله عنهن جميعا، وفيهن هاشميات، وأمهات المؤمنين، وهن جميعا من آل البيت. وفي " الشريعة " للإمام الحافظ أبي بكر محمد بن الحسن الآجري الحنبلي (ت 360 هـ) - وهو من الكتب المعتمدة عند الحنابلة في العقيدة وأهمها-: ذكر الآجري عدة أبواب في فضائل علي وآل بيته رضي الله عنهم جميعا، قد تقدمت في فصل تقدم في رد زعم له نحو زعمه هنا، ص (197 - 214) من كتابي هذا. كما مر في فصل تقدم، طرف من الرد عليه في هذا الباب، وذكر اعتقاد الحنابلة في آل البيت ص (227-230) . الوجه الثالث: أن حريز بن عثمان الرحبي - وهو من رواة الستة عدا مسلما -: من أئمة المسلمين، وعلماء الحديث الورعين، ولم يكن ناصبيا كما زعم المالكي، وإنما رماه بعضهم بالنصب، ولم يصح عنه، بل قد نفاه عنه أبو حاتم الرازي وبرأه منه. وذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (7 / 80) إنكار حريز لما نسب إليه من شتم علي رضي الله عنه، أو النيل منه. وذكر أن رجلا قال له: بلغني أنك لا تترحم على علي، فقال له حريز: " اسكت، رحمه الله مائة مرة "، وقال حريز مرة: "والله ما سببت

عليا قط ". قال الذهبي بعد ذلك في "السير" (7 / 81) : (هدا الشيخ كان أورع من ذلك) اهـ. أما ثور بن يزيد الكلاعي (ت 153 هـ) : فهو من رواة الستة عدا مسلما كذلك، وكان قدريا، ولم أر من ذكره بالنصب. وعلى كل حال من كان ناصبيا فإن الحنابلة يضللونه، ويبدعونه كما سبق. ويتعذر عليهم وعلى غيرهم أن يحصوا كل مبتدع أتى ببدعة ثم يذمونه. وإنما يكفيهم أن يبينوا أصل المسألة، ويبدعون صاحب القول بها، أو كان رأسا فيها، ممن عرفوا وبلغهم، أما من لم يعرفوه أو لم يبلغهم، فـ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . الوجه الرابع: أن المالكي جاهل بالتاريخ جهلا كبيرا، فجعل الحنابلة مداهنين لحكامهم بني أمية - كما زعم - إذ أنهم يتكلمون في علي رضي الله عنه، وهم ساكتون لا يفوهون بشيء. وهذا من أعجب العجب، ومن أظهر الكذب، فإن الإمام أحمد رحمه الله، لم يولد إلا في دولة بني العباس، ولم يدرك بني أمية، فكيف يداهنون حكاما لم يعاصروهم؟! ولم يدركوا يوما من أيامهم؟! ولم يولدوا إلا في عهد خصومهم؟!

فصل في رميه الحنابلة بالتناقض بانتقاد الآخرين بالمشتبه من كلامهم

[فصل في رميه الحنابلة بالتناقض بانتقاد الآخرين بالمشتبه من كلامهم] فصل في رميه الحنابلة بالتناقض: بانتقاد الآخرين بالمشتبه من كلامهم والاعتذار عن عبارات صريحة مخالفة، صدرت من أئمتهم، والرد عليه قال المالكي ص (136) : (وتراهم ينتقدون الآخرين، ويستدلون على صحة نقدهم لهم، بأمور مشتبهة من كلامهم، ولو بطرف عبارة) اهـ والجواب: أن المالكي يقصد بالأمور المشتبهة في كلامه هذا، أحد أمرين: إما اشتباه مقصود المتكلم من كلامه، فهذا باطل غير صحيح، فإن الحنابلة لما تكلموا وكفروا الجهمية بقولهم بخلق القرآن، ونفي الرؤية، وتعطيل الصفات، كانت عباراتهم- أعني الجهمية- صريحة، ومقصدهم ظاهر، ولم ينازع في ذلك أحد. ولم تقل الجهمية والمعتزلة لأهل الحديث، حنابلة وغيرهم: "إنكم لم تفهموا مقصدنا من كلامنا، أو فهمتموه على غير وجهه، وإنما مرادنا كذا وكذا! " ونحو ذلك، بل كانوا ينافحون عن معتقدهم، وصريح عبارتهم. وكذلك القول في الرافضة، في كلامهم في الصحابة والإمامة، وكذلك الخوارج، والقدرية، والمرجئة، وغيرهم من أهل البدع.

وإما أن يقصد المالكي "اشتباه الحكم، وما يؤول إليه حال قائله ": فهذا باطل غير صحيح أيضا. فإن كفر الجهمية ومن قال بقولهم مجمع عليه عند الأئمة جميعا قبل أحمد وبعده، وهو مستقر عند أهل السنة كذلك. وأما البدع والضلالات التي لم يكفروا بها فإنهم بدعوا منتحلها وضللوه، وهم في ذلك كله على ثقة مما حكموا وقضوا به. وعلى كلا الحالين، ليس للمالكي دليل واحد أو مثال على صحة ما ادعاه.

فصل في رميه الحنابلة بتكلف الأعذار لأئمتهم

[فصل في رميه الحنابلة بتكلف الأعذار لأئمتهم] فصل في رميه الحنابلة بتكلف الأعذار لأئمتهم وعدم إعذارهم المخالفين مع أهليتهم لذلك، والرد عليه قال المالكي ص (136) : (بينما يبالغون في الاعتذار لعبارات صريحة صدرت من أئمتهم، كما يفعلون في الاعتذار عما كتبه عبد الله بن الإمام أحمد، أو الأهوازي، أو الهروي في التجسيم. أو ما كتبه البربهاري في التكفير، أو ما كتبه ابن تيمية في انتقاص علي بن أبي طالب، ورد كثير من فضائله) اهـ كلام المالكي. قلت: وقد تبين من كلامه هذا أنه يريد بكلامه السابق، في الفضل قبله " اشتباه مقصود المتكلم، لا اشتباه الحكم " وقد قدمنا رده. والجواب من وجوه عدة: أحدها: أن أئمة الحنابلة المذكورين، هم أئمة أهل السنة أيضا، ولم يخطئوا فيما ذكروه ورووه، حتى يحتاج إلى الاعتذار عنهم، باعتذار متكلف أو غير متكلف، مع التنبيه أن الأهوازي لم يكن حنبليا، وتقدم بيانه.

الثاني: رمي المالكي لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي رحمه الله بالتجسيم، من جنس رمي عمرو بن عبيد، لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما به، ومن جنس رمي أهل البدع جميعا، لأهل السنة به. وإلا فإن رواية أحاديث الصفات، والإيمان بها على ظاهرها، من غير تكييف ولا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل ليس فيه تشبيه، إلا عند الضلال والمبتدعة. الثالث: أن البربهاري رحمه الله، لم ينفرد بتكفير من كفر، ولم يكفر إلا من قالت الأمة بكفره، وقد تقدم الدفاع عنه رحمه الله. الرابع: أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- وأهل السنة حنابلة وغيرهم- أكثر الناس إجلالا، وحبا، وتعظيما، لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم جميعا، خاصة ذوي الفضل الكبير، والسبق الشهير، كالخلفاء الأربعة، وبقية العشرة، والمهاجرين والأنصار، فكيف ينتقص شيخ الإسلام عليا رضي الله عنه، وهو رابع الخلفاء الراشدين، وأفضل الناس قاطبة بعد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الثلاثة قبله، وكان يدافع رحمه الله عن عامة الصحابة من مسلمة الفتح وغيرهم، وممن هم دون علي في الفضل والسابقة؟! وإنما أهل البدع والأهواء قوم بهت، يكذبون ولا يستحون. وقد قدمنا قريبا في غير موضع، ما يبين مكانة علي رضي الله عنه، عند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

ولم يتهم شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه التهمة، إلا الروافض بعد رده العظيم عليهم المسمى "منهاج السنة النبوية" الذي أثنى عليه العلماء، حتى مناوئي شيخ الإسلام وخصومه، أثنوا عليه وأطروه، كالتقي السبكي، وأبياته في ذلك معروفة مشهورة. أما دعواه أن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- رد كثيرا من فضائل علي رضي الله عنه، فكذب لا بينة عليه ولا دليل أو مثال، إلا إن كان يقصد بفضائله التي ردها شيخ الإسلام: . القول بإلهيته رضي الله عنه. . أو نبوته. . أو تقديمه على الشيخين. . أو ما ورد في فضله من أحاديث موضوعة وضعيفة. فإن كان هذا، فنعم إذن، ولا إنكار على شيخ الإسلام رحمه الله، ولا حرج. ولم يكن علي رضي الله عنه محتاجا إلى تلك الفضائل المزعومة. لترفع من قدره الرفيع، أو تزيد في فضله العظيم. ولم يرد شيخ الإسلام رحمه الله شيئا صح، ورد في فضائله رضي الله عنه. أما ما كان في صحته نزاع، فمن أهل العلم مصحح، ومنهم مضعف، فلا إنكار على المصحح ولا المضعف، وهذا من مواطن الاجتهاد.

وقد ذكرنا سابقا، شيئا من كلام شيخ الإسلام في علي رضي الله عنه، وتضليله رحمه الله من توقف عن التربيع به.

فصل في رميه الحنابلة بالتناقض حين قالوا إن أبا حنيفة لم يؤت الرفق في دينه بزعمه

[فصل في رميه الحنابلة بالتناقض حين قالوا إن أبا حنيفة لم يؤت الرفق في دينه بزعمه] فصل في رميه الحنابلة بالتناقض، حين قالوا: إن أبا حنيفة لم يؤت الرفق في دينه بزعمه، وهم يكفرونه وهذا أبعد عن الرفق، والرد عليه قال المالكي ص (136) : (وتراهم يذمون رجلا مثل أبي حنيفة، لزعمهم أنه لم يؤت الرفق في دينه، ثم يكفرونه، وهذا أبلغ في البعد عن الرفق) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن من ذم أبا حنيفة رحمه الله، ذمه لأمور رجع عن أكثرها، فربما بلغه رجوعه فأمسك، وربما لم يبلغه، وغالب هؤلاء من أئمة السلف المتقدمين على الإمام أحمد، وليسوا من أصحابه. أما تكفير أبي حنيفة رحمه الله فلم يكفره أحد من الحنابلة قط، وإنما رووا أقوال بعض الأئمة فيه بأسانيدهم. وهذا لا تبعة عليهم فيه، ولم ينفردوا به، وقد قدمنا تفصيله في فصل سابق والحمد لله. الثاني: أن من يعنيه المالكي بنفي الرفق عن أبي حنيفة رحمه الله: هو سوار بن عبد الله رحمه الله (¬1) ولم يكن حنبليا. ¬

(¬1) السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 190) (259) .

فإن أراد المالكي الذب عن أبي حنيفة رحمه الله فليحمل عليه وليترك الحنابلة. الثالث: أنه إن كان أحد من الحنابلة ذم أبا حنيفة، فليس ذلك مذهبا لهم، بل مذهب غالبهم الثناء عليه، وتبجيله، وذكر فضله، والأخذ بفقهه، كبقية أهل العلم، وذكر أقواله، ونزاعه أو موافقته. ولم تخل كتب الحنابلة قط، من ذكره رحمه الله، ومن علمه.

فصل في رميه الحنابلة بالتناقض بذمهم المنطق وإنكار المجاز ثم يستدلون بهما والرد عليه

[فصل في رميه الحنابلة بالتناقض بذمهم المنطق وإنكار المجاز ثم يستدلون بهما والرد عليه] فصل في رميه الحنابلة بالتناقض بذمهم المنطق وإنكار المجاز، ثم يستدلون بهما، والرد عليه قال المالكي ص (136) : (وتراهم يذمون المنطق، وينكرون المجاز، مع وجود هذا وهذا في كلامهم وحججهم.) اهـ. والجواب: أن من ذم المنطق من أئمة السنة، حنابلة وغيرهم، ومن أنكر منهم المجاز لم يستدل به أبدا، إلا أن يكون في معرض الرد عليهم، وإظهار تناقضهم، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "الرد على المنطقيين"، وفي غير كتاب. ولم ينفرد الحنابلة بتحريمه، بل كل السلف على ذلك، ولم يطرأ الخلاف في جواز تعلم مبادئه، ما خلى منها عن محادة الشريعة، إلا متأخرا عند المتأخرين، ولم يسلم أيضا من تحريم العلماء الربانيين، حنابلة وغيرهم. قال أبو عمرو بن الصلاح (ت 643 هـ) الإمام الشافعي الشهير، في فتواه الشهيرة في تحريم المنطق والفلسفة:

(الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة. ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة، المؤيدة بالحجج الظاهرة، والبراهين الباهرة. ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان) . إلى أن قال: (وأما المنطق: فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين، والسلف الصالحين، وسائر من يقتدى به من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها، قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه، وطهرهم من أوضاره) إلى آخر فتواه المعروفة الشهيرة، رحمه الله. وكذلك حرمه الإمام النووي (ت 676 هـ) ، والجلال السيوطي (ت 911 هـ) في رسالة سماها "القول المشرق، في تحريم الاشتغال بالمنطق " قال فيها: (فن المنطق، فن خبيث مذموم، يحرم الاشتغال به، مبنى بعض ما فيه على القول بـ "الهيولي"، الذي هو كفر يجر إلى الفلسفة والزندقة، وليس له ثمرة دينية أصلا، بل ولا دنيوية، نص على مجموع ما ذكرته أئمة الدين، وعلماء الشريعة. فأول من نص على ذلك: . الإمام الشافعي رضي الله عنه.

ونص عليه من أصحابه: * إمام الحرمين. * والغزالي في آخر أمره. * وابن الصباغ، صاحب "الشامل". * وابن القشيري. * ونصر المقدسي. * والعماد بن يونس. * وحفده (ت 571 هـ) . * والسلفي. * وابن بندار. * وابن عساكر. * وابن الأثير. * وابن الصلاح. * وابن عبد السلام. * وأبو شامة. * والنووي. * وابن دقيق العيد. * والبرهان الجعبري. * وأبو حيان.

* والشرف الدمياطي. * والذهبي. * والطيببي. * والملوي. * والأسنوي. * والأذرعي. * والولي العراقي. * والشرف بن المقري. * وأفتى به شيخنا، قاضي القضاة، شرف الدين المناوي. * ونص عليه من أئمة المالكية: * ابن أبي زيد، صاحب " الرسالة ". * والقاضي أبو بكر بن العربي. * وأبو بكر الطرطوشي. * وأبو الوليد الباجي. * وأبو طالب المكي، صاحب "قوت القلوب ". * وأبو الحسن بن الحصار. * وأبو عامر بن الربيع. * وأبو الحسن بن حبيب. * وأبو حبيب المالقي.

* وابن المنير. * وابن رشد. * وابن أبي جمرة. * وعامة أهل الغرب. ونص عليه من أئمة الحنفية: * أبو سعيد السيرافي. * والسراج القزوني، وألف في ذمه كتابا سماه "نصيحة المسلم المشفق، لمن ابتلي بحب علم المنطق ". ونص عليه من أئمة الحنابلة: * ابن الجوزي. * وسعد الدين الحارثي. * والتقي ابن تيمية، وألف في ذمه ونقض قواعده مجلدا كبيرا سماه "نصيحة ذوي الإيمان، في الرد على منطق اليونان ". وقد اختصرته في نحو ثلث حجمه، وألفت في ذم المنطق مجلدا، سقت فيه نصوص الأئمة في ذلك) إلى آخر فتواه رحمه الله. فإن قال المالكي: لست أنكر على الحنابلة تحريمهم المنطق، فقد حرمه السلف، وجمهور الخلف، كما ذكرت سابقا. وإنما ما أنكرته عليهم القول بتحريمه، ثم الاستدلال به، فهذا تناقض منهم.

قلنا له: هذا كذب منك ظاهر، فهلا مثالا واحدا إن كنت صادقا؟!

فصل في رميه الحنابلة بالتناقض في ذمهم الخوارج بتكفير المسلمين وقتلهم ثم يكفرون المسلمين ويفتون بقتلهم

[فصل في رميه الحنابلة بالتناقض في ذمهم الخوارج بتكفير المسلمين وقتلهم ثم يكفرون المسلمين ويفتون بقتلهم] فصل في رميه الحنابلة بالتناقض، في ذمهم الخوارج بتكفير المسلمين وقتلهم ثم يكفرون المسلمين ويفتون بقتلهم، والرد عليه قال المالكي ص (136) : (وتراهم يذمون الخوارج، لأنهم يقتلون المسلمين ويكفرونهم، بينما هم يفتون بقتل خصومهم وتكفيرهم، كالخوارج تماما. انظر على سبيل المثال، الآثار عند عبد الله بن أحمد: (528، 531) ، (431) ، (1 / 18 1، 107، 112، 115، 120، 121، 124، 127) وغير ذلك مما لا يمكن حصره) اهـ. والجواب من وجوه أربعة: أحدها: أن علماء المسلمين جميعا، يكفرون من ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام، الاعتقادية، أو القولية، أو الفعلية، وليس هذا من عقائد الخوارج أو خروجا. الثاني: أن من كفره الحنابلة، للتجهم أو الاعتزال، من قول بخلق القرآن، وغيره لم ينفردوا- كما سبق بيانه- بتكفيره، وهم مسبوقون من أئمة السلف جميعا بتكفيرهم، وعليه المتأخرون من أهل السنة.

الثالث: أن الحنابلة والسلف جميعا وأهل السنة كلهم بعدهم كفروا الجهمية والمعتزلة، وخصوا بالتسمية الجهم بن صفوان، وبشرا المريسي، والجعد بن درهم، ونحوهم. أما الخوارج فكفروا عثمان، وعليا رضي الله عنهما، ومن معهما، وكفروا عصاة المسلمين ببعض الكبائر، فهل يرى المالكي أن تكفير الزنادقة لعنهم الله كالجهمية من جنس تكفير عثمان، وعلي رضي الله عنهما؟! الرابع: أن الأرقام والمواضع التي ذكرها المالكي في كلامه السابق، وعابها على الحنابلة، وأشار إلى وجودها عند عبد الله بن أحمد في كتابه "السنة"، وأن فيها تكفيرا للمسلمين من الحنابلة، فسأذكر ما تحت تلك الأرقام المذكورة من آثار، ليتبين مدى كذب هذا الرجل وفجوره: رقم (528) . روى عبد الله بن الإمام أحمد في "السنة" تحته بسنده إلى يزيد بن هارون قال: (إن كان ما يذكر عن بشر المريسي حقا: حل سفك دمه) . رقم (531) . وروى عبد الله بسنده إلى عبد الرحمن بن مهدي قال: (من زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى صلوات الله عليه: يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه) . رقم (2 / 431)

وروى عبد الله بسنده إلى الإمام مالك بن أنس عن عمه أبي سهيل قال: (كنت مع عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقال لي: ما ترى في هؤلاء القدرية؟ قال: قلت: أرى أن تستتيبهم، فإن قبلوا ذلك، وإلا عرضتهم على السيف. فقال عمر بن عبد العزيز: ذلك هو الرأي. قلت لمالك: فما رأيك أنت؟ قال: هو رأيي) اهـ. رقم (1 / 118) وروى عبد الله بسنده إلى فطر بن حماد قال: (سألت معتمر بن سليمان فقلت: يا أبا محمد، إمام القوم يقول: "القرآن مخلوق " أصلي خلفه؟ فقال: "ينبغي أن تضرب عنقه ") . رقم (1 / 107) وروى عبد الله بسنده إلى سفيان الثوري قال: (من زعم أن قول الله عز وجل {يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9] مخلوق، فهو كافر، زنديق، حلال الدم) . رقم (1 / 112)

وروى عبد الله بسنده إلى سفيان بن عيينة قال: (من قال: "القرآن مخلوق" لما كان محتاجا أن يصلب على ذباب) يعني جبل. رقم (1 / 115) وروى عبد الله بسنده إلى وكيع بن الجراح قال: (من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أنه محدث يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت رقبته) . ورقم (1 / 120) وروى عبد الله بسنده إلى عبد الرحمن بن مهدي، بأقوال عدة له، منها قول عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: (لو كان لي من الأمر شيء، لقمت على الجسر، فلا يمر بي أحد من الجهمية، إلا سألته عن القرآن فإن قال: إنه مخلوق: ضربت رأسه ورميت به في الماء) . ورقم (1 / 121) وروى عبد الله بسنده إلى عبد الرحمن بن مهدي، بعدة آثار بمعنى الأثر السابق. رقم (1 / 124) وروى عبد الله بسنده إلى شبابة بن سوار قال: (اجتمع رأيي، ورأي أبي النضر هاشم بن قاسم، وجماعة من الفقهاء، على أن

المريسي كافر جاحد، نرى أن يستتاب فإن تاب، وإلا ضربت عنقه) . رقم (1 / 127) * وروى عبد الله بسنده إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد قال: (بلغني أن بشرا المريسي يزعم أن القرآن مخلوق، لله علي إن أظفرني به، إلا قتلته قتلة ما قتلتها أحدا قط) . وبعد سياقة هذه الآثار، التي زعم المالكي أن فيها تكفيرا من الحنابلة لخصومهم من المسلمين فشابهوا الخوارج، لذلك يتبين جليا أنها أقوال جماعة من أئمة السلف، وهم: * عمر بن عبد العزيز، الخليفة الراشد (ت 101 هـ) . * وأبو سهيل نافع بن مالك الأصبحي (ت بعد 140 هـ) ، عم الإمام مالك وشيخه. * وسفيان بن سعيد الثوري (ت 161 هـ) . * ومالك بن أنس، إمام دار الهجرة (ت 179 هـ) . * ومعتمر بن سليمان (ت 187 هـ) . * ووكيع بن الجراح (ت 196 هـ) . * وعبد الرحمن بن مهدي (ت 198 هـ) . * وسفيان بن عيينة (ت 198 هـ) . * ويزيد بن هارون (ت 256 هـ) .

* وشبابة بن سوار (ت 206 هـ) . * وهاشم بن القاسم، أبو النضر (ت 207 هـ) . هارون الرشيد، الخليفة القرشي الهاشمي العباسي، الصالح، العادل، الجاهد (ت 192 هـ) . وهؤلاء كلهم- رحمهم الله - ليسوا بحنابلة، بل هم جميعا أسن من الإمام أحمد رحمه الله، وجملة منهم لم يدركهم، فإن وفاة أحمد رحمه الله سنة (241 هـ) . وكلهم من أئمة الحديث وأهله، مخرج حديثهم في الصحاح الستة، عدا أمير المؤمنين هارون الرشيد رحمهم الله. وبعد هذا السياق يظهر جليا أمران: * كذب المالكي، وليس بجديد ولا مستغرب منه، فالشيء لا يستغرب من معدنه، وكتابه هذا كله مبني عليه. * وأنه يرى أئمة السلف الصالح مشابهين للخوارج، مكفرين للمسلمين ظلما، نعوذ بالله من ران القلوب، وخبث العقائد. ويلزم المالكين كذلك أحد أمرين: إما أن يكفر الزنادقة، الذين كفرهم السلف الصالح، وأجمع أهل السنة على ذلك، بما فيهم الحنابلة فيكون المالكين خارجيا أيضا مثلهم، ويكون عاب على الحنابلة وأئمتهم السابقين، ما هو واقع فيه.

أو لا يكفرهم فيكون مخالفا للسلف، وأهل السنة جميعا، وموافقا للزنادقة والضلال، فليختر ما شاء فلا ثالث لهما.

فصل في زعمه أن الحنابلة لم يأمروا بأمر إلا خالفوه أو ينهوا عن شيء إلا ارتكبوه

[فصل في زعمه أن الحنابلة لم يأمروا بأمر إلا خالفوه أو ينهوا عن شيء إلا ارتكبوه] فصل في زعمه أن الحنابلة لم يأمروا بأمر إلا خالفوه، أو ينهوا عن شيء إلا ارتكبوه، والرد عليه قال المالكي ص (136) : (لكنني أقول في الخلاصة هنا إنني لم أجد غلاة الحنابلة، ينهون عن شيء، إلا ارتكبوه عندما يريدون، ولم يأمروا بأمر إلا خالفوه عندما يريدون ذلك) اهـ. والجواب: أنا قد سقنا سفاهات المالكي حرفا حرفا، وبينا كذبه فيها وتلبيسه، فلم يصح له منها شيء، فهذه نتيجة فاسدة مبنية على مقدمات كاذبة.

فصل في رمي المالكي فرق المسلمين عامة بالتناقض وخصه الحنابلة بمزيد من التناقضات

[فصل في رمي المالكي فرق المسلمين عامة بالتناقض وخصه الحنابلة بمزيد من التناقضات] فصل في رمي المالكي فرق المسلمين عامة بالتناقض، وخصه الحنابلة بمزيد من التناقضات التي تجعلهم كثر تناقضا من المعتزلة والأشاعرة، والرد عليه قال المالكي ص (136) : (وهذه مصيبة عامة، لا تكاد تنجو منها فرقة من فرق المسلمين للأسف، لكنها في غلاة الحنابلة، تبدو أكثر وضوحا من الأشاعرة، والمعتزلة على الأقل) اهـ. والجواب: أن الله عز وجل لما كان كتابه الكريم، سالما من التناقض، لأنه من عنده سبحانه، وكذلك كانت سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان أهل السنة جميعا بما فيهم الحنابلة، أشد الناس تمسكا بهما، وانتصارا لحماهما سلموا من التناقض في عقائدهم، لهذا لم يستطع المالكي أن يمثل على ذلك بمثال واحد صحيح فقط. أما أهل البدع، كالمعتزلة والأشاعرة، فحظهم من التناقض بقدر بعدهم من السنة، وحظهم من الصواب بقدر إصابتهم للسنة وقربهم منها. قال أبو المظفر السمعاني (ت 489 هـ) رحمه الله: (ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع

كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافا، ولا تفرقا في شيء ما، وإن قل. بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبن من هذا، قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] . وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين، أو شيعا وأحزابا، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضا. بل يرتقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره. تراهم أبدأ في تنازع، وتباغض، واختلاف، تنقضي أعمارهم، ولما تتفق كلماتهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14] .

أو ما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين، والبصريون منهم البغدادين. ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي ابنه أبا هاشم، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي، وكذلك سائر رءوسهم. وأرباب المقالات منهم، إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض. وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم، وسائر المبتدعة بمثابتهم، وهل على الباطل دليل أظهر من هذا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا (¬1) دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 159] . وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والاختلاف. وأهل البدع أخذوا الدين من المعقولات والآراء، فأورثهم الافتراق والاختلاف. فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف، وإن اختلف في لفظ أو كلمة، فذلك اختلاف لا يضر الدين، ولا يقدح فيه. وأما دلائل العقل فقلما تتفق، بل عقل كل واحد يري صاحبه غير ما يرى الآخر، وهذا بين والحمد لله) انتهى كلام أبي المظفر ¬

(¬1) في الأصل: "فارقوا" على قراءة.

السمعاني، نقله عنه الحافظ أبو القاسم التيمي رحمهما الله، في كتابه العظيم "الحجة في بيان المحجة" (2 / 224 - 227) .

فصل في رميه الحنابلة بالتناقض في نهيهم عن الكلام والجدل حين ضعف حجتهم

[فصل في رميه الحنابلة بالتناقض في نهيهم عن الكلام والجدل حين ضعف حجتهم] فصل في رميه الحنابلة بالتناقض في نهيهم عن الكلام والجدل حين ضعف حجتهم فإذا تمكنوا تركوا ذلك وجادلوا، والرد عليه قال المالكي ص (137) : (مثل شبهتهم في النهي عن علم الكلام والجدل، مع أنهم يتناقضون ويجادلون إذا تمكنوا من ذلك. لكن لهم شبها ضعيفة، يمنعون بها العلماء من الخوض في علم الكلام، بينما يعلمون العوام مصطلحات مستحدثة من علم الكلام) اهـ. والجواب: أحدها: أن الناهين عن علم الكلام، هم أئمة السلف، وشيوخ المسلمين، من كل المذاهب، باختلاف العصور، وقد قدمت قريبا عند ذكر الناهين عن المنطق، جملة كبيرة من أسمائهم، حنفية، ومالكية، وشافعية، وحنابلة. بل حتى أئمة هذا الفن - أعني علم الكلام - قد رجع عنه جملة من كبار أئمته، وندموا على دخولهم فيه، كأبي حامد الغزالي، والفخر الرازي، وغيرهم، وقد ذكرنا بعضهم في موضع سابق.

الثاني: أن الناهين عن جدال أهل البدع ومناظرتهم هم أئمة السلف والمسلمين كذلك، حنابلة وغير حنابلة، من أهل السنة، قال الإمام البغوي رحمه الله في " شرح السنة " (1 / 216) : (واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه) اهـ. وقد عقد جملة من أئمة المسلمين أبوابا في مصنفاتهم، ذكروا فيها نهي السلف عن الجدال والمناظرة، ومنهم: الآجري في " الشريعة ": (باب ذم الجدال والخصومات في الدين) . * واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة ": (سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم، والمكالمة معهم، والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم الخبيثة) . * وابن بطة العكبري في " الإبانة الكبرى ": (باب النهي عن المراء في القرآن) . * وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله ": (باب ما يكره فيه المناظرة والجدال والمراء) . * وأبو القاسم التيمي في " الحجة في بيان المحجة ": (فصل في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم والاستماع إلى أقوالهم) وغيرهم. وفي هذه الكتب وغيرها ما لا يحصى كثرة من نهي جماعات من السلف عن الجدال والمراء.

ومستندهم في ذلك: قول الله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} [غافر: 4] ونحوه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أبغض الرجال إلى الله: الألد الخصم» ، أخرجه البخاري (4523) ، ومسلم (2668) عن عائشة رضي الله عنها. وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف: 58] » ، أخرجه الترمذي (3253) وابن ماجه (48) والحاكم (4472) وصححه، ووافقه الذهبي عن أبي أمامة رضي الله عنه. ومن أقوال أئمة السلف الشهيرة في هذا الباب: * قول أبي قلابة رحمه الله: (لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم) . * وقول الحسن البصري، ومحمد بن سيرين: (لا تجالسوا أصحاب الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم) . * وقول عون بن عبد الله بن عنبة بن مسعود الهذلي: (لا تجالسوا أهل القدر، ولا تخاصموهم، فإنهم يضربون القرآن بعضه ببعض) . * وقول الفضيل بن عياض: (لا تجادلوا أهل الخصومات، فإنهم يخوضون في آيات الله) ، وهؤلاء كلهم قبل الإمام أحمد رحمهم الله.

والآثار في هذا الباب كثيرة جدا عن الصحابة والتابعين وأتباعهم، ومن بعدهم، قال الإمام اللالكائي الشافعي (ت 418 هـ) في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة " (1 / 19) : (فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة، يموتون من الغيظ كمدا ودردا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا، حتى جاء المغرورون، ففتحوا لهم إليها طريقا، وصاروا إلى هلاك الإسلام دليلا، حتى كثرت بينهم المشاجرات، وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة) . . . إلى آخر كلامه رحمه الله. أما ما ورد في جواز الجدال والمناظرة أيضا فكثير، كقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وجدال إبراهيم عليه السلام لقومه، وللنمرود، وجدال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقومه آحادا وجماعات، وتحاج آدم وموسى عليهما السلام. وأخذ به كثير من السلف مثل: * الشافعي مع حفص الفرد المعتزلي وغيره.

* وعمر بن عبد العزيز مع غيلان الدمشقي القدري وغيره. * والأوزاعي مع بعض القدرية. * والإمام أحمد وجماعات من الأئمة مع المعتزلة في خلق القرآن، وغيره. * والدارمي مع بشر المريسي. وغيرهم كثير لا يحصى، قال الحافظ ابن رجب في " جامع العلوم والحكم ": (قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا فقد كفروا) اهـ. ولا تعارض بين هذه الأدلة والأقوال والأفعال المانعة من الجدال والمناظرة، والآمرة به، أو الآذنة. وإنما المسألة فيها تفصيل، ذكره جملة من أهل العلم، فلا تجوز المناظرة والجدال إلا بتحقق شروط في المناظر، والخصم، والمكان. فشرط المناظر: * أن لا يناظر إلا في حق. * وأن يكون عالما عارفا بما يناظر فيه، متمكنا منه. وشرط الخصم المناظر: * أن يعلم مناظره فيه الإنصاف، وطلب الحق، بحيث لو استبان له الحق رجع إليه، وترك ما هو فيه وعليه. وشرط المكان المناظر فيه: * أن لا يكون عاما، إلا إذا ضمن أمرين:

* أن لا يكون فيه من لو سمع شبه الخصم تعلق قلبه – لجهله - ببعضها، وربما لم يع، أو لا يعي، حجة المناظر له، فيهلك. * وأن لا يكون الخصم مغمورا غير معروف، فإذا نوظر عرف وظهر أمره عند بعض المفتونين. فإن كان كل من في المجلس ضالا، فإن اهتدوا، وإلا بقوا على ما هم عليه من الضلال، فلا بأس بالمناظرة فيه على عمومه. ومدار الحكم تحقق المصلحة، ولو مع تخلف بعض هذه الشروط، فإن ظن تحقق مصلحة راجحة، مع تخلف أحد هذه الشروط، روعيت المصلحة، وترك الشرط، كأن تعلم مكابرة الخصم، وعدم رجوعه للحق، ولو قامت عليه الحجة، أو ملاججته في باطل، يعلم - دون مناظرة - بطلانه، إلا أن المناظر أراد إرغامه وتصغيره أمام أتباعه، آملا في هدايتهم، وطلبا لنجاتهم، كما ناظر موسى عليه السلام فرعون، وفرعون يعلم بطلان ما هو عليه، لهذا قال الله عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ، إلا أن ما يرجوه موسى عليه السلام من المصلحة تحقق، فآمن له السحرة، وزوجة فرعون، وكثير من أتباعه. ومن نظر في كلام السلف في نهيهم وأمرهم ومنعهم وتجويزهم، رأى أن مدار ذلك كله على ما سبق.

وهكذا كان منع الحنابلة وتجويزهم، ونهيهم وأمرهم، ولم يكن سببه ما زعمه المالكي من ضعف الحجة والدليل، فإنهم ظاهرون بالحجة على جميع من ناظرهم وجادلهم، وحسبك مناظرتهم مع المعتزلة في خلق القرآن وغيرها، ومناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية لخصومه وغيرهم. الوجه الثالث: مطالبته بدليل صحة قوله: " بينما يعلمون العوام مصطلحات مستحدثة من علم الكلام "، أو مثاله، وأنى له بذلك؟

فصل في زعم المالكي أن سبب تحريم الحنابلة لعلم الكلام هو عدم معرفتهم لوظيفته

[فصل في زعم المالكي أن سبب تحريم الحنابلة لعلم الكلام هو عدم معرفتهم لوظيفته] فصل في زعم المالكي أن سبب تحريم الحنابلة لعلم الكلام هو عدم معرفتهم لوظيفته، وعدم فهمهم لحجج خصومهم، والرد عليه قال المالكي ص (137) : (ويحسن أن أسرد هنا نموذجا للحوار معهم في جدوى علم الكلام للإمام أبي الحسن الأشعري، وكان يرد على غلاة الحنابلة في عصره، الذين يحرمون علم الكلام، نتيجة عدم فهمهم لوظيفة علم الكلام نفسه، أو عدم فهمهم لحجج الآخرين من المعتزلة، وأصحاب الأشعري والكلابية وغيرهم) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن السلف قاطبة كانوا ينهون عن علم الكلام قبل الإمام أحمد وأصحابه وبعدهم، وسبق تقرير ذلك، فلا معنى لتخصيصهم. والثاني: أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وكان السلف وأهل السنة جميعا رحمهم الله أتم الناس علما وورعا وفقها، لذا كان حكمهم في علم الكلام وغيره حقا وصدقا وعدلا. الثالث: أن سبب تأليف اليونانيين لكتب الفلسفة والمنطق وكتب الكلام هو غياب الوحي عنهم، وحاجتهم إلى معرفة الغيبيات وأمور

كثيرة لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي. فحاول كبارهم الوصول إليها بعقولهم، وخافوا من زللها في تصوراتها، فوضعوا موازين وقواعد تعصم أذهانهم وعقولهم بزعمهم من الخطأ، ليجزموا بصحة ما وصلوا إليه. فقدموا لما جهلوا أو أرادوا إثباته بمقدمات مسلمة ضرورة، ليصلوا إلى نتيجة مجهولة أو متنازع فيها، وما زادتهم تلك القواعد إلا ضياعا وضلالا في باب الإلهيات، والغيبيات عامة. فإذا كانت هذه وظيفة علم الكلام، أيطلبه رجل قد رضي بالله تعالى ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وبالإسلام دينا، قد صدق بما جاء عن الله في كتابه الكريم، وما قاله نبيه صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين؟ لا والله، ولكن لما كان أولئك الضلال المبتدعة جهمية ومعتزلة ونحوهم شكاكا ذوي ريبة تختلج وتتلجلج في صدورهم، وتحشرجهم في نحورهم، عمدوا إليه عطاشى، فشربوا منه شرب الهيم، فما زادهم إلا عطشا، فلهذا تجدهم أجهل الناس بالكتاب والسنة وعلومها. وزاد جهلهم بهما: طلبهم ما يناقضهما، ويعارضهما، فزادوا على الشر شرا أعظم منه، ولما بلغوا غايتهم فيه، وقضوا تهمتهم منه إذا بشكهم قد زاد، وما كان عندهم من إيمان قليل - قبل ولوجهم في علم الكلام - قد زال.

فكم أريقت دموع مخذول تحير في الحق، لا يدري بما يورد وبما يصدر، وكم تفوه آخر بالحسرات والعبرات، وحسد العجائز وذوي الجهالات لسلامة قلوبهم، وطهارة أنفسهم، وسأل الله إيمانا كإيمانهم بعد بلوغه في علم الكلام ما بلغ. وقد قدمت في فصل سابق أقوال جماعة من كبار المتكلمين وأئمتهم، يتحسرون ويتندمون على دخولهم فيه، فهل يتمنى مؤمن ذلك أو يسعى إليه؟ حاشا لله. الوجه الرابع: أن زعم المالكي أن الحنابلة - ومراده السلف جميعا - لم يفهموا حجج الآخرين من المعتزلة والكلابية والأشاعرة باطل إجماعا، غير صحيح. بل إن مراد المعتزلة وغيرهم من المبتدعة في حججهم ظاهر بين، لا يحتاج إلى مزيد إيضاح، وهو كفر وردة عن الإسلام، ومحادة له، فإن أبى إلا قوله فليبين لنا مراد قومه المعتزلة من حججهم التي لم يفهمها السلف. وكتب السلف رحمهم الله ومن بعدهم بين أيدينا، وأقوالهم - وهي لا تحصى - مدونة عندنا، تدل على معرفتهم التامة بحجج المخالفين ومرادهم.

وحجج الأئمة في نقض شبهات أولئك الضلال تدل عليه كذلك. ولو سلمنا للمالكي - ولا نسلم - أن أحد أئمة السلف أو العلماء قد خفي عنه مقصد أولئك الضلال، أو غاب عنه فهمه لحجتهم، فكفرهم بأقوالهم تلك، أفيشمل ذلك الجهل بحجة الخصم، وفهمها السلف جميعا، وأهل السنة قاطبة بعدهم، فيجمعون على كفر أولئك، وهم لم يفهموا مرادهم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.

فصل في إيراد المالكي رسالة لأبي الحسن الأشعري في استحسان علم الكلام

[فصل في إيراد المالكي رسالة لأبي الحسن الأشعري في استحسان علم الكلام] فصل في إيراد المالكي رسالة لأبي الحسن الأشعري في " استحسان علم الكلام " صنفها قبل رجوعه إلى السنة، ونقضها ثم ذكر المالكي رسالة أبي الحسن الأشعري في " استحسان الخوض في علم الكلام " ليبين للمخالف المحرم للكلام حسن تعلمه، وبعد الصواب عن محرمه. وجواب هذا مجمل ومفصل، أما المجمل فمن وجهين: أحدهما: أن هذه الرسالة صنفها الأشعري قبل رجوعه إلى السنة، عندما كان معتزليا، وقد رجع عنها، وعن كل ما كتبه في الاعتزال، ودان الله عز وجل بعقيدة إمام المسلمين أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ذكر ذلك في رسالته الشهيرة " الإبانة ". بل خالف الأشعري المتكلمين وأضرابهم بعد رجوعه إلى السنة، ونقض كثيرا من أصولهم في رسالته " الإبانة " و " رسالته إلى أهل الثغر "، وغيرها. الثاني: أن مخالفة أبي الحسن الأشعري لأئمة الإسلام والسنة لا تضر ما أجمعوا عليه، ولا تغير حكمه، وإنما هي مردودة عليه، لا قيمة لها، ولا حظ لها من النظر، ولا من الاعتبار، وقد قدمنا أنه قد رجع عنها، فالحمد لله.

فصل في الجواب المفصل على رسالة أبي الحسن الأشعري في استحسان الخوض في علم الكلام

[فصل في الجواب المفصل على رسالة أبي الحسن الأشعري في استحسان الخوض في علم الكلام] فصل في الجواب المفصل على رسالة أبي الحسن الأشعري في " استحسان الخوض في علم الكلام " قال المالكي ص (137) : (يقول أبو الحسن الأشعري في رسالته في " استحسان الخوض في علم الكلام " يرد على الحنابلة: " إن طائفة من الناس جعلوا الجهل رأس مالهم، وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين، ومالوا إلى التخفيف والتقليد، وطعنوا على من فتش عن أصول الدين، ونسبوه إلى الضلال ") اهـ كلامه. والجواب: أن الأمر في الاعتقاد مبني على التسليم والاتباع، وهذا مقرر عند أهل السنة والجماعة، بالكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، ومن جاء بعدهم من الأئمة. وهذا ما يسميه المتبدعة تقليدا، ويعيبون أهل السنة به، لجعلهم الوحيين مصدرا للعقيدة دون تحكيم العقل فيها، وأمور الغيب عامة لا يمكن إدراكها بالعقل قط، بل إن غاية إدراك العقل لما غاب عن الإنسان من أمور الدنيا، أو شيء منها، ظني لا يفيد العلم، ولا حتى العلم المقارب، فكيف بما غاب عنه من أمور

الآخرة ونحوها؟ فلا يحكم العقل في ذلك، أو يصحح حكمه فيها، إلا ناقص عقل، أو من لا عقل له، ولو كان في العقول كفاية، أو نوع كفاية، لما كان الخلق في حاجة للرسل، ولما أرسل الله سبحانه رسله إلى عباده. ولو كانت كافية لما ضلت اليونان، وهم أهل العقل وعلومه، بل إن ضلال اليونانين في هذه الأبواب أعظم من ضلال غيرهم، لهذا تجد أن جميع أهل الملل والنحل باختلافها أقرب إلى الهداية، وأكثر طلبا لها من اليونانين فلاسفة ومناطقة. حتى من آمن منهم، إيمانه مذبذب، على شفا جرف هار، تجده قليل عبادة، وضعيف ديانة وصلاح واستقامة وزهد وورع، بل ربما كان خلوا منها كلها أو أكثرها. ومنهم من لم يدخل في الإسلام إلا مكيدة به وبأهله، فما حصل منهم في عهد المأمون وقبله وبعده من تفرق المسلمين إلى اليوم شيء كبير عريض، لو اجتمعت جيوش الكفر لفعله لما استطاعت، ولكن مكر الليل والنهار. ومن طالع تراجم المتكلمين لم يجد أحدا منهم يسلم من طامة أو بلية، بل هم في ذلك بين مكثر ومقل، عياذا بالله.

ومن لم يشفه الوحي في معرفة أصول الدين فلا شفاه الله، ومن لم يعرفه به فكيف وبم يعرفه؟ ثم ذكر المالكي قول الأشعري: (وزعموا أن الكلام في الحركة، والسكون، والجسم، والعرض، والألوان، والأكوان، والجزء، والطفرة، وصفات الباري عز وجل، بدعة وضلالة) اهـ كلامه. والجواب: أن هذا حق، فإن تحكيم العقل في صفات الله جل وعلا الذاتية والفعلية، وما يجوز عليه سبحانه، وما يمتنع، بمنأى عن الوحي، بل مع معارضته منكر عظيم، بل كفر وردة عن الإسلام. لهذا تجد عقائد المتكلمين تخالف صريح القرآن وصحيح السنة مخالفة ظاهرة، لا يمكن الجمع بينهما، وتخالف اعتقاد المسلمين في الصدر الأول، وما تلاه من أهل القرون الفاضلة المفضلة، وما عليه أهل السنة جميعا بعد ذلك. غير أن بعد المتكلمين من الحق وقربهم منه: بقدر حظهم من علم الكلام، فمن زاد علمه به زاد بعده عن الحق، والله المستعان. ثم أورد المالكي ص (137 - 138) قول الأشعري، وهو يذكر حجج أهل السنة في إبطال علم الكلام:

(1- وقالوا: لو كان هدى ورشادا لتكلم فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلفاؤه وأصحابه. 2 - قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يمت حتى تكلم في كل ما يحتاج إليه من أمور الدين، وبينه بيانا شافيا، ولم يترك بعده لأحد مقالا فيما للمسلمين إليه حاجة من أمور دينهم، وما يقربهم إلى الله عز وجل، ويباعدهم عن سخطه. فلما لم يرووا عنه الكلام في شيء مما ذكرناه علمنا أن الكلام فيه بدعة، والبحث عنه ضلالة؛ لأنه لو كان خيرا لما فات النبي صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، ولتكلموا فيه. 3 - قالوا: ولأنه ليس يخلو ذلك من وجهين: * إما أن يكونوا علموه فسكتوا عنه. * أو لم يعلموه، بل جهلوه. فإن كانوا علموه ولم يتكلموا فيه وسعنا أيضا نحن السكوت عنه كما وسعهم السكوت عنه، ووسعنا ترك الخوض فيه كما وسعهم ترك الخوض فيه؛ لأنه لو كان من الدين ما وسعهم السكوت عنه.

وإن كانوا لم يعملوه وسعنا جهله كما وسع أولئك جهله؛ لأنه لو كان من الدين لم يجهلوه. فعلى كلا الوجهين الكلام فيه بدعة، والخوض فيه ضلالة. فهذه جملة ما احتجوا به في ترك النظر في الأصول) اهـ كلامه. وأقول: هذه حجج قوية، دافعة لكل شبهة وبدعة، وهي حجج تبطل كل بدعة وضلالة، سواء كانت علم الكلام أم خلق القرآن أم غير ذلك، كما أن لهم في رد علم الكلام حججا أخرى لم يذكرها الأشعري، قد ذكرنا طرفا منها في مواضع تقدمت. ثم قال المالكي ص (138) : (ثم أخذ أبو الحسن الأشعري في الرد قائلا: " الجواب عن الكلام السابق من ثلاثة أوجه: أحدها: قلب السؤال عليهم، بأن يقال: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقل أيضا: " إنه من بحث عن ذلك، وتكلم فيه، فاجعلوه مبتدعا ضالا "، فقد لزمكم أن تكونوا مبتدعة ضلالا، إذ تكلمتم في شيء لم يتكلم فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) اهـ كلامه.

وجواب هذا الوجه يسير من ثلاثة وجوه: أحدها: أن الكلام في أسماء الله وصفاته وأمور الغيب عامة توقيفي، لا يجوز أن يزاد فيها أو ينقص منها إلا عن طريق الوحي، فمن تكلم في هذا الباب من غير توقيف كان مخطئا، ولو قدر أنه أصاب؛ لتكلمه فيه من غير طريق الوحي، فإذا تقرر هذا فالكلام في هذا الباب بعلم الكلام فاسد باطل. الثاني: أن علم الكلام وكتبه كتب المنطق والفلسفة لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى يخصها بشيء، إلا أن علم الكلام قد احتوى على مسائل كثيرة وعظيمة، قد حذر النبي صلى الله عليه وسلم وشدد في آحادها، فكيف بها مجتمعة؟ كرد القرآن أو السنة بالرأي، أو ضرب بعضه ببعض، أو التشكيك في حكمه بمتشابهه، أو الكلام في الدين بالرأي، مع ما احتواه علم الكلام من مخالفة لكلام الله عز وجل، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا كاف في معرفة حكم الشارع فيه. الثالث: أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ساروا على ما سار عليه نبيهم صلى الله عليه وسلم، فلما طرأ علم الكلام ودخل على المسلمين ضج أئمة الإسلام وعلماؤهم بإبطاله، وتحريمه، ورده، والتحذير منه، ومن أهله، وتكفير كثير من منتحليه لفساد عقائدهم، وقد تقدم.

ثم أورد المالكي الوجه الثاني لجواب أبي الحسن الأشعري على أهل السنة فقال: (والجواب الثاني: أن يقال لهم: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يجهل شيئا مما ذكرتموه من الكلام في الجسم والعرض، والحركة والسكون، والجزء والطفرة، وإن لم يتكلم في كل واحد من ذلك كلاما معينا، وكذلك الفقهاء والعلماء من الصحابة، غير أن هذه الأشياء التي ذكرتموها معينة أصولها، موجودة في القرآن والسنة جملة غير مفصلة) اهـ كلامه. والجواب من وجوه ثلاثة: أحدها: أنه إذا كان أصل هذه الألفاظ موجودا في القرآن والسنة فلم الإعراض عنها، واستبدال عباراتهما بعبارات المتكلمين والفلاسفة اليونان؟ الثاني: أنا لو سلمنا - ولا نسلم - أن أصل هذه الألفاظ في الكتاب والسنة فقد تضمنت أمورا زائدة على أصلها، أو نقصت عنه، فهي غير موافقة، فيبقى حكم ذلك القدر الزائد مردودا، يحتاج دليلا لإثباته. الثالث: أن غالب تلك الألفاظ محادة لما جاء عن الله جل وعلا، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، مناقضة لهما، فكيف يكون أصلها في الكتاب والسنة؟ معاذ الله.

فإن المتكلمين يقولون: إن الحركة والسكون من صفات المخلوقات، لهذا لا تجوز في حق الله عز وجل، ثم يبطلون بذلك جميع صفات الله سبحانه الفعلية، وهذا باطل فاسد، مخالف بالكتاب والسنة والإجماع، وللمتكلمين غير ذلك مما لا يستساغ ذكره. ثم قال الأشعري: (أما الحركة والسكون والكلام فيهما فأصلهما موجود في القرآن، وهما يدلان على التوحيد، وكذلك الاجتماع والافتراق، قال الله تعالى، مخبرا عن خليله إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه، في قصة أفول الكواكب والشمس والقمر، وتحركهما من مكان إلى مكان، ما دل على أن ربه عز وجل، لا يجوز عليه شيء من ذلك، وأن من جاز عليه الأفول والانتقال من مكان إلى مكان فليس بإله) اهـ كلامه. والجواب من وجوه ثلاثة: أحدها: أن في هذا الكلام السابق محادة ومخالفة ومعارضة لما في الكتاب والسنة، وتحريفا لكلام الله عز وجل عن مواضعه، وهذا مصداق ما قدمنا قريبا. الثاني: أن قول إبراهيم عليه السلام دال على خلاف ما استدل به الأشعري، فإنه عليه السلام لم ينكر حركة هذه الكواكب، وإنما

أنكر أفولها، وغياب سلطانها بعد ظهوره، وهذا يدل على جواز الحركة والظهور، لا انتفائه. قال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ - فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ - فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 76 - 78] . الثالث: أن الكتاب والسنة قد دلا على ثبوت الصفات الفعلية لله جل وعلا، كصفة المجيء والنزول وغيرها، التي أنكرتها المعتزلة، وسبق إنكارها في كلام الأشعري المتقدم، ومن ذلك: * قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا - وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 21 - 22] . * وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210] . * وقال عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] . وروى الإمام مالك في " الموطأ " عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» ،

وهذا حديث صحيح مخرج في " الصحيحين " [خ (1145) و (6321) و (7494) عن القعنبي وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي وإسماعيل بن أبي أويس كلهم عن مالك، م (758) عن يحيى بن يحيى عن مالك به] . قال عباد بن العوام: (قدم علينا شريك بن عبد الله منذ نحو من خمسين سنة، قال: فقلت له: يا أبا عبد الله إن عندنا قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث - يعني حديث النزول السابق - قال: فحدثني بنحو من عشرة أحاديث في هذا، وقال: " أما نحن فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم عمن أخذوا؟ ") . ثم قال الأشعري ص (139) : (أما الكلام في أصول التوحيد فمأخوذ أيضا من الكتاب، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، وهذا الكلام موجز منبه على الحجة، بأنه واحد لا شريك له) اهـ. والجواب: أن أهل الكلام يظنون أن أصل التوحيد ومرجعه هو توحيد الربوبية، وهو الذي أرسلت به الرسل، ونزلت في بيانه الكتب، والحق في هذا أن الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم بعثوا بأنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية - وهو توحيد العبادة - وتوحيد الأسماء والصفات.

ولم ينازع المشركون وغالب أقوام المرسلين في الأمم كلها في توحيد الربوبية، وإنما كان نزاعهم في توحيد الألوهية، قال الإمام القاضي علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي الدمشقي (ت 792 هـ) في " شرح الطحاوية " (1 / 28- 29) : (وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] لاعتقادهم أن توحيد الربوبية، الذي قرروه هو توحيد الألوهية الذي بينه القرآن، ودعت إليه الرسل عليهم السلام. وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الألوهية، المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] ، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85] ، ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم) اهـ. ثم قال المالكي ص (140) : (ثم أطال الأشعري الكلام على هذه المسألة في نحو خمس صفحات، ثم قال: " يقال لهم: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يصح عنه

حديث في أن القرآن غير مخلوق، أو هو مخلوق، فلم قلتم إنه غير مخلوق؟ ". فإن قالوا: قاله بعض الصحابة، وبعض التابعين، قيل لهم: يلزم الصحابي والتابعي مثل ما يلزمكم من أن يكون مبتدعا ضالا، إذ قال ما لم يقله الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فإن قال قائل: فأنا أتوقف في ذلك، فلا أقول مخلوق، ولا غير مخلوق، قيل له: أنت في توقفك ذلك مبتدع ضال؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقل: إن حدثت هذه الحادثة بعدي توقفوا فيها، ولا تقولوا فيها شيئا، ولا قال: ضللوا، وكفروا من قال بخلقه، أو من قال بنفي خلقه.) اهـ كلامه. والجواب: أن الله عز وجل قد قبض نبيه صلى الله عليه وسلم بعد أن أكمل الدين، وأتم الشريعة، فقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا وعندنا منه خبر) . ولما قال المشركون لسلمان الفارسي رضي الله عنه: «قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟

فقال: " أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع، أو بعظم» وهذا في مسلم في " صحيحه " (262) . فإذا كان الحال كذلك فكيف نترك في أمر عظيم كمسألة خلق القرآن بلا بينة ولا دليل؟ وقد دل الكتاب والسنة الصحيحة، بل المتواترة، وإجماع السلف، على أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. وقد تكلم الله به، وما كان منه سبحانه فهو غير مخلوق، ومن قال خلاف ذلك فقد كفر، قال سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] ، وقال جل وعلا: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] ، وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ، وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] ، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] ، وقال: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10] ، والآيات في هذا الباب كثيرة. وكذلك الأحاديث النبوية متواترة في هذا الباب، وهي أكثر من أن تحصى، منها:

* قوله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان» ، رواه البخاري (6539) ومسلم (1016) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. * وقوله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج ذريتك بعثا إلى النار» ، رواه أحمد في " مسنده " (3 / 32 - 33) ، والبخاري في " صحيحه " (3348) و (4741) و (6530) ، ومسلم (222) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. أما إجماع السلف قاطبة وأهل السنة جميعا فقد حكاه جماعات من العلماء، كأبي حاتم وأبي زرعة الحافظين الرازيين رحمهما الله وغيرهما. وقد ذكرت أول الكتاب أسماء جماعات من السلف والحفاظ ممن كفروا من قال بخلق القرآن، فلا يقول ما فاه به الأشعري، أو يستدل به، أو يخاله حجة، إلا من لم يعرف الكتاب ولا السنة، ولا ما كان عليه علماء الأمة، وإنما صنعته الكلام والفلسفة. ثم قال الأشعري ص (140) : (وخبرونا لو قال قائل: إن علم الله مخلوق، أكنتم تتوقفون فيه أم لا؟ فإن قالوا: لا،

قيل لهم: لم يقل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا أصحابه في ذلك شيئا. وكذلك لو قال قائل: هذا ربكم شبعان، أو ريان، أو مكتس، أو عريان، أو مقرور. . . ونحو ذلك من المسائل، لكان ينبغي: أن تسكت عنه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتكلم في شيء من ذلك، ولا أصحابه، أو كنت لا تسكت فكنت تبين بكلامك أن شيئا من ذلك لا يجوز على الله عز وجل، وتقدس عن كذا وكذا، بحجة كذا وكذا) اهـ كلامه. والجواب: أن باب الأسماء والصفات باب غيبي، لا تجوز الإضافة إليه، أو النقص منه، إلا بوحي من كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن وصف الله عز وجل بشيء ليس في الكتاب ولا السنة رد على قائله، وطولب بالدليل. أما المتكلمون فلا يستطيعون إثبات صفة ولا نفيها خارج الكتاب والسنة، فإنهم لا يستدلون بحجة عقلية على إثباتها أو نفيها إلا ولخصمهم حجة عقلية أخرى، ترد ما استدلوا به، وتثبت خلافه. لهذا كان مآل أكثرهم - والعياذ بالله - الزندقة، ومن سلم منهم من الزندقة كان شكاكا متلجلجا.

ثم قال المالكي ص (142) بعد إتمامه كلام أبي الحسن الأشعري: (وأنتم ترون أن عدم فهم حجة الطرف الآخر، والظن بأنه لا يعتمد على دليل، من الأسباب الرئيسة في انتقاصنا للآخرين، والنظر إليهم بعين الازدراء، وكأنهم مجموعة من العوام الذين يعكفون على التقليد، ويعتمدون على أذواقهم وعقولهم القاصرة، إلخ. ولو تواضعنا وطلبنا من الآخر أن يبين حجته بالبراهين لندرسها ونراجعها لكان أفضل مما نحن عليه من نفي الآخر، والتعالي عليه، ولعلنا أجهل منه، وأبعد عن الحق) اهـ كلام المالكي. والجواب عن هذا يسير من وجهين: أحدهما: أن ما ذكره المالكي قد سلم منه السلف وأتباعهم بحمد الله، وإنما هو وصف لحاله مع أئمة السلف وعلماء السنة، على حد قول الأول: "رمتني بدائها وانسلت "، وهو أحق الناس بنصيحته. الثاني: أن أهل السنة حنابلة وغيرهم رحمهم الله لما حكموا على علم الكلام بما حكموا به عليه، كان حكما عادلا منصفا، قد بينا سابقا دلائل صدقه، وظهور إصابته. ولا أدل وأوضح على ذلك من رجوع أبي الحسن الأشعري نفسه عما كان فيه من اعتزال وكلام إلى مذهب أهل السنة، وخص منهم إمام الأئمة أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وهذا قد ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته " الإبانة ".

فلم رجع الأشعري عن كلامه السابق، بل عن مذهبه كله إلى مذهب الإمام أحمد؟ أم أن أبا الحسن الأشعري - أيضا - لم يفهم ما كان هو عليه، ويحتج له، ويذب عنه؟ وكذلك رجوع أئمة المتكلمين وكبارهم - الذين بلغوا فيه الغاية، وأصبح المتكلمون يحتجون بهم، وقد كانوا يحتجون لهم - عن الكلام، وقد قدمنا ذكر بعضهم، وهذا يدل على دقة فهم السلف لمآل علم الكلام وأهله.

فصل في زعم المالكي أن من صفات الحنابلة الظلم والرد عليه

[فصل في زعم المالكي أن من صفات الحنابلة الظلم والرد عليه] فصل في زعم المالكي أن من صفات الحنابلة: الظلم، والرد عليه قال المالكي ص (143) في سياق ذكره صفات الحنابلة: (- الظلم، مثل قولهم: * المرجئة مثل الصابئين. * المرجئة يهود. * الرافضة أكفر من اليهود والنصارى. * المعطلة أكفر من المشركين. * المرجئة والقدرية ليس لهما نصيب في الإسلام. * الحنفية كاللصوص. * وصم المتأولين للنصوص كالأشاعرة وغيرهم بالملحدين، ومخانيث المعتزلة. * الجهمية كفار. * القدرية كفار. * الرافضة كفار. * القدرية مجوس) اهـ كلام المالكي.

والجواب من وجوه: أحدها: أن هذه أقوال قالها جماعة من أئمة السلف قبل الحنابلة، فجملة منها لسعيد بن جبير التابعي الكبير رحمه الله، ولأمثاله. الثاني: أن المعطلة والجهمية - ومنهم المرجئة الغالية - والرافضة متفقون على جملة اعتقادات قد أجمع السلف وأهل السنة بعدهم على تكفير قائلها، كالقول بخلق القرآن، وقد قدمنا أول الكتاب وفي غير موضع أسماء جماعات منهم، ودليل ذلك وحجته. أما القدرية فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما في " صحيح مسلم " (8) أنه كفرهم، وهو أول من كفرهم، فهم كفار بلا شك، وهذا موطن إجماع بين أهل السنة لا نزاع فيه. الثالث: أن وصف القدرية بالمجوس ظاهر لمشابهتهم لهم، فإن القدرية قالوا: إن العبد هو الذي يخلق فعله، فأثبتوا خالقين متعددين، كالمجوس الذين أثبتوا إلهين اثنين: النور والظلمة، بل القدرية أشر منهم لكثرة الخالقين الذين أثبتوهم. وكذلك تسمية الأشاعرة أو وصفهم بالملحدين فهم كذلك، وليس المقصود بالإلحاد هنا إنكار الله تعالى أو نفيه كما يظن المالكي، وإنما المقصود المعنى اللغوي، وهو الميل عن الحق إلى الباطل، وهذا يتفق فيه معهم كل مبتدع مال عن الحق إلى الباطل، أو تكلم في آيات الله عز وجل بغير المراد منها.

أما تسميتهم بمخانيث المعتزلة فحق أيضا، فإنهم خرجوا من الاعتزال، ولم يدخلوا في السنة، فبقوا مذبذبين، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، ليسوا معتزلة فيقولوا بأقوالهم، وليسوا من أهل السنة فلا يخالفوهم، وهذا معنى لا بأس به. الرابع: أما وصف الحنفية بأنهم كاللصوص فأرادوا به أحد أمرين: * إما أنهم لا حديث عندهم، وليسوا من ذوي العناية به، فكانوا يأخذون الحديث من أهل الحديث، ثم يحتجون به عليهم بخلاف ما أريد به، ولا ينسبونه إلى راويه. * أو أنهم يسرقون الناس من اتباع الحديث والأثر إلى اتباع الرأي، وقد قدمنا أن قائل هذا القول وغيره ليس بحنبلي، وإنما هو من أئمة السلف السابقين، ولا يخفى أنه يقبل منهم رحمهم الله ما لا يقبل من غيرهم، والحمد لله.

فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة إنكارهم فضائل الآخرين والرد عليه

[فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة إنكارهم فضائل الآخرين والرد عليه] فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة إنكارهم فضائل الآخرين، والرد عليه ثم ذكر المالكي ص (143) صفة أخرى للحنابلة، فقال: (- إنكارهم لفضائل المخالفين بأنهم لا يعرفونهم بطلب العلم، ولا بضبط الرواية، ولا صلاح السيرة، ولا تجنب الكبائر، ويريدون إبطال الشريعة، والمعطلة يريدون نفي وجود الإله، إلخ) اهـ كلامه. والجواب من وجوه أربعة: أحدها: مطالبته بدليل صدقه ومثاله، بذكر قول حنبلي واحد - ويكفينا – نفى عن المخالف صفة هي متحققة فيه، ولن يجد. الثاني: أن الجمل السابقة بعضها للإمام أحمد، وأخرى لغيره من الأئمة شافعية وغيرهم، فإن كان قولهم في أولئك باطلا، وهم لا يستحقونها، والمعروف عنهم خلافها، فليبد حجته. الثالث: أن الأمة قد أجمعت على فضل أولئك الأئمة الذين لم يستطع المالكي تسميتهم، وأشار إليهم بالضمير، ويعني بهم الإمام أحمد والحسن بن محمد الزعفراني وغيرهم ممن لهم تلك الأقوال التي ساقها وغيرها. فإن كان هذا حالهم مع مخالفيهم، يكذبون عليهم، وينفون عنهم ما يعلمون ثبوته فيهم، فهذا كذب صريح منهم، يسقط

العدالة، ويرد الرواية، فإما أن نأخذ بإجماع الأمة على عدالتهم وصدقهم ونزاهتهم، أو نأخذ بقول هذا الرافضي المالكي. الرابع: أنا قدمنا في موضع سابق تعديل الإمام أحمد رحمه الله لجملة من أهل البدع المخالفين له، وتوثيقه لهم فيما رووه، وهذا أعظم من مجرد الشهادة بطلب العلم، أو مجانبة الكبائر ونحوها، فإن توثيقه لهم يتضمن ذلك، مع سلامة ما رووه وأدوه. الخامس: أن إرادة الجهمية وأضرابهم إبطال الشريعة ظاهر، فإن أصل الشريعة وبابها " الوحيان "، وقد أبطلتهما أو كثيرا مما فيهما الجهمية بأنواع التأويلات، وضروب المعارضات، وأي إبطال للشريعة أعظم من هذا؟ أما إرادة المعطلة نفي وجود الله جل وعلا فهذا ظاهر أيضا في نفيهم علو الله جل وعلا على خلقه، وقولهم: إنه سبحانه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا يثبتون له - تعالى - صفة، بل ينفون عنه جميع الصفات بحجة أنه لا تجوز عليه تعالى الحركة ولا السكون، وليس بجوهر ولا عرض ولا جسم، فإذا نظرت في نعوتهم التي ارتضوها لله سبحانه وجمعتها لم تظفر بإله، وإنما لا تتحقق تلك الصفات إلا بالعدم المحض، فهذا نفي لوجود الله جل وعلا.

فصل في زعم المالكي أن الحنابلة لم يتركوا عالما خالفهم إلا ذموه وعابوه

[فصل في زعم المالكي أن الحنابلة لم يتركوا عالما خالفهم إلا ذموه وعابوه] فصل في زعم المالكي أن الحنابلة لم يتركوا عالما خالفهم إلا ذموه وعابوه، والرد عليه قال المالكي ص (143 - 144) : (ولم أجد عالما خالف غلاة الحنابلة في أمر وعلموا بمخالفته إلا ذموه، واتهموه بالبدعة أو الزندقة، وما إلى ذلك، وهذا له دلالة على الجهل بالنفس والآخرين، ويدل على تعصب مذموم شرعا وعقلا) اهـ كلامه. والجواب من وجوه أربعة: أحدها: أنه يريد بغلاة الحنابلة إذا ذكرهم أئمة السلف وعلماء الإسلام والسنة، وتقدم التنبيه على ذلك غير مرة، حيث نقل نصوصا لهم، ثم نسبها لغلاة الحنابلة. الثاني: أن الخلاف منه خلاف سائغ، ومنه خلاف غير سائغ، أما الخلاف السائغ: فما كان فرعيا لا صلة له بأصول الدين ومعاقد الإيمان، فهذا لا يوجب تبديعا ولا تضليلا ولا تكفيرا، أما غير السائغ: فما كان في أصول الدين، فهذا يوجب تارة تبديعا وتارة تضليلا أو تكفيرا.

وهذا قدر مشترك متفق عليه بين المسلمين جميعا، حنابلة وغير حنابلة، سنة ومبتدعة، بل هو متفق عليه عند أهل الملل والنحل جميعا، فما من صاحب ملة ونحلة إلا وهو يعتقد ضلال مخالفه فيها. الثالث: أن من بدعه الحنابلة أو ضللوه أو كفروه فإنما فعلوا ذلك لاستحقاقه ذلك الحكم بمخالفته لاعتقاد أئمة الإسلام، الثابت في الكتاب والسنة، وليس لمخالفته لهم كما زعم المالكي، ولا أدل على ذلك ولا أظهر من موافقة أئمة السلف وأهل السنة باختلاف مذاهبهم للحنابلة في أحكامهم تلك، كاتفاقهم على تكفير الجهمية والمعتزلة القائلين بخلق القرآن وبغيره من العقائد الفاسدة. الرابع: أنه لو كان الحنابلة يكفرون أو يضللون كل مخالف لهم مطلقا، سواء كانت مخالفته فرعية أو أصلية، لما سلم لهم أحد، بل لا تكاد تجد عالمين اثنين حنبليين أو غير حنبليين يتفقان في جميع أمورهما، وإن كانا متفقين في الأصول.

فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة الافتراء على الخصوم

[فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة الافتراء على الخصوم] فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة الافتراء على الخصوم، والرد عليه قال المالكي ص (146) في سياقه صفات الحنابلة بزعمه: (- الافتراء على الخصوم، مثل زعمهم أن جهم بن صفوان كان يريد أن يمحو آية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ) اهـ كلامه. والجواب من وجوه: أحدها: أن الجهم بن صفوان زنديق، أجمع أهل السنة على ضلاله وكفره، وأقوالهم فيه كثيرة جدا، حنابلة وغير حنابلة، بل أقوالهم في تكفير من قال بقوله أكثر من أن تحصى، فكيف به هو؟ وقد ذكرنا جماعات منهم في " المقدمة الثالثة " أول الكتاب. الثاني: أنه إذا كان الجهم بتلك المثابة وذلك الضلال فهو أهل لكل شر، فلا يستطيع المالكي أن ينفي ما نسب إليه سابقا إلا بحجة ودليل، لا بالتلبيس والتضليل. الثالث: أن ما نسب إلى جهم من إرادته محو تلك الآية غير مستغرب ولا مستنكر، فإنه وإن لم يتمكن من ذلك ويظفر به إلا أنه قد محا معناها الحقيقي، وجعل لها معنى باطلا فاسدا غير مراد ليبطل حكمها مع بقاء رسمها.

فصل في تبرئة المالكي الجهم بلا دليل مما نسب إليه من عدم الصلاة على النبي وذمه

الرابع: أن قائل تلك العبارة، أن جهما أراد محو آية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] هو من أصحاب جهم، ورواه عنه أبو نعيم شجاع بن أبي نصر البلخي سماعا من جهم، وليسا بحنبليين. [فصل في تبرئة المالكي الجهم بلا دليل مما نسب إليه من عدم الصلاة على النبي وذمه] فصل ثم قال المالكي ص (146) : (ويزعمون بأنه [أي الجهم] يصلي على عيسى، ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنه ذم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن ما ذكر قيل في بشر المريسي، وليس في الجهم كما في الموضع الذي عزا إليه المالكي في " السنة " لعبد الله بن الإمام أحمد (1 / 170) . الثاني: أن بشرا قد كفره جماعات من السلف، وضلله آخرون، فهو ساقط، لا تستنكر منه تلك الأقوال والأفعال، حتى تنفى عنه بلا حجة ولا دليل. الثالث: أن قائل ذلك ليس بحنبلي، وهو يحيى بن أيوب، قال عبد الله بن أحمد في " السنة " (1 / 170) : (أخبرت عن يحيى بن أيوب قال: كنت أسمع الناس يتكلمون في المريسي، فكرهت أن أقدم عليه حتى أسمع كلامه، لأقول فيه بعلم،

فصل في تبرئة المالكي الجهم من تحليل المسكر

فأتيته، فإذا هو يكثر الصلاة على عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فقلت له: إنك تكثر الصلاة على عيسى، فأهل ذاك هو، ولا أراك تصلي على نبينا، ونبينا صلى الله عليه وسلم أفضل منه، فقال لي: ذلك كان مشغولا بالمرآة والمشط والنساء) اهـ من " السنة "، فهل فيه أكفر من هذا الزنديق المسمى بشرا المريسي؟ عليه لعائن الله، ومن تولاه ودافع عنه. وقد أفرد الرد عليه وبيان ضلاله وكفره وزندقته الإمام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله، في كتابه الشهير " رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي الكافر العنيد ". [فصل في تبرئة المالكي الجهم من تحليل المسكر] فصل ثم قال المالكي ص (146) : (وأنه يحل المسكر) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا ليس مقولا في الجهم، وإنما قيل في أبي حنيفة رحمه الله. الثاني: أن قائله أبو عوانة (ت 175 هـ) ، وليس بحنبلي، بل هو متقدم على الإمام أحمد رحمهما الله، وأسن منه. الثالث: أن سبب ذلك إباحة أبي حنيفة وجماعة شرب النبيذ، وإخراجهم له من الخمر، وقد تكلم الفقهاء في ذلك، وحرم الجمهور

فصل في زعمه أن الحنابلة ظلموا بشرا المريسي وأصحابه حين قالوا عنهم إنهم لا يدرون ما يعبدون

النبيذ، وجعلوه خمرا مسكرا، إلا أبا حنيفة، فإنه لا يراه كذلك، وهذا معنى قول أبي عوانة، وقد أنكر على أبي حنيفة في ذلك جماعات. [فصل في زعمه أن الحنابلة ظلموا بشرا المريسي وأصحابه حين قالوا عنهم إنهم لا يدرون ما يعبدون] فصل ثم قال المالكي ص (146) : (وقولهم: إن بشرا المريسي وأصحابه لا يدرون ما (¬1) يعبدون) اهـ كلامه. والجواب من وجوه: أحدها: أن قائل ذلك وكيع بن الجراح كما في " السنة " لعبد الله بن أحمد، ووكيع (ت 197 هـ) من أئمة السلف، وهو متقدم على الإمام أحمد، وليس بحنبلي. الثاني: أن تتمة كلام وكيع رحمه الله تبين سبب حكمه على أولئك بما قال، وهو قولهم بخلق القرآن، وتعطيل الصفات، وإنكار علو الله، ولا يعرفون ربهم، ولا يصفونه إلا بالسلوب المجردة، التي لا تصلح أن تكون وصفا لشيء سوى الجماد أو العدم. ¬

(¬1) هكذا هو في كتاب المالكي، أما مصدره فهو فيه " مَنْ " وهو المناسب.

فصل في زعمه أن الحنابلة ظلموا بشرا المريسي وأصحابه حين قالوا عنهم أنهم ينفون وجود الله في السماء

[فصل في زعمه أن الحنابلة ظلموا بشرا المريسي وأصحابه حين قالوا عنهم أنهم ينفون وجود الله في السماء] فصل ثم قال المالكي ص (146) : (قولهم: إنما أراد بشر المريسي وأصحابه أن يقولوا: ليس في السماء شيء) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا حق، فبشر المريسي والجهمية والمعتزلة وأضرابهم لا يقولون: إن في السماء إلها، وينكرون علو الله - عز وجل - على خلقه، وأنه في السماء، وهذا عندهم من جملة " التوحيد "، ويدعون إليه، وينافحون عنه، فلم الإنكار إذن؟ وهل يعلم المالكي غير هذا إن كان يعلم؟ الثاني: أن قائل ذلك: حماد بن زيد (ت 179 هـ) ، وهو من أئمة السلف وكبار المحدثين، وليس بحنبلي، بل هو متقدم على الإمام أحمد. الثالث: أن هذا القول قاله حماد بن زيد في الجهمية، ولم يخص حماد أحدا منهم بتسميته، ولا شك أن المريسي جهمي، بل من كبارهم، ولكن لم خص المالكي بشرا وأصحابه دون البقية، وترك نص حماد مع وقوفه عليه؟ [فصل في زعمه أن الحنابلة ظلموا الجهمية حين قالوا أن من قال القرآن مخلوق فهو يعبد صنما] فصل ثم قال المالكي ص (146) : (وزعمهم أن من قال: " القرآن مخلوق " فهو يعبد صنما، وأنه قد قال على الله ما لم تقله اليهود

فصل في زعمه أن عبد الله بن أحمد ظلم الجهمية حين قال من زعم أن الله لا يتكلم فهو يعبد الأصنام

والنصارى) اهـ. والجواب من وجهين: أحدهما: صحة القولين، فإن من عطل صفات الله - عز وجل - الذاتية والفعلية خشية تشبيه الله عز وجل - بزعم أهل البدع - بالمخلوقات الحية، ونفى لذلك كلام الله، وقال بخلق القرآن، فقد جعل إلهه جمادا؛ لسلبه جميع الصفات، ووصفهم له بأوصاف الجمادات، فهم مشابهون لعباد الجمادات كالأصنام وغيرها. الثاني: أن هاتين الجملتين لإمامين كبيرين، أولاهما لهارون بن معروف المروزي رحمه الله (ت 231 هـ) ، والأخرى لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ) ، وهما ليسا بحنبليين. [فصل في زعمه أن عبد الله بن أحمد ظلم الجهمية حين قال من زعم أن الله لا يتكلم فهو يعبد الأصنام] فصل قال المالكي ص (146) : (وقد عنون عبد الله بن أحمد عنوانا في كتابه " باب من زعم أن الله لا يتكلم فهو يعبد الأصنام ") اهـ. وهذا والله حق، وقد تقدم بيان معناه، وصحته في سابقه. [فصل في زعم المالكي أن ما قدمه من افتراء الحنابلة على خصومهم جزء يسير مما عنده] فصل قال المالكي ص (146) : (وغير هذا مما لا يمكنني حصره، ولم أشأ أن أتتبعه) اهـ. والجواب: أن المالكي قد اجتهد في الكذب والافتراء على الحنابلة، ولم يظفر - مع

فصل في زعمه أن الحنابلة زعموا أن أبا حنيفة يزعم أن النبي عليه السلام لو أدركه لأخذ بكثير من قوله

حرصه على التلبيس، وعدم امتناعه عن الكذب - بموضع واحد فقط يصح فيه زعمه وبهتانه على الحنابلة رحمهم الله، أو على غيرهم من أهل السنة. وكلامه هنا من جملة كلامه هناك، دعاوى خاوية، وادعاءات خالية. [فصل في زعمه أن الحنابلة زعموا أن أبا حنيفة يزعم أن النبي عليه السلام لو أدركه لأخذ بكثير من قوله] فصل قال المالكي ص (146 -147) : (وزعموا أن أبا حنيفة يزعم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لو أدركه لأخذ بكثير من قوله) اهـ. والجواب: أن قائل هذا يوسف بن أسباط الشيباني الزاهد (ت 195 هـ) ، وليس بحنبلي.

فصل في زعمه أن الحنابلة لم يكفهم الافتراء على الناس حتى افتروا على الجن والهواتف

[فصل في زعمه أن الحنابلة لم يكفهم الافتراء على الناس حتى افتروا على الجن والهواتف] فصل في زعمه أن الحنابلة لم يكفهم الافتراء على الناس، حتى افتروا على الجن والهواتف، وجعلوهم مؤيدين لهم، والرد عليه قال المالكي ص (147) : (ولم يكتفوا بالافتراء على البشر، حتى افتروا على الجن والهواتف، فيأتون بالأخبار التي تجعل الجن في صفهم، وكأن الجن والهواتف ليس فيهم معطلة ولا جهمية، مع أن القرآن الكريم قد أخبر عنهم أن فيهم الصالحون (¬1) وفيهم الكفار. ومن أمثلة هذه الأساطير هنا: ما رووه من أنهم سمعوا هاتفا يلعن (بشرا المريسي، وثمامة بن أشرس) اهـ. والجواب من وجوه ثلاثة: أحدها: أن قائل هذا ليس بحنبلي كذلك، فقد رواه عبد الله بن أحمد في " السنة " (1 / 169) (195) بإسناد صحيح، قال: (حدثني هارون بن عبد الله الحمال، ثنا محمد بن أبي كبشة قال: " سمعت هاتفا يهتف في البحر ليلا فقال: لا إله إلا الله، كذب المريسي على الله عز وجل، ¬

(¬1) كذا عند المالكي، وصوابها (الصالحين) اسم (أن) مؤخر، ولعل المالكي اكتفى بنصبه عن نصبها.

ثم هتف ثانية فقال: لا إله إلا الله، على ثمامة والمريسي لعنة الله، قال: وكان معنا في المركب رجل من أصحاب بشر المريسي، فخر ميتا ") اهـ. وهارون: عالم، ثقة، جليل، احتج به مسلم في " صحيحه "، ووثقه الأئمة الكبار، وابن أبي كبشة: وثقه ابن حبان، رحمهم الله جميعا. الثاني: أن سبب نفي المالكي لهذا الأثر الصحيح عن هذا الهاتف كونه جاء موافقا لاعتقاد السلف رحمهم الله، مع أن الجن فيهم المؤمن والكافر، والسني والجهمي وغير ذلك، كما ذكر هو، وهذا الأمر - أعني وجود كفار ومبتدعة في الجان - الذي يخاله المالكي علة تبطل هذا الأثر لا قيمة له، فوجود هاتف بأمر موافق لاعتقاد السلف لا ينفي وجود آخرين مخالفين له. ولا تصح له علته هذه إلا إذا ادعى أن الجان والهواتف كلهم على اعتقاد واحد مخالف لاعتقاد السلف، وهذا لا يدعيه، ولا يسعه ذلك، وقد قال خلافه. الثالث: أن ما هتف به هذا الهاتف أمر متفق عليه بين أهل السنة جميعا، وكان عليه أئمة السلف رحمهم الله، فليس بأمر منكر ولا مستغرب.

فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة عدم إدراك معنى الكلام

[فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة عدم إدراك معنى الكلام] فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة عدم إدراك معنى الكلام، والرد عليه ثم قال المالكي في سياق صفات الحنابلة ص (160) : (- عدم إدراك معنى الكلام من السمات الغالبة على مذهبنا العقدي السلفي الحنبلي أننا لا ندرك معاني الألفاظ والمصطلحات التي نتحدث بها، فتجد ألفاظا ضخمة، فإذا سألت قائلها عن معانيها إذا به يبهت) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن دعواه الانتساب لمذهب الحنابلة السلفي في الاعتقاد باطل، قد قدمنا بطلانه، وأنه لا يصح انتسابه لهم إلا إن صح انتساب زياد لبني أمية، وكتابه هذا دال على اعتقاده الرافضي المعتزلي الفاسد، كما أنه ليس من أهل العلم ولا من طلبته حتى يكون حنبليا أو غير حنبلي. الثاني: مطالبته بمثال واحد فقط يدل على صحة ما ادعاه، ولن يجد. الثالث: أن هذه الألفاظ الضخمة التي يزعم المالكي أن الحنابلة يتكلمون بها، ولا يعرفون معانيها، لها حالان:

- إما أن يزعم أن الحنابلة اختلقوها وتكلموا بها دون بقية علماء المسلمين، فإن كان هذا فهم أدرى الناس بها، وأعرف بمقصودها من غيرهم، فهم محدثوها وصانعوها، والمحتكم إليهم في معانيها. - وإما أن يقول: تكلم بها الحنابلة وغير الحنابلة، فلم إذن يحمل على الحنابلة ويترك غيرهم؟ وإن قال: لجهلهم بمعانيها، قلنا: ولم اختار الجهل الحنابلة وترك غيرهم؟ ثم يلزمه أحد أمرين: * إما أن يقول: إن الحنابلة كلهم باختلاف عصورهم قد تكلموا بتلك الألفاظ وهم يجهلونها. * أو يقول: منهم من جهلها، ومنهم من يعلم معانيها. إن كان الأول فلا يوافقه عليه عاقل، وإن كان الثاني فلماذا علم حكمه وجعل ذلك من صفات الحنابلة؟ ولا يخلو أتباع مذهب من جهل بعض أتباعه في بعض المسائل، أو عدم تمكنهم منها، فلم يحمل على الحنابلة؟ ثم يلزمه أحد أمرين كذلك: * إما أن يقول: إن تلك الألفاظ - المزعومة - جهلها الحنابلة أو بعضهم، وهو عرفها وحده.

* أو أن أهل العلم قبله نبهوا على عدم فهم الحنابلة لها. إن كان الأول: فقد ادعى ما يعلم هو بطلانه، وما لم يسلم به له أحد، وكيف لا ينبه أحد من علماء المسلمين على ذلك ويبينه، ثم ينبه مثل هذا الجاهل؟ وإن كان الثاني: فمن هو ذلك المنبه؟ وما تلك الألفاظ التي زعم خطأ الحنابلة في معرفتها؟ وأين نبه؟

فصل في تشكيك المالكي في معاني مصطلحات كثيرة مستقرة عند أهل العلم

[فصل في تشكيك المالكي في معاني مصطلحات كثيرة مستقرة عند أهل العلم] فصل في تشكيك المالكي في معاني مصطلحات كثيرة مستقرة عند أهل العلم كالسلف الصالح، وأهل السنة، وأهل الأثر، وأهل الحديث، وحد البدعة، والإجماع، وغيرها، والرد عليه ثم قال المالكي ص (160) : (وتتردد عندنا في العقائد ألفاظ كثيرة، ومصطلحات فضفاضة، لا نعرف معناها، أو على الأقل يختلف الناس في تحديدها من شخص لآخر، فنطلقها بلا تحديد، مثل: " السلف الصالح "، " أهل السنة "، " أهل الأثر "، " أهل الحديث "، " الطائفة المنصورة "، " البدعة "، " الإجماع "، " الضلالة "، " الأمة "، " علماء الأمة "، " الرافضة "، " الجهمية "، " الخوارج "، " النواصب "، " الشيعة "، " الكتاب "، " السنة "، إلخ) اهـ. والجواب يسير من وجوه: أحدها: أنا نسلم له ما أثبته لنفسه من الجهل بتلك المصطلحات التي منها " الكتاب " و " السنة "، بل نسلم له أكثر من ذلك من الجهل وقلة العلم، غير أن جهله واعترافه به لا يدل على جهل غيره، وإنما يوجب عليه أمرا، وهو سؤال أهل العلم، قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] لا أن يرمي غيره به.

الثاني: إن كان مراده من إيراد هذه الألفاظ وبيان جهله بها أن يجهل الحنابلة بها، وينفي معرفتهم لها، فهذا باطل، وكتبهم كلها في العقيدة تبين معرفتهم التامة بها، وليست هذه الألفاظ مجهولة، حتى عند عامة أهل السنة بله علماؤهم. الثالث: أن معاني ما ذكره عندنا هي على ترتيبه: * السلف الصالح: هم أئمة الدين، وعلماء الأمة المتقدمين، من أهل القرون الثلاثة المفضلة الأولى، المستقيمين على السنة، ومنهم الصحابة جميعا، ثم تابعوهم بإحسان، وتابع تابعيهم، ومن تلاهم على الإحسان والإيمان، وقد تقدم ذكر جماعات منهم، وذكر أقوالهم في غير مسألة. وهذا الأمر لا ينازع فيه كثير من أهل البدع، بل يوافقون أهل السنة في هذا الحد، لكنهم قد يقولون: (مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم) . * وأهل السنة وأهل الحديث والأثر بمعنى واحد، وهم المستقيمون على الكتاب والسنة، على فهم السلف الصالح، فلا ينفون عن الله - عز وجل - ما أثبته لنفسه في كتابه، أو أثبته له رسوله، بل يثبتونه مسلمين للوحي، غير متكلفين ولا مكيفين أو مشبهين، ولا مؤولين أو معطلين.

ولا يثبتون له سبحانه شيئا لم يثبته لنفسه أو رسوله صلى الله عليه وسلم، محكمين الوحي في أمورهم كلها، متبعين علماء الأمة المرضيين، وسلفهم السابقين، في فهم معانيها، ومعرفة المقصود من ورائها. ولتمسكهم الشديد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، وآثار أصحابه وتابعيهم، رواية ودراية، سموا أهل الحديث، وأهل الأثر، وهم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة. * أما البدعة: فقد نص على بيانها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» [حم (3 / 310 و371) م (867) مي (206) جه (45) ن (1578) واللفظ له] . وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [حم (6 / 240 و 270) خ (2697) م (1718) ] . * والإجماع: اتفاق علماء الأمة الربانيين في عصر ما على حكم أمر ما، هذا في الأمور الشرعية، ويعتبر في كل إجماع غيره إجماع علمائه، فإجماع النحاة لا يعتبر فيه إلا النحاة، ولا يخرق إجماعهم من ليس له معرفة بالنحو، وإجماع الشرع دليل محكم في كل أمر ثبت وصح فيه.

والضلالة: كل ما صرف المسلم عن الكتاب والسنة وحقيقة فهمهما والعمل بأوامرهما، ككتاب المالكي هذا. والأمة: أمة دعوة، وأمة إجابة، فالأولى: يدخل فيها المسلمون، وأهل الكتاب وغيرهم ممن أدركوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، أو بعد مماته، فيلزمهم اتباعه، وترك ما هم عليه له. والثانية: أمة الإجابة، وهم الذين اتبعوه صلى الله عليه وسلم، وأسلموا ممن أدرك حياته صلى الله عليه وسلم، أو جاء بعده. والأصل في المراد بالأمة إذا أطلقت أمة الإجابة، وكذلك إذا نسبت إليها الفضائل والمحامد والنصر والعزة والرفعة والتمكن ونحوها، كقوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 110] الآية. وإذا قيل: علماء الأمة فالمقصود كما هو معلوم أمة الإجابة، أما أمة الدعوة فلا تراد بإطلاق " الأمة " إلا إذا دلت قرينة على ذلك، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن

بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» رواه الإمام أحمد في " مسنده " (2 / 317) ، ومسلم في " صحيحه " (218) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. * والرافضة والشيعة بمعنى: وهم كل من انتقص صحابيا واحدا فأكثر، وهم يسمون أنفسهم شيعة، يزعمون كذبا تشيعهم لآل البيت رضي الله عنه، وأهل السنة يسمونهم رافضة لرفضهم الإسلام والحق، ورووا - أعني الرافضة - أنهم لما سماهم أهل السنة رافضة جاءوا جعفرا الصادق - رضي الله عنه - فشكوا له ذلك، فقال: " والله ما سموكم به، ولكن الله سماكم ". * والنواصب: من ناصب الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه العداء وكرهه، ثم صار لقبا لمن ناصب آل بيته - رضي الله عنه وعنهم - العداء أو كرههم، وكذلك آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم عامة. لذلك فإن الرافضة - التي تزعم التشيع للآل ومحبتهم - ناصبة كذلك، فإنهم يزعمون محبة علي - رضي الله عنه - وآل بيته، وآل البيت عامة، ثم تراهم يطعنون في سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي - رضي الله عنهما -، ويصفونه بصفات قبيحة كمسود وجوه

المؤمنين لتنازله - رضي الله عنه - بالخلافة لمعاوية - رضي الله عنه - وحقن دماء المسلمين، وكان ذلك سبب مدح النبي صلى الله عليه وسلم والثناء عليه حين قال صلى الله عليه وسلم: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» [حم (5 / 38 و 44 و 47 و51) خ (2704) ، (3629) ، (3746) د (4662) ت (3773) ن (1410) ] . ويطعنون في حبر الأمة عبد الله بن عباس، وأخيه عبيد الله - رضي الله عنهم -، وفي زوجات رسول الله، أمهات المؤمنين عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وآخرين، بل لم يسلم أحد من آل البيت من طعنهم، لا علي، ولا الحسين، ولا ذريته، بل ولا النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أراد أن يرى ذلك مجموعا في كتاب فليرجع إلى كتاب العلامة الحسن الموسوي - أحد كبار علماء الشيعة، بالحوزة النجفية - " كشف الأسرار، وتبرئة الأئمة الأطهار " ويعرف بـ " لله ثم للتاريخ " طلبا للاختصار، ففيه طلبة المحق، وغيض المبطل. * أما الجهمية: فهم من نفى عن الله سبحانه صفة أو اسما ثابتا فأكثر، أو نفى القدر، أو قال: إن الإيمان المعرفة فحسب، ولهم أقوال غير ذلك، وما سبق مدار أقوالهم.

* والخوارج: هم المارقة الذين خرجوا على علي - رضي الله عنه - عند التحكيم وبعده، وقد ولي علي - رضي الله عنه - قتلهم فقتلهم، وفرق جموعهم، ونال بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بفضل من قاتلهم، وقد استقر مذهب الخوارج بعد ذلك على عدة أمور، منها: تكفير مرتكب الكبيرة غير المستحل لها، والخروج على أئمة الجور المسلمين. * والكتاب: هو القرآن، كلام رب العالمين، المنزل غير المخلوق، تكلم به سبحانه وحيا، وسمعه منه جبريل، وألقاه على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المحفوظ تاما كاملا بين دفتي المصحف، فمن قال: إنه مخلوق، أو ناقص، ولو حرفا كفر بالإجماع. * والسنة: هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، وكذلك تطلق السنة على ما كان مستندا على ذلك، فيقال: من السنة: الإيمان بالقدر، وأن الإيمان يزيد وينقص، والمسح على الخفين، وهكذا.

فصل في زعمه أن الصحابة كانوا مختلفين في مسائل كثيرة فاتباع ما كانوا عليه متعذر

[فصل في زعمه أن الصحابة كانوا مختلفين في مسائل كثيرة فاتباع ما كانوا عليه متعذر] فصل في زعمه أن الصحابة كانوا مختلفين في مسائل كثيرة، عقدية وفقهية وسياسية، فاتباع ما كانوا عليه متعذر، والرد عليه قال المالكي ص (160) : (وكذلك قوله (¬1) بعضهم: " عليك بما كان عليه الصحابة " نصيحة مطاطة، فإن كان يعرف أن الصحابة قد اختلفوا في أمور كثيرة، عقدية وفقهية وسياسية، فأيهم نتبع؟ فإن كان القائل لا يعرف اختلافهم فهذه مصيبة، وإن كان يريد إجماعهم فلم يجمعوا إلا على شيء معروف فيه نص شرعي غالبا) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن الموصي بلزوم ما كان عليه الصحابة هو النبي صلى الله عليه وسلم في قوله صلى الله عليه وسلم في تلك الفرقة الناجية من النار: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» ، وما ألزمنا المالكي به يلزم النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان لا يدري صلى الله عليه وسلم أن أصحابه سيختلفون، ثم أمر بلزوم ما كانوا عليه فهذه مصيبة. ¬

(¬1) كذا في كتاب المالكي.

وإن علم صلى الله عليه وسلم، ولكن أراد إجماعهم، فهم لم يجمعوا إلا على شيء معروف فيه نص شرعي غالبا، كما زعم المالكي. الثاني: أن أمر السلف وعلماء الأمة والأئمة بلزوم ما كان عليه الصحابة يعنون به الأصول لا الفروع، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - وإن اختلفوا في الفروع الفقهية، إلا أنهم لم يختلفوا في الأمور الأصولية العقدية. الثالث: عدم تسليمنا له بوجود اختلافات بين الصحابة - رضي الله عنهم - في العقيدة، ومطالبته بمثال واحد صحيح لصحة زعمه. فإن قال: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا، قلنا له: وهل لك غيره؟ فإن هذا لا يصح مثالا لك، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - مجمعون على رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، والأحاديث في ذلك متواترة، لكنهم اختلفوا في جواز ذلك في الدنيا، وهل كانت رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ربه حقيقة أو رؤية منام؟ والنزاع في هذه الأخيرة فرعي ليس أصليا.

فصل في زعم المالكي بطلان بعض ما أجمع عليه الصحابة وغيرهم

[فصل في زعم المالكي بطلان بعض ما أجمع عليه الصحابة وغيرهم] فصل في زعم المالكي بطلان بعض ما أجمع عليه الصحابة وغيرهم، والرد عليه قال المالكي ص (160) : (لكن أكثر دعاوانا في إجماعهم أنهم أجمعوا على أن القرآن غير مخلوق، أو على تقديم أبي بكر أو علي، وغير ذلك، إنما هي مجرد دعاوى، تدل على جهلنا بمعنى " الإجماع "، وجهلنا بالتاريخ نفسه. إذ إن أكثر هذا افتراء عليهم، فقد كان الأمر بين غائب عنهم لم يبتوا فيه أو مختلف فيه بينهم) اهـ كلامه. وأقول: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم قد خرج رفض هذا واعتزاله، وأخرج الله ما في صدره، أما إجماع الصحابة على أن القرآن منزل غير مخلوق، وأنه متكلم سبحانه متى شاء بما شاء، فهو إجماع معلوم، أكبر من أن ينكر، وقد حكاه الإمام الكبير اللالكائي - رحمه الله - وغيره. وهذا عليه الكتاب والسنة وأئمة الإسلام من عهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم بإحسان ممن جاء بعدهم.

بل إن المعتزلة كلها في عهد المأمون وبعده في ذلك العصر لم يستطع أحد منهم أن يقول ما قاله المالكي، بل كان أهل السنة يحجونهم بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين. أما إجماعهم على تقديم أبي بكر على الصحابة جميعا، علي وغيره - رضي الله عنهم جميعا -، فهذا حق، بل قد أجمعوا على تقديم عمر كذلك على علي، وأجمع أهل السنة قاطبة على ذلك. وأول من حكى إجماع الصحابة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فأخرج الإمام أحمد في " مسنده " (2 / 14) والبخاري في " صحيحه " (6598) عنه رضي الله عنه قال: (كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم) . ولم يخالف أحد منهم هذا الإجماع حتى علي رضي الله عنه وأرضاه، فقد روى البخاري في " صحيحه " (2671) عن محمد ابن الحنفية رضي الله عنه قال: (قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: " أبو بكر "، قلت: ثم من؟ قال: " ثم عمر "، وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت؟

قال: " ما أنا إلا رجل من المسلمين ". وصح عنه رضي الله عنه أنه توعد من قدمه على الشيخين أبي بكر وعمر أن يجلده حد المفتري، بل تواتر هذا عنه، أنه خطب به في مسجده على منبره في الكوفة، ذكر تواتره شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن كثير في " البداية والنهاية ". فإنكار المالكي هذا كله يدل على جهل مطبق وداء عضال.

فصل في جعل المالكي الولاء والبراء وهجر أهل البدع وأضرابهم من تشريع الكراهية بين المسلمين

[فصل في جعل المالكي الولاء والبراء وهجر أهل البدع وأضرابهم من تشريع الكراهية بين المسلمين] فصل في جعل المالكي الولاء والبراء، وهجر أهل البدع وأضرابهم، من تشريع الكراهية بين المسلمين، والرد عليه قال المالكي ص (161) تحت عنوان " تشريع الكراهية بين المسلمين ": (أصحاب العقائد يشرعون من عندهم للكراهية بين المسلمين بعبارات وأقوال باطلة، ولا مستند لها من الشرع كأقوال البربهاري ونقوله) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن المالكي هنا يحكي إجماع أصحاب العقائد - وهم من علماء المسلمين - على قولهم وأمرهم بكراهية المخالفين، فإن كان كما قال فإجماعهم حجة، فكيف يخالفه وهو يعلمه؟ الثاني: أنه قد أجمع أهل العلم من أهل السنة، بل ومن غيرهم من أهل البدع باختلاف مذاهبهم، على " كراهية بعض المسلمين " لمعاصيهم أو بدعهم، وهذا أمر يعلمه المالكي كما تقدم في كلامه. فهم يبغضون أصحاب المعاصي والكبائر، وأصحاب الضلالات والبدع، بغض النظر عن ضابط كل فئة، فضابط كل فئة لا يخرق الإجماع على هذا الأصل،

فإذ تقرر هذا دل على صحته، وأن أصله بالكتاب والسنة، وأن مخالفه مخالف للإجماع لا عبرة بقوله. الثالث: أن أهل السنة لما أبغضوا أهل البدع كان ذلك لمخالفتهم الشرع، وعظم ضررهم على المسلمين ودينهم، واتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كعمر مع صبيغ بن عسل، وعلي مع الخوارج، وسفكه رضي الله عنه لدمائهم، وعبد الله بن عباس وابن عمر مع القدرية وغيرهم. والمالكي ينكر ويعيب على أهل السنة وأصحاب العقائد عامة كرههم وبغضهم للمبتدعة والضلال؛ لأنهم داخلون في دائرة الإسلام مع تناقضه بطعنه وكرهه لكثير من أئمة الإسلام والسنة، بل وبعض الصحابة كمعاوية رضي الله عنه. فطعن في عبد الله بن أحمد، بل وأبيه أحيانا، وابن أبي يعلى، والبربهاري، وجماعات من أئمة السلف من التابعين وأتباعهم ممن صرح بأقوالهم، ولم يجسر على التصريح بأسمائهم. وكذلك طعن في كثير من خلفاء بني أمية، وبني العباس عدا المأمون مع بغيه وضلاله، بل وطعن في الحنابلة وغيرهم من علماء المسلمين، وهذا غاية الظلم والبغي والضلال، فكيف يعيب وينكر على العلماء بغضهم لأصحاب المعاصي والبدع؟

فصل في رميه البربهاري بتشريع الكراهية بين المسلمين، والرد عليه

[فصل في رميه البربهاري بتشريع الكراهية بين المسلمين، والرد عليه] فصل في رميه البربهاري بتشريع الكراهية بين المسلمين، والرد عليه ثم قال المالكي ص (161) : (وتأملوا الأقوال التالية للبربهاري مثلا، وكيف تشرع الكراهية بين المسلمين: * من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه. أقول: هذا يشبه ادعاء العلم بالغيب. * آكل مع يهودي ونصراني، ولا آكل مع مبتدع. * إذا علم الله من الرجل أنه مبغض لصاحب بدعة غفر له. * ومن أعرض عن صاحب بدعة ملأ الله قلبه إيمانا. * ومن انتهر صاحب بدعة أمنه الله يوم الفزع الأكبر. * ومن أهان صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مائة درجة) اهـ. والجواب من وجوه ثلاثة: أحدها: أن نسبة المالكي هذه الأقوال للبربهاري لا تصح، فإنه - رحمه الله - ناقل لا قائل، وقد ذكرها في كتابه " شرح السنة " ص (138 -140) ، ونسبها للإمام الكبير والزاهد الشهير الفضيل بن عياض رحمه الله.

وهي أقوال مشهورة عنه روى غالبها: * أبو نعيم في " الحلية " في ترجمة الفضيل (8 / 103) . * واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ". * وابن بطة في " الإبانة الكبرى "، وجماعة غيرهم. فإن كان في ذلك عيب فالمعيب الفضيل لا البربهاري. الثاني: أن أقوال أئمة السلف ومن تبعهم بإحسان من الخلف متواطئة ومتفقة على ذلك، لا تجد بينهم فيه خلافا. الثالث: أن هجر ونهر وزجر أصحاب البدع وبغضهم وكرههم من أعظم الطاعات، وأوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، فمن حقق ذلك حقق طاعة عظيمة تزيد الإيمان وتعلي الدرجات، ومخالفتها معصية تضعف الإيمان.

فصل في زعم المالكي أن من صفات الحنابلة ذم المناظرة والحوار لعدم قدرتهم عليه

[فصل في زعم المالكي أن من صفات الحنابلة ذم المناظرة والحوار لعدم قدرتهم عليه] فصل في زعم المالكي أن من صفات الحنابلة ذم المناظرة والحوار لعدم قدرتهم عليه، والرد عليه ثم قال المالكي ص (162) في سياقه صفات الحنابلة: - ذم المناظرة والحوار: الحوار والمناظرة كانت سائدة عند المعتزلة، وبحوارهم ومجادلتهم جلبوا لجمهورهم كثيرا من الناس، ويبدو أنه لما رأى الحنابلة هذا الأمر قد تفاقم، وأنهم لا يستطيعون مناظرة المعتزلة، قالوا بتحريم ذلك من باب ردة الفعل فقط، فقط. مع أن الله - عز وجل - في القرآن الكريم يأمر رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بطلب البراهين من الكفار {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] ، وهذه البراهين التي يطلبها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الكفار ليست في أمر هين من الأمور التي يتحدث عنها البربهاري، بل إنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يطلب البرهان على أن لله شريكا يستحق العبادة.

فإذا جاز طلب البرهان من المخالف على أن لله شريكا فمن باب أولى جواز طلب البراهين على أمور أقل أهمية، كالتي تختلف فيها الطوائف الإسلامية من قضايا الإيمانيات أو الأحكام. والجدل المذموم إنما هو الجدل الذي لا يطلب صاحبه الحقيقة، وإنما يريد المغالبة والمكابرة، أما إن أعلن الطرف الآخر أنه يريد الحق، وجعل البحث العلمي هو السبيل الأمثل لحل المسائل المختلف فيها فقد أنصف، وتجب أو تستحب محاورته ومجادلته) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن المعتزلة كانت ذليلة منبوذة، لا يسمع لهم، ولا يجلس إليهم، لا من العامة، ولا من الخاصة، لا في عهد الإمام أحمد رحمه الله، ولا في عهد من قبله من التابعين وأتباعهم. وكان الظهور والسواد والمحبة والأتباع والنصرة لأهل السنة، لذا لم يتمكن المعتزلة من نشر ضلالهم إلا بسيف المأمون، وحمل الناس عليه قسرا، فقتل العلماء - قتله الله - وأضل العامة، فأين البحث العلمي والمناظرة والحوار المراد منه الحق؟ ومع ذلك كله، وتعاقب ثلاثة خلفاء عليه، لم يتمكن المعتزلة من نشر ضلالهم، ولا ترويج بدعهم، وما إن انتهت المحنة إلا وعاد الناس لحضور مجالس علمائهم المتبعين الصادقين، ومنابذة المعتزلة المبتدعة

الملحدين، فأين ذلك الجمهور المزعوم للمعتزلة في ذلك الوقت والحين؟ الوجه الثاني: أن مناظرة أئمة السنة - حنابلة وغيرهم - للمعتزلة مشهورة، قد امتلأت بها الطروس والطباق في مجلس المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق بالله، وقبل ذلك وبعده. وكذلك إفحام أئمة الإسلام للمعتزلة، وخروجهم حيارى مخذولين، فمتى غلبت المعتزلة أهل السنة في المناظرات؟ وأين؟ الثالث: أن الحنابلة لم ينفردوا بتحريم مناظرة أهل البدع وجدالهم، بل قد حرمه أئمة الإسلام السابقون من التابعين فمن بعدهم، قال أبو قلابة رحمه الله: (لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم) . وقال الحسن البصري، ومحمد بن سيرين: (لا تجالسوا أصحاب الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم) . وقال البغوي (ت 510 هـ) رحمه الله في " شرح السنة " (1 / 216) : (واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه) اهـ. وعقد جملة من الأئمة أبوابا في بعض مصنفاتهم لذمه والتحذير منه كالآجري في " الشريعة "، وابن بطة في " الإبانة الكبرى "،

واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة "، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله "، وأبي القاسم التيمي في " الحجة في بيان المحجة "، وغيرهم. وقد ذكرنا هذا بنوع تفصيل في فصل سابق (ص 318 - 322) ، فلم خص المالكي الحنابلة بهذا وهو أمر عام عند السلف قبلهم؟ الرابع: أن الحوار والمناظرة والجدل في حكمها تفصيل، فتحل في حال، وتحرم في أحوال، وقد قدمت ذلك أيضا، فليرجع إليه من شاء. الخامس: أن ما كانت تجادل فيه المعتزلة والمبتدعة عامة أهل السنة أمور عظام تخرج من الإسلام، وتولج في الكفر، كقولهم بخلق القرآن، وتعطيل الصفات وغيرها، وهذا بإجماع أئمة الإسلام، كما تقدم في غير موضع، فليس نزاعنا وجدالنا معهم في أمور هينة كما زعم المالكي.

فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة التزهيد في التحاكم إلى القرآن الكريم

[فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة التزهيد في التحاكم إلى القرآن الكريم] فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة التزهيد في التحاكم إلى القرآن الكريم، مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرجال، والرد عليه قال المالكي ص (164) في سياقه صفات الحنابلة بزعمه: (- التزهيد في التحاكم إلى القرآن الكريم، مع المبالغة في الأخذ بأقوال الرجال القرآن الكريم أعلى مصدر تشريعي عند المسلمين، فقد اختلف المسلمون في ثبوت السنة، وفي الإجماع، وفي القياس، وفي قول الصحابي، وفي غير ذلك، لكن لم يختلفوا أن القرآن الكريم هو المصدر الرئيس الشرعي في كل أمر من الأمور الدينية، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] ، ففي الآية تحذير للمسلم بأن من لم يرض بالتحاكم إلى الله والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنه يقدح في إيمانه بالله واليوم والآخر) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أنا إذا قبلنا جنس الخلاف وعددناه خلافا معتبرا لم يسلم لنا حتى القرآن، فإن الرافضة مجمعة على تحريفه وئقصه، وقد جمع الطبرسي روايات الشيعة وأقوالهم في كتاب ضخم سماه " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب " ساق

فيه أكثر من ألفي رواية في ذلك، وقد وقفت عليه. بل جعل أبو الحسن العاملي - وهو أحد كبار أئمتهم - القول بتحريف القرآن ونقصه من ضروريات مذهب الشيعة، فقال: (وعندي في وضوح صحة هذا القول بعد تتبع الأخبار، وتفحص الآثار، بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع، وأنه من أكبر مقاصد غصب الخلافة) اهـ كلام العاملي. فإذا تقرر هذا فاعلم أن المعتبر من الخلاف خلاف أئمة الإسلام وعلماء السنة، لا أئمة الضلالة والبدعة، وإلا لربما ارتقى الخلاف بهؤلاء إلى الإسلام كله، إذا اعتبروا خلاف اليهود والنصارى، وملل الكفر الباقية. الثاني: أن من نازع في قبول السنة رد القرآن لأمره بالأخذ بها، ومرق من الدين، قال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وقال جل وعلا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . والرد إليه صلى الله عليه وسلم في حياته بسؤاله، والوقوف عند جوابه، والرد إليه صلى الله عليه وسلم بعد مماته إلى سنته، كما قال بذلك أئمة المسلمين، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " من رد السنة كفر ". ووجوب الأخذ بالسنة، وأنها وحي تحرم مخالفتها إذا صحت وثبتت، ولم تكن منسوخة، محل إجماع، فمن ردها فقد كفر،

وقد صنف الجلال السيوطي (ت 911 هـ) رحمه الله رسالة شهيرة سماها " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " في وجوب الاحتجاج بها وكفر المخالف، قال الجلال السيوطي - رحمه الله - في مقدمته بعد الحمدلة: (اعلموا - يرحمكم الله - أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة، وإن مما فاح ريحه في هذا الزمان، وكان دارسا - بحمد الله تعالى - منذ أزمان، وهو أن قائلا رافضيا زنديقا أكثر في كلامه أن السنة النبوية والأحاديث المروية - زادها الله علوا وشرفا - لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة. وأورد على ذلك حديث: «ما جاءكم عني من حديث فاعرضوه على القرآن، فإن وجدتم له أصلا فخذوا به، وإلا فردوه» ، هكذا سمعت هذا الكلام بجملته منه، وسمعه منه خلائق غيري، فمنهم من لا يلقي لذلك بالا، ومنهم من لا يعرف أصل هذا الكلام، ولا من أين جاء، فأردت أن أوضح للناس أصل ذلك، وأبين بطلانه، وأنه من أعظم المهالك. فاعلموا رحمكم الله أن من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا - بشرطه المعروف في الأصول - حجة كفر، وخرج عن

دائرة الإسلام، وحشر مع اليهود والنصارى، أو مع من شاء الله من فرق الكفرة) اهـ كلامه. وبقية كلامه، بل جميع كتابه - رحمه الله - مهم، نافع غاية النفع، مبين حكم هؤلاء المردة.

فصل في سبب تزهيد الحنابلة في القرآن

[فصل في سبب تزهيد الحنابلة في القرآن] فصل في سبب تزهيد الحنابلة في القرآن، وأن خصومهم أكثر تعظيما منهم له عند المالكي، وبيان كذبه، والرد عليه ثم قال المالكي ص (164) : (وكان المخالفون للحنابلة أكثر تعظيما للقرآن، واستدلالا به منهم، فلما رأى الحنابلة ذلك، وأن القرآن الكريم تستدل به الطوائف المبتدعة لجئوا إلى التزهيد من التحاكم إلى القرآن الكريم، مع تضخيم الآثار، والأقوال المنسوبة لبعض التابعين أو العلماء. بل بدعوا من يعود إلى القرآن الكريم، وقدموا عليه أقوال الرجال، يقول البربهاري: " إذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده، ويريد القرآن، فلا شك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم من عنده ودعه ") اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن مراد أئمة الإسلام بهذا ونحوه كقول البربهاري رحمه الله وغيره أمران: 1 - أن يرد الخصم السنة، ولا يحتج بها، ولا يقبلها، ولا يريد إلا القرآن فحسب،

وهذا قد قدمنا بيان كفره، وأن من قبل القرآن ورد السنة الصحيحة فهو كافر، والواجب قبولها. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الفئة المارقة فقال: «يوشك أن يقعد الرجل على أريكته، ويحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدناه فيه حلالا استحللناه، وما وجدناه حراما حرمنا، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله» ، رواه الإمام أحمد في " مسنده " (4 / 132) ، والدارمي (592) ، والترمذي (2664) وابن ماجه (12) ، والحاكم (1 / 109) ، وجماعة، من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه. 2 - أن يستدل على الخصم بالقرآن، وتكون الآية ذات وجوه ومحامل، فيبين للخصم المراد منها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو آثار أصحابه وتابعيهم، فلا يقبلها، ويردها، يريد حمل القرآن على عقله وهواه. ولا يقصد أئمة الإسلام غير هذين الأمرين، وهما ظاهران، وقد ساق الأئمة حنابلة وغيرهم كالدارمي في " السنة "، والبربهاري في " شرح السنة "، والآجري في " الشريعة "، واللالكائي في " السنة "، والبيهقي، وابن عبد البر في " جامع العلم "، والخطيب البغدادي في " الفقيه والمتفقه " وفي غيره، والسيوطي في " مفتاح الجنة " عشرات الآثار في هذا الباب عن بعض الصحابة، وجماعة من التابعين، ومن بعدهم.

والحنابلة أشد الناس احتجاجا بالقرآن، وتمسكا به، وبالسنة، وكيف يرد القرآن من يحتج بالسنة، وينتصر لها، ويذب عنها؟ وكيف يستقيم الاحتجاج بالسنة لأحد لا يحتج بالقرآن؟ وهذه " العقيدة الواسطية " لشيخ الإسلام ابن تيمية، مع أنها وريقات في المعتقد إلا أن فيها أكثر من (140) آية من القرآن محتجا بها. ورادو السنة بزعم الاحتجاج بالقرآن ليس حرصا منهم على القرآن، وقياما بأمره، وتمسكا بأحكامه، وإلا لأخذوا بالسنة، وإيجاب الأخذ بها منصوص عليه فيه، وإنما أرادوا إسقاط السنة، وترويج ذلك على السذج ونحوهم؛ كي لا ينتصف منهم، ويبقى القرآن مجملا في كثير من أحكامه دون مبين مفصل، فيحرفوا ظاهره بأهوائهم وآرائهم. الوجه الثاني: أن سلف الحنابلة وغيرهم من أئمة الإسلام في تقييد فهم القرآن بالسنة هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد أخرج ابن سعد في " الطبقات " من طريق عكرمة عن ابن عباس أن علي بن أبي طالب أرسله إلى الخوارج فقال: (اذهب إليهم فخاصمهم، ولا تحاجهم بالقرآن، فإنه ذو وجوه، ولكن خاصمهم بالسنة) .

فصل في بيان قول البربهاري إن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن

فما ألزم به المالكي الحنابلة - لما أمروا بالتحاكم إلى السنة في فهم القرآن - أنهم يزهدون في القرآن ويردونه، يلزم عليا رضي الله عنه، بل يلزمه رضي الله عنه فوق ذلك. وروى اللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " عنه رضي الله عنه قال: (سيأتي قوم يجادلونكم فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله) ، وروى الدارمي (121) واللالكائي (202) وابن عبد البر في " الجامع " (2 / 132) والخطيب في " الفقيه والمتفقه " وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنة أعلم بكتاب الله) . وهذه الآثار هنا وغيرها مما ورد في هذا الباب يبين مراد علماء الإسلام بأقوالهم تلك، كقول البربهاري رحمه الله وغيره، على الوجه الذي قدمناه في الوجه الأول. [فصل في بيان قول البربهاري إن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن] فصل ثم قال المالكي ص (164) : (وقال - يعني البربهاري: " وإن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن ". أقول [القائل المالكي] : السنة عظيمة المنزلة، لكن ليست أهم من القرآن، وهي أحوج إلى القرآن.

فالسنة تحاكم إلى القرآن، فيعرف ما ثبت عن رسول الله، وما لم يثبت، إذ إن من منهج المحدثين في معرفة ضعف بعض متون السنة مخالفتها للقرآن الكريم) اهـ. والجواب من وجهين: أحدهما: أن القرآن الكريم لما كانت أحكام العبادات فيه والتشريع مجملة غالبا، وكانت السنة مفصلة، سواء كانت قولية أو فعلية أو تقريرا، كان القرآن أحوج إليها من هذا الوجه. وخذ مثلا: أمر الله - عز وجل - في كتابه الكريم في آيات كثيرة بالصلاة والزكاة، ولكنه سبحانه لم يبين أركانها، وواجباتها، وشروطها، وعددها، وما يبطلها، وكم نصاب الزكاة؟ وما يزكى، وما يترك، وأجناس المزكيات، وغير ذلك مما لم تبينه إلا السنة، فالقرآن أحوج إلى السنة من السنة إليه لهذا الوجه، ولتضمن السنة أحكام القرآن مفصلة. الثاني: أن هذا القول على هذا الوجه لم ينفرد به البربهاري، بل قاله قبله: مكحول الشامي (ت 113 هـ) أحد أئمة التابعين ومحدثيهم وفقهائهم، بل هو عند أبي حاتم الرازي، وسعيد بن عبد العزيز أفقه أهل الشام بإطلاق. وقال يحيى بن أبي كثير (ت 231 هـ) وهو أحد كبار أئمة التابعين: (السنة قاضية على القرآن، وليس القرآن بقاض على السنة) رواه عنه

الدارمي في " سننه " (587) ، وبوب عليه (باب السنة قاضية على القرآن) . والمالكي يعلم مراد البربهاري، إلا أنه ارتضى التلبيس، فقد بين محقق " شرح السنة " - الردادي جزاه الله خيرا - للبربهاري (في الطبعة التي اعتمدها المالكي) مراد البربهاري، وساق ما ذكرته هنا وغيره في بيان ذلك. والسنة الصحيحة غير المنسوخة لا تخالف القرآن، بل هي موافقة له، وما يراه بعضهم مخالفا فإن ذلك في تصوره وعقله، لا في حقيقة الأمر، أما ما لم يصح من السنة فلا ينظر فيه، وافق القرآن أم خالفه.

فصل في زعمه أن البربهاري يقدم الرجال على النبي صلى الله عليه وسلم

[فصل في زعمه أن البربهاري يقدم الرجال على النبي صلى الله عليه وسلم] فصل في زعمه أن البربهاري يقدم الرجال على النبي صلى الله عليه وسلم، والرد عليه قال المالكي ص (164 - 165) : (وقال [يعني البربهاري] : " التكبير على الجنائز أربع، وهو قول مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والحسن بن صالح، وأحمد بن حنبل، والفقهاء، وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ". أقول: انظروا كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخر هؤلاء؟) اهـ كلام المالكي. والجواب على هذا التلبيس من وجهين: أحدهما: أن البربهاري رحمه الله استدل على صحة قول هؤلاء الأئمة بأنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستسغ أن يذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يعقب عليه بذكر قولهم. الثاني: أن البربهاري قد ملأ كتابه " شرح السنة " - وهو مصدر المالكي - بتعظيم السنة، وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وتقديمها وعدم تقدمها، ووجوب الحاكم إليها، لا إلى أقوال الرجال أو غير ذلك، حتى قال المالكي لشدة ما رأى من تمسك البربهاري - رحمه الله - بالسنة بأنه يقدم السنة على القرآن، فكيف يجعله المالكي الآن يقدم أقوال الرجال عليها؟

فصل في قول البربهاري إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار أو يرد الآثار أو يريد غير الآثار فاتهمه على الإسلام

قال البربهاري - رحمه الله - في كتابه " شرح السنة " (104 - 105) : (ومن خالف الكتاب والسنة فهو صاحب بدعة، وإن كان كثير العلم والكتب، واعلم رحمك الله أن من قال في دين الله برأيه وقياسه وتأويله من غير حجة من السنة والجماعة، فقد قال على الله ما لا يعلم، ومن قال على الله ما لا يعلم فهو من المتكلفين) اهـ. [فصل في قول البربهاري إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار أو يرد الآثار أو يريد غير الآثار فاتهمه على الإسلام] فصل ثم قال المالكي ص (165) : (وقال البربهاري أيضا: " وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار، أو يريد غير الآثار، فاتهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع ". أقول: وهل الذي يطعن على القرآن الكريم، أو لا يريد القرآن، ويريد أقوال الرجال، هل هذا مبتدع أم لا؟) اهـ كلام المالكي. وأقول: إن كان أمر البربهاري بالأخذ بالسنة، وفهم القرآن على ضوئها، يلزم منه رد القرآن - كما زعم المالكي -، فأولى الناس بالطعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجماعة غيره من أئمة الإسلام المتقدمين على البربهاري؛ لأمرهم بفهم القرآن بالسنة، وجعلهم السنة قاضية على القرآن.

وإن كان دافع المالكي لقول ما سبق في البربهاري هو الغيرة على كتاب الله الكريم فأين غيرته - المزعومة - من الرافضة، وهو يلمعهم، ويهون اختلافاتنا معهم، وينتصر في غير موطن لهم، وهم مجمعون على الطعن في القرآن بأنه ناقص غير تام، ومجمعون على رد كتب السنة جميعا؛ لأنها من رواية الناصبة؟

فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة التزهيد والتساهل في كبائر الذنوب والموبقات

[فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة التزهيد والتساهل في كبائر الذنوب والموبقات] فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة التزهيد والتساهل في كبائر الذنوب والموبقات، مع التشدد في أمور مختلف فيها، والرد عليه ثم قال المالكي ص (166) في سياقه ذكر صفات الحنابلة بزعمه، تحت عنوان " التزهيد والتساهل في كبائر الذنوب والموبقات، مع التشدد في أمور مختلف فيها ": (وهذا خلاف نصوص القرآن الكريم، فضلا عن السنة، قال البربهاري: " إذا رأيت الرجل من أهل السنة، رديء المذهب والطريق (¬1) فاسقا فاجرا، صاحب معاصي ضالا، وهو على السنة، فاصحبه، واجلس معه، فإنه ليس يضرك معصيته، وإذا رأيت الرجل مجتهدا في العبادة، متقشفا محترقا بالعبادة، صاحب هوى، فلا تجالسه، ولا تمشِ معه في طريق ") اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: بإصلاح ما حرفه المالكي في نقله من كتاب البربهاري - رحمه الله - وإتمامه، قال البربهاري ص (124) : (وإذا رأيت الرجل مجتهدا في العبادة، متقشفا محترقا بالعبادة، صاحب هوى، فلا تجالسه، ولا تقعد معه، ولا تسمع كلامه، ولا تمش معه ¬

(¬1) هكذا عند المالكي، وفي كتاب البربهاري ص (123) : (رديء الطريق والمذهب) .

في طريق، فإني لا آمن أن تستحلي طريقته، فتهلك معه. ورأى يونس بن عبيد ابنه وقد خرج من عند صاحب هوى، فقال: " يا بني من أين جئت؟ ". قال: من عند فلان. قال: " يا بني، لأن أراك خرجت من بيت خنثى أحب إلي من أن أراك تخرج من بيت فلان وفلان، ولأن تلقى الله يا بني زانيا، فاسقا، سارقا، خائنا، أحب إلي من أن تلقاه بقول فلان وفلان ". ألا ترى أن يونس بن عبيد قد علم أن الخنثى لا يضل ابنه عن دينه، وإلى صاحب البدعة يضله حتى يكفر؟) اهـ كلام البربهاري. الثاني: أن هذا ليس تهوينا للكبائر والموبقات، وإنما هو تعظيم للبدع والمحدثات، وأنه مع عظم الزنا والسرقة وغيرهما من المعاصي والفجور، إلا أن البدع أعظم جرما، وصحبة أربابها أشد ضررا من وجهين: أحدهما: اغترار الناس بالمبتدع إذا كان مظهرا للصلاح والعبادة، مما يغر بعض العامة، ومن لا بصيرة له. الثاني: أن المبتدع يتخذ بدعته دينا يتدين به، ويدعو إليه، ويذب عنه، ويجادل فيه، فخطر التأثر به كبير، أما العصاة فإنهم إن لم يستروا معاصيهم ويخجلوا منها لم يدعوا إليها. وإن دعوا إليها لم يستجب لهم؛ لظهور قبحها للعامة والخاصة.

وإن تأثر بهم أحد فهو أخف من تأثره ببدعة مبتدع ربما أخرجته من الإسلام جملة. وليس بخاف على أحد أن علماء المسلمين جميعا ينهون عن الكبائر والمعاصي، وعن صحبة أربابها، وهم حين يجعلون البدع والمبتدعة أشر من العصاة والمعاصي فلبيان خطر البدع والمبتدعة، لا لتهوين المعاصي والكبائر.

فصل في زعمه أن البربهاري يقدم الزناة والفساق والخونة على علماء الحنفية

[فصل في زعمه أن البربهاري يقدم الزناة والفساق والخونة على علماء الحنفية] فصل في زعمه أن البربهاري يقدم الزناة والفساق والخونة على علماء الحنفية، والمختلفين مع الحنابلة، والرد عليه ثم قال المالكي ص (166) : (وقال أيضا - يعني البربهاري -: " لأن تلقى الله زانيا، فاسقا، سارقا، خائنا، أحب إلي من أن تلقاه بقول فلان وفلان ". أقول: ويقصد بفلان وفلان علماء الحنفية، أو المعتزلة، أو المختلفين مع الحنابلة، لكن البربهاري يلقانا بقوله، وقول الأوزاعي، وحماد بن زيد، وهم على فضلهم بشر يصح أن يقال فيهم فلان وفلان، وهذا تناقض، ولا بد من منهج يحمي من التناقض) اهـ. والجواب من وجوه ثلاثة: أحدها: أن ما عابه المالكي على البربهاري ونسبه إليه ليس من قوله، وإنما هو من كلام يونس بن عبيد، أحد أئمة التابعين وحفاظهم، وحديثه مخرج في الصحاح الستة، وقد ذكرنا نصه في الفصل السابق. الثاني: أن مراد يونس بن عبيد (بفلان وفلان) عمرو بن عبيد، كما في بعض نسخ كتاب البربهاري، وذلك مذكور في حاشية طبعته، وقد ذكر الذهبي قصة يونس بن عبيد مع أبيه، وفيها التصريح بعمرو بن عبيد، فذكر الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (6 / 294) :

(أن خويلا - يعني ختن شعبة - قال: كنت عند يونس، فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله تنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد، وقد دخل عليه ابنك؟ قال: ابني؟ قال: نعم. فتغيظ الشيخ، فلم أبرح حتى جاء ابنه، فقال: يا بني قد عرفت رأيي في عمرو ثم تدخل عليه؟ قال: كان معي فلان، وجعل يعتذر. قال: أنهاك عن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ولأن تلقى الله بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو) اهـ. فمراد هذا الإمام الكبير ظاهر، ولم يرد الحنفية الذين أقحمهم المالكي لهوى في نفسه ومرض، ويظهر هنا تحذير يونس - رحمه الله - لابنه من المعاصي، وتبيينه لابنه أنها مع عظمها ونهيه له عنها إلا أن بدعة عمرو بن عبيد أعظم؛ لأنها كفر. الثالث: أن قياس المالكي عمرو بن عبيد وأصحابه من أهل البدع المرتدين بأئمة الإسلام كالأوزاعي وحماد بن زيد قياس فاسد، يدل على ضلاله وجهله.

فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة التقارب مع اليهود والنصارى والتشدد على المسلمين

[فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة التقارب مع اليهود والنصارى والتشدد على المسلمين] فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة التقارب مع اليهود والنصارى، والتشدد على المسلمين، والرد عليه ثم قال المالكي ص (167) في سياقه صفات الحنابلة بزعمه تحت عنوان " التقارب مع اليهود والنصارى، والتشدد على المسلمين ": (من سمات كتب العقائد عند غلاة الحنابلة أنهم يتساهلون مع اليهود والنصارى، ويفضلون مخالطتهم ومآكلتهم على إخوانهم المسلمين، نقل البربهاري أثرا تقول (¬1) " آكل مع يهودي ونصراني ولا آكل مع مبتدع ") اهـ. والجواب من وجهين: أحدهما: أن صاحب هذا القول ليس بحنبلي، لا من الغلاة، ولا من المعتدلين، وهو الإمام العابد الكبير الفضيل بن عياض (ت 187 هـ) من أئمة العلم والزهد والحديث، احتج به الشيخان. الثاني: أن عدم مآكلة المبتدع ومشاربته والأكل مع اليهودي والنصراني ليس لقرب اليهود والنصارى منا، ولا لخفة ضلالهم، ولكن مخافة إضلال هذا المبتدع لجليسه ومآكله؛ لاستدلاله على ضلالاته بمتشابه القرآن وتحريفه الكلم عن مواضعه فربما زل سامعه لجهله، ¬

(¬1) كذا في كتاب المالكي.

أما اليهودي والنصراني فضلالهما ظاهر بين. هذا مراد الأئمة من هذا وأمثاله، ويراعون في كل ذلك المصلحة، ألم تر أن النبي صلى الله عليه وسلم هجر الثلاثة الذين خلفوا، واشتد عليهم في ذلك مع صلاحهم وصدقهم، ولم يهجر المنافقين مع كفرهم وكذبهم؟ فهل يقول أحد: إن المنافقين أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحابته الصالحين، أو أنه صلى الله عليه وسلم يقارب مع المنافقين، ويتشدد على المؤمنين؟ وإنما كانت مصلحة الثلاثة المخلفين في هجرهم؛ ليتوبوا ويصدقوا الله، ويتوب الله عليهم، ويعفو - سبحانه - عن زللهم، فيكمل أجرهم، ويستقيم أمرهم، أما المنافقون فلا خير فيهم، ولا رجاء لاستقامة حالهم.

فصل في زعمه أنا لا نخشى إلا من المسلمين أما الكفار فلا

[فصل في زعمه أنا لا نخشى إلا من المسلمين أما الكفار فلا] فصل في زعمه أنا لا نخشى إلا من المسلمين، أما الكفار فلا، والرد عليه ثم قال المالكي ص (167) : (ونحن إلى اليوم لا نخشى إلا من المسلمين، ولا نحذر إلا منهم، ولو جاء مسافر من بريطانيا أو أمريكا لما استنكرنا شيئا، لكن لو قال: جئت من سلطنة عمان، أو من دولة إيران، لنظرنا إليه شزرا؛ لأن عمان إباضية، وإيران فيها أغلبية شيعية، ولا بد أن نسأل صاحبنا: لماذا سافرت إلى هناك؟ ولو علمنا به قبل سفره لحذرناه منهم كثيرا، بينما لا نحذره من اليهود ولا النصارى، بل ولا من الملحدين، ولنا في هذا تأويلات واعتذارات لا يسعني استعراضها، ولا الجواب عليها) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن خشية المالكي من المسلمين، وتحذيره منهم، وعدم استنكاره على المسافرين لبريطانيا وأمريكا وغيرها من بلاد المشركين، أمر يخصه، يدل على ضعف ديانته وجهله. أما الحنابلة وغيرهم من أئمة المسلمين فيحرمون السفر لبلاد الكفار، بريطانيا وأمريكا وغيرها، إلا لضرورة أو مصلحة راجحة

للمسلمين، قال الإمام ابن قيم الجوزية الحنبلي - رحمه الله - في " زاد المعاد " (3 / 122) : ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة المسلمين بين المشركين إذا قدر على الهجرة من بينهم، وقال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين "، قيل: يا رسول الله ولم؟ قال: " لا تراءى ناراهما» . وقال: «من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله» إلى آخر كلامه، ونحوه عند ابن قدامة - رحمه الله - في " المغني " (13 / 149 - 152) . فإذا حرم البقاء في أرض المشركين وهي موطن ذلك المقيم، فكيف يجوز السفر من بلاد المسلمين إلى بلاد المشركين؟ وقد أفتى علماء بلادنا المعاصرون والسابقون - رحم الله ميتهم، وحفظ حيهم - بحرمة السفر إلى بلاد الكفار إلا لمسوغ شرعي ظاهر. وأصدرت " اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء " بدار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية عدة فتاوى تحرم السفر إلى بلاد الكفار، وما يتعلق بذلك، ومن جملة الموقعين عليها: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله. وفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله. وفضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود شفاه الله، ومتعه بالصحة والعافية.

وفضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان حفظه الله. وفضيلة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله. الثاني: أن السفر إلى بلاد المسلمين التي فيها مبتدعة قلوا أم كثروا إن لم يخش على دين المسافر إليها، جائز، وبدعتهم وضلالهم لا تجعل بلادهم بلاد كفر وشرك. الثالث: أن ما نسبه المالكي إلى الحنابلة من تشدد على المسلمين، وتساهل مع الكافرين، باطل كما سبق، إلا أن المالكي هو الواقع فيه، فإن كتبه وأبحاثه الهزيلة كلها في الطعن في الصحابة، أو بني أمية، أو بني العباس، أو في علماء الحنابلة، أو أئمة السلف والتابعين، وغيرهم من مشايخ الإسلام، أما اليهود والنصارى فلم نر له شيئا فيهم قط، لا قليلا ولا كثيرا، وقد نبهنا على هذا في أول الكتاب عند ذكرنا تناقضات المالكي وكثرتها.

فصل في رميه الحنابلة بمخالفة المروءة لفرحهم بمصائب خصومهم من أهل البدع

[فصل في رميه الحنابلة بمخالفة المروءة لفرحهم بمصائب خصومهم من أهل البدع] فصل في رميه الحنابلة بمخالفة المروءة لفرحهم بمصائب خصومهم من أهل البدع، والرد عليه ثم قال المالكي ص (168) : (روى الخلال الحنبلي في " كتاب السنة " (5 / 129) (¬1) أن أحمد بن حنبل [سئل] (¬2) هل يأثم الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن أبي دؤاد " المعتزلي "؟ فقال: ومن لا يفرح بهذا؟ قيل له: إن ابن المبارك قال: الذي ينتقم من الحجاج هو ينتقم للحجاج من الناس، قال: أي شيء يشبه هذا من الحجاج؟ هؤلاء أرادوا تبديل الدين. أقول: أنا أستبعد هذا عن أحمد، لكن هذا الأثر وأمثاله يدل على فرح الحنابلة بحصول المصائب لمخالفيهم، وهذا خلاف المروءة، فضلا عن مخالفته لرحمة الإسلام وتعاليمه) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا أثر صحيح ثابت عن أحمد رضي الله عنه، فرواه الخلال عن أبي بكر المروذي، وهو عن أحمد، وهؤلاء أئمة ثقات كبار. ¬

(¬1) كذا في كتاب المالكي، والصواب: (5) . (¬2) ما بين المعقوفين ليس في كتاب المالكي، ولا يستقيم الكلام إلا به.

الثاني: أنه لما كان المسلم يفرح بعز وحياة من يكون في عزه وحياته نصر للإسلام، وإظهار للمسلمين، ويحزن إذا تخلف ذلك، كان الفرح بما يكون لأصحاب ابن أبي دؤاد من مصائب مشروعا، بل مسنونا؛ لحملهم الناس على الكفر، وقتلهم علماء الأمة، وحفاظها، وسجنهم البقية الباقين وتعذيبهم، أفيكون هذا ممنوعا، ويكون فعل المعتزلة بالأمة والأئمة محمودا؟ الثالث: أن مراد ابن المبارك في قوله سابقا أن من يذكر الحجاج بما ليس فيه، ويبغي عليه، فإن الذي سينتقم من الحجاج وبغيه على المسلمين وعلمائهم سينتقم ممن يبغي على الحجاج نفسه، ولعن الحجاج وذكر ظلمه بحق ليس فيه مصلحة مرجوة للمسلمين، بخلاف الطعن في المبتدعة، وتحذير الناس منهم، وبيان ضلالهم، فإن هذا فيه سلامة معتقداتهم، وصونا لدينهم. الرابع: أن زعم المالكي أن هذا خلاف المروءة ومخالف لرحمة الإسلام وتعاليمه باطل، وكيف تنتفي المروءة عنده إذا طعن في أعداء السنة وأهل البدع، ولا تنتفي عنه وهو يطعن في معاوية رضي الله عنه، بل في مسلمة الفتح جميعا، ويخرجهم من الصحبة، ويطعن في أئمة التابعين، وجماعات غيرهم من أئمة المسلمين؟ أما رحمة الإسلام ففي استقامة الناس على دين الله عز وجل، ودعوتهم إليه، وتحذيرهم مما يخالفه، بل ضرب رقاب أعدائه، ليبقى

صافيا كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولنا أسوة حسنة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بقتل ذلك الخارجي الذي كان يصلي، وفي ضرب عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل، وشجه لرأسه بالدرة، وقتال علي رضي الله عنه للخوارج، ففعلهم غاية البر والرحمة، إلا عند المنافقين والمرجفين والمبطلين.

فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة الحكم الجائر على نيات الآخرين

[فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة الحكم الجائر على نيات الآخرين] فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة الحكم الجائر على نيات الآخرين، والرد عليه ثم قال المالكي ص (168) في سياقه صفات الحنابلة بزعمه، تحت عنوان " الحكم الجائر على نيات الآخرين ": (روى الخلال عن أحمد (5 / 121) : " ما أحد أضر على أهل الإسلام من الجهمية، ما يريدون إلا إبطال القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ". أقول: وهذا وأشباهه أستبعده عن أحمد أيضا، وهو مروي بكثرة في كتب الحنابلة، وقد سبقت أحكام جائرة من هذا النوع في فقرات سابقة) اهـ كلام المالكي. والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا الأثر ثابت عن الإمام أحمد، صحيح عنه، مشتهر به، وجاء نحوه عن غيره من السلف رحمهم الله، والمالكي يعلم هذا، لذا أشار إلى كثرة روايته في كتب الحنابلة، وهو مروي أيضا عند غيرهم، فيلزمه أحد أمرين: * إما أن يكذبهم، ويرد رواياتهم عن الإمام أحمد بهذا الأثر وغيره. وإما أن يصدقهم، ويأخذ بقولهم.

فإن كان الأول لم يوافقه على ذلك أحد، والحنابلة من أئمة الدين، وعلماء المسلمين فقهاء ومحدثين، والطعن فيهم طعن في جماعات من علماء المسلمين بغير حق. وإن كان الثاني لزمه الطعن في الإمام أحمد، وهذا ما يحاول المالكي تجنبه؛ خوفا من المسلمين، وعلما منه بعدم رضاهم، بالطعن في أحد جبال العلم والحفظ والزهد والورع. الثاني: أن حكم الإمام أحمد ليس حكما على النيات، ولا المغيبات، وإنما هو حكم على الجهمية بأعمالهم الظاهرة، وأقوالهم المشتهرة، بل والمتواترة. فإنهم لم يتركوا آية في أسماء الله أو صفاته، أو في أمور الآخرة، أو في أمور الغيب عامة، إلا حرفوها، وأخرجوها عن ظاهرها إلى معان أخرى مخالفة لتأويلها الصحيح، ولبقية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عليه السلف الصالح وأئمة الهدى. وكذلك فعلوا بالسنة حين ردوها بأنواع التكلفات، وما قبلوه منها فعلوا به كما فعلوا بآيات القرآن، وهذا عين الإبطال، بل وأخبثه؛ لانخداع بعض العامة والرعاع بما قد يسمعونه منهم من متشابه القرآن وغيره.

فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة الأمر بقطيعة الرحم من أجل العقيدة

[فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة الأمر بقطيعة الرحم من أجل العقيدة] فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة الأمر بقطيعة الرحم من أجل العقيدة، والرد عليه قال المالكي ص (169) في سياقه صفات الحنابلة بزعمه، تحت عنوان " الأمر بقطيعة الرحم من أجل العقيدة ": (الله عز وجل أمر بصلة الرحم، ولو كان الأرحام كفارا، وأخص الأرحام هما الوالدان، فأمر الله عز وجل بالإحسان إلى الوالدين ولو كانا كافرين، لكن لا يطيعهما الإنسان إذا أمراه بالكفر، أما أصحاب العقائد من غلاة الحنابلة فيرون أنه يجب على الابن ألا يكلم أباه إذا كان هذا الوالد يرى أن القرآن مخلوق، أو توقف " السنة " للخلال (5 / 143)) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقطيعة الرحم من أجل العقيدة فحسب، بل وقتالهم وسفك دمائهم، والبراءة منهم، كما هو هدي أنبيائه - عليهم الصلاة والسلام - نوح مع ابنه وقومه، وإبراهيم مع أبيه وقومه، ولوط مع زوجه، ومحمد صلى الله عليه وسلم مع قومه وعمه وبني عمه، وهكذا صحابته رضي الله عنهم، وأئمة الهدى المقتدين بهم.

قال سبحانه وتعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] . قال الحافظ ابن كثير عندها في "تفسيره ": (وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره: أنزلت هذه الآية- {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [المجادلة: 22] إلى آخرها- في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة: "ولو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته ". وقيل في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة: 22] : نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر. {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة: 22] في الصدِّيق هَمَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن. {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} [المجادلة: 22] في مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ. {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضا. وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ، فالله أعلم) .

ثم قال ابن كثير: (ومن هذا القبيل: حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله تعالى أن يهديهم. وقال عمر: لا أرى ما رأى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! هل تمكنني من فلان- قريب لعمر - فأقتله، وتمكن عليا من عقيل، وتمكن فلانا من فلان، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادة للمشركين، القصة بكمالها) . ثم قال ابن كثير: (وفي قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المجادلة: 22] سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى، عوضهم بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه، بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم) اهـ كلام ابن كثير رحمه الله. والمحادّة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم: درجات، فمنها ما يكون بالكفر والشرك، كمحادة المشركين واليهود والنصارى، ومن ذلك أيضا: محادة الرافضة والجهمية والباطنية وأضرابهم. ومن المحادة أيضا، دون ذلك، كمحادة أهل البدع، ممن لم تخرجهم بدعهم من الإسلام. ومنها دون ذلك، كمحادة العصاة وأصحاب الكبائر، حتى جعل بعض الأئمة: سلاطين الجور المسلمين من المحادين كسفيان رحمه الله وغيره.

ويجب في كل نوع: الهجر، وعدم الموادة، والبراءة إلى الله من أصحابها، ونصحهم، وزجرهم، إلا أنهم في ذلك درجات، حسب درجات محادتهم. إلا إن كان في صلة أولئك: مصلحة شرعية راجحة، فتُراعى المصلحة، علها تتحقق. الثاني: أن ما حكاه المالكي، وعزاه "للسنة" للخلال (5 / 143) : باطل غير صحيح، ففي ذلك الموضع، ما يخالف ما زعمه المالكي، وهذا نص ما عند الخلال في ذلك الموضع، قال رحمه الله: (أخبرنا محمد بن النقيب بن أبي حرب الجرجرائي قال: سألت أبا عبد الله عن رجل له والد واقفي، فقال: "يأمره ويرفق به ". قلت: فإن أبى! يقطع لسانه عنه؟ قال: (نعم) اهـ. ثم قال الخلال: (وأخبرنا محمد بن أبي حرب قال: سألت أبا عبد الله عن رجل له أخت أو عمة، ولها زوج واقفي؟ قال: "يلتقي بها، ويسلم عليها". قلت: فإن كانت الدار له؟ قال: "يقف على الباب، ولا يدخل ") . ثم قال الخلال: أخبرنا أحمد بن أصرم المزني قال: سمعت أبا عبد الله، قال له رجل: إن لي أخا واقفيا، فأقطع لساني عنه؟

قال: نعم، نعم " مرتين أو ثلاثا) اهـ النقل من "السنة" للخلال. قلت: هذا جميع ما ذكره الخلال رحمه الله، في الموضع الذي عزا إليه المالكي، وذكر فيه ما ذكر، وليس فيه شيء مما زعمه! فإذا ظهر هذا، علمت بغي المالكي أيضا في قوله ص (169) بعد كلامه السابق، حين قال معلقا: (وهذا ما لا أعلمه في طائفة من الطوائف؛ لما للوالدين من مكانة كبيرة حث عليها الإسلام. وقد سمعنا في زماننا هذا بمن يهجر والديه لأدنى مخالفة، سواء في العقائد أو الأحكام!! وهذه نتيجة طبيعية، لهذه الكتب يجب ألا نغضب منها!! ما دمنا نصحح مضامينها!!) اهـ كلامه. وهذه نتيجة فاسدة، بمقدمة كاذبة، كما بينا سابقا. ولا أدري هل المالكي يعني بمن سمع به في زماننا هذا، أنه يهجر والديه لأدنى مخالفة سواء في العقائد أو الأحكام: ذلك العاق! الذي كان يكره أباه ويعقه، لذبه عن معاوية، وشدته على زوجته، لانحرافها عنه أو لا؟!! والمالكي يعلم من أعني!!

فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة النصب والرد عليه وبيان حكم الرافضة

[فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة النصب والرد عليه وبيان حكم الرافضة] فصل في زعمه أن من صفات الحنابلة: النصب! والرد عليه، وبيان حكم الرافضة ثم قال المالكي ص (170) في سياقه صفات الحنابلة بزعمه تحت عنوان "النصب ": (هذا الموضوع في غاية الأهمية؛ لأن أكبر الفرق الإسلامية التي بيننا وبينها خصومة شديدة، هي الشيعة. صحيح أن جذور هذه الخصومة كانت في القرن الأول، إذ لجأ بنو أمية، إلى الفتك بمحبي أهل البيت وإذلالهم، فقتلوا حجر بن عدي صبرا في عهد معاوية؛ لأنه أنكر سب علي على المنابر، وقتلوا عمرو بن الحمق الخزاعي، وكان ممن لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهاجر إليه، وكذلك كان حجر بن عدي. وقتلوا الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة بالسم، وقتلوا أخاه الحسين بالسيف، وارتكبوا مجزرة كربلاء) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن جميع ما ذكره المالكي هنا، كان قبل أن يُخلق أحمد! فلم يكن حينها أحمد! ولا صاحب لأحمد! فكيف تكون تلك أفعالا للحنابلة؟! بل صفة من صفاتهم؟!

الثاني: أن من ولي قتل حجر بن عدي رضي الله عنه: بنو أمية، وليس الحنابلة! أنا عمرو بن الحمق: فاختُلف في سبب موته، فقيل: قتل، وقيل: نهشته حية فمات، وقيل: إنه قتل حدا؛ لأنه أحد الأربعة الذين دخلوا على عثمان رضي الله عنه. وعلى جميع الأحوال، فلا علاقة للحنابلة، ولا حتى علماء المسلمين أجمعين بهذه الفتن. وكذلك سم الحسن وقتل الحسين، رضي الله عنهما وأرضاهما. وقتلهما مصيبة عظيمة، وقد قدمنا في هذا شيئا من التفصيل، في فصل تقدم. الثالث: أن الحنابلة جميعا، وأهل السنة عامة، محبون لأهل البيت، مقدمون لهم، مكرمون لمقامهم، يحفظون وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم. وهم بنو هاشم، وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حرمت عليهم الزكاة، تطهيرًا لهم، وإكمالا لرفعتهم، وإظهارا لعزتهم، وفد ذكرت في مواضع تقدمت شيئا من النقل عن الحنابلة في ذلك. الرابع: أن المالكي رمى الحنابلة بالنصب، وهم براء منه، ودافع عن الإباضية، وهم نواصب بلا شك، يجاهرون في كتبهم بسب علي بن أبي طالب - رضي الله عن علي - ولعنهم

ويدافع كذلك عن الروافض، وهم نواصب، فسبهم للحسن بن علي - رضي الله عنهما- مشهور، وتسميتهم له بمسود وجوه المؤمنين! وخديعتهم للحسين - رضي الله عنه- وإظهارهم له النصرة والقتال، حتى خرج من مكة هو وأبناؤه- وكانوا بها آمنين- وبرز له عدوه: خلوا بينه وبينهم، ليسفك دمه الطاهر. وطعن الرافضة في عبد الله وعبيد الله ابني العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنهم-: ظاهر غير خافٍ، وكذلك طعنهم في أمّي المؤمنين عائشة بنت الصديق، وحفصة بنت الفاروق - رضي الله عنهم جميعا- فهم الروافض والنواصب حقا. وقد بين العلامة الحسين الموسوي، أحد علماء الحوزة النجفية في كتابه "كشف الأسرار"، وتبرئة الأئمة الأطهار": طعن الرافضة في النبي صلى الله عليه وسلم نفسه! وفي علي رضي الله عنه! وعزا ذلك كله لمصادرهم المعتمدة المعتبرة، بل ذكر أنه ما من أحد من آل البيت، إلا وقد طعنوا فيه وانتقصوه! الخامس: عد الرافضة من فرق المسلمين، أو داخلة فيهم: غير مُسلَّم، فهم مجمعون على القول بخلق القرآن، وعلى نقص القرآن، وعلى الطعن في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وغير ذلك. وآحاد هذه المسائل يكفر صاحبها بإجماع الأمة، وتقدم بيانه.

وأنا أنقل هنا كلام بعض علماء الحنفية، في هؤلاء الرافضة، ليرى المالكي اتفاق الحنابلة مع غيرهم من علماء المسلمين وأئمتهم، أحنافا وغيرهم. قال السيد المطهر بن عبد الرحمن بن علي بن إسماعيل المدني الحنفي ابن قاضي العرب في رسالته في (تكفير الشيعة " (¬1) (61 / أ) : (قال في "الوجيز" و"الخلاصة": "الروافض إن كان يسب الشيخين ويلعنهما: فهو كافر. وإن كان يفضل عليا عليهما: فهو مبتدع. ومن قذف عائشة بالزنا: كفر") اهـ. وقال (62 / أ) : (قال في "الوجيز" و"الخلاصة": "من أنكر خلافة أبي بكر: فهو كافر في الصحيح، ومنكر خلافة عمر: كافر في الأصح ") اهـ كلام السيد المطهر بن عبد الرحمن المدني الحنفي، ابن قاضي العرب في رسالته في "تكفير الشيعة". وقال العلامة زين العابدين بن يوسف بن محمد بن زين العابدين الكوراني - وكان من أئمة الحنفية- في رسالته "اليمانيات المسلولة، على الروافض المخذولة" (¬2) التي جمعها لبيان حال الرافضة، وصواب تكفير ¬

(¬1) أصله محفوظ بـ "مكتبة عارف حكمت" بالمدينة النبوية، برقم (عام 698) ، وهو بخط المؤلف رحمه الله، فرع من سننه (990 هـ) . (¬2) طبع عام (1420 هـ ونشرته "مكتبة الإمام البخاري) ، بتحقيق ودراسة الدكتور المرابط بن محمد يسلم المجتبى، وأصله رسالة ماجستير، مقدمة إلى "كلية الدعوة وأصول الدين" بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ونالت درجة الامتياز.

من كفرهم، والرد على منكره، قال في أولها واصفا رسالته تلك (ص 104- 105) : (ناعية على الشيعة الشنيعة، والرافضة البشيعة بالإكفار، حاكمة عليهم بمباينة الدار، والخلود في دار البوار، مع ما سمحت به في ذلك آراء أكابر الأئمة، وأنظار علماء الأمة، الذاهبين في المذاهب الأربعة المستقيمة، السالكين مسلك السنة القويمة، جمعتها وأنا العبد المفتقر إلى الله الغني، زين العابدين بن يوسف. . . الكوراني بعدما رأيت بعض علماء السنة جازما بكفر هؤلاء المارقين الكافرين، وبعضا آخر قادحا في المكفرين، علما من الأول بقوانين الدين، وجهلا من الثاني بالحق المبين) . ثم قال رحمه الله (ص 291-294) : (المقالة الثالثة: في إفتاء العلماء بكفرهم. قد أفتى بذلك الإمام مالك والإمام الشافعي رضي الله عنهما، ووافقهما كثيرون من أئمة المسلمين كما سبق في المقالة الثانية، نقلا عن الشيخ ابن حجر. ونقل القاضي عياض عن الإمام مالك كيفية عقوبتهم من القتل وغيره. وكل ذلك مفصل في كتابه المسمى بـ "الشفاء". . . ووقع في "الفتاوى البزازية" القول بكفرهم؛ لقولهم برجعة الأموات إلى الدنيا، وإنكارهم خلافة الشيخين وغير ذلك من قباحاتهم. . . وقال الإمام فخر الإسلام البزدوي في "أصوله": "وقد صح عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت أبا حنيفة رضي الله عنه في مسألة خلق القرآن ستة أشهر، فاتفق رأيي ورأيه على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر. وقد صح هذا

القول عن محمد رحمه الله" انتهى. وهو صريح في كفر هؤلاء الضالين؛ لاتفاقهم مع المعتزلة على كون القرآن مخلوقًا على ما هو مسطور في كتبنا وكتبهم) . ثم قال رحمه الله (ص 295) : (ووقع في "الفتاوى التتارخانية": أن من أنكر خلافة أبي بكر، فالصحيح أنه كافر، وكذا خلافة عمر رضي الله عنهما. ونقل الإمام الرازي في "التفسير الكبير": القول بكفرهم وكفر الخوارج أيضا) . ثم قال (ص305) : (المقالة الرابعة: في بيان حال المتأخرين منهم، وحكم دارهم، وإفتاء العلماء فيهما. اعلم أن ما سبق هو بيان حال مطلق الشيعة والرافضة، فلو تنزلنا عن إكفارهم جميعا، فلا شك أن كثيرا من متأخري هذه الفرقة سيما الإمامية، قد التحقوا بالفرق الضالة كما مر مفصلا) . ثم قال (ص323-324) : (وممن صرح بإكفارهم، وأفتى به فيما بلغنا: العالم الزاهد المحقق المدقق مفتي الثقلين أستاذ الفريقين: المولى أبو السعود قدس الله سره. ومنهم: العالم الفاضل والمدقق الحافل المولى جلال الدين الدواني، مع كمال خبرته بحال هؤلاء الضالين. ومنهم: الفاضل الكامل المولى عصام الدين الإسفراييني، مع كثرة ممارسته لهم، وطول مؤانسته بهم) .

ثم قال (ص 325) : (وأيضا أفتى بذلك رئيس المفسرين، خالي العزيز المولى عبد الكريم الكوراني - ابن المولى المذكور مصنف "التفسير الواضح " وغيره من التصانيف المعتبرة، مع تبحره في العلم وكمال خبرته بحال هؤلاء الضالين) . ثم قال رحمه الله (ص 331) : (خاتمة في التكلم إجمالا فيما سبق وبيان ما حصل منه. اعلم أنا قد بينا في هذه الرسالة معظم عقائد الشيعة والرافضة بالنقل عن الكتب المعتبرة، والعلماء المهرة، وبينا ما أثبت الأئمة والعلماء به كفرهم، من الآيات والأحاديث، وذكرنا ما كفروا به من الأفعال والعقائد، ومن أفتى بكفرهم من العلماء، سيما علماء المذاهب الثلاثة، مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة، ومذهب الإمام الشافعي، ومذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنهم مع التحقيق في ذلك كله. وأثبتنا كون دار متأخريهم المخصوصة بهم دار كفر بلا شبهة، وأوضحنا أن إفتاء العلماء المتأخرين في حق هؤلاء الضالين، إنما كان مع علم وورع واختبار) إلى آخر كلام العلامة زين العابدين الكوراني، وهو مهم ومفيد، رحمه الله رحمة واسعة.

فصل في رميه الحنابلة بالاستدراك على الشرع باشتراطهم فهم السلف الصالح لنصوص الوحيين

[فصل في رميه الحنابلة بالاستدراك على الشرع باشتراطهم فهم السلف الصالح لنصوص الوحيين] فصل في رميه الحنابلة بالاستدراك على الشرع! باشتراطهم فهم السلف الصالح لنصوص الوحيين، وهذا عنده بدعة! والرد عليه قال المالكي ص (178) تحت عنوان "الاستدراك على الشرع، أو بدعة اشتراط فهم السلف) : (ترى أصحاب العقائد- وأخص هنا أصحابنا السلفية- يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ليقطعوا به كل آمال الاتفاق. فالله عز وجل أرشدنا عند اختلافنا مع المسلمين، أن نرجع للكتاب والسنة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] . فلما رأى أصحاب العقائد، ومنهم السلفية الحنابلة، أن العودة للكتاب والسنة، سيلغي أكثر الشئائم، والتكفيرات، والتبديعات، والمخالفات الموجودة في كتب العقائد: لجأوا إلى الزيادة على ما ذكره الله عز وجل بقولهم: "إن الكتاب والسنة لا تكفي، فلا خير في كتاب بلا سنة ولا خير في سنة بلا فهم السلف الصالح"!! وهكذا نفوا الخيرية عن الكتاب والسنة، بهذا الشرط البدعي الذي اشترطوه، وانتقصوا به من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) اهـ.

والجواب من وجوه: أحدها: أن الكتاب والسنة- بلا شك- كافيان لكل مؤمن مهتد، في أمور دينه ودنياه. لكن على فهم مَن نفهم نصوصهما، وقد اختلفت أفهام الناس لهما؟! أعلى فهم الجهمية؟! أم فهم المعتزلة؟! أم فهم الرافضة؟! أم فهم الخوارج؟! أم فهم الأشاعرة؟! أم فهم الباطنية؟! أم على فهم أئمة الإسلام والدين، السلف الصالح المزكين بالوحي وإجماع الأمة؟ فكل من ذكرت، يستدل بالكتاب، وتارة بالسنة، واستدلالاتهم من الآيات، مختلفة متباينة متناقضة! فتجعل طائفة آية ما، في وجوب أمر ما، وتجعلها طائفة أخرى في كفر موجبها!! وهكذا!! ألم تعلم أن الأزارقة من الخوارج: استدلوا على جواز قتل أطفال المسلمين مع آبائهم، بقول الله تعالى: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] !! قالوا: فسماهم بالكفار وهم أطفال!! فكيف جاز ذلك في قوم نوح، ولا يجوز في قومنا؟! وما بيننا وبينهم إلا السيف!! كما زعم كبيرهم نافع بن الأزرق (¬1) . وقالت المطبخية- أتباع أبي إسماعيل المطبخي - بأن لا صلاة واجبة، غير ركعة بالغداة، وركعة بالعشي! واحتجوا بقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] . ¬

(¬1) ذكر مذاهب الفرق الثنتين وسبعين للعلامة عبد الله بن أسعد اليافعي ص (36- 37) .

وكفَّرت الخوارج فاعلي الكبائر من المسلمين، بقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» الحديث. بل زعمت جماعة من الخوارج: أن قول الله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] : زعموا- لعنهم الله-: أن الذي استهوته الشياطين حيران، هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه!! ونفت المعتزلة وأشياعها: رؤية الله عز وجل في الآخرة، بقوله سبحانه: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] ، وأثبتها أهل السنة بهذه الآية، وقالوا: الإدراك بالبصر، قدر زائد على الرؤية. فما لا تدركه الأبصار: شيء تراه، لكنها لا تحيط به، كما ترى الأبصار البحار، ولا تدركها، وهكذا. ونفت المعتزلة وأشياعها الرؤية بقوله سبحانه: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] ، وأثبتها أهل السنة بهذه الآية، وقالوا: لو كان سبحانه لا يُرى لقال: (إني لا أُرى) ولم يقل: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143] ! فمَنْعه سبحانه موسى - عليه السلام- من الرؤية: يدل على جوازها عليه، وامتناعها على موسى لسبب

خارج، وهو كونه في الدنيا. ولأهل السنة أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة، بل بلغت حد التواتر، ولكن ذكرت ما سبق، لبيان ازدواج الاستدلال وتباينه. وأمثلة هذا، كثيرة جدا، وما من فرقة إلا ويستدل أربابها بالقرآن على صحة معتقداتهم بمتشابهه، وهم الذين عَنى الله عز وجل في قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] . فإذا عُلم هذا، وأن الجميع يستدلون- بحق وباطل- بالقرآن والسنة، فالمُحق يستدل بها على وجهها، والمبطل يصرفها بالتأويلات والمتشابهات: علمنا صحة ذلك الضابط، وأن يُفهم الوحيان على فهم السلف الصالح، المشهود لهم بالعلم والديانة والورع. فإن أبى المالكي هذا: لزمه أحد أمرين: إما أن يأخذ بهذه التأويلات كلها، وهي متعارضة متناقضة! . أو يأخذ بشيء منها، ويترك آخر. فالأول: مستحيل، غير ممكن. والثاني: ممكن، ولكن ما ضابط ما يأخذ به وما يترك؟

إن قال: نأخذ بقول السلف الصالح: وافقنا. وإن قال: غيرهم: فلِم أخذ بقولهم، ورد الآخرين؟! وما عابه علينا، في أخذنا بفهم السلف الصالح: نعيبه عليه في أخذه بقول من ارتضى! بل العيب في حقه أكبر وأظهر. * * *

فصل في إبطال المالكي معنى السلف الصالح والرد عليه

[فصل في إبطال المالكي معنى السلف الصالح والرد عليه] فصل في إبطال المالكي معنى "السلف الصالح "! والرد عليه ثم قال المالكي ص (178) : (ولا أدري هنا ماذا يقصدون بفهم السلف: - إن كانوا يقصدون الصحابة: فقد اختلف الصحابة في فهم كثير من العقائد والأحكام، فبأي فهم نلتزم؟! - وإن كانوا يقصدون اتباع ما فهمه الصحابة كلهم: فهذا لا يخالف فيه أحد، لكن حصول هذا الإجماع في الفهم صعب، بل مستحيل، إلا في أمر دليله واضح. - وإن قصدوا اتباع فهم آحاد السلف فيما لم يختلفوا فيه، قيل لهم: اختلافهم في الفهم دليل على أن فهمهم يخطئ ويصيب؟! فإذا كان كذلك، فمن يضمن لنا أن فهم الآحاد منهم، ليس من القسم الذي أساءوا فهمه؟! وقد فهم عدي بن حاتم من الآية الكريمة: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] فهما خاطئا ردّه عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: ببيان المراد بالسلف الصالح، وهم: الصحابة والتابعون وتابعوهم، على الإيمان والإحسان، أهل القرون الثلاثة الأولى، المشهود

لهم بالخيرية على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ممن لم يُعرف ببدعة ولا شذوذ. أما الصحابة: فكلهم كذلك، أما من بعدهم من التابعين وأتباعهم، فحصل عند أفراد قلة شيء من المخالفات أو البدع، عُرفوا بها، واستثنوا من أولئك، فليسوا سلفا صالحا، بل كانوا سلفا سيئا. الثاني: أن فهم السلف، الصالح رحمهم الله، في أمور المعتقد عامة: فهم متفق لا خلاف فيه ولا اختلاف، فمن ادَّعى غير ذلك، فعليه الحجة والدليل. الثالث: أن اختلاف أقوال السلف في مسألة أو أكثر- غير مسائل الاعتقاد-: لا يكون قصورا أو خطئا، بل هو غالبا اختلاف تنوع لا تضاد. وما كان متباينا من ذلك: فلا يحل ولا يجوز: إحداث قول جديد، خارج عما جاءوا به؛ لكونه مخالفا للإجماع، فهم وإن كانوا غير متفقين في معنى واحد، أو قول واحد في تلك المسألة، إلا أنهم مُجمعون- بالجملة- على خلاف هذا القول المحدث الجديد، وهذا محرر في أصول الفقه، في "باب الإجماع" باستفاضة. الرابع: أنه يستحيل أن يفهم أحد منهم، فهما خاطئا في آية، أو حديث، ولا يقوم دليل على بيان خطئه، أو لا يبين أحد منهم خطأه. فإن الله قد حفظ دينه سبحانه، وهذا من حفظ الدين وكماله، ومن نظر في أقوال الأئمة، علم ذلك.

فصل في سبل فهم الكتاب والسنة عند المالكي دون فهم السلف الصالح

[فصل في سبل فهم الكتاب والسنة عند المالكي دون فهم السلف الصالح] فصل في سبل فهم الكتاب والسنة عند المالكي، دون فهم السلف الصالح! والرد عليه ثم قال المالكي ص (179) مبينا أداة فهم الكتاب والسنة بزعمه: (أما آلية الفهم: فلا تتم بتقليد صحابي ولا تابعي، وإنما بالنظر في الآيات، والأحاديث الصحيحة، التي تتحدث عن الموضوع نفسه، والعودة بعد ذلك للآثار، ولغة العرب، وكل ما يساعد في تجلية المعنى، وما إلى ذلك) اهـ. والجواب: أن هذا حق، لكنه لا يُغني عن اشتراط فهم السلف الصالح رحمهم الله، فَعُلُوُّ الله عز وجل على خلقه بأنواعه، بالذات، والقدر، والقهر، مع ظهوره، وكثرة أدلته من الكتاب، والسنة، والإجماع، والفطرة، حتى بلغت أدلته ألفي دليل، كما قال الإمام أبو عبد الله ابن قيم الجوزية رحمه الله في "نونيته ": يا قومنا والله إن لقولنا ... ألفا تدل عليه بل ألفان حتى صنف جماعة من أهل العلم مصنفات في جميع أدلته الكثيرة، كابن قدامة، والذهبي، وابن القيم، وغيرهم.

ومع ظهور هذه المسألة، وعظم جُرْم المخالف فيها، إلا أن أهل البدع، أوَّلوا أدلتها وحرَّفوها، وحصروا دلالتها، في علو القدر والقهر، دون علو الذات! فلا يستقيم فهم المرء للوحيين، إلا إذا فهمها على فهم السلف الصالح رحمهم الله، وبنى على قواعدهم. * * *

فصل في دواء ما في كتب العقائد من ظلم وبغي عند المالكي والرد عليه

[فصل في دواء ما في كتب العقائد من ظلم وبغي عند المالكي والرد عليه] فصل في دواء ما في كتب العقائد، من ظلم وبغي عند المالكي! والرد عليه ثم قال المالكي ص (182) تحت عنوان: "ما المنهج": (إذا كانت كل هذه الأخطاء والخرافات في كتبنا العقدية، فما الحل إذن؟!) اهـ كلامه. وأقول: لم يستطع المالكي ذكر مثال واحد صحيح، على تلك الأخطاء والخرافات!! ولم يسلم له شيء من كذباته في حق الحنابلة وأهل السنة، فإن لم يكن ثمة داء، فلا حاجة إلى الدواء! ثم قال المالكي: (الحل سهل على من أراد الله له اليسر، ويمكن إجمال ذلك فيما يلي: * العودة لاسم الإسلام نفسه. * وترك التنابز بالألقاب، فلا نصم الآخرين بلقب. ولا نرضى لنا إلا بلقب واسم الإسلام، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] ، وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] . ثم قال المالكي ص (182-183) : (ولنترك الانتسابات التي تفرقنا بها شيعا، فلا شرعية لكلمة شيعة

ولا سنة، ولا جهمية، ولا سلفية، ولا معتزلة، كشرعية كلمة الإسلام. وكل من رغب عن التسمية بالإسلام، فلن يجد تسمية أفضل منها، فهي تسمية مأمور بها في كتاب الله، وهي تسمية ارتضاها الله لنا، ولم يأت نص باستحباب تسمية أخرى. ومن زعم ذلك فعليه الدليل، ولا دليل إلا من باب التوهم فقط. قد يقول البعض: إن تسميتنا أهل السنة، قد جاءت بها نصوص، كأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم باتباع السنة في قوله: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين» . أقول [القائل المالكي] : الله عز وجل أيضا، قد أمر بالعدل أيضا، فلماذا ننكر على المعتزلة تسميتهم أنفسهم "أهل العدل" أو "العدلية"؟! وأمر الله بالاستقامة، فلماذا ننكر على الإباضية تسمية أنفسهم "أهل الاستقامة؟! وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمحبة أهل البيت، فلماذا ننكر على الشيعة تسمية أنفسهم شيعة أهل البيت، مستدلين بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 83] . واستدل المعتزلة على شرعية اسمهم، بقوله تعالى على لسان إبراهيم: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48] .

وهكذا، فأسماء الفرق، أقوى دلالة على الشرعية من اسمنا، علما بأن الحديث السابق، وحديث افتراق الأمة محل تنازع في التضعيف والتصحيح، داخل أهل السنة) اهـ كلام المالكي. .. والجواب من وجوه: أحدها: أن تسمية أهل البدع بأسمائهم، وتلقيبهم بأوصافهم: تسمية شرعية واجبة، وإن كانوا داخلين أو مُدخلين أنفسهم في الإسلام، كما سمى الله عز وجل ورسوله المنافقين بهذا الاسم، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج بهذا الاسم، وسماهم مارقة. ولما خرجوا في عهد علي رضي الله عنه، سماهم الصحابة والتابعون خوارج مراق، وحرورية، وكلاب النار، كما في الآثار، وبقيت تلك التسمية ملازمة لهم. ولما خرج معبد الجهني، وابتدع بدعته في نفي القدر، سماهم من أدرك هذه البدعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: قدرية، كما فعل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم. وفي عهد التابعين، حين ابتدع واصل بن عطاء بدعه المعروفة، واعتزل هو وأتباعه مجلس الحسن البصري رحمه الله، سماهم الحسن: معتزلة، وبقي هذا الاسم فيهم بعد ذلك إلى يومنا هذا، ولا يُعرفون إلا به. ولما أتت الشيعة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقالت له: تبرأ من أبي بكر وعمر لننصرك.

أبى ذلك. فقالوا له: إذن نرفضك! فسماهم زيد رافضة لذلك، وبقي الاسم فيهم إلى اليوم. الوجه الثاني: أن حكم المالكي، بعدم جواز التسمي بهذه الأسماء، مع مخالفتها للكتاب والسنة عنده: مخالف لإجماع أهل السنة! فما زالوا مذ كانوا إلى اليوم، مطبقين على تسمية الجهمية جهمية، والمعتزلة معتزلة، والخوارج خوارج، والقدرية قدرية، والرافضة رافضة أو شيعة، وهكذا. ولم يَفُهْ أحد منهم قط، بحرمة تسمية أولئك بتلك الأسماء. بل إن حكم المالكي: مخالف لإجماع المسلمين عامة! بجميع فرقهم ونحلهم. فما من فرقة إلا وتسمي نفسها باسم، وتسمي الآخرين بأسماء، ولم يحرم أحد منهم ذلك، بل أطبقوا عليه. . الثالث: أن توحيد الأمة واتفاقها واجتماعها- وقد تفرقت فرقا-: ليس بتوحيد الاسم! وإنما بتوحيد الاعتقاد، وتوحيد الكلمة. ولا يكون إلا بكلمة التوحيد، ولا يصلح أمر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها، كما قال مالك. فيرجع المسلمون جميعا إلى الكتاب والسنة، بفهم السلف الصالح والإجماع، كما تقدم بيانه. أما من ظن أن مجرد توحيد الاسم، يحقق اجتماع الكلمة واتفاق الأمة! فالنزاع معه حينها، يكون في صحة عقله وسلامته، لا في صحة قوله ورأيه!

وها هم اليهود مع اجتماعهم في هذا الاسم: إلا أنهم متفرقين مختلفين، كما قال سبحانه: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14] . الرابع: أن خلافنا مع الشيعة والمعتزلة والجهمية والقدرية وغيرهم من أهل البدع ليس في أصل التسمي من حيث صحته وعدمه! وإنما في أصل مذهبهم، ومقصدهم بالتسمية. فإنكارنا على المعتزلة، تسمية أنفسهم "أهل التوحيد والعدل" ليس لاستقباحنا الاسم، فالاسم جميل محمود، وإنما إنكارنا عليهم وتضليلنا لهم لأجل مرادهم من هذه التسمية. فمرادهم بالتوحيد: تعطيل الصفات؛ لأن الصفات المتعددة عندهم، تقتضي ذواتا متعددة! كذا قالوا! لهذا يرون أن نفيهم للصفات، يُبقي إلها واحدا! لا شريك له! فهذا التوحيد عندهم! أما العدل: فيعنون به إنكار القدر! ويزعمون أن في إنكاره ونفيه، إثبات عدل الله المطلق! إذ لو كان قدر لم يكن ثمة عدل! كذا قالوا! فهذان الاسمان (التوحيد والعدل: اشتملا على معنيين فاسدين منكرين قبيحين.

وكذلك اسم الشيعة: فالتشيع بمعنى محبة آل البيت رضي الله عنهم، مع محبة الصحابة وتوليهم، وتقديم الثلاثة على علي رضي الله عنهم معنى صحيح. إلا أنهم قصدوا به: تولي آل البيت بزعمهم، مع البراءة ممن عدا عليّ! فطعنوا في الخلفاء الثلاثة قبله، وفي جماعات من الصحابة رضي الله عنهم! بل طعنوا في جماعة من خيار آل البيت وكبارهم، كالحسن بن علي رضي الله عنهما، وعبد الله بن عباس، وعائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، أمي المؤمنين، وغيرهم. وبينا سابقا كذب الشيعة (الروافض) في تولي آل البيت وادعائهم محبتهم، وإنما هو ثوب لبسوه للكيد بالمسلمين. الخامس: أن زعم المالكي أن الشيعة استدلت على صحة تسميتها بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 83] وأن المعتزلة استدلت على صحة تسميتها كذلك بقوله سبحانه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48] ! إلخ ما ذكر: غباء، فإن هذه الآيات الكريمات دليل على صحة الكلمة من حيث اللغة، لا صحة اعتقاد من تسمى بالشيعة أو المعتزلة! وإلا لصحت أديان المشركين واليهود والنصارى والصابيئن! ولم نسمع أو نر أحدا من الأئمة أنكر التسمية نفسها دون ما تضمنته من معان حتى يستدل عليه، فإن كان المالكي يعلم أحدا قال ذلك فليذكره!

فصل في رد المالكي على من أنكر الانتساب إلى مسمى الإسلام دون اسم آخر

[فصل في رد المالكي على من أنكر الانتساب إلى مسمى الإسلام دون اسم آخر] فصل في رد المالكي على من أنكر الانتساب إلى مسمى الإسلام دون اسم آخر، بدعوى الاختلاط مع أهل البدع! والرد عليه ثم قال المالكي ص (183) : (فإذا قال البعض: لكن التسمية بالإسلام، سيخلطنا مع المبتدعة؟! أقول [القائل المالكي] : لسنا أفضل من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، فقد كان اسم الإسلام يجمعهم مع المنافقين، والأعراب، والطلقاء، والمرجفين، فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» ويقصد بأصحابه هنا: المنافقين) اهـ كلامه. والجواب من وجهين: أحدهما: أن المالكي يريد اتفاق واجتماع الأمة على اسم واحد، ولو كان من جنس اتفاق ودخول المنافقين في اسم المسلمين عامة حسب الظاهر! وهذا مما لا يحمده العقلاء. فإن كانت المصلحة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، إبقاءهم دون قتلهم؛ لئلا يظن الأباعد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقتل من أسلم من أصحابه، فيُحجموا عن الإسلام: فما المصلحة عندنا اليوم؟!

ووجودهم ومن على شاكلتهم من المبطلين، يضر المسلمين ولا ينفعهم، قال سبحانه فيهم، مبينا منفعة خروجهم مع المسلمين للقتال، لمن جهل ذلك {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] . كما أن الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم، لم يجعلا الأئمة دون بيان حال المنافقين وأعيانهم، فأخبر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم بأوصافهم، وأقوالهم، وهيئاتهم. بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بأسمائهم، وفي هذا جواز تسميتهم بالمنافقين، بخلاف ما ادعى المالكي. الثاني: أن قياس المالكي: المنافقين بأهل البدع مطلقا: قياس مع الفارق. فالمنافقون: مظهرو الاستقامة، مبطنو الكفر. أما المبتدعة: فمظهرون لبدعهم ومخالفتهم، داعون إليها. ولو أبطونها- كما فعل المنافقون- وأظهروا الاستقامة، لما خرجوا من اسم الإسلام، بل لم نخرجهم من اسم السنة، وحسبنا ما ظهر، لا ما خفي. وقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، فلا نؤاخذكم إلا بما ظهر لنا منكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسب

سريرته. ومن أظهر لنا شرا لم نأمنه ولم نقربه، وإن قال: إن سريرته حسنة) رواه البخاري في "صحيحه " (2641) . وكذلك قرن المالكي مؤمني الطلقاء والأعراب، مع المرجفين والمنافقين: باطل، فالطلقاء مؤمنون من جملة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهم حق الصحبة وفضلها، ولا ينفيها، أو ينتقصهم إلا رافضي معلوم النفاق. والأعراب إذا آمنوا، لم يضرهم تعرُّبهم، قال سبحانه مبينا حالهم: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 97 - 99] . أما المنافقون والمرجفون: فشرّ محض لا خير فيهم.

فصل في بيان سبيل الحق عند المالكي وهو الإيمان الجملي غير المفصل

[فصل في بيان سبيل الحق عند المالكي وهو الإيمان الجملي غير المفصل] فصل في بيان سبيل الحق عند المالكي، وهو الإيمان الجملي غير المفصل، والالتزام بالواجبات الجملية المجمع عليها دون المختلف فيها، وتجنب المحرمات المتفق على تحريمها دون المتنازع فيها! والرد عليه، وبيان أن ما اختاره باب للزندقة لا الحق قال المالكي ص (184-185) : (فإن قال قائل: كيف أستطيع أن أعرف الحق، إذا لم ألتزم مذهب طائفة أتعلم منها الدين؟ أقول: عُد إلى كتاب الله، ستجد الأمور الإيمانية الكلية، وستجد المحرمات المتفق عليها، والواجبات المتفق عليها، وستجد ما يرفد ذلك من إجماع المسلمين على هذه الأمور، من صلاة، وصيام، وحج، وزكاة، وأمر بالعدل، والصدق، والأمانة، ونهي عن الجرائم المعروفة. فدين الله واضح، لا يحتاج لكل هذه الكتب في العقائد، التي رأيت فسادها وإفسادها، وتشكيكها وانحرافها عن أبسط المبادئ الدينية. فالعودة للاعتصام بحبل الله، ومعرفة الأصول العامة، التي يلتقي عليها المسلمون، خير من التمادي في الشبهات، والشتائم التي لا تسمن ولا تزيد المرء إلا شكا) اهـ.

والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا مخالف لإجماع أهل السنة، بل لإجماع المسلمين جميعا، الذين صنفوا المصنفات المختلفة الكثيرة في العقيدة، مختصرات تُحفظ، ومطولات تُشرح، منثورات ومنظومات، متونا، وحواش، وتعليقات، وتقييدات، وتقريرات، وهل عند المسلم، أعز وأغلى من عقيدته؟! الثاني: أن كل ما جاء في القرآن الكريم: يجب الإيمان به: ومن كفر بحرف واحد منه: فقد كفر به كله، لا يصح له إيمان، ولا يُقبل منه عمل، وكذلك ما صح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وتقييد المالكي الإيمان، بالإيمان بالأمور الإيمانية الكلية، قيد لا ضابط له! فما الأمور الإيمانية الكلية؟ وما الأمور الجزئية؟ إن كان الإيمان بما في القرآن والسنة الصحيحة واجبا لازما، فكل ما فيه كلي. وإن كان المالكي يعني أمورا إيمانية وردت في القرآن، دون أمور أخرى: فهذا تكذيب لشيء ورد في القرآن! وتكذيب حرف منه، كتكذيبه كله. .. الثالث: تقييد المحرمات، الواجب الامتناع عنها، بالمحرمات المتفق عليها: زندقة وكفر، فإن من لم يمتنع عن المعاصي والمحرمات، إلا ما حصل إجماع محقق في حرمتها: كان زنديقا مرتدا، لرده نصوص

الكتاب والسنة الصحيحة، في محرمات كثيرة جدا. والذي عليه المسلمون: الامتناع عما نهى الله- عز وجل- عنه، ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، دون اشتراط لحصول إجماع في ذلك المحرم، لذا تجد أحدهم قد يحرم أمرا اجتهاديا، لدليل يصححه، وترى آخر يحله، أو يكرهه، ونحو ذلك. وهذا أمر لا خلاف فيه. ومن خالف منهم في أمر محرم، لتأويل، أو تعارض أدلة في نظره: فهذا مجتهد، إن أصاب له أجران، أو أخطأ، له أجر واحد، ما كان مستقيما على الكتاب والسنة. الرابع: كالسابق، إلا أنه في الواجبات، فلو لم نلتزم إلا بالواجبات المتفق عليها- كما يطالب به المالكي - لسقطت واجبات كثيرة، ثبتت بالقرآن أو السنة، وربما بهما. وقد يكون المخالف فيها، لم يبلغه الدليل، أو لم يفهم المراد منه، أو ظنه منسوخا، أو لم يصح عنده، أو تأوله على غير وجهه، وغير ذلك من الأمور المسببة لاختلاف أقوال العلماء. ولا تكاد تجد مسألة فقهية، إلا وفيها خلاف على الوجه الذي بيناه سابقا؛ لذا جمع بعض الأئمة مسائل الإجماع، وأفردها في مصنف، كالحافظ ابن المنذر، وابن حزم وغيرهما، مع أن بعض تلك الإجماعات، لم تُسَلَّمْ لهم.

بل لو قبلنا نزاع أهل البدع كالرافضة- لإدخال المالكي لهم في المسلمين-: لكان في الإيمان بصحة القرآن، وسلامته من النقص والتحريف، خلاف ونزاع!! وكذلك الحال في نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقول طوائف منهم: إن النبوة كانت لعلي رضي الله عنه، فخانه جبريل، وأعطاها محمدا!! وفي هذا: طعن في جبريل- عليه السلام-! وكل ذلك كفر. الخامس: أن العبادات المتفق على وجوبها، كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة: لم تسلم من الخلاف في شروطها، وأركانها، وواجباتها، ونحو ذلك، فما العمل حينئذ؟! أنتركها لنسلم من الخلاف، أم نقبل الخلاف هنا، وقد منعناه هناك؟!! السادس: أن زعمه أن الدين واضح، فلا يحتاج إلى كل هذه الكتب المصنفة في الاعتقاد: صحيح المقدمة، فاسد النتيجة! فإن الدين واضح، وكتب العقيدة المبنية على الكتاب والسنة، على فهم السلف الصالح، مما سبَّب وضوحه. وكلام المالكي هنا مخالف لعمل المسلمين جميعا، سنة ومبتدعة، فإنهم قد أكثروا من التصنيف فيها، نظما ونثرا ومختصرات ومطولات، على اختلاف الفرق والمذاهب، فلِم خص الحنابلة أهل السنة بهذا، وقد شاركهم في الإكثار من التصنيف فيها، الرافضة، والمعتزلة، والجهمية، والأشاعرة، والماتريدية، والإباضية، وغيرهم.

السابع: أن الاعتصام بحبل الله تعالى، لا يكون إلا باتباع الوحيين، لا باتباع أوهام الناس وأهوائهم، فما اتفقوا عليه كان حقا!! وما لم يتفقوا عليه لم يكن واجبا!! وإنما العبرة في ذلك، بالكتاب والسنة. والإجماع إذا انعقد صحيحا من أهل السنة: وجب الأخذ به، أما إن لم ينعقد، فالعبرة بما انعقد من أدلة الكتاب والسنة، وافقها الناس أم خالفوها. الثامن: مطالبة المالكي، بذكر مسائل الإيمان، والاعتقاد، والفقه التي أجمع عليها المسلمون بجميع طوائفهم، والتي تكفي في صحة الإيمان، وقبول الأعمال، ويكون فاعلها مطيعا لله سبحانه، ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فصل في نقض النتائج التي وصل إليها المالكي في كتابه هذا

[فصل في نقض النتائج التي وصل إليها المالكي في كتابه هذا] فصل في نقض النتائج التي وصل إليها المالكي في كتابه هذا! ثم ذكر المالكي ص (186-195) فصلا سماه "الخاتمة وأبرز النتائج "، ذكر فيه أربعا وعشرين نتيجة، وصل إليها بعد بحثه هذا! وإليك بيانها: أولى نتائج المالكي، ذكرها ص (186) وهي: أنْ ليس لمصطلح العقيدة، بهذا المعنى الشائع، أصل، لا في الكتاب، ولا في السنة، ولا أقوال السلف الصالح. والجواب: قد تقدم أول هذا الكتاب، وبينت أن المالكي سطحي، لا ينظر إلا في ظاهر الألفاظ، دون ما تحتويه، فينكر تسمية أمور الإيمان بالعقيدة! وهي تسمية اصطلاحية شرعية، لها دلالتها اللغوية، وعمل بها كثير من المسلمين، من الأئمة والحفاظ، كاللالكائي، والبيهقي وغيرهما. بل اتفق على هذه التسمية ولم ينكرها: المسلمون جميعا. وليذكر لنا المالكي عالِما واحدا فحسب، أنكر ذلك! وكيف يطالب المالكي بسلف لهذا الإطلاق، وهو ينكر مطالبة العلماء بالسلف في مسائل الاعتقاد؟!

ولو سلمنا للمالكي دعْواه هذه: أسقطنا جميع اصطلاحات علماء المسلمين اللفظية! في الاعتقاد، والفقه، والأصول، والنحو، وبقية العلوم والفنون، وهذا جهل مركب!

فصل في نقض نتيجة المالكي الثانية والثالثة

[فصل في نقض نتيجة المالكي الثانية والثالثة] فصل في نقض نتيجة المالكي الثانية والثالثة ثم ذكر النتيجة الثانية (ص186) : وهي أن الإيمان هو اللفظ الشرعي المهجور، الذي استخدم مكانه مصطلح العقيدة المبتدع! كما زعم المالكي. والجواب: قد تقدم كذلك في موضعه، وبينا أن هذا اللفظ "الإيمان" لم يهجر، بل سمى جماعة من الأئمة، جملة من مصنفاتهم بالإيمان، كابن أبي عمر، وأبي عبيدٍ القاسم بن سلام، وابن أبي شيبة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم. إلا أنه قد استقرت هذه التسمية "الإيمان"، على جزء من أمور المعتقد، فاختصت ببحث شروط صحة الإيمان، وأسباب زيادته ونقصه، والرد على من أنكر ذلك، ونواقضه، وما إلى ذلك. أما أمور الاعتقاد: فتضم ذلك وغيره، من مباحث الإيمان بأسماء الله وصفاته، وحكم منكر شيء منها، ورد تأويل المتأولين، والإيمان بأمور الغيب على التفصيل، ومباحث الصحابة، وحكم أصحاب الكبائر، والإمامة، وحقوق الإمام، وحقيقة توحيد الله، والأمور المخالفة له، وحكم مرتكبها، وغير ذلك.

ولو تنازلنا، وألزمنا جميع المسلمين باستبدال لفظ "العقيدة" بـ "الإيمان": لما كان هذا سببَ اتفاق المسلمين، بل كل فرقة ترى أن ما تعتقده، هو حقيقة الإيمان!

فصل في نقض نتيجته الرابعة

[فصل في نقض نتيجته الرابعة] فصل في نقض نتيجته الرابعة ثم ذكر المالكي ص (186) النتيجة الرابعة، وهي: (بدعية التمذهب العقدي لفرقة من الفِرَق الإسلامية، فلا يجوز الانتماء المطلق الذي يوالى عليه، ويعادى عليه، إلا للإسلام نفسه. ولا يجوز للمسلم أن يرى أن مذهبه العقدي، يصلح بديلا للإسلام، فلا سنة، ولا شيعة، ولا معتزلة، ولا سلفية، ولا أشعرية، ولا إباضية، ولا صوفية، وإنما هو الإسلام فقط) اهـ كلام المالكي. والجواب: أن هذا من جملة جهله، فكل من ذكر يَدْعون للإسلام، إلا أن كل فرقة، تفهم الإسلام على طريقة خاصة بها! فأهل السنة، يفهمون نصوص الوحيين، كما فهمها السلف الصالح، أما الرافضة، والمعتزلة، وغيرهم، فيفهمون الإسلام فهما فاسدا، يخالف ما كان عليه المسلمون في القرون المفضلة في صدر الإسلام. ومن زعم أن الإسلام الحق، هو غير اعتقاد أهل السنة: فهو ضالّ مضل.

بل أفتى شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله، بأن من قال: لا يجوز إلزام الناس بعقيدة معينة، لا بسلفية، ولا. . . . .، ولا. . . . .، ولا: بأنه كافر مرتد عن الإسلام، لإنكاره إلزام الناس باعتقاد أهل السنة السلف الصالح، وهو الإسلام الحق الصحيح.

فصل في نقض نتيجته الخامسة

[فصل في نقض نتيجته الخامسة] فصل في نقض نتيجته الخامسة ثم ذكر المالكي ص (86ا-187) النتيجة الخامسة فقال: (5- ضرورة العودة للقران الكريم، والالتزام بما فيه، من مجمل الإيمانيات التي يسمونها العقائد، ومجمل الأوامر الظاهرة، والمحرمات الظاهرة، والأخلاق الواجبة، وعدم امتحان الناس بالمتشابه منه. ثم العودة لمتواتر السنة، ثم الصحيح المشهور، وترك التنازع في المختلف فيه من السنة، سواء من حيث الثبوت، أو دلالة النص، وفتح حرية الاجتهاد في ذلك، ما دام أن الشروط السابقة قد تحققت) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: أن العودة إلى القرآن الكريم، والالتزام بما فيه: واجب لازم في مجمل الإيمانيات وفروعها، وبكل ما جاء فيه، فمن كفر بحرف واحد منه، فقد كفر به كله. أما الاقتصار على الإيمان بمجمل الإيمانيات: فهو إيمان ببعض الكتاب، وكفر ببعض، كما فعل أهل الكتاب من قبل، قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]

ولو صح إيمان هؤلاء الذين يؤمنون بالمُجْمَلات دون البقية: لصح إيمان اليهود والنصارى! بل إن من آمن بالمُجْمَلات فحسب، هو أشر من فعل اليهود والنصارى، لكفر هذا بغالب القران، وكفرهم- هم- ببعضه، وإيمانهم ببعضه الآخر! الثاني: أن الالتزام- كذلك- بما في القرآن الكريم: واجب لازم، بمجمل الأوامر الظاهرة، والمحرمات الظاهرة وغيرها. والأوامر الظاهرة والمحرمات الظاهرة: قد بيَّنها المالكي فيما تقدم، بأنها الأوامر والنواهي المجمع عليها! وقد قدمنا أن هذه زندقة. وقد قال أئمة الإسلام: "من تتبع الرخص تزندق " أي أن من تتبع أقوال العلماء المجيزين لما يهوى دون اعتبار للراجح، وللصحيح من الدليل: تزندق. وهذا هو عين قول المالكي، بل قوله هو: أقبح وأشأم! لإيجابه هذه الزندقة، على المسلمين جميعا. الثالث: أن الرجوع للسنة الشريفة، متواترة، وصحيحة لم تواتر: واجب لازم، في جميع ما جاءت به. وأما ترك الأحاديث المتنازع فيها، من حيث الثبوت، أو الدلالة: فباطل بإجماع المسلمين، سنة ومبتدعة

فكثير من الأحاديث التي يستدلون بها في الأصول والفروع: متنازع فيها، من حيث الثبوت، أو الدلالة، إلا أن العبرة في ذلك بأمرين: أحدها: أن يكون في الحديث المستدل به، إجماع على صحته عند أهل السنة، فلا نظر في نزاع المبتدعة، كنزاع كثير منهم في صحة أحاديث "الصحيحين"، والمالكي منهم! وقد أجمع أهل السنة على صحتهما. الثاني: أن يكون أهل السنة مجمعون على تأويله على وجه ما، فحينئذ يجب المصير إليه، وترك ما سواه. وأما الأحاديث المتنازع فيها في الفروع، إن لم يوجد الأمران السابقان أو أحدهما: فإن العبرة بالراجح، إما في ثبوتها، وإما في دلالتها. وهذه الأوجه، يقول بها المبتدعة أيضًا، إلا أنهم يخالفوننا بمن يعتد به في الإجماع، وفي صحة التأويل، وكذلك التصحيح والترجيح. فما يطالب به المالكي هنا باطل لوجهين: * لمخالفته إجماع المسلمين كما سبق. * ولأن فيه إسقاطا لكثير من الأحاديث والأحكام، وإبطالها. ثم إن ما قرره المالكي هنا: نظري لم يستطع هو نفسه تطبيقه! بل خالفه مخالفة ظاهرة! وهذا من جملة تناقضاته الكثيرة، فأنكر المالكي على شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، تضعيفهم حديث.

" أنا مدينة العلم، وعلي بابها "، وشدد النكير في ذلك عليه! مع أنه غير مسلم بصحته، والنزاع في صحته مشهور معروف، بل الراجح عند محققيهم ضعفه، بل قال جماعة بوضعه، منهم: الإمام أحمد، وابن معين (حكاه الخطيب عنه) وأبو حاتم، ويحيى بن سعيد، والدارقطني، وابن عدي، وابن الجوزي، والذهبي. ووصفه الحافظ أبو عبد الله البخاري بالنكارة، وقال: "ليس له وجه صحيح"، وكذلك فعل الترمذي فيه فقال: "منكر". وانظر "الشذرة في الأحاديث المشتهرة " لابن طولون (1 / 130-131) و"تمييز الطيب من الخبيث " لابن الديبع، وغيرهما، وغالب من صنف في الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة يذكره. فلم لم يعمل المالكي بقاعدته هذه، ويترك الكلام في هذا الحديث المتنازع في صحته، وفي معناه لو صح؟! الوجه الرابع: أن باب الاجتهاد، مفتوح لصاحبه المتحققة فيه شروطه، في الفروع دون الأصول، وليس لكل من ادعاه!

فصل في نقض نتيجة المالكي السادسة

[فصل في نقض نتيجة المالكي السادسة] فصل في نقض نتيجة المالكي السادسة ثم قال المالكي ص (187) ذاكرا النتيجة السادسة التي وصل إليه: (6- لم تكن الإيمانيات التي يسمونها العقائد، مفصولة عن الأحكام والأخلاق، بل كانت الدعوة لكل هذا، دعوة واحدة، وهي الدعوة للإسلام، في شمولها وتكاملها دون المبالغة في جانب أو إهمال جانب. أما غلاة العقائديين، فقد بالغوا في الخصومات العقدية، مثل مبالغة غلاة الحنابلة في الإثبات والتكفير والتبديع، ومبالغة الصوفية في المحبة، ومبالغة جماعة التبليغ في الفضائل، ومبالغة الإخوان المسلمون، وحزب التحرير في الخلافة والحكم. فكل حزب يعتصم ويوصي بالاعتصام بما يراه متميزا به عن الآخرين، وكأن الاتفاق مع الآخرين جريمة، والمحافظة على الظلم فضيلة!! وهذا من أبلغ تسويل الشيطان، وتزيينه للصالحين من ضعفاء العقول، أما المؤمن الصحيح العقل، فهو يعلم أن الاعتصام خير من التفرق) اهـ كلامه.

والجواب من وجوه: أحدها: أن الشرع من حيث مصدره: واحد لا ريب في ذلك، عقائد، أو أحكاما، أو أخلاقا، وفضائل، وأخبارا وغير ذلك، فمن هذا الوجه، لا فرق بين ذلك كله. أما من حيث ما يحصل به الدخول في الإسلام، والاستقامة على الإيمان، فهو أقسام: * منه: ما لا يصح إيمان الرجل إلا به، فإن اختل ذلك لم يكن مؤمنا، كالإيمان بالله سبحانه، ورسوله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، ونحو ذلك. * ومنه: ما يكون تاركه عاصيا مذنبا، إلا أنه داخل تحت مسمى الإيمان، مسلم غير كافر. ويدخل في هذا القسم، أهل المعاصي والمبتدعة، ما لم تهو بهم بدعهم إلى الكفر. * ومنه: ما للإنسان تركه، وإن تركه فلا يسمى كافرا، ولا حتى عاصيا، ويدخل في ذلك، عموم أحاديث الفضائل، كإفشاء السلام، ونحوها. فمن أراد أن يجعل تلك الأقسام: قسما واحدا من هذا الوجه، كان مخالفا لبدهيات العقول. الثاني: رميه للحنابلة بالمبالغة في الإثبات، والتكفير، والتبديع باطل، تقدم نقضه.

الثالث: أن زعم المالكي: أن ما عند الصوفية، مبالغة في المحبة! وما عند جماعة التبليغ، مبالغة في الفضائل! وما عند "الإخوان المسلمون" وحزب التحرير، مبالغة في الخلافة والحكم: فهذا لا يقوله إلا أحد اثنين: إما جاهل بما عليه الصوفية، وجماعة التبليغ، والإخوان المسلمون، وحزب التحرير، فلا يعرف عنهم إلا ما ذكر، ولا يدري بمخالفات كثير منهم في المعتقد. أو مُلَبِّس، يُظهر الخلاف معهم، على ذلك الوجه فحسب! وكلاهما لا يُحتج به، لجهل الأول، وكذب الثاني.

فصل في نقض زعمه أن الحنابلة يجعلون المسائل المستحدثة أهم من أركان الإيمان

[فصل في نقض زعمه أن الحنابلة يجعلون المسائل المستحدثة أهم من أركان الإيمان] فصل في نقض زعمه أن الحنابلة يجعلون المسائل المستحدثة، أهم من أركان الإيمان ثم ذكر المالكي ص (187) النتيجة السابعة، لما وصل إليه بزعمه، وهي: أن غلاة العقائديين يجعلون مسألة من المسائل المستحدثة، أهم من أركان الإسلام، كما فعلوا في مسألة "خلق القرآن "، التي كفَّروا بها جميع المسلمين، إلا من تابعهم إلى آخر كلامه. والجواب: قد تقدم مرارا، وبينا أول الكتاب: إجماع الأمة من السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنة، على كفر من قال بخلق القرآن.

فصل في نقض نتيجته الثامنة

[فصل في نقض نتيجته الثامنة] فصل في نقض نتيجته الثامنة ثم ذكر المالكي ص (187) النتيجة الثامنة لكتابه بزعمه، فقال: (8- معظم ما سطرته كتب العقائد، مما ليس في القران، وصحيح السنة مستحدث ما أنزل الله به من سلطان، ولا بعث به النبي صلى المحه عليه وعلى اله وسلم. وعلى هذا، فلا يجوز امتحان الناس به، ولا إعلانه على أنه دين الإسلام. وإنما يجب أن يبقى في مستوى البحث العلمي فقط. ولا يجوز الإنكار على من أدَّاه اجتهاده للقول بهذا القول أو ذاك، غير الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، من واجبات ومنهيات، معروفة في دين الإسلام، ومعروفة عند المسلمين، مما سبق بيانه وتكراره) اهـ كلامه. والجواب من وجوه: أحدها: أن جميع ما في عقائد أهل السنة حنابلة وغيرهم: مستنِد على الكتاب والسنة، بفهم السلف الصالح، ولم يستطع المالكي أن يذكر مسألة واحدة، في كتب عقائد الحنابلة وغيرهم من أهل السنة، خارجة عن ذلك، إلا بالكذب والْمَيْن.

ولا يصدق كلام المالكي، إلا على معتقدات أهل البدع، كالجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم، والمعتقدات التي يدعو إليها المالكي! الثاني: أن مسائل الاعتقاد، مبنية على الكتاب والسنة بفهم السلف، وهذه أمور مُجمع عليها، ليست محلا للاجتهاد، ولا يُقبل فيها اجتهاد. الثالث: أن إلزامه بالواجبات والمنهيات المعلومة من الدين بالضرورة: باطل، تقدم بيان بطلانه. الرابع: أنه إذا صح عند المالكي الاجتهاد في أمور الاعتقاد، وأنه لا يجوز الإنكار على من أداه اجتهاده للقول بهذا القول، أو ذاك كما زعم: فلماذا ينكر على الحنابلة اجتهاداتهم في العقيدة؟! أليس قد حرم المالكي الإنكار في هذه المسائل؟!

فصل في نقض نتيجته التاسعة

[فصل في نقض نتيجته التاسعة] فصل في نقض نتيجته التاسعة ثم ذكر المالكي ص (188) النتيجة التاسعة التي وصل إليها في كتابه فقال: (9- لا يظن مغفل أن المبالغة في صغائر المعتقدات، المرتكزة على نصوص ظنية الثبوت أو الدلالة، كان نتيجة لأهمية تلك العقائد المتنازع فيها، وإنما كانت المبالغة في تلك المعتقدات، نتيجة من نتائج الصراعات السياسية بالدرجة الأولى، ثم الصراعات المذهبية، أو حب العلو في الأرض، والتفرد بالزعامة، نتيجة التحاسد والتنافس بين العلماء. وبعض هذا، نتيجة غفلة الصالحين، مع استغلال سلطوي، حتى ينشغل الصالحون في خصومات ثانوية، لا أهمية لها) اهـ كلامه. . والجواب من وجوه: أحدها: مطالبة المالكي بدليل صحة كلامه، وهكذا تجد اتهامات المالكي كبيرة، لا يجد لها دليلا صحيحا، ولا مثالا سليما. الثاني: أن جميع معتقد أهل السنة: معتمد على الوحيين بفهم السلف الصالح، كما قدمناه مرارا، فإذا كان ذلك كذلك، فجميع معتقداتهم كبيرة، ليس فيها صغير. وقد كان المالكي، ينكر استخدام لفظ " العقيدة" ومشتقاتها، ويوجب استبدالها "بالإيمان" أو"الإيمانيات" ثم نراه يستخدم ما كان ينكره.

الثالث: أن سبب تفرُّق الناس في العقيدة، هو الأهواء والأدواء، والشُّبَه والدسائس. لهذا كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم منها شيء! إلا أنه بيَّنه صلى الله عليه وسلم ونفاه، وحذَّر من الخوارج مع صلاحهم الظاهر، وصلاتهم وقراءتهم للقرآن، وقال عنهم: «يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية» . ومن نظر في اعتقاد أهل السنة جميعا، من القرن الأول إلى يومنا هذا، باختلاف بلدانهم وأزمانهم ومذاهبهم: وجده معتقدا واحدا متفقا، لا اختلاف فيه ولا خلاف، كما ذكر ذلك غير واحد من الأئمة، كالحافظ السمعاني وغيره. ومن اطلع على كتب عقائدهم: رأى ذلك ظاهرا، وها نحن اليوم، ليس لنا مرجع إلا كتبهم، مع تقدمهم علينا. فإن كانت أسباب اختلاف معتقدات أهل السنة، حنابلة وغيرهم، متعلقة بالصراعات المذهبية، قلنا: هذا باطل لأمرين: أحدهما: أن ليس في عقائد أهل السنة اختلاف أبدا. الثاني: أن عقائد الحنابلة، من القرن الأول إلى اليوم، متفقة غير مختلفة، مع اختلاف الدول والملوك والخلفاء الذين حكموا تلك السنن الطويلة والقرون، فلم لم تختلف عقائدهم، مع اختلاف حكامهم ودولهم؟! فمن ظن هذا، كان هو المغفل.

الرابع: أن من نظر في سير أئمة السلف، وأهل السنة ممن بعدهم، كانوا أبعد الناس عن حب التصدر والزعامة، وعن الحسد والتنافس، وغيرها من الصفات الرذيلة، إلا أن المالكي رجل سوء، يظن بأئمة الإسلام ما هو أهله! *****

فصل في نقض نتيجته العاشرة

[فصل في نقض نتيجته العاشرة] فصل في نقض نتيجته العاشرة ثم ذكر المالكي ص (188) نتيجة بحثه العاشرة، فقال: (10 - تحولت العقائد إلى عمل فكري محض، ليس له أثر على السلوك، وهذا التحول، كان له أبلغ الأثر في تنازع المسلمين وتفرقهم، عندما اشتغلوا بالأقوال على الأفعال، وتلك الأقوال جرتهم إلى التنازع والتدابر والتخاصم) اهـ. والجواب: أن هذا يصدق على كتب عقائد المتكلمين وأهل البدع، كالجهمية، والمعتزلة، والرافضة، وغيرهم، لذا تجدهم أقرب الناس إلى كل إثم، ولا يتورعون عن صغيرة، ولا يخشون من كبيرة! وهم أقل الناس عبادة، وزهدا، وصلاحا، وتقًى، ومن وقف على سِيَرهم، لم تكد ترجمة لأحد منهم تخرج عما سبق. بل منهم من أسقط عن نفسه التكاليف والطاعات! وجعل نفسه وأتباعه في درجة لا يحتاجون فيها إلى عمل!! ومنهم من استحل المحرمات والكبائر، بأبرد الهذيان، وأسمج الكلام، فاستحل اللواط، ومضاجعة النساء الأجنبيات والمردان، وشرب الخمر، أو الربا، وهكذا.

أما أهل السنة جميعا، حنابلة وغيرهم، فهم أقرب الناس لكل طاعة وبر، وأبعد الناس عن كل إثم وشر. وما ذاك إلا لتمام وكمال إيمانهم بالغيب، وتصديقهم بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم رد ما صح منها، آحادا ومتواترة، وكسرهم لصنم التأويل الفاسد، الذي أبطل الديانات وأفسدها. لهذا تجد عامة أهل السنة، أكثر ورعا وصلاحا وتقًى من غالب المتكلمين، بل إن العامة أصفى من أولئك، وما ذاك إلا لسلامة قلوبهم من شبهات المتكلمين، مع العلم الرباني، والوحي الرحماني: فلا شك أن أصحاب تلك القلوب، أشد الناس إيمانا، وأثبتهم جنانا. وذكر عن الفخر الرازي: أنه دخل بلدة، فاجتمع الناس حوله، وساروا خلفه، ولم يبق أحد سمع بمقدمه إلا أتاه. فلقي رجل امرأة عجوزا في البلد، لم تخرج مع أولئك! فقال لها: الفخر في البلدة ولم تخرجي إليه؟! فقالت: ومن الفخر؟ فقال: هذا الذي أقام على وجود الله ألف دليل! فقالت: أعوذ بالله! والله لولا شك قد ملأ قلبه، لما طلب لله ألف دليل. فأخبر الفخر الرازي بقول المرأة فقال: اللهم إيمانا كإيمان العجائز.

وقد تكاثر عن الرازي وغيره: الندم، والحيرة، والشك، فيما هم عليه، حتى إذا حل الموت بساحة أحدهم قال: "أموت على ما ماتت عليه عجائز نيسابور" أي الإيمان المطلق، الخالص من شوائب المتكلمين. .

فصل نقض نتيجته الحادية عشرة

[فصل نقض نتيجته الحادية عشرة] فصل نقض نتيجته الحادية عشرة ثم ذكر المالكي ص (188) نتيجة بحثه الحادية عشرة فقال: (11 - إذا كان المسلمون في الماضي معذورين إلى حد ما في التنازع لقوة الخلافة، وضعف الكفار، وظنهم أن تنازعهم لن يكون له الخطر المستقبلي على الإسلام وأهله، فليس لهم اليوم مبرر لهذا التنازع، مع ضعف المسلمين السياسي والاقتصادي والعسكري. وعلى هذا، فالاعتصام بحبل الله، والالتقاء على الخطوط العريضة: أمر واجب، لا يصد عنه إلا مشارك في الجرائم التي تنفذ ضد المسلمين في أقطار الأرض، من فلسطين إلى البوسنة إلى الشيشان) اهـ. . والجواب من وجوه: أحدها: أن سبب اتفاق الأمة وتوحدها: إيمانها الكامل التام بما أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، على فهم الرعيل الأول، سلف الأمة الصالح، كما قال سبحانه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] . لهذا قال الإمام مالك بن أنس وغيره: "لا يصلح أمر آخر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها".

وكل خلاف غير عقدي، وعداء غير ديني: سهل حله، قريب زواله، كما قال الشاعر: كل العداوات قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك للدين ولما كانت الأمة مجتمعة على ذلك: لم تلبث خلافاتها ونزاعها أن يزول. أما حينما خرجت عن ذلك، وأصبحت خلافاتها عقدية: بقيت تلك النزاعات قوية إلى اليوم. فما حدث بين الصحابة- رضي الله عنهم جميعا- من تقاتُل زمن علي ومعاوية - رضي الله عنهما-: انتهى، وتنازَل الحسن بن علي رضي الله عنهما، لمعاوية رضي الله عنه بالأمر، فاستقامت حياة الناس، واجتمع شملهم. أما لما حدثت خلافاتهم العقدية الدينية: فلم تنته إلى اليوم، فالرافضة، والخوارج، والقدرية، والجهمية، والمعتزلة، ما زالوا موجودين ينخرون في جسد الأمة، حتى أصبح حالها على ما هو اليوم. الثاني: أن المالكي شخَّص الداء وعرَّفه، ولم يوفق إلى معرفة الدواء، بل اختار دواءا قاتلا، يزيد العلة بلاء. فإن بقاء أهل البدع والأهواء- والمالكي منهم- داخل جسد الأمة: هو الذي مزقها، وأضعف كلمتها، وشتَّت وحدتها، ولا تتعافى الأمة من هذا المرض الخبيث، إلا ببتره أو علاجه، وليس من الحكمة أن

يُتغافل عن المرض، حتى يتفاقم ويُهلك صاحبه، ولله در القائل: إذا ما الجرح رم على فساد ... تبين فيه إهمال الطبيب وليس بخافٍ على المسلم البصير: ما جرَّه تقريب المبتدعة، كتقريب آخر خلفاء بني العباس للرافضة، واستوزاره للطوسي الرافضي، ثم مكيدته بالأمة، وخيانته لها، ومراسلته للتتار، وتشجيعه لهم أن يستولوا على بلاد المسلمين، ففعلوا، وحصلت المقتلة الكبيرة الشهيرة. الثالث: أن اجتماع المسلمين وتوحدهم: ليس مقصودا لذاته، بل لما فيه من استقامة دين الناس، وسلامة إيمانهم، واستقامة أمور دنياهم كذلك. فهو وسيلة لغاية عظيمة، فمن وحَّد المسلمين على غير التوحيد الخالص، فقد راعى الوسيلة، وأغفل الغاية. لهذا كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان - رضي الله عنه- عند ظهور الشر، أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، فيتركهم جميعا ويعتزلهم، ولو أن يَعَض بأصل شجرة، وهو مُخَرَّج في "الصحيحين ". الرابع: أن أمر المالكي بالالتقاء على خطوط الدين العريضة- كما يسميها! - وترك الخلافات: باطل قد بينا بطلانه مرارا. ولو سلمنا له ذلك- ولا نُسلم- لما سَلِمَ لنا من الدين، لا خطوط عريضة ولا دقيقة! فما من أمر، إلا ويخالف فيه جملة من

أهل البدع، حتى القرآن الكريم مصدر التشريع، قد أجمعت الرافضة على تحريفه ونقصه، وصنف الطبرسي كتابه الضخم في إثبات ذلك، ونقل فيه أكثر من ألفي رواية عن الرافضة، فماذا بقي من الدين إذن؟! . الخامس: أن المالكي متناقض، فيدعو للالتقاء على خطوط الإسلام العريضة، وعدم النظر في الخلافات: وهو يسعى للتفريق بين أهل السنة بالأكاذيب، وإلزام الناس بأمور ليست من أمور العقيدة، أو ربما كانت منها، لكنه- هو- لا يراها ضمن الخطوط العريضة- كما يسميها! - أو ربما كانت بدعا. فلأي أمر طعن في معاوية ويزيد وبني أمية، وبعض خلفاء بني العباس، وجملة من الصحابة؟! بل أخرج جماعة كثيرين من الصحابة، ممن أسلموا يوم الفتح من: حدّ الصحبة، ورمى جملة من علماء الأمة بالأكاذيب، كالإمام أحمد، وابنه عبد الله، والبربهاري، وابن أبي يعلى، وابن بطة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، مع طعنه في جماعات من السلف، ذكر أقوالهم ولم يصرح بأسمائهم؟! أليس هو أولى الناس بنصيحته؟! وهو أول الناس المخالفين لها! بل ينهانا عن الطعن والاختلاف مع أهل البدع، ثم يطعن في أئمة الإسلام والسنة!!

فصل في نقض نتيجته الثانية عشرة

[فصل في نقض نتيجته الثانية عشرة] فصل في نقض تتمة نتيجته الثانية عشرة. ثم قال المالكي ص (188-181) ضمن نتيجة بحثه الثانية عشرة: (أما أن نتواصى بالصبر على انتقاص علي بن أبي طالب، وأهل بيته، وحب ظَلَمَة بني أمية، وتكفير أبي حنيفة، وسائر المسلمين إلا نحن! ونتواصى بالصبر على الكذب على رسول الله، وتبرير هذا الكذب، بأنه مندرج تحت أصل!! ونتواصى بالتشبيه الصريح لله- جل جلاله- له بخلقه، بناء على الإسرائيليات والأساطير، فهذا كله ليس من الحق الذي نُؤجر على الصبر عليه!!) اهـ. والجواب: قدمناه مرارا، وبينا أن بضاعة المالكي المزجاة: إلقاء التهم والأكاذيب دون حجة، ولا دليل، ولا تمثيل. وما ذكره هنا مندرج تحت ذلك. وقد تعلق في بعض مواضع من كتابه بكذبات وتلبيسات، حاول فيها تقرير ما سبق، وقد بينا- عند موضعها- بطلانها بالحجة والدليل.

فصل في نقض نتيجته الرابعة عشرة

[فصل في نقض نتيجته الرابعة عشرة] فصل في نقض نتيجته الرابعة عشرة ثم ذكر المالكي ص (189) نتيجة بحثه الرابعة عشرة فقال: (14- غلاة العقائديين، من أقل الناس فهمًا لحجج المخالفين، نتيجة قيام العقائد عندهم على التقليد والتسليم، دون اعتراض على ظلم، ولا حديث موضوع، ولا إساءة في حق الله. وبالتالي هم من أكره الناس للبحث العلمي؛ لأنه يشكل الخطر الأول على الأخطاء المتوسدة بطون تلك الكتب، التي اتخذوها مصاحف يتحاكمون إليها) اهـ. والجواب من وجوه: أحدها: إن كان يقصد بغلاة العقائديين: أهل السنة، حنابلة وغيرهم: فلم يكونوا قليلي فهم لحجج مخالفيهم، بل هم أتم الناس فهما لها، لهذا تجد أن حججهم قد أفحمت أهل البدع منذ عصرهم المتقدم، إلى عصورنا المتأخرة. وما مناظرات الإمام أحمد للمعتزلة في مجلس المعتصم، والواثق، إلا شيئا من ذلك، وكذلك بقية مناظرات الأئمة، كرد الإمام الدارمي على بشر المريسي، وتفنيده حُجَجه بل شُبَهه.

ومن أكبر الأدلة على صحة هذا: رجوع كثير من أئمة المتكلمين إلى مذهب أهل السنة، بعد أن خاضوا فيما خاضوا فيه! فهل هم أيضا لم يفهموا حججهم؟! وقد رجع أبو الحسن الأشعري - إمام المتكلمين في وقته- عن اعتقاده إلى اعتقاد إمام المسلمين أحمد بن حنبل، كذا قال في "الإبانة"، وغير كتاب. الثاني: أن الحنابلة وأهل السنة عامة، أحرص الناس على البحث العلمي، الملتزم بكتاب الله- عز وجل- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بفهم السلف الصالح، فإن كان هذا مراده بالبحث العلمي، فليُخرج لنا مسألة واحدة تخالف هذا البحث العلمي! أما إن قصد بالبحث العلمي: تحكيم الأهواء والشهوات في الوحيين: فلا. الثالث: مطالبة المالكي بأمور ثلاثة: ا- بيان من يريد بغلاة العقائديين، بأن يسميهم لنا، أو يسمي بعضهم. 2 - أن يذكر سبب جعله ذلك المسمى من غلاة العقائديين! 3 - الحجج التي لم يفهموها؟ وليمثل بواحدة فحسب، بشرط كونها صحيحة غير مكذوبة. وسيظهر أن مراده بالغلاة: أئمة السلف، وعلماؤهم! وأن سبب جعله لهم غلاة: ما عليه اعتقاد أهل السنة جميعا!

فصل في زعم المالكي أن ما ذكره من أخطاء عند الحنابلة ما هي إلا أمثلة فحسب

[فصل في زعم المالكي أن ما ذكره من أخطاء عند الحنابلة ما هي إلا أمثلة فحسب] فصل في زعم المالكي أن ما ذكره من أخطاء عند الحنابلة ما هي إلا أمثلة فحسب! ولم يرد الاستقصاء ولو أراده لجاءت أخطاء الحنابلة أضعاف ما ذكر!! وإبطال مزاعمه قال المالكي ص (194) خاتما هذه النتائج: (أخيرا أقول: لا يظنن ظان، أنني تعمدت استقصاء أخطاء غلاة الحنابلة في العقائد. فإني لم أذكر إلا نماذج فقط، ولم أذكر معظم ما أعرفه، فضلا عن البحث عما لا أعرفه في هذا الجانب. ولو حاولت الاستقصاء في هذا الجانب، لخرج البحث عن هذا الاختصار الذي ترون) اهـ كلامه. والجواب: أنَّا قد بينا فيما سبق، بطلان جميع ما ذكره، فغالب ما ذكره كذب مختلق، بينا ذلك بدليله. وشيء منه مُلَبَّس مُحَرَّف! فأين الأخطاء المزعومة، ولم يسلم له خطأ واحد؟! فإن أبى، فليذكر لنا مثالا واحدا صحيحا غير مكذوب ولا محرف!

فصل في التنبيه مرة أخرى على مراد المالكي الحقيقي بالحنابلة وبراءتهم منه ومن انتسابه إليهم

[فصل في التنبيه مرة أخرى على مراد المالكي الحقيقي بالحنابلة وبراءتهم منه ومن انتسابه إليهم] فصل في التنبيه مرة أخرى على مراد المالكي الحقيقي بالحنابلة وبراءتهم منه، ومن انتسابه إليهم ثم ذكر المالكي ص (196) : فصلا في "الحنابلة والسياسة"، قال في أوله: (سبق أن كررت حتى مللت، أن كلامي ينصبّ على الغلاة منا نحن الحنابلة، ولا أدعي التعميم. أقول هذا صادقا، بل لا أعتبر نفسي إلا حنبليا، بحكم النشأة، والتعليم، والبيت، والتلقي، والطريقة في الاستدلال، لكن هذا كله، لا يمنع نقد الغلو أينما كان) اهـ والجواب من وجوه: أحدها: أن قصده بغلاة الحنابلة: الحنابلة كلهم، بل أهل السنة جميعا، من أئمة السلف، كمالك، والشافعي، والفضيل بن عياض، وابن المبارك وغيرهم، إلى من بعدهم. وقد بينا دليل ذلك في موضعه: بذكر المالكي أمورا أجمع عليها السلف الصالح أو عبارات قالها بعضهم، ثم جعلها من الغلو!! والعقائد الفاسدة!! ويظهر هذا أيضا بالوجه الثاني. الثاني: مطالبة المالكي ببيان من يريد بغلاة الحنابلة، وتسمية أعلامهم، ثم ذكر بعض معتدليهم، ليظهر جليا، أنه أراد الحنابلة جميعا، بل وأهل السنة، وأنهم كلهم عنده غلاة!

الثالث: أن دعْواه الحنبلية، كدعوى بني أمية في زياد! وبم كان حنبليا؟! وعمن أخذ المذهب؟! وعلى من درسه؟! وماذا قرأ من كتبه؟! أما علماء هذه البلاد: فهو نكرة عندهم، لا يعرفونه إلا ببدعته! وأما غيرهم! فهو وما شاء! أما نشأة المالكي، وبيته، وتلقيه، وطريقة استدلاله: فهي نشأة بدعية غير سنية.

فصل في نفي المالكي علاقة الدولة السعودية بأخطاء الحنابلة والسلفيين

[فصل في نفي المالكي علاقة الدولة السعودية بأخطاء الحنابلة والسلفيين] فصل في نفي المالكي علاقة الدولة السعودية- حماها الله من أهل البغي والبدع- بأخطاء الحنابلة والسلفيين! وأن من ربط بينهما، فإنما أراد الإيقاع به وبأمثاله! وبيان حقيقة مقصده! ثم قال المالكي ص (197) : (أعود فأقول: يحاول البعض الاصطياد في الماء العكر، بزعمه أن نقد غلاة الحنابلة، أو غلاة السلفية، هو نقد للدولة المملكةِ العربية السعودية. وبهذا الربط يستطيع هؤلاء تحقيق أكثر من هدف، فيُظهرون أنفسهم بمظهر الشفيق الناصح!! وفي الوقت نفسه يحمون الأخطاء الموجودة في تراثنا الحنبلي، التي يُجنى منها مصالح كثيرة) اهـ. والجواب: أن المالكي يرى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- كان من الغلاة! وكان يُكفر المسلمين بل أراق دماء علمائهم! كما ذكر ذلك في كتابه "نقض كشف الشبهات" وكلامه في هذا كثير في كتابه المذكور، وفي غيره. إذا تقرر هذا، وعلمت أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لم يكن له سلطان على أحد إلا بالحسنى، ولم تكن له يد على أحد، حتى أيده وسانده وآزره الإمام محمد بن سعود رحمه الله، فأظهر دعوته، ونشرها،

حتى عاد الدين خالصا لله –عز وجل – غضًّا طريًّا، وسار على ذلك أبناؤه من بعده. إذا عرفت ذلك كله: علمت أن أي طعن في هذه الدعوة المباركة، أو عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، هو طعن في حُمَاتها ومناصرتها، وهم آل سعود، رحم الله ميتهم، ووفَّق حيهم لما يحبه ويرضاه. ****

فصل في رميه الحنابلة بالثورة على الأئمة والولاة وعدم السمع لهم

[فصل في رميه الحنابلة بالثورة على الأئمة والولاة وعدم السمع لهم] فصل في رميه الحنابلة بالثورة على الأئمة والولاة! وعدم السمع لهم! مع إظهارهم السمع والطاعة للولاة! وبيان كذب المالكي قال المالكي ص (197) : (وغلاة الحنابلة على مَرّ التاريخ، يُظهرون للسلطان بأنهم مع السلطة، وبأن مَن خالفهم، فقلبه معقود على الثورة والخروج على ولي الأمر!! متناسين أن من عقائدهم المدونة، أنهم لا يعترفون بإمامة غير القرشي إلى قيام الساعة. ومتناسين ثوراتهم وإزعاجهم للسلطات التي تخالفهم، مما هو مُدَوَّن في التواريخ!! بل لو استعرضنا أحداث الدولة السعودية الثالثة، لوجدنا لغلاة الحنابلة أكثر من ثورة!! تمنعنا المروءة والشيم عن الولوغ في هذا المستنقع من الاستعداء والانتهازية. وتفصيل تلك الأحداث وأسبابها، وأصولها الفكرية، داخل المنظومة الحنبلية) اهـ. . والجواب من وجوه: أحدها: أن الحنابلة- رحمهم الله- مع سمعهم وطاعتهم ونُصحهم لولاة الأمر، إلا أنهم أبعد الناس عن مخالطتهم، وأزهد الناس فيما في أيديهم.

وكان أهل البدع بخلافهم؛ لهذا استعدوا الولاة عليهم، فسجنوهم وآذوهم، وما حدث للإمام أحمد، وأصحابه، وأئمة السلف في عهده من بعض خلفاء بني العباس من سفك دم، وسجنٍ وجلد، بسبب أهل البدع: ليس بخافٍ على أحد، وكذلك كثير ممن جاء بعدهم، مرورًا بشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيره. الثاني: أن زعمه أن الحنابلة لا يعترفون بإمامة غير القرشي إلى قيام الساعة، يبطله مبايعة الحنابلة لآل سعود، في الدولة السعودية الأولى وبعدها. أما إمامة القرشي: فلقوله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة في قريش إلى قيام الساعة» . ولو تولى على الناس غير قرشي، واستقام الأمر له: لزم الناس جميعا طاعته وبيعته؛ لئلا تفترق كلمتهم، ويتشتت شملهم، ويستدلون لهذا؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: «ولو عبدا حبشيا كأن رأسه زبيبة» فإن كان هذا في عبد حبشي، فكيف بعربي؟! والمالكي يرمي الحنابلة بتحريضهم الولاة على المخالفين، وهو يكيد بخبث، ويحرض الولاة- وفقهم الله لمراضيه- عليهم، بمثل سخافاته السابقة! الثالث: أن ما رمى به المالكي الحنابلة: مصاب به متحقق فيه! فإن من مذهبه وقومه الزيدية: أنه لا تصح إمامة ولا بيعة رجل

غير فاطمي! ليس من أحد البطنين الحسن أو الحسين رضي الله عنهما. وقد شكَّك المالكي؛ بل نفى الإجماع على بيعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، مع فضلهما الكبير، ومنزلتهما العظيمة عند المسلمين كافة، فكيف بمن دونهم عنده؟! فهل يرى لهم بيعة، متقدمين ومعاصرين أو لا؟! وكذلك من مذهبه: الخروج على الولاة، كما هو مستقر في مذهب المعتزلة، لهذا تراه يقبل من المعتزلة وأضرابهم، ما لا يقبله من غيرهم! . الرابع: قد كررناه مرارًا، أن المالكي ليس له على قوله، دليل ولا حجة، ولا مثال، فيلقي الكلام خاليا من الأدلة، وكأنه دليل بنفسه. لهذا لما أعيته الحجة، تعلق بالمروءة والشيم! أنها تمنعه من ذلك! ولا أدري لما لم تمنعه مروءته وشيمته، من كل ما سبق من الكذب والتلبيس، ومنعته من الحجة والدليل؟!.

فصل في رمي المالكي من أطاع الولاة من الحنابلة أنه لأمر ما أطاعهم

[فصل في رمي المالكي من أطاع الولاة من الحنابلة أنه لأمر ما أطاعهم] فصل في رمي المالكي من أطاع الولاة من الحنابلة، أنه لأمر ما أطاعهم! والرد عليه ثم لما كان كذب المالكي فيما ادعاه سابقا صريحا، حاول ترويجه وتزيينه، فقال بعده ص (197– 198) : " لكن الحق يقال: فالحنابلة في الجملة، أصحاب طاعة لولاة الأمر". ثم شرق بهذه الجملة فأتبعها قوله: (لكنها غالبا، ما تتداخل مع ما فيه مصلحة خاصة لهم، سواء كانت المصلحة دينية مذهبية، أو مادية، أو وجاهة، أو حب للعلو في الأرض) إلخ كلام المالكي. والجواب: أن المرجع لمعرفة ذلك: مصنفات الحنابلة الكثيرة في المعتقد، وكلها مجمعة على السمع والطاعة للولاة. وعلى هذا كانوا، فسجن أحمد، وجلده، وما حدث له في تلك السنين العجاف، وكذلك أصحابه وأتباعه، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم: لم ينقض تلك الطاعة، وذلك السمع، مع عدم وجود مصالح ذاتية لهم، بل الأمر خلاف ذلك.

فصل في دعوة المالكي للسماح بدخول كتب المبتدعة إلى المملكة وعدم رؤيته بزعمه معنى لمنعها

[فصل في دعوة المالكي للسماح بدخول كتب المبتدعة إلى المملكة وعدم رؤيته بزعمه معنى لمنعها] فصل في دعوة المالكي للسماح بدخول كتب المبتدعة إلى المملكة! وعدم رؤيته - بزعمه - معنى لمنعها! والرد عليه قال المالكي ص (251) : (أنا لا أرى معنى لمنع كتب الأشاعرة، والشيعة، والإباضية، وغيرهم من المسلمين، من دخول المملكة في ضوء هذا التفجر المعرفي. بل إن التناقض يبلغ عندنا- في مراقبة المطبوعات- مبلغا عظيما، عندما نسمح بدخول كتب ملحدين، ونصارى، ويهود، ولا نسمح بكتب المسلمين!!) اهـ. . والجواب من وجهين: أحدهما: أن ما رآه المالكي، لم يره إلا لفساد ديانته، وخبث فطرته، ولو كان سالم المعتقد، لخشي على معتقده، لكنه لما كان مسلوب ذلك، لم يخف. والتفجر المعرفي- كما يسميه المالكي! - لا يوجب أحكاما شرعية جديدة، فالحلال حلال في عصر النبوة- ما لم يكن منسوخا- وفي عصرنا هذا، والحرام حرام كذلك. وكان السلف - رحمهم الله- ينهون عن مجالسة المبتدعة، وسماع كلامهم، وقراءة كتبهم، طلبا للسلامة، وإحرازا للكرامة، فإنه ما من

أحد عرَّض قلبه للأهواء، فرجع سالما، إلا ما شاء الله. وكم أزلت كلمة مبتدع قلب مؤمن، فخلفته في بحور الشكوك تائها، بعد أن كان في أرض الإيمان مطمئنا. قال الإمام ابن قيم الجوزية - رحمه الله- في "نونيته ": يا من يظن بأننا حفنا عليهم ... كتبهم تنبيك عن ذا الشان فانظر ترى , لكن نرى لك تركها ... حذرا عليك مصايد الشيطان فشباكها والله لم يعلق بها ... من ذي جناح قاصر الطيران إلا رأيت الطير في قفص الردى ... يبكي له نوح على الأغصان ويظل يخبط طالبا لخلاصه ... فيضيق عنه فرجة العيدان والذنب ذنب الطير أخلى طيب الث ... مرات في عالٍ من الأفنان وأتى إلى تلك المزابل يبتغي ال ... فضلات كالحشرات والديدان وروى الآجري في "الشريعة" بإسناد صحيح: عن الفريابي، عن قتيبة بن سعيد، عن حماد بن زيد، عن أيوب قال: كان أبو قلابة - وهو أحد أئمة الدين وأركانه- يقول: "لا تُجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين، بعض ما لُبِّسَ عليهم ". الثاني: أن زعمه أنا متناقضون في المملكة، فنسمح بدخول كتب الملحدين واليهود والنصارى، ولا نسمح بدخول كتب المسلمين من

الأشاعرة، والرافضة، والإباضية وغيرهم: فيه تفصيل: * إن كان يعني بالمتناقضين: الجهة المسؤولة: فإن أنظمتها تمنع كل كتاب مُخِلّ بمعتقد أهل السنة أو فيه ضلالة، ومن هذا: منعها كتاب المالكي المردود عليه، وغالب كتبه الأخرى. * وإن كان يعني بهم الحنابلة: فكلامه باطل؛ إذ لا علاقة لهم بذلك. أما كتب الكفار نصارى وغيرهم، في علوم الدنيا، كالطب، والطيران، والزراعة، والصناعة، ونحوها: فلا بأس بها، ولا صلة لها بعقائد أصحابها، ولو قدر أن مؤلفيها: رافضة، أو معتزلة، أو غيرهم؛ لانتقاء المفسدة العقدية. تم الكتاب بحمد الله ومنه وفضله يوم الأربعاء العشرين من شهر الله المحرم سنة 1423 هـ على يد كاتبه: عبد العزيز بن فيصل الراجحي، عفا الله عنه وعن والديه وإخوانه ومشايخه وجميع المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا. الرياض. ص. ب 37726 الرمز البريدي 11449

§1/1